منهج الشيخ عبد الرزاق عفيفي وجهوده في تقرير العقيدة والرد على المخالفين

أحمد بن علي الزاملي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} آل عمران: 102. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} النساء: 1. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} الأحزاب: 70 - 71. أما بعد: فإن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (¬1). وبعد: فإن علم التوحيد أشرف العلوم وأفضلها، وأرفعها مكانة وأجلها؛ إذ شرف العلم بشرف المعلوم، ولا أشرف من توحيد الله تعالى ومعرفة ما يجب له من الأسماء الحسنى ¬

(¬1) هذه خطبة الحاجة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمها أصحابه، وقد أخرج حديثها أبو داود في كتاب النكاح، باب خطبة النكاح (2/ 591) برقم (2118)، والترمذي في كتاب النكاح، باب ما جاء في خطبة النكاح (2/ 591) برقم (1105)، والنسائي في كتاب النكاح، باب ما يستحب من الكلام عند النكاح (6/ 89) برقم (3277)، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب في خطبة النكاح (1/ 609) برقم (1892)، وأحمد (6/ 264) برقم (3721) من طرق عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص وأبي عُبيدة، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. قال الترمذي: "حديث عبد الله حديث حسن رواه الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلا الحديثين صحيح". وقد توسع الشيخ الألباني - رحمه الله - في تخريجه وجمع طرقه في رسالة له مفردة بعنوان: "خطبة الحاجة"، وخلص فيها إلى الحكم بصحته.

والصفات العلى، وإدراك حقوقه تعالى على عباده، والالتزام بذلك علماً وعملاً، فإن العبد كلما كان بهذا أعرف وله أتبع كان إلى ربه أقرب، وبهذا تنال النجاة والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة (¬1). وإن من كمال رحمه الله وتمام نعمته أن "جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة ... " (¬2). قال ابن القيم - رحمه الله -: " وهم - أي العلماء- في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب" (¬3). ومن هؤلاء العلماء الذين تسعد الأمة بهم وتشرف بذكرهم، ممن قيّضهم الله للدفاع عن العقيدة ورد الشبه عنها، العلامة الجليل الفاضل الشيخ عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية بن عبد البر بن شرف الدين النوبي - رحمه الله -. كان عالماً عاملاً، ينشر العقيدة الصحيحة، والتربية السليمة، والأخلاق المحمدية، فكان مدرسة فريدة في جمع الناس على الخير. وبالجملة فقد كان من نوادر عصره علماً وأدباً وفضلاً وكرماً ونبلاً، يقول الحق ويقصده، ويتحرى الصدق ويؤثره. ولما كان من فضل الله عليّ أن جعلني أحد طلاب الدراسات العليا بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة لمرحلة الماجستير؛ اخترت الكتابة في موضوع: ¬

(¬1) ينظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العزّ الدمشقي (1/ 5). (¬2) من كلام الإمام أحمد في مقدمة كتابه "الرد على الزنادقة والجهمية" ضمن عقائد السلف (ص 52). (¬3) أعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 9).

أهمية الموضوع، وأسباب اختياره

"منهج الشيخ عبد الرزاق عفيفي وجهوده في تقرير العقيدة والرد على المخالفين"، بعد استخارة الله تعالى والاستعانة به جلت قدرته، واستشارة مشايخي الفضلاء الذين أشاروا عليَّ بتسجيله والكتابة فيه. أسباب اختيار الموضوع: مما دفعني لاختيار هذا الموضوع ورغبتي فيه، ما يلي: 1 - المكانة العلمية للشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - فهو من كبار العلماء، ومن أئمة الفتوى. 2 - أنه كان ممن له الفضل على هذه الجامعة المباركة (¬1)، ومن معاصريها من نواتها الأولى، وأنه يعتبر أستاذ جيل كامل من علماء المملكة العربية السعودية. 3 - وفرة تراث الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - في العقيدة (¬2)، وأهمية العمل على إخراج ما في ثنايا التسجيلات (¬3) أو المدونات والمخطوطات والتي لم تظهر بعد، لاستخراج درر هذا العالم الفذ. 4 - أن هذا الموضوع - والله أعلم- لم يسبق دراسته من قبل (¬4). 5 - محاولة إبراز الجانب المغمور من حياة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -، وأقصد بذلك بيان آرائه العقدية، ومنهجه وطريقته في الاستدلال عليها، ممّا دفعني إلى إثراء هذه الناحية. 6 - ظهور شخصية الشيخ في الجانب النقدي. ¬

(¬1) جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. (¬2) حصلت على كمية من الأوراق الخاصة ببحوث الشيخ وفتاويه العقدية عن طريق الاتصال بابن الشيخ في القاهرة "الشيخ محمود". (¬3) يوجد موقع على شبكة الإنترنت خاص بالشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - ويتضمن بعض محاضراته المسموعة www.afifi.com. (¬4) قمت للتأكد من عدم تسجيل الموضوع في جامعات المملكة بمراجعة قائمة مركز الملك فيصل، وقائمة الملك فهد الوطنية، وسؤال بعض المشايخ الذين لهم اهتمام بهذا الشأن، والاتصال ببعض الجامعات، وقد أفادني ابن الشيخ -الشيخ محمود بن عبد الرزاق عفيفي_ أني أول من سيكتب عن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - من الناحية العقدية كدراسة علمية -إن شاء الله-.

أهداف البحث

ولهذه الأسباب والدوافع، اخترت هذا الموضوع، وأرجو أن أكون قد وفقت في ذلك بمشيئة الله تعالى وتوفيقه. أهداف البحث: 1 - خدمة العقيدة الإسلامية، وذلك بإبراز جهود واحد من علمائها وهو الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - الذي كثرت أقواله في باب الاعتقاد، وتفرقت في كتبه مما قلَّل الاستفادة منها، فكان جمعها ودراستها وإفرادها في بحث مستقل من الأهمية بمكان. 2 - بيان منهج الشيخ في العقيدة والرد على المخالفين. 3 - الفائدة العائدة لي من بحث هذا الموضوع، فقد اشتمل على كثير من مسائل العقيدة، والتي تَحصَل من دراستها فوائد جليلة. ولهذا رغبت أن يكون هذا الموضوع هو موضوع أطروحتي لنيل درجة الماجستير. الدراسات السابقة: هذا الموضوع حسب علمي -والله أعلم- لم يسبق دراسته ولم يكتب فيه دراسة علمية عقدية: وهناك عدة دراسات وأبحاث عن الشيخ ومنها: 1 - فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي. إعداد/ وليد بن إدريس بن منسي والسعيد بن صابر عبده، وهذا الكتاب عبارة عن جزئين، الجزء الأول منه على قسمين: القسم الأول: سيرة الشيخ - رحمه الله -. القسم الثاني: اهتم بجمع بعض فتاوى الشيخ - رحمه الله - في العقيدة والفقه إلى نهاية الجزء.

أما الجزء الثاني: فيحتوي على بعض الرسائل في التوحيد للشيخ:، وفتاوى في الصلاة، ومباحث في القرآن، ورؤية لأحوال العالم الإسلامي، والشعر والاتجاهات البلاغية، ولم يحتو على الدراسة العقدية التي أسعى إليها. 2 - الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي (حياته العلمية، وجهوده الدعوية، وآثاره الحميدة). تأليف/ الشيخ محمد بن أحمد سيد أحمد المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة. اهتم بذكر سيرة الشيخ وإيراد بعض نماذج من كتابات الشيخ في العقيدة دون دراسة وتحليل، وأكثر من المراثي التي قيلت في الشيخ - رحمه الله -. 3 - إتحاف النبلاء بسير العلماء (¬1). إعداد الشيخ/ راشد الزهراني. اهتم بذكر سيرة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - مع إيراد نماذج من فتاوى ورسائل وآثار الشيخ العلمية، مع بعض المراثي في الشيخ وثناء أهل العلم عليه، وختمه ببعض الدروس المستفادة من حياة الشيخ. ولم يحتو على الدراسة العقدية التي أسعى إليها. 4 - العالم الرباني والمصلح المجاهد. لفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس. وهي عبارة عن محاضرة ألقاها في الجامع الكبير "ببحرة" وهي منصبة على سيرة الشيخ عبد الرزاق ومناقبه وثناء الناس عليه. 5 - منهج الشيخ عبد الرزاق عفيفي الأصولي. لفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس. وهو عبارة عن بحث طبع بمجلة البحوث الإسلامية. وهو منصب في علم أصول الفقه كما هو ظاهر من العنوان. ¬

(¬1) المجلد الثاني خاص بالشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - وهو عبارة عن رسالة علمية قدمت للجامعة الأمريكية بلندن عام 1427 هـ، بعنوان: الشيخ عبد الرزاق عفيفي حياته وآثاره.

خطة البحث

خطة البحث: جاء هذا البحث مكوناً من مقدمة وتمهيد وبابين وخاتمة وتفصيلها كالتالي: المقدمة: أ- أهمية الموضوع، وأسباب اختياره. ب- أهداف البحث. ت- الدراسات السابقة. ث- خطة البحث. ج- منهج البحث. (تمهيد، وفيه مبحثان: * المبحث الأول: حياة الشيخ الشخصية. * المبحث الثاني: حياة الشيخ العلمية. الباب الأول: منهج الشيخ عبد الرزاق وجهوده في تقرير العقيدة، وفيه خمسة فصول: الفصل الأول: منهج الشيخ عبد الرزاق في تقرير مسائل الاعتقاد والاستدلال عليها، وفيه مبحثان: * المبحث الأول: منهج الشيخ في تقرير مسائل الاعتقاد. * المبحث الثاني: منهج الشيخ في الاستدلال على مسائل الاعتقاد. (المطلب الأول: مصادره. (المطلب الثاني: طريقته في الاستدلال. الفصل الثاني: جهود الشيخ عبد الرزاق في تقرير التوحيد. وفيه تمهيد وثلاثة مباحث. (تمهيد: في تعريف التوحيد وأقسامه. * المبحث الأول: جهوده في تقرير توحيد الربوبية. وفيه مطلبان: (المطلب الأول: تعريف توحيد الربوبية.

(المطلب الثاني: دلائل توحيد الربوبية. * المبحث الثاني: جهود الشيخ في تقرير توحيد الألوهية. وفيه ثلاثة مطالب: (المطلب الأول: تعريف توحيد الألوهية. (المطلب الثاني: شهادة أن لا إله إلا الله. (المطلب الثالث: العبادة. * المبحث الثالث: جهود الشيخ في تقرير توحيد الأسماء والصفات. وفيه ثلاثة مطالب: (المطلب الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات. (المطلب الثاني: أسماء الله. (المطلب الثالث: صفات الله. الفصل الثالث: نواقض التوحيد والقوادح فيه. وفيه ثلاثة مباحث: * المبحث الأول: نواقض توحيد الربوبية والقوادح فيه. * المبحث الثاني: نواقض توحيد الألوهية والقوادح فيه. * المبحث الثالث: نواقض توحيد الأسماء والصفات والقوادح فيه. الفصل الرابع: جهود الشيخ في تقرير بقية أركان الإيمان. وفيه خمسة مباحث: * المبحث الأول: جهوده في تقرير الإيمان بالملائكة. وفيه تمهيد ومطلبان: (تمهيد: في تعريف الملائكة. (المطلب الأول: معنى الإيمان بالملائكة وما يتضمنه. (المطلب الثاني: أعمال الملائكة. (المطلب الثالث: تعريف الجن وتأثيرهم. * المبحث الثاني: جهوده في تقرير الإيمان بالكتب.

وفيه تمهيد ومطلبان: (تمهيد: في تعريف الكتب. (المطلب الأول: معنى الإيمان بالكتب وما يتضمنه. (المطلب الثاني: معنى الإيمان بالقرآن وما يتضمنه. * المبحث الثالث: جهوده في تقرير الإيمان بالرسل. وفيه تمهيد وثلاثة مطالب: (تمهيد: في تعريف النبي والفرق بينه وبين الرسول والحكمة من إرسال الرسل. (المطلب الأول: الإيمان بالأنبياء والرسل عموماً. (المطلب الثاني: الإيمان بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. (المطلب الثالث: خوارق العادات. * المبحث الرابع: جهود الشيخ في تقرير الإيمان باليوم الآخر. وفيه تمهيد ومطلبان: (تمهيد: في تعريف اليوم الآخر. (المطلب الأول: الحياة البرزخية. (المطلب الثاني: الحياة الآخرة، وما تتضمنها. * المبحث الخامس: جهود الشيخ في تقرير الإيمان بالقضاء والقدر. وفيه تمهيد وثلاثة مطالب: (تمهيد: في تعريف القضاء والقدر. (المطلب الأول: معنى الإيمان بالقضاء والقدر وما يتضمنه. (المطلب الثاني: أفعال العباد. (المطلب الثالث: التحسين والتقبيح. الفصل الخامس: جهود الشيخ عبد الرزاق في مسائل الصحابة، والإمامة، والأسماء والأحكام، والولاء والبراء. وفيه مبحثان: * المبحث الأول: جهوده في مسائل الصحابة، والإمامة.

وفيه مطلبان: (المطلب الأول: الصحابة. (المطلب الثاني: الإمامة. * المبحث الثاني: جهوده في تقرير مسائل الأسماء والأحكام. وفيه تمهيد وثلاثة مطالب: (تمهيد: في تعريف مسائل الأسماء والأحكام، وأهميتها: (المطلب الأول: جهوده في مسائل الإيمان. (المطلب الثاني: جهوده في مسائل الكبائر. (المطلب الثالث: جهوده في مسائل الكفر والتكفير. * المبحث الثالث: جهوده في تقرير الولاء والبراء. الباب الثاني: منهج الشيخ عبد الرزاق وجهوده في الرد على المخالفين. وفيه تمهيد وثلاثة فصول: (تمهيد: في تعريف بأهل السنة وتميزهم عن الفرق. الفصل الأول: منهجه في الرد على المخالفين. وفيه ثلاثة مباحث: * المبحث الأول: مصادره في ذكر الفرق وتاريخها. * المبحث الثاني: طريقته في الكلام على الفرق. * المبحث الثالث: منهجه في مناقشتها. الفصل الثاني: جهوده في بيان الفرق والمذاهب المعاصرة. وفيه تمهيد وسبعة مباحث: * المبحث الأول: الخوارج. * المبحث الثاني: الشيعة. * المبحث الثالث: أهل الكلام. (المطلب الأول: قول بعض الفرق في الصفات ورد الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - عليهم. (المطلب الثاني: قول بعض الفرق في القدر.

منهج البحث

(المطلب الثالث: الإيمان عند بعض المرجئة. * المبحث الرابع: الباطنية. * المبحث الخامس: الصوفية. * المبحث السادس: القومية. * المبحث السابع: مذاهب وفرق معاصرة. الفصل الثالث: جهوده في الرد على الأعلام. وفيه ثلاثة مباحث: * المبحث الأول: جهوده في الرد على المخالفات العقدية في تفسير الجلالين. * المبحث الثاني: جهوده في الرد على الآمدي. * المبحث الثالث: جهوده في الرد على آخرين. الخاتمة (وفيها أهم نتائج البحث) الفهارس. منهج البحث: أولاً: سأتبع -إن شاء الله تعالى- المنهج الاستقرائي التحليلي وذلك على النحو الآتي: 1 - جمع المسائل العلمية التي قررها الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - المقروءة والمسموعة، واستقراءها استقراءاً تاماً -إن شاء الله-، وتحليل مضمونها العلمي؛ لاستخلاص منهج الشيخ وإسهامه في تقرير العقيدة؛ وترتيب تلك المسائل على أبواب العقيدة ومباحثها، وفق ما رسمه السلف في كتبهم ومؤلفاتهم. 2 - دراسة المسائل العقدية التي قررها الشيخ، وذلك بذكر المسألة والاستدلال لها فيما لم يستدل له، وذكر الشواهد من كلام أهل العلم.

ثانياً: التزام خطوات البحث العلمي المنهجي المنصوص عليها في لوائح الدراسات العليا وهي: 1 - عزو الآيات إلى سورها، مع ذكر رقم الآية فيها، وجعلت ذلك في متن البحث، خشية الإطالة بذكرها في الحاشية. 2 - تخريج الأحاديث، وبيان ما ذكره أهل الشأن في درجتها إن لم تكن في الصحيحين أو أحدهما، فإن كانت فيهما أو في أحدهما، فسأكتفي بذلك، لأن المقصود ثبوت الحديث. 3 - عزو الآثار إلى مصادرها الأصلية. 4 - التعليق على بعض ما يحتاج إلى تعليق. 5 - التعريف بالكلمات الغريبة. 6 - توثيق الأقوال المنسوبة إلى أهل العلم. 7 - ترجمة الأعلام غير المشهورين ترجمة تتضمن اسمه، ونسبه، وعقيدته -قدر الاستطاعة-، وشيئاً من مؤلفاته، وتاريخ وفاته، مع ذكر مصادر ترجمته. 8 - التعريف بالملل والنحل الواردة في البحث. 9 - اتباع البحث بالفهارس المتعارف عليها. 10 - تأخير ذكر بيانات المصادر إلى فهرسها، خشية الإطالة بذكرها. ثالثاً: ذكرت أولاً رأي الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - في المسألة، ثم أوردت كلامه فيها بتمامه إن كان قصيراً، أو مع التصرف فيه بما لا يخل بمقصوده إن كان طويلاً، أو إن كان قد تكلم في المسألة في أكثر من موضع، فإني أقارن بين تلك المواضع فإن كان كلامه فيها متفقاً أوردت أجمعها وأحلت في الحاشية إلى الباقي، وإن كان كلامه مختلفاً أو فيه زيادة أو نقصان ذكرته كله وحاولت التوفيق بينه، ولا أقدم عليه كلام غيره إلا نادراً لمصلحة تظهر لي في ذلك.

رابعاً: بعد إيراد كلام الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - ذكرت عقبه موافقته لمنهج السلف -رحمهم الله-. خامساً: في دراسة المسائل لم أعرض لاختلاف الطوائف وأقوال الفرق في المسألة المقصودة بالبحث، إلا إذا تعرض لذلك الشيخ عبد الرزاق في كلامه عليها، أو كانت طبيعة المسألة تقتضي ذلك. سادساً: أُشير إلى أني استفدت في بعض الأحيان من البحث الالكتروني فقمت بمطابقته مع الكتاب المطبوع -قدر الاستطاعة-. سابعاً: للشيخ - رحمه الله - توقيع مع اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية وقد اعتبرت توقيعه قولاً له، حيث إنه لم يوقع إلا على ما يعتبره قولاً له ويدين الله تعالى بهِ. ثامناً: يلاحظ في بعض المباحث كثرة النقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية، أو الاكتفاء بها، وهذا يعود لعدة أسباب، أهمها: عدم وجود من تكلم في هذه المسألة المعينة ككلامه، وعدم وجود من حقق تحقيقه، فيما اطلعت عليه. تاسعاً: قمت بجمع أوراق الشيخ التي لم تطبع، وأسميتها "مجموعة ملفات الشيخ" وجعلت لها ترقيماً من عندي، وذلك حتى تسهل الإحالة إلى كلام الشيخ - رحمه الله -. عاشراً: ذيلت البحث بخاتمة ذكرتُ فيها أهم النتائج التي توصلت إليها، كما ذكرت بعض التوصيات؛ كما ذيلته بمجموعة فهارس تعين على سهولة الرجوع إلى مسائل الموضوع وجزئياته.

هذا وأحمد الله -جل وعلا- على ما مَنّ به عليّ من إتمام هذا البحث، وأشكر له فضله وإنعامه، فله الحمد أولاً وآخراً، وأبرأ من الحول والقوة إلا به، وأسأله أن يجعله خالصاً لوجهه، نافعاً لي يوم العرض عليه، فلقد بذلت جهدي في تجلية مسائله وتوثيقها وبيان الحق فيها، وأخذ ذلك مني وقتا طويلا، ورغم ذلك فإني لا أدعي أني أوفيت الموضوع حقه، ولا أني أصبت في كل ما قلت وقصدت، ولا أني أبدعت فيما سطرت، إذ إن النقص والخطأ من طبيعة البشر، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} النساء: 82، ولكن حسبي أني بذلت فيه وسعي، فما كان فيه من صواب فمن الله تعالى وله الحمد والمنة، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان وأستغفر الله منه، ورحم الله من رأى فيه خطأ أو خللاً فأرشدني إلى صوابه وإصلاحه. وأشكر بعد شكر الله تعالى من قرن شكرهم بشكره، وهما والداي الكريمان على تربيتهما وكريم عنايتهما. أجزل الله للجميع المثوبة، وأسبغ عليهم نعمة الصحة. كما أتقدم بالشكر الوافر، والعرفان الجميل لفضيلة المشرف على اهتمامه وحرصه. كما أتوجه بالشكر الجزيل لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ممثلة في كلية أصول الدين وفي قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة منها على منحي هذه الفرصة لإعداد رسالتي هذه. وأشكر كذلك الشيخ الكريم الأستاذ محمود ابن الشيخ عبد الرزاق عفيفي على جميل مساعدته وحُسن تعاونه الذي لمسته منه طيلة مُدة كتابتي لهذه الرسالة، ولا يفوتني أن أوصل الشكر لكل من ساعدني وأعانني في بحثي من مشايخي وزملائي، بفائدة علمية أو إعارة كتاب والمقام يضيق عن ذكرهم فأسأل الكريم أن يعظم لهم الأجر والثواب. كما أتوجه بالشكر الجزيل للشيخين الفاضلين، والأستاذين الكريمين، الذين تجشما عناء قراءة هذا البحث لمناقشته، وبذلا جهداً في تصحيحه وتقويمه، مع كثرة مشاغلهما وضيق وقتهما، فجزاهما الله عني خيراً، وزادهم الله توفيقاً وسداداً وهدىً وعلماً. كما أدعو بالرحمة والمغفرة لعلمائنا الأماجد من السلف الصالح، ومن بعدهم ومن كان على طريقهم وعلى منهجهم، وبالخصوص الشيخ العالم عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -، الذي

ورث العلم وحسن السيرة، فأسأل الله أن يجمعنا به في جنات عدن، أنه ولي ذلك والقادر عليه. وبعد فهذا الجهد مبلغ وسعي، فأرجو أن يصادف هذا العمل منكم القبول، وأن يقع منكم الإغضاء عما فيه من الغفلة والذهول. وأسأل الله سبحانه أن يرزقنا الإخلاص في السر والعلن وأن يحفظنا من فتنة القول والعمل. إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.

التمهيد

التمهيد

المبحث الأول: حياة الشيخ الشخصية

المبحث الأول حياة الشيخ الشخصية. أولاً: اسمه ومولده، ونشأته. أ- اسمه ومولده: هو (¬1): العالم الجليل، والسلفي النبيل عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية بن عبد البر ابن شرف الدين النوبي، ولد في السابع والعشرين من شهر رجب سنة 1323 هـ الموافق 16 ديسمبر سنة 1905 م، في قرية شنشور مركز أشمون التابع لمحافظة المنوفية، وهي إحدى محافظات مصر. ب- نشأته: نشأ الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - في وسط أسرة محافظة، كانت طيبة الأخلاق، محمودة السيرة حسنة السمعة، متمسكة بالأخلاق الإسلامية وأخلاق أهل القرية والريف التي لم تتلون بمظاهر الحضارة الكاذبة، فتربى في كنف والده، الذي كان يتصف بصفات كريمة وفاضلة انطبعت وزادت في نجله عبد الرزاق؛ ثم انتظم الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - في سلك التعليم، بعدما نما عوده، وتفتحت مواهبه، فآل به طموحه وشدة رغبته إلى الأزهر، لينهل من العلم، وليزيد حصيلته بالسؤال والقراءة، حيث كان يغرس في طلابه هذا الأسلوب، باعتباره من أساليب رسوخ العلم، وزيادة المعرفة، فكان - رحمه الله - قوي الحافظة، سريع البديهة، مستحضر الفهم، شديد الذكاء وافر العلم غزير المادة، صاحب ألمعية نادرة ونجابة ظاهرة (¬2). ¬

(¬1) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي (حياته العلمية، وجهوده الدعوية، وآثاره الحميدة)، لمحمد بن أحمد سيد أحمد (1/ 73)، والحكمة من إرسال الرسل، للشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 5)، وفتاوى اللجنة الدائمة (1/ 28)، وإتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 11)، والعالم الرباني والمصلح المجاهد، محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن السديس مفرغة في كتاب العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (2/ 619). (¬2) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (1/ 73 - 74، 108 - 109) (2/ 598)، الحكمة من إرسال الرسل (ص 5)، إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 11 - 13).

ثانيا: أوصافه الخلقية، وصفاته الخلقية، ورحلاته

ثانياً: أوصافه الخَلْقية، وصفاته الخُلقية، ورحلاته. أ- أوصافه الخَلْقية: كان - رحمه الله - قوي البُنية، جسيماً مهيباً، طويل القامة، عظيم الهامة، مستدير الوجه، قمحي اللون، له عينان سوداوان يعلوهما حاجبان غزيران ومن دون ذلك فم واسع ولحية كثة غلب البياض فيها على السواد، وكان عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكفين والقدمين، ينم مظهره عن القوة في غير شدة (¬1). ب- صفاته الخُلُقية: يُعد الشيخ عبد الرزاق من نوادر العلماء في كل زمان، سمتاً ووقاراً وإخلاصاً وحباً للبذل من علمه وجاهه وماله .. فقد جبله الله على أخلاقٍ كريمة، وحبٍّ للمساعدة، مع تواضع جمّ، ونكرانٍ للذات، ورغبة في لين الجانب والمساعدة؛ وكان - رحمه الله - قوي الشخصية متميز التفكير، مستقل الرأي نافذ البصيرة، سليم المعتقد حَسن الاتباع، جم الفضائل، كثير المحاسن، مثال العلماء العاملين، والدعاة المصلحين، فيه عزة العلماء وإباء الأتقياء، غاية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع حكمة ولطف وبُعد نظر، لا يجابه أحداً بما يكره ولا ينتصر لنفسه. كان زاهداً عابداً أميناً صادقاً كثير التضرع إلى الله، قريب الدمعة، زكي الفؤاد، سخي اليد، طيب المعشر، صاحب سنة وعبادة، كثير الصمت، شديد الملاحظة، نافذ الفراسة، دقيق الفهم، راجح العقل، شديد التواضع، عف اللسان (¬2). ¬

(¬1) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (1/ 77 - 86)، إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 39). (¬2) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (1/ 86 - 87)، العالم الرباني والمصلح المجاهد محاضر ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن السديس مفرغة في كتاب العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (2/ 626 - 629)، كلام الشيخ ابن جبرين - رحمه الله - في كتاب الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (2/ 587)، فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 6)، إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 39، 287 - 297).

قال عنه الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: " صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - أعرف عنه التواضع والعلم الجم والسيرة الحميدة، والعقيدة الطيبة، والحرص العظيم في أداء عمله على خير وجه ... " (¬1). ووصفه الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - بأنه: " كان ذا عقل راجح وبُعد نظر وكثرة صمت إلا إذا كان الكلام خيراً، مع ما حباه الله به من العلم الراسخ وحُسن التعليم وقلة الحشو في كلامه ... " (¬2). وقال عنه الشيخ صالح الفوزان وفقه الله: "كان - أي الشيخ عبد الرزاق- ذكياً بعيد النظر ذا أناة وروية ... " (¬3). ج-رحلاته: في أثناء إقامته بمصر كان يتردد على مكة حاجاً ومعتمراً ويجاور بها، وفي سنة (1368 هـ)، قَدِم الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - بلاد الحرمين الشرفين، واستوطنها إلى أن توفي سنة (1415 هـ)، بعد أن قضى شطر عمره في ميادين العلم والدعوة والتربية في مصر. والشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - يعتبر من أوائل من جاؤوا للتدريس في هذه المملكة المباركة قبلة العلماء العاملين، استجابة لرغبة كريمة من مؤسس هذه الدولة الغراء الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله -، فقد وجه أمره الكريم إلى صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن عبد العزيز ابن مانع، معتمد المعارف السعودية آنذاك، وأحد أبرز رجال التعليم في المملكة العربية ¬

(¬1) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (2/ 567). (¬2) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (2/ 568). (¬3) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (2/ 570).

السعودية بأن يذهب إلى مصر لترشيح واختيار نخبة ممتازة من العلماء الذين عرفوا بصحة المعتقد وسلامة المنهج، وهدفه من ذلك تنفيذ سياسته الصارمة في محاربة الجهل واقتلاع جذوره بعد أن خيَّم ردحاً من الزمن على أجزاءٍ من الجزيرة. وفي مصر وقع الاختيار على فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي ليكون في طليعة من يذهبون إلى المملكة العربية السعودية للمشاركة في النهضة العلمية بها، وإزاء تلك الثقة الغالية من الملك عبد العزيز - رحمه الله - والأمراء من أبنائه آثر الشيخ عبد الرزاق الاستقالة من الأزهر، وقدم إلى هذه البلاد مع كوكبة من علماء الأزهر منهم فضيلة الشيخ محمد علي عبد الرحيم (¬1)، وفضيلة الشيخ محمد خليل هراس (¬2)، وفضيلة الشيخ محمد عبد الوهاب بحيري (¬3)، وفضيلة الشيخ حسنين محمد ¬

(¬1) الشيخ محمد علي عبد الرحيم ولد بمحافظة الإسكندرية عام (1904 م)، وعمل في حقل التعليم، ورقي في الوظائف التعليمية المختلفة حتى صار موجهاً، أختاره الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - للتدريس بالمسجد الحرام، وفي عام (1975 م) اختير رئيسًا لجماعة أنصار السنة المحمدية بعد أن تنازل له الشيخ محمد عبد المجيد الشافعي - رحمه الله -، وقد تولى رئاستها عام 1975 م حتى توفي - رحمه الله - عام (1412 هـ - 1991 م)، له من التصانيف: الأخلاق المحمدية، ورسالة "الوصية الشرعية". ينظر: من أعلام الدعوة السلفية في مصر، موقع ملتقى أهل السنة والجماعة (http://www.sd-sunnah.com/vb). (¬2) هو: محمد خليل هراس، ولد بقرية الشين - مركز قطور - طنطا - محافظة الغربية - جمهورية مصر العربية، ولد عام (1334 هـ - 1916 م)، عمل أستاذاً بكلِّيَّة أصول الدين في جامعة الأزهر، أُعير إلى المملكة العربية السعودية بطلب من العلامة عبد العزيز بن باز، ودرَّس في جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية بالرياض، ثمّ أُعير مرَّةً أخرى، وأصبح رئيسًا لشعبة العقيدة في قسم الدِّراسات العليا في كلية الشريعة سابقًا -جامعة أم القرى حاليًا- بمكة المكرمة، عاد إلى مصر، وشغل منصب نائب الرئيس العام لجماعة أنصار السنة المحمدية، ثم الرئيس العام لها بالقاهرة.- توفي -رحمه الله تعالى- عام (1975 م) عن عُمر يناهز الستين، كان - رحمه الله - سلفي المعتقد، شديداً في الحقّ، قويّ الحجّة والبيان، أفنى حياته في التعليم والتأليف ونشر السنة وعقيدة أهل السنة والجماعة، له مؤلفات عدة وتحقيقات؛ منها: تحقيق وتعليق على كتاب التوحيد لابن خزيمة، شرح القصيدة النونية لابن القيم في مجلّدين، تأليف كتاب ابن تيمية ونقده لمسالك المتكلمين في مسائل الإلهيات، شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية، والعديد من المؤلفات الأخرى. ينظر: تراجم أهل العلم والمعاصرين، موقع ملتقى أهل الحديث (http://www.ahlalhdeeth.com). (¬3) هو: أ. د. محمد عبد الوهاب بحيري صاحب كتاب " الحيل في الشريعة الإسلامية وشرح ما ورد فيها من الآيات والأحاديث"، وقد طبع عام (1394 هـ)؛ وأتم كذلك - رحمه الله - كتاب"بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني" للشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا، الشهير بالساعاتي، بعد أن وافت الساعاتي المنية قبل إتمامه. ينظر: كتاب الحيل، موقع المجلس العلمي (http://majles.alukah.net).

مخلوف (¬1)، وفضيلة الشيخ محمد حسين الذهبي (¬2)، وفضيلة الشيخ عبد المنعم النمر (¬3)، وغيرهم؛ وقد امتاز - رحمه الله - عن غالب زملائه وأقرانه الذين درسوا في الأزهر وفي غيره من المؤسسات العلمية بحرصة على المتابعة لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

(¬1) كان مفتي الديار المصرية (1946 - 1950)، وكان عضوا مؤسسا لرابطة العالم الإسلامي بالمملكة العربية السعودية، واختير كذلك في مجلس القضاء الأعلى بالسعودية. له العديد من المؤلفات الهامة مثل كتاب كلمات القرآن تفسير وبيان، صفوة البيان لمعاني القرآن، آداب تلاوة القرآن وسماعه .... الخ. تميز الشيخ حسنين مخلوف بأفكاره الإصلاحية وفتواه الملائمة للواقع المعاش. ينظر: حسنين محمد مخلوف، موقع ويكيبيديا (http://ar.wikipedia.org). (¬2) ولد الشيخ محمد حسين الذهبي في قرية مطوبس وهي قرية تقع على الشاطئ الشرقي للنيل تابعة لمحافظة كفر الشيخ إحدى محافظات الوجه البحري المصرية وكان مولده عام (1915 م)، نال شهادة العالمية من درجة أستاذ في علوم القرآن الكريم في 15 فبراير 1947 م، وسافر - رحمه الله - في كوكبة من علماء الأزهر في أول بعثة إلى مدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية للتدريس في دار التوحيد والتي كان يديرها آنذاك الشيخ محمد بن مانع - رحمه الله - وصحبه في تلك الفترة (1948 - 1951 م) الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - وغيره، ثم ندب للتدريس في المدينة المنورة لمدة عام وذلك (سنة 1951 م)، ثم عاد إلى القاهرة وأصبح وزيرا للأوقاف وشؤون الأزهر، وله مؤلفات كثيرة من أشهرها: التفسير والمفسرون، الاتجاهات المنحرفة في التفسير، شرح أحاديث العقيدة في الصحيحين، الأحوال الشخصية بين أهل السنة والجعفرية، وغيرها من المؤلفات. مات قتيلاً في 3/ 7 / 1977 م، ومما قاله الدكتور إبراهيم أبو الخشب في رثائه: في ذمة الله والإسلام والعرب ... ما سال من دمك المسفوك يا ذهبي خطفت في ليلة ما نام حارسها ... وذقت فيها الذي قد ذقت من وصب قتلت يا داعي الرحمن في غسق ... وللردى سبب لابد من سبب سيان من مات في أمن وفي دعة ... ومن يموت صريع الجهل والشغب لكنما لشهيد الحق منزلة ... يحيا بها رغم ما للموت من حجب ينظر: محمد حسين الذهبي، موقع ملتقى أهل التفسير (http://www.tafsir.net). (¬3) أ. د. عبد المنعم النمر من مواليد قرية الخرزاني - مركز دسوق- عام (1913 م)، من علماء الأزهر، عين وزيرا للأوقاف سنة (1979 م) كما أنه كان عضواً في مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، توفي عام (1991 م)، له عدة مؤلفات منها: (الإسلام والشيوعية، الإسلام والغرب، الشيعة، المهدي، الدروز). ينظر: أعلام كفر الشيخ الراحلون، موقع الشاعر إبراهيم بركات ((http://ismaeilborik.blogspot.com. (¬4) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. لمحمد بن أحمد سيد أحمد (1/ 63، 173)، العالم الرباني والمصلح المجاهد محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن السديس مفرغة في كتاب العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (2/ 624)، الحكمة من إرسال الرسل (ص 6 - 7)، إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 25 - 26).

ثالثا: وفاته - رحمه الله -

ثالثاً: وفاته - رحمه الله -. في السنوات الأخيرة من عمره، انتابته أمراض عديدة، ومع هذا لم يكن من الحريصين على التردد على الأطباء إلا عند الضرورة، يقول - رحمه الله -: إن هذا شيء قدره الله، ولا بد أن يحصل .. وقد أجري له عدة عمليات في المستشفى الجامعي بالرياض، تكللت بالنجاح، ولكن الروماتيزم الذي كان معه طويلاً أقعده عن الحركة، فكان لا يأتي للعمل، ولا يذهب للمسجد إلا في عربة متنقلة، وكأن هاجساً باطنياً نبهه إلى قرب أجله، إذ أصر في حج عام 1414 هـ، أن يكون من ضيوف الرحمن، لعل الله أن يتقبّل منه حجة الوداع هذه، وقد منّ الله عليه بإكمال الحج بيسر وسهولة .. وبعد عودته من الرياض انتابته الأمراض المضنية، فأدخل الشيخ - رحمه الله - على إثرها المستشفى العسكري بالرياض الساعة الواحدة بعد الظهر من يوم الثلاثاء الموافق 16/ 3/1415 هـ في قسم العناية المركزة ثم أُخرج منها في يوم الأحد 21/ 3/1415 هـ وهو يعاني من ألم شديد في الكبد وضعف في الكلى ووجود سوائل في الرئتين وهبوط في ضربات القلب وظل بالمستشفى حتى وافاه الأجل المحتوم في يوم الخميس 25/ 3/1415 هـ في حوالي الساعة السابعة صباحاً، ثم صلّي على جنازته عقب صلاة الجمعة 26/ 3/1415 هـ في الجامع الكبير بالرياض وقد صلى عليه خلق كثير، وقد دفن بمقبرة العود بالرياض. وما كان الجمع الغفير من مشيعيه الذين حضروا الصلاة عليه ودفنه إلا دليلاً واضحاً على محبتهم له، وإن العالم الإسلامي فعلاً قد فقد عالماً جليلاً وشيخاً فاضلاً وعَلماً من أعلام الأمة، أمضى اثنين وتسعين خريفاً من الجهاد والدعوة والعلم والتعليم بجميع جوانبه، فقدس الله روحه، ونور ضريحه، ورحمه وغفر له وأسكنه فسيح جناته، وجمعنا به في دار كرامته وجبر الله مصاب الأمة على فقده (¬1). ¬

(¬1) الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي (2/ 606 - 607، 667، 741)، العالم الرباني والمصلح المجاهد محاضر ألقاها فضيلة الشيخ أ. د. عبد الرحمن السديس مفرغة في كتاب العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (2/ 637)، الحكمة من إرسال الرسل (ص 9 - 10)، إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 300 - 302).

المبحث الثاني: حياة الشيخ العلمية

المبحث الثاني حياة الشيخ العلمية. أولاً: شيوخه: تتلمذ الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - على جماعة من علماء عصره، وتلقى عنهم فنوناً عدّة كلّ حسب اختصاصه وما شُهِرَ به (¬1). من العلماء الذين تتلمذ الشيخ عليهم ونهل من علمهم، واستفاد من دروسهم. الشيخ محمد بن حسن عافية، والشيخ محمد بن عبود عافية وهما من علماء قريته (شنشور) وأما أشهر شيوخه وأكثرهم تأثيراً فيه، فمنهم الشيخ أحمد نصر شيخ السادة المالكية، والشيخ دسوقي العربي، والشيخ عبد المعطي الشربيني، والشيخ يوسف الدجوي (¬2)، والشيخ محمد العتريس، والشيخ إبراهيم الجبالي (¬3)، والشيخ مصطفى المراغي (¬4)، والشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر ¬

(¬1) ومما يذكر في حرص الشيخ - رحمه الله - على طلب العلم، أنه ظل عازفاً عن الزواج حتى بلغ من العمر خمساً وثلاثين. ينظر: إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 13). (¬2) هو: الشيخ أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن أحمد بن نصر الدجوي، ولد في (دجوة) من أعمال قليوب بمصر سنة (1287 هـ)، فقد بصره في صغره بسبب مرض الجدري، كان عضواً في جماعة كبار العلماء بالأزهر الشريف، توفي سنة (1365 هـ). ينظر: العلامة يوسف الدجوي، موقع روض الرياحين http://cb.rayaheen.net)). (¬3) هو: الشيخ إبراهيم الجبالي شيخ معهد الزقازيق بمصر، توفي ليلة الاثنين 17 صفر سنة (1370 هـ - 1950 م) بالقاهرة. ينظر: اختصار علوم الحديث، موقع معهد آفاق التيسير الإلكتروني (http://www.afaqattaiseer.com). (¬4) هو: الشيخ مصطفى المراغي ولد سنة (1881 هـ)، عالم أزهري وقاض شرعي مصري، شغل منصب شيخ الأزهر في الفترة من (1928 م) حتى استقالته في (1930 م)، ثم تولى المشيخة مرة أخرى عام (1935 م) وحتى وفاته في ليلة 14 رمضان (1364 هـ - 1945). ينظر: محمد مصطفى المراغي، موقع ويكيبيديا (http://ar.wikipedia.org).

ثانيا: تلاميذه

السعدي (¬1) (¬2) وغيرهم (¬3). ثانياً: تلاميذه. تتلمذ على الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - وأخذ عنه جماعة، وقعدوا منه مقعد الدرس والتحصيل، ومن الصعب جداً حصرهم، ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه؛ إلا أن من تلاميذه من أصبح عالماً متألقاً في سماء العلم والمعرفة، ومنهم: معالي الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، ومعالي الشيخ صالح بن محمد اللحيدان، وفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان، ومعالي الشيخ صالح بن فوزان آل فوزان، وسماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -، والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - رحمه الله -، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، والشيخ محمد ابن عبد الله العجلان، والشيخ عبد الله بن حسن بن قعود، والشيخ الدكتور صالح الأطرم، والشيخ محمد بن عبد الله السبيل، والشيخ ناصر بن حمد الراشد، والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام، والشيخ عبد العزيز السعيد، والشيخ عبد العزيز بن محمد عبد المنعم، والشيخ ناصر بن عبد العزيز بن محمد الشثري؛ وغيرهم من تلاميذه بالمعهد العالي ¬

(¬1) هو: العلامة الفقيه المفسر عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر آل سعدي، ولد ونشأ في عنيزة أحدى محافظات القصيم، واشتغل بالعلم حتى فاق الأقران، توفي - رحمه الله - سنة (1376 هـ)، وله مؤلفات عدة منها: تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن، والقواعد الحسان، والقول السديد في شرح كتاب التوحيد. ينظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون للشيخ عبد الله البسام (3/ 218)، الأعلام (3/ 340). (¬2) ذكر فضيلة الشيخ عبد الله العجلان أن الشيخ عبد الرزاق عفيفي ذكر له يوماً أنه كان يحضر دروس الشيخ عبد الرحمن السعدي، عندما كان يقوم بالتدريس في عنيزة، وأنه أعجب بعلمه، وكان يثني عليه ثناءً عاطراً في علمه وورعه وأسلوب حياته وتنظيم وقته، ويقول: إنه كان سابقاً لعصره، بحراً في علمه، سديداً في توجيهاته. ينظر: جريدة "الرياض"، الثلاثاء غرة ربيع الآخر 1415 هـ. (¬3) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (1/ 112 - 113، 257)، مع العلم أن من لم يترجم لهم ممن سبق لم أقف لهم على ترجمة.

ثالثا: مؤلفاته

للقضاء بالرياض، ومن درس عليه في المدارس النظامية أو في المسجد؛ أمم لا يحصون كثرة (¬1). ثالثاً: مؤلفاته. كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - لا يرى التأليف ولا يرغب فيه، مع غزارة علمه وسعة إدراكه ووفرة مادته، وكان يعلّل ذلك بأن الناس عامة، وطلبة العلم خاصة بحاجة ماسة إلى القراءة والاطلاع أكثر من حاجتهم للتأليف والتصنيف؛ وأن هذه الكتب والمؤلفات الحديثة لا فائدة فيها، وأنه يُكتفى بما كتبه وجمعه العلماء السابقون، حيث إنهم تطرقوا إلى كل فن، وأوضحوا ما يحتاج إلى توضيح، وأن من جاء بعدهم عيال عليهم (¬2). ولعل السبب الحقيقي الذي حمل الشيخ على ترك التأليف مع التمكن من أدواته، زهدهُ في الشهرة والسمعة والمناصب، وتفرغه لتربية الأجيال، وبناء النفوس، وإعداد العلماء وتهيئتهم بالعلم والعمل وحمل أمانة التبليغ. ومع ذلك فلهُ - رحمه الله - التالي- مع العلم أنه لم يؤلف كتباً إنما كان جُل تراثه عبارة عن تعليقات ومراجعات ومباحث كتبها للنفع العام أو أنها طُلبت منه -: 1 - تعليقاته على كتاب الإحكام للآمدي. 2 - تعليقه على تفسير الجلالين وتصويبه (من سورة غافر إلى آخر المصحف). ¬

(¬1) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (1/ 116 - 118)، العالم الرباني والمصلح المجاهد محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن السديس مفرغة في كتاب العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (2/ 623)، إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 32 - 33). (¬2) قال - رحمه الله -: " ما من شبهة تذاع اليوم إلا وقد سبق لها شياطين الملحدين السابقين في العصور الأولى، ووقَّفها وردها وأبطلها أجلة علماء السلف ببراعة فائقة فلا سبيل أرشد من سبيلهم ولا هدي أقوم مما كانوا عليه، فالخير كل الخير في العودة إلى كتاب الله تلاوة له وتفقهاً فيه وإلى أحاديث المصطفى صاحب جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - دراية ورواية، والفتيا بهذين الأصلين وعرض أعمال الناس عليهما فذلك هو الفلاح والرشاد الذي ليس بعده رشاد". ينظر: مجموعة ملفات الشيخ (ص 148)، كلام الشيخ القطان - رحمه الله - في كتاب الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي (2/ 585)، كلام الشيخ بن جبرين - رحمه الله - في كتاب الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (2/ 588) وكلا الشيخ زهير الشاويش المرجع السابق (2/ 704)، الحكمة من إرسال الرسل (ص 8)، إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 35 - 38).

3 - مذكرة التوحيد. 4 - إحالات على شرح العقيدة الطحاوية (¬1). 5 - رسالة شبهات حول السنة (¬2). 6 - توقيعه مع اللجنة الدائمة للإفتاء على أكثر الفتاوى، ومشاركته في أبحاثها. 7 - مراجعته على "شرح العقيدة الواسطية" للشيخ محمد خليل هراس. 8 - تقرير على كتاب "الاعتقاد" للبيهقي. 9 - مبحث في مذاهب المعتزلة. 10 - مبحث في تقديم نصوص الكتاب والسنة على العقل. 11 - الفرق بين النبي والرسول وبيان النسبة بينهما. 12 - عصمة دم المسلم مع بيان الأسباب الطارئة التي يحل بها دمه والدليل على ذلك. 13 - فتوى في الكرامة وحقيقتها. 14 - تقريرات على بعض كتب العقيدة: ¬

(¬1) ينظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، تحقيق ومراجعة جماعة من العلماء، تخريج الألباني، طبعة المكتب الإسلامي، الطبعة التاسعة 1408 هـ قال الناشر الشيخ زهير شاويش في مقدمة الكتاب: "وقد امتازت طبعتنا هذه بإضافات جليلة القدر، عظيمة النفع منها ... احالات أستاذي العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم مما هو مثبت في هذا الشرح" (ص 9). (¬2) طبع معها رسالة الحكم بغير ما أنزل الله ونسبتها للشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - كاذبة كما بين ذلك ابنه الشيخ محمود بن عبد الرزاق عفيفي حفظه الله، قال: " فإن هذه الرسالة المنسوبة لوالدي العلامة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله في مسألة الحاكمية هي في الأصل رسالة مكتوبة بالآلة الكاتبة على ورق مطبوع عليه رئاسة البحوث العلمية والإفتاء وقد جاء بها لي طلبة علم وأخبروني أنهم أخذوها من الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود رحمه الله فأخرجتها للطباعة باستعجال. وحيث إني بحثت عن أصل لها أو صورة خطية أو تسجيل صوتي أو توقيع لوالدي عليها فلم أجد؛ ومن ثم تكون نسبتها إليه كذباً؛ حتى يتبين أن لها أصلاً بخطه أو توقيعه أو صورة منها أو بصوته، ومن كان عنده أي دليل على صحة نسبتها إليه من كتابة أو بصوته. ومن كان عنده أي دليل على صحة نسبتها إليه من كتابة أو توقيع أو تسجيل بصوته فليأت به أو يرسله إليّ عبر عنواني البريدي. وأما فتاواه في مسألة الحاكمية فهي موجودة في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وعليها توقيعه". وكلام الشيخ هذا قاله لي مشافهة وهو موجود على الموقع الالكتروني www.afifyy.com.

- نظرات وتأملات في كتب ومؤلفات فضيلة الشيخ العلامة محمد الخضر حسين شيخ الأزهر. - تقرير عن كتاب "العقيدة والسلوك في ضوء الكتاب والسنة والسيرة" لأبي الحسن الندوي. - تقرير عن كتاب "حكم القراءة على الأموات". - تقرير عن "رسالة في الرد على النصارى" منسوبة إلى مؤلفها يوسف المهتدي اللبناني. - تقرير عن كتاب " تصحيح المفاهيم في جوانب من العقيدة"و"العقل والنقل عند ابن رشد" للشيخ محمد أمان بن علي الجامي. - تقرير عن كتاب "ضوابط السنة والبدعة في الشريعة الإسلامية" للشيخ صالح ابن سعود العلي. - تقرير عن كتاب "مع رسل الله وكتبه واليوم الآخر" لحسن محمد أيوب. - تقرير عن كتاب "إلى التصوف يا عباد الله" للشيخ أبو بكر الجزائري. - تقرير عن رسالة الدعوة الحموية في مرآة الطريقة الأحمدية؛ للأستاذ: طاهر ابن أبي بكر لنب دكري التجاني. - تقرير عن كتاب بغية المهتدي في رد شبهات المعتدي؛ لأبي بكر بن محمد ابن عثمان حوص المرجي. 15 - أسباب الانحراف عن الحق. 16 - تراجم بعض العلماء. 17 - تقريرات عن بعض الشخصيات والجماعات. 18 - كلمة عن الولاء والبراء. 19 - تفسير مختصر لسورة الفاتحة. 20 - وجوب الإيمان بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة والعرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب والصراط والميزان. 21 - مبحث الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، وأنهما باقيتان لا تفنيان.

22 - مبحث في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموالاتهم والرد على الروافض والنواصب. 23 - التعريف بأهل السنة والجماعة وتميزهم عن الفرق الإسلامية. 24 - مبدأ وميثاق. 25 - مقدمة لكتاب "المقاصد العليَّة من القصيدة النونية" للشيخ محمد بن أحمد سيد. 26 - مقدمة لكتاب "الولاء والبراء" لمحمد بن سعيد بن قبيل القحطاني، رسالة أشرف عليها. 27 - التجانية، ونماذج من بدع التجانية. 28 - التعليق على مختصر تفسير ابن جرير. 29 - أنواع التوحيد. 30 - فتوى في المسيح عليه السلام. 31 - الطريقة المثلى في الدعوة إلى الله. 32 - منهج الرسل في الدعوة إلى الله. 33 - الرسالة. 34 - نبذة عن حال المسلمين في العصور الأولى. 35 - حكم كتابة المصحف بالحروف اللاتينية. 36 - ملاحظات على تتمة أضواء البيان التي كتبها فضيلة الشيخ عطية سالم. 37 - مبحث الأدلة. 38 - العذر بالجهل. 39 - مبحث العرش والكرسي وما يتعلق بهما. 40 - مناقشاته المسجلة للرسائل العلمية في الجامعة، وكتاباته في عدد من المقدمات لكتب علمية ورسائل جامعية. 41 - حوار علمي مع سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (¬1). 42 - فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (¬2). ¬

(¬1) طبعته دار الوطن للنشر، ط:1، 1416 هـ، إعداد السعيد بن صابر بن عبده. (¬2) إعداد: الشيخ وليد بن إدريس بن منسي، والسعيد صابر عبده.

رابعا: مذهبه العقدي

ومما تجدر الإشارة إليه أن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - أسهم وبشكل فعال ومؤثر في بناء النهضة التعليمية التي وصلت إليها المملكة العربية السعودية اليوم، وشارك سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية والرئيس العام للمعاهد والكليات الشيخ محمد بن إبراهيم (¬1) -تغمدهما الله بواسع رحمته- في وضع مقررات ومناهج المعاهد التعليمية وجامعة الإمام والجامعة الإسلامية وغيرها، والتي خرجت بدورها أمماً لا يحصون كثرة من العلماء والدعاة وطلبة العلم (¬2). رابعاً: مذهبه العقدي (¬3). كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - سلفي العقيدة، من كبار علماء التوحيد، يرجع في أمر المعتقد إلى مذهب السلف الصالح، وقد عُرف بشدة الانتصار له، والدفاع عنه، يعض عليه بالنواجذ، ويحاول إرجاع الناس إليه بكل الوسائل. لقد كان مدافعاً ومنافحاً عن العقيدة الإسلامية الصافية "عقيدة التوحيد" فقد حارب البدع وهو يحمل لواء التوحيد، ويحافظ عليه بكل ما آتاه الله من قوة، وما حباه من عزيمة. وعلى الرغم من أن الشيخ - رحمه الله - درس بالأزهر، وسبر كتب الأشاعرة، وألمَّ بها، وخبر مناهجها، إلا أنه لم يتأثر بشيء منها، وظل على سلفيته، مع بعده عن مصطلحات أهل الكلام وسفسطتهم، ويتضح هذا جلياً في كلمته التي بعنوان "مبدأ وميثاق"والتي قال فيها - رحمه الله -: "الإسلام عقيدة وقول وعمل، فالعقيدة إيمان راسخ بأن الله رب كل شيء ومليكه خلقاً وتقديراً وملكاً وتدبيراً، وأن العبادة بجميع أنواعها حق له وحده لا يشركه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فله سبحانه الأسماء الحسنى والصفات العليا التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة الصحيحة ... وتمر هذه النصوص كما جاءت اقتداء بسلف هذه الأمة وخير قرونها ... ¬

(¬1) هو: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، الحنبلي، كان المفتي الأول للمملكة العربية السعودية، ولد وتوفي في الرياض، تعلم بها، وفقد بصره في الحادية عشرة من عمره، تولى مناصب عدة، كانت ولادته سنة 1311 هـ، وتوفي سنة 1389 هـ، ومن آثاره الجواب المستقيم، وتحكيم القوانين وغيرها. ينظر: الأعلام (5/ 306). (¬2) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (1/ 69). (¬3) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (2/ 398) وما بعدها، ينظر: إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 41).

خامسا: مذهبه الفقهي

مع تفويض العلم بكيفيتها إلى الله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ... ولا يلزم من ذلك تشبيه الله بعباده ... مع الكف عن الخوض في كنهها ... إلخ" (¬1). يقول عنه فضيلة الدكتور عبد الله بن حافظ الحكمي: " لقد كان - رحمه الله - أي الشيخ عبد الرزاق عفيفي- واسع العلم بمسائل العقيدة، شديد التمسك بمذهب السلف الصالح مع المعرفة التامة بالملل والنحل المختلفة وأصولها التي تصدر عنها، عالماً بعورها ومواطن دحضها. لقد كان - رحمه الله - شديد الإعجاب بشيخ الإسلام ابن تيمية، كثير الرجوع إلى مؤلفاته، وكان مما سمعته منه: "لم أر لدى أكثر المؤلفين في العصور المتأخرة جديداً، بل تكرار لما ذكره من سبقهم سوى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فإنك تجد في مؤلفاته الكثير منه ولا يتغير فيه شيء"" (¬2). خامساً: مذهبه الفقهي. يعد الشيخ - رحمه الله - مالكي المذهب (¬3)، ولكنه صاحب عقل راجح، وفكرٍ مستنير، لم يكن - رحمه الله - يتعصب للمذهب المالكي ولا لغيره، بل كان يكره التعصب والهوى ولا ينتصر لغير الدليل. لذا فإنه لم يقف في دراسته الفقهية عند حدود مذهب بعينه بل خرج عن هذا الإطار المحدد إلى الدراسة الواسعة الشاملة كما أننا نجد له في ثنايا فتاواه وكتاباته اختيارات من مختلف المذاهب الإسلامية وأحياناً يخرج عنها إلى اجتهاده ويدعمه بالدليل والبرهان. وبالجملة فقد كان - رحمه الله - غاية في معرفة المذاهب وأقوال الفقهاء لا يقلد أحداً، وإنما يتبع ما يراه موافقاً للدليل (¬4) (¬5). ¬

(¬1) ينظر: مجموعة ملفات الشيخ (ص 146) وما بعدها. (¬2) ينظر: مجلة الدعوة العدد (1463) بتاريخ 15/ 5/1415 هـ الموافق 20 أكتوبر 1994 م. (¬3) منح شهادة التخصص في فقه المالكية والأصول سنة (1355 هـ). (¬4) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (1/ 121 - 122) (2/ 691). (¬5) للشيخ - رحمه الله - مجموعة من الأبحاث الفقهية، منها: 1 - حكم البيع في البورصة: مذكرة كتبها باسم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. 2 - وجهة نظر في تحديد نهاية ذبح هدي التمتع والقران. 3 - الوقوف بعرفة والنزول بمزدلفة. 4 - عدد صلاة التراويح. 5 - تقرير عن كتاب "الكافي" لابن عبد البر. 6 - تقرير عن كتاب "فقه السنة" لسيد سابق.

سادسا: مؤهلاته العلمية.

قال الشيخ عبد الله الحكمي: "كان - رحمه الله - في علم الفقه سريع الاستحضار للأحكام الشرعية، محيطاً بأدلتها، عالماً بقواعدها، وأصولها، مدركاً لأشباه المسائل ونظائرها، سديد الرأي، صائب الاجتهاد، يفتي السائل حسب مستواه من الجهل والعلم" (¬1). وقال الدكتور محمد الصباغ: " كان - رحمه الله - فقيهاً مجتهداً، وما كان يرضى التعصب لمذهب من المذاهب مع إحاطة بها لم أرَ مثلها، بل كان يمشي مع الدليل، وقد تكونت لديه ملكة فقهية عظيمة" (¬2). سادساً: مؤهلاته العلمية. لقد تحصل الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - على عدد وافر من الشهادات والإنجازات العلمية. ومؤهلات الشيخ العلمية على النحو التالي: تخرج من الكتاتيب مبكراً، بعد حفظه المتقن والمجود لكتاب الله. وقد تخرج الشيخ - رحمه الله - من الأزهر من أعلى مستوياته، فقد تحصل على الشهادتين الابتدائية والثانوية ثم تحصل على الشهادة العالمية في الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة 1351 هـ الموافق السادس عشر من شهر أغسطس سنة 1932 م. وفي الرابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة 1355 هـ، الموافق الثامن والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1936 هـ، منح شهادة التخصص في الفقه وأصوله، وهي التي تُعرف اليوم بشهادة (الدكتوراه). ثم واصل تحصيله العلمي حتى أضحى من العلماء الفحول والحفظة العدول - رحمه الله - وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة. ¬

(¬1) ينظر: إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 61). (¬2) ينظر: إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 62).

سابعا: جهوده في نشر العلم ومناصبه

ومما تجدر الإشارة إليه، أن الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - لم يكن يعبأ بهذه الشهادات، ولم يفاخر بها. ويؤكد هذا فضيلة الدكتور محمد بن سعد الشويعر، قائلاً: " كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - ممن يزهد في الشهادات الدراسية، والتشدق بذكرها، وإنما يراها وسيلة لحمل العلم، وثقل الأمانة التي يجب أن تؤدى، ولم نسمعه يوماً يتحدث عن المؤهل الذي تحصَّل عليه" (¬1). سابعاً: جهوده في نشر العلم ومناصبه (¬2). لقد أدى الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - على مدار تسعة وأربعين عاماً دوراً مهماً وفاعلاً في الحياة العلمية والاجتماعية ويمكن إجماله فيما يلي: أ- لقد أمضى الشطر الأول من حياته في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان داعية من أبرز دعاة جماعة أنصار السنة المحمدية (¬3) في مصر ومن المؤسسين لها (¬4). ¬

(¬1) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (1/ 114 - 115)، وإتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 12 - 13). فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 28 - 29). (¬2) ينظر: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (1/ 165، 175 - 176، 329، 332 - 334، 338 - 340)، العالم الرباني والمصلح المجاهد محاضر ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن السديس مفرغة في كتاب العلامة عبد الرزاق عفيفي .. (2/ 624 - 625)، الحكمة من إرسال الرسل (ص 6 - 8)، فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 29 - 30)، إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 15 - 35، 26 - 27، 33 - 35). (¬3) جماعة أنصار السنة المحمدية: تأثرت هي وغيرها من الجماعات السلفية في القرن الرابع عشر الهجري- العشرين الميلادي- بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تأثراً ظاهراً جلياً، لأن من أبرز أهدافها: الدعوة إلى التوحيد الخالص، ومتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في العبادة والشعائر والشرائع ومحاربة الشرك والبدع والخرافة والشعوذة والدجل وهذه هي دعوة الرسل. وقد بين منهجها ولب دعوتها الشيخ عبد الرزاق عفيفي في مبدأ وميثاق. ينظر: جماعة أنصار السنة المحمدية للدكتور أحمد بن محمد الطاهر (ص 73)، ومجموعة ملفات الشيخ (ص 146). (¬4) توفي فضيلة الشيخ محمد حامد الفقي يوم الجمعة السابع من رجب سنة 1378 هـ، ومما تجدر الإشارة إليه، أن الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - كان رئيساً لفرع أنصار السنة بالإسكندرية ثم أصبح نائباً للرئيس العام لأنصار السنة في مصر سنة 1365 هـ الموافق 2/ 2/1946 م. ثم رئيساً عاماً لجماعة أنصار السنة في مصر عام 1379 هـ، 1959 م.

ب- اشتغاله بالتدريس في معهد الإسكندرية الديني. ت- تقلده منصب وكالة المعهد الديني بالإسكندرية، وقيامه بأعباء هذا المنصب خير قيام. ث- إمامته المسلمين في الإسكندرية وضواحيها، وقيامه بإلقاء الخطب والمحاضرات في المساجد والمحافل العلمية، وقد كانت وظيفته الدعوة إلى الله وهي أشرف عمل على الإطلاق. ج- جهوده التعليمية والتربوية والدعوية في دار التوحيد بالطائف في المملكة العربية السعودية (1368 هـ - 1370 هـ). ح- محاضراته القيمة ودروسه العلمية في معهدي عنيزة العلمي والرياض (1370 هـ - 1371 هـ). خ- تأسيسه وتدريسه في كليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض. د- معاصرته لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض منذ نواتها الأولى واستمرار عطائه لها إلى أن توفاه الله. ذ- جهوده المخلصة وعمله الدؤوب إبَّان إدارته للمعهد العالي للقضاء (1385 هـ - 1390 هـ) وتخريج أفواج من طلبة العلم والدعاة على يديه، علماً بأنه قام بالتدريس فيه والإشراف على رسائله لطلابه والمشاركة في تقويمها، وكان من المخططين لمناهج هذا المعهد، واستمر في إدارة المعهد العالي للقضاء إلى أن بلغ سن التقاعد عام 1386 هـ، إلا أنه استثني منه بطلب سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وبموافقة مجلس الوزراء بقراره رقم 411 بتاريخ 25/ 6/1387 هـ. ر- مشاركته في اللجان العلمية التي كان من ثمراتها إنشاء الكليات والمعاهد العلمية بالمملكة. ز- عضويته الفاعلة وجهوده المتواصلة في وضع مناهج ومقررات الجامعة العلمية بالمدينة المنورة.

س- تحريره وصياغته لآلاف الفتاوى والبحوث التي تتسم بالعمق والأصالة والدقة، وذلك خلال عمله نائباً لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، مدة أربع وعشرين سنة. ش- دروسه العلمية ومحاضراته وندواته المفيدة وكلماته التوجيهية وعقد مئات المجالس العلمية في المساجد وفي بيته وفي بعض المعاهد التربوية ودور العلم. ص - إشرافه على عشرات الرسائل العلمية (دكتوراه وماجستير) ومناقشته للمئات منها. ض- تقويمه للأعمال العلمية والأبحاث التي تتسم بالأصالة والابتكار لكثير من الأساتذة طلباً للترقية إلى الدرجة العلمية التي يستحقونها. ويتضح مما سبق أن الشيخ - رحمه الله - أفنى حياته في العلم والتعليم والإفتاء وانتفع بعلمه ودروسه أُمم لا يحصون كثرة واعترفوا له بالفضل بعد فضل الله سبحانه وتعالى وافتخروا بالانتماء إلى تعليمه. ثمانون عاماً والحياة مصاعد ... وللشيخ فيها منهجٌ وسناءُ إذا المحفلُ الراقي تناظر جمعُهُ ... رأيتَ مقال الشيخ فيه سخاءُ شواهدهُ الآيات جَلَّ دليلها ... وحشدُ أحاديثٍ لهنَّ صفاءُ يُسَرْبِلُ بالإقناع كلَّ مقالهِ ... فيُصغي لهُ الكُتَّابُ والخطباءُ إلى عرصات الخلد يا وافر النُّهى ... لعلك عند الله حيث تشاءُ وإنَّ قصيدي حينَ يندى بذكرِكُم ... حريٌّ بأن يندى به الشعراءُ (¬1) ¬

(¬1) من مرثية الأستاذ محمد بن سعد المشعان في الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -، ينظر: جريدة الرياض العدد 9573 الجمعة 4 ربيع الآخر 1415 هـ الموافق 9/ 9/1994 م.

الباب الأول: منهج الشيخ عبد الرزاق وجهوده في تقرير العقيدة

الباب الأول: منهج الشيخ عبد الرزاق وجهوده في تقرير العقيدة. وفيه خمسة فصول:

الفصل الأول: منهج الشيخ عبد الرزاق في تقرير مسائل الاعتقاد والاستدلال عليها

الفصل الأول: منهج الشيخ عبد الرزاق في تقرير مسائل الاعتقاد والاستدلال عليها وفيه مبحثان:

المبحث الأول: منهج الشيخ في تقرير مسائل الاعتقاد

المبحث الأول منهج الشيخ في تقرير مسائل الاعتقاد. قبل الاطلاع على منهج الشيخ في تقرير مسائل العقيدة، يحسن بنا أولاً التعريف بلفظ المنهج في اللغة والاصطلاح. معنى المنهج في اللغة والاصطلاح: المنهج لغة (¬1): الطّريق الواضح، مأخوذ من نهج ينهج نهجاً، ومنه قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} المائدة: 48، أي سبيلاً وسنّة (¬2). واصطلاحاً: هو الطّريق المؤدي إلى التعرّف على الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد، التي تهيمن على سبر العقل، وتحدّد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة (¬3)، وبعبارة موجزة هو: "القانون أو القاعدة التي تحكم أيّ محاولة للدراسة العلمية في أيّ مجال" (¬4). وعليه فإنّ المناهج تختلف باختلاف العلوم التي تبحث فيها، فلكلّ علم منهج يناسبه، مع وجود قدرٍ مشترك بين المناهج المختلفة (¬5). والذي يعنينا هنا بالدّرجة الأولى هو العقيدة الإسلامية والمنهج الذي اتّبعه الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - في تقريرها والرد على المخالفين؛ ولا يشك الناظر والمتتبع لأقوال الشيخ - رحمه الله - وفتاويه أنه سلفيّ المنهج، متَّبع لما عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ولما عليه ¬

(¬1) ينظر: لسان العرب لابن منظور (2/ 383)، القاموس المحيط للفيروز آبادي (1/ 218)، الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية) للكفوي (ص 913)، معجم مفردات القرآن الكريم للأصفهاني (ص 528). (¬2) ينظر: تفسير ابن كثير (2/ 587، 588)، فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (1/ 48). (¬3) العلم والبحث العلمي لحسين عبد الحميد رشوان (ص 143، 144)، منهج البحث العلمي عند العرب لجلال محمد عبد الحميد موسى (ص 273). (¬4) منهج البحث العلمي عند العرب (ص 271). (¬5) ينظر: منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان بن عليّ حسن (1/ 20).

السلف الصالح من أئمة الإسلام، كالإمام أحمد والشافعي ومالك والسفيانين (¬1)، وأمثالهم من أئمة السنة والحديث؛ ويظهر هذا من شديد تمسكه بالدليل الشرعي من الكتاب والسنة، وتعظِّيمه للصحابة الكرام - رضي الله عنهم -، فلا يعدل بهم أحداً ممن جاء بعدهم، ويرى أنهم أصح الناس فهماً وعلماً، وأن قولهم في الكتاب والسنة هو الحق الذي يجب المصير إليه. ¬

(¬1) هما: أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، الإمام المشهور، أحد حفاظ الحديث وأعلام السنة، مات سنة 161 هـ. وأبو محمد سفيان بن عيينة، الإمام الحافظ الكبير، مات سنة 285 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (7/ 229)، (8/ 454).

أولا: انتسابه إلى مذهب السلف دون غيرهم من الفرق

منهجه في تقرير مسائل الاعتقاد: سلك الشيخ - رحمه الله - في تقرير مسائل الاعتقاد منهج أهل السنة والجماعة، فالشيخ - رحمه الله - سلفي النزعة شديد الاعتماد على الكتاب والسنة والأثر؛ ويستطيع القارئ لهذا البحث -إن شاء الله- أن يستنتج سمات منهج الشيخ العقدي، والتي يمكن إجمالها فيما يلي: أولاً: انتسابه إلى مذهب السلف دون غيرهم من الفرق. فالهداية التامة والمعرفة الصادقة لا تتم إلا باتباع سلف الأمة رضوان الله عليهم (¬1)، وبهذا نعلم أن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - وإن كان تخصص في المذهب المالكي في الفروع وتخرج من جامعة الأزهر، والغالب على الجامعة في عصره السير على منهج المدرسة الأشعرية، إلا أن الشيخ - رحمه الله -، لم يكن متعصباً لأشياخه وأصحاب مذهبه، بل كان صاحب اجتهاد واطلاع واسع مكّنه من الخروج من ربقة التقليد الأعمى إلى النظر في الدليل واتباع الحق، وقد شُهد له بذلك، بل نجده ينتقد بعضهم كالآمدي والجلالين وغيرهم ممن لم ينتسب إلى مذهب السلف. ثانياً: الالتزام بنصوص الكتاب والسنة، في أصول الدين وفروعه، وجعلها الميزان الذي توزن به الأقوال والأفعال. سار السلف - رضي الله عنهم - في تقرير العقيدة على التمسك بما جاء في الكتاب والسنة، لعلمهم أنه لا حياة للقلوب ولا سعادة ولا طمأنينة إلا بذلك، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} الأنفال: 24، فيجب التسليم والالتزام بما في الكتاب والسنة. ¬

(¬1) ينظر: توحيد الألوهية لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى (1/ 375)، تحريم النظر في كتب الكلام لموفق الدين ابن قدامة المقدسي (1/ 42)، ذم التأويل لعبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد (1/ 35).

وقد سلك الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - هذا المسلك ودعا إليه وبنى تكوينه العلمي ونهجه الدعوي على هذا الأساس المبارك، وما كلام الشيخ - رحمه الله - وتآليفه وفتاويه إلا أكبر شاهد على سلوكه هذا السبيل واعتصامه بهذا الأصل العظيم من أصول الدين (¬1). قال - رحمه الله -: "الأدلة متضافرة على وجوب اتباعه عليه الصلاة والسلام في كل ما جاء به من التشريع فعلاً كان أو قولاً، أمراً أو نهياً، إيماناً به وتسليماً له وعملاً بمقتضاه؛ إلاّ أن المتَبع فيه من التشريع ليس على وزن واحد في حكمه، بل جزئياته متفاوتة في الرتبة؛ فمنه المطلوب والممنوع والمباح، فكان واجباً اتباعه عليه الصلاة والسلام في كل ذلك على الوجه الذي بينته الأدلة التفصيلية بإيجاب الواجب وندب المندوب والعمل بكل منهما في درجته، والتوسع في المباح بفعله تارة وتركه أخرى، ومنع المحرم والمكروه وتجنب كل منهما حسب درجته. وبالجملة الأمر ظاهر في وجوب الاتباع والإجمال إنما هو في المتبع فيه فيرجع في بيان درجته إلى الأدلة التفصيلية لينزل على ضوئها كل فعل أو قول منزلته، وهو شبيه في الجملة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ...} النحل: 90 الآية" (¬2). قال العلامة ابن القيم - رحمه الله -: "والمقصود أن بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أن بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة؛ فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة، وقد أقسم - صلى الله عليه وسلم - بأن (لا يؤمن أحدكم حتى أكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) (¬3)، وأقسم الله ¬

(¬1) ذكر - رحمه الله - في مقدمة كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (1/ 14): "أن العلماء لهم منازع شتى، ومشارب متباينة، وأسعدهم بالحق من كانت نزعته إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ووسعه ما وسع السلف مع رعاية ما ثبت من مقاصد الشريعة باستقراء نصوصها، فكلمها كان العالم أرعى لذلك وألزم له كان أقوم طريقاً وأهدى سبيلاً، والمعصوم من عصمه الله. (¬2) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 239 - 240)، ينظر: المسألة السادسة من مسائل الأوامر والنواهي في كتاب "الموافقات"للشاطبي. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان برقم (15)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان باب وجوب محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من الأهل والولد ... برقم (44)، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - واللفظ للبخاري.

- احتجاج الشيخ بخبر الآحاد

سبحانه بقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} النساء: 65. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الأحزاب: 36، فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره - صلى الله عليه وسلم - ... " (¬1). - احتجاج الشيخ بخبر الآحاد (¬2): وكذلك فالشيخ - رحمه الله - يحتج بخبر الآحاد في مسائل الاعتقاد، حيث يقول - رحمه الله -: " أحاديث الآحاد الصحيحة قد تفيد اليقين إذا احتفت بالقرائن وأفادت غلبة الظن وعلى كلتا الحالتين يجب الاحتجاج بها في إثبات العقيدة وسائر الأحكام الشرعية ولذلك أدلة كثيرة ... " (¬3) (¬4). وتطبيقاً لهذه القاعدة -الالتزام بنصوص الكتاب والسنة- نجد أن الشيخ - رحمه الله - يأخذ بخبر الآحاد في أبواب الاعتقاد، كما هو مذهب السلف وجماهير أهل السنة والجماعة (¬5). ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 37 - 38). وينظر: الشفا للقاضي عياض، إذ عقد فصلاً في وجوب طاعته عليه الصلاة والسلام وآخر في وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهدية، وثالثاً في الوعيد على مخالفته وعصيان أوامره (2/ 6) وما بعدها. (¬2) خبر الآحاد: الآحاد جمع واحد، وخبر الواحد ما يرويه شخص واحد، واصطلاحاً: ما لم يجمع شروط المتواتر. ينظر: لسان العرب (3/ 448)، نزهة النظر (ص 13)، إرشاد الفحول (ص 41 - 43). (¬3) مجموعة ملفات الشيخ (ص 160)، ينظر: شبهات حول السنة للشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 27 - 33). (¬4) ولذلك أدلة كثيرة ذكرها أبو محمد على بن حزم في مباحث السنة من كتاب الأحكام في أصول الأحكام (2/ 78 - 88)، وذكرها ابن القيم في كتابه الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (1/ 75) وما بعدها، والشافعي في الجزء الثالث من كتابه الرسالة فصل في " الحجة في تثبيت خبر الواحد" (1/ 401) وما بعدها. (¬5) ينظر: الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص 72)، والتمهيد لابن عبد البر (1/ 2)،شرح الكوكب المنير لابن النجار الفتوحي (2/ 352)،ولوامع الأنوار البهية (1/ 19)، والمسودة في أصول الفقه لآل تيمية (ص 248)،ومجموع الفتاوى (20/ 259 - 263)، ومذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (104 - 105)، شرح القصيدة ابن القيم لأحمد بن إبراهيم بن عيسى (1/ 219).

ثالثا: رفض دعوى التعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح

والقول بخلاف ذلك قول مبتدع أحدثته الجهمية (¬1) والمعتزلة (¬2) لكي تسلم لهم أصولهم الفاسدة التي أصَّلوها في باب أفعال الله وأسمائه وصفاته تبارك وتعالى، ولما رأوا أن هذه الأخبار لا توافق ما ذهبوا إليه، قالوا: هذه أخبار آحاد ولا تفيد القطع، والعقائد لا بد فيها من القطع واليقين! (¬3). ثالثاً: رفض دعوى التعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح، ورفض ما يترتب على ذلك من القول بالتأويل. إن من أبرز السمات للمدرسة السلفية رفض الدعوى الذائعة بين المتكلمين بتعارض النقل والعقل، وقد قام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بتأليف كتابه الكبير "درء تعارض العقل والنقل" (¬4) للرد على هذه القضية التي تولى كبْرها الفخر ¬

(¬1) الجهمية: هم طائفة من أهل البدع، ينتسبون إلى الجهم بن صفوان السمرقندي، من بدعهم: القول بنفي الأسماء والصفات عن الله ... تعالى، وأن العبد مجبور على فعله ولا قدرة له ولا اختيار، وأن الإيمان إنما هو المعرفة، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وغيرها؛ وسيأتي بسط القول عنهم إن شاء الله تعالى في الباب الثاني من هذه الرسالة المبحث الثالث: أهل الكلام. ينظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 214)، الفرق بين الفرق للبغدادي (ص 211)، الملل والنحل لأبي منصور البغدادي (ص 145)، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 86). (¬2) المعتزلة: هم أصحاب واصل بن عطاء الغزال الذي اعتزل حلقة الحسن البصري، وهي فرقة ظهرت في أول القرن الثاني، تقدم العقل على نصوص الكتاب والسنة، وأصول الدين عندهم خمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ستروا تحت كل وحد منها معنى باطلاً يخالف المتبادر منه؛ وسيأتي بسط القول عنهم إن شاء الله تعالى في الباب الثاني من هذه الرسالة المبحث الثالث: أهل الكلام. ينظر: الفرق بين الفرق (ص 83)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 63)، وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (ص 69)، مقالات الإسلاميين (1/ 235)، البرهان في عقائد أهل الأديان لعباس السكسكي (ص 49). (¬3) ينظر: الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص 72)، والتمهيد لابن عبد البر (1/ 2)،شرح الكوكب المنير لابن النجار الفتوحي (2/ 352)،ولوامع الأنوار البهية (1/ 19)، والمسودة في أصول الفقه لآل تيمية (ص 248)،ومجموع الفتاوى (20/ 259 - 263)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (2/ 540 - 543)،ومذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (104 - 105)، شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (ص 769). (¬4) درء تعارض العقل والنقل، ألفه شيخ الإسلام ابن تيمية للرد على قانون الرازي في كتابه تأسيس التقديس، فذكر - رحمه الله - أربعة وأربعين وجهاً للرد على الرازي، وقد ألف ابن قيم الجوزية - رحمه الله - كتابه، الصواعق المرسلة، فذكر مائتين وواحد وأربعين وجهاً للرد على هذا القانون.

رابعا: إبراز وسطية أهل السنة والجماعة في أبواب الاعتقاد

الرازي (¬1) في كتابه "تأسيس التقديس"، فأتى شيخ الإسلام على جميع ما في كتاب الرازي ونقضه حرفاً حرفاً، وأتى فيه بعجائب العلوم القرآنية وسواطع الحجج الأثرية، وقابل الحجج العقلية بمثلها وبما يبطلها ويؤيد الحق، فكان ذلك العمل مما يحمده عليه أهل الإسلام والإيمان إلى أن تقوم الساعة. فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق العقل وهو الذي أنزل الوحي {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} الأعراف: 54، فيستحيل وجود التعارض بين العقل والوحي، والله جل وعلا قد أعطى العقل القدرة على إدراك أن الوحي من عند الله، وإدراك أن الرسول صادق فيما جاء به عن الله، فإذا وصل العقل إلى هذه الحقيقة وجب عليه الانصياع لأوامر الدين والتقيد بها، لأنه مخلوق كسائر المخلوقات، أما أن يكون حاكماً في كل مسألة من مسائل الدين، فهذا تطوير للعقل مرفوض، وتعدٍّ للحدود يؤدي إلى هدم الشريعة، وهذا هو ما تنادي به العلمانية (¬2) المعاصرة (¬3). وما جهود الشيخ في تقرير توحيد الأسماء والصفات (¬4) إلا أدل دليل على هذا المنهج. رابعاً: إبراز وسطية أهل السنة والجماعة في أبواب الاعتقاد. إن المتأمل لكلام الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله -، يجد أن إبرازه لتوسط أهل السنة والجماعة في أبواب الاعتقاد لا تكاد تغيب عن باله؛ ومن أمثلة ذلك:- ¬

(¬1) هو محمد بن عمر بن الحسين التميمي البكري، والملقب بفخر الدين، من كبار المتكلمين، وهو ممن خلط الكلام بالفلسفة، ولد سنة 544 هـ، وتوفي 606 هـ. ينظر: وفيات الأعيان (3/ 381)، وسير أعلام النبلاء (21/ 500 - 501). (¬2) العلمانية: حركة تهدف إلى فصل الدين وعزله عن شؤون الحياة العامة في الحكم والسياسة والاقتصاد والشؤون الاجتماعية والتعليمية وغيرها، وحصره في المسجد أو الضمير فقط. وقد أفردته بمبحث في نهاية هذا البحث. ينظر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة (ص 103)، للشيخين د. ناصر القفاري، أ. د. ناصر العقل. (¬3) منهج الإمام ابن أبي العز الحنفي وآراؤه في العقيدة من خلال شرحه للطحاوية لعبد الله الحافي (ص 66 - 67). (¬4) ينظر: المبحث الثالث في الفصل الثاني من الباب الأول من هذه الرسالة.

1 - ما قرره: من أن أهل السنة والجماعة وسط في حكم مرتكب الكبيرة بين المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب، وبين الخوارج والمعتزلة الذين يخرجون صاحبها من الإيمان ويحكمون بخلوده في النار إن مات عليها من غير توبة. فأهل السنة والجماعة يرون أنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأنه تحت مشيئة الله إن مات ولم يتب، إن شاء الله غفر له ودخل الجنة ابتداءً، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يخرج من النار، مستدلين بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} النساء: 48 (¬1). 2 - كذلك ما قرره من أن أهل السنة والجماعة وسط في مسألة القدر بين الجبرية المنكرين للأفعال الاختيارية لبني الإنسان، وبين المعتزلة القائلين بأن العبد يخلق فعل نفسه، وينكرون مشيئة الله وخلقه لذلك الفعل، فقرر: أن للعبد فعلاً وكسباً بقدرته واختياره، وأن ذلك واقع بمشيئة الله وقدرته التي لا يخرج عنها شيء في هذا العالم، ثم فرّق بين نوعين من المشيئة والإرادة، وأن هناك مشيئة وإرادة شرعية ودينية، وهناك مشيئة وإرادة كونية، وقد هدى الله أهل السنة لفهم هذا الفرق فقالوا بالحق الذي نطقت به نصوص الكتاب والسنة (¬2). 3 - ومن ذلك إبرازه لوسطية أهل السنة والجماعة في باب صفات الله تعالى وأنهم وسط بين الممثلة وبين المعطلة. الممثلة الذين مثلوا الله تعالى بخلقه، والمعطلة الذين نفوا عنه ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو نفوا بعض ذلك كالصفات الفعلية والخبرية، لكن أهل السنة والجماعة أثبتوا لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، على حدّ قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11 (¬3). ¬

(¬1) ينظر: مسألة المعتزلة، في القسم الأول من المبحث الثالث في الفصل الثاني من الباب الثاني. (¬2) ينظر: مسألة هل الإنسان مخير أم مسير، المطلب الثالث من المبحث الخامس في الفصل الرابع من الباب الأول. (¬3) ينظر: المطلب الأول في المبحث الثالث من الفصل الثاني في الباب الأول.

4 - ومن ذلك إبرازه لوسطية أهل السنة والجماعة في باب الصحابة -رضي الله عنهم- وفي آل بيته - صلى الله عليه وسلم - بين الروافض والنواصب. فالروافض قد طعنوا في عدالة كثير من الصحابة -رضي الله عنهم- وخاصة الشيخين أبي بكر وعمر، وكذلك في عثمان، ولم يترضوا إلا على علي ونفر قليل من الصحابة، فضلّلوا خير أمة أخرجت للناس. والنواصب هم الذين يبغضون علياً -رضي الله عنه- وأهل بيته ويسبُّونهم. فأهل السنة يوالون الصحابة جميعاً ويفضلونهم على من بعدهم مستدلين على ذلك بالكتاب والسنة وإجماع الأمة على ذلك، ويقولون أفضل هذه الأمة بعد نبيها الخلفاء الراشدون، وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم من آمن قبل الفتح، والمهاجرون أفضل من الأنصار، وليس التفضيل قدحاً في المفضول، ولكنه العدل والإنصاف الذي دلّ عليه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبالعدل قامت السموات والأرض، فأهل السنة يتولون جميع الصحابة ولا يتبرؤون من أحد منهم (¬1). 5 - ومن معالم الوسطية كذلك لدى أهل السنة والجماعة موقفهم من المبتدعة والمخالفين، فلا يكفرون كل من قال قولاً مبتدعاً، فإن الرجل يكون مؤمناً ظاهراً وباطناً، لكن تأوَّل تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً، وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك إلا أن يدل دليل شرعي؛ لكن يُبين أن هذه الأقوال المبتدعة المنحرفة، المتضمنة نفي ما أثبته الله ورسوله، أو إثبات ما نفاه الله ورسوله، أنها كفر - إن كانت مكفرة- ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويقال أن من قالها فهو كافر، ونحو ذلك على سبيل العموم، أما الشخص المُعين فلا يشهدون على معيَّن أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه؛ لأن الشخص المعيَّن يمكن أن يكون ممن لم يبلغه النص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أو جبت له رحمة الله. ¬

(¬1) ينظر: المسألة التاسعة: موقف أهل البدع وأهل السنة من الصحابة، من المطلب الأول في المبحث الأول من الفصل الثالث في الباب الأول.

خامسا: رده على الفرق المنحرفة في العقائد

وهذا لا يمنع من معاقبته في الدنيا لمنع بدعته، ولا يمنع استتابته، وذلك لحفظ الدين وإقامته، فتكفير المعيَّن والحكم عليه بالردة لا بد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع (¬1)، وأهل السنة والجماعة في ذلك يخالفون من يقول بكفر كل مبتدع ولا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره، ولا بين إطلاق الحكم العام على المقالة وإطلاقه على القائل المعيَّن، وهؤلاء يدخل عليهم من هذه التعميمات في القول بالتكفير أمور عظيمة (¬2). خامساً: رده على الفرق المنحرفة في العقائد: والشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - كغيره من علماء أهل السنة والجماعة، تصدى للرد على بعض الفرق المنحرفة في العقائد، وبيان فساد آرائها ومعتقداتها، فتصدّى للخوارج، والشيعة، والباطنية، والصوفية، وأهل الكلام، ومذاهب وفرق معاصرة (¬3). قال الشيخ محمد بن لطفي الصباغ: "لقد كان - أي الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - يعيش عصره ويدرك بعمق شراسة الغزو الفكري والاستعماري للمسلمين، ويعرف التيارات الفكرية والسياسية التي تسود العالم وتغزو بلاد المسلمين، يعرفها تمام المعرفة! وهذه صفة لم تكن موجودة في كثير من علماء عصره" (¬4). سادساً: وضوح العبارات، ودقة المعاني والرغبة في الوصول إلى الحق من أقصر طُرُقه مع البعد عن مصطلحات المتكلمين، وتعقيداتهم وتخرصاتهم. ¬

(¬1) فإذا تحققت الشروط وانتفت الموانع فإنه يكفّر عيناً. ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 354)، (12/ 498)، (28/ 500، 501)، (35/ 165). (¬2) ينظر: المسألة السابعة: تكفير المعين وغير المعين، من المطلب الأول في المبحث الأول من الفصل الثالث في الباب الأول. (¬3) سيأتي بسط رد الشيخ - رحمه الله - على هذه الفرق في الفصل الأول من الباب الثاني من هذا الرسالة. (¬4) إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 31 - 32).

المبحث الثاني: منهج الشيخ في الاستدلال على مسائل الاعتقاد

المبحث الثاني منهج الشيخ في الاستدلال على مسائل الاعتقاد. المطلب الأول مصادره. الكتاب والسنة هما مصدرا التشريع، والصراط المستقيم، والعلم النافع، والدواء الصالح، من تمسك بهما عُصِم، ومن تبعهما نجا، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} النور: 51 - 52، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه) (¬1). والصحابة والتابعون ومن تبعهم كانوا يحثون على التمسك بالقرآن والسنة، والأخذ والاعتصام بهما، وترك ما خالفهما، وطرح الآراء المناوئة لهما جانباً، وعالِمُنا كان على طريق هؤلاء السلف الذين ساروا في اعتقادهم وفق منهج علمي سليم مستمد من نصوص القرآن والسنة، ولهذا كان أول المصادر التي اعتمدها في الاستدلال: القرآن والسنة. 1 - القرآن الكريم: عَرَّف الشيخ عبد الرزاق: القرآن في اللغة، بقوله: " القرآن: في الأصل مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآناً، ومعناه في اللغة: الجمع والضم قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)} ¬

(¬1) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 686)، كتاب القدر باب النهي عن القول بالقدر برقم (1)، وصححه الألباني بشواهده كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 316).

القيامة: 18، أي جمعناه لك في صدرك فاتبع ذلك الذي جمع تلاوة وبلاغا وعملا وقد صار علماً بالغلبة على الكتاب العزيز في عرف علماء الشرع" (¬1) (¬2). ويقول - رحمه الله -: "القرآن: كلام الله حقاً لفظه ومعناه، تكلم به رب العالمين وسمعه منه جبريل - عليه السلام - وبلَّغه جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام دون تغيير ولا تبديل، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} الشعراء: 192 - 195، وقد تكفل الله بحفظه وجمعه في قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - وبيانه له قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)} الإنسان: 23، وقال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} القيامة: 16 - 19، وليس كلامه مثل كلام الإنس أو الجن أو الملائكة، بل بصفة وكيفية مختصة به تعالى لا يعلم حقيقتها إلاَّ الله سبحانه لا يشابه فيها خلقه، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11، وكما أن ذاته تعالى لا تشبه الذوات فصفاته لا تشبه صفات أحد من المخلوقات، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً" (¬3). وهذا التعريف موافق لتعريف أهل السنة؛ بأن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، وأن كلام الله صفة لله، قائمة بذاته، على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى لم يزل متكلماً، إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وهو متكلم بحرف وصوت يُسمع (¬4). ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 35). (¬2) ينظر: الصحاح في اللغة (2/ 67)، وتهذيب اللغة (9/ 271)، والبرهان في علوم القرآن للزركشي (1/ 278). (¬3) فتاوى اللجنة (3/ 209 - 210)، وينظر: مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 35)،والإحكام في أصول الأحكام (3/ 40)، (4/ 209). (¬4) ينظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص 174)، السنة لعبدالله بن أحمد (1/ 281)، التوحيد لابن خزيمة (1/ 348)، السنة لابن أبي عاصم (1/ 412 - 416)، خلق أفعال العباد للبخاري (ص 149)، ومناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (1/ 12).

السنة النبوية

وقد استدل الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - بالقرآن الكريم في كثير من المسائل العقدية، وبيّن وجه دلالته عليها في مواضع عدة. 2 - السنة النبوية: وتأتي في المرتبة الثانية من مصادر التشريع - بعد القرآن الكريم- بمعنى: إن لم يتيسر فهم قضيّة ما من القضايا أو مسألة من المسائل طلب فهمها من سنّة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فإنها البيان للقرآن الكريم، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} النساء: 105، وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} النحل: 44، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألا إنّي أوتيت القرآن ومثله معه) (¬1). والسنة كذلك هي من الوحي والذكر الذي تكفل الله تعالى بحفظه بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} الحجر: 9، وهذا يقتضي وجوب الإيمان بها، واتباعها، والعمل بالأحاديث الصحيحة الثابتة منها والاحتجاج بها دون تفريق بين خبر الآحاد وغيره، ودون تفريق بين المسائل العملية والمسائل الاعتقادية؛ وإذا صحّ الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو حجة بنفسه، في الأحكام والعقائد وغيرها من أمور الدين. ومن هذا المنطلق اعتمد الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - على ما صحّ من السنة المطهرة، واستدل بها على كثير من المسائل العقدية. واحتج بخبر الآحاد في مسائل الاعتقاد. قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " أحاديث الآحاد الصحيحة قد تفيد اليقين إذا احتفت بالقرائن وأفادت غلبة الظن وعلى كلتا الحالتين يجب الاحتجاج بها في إثبات العقيدة وسائر الأحكام الشرعية ولذلك أدلة كثيرة ... منها: ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (16722). روى أبو داود في سننه (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) برقم (4604)، وصححه الألباني في سنن أبي داود برقم (4604).

الإجماع

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل آحاد الناس بكتبه (¬1) إلى ملوك الدول ووجهائها ككسرى وقيصر يدعوهم فيها إلى الإسلام، ولو كانت الحجة لا تقوم عليهم بذلك لكونهم آحاداً ما اكتفى بإرسال كتابه مع واحد لكونه عبثاً ... " (¬2) (¬3). 3 - الإجماع: الإجماع هو ثالث مصدر للتشريع الإسلامي، وهو عند أهل السنة والجماعة دليل مقطوع به، يستدلّ به على مسائل العقيدة، لا سيما إجماع الصّحابة - رضوان الله عليهم جميعاً-. ولهذا فإن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - قد اعتمده في تقريرها، بمعنى: أنّ الإجماع إذا انعقد على قضيّة معيّنة أصبح الحكم الثّابت فيها معلوماً من الدّين بالضرورة، كوحدانية الله تعالى، وربوبيته، وأحقّيته بالعبادة والطّاعة، ونبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم - وكونه خاتم الأنبياء والرّسل، والنّصوص الدالّة على قيام الساعة والمعاد والبعث والحساب والجنة والناّر ... ، إلى غير ذلك، ممّا سيُرى في بحثي- إن شاء الله تعالى-. 4 - أقوال السّلف والخلف: إذا لم يجد الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - في أقوال الصّحابة ما يعينه على فهم المراد من النّص، فإنه يتجه إلى أقوال التابعين وتابعيهم ومن بعدهم؛ والمتأمل لكلام الشيخ - رحمه الله - يلاحظ مدى استعانته بأقوال السّلف والخلف -رحمهم الله جميعاً-. 5 - العقل: إن الإسلام كرّم العقل أيّما تكريم، كرّمه حين جعله مناط التكليف للإنسان، والذي به فضّله الله على كثير من مخلوقاته، وكرّمه حين وجّهه إلى النّظر والتفكّر في النّفس والكون اتّعاظاً واعتباراً، وكرّمه حين أمسكه عن الولوج فيما لا يحسنه ولا يهتدي فيه إلى سبيل؛ ¬

(¬1) ينظر: في ذلك كتاب أخبار الآحاد من صحيح البخاري (13/ 244). (¬2) مجموعة ملفات الشيخ (ص 160)، ينظر: شبهات حول السنة للشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 27 - 33). (¬3) ولذلك أدلة كثيرة ذكرها أبو محمد على ابن حزم في مباحث السنة من كتاب الأحكام في أصول الأحكام (2/ 78 - 88)، وذكرها ابن القيم في كتابه الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (1/ 75) وما بعدها، والشافعي في الجزء الثالث من كتابه الرسالة فصل في " الحجة في تثبيت خبر الواحد" (1/ 401) وما بعدها.

الفطرة أو الحس

يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} الإسراء: 70، وبيان الآية أن الله سبحانه عدّد على بني آدم ما خصّهم به من المزايا من بين سائر الحيوان، ومن أفضل ما أكرم به الآدمي العقل الذي به يعرف الله تعالى ويفهم كلامه ويوصل إلى نعمه (¬1). ومن هنا ندرك أهمية العقل، وأنّه الميزة التي فضّل الله بها الإنسان عن غيره، غير أنه تعالى جعل له حدوداً في إدراكه للأشياء ينتهي إليها، فلو كان العقل يدرك كلّ مطلوب لاستغنى الخلق به عن الشّرع، وانتفت الحكمة من إرسال الأنبياء والرسل، حيث يقول تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} الإسراء: 15، لكن العقل شرط في التكليف، وآلة للتمييز بين الحسن والقبيح، والسنة والبدعة، والرياء والإخلاص، ولولاه لم يكن تكليف ولا توجّه أمر ولا نهي، وهو دائماً محتاج إلى هداية الوحي وتنبيه الرسل لتقويمه وتأييده (¬2). واعتبر الإسلام العقل ولم يلغه، فمن مظاهر اعتباره للعقل وعدم إلغائه له أنه حثه علي التفكير فيما يدركه ويشاهده، ومنعه من التفكير والتخبط فيما لا يدركه ولا يقع تحت حسه من المغيبات التي لا يمكن أن يصل في تفكيره فيها إلى نتيجة فالسلف رحمهم الله لم يلغوا العقل كما يزعم خصومهم من أهل الكلام، أو من لا خبرة له بمذهب السلف من غيرهم، كما أنهم لم يحكموه في جميع أمورهم كما فعل أهل الضلال، وإنما وزنوا الأمر بموازين الشرع (¬3). 6 - الفطرة أو الحس: الفطرة مطمئنة إلى ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية من أصول الدين، وأنه لو تُرك الناس وفطرهم السليمة لما حصل خلاف في أصول الدين، فالفطرة شاهدة بصحة ¬

(¬1) ينظر: تفسير السعدي (1/ 463)، الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي (5/ 188)، فتح القدير للشوكاني (3/ 244)، تفسير السمرقندي لنصر بن محمد بن أحمد السمرقندي (2/ 321)، النكت والعيون تفسير لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي (3/ 257)، تفسير البغوي (3/ 125). (¬2) منهج الإمام ابن أبي العز الحنفي لعبد الله الحافي (ص 46). (¬3) ينظر: لمكانة العقل في الإسلام في كتاب موقف المتكلمين للدكتور سليمان الغصن (1/ 262 - 273)، المدرسة السلفية لمحمد بن عبد الستار نصار (ص 478).

السمع ووفائه بحاجات البشر في جميع مجالات الحياة، ومصداق هذا ما جاء في الحديث القدسي: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) (¬1). ولا يعكّر على هذا ما يزعمه المشركون وكثير من الضالين من عدم توافق الشريعة وأحكامها مع أذواقهم ومتطلباتهم فيلتمسون الهدي من غير شريعة الله؛ لأن هؤلاء صدق عليهم قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} المطففين: 14، فهم لم يقبلوا هدي الله أصلاً ولم يرفعوا به رأساً، وإنما أساءوا به الظنون بادي الأمر وأقبلوا عليه إقبال الشاكّ المرتاب، فحُرموا بركته ولم تنشرح صدورهم لهداه {جَزَاءً وِفَاقًا (26)} النبأ: 26. فدليل الفطرة عند السلف ثمرة من ثمرات صحة الاعتقاد والإيمان وتحقيق العبودية لله تعالى، ولا يمكن أن يحصل بغير ذلك. فإذا صح الإيمان وتحققت العبودية لله، شهدت الفطرة عظمة هذا الدين وأقرّت بالكمال للكبير المتعال عن علم وبصيرة، وأيقنت أن كل ما يجري في هذا العالم إنما هو من آثار أسمائه وصفاته وبقضائه وقدره (¬2). والمتأمل لكلام الشيخ عبد الرزاق (¬3) - رحمه الله - يجد أنه استدل بالعقل والفطرة في بعض المواطن كما هو منهج أهل السنة والجماعة، وأنه يعدهما مصدرين من مصادر المعرفة الدّينية، لكنّهما ليسا مصدرين مستقلين، بل يحتاجان إلى تنبيه الشّرع وإرشاده إلى الأدلة، فهما يوافقان ويشهدان بصحة السمع ولا يعارضانه أبداً. ¬

(¬1) أخرجه مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها أهل الجنة وأهل النار برقم (2865)، عن عياض المجاشعي. (¬2) ينظر: درء التعارض لشيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 410)، وتفسير الحافظ ابن كثير (6/ 320)، وشفاء العليل لابن القيم (ص 383). (¬3) ينظر: مجموعة ملفات الشيخ (ص 40 - 41)، (88 - 89)، (127 - 128)، وشبهات حول السنة (58) وما بعدها، وغيرها.

المطلب الثاني: طريقته في الاستدلال

المطلب الثاني طريقته في الاستدلال. المتأمل لكلام الشيخ - رحمه الله - وفتاويه يتضح له أنه كان متبعاً لمنهج السلف في الاستدلال تحقيقاً، وتطبيقاً، ومما يؤيد ذلك عدة أمور: 1 - أنه اقتصر في الاستدلال على الأحكام- ومنها أمور الاعتقاد -، على ما اقتصر عليه السلف الصالح الكتاب والسنة وفهم السلف من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين وتابعيهم وسائر الأئمة المقتدى بهم في الدين (¬1). 2 - احتجاجه بخبر الآحاد (¬2) في مسائل الاعتقاد (¬3). 3 - تقديم الشرع على العقل: والسلف -رحمهم الله- يقدمون الشرع على العقل، ويرون أن كل ما خالف الشرع فهو خيال وأوهام (¬4) لا حقائق؛ وإلاّ ففي حقيقة الواقع لا يمكن أن يتعارض النقل الصحيح مع العقل الصريح (¬5). قال الشيخ عبد الرزاق: وهو يبين أن العقل لا يقوى على معارضة النقل: " لا يغترَ إنسان بما آتاه الله من قوة في العقل وسعة في التفكير، وحصيلة في العلم، فيجعل عقله أصلاً، ونصوص الكتاب والسنة الثابتة فرعاً، فما وافق منهما عقله قبله واتخذه ديناً وما خالفه منهما لوى به لسانه وحرفه عن موقعه، وأوله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره ... ثقة بعقله ... واتهاماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... واتهاماً لثقات الأمة وعدولها، الذين نقلوا إلينا ¬

(¬1) أغلب كلام الشيخ في هذه الرسالة مصداقاً لهذا المنهج. (¬2) خبر الآحاد: الآحاد جمع واحد، وخبر الواحد ما يرويه شخص واحد، واصطلاحاً: ما لم يجمع شروط المتواتر. ينظر: لسان العرب (3/ 448)، نزهة النظر (ص 13)، إرشاد الفحول (ص 41 - 43). (¬3) ينظر: لكلام الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عن خبر الآحاد في المصدر الثاني من مصادر التشريع (ص 45). (¬4) ينظر: درء التعارض (7/ 29). (¬5) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 141)، الصواعق المرسلة (2/ 741،742)، قواعد المنهج السلفي مصطفى حلمي (253 - 257).

نصوص الشريعة ووصلت إلينا عن طريقهم قولاً وعملاً ... فأي عقل من العقول يجعل أصلاً يحكم في نصوص الشريعة فترد أو تنزل على مقتضاه فهما وتأويلاً؟ ... " (¬1). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط تعارض في هذا العقل والنقل، فضلاً عن أن يقول: فيجب تقديم العقل" (¬2). 4 - عدم الأخذ بالأحاديث الضعيفة: وكان من منهج السلف -رحمهم الله- طرح الأحاديث الضعيفة وعدم الأخذ بها؛ لأن الدين لا يبنى على حديث ضعيف غير ثابت، فضلاً عن أن يبنى على حديث موضوع يعلم كذبه، بل ولا يجوز تأويل ما علم كذبه بتقدير ثبوته (¬3). يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: " فأما إذا علم أن اللفظ كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجز أن يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ حَدَّثَ عَنِّى، بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ) (¬4)، ولا يجوز تفسير ما علم أنه كذب بتقدير ثبوته" (¬5). 5 - الأخذ بظاهر النصوص: ويعتقد أهل السنة أن الله خاطبنا بما نفهم، وأراد منا اعتقاد ظاهر النصوص على الوجه اللائق، فنصوص الصفات مثلاً تجري على ظاهرها بلا كيف، كما تظافرت عبارات السلف في ذلك، فتثبت له الصفات الواردة بلا تمثيل، فلو كان ظاهر النصوص غير مراد لما ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ (ص 40 - 41).وينظر: مجموعة ملفات الشيخ (88 - 89) و (127 - 128)، وشبهات حول السنة (58) وما بعدها. (¬2) الفرقان بين الحق والباطل، ضمن مجموع الفتاوى (13/ 28 - 29)، وينظر: درء التعارض (5/ 255 - 256)، والصواعق المرسلة (2/ 741 - 742)، قواعد المنهج السلفي لمصطفى حلمي (ص 253)، في العقيدة الإسلامية بين الفلاسفة والمعتزلة لمحمد خفاجي (ص 81 - 84). (¬3) والمتأمل لكلام الشيخ - رحمه الله - وفتاويه يلحظ أنه لا يحتج بالضعيف بل في أكثر الأحيان يقول: "وفي الحديث الصحيح". (¬4) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 9). (¬5) نقض التأسيس (3/ 486 - 488)، وينظر: ذمّ التأويل لابن قدامة (ص 47)، التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى (1/ 250 - 251).

خاطبنا بها ربّنا تعالى، ولما أمرنا بتدبر كتابه، كما قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} ص: 29. (¬1) فبهذا نعلم أن الواجب الأخذ بظواهر النصوص، وأنه ليس هناك باطن يخالف الظاهر، فالباطن الحق عند السلف موافق للظاهر الحق، وكل معنى باطن يخالف ظاهر الكتاب والسنّة فهو خيال وجهل وضلال (¬2). قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " فيستحيل أن تتوارد النصوص وتتتابع الآيات والأحاديث على إثبات أسماء الله وصفاته بطريقة ظاهرة واضحة والمراد غير ما دلت عليه حقيقة، ويقصد الله منها أو يقصد رسوله عليه الصلاة والسلام إلى معان مجازية من غير أن ينصب من كلامه دليلا على ما أراد من المعاني المجازية اعتماداً على ما أودع عباده من العقل وقوة الفكر، فإن ذلك لا يتفق مع كمال علمه تعالى وسعة رحمته وفصاحة كلامه وقوة بيانه وبالغ حكمته، ولأن يتركهم الله دون أن يعرفهم ويعرفهم به رسوله - صلى الله عليه وسلم - بوحيه، خير لهم وأيسر سبيلا، لعدم وجود المعارض للشبه الباطلة التي زعموها أدلة وبراهين وما هي إلا الخيالات ووساوس الشيطان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فمن جحد شيئاً من هذه النصوص أو تأولها على معان من غير دليل يرشد إلى ما تأولها عليه فقد ألحد في آيات الله وأسمائه وصفاته وحق عليه ما توعد الله به الملحدين في ذلك بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} فصلت: 40، وقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} الأعراف: 180" (¬3). هذه من أهم الخصائص والمميزات التي اتسم بها منهج الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - في طريقته في الاستدلال على مسائل الاعتقاد، ولعله يأتي في المباحث القادمة بيانها بوضوح بإذن الله تعالى. ¬

(¬1) ينظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة لسليمان الغصن (1/ 72 - 73). (¬2) ينظر: درء التعارض (5/ 86). (¬3) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (146 - 147).

الفصل الثاني: جهود الشيخ عبد الرزاق في تقرير التوحيد

الفصل الثاني: جهود الشيخ عبد الرزاق في تقرير التوحيد وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:

تمهيد: في تعريف التوحيد وأقسامه

تمهيد في تعريف التوحيد وأقسامه بين الشيخ - رحمه الله - تفرد الله - سبحانه وتعالى - باستحقاق العبادة، فقال: " أثبت الله تعالى لنفسه التفرد باستحقاق الألوهية، وأنكر أن يكون غيره مستحقاً لذلك؛ استقلالاً واشتراكاً لتنافيهما في الموجب، وهو الخلق؛ فلله الخلق والأمر (¬1) وحده، وغيره ليس إليه شيء من ذلك" (¬2). وبناء على ذلك فإن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - يرى أن الإيمان بالله يعني توحيد الله تعالى المتضمن لتوحيده سبحانه في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات. ولهذا يحسن تعريف التوحيد وبيان أقسامه عند أهل السنة والجماعة: أ- تعريف التوحيد: عرف الشيخ - رحمه الله - التوحيد لغةً بقوله: "جعل المتعدّد واحداً، ويُطلق على اعتقاد أن الشيء واحد متفرد. أما شرعاً فيطلق على تفردّ الله بالربوبية والإلهية، وكمال الأسماء والصفات " (¬3). وبمثل هذا يوجد في المعاجم اللغوية. ¬

(¬1) كثيراً ما يقرن الله سبحانه وتعالى بين الخلق، والأمر، كما في قوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} الأعراف: 54، وذلك أنه الخالق الآمر الناهي، فكما أنه لا خالق سواه، فليس على الخلق إلزام، ولا أمر، ولا نهي إلا من خالقهم، وأيضاً فإن خلقه للخلق، فيه من التدبير القدري الكوني، وأمره فيه التدبير الشرعي الديني، فكما أن الخلق لا يخرج عن الحكمة، فلم يخلق شيئا عبثا، فكذلك لا يأمر ولا ينهى، إلا بما هو عدل، وحكمة، وإحسان. وقوله "الخلق" بيان لتوحيد الربوبية .. و"الأمر" بيان لتوحيد الألوهية؛ والربوبية تتضمن: توحيد الأسماء والصفات، والألوهية تتضمن: الأمر والنهي المقتضي لحساب يوم الدين. ينظر: تيسير الكريم الرحمن للعلامة عبد الرحمن السعدي (ص 502)، وتفسير التحرير والتنوير لابن عاشور (8/ 169)، بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (2/ 454)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (1/ 81). (¬2) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام، تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي (3/ص 228). (¬3) مذكرة التوحيد (ص 5).

فالتوحيد أصل مادته (وَحَدَ)، وتدور هذه المادة على الانفراد والاختصاص (¬1). يقول ابن فارس (¬2): " الواو، والحاء، والدال: أصل واحد يدل على الانفراد" (¬3). وعليه فتوحيد الله تعالى معناه: إفراده تعالى بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات (¬4). وقد وافق الشيخ عبد الرزاق عفيفي تعريف السلف رحمهم الله جميعاً. ب- أقسام التوحيد عند أهل السنة والجماعة: يبين الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - أقسام التوحيد عند أهل السنة والجماعة بقوله: "والتوحيد - عند أهل السنة والجماعة - ينقسم إلى ثلاثة أقسام (¬5): 1 - توحيد الربوبية. ¬

(¬1) ينظر: تهذيب اللغة للأزهري (4/ 3844 - 3848)، الصحاح للجوهري (2/ 547)، لسان العرب لابن منظور (3/ 70)، القاموس المحيط للفيروز آبادي (ص 414). (¬2) هو أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد القزويني، أبو الحسين، الإمام اللغوي، ولد بقزوين حوالي 306/ 308 هـ، له مصنفات منها: معجم مقاييس اللغة، ومجمل اللغة، توفي سنة 395 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (17/ 103)، شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد (3/ 132)، الوافي بالوفيات للصفدي (7/ 181). (¬3) معجم مقاييس اللغة لابن فارس (ص 1084). (¬4) ينظر: مدارج السالكين لابن القيم (3/ 449)، تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله (ص 17)، لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 57)، القول السديد لابن سعدي (ص 10)، القول المفيد لابن عثيمين (1/ 5). (¬5) للعلماء عبارات مختلفة في تقسيم التوحيد، فمنهم من قال: التوحيد قسمان: 1 - توحيد المعرفة والإثبات. 2 - توحيد القصد والطلب. ومنهم من قال: التوحيد قسمان: 1 - التوحيد العلمي الخبري. 2 - التوحيد الإرادي الطلبي. ومنهم من قال: التوحيد قسمان: 1 - التوحيد القولي. 2 - التوحيد العملي. ويقول بعضهم: التوحيد قسمان: 1 - توحيد السيادة. 2 - توحيد العبادة. وبعض العلماء يذكر له ثلاثة أنواع - كما ذكرها الشيخ - رحمه الله - وهي على تنوعها متفقة في المضمون. ينظر: مجموع الفتاوى (1/ 367)، مدارج السالكين لابن القيم (3/ 449 - 450)، معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي (1/ 46).

2 - توحيد الألوهية. ويسمى-أيضاً-:توحيد العبادة، وتوحيد الإرادة والقصد، وتوحيد الطلب (¬1). 3 - توحيد الأسماء والصفات. ويقال له أيضاً: توحيد الخبر، وتوحيد المعرفة والإثبات (¬2) ". (¬3) وقد دل على ذلك استقراء النصوص من الكتاب والسنة (¬4). ونصوص القرآن العظيم تدل على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول - توحيده في ربوبيته: وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه الفطر؛ وكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جلَّ وعلا على وجوب توحيده في عبادته. ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير. فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده. ووبَّخهم منكراً عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده. لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده؛ والآيات بنحو هذا كثيرة جداً. ولأجل ذلك فكل الأسئلة المتعلِّقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير، يراد منها أنهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار. لأن المقر بالربوبية يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورة (¬5). والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً: ¬

(¬1) يسمى توحيد الألوهية بتوحيد القصد لأنه مبني على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة، وتوحيد الإرادة لأنه مبني على إرادة وجه الله بالأعمال، وتوحيد العمل لأنه مبني على إخلاص العمل لله، وتوحيد الألوهية باعتبار إضافته إلى الله. ينظر: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ص 38)، والدين الخالص لمحمد صديق حسن (1/ 60)، القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح العثيمين (1/ 9). (¬2) وتطلق هذه التسمية كذلك على توحيد الربوبية. (¬3) مذكرة التوحيد (ص 29) بتصرف يسير، وينظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/ 55). (¬4) ينظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (1/ 225 - 226)، مدارج السالكين (1/ 24 - 25)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1 - 125)، تيسير العزيز الحميد (ص 32)، فتح المجيد لعبد الرحمن بن حسن (1/ 79)، القول السديد لابن سعدي (ص 10)، أضواء البيان للشنقيطي (3/ 488 - 493)، القول المفيد لابن عثيمين (1/ 5)، القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد للعباد (ص 17 - 49). (¬5) ينظر: أضواء البيان للشنقيطي (3/ 488 - 493)، والقول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد للعباد (ص 17 - 18، 22 - 49)، والشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا (1/ 65، 66).

قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)} الزخرف: 87 الآية، وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)} يونس: 31. وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله حتى يصير به العبد مسلماً. كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} يوسف: 106؛ لأن الله تبارك وتعالى حكى عن المشركين القدامى إقرارهم بهذا التوحيد، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)} الزخرف: 87، فلم يكونوا بهذا الإقرار مسلمين، وذلك لعدم إخلاصهم العبادة لله وحده (¬1). قال شيخ الإسلام (¬2) - رحمه الله -: " وهذا التوحيد هو من التوحيد الواجب، لكن لا يحصل به الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص لله الدين، فلا يعبد إلا إياه، فيكون دينه لله" (¬3). الثاني - توحيده جلَّ وعلا في عبادته: وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى «لا إله إلا الله» وهي متركبة من نفي وإثبات. فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع ¬

(¬1) ينظر: أضواء البيان للشنقيطي (3/ 488)، القواعد الحسان في تفسير القرآن للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص 168)، تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ص 43). (¬2) هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني، الفقيه المجتهد المفسر، كان يتوقد ذكاءً وكان رأساً في الزهد والعلم والكرم والشجاعة، له تصانيف كثيرة سارت بها الركبان، وكان سيفاً على المبتدعة، عرف أقوال المتكلمين وبرع في ذلك ثم رد عليهم، وقد امتحن وأوذي مرات، توفي: محبوساً بقلعة دمشق سنة (728 هـ) له مؤلفات كثيرة منها: درء التعارض، ومنهاج السنة، واقتضاء الصراط المستقيم. ينظر: العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية لمحمد بن عبد الهادي، وتذكرة الحفاظ (4/ 1496)، وشذرات الذهب (6/ 83). (¬3) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (ص 460).

أنواع العبادات كائنة ما كانت. ومعنى الإثبات فيها: إفراد الله جلَّ وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام. وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد، وهو أهم مهمات الرسل إلى أممهم، ومن أجله حصل الجدال وشرع الجهاد، وخلق الجن والإنس، وأنزلت الكتب وأرسل الرسل، وبسببه انقسم الناس إلى شقي وسعيد، وخلقت الجنة والنار (¬1). ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} محمد: 19، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} الأنبياء: 25، وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} الزخرف: 45، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)} الأنبياء: 108، ولفظة ... {إِنَّمَا} من صيغ الحصر، فكأن جميع ما أوحي إليه منحصر في معنى «لا إله إلا الله»، وحصر الوحي هنا في توحيد العبادة، حصر له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميع الفروع، لأن شرائع الأنبياء كلهم داخلة في ضمن معنى «لا إله إلا الله» لأن معناها، خلع جميع المعبودات غير الله جل وعلا في جميع أنواع العبادات، وإفراده جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات، فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي القولية والفعلية والاعتقادية. والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " والتوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية، وهو أن يُعبد الله وحده لا شريك له، وهو متضمن لشيئين: أحدهما: (القول العملي): وهو إثبات صفات الكمال له وتنزيهه عن النقائص وتنزيهه عن أن يماثله أحد في شيء من صفاته فلا يوصف بنقص بحال ولا يماثله أحد في شيء من الكمال في سورة الإخلاص فالصمدية تثبت له الكمال والأحدية تنفي مماثلة شيء له في ذلك. ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى (1/ 21)، إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات لمحمد بن علي الشوكاني (ص 5)، تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ص 36). (¬2) أضواء البيان (2/ 169)، وينظر: القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد للعباد (ص 18، 22، 23).

و (التوحيد العملي الإرادي): أن لا يعبد إلا إياه فلا يدعو إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه ولا يخاف إلا إياه ولا يرجو إلا إياه ويكون الدين كله لله " (¬1). النوع الثالث - توحيده جلَّ وعلا في أسمائه وصفاته. وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين: الأول - تنزيه الله جلَّ وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم. كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11. والثاني - الإيمان بما وصف الله به نفسه. أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الوجه اللائق بكماله وجلاله. كما قال بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11، مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف، قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} طه: 110 (¬2). وما ذهب إليه الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - من تقسيم التوحيد، موافق للحق الذي عليه أهل السنة والجماعة. قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " وفائدته -أي التوحيد- تصحيح العقيدة، والسلامة في العواقب، ونيل السعادة في الدارين" (¬3). قال ابن القيم (¬4) - رحمه الله -: " اعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً -في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب- ¬

(¬1) الصفدية لابن تيمية (2/ 228 - 229). (¬2) ينظر: أضواء البيان (3/ 488 - 493)، القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد للعباد (ص 17 - 49). (¬3) مذكرة التوحيد (ص 6، 9). (¬4) هو: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي ثم الدمشقي، الفقيه المجتهد المفسر النحوي الأصولي، الشهير بابن القيم، لازم شيخ الإسلام ابن تيمية وأحذ عنه واستفاد منه كثيراً، وقد امتحن وأوذي مرات، توفي: سنة (751 هـ)، وله مصنفات عديدة منها: زاد المعاد، ومفتاح دار السعادة، والصواعق المرسلة وغيرها. ينظر: شذرات الذهب (6/ 168)، والأعلام (6/ 56)، ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة (3/ 164).

أعظم من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيه، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعودتها إليه، ورضاه وإكرامه لها" (¬1). وقال ابن أبي العز (¬2) - رحمه الله -: " وحاجة العباد إليه -أي علم التوحيد- فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، لأنه لا حياة للقلوب، ولا نعيم ولا طمأنينة، إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه. ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل، فاقتضت رحمة الله العزيز الرحيم أن يبعث الرسل به معرفين، وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين، وجعل مفتاح دعوتهم، وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، إذ على هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إلى آخرها" (¬3). ¬

(¬1) طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزية (99 - 100)، وينظر: مدارج السالكين لابن قيم (3/ 411 - 412)، دعوة التوحيد لمحمد بن خليل هراس (ص 7). (¬2) هو: علي بن علي بن محمد بن أبي العز الأذرعي، الدمشقي، الصالحي، المعروف بابن أبي العز، حنفي، القاضي الفقيه، توفي سنة (792 هـ). من مؤلفاته: شرح العقيدة الطحاوية - سلك فيها طريقة السلف-، الاتباع، التنبيه على مشكلات الهداية. ينظر: شذرات الذهب (6/ 326)، الدرر الكامنة لابن حجر (3/ 87)، الأعلام (4/ 313). (¬3) شرح العقيدة الطحاوية (ص 109).

المبحث الأول: جهوده في تقرير توحيد الربوبية

المبحث الأول جهوده في تقرير توحيد الربوبية المطلب الأول تعريف توحيد الربوبية بين الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - توحيد الربوبية: "بأنه توحيد الله - تعالى- بأفعاله، والإقرار بأنه خالق كل شيء ومليكه، وإليه يرجع الأمر كله في التصريف والتدبير. فهو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو الذي يرسل الرسل، ويشرع الشرائع، ليحق الحقّ بكلماته، ويقيم العدل بين عباده شرعاً وقدراً إلى غير ذلك مما لا يُحصيه العدّ، ولا تحيط به العبارة" (¬1). الربوبية في اللغة: الربوبية: مصدر رَبَّ يَرُبُّ رَبَابَةً ورُبُوبية (¬2). يقول ابن فارس: " الراء والباء يدل على أصول: فالأول: إصلاح الشيء والقيام عليه ... والآخر: لزوم الشيء والإقامة عليه ... والثالث: ضم الشيء للشيء. ومتى أمعن النظر كان الباب كله قياساً واحداً" (¬3). "والرب يطلق في اللغة على المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والقيّم، والمنعم " (¬4). ¬

(¬1) مذكرة التوحيد (29 - 30)، وينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 54 - 55). (¬2) ينظر: اشتقاق أسماء الله تعالى للزجاجي (ص 32). (¬3) معجم مقاييس اللغة (ص 398). (¬4) لسان العرب (1/ 399)،وينظر: تهذيب اللغة (2/ 1335)، الصحاح (1/ 130)، القاموس المحيط (ص 111).

وجميع هذه المعاني ترجع إلى ثلاثة هي: المالك، والسيد، والمصلح، وقد أشار إلى ذلك ابن الأنباري (¬1) حيث قال: " الرب ينقسم على ثلاثة أقسام: يكون الرب المالك، ويكون الرب السيد المطاع ... ويكون الرب المصلح " (¬2). ويطلق الرب في الشرع ويراد به عين معناه في اللغة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " الرب سبحانه: هو المالك، المدبر، المعطي، المانع، الضار، النافع، الخافض، الرافع، المعز، المذل" (¬3). ويقول العلامة ابن القيم - رحمه الله -: " الرب هو السيد، والمالك، والمنعم، والمربي، والمصلح، والله هو الرب بهذه الاعتبارات كلها" (¬4). ¬

(¬1) هو محمد بن القاسم بن بشار، أبو بكر، المشهور بابن الأنباري، إمام مقرئ، ولغوي متقن، من مؤلفاته: الزاهر في اللغة، وغريب الحديث، وعجائب علوم القرآن وغيرها، توفي سنة 328 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (15/ 274)، شذرات الذهب (2/ 315). (¬2) ينظر: لسان العرب (1/ 400 - 401). (¬3) مجموع الفتاوى (1/ 92). (¬4) بدائع الفوائد (4/ 12).

المطلب الثاني: دلائل توحيد الربوبية

المطلب الثاني دلائل توحيد الربوبية بين الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - "بأن هذا النوع من التوحيد قد أقرت به الفطرة، وقام عليه دليل السمع والعقل؛ بأن العالم محتاج إلى صانع، ومستند إلى موجود أوجده" (¬1). وذهب عامة السلف _ رحمهم الله- إلى أن دلائل معرفة الله تحصل بمطلق النظر المؤدي إليها، وهو كل ما يتوصل به إلى الاستدلال على وجود الله تعالى والإقرار بربوبيته من الأدلة النقلية، والعقلية، والفطرية والمشاهدة (¬2)، ومنها: الاستدلال بالمخلوق على الخالق وبالصنعة على الصانع (¬3). والشيخ - رحمه الله - ذكر ثلاثة أنواع من الأدلة: 1 - الأدلة السمعية. 2 - الأدلة العقلية. 3 - الأدلة الفطرية. أولاً: الأدلة السمعية (¬4): أ- الأدلة من القرآن على إثبات هذا النوع من التوحيد: قال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إبراهيم: 10 وقال تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} البقرة: 258 ¬

(¬1) ينظر: مذكرة التوحيد (ص 17، 30)، الإحكام في أصول الأحكام تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي (4/ 178). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى (6/ 73) (10/ 147)، درء التعارض (8/ 6، 8، 456، 468، 533 - 534)، الصواعق المرسلة لابن القيم (2/ 463 - 464). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (2/ 399 - 400)، درء التعارض (9/ 321 - 322)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 172 - 173). (¬4) ينظر: مذكرة التوحيد (ص 17، 30).

وقال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)} الشعراء: 23 - 24. وغيرها من الآيات كثير. ب- الأدلة من السنة: - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه) (¬1). قال ابن حجر العسقلاني (¬2) - رحمه الله -: "وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل مولود يولد على الفطرة): أي على ما ابتدأ الله خلقه عليه وفيه إشارة إلى قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الروم: 30، والمعنى أن كل أحد لو ترك من وقت ولادته وما يؤديه إليه نظره لأداه إلى الدين الحق وهو التوحيد" (¬3). - حديث عياض بن حمار المجاشعي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما يرويه: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين برقم (1358)، ومسلم في كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، برقم (2658). (¬2) هو أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد أبو الفضل شهاب الدين الكناني العسقلاني المصري الشافعي المعروف بابن حجر ولد في مصر عام 773 هـ، ومن تصانيفه العديدة كتاب تهذيب التهذيب، وتقريب التهذيب في أسماء الرجال، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري، والتلخيص الحبير، توفي في مصر عام 852 هـ، ودفن في القرافة. انظر: الضوء اللامع للسخاوي (2/ 36)، وشذرات الذهب (7/ 270). (¬3) فتح الباري (10/ 339)،وينظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لمحمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري أبو العلا (7/ 166)، شرح صحيح البخاري، لأبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال البكري القرطبي (3/ 372). (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفها ونعيمها وأهلها باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار برقم (2865).

الأدلة العقلية

قال النووي (¬1) - رحمه الله -: " أي مسلمين وقيل طاهرين من المعاصي وقيل مستقيمين منيبين لقبول الهداية وقيل المراد حين أخذ عليهم العهد في الذر وقال ألست بربكم قالوا بلى" (¬2). ثانياً: الأدلة العقلية: بين الشيخ عبد الرزاق: دليلاً من أدلة العقل وهو دليل التمانع فقال بعد قول الله تعالى {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} المؤمنون: 91: "استخلص بعض العلماء من ذلك دليلاً سموه: دليل التمانع، استدلوا به على توحيد الربوبية. قالوا: لو أمكن أن يكون هناك ربَّان يخلقان، ويدبران أمر العالم لأمكن أن يختلفا بأن يريد أحدهما وجود شيء، ويريد الآخر عدمه، أو يريد أحدهما حركة شيء، ويريد الآخر سكونه. وعند ذلك إما أن يحصل مراد كل منهما، وهو محال. لما يلزمه من اجتماع النقيضين، وإما أن يحصل مراد واحد منهما دون الآخر فيكون الذي نفذ مراده هو الرب دون الآخر لعجزه، والعاجز لا يصلح أن يكون ربَّاً (¬3) " (¬4). قال ابن أبي العز - رحمه الله -: "فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته، مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه، فكذا تبطل إلهية اثنين. فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية" (¬5). ¬

(¬1) هو: يحيى بن شرف بن مُري بن حسن بن حسين الحزامي النووي، أبو زكريا، المشهور بالنووي، أحد أعلام الشافعية، من مؤلفاته: المجموع شرح المهذب، شرح صحيح مسلم، رياض الصالحين، توفي سنة 676 هـ. ينظر: تذكرة الحفاظ للذهبي (4/ 1470)، طبقات الشافعية الكبرى (5/ 165)، الأعلام (8/ 149). (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم (17/ 197)، وينظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري (18/ 70 - 71). (¬3) قَالُ المتكلمون: هذا الدليل العقلي جَاءَ به القرآن، وهم في الحقيقة أخذوه من علماء اليونان الذين كانوا يثبتون وجود الله بهذه الطريقة التي أغنانا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنها. (¬4) مذكرة التوحيد (30 - 32). (¬5) شرح الطحاوية في العقيدة السلفية لابن أبي العز الحنفي (1/ 139)، وينظر: ودَرْءُ التَعَارُضِ (5/ 449 - 451) و (6/ 3 - 8)، ومنهاج السنة النبوية (2/ 85 - 88) و (3/ 156 - 157)، والقول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح العثيمين (1/ 4)، وقدم العالم وتسلسل الحوادث بين ابن تيمية والفلاسفة لكاملة الكواري (215 - 216)، شرح العقيدة الطحاوية لسفر بن عبدا لرحمن الحوالي (1/ 1072).

الأدلة الفطرية

والعقل الصريح يقطع بأن المخلوق لابد له من خالق، والمصنوع لابد له من صانع، والحادث لابد له من محدث؛ لاستحالة حدوث الحادث بنفسه. وقد أرشدنا الله إلى ذلك في كثير من آيات القرآن الكريم. قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} الطور: 35. فقد أنكر - سبحانه-: أن يكونوا قد خُلقوا بلا خالق، وأن يكونوا قد خَلقوا أنفسهم، فإنه لابدّ لهم من خالق موجود مغاير لهم وهو الله - تعالى - (¬1). ثالثاً: الأدلة من الفطرة: وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} النحل: 36، فالرسل دعوا أقوامهم ابتداءً إلى توحيد الألوهية وإفراد الله تعالى بالعبادة، ولو لم يكن الإقرار بالله تعالى وربوبيته أمراً فطرياً لابتدؤوا أقوامهم بذلك؛ لأن الأمر بتوحيده تعالى في عبادته فرع عن الإقرار به وبربوبيته (¬2)، ولصح لأعداء الرسل عند دعوتهم لهم أن يقولوا نحن لم نعرفه أصلاً فكيف تأمروننا بعبادته؟ ولما لم يحدث ذلك منهم دل على أن معرفتهم بالله مستقرة في فطرهم (¬3). بين الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله -: "أن هذا النوع من التوحيد قد أقرت به الفطرة، وقام عليه دليل السمع والعقل، ولم يعرف عن طائفة بعينها القول بوجود خالقين متكافئين في الصفات والأفعال، ومن نقل عنهم من طوائف المشركين نسبة شيء من الآثار والحوادث لغير الله، كقوم هود، حيث قالوا فيما حكاه الله عنهم: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} هود: 54.فإن ما نسبوه إلى آلهتهم إنما كان لزعمهم أنها وثيقة الصلة بالله، وأنها شفيعة لمن عبدها، وتقرب إليها بالقرابين عند الله، في جلب النفع له، ودفع الضّر عنه. ¬

(¬1) توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم، لأحمد بن إبراهيم بن عيسى (1/ 17). (¬2) ينظر: درء التعارض (3/ 129 - 130). (¬3) ينظر: درء التعارض (8/ 440).

ومن أجل هذه الشبهة من الشرك في الربوبية نبه الله على بطلانه، وأنكر على من زعمه (¬1) فقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)} المؤمنون: 91 - 92. فبين - سبحانه - أنه لو كان معه إله يشركه في استحقاقه العبادة لكان له خلق، وملك، وقهر، وتدبير، إذ لا يستحق العبادة إلا من كان كذلك، ليرجى خيره ونفعه، فيطاع أمره، وينفذ قصده، ويخشى بأسه وبطشه. فلا يعتدى على حدوده، ولا ينتهك حماه، ولو كان له خلق وتدبير وملك وتقدير لعلا على شريكه وقهره إن قوي على ذلك، ليكون له الأمر وحده، ولذهب بخلقه، ويتفرد بملكه دون شريكه. إن لم يكن لديه القوة والجبروت ما يفرض به سلطانه على الجميع. فإن من صفات الرب - تعالى - كمال العلو، والكبرياء، والقهر، والجبروت. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)} الإسراء: 42. إذا كان المعنى المراد لاتخذوا سبيلاً إلى مغالبته. وقيل: المعنى: لاتخذوا سبيلاً إلى عبادته، وتأليهه، والقيام بواجب حقه. وابتغوا إلى رضاه سبيلاً. كما قال تعالى: {أُولَئِكَ ¬

(¬1) قال ابن أبي العز - رحمه الله -: " وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} الأنبياء: 22، لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بيَّنّهُ القُرآنُ، ودعت إليه الرسلُ عليهم السلام، وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب: هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد، كما أخبر تعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} لقمان: 25، وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)} المؤمنون: 84 - 85، ومثلُ هذا كثيرٌ في القرآن". شرح العقيدة الطحاوية (1/ 129 - 130) وينظر: منهاج السنة (2/ 73)، درء التعارض (9/ 348 - 376).

الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} الإسراء: 57 " (¬1). إذاً فتوحيد الربوبية قد فطرت عليه القلوب، وأقرت به النفوس، إذ كل ما في الوجود يدل على بديع صنعه، وإتقان فعله، وتفرده عن خلقه. وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد (¬2). ودلالة الفطرة على الخالق أقوى من دلالة العلوم العقلية عليه، ذلك لأن الفطرة من العلوم الضرورية الملازمة له، بخلاف العلوم العقلية، فإنها وإن كان بعضها ضرورياً، إلا أنه قد يغفل كثير من بني آدم عنها، أو قد لا يستطيع تصورها (¬3). ومع أن الفطر مجبولة على الإقرار بتوحيد الربوبية، إلا أنه قد يعرض لها ما يصرفها عن ذلك الإقرار، وعندها تقام الحجة على المنُكر، قال الشيخ حافظ الحكمي (¬4) - رحمه الله -: " الاعتراف به - أي بتوحيد الربوبية- ضروري في الفطر السليمة، ولكن قد يَعرض لغيرها شكٌ واضطراب وأكثر ذلك على سبيل المكابرة والاستهزاء، فيجب إقامة الحجة عليهم للإعذار إليهم، ولهذا قالت رسلهم: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إبراهيم: 10، الذي خلقهما وأبدعهما على غير مثال سابق، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهرةٌ عليهما، فلا بد لهما من خالق وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء" (¬5). ¬

(¬1) مذكرة التوحيد (ص 30 - 32) وينظر: نفس المرجع (ص 17). (¬2) ديوان أبي العتاهية (ص 112) تقديم وشرح/مجيد طراد. (¬3) درء تعارض العقل والنقل (8/ 482) وما بعدها. (¬4) هو: حافظ بن أحمد بن علي بن أحمد حكمي، عالم متفنن، سلفي المعتقد، من مؤلفاته: معارج القبول، وأعلام السنة المنشورة، الجوهرة الفريدة في تحقيق العقيدة، توفي سنة (1377 هـ). ينظر: الأعلام للزركلي (2/ 159)، الشيخ حافظ بن أحمد حكمي د. أحمد علوش، والنهضة الإصلاحية في جنوب المملكة العربية السعودية لعمر أحمد المدخلي (ص 168 - 187). (¬5) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول (1/ 106).

وهناك دلائل كثيرة (¬1) غير هذه الأدلة، وهذا التوحيد مركوز في الفطر لا يكاد ينازع فيه أحد من الناس، ومع ذلك فقد وجد شواذ من الناس أنكروا هذا التوحيد فاحتجنا إلى تقريره بهذه الأدلة. ¬

(¬1) من هذه الأدلة دليل ما يشاهد من الحوادث "الحس"، ودليل الاختراع، ودليل العناية "ظهور الحكمة"، ودليل الإرادة والقدرة، ودليل الأمثلة المضروبة، ودليل الأقيسة المنطقية وغيرها. ينظر: شرح العقيدة الأصفهانية لـ (ص 16)، بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (1/ 173،174، 179 - 180) (2/ 474)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (1/ 48)، منهاج السنة النبوية لابن تيمية (2/ 141)، مفتاح دار السعادة لابن القيم (2/ 201)، منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير عقيدة التوحيد لإبراهيم البريكان (2/ 452).

المبحث الثاني: جهود الشيخ في تقرير توحيد الألوهية

المبحث الثاني جهود الشيخ في تقرير توحيد الألوهية المطلب الأول تعريف توحيد الألوهية وأساليب القرآن في تقريره. أ- تعريف توحيد الألوهية (¬1): عرف الشيخ عبد الرزاق: توحيد الألوهية: "بأنه إفراد الله بالعبادة: قولاً، وقصداً، وفعلاً، فلا يُنذر إلا له، ولا تُقرَّب القرابين إلا إليه، ولا يُدعى في السراء والضراء إلا إياه، ولا يُستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، إلى غير ذلك من أنواع العبادة" (¬2). الألوهية لغةً: مصدر أَلَه يألَه ألوهة وألوهية (¬3). يقول ابن فارس: " الألف واللام والهاء أصل واحد، وهو التعبد، فالإله الله تعالى، وسمي بذلك لأنه معبود، ويقال تأله الرجل إذا تعبد " (¬4). ¬

(¬1) سمي توحيد الألوهية باعتبار إضافته لله ويسمى كذلك بتوحيد القصد لأنه مبني على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة، وتوحيد الإرادة لأنه مبني على إرادة وجه الله بالأعمال، وتوحيد العمل لأنه مبني على إخلاص العمل لله. ينظر: مذكرة التوحيد (ص 29)، تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ص 38)، والدين الخالص لمحمد صديق حسن (1/ 60). (¬2) مذكرة التوحيد (ص 40). (¬3) ينظر: تهذيب اللغة (1/ 189)، الصحاح (6/ 2223)، لسان العرب (13/ 467)، القاموس المحيط (ص 1603). (¬4) معجم مقاييس اللغة (ص 86).

وقد بين الفيروز آبادي (¬1) أن في اشتقاق لفظ الإله ومعناه عشرين قولاً (¬2). وتعريف الشيخ عبد الرزاق: يوافق تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية: حيث عرفه، بقوله: "فهذا التوحيد الذي في كتاب الله: هو توحيد الألوهية وهو أن لا تجعل ولا تدعو مع الله غيره" (¬3). ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)} الإسراء: 39. وقوله سبحانه {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} القصص: 88. ب- أساليب القرآن في تقرير توحيد الألوهية: ويذكر الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - بعض أساليب القرآن في تقرير توحيد الألوهية وأن القرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد، وبيانه، وضرب الأمثال له، ومن هذه الأساليب التي بينها - رحمه الله -: أولاً: تقرير توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} البقرة: 21، أي أن من أقر بأنه لا يخلق إلا الله، ولا يرزق إلا الله ... لزمه أن لا يعبد إلا الله، إذ كيف يعبد من لا يخلق، ولا يرزق، ولا يملك من الأمر شيئاً؟! قال - رحمه الله -: "إن الطريق الفطري لإثبات توحيد الإلهية الاستدلال عليه بتوحيد الربوبية. فإن قلب الإنسان يتعلق أولاً بمصدر خلقه، ومنشأ نفعه وضرهّ، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقربه إليه، وترضيه عنه، وتوثق الصلات بينه وبينه، فتوحيد الربوبية باب لتوحيد ¬

(¬1) هو محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الفيروز آبادي الشيرازي الشافعي من أئمة اللغة والأدب، صنف في فنون متعددة، من مؤلفاته: القاموس المحيط، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، سفر السعادة توفي سنة 817 هـ. ينظر: البدر الطالع للشوكاني (2/ 280)، شذرات الذهب (7/ 126)، طبقات المفسرين للداودي (1/ 312). (¬2) ينظر: القاموس المحيط (ص 1603). (¬3) ينظر مجموع الفتاوى (2/ 277)، وينظر درء تعارض العقل والنقل (7/ 397).

الإلهية ... فقد استدل بتفرده بالربوبية، وكمال التصرف، وحمايته ما يريد أن يحميه، على استحقاقه وحده للعبادة، ووجوب إفراده بالإلهية" (¬1). ثانياً: يقرره عن طريق تعجيز آلهة المشركين، فمن لا يقدر على الخلق والرزق والإحياء والإماتة ... يكون عاجزاً، والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)} النحل: 17. قال الشيخ - رحمه الله -: " وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} يونس: 31، إلى أن قال: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)} يونس: 35، فقرّرهم -سبحانه- بما لا يسعهم إنكاره، ولا مخلص لهم من الاعتراف به من تفرده بالرزق، والملك، والتدبير، والإحياء، والإماتة، والبدء، والإعادة، والإرشاد، والهداية ليقيم به عليهم الحجة في وجوب تقواه دون سواه. وينكر عليهم حكمهم الخاطئ، وشركهم الفاضح، وعكوفهم على من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولا حياة ولا نشوراً" (¬2). ثالثاً: يستدل بأسماء الله وصفاته على وحدانيته، وعلى بطلان الشرك، كما في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} الحشر: 23. قال الشيخ - رحمه الله -: " وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)} النمل: 59 - 60، إلى قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)} النمل: 64، فأنكر -سبحانه- أن يكون معه من خَلَقَ، ودبَّر، أو صرف، وقدَّر، أو يُجيب المضطر إذا دعاه، ¬

(¬1) مذكرة التوحيد (ص 40،41). (¬2) مذكرة التوحيد (41 - 43).

ويكشف السّوء، أو يولِّي، أو يعزل، وينصر، ويخذل، أو ينقذ من الحيرة، ويهدي من الضلالة، أو يبدئ ويعيد، ويبسط الرزق لمن يشاء، ويقدر. إلى غير ذلك مما استأثر الله به" (¬1). رابعاً: يستدل بالآيات المشاهدة على وحدانية الله - عز وجل -، وهذا النوع كثير في القرآن، وذلك لأنه لا يخفى على ذي عقل. قال الشيخ - رحمه الله -: " ثم استدل -سبحانه- على قدرته على البعث، وتفرده باستحقاقه الإلهية بآياته الكونية، فقال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)} النحل: 4 - 5، إلى قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)} النحل: 17 - 22، فجعل -سبحانه- تفرده بالربوبية خلقاً للحاضرين والسابقين، وتمهيد الأرض، ورفعه السماء بغير عمد يرونها، وإنزاله الأمطار ليحيي بها الأرض بعد موتها، ويخرج بها رزقاً لعباده باباً إلى توحيد الإلهية وآية بينة على استحقاقه وحده العبادة" (¬2). خامساً: يقرره بضرب الأمثلة لبطلان الشرك، وصحة التوحيد. وقد بين الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - ذلك، فقال: " أثبت الله تعالى لنفسه التفرد باستحقاق الألوهية، وأنكر أن يكون غيره مستحقاً لذلك؛ استقلالاً واشتراكاً لتنافيهما في الموجب، وهو الخلق؛ فلله الخلق والأمر وحده، وغيره ليس إليه شيء من ذلك، ومن ذلك قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا ¬

(¬1) مذكرة التوحيد (43، 44). (¬2) مذكرة التوحيد (ص 42).

حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)} النحل: 75 - 76" (¬1). إلى غير ذلك من طرق القرآن في تقرير توحيد الألوهية، والتي هي خبر المعصوم، وموجب الفطرة، ومقتضى العقل الصحيح. قال الشيخ - رحمه الله -: " وهذا مما استقر في فطرهم، ونطقت به ألسنتهم، وبه قامت الحجة عليهم فيما دعتهم إليه الرسل من توحيد العبادة؛ وما ذكر من الآيات قليل من كثير؛ ومن سلك طريق القرآن في الاستدلال، واهتدى بهدي الأنبياء في الحجاج اطمأنت نفسه، وقوي يقينه، وانتصر على مناظره. فإن في ذلك الحجة، والبرهان من جهتين: الأولى: أنه خبر المعصوم. والثانية: أنه موجب الفطرة، ومقتضى العقل الصحيح" (¬2). قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -: " لما كان توحيد الباري أعظم المسائل وأكبرها وأفرضها وأفضلها، وحاجة الخلق إليه وضرورتهم فوق كل ضرورة تقدر، فإن صلاحهم وفلاحهم وسعادتهم متوقفة على التوحيد نَوَّع الله الأدلة والبراهين على ذلك، وكانت أدلته واضحات، وبراهينه ساطعات" (¬3). وما زال أهل السنة منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا وأهم المهمات عندهم هو توحيد الألوهية وتحقيقه، كما هي طريقة الأنبياء والرسل. قال شيخ الإسلام: - بعد سوقه لأدلة هذا التوحيد من القرآن-: " ونظائر هذا في القرآن كثير، وكذلك في الأحاديث، وكذلك في إجماع الأمة لا سيما أهل العلم والإيمان منهم، فإن هذا عندهم قطب رحى الدين كما هو الواقع" (¬4). ¬

(¬1) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام، تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي (3/ص 228). (¬2) مذكرة التوحيد (ص 44). (¬3) فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن (ص 83). (¬4) مجموع الفتاوى (1/ 21).

اتفقت الشرائع عليه منذ آدم إلى عهد نبينا - صلى الله عليه وسلم -، يقول الشوكاني - رحمه الله -: " الشرائع كلها اتفقت على إثبات التوحيد، على كثرة عدد الرسل المرسلين وكثرة كتب الله عز وجل، المنزلة على أنبيائه" (¬1). وبهذا يتبين لنا موافقة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - أهل السنة والجماعة في بيان منهج القرآن في تقرير توحيد الألوهية (¬2). ¬

(¬1) إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات للشوكاني (ص 5). (¬2) ينظر: مجموع تفسير ابن تيمية (41 - 44)،ومجموع الرسائل والمسائل النجدية لبعض علماء نجد الأعلام (5/ 97،186)، مجموع الفتاوى (1/ 65، 69، 70 - 93 - 97) (2/ 6)، النبوات (25، 26).

المطلب الثاني: شهادة أن لا إله إلا الله

المطلب الثاني شهادة أن لا إله إلا الله أ- معناها، والأدلة عليها من القرآن والسنة: قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: "شهادة (أن لا إله إلَّا الله) و (أن محمداً رسول الله)، هي الركن الأول من أركان الإسلام، ومعنى (لا إله إلَّا الله) لا معبود بحق إلا الله، وهي نفي وإثبات. (لا إله) نافياً جميع العبادة لغير الله، (إلَّا الله) مثبتاً جميع العبادة لله وحده لا شريك له" (¬1). كما بين الشيخ - رحمه الله - أدلة ذلك من القرآن والسنة، فقال: " ورد الركن الأول من أركان الإسلام بجزأيه في القرآن الكريم كثيراً، كقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} البقرة: 255، وقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} محمد: 19،وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الأنعام: 102؛ والجزء الثاني، كقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الفتح: 29، وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} آل عمران: 144. وأما السنة ففي الصحيحين، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة ألَّا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) (¬2) ... وفي الصحيحين من حديث عتبان - رضي الله عنه - مرفوعاً: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله) (¬3) ... " (¬4). ¬

(¬1) ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 86). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب (دعاؤكم إيمانكم) لقوله عز وجل: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) برقم (8). ومسلم في كتاب الإيمان: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، برقم (16،21). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، برقم (425)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة، برقم (35). (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 77 - 78).

ولا إله إلا الله هي كلمة الإخلاص وعنوان التوحيد، ولا يتم إسلام عبد دون تحقيق معناها، والعمل بمدلولها. وهي تعني إفراد الله - بالعبادة وحده لا شريك له، والبراءة من كل معبود سواه، فمعنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله (¬1). وهذا المعنى هو الذي اتفقت عليه دعوة المرسلين وشرائع النبيين، فما من رسول أرسله الله - عز وجل - إلا دعا قومه إليه، وحذرهم مخالفته، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} الأنبياء: 25. يقول العلامة الصنعاني (¬2): في تقرير ذلك: " إن رسل الله وأنبياءه من أولهم إلى آخرهم بعثوا لدعاء العباد إلى توحيد العبادة ... وهذا الذي تضمنه قول: (لا إله إلا الله) فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة، واعتقاد معناها، لا مجرد قولها باللسان. ومعناها: هو إفراد الله بالإلهية والعبادة، والنفي لِمَا يعبد من دونه والبراءة منه. وهذا الأصل لا مرية فيما تضمنه، ولا شك فيه، وفي أنه لا يتم إيمان أحد حتى يعلمه ويحققه" (¬3). ¬

(¬1) ينظر: تفسير الطبري (9/ 161) (11/ 317 - 318)،تفسير البغوي (7/ 285)، مجموع الفتاوى (3/ 101) (13/ 202 - 205)، تفسير ابن كثير (1/ 215)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/ 44)، تجريد التوحيد المفيد للمقريزي (ص 47 - 48)، تطهير الاعتقاد للصنعاني (ص 5 - 6)، مجموعة الرسائل النجدية (2/ 120)، تيسير العزيز الحميد (ص 73 - 74)، فتح المجيد (1/ 121)، مفتاح الجنة لا إله إلا الله للمعصومي الحنفي (ص 60، 62)، الكلام المنتقى مما يتعلق بكلمة التقوى لابن حجي الحنبلي (ص 19)، معارج القبول للحكمي (2/ 416)، أضواء البيان (4/ 508) (6/ 273). (¬2) هو: محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، المعروف بالأمير، من مؤلفاته: تطهير الاعتقاد، والرد على من قال بوحدة الوجود، وسبل السلام وغيرها، توفي سنة (1182 هـ). ينظر: البدر الطالع (2/ 133)، الأعلام (6/ 38). (¬3) تطهير الاعتقاد (ص 5 - 6).

ب- فضائلها

ب- فضائلها: قال الشيخ - رحمه الله -: " الشهادة لله تعالى بالوحدانية ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة فرض لا يكون الإنسان مسلماً إلا بذلك، والذكر بـ (لا إله إلا الله) وحدها أجره عظيم؛ لحث الشرع على الذكر بها، ولأنها أفضل ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبيون من قبله" (¬1). يقول ابن رجب (¬2) - رحمه الله -: "كلمة التوحيد لها فضائل عظيمة لا يمكن هاهنا استقصاؤها؛ فلنذكر بعض ما ورد فيها: فهي كلمة التقوى ... وكلمة الإخلاص، وشهادة الحق، ودعوة الحق، وبراءة من الشرك، ونجاة هذا الأمر، ولأجلها خُلق الخلق ... " (¬3) وقد أفرد غير واحد من أهل العلم الكلام على فضائلها في مصنفات خاصة (¬4)، وعدّها بعضهم فأوصلها إلى نحو مئتي فضيلة (¬5). بل إنَّ كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) التي هي أصل الدين وأساسه قد دلت على أقسام التوحيد الثلاثة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وشهادة أن لا إله إلا الله فيها الإلهيات، وهي الأصول الثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأصول الثلاثة تدور عليها أديان الرسل وما أنزل إليهم، وهي الأصول الكبار التي دلت عليها وشهدت بها العقول والفطرة " (¬6). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (2/ 533 - 534). (¬2) هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب، أبو الفرج، زين الدين، السلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، سلفي حنبلي، من مؤلفاته: جامع العلوم والحكم، فتح الباري شرح صحيح البخاري، القواعد الفقهية، توفي سنة 795 هـ. انظر: الدرر الكامنة (2/ 321)، شذرات الذهب (6/ 230). (¬3) كلمة الإخلاص (ص 52). (¬4) ممن صنف في فضائل كلمة التوحيد استقلالاً: ابن البنا الحنبلي في " رسالة في فضل التهليل وثوابه الجزيل"، وابن عبد الهادي في "مسألة في التوحيد وفضائل لا إله إلا الله"، والمعصومي في "مفتاح الجنة لا إله إلا الله"، والزركشي في رسالة أسماها " معنى لا إله إلا الله". (¬5) ينظر: ما ذكره ابن عبد الهادي في مسألة في التوحيد وفضائل لا إله إلا الله (ص 87 - 117). (¬6) نقلاً عن كتاب القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد للعباد (ص 29)، وينظر: بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية في كلام له قريب من هذا وهو: " التوحيد الذي بعث الله به رسله هو عبادة الله وحده لا شريك له وهو معنى شهادة أن لا اله إلا الله وذلك يتضمن التوحيد بالقول والاعتقاد وبالإرادة والقصد" (2/ 498).

وأما وجه دلالة هذه الكلمة العظيمة على أقسام التوحيد الثلاثة فظاهر تماماً لمن تأملها: فقد دلت على إثبات العبادة لله ونفيها عمن سواه، كما دلت أيضاً على توحيد الربوبية فإنَّ العاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، ودلت على توحيد الأسماء والصفات فإنَّ مسلوب الأسماء والصفات ليس بشيء بل هو عدم محض، وما أحسن ما قيل: المشبّه يعبُد صنماً، والمعطِّل يعبُد عدماً (¬1)، والموحِّد يعبُد رباً فَرْداً صمَداً (¬2). وما أحسن قول ابن القيم في النونية: لسنا نشبه وصفه بصفاتنا ... إن المشبه عابد الأوثان كلا ولا نخليه من أوصافه ... إن المعطل عابد البهتان (¬3). وبما سبق تتضح موافقة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - لأهل السنة والجماعة في معنى وفضل كلمة الإخلاص. ¬

(¬1) لأن نفي جميع الصفات يستلزم نفي الذات. (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى (5/ 196)، والصواعق المرسلة (1/ 148)، وجامع الرسائل لابن تيمية (1/ 181)،والتنبيهات السنية على العقيدة الواسطية للشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ص 9)، وإعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد للشيخ صالح بن فوزان الفوزان (3/ 395). (¬3) القصيدة النونية (1/ 14).

المطلب الثالث: العبادة

المطلب الثالث العبادة. أ- تعريفها: عرف الشيخ عبد الرزاق: العبادة بأنها التأله والتذلل لله وحده والانقياد له سبحانه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه (¬1). والعبادة في اللغة: مصدر عَبَدَ يعبُد عبادَةً. يقول ابن فارس - رحمه الله -: "العين والباء والدال أصلان صحيحان، كأنهما متضادان: والأول من ذينك الأصلين يدل على لين وذل. والآخر على شدة وغلظ " (¬2). والعبادة تطلق في اللغة على معان متعددة منها: الخضوع والذلة، والقوة والصلابة، والأنفة والكراهة، والطاعة والتنسك والمملوكية (¬3). والمتأمل في هذه المعاني يراها ترجع إلى الأصلين اللذين ذكرهما ابن فارس، ولا تخرج عنهما. أما العبادة في الشرع: فإن معانيها تتنوع بحسب اعتبارات سياقاتها، فالعبادة باعتبار أصلها هي مصدر بمعنى التعبد، وهي بهذا المعنى التذلل لله والخضوع له بفعل أوامره واجتناب نواهيه، مع المحبة والتعظيم. والعبادة باعتبار أفرادها هي اسم بمعنى المتعبد به، وهي بهذا المعنى اسم جامع لكلّ ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة (¬4). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 76، 87). (¬2) معجم مقاييس اللغة (ص 728). (¬3) ينظر: تهذيب اللغة (3/ 2299 - 2305)، الصحاح (2/ 502 - 504)، لسان العرب (3/ 272 - 273)، القاموس المحيط (ص 378 - 379). (¬4) ينظر: العبودية لابن تيمية (ص 5 - 6)، تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص 35)، معارج القبول لحافظ الحكمي (1/ 84)، تقريب التدمرية لابن عثيمين (ص 129).

وعبارات أهل العلم في تعريف العبادة وبيان معناها وإن تعددت فهي لا تخرج عما سبق (¬1). قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} البينة: 5. قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه - حين بعثه إلى اليمن: (إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ...) الحديث، وفي رواية: (فادعهم إلى عبادة الله)، وفي رواية: (فادعهم إلى أن يوحدوا الله) (¬2). قال ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -: " وجه الجمع بينهما: أن المراد بالعبادة: التوحيد، والمراد بالتوحيد: الإقرار بالشهادتين" (¬3). ¬

(¬1) ينظر: تفسير ابن جرير (1/ 196)، مجموع الفتاوى (10/ 149، 153، 251) (15/ 162)، منهاج السنة (2/ 448) (3/ 290)، مدارج السالكين (1/ 74)، تفسير ابن كثير (1/ 28)، فتح الباري (11/ 347)، تيسير العزيز الحميد (ص 46)، فتح المجيد (1/ 84 - 85). (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا برقم (1496)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام برقم (29) من حديث ابن عباس. (¬3) فتح الباري (13/ 354).

ب- أنواعها

ب- أنواعها: إن كل ما أمر به سبحانه وحث على فعله ورغب فيه، وكذا كل ما دعا إليه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أعمال الخير والإحسان وأنواع الطاعات، داخل في مفهوم العبادة وعمومها، لا يجوز صرفه بحال لغيره سبحانه، لكونه المعبود المطاع، ولا معبود بحق سواه، وهذا عين معنى العبادة في الشرع. فالعبادة إذاً -بمفهومها الشامل- أنواع كثيرة جداً، ومما وقفت عليه منها مما ذكره الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - بنوع من التفصيل مايلي: أولاً: الخوف من الله. ذكر الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " أنه -أي الخوف- من أفضل مقامات الدين وأجلها وهو من أجمع أنواع العبادة التي أمر الله - عز وجل - بإخلاصها له، قال تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} آل عمران: 175، ووعد سبحانه من حقق مقام الخوف منه بجنتين، فقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} الرحمن: 46، وأثنى على الملائكة بأنهم يخافون ربهم من فوقهم، فقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} النحل: 50، وغير ذلك من الآيات في القرآن كثيرة" (¬1). وبين كذلك - رحمه الله -: " أن الخوف من الله ومن وعيده وعذابه مما يحمد شرعاً ومما يزيد العبد في تقوى الله فيبعثه على فعل أوامره واجتناب ما نهى عنه سبحانه وتعالى" (¬2). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 363). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 365).

أ- تعريف الخوف: الخوف في اللغة: الفزع. قال في القاموس: " خاف يخاف خوفاً ومخافة وخيفة بالكسر ... فزع" (¬1).وجاء في اللسان: "الخوف: الفزع خافه يخافه خوفاً وخيفة ومخافة" (¬2). وأما تعريف الخوف شرعاً: فقد عرفه العلامة ابن القيم: بقوله: "الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف" (¬3). ب- أنواع الخوف: وقد بين ابن القيم: الفرق بين الوجل، والخوف، والخشية، والرهبة فقال: "الوجل، والخوف، والخشية، والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة. فالوجل: رجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته أو لرؤيته. والخوف: اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف. والخشية: أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله، قال الله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} فاطر: 28، فهي خوف مقرون بمعرفة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ...) (¬4). وأما الرهبة: فهي الإمعان في الهرب من المكروه وهي ضد "الرغبة" التي هي: سفر القلب في طلب المرغوب فيه -إلى أن قال رحمه الله-. ¬

(¬1) ينظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي (3/ 144)، والصحاح (4/ 1358). (¬2) اللسان (9/ 99)، وينظر: المصباح المنير (1/ 184). (¬3) ينظر: مدارج السالكين (1/ 512)، والتعريفات للجرجاني (ص 334). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح برقم (5063) من حديث أنس رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب أن القبلة في الصوم ليست محرمة، برقم (1109).

وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة والإجلال تعظيم مقرون بالحب، فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين، وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية" (¬1). والخوف أربعة أنواع: النوع الأول: خوف السر، وهو خوف العبادة، بأن يخاف من المعبودات التي تُعبد من دون الله عزّ وجلّ، وكذلك الخوف من كل مخلوق أن يصيبه بما لا يقدر عليه إلاَّ الله سبحانه وتعالى من الإصابة بالمرض، أو قطع الرزق، أو غير ذلك، وهذا أحد أنواع الشرك الأكبر. النوع الثاني: أن يترك الإنسان ما أوجب الله عليه من الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً من النّاس أن يؤذوه أو يضايقوه أو يعذِّبوه فيترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وبيان الحق خوفاً من النّاس (¬2)، فهذا شركٌ أصغر، وهو محرّمٌ. النوع الثالث: الخوف الطبيعي، الذي ليس معه عبادة للمخوف ولا ترك لواجب. كأن يخاف الإنسان من العدو، أو من السَّبُع، أو من الحيَّة .. فهذا الخوف خوفٌ طبيعي لا يُلام عليه الإنسان لأنه ليس عبادة وليس تركاً لواجب. النوع الرابع: هو الخوف من الله؛ قال تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} آل عمران: 175، لا تخافوا من الكفّار بل توكلوا على الله، وخافوا من الله، {فَلَا تَخَافُوهُمْ} آل عمران: 175، هذا نهيٌ من الله سبحانه وتعالى عن خوف أولياء الشيطان، ثمّ أمر بخوفه وحده سبحانه وتعالى. ¬

(¬1) ينظر: مدارج السالكين (1/ 512 - 513). (¬2) والمراد: القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقادر على الدعوة إلى الله، أما الذي لا يقدر -أو ليس عنده استطاعة- فهذا معذور.

والشاهد من الآية: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} آل عمران: 175، نهى عن خوف الكفّار وأولياء الشيطان خوفاً يمنع من الدعوة والجهاد في سبيل الله، والقيام بواجبات الدين، وأمر بخوفه سبحانه وتعالى. فدلّ على أن الخوف عبادةٌ عظيمة، يجب أن تُخلص لله عزّ وجلّ (¬1). ثانياً: التوكل على الله. قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: "حقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة. ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير، تغدوا خماصاً وتروح بطاناً) (¬2)، أي أن الناس لو حققوا التوكل على الله بقلوبهم واعتمدوا عليه اعتمادا كليا في جلب ما ينفعهم ودفع ما يضرهم وأخذوا بالأسباب المفيدة لساق إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب، كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب ولكنه سعي يسير، وتحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدرات بها وجرت سننه في خلقه بذلك فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة والتوكل بالقلب عليه إيمان به، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)} المائدة: 11، فجعل التوكل مع التقوى التي هي القيام بالأسباب المأمور بها والتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض وإن كان مشوبا بنوع من التوكل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزا ولا عجزه توكلا، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها" (¬3). ¬

(¬1) ينظر لما سبق من أنواع الخوف: إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد للشيخ صالح بن فوزان الفوزان (3/ 78 - 85)، وشعب الإيمان للبيهقي (1/ 463) وما بعدها، منهاج السنة لابن تيمية (5/ 484)، معارج القبول (2/ 443)، إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 110)، وتيسير العزيز الحميد (ص 24، 426)، كشف الأوهام والالتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس، لابن سحمان (1/ 111). (¬2) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الزهد باب في التوكل على الله برقم (2344)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2344). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 380)، وينظر: المرجع السابق (1/ 375 - 377).

التوكل على الله من أفضل العبادات وأجلها، ومن أعلى مقامات التوحيد وأنبلها، ومن أوصاف عباد الله المؤمنين وأوليائه المتقين، وقد أمر به تعالى في مواضع عدة في كتابه المجيد وأثنى على المتوكلين عليه وحده دون سواه، فقال - عز وجل -: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)} هود: 123، وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} الفرقان: 58، وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)} الأحزاب: 3، وقال: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} آل عمران: 159 {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} الطلاق: 3، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في شأن التوكل أمراً وفضلاً (¬1). كما شهدت الأحاديث النبوية -أيضاً- بفضله وبيان منزلته ومكانة أهله؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب) قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: (هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون) (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير، تغدوا خماصاً وتروح بطاناً) (¬3). قال العلامة ابن القيم: عند قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} المائدة: 23: " فجعل التوكل شرطاً في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل، وفي الآية الأخرى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)} يونس: 84، فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} آل عمران: 122 (¬4). ¬

(¬1) ينظر: شعب الإيمان للبيهقي (2/ 57)، بغية المرتاد لابن تيمية (ص 262)، منهاج السنة (5/ 367)، تلخيص كتاب الاستغاثة (1/ 407)، ثلاثة الأصول لمحمد بن عبد الوهاب تحقيق/ الطريم (ص 188). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتوي، برقم (5704)، ومسلم في كتاب الإيمان باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بدون حساب ولا عذاب برقم (218).من حديث عمران بن حصين الأزدي. (¬3) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الزهد باب في التوكل على الله برقم (2344)، صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2344). (¬4) ورد هذا النص القرآني في عدة مواضع من الكتاب العزيز، فهو في سورة آل عمران بعض آية 160، وفي سورة المائدة بعض آية 11، وفي التوبة بعض آية 51، وفي إبراهيم بعض آية 11، وفي المجادلة بعض آية 10، وفي التغابن بعض آية 13.

فذكر اسم الإيمان ههنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل، وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفاً فهو دليل على ضعف الإيمان ولابد. والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والهداية (¬1) ... فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان ولجميع أعمال الإسلام وأن منزلته منها منزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل" (¬2). وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: " وحقيقة التوكل على الله: أن يعلم العبد أن الأمر كله لله، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه هو النافع الضار المعطي المانع، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فبعد هذا العلم يعتمد بقلبه على ربه في جلب مصالح دينه ودنياه، وفي دفع المضار، ويثق غاية الوثوق بربه في حصول مطلوبه، وهو مع هذا باذل جهده في فعل الأسباب النافعة. فمتى استدام العبد هذا العلم وهذا الاعتماد والثقة فهو المتوكل على الله حقيقة، وليبشر بكفاية الله له ووعده للمتوكلين، ومتى علق ذلك بغير الله فهو مشرك، ومن توكل على غير الله، وتعلق به، وكل إليه وخاب أمله" (¬3). وليس معنى التوكل -كما يفهمه البعض (¬4) - ترك الأسباب وعدم مباشرتها، بل ذلك لا ينافيه ولا يبطله إذ الأخذ بالأسباب مطلوب شرعاً وعقلاً، والعمل بها دليل على صحة التوكل وفهم حقيقته. وفي بيان هذا يقول ابن أبي العز - رحمه الله -: " وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب، وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة، فلا حاجة إلى الأسباب! وهذا ¬

(¬1) وقد ساق - رحمه الله - النصوص القرآنية الشاهدة على ذلك. (¬2) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص 423 - 427). (¬3) القول السديد (ص 122). (¬4) كبعض المتصوفة مثلاً، ينظر: جملة من أقاويلهم وطرفاً من حكاياتهم في ذلك: الرسالة القشيرية لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري (1/ 465 - 487).

فاسد (¬1)، فإن الاكتساب: منه فرض، ومنه مستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه حرام، كما قد عرف في موضعه. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل المتوكلين، يلبس لأمة الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب، حتى قال الكافرون: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} الفرقان: 7، ولهذا تجد كثيراً ممن يرى الاكتساب ينافي التوكل يرزقون على يد من يعطيهم، إما صدقة وإما هدية ... ومما ينبغي أن يعلم، ما قاله طائفةٌ من العلماء، وهو: أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد (¬2)، ومحوُ الأسباب، أن تكون أسباباً، نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع (¬3)، ومعنى التوكل والرجاء، يتألَّف من وجوب التوحيد والعقل والشرع" (¬4). ¬

(¬1) ينظر: بسط الكلام على هذه المسألة في مجموع الفتاوى (8/ 526 - 539) (8/ 68 - 73، 138 - 139، 175 - 178، 277)، ومدارج السالكين لابن القيم (3/ 495 - 501). (¬2) أي توحيد الربوبية وقد يدخل فيه توحيد الألوهية إذا لم يتوجه إلى الله. (¬3) لأن الشرع أمر بفعل الأسباب فـ "ليس في فعل الأسباب ما ينافي التوكل مع اعتماد القلب على خالق السبب وليس التوكل بترك الأسباب بل التوكل من الأسباب وهو أعظمها وأنفعها وأنجحها وأرجحها". معارج القبول (3/ 988). (¬4) شرح العقيدة الطحاوية (2/ 411، 412، 696)، وينظر: بغية المرتاد (1/ 262)، منهاج السنة (5/ 366) (8/ 80)، المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي (1، 511)، رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر لمرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي (ص 27).

المبحث الثالث: جهود الشيخ في تقرير توحيد الأسماء والصفات

المبحث الثالث جهود الشيخ في تقرير توحيد الأسماء والصفات المطلب الأول تعريف توحيد الأسماء والصفات، وبيان الفرق بين الأسماء والصفات: أ- التعريف: الأسماء: جمع اسم، والاسم: " مشتق من السمو أي: العلو ... أو من الوسم أي: العلامة ... " (¬1)، وهو اللفظ الدال على المسمى (¬2)، وأسماء الله كلُ ما دل على ذات الله مع صفات الكمال القائمة به كالعليم والقدير والحكيم والسميع والبصير (¬3). والصفات: جمع صفة، والصفة: أصلها "وَصَفَ" حذفت الواو وعوض عنها التاء (¬4)، "وهي الاسم الدال على أحوال الذات ... وهي الأمارة اللازمة بذات الموصوف الذي يعرف بها" (¬5)، وصفات الله نعوت الكمال القائمة بذاته كالعلم والقدرة والحكمة والسمع والبصر (¬6). ¬

(¬1) ينظر: تهذيب اللغة (2/ 1748)، الصحاح (6/ 2383)، معجم مقاييس اللغة (ص 490)، لسان العرب (14/ 401)، القاموس المحيط (ص 1672). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى (6/ 189،192)، بدائع الفوائد لابن القيم (1/ 16). (¬3) ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (3/ 160). (¬4) ينظر: تهذيب اللغة (4/ 3900 - 3901)، الصحاح (4/ 1438 - 1439)، معجم مقاييس اللغة (ص 1093)، لسان العرب (9/ 356)، القاموس المحيط (ص 111). (¬5) التعريفات للجرجاني (ص 133). (¬6) ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (3/ 160).

وعليه فتوحيد الأسماء والصفات هو: " أن يسمى الله ويوصف، بما سمى ووصف به نفسه، أو سمَّاه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف (¬1)، ولا تأويل (¬2)، ومن غير تكييف (¬3)، ولا تمثيل (¬4) " (¬5). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " ثم القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث. قال الإمام أحمد - رحمه الله -: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا يتجاوز القرآن والحديث" (¬6). ¬

(¬1) التحريف: لغة: التغيير والتبديل. واصطلاحاً: تغيير ألفاظ الأسماء الحسنى والصفات العلى أو معانيهما. ينظر: لسان العرب 9/ 43، مختصر الأسئلة والأجوبة على العقيدة الواسطية لعبد العزيز السلمان (ص 23). (¬2) التأويل في أسماء الله وصفاته: هو الميل والعدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها إلى الإشراك والتعطيل والكفر. ينظر: مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية (ص 32)، المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للدكتور/ إبراهيم البريكان (ص 33). (¬3) التكييف: لغة: جعل الشيء على هيئة معينة معلومة؛ والتكييف في صفات الله هو: الخوض في كنه وهيئة الصفات التي أثبتها الله لنفسه. ينظر: معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد خليفة التميمي (ص 70 - 81). (¬4) التمثيل: لغة: من المثيل وهو الند والنظير، والتمثيل في باب الأسماء والصفات هو: الاعتقاد في صفات الخالق أنها مثل صفات المخلوق. وينقسم إلى قسمين: الأول: تشبيه المخلوق بالخالق كتشبيه النصارى للمسيح ابن مريم بالله، وكتشبيه اليهود عزيزاً بالله، وكتشبيه المشركين أصنامهم بالله. الثاني: تشبيه الخالق بالمخلوق، وذلك كتشبيه المشبهة الذين يقولون لله وجه كوجه المخلوق، ويد كيد المخلوق ونحو ذلك ينظر: معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد خليفة التميمي (ص 70 - 81)، مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية (ص 25). (¬5) مذكرة التوحيد (ص 32)، وينظر: تعليق الشيخ عبد الرزاق على الإحكام (4/ 129).ويأتي في معنى هذا التعريف ما ذكر في المراجع التالية وغيرها: مجموع الفتاوى (3/ 3)، تيسير العزيز الحميد (ص 34)، فتح المجيد (1/ 79)، القول السديد للسعدي (ص 10)، معارج القبول (1/ 98)، القول المفيد لابن عثيمين (1/ 12)، القواعد المثلى لابن عثيمين (ص 5 - 6). (¬6) مجموع الفتاوى (5/ 26)، وينظر: الحموية لابن تيمية (ص 203)، لمعة الاعتقاد لابن قدامة بشرح الشيخ ابن عثيمين (ص 9)، بدائع الفوائد (1/ 183)، لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 124 - 125).

ب- الفرق بين الأسماء والصفات: قال الشيخ - رحمه الله -: " أسماء الله كل ما دل على ذات الله مع صفات الكمال القائمة به، مثل: القادر، العليم، الحكيم، السميع، البصير، فإن هذه الأسماء دلت على ذات الله، وعلى ما قام بها من العلم والحكمة والسمع والبصر فالاسم دل على أمرين، والصفة دلت على أمر واحد، ويقال الاسم متضمن للصفة، والصفة مستلزمة للاسم، ويجب الإيمان بكل ما ثبت منهما عن الله تعالى أو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجه اللائق بالله سبحانه مع الإيمان بأنه سبحانه لا يشبه خلقه في شيء من صفاته، كما أنه لا يشابههم في ذاته" (¬1). ولمعرفة ما يميز الاسم عن الصفة، والصفة عن الاسم أمور، منها: أولاً: أن الأسماء يشتق منها صفات (¬2)، أما الصفات؛ فلا يشتق منها أسماء، فنشتق من أسماء الله الرحيم والقادر والعظيم، صفات الرحمة والقدرة والعظمة، لكن لا نشتق من صفات الإرادة والمجيء والمكر اسم المريد والجائي والماكر (¬3). ثانياً: أن الاسم لا يشتق من أفعال الله؛ فلا نشتق من كونه يحب ويكره ويغضب اسم المحب والكاره والغاضب، أما صفاته؛ فتشتق من أفعاله فنثبت له صفة المحبة والكره والغضب ونحوها من تلك الأفعال، لذلك قيل: باب الصفات أوسع من باب الأسماء (¬4). ثالثاً: "أن أسماء الله - عز وجل - وصفاته تشترك في الاستعاذة بها والحلف بها" (¬5)، لكن تختلف في التعبيد والدعاء، فيتعبد الله بأسمائه، فتقول: عبد الكريم، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، كما ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (3/ 160)، ينظر: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (1/ 160، 161). (¬2) ينظر: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (1/ 160، 161). (¬3) ينظر: بدائع الفوائد (1/ 162)، الصفدية (1/ 108)،دفع إيهام التشبيه عن أحاديث الصفات ونقد كتاب (تأويل الأحاديث الموهمة للتشبيه)، تأليف أ. د. محمد السمهري (ص 37). (¬4) ينظر: مدارج السالكين (3/ 415). (¬5) مجموع الفتاوى (6/ 143، 229) و (35/ 273)، وينظر: شرح السنة للبغوي (1/ 185، 187).

أنه يُدعى الله بأسمائه، فنقول: يا رحيم! ارحمنا، يا كريم! أكرمنا، ويا لطيف! الطف بنا، لكن لا ندعو صفاته فنقول: يا رحمة الله! ارحمينا، أو: يا كرم الله! أو: يا لطف الله! ذلك أن الصفة ليست هي الموصوف، فالرحمة ليست هي الله، بل هي صفة لله، وكذلك العزة، وغيرها؛ فهذه صفات لله، وليست هي الله، ولا يجوز التعبد إلا لله، ولا يجوز دعاء إلا الله؛ لقوله تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} النور: 55، وقوله {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} غافر: 60، وغيرها من الآيات (¬1). ج- أثرهما: يذكر الشيخ - رحمه الله - أثر أسماء الله وصفاته فيقول: " إن للأسماء والصفات آثراً عظيماً في حياة الفرد، فمعرفة الفرد أن الله تعالى رحمن يبعث في قلبه الرجاء، وإذا ذكر القهار يبعث الخوف من الله تعالى، والقرآن مليء بصفات الله تعالى" (¬2). ويقول - رحمه الله -: "ومن تبصّر في العالم، وعرف شئونه وأحواله تبين له تعلقه خلقاً وأمراً بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، وارتباطه بها أتم ارتباط، وظهر له أن الوجود كله آيات بينات، وشواهد واضحات على أسماء الله، وصفاته" (¬3). قال ابن القيم - رحمه الله -: " إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم، فإن المعلومات سواه -أي سوى الله سبحانه- إما أن تكون خلقاً له تعالى أو أمراً، إما علمٌ بما كونّه أو علمٌ بما شرعه، ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه، فالأمر كله مصدره عن أسمائه الحسنى، وهذا كله حسن لا يخرج عن مصالح العباد، والرأفة والرحمة بهم والإحسان إليهم بتكميلهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فأمره كله مصلحة وحكمة ولطف وإحسان، إذ مصدره أسماؤه الحسنى، وفعله كله لا يخرج عن العدل والحكمة والمصلحة والرحمة، إذ مصدره أسماؤه الحسنى، فلا تفاوت في خلقه ولا عبث ولم يخلق خلقه باطلاً ولا سدى ولا عبثاً. ¬

(¬1) ينظر: فتاوى الشيخ ابن عثيمين (1/ 26). (¬2) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (1/ 157). (¬3) مذكرة التوحيد (ص 32).

وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود من سواه تابع لوجوده، تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم بها أصل للعلم بكل ما سواه. فالعلم بأسمائه وإحصائها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم، لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها" (¬1). وذكر الشيخ ابن عثيمين (¬2) - رحمه الله - أن من آثار معرفة أسماء الله وصفاته عبادته على الوجه الأكمل، فقال: "فهذا التوحيد منزلته في الدين عالية، وأهميته عظيمة، ولا يمكن لأحدٍ أن يعبد الله على الوجه الأكمل حتى يكون على علم بأسماء الله تعالى وصفاته، ليعبده على بصيرة، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الأعراف: 180 " (¬3). فيتقرر أن هذا التوحيد أجلُّ المعارف، لأنه معرفة بالله تعالى بأسمائه وصفاته، وعلى هذه المعرفة تنبني العبادة، فإذا لم يعرف العبد ربه فكيف يعبده؟ إذ كيف يعبد إلهاً يجهله؛ لذا استفاضت الأدلة بذكره والتنويه به، لأنه كلما كان الأمر مهماً كثُر إيضاحه وبيانه. ¬

(¬1) بدائع الفوائد (1/ 163). (¬2) هو محمد بن صالح بن عثيمين الوهيبي التميمي، الشيخ العلامة أبو عبد الله، ولد سنة 1347 هـ، ونشأ في طلب العلم من صغره، فحفظ القرآن، ثم اتجه لطلب العلم، من آثاره: القول المفيد على كتاب التوحيد، شرح الواسطية وغيرها؛ توفي: قبيل مغرب يوم الأربعاء 15/ 10/1421 هـ بجدة. ينظر: مقدمة مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - (1/ 9)، مجلة الحكمة- العدد الثاني (ص 19). (¬3) القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لابن عثيمين - رحمه الله - (ص 6).

المطلب الثاني: أسماء الله

المطلب الثاني أسماء الله عز وجل. ذكر الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - بأنه: " عرف عن السلف الصالح في أسماء الله وصفاته؛ الاستدلال عليها بما دلهم عليه الكتاب والسنة من الأدلة السمعية والعقلية، والتعبير عنها بما ورد في الشريعة، وعدم التوسع في التعبير الذي يجعلهم في حيرة ويطيح بهم في المتاهات" (¬1)؛ وبين - رحمه الله - أن: " أسماء الله وصفاته - عز وجل - توقيفية" (¬2). وإن من الأمور الثابتة في الكتاب والسنة أن لله أسماء حسنى تخصه جل وعلا كما في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الأعراف: 180. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلاّ واحداً، من أحصاها دخل الجنة) (¬3) (¬4). يقول الإمام الشافعي - رحمه الله -: " لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا يسع أحداً من خلق الله- تعالى- قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها، وصح عن ¬

(¬1) تعليق الشيخ على الإحكام (4/ 129) بتصرف. (¬2) تعليق الشيخ على الإحكام (2/ 384). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب إن لله مائة اسم إلا واحدة برقم (2585، 6957)، وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها برقم (2677). (¬4) هذا لا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: (إن أسماء الله تسعة وتسعون اسماً منَ أحصاها دخل الجنة) أو نحو ذلك. إذن فمعنى الحديث: أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة، وعلى هذا فيكون قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أحصاها دخل الجنة) جملة مُكمِّلة لما قبلها، وليست مستقلة، ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أعددتها للصدقة، فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدّها للصدقة". وذكر القاضي عياض أن جملة: (من أحصاها) خبر إن، لا قوله: (تسعه وتسعين). ينظر: القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص 16)، الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 381)، والبدائع لابن القيم (1/ 167)، إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (8/ 175)، وكذلك قاله الحافظ في الفتح (11/ 220)، المسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد للدكتور عبد الرحمن بن عبد الله التركي (ص 419) وما بعدها.

1 - لفظ الجلالة (الله)

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القول بها، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر أما قبل ثبوت الحجة عليه، فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية ولا بالفكر" (¬1). الكلام في أسماء الله تعالى فرع عن الكلام في صفاته؛ إذ كل اسم متضمن لصفة دال عليها. وقد عرض الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - لبعض أسماء الله الحسنى، وفيما يلي بيانها: 1 - لفظ الجلالة (الله): قال الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله -: " كل أسماء الله تعالى عدا لفظ الجلالة تتضمن وصف الله تعالى بما تضمنته الأسماء من الصفات، فكل أسماء الله تعالى صفات له ولا ينعكس" (¬2). ويقول الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - مبيناً سبب استثناء لفظ الجلالة في كلامه السابق ولماذا لا يتضمن اللإهية: "ولفظ الجلالة جامد، لأنه لو كان مشتقاً من الإلهة، لكان بمعنى (الإله) يطلق على الآلهة الباطلة، لكن لفظ الجلالة (الله) علم على ذاته سبحانه لا يشاركه فيه غيره" (¬3). قال الشيخ حافظ حكمي - رحمه الله -: " (الله) عَلمٌ على ذاته -تبارك وتعالى-، وكل الأسماء الحسنى تضاف إليه، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} الأعراف: 180، وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} طه: 8، ألا ترى أنك تقول الرحمن من أسماء الله تعالى، والرحيم من أسماء الله، ونحو ذلك؛ الله من أسمائه الرحمن، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة) (¬4)؛ واختلفوا في كونه مشتقاً ¬

(¬1) ذم التأويل لابن قدامة (ص 23)،واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (1/ 94). (¬2) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (1/ 160، 161). (¬3) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (1/ 161). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب إن لله مائة اسم إلا واحدة برقم (2585، 6957)، وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، برقم (2677).

أو لا، ذهب الخليل (¬1)، وسيبويه (¬2)، وجماعة من أئمة اللغة والشافعي (¬3)، والخطابي (¬4)، وإمام الحرمين (¬5)، ومن وافقهم إلى عدم اشتقاقه، لأن الألف واللام فيه لازمة، فتقول يا الله، ولا تقول يا الرحمن، فلولا أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام؛ وقال آخرون: إنه مشتق، واختلفوا في اشتقاقه إلى أقوال أقواها: أنه مشتق من أله يأله إلاهة، فأصل الاسم الإله فحذفت الهمزة وأدغمت اللام الأولى في الثانية وجوباً فقيل الله، ومن أقوى الأدلة عليه قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} الأنعام: 3، مع قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} الزخرف: 84، ومعناه: ذو الألوهية ¬

(¬1) هو الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم أبو عبد الرحمن الأزدي الفراهيدي، ولد سنة (100 هـ)، من مؤلفاته: كتاب العين، وكتاب العروض، وكتاب الشواهد، وكتاب النقط والشكل، توفي بالبصرة عام (175 هـ). ينظر: طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي (1/ 22)، وطبقات النحويين واللغويين لأبي بكر محمد بن الحسين الزبيدي الأندلسي (ص 47)، وسير أعلام النبلاء (7/ 429). (¬2) هو إمام النُّحاة أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر المشهور بسيبويه، ولد عام (147 هـ) على بعض الأقوال، ومات بشيراز في فارس سنة (180 هـ) على المشهور. ينظر: طبقات النحويين واللغويين (ص 66)، معجم الأدباء لياقوت الحموي (5/ 2122)، وسير أعلام النبلاء (8/ 351). (¬3) هو الإمام العلم أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان الشافعي القرشي المطلبي كان حافظاً للحديث بصيراً بعلله، عالماً بالفقه وأصوله، ذا معرفة بكلام العرب، واللغة والعربية والشعر، وكان أول من تكلم في أصول الفقه، توفي بمصر سنة (204 هـ)، وله عدة مصنفات منها: الأم في الفقه، والرسالة، واختلاف الحديث. ينظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (2/ 54)، وفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 21)، تذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 361)، شذرات الذهب (2/ 9). (¬4) هو العلامة الحافظ اللغوي أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي، الشافعي، من متقدمي الأشاعرة وفضلائهم، من مصنفاته: الغنية عن الكلام وأهله، غريب الحديث، معالم السنن. توفي سنة 388 هـ. ينظر: وفيات الأعيان (2/ 184)، سير أعلام النبلاء (17/ 23)، شذرات الذهب (3/ 127). (¬5) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي، أبو المعالي، المعروف بإمام الحرمين، من كبار الأشاعرة وأعلامهم، من مؤلفاته: الإرشاد في أصول الاعتقاد، الشامل في أصول الدين، لمع الأدلة، وغيرها. توفي سنة (468 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء (18/ 468)، شذرات الذهب (3/ 358).

2 - اسم القديم

التي لا تنبغي إلا له ومعنى أله يأله إلهة عبد يعبد عبادة فالله المألوه أي المعبود ولهذا الاسم خصائص لا يحصيها إلا الله عز وجل وقيل: إنه هو الاسم الأعظم" (¬1). (الله) اسم للمُوجِد الحق، الجامع لصفات الألوهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المتفرد بالوجود الحقيقي، فإن كل موجود سواه غير مستحق للوجود بذاته، وهذا الاسم أعظم الأسماء التسعة والتسعين؛ لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلّها؛ ومعنى هذا الاسم فخاصٌّ خصوصاً لا يُتَصَوَّر فيه مشاركة لا بالمجاز ولا بالحقيقة، ولأجل هذا الخصوص، يوصف سائر الأسماءِ بأنه اسم الله، ويُعَرف بالإضافة إليه (¬2). قال الله تعالى في مُحكَم كتابه الكريم: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} مريم: 65، أي هل تعلم أحداً سمي (الله) غير الله - عز وجل - وقال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الحشر: 22، وقد ورد في القرآن الكريم في (2697) موضعاً (¬3). 2 - اسم القديم: أنكر الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - تسمية الله تعالى باسم القديم حيث قال: " أسماء الله وصفاته توقيفية، ولم يرد في كتاب الله - ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تسمية الله بالقديم، ولا إضافة القدم إليه، أو إلى صفة من صفاته سبحانه؛ فيجب أن لا يسمى - بذلك، ولا يضاف إليه، وخاصة أن القدم يطلق على ما يذم؛ كالبلى، وطول الزمن، وامتداده في الماضي، وإن كان لمن اتصف به ابتداء في الوجود" (¬4). ¬

(¬1) معارج القبول (1/ 66 - 67)، ينظر: الصفدية (1/ 229). (¬2) ينظر: المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى لأبو حامد الغزالي (ص 61). (¬3) ينظر: اختصار النكت للماوردي تفسير للعز بن عبد السلام ولله الأسماء الحسنى (1/ 88)، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 102)، تفسير ابن كثير (1/ 21)، والبرهان في علوم القرآن د. يوسف المرعشلي (ص 8). (¬4) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 384 - 385)، (1/ 26).

وقال - رحمه الله -: " (القديم) قد تكون صفة مدح، وقد تكون صفة ذم، وفي القرآن الكريم {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)} يس: 39، والقديم: ليس من صفات الله، بل هو من صفات سلطانه؛ لأن سلطانه يتجدد وهو قديم (¬1) " (¬2). وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم) (¬3). وفيه وصف سلطان الله - عز وجل - بالقِدَم. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "والناس متنازعون؛ هل يسمى الله بما صح معناه في اللغة والعقل والشرع، وإن لم يرد بإطلاقه نصٌ ولا إجماع، أم لا يطلق إلا ما أطلق نص أو إجماع؟ على قولين مشهورين، وعامة النظار يطلقون ما لا نص في إطلاقه ولا إجماع؛ كلفظ (القديم) و (والذات) ... ونحو ذلك، ومن الناس من يفصل بين الأسماء التي يدعى بها، وبين ما يخبر به عند الحاجة؛ فهو سبحانه إنما يدعى بالأسماء الحسنى؛ كما قال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} الأعراف: 180، وأما إذا احتاج إلى الإخبار عنه، مثل أن يقال: ليس هو بقديم، ولا موجود، ولا ذات قائمة بنفسها ... ونحو ذلك؛ فقيل في تحقيق الإثبات: بل هو سبحانه قديم، موجود، وهو ذات قائمة بنفسها، وقيل: ليس بشيء، فقيل: بل هو شيء؛ فهذا سائغ ...) (¬4). قال ابن القيم - رحمه الله - " ... ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيَّاً؛ كالقديم، والشيء، والموجود، والقائم بنفسه" (¬5). ¬

(¬1) أي سلطانه. (¬2) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (1/ 160). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب ما جاء في الصلاة عند دخول المسجد برقم (466)، وقال النووي في "الأذكار" (ص 86): "حديث حسن، رواه أبو داود بإسناد جيد" اهـ. وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود/441). (¬4) مجموع الفتاوى (9/ 300، 301). (¬5) بدائع الفوائد لابن القيم (1/ 162).

*الاشتراك في الأسماء

وقد عَدَّه السفاريني (¬1) صفة لله تعالى، بل اسماً له (¬2)، وعلق عليه الشيخ عبد الله بابطين (¬3) بقوله: "قوله: (إن القديم اسم من أسمائه تعالى): فيه نظر - إلى أن قال - ولا يصح إطلاق القديم على الله باعتبار أنه من أسمائه، وإن كان يصح الإخبار به عنه؛ كما قلنا: إن باب الإخبار أوسع من باب الإنشاء، والله أعلم" (¬4). - الاشتراك في الأسماء: بين الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - بأن: " كثيراً من الأسماء مشتركة بين الله تعالى وبين غيره من مخلوقاته في اللفظ والمعنى الكلي الذهني، فتطلق على الله بمعنى يخصه ويليق بجلاله سبحانه، وتطلق على المخلوق بمعنى يخصه ويليق به، فقال مثلاً: الله حليم، وإبراهيم الخليل † حليم، وليس حلم إبراهيم كحلم الله، والله رؤوف رحيم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - رؤوف رحيم، وليست رأفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ورحمته كرأفة الله بخلقه ورحمته ... إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه، ولا يلزم من ذلك تشبيه المخلوق بالخالق في الاسم أو الصفة. وأسلوب الكلام وما احتف به من القرائن يدل على الفرق بين ¬

(¬1) هو محمد بن أحمد بن سليمان السفاريني النابلسي، شمس الدين، سلفي حنبلي، من مؤلفاته: الدرة المضيئة في عقيدة الفرقة المرضية وشرحها، لوامع الأنوار البهية وسواطع الأثرية، والذخائر لشرح منظومة الكبائر، توفي سنة 1188 هـ. ينظر: سلك الدرر للمرادي (4/ 31)، الأعلام للزركلي (6/ 14). (¬2) قال - رحمه الله -: " (القديم) نعت لله، وهو اسم من أسمائه ... وإن جرى مجرى الأعلام، فهو وصف يراد به الثناء، فأسماؤه - تعالى - أسماء ونعوت. والقديم هو الذي لم يسبق وجوده عدم، فإنه - سبحانه وتعالى - متصف بالقدم ... فقدمه - تعالى - ذاتي واجب له - تعالى، غير مسبوق بعدم، إذ هو - تعالى - لا ابتداء لوجوده. واعلم أن القدم إما ذاتي كقدم الواجب، وإما زماني كقدم زمان الهجرة بالنسبة لليوم، ومنه {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)}، ومنه القدم الإضافي كقدم الأب بالنسبة للابن. (فائدة): القديم أخص من الأزلي; لأن القديم موجود لا ابتداء لوجوده، والأزلي ما لا ابتداء له وجودياً كان أو عدمياً، فكل قديم أزلي ولا عكس". لوامع الأنوار (1/ 38). (¬3) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن أبو بطين، من أعلام الدعوة السلفية في نجد، وأحد الفقهاء الحنابلة المتأخرين، من مؤلفاته: الانتصار لحزب الموحدين، وتأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس، وتعليقات على لوامع الأنوار للسفاريني، توفي سنة 1282 هـ. ينظر: علماء الدعوة (ص 79)، الأعلام (4/ 97). (¬4) كلام الشيخ في تعليقه على لوامع الأنوار (1/ 38).

ما لله من الكمال في أسمائه وصفاته وما للمخلوق مما يخصهم من ذلك على وجه محدود يليق بهم" (¬1). وقال كذلك - رحمه الله -: "يجب أن تُنَزَّه أسماؤُه التي سمى بها نفسه أو سماه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن جحدها أو تحريفها عن مواضعها، وعن تعطيلها عما تضمنته من صفات الجلال والكمال، وعن تسميته بما لم يثبت عنه ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن ذلك من الإلحاد فيها، وقد حذرنا الله من ذلك في قوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} الأعراف: 180 " (¬2). ولكن ضلت طوائف، فمنهم من ألحدت في أسماء الله وأنكرت معاني الكثير منها وادعت أنها مجاز، وأن الله لا يجوز أن يسمى بالأسماء التي يسمى بها المخلوق وهؤلاء هم الجهمية، أصحاب الجهم بن صفوان (¬3) الذي لم يثبت من الأسماء إلا التي لا يجوز أن يتسمى بها المخلوق كالخالق والمحيي والمميت (¬4). وهذا الرأي من الجهمية فاسد حيث إن تسمية الخلق ببعض أسامي الله عز وجل لا يقتضي أي تشبيه أو تمثيل، لأن معناها في حق الله - عز وجل - على ما يليق به، وفي حق خلقه على ما يليق بهم. ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 163 - 164). (¬2) تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي على تفسير الجلالين (ص 141). (¬3) الجهم بن صفوان أبو محرز الراسبي من موالي بني راسب من أهل خرسان، ينسب إلى سمرقند وترمذ، وهو رأس فرقة الجهمية، وإليه تنسب، وكان صاحب مجادلات ومخاصمات. قال الذهبي عنه: " الضال المبتدع، رأس الجهمية، من أشهر بدعه نفي الصفات، وقوله بإرجاء (الإيمان هو المعرفة فقط)، وبالجبر، وبفناء الجنة والنار؛ هلك في 188 هـ ". ينظر ترجمته في: السير (6/ 26 - 27)، ميزان الاعتدال (1/ 426)، لسان الميزان (2/ 142)، تاريخ الإسلام للذهبي (ص 121 - 149). (¬4) ينظر: الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي (ص 212)، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.

وقد رد عليهم الإمام ابن خزيمة (¬1): فقال: " وليس في تسميتنا بعض الخلق ببعض أسامي الله بموجب عند العقلاء الذين يعقلون عن الله خطابه أن يقال: إنكم شبهتم الله بخلقه، إذ أوقعتم بعض أسامي الله على خلقه، وهل يمكن عند هؤلاء الجهال حل هذه الأسامي من المصحف أو محوها من صدور أهل القرآن؟ أو ترك تلاوتها في المحاريب وفي الخدور والبيوت؟ أليس قد أعلمنا منزل القرآن على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه الملك؟ وسمى بعض عبيده ملكاً، وخبرنا أنه السلام وسمى تحية المؤمنين بينهم سلاماً في الدنيا وفي الجنة، فقال: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)} الأحزاب: 44،ونبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قد كان يقول حين فراغه من تسليم الصلاة: (اللهم أنت السلام ومنك السلام) (¬2)، وقال - عز وجل -: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} النساء: 94. فثبت بخبر الله: أن الله هو السلام، كما قال: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} الحشر: 23. وأوقع هذا الاسم على غير الخالق البارئ، وأعلمنا - عز وجل - أنه المؤمن، وسمى بعض عباده" المؤمنين" فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الأنفال: 2 ... " (¬3). وما قرره الشيخ عبد الرزاق: في هذا الباب هو ما عليه أهل السنة والجماعة، فقد حكى ابن تيمية اتفاق السلف الصالح على ذم التشبيه بنوعيه (¬4) فقال: فلا ريب أن أهل السنة والجماعة والحديث وغيرهم متفقون على تنزيه الله تعالى عن مماثلة الخلق، وعلى ذم ¬

(¬1) هو محمد بن إسحاق بن إسحاق، أبو بكر، السلمي النيسابوري الشافعي، المشهور بابن خزيمة من أئمة السلف وعلمائهم، من مؤلفاته: التوحيد، والصحيح وغيرهما، توفي سنه 311 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (14/ 365)، شذرات الذهب (2/ 262). (¬2) جزء من حديث أخرجه مسلم في كتاب المساجد باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم (591). (¬3) كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب لابن خزيمة (1/ 65 - 66)، تحقيق د. عبد العزيز الشهوان. (¬4) النوع الأول: تشبيه جميع صفات الله التي هي من خصائصه بصفات المخلوقين والعكس. النوع الثاني: تشبيه في القدر المشترك بين مسميات صفات الخالق والمخلوق. ينظر: منهاج السنة (2/ 526)، تلبيس إبليس (ص 86، 87)، الفرق بين الفرق (ص 214).

المشبهة الذين يشبهون صفاته بصفات خلقه، ومتفقون على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، لكن نفاة الصفات ربما أطلقوا على من أثبت ما في الكتاب والسنة من الصفات على ما يليق بجلال الله وعظمته مشبهة، وبسبب ذلك حصل إجمال واشتراك كان من مظاهره أن اختلط الحق والباطل، حق المثبتة من السلف بباطل المشبهة (¬1). ¬

(¬1) ينظر: منهاج السنة النبوية (2/ 523).

المطلب الثالث: صفات الله

المطلب الثالث صفات الله عز وجل. بين الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله -: " أن صفات الله تعالى قائمة بالذات ملازمة لها، وليست هناك ذات مجردة عن الصفات، والمعتزلة هم الذين يقولون الذات قائمة مجردة عن الصفات، فصفات الله تعالى ليست هي الذات، وليست هي غير الذات" (¬1). وذكر الشيخ - رحمه الله - في مذكرة التوحيد نقلاً عن ابن القيم: طريقين لإثبات الصفات، فقال: "وقد ذكر ابن القيم في: "مدارج السالكين" (¬2) طريقين لإثبات الصفات: 1 - الوحي الذي جاء من عند الله - تعالى - على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 2 - الحس الذي شاهد به البصير آثار الصنعة. قال ابن القيم: في بيان الطريق الأول:- فأما الرسالة فإنها جاءت بإثبات الصفات إثباتاً مفصلاً على وجه أزال الشبه، وكشف الغطاء، وحصل العلم اليقين، ورفع الشكّ المريب، فثلجت له الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر به الإيمان في نصابه. ففصلت الرسالة الصفات، والنعوت، والأفعال، أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقرّرت إثباتها أكمل تقرير. فما أبلغ لفظه وأبعده من الإجمال، والاحتمال، وأمنعه من قبول التأويل، ولذلك كان التأويل لآيات الصفات، وأحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات المعاد، وأخباره. بل أبعد منه. بل تأويل آيات الصفات بما يخرجها عن حقائقها، كتأويل آيات الأمر والنهي سواء، فالباب كله باب واحد، ومصدره واحد، ومقصده واحد، وهو إثبات حقيقتها، والإيمان بها. الطريق الثاني: من طرق إثبات الصفات دلالة الصفة عليها، فإن المخلوق يدل على وجود خالقه، وعلى حياته، وعلى قدرته، وعلى علمه، ومشيئته. فإن الفعل الاختياري يستلزم ذلك استلزاماً ضرورياً. فما فيه من الإتقان، والإحكام، ووقوعه على أكمل الوجوه يدل على حكمة فاعله وعنايته، وما فيه من الإحسان، والنفع، ووصول المنافع العظيمة إلى المخلوق ¬

(¬1) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (1/ 161). (¬2) (3/ 352).

يدل على رحمة خالقه، وإحسانه، وجوده، وما فيه من آثار الكمال يدل على أن خالقه أكمل منه، فمعطي الكمال أحق بالكمال. وخالق الأسماع والأبصار والنطق أحق أن يكون سميعاً بصيراً متكلماً. وخالق الحياة والعلوم والقدر والإرادات، أحق بأن يكون هو كذلك في نفسه، فما في المخلوقات من أنواع التخصيصات هو من أدل شيء على إرادة الرب -سبحانه- ومشيئته، وحكمته التي اقتضت التخصيص، وحصول الإجابة عقيب سؤال الطالب على الوجه المطلوب دليل على علم الرب تعالى بالجزئيات، وعلى سمعه لسؤال عبده، وعلى قدرته على قضاء حوائجهم، وعلى رأفته ورحمته بهم، والإحسان إلى المطيعين، والتقرب إليهم، والإكرام لهم، وإعلاء درجاتهم يدل على محبته ورضاه. وعقوبته للعصاة، والظلمة، وأعداء رسله بأنواع العقوبات المشهورة تدل على صفة الغضب والسخط والإبعاد، والطرد، والإقصاء يدل على المقت، والبغض. فهذه الدلالات من جنس واحد عند التأمل، ولهذا دعا -سبحانه- عباده إلى الاستدلال بذلك على صفاته. فهو يثبت العلم بربوبيته، ووحدانيته، وصفات كماله بآثار صنعته المشهودة، والقرآن مملوء بذلك، فيظهر شاهد اسم الخالق من المخلوق نفسه، وشاهد اسم الرازق من وجود الرزق ... " (¬1) وغير ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وهو سبحانه ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة، كذلك له صفات حقيقة وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإن الله منَزَّهٌ عنه حقيقة، فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه" (¬2). ¬

(¬1) ينظر: مذكرة التوحيد (ص 32 - 39). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 26).

*الاشتراك في الصفات

الاشتراك في الصفات: قال الشيخ - رحمه الله -: " الاشتراك إنما هو في المفهوم الكلي فلا يلزم المحال (¬1)، وبالجملة؛ فهذا مبني على توهم أن المشاركة بين الخالق والمخلوق في المفهوم الكلي ... تستلزم المشاركة في الخارج والمشابهة التي نزه الله نفسه عنها بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11، وليس كذلك؛ إذ الكلي لا وجود له إلا في الذهن ... ويتضح ذلك باللون فإن معناه الكلي لا وجود له إلا في الذهن ويشترك فيه أفراده الموجودة في الخارج كسواد الفحم وبياض القطن ... إلخ. ولم يلزم من اشتراكها في معناه الكلي تشابهها في الخارج ولا مداخلة كل الآخر في خواصه، بل ما زالت متضادة متميزاً كل منها عن الآخر بخواصه، وإذا لم يلزم ذلك في الألوان وهي مخلوقة فأولى أن لا يلزم ذلك بين الله وعباده" (¬2). وبين كذلك: أن الاشتراك إنما هو في اللفظ لا في الحقيقة، فقال: " الصفات المشتركة بين الله وخلقه كالسمع والبصر والعزيز والقدير فلا بأس بذلك مع الإيمان بأن صفة الله جل وعلا لا تشابه صفات المخلوقين في الحقيقة والمعنى (¬3) وإن اشتركا في اللفظ، وأصل المعنى في الذهن، وقد أجمع أهل السنة والجماعة وهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم بإحسان ¬

(¬1) رداً على من قال إن الاشتراك في الصفات محال، ينظر: الإحكام في أصول الأحكام (1/ 39). (¬2) تعليق الشيخ على الإحكام (1/ 39). (¬3) الاشتراك يكون أيضاً في المعنى الكلي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: فالقدر المشترك لا يختص بأحدهما دون الآخر، لكن ما يختص به كل واحد ويتميز به لم يقع فيه اشتراك، وحينئذ لا محذور من الاشتراك في هذا المعنى الكلي، وإنما المحذور أن يجعل أحدهما مشاركاً للآخر فيما يختص به؛ وقال الشيخ عبد الله الغنيمان حفظه الله: الكمال المطلق لله جل وعلا لا يشاركه المخلوق في صفاته، وإن حصل الاشتراك في المسمى، بل وقد يكون في المعنى، ولابد أن يكون الاشتراك في الاسم والمعنى، ولكن إذا أضيف هذا الفعل أو هذه الصفة زال الاشتراك نهائياً، فيصبح ما يخص المخلوق لا يشاركه الرب جل وعلا فيه، وما يخص الرب جل وعلا لا يشاركه المخلوق فيه، ولولا هذا الاشتراك في الاسم والمعنى لم يفهم الخطاب، وهذا شيء لابد منه غير أنه عند الإضافة والتخصيص يزول الاشتراك نهائياً. ينظر: التدمرية (1/ 126)، تقريب التدمرية لمحمد بن صالح العثيمين (1/ 70 - 72).

على أن القول في الصفات كالقول في الذات، فكما أن ذات الله سبحانه حق لا تشبه الذوات فهكذا صفاته ثابتة له على الوجه اللائق به ولا تشبه صفات المخلوقين" (¬1). وما قرره الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - من كون الاشتراك في نصوص الصفات في الألفاظ دون الحقائق والكيفيات، هو ما عليه أهل السنة والجماعة، يقول ابن تيمية - رحمه الله -: إن الاشتراك في الأسماء والصفات لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات، ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه وتعالى، ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعاً (¬2). الأدلة من السمع والعقل والحس: دل على ما سبق السمع، والعقل، والحس: أما السمع: فقد قال الله عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} النساء: 58. وقال عن الإنسان: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} الإنسان: 2. ونفي أن يكون السميع كالسميع والبصير كالبصير فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11. وأثبت لنفسه علماً وللإنسان علماً، فقال عن نفسه: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} البقرة: 235، وقال عن الإنسان: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} الممتحنة: 10. وليس علم الإنسان كعلم الله تعالى، فقد قال الله عن علمه: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)} طه: 98. وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)} آل عمران: 5. وقال عن علم الإنسان: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} الإسراء: 85. ¬

(¬1) ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 183). (¬2) ينظر: التدمرية (ص 125) وما بعدها.

وأما العقل: فمن المعلوم بالعقل أن المعاني والأوصاف تتقيد وتتميز بحسب ما تضاف إليه، فكما أن الأشياء مختلفة في ذواتها فإنها كذلك مختلفة في صفاتها وفي المعاني المضافة إليها، فإن صفة كل موصوف تناسبه لا يفهم منها ما يقصر عن موصوفها أو يتجاوزه، ولهذا نصف الإنسان باللين، والحديد المنصهر باللين، ونعلم أن اللين متفاوت المعنى بحسب ما أضيف إليه. وأما الحس: فإننا نشاهد للفيل جسماً وقدماً وقوة، وللبعوضة جسماً وقدماً وقوة، ونعلم الفرق بين جسميهما، وقدميهما، وقوتيهما. فإذا علم أن الاشتراك في الاسم والصفة في المخلوقات لا يستلزم التماثل في الحقيقة مع كون كل منها مخلوقاً ممكناً، فانتفاء التلازم في ذلك بين الخالق والمخلوق أولى وأجلى، بل التماثل في ذلك بين الخالق والمخلوق ممتنع غاية الامتناع؛ والاشتراك في أصل المعنى لا يستلزم المماثلة في الحقيقة (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2) - رحمه الله -: لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التشبيه وذلك لوجهين: الأول: أنه إن أريد بالنفي نفي التشابه المطلق - أي نفي التساوي من كل وجه بين الخالق والمخلوق - فإن هذا لغو من القول إذ لم يقل أحد بتساوي الخالق والمخلوق من كل وجه، فإنه مما يعلم بضرورة العقل وبداهة الحس انتفاؤه، لأنه يستلزم التعطيل المحض. فإذا نفي عن الله تعالى صفة الوجود "مثلاً" بحجة أن للمخلوق صفة وجود فإثباتها للخالق يستلزم التشبيه على هذا التقدير، لزم على نفيه أن يكون الخالق معدوماً، ثم يلزمه على هذا اللازم الفاسد أن يقع في تشبيه آخر وهو تشبيه الخالق بالمعدوم لاشتراكهما في صفة العدم فيلزمه على "قاعدته" تشبيه بالمعدوم، فإن نفى عنه الوجود والعدم وقع في تشبيه ¬

(¬1) ينظر: الصدفية لابن تيمية (1/ 101)، التدمرية لابن تيمية (ص 116) وما بعدها، تقريب التدمرية لمحمد بن صالح العثيمين (1/ 13 - 15). (¬2) ينظر: التدمرية لابن تيمية (ص 124 - 125)، تقريب التدمرية لمحمد بن صالح العثيمين (1/ 70 - 72).

ثالث أشد وهو تشبيه بالممتنعات؛ لأن الوجود والعدم نقيضان يمتنع انتفاؤهما كما يمتنع اجتماعهما. الثاني: أن يريد بالنفي مطلق التشابه - أي نفي التشابه من بعض الوجوه - فهذا النفي لا يصح إذ ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يشتركان فيه، وقدر مختص يتميز به كل واحد عن الآخر، فيشتبهان من وجه، ويفترقان من وجه. فالحياة "مثلاً" وصف مشترك بين الخالق والمخلوق، قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} الفرقان: 58. وقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} الروم: 19. لكن حياة الخالق تختص به فهي حياة كاملة من جميع الوجوه لم تسبق بعدم ولا يلحقها فناء، بخلاف حياة المخلوق فإنها حياة ناقصة مسبوقة بعدم متلوة بفناء قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} الرحمن: 26 - 27، فالقدر المشترك "وهو مطلق الحياة" كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، لكن ما يختص به كل واحد ويتميز به لم يقع فيه اشتراك، وحينئذ لا محذور من الاشتراك في هذا المعنى الكلي، وإنما المحذور أن يجعل أحدهما مشاركاً للآخر فيما يختص به.

أنواع الصفات التي تكلم عنها الشيخ من حيث تعلقها بذات الله وأفعاله:- قسم العلماء صفات الله تعالى إلى قسمين: 1 - صفات ذاتية. 2 - صفات فعلية. قال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -: "لم يزل، ولا يزال بأسمائه، وصفاته الذاتية والفعلية" (¬1). فأما الصفات الذاتية فهي التي لا تنفك عن الله سبحانه، كالعلم، والحياة والقدرة، والسمع، والبصر، ... إلخ، وأما صفات الفعل فهي ما تعلق بمشيئة الله وقدرته، كالنزول، والاستواء، والمجيء، ونحو ذلك (¬2). وقد تكون الصفة ذاتية وفعلية باعتبارين، كصفة الكلام، فإنه باعتبار أصله صفة ذاتيه؛ لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلماً، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية لأن الكلام يتعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء، كما شاء، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} يس: 82 (¬3). وهذا التقسيم أصل متفق عليه بين السلف، كما دلت نصوص الكتاب والسنة، وقد بين ذلك الشيخ ابن سعدي:، فقال: "ومن الأصول المتفق عليها بين السلف، التي دلت عليها النصوص، أنّ صفات الباري قسمان: صفات ذاتية لا تنفك عنها الذات، كصفة الحياة، والعلم، والقدرة، ... ، وصفات فعلية تتعلق بها أفعاله في كل وقت وآن وزمان، ولها آثارها في الخلق والأمر ... " (¬4). ¬

(¬1) كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة، مع شرحه لملا علي قاري الحنفي (ص 25). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى (6/ 217) وما بعدها، الإيمان لمحمد نعيم ياسين (ص 34). (¬3) ينظر: القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لابن عثيمين (ص 25). (¬4) ابن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة للعباد (ص 126)، نقلاً عن الحق الواضح المبين لابن سعدي، باختصار، وينظر عن هذا التقسيم: الأسماء والصفات للبيهقي (1/ 188 - 189)، شرح العقيدة الطحاوية (1/ 96)، الكواشف الحلية عن معاني الواسطية للسلمان (ص 429)، القواعد المثلى لابن عثيمين (ص 25).

القسم الأول: صفات الله الذاتية

القسم الأول: - صفات الله الذاتية: وهي التي لا تنفك عنه سبحانه ولم يزل متصفاً بها؛ كالعلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والوجه، واليدين ... ونحو ذلك (¬1). ومن الصفات التي تناولها الشيخ - رحمه الله - في كتاباته: 1 - صفة العلو لله - عز وجل -: مادة "العين، واللام، والحرف المعتل، ياءً كان أو واواً أو ألفاً ... تدل على السمو والارتفاع" (¬2) والعلو يطلق في اللغة على معان هي: علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر (¬3). وقرر الشيخ - رحمه الله - أن الله عليٌ على خلقه مطلقاً ذاتاً وقدراً وقهراً ويذكر أن الأدلة على ذلك من الكتاب والأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - وأئمة السلف رحمهم الله (¬4). وقد أجمع أهل القبلة على إثبات علو القهر وعلو القدر لله تعالى، واختلفوا في علو الذات (¬5). ¬

(¬1) ينظر: الصفات الإلهية تعريفها، أقسامها لمحمد بن خليفة بن علي التميمي (ص 65). (¬2) معجم مقاييس اللغة (ص 690). (¬3) علو الذات: أي أنه قائم بذاته فوق جميع مخلوقاته، مستوٍ على عرشه بائنٌ من خلقه، ومع ذلك يعلم أعمالهم وأحوالهم لا يخفى عليه خافية. علو القدر: أي أن صفاته كلها صفات كمال، وأنه منزه عن جميع النقائص المنافية لإلوهيته وربوبيته. علو القهر: أن جميع المخلوقات خاضعة لعظمته وتحت سلطانه وقهره، فلا مغالب ولا منازع له. ينظر: مختصر الصواعق المرسلة (1/ 169)، تهذيب اللغة (3/ 2536)، معجم مقاييس اللغة (ص 690)، لسان العرب (15/ 83)، القاموس المحيط (ص 1694). (¬4) ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 201 - 202)، وتفسير الجلالين (ص 154 - 155). (¬5) ينظر: مختصر الصواعق المرسلة (1/ 275).

والصواب الذي عليه سلف الأمة وأئمتها إثبات علو الذات لله تعالى (¬1)، وهو قول عامة الصفاتية (¬2) الأوائل (¬3). والقول بذلك هو مقتضى دلالة السمع، والإجماع، والفطرة، والعقل. فأما دلالة السمع والإجماع: فقد تواترت نصوص الكتاب والسنة تواتراً لفظياً ومعنوياً على إثبات العلو الذاتي لله تعالى، حتى ذكر بعض أهل العلم أن أدلة ذلك تزيد على ألف دليل (¬4). ومن الأدلة التي استدل بها الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - قوله تعالى {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} غافر: 2، فقال: " فيه دليل على علو الله على خلقه بذاته حقيقة، ¬

(¬1) ينظر: العرش لابن أبي شيبة (ص 276)، إثبات صفة العلو لابن قدامة (ص 41)، العرشية لشيخ الإسلام ضمن الفتاوى (6/ 545)، اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (ص 95)، العلو للذهبي (2/ 863)، الكلام على مسألة الاستواء على العرش لابن عبد الهادي (ص 25)، إثبات علو الله للتويجري (ص 10)، علو الله على خلقه للدويش (ص 141). (¬2) الصفاتية: وصف يوصف به أهل السنة والجماعة وكذلك الأشاعرة نسبة إلى الصفات فأهل السنة والجماعة لأنهم أثبتوا جميع الصفات والأشاعرة أثبتوا بعضها. ينظر: معجم ألفاظ العقيدة لعامر عبد الله فالح (ص 257) قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والكلابية من مثبتة الصفات ". ينظر: مجموع الفتاوى (5/ 536). وشيخ الإسلام يطلق وصف "مثبتة الصفات" ووصف "الصفاتية" على الكلابية وعلى الأشعرية مثلا ويطلق وصف "النفاة" على الجهمية والمعتزلة. وقال أيضاً: "أكثر الجهمية والمعتزلة ينفون الأحوال والصفات وأما جماهير أهل السنة فيثبتون الصفات دون الأحوال وهذا لبسطه موضع آخر". ينظر: مجموع الفتاوى (5/ 339). وقال أيضاً: "أهل الحديث الذين يقرونه على ظاهره فكل من كان عنه أبعد كان أعظم ذما بذلك، كالقرامطة، ثم الفلاسفة، ثم المعتزلة وهم يذمون بذلك المتكلمة الصفاتية من الكلابية والكرامية والأشعرية والفقهاء والصوفية وغيرهم". ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 88). فانظر الترتيب في البعد عن الحق وفي الذم وانظر كيف وصف شيخ الإسلام الأشاعرة بأنهم صفاتية. (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (2/ 297)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 127) (2/ 14). (¬4) ينظر: مجموع الفتاوى (5/ 121)، الصواعق المرسلة لابن القيم (4/ 1279)، اجتماع الجيوش (ص 331).

لأن التنزيل إنما يكون من أعلى إلى أسفل، والأصل الحقيقة حتى يثبت دليل من السمع أو العقل يصرف النص عن ذلك، ولا دليل منهما أو من أحدهما" (¬1). واستدل الشيخ - رحمه الله - كذلك بقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} الملك: 16، فقال: "والصواب أن السماء بمعنى العلو، والمعنى: أأمنتم الله الذي في العلو؛ أو في معنى على، والتقدير: أأمنتم الله الذي على السماء، ولا يجوز في معنى هذا النص إلا هذان الوجهان" (¬2). وقد ذكر الشيخ عبد الرزاق: ما ذكره العلامة ابن القيم (¬3): من أنواع الأدلة النقلية الدالة على علو الله فعد منها أكثر من عشرة أنواع وأتبعها بالدليل وبين أنها كثيرة متنوعة، فذكر منها: " التصريح -بصفة العلو-، والفوقية بمن وبدونها، والعروج إليه، والصعود إليه، ورفع بعض المخلوقات إليه، والعلو المطلق، وتنزيل الكتاب منه، واختصاص بعض المخلوقات بكونها عنده، وأنه في السماء، وأنه مستوٍ على العرش، ورفع الأيدي إليه، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، والإشارة إليه حساً" (¬4). وقد ذكر هذه الأدلة جمع من أهل السنة والجماعة واستدلوا بها على إثبات صفة العلو (¬5). وبين - رحمه الله -: " أن من رام أن يتأولها فقد رام باطلاً، ومن سلك طريق التأويل لهذه النصوص فتح على نفسه باب شر لا يمكنه إغلاقه، ومع هذا فقد تأول كثير من المتأخرين (¬6) الفوقية في قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} الأنعام: 18، بأنه تعالى ¬

(¬1) ينظر: تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (7، 9، 21، 40، 59، 67، 145، 189، 210، 211، 239، 297). (¬2) ينظر: تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (197)، ومجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 6). (¬3) ينظر: مختصر الصواعق (2/ 205)، النونية مع شرحها لهراس (1/ 184 - 251). (¬4) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (6 - 7). (¬5) ينظر: مختصر الصواعق (2/ 205)، النونية مع شرحها لهراس (1/ 184 - 251).وشرح الطحاوية (2/ 380 - 386). (¬6) ينظر: شرح العقيدة الطحاوية (2/ 442) وما بعدها.

خير من عباده، وأنه خير من العرش وأفضل منه، وهو كما ترى تأويل بعيد تنفر منه العقول الرشيدة وتأباه الفطر السليمة، فإنه لا تمجيد لله في ذلك ولا تعظيم له، بل هو تأويل سمج مرذول، فإنه يشبه قول القائل الجبل أثقل من الحصى، ورسول الله أفضل من اليهود، والجواهر فوق قشر البصل أو قشر السمك، ونحو ذلك مما التفاوت فيه عظيم، ولا شك أن التفاوت بين الله وبين عباده أعظم، ولو أن المتأول أثبت الفوقية مطلقاً، فوقية الذات، وفوقية القهر والغلبة، وفوقية القدر والمنزلة لكان ذلك صواباً، لاتفاقه مع نصوص الكتاب والسنة مع عدم المحذور" (¬1). ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله - هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء ... وأنه فوق السماء ... ثم عن السلف في ذلك من الأقوال، ما لو جمع لبلغ مئين وألوفاً، ثم ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولاعن أحد من سلف الأمة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحد يخالف ذلك، لا نصاً ولا ظاهراً" (¬2). دليل الفطرة: قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: "وقد شهدت العقول السليمة، والفطر المستقيمة على علو الله على خلقه، وكونهِ فوق عباده، كما صرحت بذلك نصوص الكتاب والسنة المتنوعة المحكمة" (¬3). ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 7). (¬2) الحموية (216 - 232). (¬3) ينظر: مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 6).

ويبين الشيخ - رحمه الله -: " أن الفطر السليمة قد شهدت بذلك أيضاً، فإن الخلق جميعاً يرفعون أكفهم إلى السماء عند الدعاء بمقتضى فطرهم وبدافع قوي من طباعهم التي لم يدخلها إلحاد، ولم ينحرف بها عن جادة الحق تمويه ولا تلبيس، ويقصدون جهة العلو بقلوب كلها خشوع وضراعة إلى الله راجين أن يتقبل أعمالهم، ويستجيب دعاءهم، ويسبغ عليهم نعمه، ويعمهم بفضله وإحسانه" (¬1). "وقد ذكر محمد بن طاهر المقدسي (¬2) أن الشيخ أبا جعفر الهمداني (¬3) حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني (¬4) المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان، فقال الشيخ أبو جعفر الهمداني: أخبِرنا يا أُسْتَاذُ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف نرفع الضرورة عن أنفسنا، قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال: وبكى! وقال: حيرني الهمداني حيرني، وكأن الشيخ أبا جعفر أراد أن هذا أمر فطري، فطر الله عليه عباده من ¬

(¬1) ينظر: مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 8). (¬2) هو: محمد بن طاهر بن علي بن أحمد المقدسي الشيباني، أبو الفضل: رحالة مؤرخ، من حفاظ الحديث. مولده ببيت المقدس سنة (448 هـ) ووفاته ببغداد سنة (507 هـ). له كتب كثيرة منها: تاريخ أهل الشام ومعرفة الأئمة منهم والأعلام -مجلدان-، ومعجم البلاد -جزآن-، وتذكرة الموضوعات، والأنساب المتفقة في الخط المتماثلة في النقط والضبط، وأطراف الكتب الستة، وغيرها. ينظر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان للخلكان (1/ 486)، ميزان الاعتدال (3/ 75)، لسان الميزان (5/ 207)، الأعلام (6/ 171). (¬3) هو: أبو جعفر محمد بن أبي علي الحسن بن محمد بن عبد الله الهمذاني، ولد بعد الأربعين وأربع مئة، كان من أئمة أهل الأثر، ومن كبراء الصوفية، توفي سنة (531 هـ). ينظر: السير (20/ 101)، طبقات السبكي (5/ 190). (¬4) هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي، أبو المعالي، المعروف بإمام الحرمين، من كبار الأشاعرة وأعلامهم، من مؤلفاته: الإرشاد في أصول الاعتقاد، الشامل في أصول الدين، لمع الأدلة، وغيرها. توفي سنة (468 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء (18/ 468)، شذرات الذهب (3/ 358).

غير أن يتلقوه عن المرسلين، ويجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يدفعهم للتوجه إلى الله وطلبه في العلو" (¬1). وبنو آدم كلهم مفطورون على الإقرار بعلو الله الذاتي، ولا يستطيع أحد منهم أن ينفك عن ذلك، فإن الخلق كلهم باختلاف طوائفهم وتعدد مذاهبهم - عدا من اجتالته الشياطين منهم - إذا نابهم شيء اتجهوا بقلوبهم وأيديهم إلى جهة العلو اضطراراً وليس اختياراً بحيث لا يستطيع أحد دفع ذلك (¬2). ويطرح الشيخ - رحمه الله - تساؤلاً ويجيب عليه فيقول: " فإن قيل إن رفع الأيد إلى السماء، وتوجه القلوب إلى جهة العلو إنما كان من أجل أن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة؟ لا لأن الله في السماء فوق عباده، ثم هو منقوض (¬3) بشرع السجود، ووضع الجبهة على الأرض مع أن الله ليس في جهة الأرض، أجيب (¬4): أولاً بمنع أن تكون السماء قبلة الدعاء، فإن كون الشيء قبلة لا يعرف إلا من طريق الشرع ولم يثبت في جعل السماء قبلة للدعاء كتاب ولا سنة، ولا قال به أحد من سلف الأمة وهم لا يخفى عليهم مثل هذه الأمر. ثانياً ثبت أن الكعبة قبلة الدعاء كما أنها قبلة الصلاة، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستقبل الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة (¬5)، فمن ادعى أن للدعاء قبلة سوى الكعبة أو ادعى أن السماء قبلته كما أن الكعبة قبلة فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين. ¬

(¬1) شرح العقيدة الطحاوية (2/ 445 - 446). (¬2) ينظر: الرد على الجهمية للدارمي (20 - 21)، التوحيد لابن خزيمة (1/ 254)، التمهيد لابن عبد البر (7/ 134 - 135)، درء التعارض (6/ 12)، مجموع الفتاوى (5/ 259 - 260)، اجتماع الجيوش الإسلامية (328 - 331). (¬3) أي أن الله ليس في جهة، والمراد نفي العلو. (¬4) ينظر: شرح العقيدة الطحاوية (2/ 447 - 448). (¬5) أخرج البخاري في كتاب المغازي، باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على قريش، برقم (3960)، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين برقم (1794)، من حديث ابن مسعود قال: استقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت، فدعا على ستة نفر من قريش، وفي الباب عن عمر عند مسلم برقم (1763).

ثالثاً أن القبلة ما يستقبله العابد بوجهه كما يستقبل الكعبة للصلاة والدعاء والذكر والذبح ودفن الميت ونحو ذلك مما يطلب فيه استقبال القبلة، ولذا سميت القبلة وجهة لاستقبالها الوجه، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجِه الداعي وجهه إليها لكنه لم يشرع بل نهي عنه، وإنما شرع رفع اليدين، ورفع اليدين إلى السماء حين الدعاء لا يسمى استقبالاً لها شرعاً ولا لغة، ولا حقيقة ولا مجازاً. رابعاً أن الأمر باستقبال القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كالأمر باستقبال بيت المقدس في الصلاة نسخ بالأمر باستقبال الكعبة (¬1)، ورفع الأيدي إلى السماء في الدعاء والتوجه بالقلب إلى جهة العلو أمر فطري مركوز في طبائع الناس لم يتغير في جاهلية ولا إسلام، يضطر إليه الداعي عند الشدة والكرب مسلماً كان أم كافراً. خامساً أن من استقبل الكعبة لا يقع في قلبه أن الله هناك جهة الكعبة، بخلاف الداعي فإنه يرفع يديه إلى ربه وخالقه وولي نعمته، يرجو أن تنزل عليه الرحمات من عنده. وأجيب عن نقضهم الاستدلال بالفطرة على أن الله فوق خلقه بما ذكروه من السجود ووضع الجبهة على الأرض بأنه باطل، فإن واضع الجبهة على الأرض في السجود أنما قصده الخضوع لله، وإعلان كمال ذل العبودية من الساجد لربه ومالك أمره، لا لأنه يعتقد أنه تحته فيهوي إليه ساجداً، فإن هذا لا يخطر للساجد ببال، بل تنزه ربه عن ذلك، ولهذا شرع له أن يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، تعالى الله عن الظنون الكاذبة علواً كبيرا" (¬2). ¬

(¬1) ينظر: حديث البراء عند البخاري كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعلى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}. برقم (40، 399، 4486، 4492، 7252)، وحديث ابن عمر عند البخاري كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} برقم (403، 4488، 4490، 4491، 4493، 4494، 7251)، ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، برقم (526). (¬2) ينظر: مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 8، 9).

وأما دلالة العقل: فيبين الشيخ - رحمه الله -: " أنها قد دلت الأدلة العقلية على ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، من أن الله بائن من خلقه وأنه فوق عباده بنفسه، وبيانه أن وجود الله إما أن يكون ذهنياً فقط، وإما أن يكون في خارج الأذهان، والأول ممنوع بإجماع، وإذا تعين أن يكون وجوده خارج الأذهان فإما أنه عين العالم أو صفة قائمة بالعالم، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من خلقه وكل من القول الأول والثاني ممنوع فتعين أن يكون الله موجوداً قائماً بنفسه بائناً من خلقه وإذ ثبت ذلك كان سبحانه فوق عباده، مستوياً على عرشه، لأن السفول صفة ذم لا تتضمن مدحاً ولا ثناءً فلا يليق بالله، والعلو صفة مدح وثناء وكمال لا نقص فيه ولا يستلزم نقصاً، ولا يوجب محذوراً، ولا يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً، بل النصوص وإجماع السلف تثبت ذلك وتقتضيه، فوجب اعتقاده، وإنكار التأويل وصرف النصوص عن ظواهرها، ولكونه عين الباطل الذي لا تأتي به الشريعة، ولا يراه عقل سليم" (¬1). ويطرح الشيخ - رحمه الله - تساؤلاً ويجيب عليه فيقول: "فإن قيل: إن أكثر العقلاء يتأولون نصوص الاستواء والعلو والفوقية بالاستيلاء والقهر والغلبة، وبعلو القدر والمنزلة، بالخيرية وكمال الفضل، فكان تأويلهم مقتضى العقل، إذ يبعد أن يُرمى جمهور العلماء بالجهل والسفاهة، وتحريف النصوص الصحيحة عن مواضعها، ولا يكون لهم وجه يعتمدون عليه فيما ذهبوا إليه؟ قيل: ليس الأمر كما قيل، فإن الذين يصرحون بأن خالق العالم شيء موجود خارج الأذهان لكنه ليس فوق العالم وأنه ليس مبايناً للعالم ولا داخلاً فيه طائفة من النظار، وأول من ابتدع ذلك في الإسلام الجعد بن درهم (¬2)، وتبعه في التحريف والتعطيل الجهم بن ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 7، 8). (¬2) هو: الجعد بن درهم، من الموالي، عداده في التابعين، مبتدع ضال، أول من أنكر الصفات وأظهر مقالة التعطيل، قتل بالعراق بسبب ذلك، يوم النحر، قتله خالد بن عبد الله القسري بأمر من هشام بن عبد الملك في العراق يوم النحر، وهو شيخ جهم بن صفوان الذي تنسب إليه الطائفة الجهمية واختلف في سنة وفاته، قال د. عبد الرحمن التركي: ولعلها في (106 - 110 هـ) لأن القسري استفتى الحسن البصري في قتله والبصري توفي سنة (110 هـ). ينظر: الكامل في التاريخ (5/ 160)، سير أعلام النبلاء (5/ 433)، ميزان الاعتدال (1/ 399)، البداية والنهاية (10/ 19)، الأعلام (2/ 120).

2 - صفة اليد

صفوان، فقام هو وأتباعه بنشر هذه البدعة بين الناس، وهم مسبوقون بإجماع الصحابة والتابعين وأئمة التفسير والفقه والحديث على إجراء النصوص كما جاءت، وإمرارها على ظاهرها إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، عملاً بقوله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} الإخلاص: 1 - 4، وقوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11" (¬1). فإن من المعلوم ببداهة العقول أن الله تعالى كان ولا شيء معه، ثم خلق الخلق، فلما خلقهم فلا يخلو أن يكون خلقهم في نفسه، أو خلقهم خارج نفسه، والأول باطل قطعاً بالاتفاق؛ لأن الله تعالى منزه عن النقائص وأن يكون محلاً للقاذورات -تعالى الله عن ذلك- فلزم أن يكون بائناً من خلقه، وأن يكونوا هم بائنين عنه. وإذا لزمت المباينة فلا يخلو إما أن يكون فوقهم، أو تحتهم، أو عن يمينهم، أو عن شمالهم، والفوقية هي أشرف الجهات، وهي صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فوجب اختصاصه بذلك (¬2). وبهذا يعلم أن من نفى شيئاً من أنواع العلو لله فقد تنقص الله وخالف مقتضى العقل والنقل. 2 - صفة اليد لله - عز وجل -: قرر الشيخ - رحمه الله - إثبات اليد حقيقة لله - عز وجل - على ما يليق به سبحانه، مستدلاً بقوله تعالى {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} الفتح: 10. وقوله سبحانه {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى ¬

(¬1) ينظر: مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 8). (¬2) ينظر: الرد على الجهمية للإمام أحمد (ص 139)، درء التعارض (6/ 143 - 146) (7/ 3 - 10)، مجموع الفتاوى (5/ 152)، مختصر الصواعق المرسلة (1/ 279 - 280)، شرح الطحاوية (2/ 389 - 390)، جلاء العينين للسيد نعمان الألوسي (ص 337).

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} الملك: 1، وأن اليد صفة ذاتية لله - عز وجل -؛ وأن هذا مستفاد من إضافة اليد لله تعالى في آية الملك (¬1). ويبين الشيخ - رحمه الله - تفسير قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} الذاريات: 47، بأن تفسير السلف لـ (أيد) بالقوة ليس من التأويل، فقال: " لأن الأيد هنا مصدر آد، وليس بجمع لِيَدٍ، فليس في ذلك متمسك لمن يقول: إن السلف تناقضوا في آيات الصفات تأويلاً وتركاً للتأويل" (¬2). ويقرر الشيخ كذلك عند قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} الزمر: 67، بأن: "لله سبحانه يميناً حقيقية على ما يليق بجلاله؛ وأنه سبحانه يطوي السماوات بيمينه حقيقة يوم القيامة على ما يليق بكماله" (¬3). صفة اليد ثابتة بالكتاب والسنة: قال ابن القيم - رحمه الله -: "ورد لفظ اليد في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مئة موضع وروداً متنوعاً متصرفاً فيه، مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقية؛ من الإمساك، والطي، والقبض، والبسط، ... وأخذ الصدقة بيمينه ... وأنه يطوي السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى ... " (¬4). وما ورد في نصوص الوحيين من الألفاظ التي جاءت بإثبات القبض والبسط ... لله تعالى، هي من الأدلة الكثيرة التي تؤيد ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من إثبات صفة (اليد) لله - عز وجل - على ما يليق بذاته سبحانه من غير تمثيل، إذْ هو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11، وذلك أن القبض والبسط قد ورد إضافتهما إلى أشياء محسوسة تُقبض باليد الحقيقية، ولا يصح حملها على القبض والبسط المعنوي، كقوله ¬

(¬1) ينظر: تفسير الجلالين (87، 195). (¬2) تفسير الجلالين (ص 109). (¬3) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 223) مع تصرف يسير. (¬4) ينظر: مختصر الصواعق المرسلة (2/ 171).

3 - صفة الإرادة والمشيئة لله

جلَّ ذكره: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} الزمر: 67 (¬1). وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يطوي الله - عز وجل - السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأراضين بشماله ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ...) (¬3). إذن فاليمين صفة ذاتية لله تعالى، وهي على ما يليق به سبحانه، شأنها شأن بقية الصفات الإلهية الثابتة بالكتاب والسنة (¬4). 3 - صفة الإرادة والمشيئة لله - عز وجل -: ذكر الشيخ - رحمه الله -: "أنه لا يكون من الله فعل إلا بإرادته" (¬5)، مستدلاً على عموم إرادة الله سبحانه بقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} الصف: 5، "وأن الله لا يريد كوناً ولا شرعاً أن يظلم عباده لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} النساء: 40،ولقوله في ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى (2/ 138)، النهج الأسمى لمحمد النجدي (3/ 133 - 134)، أضواء البيان للشنقيطي (7/ 212، 287). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم باب ... برقم (2788)، وأخرجه البخاري معلقاً في كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ص: 75، برقم (7413) من حديث عمر بن حمزة بن عمر بن الخطاب. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} الأنعام: 19، برقم (7419)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف برقم (993). (¬4) ينظر: رد الدارمي على بشر المريسي (2/ 698)، التوحيد لابن خزيمة (1/ 159)، التوحيد لابن مندة (3/ 16)، إبطال التأويلات لأبي يعلى (1/ 176). (¬5) تفسير الجلالين (ص 80).

الحديث: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) (¬1)، وإن كان يريد كوناً لا شرعاً أن يظلم بعض العباد بعضاً لوقوعه منهم، ولو لم يرده لم يقع" (¬2). وبين الشيخ كذلك عموم مشيئة الله - عز وجل - مستدلاً بقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الشورى: 8، وبقوله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الإنسان: 30، وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} التكوير: 28 - 29، وأن هذه الآية تدل على مشيئة الله الكونية (¬3). وبين الشيخ - رحمه الله - الفرق بين الإرادة الكونية القدرية والإرادة الشرعية الدينية، فقال: " إن الإرادة الكونية القدرية أعم مطلقاً فتشمل الإرادة الدينية والإرادة القدرية؛ أما الإرادة الدينية الشرعية فهي أخص مطلقاً، فكل مطيع قد اجتمعت فيه إرادتان: الشرعية والقدرية، أما الكافر والعاصي فقد انتفت منه الإرادة الشرعية في أعماله المخالفة للشرع" (¬4). وذكر الشيخ - رحمه الله -: " أن العبادة التي تقع من العبد ويثيبه الله عليها من فضل الله على العبد وهي حاصلة بإرادته واختياره، وأن المعصية التي تقع من العبد هي واقعة من نفس العبد وبإرادته واختياره، وعقوبة الله للعبد على هذه المعصية هي واقعة بسبب من العبد؛ لأنه باشرها، وقد عامله الله بعدله في ذلك، وكلتاهما وقعتا من العبد بمشيئة الله وقدره السابق، وله في ذلك الحكمة البالغة، وقد أوضح ذلك سبحانه بقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} النساء: 78 " (¬5). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب البر، والصلة، والآداب؛ باب تحريم الظلم برقم (2577) من حديث أبي ذر الغفاري. (¬2) تفسير الجلالين (12). (¬3) ينظر: تفسير الجلالين (32، 240، 261). (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 182). (¬5) فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 181).

والإرادة والمشيئة صفتان ثابتتان بالكتاب والسنة. فمن الكتاب: - قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} الأنعام: 125. -وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} الإنسان: 30. -وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} آل عمران: 26. ومن السنة: -حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (وكل الله بالرحم ملكاً ... فإذا أراد الله أن يقضي خلقها؛ قال ...) (¬1). -حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -؛ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا أراد الله بقوم عذاباً؛ أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم) (¬2). -حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (... قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي) (¬3). -حديث أبي هريرة - رحمه الله -: (... ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب القدر، باب في القدر برقم (6595). (¬2) أخرجه مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب الأمر بحسن الظن بالله عند الموت برقم (2846). (¬3) أخرجه البخاري (4/ 1836)، في كتاب التفسير الرحمن الرحيم اسمان من الرحمة وباب وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب برقم (4569)، وأخرجه مسلم (4/ 2186 - 2187) كتاب الجنة وصفها ونعيمها وأهلها باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (2846). (¬4) أخرجه مسلم (1/ 416)، كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم (595).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: -بعد أن ذكر بعض الآيات السابقة وغيرها: " ... وكذلك وصف نفسه بالمشيئة، ووصف عبده بالمشيئة ... وكذلك وصف نفسه بالإرادة، ووصف عبده بالإرادة ... ومعلوم أنَّ مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد ولا إرادته مثل إرادته ... " (¬1). ويقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: "ويجب إثبات صفة الإرادة بقسميها الكوني والشرعي؛ فالكونية بمعنى المشيئة، والشرعية بمعنى المحبة". (¬2) وبين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية فروق (¬3) تُميز كلَّ واحدة منهما عن الأخرى، ومن تلك الفروق ما يلي: 1_ الإرادة الكونية قد يحبها الله ويرضاها، وقد لا يحبها ولا يرضاها. أما الشرعية فيحبها الله ويرضاها؛ فالكونية مرادفة للمشيئة، والشرعية مرادفة للمحبة. 2_ الإرادة الكونية قد تكون مقصودة لغيرها كخلق إبليس مثلاً، وسائر الشرور؛ لتحصل بسببها محابّ كثيرة، كالتوبة، والمجاهدة، والاستغفار. أما الشرعية فمقصودة لذاتها؛ فالله أراد الطاعة وأحبها، وشرعها، ورضيها لذاتها. 3_ الإرادة الكونية لابد من وقوعها؛ فالله إذا شاء شيئاً وقع ولابد، كإحياء أحد أو إماتته، أو غير ذلك. أما الشرعية كالإسلام - مثلاً - فلا يلزم وقوعها، فقد تقع وقد لا تقع، ولو كان لابد من وقوعها لأصبح الناس كلهم مسلمين. 4_ الإرادة الكونية متعلقة بربوبية الله وخلقه، أما الشرعية فمتعلقة بألوهيته وشرعه. ¬

(¬1) التدمرية (ص 25). (¬2) ينظر: القواعد المثلى (ص 39). (¬3) ينظر: منهاج السنة النبوية (3/ 180 - 183) (5/ 360، 413، 414) (7/ 72، 73)، والاستقامة لابن تيمية (2/ 78)، وشفاء العليل (ص 557)، ومدارج السالكين (1/ 264 - 268)، وتنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة، للشيخ ابن سحمان (ص 61 - 62)، وتعليق الشيخ ابن باز على الواسطية (ص 41)، وشرح الواسطية للهراس (ص 100)، وشرح الواسطية للشيخ صالح الفوزان (ص 42 - 43)، والقضاء والقدر للأشقر (ص 1062)، والتعليقات على لمعة الاعتقاد للشيخ عبد الله بن جبرين (ص 60 - 61).

4 - صفة الوجه

5_ الإرادتان تجتمعان في حق المطيع، فالذي أدى الصلاة -مثلاً - جمع بينهما؛ وذلك لأن الصلاة محبوبة لله، وقد أمر بها، ورضيها، وأحبها، فهي شرعية من هذا الوجه، وكونها وقعت دلَّ على أنَّ الله أرادها كوناً؛ فهي كونية من هذا الوجه؛ فمن هنا اجتمعت الإرادتان في حق المطيع. وتنفرد الكونية في مثل كفر الكافر، ومعصية العاصي، فكونها وقعت فهذا يدلُّ على أن الله شاءها؛ لأنه لا يقع شيء إلا بمشيئته، وكونها غير محبوبة ولا مرضية لله دليل على أنها كونية لا شرعية. وتنفرد الشرعية في مثل إيمان الكافر، وطاعة العاصي، فكونها محبوبة لله فهي شرعية، وكونها لم تقع - مع أمْر الله بها ومحبته لها - هذا دليل على أنها شرعية فحسب؛ إذ هي مرادة محبوبة لم تقع. 6_ الإرادة الكونية أعمّ من جهة تعلّقها بما لا يحبه الله ولا يرضاه، من الكفر والمعاصي، وأخص من جهة أنها لا تتعلق بمثل إيمان الكافر، وطاعة الفاسق. والإرادة الشرعية أعم من جهة تعلقها بكل مأمور به، واقعاً كان أو غير واقع، وأخص من جهة أن الواقع بالإرادة الكونية قد يكون غير مأمور به. هذه فوارق بين الإرادتين، فمن عرف الفرق بينهما سلم من شُبهات كثيرة، زلَّت بها أقدام، وضلَّت بها أفهام، فمن نظر إلى الأعمال الصادرة عن العباد بهاتين العينين كان بصيراً، ومن نظر إلى الشرع دون القدر أو العكس كان أعور (¬1). 4 - صفة الوجه لله - عز وجل -: يقرر الشيخ عبد الرزاق: صفة الوجه لله - عز وجل - حقيقة على ما يليق بجلاله، لقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} الرحمن: 27، فقال - رحمه الله -: " وجاء إسناد البقاء إلى الوجه في الآية على معهود العرب في كلامهم وتعبيرهم بمثل ذلك عن بقاء الشيء وصفاته جميعاً" (¬2). ¬

(¬1) ينظر: الاستقامة لابن تيمية (2/ 78). (¬2) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام (1/ 223).

وقد ورد إثبات هذه الصفة لله تعالى بالكتاب والسنة. فمن الكتاب: -قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} البقرة: 272. - وقوله: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} الرعد: 22. ومن السنة: -وحديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (... إنك لن تخلَّف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله؛ إلا ازددت به درجة ورفعة ...) (¬1). - حديث ابن عمر م قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم ... - فقال كل واحد منهم- اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ ففرّج عنا ما نحن فيه ...) (¬2). -حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: لما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنائم يوم حنين، قال رجل: (والله إنّ هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله ...) (¬3). قال الإمام ابن خزيمة: بعد أن أورد جملة من الآيات تثبت صفة الوجه لله تعالى: "فنحن وجميع علمائنا ... مذهبنا: أنا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا؛ من غير أن نشبه وجه الله خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عز ربنا أن يشبه المخلوقين، وجل ربنا عن مقالة المعطلين" (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب حجة الوداع برقم (6733)، ومسلم في كتاب الوصية باب الوصية بالثلث برقم (1628). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الإجارة باب من استأجر أجيراً فترك أجره فعمل فيه برقم (2152)، ومسلم في كتاب الرقاق باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال برقم (2743). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب غزوة الطائف في شوال برقم (3150)، ومسلم في كتاب الزكاة باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام برقم (1062). (¬4) كتاب التوحيد (1/ 25)، وينظر: شرح السنة للالكائي (3/ 422 - 424)، شرح نونية ابن القيم (2/ 299) وما بعدها، لوامع الأنوار (1/ 225 - 228)، قطف الثمر لمحمد خان (ص 58).

وقال الحافظ ابن منده (¬1): "ومن صفات الله - عز وجل - التي وصف بها نفسه قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)} القصص: 88، وقال: {يَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} الرحمن: 27، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بوجه الله من النار (¬2) والفتن كلها، ويسأل به .. "، ثم ذكر أحاديث بسنده، ثم قال: " بيان آخر يدل على أن العباد ينظرون إلى وجه ربهم - عز وجل - "، وذكر ما يدل على ذلك (¬3). وقال قوام السنة الأصبهاني (¬4): "ذكر إثبات وجه الله - عز وجل - الذي وصفه بالجلال والإكرام والبقاء في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} الرحمن: 27 " (¬5). ¬

(¬1) هو الحافظ محدث العصر أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحي بن منده الأصبهاني، صاحب التصانيف طواف الدنيا، سمع من ألف وسبعمائة شيخ، توفي: سنة 395 هـ، له مؤلفات عديدة منها: كتاب التوحيد، والرد على الجهمية وغيرها. ينظر: تذكرة الحفاظ (3/ 1031)، والعبر في خبر من غبر للذهبي (2/ 187)، وشذرات الذهب (3/ 146). (¬2) وقال الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله - في " معجم المناهي اللفظية " (ص 183) عند لفظة " بوجه الله " بعد ذكره لحديث أبي داود وضعفه: لكن يشهد لعموم النهي حديث أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئُئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجراً). أخرجه الطبراني (22/ 377)، برقم (943)، قال العراقي: إسناده حسن، وحسنه أيضا العلامة الألباني في صحيح الترغيب برقم (1257). ... وحاصل السؤال بوجه الله يتلخص في أربعة أوجه: 1 - سؤال الله بوجهه أمراً دينيا أو أخرويا، وهذا صحيح. 2 - سؤال الله بوجهه أمرا دنيوياً وهذا غير جائز. 3 - سؤال غير الله بوجه الله أمراً دنيويا وهو غير جائز. 4 - سؤال غير الله بوجه الله أمر دينيا. ا. هـ. (¬3) ينظر: كتاب التوحيد (3/ 36). (¬4) هو: إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشي التميمي الأصبهاني، المعروف بأبي القاسم قوام السنة، شافعي، من مؤلفاته: الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة، دلائل النبوة، سير السلف الصالحين وغيرها، توفي سنة 535 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (2/ 8)، شذرات الذهب (4/ 105)، الأعلام (1/ 323). (¬5) ينظر: الحجة في بيان المحجة (1/ 199).

5 - صفة الحكمة

وقال الشيخ الشنقيطي (¬1): "والوجه صفة من صفات الله - عز وجل - وصف بها نفسه، فعلينا أن نصدق ربنا ونؤمن بما وصف به نفسه مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق" (¬2). 5 - صفة الحكمة لله - عز وجل -: يقرر الشيخ صفة الحكمة لله - عز وجل - وأنها ثبتت له-سبحانه- في صنعه وتشريعه وقدره وجزائه وكلامه وإرساله الرسل وإنزال الكتب وفي كل شؤونه (¬3). وأنه ثبت له كمالها بدليل النقل والعقل وبالنظر في كونه وشرعه؛ فهو سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد على مقتضى الحكمة في فعله وشرعه، ويرعى في ذلك مصلحة عباده فضلاً منه ورحمة. ورعاية الحكمة في أفعاله سبحانه وفي شرعه مما يوجب في حقه، وإن قلنا: إن ذلك واجب عليه؛ فهو سبحانه الذي أوجبه على نفسه فضلاً وإحساناً رحمة منه بعباده {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} الأنعام: 54 (¬4). وثبت بالنص أنه سبحانه لا يفعل ولا يشرع إلا ما هو مقتضى الحكمة؛ إذن فهو سبحانه لا يشاء إلا ما كان مقتضى الحكمة والعدالة (¬5). ¬

(¬1) هو العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، سلفي المعتقد، متفنن في علوم عدة، مبرّزاً في اللغة والتفسير، من مؤلفاته: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ومذكرة أصول الفقه على روضة الناظر، آداب البحث والمناظرة، وغيرها؛ توفي سنة 1393 هـ. ينظر: ترجمة تلميذه عطية سالم له في أوائل كتابه أضواء البيان (1/ 19)، والأعلام للزر كلي (6/ 45)، وعلماء نجد خلال ثمانية قرون للشيخ عبد الله البسام (6/ 371). (¬2) أضواء البيان (7/ 801). (¬3) ينظر: تفسير الجلالين (59، 241). (¬4) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام (1/ 125، 130) و (1/ 44) و (2/ 368) و (2/ 30). (¬5) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 74).

الحكمة صفة ذاتية ثابتة لله - عز وجل -، و (الحكيم (¬1)) من أسمائه تعالى؛ وهو ثابت بالكتاب والسنة. فمن الكتاب: -قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)} الأنعام: 18. -وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)} البقرة: 228. ومن السنة: -حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: علمني كلاماً أقوله، قَالَ: (... وسبحان الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم ...) (¬2). قال ابن القيم في النونية (¬3): وهو الحكيم وذاك من أوصافه ... نوعان أيضاً ما هما عدمان حكم وإحكامٌ فكل منهما ... نوعان أيضاً ثابتا البرهان قال ابن جرير (¬4): (الحكيم) الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل. وقال: حكيم فيما قضى بين عباده من قضاياه (¬5). ¬

(¬1) يبين الشيخ عبد الرزاق أن الحكيم من متعلق الحكمة فيقول: "الأولى التعميم في متعلق الحكمة، فيقال: الحكيم في كل شأن من شؤونه من صنعه وقدره وتشريعه وجزائه وكلامه وإرساله وإنزاله كتبه، إلى غير ذلك". ينظر: تفسير الجلالين (ص 171). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء برقم (2696). (¬3) (2/ 218 - 219). (¬4) هو أبو جعفر؛ محمد بن جرير بن يزيد ين كثير بن غالب الطبري، المفسر والمحدث، الفقيه، المقرئ، المؤرخ، صاحب التصانيف البديعة، أكثر من الترحل، ولقي نبلاء الرجال، وكان من أفراد الدهر علماً، وذكاء، ولد سنة224 هـ، ومات سنة310 هـ، من آثاره: التفسير، والتاريخ وغيرهما. ينظر: العبر (1/ 460)، لسان الميزان (5/ 115)، النجوم الزاهرة (3/ 230)، شذرات الذهب (2/ 260). (¬5) جامع البيان (1/ 436)، (2/ 363).

وقال ابن كثير (¬1): الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محلها بحكمته وعدله (¬2). وقال الحليمي (¬3): (الحكيم) ومعناه الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب، وإنما ينبغي أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم، كما لا يظهر الفعل على وجه الاختيار إلا من حي عالم قدير (¬4). والحكمة: فعلة من الحكم، وأظهر تفسير لها: العلم النافع؛ لأن العلم النافع هو الذي يحكم الأقوال والأفعال؛ أي يمنعها من أن يعتريها الخلل؛ والله سبحانه العالم بعواقب الأمور وما تصير إليه والعالم بما كان ويكون، فلا يضع أمراً إلا في مواضعه. ومحال أن ينكشف الغيب عن أن ذلك الأمر على خلاف الصواب لعلمه سبحانه بما تؤول إليه الأمور (¬5). وقد بين ابن القيم: أن لله تعالى أنواع ثلاثة اقتضتها حكمته، فهو سبحانه لا يشاء إلا ما كان مقتضى الحكمة والعدالة، قال - رحمه الله -: "الأحكام ثلاثة: الحكم الأول: حكم شرعي ديني: فهذا حقه أن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة؛ بل بالانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة؛ فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد، ولا يرى إلى خلافه سبيلا البتة، وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول. ¬

(¬1) هو إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الشافعي، عماد الدين أبو الفداء، الإمام الحافظ، والمحدث المؤرخ، من مؤلفاته: تفسير القرآن العظيم، البداية والنهاية، اختصار علوم الحديث، توفي سنة 774 هـ. ينظر: الدرر الكامنة (1/ 400)، شذرات الذهب (6/ 232). (¬2) تفسير القرآن (1/ 184، 315، 459)، وينظر: روح المعاني للألوسي (7/ 117)، والاعتقاد للبيهقي (ص 60). (¬3) هو العلامة أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الشافعي، صاحب وجوه حسان في المذهب، كان من أذكياء زمانه ومن فرسان النظر، له يد طولى في العلم والأدب أخذ عن الحاكم وغيره توفي: سنة 403 هـ، وله تصانيف عديدة أشهرها: المنهاج في شعب الإيمان. ينظر: وفيات الأعيان (2/ 116)، وتذكرة الحفاظ (3/ 1030)، والعبر (2/ 205)، وشذرات الذهب (3/ 167). (¬4) المنهاج في شعب الإيمان للحسين بن الحسن الحليمي (1/ 191). (¬5) ينظر: تفسير الطبري (1/ 221)، تفسير القرطبي (4/ 8)، لسان العرب (12/ 140)، تفسير التحرير والتنوير (1/ 416)، وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم لعبد العزيز الجليل (1/ 152).

فإذا تلقى بهذا التسليم والمسالمة، إقرارا وتصديقا بقي هناك انقياد آخر، وتسليم آخر له، إرادة وتنفيذا وعملا؛ فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهة تعارض إيمانه وإقراره، وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق، وشهوة تعارض الأمر، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات، ولا خاض في الباطل خوض الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خلاقه تحت الأمر، واضمحل خوضه في معرفته بالحق، فاطمأن إلى الله معرفة به، ومحبة له، وعلما بأمره، وإرادة لمرضاته، فهذا حق الحكم الديني الشرعي. الحكم الثاني: الحكم الكوني القدري الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة: والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه، فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن ولا يسالم البتة، بل ينازع بالحكم الكوني أيضاً، فينازع حكم الحق بالحق للحق؛ فيدافع به وله، كما قال شيخ العارفين في وقته عبدالقادر الجيلي (¬1): " الناس إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا وأنا انفتحت لي روزنة (¬2) فنازعت أقدار الحق بالحق للحق والعارف من يكون منازعا للقدر لا واقفا مع القدر" اهـ. ¬

(¬1) أو الجيلاني، وهو الشيخ عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله الجيلي الحنبلي، وقيل عبد القادر بن موسى، ولد سنة (470 هـ)، وتوفي سنة (561 هـ)، قال عنه الذهبي: " وفي الجملة: الشيخ عبد القادر كبير الشأن، وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه"، وهو مؤسس الطريقة القادرية. ينظر: سير أعلام النبلاء (20/ 439 - 451)، ذيل طبقات الحنابلة للسيوطي (1/ 290 - 301)، الأعلام (4/ 47)، والدراسة المستقلة عنه باسم "الشيخ عبد القادر الجيلاني وآراؤه الاعتقادية والصوفية" للشيخ د. سعيد بن مسفر القحطاني، رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى. (¬2) الرَّوْزَنَةُ - خرق في أعلى سقف البيت الخصاص- شبه كوة قي قبة أو نحوها إذا كان واسعاً قدر الوجه. وهي معربة. ينظر: في التعريب والمعرب وهو المعروف بحاشية ابن بري (1/ 95)، الصحاح للجوهري (6/ 401)، المخصص لابن سيده (1/ 513)، المعجم الوسيط (1/ 343)، تاج العروس من جواهر القاموس (35/ 89).

فإن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه، فتأمل قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقد عوتب على فراره من الطاعون، فقيل له: أتفر من قدر الله؟ فقال: "نفر من قدر الله إلى قدره". ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاء له في هذا العالم إلا به، ولا تتم له مصلحة إلا بموجبه؛ فإنه إذا جاءه قدر من الجوع والعطش أو البرد نازعه وترك الانقياد له ومسالمته ودفعه بقدر آخر من الأكل والشرب واللباس؛ فقد دفع قدر الله بقدره. وهكذا إذا وقع الحريق في داره، فهو بقدر الله فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإذعان؟ بل ينازعه ويدافعه بالماء والتراب وغيره حتى يطفىء قدر الله بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر الله. وهكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بكل ما يمكنه؛ فإن غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر، ومن لم يستبصر في هذه المسألة ويعطها حقها لزمه التعطيل للقدر أو الشرع شاء أو أبى، فما للعبد ينازع أقدار الرب بأقداره في حظوظه، وأسباب معاشه، ومصالحه الدنيوية، ولا ينازع أقداره في حق مولاه وأوامره ودينه؟ وهل هذا إلا خروج عن العبودية ونقص في العلم بالله وصفاته وأحكامه؟!. ولو أن عدوا للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله؛ وهو الجهاد باليد أو المال في العبودية، اللهم إلا إذا بذل العبد جهده في المدافعة والمنازعة، وخرج الأمر عن يده، فحينئذ يبقى من أهل: الحكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته: فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة، وترك المخاصمة، وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركب في لجة البحر وعجز عن السباحة، وعن سبب يدنيه من النجاة، فها هنا يحسن الاستسلام والمسالمة؛ مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه، وعدله في قضائه، وحكمته في جريانه عليه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإن الكتاب الأول

6 - صفة العلم

سبق بذلك قبل بدء الخليقة، فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد، فمن رضي، فله الرضا، ومن سخط فله السخط. ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله وصفته الحكمة، وأن القدر قد أصاب مواقعه، وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به، وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل، فهو موجب أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، فله عليه أكمل حمد وأتمه، كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره " (¬1) وبهذا يعلم أنه - سبحانه وتعالى- يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد على مقتضى الحكمة في فعله وشرعه، ويرعى في ذلك مصلحة عباده فضلاً منه ورحمة. 6 - صفة العلم لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - بأن علم الله تعالى كامل وثابت له سبحانه بدليل النقل والعقل وبالنظر في كونه وشرعه (¬2). ويبين الشيخ - رحمه الله - في تعليقه على تفسير الجلالين عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ...} الآية المجادلة: 7، قال: "أي بعلمه وهو فوق عرشه بذاته لا يخفى عليه شيء من شؤون خلقه، وليس هذا من التأويل الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره (¬3)، وذلك أن كلمة (مع) موضوعة لمطلق المقارنة، فيدخل في معناها المقارنة بالعلم وبالنصر والتأييد وبالهداية والتوفيق، فتفسيرها بالعلم ونحوه تفسير لمعنى وضع له اللفظ، وصدر الآية وتذييلها يعين هذا المعنى دون المقارنة بالذات" (¬4). ¬

(¬1) ينظر: طريق الهجرتين (1/ 66 - 69). (¬2) ينظر: تعليق الشيخ على الإحكام (1/ 26،125)، (2/ 44)، وتفسير الجلالين (153). (¬3) قال ابن تيمية - رحمه الله - عند ذكره لهذه الآية: " وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا: هو معهم بعلمه، وقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم فيه أحد يعتد بقوله، وهو مأثور عن ابن عباس، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وسفيان الثوري، وأحمد ابن حنبل وغيرهم ... ". ينظر: شرح حديث النزول (2/ 103، 217 - 219، 230). (¬4) تفسير الجلالين (ص 154 - 155).

وقال الشيخ - رحمه الله -: "إن علم الله تعالى محيط بأسمائه الحسنى وصفاته العلى كما أنه محيط بعباده وسائر خلقه" (¬1). ويقرر الشيخ - رحمه الله - بعض صفات علم الله عز وجل، فيقول: "إن الأصل في الأمور الغيبية اختصاص الله بعلمها، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} الأنعام: 59، وقوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} النمل: 65، ولكن الله تعالى يطلع من ارتضى من رسوله على شيء من الغيب، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} الجن: 26 - 27، وقال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)} الأحقاف: 9. إذن فمن الغيب ما استأثر الله بعلمه فلم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً كتحديد الوقت الذي يقوم فيه الخلق لله رب العالمين للحساب، فإنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، قال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} الأحزاب: 63؛ ومن الغيب ما أعلم الله بعض عباده كالأمور المستقبلية التي أخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت معجزة له وآية من آيات الله خص الله بها رسوله، وهي داخلة في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} آل عمران: 179. ويتبين من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم الغيب علماً كلياً، وإنما كان يعلمه علماً جزئياً في حدود ما أطلعه الله عليه" (¬2). وقد دل القرآن والسنة والعقل على أن صفة العلم من الصفات الذاتية الثابتة لله - عز وجل -. ¬

(¬1) تفسير الجلالين (ص 23). (¬2) فتاوى اللجنة (2/ 168 - 171، 174، 176، 181، 182).

فمن القرآن: الآيات السابق ذكرها في كلام الشيخ - رحمه الله -. ومن السنة: - حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلِّم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلم السورة من القرآن يقول: (... فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ...) (¬1). - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مولود يولد ... قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت منهم وهو صغير قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) (¬2). أما دلالة العقل- فمن وجوه-: أولاً: أنه يستحيل إيجاده الأشياء بغير علم سابق قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} الملك: 14. ثانياً: أن المخلوقات فيها من الأحكام والإتقان وعجيب الصنعة ودقيق الخلقة ما يشهد بعلم الفاعل لها لامتناع صدور ذلك عن غير علم. ثالثاً: أن في المخلوقات من هو عالم والعلم صفة كمال، فلو لم يكن الله عالماً لكان في المخلوقات من هو أكمل منه، وكل علم في المخلوق إنما استفاده من خالقه وواهب الكمال أحق به، وفاقد الشيء لا يعطيه (¬3). قال ابن القيم: في ذكره لمراتب القدر: "فأما المرتبة الأولى: وهي العلم السابق فقد اتفق عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم، واتفق عليه جميع الصحابة ومن تبعهم من الأمة وخالفهم مجوس الأمة" (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الاستخارة برقم (6382). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين برقم (1384)، ومسلم في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين برقم (2659). (¬3) ينظر: شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية (ص 24 - 25)، ولوامع الأنوار (1/ 148 - 149). (¬4) شفاء العليل (ص 29).

7 - صفة القدرة

7 - صفة القدرة لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - عند قول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} القمر: 49، فيقول: "الآية حجةٌ لأهل السنة على عموم قدرة الله، وتعلقها بكل مخلوق، وشمول خلقه لكل شيء، ودليل على إحكام الخلق وسَبْقِ التقدير" (¬1). وعند قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} الملك: 1، قال: "تدل الآية على عموم قدرة الله وكمال تصرفه في الكون بيسر وسهولة، وهذا مستفاد من كون الملك بيد الله" (¬2). والقدرة صفة ذاتية ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة (¬3). فمن الكتاب: - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} البقرة: 20. - وقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} الأنعام: 65. - وقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} القمر: 55. ومن السنة: - حديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - مرفوعاً: (أعوذ بِعزَّة الله وقدرته من شر ما أجدُ وأحاذِرُ) (¬4). ¬

(¬1) ينظر: تفسير الجلالين (ص 128). (¬2) تفسير الجلالين (ص 195) و (ص 12، 80). (¬3) الأسماء المتضمنة صفة واحدة لا تعد اسماً واحداً، بل كل صيغة من صيغ الاسم تعد اسماً مستقلاً. ومن أسمائه تعالى التي اشتقت من صفة القدرة: (القادر) و (القدير) و (المقتدر) وأصل هذه الأسماء الثلاثة يدور على معنى القوة. ينظر: النهاية لابن الأثير (4/ 22)، أسماء الله الحسنى في الكتاب والسنة د. محمود الرضواني (2/ 375)، صفات الله - عز وجل - الواردة في الكتاب والسنة (ص 240). (¬4) أخرجه مسلم كتاب السلام، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء برقم (2202).

8 - صفة الصمد

- حديث أبي مسعود البدري - رضي الله عنه -، لما ضرب غلامه؛ قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اعلم أبا مسعود! أن الله أقدرُ عليك منك على هذا الغلام) (¬1). قال الخطابي - رحمه الله -: "ووصف الله نفسه بأنه قادر على كلِّ شيء أراده، لا يعترضه عجز ولا فتور، وقد يكون القادر بمعنى المقدِّر للشيء، يقال: قدَّرت الشيءَ وقدَرْتُه؛ بمعنى واحد، كقوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)} المرسلات: 23، أي نعم المقدرون (¬2) " (¬3). "والقدرة: عبارة عن المعنى الذي به يوجَد الشيء متقدراً بتقدير الإرادة والعلم، واقعاً على وفقهما. والقادر هو الذي إن شاءَ فعل، وإن شاء لم يفعل، وليس من شرطه أن يشاء لا مَحالة، فإن الله تعالى قادرٌ على إقامَة القيامة الآن، لأنه لو شاءَ أقامها، فإن كان لا يُقيمها؛ لأنه لم يَشَاها ولا يشاؤها لما جرى في سابِق علمه من تقدير أجلها ووقتها، فلذلك لا يقدح في القدرة. والقادِرُ المُطلق هو الذي يخترع كلَّ مَوْجُود اختراعاً يتفردُ به، ويستغني فيه عن معاونة غيره، وهو الله تعالى. وأما العبد فله قُدْرَةٌ على الجملة ولكنها ناقِصة إذ لا يتناوَلُ إلا بعضَ الممكِنات، ولا يصلح للاختراع، بَلِ الله تعالى هو المخترع لمقدوراتِ العبد بواسطة قدرته مهْما هَيَّأ له جميع أسباب الوُجودِ لمقدوره" (¬4) 8 - صفة الصمد لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - صفة الصمدية لله - عز وجل -، ويبين سبب أنه سبحانه المقصود في الحوائج على الدوام، فيقول: " وهذا لأنه السيد الكامل في سؤدده الغني الكامل في غناه المحتاج إليه كل ما عداه، فصمد إليه العالم كله ليكفلهم ويُيَسر كُلاًّ لما خُلِقَ له" (¬5). فالصمد صفة ذاتية لله - عز وجل -، وهو اسمٌ له ثابت بالكتاب والسنة. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده، برقم (1659). (¬2) ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (19/ 160). (¬3) شأن الدعاء للخطابي (ص 85). (¬4) المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن محمد الغزالي أبو حامد (1/ 134). (¬5) تفسير الجلالين (ص 314).

فمن الكتاب: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} الإخلاص: 1 - 2، ولم يَرِد هذا الاسم إلا في هذه السورة. ومن السنة: - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - القدسي: (كذبني ابن آدم ... وأما شَتْمُه إياي؛ فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد) (¬1). - حديث بريدة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: (اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد ...) (¬2). ولقد اختلف العلماء في معنى الصمد على أقوال كثيرة؛ منها (¬3):- 1 - المصمت الذي لا جوف له. 2 - الذي لا يأكل ولا يشرب. 3 - الذي لا يخرج منه شيء (¬4)، ولم يلد ولم يولد. 4 - السيِّد الذي انتهى سؤدده. 5 - الباقي الذي لا يفنى. 6 - الذي ليس فوقه أحد. ¬

(¬1) أخرجه البخاري كتاب تفسير القرآن باب قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، برقم (4974). (¬2) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الوتر باب الدعاء برقم (1493)، صححه الألباني في سنن أبي داوود برقم (1492). (¬3) ينظر: جامع البيان للطبري (24/ 690 - 692) (30/ 345)، الأسماء والصفات للبيهقي (1/ 109)، معالم التنزيل للبغوي (7/ 320)، زاد المسير لابن الجوزي (9/ 268)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 520)، التحرير والتنوير لابن عاشور (30/ 540)، أضواء البيان للشنقيطي (1/ 474) (9/ 150)، فتح الباري لابن حجر (8/ 612)، لسان العرب (3/ 275 - 259)، مختار الصحاح (1/ 155). (¬4) ليس المراد أنه لا يتكلم وإن كان يقال في الكلام إنه خرج منه، كما قال في الحديث: (ما تقرب العباد إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه -يعني القرآن-) الحديث أخرجه أحمد في مسنده (5/ 268)، والترمذي في كتاب فضائل القرآن باب ... برقم (2911). ينظر: مجموع الفتاوى (17/ 239).

9 - صفة العزة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " واسم (الصمد) فيه للسلف أقوال متعددة قد يظن أنها مختلفة، وليست كذلك، بل كلها صواب، والمشهور منها قولان: أحدهما: أن الصمد هو الذي لا جوف له. الثاني: أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج. فالأول هو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة. والثاني قول طائفة من السلف والخلف، وجمهور اللغويين، والآثار المنقولة عن السلف بأسانيدها في كتب التفسير المسندة، وكتب السنة وغير ذلك" (¬1). فالله سبحانه وصف نفسه بالاسم المتضمن لصفات عديدة وهذا يدل على عظمته فالعظيم من اتصف بصفات الكمال. "فلو قال قائل: إن الله استوى على العرش، هل استواؤه على العرش بمعنى أنه مفتقر إلى العرش بحيث لو أزيل لسقط؟ فالجواب: لا؛ لأن الله صمد كامل غير محتاج إلى العرش، بل العرش والسموات والكرسي والمخلوقات كلها محتاجة إلى الله، والله في غنى عنها، فنأخذه من كلمة الصمد" (¬2). 9 - صفة العزة لله - عز وجل -: ذكر الشيخ - رحمه الله - تعليقاً على تفسير الجلالين عند قوله تعالى: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} فصلت: 12،: " المقصود وصف الله بكمال العزة والغلبة وبكمال العلم" (¬3). والعِزَّةُ صفة ذاتية ثابتة لله تعالى بالكتاب والسنة. فمن الكتاب:- - قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} البقرة: 129. ¬

(¬1) تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية (32 - 33). (¬2) شرح الواسطية لابن عثيمين (ص 132). (¬3) تفسير الجلالين (ص 23).

- وقوله: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} آل عمران: 26. - قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} المجادلة: 21. ومن السنة: - حديث أنس - رضي الله عنه -: (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العِزَّة فيها قدمه، فتقول: قط قط وعزتك، ويزوي بعضها إلى بعض) (¬1). - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: (قال الله - عز وجل -: العزة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني؛ عذبته) (¬2). - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (لا إله إلا الله وحده، أعزَّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده؛ فلا شيء بعده) (¬3). والعزةُ تأتي بمعنى الغلبة والقهر؛ من عزَّ يعُزُّ -بضم العين في المضارع- يُقال: عزَّه، إذا غلبه. وتأتي بمعنى القوة والصلابة، من عزَّ يعَّزُّ -بفتحها-، ومنه أرضٌ عَزَازٌ، للصلبة الشديدة. وتأتي بمعنى علو القدر والامتناع عن الأعداء، من عزَّ يَعِزُّ -بكسرها-. وهذه المعاني كلها ثابتة لله -عز وجل- (¬4). "وَمَعْنَى العزيز: أي الَّذي لا يوصل إليه، ولا يُمْكن إدخال مكروهٍ عليه" (¬5). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته، برقم (6661)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (5086). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تحريم الكبر، برقم (2620). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، برقم (4114)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل برقم (6846). (¬4) ينظر: شرح العقيدة الواسطية للهراس (1/ 128)، الأسماء والصفات للبيهقي (1/ 96)، القاموس المحيط (1/ 496). (¬5) الأسماء والصفات للبيهقي (1/ 96).

قال ابن القيم في النونية (¬1): وهو العزيز فلن يرام جنابه ... أنى يرام جناب ذي السلطان وهو العزيز القاهر الغلاب لم ... يغلبه شيء هذه صفتان وهو العزيز بقوة هي وصفه ... فالعز حينئذ ثلاث معان. قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: " العزيز الذي يقهر ولا يقهر، فإن العزة التي لله -تعالى- هي الدائمة الباقية وهي العزة الحقيقية الممدوحة، وقد تستعار العزة للحمية والأنفة، فيوصف بها الكافر والفاسق، وهي صفة مذمومة، ومنه قوله تعالى: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} البقرة: 206، وأما قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} فاطر: 10، فمعناه: من كان يريد أن يعز، فليكتسب العزة من الله، فإنها لا تنال إلا بطاعته، ومن ثم أثبتها لرسوله وللمؤمنين، فقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} المنافقون: 8، وقد ترد العزة بمعنى الصعوبة، كقوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} التوبة: 128، وبمعنى الغلبة ومنه {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)} ص: 23؛ وبمعنى القلة: كقولهم: شاة عزوز، إذا قل لبنها، وبمعنى الامتناع، ومنه قولهم: أرض عزاز، بفتح أوله مخففا" ا. هـ (¬2). ¬

(¬1) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (1/ 711). (¬2) فتح الباري (13/ 369) وذكر أن هذا كلام الراغب، ولكن الحافظ تصرف فيه فزاد وأنقص، ولهذا رأيت أن أضيفه إليه. وينظر: شرح البراك للواسطية (1/ 105)، وطريق الهجرتين (1/ 186)، ومجموع فتاوى ورسائل العثيمين (8/ 291) (9/ 313).

10 - صفتا السمع والبصر

10 - صفتا السمع والبصر لله - عز وجل - (¬1): يقرر الشيخ - رحمه الله - صفتي السمع والبصر، ويبين ذلك، فيقول: "إن السمع ما تدرك به الأصوات جهراً كانت أم سراً، والبصر ما تدرك به المرئيات ... وكل من السمع والبصر من صفات الله التي تثبت بالسمع والعقل، فيجب الإيمان بهما" (¬2). والبصر صفة من صفات الله - عز وجل - الذاتية الثابتة بالكتاب والسنة، كما أن صفة السمع صفة ذاتية له - عز وجل - ثابتة بالكتاب والسنة. فمن الكتاب: - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} النساء: 58. - وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11. - قوله تعالى: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} طه: 46. - وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} المجادلة: 1. ومن السنة: - حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: (يا أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، ولكن تدعون سميعاً بصيراً، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) (¬3). ¬

(¬1) إذا اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر (كما في هذه الصفة) تحصل من ذلك قدر زائد على مفرديهما نحو الغني الحميد، الغفور القدير، الحميد المجيد. وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن؛ فإن الغنى صفة كمال والحمد كذلك، واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر، فله ثناء من غنائه وثناء من حمده وثناء من اجتماعهما، وكذلك الغفور القدير، والحميد المجيد، والعزيز الحكيم فتأمله فإنه من أشرف المعارف. ينظر: التوحيد وقرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ص 422). (¬2) تفسير الجلالين (ص 153). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، برقم (6384).

- حديث عائشة رضي الله عنها في قصة المجادلة وقولها: (الحمد لله الذي وسع سمعُه الأصوات) (¬1). وأهل السنة والجماعة يقولون: " إن الله سميع بسمع يليق بجلاله وعظمته، كما أنه بصير ببصر، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11 " (¬2). قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: "وهو سميع بصير له السمع والبصر، يسمع ويبصر وليس كمثله شيء في سمعه وبصره" (¬3). وقال الهراس (¬4) - رحمه الله -: " أما السمع فقد عبرت عنه الآيات بكل صيغ الاشتقاق، وهي: سَمِعَ، ويَسْمَعُ، وسَميِعٌ، وأسْمَعُ، فهو صفة حقيقية لله، يدرك بها الأصوات" (¬5). ¬

(¬1) أخرجه البخاري تعليقاً (4/ 2306) في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً ((النساء:134). (¬2) ينظر: صفات الله - عز وجل - الواردة في الكتاب والسنة (ص 178). (¬3) الصواعق المرسلة (3/ 1020). (¬4) هو: محمد بن خليل هراس، ولد بطنطا من محافظة الغربية بمصر سنة (1916 م)، حاز الدكتوراه في التوحيد والمنطق، أعير إلى المملكة العربية السعودية، ودرس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ثم أعير مرة أخرى، وأصبح رئيساً لشعبة العقيدة في قسم الدراسات العليا في كلية الشريعة سابقاً بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، عاد لمصر وشغل منصب نائب الرئيس العام لجماعة أنصار السنة النبوية، ثم الرئيس العام لها بالقاهرة، توفي - رحمه الله - سنة (1975 م) عن عُمر يناهز الستين، وكان - رحمه الله - سلفي المعتقد شديداً في الحق، قوي الحجة، له مؤلفات عدة، منها: تحقيق كتاب المعنى لابن قدامة، تحقيق وتعليق على كتاب التوحيد لابن خزيمة، شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية. ينظر: شرح العقيدة الواسطية للهراس عناية علوي السقاف (ص 43 - 44). (¬5) شرح الواسطية (ص 120).

11 - صفتا الغني والحميد

11 - صفتا الغني والحميد لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - هاتين الصفتين، فيقول عند قول الله تعالى: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)} التغابن: 6: "غني عن جميع خلقه وحميد عن جميعهم بما يسديه إليهم من جميل أياديه وكريم فعاله، وفي سائر نعوت جلاله وصفات كماله" (¬1). والغنى صفة ذاتية لله - عز وجل - بالكتاب والسنة، كما أن الله - عز وجل - يوصف بأنه الحميد، وهي صفةٌ ذاتيةٌ له كذلك. والدليل من الكتاب: - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} فاطر: 15. - وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} التوبة: 28. - قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} البقرة: 267. ومن السنة: - قال - صلى الله عليه وسلم -: (... من يستعفف؛ يعفه الله، ومن يستغن؛ يغنه الله ...) (¬2). - حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - في التشهد: (... قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) (¬3). ¬

(¬1) تفسير الجلالين (ص 184). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، برقم (1469)، وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، برقم (1053). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى (واتخذ الله إبراهيم خليلا وقوله إن إبراهيم كان أمة قانتا لله .. ، برقم (3370)، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (406).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "والفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لاَزِمٌ أبدا ... كَمَا أَنَّ الغِنى أَبداً وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي" (¬1). وقال ابن القيم - رحمه الله -: "وَهُوَ الغَنِيُّ بِذَاتِهِ فَغِنَاهُ ذَا ... تِيٌّ لِهُ كَالجُود وِالإحْسَانِ" (¬2). قال الشيخ الهراس: ومن أسمائه الحسنى (الغني)؛ فله سبحانه الغنى التام المطلق من كل وجه؛ بحيث لا تشوبه شائبة فقر وحاجة أصلاً، وذلك لأن غناه وصف لازم له، لا ينفك عنه؛ لأنه مقتضى ذاته، وما بالذات لا يمكن أن يزول؛ فيمتنع أن يكون إلا غنياً كما يمتنع أن يكون إلا جواداً محسناً براً رحيماً كريماً (¬3). وقيل: "الواسع: الغني، يقال: فلان يعطي من سعة؛ أي: من غنى وجدة ... " (¬4). قال ابن منظور (¬5): "الحميد من صفاته سبحانه وتعالى، بمعنى المحمود على كل حال، وهو فعيل بمعنى مفعول" (¬6). والحميد هو المحمود المثنى عليه، والله عز وجل هو الحميد بحمده لنفسه أزلاً، وبحمد عباده له أبداً، والحميد من العباد من حمدت عقائده وأخلاقه وأعماله وأقواله وإن كان لا يخلو أحد عن مذمة ونقص وإن كثرت محامده، فالحميد المطلق هو الله تعالى فهو سبحانه ¬

(¬1) ينظر: العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية لمحمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي أبو عبد الله (1/ 391)، طريق الهجرتين لابن القيم (ص 6)، مدارج السالكين (1/ 440). (¬2) النونية (2/ 74). (¬3) ينظر: شرح الواسطية (ص 114). (¬4) ينظر: اشتقاق أسماء الله (ص 72)،وشرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني (ص 25). (¬5) هو: محمد بن مكرم بن على جمال الدين بن منظور صاحب لسان العرب الإمام اللغوي الحجة ولد بمصر وخدم في ديوان الإنشاء بالقاهرة طول عمره وولي قضاء طرابلس، وكان عارفاً بالنحو واللغة والتاريخ والكتابة، وتوفى بمصر سنة (711 هـ)، قال الذهبي: كان عنده تشيع بلا رفض، ومن مؤلفاته مختصر الأغاني، وجمع في اللغة كتابا سماه لسان العرب جمع فيه بين التهذيب والمحكم والصحاح والجمهرة جوده ما شاء ورتبه ترتيب الصحاح وهو كبير. ينظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر (6/ 15)، بغية الوعاة للسيوطي (1/ 248)، تاج العروس للزبيدي (1/ 5)، أبجد العلوم للقنوجي (3/ 10). (¬6) اللسان (3/ 155)، ينظر: جامع الأصول (4/ 180).

12 - صفتا الحكم والعدل

المستحق للحمد والثناء فهو سبحانه المحمود على ما خلق وشرع ووهب ونزع وضر ونفع وأعطى ومنع (¬1). "وهو المستحق لأن يحمد لأنه جل ثناؤه بدأ فأوجد، ثم جمع بين النعمتين الجليلتين الحياة والعقل، ووالى بعد منحه، وتابع آلاءه ومننه، حتى فاتت العد، وإن استفرغ فيها الجهد، فمن ذا الذي يستحق الحمد سواه؟ بل له الحمد كله لا لغيره، كما أن المن منه لا من غيره. قال الخطابي: هو المحمود الذي استحق الحمد بفعاله، وهو فعيل بمعنى مفعول، وهو الذي يحمد في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، لأنه حكيم لا يجري في أفعاله الغلط ولا يعترضه الخطأ فهو محمود على كل حال ومنها القاضي قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} غافر: 20" (¬2). 12 - صفتا الْحَكَم والعدل لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - هاتين الصفتين، فيقول: "الله حكم عدل لا محاباة عنده، .. وقضاء الله عدل بألا تزر وازرةٌ وزر أخرى" (¬3). يوصف الله - عز وجل - بأنه الحاكم الحكم، و (الحكم) اسم له ثابت بالكتاب والسنة. كما أن صفة العدل ثابتة لله - عز وجل - بأحاديث صحيحة. الدليل من الكتاب: - قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} الأنعام: 114. -وقوله: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)} الأعراف: 87. ¬

(¬1) ينظر: المقصد الأسنى (1/ 130). (¬2) الأسماء والصفات للبيهقي (1/ 160). (¬3) التعليق على تفسير الجلالين (ص 194).

الدليل من السنة: - حديث هانئ بن زيد - رضي الله عنه -؛ أنه لما وفد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قومه؛ سمعهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن الله هو الحَكَم، وإليه الحُكم، فلِمَ تكنى أبا الحكم؟) (¬1). والحكم والحاكم بمعنى واحد؛ إلا أنَّ الحكم أبلغ من الحاكم، وهو الذي إليه الحُكم، وأصل الحُكم منع الفساد والظلم ونشر الخير (¬2). - حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للذي قال: والله؛ إنَّ هذه قسمة ما عدل فيها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فمن يَعْدِل إذا لم يعدل الله ورسوله) (¬3). قال ابن القيم - رحمه الله -: "والعدل من أوصافه في فعله ... ومقالِهِ والحُكْمِ في الميزانِ" (¬4). قال الهراس - رحمه الله -: " وهو سبحانه موصوف بالعدل في فعله، فأفعاله كلها جارية على سنن العدل والاستقامة، ليس فيها شائبة جور أصلاً؛ فهي دائرة كلها بين الفضل والرحمة، وبين العدل والحكمة" (¬5). "ومذهب أهل السنة والجماعة على أن الله تعالى عدل في أفعاله بمعنى أنه متصرف في مُلْكُه ومِلْكُه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فالعدل: وضع الشيء موضعه وهو التصرف في الملك على مقتضى المشيئة والعلم، والظلم بضده فلا يتصور منه جور في الحكم وظلم في التصرف" (¬6). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في تغيير الاسم القبيح برقم (4145) والنسائي في كتاب القضاء، باب إذا حكموا رجلا ورضوا به، فحكم بينهم، برقم (4980)، صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (4145)، وفي صحيح سنن النسائي برقم (4980). (¬2) ينظر: صفات الله - عز وجل - الواردة في الكتاب والسنة (ص 103). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، برقم (3150)، وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتبصير من قوي إيمانه برقم (1062). (¬4) النونية (2/ 98). (¬5) شرح النونية (2/ 104). (¬6) الملل والنحل للشهرستاني (1/ 40)

13 - نسبة الجهة

"كذلك من الصفات المثبتة لله سبحانه وتعالى صفة الحكم، فقد أثبتها لنفسه في كثير من الآيات، والمقصود بالحكم الفصل، والفرق بينه وبين صفة القضاء: أن صفة القضاء يختلف إطلاقها باختلاف المخاطب (¬1)، أما الحكم فلا يكون إلا جازماً، ولذلك فالقضاء قد يكون بالخطاب التكليفي الشرعي وقد يكون بالخطاب القدري، فإن الله يقضي بمعنى: يوجب، أو يحرم، فهذا هو قضاؤه التشريعي، أما قضاؤه القدري فمعناه: تنفيذ ما علم وأراد أن يقع في الأزل، فما أراده الله يقضيه، أي: ينفذه ويوقعه على وفق إرادته وعلمه. أما الحكم فكذلك يتعلق بالدنيا والآخرة: ففي الدنيا يطلق على الخطاب التشريعي، كقول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} الشورى: 10. وفي الآخرة يطلق على فصل الخصام يوم القيامة عندما يتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام، فيختصم الناس إليه، وحينئذٍ يقام الخصام بين كل فريقين اختلفا، فكل خلاف في الدنيا يُفصل في ذلك الوقت، ولذلك سمي ذلك اليوم يوم الفصل" (¬2). 13 - نسبة الجهة لله - عز وجل -: بين الشيخ - رحمه الله - هذه النسبة بقوله: "لم يرد في النصوص نسبة الجهة إلى الله نفياً ولا إثباتاً، ثم هي كلمة مجملة تحتمل حقاً وباطلاً؛ فإن إثباتها لله يحتمل أن يراد به أنه تعالى فوق عباده مستو على عرشه، وهذا حق، ويحتمل أن يراد به أنه يحيط به شيء من خلقه، وهذا باطل، ونفيها عن الله يحتمل نفي علوه على خلقه واستوائه على عرشه، وهذا باطل، ويحتمل تنزيهه عن أن يحيط به شيء من خلقه، وهذا حق، وإذن لا يصح نسبة الجهة إلى الله نفياً ولا إثباتاً لعدم ورودها ولاحتمالها الحق والباطل" (¬3). ¬

(¬1) فمثلاً: قول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الإسراء: 23، إن كان الخطاب لأمة الدعوة فقضى هنا بمعنى: أمر، وإن كان الخطاب لأمة الإجابة فقضى بمعنى: أوجب، فالقضاء المطلق هو بمعنى الأمر فقط الذي لا يشمل جزماً، وإن كان لأمة الإجابة الذين آمنوا وصدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم فهو على سبيل الإيجاب والجزم. (¬2) سلسلة الأسماء والصفات للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي عبارة عن دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية http://www.islamweb.net. ينظر: توضيح الكافية الشافية (ص 127) والحق الواضح المبين (ص 80). (¬3) الإحكام في أصول الأحكام (1ج1/ 370) و (2ج4/ 129).

وبين الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - أن الألفاظ المجملة (¬1) إذا أُرِيدَ بها معنى صحيحاً أقررناها وقلنا: التعبير خطأ، وإذا أُرِيدَ بها معنى فاسداً أنكرنا على من قال بها (¬2). وقال الشيخ - رحمه الله - مبيناً المسلك الصحيح في مثل هذه التعبيرات: "ولو اقتصر من يتكلم في التوحيد على ما ورد من التعبير في نصوص الشريعة، وما عرف عن السلف الصالح في أسماء الله وصفاته؛ لكان في ذلك عصمة لهم من زلل الرأي والتوسع في التعبير، ولو اكتفوا في الاستدلال على مسائل الدين وخاصة السمعية بما دلهم عليه الكتاب والسنة من الأدلة السمعية والعقلية لهدوا إلى صراط مستقيم ونجوا من فرقة الأهواء ومن الحيرة التي طوحت بهم في المتاهات" (¬3). ويغني عن لفظ (الجهة) وصف الله بالعلو والفوقية، وأنه سبحانه وتعالى في السماء وهذه ما وردت بها نصوص الشريعة (¬4). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله، فيكون مخلوقاً، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش أو نفس السماوات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى؛ كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم. ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه؛ كما فيه إثبات العلو، والاستواء، والفوقية، والعروج إليه ... ونحو ذلك، وقد علم أنَّ ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق سبحانه وتعالى مباين للمخلوق، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. ¬

(¬1) وهي التي تحتمل حقاً وباطلاً، مثل: وصف الله بالجسم، والحيز، والجهة، والحد. ينظر: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (1/ص 159). (¬2) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (1/ 159). (¬3) الإحكام في أصول الأحكام (2ج4/ 129). (¬4) ينظر: صفات الله - عز وجل - الواردة في الكتاب والسنة (ص 99).

فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أنَّ الله فوق العالم مباين للمخلوقات. وكذلك يقال لمن قال: الله في جهة، أتريد بذلك أن الله فوق العالم؟ أو تريد به أنَّه داخل في شيء من المخلوقات؟ فإن أردت الأول؛ فهو حق، وإن أردت الثاني؛ فهو باطل" (¬1). ويقول شيخ الإسلام: كذلك: "فإذا قال القائل: هو في جهة أو ليس في جهة؟ قيل له: الجهة أمر موجود أو معدوم، فإن كان أمراً موجوداً، ولا موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق بائن عن المخلوق؛ لم يكن الرب في جهة موجودة مخلوقة، وإن كانت الجهة أمراً معدوماً؛ بأن يسمى ما وراء العالم جهة، فإذا كان الخالق مبايناً العالم، وكان ما وراء العالم جهة مسماة، وليس هو شيئاً موجوداً؛ كان الله في جهة معدومة بهذا الاعتبار. لكن؛ لا فرق بين قول القائل: هو في معدوم، وقوله: ليس في شيء غيره؛ فإنَّ المعدوم ليس شيئاً باتفاق العقلاء. ولا ريب أن لفظ الجهة يريدون به تارة معنىً موجوداً، وتارة معنىً معدوماً، بل المتكلم الواحد يجمع في كلامه بين هذا وهذا، فإذا أزيل الاحتمال؛ ظهر حقيقة الأمر. فإذا قال القائل: لو كان في جهة؛ لكانت قديمة معه. قيل له: هذا إذا أريد بالجهة أمرٌ موجود سواه؛ فالله ليس في جهة بهذا الاعتبار. وإذا قال: لو رئُي؛ لكان في جهة، وذلك محال. قيل له: إن أردت بذلك: لَكَانَ فِي جِهَةٍ مَوْجُودَةٍ؛ فذلك محال؛ فإن الموجود يمكن رؤيته، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَوْجُودٍ غَيْرِهِ؛ كالعالم، فإنه يمكن رؤية سطحه وليس هو في عالم آخر. وإن قال: أردت أنه لا بدَّ أنَّ يكون فيما يسمى جهة، ولو معدوماً؛ فإنه إذا كان مبايناً للعالم؛ سمي ما وراء العالم جهة. قيل له: فلم قلت: إنه إذا كان في جهة بهذا الاعتبار كان ممتنعاً؟ فإذا قال: لأن ما باين العالم ورئُي لا يكون إلا جسماً أو متحيزاً؛ عاد القول إلى لفظ الجسم والمتحيز كما عاد إلى لفظ الجهة. فقال له: المتحيز يراد به ما حازه غيره. ويراد به ما بان عن غيره فكان متحيزاً عنه، فإن أرادت بالمتحيز الأول؛ لم يكن سبحانه متحيزاً؛ لأنه بائن ¬

(¬1) الرسالة التدمرية القاعدة الثانية (60 - 68).

14 - صفة الصورة

عن المخلوقات، لا يحوزه غيره، وإن أردت الثاني؛ فهو سبحانه بائن عن المخلوقات، منفصل عنها، ليس هو حالاً فيها، ولا متحداً بها؛ فبهذا التفصيل يزول الاشتباه والتضليل" (¬1). وقال الشيخ العثيمين - رحمه الله -: " ومما لم يرد إثباته ولا نفيه لفظ (الجهة)، فلو سأل سائل: هل نُثبت لله تعالى جهة؟ قلنا له: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة إثباتاً ولا نفياً، ويُغني عنه ما ثبت فيهما من أن الله تعالى في السماء، وأما معناه؛ فإمَّا أنَّ يراد به: جهة سُفْلٍ أو جهة علو تحيط بالله أو جهة عُلُوٍ لا تحيط به. فالأول باطل؛ لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع. والثاني باطل أيضاً؛ لأن الله تعالى أعظم من أنْ يحيط به شيء من مخلوقاته. والثالث حقٌّ؛ لأن الله تعالى العلي فوق خلقه ولا يحيط به شيء من مخلوقاته" (¬2). يقول ابن القيم - رحمه الله -: " أسماء الله تعالى يجري على نفسه منها أكملها وأحسنها ومالا يقوم غيره مقامه فتأمل ذلك فأسماؤه أحسن الأسماء كما أن صفاته أكمل الصفات فلا تعدل عما سمى به نفسه إلى غيره كما لا تتجاوز ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى ما وصفه به المبطلون والمعطلون" (¬3). 14 - صفة الصورة لله - عز وجل -: يرى الشيخ - رحمه الله - أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله خلق آدم على صورته) (¬4) أي على صورة الرحمن كما ثبت في الرواية الأخرى (¬5)، والصورة لله تعالى ثابتة في الصحيحين أنه تعالى يأتي على صورته وعلى غيره صورته (¬6). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (6/ 39 - 40). (¬2) القواعد المثلى (ص 40). (¬3) بدائع الفوائد (1/ 168). (¬4) أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب بدء السلام (4/ 1959) برقم (6227)، ومسلم، كتاب الجنة، باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير (4/ 2183) برقم (2841) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - به. (¬5) ذكرت في البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة تالية الذكر. (¬6) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (1/ص 160).

وصفة الصورة صفةٌ ذاتيةٌ خبريةٌ ثابتةٌ لله - عز وجل - بالأحاديث الصحيحة. الدليل: - حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - الطويل في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وفيه: (فيأتيهم الجبار في صورته التي رأوه فيها أوَّل مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا ...) (¬1). - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته) (¬2). استشكل بعض أهل العلم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خلق الله آدم على صورته)، حيث فهموا أن القول: بإعادة الضمير على الله تعالى في هذا الحديث، يلزم منه التشبيه - تشبيه صورة آدم بصورة الله تعالى- ولذلك اختلفوا في متعلق الضمير. وجملة الخلاف يعود إلى أربعة أقوال هي كما يلي: أولاً: أن الضمير في قوله: (على صورته) عائد على غير الله تعالى: ففي حديث: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته) يعود إلى المضروب (¬3). ثانياً: أن الضمير في قوله: (على صورته) عائد إلى الله تعالى، وأن إضافة الصورة إلى الله تعالى من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وعلى هذا جمهور أهل السنة، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: -وهو ممن انتصر لهذا القول وأطال الكلام جداً على هذا الحديث (¬4) - قال: "هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} برقم (7439)، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية برقم (183). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب العتق، باب إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه، برقم (2559)، مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة، باب النهي عن ضرب الوجه برقم (2612) واللفظ لمسلم. (¬3) ينظر: فتح الباري لابن حجر (5/ 183)، شرح النووي على مسلم (16/ 403)، صحيح ابن حبان (12/ 420 - 421)، التوحيد لابن منده (1/ 223 - 224)، التوحيد لابن خزيمة (1/ 84)، الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 63). (¬4) في كتابه الذي يرد فيه على الرازي واسمه: (بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية) أو (نقض تأسيس الجهمية)، وقد طبع منه مجلدان كبيران بهذا العنوان، وأما بقية الكتاب فلا يزال مخطوطاً، وقد قام عدد من الباحثين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بتحقيق الكتاب كاملاً، لكنه لم يطبع بعد. وكلام ابن تيمية عن هذا الحديث في هذه البقية التي لم تطبع، وقد لخصه الشيخ حمود التويجري - رحمه الله - في كتابه: (عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن). ينظر: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين جمعاً ودراسة، د. سليمان محمد الدبيخي (ص 122).

عائد إلى الله، فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك" (¬1). ثالثاً: أن الضمير في قوله: (على صورته) يعود على الله عز وجل، وتكون إضافة الصورة إلى الله تعالى من باب إضافة المخلوق إلى خالقه كما في قوله تعالى: {نَاقَةُ اللَّهِ} وكما يقال في الكعبة: بيت الله ... وهكذا (¬2). رابعاً: إنكار حديث: (إن الله خلق آدم على صورته) والنهي عن التحديث به، وهذا مروي عن الإمام مالك: (¬3). ومما لا ريب فيه أن الصورة ثابتة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، وأن الضمير في قوله: (على صورته) عائد إلى الله تعالى، وإضافة الصورة إليه من باب إضافة الصفة إلى الموصوف - على ما جاء في القول الثاني- كما هو مقتضى ظاهر لفظ الحديث، ولا يجوز تأويل الحديث وصرفه عن ظاهره لمجرد توهم التشبيه والتمثيل، فإن هذا شأن أهل البدع، أما أهل السنة فإنهم يؤمنون بما صح من أحاديث الصفات كلها، ويجرونها على ظاهرها على ما يليق بجلال الله وعظمته مع نفي المماثلة على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11 (¬4). ¬

(¬1) بيان تلبيس الجهمية تحقيق، د. عبد الرحمن اليحيى (2/ 396). (¬2) ينظر: التوحيد لابن خزيمة (1/ 87 - 91)، الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 63 - 64)، والمعلم للمازري (3/ 171)، وشرح النووي على مسلم (16/ 403 - 404). (¬3) ينظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لأبي عمر يوسف النمري (7/ 150)، الضعفاء الكبير للعقيلي (2/ 251 - 252)، ونقله عنه الذهبي في الميزان (4/ 95)، وفي السير (5/ 449). (¬4) ينظر: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين جمعاً ودراسة، د. سليمان محمد الدبيخي (ص 137).

قال أبو محمد ابن قتيبة (¬1): "والذي عندي -والله تعالى أعلم- أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعينين، وإنما وقع الإلف (¬2) لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشية من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد" (¬3). وقال أبو يعلى الفراء (¬4) في التعليق على حديث: (رأيت ربي في أحسن صورة) (¬5)؛ قال: " اعلم أن الكلام في هذا الخبر يتعلق به فصول: أحدها جواز إطلاق الصورة عليه" (¬6). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "والوجه الخامس: أن الأحاديث مع آيات القرآن أخبرت بأنه يأتي عباده يوم القيامة على الوجه الذي وصف، وعند هؤلاء هو كل آتٍ، وما في الدنيا والآخرة، وأما أهل الإلحاد والحلول الخاص، كالذين يقولون بالاتحاد أو الحلول في المسيح أو علي أو بعض المشايخ أو بعض الملوك أو غير ذلك مما قد بسطنا القول عليهم في غير هذا الموضع؛ فقد يتأولون أيضاً هذا الحديث كما تأوله أهل الاتحاد والحلول المطلق؛ لكونه قال: فيأتيهم الله في صورة، لكن يقال لهم: لفظ (الصورة) في الحديث -يعني رحمه الله: ¬

(¬1) في تعليقه على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله خلق آدم على صورته". وهو: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد، خطيب أهل السنة وأحد أئمة السلف، من مؤلفاته: تفسير غريب القرآن، تأويل مختلف الحديث، الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية وغيرها، توفي سنة (276 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 296)، شذرات الذهب (2/ 169). (¬2) "إِلْفًا" من باب عَلِمَ أنست به وأحببته والاسم "الأُلْفَة" بالضم و"الأَلْفَةُ" أيضا اسم من "الائْتِلافِ" وهو الالتئام والاجتماع. ينظر: المصباح المنير- العصرية - (1/ 15)، المحيط في اللغة (10/ 345)، معجم مقاييس اللغة لابن فارس (1/ 131)، مقاييس اللغة (1/ 135). (¬3) تأويل مختلف الحديث (ص 261). (¬4) هو: محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد، المعروف بأبي يعلى الفراء البغدادي، شيخ الحنابلة وفقيههم، صاحب التصانيف الفريدة، كان إماماً لا يدرك قراره، ولا يشق غباره، درَّس وأفتى، توفي - رحمه الله - سنو (458 هـ)، ومن مؤلفاته: إبطال التأويل، وكتاب مسائل الإيمان. ينظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (2/ 252)، شذرات الذهب (3/ 306). (¬5) أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة ص برقم (3233)، وابن خزيمة في كتاب التوحيد برقم (318) (1/ 318)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة الكاملة برقم (3169). (¬6) ينظر: إبطال التأويلات (1/ 126).

15 - صفة الوجود

حديث أبي سعيد- كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يسمى المخلوق بها على وجه التقييد، وإذا أطلقت على الله مختصة به؛ مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير، ومثل خلقه بيديه واستوائه على العرش ونحو ذلك" (¬1). وبهذا يتضح أن الصورة صفة من صفات الله - عز وجل - الذاتية كسائر الصفات الثابتة بالأحاديث الصحيحة. 15 - صفة الوجود لله - عز وجل -: يبين الشيخ - رحمه الله - أن: " وجود الله معلوم من الدين بالضرورة، وهو صفة لله بإجماع المسلمين، بل صفة لله عند جميع العقلاء حتى المشركين لا ينازع في ذلك إلاَّ ملحد دهري. ولا يلزم من إثبات الوجود صفة لله، أن يكون له موجد؛ لأن الوجود نوعان: الأول: وجود ذاتي وهو ما كان وجوده ثابتاً له في نفسه لا مكسوباً له من غيره، وهذا هو وجود الله سبحانه وصفاته، فإن وجوده لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} الحديد: 3. الثاني: وجود حادث وهو ما كان حادثاً بعد عدم فهذا الذي لابد له من موجد يوجده وخالق يحدثه وهو الله سبحانه، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)} الزمر: 62 - 63، وقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الطور: 35 - 36، وعلى هذا يوصف الله تعالى بأنه موجود ويخبر عنه بذلك في الكلام فيقال: الله موجود، وليس الوجود اسماً، بل صفة" (¬2). وقد ورد في الكتاب والسنة ما يثبت هذه الصفة الذاتية لله سبحانه وتعالى. فمن الكتاب: - قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} الحديد: 3. ¬

(¬1) نقض التأسيس (ص 455). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 190 - 191)، وينظر: مذكرة التوحيد (ص 18) وما بعدها.

- وقوله - عز وجل -: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} القصص: 88. ومن السنة: - قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) (¬1). قال ابن جرير (¬2) - رحمه الله -: " هو (الأول) قبل كل شيء بغير حدٍّ، و (الآخر) بعد كل شيء بغير نهاية، وإنما قيل ذلك كذلك، لأنه كان ولا شيء موجوداً سواه، وهو كائنٌ بعد فناء الأشياء كلِّها، كما قال جلَّ ثناؤه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} القصص: 88" (¬3). قال ابن أبي العز - رحمه الله -: " فقول الشيخ - رحمه الله - قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء هو معنى اسمه الأول والآخر، والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر، فإن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته قطعاً للتسلسل، فإنا نشاهد حدوث الحيوان والنبات والمعادن، وحوادث الجو كالسحاب والمطر وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها، فإن واجبَ الوجود بنفسه لا يقبل العَدَم، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فعدمها ينفي وجوبها، ووجودها ينفي امتناعها، وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} الطور: 35، يقول سبحانه: أحَدثوا من غير مُحدِث أم هم أحدثوا أنفسهم؟! ومعلوم أن الشيء المحدث لا يُوجد نفسه، فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجوداً بنفسه، بل إنْ حصل ما يوجده وإلا كان معدوماً، وكل ما ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع برقم (2713). (¬2) هو: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير، أبو جعفر الطبري، الإمام المفسر، أحد أعلام السلف، له مصنفات منها: جامع البيان في تأويل آي القرآن، وتاريخ الأمم والملوك، وصريح السنة وغيرها، توفي سنة (310 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء (14/ 267)، شذرات الذهب (2/ 260). (¬3) جامع البيان (27/ 124).

16 - صفتا الحياة والقومية

أمكن وجوده بدلاً عن عدمه وعدمه بدلاً عن وجوده، فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له" (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ويفرق بين دعائه والإخبار عنه، فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، وأما الإخبار عنه؛ فلا يكون باسم سيء، لكن قد يكون باسم حسن أو باسم ليس بسيئ، وإن لم يحكم بحسنه؛ مثل: شيء وذات وموجود" (¬2). وقال ابن القيم - رحمه الله -: " ... ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفياً، كالقديم، والشيء، والموجود ... " (¬3). إذن فأهل السنة قد يطلقون وصف الوجود وكمال الوجود على الله، من باب الإخبار عن الله، وذلك في المناظرات، والمناقشات، مع من يستخدم هذا اللفظ. كما أنهم يرون أن الوجوب الذي دل عليه الدليل هو وجوده - سبحانه - بنفسه، واستغناؤه عن موجد. 16 - صفتا الحياة والقومية لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - صفتي الحياة والقيومية لله - عز وجل - بنفيه السِّنَة والنوم عن الله، وأن نفيهما كمال له سبحانه، مستدلاً بقوله تعالى {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} البقرة: 255، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله - عز وجل - لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) (¬4) " (¬5). ¬

(¬1) شرح العقيدة الطحاوية (1/ 170)، وينظر: الصواعق المرسلة لابن القيم (1/ 110). (¬2) مجموع الفتاوى (6/ 142). وينظر: كلامه في القدم في مجموع الفتاوى (9/ 300). وسبق أن ذكرته في آخر المطلب الثاني عند الحديث عن القِدَم. (¬3) بدائع الفوائد (1/ 162)، وينظر: مختصر العقيدة الطحاوية تعليق الألباني - رحمه الله - (ص 19). (¬4) أخرجه مسلم كتب الإيمان، باب في قوله عليه السلام: إن الله لا ينام برقم (179). (¬5) ينظر: فتاوى اللجنة (3/ 212).

والرب تبارك وتعالى حي حياة كاملة لم يسبقها عدم، ولا يعتريها نقص، ولا يعقبها فناء؛ بل هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهاتان الصفتان ذاتيتان لله سبحانه ثابتتان بالكتاب والسنة، كما سبق بعض أدلتها في كلام الشيخ - رحمه الله - السابق: فمن الكتاب: - قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)} آل عمران: 2. - وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} طه: 111. ومن السنة: - عن يسار بن زيد عن أبيه - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر له وإن كان فر من الزحف) (¬1). - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جالساً ورجل يصلي ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئِل به أعطى) (¬2). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " فنفي أَخْذ السِّنَة والنوم له مستلزم لكمال حياته وقيوميته، فإن النوم ينافي القيومية، والنوم أخو الموت؛ ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون" (¬3). قال ابن القيم - رحمه الله -: " صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها، وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى هو اسم الحي القيوم، والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة؛ لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ولا شيء من الآفات، ونقصان ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الاستغفار برقم (1517)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1622). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء برقم (1495)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1/ 279) (1326). (¬3) مجموع فتاوى ابن تيمية (التفسير) (5/ 126).

الحياة يضر بالأفعال وينافي القيومية؛ فكمال القيومية لكمال الحياة؛ فالحي المطلق التام لا يفوته صفة الكمال البتة، والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة " (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: " وقوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} البقرة: 255، هذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما، فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات، كالسمع والبصر والعلم والقدرة، ونحو ذلك، والقيوم: هو الذي قام بنفسه وقام بغيره، وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء، وسائر أنواع التدبير، كل ذلك داخل في قيومية الباري، ولهذا قال بعض المحققين: إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى، ومن تمام حياته وقيوميته أن {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} البقرة: 255، والسنة النعاس" (¬2). واسم الله القيوم يدل باللزوم على الوجود والبقاء والغنى بالنفس وسائر أنواع الكمال في الذات والصفات والأفعال، جميع الأسماء الحسنى تدل على صفة الحياة باللزوم ما عدا الحي فإنه يدل عليها بالتضمن كذلك القول في اسم الله القيوم؛ فإن جميع الأسماء الحسنى تدل على صفة القيومية باللزوم ما عدا القيوم فإنه يدل عليها بالتضمن، ولولا صفة الحياة والقيومية ما كملت بقية أسمائه وصفاته وأفعاله فدوام الحياة والقيومية من دلائل دوام الملك والربوبية وكمال الصفات الإلهية (¬3). وقد أحسن ابن قيم الجوزية حين وصف ذلك في النونية فقال: وله الحياة كمالها فلأجل ذا ... ما للممات عليه من سلطان وكذلك القيوم من أوصافه ... ما للمنام لديه من غشيان وكذاك أوصاف الكمال جميعها ... ثبتت له ومدارها الوصفان فمصحح الأوصاف والأفعال والأ ... سماء حقا ذانك الوصفان ولأجل ذا جاء الحديث بأنه ... في آية الكرسي وذي عمران ¬

(¬1) الطب النبوي (ص 159). (¬2) تفسير السعدي (1/ 110). (¬3) ينظر: أسماء الله الحسنى في الكتاب والسنة، د. محمود عبد الرازق الرضواني (2/ 157).

القسم الثاني: الصفات الفعلية

اسم الإله الأعظم اشتملا على اسـ ... ـم الحي والقيوم مقترنان فالكل مرجعها إلى الاسمين يد ... ري ذاك ذو بصر بهذا الشان (¬1). القسم الثاني: - الصفات الفعلية: وهي الصفات المتعلقة بمشيئة الله وقدرته، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها؛ كالمجيء، والنزول، والغضب، والفرح، والضحك ... ونحو ذلك، وتسمى (الصفات الاختيارية). والصفات الفعلية من حيث قيامها بالذات تسمى صفات ذات، ومن حيث تعلقها بما ينشأ عنها من الأقوال والأفعال تسمى صفات أفعال، ومن أمثلة ذلك صفة الكلام؛ فكلام الله - عز وجل - باعتبار أصله ونوعه صفة ذات، وباعتبار آحاد الكلام وأفراده صفة فعل، وقد بيّن المحققون أن الصفات الفعلية قديمة النوع حادثة الآحاد (¬2). ومن الصفات التي تناولها الشيخ - رحمه الله -: 1 - صفة الكلام لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - صفة الكلام لله - عز وجل - على ما يليق به، وأن كلام الله اسم لمجموع اللفظ والمعنى، وأنه كوني خبري، وأنه بصوت وحرف، وأنه تكلم مع من أراد من رسله وملائكته وسمعوا كلامه حقيقة، ولا يزال يتكلم بقضائه وتسمعه ملائكته وسيتكلم مع أهل الجنة ومع أهل النار يوم القيامة كل بما يناسبه (¬3). ¬

(¬1) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (نونية ابن القيم) تحقيق: محمد بن عبدالرحمن العريفي، وناصر بن يحيى الحنيني، عبد الله بن عبدالرحمن الهذيل، وفهد بن علي المساعد (1/ 184). (¬2) ينظر: الدرء (2/ 124 - 145، 147 - 148)، مجموع الفتاوى (6/ 217)، صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة (ص 28 - 29)، الصفات الإلهية تعريفها، أقسامها لمحمد بن خليفة بن علي التميمي (ص 65 - 66)، الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه للدكتور محمد أمان بن علي الجامي (1/ 153). (¬3) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام (1ج1/ 204)،وتفسير الجلالين (8، 28، 252)، وفتاوى اللجنة (3/ 208).

يعتقد أهل السنة والجماعة أن الله - عز وجل - يتكلم ويقول ويتحدث وينادي، وأن كلامه بصوت وحرف، وأن القرآن كلامه (¬1)، منزل غير مخلوق، وكلام الله صفةٌ ذاتيةٌ فعلية -ذاتية باعتبار أصله وفعليةٌ باعتبار آحاده- (¬2). الدليل على إثبات هذه الصفة لله - عز وجل - من الكتاب: - قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} النساء: 164. - وقوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)} القصص: 30. - وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)} النساء: 87. ومن السنة: - حديث احتجاج آدم وموسى وفيه: (قال آدم: يا موسى! اصطفاك الله بكلامه) (¬3). - حديث أبي سعيد الخدري ش: (إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك. فيقول: هل رضيتم؟ ...) (¬4). - حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً: (يقول الله: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) (¬5). ¬

(¬1) سنتطرق إلى هذا بشيء من التفصيل في المطلب الذي هو بعنوان معنى الإيمان بالقرآن وما يتضمنه إن شاء الله. (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 496)، ودرء التعارض (2/ 3 - 10)، وشرح العقيدة الطحاوية (125 - 126)، صفات الله - عز وجل - الواردة في الكتاب والسنة (ص 259). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسى عند ربه، برقم (6614)، ومسلم في كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، برقم (2652). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب كلام الرب مع أهل الجنة (7518)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إحلال الرِّضْوان على أهل الجنَة فلا يسخط عليهم أبَدًا، برقم (2832). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} سبأ: 23، برقم (7483).

قال الإمام البخاري (¬1) - رحمه الله -: " وإن الله - عز وجل - ينادي بصوت يسمعه من بَعُد كما يَسمعُه من قرب فليس هذا لغير الله جل ذكره، وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق لأن صوت الله جل ذكره يُسمع من بُعْد كما يُسمع من قُرب وأن الملائكة يصعقون من صوته فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا وقال عز وجل: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} البقرة: 22، فليس لصفة الله ند ولا مثل ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين" (¬2). وقال عبد الله (¬3) ابن الإمام أحمد رحمهما الله: " سألت أبي: عن قوم يقولون: لما كلم الله - عز وجل - موسى لم يتكلم بصوت قال أبي تكلم تبارك وتعالى بصوت، وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت" (¬4). وقال قوام السنة الأصبهاني - رحمه الله -: " وخاطر أبو بكر - رضي الله عنه - (¬5)، فقرأ عليهم القرآن، فقالوا: هذا من كلام صاحبك. فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله تعالى، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة" (¬6). ¬

(¬1) هو: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري، أبو عبد الله، ولد سنة (194 هـ) ونشأ يتيماً في حجر أمه، وقد رزق - رحمه الله - حافظة قوية، وذكاءً حاداً، وذهناً متوقداً، واطلاعاً واسعاً، توفي سنة (256 هـ)، ومن مؤلفاته: صحيح البخاري"الجامع الصحيح"، والتاريخ الكبير، والأدب المفرد، خلق أفعال العباد، والقراءة خلف الإمام. ينظر: تاريخ بغداد (2/ 6) وما بعدها، سير أعلام النبلاء (12/ 407) وما بعدها، تهذيب الكمال (24/ 461). (¬2) خلق أفعال العباد (1/ 98). (¬3) هو: أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي، الإمام الحافظ الناقد المحدِّث، روى عن أبيه شيئاً كثيراً، من جملته: المسند كله، والزهد، وله كتاب السنة، وكان ثقة ثبتاً فهماً، توفي - رحمه الله - سنة (290 هـ). ينظر: تاريخ بغداد (9/ 382)، سير أعلام النبلاء (13/ 516)، تقريب التهذيب (1/ 477)، شذرات الذهب (2/ 203). (¬4) المسائل والرسالة المروية عن الإمام أحمد (1/ 302)، درء التعارض (2/ 39). (¬5) أي: راهن قوماً من أهل مكة. (¬6) الحجة (1/ 331 - 332).

2 - صفة الاستواء

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "واستفاضت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة؛ أنه سبحانه ينادي بصوت؛ نادى موسى، وينادي عباده يوم القيامة بصوت، ويتكلم بالوحي بصوت، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال: إن الله يتكلم بلا صوت أو بلا حرف، ولا أنه أنكر أن يتكلم الله بصوت أو بحرف" (¬1). ومن كلامه سبحانه القرآن والتوراة والإنجيل؛ فالقرآن كلامه تعالى على الحقيقة لا كلام غيره، وأنزله على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - منه بدأ وإليه يعود، مُنزَّل غير مخلوق، ومن زعم أنه مخلوق فقد كفر (¬2). والذين يقولون: القرآن مخلوق، يجعلون الكلام لغيره، فيسلبونه صفات الكمال، ويقولون: إنه لا يقدر على الكلام في الأزل لا على كلام مخلوق ولا غيره، وهم وإن لم يصرحوا بالعجز عن الكلام فهو لازم لقولهم (¬3). وللمسألة اتصال بالمبحث الخاص بالإيمان بالكتب، وبالمبحث الخاص بالفرق. وسيتم التفصيل في موضعه إن شاء الله. 2 - صفة الاستواء لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - أن الله - عز وجل - مستوٍ على عرشه بنفسه حقيقةً استواءً يليق بجلاله (¬4)، وأن هذا من عقيدة أهل السنة والجماعة، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} طه: 5، وغيرها من الأدلة (¬5)، وأن مذهب السلف في صفة الاستواء حقيقة مع التفويض في الكيفية، فقد سئل مالك بن أنس - رضي الله عنه - عن كيفية استواء الله على العرش، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب (¬6). ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى (6/ 513 - 545)، (12/ 304). (¬2) ينظر: الصفات الإلهية (ص 262)، والعقيدة السلفية في كلام خير البرية، لعبدالله بن يوسف الجديع (ص 63)، خلق أفعال العباد للإمام البخاري، وعقيدة السلف أصحاب الحديث (165 - 175). (¬3) ينظر: توضيح المقاصد لأحمد بن عيسى (1/ 262 - 263)، ولوامع الأنوار البهية لأحمد بن عيسى (1/ 137). (¬4) ينظر: تفسير الجلالين (ص 9). (¬5) ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 200). (¬6) ينظر: مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 5).

وصفة الاستواء (¬1) على العرش صفةٌ فعلية خبرية ثابتة لله - عز وجل - بالكتاب والسنة. فمن الكتاب: -قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} طه: 5. -وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الأعراف: 54، يونس: 3، الرعد: 2، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4). ومن السنة: - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده، فقال: (يا أبا هريرة! إن الله خلق السماوات والأراضين وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ...) (¬2). - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض فإن ¬

(¬1) والفرق بين صفة العلو وصفة الاستواء على العرش: - ... أن صفة العلو من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن البارئ أبًدا، فلم يزل -سبحانه وتعالى- عاليًا فوق المخلوقات، وأما صفة الاستواء على العرش، فهي صفة فعلية، كان في وقت لم يكن مستوياً على العرش، وفي وقت كان مستويًا، فقبل خلق السماوات والأرض كان العرش موجودًا، ولم يكن الله مستويًا عليه، ثم استوى عليه بعد خلق السماوات والأرض. كما بينه -سبحانه- في الآيات. أما العلو، فالرب -سبحانه- لم يزل قط عاليًا. - ... أن صفة الاستواء على العرش صفة دل عليها الشرع دون العقل، لولا أن الله أخبرنا أنه مستو على العرش لما علمنا، بخلاف صفة العلو، فإنه دل عليها الشرع والعقل والفطرة، فالناس فطروا على أن الله في العلو وأنه فوق المخلوقات. وصفة العلو وصفة الاستواء على العرش، من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع، وكلاهما من العلامات الفارقة بين أهل السنة وأهل البدع. ينظر: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ عبد العزيز الراجحي حفظه الله، على موقعه في الشبكة العنكبوتية http://www.sh-rajhi.com. (¬2) أخرجه النسائي في "التفسير"، عند قوله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} برقم (11328)، قال عنه الألباني: جيد الإسناد، ينظر: مختصر العلو للذهبي تحقيق الألباني (ص 75).

سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجرّ أنهار الجنة) (¬1). قال الإمام ابن خزيمة (¬2): معلقاً على هذا الحديث: " فالخبر يصرح أن عرش ربنا جل وعلا فوق جنته، وقد أعلمنا جل وعلا أنه مستوٍ على عرشه فخالقنا فوق عرشه الذي فوق جنته" (¬3). ومعنى الاستواء: العلو، والارتفاع، والاستقرار، والصعود؛ كما قال ابن القيم: فَلَهُمْ عِبَارَاتٌ عليها أرْبَعٌ ... قد حُصِّلَتْ لِلْفَارِسِ الطَّعَّانِ وَهِيَ اسْتَقَرَّ وَقَدْ عَلا وَكَذِلكَ ارْ ... تَفَعَ الذي مَا فِيهِ من نُكْرَانِ وكذاك قد صَعِدَ الذي هُوَ رابِعٌ ... وأبُو عُبَيْدَةَ صَاحِبُ الشَّيْبَانِي يَخْتَارُ هذا القَوْلَ في تَفْسِيِرِه ... أَدْرَى مِنَ الجَهْمِيِّ بالقُرْآنِ (¬4). وقد أجمع السلف -رحمهم الله- على أن الله مستوٍ على عرشه، وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وسلف الأمة كثيرة منها: ما أجاب به الإمام مالك - رحمه الله - السائل - عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} طه: 5، كيف استوى؟. قال له: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة (¬5). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب: درجات المجاهدين في سبيل الله، يقال: هذه سبيلي وهذا سبيلي رقم الحديث (2637). (¬2) هو: الحافظ الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري، كان إماماً ثبتاً معدوم النظير، رحل إلى الشام والحجاز والعراق ومصر، وتفقه على المزني وغيره، توفي - رحمه الله - سنة (311 هـ)، وله مصنفات منها: كتاب التوحيد. ينظر: تذكرة الحفاظ للذهبي (2/ 720)، سير أعلام النبلاء (14/ 365)، وشذرات الذهب (2/ 262). (¬3) التوحيد لابن خزيمة (1/ 241). (¬4) النونية (1/ 215 - هراس). (¬5) ينظر: الحلية لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (6/ 325،326). وأخرجه أيضا الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص 17 - 18) من طريق جعفر بن عبد الله عن مالك، وابن عبد البر في التمهيد (7/ 151) من طريق عبد الله بن نافع عن مالك، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 408) من طريق عبد الله بن وهب عن مالك قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 406، 407): إسناده جيد وصححه الذهبي في العلو (ص 103)، وينظر: أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة لمحمد بن عبد الرحمن الخميس (ص 290).

3 - صفة الرحمة

ما ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: " العرش فوق الماء والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم" (¬1). 3 - صفة الرحمة لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - عند قول الله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} الشورى: 48، صفة الرحمة لله - عز وجل - فيقول: " إذاقة الناس الرحمة بمعنى النعمة يستلزم عقلاً إثبات الرحمة صفة لله قائمة بذاته، إذ النعمة أثر من آثارها" (¬2). ويرد الشيخ - رحمه الله - على من فسر الرحمة بالجنة فيقول: "قد يظن من فسر الرحمة بالجنة فراراً من إثبات صفة الرحمة لله حقيقة أنَّ ذلك ينفعه، وليس كذلك، فإن الجنة أثر من آثار الرحمة التي هي صفة لله قائمة بذاته والتي هي مصدر الخير، وأصل التراحم بين العالم وإثبات الأثر يستلزم عقلاً إثبات أصله ومصدره" (¬3). وهي صفةٌ ثابتة بالكتاب والسنة، و (الرحمن) و (الرحيم) من أسمائه تعالى تكررا في الكتاب والسنة مرات عديدة. وقد اختلف أهل العلم في هذه الصفة هل هي من الصفات الذاتية أو الفعلية، والراجح أنها من صفات الأفعال من حيث تعلقها بمشيئة الله تعالى وقدرته؛ لأنه سبحانه وتعالى يرحم من يشاء ويعذب من يشاء، ويمكن مع ذلك عدَّها من صفات الذات باعتبار أن الله لم يزل متصفاً بالرحمة، فالرحمة العامة ملازمة لذاته تعالى وإن كان أفرادها تتجدد (¬4). ¬

(¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 438 - 439) برقم (659)، ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 261)، الاعتقاد للبيهقي (ص 42)، معارج القبول للحكمي (1/ 202) وغيرها. (¬2) التعليق على تفسير الجلالين (ص 39). (¬3) التعليق على تفسير الجلالين (ص 63 - 64). (¬4) ينظر: الصفات الإلهية في الكتاب والسنة لمحمد بن أمان الجامي (ص 285).

الدليل على هذه الصفة من الكتاب: - قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} الفاتحة: 2 - 3. - قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} البقرة: 218. ومن السنة: - عن عمران بن حصين قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل فسلم فقال: السلام عليكم فرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (عشر) ثم جلس ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (عشرون) ثم جلس ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (ثلاثون) (¬1). - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لما خلق الله الخلق، كتب في كتاب، فهو عنده فرق العرش: إن رحمتي تغلب - أو: غلبت - غضبي) (¬2). ورحمة الله تعالى نوعان: 1 - رحمة عامة: وهي رحمته الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم وأسباب معاشهم ومصالحهم مؤمنهم وكافرهم فهو الذي خلقهم وأوسع عليهم في أرزاقهم. 2 - رحمة خاصة: لعباده المؤمنين بأن هداهم إلى الإيمان، وهو يثيبهم في الآخرة الثواب الدائم الذي لا ينقطع (¬3). ¬

(¬1) أخرجه النسائي في كتاب الزينة، باب ثواب السلام برقم (9758)، صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (1/ 385). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} برقم (3194)،ومسلم في كتاب التوبة باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها تسبق غضبه، برقم (2751). (¬3) ينظر: شأن الدعاء للخطابي (36 - 38)، وتفسير أسماء الله للزجاج (ص 28).

ورحمته تعالى بغير ضعفٍ ولا رقَّة، كما هو حال المخلوق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل رحمة تليق بجلاله وعظمته (¬1). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: إن اتصاف الله بالرحمة، والمخلوق يتصف بها، لا يستلزم نقصاً له، فلو قُدر أن الرحمة في حق المخلوقين مستلزمة للنقص كالضعف والخور، لم يجب أن تكون في حق الله تعالى مستلزمة لذلك، كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، فينا يستلزم من النقص والحاجة، ما يجب تنزيه الله عنه، فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا، وما اتصفنا به من الكمال من العلم والقدرة وغير ذلك، هو مقرون بالحاجة والحدوث، لم يجب أن يكون لله ذات ولا صفات ولا أفعال، ولا يقدر ولا يعلم، لكون ذلك ملازماً للحاجة فينا، فكذلك الرحمة وغيرها، إذا قُدر أنها في حقنا ملازمة للحاجة والضعف، لم تجب أن تكون في حق الله ملازمة لذلك (¬2). قال ابن القيم - رحمه الله -: "فالرحمة صفة الرحيم، وهي في كل موصوف بحسبه، فإن كان حيواناً له قلب فرحمته من جنس رقَّة قائمة بقلبه، وإن كان ملكاً فرحمته تناسب ذاته، فإذا اتصف أرحم الراحمين بالرحمة حقيقة لم يلزم أن تكون رحمته من جنس رحمة المخلوق" (¬3). ¬

(¬1) ينظر: اشتقاق أسماء الله للزجاجي (38 - 42). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى (6/ 117 - 118)، " بين الشيخ - رحمه الله - أن الرحمة في حق المخلوقين لا تستلزم الضعف والخور. فالرحمة ممدوحة من المؤمنين، كما قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)} البلد: 17، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي) (أخرجه أحمد (2/ 310)، والترمذي كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الرحمة بين المسلمين، برقم (1924)، وابن حبان كتاب البر والإحسان، برقم (462)، والبيهقي في شعب الإيمان (8/ 161)، وغيرهم بإسناد حسن عن أبي هريرة)، ومحال أن يقول: لا ينزع الضعف والخور إلا من شقي، لكن لما كانت الرحمة تقارن في حق بعض الناس الضعف والخور، كما في رحمة النساء، ظن المخالف أنها كذلك مطلقاً". ينظر: المسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد للدكتور عبد الرحمن التركي حاشية رقم (2) (ص 454). (¬3) مختصر الصواعق اختصره محمد ابن الموصلي (ص 301).

4 - صفة المحبة

4 - صفة المحبة لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - صفة المحبة لله - عز وجل - وأن السلف يثبتونها حقيقة على ما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وأن النصر والموالاة ونحو ذلك من آثار محبة الله (¬1). وهي صفة لله - عز وجل - فعلية اختيارية ثابتة بالكتاب والسنة. فمن الكتاب: - قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} البقرة: 195. - وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} المائدة: 54. ومن السنة: - حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -: (... لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله ...) (¬2). - حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: (إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي) (¬3). وأهل السنة والجماعة يثبتون صفة المحبة لله - عز وجل -، ويقولون: هي صفة حقيقية لله - عز وجل -، على ما يليق به، وليس هي إرادة الثواب؛ كما يقول المؤولة. كما يثبت أهل السنة لازم المحبة وأثرها، وهو إرادة الثواب وإكرام من يحبه سبحانه (¬4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "إن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبتت محبة الله لعبادة ومحبتهم له، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} البقرة: 165، وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} المائدة: 54، وقوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} التوبة: 24 ¬

(¬1) ينظر: التعليق على تفسير الجلالين (ص 96، 171). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم على يديه رجل، برقم (3009)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب من فضائل علي بن أبي طالب برقم (2405). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي، برقم (2965). (¬4) صفات الله - عز وجل - الواردة في الكتاب والسنة (ص 104).

5 - صفة الرضا

وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعبادة المؤمنين ومحبتهم له وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليهم السلام" (¬1). 5 - صفة الرضا لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - بأن صفة الرضا لله - عز وجل - على الحقيقة إثباتاً بلا تشبيه ولا تمثيل، وأن إثابته الطائعين بالنصر والحفظ والنعيم ونحو ذلك، من توابع رضاه سبحانه وتعالى (¬2). وهي صفة من صفات الله - عز وجل - الفعلية الخبرية (¬3) الثابتة بالكتاب والسنة. فمن الكتاب: - قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} المائدة: 119. - وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الفتح:18. ومن السنة: - حديث عائشة - رضي الله عنها -: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك ...) (¬4). - حديث: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً ...) (¬5). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (2/ 354). (¬2) ينظر: تعليق الشيخ عبد الرزاق على تفسير الجلالين (ص 89، 300). (¬3) الصفات الذاتية والفعلية تنقسم إلى قسمين: عقلية، وخبرية: أ - عقلية: وهي التي يشترك في إثباتها الدليل الشرعي السمعي، والدليل العقلي، والفطرة السليمة. وهي أغلب صفات الله - تعالى - مثل صفة السمع، والبصر، والقوة، والقدرة، وغيرها. ب- خبرية: وتسمى النقلية، والسمعية، وهي التي لا تعرف إلا عن طريق النص، فطريق معرفتها النص فقط، مع أن العقل السليم لا ينافيها، مثل صفة اليدين، والنزول إلى السماء الدنيا. ينظر: تيسير لمعة الاعتقاد، د. عبد الرحمن بن صالح المحمود (ص 87)، الموسوعة الميسرة (1/ 87). (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (486). (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة والنهي عن منع وهات ... ، برقم (1715).

6 - صفة الغضب

قال أبو إسماعيل الصابوني (¬1) - رحمه الله -: "وكذلك يقولون (أي: الإثبات) في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح؛ من: السمع، والبصر، والعين ... والرضا، والسخط، والحياة ... " (¬2). قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - في تعليقه على حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد) (¬3): " في هذا الحديث: إثبات صفة الرضى والسخط لله، وأن ذلك متعلق بمحابه ومراضيه. فالله تعالى يحب أوليائه وأصفياءه ويحب من قام بطاعته وطاعة رسوله، وهذا من كماله وحكمته وحمده، ورحمته. ورضاه وسخطه، من صفاته المتعلقة بمشيئته وقدرته" (¬4). 6 - صفة الغضب لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - صفة الغضب لله - عز وجل - على المنافقين والمشركين، صفةً لله على الحقيقة (¬5)، مستدلاً بقوله تعالى {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} الفتح: 6. ¬

(¬1) هو: إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الشافعي الواعظ المفسر المصنف، أحد الأعلام وشيخ خراسان في زمانه جلس للوعظ وهو ابن عشر سنين، وكان إماماً حافظاً عمدة مقدماً في الوعظ والأدب، من أئمة السلف وأعلامهم، توفي - رحمه الله - سنة (449 هـ)، من مؤلفاته: عقيدة السلف وأصحاب الحديث، الانتصار، الدعوات. ينظر: سير أعلام النبلاء (18/ 40)، العبر في خبر من غبر للذهبي (2/ 294)، وشذرات الذهب (3/ 282). (¬2) ينظر: عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص 5). (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء من الفضل في رضا الوالدين برقم (1899)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1899)، وفي السلسلة الصحيحة برقم (516). (¬4) بهجة قلوب الأبرار (ص 312). (¬5) ينظر: تفسير الجلالين (ص 86).

وهو صفةٌ فعلية خبريَّةٌ لله - عز وجل - ثابتٌ بالكتاب والسنة، وهو كمال لأنه -أي الغضب- على من يستحق العقوبة من القادر عليه فهذا كمال (¬1). فمن الكتاب: - قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} النور: 9. - وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)} طه: 81. - وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الممتحنة: 13. ومن السنة: - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: (إن رحمتي غلبت غضبي) (¬2). - حديث الشفاعة الطويل، وفيه: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله ...) (¬3). وأهل السنة والجماعة يثبتون صفة الغضب لله - عز وجل - بوجه يليق بجلاله وعظمته، لا يكيفون ولا يشبهون ولا يؤولون؛ كمن يقول: الغضب إرادة العقاب، ولا يعطلون، بل يقولون: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11. قال الطحاوي (¬4): " والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى" (¬5) ¬

(¬1) درء التعارض (4/ 92). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الروم: 27، برقم (3194). ومسلم في كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه، برقم (2751). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا (3340)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم (194). (¬4) هو: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الحنفي، محدث الديار المصرية ومفتيها، برز في علوم كثيرة، وله مؤلفات نافعة منها شرح العقيدة الطحاوية، توفي سنة 321 هـ. ينظر: وفيات الأعيان (1/ 71 - 72)، سير أعلام النبلاء (15/ 27 - 33)، البداية والنهاية (11/ 174)، لسان الميزان (1/ 274 - 282). (¬5) العقيدة الطحاوية (1/ 192).

7 - صفة السخط

قال الشارح ابن أبي العز الحنفي: " ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب والرضا والعداوة والولاية والحب والبغض ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة" (¬1). وقال قوام السنة الأصبهاني: "قال علماؤنا: يوصف الله بالغضب، ولا يوصف بالغيظ" (¬2). ومما سبق يتضح بأن السلف أجمعوا على ثبوت الغضب لله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وهو غضب حقيقي يليق بالله عز وجل. 7 - صفة السخط لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - ما أثبته أهل السنة والجماعة لله - عز وجل - من سخط الله على من تعدّى حدوده، وكره ما يرضي الله (¬3)، مستدلاً بقوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)} محمد: 28. وصفة السخط من صفات الله الفعلية الخبرية الثابتة بالكتاب والسنة. فمن الكتاب: - قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)} المائدة: 80. - وقوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)} محمد: 28. ¬

(¬1) شرح العقيدة الطحاوية (ص 463)، وينظر: لمعة الاعتقاد لابن قدامة (ص 11)، ودرء التعارض لابن تيمية (3/ 380) وما بعدها، مختصر الصواعق المرسلة (1/ 185) وما بعدها. (¬2) الحجة في بيان المحجة (2/ 457). (¬3) ينظر: التعليق على تفسير الجلالين (ص 82).

ومن السنة: - حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: (إن الله - عز وجل - يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك وسعديك ... (إلى أن قال فيه:) فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني؛ فلا أسخط عليكم بعده أبداً) (¬1). - حديث بريدة - رضي الله عنه -: (لا تقولوا للمنافقين سيد، فإن يك سيداً؛ فقد أسخطتم ربكم - عز وجل -) (¬2). قال أبو إسماعيل الصابوني: "وكذلك يقولون في جميع الصفات (يعني: الإثبات) التي نزل بها القرآن ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين ... والرضا والسخط ... " (¬3). ما الفرق بين الغضب والسخط؟ وهل هما بمعنى واحد؟ الجواب: "إذا أراد السائل صفات الله، فليسا بمعنى واحد، وإن كانت بعض معاني السخط قد تكون قريبة من معنى الغضب، ولكن هذه صفة، وهذه صفة، أما للناس فهذا شيء معروف؛ لأن الغضب من أثر السخط" (¬4). وقال الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -: " السخط: هو عدم الرضا، والسخط إلى الكراهة أقرب منه إلى الغضب، فإن الغضب يعدى بعلى، والسخط يعدى بها تارة، وبنفسه أخرى؛ وبين ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب كلام الرب مع أهل الجنة، برقم (7518)، ومسلم في كتاب الجنة وصفها ونعيم أهلها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط عليهم أبدا، برقم (2829). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب لا يقول المملوك: ربي وربتي، برقم (4977)، والإمام أحمد في مسنده برقم (22430)، والبخاري في "الأدب المفرد" برقم (760). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (371). (¬3) عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص 5). (¬4) إجابة الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان وفقه الله، عند شرحه لكتاب التوحيد، وذلك عبارة عن دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية http://www.islamweb.net

8 - صفة الخلق

السخط والغضب فرق واضح: كثيرًا ما يقابل السخط بالرضا، والغضب لا يقابل به؛ وفيه إثبات الرضا؛ فإن الله يرضى حقيقة كما أنه يسخط حقيقة" (¬1). 8 - صفة الْخَلْقُ لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - صفة الخَلْق لله - عز وجل - مستدلاً بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} الزمر: 62، وبين الشيخ - رحمه الله -: " أن إخباره تعالى عن نفسه في الآية بأنه خالق يمنع من دخوله في عموم قوله: {كُلِّ شَيْءٍ} الزمر: 62، وإلا كان مخلوقاً لنفسه، وذلك محال لما يلزمه من كونه سابقاً على نفسه لكونه خالقاً، متأخراً عنها لكونه مخلوقاً لها، وسبق الشيء نفسه وتأخيره عنها في الوجود محال؛ فالآية أيضاً دالة على تخصيص عموم المفعول" (¬2). والخلق صفة من صفات الله الفعلية الثابتة بالكتاب والسنة، وهي مأخوذة أيضاً من اسمه (الخالق) و (الخلاق)، وهي من صفات الذات وصفات الفعل معاً. الدليل من الكتاب: وردت هذه الصفة في القرآن مرات عديدة، تارة بالفعل (خَلَقَ)، أو بمصدره، وتارة باسمه (الخالق) أو (الخلاَّق)، ومن ذلك: - قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} الأعراف: 54. - وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)} الحجر: 86. - وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} ق: 16. ¬

(¬1) شرح العقيدة الواسطية من تقريرات: سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، أخرجها وأعدها للطبع: د. عبد المحسن بن محمد بن قاسم (1/ 38). (¬2) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 341).

ومن السنة: - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: (قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كَخَلْقي؛ فليخلقوا ذرَّة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة) (¬1). - حديث عائشة - رضي الله عنها - في التصاوير: (... أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله ...) (¬2). قال الأزهري (¬3): "ومن صفات الله: الخالق والخلاق، ولا تجوز هذه الصفة بالألف واللام لغير الله - عز وجل -. والخلاق في كلام العرب ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه ... والخلق في كلام العرب على ضربين: أحدهما: الإنشاء على مثال أبدعه. والآخر: التقدير. وقال في قول الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} المؤمنون: 14، معناه: أحسن المقدرين" (¬4). وقال ابن تيمية - رحمه الله -: "وأما قولنا: هو موصوف في الأزل بالصفات الفعلية من الخلق والكرم والمغفرة؛ فهذا إخبار عن أن وصفه بذلك متقدم؛ لأن الوصف هو الكلام الذي ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب نقض الصور، برقم (5953)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب لا تخل الملائكة بيتاً، برقم (2111). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب ما وطئ من التصاوير، برقم (5954)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب لا يدخل الملائكة بيتاً، برقم (2107). (¬3) هو: محمد بن أحمد بن الأزهري بن طلحة بن نوح الأزهري الهروي، ولد بهراة عام (282 هـ)، وقع أسيراً لدى القرامطة في طريق عودته من الحج إلى العراق عام (311 هـ)، وعاش أسيراً في بادية البحرين دهراً طويلاً، استفاد خلالها من عرب البادية ألفاظاً ونوادر وأخباراً كثيرة ضمَّنها (التهذيب)، ثم رجع بغداد بعد إطلاق سراحه، ومنها إلى هَراة، فألف فيها كتابه المشهور بـ (تهذيب اللغة)، ولم يخرج منها حتى توفي بها عام (370 هـ). ينظر: معجم الأدباء لياقوت الحموي (5/ 2321)، سير أعلام النبلاء (16/ 315)، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي (1/ 19). (¬4) تهذيب اللغة (7/ 26).

9 - صفة الهرولة

يخبر به عنه؛ وهذا مما تدخله الحقيقة والمجاز، وهو حقيقة عند أصحابنا، وأما اتصافه بذلك؛ فسواء كان صفةً ثبوتَّيةّ وراء القدرة أو إضافية؛ فيه من الكلام ما تقدم" (¬1). وقال في موضع آخر: "والله تعالى لا يوصف بشيء من مخلوقاته، بل صفاته قائمة بذاته، وهذا مطرد على أصول السلف وجمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم، ويقولون: إن خلق الله للسماوات والأرض ليس هو نفس السماوات والأرض، بل الخلق غير المخلوق، لا سيما مذهب السلف والأئمة وأهل السنة الذين وافقوهم على إثبات صفات الله وأفعاله" (¬2). وقال في موضع ثالث: "ولهذا كان مذهب جماهير أهل السنة والمعرفة -وهو المشهور عند أصحاب الإمام أحمد وأبي حنيفة وغيرهم من المالكية والشافعية والصوفية وأهل الحديث وطوائف من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم- أن كون الله سبحانه وتعالى خالقاً ورازقاً ومحيياً ومميتاً وباعثاً ووارثاً ... وغير ذلك من صفات فعله، وهو من صفات ذاته؛ ليس من يخلق كمن لا يخلق. ومذهب الجمهور أن الخلق غير المخلوق؛ فالخلق فعل الله القائم به، والمخلوق هو المخلوقات المنفصلة عنه" (¬3). 9 - صفة الهرولة لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - صفة الهرولة لله - عز وجل - على ما يليق به سبحانه (¬4)، مستدلاً بالحديث القدسي قال الله تعالى: (إذا تقرب إليَّ العبد شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إليَّ ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني ماشياً أتيته هرولة) (¬5). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (6/ 272). (¬2) مجموع الفتاوى (8/ 126). (¬3) مجموع الفتاوى (12/ 435 - 436). (¬4) ينظر: فتاوى اللجنة (3/ 196). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته عن ربه، برقم (7405، 7505، 7535)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى، برقم (2675).

وهي صفة فعلية خبرية ثابتة لله - عز وجل - بالحديث الصحيح. فدليلها من السنة: - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: (... وإن أتاني يمشي؛ أتيته هرولة) (¬1). الهرولة (¬2) الواردة في هذا الحديث، هل يصح أن تثبت صفة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، أم أن لها معنى آخر يقتضيه السياق فتحمل عليه؟ وفي هذا اختلف أهل العلم من أهل السنة والجماعة، على قولين هما: القول الأول: أن المراد به ضرب مثل لكرم الله وجوده على عبده (¬3). القول الثاني: أن الهرولة صفة فعلية خبرية ثابتة لله تعالى بهذا الحديث السابق (¬4). قال الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله -: "صفة الهرولة ثابتة لله تعالى؛ كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي ... (فذكر الحديث، وفيه:) وإن أتاني يمشي؛ أتيته هرولة)، وهذه الهرولة صفة من صفات أفعاله التي يجب علينا الإيمان بها من غير تكييف، لأن التكييف ¬

(¬1) سبق تخريجه آنفاً. (¬2) الهرولة: "بين المشي والعدو" ينظر: تهذيب اللغة (6/ 146) مادة هرول، ومعجم مقاييس اللغة (6/ 48)، ولسان العرب (11/ 695)، والمجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث لأبي موسى المديني (3/ 496). (¬3) وهذا القول مروي عن الأعمش وإسحاق بن راهويه وابن قتيبة وأبي يعلى وابن تيمية، عليهم رحمة الله، وإليه ذهب الشيخ عبد الله الغنيمان وعليه عامة أهل التأويل من شراح الحديث وغيرهم. ينظر: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان (3/ 94)، وأعلام الحديث للخطابي (4/ 2358)، والأسماء والصفات للبيهقي (2/ 384)، وشرح السنة للبغوي (5/ 26)، والمعلم للمازري (3/ 184)، وإكمال المعلم للقاضي عياض (8/ 174)، والمفهم للقرطبي (7/ 8)، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (5/ 261)، وشرح صحيح مسلم للنووي (17/ 6)، وفتح الباري (13/ 513 - 514)، وبيان تلبيس الجهمية، القسم السادس (1/ 150 - 152)،ومجموع الفتاوى (5/ 510)، شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (1/ 271). (¬4) وقد صرح بكونها صفة لله تعالى بعض العلماء المعاصرين، كأعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، والشيخ محمد العثيمين - رحمه الله -، وقد أطال النفس في تقرير وإثبات ذلك، وعلى هذا القول ظاهر كلام الهروي وأبي موسى المديني، عليهما رحمة الله. ينظر: الأربعين في دلائل التوحيد للهروي (ص 79)، والمجموع المغيث لأبي موسى المديني (3/ 496)، تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي، د. عبد الرزاق البدر (ص 169)، إ

قول على الله بغير علم، وهو حرام، وبدون تمثيل؛ لأن الله يقول {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11 " (¬1). وقبل ترجيح أي من القولين السابقين لا بُدَّ من التذكير بقاعدتين هامتين هما: الأولى: أن الواجب في نصوص الكتاب والسنة إجراؤها على ظاهرها، دون التعرض لها بتحريف أو تعطيل، لا سيما نصوص الصفات، لأنه لا مجال للرأي فيها (¬2). الثانية: أن المراد بظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق، ومعنى آخر في سياق آخر (¬3). وبناءً على ما تقدم، فإن لفظ الهرولة وإن كان معناه: الإسراع في المشي، إلا أنه لا يقتضي أن يكون هذا معناه المراد منه في كل سياق ورد فيه، وإنما السياق هو الذي يحدد معناه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو يتحدث عن قرب الله تعالى: " ولا يلزم من جواز القرب عليه، أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد، فإن دلَّ على هذا حمل عليه، وإن دل على هذا حمل عليه" (¬4). فالهرولة في هذا الحديث معناها: مجازاة الله تعالى وإثابته لعبده بأكمل وأفضل من عمله -على ما جاء في القول الأول- وليس المراد بها: المشي السريع، فتثبت صفة لله تعالى، كما أن تقرب العبد بالشبر والذراع لا يراد به حقيقة الشبر والذراع، وإنما يراد به قدرهما، وإلا فما موضع العبادات القلبية - والتي هي من أعظم العبادات وعليها تنبني ¬

(¬1) ينظر: إزالة الستار عن الجواب المختار لهداية المحتار (ص 24)، القواعد المثلى (ص 72)، صفات الله - عز وجل - الواردة في الكتاب والسنة (ص 262). (¬2) ينظر: القواعد المثلى للعثيمين (ص 33). (¬3) ينظر: القواعد المثلى (ص 36)، ونقض الدارمي على المريسي (1/ 344). (¬4) مجموع الفتاوى (6/ 14).

10 - صفتا الإتيان والمجيء

أعمال الجوارح- كالخوف الرجاء والمحبة والتوكل ... وكذا العبادات القولية كالذكر والدعاء والاستغفار، هل نخرجها من هذا الحديث؟! وليس هذا تأويلاً للحديث وحملاً له على غير ظاهره، بل هو حقيقة معناه، وظاهر سياقه (¬1). والقول: بهذا المعنى للهرولة، ليس هروباً من إثباتها صفة لله تعالى، لأنها توهم معنى فاسداً -كما هو منهج نفاة الصفات-، وإنما لأن سياق الحديث وظاهره يدل عليه، ولو لم يرد في السياق ما يدل عليه لتعين إثباتها صفة لله تعالى على ما يليق بجلاله، ولذلك فقد أجمع أهل السنة والجماعة على إثبات صفة المجيء والإتيان له سبحانه على ما يليق بجلاله، لدلالة النصوص الصحيحة عليهما، والهرولة من جنسهما، ولكن لأنه لم يدل دليل صريح على إثباتها صفة لله تعالى فإنه لا يتوجه إثباتها صفة له، والله أعلم؛ ثم إن الهرولة جاءت في الحديث مقيدة، فالله يأتي هرولة لمن أتاه يمشي، ولم يأتِ مطلقة كبقية الصفات المطلقة، ولذا فمن أثبتها صفة لله تعالى ينبغي له تقييدها بما قُيدت به في الحديث، فلا يجعلها صفة لله تعالى على وجه الإطلاق (¬2). وقد قال الشيخ محمد العثيمين: عن هذا القول: إن له حظاً من النظر (¬3)، مع أنه قد انتصر للقول الثاني. 10 - صفتا الإتيان والمجيء لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - صفة الإتيان لله - عز وجل -، فيقول: " إتيانٌ حقيقي يليق بجلاله تعالى لا يشبه إتيان المخلوق، ولا نتأوله على إتيان رحمته أو ملك من ملائكته، بل نثبته كما أثبته السلف في تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} الأنعام: 158" (¬4). ¬

(¬1) (ينظر: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين جمعاً ودراسة (ص 185 - 186)، وبيان تلبيس الجهمية القسم السادس (1/ 151). (¬2) ينظر: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين جمعاً ودراسة (ص 187 - 188). (¬3) ينظر: القواعد المثلى (ص 72)، وإزالة الستار (ص 31). (¬4) فتاوى اللجنة (3/ 176).

وهما صفتان فعليتان خبريتان ثابتتان بالكتاب والسنة. فمن الكتاب: - قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} البقرة: 210. - وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} الأنعام: 158. - وقوله: {جَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} الفجر: 22. ومن السنة: - حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - في الرؤية: (... قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم ...) (¬1). - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: (... وإن تقرب إلي ذراعاً؛ تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي؛ أتيته هرولة) (¬2). - ولقد جاءت صفتا الإتيان والمجيء مقترنتين في حديث واحدٍ، رواه مسلم (¬3) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: (إذا تلقَّاني عبدي بشبرٍ؛ تلقَّيْته بذراع، وإذا تلقاني بذراع، تلقَّيْته بباع، وإذا تلقاني بباع، جئته أتيته بأسرع) (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، برقم (7439)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم (183). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته عن ربه، برقم (7405)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى، برقم (2675). (¬3) هو: مسلم بن الحجاج بن مسلم بن وَرْدٍ القشيري النيسابوري، أبو الحسين، ولد على الصحيح سنة ست ومائتين، توفي سنة إحدى وستين ومائتين. له تصانيف أغلبها إن لم يكن كلها في الحديث وعلومه، منها: المسند الصحيح المعروف بصحيح مسلم، الأسماء والكنى، التمييز، الطبقات، المنفردات والوحدان. ينظر: سير أعلام النبلاء (12/ 579)، تذكرة الحفاظ للذهبي (2/ 590)، الإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح لمشهور آل سلمان (1/ 233) وما بعدها. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم (6748).

قال النووي: "هكذا هو في أكثر النسخ: (جئته أتيته)، وفي بعضها (جئتُه بأسرع) فقط، وفي بعضها: (أتيته)، وهاتان ظاهرتان، والأول صحيح أيضاً، والجمع بينهما للتوكيد، وهو حسن، لا سيما عند اختلاف اللفظ، والله أعلم" (¬1). وأهل السنة والجماعة يثبتون لله إتيانٌ حقيقي يليق بجلاله تعالى لا يشبه إتيان المخلوق. قال ابن جرير: في تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} البقرة: 210: "اختلف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} البقرة: 210، فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصف به نفسه - عز وجل - من المجيء والإتيان والنزول، وغير جائز تكلف القول في ذلك لأحد إلا بخبرٍ من الله جل جلاله أو من رسول مرسل، فأما القول في صفات الله وأسمائه؛ فغير جائز لأحد من جهة الاستخراج؛ إلا بما ذكرنا. وقال آخرون: ... " (¬2) ورجح: القول الأول. وقال أبو الحسن الأشعري (¬3): "وأجمعوا على أنه - عز وجل - يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً ... " (¬4). وقال الشيخ محمد خليل الهراس -بعد أن حكى ما ذكره شيخ الإسلام عن الآيات السابقة -: " في هذه الآيات إثبات صفتين من صفات الفعل، وهما صفتا الإتيان والمجيء، والذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بذلك على حقيقة، والابتعاد عن التأويل الذي هو في الحقيقة إلحاد وتعطيل أ. هـ " (¬5). ¬

(¬1) ينظر: المنهاج شرح صحيح مسلم ابن الحجاج (17/ 6 - 7). (¬2) تفسير الطبري (2/ 329). (¬3) هو: علي بن إسماعيل بن سالم بن إسماعيل الأشعري أبو الحسن، شيخ الأشاعرة وإمامهم، مر بثلاثة أطوار في حياته: طور انتحل فيه الاعتزال، وطور سلك فيه مسلك ابن كلاب، وطور نهج فيه منهج السلف مع لوثة اعتزالية، من مؤلفاته: مقالات الإسلاميين، الإبانة، اللمع وغيرها، توفي سنة (234 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء (15/ 85)، شذرات الذهب (2/ 303). (¬4) رسالة إلى أهل الثغر (ص 227). (¬5) شرح الواسطية (ص 112).

11 - صفة الضحك

11 - صفة الضحك لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - صفة الضحك لله - عز وجل - على ما يليق بجلال الله وعظمته (¬1)، مستدلاً لما يقول بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيُقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد) (¬2). وهي صفةٌ من صفات الله - عز وجل - الفعلية الخبرية الثابتة بالأحاديث الصحيحة. الدليل من السنة: - حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً فيها، وفيه أنه قال يخاطب الله - عز وجل -: (أتسخر بي؟ أو تضحك بي وأنت الملك ...) (¬3). قال الإمام ابن خزيمة - رحمه الله -: "باب: ذكر إثبات ضحك ربنا - عز وجل -: بلا صفةٍ تصف ضحكه جلَّ ثناؤه-أي بلا تكييف لضحكه-، ولا يشبه ضحكه بضحك المخلوقين، وضحكهم كذلك، بل نؤمن بأنه يضحك؛ كما أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونسكت عن صفة ضحكه جل وعلا، إذ الله - عز وجل - استأثر بصفة ضحكه، لم يطلعنا على ذلك؛ فنحن قائلون بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، مصدقون يذلك، بقلوبنا منصتون عمَّا لم يبين مما استأثر الله بعلمه" (¬4). وقال أبو بكر الآجري (¬5): "باب الإيمان بأن الله - عز وجل - يضحك: اعلموا-وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل- أن أهل الحق يصفون الله - عز وجل - بما وصف به نفسه ¬

(¬1) ينظر: فتاوى اللجنة (3/ 206). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم فيسدد بعد ويقتل، برقم (2826)، في كتاب الإمارة، باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، برقم (1890) من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم (6571)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجاً (186). (¬4) كتاب التوحيد (2/ 563). (¬5) هو: الإمام المحدث الفقيه الشافعي أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري البغدادي، كان عالماً عابداً صاحب سنة واتباع، انتقل إلى مكة وجاور بها، وبها توفي - رحمه الله - سنة (360 هـ)، وله عدة تصانيف أشهرها: كتاب الشريعة. ينظر: تاريخ بغداد (2/ 239)، وفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 113)، شذرات الذهب (3/ 35).

12 - صفة النزول

- عز وجل -، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبما وصف به الصحابة ن. وهذا مذهب العلماء ممن اتبع ولم يبتدع، ولا يقال فيه: كيف؟ بل التسليم له، والإيمان به؛ أن الله - عز وجل - يضحك، كذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن صحابته ن؛ فلا ينكر هذا إلا من لا يحمد حاله عند أهل الحق" (¬1). وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (¬2) -لما قيل له: هذه الأحاديث التي تروى؛ في: الرؤية، والكرسي موضع القدمين، وضحك ربنا من قنوط عباده، وإن جهنم لتمتلئ ... وأشباه هذه الأحاديث؟ - قال - رحمه الله -: " هذه الأحاديث صِحَاح، حملها أصحاب الحديث والفقهاء، بعضهم عن بعض، وهي عندنا حقٌ لا شك فيها، ولكن إذا قيل: كيف يضع قدمه؟ وكيف يضحك؟ قلنا: لا يُفسَّر هذا، ولا سمعنا أحداً يفسره" (¬3). 12 - صفة النزول لله - عز وجل -: يقرر الشيخ - رحمه الله - صفة النزول لله - عز وجل - كما يشاء، فيقول: " ففي الإمكان أن ينزل كما يشاء نزولاً يليق بجلاله في الثلث الأخير من الليل بالنسبة إلى كل قطر - من الأرض-، ولا ينافي ذلك علوه واستواءه على العرش؛ لأننا في ذلك لا نعلم كيفية النزول ولا كيفية الاستواء، بل ذلك مختص به سبحانه، بخلاف المخلوق فإنه يستحيل في حقه أن ينزل في مكان ويوجد بمكان آخر في تلك اللحظة كما هو معلوم، إلاَّ الله - عز وجل - فهو على كل ¬

(¬1) الشريعة (ص 277). (¬2) هو: القاسم بن سلام بن عبد الله البغدادي، المشهور بأبي عبيد، من أئمة الحديث وكبار السلف، اللغوي، المحدث، الفقيه، توفي بمكة سنة (224 هـ)، قيل أنه أول من صنف في غريب الحديث من مؤلفاته: غريب الحديث، والإيمان، كتاب الأموال، وغيرها. ينظر: تهذيب الكمال للمزي (23/ 354)، سير أعلام النبلاء (10/ 490)، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة لجلال الدين السيوطي (2/ 253). (¬3) ينظر: أخرج هذه الرواية عن أبو عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله - الدارقطني في كتاب الصفات (ص 68 - 69)، والآجري في الشريعة (ص 255)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 526) برقم (928)، وابن عبد البر في التمهيد (7/ 149 - 150)، وابن تيمية في مجموع الفتاوى (5/ 51).

شيء قدير، ولا يقاس ولا يمثل به؛ لقوله - عز وجل -: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)} النحل: 74، وقوله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11، ومما ذكرناه يتضح لك أنه لا تعارض بين نزوله واستوائه، وأن اختلاف الأقطار لا يؤثر في ذلك" (¬1). والنزول صفة فعلية خبرية ثابتة لله - عز وجل - بالسنة الصحيحة. الدليل من السنة: - حديث النزول المشهور: (يَنْزِلُ ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ...) (¬2). - حديث علي بن أبي طالب وأبي هريرة - رضي الله عنهما - مرفوعاً: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ولأخرت عشاء الآخرة إلى ثلث الليل الأول فإنه إذا مضى ثلث الليل الأول هبط الله تعالى إلى السماء الدنيا فلم يزل هناك حتى يطلع الفجر ...) (¬3). قال أبو سعيد الدارمي -بعد أن ذكر ما يثبت النزول من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فهذه الأحاديث قد جاءت كلها وأكثر منها في نزول الرب تبارك وتعالى في هذه المواطن، وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا، لا ينكرها منهم أحد، ولا يمنع من روايتها" (¬4). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 186 - 187). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} الفتح: 15، برقم (7494)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، برقم (758)؛ من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة، من أخبار عثمان بن عفان (967و968 شاكر) بإسناد حسن، وأخرجه النسائي في كتاب الزينة، باب الوقت الذي يستجاب فيه الاستغفار، برقم (10236)، وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب الصلاة، باب ينزل الله إلى السماء الدنيا، برقم (1481). (¬4) الرد على الجهمية (ص 79)، ينظر: شرح أصول الاعتقاد للالكائي (3/ 481)، رد الدارمي على بشر (1/ 497)، النزول للدار قطني (ص 25) وما بعدها.

وقال الإمام محمد بن خزيمة: "باب: ذكر أخبار ثابتة السند في نزول الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليلة: نشهد شهادة مقرٍ بلسانه، مصدقٍ بقلبه، مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نُزول الرب، من غير أن نصف الكيفية؛ لأن نبينا المصطفى لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى سماء الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل، والله جل وعلا لم يترك، ولا نبيه عليه السلام، بيان ما يحتاج إليه المسلمون من أمر دينهم؛ فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول، غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية؛ إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصف لنا كيفية النزول. وفي هذه الأخبار ما بان وثبت وصح أن الله جل وعلا فوق سماء الدنيا الذي أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه ينزل إليه، إذ محال في لغة العرب أن يقول: نزل من أسفل إلى أعلى، ومفهوم في الخطاب أن النزول من أعلى إلى أسفل" (¬1). وقال أبو القاسم اللالكائي: "سياق ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نزول الرب تبارك وتعالى، رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرون نفساً" (¬2). وقد تواترت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نزول الرب إلى السماء الدنيا، ورواه عنه نحو ثمانية وعشرين صحابياً. وهذا يدل على أنه كان يبلغه في كثير من المواطن، مما يؤكد أنه نزول حقيقي يليق بالله سبحانه وتعالى (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " والقول المشهور عن السلف عند أهل السنة والحديث: هو الإقرار بما ورد به الكتاب والسنة من أنه يأتي وينزل، وغير ذلك من الأفعال اللازمة" (¬4). ونزول الرب -سبحانه وتعالى- الثابت له بالأدلة المتقدمة على تسعة أنواع هي: نزوله سبحانه إلى السماء الدنيا كل ليلة، وعشية عرفة، وليلة النصف من شعبان، وبعد أن ¬

(¬1) ينظر: كتاب التوحيد (1/ 289). (¬2) أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 434)، ينظر: التسعينية لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 914). (¬3) ينظر: حكاية التواتر، وذكر الصحابة الذين رووه، وطرقه في مختصر الصواعق المرسلة (2/ 366)، (2/ 371 - 382)، مجموع الفتاوى (5/ 577 - 578). (¬4) مجموع الفتاوى (5/ 577)، ينظر: صفة النزول الإلهي للجعيدي (ص 223).

ينادي المنادي بين يدي الساعة، ونزوله تعالى إلى الأرض بين النفختين في الصور، ويوم القيامة، ونزوله جل وعلا من العرش إلى الكرسي يوم القيامة، ونزوله عز وجل على القنطرة يوم القيامة، ونزوله جل وعلا لأهل الجنة (¬1). وقد أورد البعض على حديث النزول في ثلث الليل الآخر، بأن ثلث الليل يختلف باختلاف البلدان، فلا يمكن النزول في وقت معين. قال ابن رجب - رحمه الله -: " وقد اعترض من كان يعرف هذا على حديث النزول ثلث الليل الآخر، وقال: ثلث الليل يختلف باختلاف البلدان، فلا يمكن أن يكون النزول وقت معين. ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام قبح هذا الاعتراض، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه الراشدين لو سمعوا من يعترض به لما ناظروه، بل بادروا إلى عقوبته وإلحاقه بزمرة المخالفين المنافقين المكذبين" (¬2). قال الإمام الترمذي (¬3) - رحمه الله -: " وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث (¬4) وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا ويؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال كيف ... " (¬5). ¬

(¬1) ينظر: أدلة هذا الأنواع وتخريجها في صفة النزول الإلهي (ص 149 - 151). (¬2) فضل علم السلف على الخلف (ص 134). (¬3) هو: محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الترمذي الضرير فقد بصره -على الصحيح- في كبره بعد رحلته وكتابته العلم، كان عالماً حافظاً إماماً بارعاً، شارك البخاري في بعض شيوخه وتتلمذ عليه توفي - رحمه الله - سنة (279 هـ)، وقيل غير ذلك، له مصنفات منها: الجامع المشهور بسنن الترمذي، وكتاب العلل. ينظر: وفيات الأعيان (4/ 104)، وتذكرة الحفاظ (2/ 633)، والسير (13/ 270). (¬4) يعني حديث أبي هريرة مرفوعاً: (ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه ...) الحديث، أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب الصدقة من كسب طيب، برقم (1410)، ومسلم في كتاب الزكاة باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، برقم (1016). (¬5) السنن (3/ 41 - 42).

وقال ابن عبد البر (¬1) - رحمه الله -: " والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويصدقون بهذا الحديث ولا يكيفون، والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء، والحجة في ذلك واحدة" (¬2). ¬

(¬1) هو: يوسف بن عبد الله بن محمد بن عاصم، النميري المالكي، أبو عمر، حافظ المغرب، وصاحب التصانيف الشهيرة، من مؤلفاته: التمهيد، والاستذكار، والاستيعاب، توفي سنة (463 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء (18/ 153)، شذرات الذهب (3/ 314). (¬2) التمهيد (7/ 143)، وينظر: (7/ 153).

الفصل الثالث: نواقض التوحيد والقوادح فيه

الفصل الثالث: نواقض التوحيد والقوادح فيه وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:

تمهيد

تمهيد من المعلوم أن الإسلام نهى عن الشرك، بل وحذر من كل ما يوقع فيه، وسدّ كل الطرق المؤدية إليه، والشرك على نوعين يبينها الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -؛ بقوله: " الشرك الأكبر: أن يجعل الإنسان لله نداً؛ إما في أسمائه وصفاته، وإما أن يجعل له نداً في العبادة، وإما أن يجعل لله نداً في التشريع، فهذه الأنواع الثلاثة هي الشرك الأكبر الذي يرتد به فاعله أو معتقده عن ملة الإسلام، فلا يصلى عليه إذا مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا تؤكل ذبيحته ويحكم بوجوب قتله ويتولى ذلك ولي أمر المسلمين إلاَّ أنه يستتاب قبل قتله، فإن تاب قبلت توبته ولم يقتل وعومل معاملة المسلمين. أما الشرك الأصغر: فكل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة للوقوع فيه، وجاء في النصوص تسميته شركاً كالحلف بغير الله، فإنه مظنة للانحدار إلى الشرك الأكبر؛ ولهذا نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاَ فليحلف بالله أو ليصمت) (¬1)، بل سماه: مشركاً، روى ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك) (¬2)، لأن الحلف بغير الله فيه غلو في تعظيم غير الله، وقد ينتهي ذلك التعظيم بمن حلف بغير الله إلى الشرك الأكبر. والشرك الأصغر لا يخرج من ارتكس فيه من ملة الإسلام، ولكنه أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر؛ ولذا قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقاً) (¬3)، وعلى هذا فمن أحكامه أن يعامل معاملة المسلمين فيرثه أهله، ويرثهم حسب ما ورد بيانه في الشرع، ويصلى عليه إذا مات ويدفن في مقابر المسلمين وتؤكل ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم رقم الحديث (6185)، وأخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله، رقم الحديث (3110). (¬2) أخرجه الإمام أحمد برقم (5352، 5568، 6037)، والترمذي الأيمان والنذور، باب ما جاء في الحلف بغير الله برقم (1534)، وأبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء برقم (3251) واللفظ له، وابن حبان في صحيحه في كتاب الإيمان برقم (4358)، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة (5/ 69). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه باب الأيمان ولا يحلف إلا بالله برقم (15929)، وصححه الألباني في الإرواء الغليل برقم (2562).

ذبيحته إلى أمثال ذلك من أحكام الإسلام، ولا يخلد في النار إن دخلها كسائر مرتكبي الكبائر عند أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج والمعتزلة" (¬1). تنوعت عبارات أهل العلم في بيان أنواع الشرك، فمنهم من قسم الشرك إلى أكبر وأصغر (¬2)، وبعضهم قسمه إلى ثلاثة أقسام أكبر، وأصغر، وخفي (¬3)، والبعض الآخر قسمه حسب أجزاء التوحيد الثلاثة (¬4)، وبعضهم يقسمه إلى نوعين الشرك في الربوبية والشرك في الألوهية، ويدخل الشرك في الأسماء والصفات ضمن النوع الأول (¬5). وجميع هذه التقسيمات لا تخرج عن المدلول الشرعي للشرك (¬6)؛ ولعل التقسيم الذي يجمع هذه التقسيمات هو ما اختاره (¬7) الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - وهو: الشرك على نوعين أكبر، وأصغر: أما الأكبر: فهو أن يتخذ شريكاً أو نداً مع الله تعالى في ذاته أو في أسمائه أو صفاته، أو أن يعدل بالله تعالى مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده (¬8). أو أن يقال: هو أن يجعل لله نداً في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته (¬9). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 746 - 750). (¬2) مدارج السالكين لابن القيم (1/ 339)، الدرر السنية لابن سحمان (2/ 85). (¬3) ينظر: رسالة أنواع التوحيد وأنواع الشرك، ضمن الجامع الفريد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ص 341). (¬4) تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله (ص 43). (¬5) ينظر: مجموع الفتاوى (1/ 91 - 94)، ودرء التعارض لابن تيمية (7/ 390)، وتجريد التوحيد المفيد للمقريزي (ص 8). (¬6) ينظر: الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا (1/ 138 - 141). (¬7) فتاوى اللجنة (1/ 746 - 750). (¬8) ينظر: الاستقامة لابن تيمية (1/ 344)، ومدارج السالكين (1/ 339). (¬9) ينظر: معارج القبول (2/ 483)، واقتضاء الصراط المستقيم (2/ 3، 7).

أما الشرك الأصغر: فقد جاء في تعريفه عبارات عدة، لعل من أجمعها: أنه كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة للوقوع فيه وجاء في النصوص تسميته شركاً (¬1). وبعضهم لا يعرفه، وإنما يذكره بالأمثلة لكثرة أفراد هذا النوع وتنوعه (¬2). وهو محرم، بل هو أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، لكنه لا يخرج من ارتكبه عن ملة الإسلام (¬3). ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى (7/ 72)، مدارج السالكين (1/ 344)، تيسير العزيز الحميد (ص 45)، القول السديد للسعدي (ص 24) ينظر: حاشية كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن قاسم (ص 50)، القول المفيد لابن عثيمين (1/ 264 - 266)، مجلة البحوث الإسلامية (37/ 204). (¬2) ينظر: مدارج السالكين (1/ 344). (¬3) ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 518).

المبحث الأول: نواقض توحيد الربوبية والقوادح فيه

المبحث الأول نواقض توحيد الربوبية والقوادح فيه. سبق معرفة أن توحيد الربوبية هو اعتقاد المسلم بأن الله هو رب كل شيء ومليكه (¬1)، وخالق كل شيء، ورازق كل حي، ومدبر كل أمر ... ، فكل قول أو اعتقاد فيه إنكار لهذه الخصائص التي يختص بها الله -عز وجل- أو بعضها هو من نواقض الإيمان، التي يصبح فاعلها مرتدًا عن دين الله -عز وجل. - قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عند حديثه عن شرك الربوبية: " فإن الرب سبحانه هو المالك المدبر، المعطي المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل، فمن شهد أن المعطي أو المانع، أو الضار أو النافع أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته" (¬2). وهذا الشرك ينقسم إلى كبير وأكبر (¬3). وهو على نوعين (¬4): النوع الأول: شرك التعطيل؛ وهو أقبح أنواع الشرك، وذلك: إما بالإلحاد: كشرك فرعون إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)} الشعراء: 23، ويدخل ¬

(¬1) ينظر: مذكرة التوحيد (29 - 30)، فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 54 - 55). (¬2) مجموع الفتاوى (1/ 92)، وينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 703، والإرشاد للسعدي (ص 205). (¬3) ينظر: الجواب الكافي لابن القيم (ص 309). (¬4) وقد أُفرد فصلٌ كامل عن (جهود الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - في بيان الفرق والمذاهب المعاصرة) في الباب الثاني من هذه الرسالة، ما يغني عن تكرار كلام الشيخ وإثقال كاهل الرسالة، والذي يوجد فيه الدلالة على هذين النوعين.

فيه الشيوعية (¬1) والقومية (¬2) وغيرها من الاتجاهات الهدامة التي تجددت. وإما بتعطيل المصنوع عن صانعه: كالقول بقِدم العالم (¬3). وإما بتعطيل معاملة الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد: كالقول بوحدة الوجود (¬4). ¬

(¬1) هي حركة فكرية اقتصادية يهودية إباحية وضعها كارل ماركس تقوم على الإلحاد وإلغاء الملكية الفردية وإلغاء التوارث وإشراك الناس كلهم في الإنتاج على حد سواء، ومن مبادىء الشيوعية أن المادة هي أصل الحياة وليس لها خالق ولا مبدع ولا متصرف فهي بهذا المبدأ تحارب جميع الأديان، وكذلك محاربتها للرأسمالية ومحاربة للحشمة والفضيلة والتمسك الاجتماعي والبناء الأسري، وإثارة حقد الفقراء والعمال ضد أصحاب الأموال والسلطات. ينظر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة، أ. د. ناصر القفاري، أ. د. ناصر العقل (ص 90) بتصرف، ومعجم ألفاظ العقيدة (ص 248). (¬2) هي: حركة سياسية فكرية متعصبة تدعو إلى تمجيد العرب وإقامة دولة موحدة لهم على أساس من رابطة الدم والقربى واللغة والتاريخ وإحلالها محل رابطة الدين، ويتبنى شعار الدين لله والوطن للجميع، والهدف من هذا الشعار إقصاء الإسلام، وجعل أخوة الوطن مقدمة على أخوة الدين. ينظر: الموسوعة الميسرة للندوة العالمية (ص 401)، معجم ألفاظ العقيدة (ص 340). (¬3) والقول بقدم العالم من البدعة المنكرة التي أحدثها الفلاسفة المتأرجحون بين شريعة الرحمن وزندقة اليونان، تناقِض توحيد الربوبية بشكل واضح، إذ حقيقتها إنكار وجود الصانع، الخالق للكون، المتقدم عليه، كما جاء في الحديث: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء". ومعناه عندهم أن العالم ما زال موجوداً مع الله تعالى، ومعلولاً له، ومساوقاً له مساوقة المعلول للعلة، غير متأخر عنه في الزمان. ويتضمن هذا القول أن الله تعالى علة تامة مستلزمة للعالم، والعالم متولد عنه تولداً لازماً بحيث لا يمكن أن ينفك عنه. وهذا القول باطل عقلاً وشرعاً، لذلك أجمعت طوائف الملل كلها على بطلانه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "القول بقدم العالم قول اتفق جماهير العقلاء على بطلانه، فليس أهل الملة وحدهم تبطله، بل أهل الملل كلهم، وجمهور من سواهم من المجوس وأصناف المشركين: - مشركي العرب، ومشركي الهند وغيرهم من الأمم، وجماهير أساطين الفلاسفة كلهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن، بل وعامتهم معترفون بأن الله خالق كل شيء". ينظر: نواقض الإيمان القولية والعملية للدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف (ص 98)، مجموع الفتاوى (5/ 565)، الصفدية لابن تيمية، تهافت الفلاسفة للغزالي (ص 74). (¬4) وحدة الوجود: هي عقيدة كثير من الصوفية وهي قائمة على أن الله والوجود شيء واحد غير منقسم، وأن وجود هذا العالم هو عين وجود الله وهو حقيقة وجود هذا العالم، فليس عندهم رب وعبد ولا مالك ومملوك ولا راحم ومرحوم ولا عابد ولا معبود، فالعابد هو نفس المعبود والرب هو العبد - تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا-. ينظر: معجم ألفاظ العقيدة (ص 460)، التحفة المهدية لفالح مهدي (ص 252).

وإما تعطيل الصانع عن أفعاله: كمنكري إرسال الرسل، ومنكري القدر، ومنكري البعث والنشور، وغيرها (¬1). النوع الثاني: شرك الأنداد من غير تعطيل، وهو من جعل مع الله إلهاً آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، وذلك: إما بدعوى التصرف في الكون من الغير: كمشركي قوم إبراهيم الصابئة، والمتصوفة القائلين بالغوث والقطب والأوتاد، والأبدال وتصرفهم كما يدّعون. وإما بإعطاء السلطة لأحد غير الله في التحليل والتحريم: كما كان في النصارى، وفي بعض حكام هذه الأمة، والقوانين الوضعية وغيرها. وإما بدعوى التأثير في الكون من النجوم والهياكل: كالصابئة (¬2) من قوم إبراهيم، أو الأولياء، أو التمائم والأحجية (¬3). ¬

(¬1) ينظر: تيسير العزيز الحميد لسليمان آل الشيخ (1/ 40)، شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للغنيمان (1/ 33)، منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس (3/ 82)، نواقض الإيمان القولية والعملية (ص 97)، الشرك في القديم والحديث (1/ 145). (¬2) الصابئة: _ الصابىء _ لغة _ الذي يترك دينه إلى دين آخر ويطلق على عباد الكواكب والهياكل. ينظر: الملل والنحل 2/ 5 _ 57، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (ص 90). (¬3) ينظر: تيسير العزيز الحميد لسليمان آل الشيخ (1/ 40)، الشرك في القديم والحديث (1/ 146 - 147).

المبحث الثاني: نواقض توحيد الألوهية والقوادح فيه

المبحث الثاني نواقض توحيد الألوهية والقوادح فيه توحيد الألوهية هو أن يعتقد المسلم بأن الله هو المعبود بحق وأن غيره لا يستحق أي شيء من هذه العبادة (¬1)، فمن قال قولاً، أو فعل فعلاً، أو اعتقد اعتقاداً يتضمن إنكار هذا الحق لله -عز وجل-، فقد كفر وارتد عن دين الله؛ وقد أشرك في عبادة الله، وإن كان صاحبه يعتقد أنه لا شريك لله في ذاته، ولا في صفاته ولا في أفعاله. وهو الذي يسمى بالشرك في العبادة، وهو أكثر وأوسع انتشاراً ووقوعاً من الذي قبله- فإن أكثر الناس في الماضي والحاضر يعترفون لله بربوبيته وخلقه ورزقه وتدبيره-، وهو يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله ... ومعلوم أن العبادة متعلقة باللسان والقلب والجوارح، فالشرك في العبادة أيضاً يكون في هذه الأشياء الثلاثة، فقد يكون الشرك في الأعمال القلبية، وقد يكون بالأعمال والجوارح، وقد يكون بالألفاظ والأقوال، وقد يجتمع بعضها مع بعض (¬2). وقد تحدث الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عن كثير من الأعمال والأقوال التي تناقض وتنافي توحيد الألوهية، وبين رأيه فيها، ويمكن تقسيم ما ذكره منها إلى قسمين: ¬

(¬1) ينظر: مذكرة التوحيد (ص 40). (¬2) ينظر في تقسيم هذا النوع من الشرك إلى ثلاثة أقسام: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم (ص 319 - 320).

الأول: ما يناقض توحيد الألوهية أو يقدح فيه من الأعمال

الأول: ما يناقض توحيد الألوهية أو يقدح فيه من الأعمال: 1 - النذر والذبح لغير الله تعالى: يقرر الشيخ - رحمه الله -: "بأن النذر نوع من أنواع العبادة التي هي حق لله وحده، وكذلك الذبح لله عبادة فلا يجوز صرف شيء منها لغير الله سبحانه وتعالى، فمن صرف نوعاً من أنواع العبادة نذراً أو ذبحاً أو غير ذلك لغير الله يعتبر مشركاً شركاً أكبر، وهو داخل تحت عموم قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} المائدة: 72، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لعن الله من ذبح لغير الله) (¬1)؛ وأما من أكل من الذبيحة المذبوحة لغير الله فهو آثم لقوله تعالى: ... {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} المائدة: 3 " (¬2). وكون النذر لله عبادة يجب الوفاء به، فيكون النذر لغير الله تعالى شركاً في العبادة؛ والنذور الواقعة من عباد القبور، تقرباً بها إليهم؛ ليقضوا لهم حوائجهم، أو ليشفعوا لهم، كل ذلك شرك في العبادة بلا ريب، كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)} الأنعام: 136، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: وأما ما نُذِر لغير الله، كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات. والحلفُ بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله، رقم الحديث (3662، 3663). (¬2) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 180 - 226).

الناذر للمخلوقات، فإن كليهما شرك. والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله من هذا، يقول ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) (¬1) (¬2). وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي (¬3) - في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء- فهذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان فهو لغير الله، فيكون باطلاً. وفي التنزيل قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الأنعام: 121، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)} الأنعام: 162. والنذر لغير الله إشراك مع الله، كالذبح لغيره. وفي الصحيح (¬4) عن عائشة - رضي الله عنها -:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) (¬5). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)} النجم: 19، برقم (4860)، مسلم في كتاب الحظر والإباحة، باب ذكر الأمر بالصدقة لمن قال هجراً في كلامه، رقم الحديث (5822). (¬2) ينظر: فتح المجيد (181 - 182). (¬3) هو صنع الله بن جعفر العماري، كان عالماً بأنواع العلوم، وكان مؤلفاً في التفسير قد صنف الحاشية على أوائل تفسير الكشاف والحاشية على تفسير البيضاوي وهي كبرى وصغرى وجمعها من ثمان عشرة حاشية، وكانت وفاته في شهر صفر سنة إحدى وعشرين وألف. ينظر: طبقات المفسرين للأدنروي (1/ 412). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة برقم (6696). (¬5) ينظر: سيف الله على من كذب على أولياء الله للشيخ صنع الله الحلبي (ص 11)، فتح المجيد (171 - 173).

2 - السحر

2 - السحر (¬1): أ- تعريف السحر: يعرف الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - السحر، بقوله: "السحر في اللغة: عبارة عما خفي ولطف سببه؛ وفي الاصطلاح: السحر: عزائم ورقى" (¬2). والسحر في اللغة: السحر في اللغة يدور حول عدة معانٍ؛ فيطلق على كل ما لطف مأخذه ودق، وقيل أصل السحر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، وقيل في معنى قوله تعالى: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} المؤمنون: 89: فأنى تصرفون (¬3). وفي الاصطلاح: اختلفت تعريفات العلماء للسحر لكثرة أنواعه، وقد أشار الشافعي - رحمه الله - إلى ذلك بقوله: "والسحر اسم جامع لمعان مختلفة" (¬4)، كما أوضح هذا الاختلاف الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بقوله: " اعلم أن السحر في الاصطلاح لا يمكن حده بحد جامع مانعاً ¬

(¬1) وجه إدخال السحر في أبواب التوحيد أن كثيراً من أقسامه لا يتأتى إلا بالشرك، والتوسل بالأرواح الشيطانية إلى مقاصد الساحر، فلا يتم للعبد توحيد حتى يدع السحر كله قليله وكثيره. ولهذا قرنه الشارع بالشرك، فالسحر يدخل في الشرك من جهتين: من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم، وربما تقرب إليهم بما يحبون ليقوموا بخدمته ومطلوبه. ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب، ودعوى مشاركة الله في علمه وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك، وذلك من شعب الشرك والكفر. وفيه أيضا من التصرفات المحرمة والأفعال القبيحة كالقتل والتفريق بين المتحابين والصرف والعطف والسعي في تغيير العقول، وهذا من أفظع المحرمات، وذلك من الشرك ووسائله، ولذلك تعين قتل الساحر لشدة مضرته وإفساده. القول السديد في مقاصد التوحيد (1/ 106) (¬2) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 544، 547). (¬3) ينظر: معجم المقاييس (3/ 138)، لسان العرب (4/ 438)، ترتيب القاموس المحيط على طرقة المصباح المنير وأساس البلاغة للأستاذ الطاهر أحمد الزاوي (2/ 528)، أعلام الحديث للخطابي (ص 1035)، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني (ص 225). (¬4) الأم (1/ 319).

لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعاً لها مانع لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافاً متبايناً" (¬1). ومن أشهر هذه التعريفات: تعريف ابن قدامة (¬2) حين قال: السحر: عزائم ورقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجته، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه" (¬3). السحر حقيقة أم تخييل: السحر منه ما يكون له حقيقة وأثر لذا جاء الأمر بالاستعاذة منه كما في قوله تعالى {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} الفلق: 4، يعني السواحر (¬4). ومنه ما يكون تخييل (¬5) كما في قوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)} طه: 66. وفي معجم المناوي (¬6) قال: " السحر: يقال على معان: الأول: تخيلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعوذة (¬7). الثاني: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التقرب إليه. ¬

(¬1) أضواء البيان (4/ 44). (¬2) هو: الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي، فقيه من أكابر الحنابلة، وهو عالم مجاهد، قاتل مع صلاح الدين، ولد سنة (541 هـ) وتوفي سنة (620 هـ) له تصانيف منها المغني شرح مختصر الخرقي، والكافي، وروضة الناظر في أصول الفقه، والمقنع. ينظر: سير أعلام النبلاء (22/ 165)، وشذرات الذهب (7/ 155)، والأعلام (4/ 67). (¬3) الكافي في مذهب الإمام أحمد (4/ 164)، وينظر: السحر بين الحقيقة والخيال، د. أحمد بن ناصر الحمد (ص 13 - 16). (¬4) جامع البيان (30/ 227)، تفسير القرآن العظيم (4/ 574). (¬5) ينظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 147)، أضواء البيان (4/ 437). (¬6) هو: العلامة محمد عبد الرؤوف بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري، من كبار العلماء ومن سليل أسرة علمية عريقة، انزوى للبحث والتصنيف، وقد مرض وضعفت أطرافه، فجعل ولده محمد يستملي منه تأليفه، ولد سنة (952)، وتوفي سنة (1031 هـ)، له مصنفات عديدة منها: فيض القدير، وشرح الشمائل للترمذي، التوقيف على مهمات التعاريف. ينظر: البدر الطالع (1/ 357)، والأعلام (6/ 204)، ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة (2/ 143)، والمسائل العقدية في فيض القدير للمناوى عرض ونقد للدكتور عبد الرحمن بن عبد الله التركي (ص 66) وما بعدها. (¬7) الشعوذة أو الشعبذة: لَعِبٌ بخقة يرى الإنسان منه الشيء بخلاف ما عليه أصله في رأي العين، أي يرى ما ليس له حقيقة. ينظر: لسان العرب مادة شعذ (5/ 29)، والمصباح المنير للفيومي (1/ 337).

الثالث: ما يغير الصور والطبائع، كجعل الإنسان حماراً، ولا حقيقة له عند المحصلين" (¬1). وفي تفسير الإمام الرازي: لفظ السحر في عرف الشرع، مختص بكل أمر يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقة، ويجري مجرى التمويه والخداع. وإذا أطلق ذم فاعله" (¬2) من التعريفات المتداولة عند الأئمة أن السحر عزائم ورقى وعقد، تؤثر في الأبدان والقلوب، فيمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه (¬3). ب- أنواع السحر: هناك أنواع يمكن إلحاقها بالسحر لما بينهما من التشابه. قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " والسحر أنواع مختلفة (¬4): 1 - يطلق السحر على الفصاحة وقوة البيان، فإن استعمل ذلك في إظهار الحق وإبطال الباطل فهو مشروع محمود، وإن استعمل في التمويه على الناس وقلب الحقائق فهو ممنوع وقد يبلغ درجة الكفر" (¬5). والبيان كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن من البيان لسحراً) (¬6)، البيان ليس سحراً، فليس فيه استعانة بالشياطين، ولكنه داخل في حقيقة السحر اللغوية؛ لأنه تأثير خفي على ¬

(¬1) التوقيف على مهمات التعاريف -وهو معجم لغوي مصطلحي- (ص 399)، وينظر: المفردات في غريب القرآن للراغب (ص 224 - 225). (¬2) التفسير الكبير (3/ 205 - 206)، وينظر أعلام الحديث للخطابي (3/ 1976 - 1977). (¬3) ينظر: الكافي لابن قدامة (5/ 331)، تفسير القرطبي (2/ 44)، الدين الخالص لمحمد صديق حسن خان (2/ 318)، فتح المجيد (ص 313)، المسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد (ص 336 - 337). (¬4) أنواع السحر كثيرة وخفية، حتى اعتقد كثير من الناس أن من صدرت منه هذه الأمور من الأولياء، وعدّوها من كرامات الأولياء، وليس كل من جرى على يده شيء من خوارق العادة يكون ولياً لله؛ لأن العادة تنخرق بفعل الساحر والمشعوذ وخبر المنجم والكاهن بشيء من الغيب مما يخبره به الشياطين المسترقون للسمع، فأولياء الله هم المتبعون للرسول - صلى الله عليه وسلم - باطناً وظاهراً، ومن كان بخلاف ذلك فليس بمؤمن فضلاً عن أن يكون ولياً لله تعالى، فلو أن الرجل طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى يُنظر متابعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموافقته لأمره ونهيه. ينظر: الدر النضيد (1/ 172) (¬5) فتاوى اللجنة (1/ 544 - 547، 563). (¬6) أخرجه البخاري في كتاب الطب باب إن من البيان لسحرا برقم (5767)، ومسلم في كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة برقم (869).

القلوب، فإن الرجل البليغ ذا البيان وذا الإيضاح وذا اللسان الجميل الفصيح يؤثر على القلوب حتى يسبيها، وربما قلب الحق باطلا والباطل حقا ببيانه. "فقد يستعمل السحر مقيداً فيما يمدح ويحمد؛ نحو خبر: (إن من البيان لسحراً).أي أن بعض البيان سحر، لأن بعضه يوضح المشكل، ويكشف عن حقيقة المجمل بحسن بيانه، فيستميل القلوب، كما يستمال بالسحر، وقيل لما كان في البيان من إبداع التركيب، وغرابة التأليف، ما يجذب السامع، ويخرجه إلى حد يكاد يشغله عن غيره، شبه بالسحر الحقيقي" (¬1). البيان: البلاغة والفصاحة. وصدق نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ الرجل يكون عليه الحقُّ وهو ألحنُ بالحجج من صاحب الحق (¬2)، فيسحرُ القومَ ببيانه فيذهب بالحق. وقال ابنُ عبد البر: تأولته طائفة على الذم؛ لأن السحر مذموم، وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح؛ لأن الله تعالى مدح البيان. وقد قال عمرُ بن عبد العزيز - رحمه الله - لرجلٍ سأله عن حاجة فأحسن المسألة؛ فأعجبه قوله. قال: "هذا والله السحر الحلال"انتهى (¬3). والطائفة التي تأولته على الذم رأت أن المراد به البيان الذي فيه تمويهٌ على السامع وتلبيس، كما قال بعضهم شعراً: ففي زخرف القول تزيينٌ لباطله ... والحقُّ قد يعتريه سوءُ تعبير (¬4) مأخوذ عن قول الشاعر: تقول هذا مُجاج (¬5) النحل تمدحُه ... وإنْ تشأ قلت ذا قيءُ الزنابير (¬6) ¬

(¬1) التفسير الكبير (3/ 205 - 206)، وينظر: أعلام الحديث للخطابي (3/ 1976 - 1977)، المسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد (ص 337). (¬2) (فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض)، أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأحكام باب من أقام البينة بعد اليمين برقم (2625). (¬3) فتح المجيد (ص 328 - 329)، معالم السنن للخطابي (4/ 136). (¬4) من كلام أحمد بن شافع الجيلاني (ت 565 هـ) ذكره ابنُ رجب في التاريخ (1/ 313). (¬5) المُجَاجُ بالضم والمُجَاجَةُ أيضا الريق الذي تمجه من فيك يقال المطر مُجَاجُ المزن والعسل مُجَاج النحل. ينظر: غريب الحديث للخطابي (1/ 188)، مختار الصحاح (1/ 642)، مقاييس اللغة (5/ 215). (¬6) والزنابير: جمع زنبور، وهو كل ذباب أليم اللسع من النحل وغيره. ينظر: المعجم الوسيط (1/ 402)، تاج العروس من جواهر القاموس (11/ 452)، بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة لعبد المتعال الصعيدي (1/ 248).

مدحاً وذمّاً وما جاوزتَ وصفهما ... والحقُّ قد يعتريه سوءُ تعبير (¬1) وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرِّره، ويبطل الباطل ويبيِّنه. فهذا هو الممدوح. وهكذا حال الرسل وأتباعهم؛ ولهذا علت مراتبُهم في الفضائل، وعظمت حسناتهم. وبالجملة: فالبيان إذا استعمل لتغطية الحق وتحسين الباطل. فإنه مذموم (¬2). "2 - ويطلق على النميمة، وهي من كبائر الذنوب إلاَّ إذا نمى خيراً ليصلح بين الناس، ولها واقع وتأثير في نفس من أصغى إليه" (¬3). قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أنبئكم ما العَضْهُ؟ هي النميمة: القالة بين الناس) (¬4)، وأصل العضه في اللغة (¬5) يطلق على أشياء ومنها السحر، والنميمة - هي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد - القالة بين الناس نوع من أنواع السحر، وهي كبيرة من الكبائر ومحرم من المحرمات، ووجه الشبه بين النميمة وبين السحر أن تأثير السحر في التفريق بين المتحابين أو في جمع المتفارقين تأثيره على القلوب خفي، وهذا عمل النمام فإنه يفرق بين الأحباب؛ لأجل كلام يسوقه لهذا وكلام يسوقه لذاك فيفرق بين القلوب، ويجعل العداوة والبغضاء بين قلب هذا وهذا. وقد دل الحديث على أن النميمة نوع من السحر؛ وذلك لأن النميمة تؤثر ما يؤثر السحر أو أكثر فنتيجتها مثل عمل ونتيجة السحر، وهو تفريق الناس، وتغيير القلوب، ¬

(¬1) والبيتان لابن الرومي ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة (ص 207)، وذكرهما ابن القيم - رحمه الله - في مفتاح دار السعادة (ص 135). (¬2) ينظر: فتح المجيد (310 - 311). (¬3) فتاوى اللجنة (1/ 544 - 547، 563). (¬4) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم النميمة رقم الحديث (4722). والعضه بينها الإمام النووي، فقال: " هذه اللفظة رووها على وجهين أحدهما العضة بكسر العين وفتح الضاد المعجمة على وزن العدة والزنة والثاني العضه بفتح العين وإسكان الضاد على وزن الوجه وهذا الثاني هو الأشهر في روايات بلادنا والأشهر في كتب الحديث وكتب غريبة والأول أشهر في كتب اللغة ونقل القاضي أنه رواية أكثر شيوخهم وتقدير الحديث والله اعلم ألا أنبئكم ما العضه الفاحش الغليظ التحريم". ينظر: شرح النووي على مسلم (16/ 159). (¬5) ينظر: الصحاح للجوهري (7/ 91)، تاج العروس من جواهر القاموس (36/ 443)، تهذيب اللغة (1/ 95)، غريب الحديث لإبراهيم الحربي بالحواشي (3/ 925)، لسان العرب (13/ 515).

وصرف الإنسان عن بعض الأشخاص؛ لكن لم يكفر صاحب النميمة ولم يحكم بقتله، وإنما كفر صاحب السحر وحكم بقتله؛ لأن السحر يقوم على وسائل شركية، والنميمة ليست كذلك (¬1). " ذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال: يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة. وقال أبو الخطاب في عيون المسائل: ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس. ووجهُه: أنه يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة، أشبه السحر، وهذا يعرف بالعرف والعادة أنه يؤثر، وينتج ما يعمله السِّحر أو أكثر فيُعطى حكمُه تسويةً بين المتماثلين أو المتقابلين. لكن يُقال: الساحرُ إنما يكفر لوصف السحر، وهو أمرٌ خاص ودليله خاصّ، وهذا ليس بساحر. وإنما يؤثر عملُه ما يؤثر فيعطى حكمه، إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة؛ وقال ابن حزم - رحمه الله -:اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة" (¬2). "والنميمة على قسمين: تارة تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه، فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث: (ليس بالكذاب من ينم خيراً) (¬3) أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة، فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث: (الحرب خدعة) (¬4)، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريق كلمة الأحزاب وبني قريظة" (¬5). ¬

(¬1) ينظر: الجديد في شرح كتاب التوحيد لمحمد بن عبدالعزيز السليمان القرعاوي (1/ 232). (¬2) فتح المجيد (ص 309)، الملخص في شرح كتاب التوحيد (1/ 210). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (26729). ولهذا الحديث له شاهد عند البخاري ومسلم فقد أخرج البخاري عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً) أخرجه في كتاب الصلح، باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، برقم (2692)، وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والأب، باب تحريم الكذب وبيان المباح منه، برقم (2607). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب الحرب خدعة برقم (3028)، ومسلم في كتاب الجهاد والسير باب جواز الخداع في الحرب برقم (1739). (¬5) تفسير ابن كثير (1/ 231)، أضواء البيان للشنقيطي (4/ 46).

"3 - ويطلق السحر أيضاً على التخييل وإيهام الناظر إلى الشيء أنه يتحرك مثلاً مع أنه لا يتحرك، وهذا من الإيهام والتدجيل، وهذا النوع من السحر حرام؛ لما فيه من التمويه والتلبيس واللعب بالعقول، وهذا النوع من أنواع الكفر الأكبر، وهو سحر سحرة فرعون" (¬1). أثبتت النصوص القرآنية والحديثية هذا النوع من أنواع السحر، يقول الحق جل وعلا في محكم كتابه: {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)} الأعراف: 115 - 116، قال الطبري: " وذكر أن السحرة سحروا عين موسى وأعين الناس قبل أن يلقوا حبالهم وعصيهم، فخيل حينئذ إلى موسى أنها تسعى" (¬2). وقد ثبت من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (سُحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله) (¬3). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: " قال المازري (¬4): - عن إنكار بعض المبتدعة لهذا الحديث - وهذا كله مردود، لأن الدليل قد قام على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، قال: وقد قال بعض ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 544 - 547، 563). (¬2) جامع البيان في تأويل القرآن (ص 8/ 433). (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الطب باب السحر برقم (5763)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب السلام باب السحر برقم (2189). (¬4) هو: أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري المالكي، كان بصيراً بعلم الحديث، له معرفة بالطب، ألف في الفقه والأصول والحديث وغيرها، توفي - رحمه الله - سنة (536 هـ)، وله تصانيف من أشهرها: المعلم بفوائد مسلم. ينظر: وفيات الأعيان (4/ 109)، والسير (20/ 104)، وشذرات الذهب (4/ 114).

الناس أن المراد بالحديث أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن، وهذا كثير ما يقع تخيله للإنسان في المنام فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة " (¬1). يقول ابن خلدون: "سحر التخيل هو أن يعمد الساحر إلى القوى المتخيلة فيتصرف فيها بنوع من التصرف، ويلقي فيها أنواعا من الخيالات والمحاكاة وصوراً مما يقصده من ذلك، ثم ينزلها إلى الحس من الرائين بقوة نفسه المؤثرة فيه، فينظر الراؤون كأنها في الخارج وليس هناك شيء من ذلك" (¬2). قال الشنقيطي - رحمه الله -: " من أنواع السحر هو التخيلات والأخذ بالعيون ومبنى هذا النوع منه على أن القوة الباصرة قد ترى الشيء على خلاف ما هو عليه في الحقيقة لبعض الأسباب العارضة. ولأجل هذا كانت أغلاط البصر كثيرة .. ولا يخفى أن يكون سحرة فرعون من هذا النوع. فهو تخييل وأخذ بالعيون كما دل عليه قوله تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)} طه: 66، فإطلاق التخييل في الآية على سحرهم نص صريح في ذلك. وقد دل على ذلك أيضاً قوله في الأعراف: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)} الأعراف: 116، لأن إيقاع السحر على أعين الناس في الآية يدل على أن أعينهم تخيلت غير الحقيقة الواقعة، والعلم عند الله تعالى" (¬3). "4 - ويطلق السحر أيضاً على التعوذ بالجن والاستعانة بهم على نفع إنسان أو إصابته بضر من مرض أو تفريق أو بغض أو حب أو فك سحر ونحو ذلك، وحكمه أنه كفر أكبر؛ لما فيه من اللجوء والاستعانة بغير الله والتقرب إلى الجن" (¬4). ¬

(¬1) فتح الباري (10/ 227). (¬2) مقدمة ابن خلدون (ص 498) 0، ينظر: بدائع التفسير لابن القيم (5/ 412)، إعجاز القرآن في علاج السحر والحسد ومسّ الشيطان لمحمد محمود عبد الله (ص 85). (¬3) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/ 35، 43 - 44). (¬4) فتاوى اللجنة (1/ 544 - 547، 563).

وبين الشيخ - رحمه الله - عند قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} الجن: 6: " بأن المعنى أنه كان رجال من الإنس يستجيرون بالجن إذا نزلوا وادياً مخيفاً فيقولون: نعوذ بسيد هذا الحي من سفهاء قومه، فزاد الإنس الجن طغياناً وكبراً، أو زاد الجن الإنس ذعراً وخوفاً ليستمروا على الاستعاذة بهم، وهذا من الشرك الذي لا يغفره الله تعالى" (¬1). قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} الجن: 6 قال مقاتل: كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن ثم من بني حنيفة ثم فشا ذلك في العرب فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم، ومعنى الآية أي كان الإنس يعوذون بالجن عند المخاوف والأفزاع ويعبدونهم فزاد الإنس الجن رهقا أي طغيانا وتكبرا لما رأوا الإنس يعبدونهم ويستعيذون بهم ويحتمل أن الضمير وهو (الواو) يرجع إلى الجن أي زاد الجن الإنس رهقا؛ وقوله {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)}، اختلف أهل التأويل في معنى ذلك فقال بعضهم معنى: ذلك أي خوفا وإرهاباً وذعراً حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم وقيل: ازدادت الجن عليهم بذلك جرأة، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ}،قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول أعوذ بعزيز هذا الوادي فزادهم ذلك إثما؛ وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معنى ذلك فزاد الإنس الجن بفعلهم ذلك إثما وذلك زادوهم به استحلالا لمحارم الله، وعن كردم بن أبي السائب الأنصاري (¬2)، قال: خرجت مع أبي من المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي فقال: يا عامر الوادي جارك ¬

(¬1) تفسير الجلالين (ص 220)، وينظر: فتاوى اللجنة (1/ 255). (¬2) هو: كردم بن قيس بن أبي السائب بن عمران بن ثعلبة، يقال إن له صحبة وقيل إنه من التابعين، يروى المراسيل روى عنه عبد الرحمن ابن إسحاق عن أبيه عنه. ينظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني (5/ 577) رقم الترجمة (7394)، والثقات لابن حبان (3/ 355)، (5/ 341).

فنادى مناد لا نراه يقول يا سرحان أرسله فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} الجن: 6 (¬1)، ثم قال وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل وهو ولد الشاة كان جنيا حتى يرهب الإنسي ويخاف منه ثم رده عليه لما استجار به ليضله ويهينه ويخرجه عن دينه والله تعالى أعلم. وقال سعيد بن جبير: ولا خفاء أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك (¬2). سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - عن حكم استخدام الجن من المسلمين في العلاج إذا لزم الأمر؟ فأجاب - رحمه الله - بقوله: " لا ينبغي للمريض استخدام الجن في العلاج ولا يسألهم، بل يسأل الأطباء المعروفين، وأما اللجوء إلى الجن فلا .. لأنه وسيلة إلى عبادتهم وتصديقهم، لأن في الجن من هو كافر ومن هو مسلم ومن هو مبتدع، ولا تعرف أحوالهم فلا ينبغي الاعتماد عليهم ولا يسألون، ولو تمثلوا لك، بل عليك أن تسأل أهل العلم والطب من الإنس وقد ذم الله المشركين بقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} الجن: 6، ولأنه وسيلة للاعتقاد فيهم والشرك، وهو وسيلة لطلب النفع منهم والاستعانة بهم، وذلك كله من الشرك" (¬3). قد تؤدي الاستعانة بالجن إلى حصول خلل في العقيدة؛ فترى المستعين يلجأ إليهم ويتعلق بهم تعلقا يبعده عن الخالق سبحانه وتعالى؛ يتمادى الأمر بالمستعين إلى طلب أثر وغيره؛ وينزلق في هوة عميقة تؤدي إلى خلل في العقيدة، وانحراف في المنهج والسلوك، مما يترتب عن ذلك غضب الله وعقوبته (¬4)؛ وإن صحة العقيدة وسلامة المنهج أهم من صحة الأبدان وسلامتها. ¬

(¬1) ينظر: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم (15762)، والعقيلي في الضعفاء الكبير باب إسحاق، حديث رقم (173)، وقال عنه الهيتمي في مجمع الزوائد (7/ 37): فيه عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي وهو ضعيف. (¬2) ينظر لما سبق: تفسير الطبري (29/ 108 - 109)، وتفسير السعدي (1/ 89)، وتفسير ابن كثير (4/ 429)، وتفسير القرطبي (19/ 10). (¬3) مجلة الدعوة - العدد 1602 ربيع الأول 1418 هـ (ص 34)، ينظر: السحر والشعوذة للشيخ صالح الفوزان (ص 86 - 87). (¬4) ينظر: القول المعين في مرتكزات معالجي الصرع والسحر والعين (ص 126)، وكتب عقيدة أهل السنة والجماعة بشكل عام.

سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - ما حكم خدمة الجن للإنس؟ فأجاب بقوله: " ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - في المجلد الحادي عشر من مجموع الفتاوى ما مقتضاه أن استخدام الإنس للجن له ثلاث حالات: 1 - أن يستخدمه في طاعة الله كأن يكون نائبا عنه في تبليغ الشرع، فمثلاً إذا كان له صاحب من الجن مؤمن يأخذ عنه العلم فيستخدمه في تبليغ الشرع لنظرائه من الجن، أوفي المعونة على أمور مطلوبة شرعا فإنه يكون أمراً محموداً أو مطلوباً وهو من الدعوة إلى الله عز وجل. والجن حضروا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ عليهم القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، والجن فيهم الصلحاء والعباد والزهاد والعلماء لأن المنذر لا بد أن يكون عالماً بما ينذر عابدا. 2 - أن يستخدمهم في أمور مباحة فهذا جائز بشرط أن تكون الوسيلة مباحة فإن كانت محرمة فهو محرم مثل أن لا يخدمه الجني إلا أن يشرك بالله كأن يذبح للجني أو يركع له أو يسجد ونحو ذلك. 3 - أن يستخدمهم في أمور محرمة كنهب أموال الناس وترويعهم وما أشبه ذلك، فهذا محرم لما فيه من العدوان والظلم. ثم إن كانت الوسيلة محرمة أو شركاً كان أعظم وأشد" (¬1). وما ذكره الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - من أنواع السحر- السابق ذكرها- وأن السحر قد يأتي في النصوص، ولا يراد منه السحر الذي يكون بالشرك بالله -جل وعلا-؛ فإن اسم السحر عام في اللغة، يدخل فيه ذلك الاسم الخاص الذي فيه استعانة بالشياطين وتقرب إلى الشياطين وعبادة الشياطين لتخدم الساحر، وقد يكون بأسماء أخرى يطلق عليها الشارع أنها سحر، وليست كالسحر الأول في الحقيقة، ولا في الحكم. لأن من أنواع السحر، ما هو شرك أكبر بالله -جل وعلا- وهو المراد إذا أطلق: السحر، وهذه هي الحقيقة العرفية، ومنه ما ليس شركاً أكبر. ¬

(¬1) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - رحمه الله - (1/ 290) سؤال رقم (113).

وفي ألفاظ الشرع أمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة اللغوية، وأمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة العرفية، وأمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة الشرعية، ومن ذلك هذا الباب فإن فيه ما يطلق عليه لغة أنه سحر، وفيه ما يطلق عليه عرفا أنه سحر، وما يطلق عليه شرعا أنه سحر. والتفريق بين هذه الأنواع مهم (¬1). ج- حكم من يذهب إلى الساحر أو الكاهن (¬2) ونحوهما: يبين الشيخ - رحمه الله -: " أن من يذهب إلى من يفعل ذلك من الكهان ويصدّقه فهو كافر، قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} البقرة: 102، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) (¬3)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) (¬4)، والعراف يعم الكاهن والمنجم والساحر، ولا تأثير لهذا النوع إلا بإذن الله الكوني القدري؛ لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} البقرة: 102 " (¬5). قد تظاهرت الأدلة على حرمة الذهاب للسحرة ومن في حكمهم وتصديقهم بما يخبرون، وقد ذكر طرفاً من هذه الأدلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي في كلامه السابق، ومنها ¬

(¬1) ينظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (9/ 528)، التمهيد لشرح كتاب التوحيد دروس ألقاها صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (1/ 433)، الترتيب الفريد من شروحات كتاب التوحيد رتبه وأعده أبو توحيد لقمان حسن أمين (29/ 6) المكتبة الشاملة. (¬2) الكاهن: هو الذي يأخذ عن مسترق السمع. ينظر: لسان العرب (13/ 362)، التعريفات للجرجاني (ص 235)، تاج العروس (36/ 82). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (9252)، وصححه الألباني في السلسلة الصحية برقم (3387) (13/ 190). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكاهن برقم (4141). (¬5) فتاوى اللجنة (1/ 544 - 547، 563).

ما رواه مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالاً يأتون الكهان. قال: (فلا تأتهم) الحديث (¬1). " قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أتى عرّافاً) ظاهر الحديث: أن الوعيد مُرتبٌ على مجيئه وسؤاله، سواء صدقه أو شك في خبره، فإن في بعض روايات الصحيح: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة)، وقوله: (لم تُقبل له صلاة) إذا كان هذا حال السائل، فكيف بالمسؤول؟ قال النووي (¬2) وغيره: معناه: أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مُجزئةً بسقوط الفرض عنه، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العرَّاف إعادة صلاة أربعين ليلة. أما قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (فقد كفر بما أنزل على محمد) - صلى الله عليه وسلم -. قال القرطبي: المراد بالمنزل: الكتاب والسنة. وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر، فلا ينقل عن الملة، أم يُتوقف فيه، فلا يقال: يخرج عن الملة ولا ما يخرج؟ وهذا أشهر الروايتين عن أحمد - رحمه الله -. وهذا الحديث: (من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد) - صلى الله عليه وسلم -. فيه دليل على كفر الكاهن والساحر؛ لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به، وذلك كفر أيضاً" (¬3). ومن خلال الأحاديث السابقة الدالة على حرمة الذهاب للسحرة ومن في حكمهم وسؤالهم وتصديقهم يتبين التفصيل في ذلك: 1 - أن من سأل الساحر ومن في حكمه فصدقه فقد كفر. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب المسجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، برقم (537). (¬2) شرح صحيح مسلم (14/ 446) شرح حديث رقم (5782). (¬3) فتح المجيد (313 - 315)، ينظر: التبيان شرح نواقض الإسلام لسليمان ناصر بن عبد الله العلوان (ص 38)، التوحيد وقرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ص 264)، تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (2/ 24).

2 - أن من سأله ولم يصدقه لا تقبل له صلاة أربعين ليلة. 3 - أن من سأله محتسباً عليه؛ ليمتحن حاله، ويختبره، ويفضحه، ويبين زيفه، ويميز صدقه من كذبه فهذا جائز؛ كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن عمر انطلق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رهط قِبَل ابن صياد، حتى وجدوه يلعب مع الصبيان عند أُطُم بني مغالة (¬1) وقد قارب ابن صياد الحلمَ، فلم يشعر حتى ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده ثم قال لابن صياد: (أتشهد أني رسول الله)، فنظر إليه ابن صياد فقال: أشهد أنك رسول الأميين، فقال ابن صياد للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أتشهد أني رسول الله؟ فرفضه (¬2) وقال: (آمنت بالله وبرسوله)، فقال له: (ماذا ترى)، قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خُلِّط عليك الأمر)، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إني قد خبأت لك خبيئاً)، فقال ابن صياد: هو الدخُّ، فقال: (أخسأ؛ فلن تعدو قدرك)، فقال عمر - رضي الله عنه -: دعني يا رسول الله أضرب عُنُقه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله) (¬3). د _ حكم الله في الساحر: يبين الشيخ - رحمه الله - حكم الله في الساحر، فيقول: "إذا أتى الساحر في سحره بمكفر قتل لردته حداً، وإن ثبت أنه قتل بسحره نفساً معصومة قتل قصاصاً، وإن لم يأت في سحره بمكفر ولم يقتل نفساً ففي قتله بسحره خلاف، والصحيح: أنه يقتل حداً لردته - وهذا هو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله - لكفره بسحره مطلقاً لدلالة الآية: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} البقرة: 102، على كفر الساحر مطلقاً، ولما ثبت عن بجالة بن عبدة أنه قال: (كتب عمر بن الخطاب سدد خطاكم أن اقتلوا كل ساحر ¬

(¬1) الأطم: الحصن، ومغالة: بطن من الأنصار. ينظر: فتح الباري (3/ 262). (¬2) فرفضه: أي تركه، ترك سؤاله ثم شرع في سؤاله عما يرى، وفي رواية (فرصَّه): أي ضغطه وضم بعضه إلى بعض. ينظر: فتح الباري (3/ 262)، عون المعبود (9/ 1440). (¬3) أخرجه البخاري كتاب الجهاد والسير، باب كيف يعرض الإسلام على صبي، برقم (3055)، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن الصياد، برقم (2930).

وساحرة. فقتلنا ثلاث سواحر) (¬1)، ولما صح عن حفصة أم المؤمنين - رضي الله عنها - (أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت) (¬2)، ولما ثبت عن جندب أنه قال: (حد الساحر ضربة بالسيف) (¬3) " (¬4). للعلماء -رحمهم الله- كلام يطول في حد الساحر، وخلاصته ما يلي: 1 - حالات القتل: أ- يقتل عند القائلين بكفره باعتباره مرتداً، وكذلك عند من عدوا الساحر كافراً مطلقاً. ذهب أكثر العلماء كالإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة إلى أن الساحر كافر، أما إن كان سحره بأدوية وتدخين وسقي شيء لا يضر، فلا يكفر (¬5)، كما قاله ¬

(¬1) أخرجه البخاري مختصراً برقم (3156) في فرض الخمس، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب, ولم يذكر قتل السحرة. وأخرجه ابن منصور في سننه كتاب الطلاق باب جامع الطلاق برقم (2180)، والدارقطني في سننه كتاب زكاة الفطر باب في جزية المجوس وما روي في أحكامها برقم (9972)، وابن حزم في المحلى بالآثار كتاب السرقة برقم (1835). (¬2) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب العقول، باب: ما جاء في الغيلة والسحر، حديث رقم (1624)، أخرجه البيهقي السنن الكبرى (8/ 136) كتاب القسامة، باب تكفير الساحر وقتله إن كان ما يسحر به كلام كفر صريح. كما صححه الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بقوله: "وصح عن حفصة"، ينظر: فتح المجيد (ص 242)، وتيسير العزيز الحميد (393). (¬3) الترمذي في كتاب الحدود باب ما جاء في حد الساحر برقم (1460)، والحاكم في كتاب الحدود (4/ 360)، والبيهقي في السنن كتاب القسامة باب تكفير الساحر وقتله إن كان ما يسحر به كلام كفر صريح (8/ 136)، والدارقطني في كتاب الحدود والديات وغيرها (3/ 114). (¬4) فتاوى اللجنة (1/ 551 - 552). (¬5) فإن من الصعوبة بمكان إطلاق حكمٍ عامٍ على جميع أنواع السحر، وقد قال القرافي رحمه الله: "وللسحر فصول كثيرة في كتبهم يقطع من قِبَل الشرع بأنها ليست معاصي ولا كفراً، كما أن لهم ما يُقطع بأنه كفرٌ؛ فيجب حينئذٍ التفصيل، كما قال الشافعي رضي الله عنه: أمَّا الإطلاق بأن كل ما يُسمَّى سحراً كفرٌ؛ فصعب جداً "، وقال الإمام النووي رحمه الله: " قد يكون السحر كفراً، وقد لا يكون كفراً بل معصية كبيرة؛ فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر؛ كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرامٌ؛ فإن تضمن ما يقتضي الكفر؛ كفر، وإلا فلا، وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عُزِّر واستُتِيب ". ينظر: الفروق للقرافي (4/ 141)، وشرح النووي على مسلم (14/ 176).

بعض أصحاب الإمام أحمد، وقد سمى الله السحر كفراً في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} البقرة: 102، وقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} البقرة: 102، قال ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر (¬1). وقال تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} النساء: 51، قال عمر - رضي الله عنه -: الجبت السحر (¬2). فيدل ذلك على أن السحر كفر (¬3).والله أعلم. وأكثر العلماء على أن الساحر - الذي يعد في العرف ساحراً- يجب قتله، وقد ثبت قتله عن عمر بن الخطاب وعثمان وحفصة وابن عمر وجندب بن عبد الله - رضي الله عنهم -، قال بعض العلماء: لأجل الكفر، وقال بعضهم: لأجل الفساد في الأرض، لكن جمهور هؤلاء يرون قتله حداً (¬4). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره. القسم الأول (ص 309) برقم (1017) وذكره السيوطي في الدر المنثور (1/ 100)، وابن كثير في تفسيره (1/ 192). (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره (8/ 462) وينظر: تفسير البغوي (2/ 234)، تفسير القرطبي (5/ 248) قال الحافظ ابن حجر: إسناده قوي. الفتح (8/ 252). وكذا قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والشعبي وابن جبير وغيرهم، كما أخرجه عنهم الطبري في تفسيره وغيره. (¬3) فتح المجيد (2/ 465 - 466)، وينظر: مجموع الفتاوى (29/ 384 - 385)، (28/ 346)، فتح الباري (10/ 225)، وفي مذهب الإمام أحمد: المغني (12/ 299 - 302)، الكافي (5/ 333)، المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف (27/ 181) وما بعدها، الممتع في شرح المقنع للتنوخي (5/ 14)، وفي مذهب الإمام أبي حنيفة حاشية ابن عابدين (3/ 295). (¬4) مجموع فتاوى ابن تيمية (28/ 346)، (29/ 384)، وينظر: شرح النووي (2/ 176)، والمغني (8/ 151، 152)، وفتح الباري (10/ 224، 225)، وتيسير العزيز الحميد (ص 384)، المسائل العقدية في فيض القدير (ص 343).

ب- إذا قَتَل بسحره إنساناً قُتل حداً عند الإمام أبي حنيفة ومالك وأحمد؛ ويشترط أبو حنيفة أن يتكرر منه ذلك، أو يُقِر به في حق شخص مُعين، أو يشهد عليه شاهدان؛ ويقتل قصاصاً عند الإمام الشافعي (¬1). 2 - حالات عدم القتل: أ- ذهب الإمام الشافعي - رحمه الله - إلى عدم قتل الساحر الذي لم يشتمل سحره على اعتقاد كون الكواكب مدبرة، أو كون الساحر قادراً على خلق الأجسام، أو أن فعله مباح (¬2). ويقول القرطبي - رحمه الله - معلقاً على كلام الشافعي: " وهذا صحيح، دماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف" (¬3). ب- ذهب بعض الأحناف إلى عدم قتل المشعوذ، وصاحب الطلسم (¬4) إذ لا يعدون فاعله ساحراً (¬5). وعند التحقيق فإنه ليس بين القولين اختلاف؛ فإن من لم يُكَفَّر؛ لظنه أنه يتأتَّى بدون الشرك، وليس كذلك، بل لا يتأتَّى السحر الذي من قبل الشياطين إلا بالشرك وعبادة الشياطين والكواكب ... وأما سحر الأدوية والتدخين ونحوه فليس بسحر وإن سمي سحراً، فعلى سبيل المجاز كتسمية القول البليغ والنميمة سحراً؛ ولكنه يكون حراماً لمضرته ويعزر من يفعله تعزيراً بليغاً (¬6). ¬

(¬1) ينظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 63)، وشرح النووي على مسلم (14/ 176)، والسحر بين الحقيقة والخيال (ص 166). (¬2) ينظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 63)، والتفسير الكبير للرازي (3/ 213 - 216). (¬3) أحكام القرآن (2/ 48). (¬4) الطلسم: وهو لفظ يوناني، وهو في علم السحر خطوط وأعداد ونقش أسماء خاصة يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيات الكواكب العلوية بالطبائع السفلية، لجلب محبوب أو دفع أذى. ينظر: المعجم الوسيط مادة طلسم (2/ 568)، والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (5/ 101). (¬5) ينظر: حاشية ابن عابدين (4/ 240). (¬6) ينظر: شرح منتهى الإرادات للبهوتي (3/ 394 - 395)، وتيسير العزيز الحميد (ص 384).

والحاصل أن الأولى قتل الساحر؛ لعمل جمع من مشاهير الصحابة، وعمل الناس به في خلافة عمر من غير نكير، والله أعلم (¬1). قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله -: " السحرة يجب قتلهم، سواء قلنا بكفرهم أم لا، لعظم ضررهم وفضاعة أمرهم، فالقول بقتل السحرة موافق للقواعد، لأنهم يسعون في الأرض فساداً وفسادهم من أعظم الفساد" (¬2). أ. هـ. هـ - حكم حل السحر بسحر مثله: يبين الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - حكم حل السحر بسحر مثله، فيقول: " لا يجوز الذهاب إلى الساحر من أجل أن يحل السحر الذي يجده بسحر مثله؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن له، أو سحر أو سحر له) (¬3)، ولحديث جابر {قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان) (¬4)، والنشرة: ¬

(¬1) ينظر: فتح المجيد (2/ 474)، المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف (27/ 185 - 187)، والمغني (12/ 302 - 303) الكافي (5/ 332 - 333)، الإقناع (4/ 300)، الممتع شرح المقنع (5/ 792 - 793)، التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح للشوكاني (3/ 1242)، منتهى الإرادات مع حاشية النجدي (5/ 174)، الدين الخالص (2/ 322 - 323)، شرح الطحاوية (ص 764)، المسائل العقدية في فيض القدير (ص 344). (¬2) المجموع الثمين (2/ 133). (¬3) أخرجه الطبراني عن عمران بن حصين في المعجم الكبير برقم (14770)، قال: المناوي: إسناده جيد، وأخرجه البزار في البحر الزاخر بمسند البزار برقم (3048). قال الألباني - رحمه الله -، السلسلة الصحيحة (6/ 310): " أخرجه البزار وقال: " قد روي بعضه من غير وجه، فأما بتمامه ولفظه فلا نعلمه إلا عن عمران بهذا الطريق، وأبو حمزة بصري لا بأس به ". وقال المنذري (4/ 52): " رواه البزار بإسناد جيد، ورواه الطبراني من حديث ابن عباس دون قوله: " ومن أتى ... " إلخ، بإسناد حسن ". كذا قال، وهو مردود بضعف زمعة، إلا أن يعني أنه حسن لغيره، فنعم. وقال الهيثمي: " رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع، وهو ثقة". قلت: نعم، ولكن الحسن - وهو البصري - مدلس وقد عنعنه، فهو جيد بحديث الترجمة، وأما قوله: " ومن أتى ... "، فله شواهد كثيرة، وبعض أسانيدها صحيح، وهي مخرجة في " الإرواء " (2066)، ومع ذلك فقد ضعفه الجاني على السنة في تعليقه على " إغاثة اللهفان " (1/ 359) متجاهلا إسناده الصحيح". (¬4) أخرجه الإمام أحمد برقم (13721)، وأبو داود في كتاب الطب باب في النشرة برقم (3868)، والبيهقي في كتاب الضحايا باب النشرة (9/ 351). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 393 - 394) ..

هي حل السحر عن المسحور بالسحر؛ وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتداوي، ونهى عن التداوي بالمحرم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (تداووا، ولا تداووا بحرام، فإن الله ما أنزل داء إلاَّ أنزل له دواء) (¬1)، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) (¬2)، فيوجد من الأدعية والأدوية المشروعة ما فيه كفاية لإزالة هذا الداء، فعلى المسلم أن يعالج نفسه بما شرع الله من قراءة القرآن والأذكار النبوية الواردة في الرقية، والأدعية وطلب الشفاء من الله والأدوية الجائزة، قال تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} الطلاق: 2 - 3 " (¬3). النشرة: هي ضرب من العلاج والرقية، يعالج به من كان يظن أن به مساً من الجن (¬4). قال ابن الجوزي (¬5): النشرة: حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر (¬6). وقال ابن القيم: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطب باب في الأدوية المكروهة برقم (3874)، والبيهقي في كتاب الضحايا باب النهي عن التداوي بما يكون حراما في غير حال الضرورة (9/ 343)، (10/ 5)، وضعفه الألباني في ضعيف غاية المرام برقم (66)، المشكاة برقم (4538)، ضعيف الجامع الصغير برقم (1569). (¬2) أخرجه البخاري معلقاً عن ابن مسعود في كتاب الأشربة باب شراب الحلواء والعسل، وأخرجه البيهقي في السنن (10/ 5)، والطحاوي في معاني الآثار (1/ 108)، والحاكم في المستدرك (4/ 218)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (4/ 233)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 86): رجاله رجال الصحيح خلا حسان بن مخارق، وقد وثقه ابن حبان. وصححه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة (4/ 174). (¬3) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 556 - 568). (¬4) ينظر: تيسير العزيز الحميد (ص 364). (¬5) هو الإمام العلامة الحافظ المفسر، عالم العراق وواعظ الآفاق، صاحب التصانيف السائرة في فنون العلم: أبو الفرج عبدالرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله، ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، أكثر من التصنيف في أنواع العلوم من التفسير والحديث والفقه والزهد والوعظ والتاريخ وغيرها، توفي - رحمه الله - سنة 597 هـ، ومن مصنفاته: كشف المشكل من حديث الصحيحين، وزاد المسير في علم التفسير، وتلبيس إبليس. ينظر: وفيات الأعيان (3/ 116)، وتذكرة الحفاظ (4/ 1342)، وشذرات الذهب (4/ 329). (¬6) غريب الحديث (2/ 408).

أحدهما: حله بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان؛ يتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب. والثاني: النشرة بالرقية، والتعوذات، والأدوية، والدعوات المباحة فهذا جائز (¬1). قال الإمام أحمد وقد سئل عن النشرة: " ابن مسعود يكره هذا كله" (¬2)، وفيه دليل على كراهية الإمام أحمد لها. والنشرة قسمان: محرمة، وجائزة. فالمحرمة هي التي عناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (هي من عمل الشيطان) (¬3)، وهي حل السحر بسحر مثله، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. وأما الجائز فهي التي تكون بالرقية الشرعية، والتعوذات والأدوية المباحة، وهي التي عناها ابن المسيب (¬4) (¬5). ¬

(¬1) ذكر هذا القول عن ابن القيم، الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد، ينظر: فتح المجيد (2/ 502)، وصديق حسن خان في الدين الخالص (2/ 341)، والمسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد (ص 340 - 341). (¬2) الآداب الشرعية لابن مفلح (3/ 63)، والبصير بأقوال الإمام أحمد يعلم أنه يطلق لفظ الكراهة ويريد بها التحريم مع الأخذ بالقرائن، ينظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص 138)، إعلام الموقعين (1/ 39 - 40)، أصول مذهب الإمام أحمد للدكتور عبد الله التركي (ص 797) وما بعدها، مصطلحات الفقه الحنبلي للثقفي (1/ 21)، المسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد (ص 340). (¬3) أخرجه الإمام أحمد برقم (13721)، وأبو داود في كتاب الطب باب في النشرة برقم (3868)، والبيهقي في كتاب الضحايا باب النشرة (9/ 351). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 393 - 394). (¬4) هو: أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي، الإمام العلم، عالم أهل المدينة وسيد التابعين في زمانه، سمع من بعض الصحابة، كان صالحاً زاهداً عابداً، توفي سنة (94 هـ). ينظر: حلية الأولياء (2/ 161 - 175)، وفيات الأعيان (2/ 375 - 378)، سير أعلام النبلاء (4/ 216 - 246)، البداية والنهاية (9/ 99 - 101). (¬5) جاء في صحيح البخاري عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طب- أي سحر- أو يؤخَّذ -أي يحبس عن جماع امرأته- عن امرأته أوَ يُحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون الإصلاح؛ فأما ما ينفع فلم يُنْهَ عنه. ينظر: صحيح البخاري كتاب الطب باب هل يستخرج السحر؟ معلق، قبل حديث رقم (5765)، (4/ 1840). وكلام ابن المسيب يحمل على النشرة بالقرآن والذكر. ينظر: شرح منتهى الإرادات (3/ 395)، وفتح الباري (10/ 233)، وتيسير العزيز الحميد (ص 419).

يقول سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله -: " قال بعض الحنابلة يجوز الحل بسحرٍ ضرورة، والقول الآخر أنه لا يحل، وهذا الثاني هو الصحيح ... وكلام الأصحاب هنا بين أنه حرام ولا يجوز إلا لضرورة فقط، ولكن هذا يحتاج إلى دليل، ولا دليل إلا كلام ابن المسيب. ومَعَنا حديث جابر في ذلك، وقول ابن مسعود، وقول الحسن لا يحلُّ السحر إلا ساحر، وهو لا يتوصل إلى حلِّه إلا بسحر، والسحر حرام وكفر، أفيفعل الكفر لتحيا نفوس مريضة أو مصابة؟ مع أن الغالب في المسحور أنه يموت أو يختل عقله، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - منع وسدَّ الباب، ولم يفصل في عمل الشيطان ولا في المسحور" (¬1). "والحاصل: أن ما كان منه بالسحر فيحرم، وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز، والله أعلم" (¬2). و_ حكم تعلم السحر: قال الشيخ - رحمه الله -: " يحرم تعلم السحر سواء للعمل به أو ليتقيه، وقد نص الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على أن تعلمه كفر، قال تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} البقرة: 102، وقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن السحر أحد الكبائر وأمر باجتنابه فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات) (¬3) فذكر منها السحر. وفي السنن عند النسائي: (من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك) (¬4)؛ وأما قول من ¬

(¬1) فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (1/ 165). (¬2) فتح المجيد (ص 364)، وينظر: معارج القبول (1/ 430 - 431). (¬3) أخرجه البخاري كتاب الوصايا، باب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} برقم (2767)، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها برقم (89). (¬4) أخرجه النسائي في كتاب المحاربة برقم (3528)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي (9/ 151)، وفي غالية المرام (ص 175)، وفي ضعيف الجامع الصغير للألباني (1/ 822).

قال: (تعلموا السحر ولا تعملوا به) فليس بحديث لا صحيح ولا ضعيف " (¬1). والذي عليه أكثر أئمة أهل السنة أن تعلم السحر لأي غرض؛ لا يجوز؛ فقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} البقرة: 102،فيه دليل على أن تعلم السحر كفر، وظاهره عدم الفرق بين تعلم السحر ليكون ساحراً، وتعلمه ليقدر على دفعه، وبه قال أحمد (¬2). وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من تعلم شيئاً من السحر قليلاً كان أو كثيراً كان آخر عهده من الله) (¬3). ومن ثم أفتى بعض العلماء بكفر متعلم السحر كما نص عليه أصحاب الإمام أحمد، قال ابن قدامة - رحمه الله -: إن تعلم السحر، وتعليمه حرام، لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم، قال أصحابنا: ويكفر الساحر بتعليمه وتعلمه، سواء اعتقد تحريمه، أو إباحته (¬4). وقال النووي: الصحيح الذي قطع به الجمهور أن تعلم السحر وتعليمه حرم (¬5). وبين أن الله ذم الشياطين في تعليمهم الناس السحر، ولأن تعليمه يدعو إلى فعله، وفعله محرم، فحرم ما يدعو إليه (¬6). وبناءً على ذلك فإنه لا يجوز تعلم السحر؛ لأنه لا يخرج عن كونه مبنياً على الشرك، أو الكذب، أو الخداع والغش، ونحو ذلك مما هو ضار بالفرد والجماعة، قال تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 549 - 550). (¬2) ينظر: تيسير العزيز الحميد (ص 383)، وفتح المجيد (ص 315)، والدين الخالص لصديق حسن خان (2/ 326)، السحر بين الحقيقة والخيال (ص 151 - 155). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 184) برقم (18753) عن صفوان بن سليم، وهو مرسل -والمرسل ضعيف-. وينظر: المحلى لابن حزم (11/ 479)، الدر المنثور (1/ 103)، وروي موصولاً عن علي كما عند ابن عدي في الكنز برقم (17653). (¬4) المغني (12/ 300). وينظر: الكافي (5/ 333) المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف (27/ 133 - 149)، الإقناع لطالب الانتفاع للحجاوي (4/ 299)، المسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد (ص 340). (¬5) روضة الطالبين (9/ 346). (¬6) المجموع (18/ 22 - 23).

3 - التبرك بالقبور وأصحابها

خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} البقرة: 102؛ وما لا نفع فيه، وكان ضرره متحتماً لا يجوز تعلمه بحال (¬1). وبهذا يتضح حرمة تعلم السحر مطلقاً والله أعلم. 3 - التبرك بالقبور وأصحابها: أ- عبادة القبور. يقرر الشيخ - رحمه الله -: "بأن عبادة القبور شرك بالله فالمكلف الذي يصدر منه ذلك يُبَين له الحكم فإن قبل وإلاَّ فهو مشرك، إذا مات على شركه فهو خالد مخلد في النار ولا يكون معذوراً بعد بيان الحكم له" (¬2). عبادة القبور: هي اعتقاد أن الأولياء الموتى يقضون الحاجات ويفرجون الكربات فيستعان ويستغاث بهم (¬3). يقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)} الأحقاف: 5. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكبائر سبعٌ أولُهُنَّ الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حقِّها، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وفرارُ يومِ الزحفِ، وقَذفُ المحصناتِ، والانتقالُ إلى الأعرابِ بعدَ هجرتِهِ" (¬5). ¬

(¬1) ينظر: السحر بين الماضي والحاضر، د. محمد بن إبراهيم الحمد (ص 24). (¬2) ينظر: فتاوى اللجنة) 1/ 388). (¬3) الصابئة معتقدهم وعبادتهم (1/ 58) (¬4) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} برقم (4497). (¬5) أخرجه البزار من رواية عمرو بن أبي سلمة، حسنه الألباني في صحيح الترغيب رقم (1848).

وعبادة القبور هي أصل شرك العالم، وقبورية قوم نوح هي أم القبوريات؛ ثم انتشرت القبورية في اليهود والنصارى والعرب والعجم من الهند والترك والبربر وغيرهم؛ فقد قال الإمام ابن أبي العز، والعلامة نعمان الآلوسي (¬1)، واللفظ للأول، في بيان مبدأ عبادة القبور وتطور القبورية في العالم: "فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ... ؛ ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم؛ بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم: من الهند، والترك والبربر، وغيرهم؛ تارة يعتقدون: أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء ويتوسلون بهم إلى الله؛ وهذا أصل شرك العرب؛ قال الله تعالى حكاية عن قوم نوح؛ {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)} نوح: 23؛ وقد ثبت في صحيح البخاري وكتب التفسير، وقصص الأنبياء وغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من السلف: أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح؛ فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم، وأن هذه الأصنام بعينها ..... " (¬2). ومن الوسائل الوقائيةِ النافعةِ تجاهَ هذا الانحراف: العملُ بقاعدةِ سدّ الذرائع؛ فكلُّ ما كان وسيلةً أو ذريعةً تؤولُ إلى الشركِ فينبغي التحذيرُ منها ومنعها حمايةً لجنابِ التوحيد؛ فالتهاونُ في هذهِ الوسائلِ يفضي إلى الوقوعِ في الشركِ بالله - عز وجل - والخروجِ عن الملةِ، فمثلاً الصلاةُ عند القبورِ، والبناءُ عليها، أمورٌ حرمها الشارعُ؛ لأنَّها طريقٌ ووسيلةٌ تفضي إلى الشركِ بالله - تعالى -، وقد أشار العلامة الشوكاني - رحمه الله - إلى أن البناءَ على القبور سببٌ رئيس في عبادةِ القبور فقال: (فلا شكَّ ولا ريبَ أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقادُ في الأموات، هو ما زينَّهُ الشيطانُ للناسِ من رفعِ القبورِ، ووضعِ الستور عليها، وتجصيصها، وتزيينها بأبلغِ زينة، وتحسينها بأكملِ ¬

(¬1) هو: نعمان خير الدين الألوسي، أبو البركات، البغدادي الحنفي، من مؤلفاته: جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، الجواب الفسيح لما لفقه عبد المسيح، صادق الفجرين وغيرها. توفي سنة (1317 هـ). ينظر: الأعلام (8/ 42)، أعلام العراق لمحمد بهجت الأثري (ص 57). (¬2) ينظر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية (1/ 408)، الطحاوية .... التنجيم والمنجمون وحكم ذلك في الإسلام لعبد المجيد بن سالم المشعبي (1/ 7).

تحسين؛ فإنَّ الجاهلَ إذا وقعت عينُه على قبرٍ من القبور قد بُنيت عليه قبةٌ فدخلها، ونظرَ على القبور الستورَ الرائعة، والسُرجَ المتلألئة، وقد سطعتْ حولهُ مجامرُ الطيب، فلا شكَّ ولا ريب أنَّهُ يمتلئُ قلبه تعظيماً لذلك القبر، ويضيقُ ذهنهُ عن تصورِ ما لهذا الميتِ من المنزلةِ، ويدخُلُه من الروعةِ والمهابةِ ما يزرعُ في قلبهِ من العقائدِ الشيطانيةِ التي هي من أعظمِ مكائد الشيطانِ للمسلمين، وأشدّ وسائلهِ إلى ضلال العباد، ما يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلبَ من صاحبِ ذلك القبرِ ما لا يقدرُ عليه إلا الله - سبحانه -، فيصيرُ في عدادِ المشركين) (¬1). ب- الطواف بالقبور. ويقرر الشيخ - رحمه الله - كذلك: "بأن الطواف بالقبور حرام وإن كان حول قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن قصد التقرب إلى من فيها من الموتى فهو شرك أكبر يخرج من الإسلام، لأن الطواف عبادة؛ لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} الحج: 29، وصرف العبادة أو شيء منها إلى غير الله شرك؛ والسجود على المقابر والذبح عليها وثنية جاهلية وشرك أكبر، فإن كلاً منهما عبادة، والعبادة لا تكون إلاَّ لله وحده فمن صرفها لغير الله فهو مشرك، لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} الأنعام: 162 - 163، والنسك: هو الذبح" (¬2). ج- الصلاة عند القبور: يبين الشيخ - رحمه الله -: "بأنه لا يجوز بناء المساجد على القبور، ولا تجوز الصلاة في المساجد التي بنيت على قبر أو قبور، ولا يجوز أن يدعو الإنسان الأموات؛ لجلب منفعة أو دفع مضرة، بل دعاؤهم والاستغاثة بهم شرك أكبر يخرج عن ملة الإسلام، والعياذ بالله" (¬3). ¬

(¬1) شرح الصدور بتحريم رفع القبور .... (ص 17). المسالك والحلول لوثنية القبور - الداء والدواء - (1/ 8). (¬2) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 390 - 401). (¬3) فتاوى اللجنة (1/ 426).

من أعظم الوسائل المفضية إلى عبادة القبور والشرك بها واتخاذها أوثاناً تعبد من دون الله، العكوف عندها للصلاة والدعاء والعبادة وسائر القرب، فقد تواترت النصوص في النهي عن ذلك، ووردت بأبلغ عبارات التحذير وأشدها، إذ جاءت مقرونة باللعن والقتل والغضب، ووصف فاعلوها بأنهم شرار الخلق عند الرب عز وجل (¬1). 1 - فعن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها) (¬2). 2 - وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة إلى القبور) (¬3). 3 - وعن عائشة رضي الله عنها: أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوَّرُوا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) (¬4). 4 - وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، قالت عائشة: (يحذر ما صنعوا) (¬5). 5 - وعن جندب - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (... ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك) (¬6) ¬

(¬1) جلاء البصائر (1/ 34). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه برقم (972). (¬3) أخرجه ابن حبان في كتاب الصلاة برقم (2323)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم (6893). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد برقم (427)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم (528). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب الصلاة في البيعة برقم (436)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم (531). (¬6) أخرجه مسلم في كتاب في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم (532).

والصلاة عند القبور لها حالات ثلاث هي: الحالة الأولى: أن يقصد بصلاته الصلاة لصاحب القبر، وصرف العبادة له، فهذا هو الشرك بعينه، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} الجن: 18، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} البينة: 5، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} الزمر: 65. الحالة الثانية: أن يقصد بالصلاة عند القبور التبرك ببقعة معينة فهذا بدعة، وهو محادة الله ورسوله، وهو محرم، سواء كان القبر في قبلته، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تصلوا إلى القبور ...) (¬1) أم لم يكن في قبلته، فكل هذا ابتداع في دين الله، وقد أجمع المسلمون على أن الصلاة عند القبور - أي قبر كان- لا فضل فيها، ولا مزية خير أصلاً، بل مزية شر. (¬2) وقال صاحب تيسير العزيز الحميد: " إن الصلاة عند القبور وإليها، من اتخاذها مساجد، الملعون من فعله وإن لم يبن مسجداً، فتحرم الصلاة في المقبرة وإلى القبور ... " (¬3). وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " بل أئمة الدين متفقون على النهي عن ذلك، وأنه ليس لأحد أن يقصد الصلاة عند قبر أحد، لا نبي ولا غير نبي، وكل من قال: إن قصد الصلاة عند قبر أحد، أو عند مسجد بني على قبر أو مشهد أو غير ذلك، أمر مشروع بحيث يستحب ذلك، ويكون أفضل من الصلاة في المسجد الذي لا قبر فيه، فقد مرق من الدين وخالف إجماع المسلمين، والواجب أن يستتاب قائل هذا ومعتقده، فإن تاب وإلاّ قتل" (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد، ينظر: صحيح مسلم مع شرح النووي (7/ 38). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام (2/ 680 - 681). (¬3) تيسير العزيز الحميد (ص 327). (¬4) مجموع الفتاوى (27/ 488).

الحالة الثالثة: أن يصلي عند القبور اتفاقا من غير أن يقصد التوجه لغير الله بالصلاة، أو يقصد بركة البقعة، وهذه المسألة قد اختلفت أقوال العلماء فيها، فهناك من أجازها كما يروى عن الإمام مالك (¬1) - رحمه الله - وهناك من حكم عليها بالكراهة كالإمام الشافعي (¬2) - رحمه الله - وهو مذهب الأحناف (¬3) لمظنة النجاسة وهناك (¬4) من حرمها (¬5) لأنها ذريعة للشرك وعبادة أصحاب القبور، وهذا هو أرجح الأقوال، وأصحها، وهو الذي دلت عليه النصوص الشرعية، ويلائم مقاصد الشرع الحكيم. د_ البناء على القبور. ويقرر الشيخ - رحمه الله -: " بأن البناء على القبور بدعة منكرة، فيها غلو في تعظيم من دفن في ذلك وهو ذريعة إلى الشرك، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج حيان بن حصين (¬6) قال: (قال لي علي - رضي الله عنه -: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألا تدع صورة إلاَّ طمستها ولا قبراً مشرفاً إلاَّ سويته) (¬7)، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -: (أنه نهى أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه) (¬8) " (¬9). ¬

(¬1) ينظر: المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس (1/ 90). (¬2) ينظر: الأم للشافعي (1/ 92). (¬3) ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني الحنفي (1/ 336). (¬4) ينظر: مجموع الفتاوى (27/ 34)، واقتضاء الصراط المستقيم (2/ 775 - 776). (¬5) قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله -: " عِلَّة النَّهي بالنسبة للصلاة في المقبرة خوفُ أن تكون ذريعة لعبادة القبور، والصَّلاة على سطح الحجرة التي في المقبرة قد تكون ذريعة، ولا سيَّما أنَّ البناء على المقابر أصله حرام فيكون صَلَّى على بناء محرَّم للعِلَّة التي نُهيَ عن الصلاة في المقبرة من أجلها". ينظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع (2/ 249). (¬6) هو: حيان بن حصين الأسدي أبو الهياج ثقة من الطبقة الثالثة. ينظر: تقريب التهذيب لابن حجر (ص 124). (¬7) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب الأمر بتسوية القبر برقم (969). (¬8) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه برقم (970). (¬9) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 413 - 416).

لا ريب أن بناء القبب التي على القبور أمر محدث في الإسلام (¬1)، لم يفعله الصحابة والتابعون بل هو من شر البدع، قال الإمام الشوكاني (¬2): اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة - رضي الله عنهم - إلى هذا الوقت، أن رفع القبور والبناء عليها، بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها، واشتد وعيد رسول الله لنا عليها. مع ما في ذلك من كونه ذريعة إلى الشرك، ووسيلة إلى الخروج عن الملة (¬3). وقال الشيخ عبد الله البسام (¬4) - رحمه الله -: والبناء على القبور من أعظم وسائل الشرك، والمنع منه، قطع لتلك الوسائل المفضية إلى أعظم ذنب عصي الله به: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} لقمان: 13، وأعظم البناء تلك القبب المشيدة على قبور الملوك والزعماء والعلماء، وكثير منها في المساجد، محادة لله تعالى ولشرعه وتوحيده، فيجب إزالتها ومحو آثارها، ولا يجوز إبقاء شيء منها (¬5). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " فإن بناء المساجد على القبور ليس من دين المسلمين، بل هو منهي عنه بالنصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واتفاق أئمة الدين، بل لا يجوز اتخاذ القبور ¬

(¬1) ينظر: المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع محمد بن عبد الرحمن بن قاسم (1/ 24). (¬2) هو محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ثم الصنعاني، فقيه محدث، من مؤلفاته: التحف في مذاهب السلف، الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد، شرح الصدور في تحريم رفع القبور، توفي سنة 1250 هـ. ينظر: البدر الطالع (2/ 204)، أبجد العلوم (3/ 201) وما بعدها، الأعلام (6/ 298)، معجم المؤلفين (3/ 541 - 542)، مقدمة كتاب تفسير الشوكاني (1/ 7 - 35). (¬3) ينظر: شرح الصدور بتحريم رفع القبور (ص 7، 22، 17)، المسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد (ص 375). (¬4) هو: أبو عبد الرحمن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح بن حمد بن محمد بن حمد البسام، ولد في مدينة عنيزة في القصيم عام 1346 هـ، توفي الشيخ في ضحى يوم الخميس الموافق 27/ 11/1423 هـ إثر سكتة قلبية - رحمه الله -. من مؤلفاته: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، وتوضيح الأحكام شرح بلوغ المرام، والاختيارات الجلية في المسائل الخلافية، ورسالة في مضار ومفاسد تقنين الشريعة. ينظر: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (1/ 9 - 14). (¬5) توضيح الأحكام من بلوغ المرام (2/ 553). وينظر: فتح المجيد (1/ 399 - 400)، والروضة الندية لصديق حسن خان (1/ 178).

مساجد، سواء كان ذلك ببناء المساجد عليها أو بقصد الصلاة عندها، بل أئمة الدين متفقون على النهي عن ذلك" (¬1). وقال ابن القيم - رحمه الله -: " يجب هدم القباب التي على القبور لأنها أسست على معصية الرسول لأنه قد نهى عن البناء على القبور. فبناء أسس على معصيته ومخالفته بناء غير محترم، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعاً، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهدم القبور المشرفة" (¬2). والسبب في ذلك حرص الشارع على جانب التوحيد، ومنع وسائل الشرك، لأن بناء المساجد عليها يؤدي إلى إقامة الصلاة فيها وهذا فيه مشابهة للمشركين في تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، كذلك يؤدي إلى تعظيم أصحاب القبور مما قد يصل لصرف العبادات إلى أصحاب القبور وهذا شرك أكبر. ومن الجدير بالذكر أن نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد ليس المقصود منه منع بناء المساجد عليها فقط، بل يدخل في ذلك الصلاة فيها والعكوف عليها من غير بناء. وفي ذلك يقول الإمام ابن عبد البر - رحمه الله - في شرحه لقوله عليه الصلاة والسلام: " قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد": "في هذا الحديث ... تحريم السجود على قبور الأنبياء، وفي معنى هذا أنه لا يحل السجود لغير الله - عز وجل -، ويحتمل الحديث أن لا تجعل قبور الأنبياء قبلة يصلى إليها، وكل ما احتمله الحديث في اللسان العربي فممنوع منه، لأنه إنما دعا على اليهود محذراً لأمته - صلى الله عليه وسلم - من أن يفعلوا فعلهم" (¬3). "أما من قال بأن النهي عن البناء على القبور يختص بالمقبرة المسبَّلة، والنهي عن الصلاة فيها؛ لتنجسها بصديد الموتى، وهذا باطل من وجوه: منها: أنه من القول على الله بغير علم. وهو حرام بنص الكتاب. ومنها: أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه، وما المانع له من أن يقول: من صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله. ويلزم على ما قاله هؤلاء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين العلة، وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده - صلى الله عليه وسلم -، وبعد القرون المفضلة والأئمة. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (27/ 488). (¬2) ينظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن قيم الجوزية (1/ 210). (¬3) التمهيد لابن عبد البر (6/ 383).

وهذا باطل قطعاً وعقلاً وشرعاً؛ لما يلزم عليه من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عجز عن البيان، أو قصر في البلاغ، وهذا من أبطل الباطل؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلَّغ البلاغ المبين، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم. ويقال أيضاً: هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وجاء في بعض النصوص ما يَعُم الأنبياء وغيرهم، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء؛ لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص، علم أنَّ العلة ما ذكره هؤلاء العلماء الذين سبق ذكر بعض أقوالهم" (¬1). هـ. شد الرحال إلى زيارة قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " ولا يجوز أن يسافر إلى المدينة من أجل زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قبور أخرى؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) (¬2)، والمشروع زيارة مسجده والصلاة فيه وليست بواجبة، ومن زار مسجده - صلى الله عليه وسلم - شرع له أن يسلم عليه وعلى صاحبيه - رضي الله عنهما -، وهذا قول ابن القيم - رحمه الله - وشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وجمع كثير من أهل العلم رحم الله الجميع، عملاً بالحديث المذكور، وبذلك يُعلم أنه لا يجوز في أصح قولي العلماء شد الرحال لا لقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا لقبر الخليل ولا لغيرهما من القبور " (¬3). وهو القول الصحيح في هذه المسألة، بمنع شد الرحال إلى القبور، والأماكن الفاضلة، لأجل التعبد. وهذه المسألة من أشهر المسائل التي لاقى شيخ الإسلام ابن تيمية - لأجل الإفتاء بها- العنت والاضطهاد والسجن، وهي المحنة التي مات فيها - رحمه الله - مسجونا بسجن القلعة ¬

(¬1) ينظر: فتح المجيد (255 - 256). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة برقم (1139)، ومسلم في كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، برقم (1397). (¬3) فتاوى اللجنة (1/ 429 - 434).

بدمشق (¬1)؛ وهذا القول هو الذي فهمه الصحابة رضوان الله عليهم، فقد ثبت أن أبا بصرة الغفاري لقي أبا هريرة وهو مقبل فقال: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الطور، صليت فيه، قال: أما إني لو أدركتك لم تذهب، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تشد الرحال ...) (¬2). فقد فهم الصحابي الذي روى الحديث أن الطور وأمثاله من مقامات الأنبياء مندرجة في العموم، لا يجوز السفر إليها، كما لا يجوز السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة (¬3). وهذه المسألة من المسائل التي اختلف العلماء فيها، خاصة في زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - وشد الرحال إليه (¬4): فالحنفية: يرى بعضهم أن زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - واجبة، وبعضهم يراها من المندوبات فقد جاء في بعض كتبهم: " وزيارة قبره مندوبة، بل قيل واجبة لمن له سعة" (¬5). كما أنهم أجازوا هذه الزيارة للنساء، وجعلوها من المندوبات (¬6). أما المالكية: فقد أُثر عن الإمام مالك كراهته أن يقال: زرنا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬7) ومنع من شد الرحال إلى القبر القاضي عياض (¬8)، وبين أن كراهة مالك لذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم لا ¬

(¬1) ينظر: البداية والنهاية (18/ 267 - 270)، الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية لمرعي بن يوسف الكرمي (ص 157)، العقود الدرية في مناقب ابن تيمية لابن عبد الهادي (ص 328)، وفي ضوء رأي شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى المجلد (27). (¬2) أخرجه الطيالسي في مسنده برقم (1445) بإسناد صحيح، أما نص الحديث فهو متفق عليه. (¬3) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 665 - 666)، ينظر للاستزادة: المسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد (ص 367 - 373). (¬4) ينظر للاستزادة: المسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد (ص 367 - 373). (¬5) حاشية ابن عابدين (2/ 626). (¬6) ينظر: حاشية ابن عابدين (2/ 626). (¬7) ينظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض اليحصبي (2/ 84). (¬8) هو: أبو الفضل، عياض بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي المالكي، المشهور بالقاضي، من أئمة المالكية وعلمائهم، الإمام العلامة الحافظ، كان إمام زمانه في الحديث وعلومه والنحو وكلام العرب، وله شعر حسن، له تصانيف نافعة تدل على غزارة علمه منها: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" وكتاب " الإكمال في شرح صحيح مسلم" كمّل به كتاب "الُمعلم" للمازري، توفي 544 هـ. ينظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (20/ 212)، شذرات الذهب (4/ 138)، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 43 - 44)، السير (20/ 212 - 218)، أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض لشهاب الدين احمد بن محمد المقري التلمساني.

تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) (¬1). وهناك من المالكية من أجاز ذلك، وأجابوا عما روي عن مالك من كراهيته لهذا القول، بأن ذلك منه قطعاً للذريعة، وقال بعضهم أنه كره الاسم فقط، وقيل: إنما كره ذلك لأن الناس يستعملون لفظ الزيارة بينهم، فكره تسوية النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الناس بهذا اللفظ (¬2). وأما الشافعية: فقد قال النووي - رحمه الله -: " اختلف العلماء في شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة، كالذهاب إلى قبور الصالحين، وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك، فقال الشيخ أبو محمد الجويني (¬3) من أصحابنا: هو حرام، وهو الذي اختاره إمام الحرمين، والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره" (¬4). أما الحنابلة: فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن لهم قولين في هذه المسألة فقال: " وقد اختلف أصحابنا وغيرهم، هل يجوز السفر لزيارتها؟ على قولين: أحدهما: لا يجوز، والمسافرة لزيارتها معصية لا يجوز قصر الصلاة فيها، وهذا قول ابن بطة (¬5)، وابن عقيل، وغيرهما؛ لأن السفر بدعة لم يكن في عصر السلف. ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ (1/ 172)،برقم (414). (¬2) ينظر: الشفا (2/ 84)، نيل الأوطار (5/ 115). (¬3) هو: أبو محمد، عبد الله بن يوسف الطائي الجويني، شيخ الشافعية، كان إماماً في التفسير والفقه، والأصول، مهيباً مجتهداً في العبادة، من تصانيفه: كتاب "التفسير الكبير" وكتاب "التبصرة" في الفقه، وغيرهما، توفي سنة 438 هـ. ينظر: ترجمته في: تبيين كذب المفتري (257 - 258)، طبقات السبكي (5/ 73 - 93)، السير (17/ 617 - 618). (¬4) شرح صحيح مسلم (9/ 106)، وينظر: المجموع للنووي (8/ 272) وما بعدها. (¬5) هو: أبو عبد الله، عبيدالله بن محمد بن محمد العكبري الحنبلي، شيخ العراق، وصاحب كتاب "الإبانة" كان عالماً جليلاً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، توفي سنة 387 هـ. ينظر: ترجمته في: طبقات الحنابلة (2/ 144 - 153)، شذرات الذهب (3/ 122 - 124)، السير (16/ 529 - 533).

الثاني: أنه يجوز السفر إليها، قاله طائفة من المتأخرين، منهم: أبو حامد الغزالي، وأبو الحسن ابن عبدوس الحراني (¬1)، والشيخ أبو محمد (¬2) المقدسي" (¬3). والمتأمل في أحكام الشريعة الإسلامية، يرى حرص الشارع على أمته، وخوفه عليها من الوقوع في المهلكات التي أهلكت الأمم قبلها، وخاصة الشرك؛ ولذا سدّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل طريق، وأغلق كل باب قد يوصل إليه، ومن ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن شدِّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، لما قد يؤدي إليه ذلك من البدع والشركيات، ونهيه - صلى الله عليه وسلم - يقتضي التحريم؛ ولذلك فإن من جوَّز السفر لزيارة القبور ونحوها وخاصة قبره - صلى الله عليه وسلم -، كابن الصلاح (¬4) وغيره، فإن هؤلاء لا يسلَّم لهم في هذا الباب وتجويزهم لذلك مخالف للنصوص الصحيحة الصريحة الصادرة منه - صلى الله عليه وسلم -، فإن قالوا: إنَّما أوجبنا ذلك تعظيماً له، فإننا نقول لهم: إن تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - يتمثل في موافقته واتباع شرعه، ومحبة ما يحب، وكراهية ما يكره، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، وقد نهانا عن شدِّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، وقبره داخل في عموم هذا النهي. كما أن من أوجب زيارة قبره، أو أباحها، وأجاز شدّ الرحال إليه، فإن هذا قد يتضمن جعل القبر منسكاً يقصده الناس، كما يقصدون مكة والمشاعر ونحوها، وهذا هو ¬

(¬1) هو: أبو الحسن، علي بن عمر بن عبدوس الحراني الحنبلي، مفسر واعظ فقيه، كان من أهل الخير والصلاح، توفي سنة 558 هـ. ينظر ترجمته في: ذيل طبقات الحنابلة (1/ 241 - 244)، شذرات الذهب (4/ 183/184)، معجم المؤلفين (7/ 157). (¬2) هذه كنية الحافظ عبد الغني المقدسي. (¬3) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 670 - 672) باختصار، وللمزيد حول الأقوال السابقة انظر: فتح الباري (3/ 79 - 80)، نيل الأوطار (5/ 112 - 116). (¬4) هو: عثمان بن صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان الكردي الشافعي -تقي الدين أبو عمرو الإمام الحافظ العلامة، كان من كبار الأئمة، وقد أفتى وجمع وألف توفي سنة 643 هـ، من مؤلفاته: أدب المفتي والمستفتي، علوم الحديث الذي يسمى مقدمة ابن الصلاح وغيرها. ينظر: تذكرة الحفاظ (4/ 1430 - 1431)، السير (23/ 140 - 144)، طبقات الشافعية (8/ 326 - 336)، البداية والنهاية (13/ 168 - 169)، النجوم الزاهرة (6/ 354).

عين ما يفعله عبّاد القبور، الذين يذهبون إلى قبور الأنبياء والأولياء، ويفعلون عندها من الشركيات ما لا يعلمه إلا الله، من الطواف حولها، واستلامها، وتقبيلها، وتعفير الخدود على ترابها، وغير ذلك، وهذا كله مما حذر منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أشد التحذير، ونهى عنه؛ ولذلك فإن إجازة السفر لزيارة قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قد يترتب عليها هذه المحاذير، ومن هنا فإنه يقال بعدم جواز ذلك سداً لذريعة الشرك، وحماية لجانب التوحيد، وتمشياً مع ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - (¬1). هـ - الذبح عند القبور. قال الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله -: "الذبح لله عند القبور تبركاً بأهلها وتحري الدعاء عندها وإطالة المكث عندها رجاء بركة أهلها والتوسل بجاههم أو حقهم ونحو ذلك بدع محدثة، بل من وسائل الشرك الأكبر، فيحرم فعلها ويجب نصح من يعمله. أما الذبيحة عند القبور تحرياً لبركات أهلها فهو منكر وبدعة لا يجوز أكلها؛ حسماً لمادة الشرك ووسائله، وسداً للذريعة، وإن قصد بالذبيحة التقرب إلى صاحب القبر صار شركاً بالله أكبر ولو ذكر اسم الله عليها؛ لأن عمل القلوب أبلغ من عمل اللسان وهو الأساس في العبادات" (¬2). لا شك في أن الذبح لله تعالى عبادة يقصد بها تعظيمه سبحانه والتذلل له والتقرب إليه، فصرفها لغير الله شرك أكبر ودليله، قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ} الأنعام: 162 - 163، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله من ذَبَحَ لغير الله) (¬3). ¬

(¬1) منهج الإمام ابن الصلاح لعبد الله بن أحمد الغامدي (ص 160 - 161). (¬2) فتاوى اللجنة (1/ 435). (¬3) أخرجه مسلم كتاب الأضاحي باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله برقم (1978) من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

يقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} المائدة: 3. ومعنى قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} المائدة: 3: " ما ذبح لغير الله تعالى، وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل، وكذلك النصارى، وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به، فذلك إهلاله" (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} المائدة: 3، ظاهره أنه ما ذبح لغير الله تعالى، مثل أن يقال: هذا ذبيحة لكذا، إذا كان هذا هو المقصود، فسواء لفظ به أو لم يلفظ" (¬2). القلوب أبلغ من عمل اللسان وهو الأساس في العبادات، والذبح لله عند القبور تبركاً بأهلها من وسائل الشرك المحرمة؛ لأنها تؤدي إلى الشرك الأكبر: "وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟ أي: الرجل الصالح؛ فإن عبادته هي الشرك الأكبر، وعبادة الله عنده وسيلة إلى عبادته، ووسائل الشرك محرمة؛ لأنها تؤدي إلى الشرك الأكبر، وهو أعظم الذنوب" (¬3). وهذا الصنعاني - رحمه الله - يوضح هذا الأمر فيقول -مناقشاً شبهات من يذبح لغير الله-: " فإن قال: إنما نحرت لله، وذكرت اسم الله عليه، فقل: إن كان النحر لله فلأي شيء قربت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك تعظيمه؟ إن قال: نعم، فقل له: هذا النحر لغير الله تعالى، بل أشركت مع الله تعالى غيره، وإن لم ترد تعظيمه فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين إليه؟ أنت تعلم يقيناً أنك ما أردت ذلك أصلاً، ولا أردت إلا الأول، ولا خرجت من بيتك إلا قصداً له" (¬4). ¬

(¬1) تفسير ابن عطية (5/ 21). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 563). (¬3) فتح المجيد (ص 243). (¬4) تطهير الاعتقاد (ص 33)، ينظر: سبل السلام للصنعاني (4/ 225)، الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد (ص 20، 21).

4 - السجود لغير الله

4 - السجود لغير الله: يقرر الشيخ - رحمه الله -: " أن من سجد لغير الله يعتبر كافراً مرتداً عن الإسلام مشركاً مع الله غيره في العبادة، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده؛ لإتيانه بما ينقض قوله من سجوده لغير الله. لكنه قد يعذر لجهله فلا تنزل به العقوبة حتى يُعلم وتقام عليه الحجة ويمهل ثلاثة أيام؛ إعذاراً إليه ليراجع نفسه، عسى أن يتوب، فإن أصرَّ على سجوده لغير الله بعد البيان قتل لردته؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من بدَّل دينه فاقتلوه) (¬1)، والمشرك لا تقبل منه الأعمال وإذا مات على الشرك فإن الله لا يغفر له، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: 48، 116، وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} المائدة: 72، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} الأنعام: 88، أما إن تاب قبل الموت توبةً نصوحا فإن الله يغفر له، كما قال سبحانه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} الزمر: 53. أجمع علماء الإسلام أن هذه الآية نزلت في التائبين، أما آية النساء، وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: 48، 116، فهي نزلت في حق غير التائبين، وهم الذين ماتوا على كفرهم ومعاصيهم" (¬2). لا ريب أن السجود عبادة لله وحده، وهذا أمر ظاهر لا خفاء فيه، ففي السجود أبلغ معاني الخضوع والتذلل والانقياد (¬3)، مما لا يكون إلا لله وحده لا شريك له، ولقد أخبر الله تعالى بانقياد هذا الكون كله لله وحده لا شريك له، وسجوده له تعالى، فقال ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله، برقم (3017). (¬2) ينظر: فتاوى الجنة (1/ 334 - 337). (¬3) جامع الرسائل لابن تيمية، لرشاد سالم (1/ 27)، مجموع الفتاوى (5/ 237).

سبحانه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)} الرعد: 15، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} الحج: 77، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} الفتح:29. يقول ابن تيمية - رحمه الله -: " وبالجملة فالقيام والركوع والسجود حق للواحد المعبود خالق السموات والأرض، وما كان حقاً خالصاً لله لم يكن لغيره منه نصيب ... فالعبادة كلها لله وحده لا شريك له، قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} البينة: 5" (¬1). وقال المقريزي (¬2) عند قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} الفاتحة: 5: " وبالجملة فالعبادة المذكورة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} هي السجود والتوكل والإنابة والتقوى والخشية والتوبة والنذر والحلف والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والاستغفار وحلق الرأس خضوعاً وتعبداً، والدعاء، كل ذلك محض حق الله تعالى" (¬3). قال ابن تيمية - رحمه الله - في مسألة السجود لغير الله ووسائلها -: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وقال: (فإنها تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار) (¬4)، ونهى عن تحري الصلاة في هذا الوقت، لما فيه من مشابهة الكفار في الصورة، وإن كان المصلي يقصد السجود لله لا للشمس، لكن نهى عن المشابهة في الصورة ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (27/ 93). (¬2) هو: أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد، أبو العباس المقريزي، البعلبكي الأصل، المصري المولد والوفاة، الحنفي ثم الشافعي، تفقه وبرع، ونظر في عدة فنون، وأُولع بالتاريخ فجمع منه شيئاً كثيراً، له مصنفات عديدة منها: الواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ويعرف بخطط المقريزي، وله تجريد التوحيد المفيد، توفي سنة (845 هـ). ينظر: شذرات الذهب (7/ 254)، والبدر الطالع (1/ 79)، والأعلام (1/ 177)، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي (2/ 21). (¬3) تجريد التوحيد (ص 22)،وينظر: تطهير الاعتقاد للصنعاني (ص 28) باختصار. (¬4) أخرجه البخاري كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده برقم (3273)، ومسلم كتاب المسافر ومواضع الصلاة باب أوقات الصلوات الخمس برقم (612).

لئلا يفضي إلى المشاركة في القصد، فإذا قصد الإنسان السجود للشمس وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، كان أحق بالنهي والذم والعقاب، ولهذا يكون كافراً، كذلك من دعا غير الله، وحج إلى غير الله هو أيضاً شرك، والذي فعله كفر" (¬1). ويبين ابن تيمية - رحمه الله - أن السجود الشركي من الأمور المتفق على تحريمها عند الرسل عليهم السلام، فيقول: "أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله، كما قال سبحانه وتعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} الزخرف: 45" (¬2). وإذا تقرر كون السجود لغير الله تعالى شركاً بالله تعالى، فينبغي أن نفرق بين سجود العبادة، وسجود التحية، فأما سجود العبادة فقد سبق الحديث عنه، وأما سجود التحية فقد كان سائغاً في الشرائع السابقة، ثم صار محرماً على هذه الأمة، والتسليم والإجلال لله وحده هو من التوحيد الذي اتفقت عليه دعوة الرسل، وإن صُرف لغيره فهو شرك وتنديد، ولكن لو سجد أحدهم لأب أو عالم ونحوهما، وقصده التحية والإكرام فهذه من المحرمات التي دون الشرك، أما إن قصد الخضوع والقربة والذلّ له فهذا من الشرك، ولكن لو سجد لشمس أو قمر أو قبر، فمثل هذا السجود لا يتأتى إلا عن عبادة وخضوع وتقرّب فهو سجود شركي (¬3). وعلى هذا فمن فعل ذلك تديناً وتقرباً فهذا من أعظم المنكرات وهو ضال مفتر، بل يبين له أن هذا ليس بدين ولا قربة، فإن أصر على ذلك استتيب، فإن تاب وإلا قتل (¬4). ¬

(¬1) الرد على الأخنائي (ص 61)، وينظر: مجموع الفتاوى (27/ 11، 23)، (11/ 502)، واقتضاء الصراط المستقيم (2/ 768). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 192)، مجموع الفتاوى (4/ 358). (¬3) نواقض الإيمان القولية والعملية، د. عبد العزيز العبد اللطيف (ص 278 - 279)، وينظر: تفسير ابن عطية (9/ 377 - 378)، وتفسير القرطبي (1/ 293) (9/ 265)، تفسير ابن كثير (2/ 491)، تفسير المنار لمحمد رشيد رضا (1/ 265). (¬4) ينظر: مجموع الفتاوى (1/ 372).

5 - عبادة الأصنام

5 - عبادة الأصنام: يقرر الشيخ - رحمه الله -: " بأنه ليس للأصنام من صفات الربوبية والجلال والكمال ما يوجب عبادتها آلهة، فكان تسميتها بذلك كذباً وزوراً، لذا ذمهم الله وأنكر عليهم هذه التسمية بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)} النجم: 23، وبين سبحانه أنها مجرد أسماء لا حقيقة لها وليس من العقل أو النقل سلطان يصفها" (¬1). "وقوله - عز وجل -: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} النجم: 23، قال الله منكراً عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ}،أي من تلقاء أنفسكم، {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}، أي من حجة {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}، أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم وإنما عبدوا هذه الأصنام بظن منهم أنها تنفع وتضر وسموها آلهة؛ (ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: (ارجع فإنك لم تصنع شيئا) فرجع خالد فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها أمعنوا في الحيل وهم يقولون يا عزى يا عزى فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها فغمسها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال (تلك العزى) (¬2)، وقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب إلى صنم اللات فهدماها ¬

(¬1) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام (1/ 106). (¬2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى في كتاب التفسير باب {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} برقم (11483)، وأبي يعلى في مسنده (2/ 197) برقم (902)، قال صاحب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد نور الدين الهيثمي: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ يَحْيَى بْنُ الْمُنْذِرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، (6/ 176)، وحسنه الشيخ مقبل الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين برقم (533).

6 - الحكم بغير ما أنزل الله

وجعلا مكانها مسجداً بالطائف، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مناة أبا سفيان صخر بن حرب فهدمها. ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة ومع هذا ما تبعوا ما جاؤوهم به ولا انقادوا له ففي هذه الآيات وما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، من الدلائل القطعية على بطلان عبادة هذه الطواغيت وأشباهها مالا مزيد عليه فسبحان من جعل كلامه شفاء وهدى ورحمة " (¬1). 6 - الحكم بغير ما أنزل الله: يقرر الشيخ - رحمه الله - أن من الشرك الأكبر أن يجعل لله نداً في التشريع، فيقول: " .. أن يجعل لله نداً في التشريع، بأن يتخذ مشرعاً له سوى الله أو شريكاً لله في التشريع يرتضي حكمه ويدين به في التحليل والتحريم؛ عبادةً وتقرباً وقضاءً وفصلاً في الخصومات، أو يستحله وإن لم يره ديناً، وفي هذا يقول تعالى في اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} التوبة: 31، وأمثال هذا من الآيات والأحاديث التي جاءت في الرضا بحكم سوى حكم الله أو الإعراض عن التحاكم إلى حكم الله والعدول عنه إلى التحاكم إلى قوانين وضعية، أو عادات قبلية، أو نحو ذلك، فهذه الأنواع الثلاثة (¬2) هي الشرك الأكبر الذي يرتد به فاعله أو معتقده عن ملة الإسلام" (¬3). فرض الله الحكم بشريعته، وأوجب ذلك على عباده، وجعله الغاية من تنزيل الكتاب، فقال سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} البقرة: 213، وقال تعالى: {إِنَّا ¬

(¬1) ينظر: تيسير العزيز الحميد (1/ 147)، تفسير ابن كثير 2/ 517) و (4/ 255)، تفسير القرطبي (17/ 103). (¬2) الأنواع الثلاثة: هي أن يجعل الإنسان لله نداً، إما في أسمائه أو صفاته، وإما أن يجعل له نداً في العبادة بأن يضرع إلى غيره تعالى، والثالث أن يجعل لله نداً في التشريع. (¬3) فتاوى اللجنة (1/ 747).

أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} النساء: 105، وبين سبحانه اختصاصه وتفرده بالحكم، فقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)} الأنعام: 57 (¬1)، وجاءت الآيات القرآنية مؤكدةً على أن الحكم بما أنزل الله من صفات المؤمنين، وأن التحاكم إلى غير ما أنزل الله -وهو حكم الطاغوت والجاهلية- من صفات المنافقين، قال سبحانه: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} النور: 47 - 51 والنساء: 60 - 62 (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وإذا خرج ولاة الأمر عن هذا -حكم الكتاب والسنة- فقد حكموا بغير ما أنزل الله، ووقع بأسهم بينهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: (ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم) (¬3) وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول، كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا، ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك من أيده الله بنصره، ويحتسب مسلك من خذله الله وأهانه" (¬4). قال ابن القيم - رحمه الله -: " إن قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} النساء: 59، نكرة في سياق الشرط تعمّ كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقه وجله، وجليه وخفيه، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافياً لم يأمر بالرد إليه، إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالردّ عند التنازع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع ومنها أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورة ¬

(¬1) ينظر: قوله تعالى في سورة يوسف آية (40)، والقصص آية (70)، الشورى آية (42). (¬2) ينظر: نواقض الإيمان القولية والعملية (ص 294). (¬3) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب العقوبات، برقم (4019) بلفظ: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (4009)، وفي السلسة الصحيحة برقم (106). (¬4) مجموع الفتاوى (35/ 387).

انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم، وأن عاقبته أحسن عاقبة" (¬1). قال ابن أبي العز - رحمه الله -: "وهنا أمر يجب أن يتفطن له وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة ويكون كفراً إما مجازيا وإما كفراً أصغر على القولين المذكورين وذلك بحسب حال الحاكم فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا عاص ويسمى كافراً كفراً مجازيا أو كفرا أصغر وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور" (¬2). يقول سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله -: " الحكم بغير ما أنزل الله أقسام، تختلف أحكامهم بحسب اعتقادهم وأعمالهم فمن حكم بغير ما أنزل الله، يرى أن ذلك أحسن من شرع الله فهو كافر عند جميع المسلمين، وهكذا من يحكم القوانين الوضعية بدلاً من شرع الله، ويرى أن ذلك جائزٌ ولو قال إن تحكيم الشريعة أفضل فهو كافر، لكونه استحل ما حرم الله، أما من حكم بغير ما أنزل الله، اتباعاً للهوى أو لرشوة أو لعداوة بينه وبين المحكوم عليه أو لأسباب أخرى وهو يعلم أنه عاص لله بذلك وأن الواجب عليه تحكيم شرع الله، فهذا يعتبر من أهل المعاصي والكبائر ويعتبر قد أتى كفراً أصغر وظلماً أصغر وفسقاً أصغر كما جاء هذا المعنى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعن طاووس (¬3) وجماعة من ¬

(¬1) أعلام الموقعين (1/ 49 - 50)، ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 209)، تفسير السعدي (2/ 90)، أضواء البيان (4/ 83)، الحاكمية في أضواء البيان للسديس (ص 58). (¬2) شرح العقيدة الطحاوية (1/ 363) و (1/ 364)، وينظر: تفسير القرطبي (6/ 191)، منهاج السنة لابن تيمية (5/ 131)، مدارج السالكين (1/ 336)، فتاوى محمد بن إبراهيم -رسالة تحكيم القوانين- (12/ 291)، وأضواء البيان (2/ 104)، الروح لمحمد بن أبي بكر الزرعي (1/ 267). (¬3) هو: أبو عبد الرحمن طاووس بن كيسان اليماني الحميري مولاهم وقيل الهدماني مولاهم. من كبار التابعين والعلماء سمع ابن عباس وابن عمر وجابر وغيرهم، وروى عنه خلائق من التابعين واتفقوا على فضيلته ووفور علمه وحفظه وتثبته توفى بمكة سنة 106 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (9/ 38)، البداية والنهاية (9/ 235)، طبقات المفسرين لأحمد بن محمد الأدنروي (ص 12).

7 - التطير

السلف الصالح وهو المعروف عند أهل العلم والله ولي التوفيق" (¬1). 7 - التطير: يقرر الشيخ - رحمه الله -: "بأن التشاؤم من الشهور أو الأيام أو الطيور أو الحيوانات ونحوها لا يجوز؛ وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا عدوى (¬2) ولا طيرة ولا هامة (¬3) ولا صفر (¬4)، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد) (¬5) والتشاؤم من أعمال الجاهلية وقد أبطله الإسلام. ويبين الشيخ كذلك أن أحسن ما قيل في هذا الحديث قول البيهقي، وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح (¬6) وغيرهم أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا عدوى) على ¬

(¬1) فتاوى مهمة (1/ 142) و (1/ 143). (¬2) لا عدوى، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد: لا تعارض بينهما، فإن المنفي عدوى الطبع، والأمر بالفرار لأن الله أجرى العادة بالإعداء عند المخالطة، أو لئلا يتفق للمخالط شيء بالقدرة بالإعداء، فيضن أنه عدوى فيقع في الحرج، أو لئلا يحصل للمجذوم كسر خاطر برؤية الصحيح، أو لا عدوى عام، خص بقوله: (فر ..). إلى آخره، أي لا عدوى إلا ما استثنيت. ينظر: مختصر صحيح البخاري للزبيدي (ص 554). (¬3) الهامة هي: طائر يسمّى البومة، وكان العرب يتشاءمون به إذا وقع على بيت أحدهم قال: نعى إليَّ نفسي أو أحداً من أهلي. كانوا يتشاءمون بها، ويقولون: البوم لا يقع إلاَّ على الخراب. فهذا من عقيدة الجاهلية. ينظر: النهاية في غريب الأثر (5/ 662)، إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد للشيخ صالح بن فوزان (2/ 9)، الجديد في شرح كتاب التوحيد لمحمد بن عبدالعزيز القرعاوي (1/ 251)، الملخص في شرح كتاب التوحيد للشيخ صالح بن فوزان (1/ 228)، القول المفيد على كتاب التوحيد للعلامة محمد بن صالح العثيمين (1/ 563). (¬4) الصفر: قيل المراد به: داءٌ يكون في البطن يصيب الماشية والناس، يزعمون أنه أشد عدوى من الجرب، فجاء الحديث بنفي هذا الزعم، وقيل المراد: شهر صفر كانوا يتشاءمون به، فجاء الحديث بإبطال ذلك. ينظر: الملخص في شرح كتاب التوحيد (1/ 228)، القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 564)، النهاية في غريب الأثر (3/ 69). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الطب باب الجذام برقم (5707). (¬6) هو: محمد بن مفلح المقدسي ثم الصالحي الحنبلي، عالم تفقه وبرع ودرس وأفتى وأفاد، كان آية وغاية في نقل مذهب الإمام أحمد، تتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، توفي سنة (763 هـ) له مصنفات عديدة أشهرها كتاب الفروع. ينظر: شذرات الذهب (6/ 199)، والأعلام (7/ 107)، ومعجم المؤلفين (3/ 729).

الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية، من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (وفر من المجذوم كما تفر من الأسد) فلأن هذه الأمور تعدي بطبعها، وإلاَّ فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سبباً لحدوث ذلك؛ ولهذا قال: (وفر من المجذوم كما تفر من الأسد)، وقال: (لا يورد ممرض على مصح) (¬1)،وقال في الطاعون: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه) (¬2)، وكل ذلك بتقدير الله تعالى" (¬3). والطيرة في اللغة: مصدر تطير يتطير تطيراً وطيرة. وهي التشاؤم بالطير (¬4)، وأصله فيما يقال: التشاؤم بالسوانح والبوارح (¬5) من الطيور، ثم صار عاماً في كل مكروه من قول أو فعل أو مرئي (¬6). وأما في الاصطلاح: "فالتطير هو التشاؤم بمرئي أو مسموع" (¬7). وقد وردت النصوص الشرعية بالنهي عنها والتحذير منها. "والطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب، لكونها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته. والتطير من عمل أهل الجاهلية والمشركين. وقد ذمَّهم الله به ومقتهم، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التطير، وأخبر أنَّه شرك. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ... برقم (2221). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الحيل باب ما يكره من الاحتيال في الفرار من الطاعون برقم (6973)، ومسلم في كتاب السلام باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها برقم (2219) من حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -. (¬3) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 656 - 658). (¬4) ينظر: معجم مقاييس اللغة (ص 630)، الصحاح (2/ 728)، لسان العرب (4/ 511)، القاموس المحيط (ص 555). (¬5) السانح: ما مر من مياسرك إلى ميامنك، والبارح عكسه. ينظر: شرح السنة للبغوي (12/ 170)، النهاية في غريب الحديث (3/ 153)، غريب الحديث لابن الجوزي (2/ 48). (¬6) ينظر: شرح السنة (12/ 170)، التمهيد (9/ 282)، شرح صحيح مسلم (14/ 218)، فتح الباري (10/ 212). (¬7) مفتاح دار السعادة (2/ 246)، وينظر: تفسير القرطبي (16/ 181)، مجموع الفتاوى (23/ 67)، الدرر السنية (11/ 41).

- صلى الله عليه وسلم - قال: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامةَ ولا صفر) أخرجاه (¬1). وزاد مسلم: (ولا نوْء (¬2) ولا غُول (¬3)). ولأحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً: (لا يُعدي شيءٌ شيئاً) (¬4) -قالها ثلاثاً - فقال أعرابي: يا رسول الله، إن النُّقْبَة (¬5) من الجرَب تكون بمِشفَر (¬6) البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فمن أجرب الأول؟ لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، خلق الله كل نفس، وكتب حياتها ومصائبها ورزقها). فأخبر - صلى الله عليه وسلم -: أن ذلك كلَّه بقضاء الله وقدره، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية. فكما أنه يؤمر أن لا يُلقي نفسه في الماء وفي النار، مما جرت العادة أنه يُهلك أو يضر. فكذلك اجتناب مقاربة المريض، كالمجذوم، والقدوم على بلد الطاعون، فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، فالله سبحانه هو خالق الأسباب ومُسبباتها، لا خالق غيرُه، ولا مقدِّر ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب لا هامة برقم (5757)، ومسلم في كتاب السلام باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامةَ ولا صفر ... برقم (2220). (¬2) النوء المراد به: أحد الأنواء، وهو: النجم، لأنهم كانوا يعتقدون أنّ نزول الأمطار وهُبوب الرياح بسبب طلوع النجوم، ويُسندون هذا إلى النجوم والكواكب، وهذا من اعتقاد الجاهلية. ينظر: إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 10)، الملخص في شرح كتاب التوحيد (1/ 228)، تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله آل الشيخ (2/ 56). (¬3) والغول - بضم الغين-: أحد الغيلان، والغيلان من أعمال شياطين تتشكّل أمام النّاس في الفلوات، خصوصاً إذا استوحش الإنسان تتشكّل أمامه أشياء تضله عن الطريق، إما بأن يرى أمامه ناراً تتنقّل، أو أصواتاً يسمعها، أو غير ذلك، ولهذا يقول - صلى الله عليه وسلم -: (إذا تغوّلت الغيلان فبادروا بالأذان). ينظر: إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 11)، الملخص في شرح كتاب التوحيد (1/ 228)، تيسير العزيز الحميد (2/ 56). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (4186)،وأخرجه الترمذي في كتاب القدر باب ما جاء لا عوى ولا هامة ولا صفر برقم (2143)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 143) برقم (1152). (¬5) النُّقْبَةُ: أَول بدء الجرب، ترى الرقعة مثل الكَفِّ بجَنْبِ البعيرِ، أَو وَرِكهِ، أَو بمِشْفَرِهِ، ثم تتمشَّى فيه حتى تُشْرِبَهُ كُلَّهُ، أَي: تملأه. ينظر: تاج العروس من جواهر القاموس (4/ 293)، تهذيب اللغة (9/ 160)، لسان العرب (1/ 765). (¬6) المشفر: شفة البعير الغليظة، ويقال في الفرق (الشَّفَةُ) من الإنسان و (المِشْفَرُ) من ذي الخفّ، وقال الليث: ولا يقال الْمِشْفَرُ إلاَّ لِلْبَعير. ينظر: المصباح المنير (1/ 318)، المعجم الوسيط (1/ 487)، تهذيب اللغة (11/ 239).

غيره. وأما إذا قوي التوكل على الله والإيمان بقضاء الله وقدره - فقويت النفس على مُباشرة بعض هذه الأسباب، اعتماداً على الله، ورجاءً منه أن لا يحصل به ضرر - ففي هذه الحال مباشرة ذلك، لا سيما إذا كانت مصلحةً عامة أو خاصة" (¬1). قال العلامة ابن القيم - رحمه الله -: " التطير هو التشاؤم بمرئي أو مسموع، فإذا استعملها الإنسان فرجع بها من سفر وامتنع بها عما عزم عليه، فقد قرع باب الشرك، بل ولجه، وبرئ من التوكل على الله سبحانه، وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله" (¬2). "فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وتوكَّل على الله، قطع هاجسَ الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرَها من قبل استكمالها. قال عكرمة: كنَّا جلوساً عند ابن عباس، فمرَّ طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير، فقال له ابن عباس: لا خير ولا شر. فبادره بالإنكار عليه، لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر. وخرج طاوس مع صاحب له في سفر، فصاح غرابٌ. فقال الرجل: خير، فقال طاوسُ: وأيُّ خير عند هذا؟ لا تصحب (¬3) " (¬4). قال - صلى الله عليه وسلم -: (الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك) ثلاثاً (¬5). "وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك؛ لما فيها من تعلق القلبِ على غير الله تعالى ... قال ابن مفلح: والأولى القطعُ بتحريمها؛ لأنها شرك ... وإنما جعل الطيرةَ من الشرك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ الطيرة تجلبُ لهم نفعاً، أو تدفع عنهم ضرّاً إذا عملوا بموجبها، فكأنهم أشركوا مع الله تعالى. ¬

(¬1) فتح المجيد (325) وما بعدها. (¬2) مفتاح دار السعادة (2/ 246). (¬3) أخرجه الطبري عن عكرمة، كما في فتح الباري (10/ 215). وأبو بكر أحمد بن مروان الدينوري المالكي في المجالسة وجواهر العلم (3/ 297)، برقم (937). (¬4) مفتاح دار السعادة لابن القيم (2/ 235)، ينظر: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد (ص 348). (¬5) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الطب باب في الطيرة برقم (3910)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3910)، قال الترمذي حديث حسن صحيح.

8 - التعلق بالأولياء والصالحين

والطيرة لا تضرُّ من كرهها ومضى في طريقه، وأما من لم يخلص توكله على الله، واسترسل مع الشيطان في ذلك، فقد يُعاقب بالوقوع فيما يكره؛ لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله، وهو الذي يدفع عنه الضر وحده بقُدرته ولطفه وإحسانه، فلا خير إلا منه، وهو الذي يدفع الشَّر عن عبده، فما أصابه من ذلك فبذنبه، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} النساء: 79" (¬1). 8 - التعلق بالأولياء والصالحين: يقرر الشيخ - رحمه الله -: " بأن الملائكة قدروا الله قدره، وعرفوا كمال عبوديتهم له، وأخلصوا له تفرده بالملك والقهر والسلطان فتأدبوا معه حيث يقومون يوم القيامة صفاً، ويتركون الكلام حتى يأذن لهم فيه، وفي ذلك رد على من يتعلق بالأنبياء والصالحين زعماً منه أنهم يملكون أن يشفعوا له عند الله" (¬2). وقال - رحمه الله -: "ودعاء غير الله من الأولياء والصالحين لكشف ضر أو شفاء مريض أو تأمين طريق مخوف - شرك أكبر يخرج من الإسلام، قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} الجن: 18، وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)} يونس: 106" (¬3). والغلو في الصالحين يؤول إلى الشرك بالله في الإلهية وهو أعظم ذنب عُصي الله به، وأول شرك وقع على ظهر الأرض، وهو ينافي التوحيد الذي دلَّت عليه كلمة الإخلاص: شهادة أن لا إله الله (¬4). ¬

(¬1) ينظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (4/ 8)، فتح المجيد (325 - 336)، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (85 - 88)، معنى حديث الشؤم في ثلاثة، أ. د. محمد العلي. (¬2) ينظر: تفسير الجلالين (ص 250). (¬3) فتاوى اللجنة (1/ 141). (¬4) ينظر: شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للغنيمان (3/ 113)، إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1/ 266)، التنجيم والمنجمون وحكم ذلك في الإسلام لعبد المجيد بن سالم المشعبي (ص 7).

"والغلو: هو الإفراط بالتعظيم بالقول والاعتقاد. قال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} النساء: 171، أي: لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله، فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله. والخطاب - وإن كان لأهل الكتاب- فإنه عام يتناول جميع الأمة؛ تحذيراً لهم أن يفعلوا فعل اليهود والنصارى؛ فكل من دعا نبياً أو ولياً من دون الله: فقد اتخذه إلهاً" (¬1). وفي الصحيح (¬2) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)} نوح: 23،قال: (هذه أسماء رجالٍ صالحين من قومِ نوحٍ، فلمَّا هلكوا أوحى الشيطانُ إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا. ولم تُعْبد. حتى إذا هلك أولئك ونُسيَ العلم عُبِدَت). "والشيطان هو الذي زين لهم عبادة الأصنام، وأمرهم بها، فصار هو معبودهم في الحقيقة، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} يس: 60 - 62،وهذا يفيد الحذر من الغلو ووسائل الشرك، وإن كان القصد بها حسناً. فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين والإفراط في محبتهم" (¬3). ¬

(¬1) فتح المجيد (ص 231). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ} برقم (4920). (¬3) فتح المجيد (233 - 234).

9 - الرقى والتمائم

9 - الرقى (¬1) والتمائم (¬2): يقرر الشيخ - رحمه الله -: " إجماع العلماء على جواز الرقى إذا كانت من القرآن أو الأذكار أو الأدعية مع اعتقاد أنها سبب لا تأثير له إلاَّ بتقدير الله تعالى، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً) (¬3)، أما الرقى المنهي عنها فهي الرقى المخالفة لما ذكرنا، كما صرح بذلك أهل العلم. أما تعليق شيء بالعنق أو ربطه بأي عضو من أعضاء الشخص فإن كان من غير القرآن فهو محرم، بل شرك؛ لما رواه الإمام أحمد في مسنده، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: (ما هذا؟) قال: من الواهنة، فقال: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً) (¬4). وما رواه عن عقبة بن عامر عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودّع الله له) (¬5)،وفي رواية لأحمد أيضاً: (من علق تميمة فقد أشرك) (¬6)، ¬

(¬1) الرقى: جمع رقية والرقية هي: القراءة والنفث طلباً للشفاء والعافية، سواء كانت من القرآن الكريم أو من الأدعية النبوية المأثورة. ينظر: القاموس المحيط (ص 1468)، المخصص لأبي الحسن علي بن إسماعيل النحوي اللغوي الأندلسي المعروف بابن سيده (4/ 474)، النهاية في غريب الحديث (2/ 254)، كتاب أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء طباعة الشؤون الإسلامية بالسعودية (ص 43)، إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد للفوزان (1/ 150)، مجموع فتاوى ورسائل العثيمين - (9/ 168). (¬2) التمائم: واحدتها تميمة وهي: العُوذ التي تعلّق على الإنسان وغيره بقصد دفع الآفات عنه من أي شيء كان. ينظر: الصحاح (5/ 1878)، لسان العرب (12/ 69)، تيسير العزيز الحميد (ص 113). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب السلام باب لا بأس بالرقى مالم يكن فيه شرك، برقم (2200) من حديث عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (19498)، وابن ماجه في كتاب الطب باب تعليق التمائم (3531)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3/ 101) برقم (1029). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (16951)، وابن ماجه خرج الجزء الأول منه في كتاب الطب، باب تعليق التمائم، برقم (3531)، والحاكم في المستدرك كتاب الرقي والتمائم (4/ 417)، وقال صاحب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ورجالهم ثقات (5/ 103)، وضعف الألباني الجزء الأول من الحديث في ضعيف ابن ماجه برقم (3531). (¬6) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (16969)، وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في السلسلة الصحيحة (1/ 809) برقم (492) ..

وما رواه أحمد وأبو داود عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة (¬1) شرك) (¬2). وإن كان ما علقه من آيات القرآن فالصحيح أنه ممنوع أيضاً؛ لثلاثة أمور: الأول: عموم أحاديث النهي عن تعليق التمائم ولا مخصص لها. الثاني: سد الذريعة فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك. الثالث: أن ما علق من ذلك يكون عرضة للامتهان بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء والجماع ونحو ذلك" (¬3). وقد أجمع العلماء (¬4) على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: - الشرط الأول: أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته، أو بالأدعية والأذكار المأثورة أو ما فيه ذكر الله سبحانه وتعالى. والدليل على هذا الشرط قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى مالم يكن فيه شرك) (¬5). ¬

(¬1) التِّوَلَة: بكسر التاء وفتح الواو ما يُحِّبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره. ينظر: إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1/ 151)، فتح الباري (10/ 206)، مجموع فتاوى ابن باز (4/ 332)، العين لأحمد الفراهيدي (8/ 135)، النهاية في غريب الحديث (1/ 200). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (3604)، وأبو داود في كتاب الطب باب في تعليق التمائم برقم (3883)، وابن ماجه في كتاب الطب باب تعليق التمائم برقم (3530)، والحاكم في المستدرك كتاب الرقى والتمائم (4/ 418)، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة (1/ 648) برقم (331). (¬3) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 240 - 268) و (1/ 299 - 332). (¬4) ينظر: فتح الباري (10/ 195). (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين والنملة والنظرة برقم (2200).

وعن عائشة - رضي الله عنها -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركته) (¬1)،وقد رقى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). كذلك فقد قال البغوي (¬3) - رحمه الله -: "فأما ما كان بالقرآن وبذكر الله - عز وجل - فإنه جائز مستحب" (¬4). أما الرقى التي فيها دعاء أو استعانة أو استغاثة بغير الله من ملائكة أو جن أو غيرهم أو التعوذ بطلسم أو عزيمة ونحو ذلك، فقد جاءت الأحاديث في تحريمها: مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) (¬5). وقد علق شيخ الإسلام - رحمه الله - على قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا بأس بالرقى مالم تكن شركاً) (¬6) بقوله: " فنهى عن الرقى التي فيها شرك، كالتي فيها استعاذة بالجن كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} الجن: 6، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم، والإقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره، التي تتضمن الشرك" (¬7). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الطب، باب الرقى بالقرآن والمعوذات برقم (5735)، وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب السلام باب رقية المريض بالمعوذات والنفث برقم (2192). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب السلام باب الطب والمرض والرقى، برقم (2185). (¬3) هو: الحسين بن مسعود بن محمد الفراء البغوي، شافعي، من مؤلفاته: معالم التنزيل، شرح السنة، الأنوار في شمائل النبي المختار، توفي سنة (516 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء (8/ 454)، شذرات الذهب (1/ 354). (¬4) شرح السنة (12/ 159). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (3604)، وأبو داود في كتاب الطب باب في تعليق التمائم برقم (3883)، وابن ماجه في كتاب الطب باب تعليق التمائم برقم (3530)، والحاكم في المستدرك كتاب الرقى والتمائم (4/ 418)، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة (1/ 648) برقم (331). (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين والنملة والنظرة برقم (2200). (¬7) مجموع الفتاوى (1/ 336).

- الشرط الثاني: أن يكون باللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره؛ فإن كان بغير هذا فمكروه. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "نهوا - أي العلماء - عن كل ما لا يعرف معناه من ذلك، خشية أن يكون فيه شرك" (¬1). وقال أيضاً: " كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقى به، فضلاً عن أن يدعو به ولو عرف معناه، لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يعرف العربية، فأما جعل الألفاظ العجمية شعاراً فليس من الإسلام" (¬2). - الشرط الثالث: أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى. ومما تقدم يتبين من كلام الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - أنه يرى أن التمائم على قسمين: - القسم الأول: محرم وشرك، وهو ما يعلق بالعنق أو يربط بأي عضو من أعضاء الشخص من غير القرآن. - القسم الثاني: ممنوع، وهي التمائم التي تعلق ويكون فيها آيات من القرآن أو الأدعية. وما ذكره الشيخ - رحمه الله - عن القسم الأول فقد دلت أحاديث كثيرة عليه، فعن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره: (فأرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلاّ قطعت) (¬3)، وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: (من تعلق شيئاً وكل إليه) (¬4). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (1/ 336)، وينظر: فتح المجيد (ص 137). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 462)، وينظر: تيسير العزيز الحميد (166 - 167). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجهاد باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل برقم (3005)، وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب كراهية قلادة الوتر في رقبة البعير برقم (2115). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (18304)، والترمذي في سننه كتاب الطب باب ما جاء في كراهية التعلق برقم (2072)، ضعفه الشيخ الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (5/ 72) برقم (2072).

وعن رويفع (¬1) قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا رويفع، لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته (¬2) أو تقلد وتراً (¬3) أو استنجى برجيع (¬4) دابة أو عظم فإن محمداً برئ منه) (¬5). أما القسم الثاني: فقد اختلف فيه العلماء على قولين: - الأول: الجواز وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره (¬6)، وظاهر ما روي عن عائشة (¬7)، وسعيد بن المسيب (¬8)، وعطاء (¬9)، وبه قال أبو جعفر ¬

(¬1) هو: رويفع بن ثابت بن السكن النجاري الأنصاري المدني، صحابي جليل نزل بمصر، وأمره معاوية على طرابلس الغرب، سنة 46 هـ فغزا إفريقية، وتوفي ببرقة وهو أمير عليها من قبل مسلمة بن مخلد نائب مصر. وقبره مشهور في الجبل الأخضر (ببرقة). ينظر: سير أعلام النبلاء (3/ 36)، تهذيب التهذيب (3/ 299)، الأعلام (3/ 36). (¬2) عقد لحيته: أي عالجها حتى تنعقد وتتجعَّد، وكانوا يفعلون ذلك تكبراً وعجباً. ينظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3/ 270). (¬3) تقلد وتراً: الأوتار: جمع وتر القوس، وكانوا يقلدون الإبل وغيرها لئلا تصيبها العين والأذى. ينظر: النهاية في غريب الأثر (5/ 319)، لسان العرب (5/ 273). (¬4) الرجيع: الروث والعذرة. ينظر النهاية (2/ 203). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (16548)، والنسائي في كتاب الزينة، باب عقد اللحية برقم (9284)، وأبو داود كتاب الطهارة باب ما ينهى عنه أن يستنجى به برقم (36)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (1/ 2) برقم (36). (¬6) ينظر: المصنف لابن أبي شيبة (7/ 396 - 398). (¬7) لعل المقصود ما أخرجه الحاكم في مستدركه (4/ 418) عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (التمائم ما علق قبل نزول البلاء، وما علق بعده فليس بتميمة). وينظر: السنن الكبرى البيهقي (9/ 350). (¬8) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 43). وابن المسيب هو: أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي، الإمام العلم، عالم أهل المدينة، وسيد التابعين في زمانه، سمع من عدد من الصحابة - رضي الله عنهم - كان صالحاً زاهداً عابداً، توفي سنة94 هـ. انظر: طبقات ابن سعد (5/ 60 - 74)، حلية الأولياء (2/ 161 - 175)، السير (4/ 216 - 246). (¬9) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 43). وعطاء هو: أبو محمد، عطاء بن أبي رباح القرشي، مفتي الحرم، الإمام شيخ الإسلام، ولد في خلافة عثمان - رضي الله عنه -،حدَّث عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - كعائشة وأم سلمة، وأبي هريرة - رضي الله عنهم - كان ثقةً فقيها عالماً من المكثرين في الحديث، توفي سنة 115 هـ. ينظر: طبقات ابن سعد (5/ 320 - 321)، وفيات الأعيان (3/ 261)، السير (5/ 78 - 88).

الباقر (¬1) وأحمد في رواية (¬2)، وظاهر قول ابن تيمية (¬3)، وابن القيم (¬4)، وابن حجر (¬5)، وحملوا الأحاديث الواردة في النهي على التمائم الشركية. أما التي فيها القرآن وأسماء الله وصفاته فكالرقية بذلك. وجمهور أصحاب هذا القول على أن التعليق الجائز هو ما كان بعد نزول البلاء، أما ما كان قبله فليس بجائز (¬6). - الثاني: عدم الجواز وهو قول ابن مسعود (¬7) وابن عباس (¬8)، وبه قال جماعة من التابعين، منهم أصحاب ابن مسعود (¬9)، وظاهر قول حذيفة (¬10)،وعقبة بن عامر (¬11) ¬

(¬1) هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المدني المشهور بابي جعفر الباقر، تابعي جليل كان إماماً. مجتهداً كثير العبادة كبير الشأن. اتفق الحفاظ على الاحتجاج به، توفي سنة 114 هـ. انظر: السير (4/ 401 - 409)، البداية والنهاية (9/ 309). (¬2) ينظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (2/ 460). (¬3) مجموع الفتاوى (19/ 64 - 65). (¬4) زاد المعاد (4/ 357). (¬5) فتح الباري (6/ 206). (¬6) ينظر: شرح معاني الآثار (4/ 325)، التمهيد (17/ 161، 164، 165)، الجامع لأحكام القرآن (10/ 207)، زاد المعاد (4/ 357)، فتح المجيد (ص 137). (¬7) ينظر: مصنف ابن أبي شيبة (5/ 35). (¬8) ينظر: الآداب الشرعية (3/ 81). (¬9) ينظر: مصنف ابن أبي شيبة (7/ 373 - 375). (¬10) ينظر: مصنف ابن أبي شيبة (5/ 35). (¬11) ينظر: مصنف ابن أبي شيبة (5/ 35). وعقبة هو: عقبة بن عامر الجهني، الصحابي المشهور، كان قارئاً عالماً بالفرائض والفقه، وهو أحد من جمع القرآن شهد الفتوح، وولي إمرة مصر لمعاوية رضي الله عنه توفي سنة 58 هـ. ينظر: الإصابة (4/ 429 - 430)، أُسد الغابة (3/ 259 - 260)، الاستيعاب (3/ 183).

10 - التصوير

- رضي الله عنهم -، والنخعي (¬1)، والإمام أحمد في رواية (¬2). واحتجوا بعموم الأحاديث في النهي عن التمائم والحكم عليها بأنها شرك، ولا يوجد دليل شرعي يخصصها من العموم، والقياس على الرقية لا يستقيم (¬3). وقد ذكر القائلون بالمنع عدة علل فيمن تعلق التمائم من القرآن والأوراد الشرعية (¬4)، ذكر بعضها الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - في معرض كلامه السابق، وهذه الأسباب التي ذكرها المانعون من تعلق القرآن أسباب قوية، لذا ينبغي ترك ذلك والاعتماد على ما جاء السنة الصحيحة من الرقية الشرعية، ففيها خير كثير-والله أعلم (¬5). 10 - التصوير: يقرر الشيخ - رحمه الله - حكم التصوير في الإسلام، فيقول: "الأصل في تصوير كل ما فيه روح من الإنسان وسائر الحيوانات أنه حرام، سواء كانت الصور مجسمة أم رسوماً على ورق أو قماش أو جدران ونحوها أم كانت صوراً شمسية (¬6)؛ لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من النهي عن ذلك وتوعد فاعله بالعذاب الأليم؛ ولأنها عهد في جنسها أنه ذريعة إلى الشرك بالله بالمثول أمامها والخضوع لها والتقرب إليها وإعظامها إعظاماً لا يليق إلاَّ بالله تعالى، ولما فيها من مضاهاة خلق الله، ولما في بعضها من الفتن كصور الممثلات والنساء العاريات وأشباه ذلك. ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 36). والنخعي هو: أبو عمران، إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، الإمام الحافظ، فقيه العراق، اشتهر بالعلم والزهد، كان مفتي أهل الكوفة توفي سنة 96 هـ. ينظر: طبقات ابن سعد (6/ 493 - 502)، حلية الأولياء (4/ 219 - 340)، السير (4/ 520 - 529). (¬2) ينظر: الآداب الشرعية (2/ 459). (¬3) ينظر: تيسير العزيز الحميد (167 - 168). (¬4) ينظر: فتاوى نور على الدرب -الشاملة- (3/ 112) (¬5) وينظر كذلك: فتح المجيد (ص 138). (¬6) لما كان هذا النوع من التصوير نشأ في هذه العصور المتأخرة نشأ الخلاف بين العلماء، فمنهم من قال بجوازه ومنهم من قال بتحريمه، ومنهم من قال أن التصوير الفوتوغرافي يأخذ حكم الغرض منه فإن كان الغرض محرماً كان محرماً وإن كان الغرض منه جائزاً كان جائزاً لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.

ومن الأحاديث التي وردت في تحريمها وذلك على أنها من الكبائر حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم) (¬1)، وحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) (¬2)،وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة) (¬3). وحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: (قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر وقد سترت سهوة (¬4) لي بقرام (¬5) فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلون وجهه، وقال: (يا عائشة، أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله) فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين) (¬6)، وحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة، وليس بنافخ) (¬7)، وحديثه أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب اللباس باب عذاب المصورين يوم القيامة، برقم (5951)، ومسلم في صحيحه كتاب اللباس والزينة باب تحريم تصوير صورة الحيوان، برقم (2108). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب اللباس باب عذاب المصورين يوم القيامة برقم (5950)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة باب لا تدخل الملائكة بيتاً برقم (2109) واللفظ له. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (برقم7559)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة باب لا تدخل الملائكة بيتاً برقم (2111). (¬4) السهو: الرف أو الطاق النافذة في الحائط. ينظر: المعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى - أحمد الزيات - حامد عبد القادر - محمد النجار (1/ 459)، النهاية في غريب الأثر لأبو السعادات الجزري (2/ 1047). (¬5) القرام: الستر الرقيق. ينظر: النهاية في غريب الأثر (4/ 76)، تاج العروس من جواهر القاموس (33/ 254). (¬6) أخرجه البخاري في اللباس، باب ما وطئ من التصاوير برقم (5954)، ومسلم في اللباس والزينة باب تحريم تصوير صورة الحيوان برقم (2107) من حديث عائشة. (¬7) أخرجه البخاري في كتاب اللباس باب من صور صورة كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، برقم (5963)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة باب لا تدخل الملائكة بيتاً برقم (2110).

جهنم) (¬1)، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (فإن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له) (¬2)؛ فدل عموم هذه الأحاديث على تحريم تصوير كل ما فيه روح مطلقاً، أما ما لا روح فيه من الشجر والبحار والجبال ونحوها فيجوز تصويرها كما ذكره ابن عباس - رضي الله عنهما -، ولم يعرف من الصحابة من أنكر عليه " (¬3). من قواعد العقيدة الإسلامية سد كل باب يوصل إلى الشرك، والحث على إفراد الله تعالى بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات، والمنع من كل قول أو فعل فيه تنقص لجانب رب العالمين أو مضاهاة لأفعاله. لذا فقد تضافرت الأحاديث على تحريم التصوير وبيان الوعيد الشديد على من ارتكبه؛ لما فيه من مضاهاة لخلق الله ولأنه ذريعة إلى الشرك. "وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - علة عظم عقوبة الله لهم، وهي: المضاهاة بخلق الله، لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، كما قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)} السجدة: 7 - 9، فالمصور كما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان أو بهيمة، صار مضاهياً خلق الله، فصار ما صوره عذاباً له يوم القيامة، وكلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ، فكان أشد الناس عذاباً، لأن ذنبه من أكبر الذنوب" (¬4). ويمكن القول بأن من أبرز علل النهي عن التصوير علتين وهما: ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتاً برقم (2110). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب البيوع باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح (برقم 2225)، ومسلم كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتاً برقم (2110) ولفظه له. (¬3) فتاوى اللجنة (1/ 660 - 724). (¬4) فتح المجيد (2/ 797 - 798) وينظر في ذلك: إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (6/ 638)، شرح صحيح مسلم للنووي (7/ 341،343)، فتح الباري (10/ 387،383)، وعمدة القاري للعيني (22/ 70)، وشرح الكرماني (21/ 135)، مجموع الفتاوى (29/ 370)، والمسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد (ص 393).

11 - الرياء اليسير في أفعال العبادات وأقوالها

1 - لما فيه من مضاهاة خلق الله. 2 - لأنه ذريعة إلى الشرك (¬1). فلهذا حرم الإسلام التصوير لذوات الأرواح بجميع أنواعه سواء كان لها ظل أو لا ظل لها. قال النووي - رحمه الله -: " قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صور الحيوان شديد التحريم، وهو من الكبائر، لأنه متوعد بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو يغيره فصنعته حرام بكل حال، لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى. وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها. وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام" (¬2). وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما - للرجل الذي استفتاه عن التصوير: " ... إن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له" (¬3). ويدل عليه قوله في الحديث السابق: (كلف أن ينفخ فيها الروح ...) فهذا يدل على أن الوعيد خاص بما له روح. والله أعلم. 11 - الرياء اليسير في أفعال العبادات وأقوالها: يقرر الشيخ - رحمه الله -: " بأن الرياء اليسير في أفعال العبادات وأقوالها، شرك أصغر -الذي هو ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة للوقوع فيه-، وذلك كأن يطيل في الصلاة أحياناً ليراه الناس، أو يرفع صوته بالقراءة أو الذكر أحياناً ليسمعه الناس فيحمدوه؛ روى الإمام أحمد بإسناد حسن عن محمود بن لبيد (¬4) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر: الرياء) (¬5). أما إذا كان لا يأتي بأصل العبادة إلاَّ رياء ولولا ذلك ¬

(¬1) ينظر: شرح مسلم للنووي (14/ 81)، فتح الباري (10/ 384 - 385)، إعلان النكير على المفتونين بالتصوير للشيخ حمود التويجري (ص 35)، حكم الإسلام في الصور والتصوير، لدندل جبر (ص 61). (¬2) شرح مسلم للنووي (14/ 81)، ينظر: فتح الباري (3/ 190). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب اللباس باب تحريم تصوير صور الحيوان، برقم (5506). (¬4) هو: محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع بن امريء القيس بن زيد، أبو نعيم، توفي سنة (96 هـ)، أثبت له البخاري والترمذي الصحبة، وقال عنه أبو زرعة أنه ثقة. ينظر: العبر في خبر من غبر للذهبي (1/ 115)، سير أعلام النبلاء (5/ 483)، شذرات الذهب (1/ 112). (¬5) الإمام أحمد برقم (23119)، والطبراني في الكبير (3/ 479)، والبغوي في شرح السنة (14/ 324). ينظر: السلسلة الصحيحة للألباني (2/ 671 - 672).

ما صلى ولا صام ولا ذكر الله ولا قرأ القرآن فهو مشرك شركاً أكبر، وهو من المنافقين الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} النساء: 142 - 146، وصدق فيهم قوله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) (¬1) " (¬2). الرياء في اللغة: مشتق من الرؤية، وهي النظر، يقال: راءيته، مراءاة، ورياء، إذا أريته على خلاف ما أنا عليه (¬3). وأما في الاصطلاح: فقد ذكر أهل العلم له تعريفات متعددة، إلا أنه وإن اختلفت عباراتهم فيها، فإن مدارها على أمرين: الأول: إرادة غير الله من دون الله. والثاني: إرادة غير الله مع الله (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله برقم (2985). (¬2) فتاوى اللجنة (1/ 748 - 749). (¬3) ينظر: تهذيب اللغة (2/ 1326)، الصحاح (6/ 2348)، لسان العرب (14/ 296)، القاموس المحيط (ص 1658). (¬4) ينظر: التعريفات للجرجاني (ص 113)، إحياء علوم الدين للغزالي (3/ 257)، فتح الباري (11/ 336)، تيسير العزيز الحميد (ص 537)، فتح المجيد (2/ 617)، معارج القبول (2/ 493).

"والفرق بينه وبين السُّمعة: أن الرياء لما يُرى من العمل، كالصلاة، والسُّمعة لما يسمع؛ كالقراءة والوعظ والذكر. ويدخل في ذلك التحدُّثُ بما عمله" (¬1). قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} الكهف: 110، أي ليس لي من الربوبية ولا الإلهية شيء، بل ذلك كله وحده لا شريك له، أوحاه إليّ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} أي يخافه: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} قوله {أَحَدًا} نكرة في سياق النهي تعُمّ، وهذا العموم يتناول الأنبياء والملائكة والصالحين والأولياء وغيرهم (¬2). قال ابن القيم - رحمه الله - في الآية: " أي كما أن الله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، فكما تفرِّد بالإلهية يجب أن تفرَّد بالعبودية، فالعمل الصالح: هو الخالص من الرياء المُقيَّدُ بالسنَّة" (¬3). قال ابن رجب - رحمه الله -: " واعلم أنَّ العمل لغير الله أقسام: فتارةً يكون رياءً محضاً كحال المنافقين، كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} النساء: 142. وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام. وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة، أو التي يتعدَّى نفعُها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقتَ من الله والعقوبة. وتارةً يكون العملُ لله، ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدلُّ على بطلانه منها حديث شدَّاد بن أوس - رضي الله عنه - مرفوعاً: (من صلَّى يُرائي فقد أشرك، ومن صام يُرائي فقد أشرك، ومن تصدَّق يُرائي فقد أشرك، وإن الله عز وجل ¬

(¬1) شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للغنيمان (4/ 395). (¬2) ينظر: إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1/ 45)، (2/ 93)، الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد (1/ 112). (¬3) الجواب الكافي (1/ 91).

يقول: أنا خيرُ قسيم لمن أشرك بي، فمَن أشرك بي شيئاً فإن حشدَّه عمله قليلهِ وكثيره لشريكه الذي أشرك به. وأنا عنه غني) (¬1)، ثم قال: وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأ عليه نية الرياء: فإن كان خاطراً ثم دفعه، فلا يضرُّه بغير خلاف، وإن استرسل معه فهل يُحبِط عملَه أم لا، ويُجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلافٌ بين العلماء من السلف، قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير، ورجَّحا أن عمله لا يبطل بذلك، أنه يُجازى بنيَّته الأولى، وهو مروي عن الحسن وغيره. فأما إذا عمل العمل لله خالصاً ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، ففرح بفضل الله ورحمته، واستبشر بذلك، لم يضره بذلك. وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمدُه الناس عليه، فقال: (تلك عاجِلُ بشرى المؤمن) (¬2) " (¬3). قال ابن القيم - رحمه الله -: " وأما الشرك الأصغر؛ فكيسير الرياء، والتصنُّع للمخلوق، والحلف بغير الله، وقولِ الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك. وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركاً أكبر بحسب حال قائله ومقصده" (¬4). ¬

(¬1) أخرجه أحمد برقم (16691)، والطبراني في المعجم الكبير برقم (7139)، وقال صاحب ذخيرة الحفاظ محمد بن طاهر المقدسي: " رواه شهر: عن عبد الرحمن بن غنم، عن شداد بن أوس. وشهر ضعيف" (4/ 2329). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أثني على الصالح فهي بشرى ولا تضره برقم (2642). (¬3) جامع العلوم والحكم شرح حديث إنما الأعمال بالنيات (ص 16). (¬4) مدارج السالكين (1/ 344).

ثانيا: ما يناقض توحيد الألوهية أو يقدح فيه من الأقوال

ثانياً: ما يناقض توحيد الألوهية أو يقدح فيه من الأقوال: 1 - الاستغاثة ودعاء غير الله تعالى: يقرر الشيخ - رحمه الله -: " أنه لا تجوز الاستغاثة بالأموات ولا دعاؤهم من دون الله أو مع الله، سواء كان المستغاث به نبياً أم غير نبي، وكذلك الاستغاثة بالغائبين، وأن كل ذلك شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام، وأنه لا تصح الصلاة خلفهم لشركهم ولا عشرتهم ولا موالاتهم. وأما من استغاث بالله وسأله سبحانه وحده متوسلاً بجاههم أو طاف حول قبورهم دون أن يعتقد فيهم تأثيراً وإنما رجا أن تكون منزلتهم عند الله سبباً في استجابة الله له فهو مبتدع آثم مرتكب لوسيلة من وسائل الشرك، ويخشى عليه أن يكون ذلك منه ذريعة إلى وقوعه في الشرك الأكبر" (¬1). الاستغاثة: هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار: طلبُ النصر؛ والاستعانة: طلب العون. والفرق بين الاستغاثة والدعاء: أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من المكروب وغيره؛ فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة (¬2). والاستغاثة أقسام (¬3):- الأول: الاستغاثة بالله- عز وجل -وهذا من أفضل الأعمال وأكملها وهو دأب الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم ودليله قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} الأنفال: 9. ¬

(¬1) ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 102 - 117) و (1/ 162 - 175). (¬2) ينظر: فتح المجيد (ص 179)، إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1/ 193)، الأصول الثلاثة للشيخ عبد الرحمن البراك (ص 22)، مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (7/ 28)، الجديد في شرح كتاب التوحيد (ص 121)، معارج القبول (2/ 453)، الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية لسليمان بن سحمان (ص 216). (¬3) ينظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (7/ 28 - 30)،

قال حافظ حكمي (¬1) - رحمه الله -: " ومن أنواع العبادة الاستغاثة بالله عز وجل وهي طلب الغوث منه تعالى من جلب خير أو دفع شر قال الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} الأنفال: 9، وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)} النمل: 62 الآيات ... ، ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا بديع السموات والأرض برحمتك (¬2) أستغيث) (¬3)، وفي الطبراني بإسناده من حديث ثابت بن الضحاك أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله) (¬4) (¬5) ... وغير ذلك من ¬

(¬1) هو: حافظ بن أحمد بن علي بن أحمد الحكمي، عالم متفنن، سلفي المعتقد، من مؤلفاته: معارج القبول، وأعلام السنة المنشورة، الجوهرة الفريدة في تحقيق العقيدة، توفي سنة (1377 هـ). ينظر: الشيخ حافظ بن أحمد حكمي، د. أحمد علوش. (¬2) الاستغاثة بالصفة: من الأمور الجائزة، فيمكن للإنسان أن يقول "اللهم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله"، وهذا وارد في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)، وهذه استغاثة بالرحمة وهي صفة من صفات الله. كذلك يجوز للإنسان أن يستعيذ بالصفة، والاستعاذة بالصفة مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) فهذه استعاذة بالعزة والقدرة، ومثل قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) أخرجه مسلم، فهذه استعاذة بالصفة، فتكون الاستعاذة بالصفة جائزة. وكذلك الحلف بالصفة جائز، مثل وعزة الله، وقدرة الله، وجلال الله، وكلام الله، وحياة الله، ولكن لا ينبغي التوسع في هذا الباب. ينظر: شرح دالية أبي الخطاب الكلوذاني للدكتور: هاني بن عبد الله بن جبير (ص 40). (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب ما جاء في عقد التسبيح باليد برقم (3524) بلفظ: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)، حسنه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2796). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 317)، وابن سعد في الطبقات (1/ 387) بغير هذا اللفظ من حديث عبادة بن الصامت؛ قال ابن تيمية في كتاب الاستغاثة (ص 152): وهو صالح للاعتضاد ودل على معناه الكتاب والسنة. (¬5) " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله) نصٌ على أنه لا يستغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا بمن دونه. كره - صلى الله عليه وسلم - أن يستعمل هذا اللفظ في حقه، وإن كان مما يقدر عليه في حياته؛ حمايةً لجانب التوحيد، وسداً لذرائع الشرك، وأدباً وتواضعاً لربه، وتحذيراً للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال. فإذا كان هذا فيما يقدر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته، ويطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله - عز وجل -. ويعرضون عن الاستغاثة بالرب العظيم القادر على كل شيء، الذي له الخلق والأمر وحده، وله الملك وحده، لا إله غيره، ولا رب سواه قال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الأعراف: 188، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)} الجن: 21.فأعرض هؤلاء عن القرآن، واعتقدوا نقيض ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات، وتبعهم على ذلك الضلال الخلق الكثير والجمُّ الغفير. فاعتقدوا الشرك بالله ديناً، والهدى ضلالاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون". ينظر: فتح المجيد (192 - 193).

الأحاديث" (¬1). الثاني: الاستغاثة بالأموات أو بالأحياء القادرين على الإغاثة ولكنهم غير حاضرين فهذا شرك؛ لأنه لا يفعله إلا من يعتقد أن لهؤلاء تصرفا خفيا في الكون فيجعل لهم حظاً من الربوبية، قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)} النمل: 62. قال ابن القيم - رحمه الله -: " ومن أنواع الشرك طلبُ الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عمن استغاث به أو سأله أن يشفع إلى الله، وهذا ممن جهله بالشافع والمشفوع له عنده" (¬2). وبين شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حقيقة خداع الشيطان لمن يستغيثون بغير الله، فيقول: " ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت، سواء كان ذلك المخلوق مسلماً أو نصرانياً أو مشركاً، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به، ويقضي حاجة ذلك المستغيث فيظن أنه ذلك الشخص، أو هو ملَك تصور على صورته، وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل في الأصنام وتكلم المشركين" (¬3). الثالث: الاستغاثة بالأحياء العالمين القادرين على الإغاثة فهذا جائز كالاستعانة بهم، قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى ¬

(¬1) معارج القبول (2/ 453)، ينظر: منهاج السنة النبوية (8/ 81)، مجموع فتاوى ابن باز (5/ 328). (¬2) مدارج السالكين (1/ 346)، ينظر: الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف، للصنعاني، عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر (ص 77). (¬3) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية (ص 429).

فَقَضَى عَلَيْهِ} القصص: 15. وفي بحديث الشفاعة الطويل في يوم القيامة وأن الناس يستغيثون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليشفع لهم عند الله (¬1). فالاستغاثة بغير الله إذا كانت فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهي شرك أكبر، وإذا كانت فيما يقدر عليه المخلوق، فهي جائزة كما حصل من صاحب موسى إذ استغاث بموسى عليه السلام (¬2). قال شيخ الإسلام: "وقد مضت السُّنة أن الحي يُطلب منه الدعاء كما يطلب سائر ما يقدر عليه، وأما المخلوق والغائب والميت فلا يطلب منه شيء " (¬3). قال الشوكاني رحمه الله: "طلب الحوائج من الأحياء جائز إذا كانوا يقدرون عليها .. " (¬4). وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله: " .. استغاثة المخلوق الحي الحاضر فيما يقدر عليه من نصره على عدوه .. هذا جائز لا نزاع فيه " (¬5). وقال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله -: " وإذا طلبت من أحد الغوث وهو قادر عليه، فإنه يجب عليك تصحيحاً لتوحيدك أن تعتقد أنه مجرد سبب وأنه لا تأثير له بذاته في إزالة الشدة، لأنك ربما تعتمد عليه وتنسى خالق السبب، وهذا قادح في كمال التوحيد؛ ... وقد نهى الله سبحانه نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو أحداً من دونه من سائر المخلوقين العاجزين عن إيصال النفع ودفع الضر، والنهي عام لجميع الأمة" (¬6). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم برقم (7510)، ومسلم في كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها برقم (193). (¬2) ينظر: إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 309). (¬3) الرد على البكري (ص 46). (¬4) الدرر النضيد (ص 87). (¬5) منهاج التأسيس والتقديس (ص 346). (¬6) القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 260)، ينظر: الشرح الميسر لكتاب التوحيد، لعبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم (ص 85)، تيسير الوصول إلى الثلاثة الأصول، لعبد المحسن بن محمد القاسم (ص 83).

الرابع: الاستغاثة بحي غير قادر من غير أن يعتقد أن له قوة خفية مثل أن يستغيث بمشلول على دفع عدو صائل. فهذا لغو وسخرية بالمستغاث به فيمنع لهذه العلة ولعلة أخرى، وهي أنه ربما اغتر بذلك غيره فتوهَّم أن لهذا المستغاث به وهو عاجز أن له قوة خفية ينقذ بها من الشدة (¬1). وسبق القول بأن الدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من المكروب وغيره؛ فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة (¬2)، والدعاء على نوعين دعاء عبادة ودعاء مسألة: "فدعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، وقد قال تعالى عن خليله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)} مريم: 48 - 49، وهذا هو دعاء المسألة المتضمن للعبادة، فصار الدعاء من أنواع العبادة؛ وكل أمرٍ شرعه الله لعباده وأمرهم به، ففعلُه لله عبادة، فإذا صرف من تلك العبادة شيئاً لغير الله فهو مشرك، مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)} الزمر: 14، ومن جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً" (¬3). "ومن ثم فإن صرف دعاء المسألة للأموات إلحاد في توحيد الأسماء والصفات من جهة ومن جهة أخرى شرك ظاهر في العبادة، فالذي يستغيث ويطلب المدد من غير الله يثبت له بدلالة اللزوم صفة الحياة؛ لأنه لو اعتقد أنه ميت ما توجه إليه بالنداء والدعاء ¬

(¬1) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (7/ 29). (¬2) ينظر: فتح المجيد (ص 179)، إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1/ 193)، الأصول الثلاثة للشيخ عبد الرحمن البراك (ص 22)، مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (7/ 28)، الجديد في شرح كتاب التوحيد (ص 121)، معارج القبول (2/ 453)، الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية لسليمان بن سحمان (ص 216). (¬3) فتح المجيد (180، 181)، وينظر: مجموع الفتاوى (15/ 10)، إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1/ 194)، تيسير العزيز الحميد. (1/ 273)، البلاغ المبين لعبد المجيد يوسف الشاذلي (1/ 121)، الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق، لسليمان بن سحمان (1/ 460).

2 - الحلف بغير الله

ويثبت أيضا أنه يسمع ويبصر ويعلم ويقدر، ويثبت أيضا أنه قوي غني، فالفقير الضعيف لا يدعى ولا يقصد، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} فاطر: 13 - 14، فنفى الله عنهم أوصاف الكمال التي انفرد بها عمن سواه، و {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)} الحج: 73. فمن السميع لما ذهب المشرك إلى أصم أبكم؟ ومن البصير لما استغاث بعاجز أعمى؟ ومن الغني لما توجه إلي فقير معدم؟ ومن القدير لما عكف على ضريح ميت ضعيف فقير؟ {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} فاطر: 19 - 22، فدعاء المسألة وكذلك دعاء العبادة توجه لله بأسمائه وصفاته، وإفراده سبحانه بالتعظيم والدعاء والحب الخوف والرجاء، فإذا صرف شيئا من ذلك لغير الله فإنه إلحاد وميل وشرك" (¬1). 2 - الحلف بغير الله: يقرر الشيخ - رحمه الله -: "بأن الحلف بغير الله من ملك أو نبي أو ولي أو مخلوق ما من المخلوقات محرم، لما ثبت عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) (¬2)، وفي رواية أخرى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كان حالفاً فلا يحلف إلاَّ بالله" (¬3)، وكانت قريش تحلف ¬

(¬1) أسماء الله الحسنى في الكتاب والسنة، د/محمود عبد الرازق الرضواني (1/ 301). (¬2) أخرجه البخاري كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم برقم (6646)، ومسلم في كتاب الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله برقم (1646). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب كيف يستحلف برقم (2679)،ومسلم في كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله برقم (1646).

بآبائها فقال: (لا تحلفوا بآبائكم) (¬1)، رواهما مسلم وغيره، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف بغير الله، والأصل في النهي التحريم، بل ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سماه: شركاً، روى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف بشيء دون الله فقد أشرك) (¬2)، وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) (¬3)، وقد حمل العلماء ذلك على الشرك الأصغر، وقالوا: إنه كفر دون الكفر الأكبر المخرج من الملة والعياذ بالله فهو من أكبر الكبائر، ولهذا قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: " لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً" ويؤيد ذلك ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لأخيه: تعال أقامرك فليتصدق) (¬4)، فأمر - صلى الله عليه وسلم - من حلف من المسلمين باللات والعزى أن يقول بعد ذلك: لا إله إلا الله، لمنافاة الحلف بغير الله كمال التوحيد الواجب؛ وذلك لما فيه من إعظام غير الله بما هو مختص بالله وهو الحلف به، وما ورد في بعض الأحاديث من الحلف بالآباء فهو قبل النهي عن ذلك جرياً على ما كان معتاداً في العرب الجاهلية، والحلف بغير الله قد يكون شركاً أكبر وقد يكون شركاً أصغر على حسب ما يقوم بقلب الحالف" (¬5). ويقرر الشيخ كذلك - رحمه الله -: "أن الفقهاء؛ كمالك، وأبي حنيفة، والشافعي رحمهم الله قالوا: إن الحلف بغير الله مطلقاً منهي عنه سواء كان المحلوف به نبياً أم غيره ولا ينعقد ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور باب لا تحلفوا بآبائكم برقم (6648)، ومسلم في كتاب الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله برقم (1646). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (5352)، أبو داود في كتاب الأيمان والنذور باب كراهية الحلف بالآباء برقم (3251)، والترمذي في كتاب الأيمان والنذور باب في الكراهية الحلف بغير الله برقم (1534) وحسنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة الكاملة (5/ 41) والإرواء برقم (2627)، وقال إسناده صحيح على شرط الشيخين .. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بغير الله، برقم (1535)، والحاكم في المستدرك في كتاب الأيمان والنذور برقم (7903)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 99). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان باب كل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله برقم (6301)، ومسلم في كتاب الأيمان باب من حلف بلات والعزى فليقل لا إله إلا الله برقم (1647). (¬5) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 340 - 358).

ذلك يميناً، وهو القول الصحيح عن أحمد - رحمه الله -، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) - رحمه الله - وقال: إنه هو الصواب" (¬2). والحلف بغير الله - عز وجل - شرك؛ لحديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه قال: (من حلف بغير الله؛ فقد كفر أو أشرك) (¬3) وقوله: (فقد كفر أو أشرك): يحتمل أن يكون هذا شكاً من الراوي، ويحتمل أن يكون (أو) بمعنى الواو، فيكون قد كفر وأشرك، ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر؛ كما أنه من الشرك الأصغر. وقد كثر من الناس اليوم من يحلف بغير الله؛ كمن يحلف بالأمانة، أو يحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يقول: وحياتي وحياتك يا فلان ... وما أشبه هذه الألفاظ، وقد سمعنا ما ورد في الأحاديث من النهي عن الحلف بغير الله - عز وجل -، واعتباره كفراً أو شركاً؛ لأن الحلف بالشيء تعظيم له، والذي يجب أن يعظم ويحلف به هو الله - عز وجل -، والحلف بغيره شرك وجريمة عظمى. والشرك الأصغر ينقض التوحيد ويخلُّ به، وهناك أشياء من الشرك الأصغر حذرنا منها الله ورسوله؛ صيانة للعقيدة، وحماية للتوحيد؛ لأنها تنقض التوحيد، وربما تجر إلى الشرك الأكبر (¬4). قال أبو جعفر الطحاوي: "لم يرد به الشرك الذي يخرج من الإسلام حتى يكون به صاحبه خارجاً عن الإسلام، ولكنه أراد أنه لا ينبغي أن يحلف بغير الله تعالى، لأن من حلف بغير الله تعالى فقد جعل ما حلف به محلوفا به، كما جعل الله تعالى محلوفا به، وبذلك جعل من حلف به أو ما حلف به شريكا فيما يحلف به، وذلك أعظم، فجعله شركا بذلك شركا غير الشرك الذي يكون به كافرا بالله تعالى خارجا عن الإسلام" (¬5). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (1/ 204). (¬2) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 524 - 525). (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بغير الله، برقم (1535)، والحاكم في المستدرك في كتاب الأيمان والنذور برقم (7903)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 99). (¬4) ينظر: مجموع الفتاوى (11/ 506)، التبيان شرح نواقض الإسلام، لمحمد بن عبد الوهاب (ص 8)، التوحيد وقرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين، لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (1/ 383)، تجريد التوحيد للمقريزي (ص 9)، الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (96 - 97)، الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة، د. عبد الرحمن بن صالح المحمود (1/ 136). (¬5) سد الذرائع في مسائل العقيدة على ضوء الكتاب والسنة الصحيحة، د: عبد الله شاكر محمد الجنيدى (1/ 38).

قال الشيخ الألباني - رحمه الله - بعد نقله للكلام السابق-: "يعنى - والله أعلم - أنه شرك لفظي وليس شركا اعتقادياً، والأول تحريمه من باب سد الذرائع، والآخر محرم لذاته، وهو كلام وجيه متين" (¬1). وما ورد في بعض الأحاديث من الحلف بالآباء كما جاء في بعض الأحاديث، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أَفْلحَ وأبيه إنْ صدَق) (¬2)، وقد أجاب عن ذلك العلماء بأقوال: الجواب الأوّل: أن هذا وأمثاله لا يُقصد به اليمين، وإنما يجري على الألسنة من غير قصد اليمين. والجواب الثاني: أن بعض العلماء أنكر هذه اللفظة، وقال: إنها لم تثبت في الحديث; لأنها مناقضة للتوحيد، وما كان كذلك; فلا تصح نسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون باطلا. الجواب الثالث: أنها تصحيف من الرواة، والأصل: (أفلح إن صدق) (¬3). وكانوا في السابق لا يشكلون الكلمات، و (أبيه) تشبه، (الله) إذا حذفت النقط السفلى. الجواب الرابع: أنّ هذا كان قبل النّهي، فكان في الأوّل يجوز الحلِف بغير الله، وبعد ذلك نُهي عن الحلِف بغير الله، فقوله: (أفلح وأبيه) وأمثاله يكون منسوخاً بالنّهي عن الحلف بغير الله، وهذا هو الراجح. والشاهد: أن الحلف بغير الله من اتّخاذ الأنداد لله سبحانه وتعالى، لأنّ النّد معناه: النّظير والشّبيه، فالذي يحلف بغير الله يجعل المحلوف به نِدًّا لله وشبيهاً لله سبحانه وتعالى (¬4). ¬

(¬1) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 217). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، برقم (11) عن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام ... برقم (46). (¬4) ينظر: إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 162)، الجديد في شرح كتاب التوحيد (1/ 363)، القول الرشيد في أهم أنواع التوحيد لسليمان بن ناصر بن عبد الله العلوان (1/ 24)، تيسير العزيز الحميد. ط مكتبة الرياض (1/ 527)، فتح الباري (1/ 107)، مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (2/ 216)، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: " أن هذه - أَفْلح وأبيه إنْ صدَق- رواية شاذة مخالفة للأحاديث الصحيحة لا يجوز أن يتعلق بها وهذا حكم الشاذ عند أهل العلم وهو ما خالف فيه الفرد جماعة الثقات، ويحتمل أن هذا اللفظ تصحيف كما قال ابن عبد البر - رحمه الله - وأن الأصل أفلح والله فصحفه بعض الكتاب أو الرواة , ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل النهي عن الحلف بغير الله , وبكل حال فهي رواية فردة شاذة لا يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتشبث بها ويخالف الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم الحلف بغير الله وأنه من المحرمات الشركية" مجموع فتاوى ابن باز (3/ 143).

3 - الاستهزاء بشيء فيه ذكر الله

وعلق شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على كلام ابن مسعود المتقدم، فقال: "لأن الحلف بالله كاذباً فيه توحيد، والحلف بغير الله صادقاً شرك، وحسنة التّوحيد أعظم من حسنة الصّدق وسيِّئة الشرك أشدّ من سيِّئة الكذب" (¬1). 3 - الاستهزاء بشيء فيه ذكر الله: يقرر الشيخ - رحمه الله -: "أن سب الدين والاستهزاء بشيء من القرآن والسنة والاستهزاء بالمتمسك بهما نظراً لما تمسك به كإعفاء اللحية وتحجب المسلمة؛ هذا كفر إذا صدر من مكلف، وينبغي أن يبين له أن هذا كفر فإن أصر بعد العلم فهو كافر، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} التوبة: 65 - 66" (¬2). "من استهزأ بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول أو بشيء من السنة؛ فقد كفر بالله - عز وجل - لاستخفافه بالربوبية والرسالة، وذلك مناف للتوحيد، وكفر بإجماع أهل العلم. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)} التوبة: 65 - 66، وقد جاء بيان سبب نزول هاتين الآيتين الكريمتين؛ أنه ما حصل من المنافقين في بعض الغزوات من سخرية بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ فقد روى ابن عمر، محمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة (¬3)؛ (أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا ¬

(¬1) نقلاً من إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 162) لم أقف إلى اللحظة على كلام الشيخ في مؤلفاته. (¬2) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 387). (¬3) قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: (دخل حديث بعضهم في بعض) أي أن الحديث مجموع من رواياتهم فلذلك دخل بعضه في بعض، ينظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص 481).

أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء _ يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه القراء _. فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذهب عوف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق). قال ابن عمر: " كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة (¬1) ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن الحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} التوبة: 65 - 66، وما يلتفت إليه وما يزيده عليه" (¬2). ففي هذه الآيتين الكريمتين مع بيان سبب نزولهما دليل واضح على كفر من استهزأ بالله أو رسوله أو آيات الله أو سنة رسوله أو بصحابة رسول الله؛ لأن من فعل ذلك، فهو مستخف بالربوبية والرسالة، وذلك مناف للتوحيد والعقيدة، ولو لم يقصد حقيقة الاستهزاء. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب (¬3) - رحمه الله -: "القول الصريح في الاستهزاء هذا وما شابهه، وأما الفعل الصريح؛ فمثل مد الشفة وإخراج اللسان ورمز العين وما يفعله كثير من الناس عند الأمر بالصلاة والزكاة؛ فكيف بالتوحيد؟! " (¬4). ¬

(¬1) النِّسْعُ بالكسر: سَيْرٌ مَضْفور يُجعل زماما للبعير وغيره، وقد تُنْسَجُ عَريضة تُجْعل على صَدر البعير، والقطعة منه نِسْعَةٌ وسمي نسْعاً لطوله. ينظر: القاموس المحيط (1/ 990)، المحيط في اللغة للطلقاني (1/ 367)، النهاية في غريب الأثر (5/ 115)، كتاب العين (1/ 338). (¬2) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره، برقم (16911 - 16916)، وابن أبي حاتم (4/ 64) عن ابن عمر. وقال الشيخ مقبل في الصحيح المسند (ص 71): "إسناد ابن أبي حاتم حسن". (¬3) هو: محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي مجدد ما اندرس من العقيدة في الجزيرة العربية، توفي - رحمه الله - في الدرعية سنة (1206 هـ)، وله مؤلفات ورسائل عديدة أهمها وأشهرها كتاب التوحيد. ينظر: الأعلام (6/ 257)، وعلماء نجد خلال ثمانية قرون للشيخ عبد الله البسام (1/ 125). (¬4) ينظر: الشرح الميسر لكتاب التوحيد لعبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم (ص 258)، وحاشية كتاب التوحيد لابن قاسم (49/ 5).

4 - التوسل

"ومثل هذا الاستهزاء بالسنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ كالذي يستهزىء بإعفاء اللحى وقص الشوارب، أو يستهزىء بالسواك ... أو غير ذلك، وكالاستهزاء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبه يعلم كفر من يتنقصون الشريعة الإسلامية، ويصفونها بأنها لا تصلح لهذا الوقت الحاضر، وأن الحدود الشرعية فيها قسوة ووحشية، وأن الإسلام ظلم المرأة ... إلى غير ذلك من مقالات الكفر والإلحاد؛ نسأل الله العافية والسلامة" (¬1). 4 - التوسل (¬2): أ_ التوسل إلى الله بأوليائه. يقرر الشيخ - رحمه الله -: "بأن التوسل إلى الله بأوليائه أنواع: الأول: أن يطلب إنسان من الولي الحي أن يدعو الله له بسعة رزق أو شفاء من مرض أو هداية وتوفيق ونحو ذلك - فهذا جائز، ومنه طلب بعض الصحابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما تأخر عليهم المطر أن يستسقي لهم، فسأل - صلى الله عليه وسلم - ربه أن ينزل المطر، فاستجاب دعاءه وأنزل عليهم المطر، ومنه استسقاء الصحابة بالعباس في خلافة عمر - رضي الله عنهم - وطلبهم منه أن يدعو الله بنزول المطر فدعا العباس ربه وأمن الصحابة على دعائه ... إلى غير هذا مما حصل زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده من طلب مسلم من أخيه المسلم أن يدعو له ربه لجلب نفع أو كشف ضر. الثاني: أن ينادي الله متوسلاً إليه بحب نبيه واتباعه إياه وبحبه لأولياء الله بأن يقول: اللهم إني أسألك بحبي لنبيك واتباعي له وبحبي لأوليائك أن تعطيني كذا - فهذا جائز؛ لأنه توسل من العبد إلى ربه بعمله الصالح، ومن هذا ما ثبت من توسل أصحاب الغار الثلاثة بأعمالهم الصالحة (¬3). ¬

(¬1) ينظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد، للشيخ صالح الفوزان (79 - 82). (¬2) الوسيلة: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، وسل إلى الله توسيلاً عمل عملاً تقرب به إليه كتوسل، والواسل الراغب إلى الله تعالى. ينظر: ترتيب القاموس (4/ 612)، والنهاية في غريب الحديث (5/ 185)، ولسان العرب (11/ 725). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الإجارة باب ن استأجر أجيراً فترك الأجير أجره ... برقم (2272)، ومسلم في كتاب الرقاق باب قصة أصحاب الكهف الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال برقم (2743).

الثالث: أن يسأل الله بجاه أنبيائه أو ولي من أوليائه بأن يقول: (اللهم إني أسألك بجاه نبيك أو بجاه الحسين) مثلاً- فهذا لا يجوز؛ لأن جاه أولياء الله وإن كان عظيماً عند الله وخاصة حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - غير أنه ليس سبباً شرعياً ولا عادياً لاستجابة الدعاء؛ ولهذا عدل الصحابة حينما أجدبوا عن التوسل بجاهه - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستسقاء إلى التوسل بدعاء عمه العباس مع أن جاهه عليه الصلاة والسلام فوق كل جاه، ولم يعرف عن الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم توسلوا به - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته وهم خير القرون وأعرف الناس بحقه وأحبهم له. الرابع: أن يسأل العبد ربه حاجته مقسماً بوليه أو نبيه أو بحق نبيه أو بحق أوليائه بأن يقول: (اللهم إني أسألك كذا بوليك فلان أو بحق نبيك فلان)، فهذا لا يجوز، فإن القسم بالمخلوق على المخلوق ممنوع، وهو على الله الخالق أشد منعاً، ثم لا حقّ لمخلوق على الخالق بمجرد طاعته له سبحانه حتى يقسم به على الله أو يتوسل به. هذا هو الذي تشهد له الأدلة، وهو الذي تصان به العقيدة الإسلامية وتسد به ذرائع الشرك" (¬1). وأقسام التوسل عند أهل السنة والجماعة قسمان (¬2): 1 - توسل مشروع. 2 - توسل ممنوع. أولاً- التوسل المشروع: كل توسل جاءت به الشريعة، ووضحه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو حثنا عليه وفعله الصحابة عليهم رضوان الله؛ وهو أنواع: ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 499، 500). وينظر: مجموع الفتاوى (1/ 201 - 202). (¬2) ينظر: أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة (1/ 58)، إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 209)، التوصل إلى حقيقة التوسل (1/ 10)، محبة الرسول بين الاتباع والابتداع عبد الرءوف محمد عثمان (1/ 339).

1 - التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته (¬1)، كما في قوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الأعراف: 180، أي أن السائل يسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى كما جاء في السنة عن عبد الله بن بريدة: (أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلاَّ أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. قال: فقال: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم) (¬2). وعليه فالشيخ - رحمه الله - يقرر جواز التوسل بالقرآن الكريم، فيقول: "يجوز التوسل بالقرآن؛ لأنه كلام الله لفظاً ومعنى، وكلامه تعالى صفة من صفاته، فالتوسل به توسل إلى الله بصفة من صفاته، وهذا لا ينافي التوحيد وليس ذريعة من ذرائع الشرك، وكذلك التوسل إلى الله ببركة القرآن" (¬3). وإن أعلى أنواع التوسل إلى الله تعالى وأقربها إجابة، التوسل إليه عز وجل بذاته العلية وأسمائه الحسنى وصفاته العلى. لأنه تمجيد وتقديس وثناء على الله تعالى وهو كما أثنى على نفسه، والقرآن والسنة مكتظة بالأمثلة على الحض على التوسل إليه تعالى. 2 - التوسل بالأعمال الصالحة (¬4): ويكون ذلك على وجهين: الأول: أن يتوسل بالعمل الصالح إلى إجابة الدعاء كما في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)} البقرة: 127، وحديث الثلاثة الذين أووا إلى غار فانحدرت صخرة من جبل فسدت ¬

(¬1) ينظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 49)، التوصل إلى حقيقة التوسل المشروع والممنوع لمحمد نسيب الرفاعي (ص 14). (¬2) أخرجه أحمد في مسنده برقم (12200)، والترمذي في كتاب الدعوات باب ما جاء في جامع الدعوات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (3475)، وأبو داود كتاب الوتر باب الدعاء برقم (1495)، والنسائي في السنن الصغرى كتاب السهو باب الدعاء بعد الذكر برقم (1300)، صححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2763)، وفي صحيح ابن ماجة برقم (3857). (¬3) ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 519 - 520). (¬4) ينظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 49)، التوصل إلى حقيقة التوسل (ص 14)، التوسل وأنواعه وأحكامه للألباني (ص 35).

عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلاَّ أن تدعوا الله بصالح أعالكم. فدعى كل واحد منهم الله وتوسل بعمل صالح فعله ابتغاء وجه الله، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون (¬1).وكذلك التوسل إلى الله - عز وجل - بذكر حال الداعي المبينة لاضطراره وحاجته (¬2) كقول موسى - عليه السلام -: قال تعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} القصص: 24. والثاني: التوسل بالعمل الصالح من أجل الحصول على ثواب الله وجنته ورضوانه؛ لأن الأعمال الصالحة التي أمرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها هي الوسيلة التامة لله والدار الآخرة. ومثل هذا كقول المؤمنين عند قول الله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)} آل عمران: 193، وأصل العمل الصالح بل أصل الإيمان والإسلام هو الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعته، لذا كان التوسل بالإيمان به وطاعته توسلاً مشروعاً. 3 - التوسل بدعاء الغير: إن طلب الدعاء مشروع من كل مؤمن لكل مؤمن (¬3) كما في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أويس (¬4): (فمن لقيه منكم فليستغفر لكم) (¬5) كذلك فإن الصحابة عليهم رضوان الله كانوا يطلبون من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لهم كما في الصحيحين (¬6)، عن أنس - رضي الله عنه - قال: دخل رجل المسجد يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الإجازة، باب من استأجر أجير، فترك الأجير أجره، فعمل فيه المستأجر فزاده ... ، برقم (2272)، ومسلم كتاب الرقاق، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال، برقم (2743)؛ من حديث عبد الله بن عمر. (¬2) منهج الإمام ابن الصلاح في تقرير العقيدة والرد على المخالفين عرضاً ودراسة لعبدالله الغامدي (ص 148). (¬3) قاعدة جليلة (ص 134). (¬4) هو: أويس بن عامر بن جزء بن مالك القرني المرداوي اليمني، أبو عمرو سيد التابعين في زمانه، القدوة الزاهد، رحل إلى الحج وزار المدينة ولقي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - واستغفر له، ثم رحل إلى الكوفة توفي في معركة صفين. انظر: حلية الأولياء (2/ 79 - 87)، السير (19 - 33). (¬5) أخرجه مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أويس القرني - رضي الله عنه - برقم (2542). (¬6) أخرجه البخاري كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في خطبة غير مستقبل القبلة برقم (1014)، ومسلم كتاب صلاة الاستسقاء باب الدعاء في الاستسقاء برقم (897).

قائم يخطب، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع رسول الله؛ يديه ثم قال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا ...). وهذا في حال حياته فقط عليه الصلاة والسلام. ثانياً: التوسل الممنوع: هو توسل العبد إلى الله سبحانه وتعالى بوسيلة لم ترد بالكتاب والسنة، كالتوسل إلى الله بذوات الأنبياء والملائكة والصالحين والعرش والكرسي والكعبة (¬1). ولهذا التوسل ثلاثة أوجه هي: 1 - التوسل بوسيلة سكت عنها الشرع، وهو في الواقع محرم، وفيه نوع من الشرك ويتلخص في التوسل بذوات الأموات: كأن يقول المتوسل: اللهم إني أتوسل إليك بالنبي أن تقضي حاجتي (¬2). وهذا النوع لم يرد في الكتاب والسنة ما يدل على صحة التوسل به، بل إن السنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين ترده ففي حديث الاستسقاء قال عمر - رضي الله عنه -: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) (¬3). فهذا يدل على أنهم كانوا يتوسلون بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس بذاته؛ لأنه لو كان التوسل بالذات لتوسلوا به بعد موته؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم من ذات العباس، ولكن التوسل كان بالدعاء وليس بالذات وهذا في حياته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره. فعلم أن المشروع عند الصحابة التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته (¬4). 2 - التوسل إلى الله بجاه أحد الخلائق أو حقه أو حرمته: كأن يقول المتوسل: اللهم إني أتوسل إليك يجاه فلان أو بحق فلان عندك أن تقضي حاجتي. وهذا الوجه من التوسل يقضي أن المتوسل به من الأنبياء والصالحين وغيرهم لهم جاه عند الله وهذا صحيح؛ فإن هؤلاء لهم عند الله منزلة وجاه وحرمة تقضي أن يرفع الله درجاتهم ويعظم أقدارهم ¬

(¬1) ينظر: قاعدة جليلة (ص 107)، والتوصل إلى حقيقة التوسل (ص 176). (¬2) ينظر: قاعدة جليلة (49 - 50)، والتوصل إلى حقيقة التوسل (ص 177). (¬3) أخرجه البخاري كتاب فضائل الصحابة باب ذكر العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - برقم (3710). (¬4) ينظر: قاعدة جليلة (ص 105)، وتلخيص الاستعانة المعروف بالرد على البكري لابن تيمية (129 - 130).

ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا بعد إذنه لقوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} البقرة: 255، ولكن هذا الجاه والحرمة سبب أجنبي عن المتوسل ولا علاقة بينه وبين إجابة الدعاء، بل هذا من الاعتداء بالدعاء. وهذا الجاه والحرمة ينفع المتوسل إذا دعوا له وشفعوا فيه. فأما إذا لم يكن منهم دعاء ولا شفاعة، لم يكن سؤاله بجاههم نافعاً له؛ لأن الله لم يجعله سبباً لإجابة الدعاء (¬1). وعليه فالشيخ - رحمه الله - يقرر عدم جواز التوسل بيوم من الأيام، فيقول: "أما التوسل بيوم من الأيام مثل (أدعوك ربي بحق يوم عرفه) وما شابهه، فلا يجوز، لأنه توسل بمخلوق فهو ذريعة إلى الشرك، ولأن ذلك مخالف للأدلة الشريعة، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (¬2) " (¬3). 3 - الإقسام على الله بالمتوسل به: ومثاله أن يقول المتوسل اللهم إني أقسم عليك بفلان أن تقضي حاجتي، وهذا لا يجوز لأن الأصل في القسم والحلف أن يكون بالله تعالى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت) (¬4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف بغير الله فقد أشرك) (¬5)، فيتعين أنه لا يجوز القسم بمخلوق على مخلوق؛ فكيف يجوز الحلف بالمخلوقات على الخالق الذي هو أجل وأعظم من أن يقسم عليه بمخلوقاته، بل هو الذي يقسم به على مخلوقاته سبحانه وتعالى (¬6). ¬

(¬1) ينظر: قاعدة جليلة (55 - 56)، شرح العقيدة الطحاوية (ص 262). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم (1718). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 519 - 520). (¬4) جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب الإيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم برقم (6646). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (5352)، أبو داود في كتاب الأيمان والنذور باب كراهية الحلف بالآباء برقم (3251)، والترمذي في كتاب الأيمان والنذور باب في الكراهية الحلف بغير الله برقم (1534) وحسنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة الكاملة (5/ 41) والإرواء برقم (2627)، وقال إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬6) ينظر: قاعدة جليلة (106،108)، والتوصل إلى حقيقة التوسل (ص 177)، وشرح الطحاوية (ص 262).

ب- التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -: يقرر الشيخ - رحمه الله - المعنى الصحيح لحديث توسل الأعمى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واستشفاعه به أن يرد الله تعالى بصره (¬1)؛ فيقول: "بيّن ابن تيمية (¬2) - رحمه الله - أنه على تقدير صحته فليس فيه دليل على التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل فيه التوسل إلى الله بدعائه - صلى الله عليه وسلم - ربه أن يرد إلى هذا الأعمى بصره" (¬3). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الأعمى شفع له النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلهذا قال في دعائه: (اللهم فشفعه في) فعلم أنه شفيع فيه، ولفظه: (إن شئت صبرت، وإن شئت دعوت لك) فقال: ادع لي، فهو طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي ويدعو هو أيضاً لنفسه ويقول في دعائه: (اللهم شفعه في)، فدل ذلك على أن معنى قوله: (أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد) أي: بدعائه وشفاعته، كما قال عمر - رضي الله عنه -: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبيك فتسقينا). فالحديثان معناهما واحد: فهو - صلى الله عليه وسلم - علم رجلاً أن يتوسل به في حياته كما ذكر عمر - رضي الله عنه - أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلاً عنه. فلو كان التوسل به حياً وميتاً سواء، والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له الرسول، لم يعدلوا عن التوسل به وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه وأقربهم إليهم وسيلة- إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله. ¬

(¬1) أن رجلاً ضريراً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: " إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك" فقال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا رسول الله يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في" أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب في دعاء الضيف برقم (3578)، والنسائي في كتاب الزينة، ما يقول إذا راعه شيء، برقم (10420)، صححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2832). (¬2) ينظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (1/ 325). (¬3) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 526 - 530).

وكذلك لو كان الأعمى توسل به ولم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى، لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، فعدولهم عن هذا إلى هذا- مع أنهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله وما يشرع من الدعاء وينفع وما لم يشرع ولا ينفع وما يكون أنفع من غيره، وهم في وقت الضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن- دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه" (¬1). وهذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه المستجاب، وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره (¬2). ¬

(¬1) ينظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (14/ 202). (¬2) مجموع الفتاوى (14/ 138).

والتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ينقسم إلى قسمين: أولاً: التوسل بالإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاعته. وهذا فرض عين على كل مسلم في كل حال، ولا يسقط عن أحد من الخلق بعد قيام الحجة عليه، ولا يعذر فيه بأي عذر. وقد جعل الله الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعته وسيلة إلى كل خير ورحمة في الدنيا والآخرة. ويقع التوسل بهذا النوع على وجهين: - فتارة يتوسل المسلم بالإيمان بالرسول وطاعته ومحبته إلى ثواب الله وجنته. - وتارة يتوسل بذلك في الدعاء فيقول مثلا: اللهم بإيماني بنبيك وطاعتي له وحبي إياه اغفر لي. ثانياً: التوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته، وذلك في حياته. كما كان الصحابة يفعلونه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من طلب الدعاء منه - كما في حديث الأعمى-، والاستغفار لهم، وطلب السقيا لهم. كما يكون في الآخرة بطلب الخلق منه أن يشفع لهم عند ربهم للقضاء بين العباد وهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون. وهذا النوع من التوسل يقع على وجهين أيضاً: الأول: أن يطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدعاء والشفاعة فيدعو ويشفع كما كان الصحابة يطلبون منه فيدعو لهم. وكما يطلب الخلق منه ذلك في يوم القيامة. وأحاديث الاستسقاء وغيرها توضح ذلك أتم توضيح. الثاني: أن يضيف إلى ذلك سؤال الله تعالى بشفاعة نبيه ودعائه وذلك كما في حديث الأعمى فإنه طلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدعاء والشفاعة، فدعا له الرسول وشفع فيه وأمره أن يدعو الله فيقول: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليه بنبيك محمد نبي الرحمة) الحديث. وفيه: (اللهم فشفعه في) فأمره أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه. وهذا النوع من التوسل لا يجوز إلا في حياته - صلى الله عليه وسلم - أما بعد مماته فلا يجوز بحال من الأحوال فلا يطلب منه الدعاء لا عند قبره، ولا في أي مكان آخر. ولم يفعل ذلك الصحابة والتابعون ولا من بعدهم. ولم ينقل عنهم بوجه صحيح أن ذلك جائز (¬1). ¬

(¬1) ينظر لما سبق: مجموع الفتاوى (1/ 105، 140)، محبة الرسول بين الاتباع والابتداع لعبد الرءوف محمد عثمان (1/ 339 - 342)، التمهيد لشرح كتاب التوحيد (2/ 386)، التوصل إلى حقيقة التوسل (1/ 232)، مجموع فتاوى ابن باز (5/ 322)، مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (5/ 288).

5 - قول ما شاء الله وشئت وما في معناه

5 - قول ما شاء الله وشئت وما في معناه: يقرر الشيخ - رحمه الله - خطر هذه الأقوال؛ فيقول: "يجري على ألسنة كثير من المسلمين من قولهم: ما شاء الله وشئت، لولا الله وأنت، ونحو ذلك، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وأرشد من قاله إلى أن يقول: (ما شاء الله وحده- أو- ما شاء الله ثم شئت)؛سداً لذريعة الشرك الأكبر من اعتقاد شريك لله في إرادة حدوث الكونيات ووقوعها، وفي معنى ذلك قولهم: توكلت على الله وعليك، وقولهم: لولا صياح الديك أو البط لسرق المتاع" (¬1). عن قتيلة (¬2) - رضي الله عنها -: أن يهودياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنكم تُشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. (فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أنْ يحلفوا، أنْ يقولوا: ورب الكعبة، ويقولوا: ما شاء الله ثم شئت) (¬3). "والعبد وإن كان له مشيئةٌ فمشيئته تابعة لمشيئة الله، ولا قدرة له على أن يشاء شيئاً إلا إذا كان الله قد شاءه، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} التكوير: 28 - 29، وقوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} الإنسان: 29 - 30. وفي هذه الآيات والحديث: الردُّ على القدرية والمعتزلة نفاة القدر، الذين يُثبتون للعبد مشيئةً تخالف ما أراده الله تعالى من العبد وشاءه. ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 748). (¬2) بِمُثَنَّاه مصغَّرة- بنت صيفي الأنصارية، صحابية مهاجرة، لها حديث في سنن النسائي، وهو الحديث المذكور، ورواه عنها عبد الله بن يسار الجُعفي. ينظر: الوافي بالوفيات (7/ 228). (¬3) أخرجه النسائي في كتاب الأيمان والنذور، الحلف بالكعبة برقم (4696)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (3773).

وأما أهل السنَّة والجماعة فتمسكوا بالكتاب والسنَّة في هذا الباب وغيره واعتقدوا أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى في كل شيء مما يوافق ما شرعه الله وما يخالفه: من أفعال العباد وأقوالهم. فالكلُّ بمشيئة الله وإرادته. فما وافق ما شرعه رضيه وأحبه، وما خالفه كرهه من العبد، كما قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} الزمر: 7.وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت، قال: (أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده) (¬1). وهذا يقرر ما تقدَّم من أن هذا شرك؛ قال: (أجعلتني لله نداً؟) فيه: بيان أن من سوَّى العبد بالله ولو في الشرك الأصغر فقد جعله نداً لله، شاء أم أبى، خلافاً لما يقوله الجاهلون، مما يختص بالله تعالى من عبادة، وما يجب النهي عنه من الشرك بنوعيه. و (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) (¬2) " (¬3). قال الشيخ الألباني (¬4) - رحمه الله -: "وفي هذه الأحاديث أن قول الرجل لغيره (ما شاء الله وشئت) يعتبر شركا في نظر الشارع، وهو من شرك الألفاظ، لأنه يوهم أن مشيئة العبد في درجة مشيئة الرب سبحانه وتعالى، وسببه القرن بين المشيئتين ... " (¬5) ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (1842) و (1965)، والبخاري في الأدب المفرد، برقم (787)، والبيهقي في السنن في كتاب الجمعة باب ما يكره من الكلام في الخطبة، برقم (5386)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (139) (1/ 216). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب العلم باب من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، برقم (71) و (3116) و (7312)،وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة النهي عن المسألة برقم (1037). (¬3) فتح المجيد (465 - 468). (¬4) هو: محمد بن ناصر الدين بن نوح نجاتي بن آدم الألباني، أحد علماء المحدثين المعاصرين، من مؤلفاته: التوسل أنواعه وأحكامه، سلسلة الأحاديث الصحيحة، وغيرها، توفي سنة 1420 هـ. ينظر: حياة الألباني وآثاره، لمحمد بن الوليد الطرطوشي. (¬5) السلسلة الصحيحة (1/ 216).

المبحث الثالث: نواقض توحيد الأسماء والصفات والقوادح فيه

المبحث الثالث نواقض توحيد الأسماء والصفات توحيد الله في أسمائه وصفاته يتضمن إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من صفات الكمال والجلال، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من صفات النقصان، وعلى ذلك يكون من نفى شيئًا مما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - كمن نفى قدرة الله، أو قيوميته أو بصره أو استواءه أو علمه أو كلامه، وغير ذلك مما هو ثابت لله في القرآن وفي السنة- فقد كفر، ويدخل في ذلك من أنقص كمال صفات الله -عز وجل-، كمن قال -مثلاً-: إن الله عليم، ولكنه علم إجمالي، وأنه سبحانه لا يعلم بالجزئيات والتفصيلات. وكذلك من شبه صفات الله بصفات المخلوقين، كمن ادعى أن الله يبصر كما يبصر البشر، أو يسمع كسمع البشر، أو يتكلم ككلام البشر، وفي ذلك قدح فيما نفاه الله-عز وجل- عن نفسه من صفات النقصان، وكذلك يكفر من أثبت لله -عز وجل- أية صفة نفاها سبحانه عن نفسه أو نفاها عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كمن أثبت لله الصاحبة أو الولد أو البنات، أو من أثبت لله النوم أو الموت أو الغفلة، وكل هذه النواقص لا تجوز في حق الله تعالى، وكذلك يكفر كل من ادعى لنفسه صفة من صفات الله، أو أثبت هذه الصفة لأي مخلوق، كقول من قال: عندي من الحكمة كما عند الله. أو قال: أنا أعلم كعلم الله. فيكفر من قال ذلك، وكذلك يكفر من يصدقه في دعواه (¬1). ¬

(¬1) ينظر: الواسطية مع شروحها: التنبيهات السنية للرشيد (ص 18) وما بعدها، الروضة الندية للفياض (ص 21) وما بعدها، شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (ص 56) وما بعدها، ... إلخ، وينظر: مجموع الفتاوى (5/ 58)، واجتماع الجيوش الإسلامية (ص 83)، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة لـ ... (1/ 277 - 278)، العلو للذهبي (ص 116)، شرح السنة للالكائي (ص 936)، التمهيد لابن عبد البر (7/ 145).

وعليه فقد بين الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - بأنه لا بد من: "الاقتداء بسلف هذه الأمة في خير قرونها، بأن تمر نصوص الأسماء والصفات كما جاءت وتفسر بمعانيها التي تدل عليها حقيقة في لغة العرب التي بها نزل القرآن وكانت لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع تفويض العلم بكيفيتها إلى الله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11،ولا يلزم من ذلك تشبيه الله بعباده؛ ونؤمن بذات لله تعالى على الحقيقة، مع الكف عن الخوض في كنهها. وذلك لأن الله أعلم بنفسه من خلقه وأرحم بهم منهم بأنفسهم وكلامه أبلغ كلام وأبينه، وله سبحانه الحكمة البالغة فيستحيل أن تتوارد النصوص وتتتابع الآيات والأحاديث على إثبات أسماء الله وصفاته بطريقة ظاهرة واضحة والمراد غير ما دلت عليه حقيقة، ويقصد الله منها أو يقصد رسوله عليه الصلاة والسلام إلى معان مجازية من غير أن ينصب من كلامه دليلاً على ما أراد من المعاني المجازية اعتماداً على ما أودع عباده من العقل وقوة الفكر، فإن ذلك لا يتفق مع كمال علمه تعالى وسعة رحمته وفصاحة كلامه وقوة بيانه وبالغ حكمته، ولأن يتركهم الله دون أن يعرفهم ويعرفهم به رسوله - صلى الله عليه وسلم - بوحيه، خير لهم وأيسر سبيلا، لعدم وجود المعارض للشبه الباطلة التي زعموها أدلة وبراهين وما هي إلا الخيالات ووساوس الشيطان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فمن جحد شيئاً من هذه النصوص أو تأولها على معان من غير دليل يرشد إلى ما تأولها عليه فقد ألحد في آيات الله وأسمائه وصفاته وحق عليه ما توعد الله به الملحدين في ذلك بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} فصلت: 40، وقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} الأعراف: 180. وقد زادت السنة عن نصوص الكتاب في إثبات الأسماء والصفات توكيداً وبياناً فقضت على قول كل متأول يحرف كلام الله عن مواضعه، كما فعلت اليهود في تحريفها لكتاب ربها وتلاعبها بشريعة نبيها" (¬1). ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (146 - 147) بتصرف يسير في البداية.

وذكر الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - بطلان تأويل الصفات فقال: "ومن تأمل كيفية ورود آيات الصفات في القرآن والسنة علم قطعاً بطلان تأويلها بما يخرجها عن حقائقها فإنها وردت على وجه لا يحتمل معه التأويل بوجه" (¬1). ومثل على هذا بقوله: " وانظر إلى قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} الأنعام: 158، هل يحتمل هذا التقسيم والتنويع تأويل إتيان الله جل جلاله بإتيان ملائكته أو آياته وهل يبقى مع هذا السياق شبهة أصلاً أنه إتيانه بنفسه. وكذلك قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} النساء: 163 - 164، ففرق بين الإيحاء العام والتكلم الخاص وجعلهما نوعين ثم أكد فعل التكلم بالمصدر الرافع لتوهم ما يقوله المحرفون. وكذلك قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} الشورى: 51، فنوع تكليمه إلى تكليم بواسطة وتكليم بغير واسطة وكذلك قوله لموسى عليه السلام: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} الأعراف: 144، ففرق بين الرسالة والكلام وإنما تكون الرسالة بكلامه وكذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر في الصحو ليس دونه سحاب وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب) (¬2)، والاحتراز ينافي إرادة التأويل. ولا يرتاب في هذا من له عقل ودين" (¬3). ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - (ص 130). (¬2) أخرجه الإمام أحمد برقم (18708)، والترمذي في كتاب صفة الجنة باب ما جاء في رؤية الرب تبارك وتعالى برقم (2554)، صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2554). (¬3) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - (ص 130).

قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ فلا يجوز نفي صفات الله التي وصف بها نفسه، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين؛ بل هو سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} " (¬1) والشواهد في هذا الباب كثيرة (¬2). وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " وأما السلف والأئمة فلم يدخلوا مع طائفة من الطوائف فيما ابتدعوه من نفي وإثبات؛ بل اعتصموا بالكتاب والسنة ورأوا ذلك هو الموافق لصريح العقل؛ فجعلوا كل لفظ جاء به الكتاب والسنة من أسمائه وصفاته حقاً يجب الإيمان به وإن لم تعرف حقيقة معناه، وكل لفظ أحدثه الناس فأثبته قوم ونفاه آخرون فليس علينا أن نطلق إثباته ولا نفيه حتى نفهم مراد المتكلم. فإن كان مراده حقاً موافقاً لما جاءت به الرسل والكتاب والسنة من نفي وإثبات قلنا به، وإن كان باطلاً مخالفاً لما جاء به الرسل والكتاب والسنة من نفي وإثبات منعنا القول به، ورأوا أن الطريقة التي جاء بها القرآن هي الطريقة الموافقة لصريح المعقول وصحيح المنقول، وهي طريقة الأنبياء والمرسلين" (¬3). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (5/ 195)، وينظر: منهاج السنة (2/ 111). (¬2) ينظر: كتب أئمة السنة وسلف الأمة، ومنها الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية، واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم وغيرها. (¬3) مجموع الفتاوى (6/ 36 - 37).

المطلب الأول: الإلحاد في أسماء الله وصفاته

المطلب الأول الإلحاد في أسماء الله وصفاته قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: "ومن الشرك الأكبر أن يجعل الإنسان لله نداً؛ في أسمائه وصفاته، فيسميه بأسماء الله ويصفه بصفاته، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} الأعراف: 180، ومن الإلحاد في أسمائه تسمية غيره باسمه المختص به أو وصفه بصفته كذلك" (¬1). اللفظ الجامع لأنواع المخالفات في توحيد الأسماء والصفات هو الإلحاد ولذا ختم به ابن القيم - رحمه الله - القول في المسائل العشرين في باب الأسماء والصفات التي ساقها في بدائع الفوائد وقال بأن معرفته هي الجامعة للوجوه المتقدمة كلها ... وأنه لا بد من معرفة الإلحاد في أسمائه ليحذر من الوقوع فيه (¬2). والإلحاد في اللغة: هو الميل والعدول عن الشيء، ومنه اللحد في القبر لانحرافه إلى جهة القبلة، ومنه الملحد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل (¬3). وفي الاصطلاح: هو العدول بأسماء الله وصفاته وآياته عن الحق الثابت (¬4) وعليه فالإلحاد يقع في أمرين؛ الأول: في الأسماء والصفات؛ والثاني: في الآيات. أنواع الإلحاد: ولا يُعرف الإلحاد إلا بمعرفة الاستقامة؛ لأنه كما قيل: بضدها تتبين الأشياء. فالاستقامة في باب أسماء الله وصفاته أن نجري هذه الأسماء والصفات على حقيقتها اللائقة بالله عز وجل، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، على القاعدة التي يمشي عليها أهل السنة والجماعة في هذا الباب، فإذا عرفنا الاستقامة في هذا الباب فإن ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 746). (¬2) بدائع الفوائد (1/ 169). (¬3) ينظر: لسان العرب (3/ 388). (¬4) بدائع الفوائد (1/ 169).

خلاف الاستقامة هو الإلحاد، وقد ذكر أهل العلم للإلحاد في أسماء الله تعالى أنواعاً يجمعها أن نقول: هو الميل بها عما يجب اعتقاده فيها. وهو على أنواع: النوع الأول: إنكار شيء من الأسماء، أو مما دلت عليه من الصفات، ومثاله:- من ينكر أن اسم الرحمن من أسماء الله تعالى كما فعل أهل الجاهلية. أو يثبت الأسماء، ولكن ينكر ما تضمنته من الصفات، كما يقول بعض المبتدعة (¬1): إن الله تعالى رحيم بلا رحمة، وسميع بلا سمع. يقول الشيخ محمد بن عثيمين: "إنكار شيء من أسماء الله أو صفاته نوعان: أ- إنكار تكذيب، وهذا كفر بلا شك فلو أن أحداً أنكر أسماً من أسماء الله، أو صفة من صفاته الثابتة في الكتاب والسنة مثل: أن يقول ليس لله يد، فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفرٌ مخرج عن الملة. ب- إنكار تأويل، وهو أن يجحدها، ولكن يؤولها، وهذا نوعان: 1 - أن يكون لهذا التأويل مسوغ في اللغة العربية فهذا لا يوجب الكفر. 2 - أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية، فهذا موجب للكفر، لأنه نفاها نفياً مطلقاً فهو مكذّب حقيقة، ولو قال في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} المائدة: 64، المراد بيديه السماوات والأرض فهو كافر، لأنه لا يصح في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية فهو منكر مكذب، لكن إن قال المراد باليد النعمة أو القوة، فلا يكفر؛ لأن اليد في اللغة تطلق على النعمة" (¬2). ¬

(¬1) مثل المعتزلة: أتباع واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، فهم يثبتون الأسماء، وينكرون الصفات، معتقدين أن إثباتها يؤدي إلى تعدد القدماء. ينظر: المعتزلة، وأصولهم الخمسة، وموقف أهل السنة منها د. عواد المعتق (ص 84). (¬2) المجموع الثمين (2/ 62 - 63).

النوع الثاني: أن يسمى الله سبحانه وتعالى بما لم يسم نفسه. ووجه كونه إلحاداً: أن أسماء الله سبحانه وتعالى توقيفية، فلا يحل لأحد أن يسمي الله تعالى باسم لم يسم به نفسه؛ لأن هذا من القول على الله بلا عِلْم، ومن العدوان في حق الله عز وجل، وذلك كما فعل بعض الفلاسفة فسموا الإله بالعلة الفاعلة، وكما فعل النصارى فسموا الله تعالى باسم الأب ونحو ذلك. النوع الثالث: أن يعتقد أن هذه الأسماء دالة على أوصاف المخلوقين فيجعلها دالة على التمثيل. ووجه كونه إلحاداً: أن من اعتقد أن أسماء الله سبحانه وتعالى دالة على تمثيل الله بخلقه. فقد أخرجها عن مدلولها ومال بها عن الاستقامة، وجعل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم دالاً على الكفر، لأن تمثيل الله بخلقه كفر، لكونه تكذيباً لقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11، ولقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} مريم: 65. قال نعيم بن حماد الخزاعي (¬1) شيخ البخاري رحمها الله: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه" (¬2). النوع الرابع: أنه يشتق من أسماء الله تعالى أسماء الأصنام، كاشتقاق اللات من الإله، والعُزَّى من العزيز، ومَنَاة من المّنَّان (¬3). ¬

(¬1) هو: نعيم بن حماد الخزاعي الحافظ أبو عبد الله المروزي الأعور، شيخ البخاري والدارمي وحمزة الكاتب، امتحن فمات محبوسا بسامراء عام (229 هـ). ينظر: السير (20/ 103)، الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، لمحمد بن أحمد أبي عبد الله الذهبي الدمشقي (2/ 324). (¬2) أخرجه الذهبي في العلو (ص 116)، وينظر: شرح السنة للالكائي (3/ 532)، شرح الطحاوية (1/ 85)، معارج القبول (1/ 365). (¬3) ينظر لأنواع الإلحاد: مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله (1/ 159)، بدائع الفوائد لابن القيم (1/ 190 - 191).

المطلب الثاني: التحريف في أسماء الله وصفاته

المطلب الثاني التحريف في أسماء الله وصفاته قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: "يبعد أن تتوارد النصوص على إثبات أمر في أصول الدين، والمراد خلافه من غير دليل يرشد إلى ذلك اعتماداً على ما أودعه الله عبادة من العقول" (¬1). ويقول كذلك - رحمه الله -: "الأصل الحقيقة حتى يكون دليل من العقل أو النقل" (¬2). ويبين - رحمه الله - بأنه: "يجب الإيمان بالصفات جميعها دون إرجاع بعضها إلى الآخر" (¬3). التحريف: لغة: هو التغيير والإمالة (¬4)، وقيل: تحريف الكلام: العدول به عن وجهته (¬5). وفي الاصطلاح: هو تغيير النص لفظاً أو معنى، وبعضهم يقول: تغيير ألفاظ الأسماء والصفات، أو تغيير معانيها (¬6). أقسامه وأمثلته: التحريف قسمان: 1 - تحريف اللفظ: كمحاولة بعض المبتدعة قراءة قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} النساء: 164، بنصب لفظ الجلالة؛ وذلك لنفي صفة الكلام عن الله سبحانه وجعل الكلام لموسى. ويروى أن جهمياً طلب من أبي عمرو بن العلاء أحد القراء أن يقرأ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)}، بنصب لفظ الجلالة فقال له: هبني فعلت ذلك فما تصنع بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} الأعراف: 143، فبهت الجهمي (¬7). ¬

(¬1) تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي على تفسير الجلالين (ص 9). (¬2) تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي على تفسير الجلالين (ص 145). (¬3) تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي على تفسير الجلالين (ص 153). (¬4) ينظر: لسان العرب (9/ 43). (¬5) ينظر: المصباح المنير (1/ 158). (¬6) التنبيهات السنية (ص 22). (¬7) ينظر: الصواعق المرسلة (1/ 218)، التنبيهات السنية (ص 22).

2 - تحريف المعنى: وهو إبقاء اللفظ كما كان وصرف معناه عن المراد به؛ مثل تأويل الاستواء بالاستيلاء، واليد بالنعمة (¬1)؛ كتأويلات الأشاعرة الذين ساروا في تأويلاتهم عبر طريقين: الأول: تأويل الصفات التي ينفونها بصفة يثبتونها؛ كتأويل الرضا بالإرادة. الثاني: تأويل الصفات التي ينفونها ببعض المخلوقات من النعم أو العقوبات؛ كتأويل الرضا بالثواب أو الجنة، والغضب بالعقاب أو النار. وفوق ذلك غلو تحريف الجهمية الذي قادها للتعطيل الكلي، وأشد منه كفراً تحريفات الباطنية وغلاة الصوفية (¬2). والتحريف محرم لأنه تغيير لكلام الله سبحانه، وقول على الله بلا علم. وقد ذم الله الذين يحرفون الكلم عن مواضعه من بني إسرائيل وغيرهم. والمحرفون فيهم شبه من اليهود والنصارى. وقد يصل التحريف إلى حد الكفر؛ وهذا إذا كان تكذيباً، أما إن كان التحريف تأويلاً فهذا منه ما قد يكون خطأً معفواً عنه (¬3)؛ ولهذا قال شارح الطحاوية: "وكل من التحريف والانحراف على مراتب؛ فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ" (¬4). أما وجه ذلك فكما بينه الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - بقوله: إن كان هذا التأويل باعثه الهوى والتعصب وليس عليه دليل فهو كفر لأن حقيقته التكذيب، وإن كان باعثه الهوى والتعصب وله وجهه في لغة العرب فهو فسق، إلا إذا تضمن عيباً في حق الله فهو كفر، وإن صدر هذا التحريف عن اجتهاد وحسن نية وله وجه في اللغة العربية فهو خطأ، لأن الله سبحانه لا يكلف نفساً إلا وسعها (¬5). ¬

(¬1) ينظر: مختصر الصواعق (2/ 147)، شرح الطحاوية (1/ 13). (¬2) ينظر في أنواع التأويل: الصواعق المرسلة (1/ 215). (¬3) ينظر: نواقض توحيد الأسماء والصفات (ص 34). (¬4) شرح الطحاوية (1/ 13). (¬5) ينظر: شرح لمعة الاعتقاد (ص 21) ضمن مجموع فتاويه ورسائله.

المطلب الثالث: التعطيل في أسماء الله وصفاته

المطلب الثالث التعطيل في أسماء الله وصفاته (¬1) التعطيل في اللغة: مأخوذ من العطل الذي هو الخلو والفراغ والترك؛ ومنه قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} الحج: 45، أي تركها أهلها وأهملوا ورودها، ومنه: "جيد عاطل" أي خال من الزينة (¬2). وفي الاصطلاح: هو تخلية الله من صفاته؛ أي نفي صفاته سبحانه وإنكار قيامها بذاته جل شأنه (¬3). أقسام التعطيل: من أهل العلم من قسم التعطيل إلى أربعة أقسام: القسم الأول: إنكار الأسماء والصفات كمذهب جهم. القسم الثاني: إنكار الصفات وإثبات الأسماء كطريقة أهل الاعتزال. القسم الثالث: إثبات الأسماء وبعض الصفات كمذهب الكلابية والأشاعرة. القسم الرابع: وصف الله بسلب النقيضين وهو مذهب الباطنية الملاحدة الذين قالوا: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت (¬4). ولابن القيم - رحمه الله - تقسيم آخر ينظر فيه إلى لفظ التعطيل نظرة شمولية لا تقتصر على توحيد الأسماء والصفات بل تشمل التعطيل في أنواع التوحيد كلها، قال - رحمه الله -: التعطيل ثلاثة أقسام: الأول: تعطيل المصنوع من صانعه، كتعطيل الفلاسفة الذين زعموا قدم هذه المخلوقات وأنها تتصرف بطبيعتها، وكتعطيل الدهرية القائلين: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} الجاثية: 24، وتعطيل الشيوعين القائلين لا إله والحياة مادة. الثاني: تعطيل الصانع من كماله المقدس بتعطيله من أسمائه وصفاته؛ كتعطيل الجهمية. ¬

(¬1) ينظر: مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (146 - 147). (¬2) ينظر: لسان العرب (11/ 453)، الصحاح (5/ 1767). (¬3) ينظر: بدائع الفوائد (1/ 169)، التنبيهات السنية (ص 23). (¬4) ينظر: التدمرية لشيخ الإسلام في معرض رده على هذه الطوائف، ونواقض توحيد الأسماء والصفات (ص 38).

الثالث: تعطيل حق معاملته بترك عبادته كفعل الكافرين أو عبادة غيره معه كفعل المشركين (¬1). ويتضح مما سبق أنه تناول توحيد الربوبية والأسماء والصفات والألوهية في تقسيمه - رحمه الله -. حكم التعطيل: أما حكم التعطيل فقد يكون ناقضاً لأصل التوحيد أو لكماله؛ أي أنه قد يكون كفراً، وقد يكون دون ذلك؛ فإن كان تكذيباً فهو كفر، وإن كان تأويلاً فيجري فيه حكم التأويل، ومن التعطيل ما هو شرٌ من الشرك، قال ابن القيم - رحمه الله -: " والتعطيل شرٌ من الشرك، فإن المعطل جاحد للذات أو لكمالها وهو جحد لحقيقة الألوهية ... والمشرك مقر بالله لكن عبد معه غيره؛ فهو خير من المعطل للذات والصفات" (¬2). ومن العلماء من كفر المعطلة فيقول: " من شبَّه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر؛ فليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه" (¬3). ¬

(¬1) ينظر: الجواب الكافي (ص 90)، التنبيهات السنية (ص 23)، نواقض توحيد الأسماء والصفات (ص 39). (¬2) ينظر: النونية لابن القيم مع شرحها توضيح المقاصد (2/ 451/452)، التنبيهات السنية (ص 23)، نواقض توحيد الأسماء والصفات (ص 40)، وقد تولى أئمة السنة الرد على المعطلة، وقد نقض أسسهم شيخ الإسلام ابن تيمية في نقض التأسيس بما لا مزيد عليه، ومن قبله نقدها أئمة السنة كالدارمي، والبخاري، وغيرهم، ومن بعده كأئمة الدعوة، ومن علماء العصر كابن باز وابن عثيمين والفوزان وغيرهم. (¬3) أخرجه الذهبي في العلو (ص 116)، وينظر: شرح السنة للالكائي (3/ 532)، شرح الطحاوية (1/ 85)، معارج القبول (1/ 365).

المطلب الرابع: التكييف في أسماء الله وصفاته

المطلب الرابع التكييف في أسماء الله وصفاته (¬1) التكييف (¬2) في اللغة: هو اسم معناه الاستفهام، وتعيين كنه الصفة، أي الحال التي عليها الشيء (¬3). وشرعاً: حكاية كيفية الصفة؛ كقول القائل: كيفية يد الله أو نزوله إلى السماء الدنيا كذا وكذا (¬4). طريقة أهل السنة في جواب من سأل عن كيفية صفة من صفات الله: الطريقة الأولى: جواب الإمام مالك (¬5) وشيخه ربيعة (¬6) وغيرهما (¬7)؛ جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} طه: 5، كيف استوى؟ قال ¬

(¬1) ينظر: مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (146 - 147). (¬2) يجب أن يفرق بين "التكييف"و"الكيف"؛ فلا يصح أن يقال نثبت صفات الله من غير كيف؛ لأن صفات الله سبحانه لها كيفية ولكنها مجهولة؛ ولذلك فإن أهل السنة ينفون علمهم بالكيف إذ لا يعلم كيفية ذاته أو صفاته إلا هو سبحانه، ولا ينفون الكيف؛ فإن كل شيء لا بد أن يكون على كيفية ما؛ فمن نفى الكيف فهو معطل، ومن نفى علمه بالكيف فهو موحد قد فوَّض العلم بذلك إلى ربه. ينظر: نواقض توحيد الأسماء والصفات، أ. د. ناصر القفاري (ص 45). (¬3) ينظر: لسان العرب (5/ 3968)، الصحاح (4/ 1425). (¬4) ينظر: فتح رب البرية (ص 22) ضمن مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله - (جـ 4)، شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص 19). (¬5) هو: إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث، وتأهل للفتيا وجلس للإفادة له إحدى وعشرون سنة، مات سنة (179 هـ)، وله مؤلفات ورسائل من أهمها: كتاب الموطأ. ينظر: وفيات الأعيان (4/ 3)، وتذكرة الحفاظ (1/ 207)، سير أعلام النبلاء (8/ 48)، شذرات الذهب (1/ 288). (¬6) هو: ربيعة بن فروخ القرشي التيمي المدني أبو عبد الرحمن، لقب بربيعة الرأي بن أبي عبد الرحمن، الإمام الفقيه مفتي المدينة وعالم وقته، كان ذا فطنة وسنة من أئمة الاجتهاد، توفي سنة (136 هـ). ينظر: وفيات الأعيان (2/ 50 - 52)، سير أعلام النبلاء (6/ 89 - 96)، تهذيب التهذيب (3/ 258 - 2259)، وتاريخ بغداد (8/ 240)، وشذرات الذهب (1/ 194). (¬7) هذا الجواب مأثور عن الإمام مالك، ينظر: الأسماء والصفات للبيهقي (ص 515)، بإسناد جيد، كما قال الحافظ بن حجر في الفتح (13/ 407)، وورد عن ربيعة شيخ مالك، ينظر: شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي (3/ 398)، والأسماء والصفات للبيهقي (ص 516)، التدمرية (ص 43 - 44)، شرح الطحاوية (ص 281).

-الراوي-: فما رأيت مالكاً وجد من شيء كما وجد من مقالته، وعلاه الرحضاء (¬1) يعني العرق. قال: وأطرق القوم وجعلوا ينظرون ما يأتي منه فيه. قال: فسري عن مالك فقال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالاً، وأمر به فأخرج. الطريقة الثانية: أن القول في الصفات كالقول في الذات؛ فإن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله؛ فكما أن ذاته لا تماثل الذوات فكذلك صفاته سبحانه لا تماثل صفات سائر الذوات (¬2). حكم التكييف: التكييف حرام لأنه من القول على الله بلا علم؛ لأن الله أخبرنا عن صفاته ولم يخبرنا عن كيفيتها؛ أخبرنا أنه استوى على العرش ولم يخبر كيف استوى وهكذا. والقول على الله بلا علم حرام؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} الأعراف: 33. قال ابن القيم - رحمه الله -: " ورتب هذه المحرمات -يعني في الآية المتقدمة- أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش (¬3)، ثم ثنى بما هو أشد تحريماً منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو ¬

(¬1) بضم الراء وفتح الحاء والضاد، وقد جاء في كتب اللسان أنه العَرق الكثير الذي يغسل الجلد لكثرته ولا يكون إلا من شكوى. ينظر: لسان العرب (7/ 154). (¬2) ينظر: التدمرية (ص 44)، مجموع الفتاوى (5/ 114 - 115). (¬3) الفواحش من الكبائر لكن وصفها بالأسهل بالنسبة لما هو أكبر منها. ينظر: نواقض توحيد الأسماء والصفات (ص 50).

أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله؛ وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه" (¬1). ¬

(¬1) أعلام الموقعين (1/ 42 - 43).

المطلب الخامس: التمثيل في أسماء الله وصفاته

المطلب الخامس التمثيل في أسماء الله وصفاته التمثيل في اللغة: هو إثبات مثيل للشيء، أو هو التشبيه (¬1). واصطلاحاً: هو إثبات مثيل لله عز وجل في ذاته أو صفاته (¬2). أقسام التمثيل: القسم الأول: تمثيل المخلوق بالخالق؛ وهو إثبات شيء للمخلوق مما يختص به الخالق من الصفات أو الأفعال أو الحقوق (¬3). القسم الثاني: تمثيل الخالق بالمخلوق (¬4). ¬

(¬1) ينظر: لسان العرب (11/ 610)، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه قد يفرَّق بين التشبيه والتمثيل، وذلك أن المماثلة تقتضي المساواة من كل وجه بخلاف المشابهة، وقد يعبر بأحدهما عن الآخر. ينظر: التدمرية (ص 117)، والقواعد المثلى (ص 27). (¬2) ينظر: شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص 22)، المجلى شرح القواعد المثلى لابن عثيمين (16/ 4). إثبات مثيل لله عز وجل في ذاته فإن شيخ الإسلام ابن تيمية وهو من أعلم الناس بالفرق والمقالات يذكر أنه لم تذهب طائفة إلى إثبات خالقين متماثلين. إذن إثبات مثيل في الذات لم يقل به أحد. وأما إثبات مثيل له في صفاته فإن أول من قال بذلك - كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- هو هشام بن الحكم وتنسب له فرقة تسمى الهاشمية. ينظر: درء التعارض (1/ 344). (¬3) (التمثيل في الصفات) كحال غلاة الصوفية مع من يسمونهم الأولياء، و (التمثيل في الأفعال) كفعل من أشرك في الربوبية كالمانوية والثانوية والفلاسفة، و (والتمثيل في الحقوق) كاعتقاد المشركين بأصنامهم حيث عبدوها مع الله تعالى. ينظر: نواقض توحيد الأسماء والصفات (ص 52) .... (¬4) كاعتقاد الهاشمية أتباع هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي، واليونسية أتباع يونس بن عبد الرحمن القمي الذين وصفوا الله سبحانه بصفات المخلوقين تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. ينظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (ص 97).

حكم التمثيل: التمثيل كفر؛ لأنه تكذيب لقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الشورى: 11، قال إسحاق بن راهويه: " من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم ... " (¬1). والعقل لا يمكن أن يفرض لله مثيلاً؛ لظهور التباين بين الخالق والمخلوق ببداهة العقول، لكن لفظ التشبيه الذي يستعمل بمعنى التمثيل صار في كلام الناس لفظاً مجملاً، يراد به المعنى الحق وهو ما نفاه القرآن بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11، ويراد به باطل وهو ما عناه الجهمية وأضرابهم؛ فالمثبت للأسماء والصفات هو عند الجهمي ممثل؛ والمثبت للصفات هو عند المعتزلي ممثل؛ والمثبت لجميع ما أثبته الله ورسوله في كتابه وسنة رسوله من الأسماء والصفات هو عند الأشاعرة والكلابية والماتريدية ممثل، ولذلك لا بد من التفصيل والبيان عند الحكم (¬2). نفي التمثيل أولى من نفي التشبيه: وذلك لثلاثة أوجه: أولاً: أن التمثيل هو الذي ورد بنفيه القرآن، "والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة" (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في تقرير ذلك: " ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الشورى: 11، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} مريم: 65، وكان أحب إلي من لفظ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬4). ¬

(¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (3/ 532)، شرح الطحاوية (1/ 58). (¬2) نواقض توحيد الأسماء والصفات (ص 53). (¬3) شرح الطحاوية (1/ 70، 71). (¬4) مجموع الفتاوى (3/ 266).

الثاني: أن نفي التشبيه مطلقاً يؤدي للتعطيل؛ ذلك أنه ما من موجودين إلا وبينهما قدر مشترك يتشابهان فيه؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وعلم أيضاً بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلابد بينهما من قدر مشترك؛ كاتفاقهما في مسمى الوجود، والقيام بالنفس، والذات ونحو ذلك؛ فإن نفي ذلك يفضي إلى التعطيل المحض" (¬1). الثالث: أن لفظ التشبيه استعمل فيما بعد في غير ما وضع له حتى صار من الألفاظ المجملة التي تحتاج إلى بيان؛ فقد ينفي التشبيه ويراد به نفي الحق الذي وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لذا فإن استعمال اللفظ الشرعي وهو التمثيل أولى لأنه أدل على المعنى، ولأن من طريقة أهل السنة التعبير بالألفاظ الشرعية البينة دون الألفاظ المحدثة المجملة. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " ثم إن الجهمية والمعتزلة أدرجوا نفي الصفات في مسمى التوحيد؛ فصار من قال إن لله علماً أو قدرة، أو أنه يُرى في الآخرة، أو أن كلام الله منزل غير مخلوق؛ يقولون: إنه مشبه وليس بموحد" (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 99). (¬2) مجموع الفتاوى (3/ 99).

الفصل الرابع: جهود الشيخ في تقرير بقية أركان الإيمان

الفصل الرابع: جهود الشيخ في تقرير بقية أركان الإيمان وفيه خمسة مباحث:

المبحث الأول: جهوده في تقرير الإيمان بالملائكة

المبحث الأول جهوده في تقرير الإيمان بالملائكة. تمهيد في تعريف الملائكة: المَلَكُ من الملائكة: واحد وجمع، قال الكسائي (¬1): "أصله مألك بتقديم الهمزة من الألوك، وهي الرسالة ثم قلبت وقدمت اللام فقيل ملأك ... ثم تركت همزته لكثرة الاستعمال فقيل مَلكَ فلما جمعوه ردّوها إليه فقالوا ملائكة وملائك ... " (¬2). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "والملك في اللغة: حامل الألوكة وهي الرسالة" (¬3). أما التعريف الاصطلاحي: فالملائكة هي: " أجسام لطيفة أعطيت قدرة على التشكُّل بأشكالٍ مختلفة مسكنها السموات خلقت من النور" (¬4). وقد ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يبين حقيقة الملائكة، ويوضح أوصافهم، آيات كثيرة، وأحاديث متعددة. فمن الكتاب: قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} الحج: 75. ¬

(¬1) أبو الحسن، علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي، شيخ القراءة والعربية، أحد القراء السبعة، له عدة تصانيف منها: معاني القرآن، وكتاب في القراءات، ومختصر في النحو، مات بالري، وفي تاريخ موته أقوال أصحها أنه مات سنة 189 هـ. ينظر ترجمته في: بغية الوعاة (2/ 162 - 165)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 399 - 403)، السير (9/ 131 - 134). (¬2) لسان العرب (10/ 496) باختصار، وينظر: القاموس المحيط (ص 1232)، الصحاح (4/ 1611)، تفسير الطبري (1/ 444 - 447). (¬3) النبوات (ص 257). (¬4) فتح الباري (6/ 353)، منهاج السنة (2/ 533).

وقوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} فاطر: 1. ومن السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خلقت الملائكة من نور) (¬1). فالملائكة خلق من خلق الله تعالى، خلقهم لعبادته، واصطفاهم لقربه، واختصهم بتدبير أمره، وجعلهم سفراءه ورسله إلى خلقه. وقد بين الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - حقيقة الملائكة، بقوله: " لا يخفى أن الملائكة جنس من مخلوقات الله خلقهم الله من نور، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" (¬2). ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في كتاب الزهد والرقائق، باب في أحاديث متفرقة برقم (2996) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 504 - 505).

المطلب الأول: معنى الإيمان بالملائكة وما يتضمنه

المطلب الأول معنى الإيمان بالملائكة وما يتضمنه: يقرر الشيخ - رحمه الله - الإيمان بالملائكة عند حديثه عن علم التوحيد، قال: " وعلم التوحيد يبحث عما يجب لله من صفات الجلال والكمال، وعما يجب للرسل والأنبياء، وما يستحيل عليهم، وما يجوز في حقهم، وما يتصل بذلك من الإيمان بالكتب المنزلة، والملائكة الأطهار، ويوم البعث والجزاء، والقدر والقضاء" (¬1). ويذكر - رحمه الله - كذلك أن: "الملائكة يؤمنون بالله وبكل ما له من صفات الجلال والكمال، ويقدسونه عما لا يليق به" (¬2). الملائكة مخلوقة من نور، خلقها الله تعالى لعبادته وطاعته، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خُلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) (¬3)، وهذا يبين أن خلق الملائكة مغاير لخلق الآدمي وخلق الجانّ، في أصله الذي هو النور، وفي صفاته التي خصم الله تعالى بها، والإيمان بهم هو الركن الثاني من أركان الإيمان التي لا يصح إيمان العبد إلا بها، وهو ينتظم أموراً أربعة: الأول: الإيمان بوجودهم. الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه كجبريل، وميكال، ومالك، فقد أخبر الله عنهم، وسماهم بأسمائهم في كتابه فقال: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)} البقرة: 98، وقال: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)} الزخرف: 77؛ ومن لم نعلم أسماءهم نؤمن بهم إجمالاً. الثالث: الإيمان بما علمنا من صفاتهم. ¬

(¬1) مذكرة التوحيد (ص 5)، وينظر: تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي على تفسير الجلالين (ص 250). (¬2) تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي على تفسير الجلالين (ص 8). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق باب في أحاديث متفرقة برقم (2996) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

الرابع: الإيمان بما علمنا من أعمالهم (¬1). يقول العلامة ابن القيم - رحمه الله -: " قد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات ... تتنزل بالأمر من عند الله في أقطار العالم، وتصعد إليه بالأمر، قد أطت (¬2) السماء بهم ... ويدخل البيت المعمور كل يوم منهم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه (¬3) ... والقرآن مملوء بذكرهم، وأصنافهم، وأعمالهم، ومراتبهم ... بل لا تخلو سورة من سور القرآن عن ذكر الملائكة تصريحاً، أو تلويحاً، أو إشارة؛ وأما ذكرهم في الأحاديث النبوية فأكثر وأشهر من أن يذكر، ولهذا كان الإيمان بالملائكة - عليهم السلام - أحد الأصول الخمسة التي هي أركان الإيمان" (¬4). وإجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - على سؤال جبريل عن الإيمان ببيان أركانه الستة، وإخباره بأن الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، دليل واضح على أن وجود الملائكة ثابت بالدليل القطعي الذي لا يمكن أن يتطرق إليه شك. ومن هنا كان إنكار وجود الملائكة كفر، لمخالفته نص كتاب الله الكريم وسنة رسوله الأمين، فمن كفر بهم أو حاول التشكيك في وجودهم فهو كاذب كافر لا حظ له في الإسلام لتكذيبه لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين. ¬

(¬1) ينظر لما سبق: معارج القبول (2/ 63)، فتاوى ابن عثيمين (5/ 116)، ورسائل في العقيدة لابن عثيمين (ص 19 - 20)، الإيمان لمحمد ياسين (ص 47). (¬2) أط: الأطيط الحنين والنقيض وهو صوت الأقتاب، والمعنى: أن كثرة ما فيها من الملائكة أثقلتها، حتى أنقضتها. وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثمة أطيط، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى. ينظر: الفائق في غريب الحديث، لمحمود بن عمر الزمخشري (1/ 49)، النهاية في غريب الأثر للجزري (1/ 54). (¬3) قال ابن الأثير: وهذا مثل وإيذان لكثرة الملائكة، كثرة لا يسعها عقل البشر. وقال ابن الزملكاني: وقد دل هذا الخبر ونحوه على أن الملائكة أكثر المخلوقات عددا، وأصنافهم كثيرة. ينظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 54)، الدر المنثور للسيوطي (6/ 117). (¬4) إغاثة اللهفان (2/ 125 - 131)، وشرح العقيدة الطحاوية (1/ 337).

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - بعد أن ذكر جملة من الأحاديث الواردة في شأن الملائكة وصفاتهم-: "وفي هذا وما ورد من القرآن رد على من أنكر وجود الملائكة من الملاحدة" (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وما تواتر عن الأنبياء من وصف الملائكة هو مما يوجب العلم اليقين بوجودهم في الخارج ... " (¬2). ¬

(¬1) فتح الباري (6/ 306). (¬2) درء التعارض (6/ 107).

المطلب الثاني: أعمال الملائكة

المطلب الثاني أعمال الملائكة: يبين الشيخ - رحمه الله - أعمال بعض الملائكة، فيقول: " قد أخبر الله سبحانه عن الملائكة بأنهم {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)} الأنبياء: 26 - 27، فهم محل كرامته وإحسانه وتحت تصرفه وأمره. فمنهم الموكل بأهل الجنة، ومنهم الموكل بأهل النار، ومنهم حملة العرش، ومنهم الحافون بالعرش، والله أعلم بتفاصيل أعمال بقيتهم" (¬1). بالنسبة إلى الأعمال التي كلف الله بها الملائكة وأمرهم بالقيام بها، فهي على قسمين: أ- أعمال عامة يشتركون جميعاً فيها، وتتمثل في عبادة الله سبحانه، وتسبيحه ليلاً ونهاراً، بلا ملل ولا فتور، قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} الأنبياء: 20. ب- أعمال خاصة لبعض الملائكة، أمرهم الله بالقيام بها. والأعمال الخاصة بالملائكة كثيرة، دلّ القرآن الكريم، والسنة الشريفة المطهرة على بعضٍ منها (¬2)، وهي ممّا يجب على المؤمن الإيمان بها طبقاً لما بيّنه الله ورسوله؛ والملائكة بالنسبة إلى الأعمال التي يقومون بها أصناف (¬3):- 1 - فمنهم حَمَلةُ العرش، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} غافر: 7، وقال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)} الحاقة: 17. ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 468 - 469). (¬2) يقول ابن القيم - رحمه الله -: "القرآن مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم وأعمالهم ومراتبهم ... وأما ذكرهم في الأحاديث النبوية فأكثر وأشهر من أن يذكر" إغاثة اللهفان (2/ 131)، وينظر: وشرح العقيدة الطحاوية (1/ 337). (¬3) هذه الأصناف ليس على سبيل الحصر، ينظر: الرد على المنطقيين لابن تيمية (ص 490) وما بعدها، إغاثة اللهفان لابن القيم (2/ 125) وما بعدها، شرح الطحاوية (2/ 405) وما بعدها، معارج القبول (1/ 63) وما بعدها.

2 - ومنهم الموكلون بالجنان وإعداد الكرامة لأهلها. 3 - ومنهم الموكلون بالنارِ وتعذيبِ أهلها، وهم الزبانية، ومُقَدَّموهم تسعة عشر، وخازنها مالك، وهو مُقَدَّم الخزنة، كما قال تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)} المدثر: 30، وقوله: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)} الزخرف: 77، وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)} غافر: 49، وقال تعالى: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} التحريم: 6. 4 - ومنهم الموكلون بحفظ بني آدم في الدنيا، قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} الرعد: 11، أي معه ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله تعالى: تخلّوا عنه (¬1). 5 - ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد وكتابتها، قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} الرعد: 11 قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} ق: 17 - 18، وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)} الانفطار: 10 - 11، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكة بالنهار) (¬2)،فمع الإنسان ملائكة يحفظونه من المؤذيات، وملائكة يحفظون عليه أعماله وما يصدر منه. 6 - ومن الملائكة من هو موكلٌ بالرحم وشأن النطفة، كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة ¬

(¬1) ينظر: تفسير الطبري (13/ 116)، تفسير ابن كثير (2/ 139). (¬2) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، برقم (555)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما (632).

مثل ذلك، ثم يبعث الله ملَكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقيٌّ أو سعيد) (¬1). 7 - ومنهم ملائكة موكلون بقبض الأرواح، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)} الأنعام: 61، وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} السجدة: 11،وملَكُ الموت له أعوانٌ من الملائكة، يستخرجون روحَ العبد من جسمه حتى تبلغ الحلقوم، فيتناولها ملك الموت (¬2). فيدبر الله سبحانه بالملائكة أمر السموات والأرض (¬3)، فهم الذين يحركون الهواء ويجرون السحاب، وهم المدبرات أمراً، والمقسمات أمراً، التي أقسم الله تعالى بها في كتابه الكريم (¬4). قال ابن القيم - رحمه الله -: " ... فكل حركة في السموات والأرض من حركات الأفلاك، والنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والسحاب، والنبات، والحيوان، فهي ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسموات والأرض ... وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكلّ بالجبال ملائكة، ووكلّ بالسحاب والمطر ملائكة، ووكلّ بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها ... " (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري، في كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3208)، ومسلم، في كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه ... (2643). (¬2) ينظر: تفسير القرطبي (17/ 231)، اللباب في علوم القرآن لأبي حفص عمر بن علي الدمشقي الحنبلي (18/ 443)، بريق الجمان بشرح أركان الإيمان لمحمد النورستاني (77 - 78). (¬3) تدبيرهم لأمر السموات والأرض مستفاد من عموم النصوص الدالة على أن الله وكل إليهم ذلك مثل قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} النازعات: 5، وقوله تعالى: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)} الذاريات: 4. (¬4) ينظر: الرد على المنطقيين لابن تيمية (275 - 499)، ومنهاج السنة (2/ 533 - 537)، وتفسير القرآن العظيم (7/ 205)، وزاد المسير لابن الجوزي (8/ 193). (¬5) إغاثة اللهفان (2/ 153 - 161) باختصار.

- هل الملائكة الموكلون بالإنسان يموتون بموته؟

- هل الملائكة الموكلون بالإنسان يموتون بموته؟ يبين الشيخ - رحمه الله - الإجابة، وأن مثل هذا السؤال ليس مما كلفنا الله باعتقاده، فيقول: " أحوال الملائكة وشؤونهم من الغيبيات، ولا تعرف إلا من قبل السمع، ولم يرد نص في موت كتبة الحسنات والسيئات عند موت من تولوا كتابة حسناته وسيئاته، ولا نص ببقاء حياتهم ولا عن مصيرهم، وذلك إلى الله وليس ما سئل عنه مما كلفنا اعتقاده، ولا يتعلق به عمل، فالسؤال عن ذلك دخول فيما لا يعني؛ لذا ننصح السائل أن لا يدخل فيما لا يعنيه، ويبذل جهده في السؤال عما يعود عليه وعلى المسلمين بالنفع في دينهم ودنياهم" (¬1). من عظمة الله تعالى وكمال ربوبيته سبحانه تفرده سدد خطاكم بالبقاء قال سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} القصص: 88، وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} الرحمن: 26 - 27. قال ابن كثير - رحمه الله -: " يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السماوات إلا ما شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم؛ فإن الرب تعالى لا يموت، بل هو الحي الذي لا يموت أبداً" (¬2). وقد اختُلِفَ في الملائكة هل يموتون أم هم ممن استثنى الله؟ يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - في شرحه لحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (أعوذ بعزتك، الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) (¬3):قوله (والجن والإنس يموتون) استدل به على أن الملائكة لا تموت، ولا حجة فيه ... ولا اعتبار له، وعلى تقديره فيعارضه ما هو أقوى منه، وهو عموم قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (2/ 185). (¬2) تفسير ابن كثير (4/ 287). (¬3) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} برقم (7383)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، برقم (2717).

وَجْهَهُ} القصص: 88، مع أنه لا مانع من دخولهم في مسمى الجن؛ لجامع ما بينهم من الاستتار عن عيون الإنس" (¬1). والملائكة من مخلوقات الله، يجوز عليهم الموت والهلاك، شأنهم شأن سائر المخلوقات "ولكن جعل الله لهم أمدا بعيدا، فلا يتوفاهم حتى يبلغوه" (¬2). والقول بموت الملائكة هو الذي عليه أكثر الناس. سُئل شيخ الإسلام - رحمه الله -: هل جميع الخلق حتى الملائكة يموتون، فأجاب: " الذي عليه أكثر الناس أن جميع الخلق يموتون حتى الملائكة وحتى عزرائيل (¬3) ملك الموت ... والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك وقدرة الله عليه ... والله سبحانه قادر على أن يميتهم ثم يحييهم كما هو قادر على إماتة البشر والجن ثم إحيائهم وقد قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} الروم: 27، وقد ثبت ¬

(¬1) فتح الباري (13/ 370). (¬2) المنهاج في شعب الإيمان للحليمي (1/ 302)، للإستزاده ينظر: المسائل العقدية في فيض القدير (ص 583 - 584). (¬3) قال ابن عثيمين - رحمه الله -: "اشتهر أن اسم ملك الموت عزرائيل، إلا أنه لم ترد تسمية ملك الموت بهذا الاسم في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية الصحيحة، وإنما ورد ذلك في بعض الآثار والتي قد تكون من الإسرائيليات وعلى هذا، لا ينبغي الجزم بالنفي ولا بالإثبات، فلا نثبت أن اسم ملك الموت عزرائيل، ولا ننفي ذلك، بل نفوض الأمر إلى الله تعالى ونسميه بما سماه الله تعالى به "ملك الموت" قال الله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} السجدة: 11". وقال ابن كثير: "وأما ملك الموت فليس بمصرح باسمه في القرآن، ولا في الأحاديث الصحاح، وقد جاء تسميته في بعض الآثار بعزرائيل، والله أعلم". وقال السندي: "لم يرد في تسميته حديث مرفوع" اهـ. وقال المناوي - بعد أن ذكر أن ملك الموت اشتهر أن اسمه عزرائيل-، قال: "ولم أقف على تسميته بذلك في الخبر" اهـ. وقال الشيخ الألباني في تعليقه على قول الطحاوي: "ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين ". قال رحمه الله: "هذا هو اسمه في القرآن، وأما تسميته بـ "عزرائيل" كما هو الشائع بين الناس فلا أصل له، وإنما هو من الإسرائيليات" اهـ. ينظر: البداية والنهاية (1/ 49)، فيض القدير للمناوي (3/ 32)، فتاوى ابن عثيمين (3/ 161)، الألفاظ الموضحات لعبدالله الدويش (2/ 36)، ومعجم المناهي اللفظية لبكر أبو زيد (ص 390).

عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه وعن غير واحد من الصحابة أنه قال: (إن الله إذا تكلم بالوحي أخذ الملائكة مثل الغشي)، وفى رواية: (إذا سمعت الملائكة كلامه صعقوا) (¬1)، وفى رواية: (سمعت الملائكة كجر السلسلة على الصفوان فيصعقون فإذا فزع عن قلوبهم - أي أزيل الفزع عن قلوبهم- قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق فينادون الحق الحق) (¬2)، فقد أخبر في هذه الأحاديث الصحيحة أنهم يصعقون صعق الغشي فإذا جاز عليهم صعق الغشي جاز صعق الموت ... وصعق الغشي هو مثل صعق موسى عليه السلام قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} الأعراف: 143، والقرآن قد أخبر بثلاث نفخات نفخة الفزع ذكرها في سورة النمل في قوله: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} النمل: 87. ونفخة الصعق والقيام ذكرهما في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} الزمر: 68، وأما الاستثناء فهو متناول لمن دخل في الجنة من الحور العين فإن الجنة ليس فيها موت ومتناول لغيرهم ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله فإن الله أطلق في كتابه، وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى آخذا بساق العرش فلا أدرى هل أفاق قبلي أم كان ممن استثناه الله) (¬3)، وهذه الصعقة قد قيل إنها رابعة وقيل إنها من المذكورات في القرآن. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة في باب ذكر الكلام والصوت والشخص وغير ذلك برقم (515)، وابن خزيمة في التوحيد في باب صفة تكلم الله بالوحي ... وصعق أهل السماوات ... برقم (206)، إسناده ضعيف لأن في الإسناد الوليد بن مسلم القرشي مدلس ولم يصرح بالسماع من شيخه وفي الإسناد كذلك نعيم بن حماد الخزاعي وهو صدوق يخطئ كثيرا. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب السنة باب في القرآن برقم (4738)، ابن حبان في صحيحه في كتاب الوحي برقم (37)، وابن خزيمة في التوحيد (207)، في هذا الخبر أبي معاوية، إسناده ضعيف، وللحديث شواهد صحيحة فقد أخرج البخاري في كتاب تفسير سورة سبأ، باب: (حتى إذا فزع عن قلوبهم) برقم (4800) شاهداً للحديث السابق. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الإشخاص والخصومة بين المسلم واليهودي، برقم (2411)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى عليه السلام، برقم (2375).

وبكل حال النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توقف في موسى وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه أم لا فإذا كان النبي لم يخبر بكل من استثنى الله لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة وأعيان الأنبياء وأمثال مما لم يخبر به وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر؛ والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم" (¬1). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (4/ 259 - 260 - 261)، وينظر: البعث والنشور للبيهقي (ص 325) وما بعدها، العظمة لأبي الشيخ الأصفهاني (3/ 822)، البداية والنهاية (19/ 311)، فتح الباري (11/ 368)، الدر المنثور (5/ 339).

المطلب الثالث: تعريف الجن وتأثيرهم

المطلب الثالث تعريف الجن وتأثيرهم (¬1): يقرر الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: "أن الجن صنف من مخلوقات الله ورد ذكرهم في القرآن والسنة وهم مكلفون، مؤمنهم في الجنة وكافرهم في النار، ومس الجن للإنس أمر معلوم من الواقع - والإنسي قد يؤذي الجني وهو يعلم أو لا يعلم، والجني قد يؤذي الإنسي ويصرعه أو يقتله، كما أن الإنسي قد يؤذي الإنسي ويضره، والجني قد يؤذي الجني - ومن نفى ذلك عن الجن وهو لم يحط علماً بأحوالهم فقد قفا ما ليس له به علم وخالف ما ورد فيهم من آيات القرآن، فقد قال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)} الرحمن: 14 - 15، واقرأ الآيات من سورة الجن في تفصيل أحوالهم وأعمالهم وجزاء من آمن منهم ومن كفر، فلا عجب أن يتمكن جني من إنسي وأن يصيبه بأذى، كما يتمكن الإنسي من الجني ويصيبه بما يضره إذا تمثل الجني بصورة حيوان مثلاً، وبالجملة فكل من الجن والإنس إما مؤمن وإما كافر، وطيب أو خبيث، ونافع لغيره أو مؤذ له ضار به كل بإذن الله عز وجل. فعالم الجن وأحوالهم غيبي بالنسبة للإنس لا يعلمون منهما إلاَّ ما جاء في كتاب الله تعالى أو صح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيجب الإيمان بما ثبت في ذلك بالكتاب والسنة دون استغراب أو استنكار والسكوت عما عداه؛ لأن الخوض نفياً أو إثباتاً قول بغير علم، وقد نهى الله تعالى عن ذلك بقوله سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} الإسراء: 36 " (¬2). ¬

(¬1) درج كثير من العلماء على التفضيل في مسائل الجن في أبواب الملائكة، فالبخاري مثلاً جمع البابين في كتاب بدء الخلق (3/ 1165)، والبيهقي في شعب الإيمان تكلم عن الجن في أبواب الملائكة (1/ 163) وما بعدها، وكذلك جمع الكلام عن الملائكة والجن ابن القيم في الروح (ص 172). (¬2) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 279 - 282).

1 - التعريف

1 - التعريف: أ- تعريف الجن: في اللغة: الجِنُّ بالكسر: اسم جنس جمعيّ (¬1) واحده جنيّ، وهو مأخوذ من الاجتنان، وهو التسترُّ والاختفاء. وقد سمّوا بذلك لاجتنانهم من الناس فلا يُرون، والجمع جِنَّان وهم الجِنَّة (¬2). في الاصطلاح: نوع من الأرواح العاقلة المريدة المكلفة على نحو ما عليه الإنسان، وهي ليست أجساماً ولا جسيمات بل هي موجودات روحانية مخلوقة من عنصر ناري، ولها حياة وإدراك خاص بها لا يدرى مداه، مستترون عن الحواس، لا يُرون على طبيعتهم ولا بصورتهم الحقيقية، ولهم قدرة على التشكل، يأكلون ويشربون ويتناكحون ولهم ذرية، محاسبون على أعمالهم في الآخرة (¬3). ¬

(¬1) اسم الجنس على نوعين: الأول: اسم جنس إفرادي، وهو ما دل على القليل والكثير من جنس واحد بلفظ واحد مثل ماء، تراب، زيت ومنه المصدر كضرب وشرب وقيام. الثاني: اسم جنس جمعي، وهو ما يفرق بينه وبين واحده بالتاء غالباً وذلك بأن يكون الواحد بالتاء واللفظ الدال على الجمع بغير التاء مثل كلم كلمة وبقر بقرة وعرب عربي وشجر وشجرة، وجن جني. ينظر: أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (ص 13) حاشية رقم (1). (¬2) ينظر: العين للخليل بن أحمد (1/ 323)، لسان العرب (13/ 95)، تهذيب اللغة (10/ 496)، الصحاح (5/ 2093)، القاموس (ص 1532). وينظر كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية لأبي حاتم الرازي (2/ 172)، اللوامع (2/ 220). (¬3) ينظر: العقائد الإسلامية لسيد سابق (ص 133)، والفصل في الملل والأهواء والنحل (5/ 12)، دائرة معارف القرن العشرين (3/ 185)، التحرير والتنوير لابن عاشور (29/ 218)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي (29/ 102).

ب- تعريف الشياطين: يعرف الشيخ - رحمه الله - الشياطين، فيقول: "الشياطين كلمة عامة تشمل كل متمرد من شياطين الإنس والجن" (¬1). يقول ابن منظور (¬2): "كل متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان" (¬3). ومن هذا يتضح أن لفظ (شيطان) يطلق على إبليس، ويطلق على جنس من الجن وهم المردة من ذرية إبليس، ويطلق على المتمرد من الإنس على أوامر ربه. فأما إطلاقه على إبليس ففي مثل قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} البقرة: 36، وقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} الأعراف: 20، وقوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} الأعراف: 27، وهذا غالب إطلاقه، فالشيطان علم في الغالب على إبليس. وأما إطلاقه على جنس من الجن ففي مثل قوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)} الشعراء: 210، وقوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)} الشعراء: 221، {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)} ص: 37، {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} الملك: 5، وهو هاهنا وصف لهم. ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 360 - 361). (¬2) هو: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن علي الأنصاري الإفريقي المصري، ولد سنة (630 هـ)، وهو إمام لغوي حجة، أشهر أعماله وأكبرها هو لسان العرب، عشرون مجلداً، جمع فيها أمهات كتب اللغة، فكاد يغني عنها جميعاً. عمل على اختصار وتلخيص عدد هائل من كتب الأدب المطولة، وقال عنه ابن حجر: "كان مغرى باختصار كتب الأدب المطوّلة"، ويقول الصفدي: "لا أعرف في الأدب وغيره كتاباً مطولاً إلا وقد اختصره، وأخبرني ولده قطب الدين أنه ترك بخطه خمسمائة مجلدة ". له شعر رقيق. عمي في آخر عمره وتوفي بمصر سنة (711 هـ). ينظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر (5/ 31 - 33)، وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي (1/ 248)، وحسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للسيوطي (1/ 388، 534). (¬3) لسان العرب (13/ 238)، وينظر: تاج العروس (9/ 253).

2 - الأدلة على وجود الجن

وأما إطلاقه على متمردي الإنس ففي مثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} الأنعام: 112، وهو هنا وصف لهم أيضا. 2 - الأدلة على وجود الجن: الدليل السمعي: أفاض القرآن الكريم والسنة النبوية في الحديث عن الجن وأحوالهم في مواضع كثيرة، فقد ورد ذكرهم في القرآن في مواضع متعددة تقرب من أربعين موضعاً، عدا الآيات التي تحدثت عن الشيطان، وهي كثيرة، وانفردت سورة كاملة للحديث عن أحوال النفر الذين استمعوا للقرآن من الرسول عليه الصلاة والسلام وهو بمكة، وهي سورة الجن، إذ ورد في مطلعها إخبار الله لنبيه باستماع هذا النفر للقرآن، قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)} الجن: 1 - 2، واعتبرهم القرآن نوعاً آخر يشترك مع الإنسان في التكليف، ورتب القرآن الجزاء لهم حسب أعمالهم في الدنيا فقال: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} السجدة: 13، واستنكر القرآن المزاعم التي تقول بأن الجن يعلمون الغيب فقال- في معرض الحديث عن موت سليمان عليه السلام-: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)} سبأ: 14. وغير ذلك من الآيات التي تحدثت عن أحوال هذا المخلوق (¬1). قال الدميري (¬2): " واعلم أن الأحاديث في وجود الجن والشياطين لا تحصى، وكذلك أشعار العرب وأخبارها، فالنزاع في ذلك مكابرة فيما هو معلوم بالتواتر" (¬3). ¬

(¬1) عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة للدكتور عبد الكريم عبيدات (79 - 80). (¬2) هو محمد بن عيسى بن علي الدميري، كمال الدين أبو البقاء القاهري الشافعي، عالم مشارك في أنواع العلوم، من تصانيفه حياة الحيوان الكبرى، ولد سنة (742 هـ)، وتوفي سنة (808 هـ). ينظر: الضوء اللامع للسخاوي (10/ 59 - 62)، الشذرات (7/ 79 - 80). (¬3) حياة الحيوان الكبرى (1/ 188).

الدليل العقلي: قال محمد رشيد رضا (¬1): "ولو كان الاستدلال بعدم رؤية الشيء على عدم وجوده صحيحاً وأصلاً ينبغي للعقلاء الاعتماد عليه، لما بحث عاقل في الدنيا عما في الوجود من المواد والقوى المجهولة، ولما كُشفت هذه الميكروبات التي ارتقت بها علوم الطب والجراحة إلى الدرجة التي وصلت إليها، ولا تزال قابلة للارتقاء بكشف أمثالها، ولما عرفت الكهرباء التي أحدث كشفها هذا التأثير العظيم في الحضارة، ولو لم تكشف الميكروبات - وأخبر أمثالهم بها في القرون الخالية - لعدُّوه مجنوناً، وجزموا باستحالة وجود أحياء لا ترى، إذ يوجد في نقطة الماء ألوف الألوف منها، وأنها تدخل في الأبدان من خرطوم البعوضة أو البرغوث .. الخ، كما أن ما يجزم به علماء الكهرباء من تأثير في تكوين العوالم، وما تعرفه الشعوب الكثيرة الآن من تخاطب الناس بها من البلاد البعيدة بآلات التلغرف والتليفون اللاسلكية - كله مما لم يكن يتصوره عقل، وقد وقع بالفعل" (¬2). ومما تقدم وغيره من الأدلة الكثيرة يدل على أن وجود الجن ليس بمستبعد في ميزان العقل، في الوقت الذي ثبت فيه وجود أشياء كثيرة في هذا الكون غائبة عن حواسنا، وجهل بعض الناس بهذا المخلوق ليس مبرراً لإنكار وجوده، فعلم الإنسان محدود جداً. ¬

(¬1) هو محمد رشيد بن علي رضا بن شمس الدين بن بهاء الدين القلموني الحسيني .. يرجع نسبه لآل البيت .. ولد في27/ 5/1282 هـ في قرية قلمون جنوب طرابلس الشام، كان متصوفاً ثم تأثر بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب - رحمهم الله تعالى- .. ولقد أحدثت له حركة ونشاط بدل الخمول وغيبة الوعي والانغماس في البدع والضلال كما في الصوفية .. توفي: يوم الخميس الموافق (23 من جمادى الأولي 1354 هـ = 22 من أغسطس1935 م)، عن سبعين عامًا. من مؤلفاته: الخلافة، السنة والشيعة، حقيقة الربا، مناسك الحج تاريخ الأستاذ الإمام. ينظر: الأعلام للزركلي (6/ 126)، معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة (9/ 310)، رشيد رضا الإمام المجاهد لإبراهيم العدوي، رشيد رضا لأحمد الشرباصي. (¬2) تفسير المنار (8/ 366).

3 - بعض من صفات الجن

3 - بعض من صفات الجن: ¤أن الجن مكلفون، ولهم إرادة واختيار. يقرر الشيخ - رحمه الله -، هذه المسألة، بقوله: " ثبت بالأدلة أن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - عامة للثقلين الإنس والجن، قال تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} يس: 70، والجن من عقلاء الأحياء، وقال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)} يوسف: 104،والجن من العالمين، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} الأنبياء: 107،والجن كذلك من العالمين، وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} الأنعام: 19، والجن ممن بلغتهم رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} الفرقان: 1، والجن من العالمين، وبعد أن بين سبحانه خلقه الإنس والجن وأصل كل منهما الذي منه خلق وذكر كثيرا من نعمه على عباده أنكر في القرآن - الذي هو شريعة لمحمد عليه الصلاة والسلام ولأمته عامة - على الإنس والجن عدم شكرهما نعمه فقال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)} الرحمن: 18، إحدى وثلاثون مرات عقب النعم الكونية الشاملة لهما وبعد أنواع الجزاء حملاً لهما على شكر الله بتوحيده وطاعته وتحذيرا لهما من عواقب كفر نعمه تعالى عليهم؛ فهذه الآيات وما جاء في معناها دالة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للإنس والجن، وأن شريعة الجن هي الشريعة الإسلامية. وأما كونهم خلقوا قبل الإنس أو بعدهم فلا أثر له بالنسبة لتكليفهم بالشريعة الإسلامية. وأما كونهم قد أرسل إليهم رسول خاص بهم فلا نعلم ذلك" (¬1). وقد سبق في تعريف الجن أنهم أمة مكلفة كالإنس، ولهم إرادة واختيار، وهذا هو الذي تشهد له الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} الذاريات: 56، وقال تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 363 - 364) (3/ 371).

مِنْكُمْ} الأنعام: 130، وغير ذلك من الآيات التي توعدت الكافرين من الجن والإنس بالتعذيب في النار، كقوله تعالى {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} فصلت: 25. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (فُضِّلْتُ على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلتُ إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) (¬1). قال السبكي (¬2): "ومحل الاستدلال قوله: (وأرسلت إلى الخلق كافة) فإنه يشمل الجن والإنس، وحمله على الإنس خاصة تخصيص بغير دليل، فلا يجوز. ثم يقول: وحديث مسلم الذي استدللنا به أصرح الأحاديث الدالة على شمول الرسالة للجن والإنس" (¬3). إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على تكليف الجن، وفي هذا دلالة على أن لهم إرادة واختياراً، وإلا لما طولبوا بالإيمان وترك الكفر. ¤أن الجن يتشكلون ويرون. قال الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله -: " عالم الجن وأحوالهم غيبي بالنسبة للإنس لا يعلمون منهما إلاَّ ما جاء في كتاب الله تعالى أو صح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيجب الإيمان بما ثبت في ذلك بالكتاب والسنة دون استغراب أو استنكار والسكوت عما عداه" (¬4). والذي تشير إليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن الجن يتشكلون بالصور المختلفة. قال ابن تيمية - رحمه الله -: "والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم، فيتصورون في صور ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب المساجد ومواضع الصلاة، المقدمة، برقم (523). (¬2) هو علي بن عبد الكافي بن علي السبكي، تقي الدين، أبو الحسن، أشعري شافعي، من مؤلفاته: شفاء السقام في زيارة خير الأنام، السيف المسلول علي من سب الرسول، الفتاوى، توفي سنة 756 هـ. ينظر: طبقات الشافعية الكبرى (6/ 146)، الدرر الكامنة (3/ 63). (¬3) فتاوى السبكي (2/ 597). (¬4) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 279 - 282).

الحيات والعقارب وغيرها، وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بني آدم" (¬1). ولا يمنع خلقهم من النار تشكلهم في الصور المختلفة، يقول الباقلاني: "لسنا ننكر مع كون أصلهم النار أن الله تعالى يكثف أجسامهم ويغلظها، ويخلق لهم أعراضاً تزيد على ما في النار، فيخرجون عن كونهم ناراً، ويخلق لهم صوراً وأشكالاً مختلفة" (¬2). - الأدلة على تشكل الجن ورؤيتهم: أما من القرآن فقوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} الأنفال: 48. قال الطبري (¬3) في تفسير هذه الآية: " عن ابن عباس قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين، معه رايته، في صورة رجل من بني مدْلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} الأنفال: 48، فلما اصطف الناس أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضة من التراب، فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين، وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه - وكانت يده في يد رجل من المشركين - انتزع إبليس يده، فولى مدبراً هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة: تزعم أنك جار لنا؟ قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)} الأنفال: 48، وذلك حين رأى الملائكة" (¬4). ¬

(¬1) إيضاح الدلائل في عموم الرسالة لابن تيمية (ص 32). (¬2) الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي (ص 65). (¬3) هو: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير، أبو جعفر الطبري، الإمام المفسر، أحد أعلام السلف، له مصنفات منها: جامع البيان في تأويل القرآن، تاريخ الأمم والملوك، صريح السنة وغيرها، توفي سنة (310 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء (14/ 267)، شذرات الذهب (2/ 260). (¬4) تفسير الطبري (10/ 18)، أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 354). إسناده ضعيف فيه عبد الله بن صالح الجهني وهو مقبول والمثنى بن إبراهيم الآملي وهو مجهول الحال.

ومن الأدلة ما ورد أن الشيطان تصور في صورة شيخ نجدي، عندما اجتمعت قريش بدار الندوة، لتمكر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} الأنفال: 30. وأما في السنة المطهرة فقد وردت أحاديث عديدة تدل على تشكل الجن ورؤيتهم، نجتزئ بعضها للاستدلال على ذلك: 1 - ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ عفريتاً من الجن تفلت عليَّ البارحة، ليقطع عليَّ الصلاة، وإن الله أمكنني منه فذعته (¬2)، فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد، حتى تنظرون إليه أجمعون (أو كلكم) ثم ذكرت قول أخي سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} ص: 35، فرده الله خاسئاً) (¬3). وقد جاء في روايات أن الشيطان جاء بشعلة من نار ليحرق بها وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأخذه حتى وجد برد لسانه على يده الشريفة (¬4). قال النووي: " فيه دليل على أن الجن موجودون، وأنهم قد يراهم بعض الآدميين. وأما قول الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} الأعراف: 27؛ فمحمول على الغالب، ¬

(¬1) رواية ابن عباس في ذلك أخرجها أحمد في مسنده برقم (3251)، والطبري في تفسيره (9/ 227)، وعبد الرزاق في المصنف (5/ 389)، وقد أورد الإمام البخاري قصة الهجرة الصحيحة في الحديثين (3905، 3906) كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وينظر للقصة: سيرة ابن هشام (2/ 93 - 95)، خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى، لعلي بن عبد الله بن أحمد الحسني السمهودي (1/ 86)، تفسير البغوي (2/ 244)، أسماء المدلسين للسيوطي (1/ 240). (¬2) ذُعْتُه: خنقته. ينظر: لسان العرب (2/ 33)، تاج العروس للزبيدي (4/ 552)، الفائق لمحمود بن عمر الزمخشري (2/ 10). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه. كتاب المساجد باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة برقم (541)، وأخرجه البخاري بنحو هذا اللفظ، كتاب التفسير، باب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي برقم (3423). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (3916)، وأخرجه الدارقطني برقم (140)، وصححه الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص 84).

فلو كانت رؤيتهم محالاً؛ لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال من رؤيته إياه، ومن أنه كان يربطه؛ لينظروا كلهم إليه، ويلعب به وِلْداَنُ أهل المدينة. قال القاضي: وقيل: إن رؤيتهم على خلقهم وصورهم الأصلية ممتنعة؛ لظاهر الآية، إلا للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن خُرِقَتْ له العادة، وإنما يراهم بنو آدم في صور غير صورهم؛ كما جاء في الآثار. قلت: هذه دعوى مجردة؛ فإن لم يصح لها مستند؛ فهي مردودة " أ. هـ (¬1). 2 - ما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إني محتاج وعلَّي عيال، ولي حاجه شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا هريرة: ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته، فخليت سبيله، فقال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه سيعود، فرصدته، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله. فأصبحت، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا هريرة: ما فعل أسيرك؟ قلت يا رسول الله: شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك وسيعود. فرصدته الثالثة، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت، لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم لا تعود ثم تعود. قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} البقرة: 255، حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله. فأصبحت فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما فعل أسيرك البارحة؟ فلت يا رسول الله: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ¬

(¬1) شرح النووي لمسلم (5/ 29).

الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذاك شيطان) (¬1). وهذه الرواية وغيرها تدل على تشكل الجن ورؤيتهم في صورهم التي تشكلوا بها. 3 - روى مسلم في صحيحه: أن أبا السائب (¬2) دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، قال: فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكاً في عراجين (¬3) في ناحية البيت، فالتفتُّ فإذا حية، فوثبت لأقتلها، فأشار إلي أن أجلس، فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم. قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس. قال: فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوماً، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خذ عليك سلاحك، فإني أخشى عليك قريظة، فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به، وأصابته غيرة، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وأدخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه، فما يُدرى أيهما كان أسرع موتاً: الحية أم الفتى؟ قال: فجئنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادعُ الله يحييه لنا، فقال: استغفروا لصاحبكم، ثم قال: إن بالمدينة جناً قد أسلموا، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب الوكالة، باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئاً فأجازه برقم (2311). (¬2) هو: أبو السائب الأَنْصارِيّ المدني، مولى هشام بن زهرة، ويُقال: مولى عَبد الله بن هشام بن زهرة، ويُقال: مولى بني زهرة. ينظر: تهذيب الكمال للمزي (33/ 338)، تقريب التهذيب لابن حجر (ص 643)، معاني الأخبار لبدر الدين العيني (5/ 334). (¬3) العرجين: أراد بها العيدان التي في سقف البيت. ينظر النهاية في غريب الحديث (3/ 204).

فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه (¬1) ثلاثة أيام، فان بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان) (¬2). ففي هذا الحديث دلالة على أن الجن يتشكلون في صورة الحيات، وقد كانت تلك الحية التي دخلت البيت عبارة عن جن في صورة حية، صُرِع الفتى بسببها. والجن تتصور بصورة الكلاب كذلك، قال ابن تيمية - رحمه الله -: "والجن تتصور بصورة الكلب الأسود، وكذلك بصورة القط الأسود، لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة" (¬3). وعن جابر بن عبد الله قال: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين (¬4) فإنه شيطان) (¬5). وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن مرور الكلب الأسود يقطع الصلاة، فعن عبد الله ابن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قام أحدكم يصلي، فانه يستره إذا كان بين يده مثل آخر الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود؟ قلت يا أبا ذر: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ فقال يا ابن أخي سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني فقال (الكلب الأسود شيطان) (¬6). ¬

(¬1) آذنوه: أعلموه بأن يخرج. ينظر: لسان العرب (13/ 9)، مختار الصحاح (ص 5)، تاج العروس (34/ 161). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب السلام باب قتل الحيات وغيرها برقم (2236). (¬3) مجموع الفتاوى (19/ 52) بتصرف. (¬4) الأسود البهيم: الخالص السواد، ذي النقطتين: قال النووي في شرح صحيح مسلم (10/ 237): وأما النقطتان معروفتان بيضاوان فوق عينيه، وهذا مشاهد معروف. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه. كتاب المسافاة. باب الأمر بقتل الكلاب برقم (1572). (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصلاة باب قدر ما يستر المصلي برقم (501).

4 - الجن حسب الإيمان والكفر والصلاح والفساد

وهكذا يظهر لنا مما تقدم أن الجن يتشكلون في الصور المختلفة، وعندئذ يمكن رؤيتهم، وهذا هو الذي عليه جمهور الفقهاء من المسلمين، لما ورد من الآثار الكثيرة في تشكلهم ورؤيتهم، وقد مر قسم منها. والجن إذا حصل منهم التشكل في أجسام إنسية أو حيوانية فإنهم يصبحون أسرى هذا التشكل، ويحصل لهم من التأثر بالعوارض مثلما يحصل للجنس الذي تشكلوا به، كما في هذه القصة. 4 - الجن حسب الإيمان والكفر والصلاح والفساد (¬1): قال تعالى: إخباراً عنهم {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} الجن: 11.يقول القرطبي (¬2): " هذا من قول الجن، أي قال بعضهم لبعض لما دعوا إلى الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -: وأنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون، وقيل: " ومنا دون ذلك" أي ومن دون الصالحين في الصلاح" (¬3). يقول ابن القيم - رحمه الله - تعليقاً على قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} الجن: 14 - 15: "وقد تضمنت هذه الآيات انقسامهم إلى ثلاث طبقات: صالحين، ودون الصالحين، وكفار. وهذه الطبقات بإزاء طبقات بني آدم، فإنها ثلاثة: أبرار، مقتصدون، وكفار، فالصالحون بإزاء الأبرار ومن دونهم بإزاء المقتصدون، والقاسطون بإزاء الكفار، وهذا كما قسم سبحانه بني إسرائيل إلى هذه الأقسام الثلاثة في قوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} الأعراف: 168، فهؤلاء الناجون منهم، ثم ذكر ¬

(¬1) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 279 - 282). (¬2) هو: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري القرطبي المالكي، أحد مشاهير المفسرين وكتابه "الجامع لأحكام القرآن" من أوسع كتب التفسير يميل فيه إلى تتبع الأحكام الفقهية، توفي سنة (671 هـ). ينظر: كشف الظنون لحاجي خليفة (1/ 534)، والمفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات لمحمد بن عبد الرحمن المغراوي (1/ 287)، طبقات المفسرين للداودي (ص 246). (¬3) تفسير القرطبي (19/ 15).

5 - تأثير الجن على أجسام الإنس وعقولهم

الظالمين وهو خَلَف السوء الذين خلفوا بعدهم (¬1). ولما كان الإنس أكمل من الجن وأتم عقولاً، ازدادوا عليهم بثلاثة أصناف أُخر، ليس شيء منها للجن وهم: الرسل والأنبياء والمقربون، فليس في الجن صنف من هؤلاء بل حليتهم الصلاح" (¬2). 5 - تأثير الجنّ على أجسام الإنس وعقولهم (¬3): قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وجود الجن ثابت بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة، وهو أمر مشهود محسوس لمن تدبره، يدخل في المصروع ويتكلم بكلام لا يعرفه، بل ولا يدري به، بل يضرب ضرباً لو ضرب به جمل لمات، ولا يحس به المصروع، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} البقرة: 275، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم) (¬4) وغير ذلك، يصدقه. وقال في موضع آخر: "وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر وادّعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك" (¬5). وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: " قلت لأبي: إن أقواماً يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي فقال: يابني: يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه" (¬6). ¬

(¬1) يقصد ابن القيم قوله تعالى بعد الآية السابقة: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ...} الأعراف: 169. (¬2) طريق الهجرتين وباب السعادتين (1/ 416). (¬3) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 279 - 282). (¬4) مختصر الفتاوى المصرية لبدر الدين محمد بن علي البعلي (ص 584) من حديث أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب بدء الخلق. باب صفة إبليس وجنوده (6/ 337). وأخرجه مسلم في صحيحه. كتاب السلام باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خاليا بامرأة (4/ 1712). (¬5) مجموع فتاوى ابن تيمية (24/ 277). (¬6) إيضاح الدلالة في عموم الرسالة لابن تيمية (ص 7).

6 - هل إبليس من الجن أم من الملائكة

6 - هل إبليس من الجن أم من الملائكة: يبين الشيخ - رحمه الله - خلاف العلماء في هذه المسألة، فيقول: "اختلف العلماء في إبليس هل هو من الملائكة أو من الجن؟ فقال جماعة: لا يخفى أن الملائكة جنس من مخلوقات الله خلقهم الله من نور، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأما إبليس فقد ذكر الله تعالى أنه من الجن قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} الكهف: 50،وذكر تعالى عنه قوله في تبرير امتناعه في السجود لآدم {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} الأعراف: 12،أما وجه الاستثناء في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)} الحجر: 30 - 31، فهو استثناء منقطع، كقول القائل: جاء القوم إلا حمارا؛ ولأنه خلق من نار السموم والملائكة خلقت من نور؛ ولأن له ذرية تتوالد والملائكة لا تتوالد، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) (¬1)، وقال الحسن البصري (¬2): ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر (¬3)، ولكن خان إبليس الطبع، وذلك أنه كان مع الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك معهم فلهذا دخل في خطابهم وعصى بمخالفة أمر الله بالسجود. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في كتاب الزهد والرقائق، باب في أحاديث متفرقة برقم (2996) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) هو: أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، كان من سادات التابعين وكبرائهم، جمع كل فن من علم وزهد وورع وعبادة، وكان أبوه مولى زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، وأمه اسمها خيرة مولاة لأم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها، ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، نشأ بالمدينة، وحفظ القرآن في خلافة عثمان، وسمعه يخطب مرات، وروى عن عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة وجمع من الصحابة رضي الله عنهم توفي سنة (110 هـ). ينظر: وفيات الأعيان (2/ 56)، تذكرة الحفاظ (1/ 71)، السير (4/ 563)، شذرات الذهب (1/ 136). (¬3) نقلاً عن تفسير ابن جرير الطبري (1/ 226).

وقال آخرون من أهل العلم: إن إبليس لعنه الله من جنس الملائكة، لأنه من نوع من الملائكة خلقوا من نار السموم، وخُلق غيرهم من الملائكة من نور، استدلوا على ذلك بأنه لو لم يكن من الملائكة لما كان مأمورا بالسجود لآدم، ولا أنكر عليه عدم سجوده له، وبأن الأصل في الاستثناء الاتصال؛ بأن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، وقد قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)} ص: 73 - 74، فاستثنى إبليس بعد الملائكة فدل على أنه منهم. إلا أنه عصى الله تعالى وأصر على التمرد والعصيان فحقت عليه لعنة الله إلى يوم القيامة، واختار ابن جرير الطبري (¬1) هذا القول، وأجاب عما استدل به أصحاب القول الأول: بأن الملائكة منهم من خلق من نور، ومنهم من خلق من نار السموم، وإبليس من صنف الملائكة الذين خلقوا من نار السموم، وبأنه لا دليل على أن الصنف الذي خلق من نار السموم لا يتوالد، وبأن الله إنما قال فيه: {إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)} الحجر: 31، من أجل أنه من قبيلة من الملائكة تسمى الجن، أو قيل له جان لاختفائه كما سمى غيره من الملائكة جنة في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} الصافات: 158، لاختفائهم، وعلى القول بأنه من الجن يكون دخوله في أمر الله ملائكته بالسجود لآدم من أجل كونه مختلطا بهم، وعلى كل حال هذه مسألة لا تترتب عليها فائدة عملية والنزاع فيها لا طائل تحته" (¬2). اختلف العلماء في جنس إبليس هل هو من الملائكة أم من الجن؟ وذلك لورود الآيات القرآنية باستثنائه من الملائكة في مواضع من القرآن عند التعرض لسجود الملائكة لآدم - عليه السلام - وقد سبق ذكرها. ¬

(¬1) تفسير ابن جرير الطبري (1/ 225) .. (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 504 - 505،507 - 509)، بتصرف يسير.

وقد جاءت آية سورة الكهف مصرحة بأن إبليس من الجن، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} الكهف: 50. وإزاء هذه الآيات فقد انقسم العلماء في هذه المسألة إلى فريقين ساق أقوالهما الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -. وقد ذهب ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله إلى أنه لا منافاة بين القولين المتقدمين، بل الخلاف لفظي. قال ابن تيمية - رحمه الله -: "والتحقيق أنه -أي إبليس- كان منهم باعتبار صورته وليس منهم باعتبار أصله ولا باعتبار مثاله، ولم يخرج من السجود لآدم أحد من الملائكة لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا غيرهما" (¬1). وقال ابن القيم - رحمه الله -: "الصواب التفصيل في هذه المسألة، وأن القولين في الحقيقة قول واحد، فإن إبليس كان مع الملائكة في صورته وليس منهم بمادته وأصله، وكان أصله من نار وأصل الملائكة من نور، فالنافي كونه من الملائكة والمثبت لم يتواردا على محل واحد" (¬2). ما ذكره ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله فهو ترجيح لقول القائلين بأن إبليس من الجن لا من الملائكة. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (4/ 246). (¬2) تفسير القاسمي (2/ 104).

المبحث الثاني: جهوده في تقرير الإيمان بالكتب

المبحث الثاني جهوده في تقرير الإيمان بالكتب. تمهيد في تعريف الكتب. الكتب في اللغة: جمع كتاب، بمعنى مكتوب. يقول ابن فارس: " الكاف والتاء والباء أصل صحيح واحد يدل على جمع شيء إلى شيء، من ذلك الكتاب والكتابة، يقال: كتبت الكتاب أكتبه كتباً" (¬1). والمراد بالكتب هنا- التي يجب الإيمان بها-: "هي الكتب التي أنزلها الله تعالى على رسله، رحمة للخلق، وهداية لهم، ليصلوا بها إلى سعادة الدنيا والآخرة" (¬2). في تعريف القرآن الكريم. القرآن في اللغة: يعرف الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - القرآن في اللغة، فيقول: " القرآن في الأصل مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآناً، ومعناه في اللغة: الجمع والضم قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)} القيامة: 18، أي جمعناه لك في صدرك فاتبع ذلك الذي جمع تلاوة وبلاغا وعملا وقد صار علماً بالغلبة على الكتاب العزيز في عرف علماء الشرع" (¬3) (¬4). ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة (ص 917)، وينظر: تهذيب اللغة (4/ 3097)، والصحاح (1/ 208 - 209)، لسان العرب (1/ 698 - 702)، القاموس المحيط (ص 165). (¬2) فتاوى ابن عثيمين (5/ 120). (¬3) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 35). (¬4) ينظر: الصحاح في اللغة (2/ 67)، وتهذيب اللغة (9/ 271)، والبرهان في علوم القرآن للزركشي (1/ 278).

القرآن في الاصطلاح: يعرف الشيخ - رحمه الله - القرآن، فيقول: "القرآن كلام الله حقاً لفظه ومعناه، تكلم به رب العالمين وسمعه منه جبريل - عليه السلام - وبلَّغه جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام دون تغيير ولا تبديل، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} الشعراء: 192 - 195، وقد تكفل الله بحفظه وجمعه في قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - وبيانه له قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)} الإنسان: 23، وقال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} القيامة: 16 - 19، وليس كلامه مثل كلام الإنس أو الجن أو الملائكة، بل بصفة وكيفية مختصة به تعالى لا يعلم حقيقتها إلاَّ الله سبحانه لا يشابه فيها خلقه، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11،وكما أن ذاته تعالى لا تشبه الذوات فصفاته لا تشبه صفات أحد من المخلوقات، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً" (¬1). وهذا التعريف موافق لتعريف أهل السنة؛ بأن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدا، وإليه يعود، وأن كلام الله صفة لله، قائمة بذاته، على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى لم يزل متكلماً، إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وهو متكلم بحرف وصوت يُسمع (¬2). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 209 - 210)، وينظر: مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 35)،والإحكام في أصول الأحكام (3/ 40)، (4/ 209). (¬2) ينظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص 174)، السنة لعبدالله بن أحمد (1/ 281)، التوحيد لابن خزيمة (1/ 348)، السنة لابن أبي عاصم (1/ 412 - 416)، خلق أفعال العباد للبخاري (ص 149)، ومناهل العرفان في علوم القرآن للزرقان (1/ 12).

ولقد اختص القرآن الكريم بخصائص كثيرة، ولعل هذه الخصائص سبب الاختلاف في تعريف القرآن بين العلماء، فكل تعريف يذكر خاصية للقرآن يعرفه بها لا يذكرها الآخر، ولهذا تعددت التعريفات. - سبب تسمية القرآن بهذا الاسم: يبين الشيخ - رحمه الله - سبب تسمية القرآن، فيقول: " وسمي قرآناً لجمعة ما تحتاج إليه الأمة في سعادتها وصلاحها عاجلاً وآجلاً من عقائد وعبادات وأخلاق ونظم المعاملات قال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} يوسف: 111، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} النحل:89، ولما فيه من الجمع بين السور والآيات" (¬1). وسمي القرآن قرآناً لأن القارئ يظهره ويبينه ويلفظه من فيه، وقيل سمِّي القرآن لأنه يجمع السور فيضمها، وقيل سمي القرآن قرآناً لأنه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض (¬2). وهناك إشارة دقيقة استنبطها بعض العلماء من تسميته بالقرآن والكتاب فقال: روعي في تسميته قرآناً كونه متلواً بالألسن كما روعي في تسميته كتاباً كونه مدوناً بالأقلام فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور، والسطور جميعاً. أن تضل إحداهما فتذكر الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب المنقول إلينا جيلاً بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر. وبهذه ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 35)،والإحكام في أصول الأحكام (1/ 216). (¬2) المحيط في اللغة للصاحب بن عابد (1/ 496)، والصحاح في اللغة (2/ 67)، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (4/ 30).

العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداءً بنبيها بقي القرآن محفوظاً في حرز حريز (¬1). - الفرق بين القرآن وبين الحديث والكتب الأولى: يبين الشيخ - رحمه الله - الفرق بينهما، فيقول: " لا تسمى الأحاديث النبوية قرآناً لأن ألفاظها من الرسول وإن كان معناها وحياً. ولا تسمى الكتب الأولى كالتوراة قرآناً لنزولها على غيره من الأنبياء ولا يسمى الحديث القدسي قرآناً لأنه ليس مما يتعبد بتلاوته" (¬2). هناك فروق كثيرة ذكرها العلماء منها: -أن القرآن أوحيت ألفاظه من الله اتفاقا، وأن الحديث القدسي أوحيت ألفاظه من الله على المشهور، والحديث النبوي أوحيت معانيه في غير ما اجتهد فيه الرسول والألفاظ من الرسول - صلى الله عليه وسلم -. -وأن القرآن له خصائصه من الإعجاز والتعبد به ووجوب المحافظة على أدائه بلفظه ونحو ذلك، وليس للحديث القدسي والنبوي شيء من هذه الخصائص؛ والحكمة في هذا التفريق أن الإعجاز منوط بألفاظ القرآن، فلو أبيح أداؤه بالمعنى لذهب إعجازه، وكان مظنة للتغيير والتبديل واختلاف الناس في أصل التشريع والتنزيل، أما الحديث القدسي والحديث النبوي فليست ألفاظهما مناط إعجاز، ولهذا أباح الله روايتهما بالمعنى، ولم يمنحهما تلك الخصائص والقداسة الممتازة التي منحها القرآن الكريم، تخفيفا على الأمة ورعاية لمصالح الخلق في الحالين من منح ومنع. - أن ثواب تلاوة القرآن ثواب عظيم كما جاء في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ¬

(¬1) النبأ العظيم لمحمد دراز (12 - 13). (¬2) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 35)، والإحكام في أصول الأحكام (1/ 216).

ولام حرف وميم حرف) (¬1)، والحديث القدسي والنبوي ليس في تلاوتهما الثواب الوارد لتلاوة القرآن (¬2). ¬

(¬1) ينظر: تعظيم قدر الصلاة للمروزي (1/ 293)، المنهاج في شعب الإيمان للحليمي (1/ 317 - 323)، شعب الإيمان للبيهقي (1/ 447)، شرح الطحاوية لابن أبي العز (2/ 424 - 425)، فتح الباري (12/ 172)، معارج القبول (2/ 675)، أضواء البيان للشنقيطي (1/ 148 - 149)، فتاوى ابن عثيمين (3/ 241 - 242). (¬2) ينظر: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (1/ 37 - 38)، مباحث في علوم القرآن لمناع القطان (ص 23 - 24)، مدخل إلى علوم القرآن والتفسير لفاروق حمادة (ص 18)، النبأ العظيم لعبدالله دراز (ص 9)، ودراسات في علوم القرآن الكريم لفهد الرومي (ص 22 - 24)، وللاستزادة: المسائل العقدية في فيض القدير (603 - 606).

المطلب الأول: معنى الإيمان بالكتب وما يتضمنه

المطلب الأول معنى الإيمان بالكتب وما يتضمنه. بَيّن الشيخ - رحمه الله - الإيمان بالكتب، وأن ذلك يتضمن التصديق بها، فيقول: "أخبر سبحانه بأنه أنزل القرآن مصدقا لما قبله من الكتب السماوية ومهيمنا عليها، يثبت منها ما شاء الله إثباته وينسخ منها ما شاء سبحانه" (¬1). والإيمان بالكتب هو الركن الثالث من أركان الإيمان التي لا يصح إيمان العبد إلا بها، والكتب المنزلة من عند الله تعالى قسمان: الأول: ما لم يرد تسميته في القرآن والسنة، وهي أكثرها، فهذه يجب الإيمان بها إجمالاً. الثاني: ما ورد تسميته في القرآن والسنة، وهي: 1 - التوراة: المنزل على موسى - عليه السلام -. 2 - الإنجيل: المنزل على عيسى - عليه السلام -. 3 - الزبور: المنزل على داوود - عليه السلام -. 4 - صحف إبراهيم وموسى - عليهما السلام -. 5 - القرآن العظيم المنزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو آخرها. فهذه يجب الإيمان بها على التعيين، ويزيد القرآن عليها -خاصة- بعد نزوله ونسخه لها بوجوب تصديقه والعمل بما فيه (¬2). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 337). (¬2) ينظر: تعظيم قدر الصلاة للمروزي (1/ 293)، والمنهاج في شعب الإيمان (1/ 317 - 323)، وشعب الإيمان (1/ 447)، شرح الطحاوية (2/ 424 - 425)، وفتح الباري (12/ 172)، ومعارج القبول (2/ 675)، وأضواء البيان (1/ 148 - 149)، وفتاوى ابن عثيمين (3/ 241 - 242).

- شرع من قبلنا

- شرع من قبلنا: وقال الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله -: "بأن القرآن ذكر كثيراً مما اشتملت عليه التوراة؛ .. وأن الأدلة إنما دلت على وقوع التحريف فيهما، والنسخ إنما كان لبعض ما فيهما من أحكام فقط" (¬1). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " والذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وهذا إنما هو فيما ثبت أنه شرع لمن قبلنا من نقل ثابت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -، أو بما تواتر عنهم، لا بما يروى فإن هذا لا يجوز أن يحتج به في شرع المسلمين أحد من المسلمين" (¬2). قال الشنقيطي - رحمه الله -: " وكون شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرعا لنا إلا بدليل على النسخ هو مذهب الجمهور منهم مالك وأبو حنيفة وأحمد في أشهر الروايتين، وخالف الإمام الشافعي - رحمه الله - في أصح الروايات عنه فقال: إن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا ليس شرعا لنا إلا بنص من شرعنا على أنه مشروع لنا وخالف أيضا في الصحيح عنه في أن الخطاب الخاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - يشمل حكمه الأمة. واستدل للأول بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} المائدة: 48، وللثاني: بأن الصيغة الخاصة بالرسول لا تشمل الأمة وضعا فإدخالها فيها صرف للفظ عن ظاهره فيحتاج إلى دليل منفصل وحمل الهدى في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الأنعام: 90، والدين في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} الشورى: 13، على خصوص الأصول التي هي التوحيد دون الفروع العملية لأنه تعالى قال في العقائد: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} الأنبياء: 25، ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 249). (¬2) التوسل والوسيلة (1/ 87) مع تصرف يسير، وانظر: الجواب الصحيح (2/ 436)، واقتضاء الصراط (1/ 169)، والصدفية (1/ 258)، والمسودة لعبد السلام ابن تيمية (1/ 174)، عون المعبود (2/ 64)، عمدة القاري (11/ 178)، فتح الباري (10/ 363) و (4/ 306)، ودقائق التفسير لابن تيمية (2/ 55)، تفسير البيضاوي (2/ 327)، تفسير ابن كثير (2/ 63)، تفسير السعدي (ص 233).

وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} النحل: 36، وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} الزخرف: 45. وقال في الفروع العملية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} المائدة: 48، فدل ذلك على اتفاقهم في الأصول واختلافهم في الفروع كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (إنا معشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد) (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله" (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله: (واذكر في الكتاب مريم ...) برقم (3443)، ومسلم في كتاب الفضائل باب فضل عيسى عليه السلام برقم (2365). (¬2) أضواء البيان (1/ 376).

المطلب الثاني: معنى الإيمان بالقرآن وما يتضمنه

المطلب الثاني معنى الإيمان بالقرآن وما يتضمنه. يسوق الشيخ - رحمه الله - حديث زيد بن الأرقم في صحيح مسلم (¬1): (قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فينا خطيباً بمكان يدعى خماً بين مكة والمدينة؛ فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: (أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به) فحث على كتاب الله ورغب فيه" (¬2). ويقول الشيخ - رحمه الله -: "القرآن منزل مقروء على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو مأمور بالاستماع له، واعتقاده، والعمل به" (¬3). وبين الشيخ - رحمه الله - أن القرآن آخر الكتب السماوية، فيقول: "أنزل الله القرآن وجعله خاتم الكتب السماوية كما جعل نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء وجعل إليه بيان القرآن وتفضيل آياته وأحكامه بقوله وعمله وسيرته قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} النحل: 44" (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في كتاب الفضائل، باب من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، برقم (2408). (¬2) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 325). (¬3) الإحكام في أصول الأحكام (3/ 40). (¬4) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (35).

خصائص القرآن

- خصائص القرآن: 1 - القرآن معجز: بين الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - كمال القرآن في تعليقه على قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} النساء: 82، فيقول: "الآية ظاهرة في نفي اختلاف التناقض عموماً عن القرآن؛ فلا تناقض في أخباره بل يصدق بعضها بعضاً ولا في أحكامه بل هي محض الحكمة البالغة والعدالة التامة، ولا ضعف في أسلوبه وعباراته؛ فإنه في ذروة الكمال فصاحة وبلاغة؛ فكان بذلك معجزاً في أخباره وأحكامه وحججه في براعة أسلوبه. وقد يكون التناقض بين آراء المجتهدين لاختلاف مداركهم ومع ذلك فمخطئهم معذور مأجور" (¬1). وبين الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - بأن القرآن مستغني عن غيره، فيقول: "القرآن مستغنٍ في بيانه عن غيره، فإن انضم إلى ذلك دليل العقل كان من تضافر النقل والعقل" (¬2). ويقول الشيخ - رحمه الله -: "والقرآن معجز برسالته" (¬3). القول بإعجاز القرآن مما اتفق عليه أهل القبلة في الجملة (¬4)، وأقروا بكونه أظهر معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبينها وأعلاها، وأشرفها، ولأن هذه الشريعة -باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة- خصت بالمعجزة العقلية الباقية؛ ليراها ذوو البصائر، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر؛ وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأَرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) (¬5). ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام (4/ 21). (¬2) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 226). (¬3) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 57). (¬4) ينظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/ 226 - 238)، الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (4/ 3 - 23). (¬5) البخاري، في كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، برقم (4981)، ومسلم، كتاب الإيمان باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - برقم (152)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

2 - حفظ الله لكتابه

"قيل: إن معناه أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم، فلم يشاهدها إلا من حضرها. ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقُه العادةَ في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون، يدل على صحة دعواه. وقيل: المعنى أن المعجزات الواضحة الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار؛ كناقة صالح وعصا موسى، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة، فيكون من يتبعه لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باقٍ، يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمراً" (¬1). قال ابن حجر - رحمه الله -: ويمكن نظم القولين في كلام واحد؛ فإن محصلهما لا ينافي بعضه بعضاً. ولا خلاف بين العقلاء: أن كتاب الله تعالى معجز، لم يقدر واحد على معارضته بعد تحديهم بذلك، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} التوبة: 6، فلولا أن سماعه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه، ولا يكون حجة إلا وهو معجزة (¬2). 2 - حفظ الله لكتابه: وبين الشيخ - رحمه الله - ذلك، فيقول: "وعد سبحانه الأمة بحفظ كتابه، وتكفل لها ببقاء دينه لتقوم به الحجة دائماً وتسقط المعاذير، حيث لا نبي بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا تشريع بعد تشريعه، حتى يرث الله الأرض ومن عليها قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} الحجر: 9، فقيض سبحانه لهذا الكتاب المبين من يحفظه من الزيادة فيه والنقص منه، ومن التقديم والتأخير في آياته أو كلماته، وتحريف ألفاظه أو معانيه بسوء فهمها وبيانها بغير ما قصد منها وأريد بها من التأويلات الباطلة والآراء الزائفة قصداً أو عن غير قصد، فما من عصر من العصور إلا وفيه من أئمة الدين وأهل البصيرة فيه من ينفي عن كتاب الله، ويدفع ¬

(¬1) الإتقان في علوم القرآن (2/ 228). (¬2) فتح الباري (9/ 6)، وينظر: وعمدة القاري للعيني (20/ 13) و (25/ 25)، الاعتقاد والهداية للبيهقي (ص 209)،ودراسات في علوم القرآن، أ. د. فهد الرومي (ص 255) وما بعدها.

عن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ما كاد به أعداء الإسلام لهذا الدين الحنيف من تأويلات أدخلوا بها الريب والشكوك على من يستهويهم زخرف القول، ومن شبهات موهوها على ضعفاء العقول، إنجازاً من الله لوعيده في كتابه وتصديقاً لقول نبيه - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ..) الحديث (¬1)، وإبقاءً للحجة على الخلق وحفاظاً لهذا النور وهذه الهداية رحمة بالعباد" (¬2). تكفل الله بحفظ القرآن لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} الحجر: 9، ووكل حفظ الكتب السابقة إلى من أنزلها إليهم، فوقع فيها التحريف والتبديل. وهنا يقرر الشيخ - رحمه الله - ما وقع في الكتب السماوية السابقة، فيقول: "الكتب السماوية السابقة وقع فيها كثير من التحريف والزيادة والنقص كما ذكر الله ذلك، فلا يجوز للمسلم أن يقدم على قراءتها والاطلاع عليها إلاَّ إذا كان من الراسخين في العلم ويريد بيان ما ورد فيها من التحريفات والتضارب بينها" (¬3). يعلق الشيخ - رحمه الله - على قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} القيامة: 19 فيقول: " والذي يظهر لي أن البيان عام لأنه اسم جنس مضاف؛ فالله تكفل لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ القرآن ونشره وإشهاره وتيسير تلاوته، وتكفل بإيضاح متشابهه بمحكمه، والدلالة على المراد بعامه ومطلقه" (¬4). وقد ضمن الله حفظ كتابه بأن لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه (¬5)، ووعده الحق. ومن الأدلة الواضحة على حفظ الله لكتابه، عدد الذين أخذوا القرآن في الأمصار وفي ¬

(¬1) البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين ...) برقم (7311)، ومسلم كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين ...) برقم (1920). (¬2) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (35 - 36). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 433 - 434). (¬4) الإحكام في أصول الأحكام (3/ 40). (¬5) قال تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} فصلت: 42.

الموانع التي تمنع شرعا كتابة المصحف بغير العربية

البوادي وفي الأسفار والحضر، وضبطوه حفظاً من بين صغير وكبير، وعرفوه حتى صار لا يشتبه على أحد منهم حرف، ولو زادوا ونقصوا أو غيروا لظهر (¬1). الموانع التي تمنع شرعاً كتابة المصحف بغير العربية: بين الشيخ - رحمه الله - الموانع التي تمنع شرعاً كتابة المصحف بحروف لاتينية ونحوها وبيان ما فيها من الخطر، فيقول: " أولاً: ثبت أن كتابة المصحف في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي جمعه في عهد أبي بكر وجمعه في عهد عثمان - رضي الله عنهما - كانت بالحروف العربية، بل قصد عثمان - رضي الله عنه - رسما معينا أمر بكتابته به عند اختلاف كتبة المصحف من الأنصار والقرشيين في رسم الحروف، ووافقه على ذلك الصحابة - رضي الله عنهم -، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا، رغم وجود لغات وحروف غير عربية ووجود كتبة مسلمين من غير العرب ووجود من يحتاج إلى تسهيل القراءة من المصحف بحروف غير العربية، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) (¬2)، فكانت المحافظة على كتابة المصحف بالحروف العربية واجبة عملاً بما كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، وسائر الصحابة - رضي الله عنهم - والقرون المشهورة لها بالخير وعملاً بإجماع الأمة. ثانياً: أن الحروف اللاتينية نوع من الحروف المصطلح على الكتابة بها عند أهلها، فهي قابلة للتغير والتبديل بحروف لغة أخرى بل حروف لغات أخرى مرة بعد مرة، فإذا فتح هذا الباب تسهيلا للقراءة فقد يفضي ذلك إلى التغيير كلما تغيرت اللغة، واختلف الاصطلاح في الكتابة لنفس العلة، وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف من بعض والزيادة عليها والنقص منها، ويخشى أن تختلف القراءة تبعاً لذلك ويقع فيها التخليط على مر الأيام والسنين، ويجد عدو الإسلام مدخلاً للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه ¬

(¬1) ينظر: إعجاز القرآن لمحمد بن الطيب الباقلاني (ص 40). (¬2) أخرجه الإمام أحمد برقم (16694)، وأخرجه الترمذي في كتاب العلم باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة برقم (2676) وقال حديث حسن صحيح، وأبو داود كتاب السنة باب في لزوم السنة برقم (4607). وابن ماجة في المقدمة باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين برقم (42)، ونقل الألباني تصحيح هذا الحديث عن الضياء المقدسي في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/ 58)، وصححه الألباني في تحقيقه لكتاب صفة الفتوى والمفتى والمستفتي لابن تيمية (ص 54).

وهذا من جنس البلاء الذي أصيبت به الكتب الإلهية الأولى حينما عبثت بها الأيدي والأفكار وقد جاءت شريعة الإسلام بسد ذرائع الشر والقضاء عليها محافظة على الدين، ومنعاً للشر والفساد. ثالثاً: يخشى إذا رخص في ذلك أو أقر أن يصير كتاب الله- القرآن- ألعوبة بأيدي الناس، كلما عنّ لإنسان فكرة في كتابة القرآن اقترح تطبيقها فيه، فيقترح بعضهم كتابته بالعبرية وآخرون كتابته بالسريانية وهكذا مستندين في ذلك إلى ما استند إليه من كتبه بالحروف اللاتينية من التيسير ورفع الحرج والتوسع في الاطلاع والبلاغ وإقامة الحجة، وفي هذا ما فيه من الخطر العظيم. وقد نصح مالك بن أنس الرشيد (¬1) أو جده المنصور (¬2) ألا يهدم بناء الكعبة الذي أقامه عبد الملك بن مروان (¬3) ليعيدها إلى بنائها الذي بناه عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - على قواعد إبراهيم الخليل - عليه السلام -، خشية أن تصير الكعبة ألعوبة بأيدي الولاة" (¬4). ¬

(¬1) هارون الرشيد أمير المؤمنين ابن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي أبو محمد ويقال أبو جعفر وأمه الخيزران أم ولد كان مولده في شوال سنة ست وقيل سبع وقيل ثمان وأربعين ومائة وقيل إنه ولد سنة خمسين ومائة وبويع له بالخلافة بعد موت أخيه موسى الهادي في ربيع الأول سنة سبعين ومائة بعهد من أبيه المهدي وكان الرشيد أبيض طويلا جميلا. ينظر: البداية والنهاية (10/ 213)، وتاريخ الخلفاء (1/ 283). (¬2) هو المنصور أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وأمه سلامة البريرية أم ولد، ولد سنة خمس وتسعين، دفن في بطن مكة ما بين الحجون وبئر ميمون في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة. ينظر: تاريخ الخلفاء (1/ 259)، وتاريخ الإسلام (9/ 471). (¬3) هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب أبو الوليد، ولد سنة ست وعشرين بويع بعهد من أبيه في خلافة ابن الزبير فلم تصح خلافته وبقي متغلبا على مصر والشام ثم غلب على العراق وما والاها إلى أن قتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين فصحت خلافته من يؤمئذ واستوثق له الأمر ففي هذا العام هدم الحجاج الكعبة وأعادها على ما هي عليه الآن، وفي سنة ست وثمانين فتح حصن بولق وحصن الأخرم وفيها كان طاعون الفتيات وسمى بذلك لأنه بدأ في النساء، وفيها مات الخليفة عبد الملك في شوال وخلف سبعة عشر ولدا. ينظر: تاريخ الخلفاء (1/ 214) و (1/ 215)،البداية والنهاية (9/ 61). (¬4) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 106).

والعلماء رحمهم الله حظروا كتابة القرآن بحروف غير عربية، وعلى هذا يجب عند ترجمة القرآن بهذا المعنى إلى أية لغة أن تكتب الآيات القرآنية إذا كتبت بالحروف العربية، كيلا يقع إخلال وتحريف في لفظه؛ فيتبعها تغير وفساد في معناه (¬1). سئلت لجنة الفتوى في الأزهر (¬2) عن كتابة القرآن بالحروف اللاتينية، فأجابت بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله، بقولهم: "لا شك أن الحروف اللاتينية المعروفة خالية من عدة حروف توافق العربية، فلا تؤدي جميع ما تؤديه الحروف العربية فلو كتب القرآن الكريم بها على طريقة النظم العربي - كما يفهم من الاستفتاء- لوقع الإخلال والتحريف في لفظه، ويتبعهما تغير المعنى وفساده، وقد قضت نصوص الشريعة بأن يصان القرآن الكريم من كل ما يعرضه للتبديل والتحريف، وأجمع علماء الإسلام سلفاً وخلفاً على أن كل تصرف في القرآن يؤدي إلى تحريف في لفظه أو تغيير في معناه ممنوع منعاً باتاً، ومحرم تحريماً قاطعاً، وقد التزم الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم إلى يومنا هذا كتابة القرآن بالحروف العربية" (¬3). لأن الترجمة للقرآن الكريم بهذا المفهوم مستحيلة, وذلك لاعتبارات متعددة منها: طبيعة القرآن, ورسمه, وإعجازه, وأسلوبه, ومعانيه, ومبانيه, وبلاغته, وفصاحته, وقراءته، وتجويده, وغير ذلك. ¬

(¬1) مناهل العرفان للزرقاني (2/ 31) وما بعدها، وينظر للاستزادة: ترجمة القرآن الكريم وأثرها في معانيه للدكتور نجدت رمضان، ترجمة القرآن وكيف ندعوا غير العرب إلى الإسلام لعبد الوكيل الدروبي، ترجمة القرآن وما فيها من المفاسد ومنافاة الإسلام لمحمد رشيد رضا، دراسة حول ترجمة القرآن الكريم، د. أحمد إبراهيم مهنا، ترجمات معاني القرآن الكريم وتطور فهمه عند الغرب د. عبد الله عباس الندوي. (¬2) جامعة الأزهر هي من أكبر الجامعات في العالم أنشأت بعد جامعة القرويين. وتوجد في القاهرة بمصر. وكان نشأتها في أول عهد الدولة الباطنية العبيدية بمصر جامعاً باسم (جامع القاهرة، الذي سمى الأزهر فيما بعد) حيث أرسى حجر أساسه في الرابع والعشرين من جمادى الأولى 359 هـ/970 م، وصلى فيه الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ثاني خلفاء الدولة الفاطمية صلاة الجمعة الأولى من شهر رمضان سنة 361 هـ /972 م، إيذانا باعتماده الجامع الرسمي للدولة الجديدة، ومقراً لنشر الدين والعلم في حلقات الدروس التي انتظمت فيه, إلى جانب دراسة علوم أخرى في الدين واللغة والقراءات والمنطق والفلك. ينظر: الأزهر في ألف عام للدكتور محمد عبد المنعم خفاجى. (¬3) ينظر: مجلة الأزهر (7/ 45).

جواز تفسير القرآن الكريم بغير العربية

تكاد كلمة الأئمة والفقهاء ومجتهدي المذاهب تتفق على حظر ترجمة القرآن الكريم، وسواء أكانت هذه الترجمة في الصلاة أو في غير الصلاة (¬1)، لولا الخلاف والاضطراب فيما نقل عن الإمام أبي حنيفة وصاحبيه من جواز قراءة القرآن بالفارسية في خصوص الصلاة للعاجز عن القراءة بالعربية (¬2)، ولكن اتفق الحنفية جميعًا في كتاباتهم على أن أبا حنيفة رجع عن رأيه ولا يخفى أن المجتهد إذا رجع عن قوله لا يعد ذلك المرجوع عنه قولاً له. جواز تفسير القرآن الكريم بغير العربية: بين الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - جواز تفسير القرآن الكريم بغير العربية، فيقول: "آيات القرآن وإن لم يفهمها العجم، ومن في حكمهم من النصوص مباشرة، يمكن أن يفهموهما بتفسيرها لهم بلغتهم، وإذن لا يكون العيب فيها ولكن في تصورها" (¬3). إن عالمية الإسلام, وانتشاره يحتم ترجمة (¬4) تفسير للقرآن الكريم إلى شتى لغات العالم, لئلا يحرم من ثمراته وفوائده أي مسلم على وجه البسيطة. ¬

(¬1) ينظر: الشافعية: المجموع للنووي (3/ 379)، المالكية: حاشية الدسوقي على شرح الدردير (1/ 232 - 236)، الحنابلة: المعني لابن قدامة (1/ 526)، الحنفية: اختلفت نقول الحنفية في هذا المقام، واضطرب النقل بنوع خاص عن الإمام. (¬2) قال أحد علماء الأحناف في مجلة الأزهر (3/ 32، 33، 66، 67): " أجمع الأئمة على أنه لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية خارج الصلاة، ويمنع فاعل ذلك أشد المنع، لأن قراءته بغيرها من قبيل التصرف في قراءة القرآن بما يخرجه عن إعجازه، بل بما يوجب الركاكة؛ وأما القراءة في الصلاة بغير العربية فتحرم إجماعاً للمعنى المتقدم لكن لو فرض وقرأ المصلي بغير العربية، أتصح صلاته أم تفسد؟ ذكر الحنفية في كتبهم أن الإمام أبا حنيفة كان يقول أولاً: إذا قرآ المصلي بغير العربية مع قدرته عليها اكتفى بتلك القراءة، ثم رجع عن ذلك وقال: "متى كان قادراً على العربية ففرضه قراءة النظم العربي، ولو قرآ بغيرها فسدت صلاته لخلوها من القراءة مع قدرته عليها، والإتيان بما هو من جنس كلام الناس حيث لم يكن المقروء قرآنا". ورواية رجوع الإمام هذه تعزى إلى أقطاب في المذهب، منهم نوح ابن مريم، وهو من أصحاب أبي حنيفة، ومنهم علي بن الجعد، وهو من أصحاب أبي يوسف ومنهم أبو بكر الرازي، وهو شيخ علماء الحنفية في عصره بالقرن الرابع ... ". (¬3) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 225). (¬4) الترجمة التفسيرية: هي التي تهتم بشرح وتوضح لمعاني القرآن بلغة غير لغته، أي بلغة أعجمية لا عربية. والقرآن الكريم مليء بالمعاني والأسرار الجلية والخفية، إلى درجة تعجز المخلوق عن الإحاطة بها، فضلاً عن محاكاتها، بلغة عربية أو غير عربية، أما التفسير فمعانيه محدودة، لأن قدرة صاحبه محدودة، مهما حلّق في سماء البلاغة والبيان والعلم والمعرفة. فيحسن أن تسمى مثل هذه الترجمة «ترجمة تفسير القرآن» «أو» تفسير القرآن باللغة الفرنسية مثلاً, أو الإنكليزية وهكذا، ولا يجوز أيضًا أن تسمى «ترجمة معاني القرآن» لأن الترجمة لا تضاف إلا إلى الألفاظ، ولأن هذه الترجمة توهم أنها ترجمة للقرآن نفسه. ينظر: مجلة المعرفة العدد (162) ضوابط وفوائد ترجمة القرآن الكريم للدكتور محمد محمود كالو.

وتعدُّ الترجمة وسيلة من وسائل الدعوة, ومظهراً من مظاهر حوار الحضارات, قديماً وحديثاً ومستقبلاً. خاصة وأن ترجمة تفسير القرآن الكريم لها فوائد عظيمة منها: تبليغ معاني القرآن الكريم بتفسيره للأمة الإسلامية جمعاء, كل أمة بلسانها, ودفع الشبهات والأباطيل التي ألصقها أعداء الإسلام بالقرآن الكريم وتفسيره, وكشف النقاب عن جمال القرآن الكريم ومحاسنه, وإحياء لغة العرب, وتعريب الأعاجم. ولا ريب في أن تفسير القرآن بلسان أعجمي لمن لا يحسن العربية، يجري في حكمه مجرى تفسيره بلسان عربي لمن يحسن العربية. فكلاهما عرض لما يفهمه المفسر من كتاب الله بلغة يفهمها مخاطبه، لا عرض لترجمة القرآن نفسه، وكلاهما لما يستطاع من المعاني والمقاصد، لا حكاية لجميع المقاصد. وتفسير القرآن الكريم يكفي في تحققه أن يكون بياناً لمراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية ولو جاء على احتمال واحد؛ لأن التفسير في اللغة هو الإيضاح والبيان، وهما يتحققان ببيان المعنى ولو من وجه ولأن التفسير في الاصطلاح علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله بقدر الطاقة البشرية وهذا يتحقق أيضاً بعرض معنى واحد من جملة معان يحتملها التنزيل. وإذا كان تفسير القرآن بياناً لمراد الله بقدر الطاقة البشرية، فهذا البيان يستوي فيه ما كان بلغة العرب وما ليس بلغة العرب، لأن كلاً منهما مقدور للبشر، وكلاً منهما يحتاجه البشر، بيد أنه لابد من أمرين: أن يستوفي هذا النوع شروط التفسير باعتبار أنه تفسير، وأن يستوفي شروط الترجمة باعتبار أنه نقل لما يمكن من معاني اللفظ العربي بلغة غير عربية (¬1). ¬

(¬1) ينظر: مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 30).

الرد على بعض الاستدلالات على إعجاز القرآن

الرد على بعض الاستدلالات على إعجاز القرآن (¬1): ¬

(¬1) تعريف الإعجاز: الإعجاز مشتق من العجز: الضعف أو عدم القدرة. والإعجاز مصدر أعجز: وهو بمعنى الفوت والسبق. والمعجزة في اصطلاح العلماء: أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم من المعارضة. وإعجاز القرآن يقصد به: إعجاز القرآن الناس أن يأتوا بمثله -أي نسبة العجز إلى الناس بسبب عدم قدرتهم على الإتيان بمثله-. تعريف العلم: وصف الإعجاز هنا بأنه علمي نسبة إلى العلم. والعلم: هو إدراك الأشياء على حقائقها، أو هو صفة ينكشف بها المطلوب انكشافاً تاماً. والمقصود بالعلم في هذا المقام: العلم التجريبي. وعليه فيعرف الإعجاز العلمي بما يلي: هو إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ينظر: تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة تأليف الشيخ عبد المجيد الزنداني، أ. د. سعد يلدرم، الشيخ محمد الأمين ولد محمد (ص 17 - 18)، لسان العرب مادة عجز (5/ 370)، والمفردات للراغب الأصفهاني (ص 322، 343)، وإرشاد الفحول للشوكاني (ص 4).

أ- مسألة دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس

أ- يرد الشيخ - رحمه الله - على رشاد خليفة (¬1) في الاستدلال على مسألة: دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، فيقول: " إن قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} النمل: 88، دليل على دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس وجعل إثبات ذلك بالقرآن معجزة خالدة، وهذا خطأ بل تحريف للقرآن عن مواضعه وتفسير له بغير ما قصد منه ودل عليه وسياق الكلام، فإن الآية نزلت بيانا لأهوال يوم القيامة عند النفخ في الصور، بدليل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)} النمل: 87، ثم قال بعدها: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ...}، ونظير ذلك قوله تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)} الواقعة: 4 - 6، فتفسيرها بدوران الأرض لتكون معجزة مخالف لسياق الكلام وخروج بها عن نظائرها من آيات القرآن الواردة في نفس الموضوع بل مخالف لظاهر الآية نفسها فإن الدوران لا يقابل الجمود بل الذي يقابل جمود الجبال وجعلها رواسي ¬

(¬1) هو: رشاد خليفة مصريّ، ولد في مدينة كفر الزيات بمحافظة الغربية بجمهورية مصر العربية، هاجر إلى الولايات المتحدة للدراسة في (1959 م) وتخصّص في مجال الكيمياء الحيوية وحصل على الجنسية الأمريكية في ما بعد ليصبح مواطناً أمريكياً، عمل خبيراً لدى اليونسكو. استخرج رشاد علاقة مزعومة بين الرقم 19 والقران الكريم بشكل عام، وكلماته وحروفه بشكل خاص، وقام بتأليف العديد من الكتب فيما يتعلق بالرقم 19 والقرآن الكريم، ثمّ جعله في كتاب بعنوان: (معجزة القرآن الكريم)، وكانت الطبعة الأولى عام 1983 م. أسّس جمعية "المسلمون المتّحدون الدولية" والتي تدعو إلى الإسلام بالله وحده لا شريك له، وتنبذ العمل بالسنة وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ادعى أنه الرسول المصدق المذكور في آل عمران: 81: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)}، وطرح مفهوما بديلا للمفهوم الإسلامي القائل إن محمد هو آخر المرسلين، فقال أن النبي هو نوع خاص من الرسل يبلغ كتاب يحوى نبوءات، أما الرسول فقط فيبين للناس النبوءات التي يحويها كتابهم الموجود بالفعل، وعلى ذلك فمحمد هو خاتم الأنبياء لأن القرآن هو آخر كتاب من الله. وفي 31 يناير (1990 م)، مات رشاد خليفة مطعونا في مسجد توسان من ولاية أريزونا والاعتقاد الشائع أن الفاعل هو جماعة "الفقراء" الباكستانيّة وقيل غيرهم. ينظر: رشاد خليفة على موقع http://ar.wikipedia.org.

للأرض كونها هباء منبثا كالعهن المنفوش تطيرها الرياح فتمر مر السحاب بعد أن كانت أحجارا صلبة متماسكة مستقره على الأرض أوتادا لها. فكيف يجعل الخطأ في بيان المراد من الآية معجزة يثبت بها أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول الله، وأن القرآن تَنَزل من رب العالمين" (¬1). هناك قاعدة عظيمة لأهل العلم وهي: أن قطعي الوحي وقطعي العقل لا يتعارضان، فقطعي العقل يؤيد قطعي الوحي، ولذا ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) في أحد عشر مجلداً، فإن حدث تعارض بين العقل والنقل فالقطعي منهما يقضي على الظني، وإن حدث تعارض بين ظني الوحي وظني العقل فظني الوحي مقدم، حتى يثبت العقلي أو ينهار. ودوران الأرض من الأمور التي لم يرد فيها نفي ولا إثبات لا في الكتاب ولا في السنة. ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 79).

وأسوق الأقوال في هذه المسألة: القول الأول: أن الشمس هي التي تدور على الأرض. ووجه الدلالة أن إبراهيم - عليه السلام -، قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} البقرة: 258؛ إذاً الله أتى بها من المشرق؛ وهم يقولون: إن الله لم يأت بها من المشرق؛ ولكن الأرض بدورتها اطلعت عليها. والله سبحانه وتعالى لم يقل: إن الله يدير الأرض حتى تُرى الشمس من المشرق؛ فأدرها حتى تُرى من المغرب! ويجب علينا أن نأخذ في هذا الأمر بظاهر القرآن، وألا نلتفت لقول أحد مخالف لظاهر القرآن؛ لأننا متعبدون بما يدل عليه القرآن؛ هذا من جهة؛ ولأن الذي أنزل القرآن أعلم بما خلق قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} الملك: 14؛ فإذا كان يقول في كلامه إن الشمس: «تأتي»، و «تطلع»، و «تغرب»، و «تزول»، و «تتوارى»؛ كل هذه الأفعال يضيفها إلى الشمس؛ لماذا نحن نجعلها على العكس من ذلك، ونضيفها إلى الأرض!!! وعلى هذا نقول: إنَّ الشمس هي التي بدورانها يكون الليل والنهار، لأن الله أضاف الأفعال إليها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حينما غربت الشمس قال لأبي ذر - رضي الله عنه -: (أتدري أين تذهب؟) (¬1) فأسند الذَّهاب إليها، ونحن نعلم علم اليقين أن الله تعالى أعلم بخلقه ولا نقبل حدْساً ولا ظناً، ولكن لو تيقنا يقيناً أن الشمس ثابتة في مكانها وأن الأرض تدور حولها، ويكون الليل والنهار، فحينئذ تأويل الآيات واجب حتى لا يخالف القرآن الشيء المقطوع به. ومن الآيات الدالة على هذا المعنى قول الله تبارك وتعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} النمل: 88. بعض الناس قال إنَّ هذه الآية تعني دوران الأرض، فإنك ترى الجبال فتظنها ثابتة ولكنها تسير، وهذا غلط وقول على الله تعالى بلا علم لأن سياق الآية يأبى ذلك كما قال تعالى: ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في طلوع الشمس من مغربها برقم (2186)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (5/ 186) برقم (2186).

{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)} النمل: 87 - 89. فالآية واضحة أنها يوم القيامة، وأما من زعم بأن يوم القيامة تكون الأمور حقائق وهنا يقول: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} فلا حسبان في الآخرة، فهذا غلط أيضاً لأنه إذا كان الله أثبت هذا فيجب أن نؤمن به ولا نحرفه بعقولنا، ثم إن الله يقول: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} الحج: 2، فإذا قلنا إن زلزلة الساعة هي قيامها، فقد بيَّن الله أن الناس يراهم الرائي فيظنهم سكارى وما هم بسكارى، وعلى كل حال فإن الواجب علينا جميعاً أن نجري الآيات على ظاهرها وأن نعرف السياق لأنه يعين المعنى، فكم من جملة في سياق يكون لها معنى ولو كانت في غير هذا السياق، لكان لها معنى آخر، ولكنها في هذا السياق يكون لها المعنى المناسب لهذا السياق (¬1). ¬

(¬1) ينظر مراجع القول الأول: مفتاح دار السعادة لابن القيم (2/ 55)، فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ (13/ 97)، تفسير القرآن للعثيمين تفسير سورة الكهف (6/ 23) و (6/ 64)، لقاءات الباب المفتوح هي عبارة عن سلسلة لقاءات كان يعقدها فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - طيب الله ثراه - بمنزله كل خميس. ابتدأ الشيخ هذه اللقاءات في أواخر شوال تقريباً في العام (1412 هـ) وانتهت هذه السلسلة في الخميس الرابع عشر من شهر صفر، عام (1421 هـ). وهي مسجلة قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية (97/ 21).

القول الثاني: أن الأرض هي التي تدور حول نفسها وحول الشمس. ومن أدلة هذا القول، قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)} النمل: 88، ووجه الاستدلال في هذه الآية الكريمة، أنه تعالى عرضها في مساق التذكير والتنبيه على قدرته الباهرة في هذا الكون. فإن الخطاب للبشر هنا في الدنيا، لأن الآية وردت بصيغة الخطاب: قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ ...} الآية، بنصب الجبال بالبناء للمعلوم، فهو تعالى يخاطب البشر، يخاطب كل ناظرٍ وكل عاقل، يرى بعينيه شيئاً يدعوه إلى التفكر والتأمل. وقد يقول قائل: إن الآية وردت في سياق حديث الآخرة، وليست حكاية عن أحوال الدنيا؟ فيجاب بأن هذا القول بعيد، للأسباب التالية: أولاً: اختلاف الصيغة عن سابقاتها في التعبير، فهناك قال سبحانه: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} النمل: 87، بالبناء للمجهول، وهنا وردت العبارة بلفظ الخطاب، ولو كان الحديث عن الآخرة لجاء التعبير (وتُرى الجبالُ) بالبناء للمجهول، على النسق السابق، أي تُرى في ذلك اليوم الجبالُ، برفع الجبال لا بنصبها، لأنه يصبح خبراً لا خطاباً، فهذه المغايرة تدل على أن الأمر هنا في الدنيا. ثانياً: لفت القرآن أنظار المتأملين في آياته البينات، لفتة بديعة رائعة في قوله سبحانه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} النمل: 88،فبين أن هذه الغرائب المدهشة في الدنيا هي أثر صنع الله وتدبيره لهذا الكون، والخراب والدمار لا يسمى صنعاً، ولا يدخل في حيز الإتقان، فعند قيام الساعة تتزلزل الجبال وتتطاير، ومثلُ هذا لا يقال له: صنعٌ، ولا يوصف بالإتقان. ثالثاً: أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق أن الناس يحشرون يوم القيامة على أرض بيضاء مستوية كما في الصحيحين: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء، عفراء، كقُرصة النَقِيِّ، ليس فيها عَلَمٌ لأحدٍ) (¬1)،أي مثل قرص الخبز الأبيض، الخالص البياض، فأين هي ¬

(¬1) متفق عليه من حديث سهل بن سعد الساعدي، أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة، برقم (6521)، ومسلم، في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة، برقم (2790).

الجبال حتى ينظر الناس إليها يوم القيامة؟ فهذا نص قاطع على أنه ليس في الآخرة جبال ولا وهاد، ولا قصور ولا بناء. ومن الآيات الدالة أيضاً قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} الأنبياء: 33، فقد أشارت الآية الكريمة، إشارة دقيقة لطيفة، إلى حركة الأرض ودورانها، للمتمعن في النص القرآني المعجز. ووجه الاستدلال بالآية الكريمة من طريقين: الأول: إطلاق الظرف الزماني وإرادة المظروف، فإن كلا من الليل والنهار ظرف زمان، ولا بد لهما من مكان، والمكان الذي يظهر فيه نور الليل والنهار هو الأرض؛ وإطلاق ظرف الزمان، وإرادة المحل والمكان، معروف في اللغة ومشهور، كإطلاق الصفة وإرادة الموصوف، والقرآن نزل بلغة العرب، وبالأساليب التي يتخاطبون بها. الثاني: إن الله تعالى عبر عن هذه الأفلاك بصيغة الجمع فقال: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} الأنبياء: 33، ولو كان الكلام عن الشمس والقمر فحسب، لذكرهما بلفظ التثنية، فقال: (يسبحان) فدل على أن الليل والنهار يسبحان أيضاً، ولما كان المراد بالليل والنهار الأرض فإن المعنى يصبح: إن الله خلق الأرض، والشمس، والقمر، كل من هذه الثلاثة، يسبح في ملكوت الله الواسع، ويكون في ذلك إشارة دقيقة، ولفتة عجيبة بارعة، على دوران الأرض وحركتها (¬1). ومعنى قوله تعالى: {يَسْبَحُونَ (33)} الأنبياء: 33: أي يدورون كما نقله الحافظ ابن كثير عن ابن عباس قال: يدورون كما يدور الغزل في الفلكة، وكذا قال مجاهد (¬2): فلا يدور المغزل ¬

(¬1) ينظر لما سبق: حركة الأرض ودورانها حقيقة علمية أثبتها القرآن لمحمد الصابوني (25 - 52)، ومعجزة القرآن (1/ 50) و (1/ 51). (¬2) هو: مجاهد بن جبر المكي الأسود، أبو الحجاج، إمام حافظ مفسر، من أئمة التابعين، أخذ التفسير عن ابن عباس، توفي سنة (102 هـ). ينظر: طبقات ابن سعد (5/ 466)، سير أعلام النبلاء (4/ 449)، حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (3/ 279).

إلا بالفلكة، ولا الفلكة إلا بالمغزل، كذلك النجوم والشمس والقمر، لا يدورون إلا به، ولا يدور إلا بهن، كما قال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)} الأنعام: 96 (¬1). ونستطيع أن نقول: 1 - أن العلم والقرآن لا يمكن -عقلا- أن يتعارضا؛ وذلك لأن مصدرهما واحد وغايتهما واحدة، فمصدرهما هو الله سبحانه وتعالى، فالله هو الذي خلق هذا الكون وما فيه من معارف وعلوم، وهو الذي شرع هذا الدين وما فيه من أخبار وأحكام، وما كان من الله فإنه لا يتناقض. 2 - السبب في عدم قول العلماء -ومنهم الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - بدوران الأرض هو عدم صحة الدليل النقلي عندهم في ذلك بالإضافة إلى ظنهم أن إثبات دوران الأرض مجرد نظريات قابلة للنقض. ولا شك أن دوران الأرض حول نفسها ثم حول المجموعة الشمسية بأكملها وحول المجرة أصبح حقيقة علمية ثابتة. 3 - والعلماء يقولون (¬2) إذا ثبت لدينا بالدليل القاطع أن اختلاف الليل والنهار بسبب دوران الأرض فليس في القرآن ما ينفي ذلك. 4 - لقد أصبح دوران الأرض حقيقة علمية مقطوعاً بها (¬3)، مشاهدة بالصور التي بثتها الأقمار الصناعية، ولم تعد نظرية تحتمل النقاش والجدل .. رآها رواد الفضاء وهم في ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (5/ 341). (¬2) يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله -في الشريط الأول الوجه الثاني من دروس المسجد النبوي - إجابة عن سؤال كيفية الجمع بين قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} النمل: 61، وما ثبت علمياً من دوران الأرض: أنا شخصيا لا أستطيع أن أنفي ولا أثبت ولا يتبين لي في القرآن ما يثبته أو ينفيه ونجعل هذه موكولة إلى الأمر الذي يحددها من الناحية الحسية الواقعية، وإذا ثبت حساً ثبوت لا شك فيه أنها تدور فليس في القرآن ما ينافي ذلك. انتهى كلام الشيخ رحمه الله. وينظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (1/ 70)، تفسير القرآن -سورة الكهف- لابن عثيمين (6/ 23)، وفتاوى نور على الدرب فتاوى تفسير (2/ 33) وهي موجودة في موقع الشيخ رحمه الله. (¬3) ينظر: التحرير والتنوير (2/ 78) (19/ 45)، في ظلال القرآن لسيد قطب (6/ 268).

ب- مسألة الاستدلال على أن نور القمر مستفاد من الشمس

مركبتهم الفضائية تسبح في هذا الكون الرحب الفسيح، تشرق عليهم وتغرب شأنها كشأن سائر الكواكب، فصوروها حالة الإشراق وحال المغيب، ولا يمكن للعاقل أن يكذب ما يراه بالبصر، لأن إنكار المحسوسات ضرب من الخَبَل؛ وما ظاهرة الخسوف والكسوف، وظاهرة الليل والنهار، وتعاقب الفصول الأربعة، إلا دليل واضح على دوران الأرض. ب- يرد الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - كذلك على رشاد خليفة: في استدلاله على أن نور القمر مستفاد من الشمس، فيقول: " إن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ...} يونس: 5، وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)} الفرقان: 61،دليل على أن نور القمر مستفاد من نور الشمس، وذلك دليل على إعجاز القرآن وهذا استنباط باطل، فإنه ليس في الآيتين دليل على ذلك ولا فهم العرب منهما هذه النظرية العلمية وهم أهل العربية وأعرف باللغة التي بها نزل القرآن. وإعجاز القرآن لا يحتاج في إثباته إلى ما ذكر المحاضر وكون نور القمر مستفاداً من نور الشمس لا يتوقف ثبوته على القرآن، بل عرف من طريق آخر كحادث خسوف القمر المتكرر على مر الزمان ومعرفة ذلك في متناول البشر ... فيعرف من له دراية بعلم الفلك، فكيف يجعل ذلك دليلاً تثبت به الرسالة وإعجاز القرآن" (¬1). "إن كثراً ممن كتب في الإعجاز العلمي ليس ممن له قدم في العلم الشرعي فضلاً عن علم التفسير، وكان من أخطار ذلك أن جُعلت الأبحاث في العلوم التجريبية أصلاً يُحتكمون إليه، كما وقع لغيرهم من الطوائف المنحرفة. والذي يدل على وقوع الانحراف في هذا الاتجاه الحرص الزائد على إثبات حديث القرآن عن كثير من القضايا التي ناقشها الباحثون التجريبيون ... وإن كتاب الله أعلى وأجل من أن يجعل عرضة لهذه العقول التي لم تتأصل في علم التفسير، فأين هم من قول القائل: "اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله"؟ ... ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 79).

وإن إشارة القرآن إلى بعض هذه المسائل المرتبطة بالعلوم التجريبية لم يكن هو المقصد الأول، ولم ينزل القرآن من أجلها، وإذا وازنت بين المعلومات العقدية والشرعية، ظهر لك أن المعلومات العقدية الشرعية -أي: كيف يعرفون ربهم، وكيف يعبدونه- هي الأصل المراد بإنزال القرآن، وهي التي تكفل الله ببيانها للناس، أما المعلومات الدنيوية بما فيها العلوم التجريبية فهي موكولة للناس، وإن جاءت فإنها تجيء مرتبطة بالدلالة على حكم عقدي أو شرعي، فهي جاءت تبعاً وليس أصالةً؛ أي أن القرآن لم يقصد أن يذكرها على أنها حقيقة علمية مجردة، بل ليستدل بها مثلاً: على توحيد الله وأحقيته للعبادة، أو على حكم تشريعي، أو على إثبات اليوم الآخر" (¬1). وقد تكون بعض القضايا العلمية صحيحة في ذاتها، لكن الخطأ يقع في كون الآية تدل عليه، وتفسر بها، كما في هذه المسألة فحقيقة أن نور القمر مستفاد من نور الشمس حقيقة علمية ثابتة (¬2)، إلا أن الاستدلال عليها بهذه الآيتين، فيه نوع من تفسيرهما بغير المراد منهما، والله أعلم. ¬

(¬1) مقالات في علم القرآن وأصول التفسير لمساعد الطيار (52، 63). (¬2) ينظر: فتح القدير (2/ 615)، التحرير والتنوير (1/ 4833)، روح المعاني (6/ 198) و (10/ 388).

المبحث الثالث: جهوده في تقرير الإيمان بالرسل

المبحث الثالث جهوده في تقرير الإيمان بالرسل. تمهيد في تعريف النبي والفرق بينه وبين الرسول والحكمة من إرسال الرسل. يعرف الشيخ - رحمه الله - النبيّ فيقول: "النبيّ: مشتق من النبأ، بمعنى: الخبر، فإن كان المراد أنه يخبر أمته بما أوْحى الله إليه، فهو فعيل، بمعنى: فاعل، وإن كان المراد أن الله يخبره بما يوحي إليه، فهو فعيل، بمعنى: مفعول، ويصحّ أن يكون مأخوذاً من النَّبء (بالهمزة وسكون الباء)، أو النبوة، أو النباوة (بالواو)، وكلها بمعنى: الارتفاع والظهور، وذلك لرفعة قدر النبي، وظهور شأنه، وعلوّ منزلته" (¬1). النبي لغة: مأخوذ من (النبأ) بمعنى الخبر، أو (النَّبَاوَة) أو (النَّبْوَة) بمعنى العلو والرفعة (¬2). والربط بين النبي والمعنى اللغوي واضح ذلك أن النبي ذو رفعة وقدر عظيم في الدنيا والآخرة، فالأنبياء كما هو معلوم أشرف خلق الله وهم الأعلام التي يهتدي بها العباد فيما يكون فيه صلاح دينهم ودنياهم (¬3). والرسول لغة: مأخوذ من (الإرسال) بمعنى البعث والتوجيه، يقال، أرسلت فلاناً في رسالة: أي بعثته، فهو مرسل ورسول؛ ويجمع الرسول على أرْسُل، ورُسُل ورُسْل، ورُسَلاَءَ، وسُمُّوا الرُّسُل بذلك لأنهم مبعوثون وموجهون من قبل الله - عز وجل -، لتبليغ الخلق أمر الله ووحْيه (¬4). ¬

(¬1) مذكرة التوحيد (ص 45). (¬2) ينظر: تهذيب اللغة (4/ 3489)، معجم مقاييس اللغة (ص 1009)، الصحاح (1/ 74)، لسان العرب (1/ 162)، القاموس المحيط (ص 1722). (¬3) ينظر: المصباح المنير للفيومي (2/ 591). (¬4) ينظر: تهذيب اللغة (2/ 1407)، معجم مقاييس اللغة (ص 402)، الصحاح (4/ 1708)، لسان العرب (11/ 283)، القاموس المحيط (ص 1300).

ويعرف الشيخ - رحمه الله - الوحي بقوله: "الوحي لغة: الإعلام في خفاء بإشارة، أو كتابة، أو إلهام، أو مناجاة، أو نحو ذلك. وشرعاً: هو إعلام الله نبيه بحكم شرعي، ونحوه، بواسطة، أو بغير واسطة" (¬1). ووحي التشريع من خصائص الأنبياء والرسل، قال - رحمه الله -: " لا نعلم أن الله أوحى إلى أحد غير الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وحي تشريع؛ أما وحي الإلهام فقد أوحى الله إلى أم موسى وإلى النحل، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} القصص: 7، قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)} النحل: 68" (¬2). الوحي الكِتاب وجمعه وحِيٌّ. وهو أيضاً الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفيِّ وكل ما ألقَيْتَه إلى غيرك يقال وَحَى إليه الكلام يحِيهِ وحياً وأَوْحَى أيضاً وهو أَن يكلّمه بكلام يخفيه. ووَحَى وأَوْحَى أيضاً أي كتَبَ. وأَوْحَى اللهُ إلى أنبيائه. وأَوْحَى أشار قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا} مريم: 11 (¬3). ¬

(¬1) مذكرة التوحيد (ص 46). (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 276). (¬3) مختار الصحاح (1/ 337)، وينظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (10/ 285)، ولسان العرب (15/ 379)، والقاموس المحيط (1/ 1729)، تفسير القرطبي (16/ 53)، فتح القدير (6/ 392)، تفسير الرازي (4/ 69)، تفسير اللباب لابن عادل (14/ 106)، النكت والعيون للماوردي (4/ 78)، تفسير الخازن (5/ 370)، مختصر تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل لعبدالله الزيد (7/ 70)، مجموع فتاوى ابن تيمية (التفسير) (1/ 113، 121،152،235) و (6/ 9).

أنواع الوحي بالمعنى اللغوي

أما أنواع الوحي بالمعنى اللغوي (¬1): 1 - إلهام الخواطر أو الإلهام الفطري للإنسان وهو ما يلقيه الله في روع الإنسان السليم الفطرة، الطاهر الروح، كالوحي إلى أم موسى، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} القصص: 7. ومنه الوحي إلى الحواريين، قال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)} المائدة: 111. 2 - الإلهام الغريزي للحيوان، كالوحي إلى النحل، قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)} النحل: 68. 3 - الأمر الكوني للجمادات، {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} الزلزلة: 1 - 5، وقال تعالى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} فصلت: 12. 4 - ما يلقيه الله إلى الملائكة من أمر ليفعلوه، {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} الأنفال: 12، وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} النجم: 10، فالإيحاء الأول من الله سبحانه إلى جبريل - عليه السلام - والثاني من جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) ينظر: الوحي المحمدي لمحمد رشيد رضا (37 - 38)، والقرآن الكريم تاريخه وعلومه لمحمد البدري (ص 50)، ومباحث في علوم القرآن للقطان (32 - 33)، ودراسات في علوم القرآن للرومي (174 - 175).

أنواع الوحي بالمعنى الشرعي

5 - الإشارة السريعة بجارحة من الجوارح كإيحاء زكريا - عليه السلام - إلى قومه {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)} مريم: 11. 6 - وسوسة الشيطان، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} الأنعام: 121، و {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} الأنعام:112. وأما أنواع الوحي بالمعنى الشرعي (¬1)، فهي: 1 - أن يأتي الملك الرسول كصلصة جرس في شدة الصوت، وهو أشده على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد جاءه مرة وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقل على زيد حتى كاد يرض فخذه (¬2)، وهذا النوع من أشهر الأنواع وأكثرها، ووحي القرآن كله من هذا القبيل ولم ينزل شيء من القرآن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغير هذا النوع، ويدل على هذا قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} الشعراء: 192 - 195، وقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)} النحل: 102. 2 - أن يتمثل له الملك رجلاً فيكلمه (¬3)، وهو أخف عليه. 3 - الرؤيا المنامية (¬4)، وهو أول مراتب الوحي كما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها -: (أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة - وعند مسلم ¬

(¬1) ينظر: مدارج السالكين (1/ 44 - 49)، ودراسات في علوم القرآن للرومي (177 - 180). (¬2) ينظر: البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة برقم (3215) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، باب بيان الإسلام والإيمان والإحسان برقم (8). (¬4) ينظر: تعليق الشيخ عبد الرزاق على الإحكام في أصول الأحكام (3/ 158).

الصادقة- في النوم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ... الحديث) (¬1)، ووقع الوحي لإبراهيم - عليه السلام - في المنام كما جاء عنه في القرآن قوله: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)} الصافات: 102 - 105. 4 - الإلقاء في القلب أو الإلهام أو النفث، ومنه حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن روح القدس نفث في روعي (¬2) أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها، ألا فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب) (¬3). 5 - أن يأتيه الملك على صورته الحقيقية. كما أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - على صورته الحقيقية (¬4). 6 - أن يكلمه الله سبحانه، كما كلمه في ليلة الإسراء والمعراج، وهو أسمى درجاته. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في المقدمة باب بدء الوحي برقم (4)، ومسلم في كتاب الإيمان باب بدء الوحي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - برقم (160). (¬2) الرُّوع بضم الراء القلب والخَلَد والخاطر وهو المراد هنا وبالفتح الخوف والفزع. ينظر: مختار الصحاح (1/ 110)، ولسان العرب (8/ 137). (¬3) أخرجه القضاعي في مسنده الشهاب (1151 - 1152)، والبغوي في شرح السنة (14/ 304)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 284)، والخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح (3/ 1458)، قال ابن حجر - رحمه الله - في فتح الباري (1/ 27): (وحديث أن روح القدس نفث في روعي أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود) وصححه الألباني في تخريجه لأحاديث مشكلة الفقر (ص 19). (¬4) ينظر: صحيح البخاري، في كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة برقم (2334)،ومسلم، كتاب الإيمان باب في ذكر سدرة المنتهى برقم (174).

الفرق بين النبي والرسول

قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} الشورى: 51، ومنه تكليم الله لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في المعراج حيث قال: (فأوحى الله إلي ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة) (¬1). والوحي بجميع أنواعه بالمعنى الشرعي يصحبه علم يقيني ضروري من النبي بأن ما ألقي إليه حق من عند الله ليس من خطرات النفس ولا وسوسة الشياطين وهذا العلم اليقيني لا يحتاج إلى مقدمات وإنما هو من قبيل إدراك الأمور الوجدانية كالجوع والعطش (¬2). - الفرق بين النبي والرسول: بين الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - الفرق بينهما، فيقول: "إن الرسول من بعثه الله إلى قوم، وأنزل عليه كتاباً، أو لم ينزّل عليه كتاباً لكن أوحى إليه بحكم لم يكن في شريعة من قبله؛ والنبيّ من أمره الله أن يدعو إلى شريعة سابقة دون أن ينزل عليه كتاباً، أو يوحي إليه بحكم جديد ناسخ أو غير ناسخ، وعلى ذلك، فكل رسول نبي، ولا عكس، وقيل: هما مترادفان، والأول أصح" (¬3). اختلف الناس في تعريف النبي والرسول، والفرق بينهما على قولين كما بينهما الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: أحدهما: أنهما بمعنى واحد، ولا فرق بينهما (¬4). ثانيهما: أنهما متغايران (¬5). ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان باب الإسراء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات ... (1/ 146) برقم (126) بلفظه، البخاري كتاب التوحيد باب قوله وكلم الله موسى تكليما برقم (7517). (¬2) المدخل لدراسة القرآن الكريم لمحمد أبو شيبة (ص 87). (¬3) مذكرة التوحيد (ص 45). (¬4) ينظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار (ص 567)، أعلام النبوة للماوردي (ص 70)، غاية المرام في علم الكلام للآمدي (ص 317)، المواقف في علم الكلام لعبدالرحمن الإيجي (ص 337). (¬5) ينظر: أعلام الحديث للخطابي (1/ 298)، والمنهاج للحليمي (1/ 239)، والدرة فيما يجب اعتقاده لابن حزم (ص 380)، والفصل له (5/ 119 - 120)، والنبوات لابن تيمية (2/ 714)، شرح الطحاوية (1/ 155)، ولوامع الأنوار البهية (1/ 49)، أضواء البيان (5/ 735).

والقول بالمغايرة بينهما، وثبوت الفرق فيهما هو قول الجمهور، وإن اختلفوا في تحديد وجهه (¬1). وهو ما قرره الشيخ - رحمه الله -. وقد فرق شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بين النبي والرسول، بقوله: " النبي هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأ الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة، فهو نبي وليس برسول قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الحج: 52، وقوله: {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الحج: 52، فذكر إرسالاً يعمّ النوعين، وقد خص أحدهما بأنه رسول، فإن هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح - عليه السلام -، وقد كان قبله أنبياء كشيث وإدريس وقبلهما آدم كان نبيا مكلماً، فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنين لكونهم مؤمنين بهم، وكذلك أنبياء بني إسرائيل يأمرون بشريعة التوراة وقد يوحى إلى أحدهم وحي خاص في قصة معينة ولكن كانوا في شرع التوراة فإن أرسلوا إلى كفار يدعونهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له فهم رسل، وليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة فإن يوسف كان رسولا وكان على ملة إبراهيم وداود وسليمان كانا رسولين وكانا على شريعة التوراة" (¬2). وعليه فالنبي والرسول بينهما عموم وخصوص مطلق، وكذا النبوة والرسالة، فالرسالة أعم من جهة نفسها؛ إذ النبوة داخلة في الرسالة، كما أنها أخص من جهة أهلها؛ إذ كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، والرسالة أفضل من النبوة، والرسول أفضل من النبي (¬3). ¬

(¬1) ينظر: المصادر السابقة. (¬2) النبوات (2/ 714). (¬3) ينظر: الإيمان لابن تيمية (ص 6 - 7)، شرح الطحاوية (1/ 155)، لوامع الأنوار البهية (1/ 49 - 50).

المطلب الأول: الإيمان بالأنبياء والرسل عموما.

المطلب الأول الإيمان بالأنبياء والرسل عموماً: - الإيمان برسالة الأنبياء: يقول الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله -: "يجب الإيمان برسالة كل من ثبتت رسالته بالقرآن أو السنة الصحيحة فمن آمن ببعضهم وكفر ببعض فقد كفر؛ لقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} البقرة: 285، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)} النساء: 150 - 152" (¬1). ويقول الشيخ - رحمه الله - كذلك: "وجوب تكليف العباد بما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام .. عقيدة وعملاً" (¬2). الإيمان بأنبياء الله ورسله ركنٌ من أركان الإيمان التي لا يصح إيمان العبد إلا بها، وهذا الركن لا بد له من أربعة أمور: الأول: الإيمان بأن رسالتهم حق من الله تعالى. الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه، ومن لم نعلم اسمه منهم فنؤمن به إجمالاً فإن لله رسلاً وأنبياء لا يعلم عددهم وأسماءهم إلا هو سبحانه. الثالث: تصديق ما صح عنهم من أخبارهم. ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 260 - 261). (¬2) شبهات حول السنة (ص 7).

الرابع: العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم، وهو خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - المرسل إلى جميع الناس (¬1). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وبالجملة فينبغي للعاقل أن يعلم أن قيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلولا الرسل لما عبد الله وحده لا شريك له، ولما علم الناس أكثر ما يستحقه سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العُلى، ولا كانت له شريعة في الأرض" (¬2). قال ابن كثير - رحمه الله -: " ... والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية" (¬3). فمن آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم أو كلهم لا غبار على وضوح كفره لأن كفره بالرسل كفر بالله تعالى. ويحكي ابن تيمية - رحمه الله - الإجماع على كفر ساب نبي من الأنبياء أو إنكار رسالته، فيقول: "من خصائص الأنبياء أن من سب نبياً من الأنبياء قتل باتفاق الأئمة، وكان مرتداً، كما أن من كفر به وبما جاء به كان مرتداً، فإن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بالله وملائكته ورسله" (¬4). ويقول أيضاً: "والمسلمون آمنوا بالأنبياء كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم، فإن الإيمان بجميع النبيين فرض واجب، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم كلهم، ومن سبّ نبياً من الأنبياء فهو كافر يجب قتله باتفاق العلماء" (¬5). ¬

(¬1) ينظر: تعظيم قدر الصلاة لمحمد المروزي (1/ 393)، المنهاج للحليمي (1/ 237 - 238)، شعب الإيمان للبيهقي (1/ 371)، جامع العلوم والحكم (1/ 102)، فتح الباري (1/ 118)، معارج القبول (2/ 677)، فتاوى ابن عثيمين (1/ 124 - 125)، مباحث العقيدة في سورة الزمر لناصر الشيخ (ص 471). (¬2) الصارم المسلول (ص 249). (¬3) تفسير ابن كثير (2/ 445). (¬4) الصفدية (1/ 261). (¬5) الصفدية (2/ 311)، وينظر: البحر الرايق لابن نجيم (5/ 130)، وغني المحتاج للخطيب الشربيني (4/ 134)، نهاية المحتاج للرملي (7/ 395)، شرح منتهى الإرادات للبهوتي (3/ 386).

- حاجة البشر إلى الرسل

ويقول ابن تيمية - رحمه الله -: " وسبهم -أي الأنبياء- كفر وردة إن كان من مسلم، ومحاربة إن كان من ذمي" (¬1). - حاجة البشر إلى الرُسل: يبين الشيخ - رحمه الله - حاجة البشر إلى الرسل، فيقول: "لا يليق بعاقل رشيد عرف كمال حكمة الله وسعة رحمته، وعرف واقع الناس وما هم فيه من هرج ومرج وفساد وضلال؛ أن ينكر حاجة البشر إلى قيادة رشيدة، عمادها وحي الله وشريعته، تعتصم به، وتدعو الناس إليه، وتهديهم إلى سواء السبيل. فإن الإنسان قد يقصر عقله في كثير من أحواله وشؤونه ... وقد يعجز عن العلم بما يجب عليه عمله ... فكان في ضرورة إلى معين يساعده في ما قصر عنه إدراكه أو عجز عنه فهمه، ويهديه الطريق في أصول دينه ... ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل وأنزل الكتب" (¬2). وقال كذلك - في حديثه عن حاجة البشر للرسل-: "بل في أشد الضرورة إليهم؛ لأن عقول الناس مختلفة أعظم اختلاف، ولا تستطيع أن تستقل بمعرفة ما يرضي الله سبحانه أو يسخطه من الأقوال والأعمال والعقائد، ومن أجل ذلك أرسل الله رسله من نوح عليه الصلاة والسلام إلى أن ختموا بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه الله بدين شامل كامل باق عام للبشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين" (¬3). ويبين الشيخ - رحمه الله - بعض الحكم من إرسال الرسل، فيقول: "اقتضت حكمة الله أن يرسل رسله بالهدى ودين الحق رحمة منه بعباده، وإقامة للعدل بينهم، وتبصيراً لهم بما يجب عليهم من حقوق خالقهم وحقوق أنفسهم وإخوانهم، وإعانةً لهم على أنفسهم، وإعذاراً إليهم؛ فإنه لا أحد أحب إليه من العذر من الله، فمن أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب .. بل إن الله أرسلهم لمصالح البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة .. " (¬4). ¬

(¬1) الصارم المسلول (ص 565). (¬2) الحكمة من إرسال الرسل (14 - 15). (¬3) فتاوى اللجنة (3/ 258). (¬4) الحكمة من إرسال الرسل (13 - 23) باختصار؛ وينظر: مذكرة التوحيد (56 - 59).

وما أروع كلام ابن تيمية عندما يتحدث عن حاجة البشر إلى الرسالات، فيقول: " والرسالة ضرورية للعباد لابدّ لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} الأنعام: 122. فهذا وصف المؤمن كان ميتاً في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورا يمشى به في الناس وأما الكافر فميت القلب في الظلمات" (¬1). ويؤكد ابن القيم على ضرورة وأهمية الإيمان بالأنبياء عليهم السلام، فيقول: "لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا يُنال رضا الله ألبته إلا على أيديهم، فالطيّب من الأعمال والأقوال والأخلاق، ليس إلا هديهم وما جاؤوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأعمال والأخلاق، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير، وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين، فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي وما لجرح بميت إيلام" (¬2). قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله -: "قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} الذاريات: 56 ... ولهذا أعطى الله البشر عقولاً، وأرسل إليهم رسلاً، وأنزل عليهم كتباً، ولو كان الغرض من خلقهم كالغرض من خلق البهائم؛ لضاعت الحكمة من ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (19/ 93، 94). (¬2) زاد المعاد (1/ 69)، وينظر: مفتاح دار السعادة (2/ 2).

- سبب جعل الرسل من البشر

إرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ لأنه في النهاية يكون كشجرة نبتت، ونمت، وتحطمت، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} القصص: 85، فلابد أن يردك إلى معادٍ تجازى على عملك إن خيراً فخير، وإن شراً فشر" (¬1). - سبب جعل الرسل من البشر: يبين الشيخ - رحمه الله - سبب ذلك، فيقول: " أما إرسالهم من البشر؛ فلأن ذلك أكمل في إقامة الحجة؛ لكونهم من جنسهم يستطيعون التفاهم معهم وسؤالهم عما يهمهم ويتمكنون من فهم كلامهم؛ لقول الله عز وجل: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} الإسراء: 94 - 95، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} إبراهيم: 4" (¬2). ويقول الشيخ - رحمه الله - كذلك: " وإرسال الله الرسل ليس مستحيلاً في نفسه، ولا عبثاً حتى يجافي حكمة الله؛ بل هو جائز عقلاً، داخل في نطاق قدرة الله الشاملة وإرادته النافذة .. وإن الفطر السليمة التي فطر الله عليها الناس لا تستبعد أيضاً ما مضت به سنة الله في عباده، وقضت به حكمته وعدله في خلقه من إرساله سبحانه رسلاً مبشرين ومنذرين .. وليس بدعاً أن يختار الله نبياً من البشر، ويبعث في الناس رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، بل ذلك مقتضى الحكمة وموجب العقل وما جرت به سنة الله في أنبيائه .. وشاء الله أن يكون سكان الأرض من البشر؛ فاقتضت حكمته أن يكون رسوله إليهم من جنسهم، بل اقتضت حكمته ما هو أخص من ذلك وأقرب إلى الوصول للغاية وتحصيل المقصود من الرسالة .. ومن نظر في آيات القرآن، وعرف تاريخ الأمم؛ تبين له أن سنة الله في عباده أن يرسل إليهم رسلاً من أنفسهم" (¬3). ¬

(¬1) القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 10). (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 258 - 259). (¬3) الحكمة من إرسال الرسل (13 - 23) باختصار؛ وينظر: مذكرة التوحيد (56 - 59).

ويبين الشيخ - رحمه الله - معنى قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} الفرقان: 20، قائلاً: " القصد من الآية الرد على من كفر برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - لزعمه أن الرسول إنما يكون من الملائكة لا من البشر، فرد الله عليهم زعمهم ببيان أن سننه سبحانه في إرسال رسل إلى البشر أن يصطفيهم من البشر، وأنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق شأنهم في ذلك شأن البشر" (¬1). شاء الله الحكيم الخبير أن يكون الرسل الذين يرسلهم إلى البشر من البشر أنفسهم قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} الكهف: 110، ولم يكونوا من الملائكة لعدة أسباب منها: -أن الله اختارهم بشراً لا ملائكة لأنه أعظم في الابتلاء والاختبار، ففي الحديث القدسي الذي يرويه مسلم في صحيحه: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) (¬2). -أن في هذا إكراماً لمن سبقت لهم منه الحسنى، فإن اختيار الله لبعض عباده ليكونوا رسلاً تفضيلاً لهم، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} مريم: 58. -أن البشر أقدر على القيام والتوجيه، وهم الذين يصلحون قدوة وأسوة. -صعوبة رؤية الملائكة، فالكفار عندما يقترحون رؤية الملائكة، وأن يكون الرسل إليهم ملائكة لا يدركون طبيعة الملائكة، ولا يعلمون مدى المشقة والعناء الذي سيلحق بهم من جراء ذلك. فالاتصال بالملائكة ورؤيتهم أمر ليس بسهل، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - مع كونه أفضل الخلق، وهو على جانب عظيم من القوة الجسمية والنفسية عندما رأى جبريل على صورته أصابه هول عظيم ورجع إلى منزله يرجف فؤاده، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعاني من اتصال الوحي به شدّة، ولذلك قال تعالى في الرد عليهم: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 312). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجنة وصفة نعيم أهلها باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار برقم (2865) من حديث عياض بن حمار المجاشعي.

لِلْمُجْرِمِينَ} الفرقان: 22، ذلك أنّ الكفار لا يرون الملائكة إلا حين الموت أو حين نزول العذاب، فلو قُدِّر أنهم رأوا الملائكة لكان ذلك اليوم يوم هلاكهم. فكان إرسال الرسل من البشر ضرورياً كي يتمكنوا من مخاطبتهم والفقه عنهم، والفهم منهم، ولو بعث الله رسله إليهم من الملائكة لما أمكنهم ذلك. قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} الإسراء: 94 - 95، فلو كان سكان الأرض ملائكة لأرسل الله إليهم رسولاً من جنسهم، أما وأن الذين يسكنون الأرض بشر فرحمة الله وحكمته تقتضي أن يكون رسولهم من جنسهم قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} آل عمران: 164، وإذا كان البشر لا يستطيعون رؤية الملائكة والتلقي عنهم بيسر وسهوله فيقتضي هذا -لو شاء الله أن يرسل مَلكاً رسولاً إلى البشر- أن يجعله رجلاً قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)} الأنعام: 9، فالله يخبر أنه" لو بعث رسولاً ملكياً، لكان على هيئة رجل، ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه، ولو كان كذلك لالتبس الأمر عليهم" (¬1). والتباس الأمر عليهم بسبب كونه في صورة رجل، فلا يستطيعون أن يتحققوا من كونه ملكاً، وإذا كان الأمر كذلك فلا فائدة من إرسال الرسل من الملائكة على هذا النحو، بل إرسالهم من الملائكة على هذا النحو لا يحقق الغرض المطلوب، لكونه الرسول الملك لا يستطيع أن يحس بإحساس البشر وعواطفهم وانفعالاتهم وإن تشكل بأشكالهم (¬2). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 9). (¬2) ينظر: الرسل والرسالات لعمر الأشقر (65 - 68).

- الفرق بين الرسل

- الفرق بين الرسل: يقول الشيخ - رحمه الله -: "وأما الفرق بين الرسل في المكانة والمنزلة والتفاوت بينهم في الفضل والدرجة فهذا صحيح ورد به النص الشرعي، قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} البقرة: 253،وأفضلهم أولو العزم، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وأفضل هؤلاء الخمسة الخليلان إبراهيم ومحمد لاختصاصهما بالخلة وهي كمال المحبة عليهم الصلاة والسلام، وأفضل الرسل على الإطلاق خاتم النبيين محمد عليهم الصلاة والسلام؛ لحديث: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع) (¬1)، وحديث: (أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر ...) (¬2)، وحديث: (أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة) (¬3)، وأحاديث اختصاصه بالشفاعة العظمى وإقدامه عليها بعد اعتذار الأنبياء عنها، وإنقاذ الناس من هول الموقف بشفاعته لهم (¬4) وغير ذلك من الأحاديث التي وردت في تفضيله، وإجماع الأمة على ذلك" (¬5). ثم بين الشيخ - رحمه الله - الأدب عند المفاضلة بينهم، فقال: " إلاَّ أنه ينبغي للمسلم أن يتأدب مع الأنبياء فلا يخوض في التفضيل بينهم إلاَّ في مقام التعليم والإرشاد ونحو ذلك، خشية أن يجر ذلك إلى الجدل والتفاخر، وأن يكون ذريعة إلى انتقاص بعضهم، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحة في كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلق برقم (2278) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه الدارمي (1/ 31)، والطبراني في الأوسط برقم (170)، والبيهقي في الدلائل (5/ 480)، من حديث جابر بن عبد الله، قال الهيثمى في مجمع الزوائد (8/ 254): فيه صالح بن عطاء بن خباب ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات، وقال الشيخ مقبل الوادعي: فيه صالح بن عطاء مجهول. ينظر: الشفاعة له. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا أول الناس يشفع في الجنة ... برقم (196). (¬4) منها حديث أنس: (يجمع الله المؤمنين يوم القيامة لذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا يريحنا) ... إلى أن قال: (فيأتوني فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي) الحديث أخرجه البخاري كتاب تفسير القرآن باب قول الله وعلم آدم الأسماء كلها برقم (4476)، ومسلم كتاب الإيمان باب في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا أول الناس تبعاً في الجنة ... برقم (193). (¬5) فتاوى اللجنة (3/ 261 - 262).

قال: (استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال اليهودي في قسم يقسمه: (والذي اصطفى موسى على العالمين) فرفع المسلم يده فلطم وجه اليهودي، فقال: (أي خبيث وعلى محمد - صلى الله عليه وسلم -)، فجاء اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى المسلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تفضلوني على الأنبياء ...) (¬1) الحديث، فنهى عن الدخول في المفاضلة بينه وبين الأنبياء في مثل هذه الحالة؛ خشية أن يجر إلى ما لا تحمد عقباه، وإن كان تفضيل بعضهم على بعض ثابتاً في القرآن والسنة، وتعين من هو أفضل ثابتاً بالنص الصريح" (¬2). أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم أنه فضلّ بعض النبيين على بعض، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)} الإسراء: 55. وقد أجمعت الأمة على أن الرسل أفضل من الأنبياء، والرسل بعد ذلك متفاضلون فيما بينهم كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} البقرة: 253. وأفضل الرسل والأنبياء خمسة هم أولو العزم، وهم المذكورون في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} الشورى: 13. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/ 41) بلفظ: (لا تفضلوا بعض النبيين على بعض) من حديث أبي سعيد الخدري، والبخاري كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى وإن يونس لمن المرسلين إلى قوله فمتعناهم إلى حين ... برقم (3414)، ومسلم كتاب الفضائل باب من فضائل موسى - عليه السلام - (159)، بلفظ: (لا تفضلوا بين أنبياء الله). (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 263) و (3/ 309).

تواترت نصوص الكتاب والسنة نصاً وظاهراً في الدلالة على أفضليته - صلى الله عليه وسلم - على غيره من الأنبياء والرسل، وأوردها غير واحد من أهل العلم ممن كتبوا في خصائصه - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وأجمعت الأمة على القول بمقتضاها (¬2). يقول القاضي عياض - رحمه الله -: "لا خلاف أنه أكرم البشر، وسيد ولد آدم، وأفضل الناس منزلة، عند الله، وأعلاهم درجة، وأقربهم زلفى، واعلم أن الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جداً" (¬3). وقرر السلف ذلك في عقائدهم، وعدوه من معاقد العقائد، التي يجب الإيمان بها، فقد عقد الإمام الآجري (¬4) في كتاب الشريعة باباً بعنوان: "باب ما فضل الله عز وجل به نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا من الكرامات على جميع الأنبياء عليهم السلام" (¬5)، وقال الحافظ عبد الغني المقدسي (¬6) في عقيدته: "فصل: ونعتقد أن محمداً المصطفى خير الخلائق، وأفضلهم وأكرمهم على الله عز وجل، وأعلاهم درجة، وأقربهم إلى الله وسيلة" (¬7). ¬

(¬1) ينظر: غاية السؤل في خصائص الرسول لابن الملقن (ص 223)، اللفظ المكرم بخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - للخيضري (2/ 5)، الخصائص الكبرى للسيوطي (2/ 314). (¬2) ينظر: في حكاية إجماعهم الشفا للقاضي عياض (1/ 215)، تفسير ابن كثير (3/ 53). (¬3) الشفا (1/ 215). (¬4) هو: الإمام المحدث الفقيه الشافعي أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري البغدادي، كان عالماً عابداً صاحب سنة واتباع، انتقل إلى مكة وجاور بها، وبها توفي - رحمه الله - سنة (360 هـ)، وله عدة تصانيف أشهرها: كتاب الشريعة. ينظر: تاريخ بغداد (2/ 239)، وفيات الأعيان (4/ 113)، تذكرة الحفاظ (3/ 936)، وشذرات الذهب (3/ 35). (¬5) الشريعة (3/ 1552). (¬6) هو تقي الدين أبو محمد عبدالغني بن عبدالواحد بن علي بن سرور المقدسي الحنبلي، إمام عالم حافظ صادق عابد أثري متبع، وكان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، له مصنفات عديدة منها: الاقتصاد في الاعتقاد، وذم الرياء، وفضائل الحج، توفي سنة ستمائة (600 هـ). ينظر: السير (21/ 443)، وتذكرة الحفاظ (4/ 1372)، وشذرات الذهب (4/ 345). (¬7) الاقتصاد في الاعتقاد (ص 196).

والعبد الرسول أفضل عند الله من النبي الملك، ولهذا كان أمر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى أفضل عند الله من داود وسليمان ويوسف (¬1). ويبين ابن أبي العز - رحمه الله - أوجه الجواب عما ورد من النهي عن التفضيل بين الأنبياء مع ثبوته في الكتاب والسنة، فأجاب على هذا بما يلي: " 1 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن تفضيله على موسى لسبب، ما وقع بين المسلم واليهودي (¬2). فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا التفضيل لأنه على وجه الحميَّة والعصبية وهوى النفس وهو أمر مذموم، بل حتى الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام يكون مذموماً حابطاً إذا كان على وجه الحمية والعصبية وليس لإعلاء كلمة الله. 2 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التفضيل الذي يؤدي إلى تنقص المفضول، ومعلوم أن هذا لا يجوز، فلا يحل تنقص الأنبياء عليهم السلام. 3 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن التفضيل الخاص، كقول" محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من موسى"، أما التفضيل العام بدون ذكر عين المفضول المقابل فلا بأس به، كما دلت عليه الأحاديث. 4 - أما حديث: (لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه على يونس بن متى) (¬3). فهذا يدل على العموم، أي لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه على يونس بن متى - عليه السلام -، وليس فيه نهي ¬

(¬1) ينظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (11/ 161 - 162)، ورسالة الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لعبد الرحمن اليحي (ص 186)، فتاوى وأحكام في نبي الله عيسى أجاب عنها الشيخ ابن جبرين جمع علي العماري (81 - 82). (¬2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: (استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال اليهودي في قسم يقسمه: (والذي اصطفى موسى على العالمين) فرفع المسلم يده فلطم وجه اليهودي، فقال: (أي خبيث وعلى محمد - صلى الله عليه وسلم -)، فجاء اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى المسلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تفضلوني على الأنبياء ...) الحديث. أخرجه أحمد (3/ 41) بلفظ: (لا تفضلوا بعض النبيين على بعض) من حديث أبي سعيد الخدري، والبخاري كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى وإن يونس لمن المرسلين إلى قوله فمتعناهم إلى حين ... برقم (3414)، ومسلم كتاب الفضائل باب من فضائل موسى - عليه السلام - (159)، بلفظ: (لا تفضلوا بين أنبياء الله). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب قوله ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين برقم (4630)، ومسلم في كتاب الفضائل باب في ذكر يونس - عليه السلام - ... (2377) كلاهما بلفظ: (ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى).

المسلمين أن يفضلوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - على يونس، لأن التفضيل هنا يكون خاصاً بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهو مستثنى من العموم" (¬1). وزاد النووي: "أنه - صلى الله عليه وسلم - قاله قبل أن يعلم أنه سيدّ ولد آدم، فلما علم أخبر به؛ وأنه قال ذلك أدباً وتواضعاً ... " (¬2). وقال البيهقي - رحمه الله -: " حديث ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى) (¬3) ونسبه إلى أمه، فمن تكلم في التخيير والتفضيل ذهب إلى أنه أراد به: ليس لأحد أن يفضل نفسه على يونس، وإن كان قد أبق وذهب مغاضبا ولم يصبر على ما ظن أنه يصيبه من قومه. ومنم من ذهب إلى الإمساك عن الكلام في التخيير بين الأنبياء جملة. وذكر بعضهم أن معنى النهي عن التخيير بين الأنبياء ترك التخيير بينهم من وجه الإزراء ببعضهم، فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم والإخلال بالواجب من حقوقهم، وبغرض الإيمان بهم، وليس معناه أن يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم، فإن الله عز وجل قد أخبر أنه قد فاضل بينهم فقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} البقرة: 253، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنا سيد ولد آدم) (¬4) وحديث ابن عباس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في يونس بن متى، قد يتوهم كثير من الناس أن بين الحديثين خلافاً، وذلك أنه أخبر في حديث أبي هريرة أنه سيد ولد آدم، والسيد أفضل من المسود، وقال في حديث ابن عباس: (ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى) والأمر في ذلك بين ووجه التوفيق بين الحديثين واضح، وذلك أن قوله: (أنا سيد ولد آدم) إنما هو إخبار عما أكرمه الله تعالى به من الفضل والسؤدد، وتحدث بنعمة الله ¬

(¬1) ينظر: شرح الطحاوية (1/ 159 - 163). (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 108/109)، وانظر: فتح الباري (6/ 520 - 521). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب قوله ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين برقم (4630)، ومسلم في كتاب الفضائل باب في ذكر يونس - عليه السلام - ... (2377) كلاهما بلفظ: (ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى). ينظر: شرح الطحاوية (1/ 159 - 163). (¬4) مسلم في صحيحة كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلق برقم (2278).

تعالى عليه، وإعلام لأمته وأهل دعوته علو مكانه عند ربه ومحله من خصوصيته ليكون إيمانهم بنبوته واعتقادهم لطاعته على حسب ذلك، وكان بيان هذا لأمته وإظهاره لهم من اللازم له والمفروض عليه. وأما قوله في يونس - عليه السلام -، فإنه يتأول على وجهين:- أحدهما: أن يكون قوله: (ما ينبغي لعبد) إنما أراد به من سواه من الناس دون نفسه. والوجه الآخر: أن يكون ذلك عاما مطلقا فيه وفي غيره من الناس، ويكون هذا القول منه على سبيل الهضم من نفسه، وإظهار التواضع لربه يقول: لا ينبغي لي أن أقول أنا خير منه، لأن الفضيلة التي نلتها كرامة من الله وخصوصية منه، لم أنلها من قبل نفسي، ولا بلغتها بحولي وقوتي، فليس لي أن أفتخر بها، وإنما خص يونس بالذكر فيما نرى والله أعلم لما قد قص الله علينا من شأنه وما كان من قلة صبره على أذى قومه، وخرج مغاضبا له ولم يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ... وهذا أولى الوجهين وأشبههما بمعنى الحديث، فقد جاء من غير هذا الطريق أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (ما ينبغي لنبي أن يقول إني خير من يونس بن متى) (¬1) فعم به الأنبياء كلهم، فدخل هو في جملتهم " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده برقم (1760)، وأبو داود في سننه في كتاب السنن، باب في التخيير بين الأنبياء عليهم السلام برقم (4670)، قال عنه المحقق الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح (3/ 196). (¬2) من دلائل النبوة للبيهقي (5/ 495 - 497) مع تصرف يسير.

- هل يكون في حق الأنبياء والرسل الخطأ؟

- هل يكون في حق الأنبياء والرسل الخطأ؟ يقول الشيخ - رحمه الله -: "نعم، الأنبياء والرسل قد يخطئون، ولكن الله تعالى لا يقرهم على خطئهم، بل يبين لهم خطأهم؛ رحمة بهم وبأممهم، ويعفو عن زلتهم، ويقبل توبتهم؛ فضلاً منه ورحمة، والله غفور رحيم" (¬1). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " القول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف حتى إنه قول أكثر أهل الكلام كما ذكر أبو الحسن الآمدي (¬2) أن هذا القول قول أكثر الأشعرية (¬3) وهو أيضاً قول أهل التفسير والحديث والفقهاء بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول ... " (¬4). واستدل أهل السنة والجماعة على قولهم بأدلة من الكتاب والسنة: من الكتاب - قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} طه: 121. - وقوله عن موسى - عليه السلام -: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} القصص: 16. - وقوله عن يونس - عليه السلام -: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} الأنبياء: 87. - وقوله تعالى عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الفتح:1 ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 264). (¬2) هو علي بن أبي علي بن محمد بن سالم سيف الدين التغلبي الآمدي، سيف الدين الحنبلي ثم الشافعي، أحد أئمة الكلام في وقته، أشعري مشتغل بالفلسفة، له تصانيف كثيرة، ولد سنة (551 هـ)، وتوفي سنة (631 هـ). ينظر: وفيات الأعيان (3/ 293)، سير أعلام النبلاء (22/ 364)، لسان الميزان (3/ 134)، الشذرات (3/ 323 - 324). (¬3) الأشعرية: هم طائفة من طوائف أهل الكلام، ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري في مذهبه الثاني بعد رجوعه عن الاعتزال، وعامتهم يثبتون سبع صفات فقط لله تعالى، ويوافقون المرجئة في الإيمان، والجبرية في القدر. ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 94)، خبيئة الأكوان لصديق حسن خان (50 - 53). (¬4) مجموع الفتاوى (4/ 319) و (10/ 313)، وينظر: منهاج السنة (1/ 470 - 472)، والجواب الصحيح (6/ 298).

ومن السنة -حديث الشفاعة واعتذار الأنبياء عنها حتى تصل إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيشفع (¬1). وأما قولهم إن الذنوب تنافي الكمال، فهذا صحيح مع عدم التوبة ولكن مع التوبة فغير صحيح لأن التوبة تغفر الحوبة، ولا تنافي الكمال، ولا يتوجه إلى صاحبها الذم واللوم، بل إنه في أحيان كثيرة يكون العبد بعد توبته خيراً منه قبل وقوع الذنب، وذلك لما يقوم في قلب العبد من الإنابة والخوف والخشية من الله سبحانه وتعالى، يدفعه إلى كثرة الاستغفار وبذل الجهد في العمل الصالح لمحو السيئات. وقد قال تعالى في فضل التوبة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} البقرة: 222، وقال عليه الصلاة والسلام: (لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة) (¬2). فالأنبياء -صلوات الله عليهم- لا يقرون على الذنب، ولا يؤخرون التوبة، فالله عصمهم من ذلك وهم بعد التوبة أكمل منهم قبلها (¬3). قال ابن قتيبة (¬4) - رحمه الله -: "يستوحش كثير من الناس من أن يلحقوا بالأنبياء ذنوباً، ويحملهم التنزيه لهم -صلوات الله عليهم- على مخالفة كتاب الله جل ذكره، واستكراه التأويل، وعلى أن يلتمسوا لألفاظه المخارج البعيدة بالحيل الضعيفة" (¬5). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قول الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} البقرة: 31، برقم (4476)، ومسلم في كتاب الإيمان باب في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنا أول الناس يشفع في الجنة) برقم (197) وجميعهم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الدعوات، باب التوبة، برقم (6308) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وأخرجه مسلم في كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها (2675) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (10/ 293 - 313) و (15/ 150). (¬4) هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد، خطيب أهل السنة وأحد أئمة السلف، من مؤلفاته: تفسير غريب القرآن، تأويل مختلف الحديث، الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية وتأويل مشكل القرآن وغيرها، توفي سنة 276 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 296)، شذرات الذهب (2/ 169). (¬5) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة - رحمه الله - (ص 402).

- عدد الأنبياء والرسل

- عدد الأنبياء والرسل: يقول الشيخ - رحمه الله -: "لا يعلم عدد الأنبياء والرسل إلا الله؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} غافر: 78، والمعروف منهم من ذكروا في القرآن أو صحت بخبره السنة" (¬1). فيجب الإيمان بما سمى الله تعالى في كتابه منهم، والإيمان بأن لله تعالى سواهم رسلاً وأنبياء لا يعلم أسماءهم إلا هو سبحانه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وأما قوله (ورسله) فأن تؤمن بما سمى الله في كتابه من رسله، وتؤمن بأن لله سواهم رسلاً وأنبياء، لا يعلم أسماءهم إلا الذي أرسلهم، وتؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وإيمانك به غير إيمانك بسائر الرسل. إيمانك بسائر الرسل إقرارك بهم، وإيمانك بمحمد إقرارك به وتصديقك إياه دائباً على ما جاء به، فإذا اتبعت ما جاء به أديت الفرائض، وأحللت الحلال، وحرّمت الحرام، ووقفت عند الشبهات، وسارعت في الخيرات" (¬2). وقد ورد في تحديد عدد الأنبياء والرسل أحاديث مختلف في ثبوتها، منها ما ذكر في سؤال أبي ذر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، عن عدد الأنبياء، فقال: (مائة ألف وعشرون ألف)، وفي رواية: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، وفي رواية: ثلاثمائة وخمسة عشر) (¬3). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 265). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 313). (¬3) أخرجه ابن حبان في الإحسان (2/ 76 - 79)، برقم (361)، وابن عدي في الكامل (7/ 244)، والطبري في تاريخه (1/ 76)، وهذا الحديث معلول كما ذكر العلماء، وقال الذهبي: متروك، وقال ابن باز: ضعيف. ينظر: الميزان (1/ 72 - 73)، الجرح والتعديل لأبي حاتم الرازي (2/ 142)، واللسان (1/ 122 - 123)، فتاوى نور على الدرب (1/ 79).

- حياتهم في قبورهم وأن الأرض لا تأكل أجسادهم

- حياتهم في قبورهم وأن الأرض لا تأكل أجسادهم: يقرر الشيخ - رحمه الله - بعض خصائصهم، فيقول: "إذا مات الإنسان ولياً أو غير ولي، فإن جسمه لا يرفع إلى السماء، وإنما تصعد روح المؤمن إلى السماء وأما الأجساد فإنها تبقى في الأرض؛ لقوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} طه: 55، كما أن الأجساد تفنى ويأكلها الدود حاشا أجساد الأنبياء فقد ثبت من حديث أوس بن أوس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علىَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي) فقالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: يقولون: بليت، قال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) (¬1) " (¬2). وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "وكونه - صلى الله عليه وسلم - قد ذاق الموتة الأولى التي هي موتة الدنيا لا ينافي حياته البرزخية حيث أخبرنا الله تعالى في كتابه بأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ولم ينالوا ذلك إلا بمتابعتهم وإيمانهم بهم الإيمان الصادق، وحياة الأنبياء البرزخية تفوق حياة الشهداء إذ هم أفضل الخلق على الإطلاق" (¬3). قال الشيخ سليمان بن سحمان (¬4) - رحمه الله -: " ومن المعلوم أنه لم يكن - صلى الله عليه وسلم - حياً في قبره كالحياة الدنيوية المعهودة، التي تقوم فيها الروح بالبدن، وتدبره وتصرفه، ويحتاج معها إلى ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجة في كتاب ما جاء في الجنائز باب ذكر وفاته ودفنه - صلى الله عليه وسلم - برقم (1636)، والنسائي في كتاب الجمعة، باب الأمر بإكثار الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة برقم (1678)، قال الحافظ في " الفتح " (6/ 488): صححه ابن خزيمة وغيره، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1/ 34) برقم (5). (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 266). (¬3) فتح الباري (6/ 488). (¬4) هو: سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان الخثعمي العسيري النجدي، ولد في قرية السقا من قرى أبها سنة 1266 هـ، كاتب فقيه، انتقل مع أبيه إلى الرياض فتلقى عن علمائها التوحيد والفقه واللغة، ومن مصنفاته: الضياء الشارق في الرد على شبهات الماذق المارق والصواعق المرسلة الشهابية وغيرها، كف بصره في آخر حياته، وتوفي في الرياض عام (1349 هـ). ينظر: مقدمة كتابه الضياء الشارق لعبد السلام برجس (ص 1 - 2)، الأعلام (3/ 126).

الطعام والشراب واللباس والنكاح، وغير ذلك، بل حياته - صلى الله عليه وسلم - حياة برزخية، وروحه في الرفيق الأعلى وكذلك أرواح الأنبياء، والأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت، فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، ونبينا في المنزلة العليا التي هي الوسيلة" (¬1). وقال ابن القيم - رحمه الله - مبيناً الفرق بين الروح وبين ما يعهد من الأجساد المخلوقة، وموضحاً منازلها بعد موتها وعلاقتها بأبدانها التي فارقتها، والمكانة الخاصة لأرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام-: " ... وقد بّينا أن عرض مقعد الميت عليه من الجنة والنار لا يدل على أن الروح في القبر، ولا على فنائه دائماً من جميع الوجوه، بل لها إشراف واتصال بالقبر وفنائه، وذلك القدر منها يعرض عليه مقعده، فإن للروح شأناً آخر تكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين، ولها اتصال بالبدن، بحيث إذا سلّم المسلم على الميت ردّ الله عليه روحه فيرد عليه السلام وهي في الملأ الأعلى، وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الموضع، حيث يعتقد أن الروح من جنس ما يعهد من الأجسام، التي إذا شغلت مكانا لم يمكن أن تكون في غيره، وهذا غلط محض، بل الروح تكون فوق السموات في أعلى عليين وترد إلى القبر فترد السلام وتعلم بالمسلم وهي في مكانها، وروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرفيق الأعلى دائماً، ويردها الله سبحانه إلى القبر فترد السلام على من سلم عليه، وتسمع كلامه وقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موسى قائما يصلى في قبره، ورآه في السماء السادسة والسابعة، فإما أن تكون سريعة الحركة والانتقال كلمح البصر، وإما أن يكون المتصل منها بالقبر وفنائه بمنزلة شعاع الشمس وجرمها في السماء" (¬2). وإذا ماتت الأجساد تفنى ويأكلها الدود، حاشا أجساد الأنبياء فمقابرهم لا تنتن، بل إنهم لا يبلون، وتراب قبورهم طاهر (¬3). ¬

(¬1) الصواعق المرسلة الشهابية (ص 82). (¬2) الروح (ص 149). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (27/ 160)، شرح الطحاوية (1/ 456)،والاعتقاد للبيهقي (1/ 305)، ومسلك القرآن الكريم في إثبات البعث لعلي بن محمد الفقيهي (ص 102).

- ما ورد في أفراد الأنبياء والرسل

- ما ورد في أفراد الأنبياء والرسل: يقول الشيخ - رحمه الله -: "ولا يبعد في نظر العاقل، ولا يستحيل في تقدير الفكر، أن يختص واهب النعم، ومفيض الخير بعض عباده: بسعة في الفكر، ورحابة في الصدر، وكمال صبر، وحسن قيادة، وسلامة في الأخلاق، ليعدّهم بذلك لتحمل أعباء الرسالة، ويكشف لهم عما أخفاه عن غيرهم، ويوحي إليهم بما فيه سعادة الخلق، وصلاح الكون، رحمةً للعالمين، وإعذاراً إلى الكافرين، وإقامة للحجة على الناس أجمعين، فإنه-سبحانه- بيده ملكوت كل شيء، وهو الفاعل المختار، لا مانع لما أَعطى، ولا مُعطي لما منع، ولا رادّ لما قَضى، وهو على كل شيء قدير" (¬1). قال القرطبي - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} الأنعام: 124، وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} البقرة: 213، إلى غير ذلك من الآيات: " وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري وإجماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغنى عن الرسل فهو كافر يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول" (¬2). ¬

(¬1) مذكرة التوحيد (ص 46). (¬2) تفسير القرطبي (11/ 41).

1 - آدم - عليه السلام -

1 - آدم - عليه السلام -: قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " وأما آدم فقيل: إنه نبي، وعلى ذلك يكون أول الأنبياء بدليل قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} البقرة: 37، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} طه: 115، وغير ذلك من الآيات التي فيها إيحاء الله إليه، ولا نعلم دليلاً صحيحاً صريحاً يدل على أنه رسول عليه الصلاة والسلام" (¬1). من المعتقد أن آدم - عليه السلام - كان أول نبي، وقد روي عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: (يا رسول الله، أنبياً كان آدم؟ قال: نعم، مكلمٌ) (¬2) (¬3). قال القرطبي: " كان رسولاً إلى ولده، وكانوا، أربعين ولداً في عشرين بطناً، في كل بطن ذكر وأنثى، وتوالدوا حتى كثروا، كما قال الله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} النساء: 1" (¬4). قال الشنقيطي - رحمه الله -: " القول بأن آدم رسول مشكل مع ما ثبت في حديث الشفاعة المتفق عليه من أن نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أول الرسل ويشهد له قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} النساء: 163، والظاهر أنه لا طريق للجمع إلا من وجهين: ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 277). (¬2) أخرجه الحاكم (2/ 262)، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (8/ 118) برقم (7545)، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة الكاملة برقم (3289) (13/ 92). (¬3) ينظر: البداية والنهاية (1/ 101)، والتفسير الكبير (14/ 37)، تفسير القرطبي (1/ 306)، كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير (15/ 238)، عون المعبود (13/ 106)، مجموع الفتاوى (15/ 238)، الإبهاج (1/ 202)، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل (1/ 156)، تلبيس إبليس (1/ 82). (¬4) الجامع لأحكام القرآن (1/ 263 - 264).

الأول: أن آدم أرسل لزوجه وذريته في الجنة ونوح أول رسول أرسل في الأرض ويدل لهذا الجمع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما ويقول: (ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض) (¬1) الحديث. فقوله: (إلى أهل الأرض) لو لم يرد به الاحتراز عن رسول بعث لغير أهل الأرض لكان ذلك الكلام حشوا بل يفهم من مفهوم مخالفته ما ذكرنا. الوجه الثاني: أن آدم أرسل إلى ذريته وهم على الفطرة لم يصدر منهم كفر فأطاعوه ونوح هو أول رسول أرسل لقوم كافرين ينهاهم عن الإشراك بالله تعالى ويأمرهم بإخلاص العبادة له وحده ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} يونس: 19. أي: على الدين الحنيف أي حتى كفر قوم نوح وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} البقرة: 213. والله تعالى أعلم " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قول الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} البقرة: 31، برقم (4476)، ومسلم في كتاب الإيمان باب في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنا أول الناس يشفع في الجنة) برقم (197) وجميعهم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) أضواء البيان (1/ 155).

2 - نوح - عليه السلام -

2 - نوح - عليه السلام -: قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: "نوح أول الرسل إلى أهل الأرض؛ لما ثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة الطويل: (أن المؤمنين أتوا نوحاً فقالوا: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، فاشفع إلى ربنا) (¬1) " (¬2). كان نوح - عليه السلام - رسولاً يُوحى إليه، وهو ما جاء في قوله تعالى لخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} النساء: 163، وكما جاء في قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} هود: 36 - 37، وفي قوله: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} المؤمنون: 27، وكان أول شيء أرسل به نوح - عليه السلام - هو الدعوة إلى توحيد الخالق، والتعريف بالله، وأنه هو الذي تجب له العبادة دون سواه، وترك عبادة غيره مما يتخذونه للعبادة مثل التماثيل والأوثان والأصنام، وما ترمز إليه من المخلوقات أياً كانت هذه المخلوقات، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)} المؤمنون: 23 (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب قوله تعالى إنا أرسلنا نوحاً .. ، ومسلم في صحيحة كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها برقم (194)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 277). (¬3) تاريخ الأنبياء والرسل والارتباط الزمني والعقائدي لمحمد وصفي (ص 69).

3 - إبراهيم - عليه السلام -

3 - إبراهيم - عليه السلام -: قال الشيخ - رحمه الله -: "ذكر الله سبحانه في سورة الأنعام والأنبياء والشعراء والعنكبوت دعوة إبراهيم - عليه السلام - أباه وقومه إلى التوحيد وإنكاره عليهم عبادة غير الله وتحطيمه أصنامهم وما دار بينه وبينهم من المحاجة، وختمها بإلقائهم إياه في النار، وإنجائه منها، فقال سبحانه: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)} الأنبياء: 68 - 71، فالمقصود هو بيان أن إبراهيم عليه السلام بلغ البلاغ المبين وأقام الحجة على الكافرين، وأنه ابتلي البلاء العظيم فصبر ابتغاء وجه الله الكريم فأنجاه الله من النار وأبطل كيد الكفار وقد تم كل ذلك بفضل الله ورحمته" (¬1). ويرد الشيخ - رحمه الله - على من أنكر إلقاء إبراهيم - عليه السلام - في النار، بقوله: " دلت النصوص على أن أعداء إبراهيم - عليه السلام - أرادوا به كيدا وأخبر سبحانه عنهم أنهم قالوا: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)} الصافات: 97،وأنهم قالوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)} الأنبياء: 68،ودل قوله تعالى: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} الأنبياء: 69،على أنهم نفذوا مخططهم الذي كادوا به لإبراهيم عليه السلام وألقوه في النار فجعلها سبحانه بردا وسلاما عليه كما دلت السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على تفصيل ذلك، فمن أنكر إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار وتأول النصوص الواردة في ذلك على مجرد الكيد والتخطيط لذلك فهو كافر مكذب للقرآن والسنة الصحيحة قائل على الله بغير علم ملحد في آيات الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومخالف لما علم من الدين بالضرورة وأجمعت عليه الأمة" (¬2). أوحي إلى إبراهيم أن يدعو قومه إلى ما أمر الله به من تعاليم الدين، كما أوحي إلى خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - ونوح والنبيين بينهما، وهو قوله تعالى لمحمد الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: قال تعالى: ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 280 - 281). (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 356).

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)} النساء: 163، ومنهم إبراهيم، وذكر الله الوحي في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} الأنبياء: 73، ومعنى قوله تعالى: {أَئِمَّةً}: أي رسلاً. وغيرها من الآيات الدالة على نبوته - عليه السلام -. وكان أول شيء تضمنته رسالة إبراهيم، الدعوة إلى الإيمان بالله ووحدانيته قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)} الصافات: 85 - 86، قال تعالى: {إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الممتحنة: 4، ولقد فعل ما يثبت لهم فساد عقيدتهم في عبادة الأصنام ... {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} الصافات: 95 - 96، وبين لقومه أن الله هو الخالق وهو الهادي، وهو الذي يطعمهم ويسقيهم ... ، وأنه لا حجة لهم في قولهم: إنهم يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم من عبادة هذه الأصنام، فإنه من سوء الرأي، وفساده، أن يتبع المرء آباءه في فعل الباطل {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} الشعراء: 75 - 80، ثم ابتلي إبراهيم بعد أن حطم على قومه الأصنام، وحكموا عليه بأن يلقوه في النار فنجاه الله منها قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} الأنبياء: 68 - 70، وقال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ

إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)} العنكبوت: 24 (¬1). ويتضح من هذا أن إبراهيم عليه السلام بلغ البلاغ المبين وأقام الحجة على الكافرين، وأنه ابتلي البلاء العظيم فصبر ابتغاء وجه الله الكريم فأنجاه الله من النار وأبطل كيد الكفار وقد تم كل ذلك بفضل الله ورحمته. ¬

(¬1) ينظر: تاريخ الأنبياء والرسل والارتباط الزمني والعقائدي (112 - 122)، ومن لطائف التعبير القرآني لفؤاد سندي (99 - 174).

4 - عيسى - عليه السلام -

4 - عيسى - عليه السلام -: أ- سبب تسمية عيسى - عليه السلام - بالمسيح. يبين الشيخ - رحمه الله - سبب تسمية عيسى - عليه السلام - بالمسيح، فيقول: " سمي عيسى ابن مريم بالمسيح لأنه ما مسح على ذي عاهة إلاَّ برأ بإذن الله، وقال بعض السلف: سمي مسيحاً لمسحه الأرض وكثرة سياحته فيها للدعوة إلى الدين، وعلى هذين القولين يكون المسيح بمعنى ما سح، وقيل: سمي مسيحاً؛ لأنه كان ممسوح القدمين لا أخمص له، وقيل: لأنه مسح بالبركة أو طهر من الذنوب فكان مباركاً، وعلى هذين القولين يكون مسيح -بمعنى ممسوح-، والأظهر الأول، والله أعلم" (¬1). قال بعض السلف: سمين بالمسيح لكثرة سياحته، وقيل: لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، وقيل: لأنه كان إذا مسح أحداً من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى، وقيل لمسح زكريا إياه، وقيل: لمسحه الأرض أي قطعها، وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن، وقيل: لأنه مسح بالبركة حين ولد، وقيل: لأن الله تعالى مسحه أي خلقه خلقاً حسناً، وقيل غير ذلك (¬2). ب- خلق الله نبيه عيسى - عليه السلام - من أم بلا أب. يقول الشيخ - رحمه الله -: "خلق الله نبيه عيسى - عليه السلام - من أم بلا أب، كما قال تعالى: {... قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) ...} مريم: 16 - 27. ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 310). (¬2) ينظر: فتح الباري لابن حجر، كتاب أحاديث الأنبياء (6/ 579)، وشرح صحيح مسلم للنووي، باب ذكر المسيح ابن مريم - عليه السلام - والمسح الدجال (1/ 403)، مختصر تاريخ ابن عساكر (20/ 142)، البداية والنهاية (2/ 515 - 516)، تاريخ الطبري (2/ 21).

فدل ذلك على أنه من أمه مريم فقط بإذن الله وكلمته لا من أب ليكون آية للناس، ومع ذلك اتهمها اليهود بأنها جاءت به من الزنا فأنطق الله تعالى ابنها عيسى وهو في المهد ببراءتها، قال تعالى: {... فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)} مريم: 27 - 35. فبرأه الله بهذه المعجزة أن يكون له أب من الزنا، ونزه سبحانه نفسه أن يكون له ولد، وإذن فليس عيسى ولد الله، وأخبرت مريم عن نفسها أنها لم يمسسها بشر، وصدقها الله في ذلك، ونسبه سبحانه إلى أمه في أكثر من موضع في القرآن، ولو كان من أب لنسبه إلى أبيه، كما هي سنته تعالى في كلامه، فدل ذلك على أنه من أم فقط، وهو نبي الله ورسوله، كما دلت عليه الآيات السابقة وغيرها" (¬1). قال ابن كثير: "يقول جل وعلا: قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} آل عمران: 59، أي في قدرة الله حيث خلقه من غير أب قال تعالى: {كَمَثَلِ آدَمَ} آل عمران: 59،حيث خلقه من غير أب ولا أم، قال تعالى: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} آل عمران: 59، فالذي خلق آدم من غير أب ولا أم قادر على أن يخلق عيسى من غير أب بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء الألوهية في عيسى لكونه مخلوقاً من غير أب فجواز ذلك في آدم بطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل فدعواه في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً، ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى" (¬2). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 291، 292). (¬2) تفسير القرآن العظيم سورة آل عمران (1/ 316)، وينظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 54).

ج- الرد على من زعم أن عيسى عليه السلام له أب. قال الشيخ - رحمه الله -: " إن زعم أن عيسى عليه السلام له أب مناقض لنصوص القرآن الدالة على أن أم عيسى - عليه السلام - قد أحصنت فرجها وأنها لم يمسها بشر وأنه كلمة الله وأن الله جعله آية للناس، قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)} آل عمران: 45، {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)} آل عمران: 46، قال تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} آل عمران: 47، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)} مريم: 16 - 22، وقال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} التحريم: 12، فهذه الآيات قررت حصانتها وبراءتها من الزنا وصّدقتها في أنها لم يمسها بشر، وصرحت بأن عيسى عليه السلام كلمة الله وآيته ألقاها إلى مريم ودلت على أن حمل مريم بعيسى إنما كان من نفخ جبريل فيها بإذن الله وأمره فمن أنكر ذلك وزعم أن عيسى كان من أب وأم فهو كافر ملحد في آيات الله متهم لمريم بالزنا كاليهود، أو مدع أن عيسى - عليه السلام - ابن لله كالنصارى" (¬1). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 348 - 349) وينظر: فتاوى اللجنة (3/ 311).

قال القرطبي عند قوله تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} المائدة: 17: "عيسى من أم بلا أب آية لعباده" (¬1). وقيل كذلك: " يعني من غير اعتراض عليه فيما يخلق لأنه خلق آدم من غير أب وأم وخلق عيسى من أم بلا أب وخلق سائر الخلق من أب وأم {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} المائدة: 17، يعني أن الله تعالى لا يعجزه شيء أراده فلا اعتراض لأحد من خلقه عليه" (¬2). وقيل عند قول الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} آل عمران: 59، فليس خلق عيسى من أم دون أب بموجب كونه ابن الله تعالى" (¬3). د- رفع الله لعيسى - عليه السلام -. يقرر الشيخ معتقد أهل السنة والجماعة في رفع عيسى - عليه السلام -، فيقول: "ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام لم يمت وإنما رفع إلى السماء وسينزل في آخر الزمان حكماً عدلاً في هذه الأمة ثم يموت، وعلى ذلك دلت نصوص القرآن والأحاديث الصحيحة، قال الله تعالى في فرية اليهود والرد عليها: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)} النساء: 157 - 158، فأنكر سبحانه على اليهود زعمهم أنهم قتلوه أو صلبوه، وأخبر أنه رفعه إليه رحمة به وتكريماً له، وجعل ذلك آية من آياته التي يؤتيها من شاء من رسله، وما أكثر آيات الله في عيسى ابن مريم، ومقتضى الإضراب في قوله تعالى: {بَلْ ¬

(¬1) تفسير القرطبي (6/ 119). (¬2) لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن (2/ 28). (¬3) التحرير والتنوير (1/ 687) (3/ 363)، ينظر: النبوات لابن تيمية (ص 65)، مجموع الفتاوى (17/ 268، 282)، الضوء اللامع للسخاوي (2/ 296)، تفسير السعدي (ص 133).

رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} النساء: 158، أن يكون الله قد رفع عيسى بدناً وروحاً حتى يتحقق به الرد على زعم اليهود أنهم قتلوه أو صلبوه؛ لأن القتل والصلب إنما يكون للبدن أصالة؛ ولأن رفع الروح وحدها لا ينافي دعواهم الصلب والقتل فلا يكون رفعها وحدها رداً عليهم؛ لأن ذلك مقتضى كمال عزته وقوته وتكريمه ونصره من شاء من رسله حسبما قضى به قوله تعالى في ختام الآية: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)} النساء: 158، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} النساء: 159، فأخبر سبحانه بأن جميع أهل الكتاب سوف يؤمنون بعيسى قبل موته، أي: موت عيسى، وذلك عند نزوله آخر الزمان حكماً عدلاً داعياً إلى الإسلام، كما سيجيء بيانه في حديث نزوله، وهذا المعنى هو المتعين فإن الكلام سيق لبيان موقف اليهود من عيسى وصنيعهم معه ولبيان سنة الله في إنجائه ورد كيد أعدائه، فيتعين رجوع الضميرين المجرورين إلى عيسى رعاية لسياق الكلام، وتوحيداً لمرجع الضميرين، وثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) (¬1) قال أبو هريرة: (اقرءوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ...} النساء: 159. وفي رواية عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم) (¬2)، وثبت في الصحيح أيضاً: أن جابر بن عبد الله سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة) قال: (فينزل عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - فيقول أميرهم: تعال صل بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة) (¬3)، فدلت الأحاديث على نزوله آخر الزمان، وعلى أنه يحكم بشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أن إمام هذه الأمة في الصلاة وغيرها أيام نزول عيسى من هذه الأمة، وعلى ذلك لا تكون ¬

(¬1) أخرجه البخاري كتاب البيوع باب قتل الخنزير برقم (2222)، مسلم كتاب الإيمان باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - برقم (155). (¬2) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام برقم (3449)، مسلم كتاب الإيمان باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - برقم (155). (¬3) أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب نزول عيسى ابن مريم حاكماً بشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - برقم (156) ..

هناك منافاة بين نزوله وبين ختم النبوة بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث لم يأت عيسى برسالة جديدة، ولله الحكم أولاً وآخراً يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا معقب لحكمه، وهو العزيز الحكيم ... قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) بعد أن ذكر أحاديث رفع عيسى - عليه السلام - ونزوله آخر الزمان من طرق كثيرة: (فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رواية أبي هريرة وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وأبي أمامة والنواس بن سمعان وعبدالله بن عمرو بن العاص ومجمع بن جارية وحذيفة بن أسيد - رضي الله عنهم -، وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه ... إلخ" (¬2). ومما سبق من كلام الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - يتضح منهج أهل السنة والجماعة في ذلك؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وعيسى حي في السماء لم يمت بعد وإذا نزل من السماء لم يحكم إلا بالكتاب والسنة لا بشيء يخالف ذلك والله اعلم" (¬3). هـ - حكم من زعم أن عيسى - عليه السلام - صلب ودفن. يبين الشيخ - رحمه الله - أن: "من زعم أن عيسى - عليه السلام - صلب أو قتل فهو كافر؛ لمخالفته لصريح القرآن، ولما ثبت من الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬4). قال الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله -: "من زعم أنه قُتل أو صلب فصريح القرآن يرد قوله ويبطله وهكذا قول من قال: إنه لم يرفع إلى السماء ... فقوله ظاهر البطلان بل هو من أعظم الفرية على الله تعالى، والكذب عليه، وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فإن المسيح - عليه السلام - لم ينزل إلى وقتنا هذا، وسوف ينزل في مستقبل الزمان كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وما تقدم يعلم أن من قال: إن المسيح قتل أو صلب ... فقد أعظم على الله الفرية بل هو مكذب لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن كذب الله ورسوله فقد كفر، والواجب ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 226). (¬2) ينظر: فتاوى اللجنة (3/ 266، 293،299، 300، 301، 307،308، 327، 330، 332، 333، 347). (¬3) مجموع الفتاوى (4/ 316)، وينظر: أمالي لابن سمعون (1/ 305)، فتح الباري (6/ 493)، التصريح بما تواتر في نزول المسيح لمحمد أنور شاه الكشميري الهندي (ص 56) وما بعدها، عون المعبود لمحمد شمس الحق آبادي (11/ 307). (¬4) ينظر: فتاوى اللجنة (3/ 293).

أن يستتاب من قال مثل هذه الأقوال وأن توضح له الأدلة من الكتاب والسنة فإن تاب ورجع إلى الحق وإلا قتل كافراً" (¬1). و- الرد على من فسر التوفي بالإماتة، ولازم هذا القول. يجلي الشيخ - رحمه الله - الفهم الخاطئ لمن فسر التوفي بالإماتة، فيقول: "ومن قال من المسلمين: إن الله تعالى أمات عيسى - عليه السلام - موتاً حقيقياً، ثم رفعه إليه حينما كاد له اليهود وعزموا على صلبه وقتله، فقد شذ عن جماعة المسلمين وضل عن سواء السبيل؛ لمخالفته ظواهر نصوص القرآن والسنة الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والذي حداهم إلى هذا فهمهم الخاطئ لقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} آل عمران: 55، حيث فسر التوفي بالإماتة فخالف بذلك ما صح عن السلف من تفسيره بقبض الله إياه من الأرض ورفعه إليه حيا وتخليصه بذلك من الذين كفروا، جمعا بين نصوص الكتاب والسنة الصحيحة الدالة على رفعه حيا وعلى نزوله آخر الزمان وعلى إيمان أهل الكتاب جميعا وغيرهم به حين نزوله، أما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسير التوفي هنا بالإماتة (¬2) فلم يصح سنده لانقطاعه، إذ هو من رواية علي بن أبي طلحة (¬3) عنه ¬

(¬1) مجموع فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - التوحيد وما يلحق به (1/ 433). (¬2) {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} آل عمران: 55، يعني بعد ذلك وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس إني متوفيك أي مميتك وقال محمد بن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه قال توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه قال ابن إسحاق والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه قال إسحاق بن بشر عن إدريس عن وهب أماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعه قال مطر الوراق إني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت وكذا قال ابن جرير توفيه هو رفعه وقال الأكثرون المراد بالوفاة هاهنا النوم كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} الأنعام: 60. ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 367). (¬3) هو علي بن أبي طلحة الهاشمي القرشي الشامي الحمصي، أبو محمد، أبو الحسن، مولى آل العباس بن عبد المطلب، صدوق، روى 51 حديث، توفي عام 143 هـ. ينظر: الجرح والتعديل (6/ 188)، تقريب التهذيب (ص 402).

وعلي لم يسمع منه ولم يره ولم يصح أيضا ما روي عن وهب بن منبه اليماني (¬1) من تفسير التوفي بالإماتة؛ لأنه من رواية محمد بن إسحاق (¬2) عمن لم يسمعهم عن وهب بن منبه، وابن إسحاق مدلس وفيه مجهول، ثم هذا التفسير لا يزيد عن كونه احتمالا في معنى التوفي، فإنه قد فسر بمعان: - ففسر بأن الله قد قبضه من الأرض بدنا وروحا ورفعه إليه حيا. - وفسر بأنه أنامه ثم رفعه. - وبأنه يميته بعد رفعه ونزوله آخر الزمان، وهو ما صح عن السلف. إذ الواو لا تقتضي الترتيب وإنما تقتضي جمع الأمرين له فقط، وإذا اختلفت الأقوال في معنى الآية وجب المصير إلى القول الذي يوافق ظواهر الأدلة الأخرى، جمعا بين الأدلة، وردا للمتشابه منها إلى المحكم، كما هو شأن الراسخين في العلم دون أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه من التنزيل ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقانا الله شرهم" (¬3). جزم القرآن الكريم بأن عيسى عليه السلام لم يقتل كما زعم النصارى، بل رفعه الله تعالى إليه، قال تعالى: ((... وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيهِ ...)). ¬

(¬1) وهب بن منبه بن كامل بن سيج بن ذي كبار اليماني، الصنعاني، الذماري، الأبناوي، الخراساني، أبو عبد الله، ثقة، رمى بالقدر ورجع عنه، توفي عام 110 هـ. ينظر: التاريخ الأوسط للبخاري (1/ 274)، الثقات لأبي حاتم (5/ 487)، تهذيب الكمال للمزي (31/ 140)، تقريب التهذيب (ص 585)، لسان الميزان (7/ 428). (¬2) هو: محمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر القرشي المطلبي مولاهم، المدني، إمام حافظ أخباري، علامة في السير والمغازي، وله فيها كتاب السيرة النبوية، كتاب الخلفاء، والمبتدأ والمبعث والمغازي؛ وحديثه عند أكثر المحدثين حسن إذا خلا من التدليس، قال عنه ابن حجر: صدوق يدلس رمي بالتشيع والقدر من صغار الخامسة، توفي سنة (151 هـ) على الصحيح. ينظر: وفيات الأعيان (4/ 103)، والسير (7/ 33)، وتذكرة الحفاظ (1/ 172)، وتقريب التهذيب (2/ 54)، الفهرست لابن نديم (ص 134). (¬3) ينظر: فتاوى اللجنة (3/ 315 - 316،293،302 - 305) (3/ 321 - 322، 328).

ولم يرد في القرآن الكريم نص يدل على موت عيسى - عليه السلام - الموتة النهائية، وإنَّما الذي ورد لفظ الوفاة والتوفي في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} آل عمران: 55، وهذه ألفاظ لا ينحصر معناها في الموت، بل تحتمل معاني أخرى، ومن هذه المعاني: أولاً: أن المراد بذلك وفاة الموت لأنه الظاهر من الآية بالنسبة إلى من لم يتأمل بقية الأدلة، ولأن ذلك قد تكرر قي القرآن بهذا المعنى (¬1) وعلى هذا المعنى يكون في الآية تقديم وتأخير. القول الثاني: معناه القبض، نقل ذلك ابن جرير في تفسيره (¬2) عن جماعة من السلف واختاره ورجحه على ما سواه وعليه فيكون معنى الآية: إني قابضاتهما من عالم الأرض إلى عالم السماء وأنت حي ورافعك إليّ. ومن هذا المعنى قول العرب: توفيت مالي من فلان أي قبضته كله وافياً. القول الثالث: أن المراد بذلك وفاة النوم، لأن النوم يسمى وفاة، وقد دلت الأدلة على عدم موته - عليه السلام -، فوجب حمل الآية على وفاة النوم جمعاً بين الأدلة، ولأن النوم يصدق عليه أنه وفاة أي شبيه بها كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ...} الزمر: 42، أي يتوفى الأحياء في المنام بحيث تفارقهم أرواحهم فراقاً خاصاً يفقدون فيه الإحساس والصوت والحركة الاختيارية ثم تعود إليهم أرواحهم عند اليقظة، وقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول عند القيام من النوم: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) (¬3). فعلى هذا يكون المعنى: إني متوفيك وفاة نوم بحيث لا ¬

(¬1) قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} السجدة: 11، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} الأنفال: 50، وغيرها من الكتب. (¬2) تفسير الطبري (3/ 289). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها برقم (7394) عن حذيفة - رضي الله عنه -، وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع برقم (2711) عن البراء - رضي الله عنه -.

تشعر بالرفع إلى السماء، أي أنه رقد نوماً عميقاً ثم في حال نومه رفعه الله كما شاء فلم يستيقظ إلا بعد ما رفع إلى السماء (¬1). والقولان الأخيران أرجح من القول الأول، وبكل فالحق الذي دلت عليه الأدلة البينة وتظاهرت عليه البراهين أنه - عليه السلام - رفع إلى السماء حياً وأنه لم يمت بل لم يزل حياً في السماء إلى أن ينزل في آخر الزمان، ويقوم بأداء المهمة التي أسندت إليه المبينة في أحاديث صحيحة عن محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم يموت بعد ذلك الموتة التي كتبها الله عليه، ومن هنا يعلم أن تفسير التوفي بالموت قول ضعيف مرجوح وعلى فرض صحته فالمراد بذلك: التوفي الذي يكون بعد نزوله في آخر الزمان، فيكون ذكره في الآية قبل الرفع من باب المقدم ومعناه التأخير، لأن الواو لا تقتضي الترتيب، كما نبه عليه أهل العلم (¬2). لوازم القول بموت عيسى: ذكر الشيخ - رحمه الله - اللوازم التي تلزم من يقول بأن الله أمات عيسى حين كاد له اليهود، فقال: " إن من يقول بإماتة الله لعيسى حين كاد له اليهود إما أن يعترف بنزول عيسى - عليه السلام - آخر الزمان عملاً بما ورد من الأحاديث الصحيحة في ذلك وإما أن ينكر نزوله. فإن اعترف به لزمه أن يثبت لعيسى موتاً ثم حياة في الدنيا ثم موتاً عند الكيد والرفع ثم حياة ثم موتاً بعد النزول ثم حياة عند البعث، وهذا مخالف بلا دليل لقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} البقرة: 28، ولقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)} غافر: 11. ¬

(¬1) وهو ما رجحه الشيخ عبد الله بن جبرين هو أن الوفاة هنا هي النوم أي أن الله رفعه إليه وهو نائم. ينظر: فتاوى وأحكام في نبي الله عيسى - عليه السلام - أجاب عنها فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن جبرين أمد الله عمره على طاعته ونفعنا بعلمه جمع وتخريج علي العماري (14 - 15). (¬2) مجموع فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - التوحيد وما يلحق به (1/ 433)، أضواء البيان (7/ 133 - 135).

وإن أنكر نزوله بعد رفعه كان راداً للأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول عند علماء المسلمين الشاهدة شهادة صريحة بنزوله ودعوته إلى الحق وحكمه به وقتله الخنزير وكسره الصليب .. إلخ ما ثبت من أحواله بعد نزوله. وكلا الأمرين لا مخلص منه إلاَّ بالقول بما قال به أهل السنة والجماعة من إنجاء الله عيسى من كيد اليهود ورفعه إليه بدناً ورحاً، وإنزاله آخر الزمان حكماً عدلاً" (¬1). سبق إثبات أن عيسى - عليه السلام - لم يمت بل رفعه الله إليه، وقد دلت الآيات القرآنية على نزوله إلى الأرض في آخر الزمان، وذلك في ثلاثة مواضع من القرآن: "الأول: قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} النساء: 159، فقد دلت الآية على أنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وسيؤمن بعيسى عليه السلام عبداً لله ورسولاً من عنده، وذلك سيكون قبل موت عيسى، ومعلوم أن هذا لم يقع حتى الآن، مما يعني أنه مما سوف يقع فيما نستقبله من الزمان، لأن الآية جاءت في سياق تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه وتسليمه. الثاني: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} الزخرف: 61، فإن الآيات قبلها كانت تتحدث عن عيسى عليه السلام، ولذا فإن الضمير في هذه الآية يعود إليه، فيكون خروجه من علامات الساعة وأماراتها، لأنه ينزل قبيل قيامها، ومما يدل على ذلك القراءة الأخرى {وإنه لَعَلَمٌ للساعة} بفتح العين واللام أي: علامة وأمارة، وهي مروية عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما من أئمة التفسير. الثالث: قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} آل عمران: 46، وفي هذا الآية عدد الله تعالى بعض خصائص عيسى ودلائل نبوته، فكان منها كلامه في المهد وهو رضيع، وكلام الرضيع من الخوارق الدالة على النبوة ولا شك، وذكر منها كلامه وهو كهل، والكهولة سن بداية ظهور الشيب، فما هو وجه كون كلامه وهو كهل من الآيات، والكلام من الكهل أمر مألوف معتاد؟! وكيف يحسن الإخبار به لا سيما في مقام البشارة؟! لا بد أن يكون المراد بهذا الخبر أن كلامه كهلاً سيكون آية ككلامه طفلاً، وهذه الحالة ¬

(¬1) ينظر: فتاوى اللجنة (3/ 293 - 305، 352).

لم تقع فيما مضى من حياته التي كان فيها بين الناس لأنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فلم يبق إلا أن هذه الخصيصة ستتحقق فيما يستقبل من الزمان، ويكون المعنى أنه سيرفع إلى السماء قبل أن يكتهل، ثم ينزل فيبقى في الأرض أربعين سنة - كما ثبت في الحديث - إلى أن يكتهل، فيكلم الناس كهلاً كما كلمهم طفلاً، وتتحقق له هذه الآية والمعجزة التي أخبر الله عنها في كتابه" (¬1). وعليه فمن قال بموت عيسى فيكون مخالفاً للآيات الواضحات وراداً للأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول عند علماء المسلمين الشاهدة شهادة صريحة بنزوله ودعوته إلى الحق وحكمه به وقتله الخنزير وكسره الصليب .. إلى آخر ما ثبت من أحواله بعد نزوله. وعليه فلا بُدّ أن يقر بما قال به أهل السنة والجماعة من إنجاء الله عيسى من كيد اليهود ورفعه إليه بدناً ورحاً، وإنزاله آخر الزمان حكماً عدلاً، أما من كُتب عليه الشقاء فلا ينفعه ما ذُكر من آيات الكتاب العزيز والسنة الصحيحة {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} البقرة: 269. ز- الدلالة على موت عيسى - عليه السلام - بعد نزوله من السماء. يقول الشيخ - رحمه الله -: " وفي قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)} الأنبياء: 8، الحكم بأن الأنبياء والمرسلين لا يخلدون في الدنيا، وأهل السنة يؤمنون بذلك، وأن عيسى كغيره من المرسلين يأتي عليه الموت كغيره، إلا أن الكتاب والسنة دلا على أن ذلك بالنسبة له لا يكون إلا بعد نزوله من السماء حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير. لو شاء الله أن يهلكه وأمه ومن في الأرض جميعا من المخلوقات لفعل ولكنه لم يعمهم بالهلاك، بل أجرى فيهم سنته بالإهلاك في مواقيت محدودة اقتضتها حكمته سبحانه، وكان من حكمته أنه لم يهلك عيسى عليه السلام حينما تآمر عليه اليهود ولا بعد رفعه" (¬2). ¬

(¬1) المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود (10/ 491). (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 312 - 314).

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الأنبياء إخوة لعلات (¬1) أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون" (¬2). لم يرد عن الشارع نص يبين لنا مكان موت عيسى عليه السلام، ولكن ذكر بعض العلماء أنه يموت عليه السلام في المدينة النبوية، وقيل إنه يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما. قال القرطبي - رحمه الله -: " واختلف حيث يدفن فقيل: بالأرض المقدسة ذكره الحليمي، وقيل: يدفن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكرناه من الأخبار" (¬3). ط - بعض معجزات عيسى - عليه السلام -. يبين الشيخ - رحمه الله - بعض هذه المعجزات، فيقول: " ومن الآيات والمعجزات التي أجراها الله على أيدي رسله وكانت حجة لهم على أممهم في إثبات الرسالة؛ ... إبراء عيسى الأكمه والأبرص وإحياؤه الموتى بإذن الله إلى غير هذا مما هو كثير معلوم، فرفع عيسى حيا وإبقاؤه ¬

(¬1) لعلات: بنو العلات: بنو رجل واحد من أمهات شتى. وفي الحديث (الأنبياء أولاد علات) إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة. المعجم الوسيط (2/ 23). (¬2) أخرجه أحمد في المسند برقم (9017)، والحاكم في المستدرك برقم (4163)، وقال الألباني في " السلسلة الصحيحة " (5/ 214) حديث رقم (2182) هذا إسناد صحيح كما قال الحافظ في " الفتح " (6/ 384) وهو على شرط مسلم. (¬3) التذكرة (2/ 794)، وينظر لوامع الأنوار البهية (2/ 113)، النكت والعيون- تفسير الماوردي- (3/ 438).

قرونا ونزوله بعد ذلك مما استثني من هذا العموم (¬1) كغيره من خوارق العادات التي هي سنة الله مع رسله ولا غرابة في ذلك" (¬2). قال تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ...} آل عمران: 49. ومن جنس الآيات والمعجزات لعيسى - عليه السلام - خلق الطير والنفخ فيه آية ومعجزة، وإبراء الأكمه-وهو من يولد أعمى- والأبرص الذي في جلده بياض فيمسحه حتى يبرأ هو أيضاً معجزة وآية من ربه، وكذا إخبارهم بما يدخرون في بيوتهم وما يخفونه من أسرارهم، وكذا إحياء الموتى بإذن الله ونحو ذلك من الآيات التي تدل على أنه مرسل من ربه، والتي لأجلها زعم النصارى لعنهم الله أنه هو الله فكفروا بذلك كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ...} المائدة: 72، إنما هذه الآيات للدلالة على صدقه وأنه مرسل من ربه. (¬3) ي - عبودية عيسى - عليه السلام -. قال الشيخ - رحمه الله - مبيناً هذه العبودية: " قوله سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)} الزخرف: 59.يثبت العبودية لعيسى - عليه السلام -، وأن الله أنعم عليه بالرسالة وليس ربا ولا إلها، وأنه آية على كمال قدرة الله، ومثل أعلى في الخير يقتدى به ويهتدى بهديه؛ .. وأن عيسى وأمه عبدان ضعيفان كسائر خلق الله " (¬4). ¬

(¬1) أي من قول الله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} الأحزاب: 62، قال الشيخ عبد الرزاق: " هذه الجملة وإن كانت عامة إلا أنها خصصت بالآيات والمعجزات التي أجراها الله على أيدي رسله وكانت حجة لهم على أممهم في إثبات الرسالة" فتاوى اللجنة (3/ 313). (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 313). (¬3) ينظر: فتاوى وأحكام في نبي الله عيسى - عليه السلام - لابن جبرين (21، 47)، الجواب الصحيح لابن تيمية (4/ 46)، تفسير ابن كثير (1/ 365)، نظم الدرر للبقاعي (2/ 93). (¬4) فتاوى اللجنة (3/ 313 - 314).

5 - سليمان - عليه السلام -

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)} مريم: 30: "فخاطبهم بوصفه بالعبودية، وأنه ليس فيه صفة يستحق بها أن يكون إلهاً، أو ابناً للإله، تعالى الله عن قول النصارى المخالفين لعيسى في قوله {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} مريم: 30، والمدعين موافقته. قال تعالى: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} مريم: 30، أي: قضى أن يؤتيني الكتب، وقال تعالى: {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)} مريم: 30، فأخبرهم بأنه عبد الله، وأن الله علمه الكتاب، وجعله من جملة أنبيائه، فهذا من كماله لنفسه" (¬1). 5 - سليمان - عليه السلام -: يقرر الشيخ - رحمه الله - بعض ما خص الله به سليمان - عليه السلام -، فيقول: " جعل الله تعالى تسخيره الشياطين لسليمان - عليه السلام - آية خارقة للعادة، كإلانة الحديد وإسالة عين القطر وتسخير الريح والطيور وتعليمه لغة الطير ونحو ذلك من خوارق العادات التي خص الله بها سليمان استجابة لدعائه: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} ص: 35، {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)} ص: 36 - 37" (¬2). وقد أوحي إلى سليمان - عليه السلام - كما جاء في قوله تعالى: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)} النمل: 29 - 31، فكانت الدعوة إلى الإيمان بالوحدانية هي أساس دعوة سليمان، ولا شك أن رسالة سليمان - عليه السلام - هي أبرز الرسالات التي وضحت فيها عقيدة ¬

(¬1) تفسير السعدي (1/ 492)، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (التفسير) (3/ 401)، تفسير الألوسي (11/ 490)، تفسير البغوي (5/ 230)، تفسير القرطبي (11/ 102)، تفسير ابن كثير (5/ 228). (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 362).

وجود الشياطين وضوحاً تاماً، وأن الله سبحانه وتعالى أعطاه من الملك ما لم يعطِ غيره من معرفة منطق الطير، وخدمة الجن والإنس له، والريح تجري بأمره، وإسالة عين القطر، وإلانة الحديد ونحوها من خوارق العادات استجابة له: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)} ص: 36 - 37 (¬1). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " فإنه لا ريب أن الله خص الأنبياء بخصائص لا توجد لغيرهم، ولا ريب أن من آياتهم ما لا يقدر أن يأتي به غير الأنبياء، بل النبي الواحد له آيات لم يأت بها غيره من الأنبياء، كالعصا واليد لموسى، وفرق البحر فإن هذا لم يكن لغير موسى، وكانشقاق القمر والقرآن وتفجير الماء من بين الأصابع وغير ذلك من الآيات التي لم تكن لغير محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء، وكالناقة التي لصالح فإن تلك الآية لم يكن مثلها لغيره، وهو خروج ناقة من الأرض بخلاف إحياء الموتى، فإنه اشترك فيه كثير من الأنبياء بل ومن الصالحين، وملك سليمان لم يكن لغيره كما قال، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} ص: 35، فطاعة الجن والطير وتسخير الريح تحمله من مكان إلى مكان له ولمن معه، لم يكن مثل هذه الآية لغير سليمان، وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) (¬2)، وهو من حين أتى بالقرآن وهو بمكة يقرأ {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} الإسراء: 88، فقد ظهر أن من آيات الأنبياء ما يختص به النبي، ومنها ما يأتي به عدد من الأنبياء، ومنها ما يشترك فيه الأنبياء كلهم ويختصون به، وهو الإخبار عن الله بغيبه الذي لا يعلمه إلا الله قال، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ¬

(¬1) ينظر: تاريخ الأنبياء والرسل والارتباط الزمني والعقائدي (239 - 248)، تفسير السعدي (1/ 713)، تفسير القرطبي (15/ 205)، فتح الباري (6/ 459). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، برقم (4981)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - برقم (155) ..

6 - الخضر - عليه السلام -

ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} الجن: 26 - 28 " (¬1). 6 - الخضر - عليه السلام -: يقول الشيخ - رحمه الله - في تعمير الخضر: "الصحيح من أقوال العلماء أن الخضر عليه السلام توفي قبل إرسال الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)} الأنبياء: 34، وعلى تقدير أنه بقي حياً حتى لقي نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - فقد دلت السنة على وفاته بعد وفاة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بمدة محدودة، بينها - صلى الله عليه وسلم - بقوله فيما ثبت عنه: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد) (¬2)، وعلى هذا يكون شأنه شأن الأموات لا يسمع نداء من ناداه ولا يجيب من دعاه ولا يهدي من ضل عن الطريق إذا استهداه وعلى تقدير أنه حي إلى اليوم فهو غائب، شأنه شأن غيره من الغائبين لا يجوز دعاؤه ولا الاستنجاد به في شدة أو رخاء؛ لعموم قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} الجن: 18، وما جاء في معناه من الآيات؛ ثم هذا هو الأصل الغالب في سنة الله في بني آدم فيجب البقاء معه حتى يثبت ما ينقل عنه من الأدلة، ولم يثبت فيما نعلم ما يدل على استثناء الخضر عليه السلام" (¬3). ثم يبين الشيخ - رحمه الله - القول الصحيح في نبوته، فيقول: "والصحيح أن الخضر نبي لما ذكره الله تعالى في سورة الكهف من قصته مع موسى عليهما السلام فإن فيها أنه خرق سفينة كانت لمساكين يعملون في البحر، وقتل غلاماً لم يرتكب جريمة، وأقام جداراً ليتيمين ¬

(¬1) النبوات (1/ 218). (¬2) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب السمر في العلم برقم (116)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب قوله: لا تأتي مائة سنة برقم (2537)،من حديث عبد الله بن عمر به. (¬3) فتاوى اللجنة (3/ 285، 286).

بلا أجر في قرية أبى أهلها إطعامهما، وأنكر موسى كل ذلك عليه فبين له السبب أخيراً، ثم ختمت القصة بأن كل ذلك كان منه بوحي من الله وذلك فيما أخبر الله عنه من قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)} الكهف: 82 " (¬1). الخضر بفتح أوله وكسر ثانيه، أو بكسر أوله وإسكان ثانيه، عبد من عباد الله، ذكرت قصته مع نبي الله موسى - عليه السلام - في القرآن الكريم مجملة، وفصلت بعض أحواله في السنة النبوية، وقد اختلف الناس حوله اختلافاً كثيراً (¬2). يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -: "الخضر اختلف في اسمه، وفي اسم أبيه، وفي نسبه، وفي نبوته، وفي تعميره" (¬3). وقد اختلف أهل العلم في نبوته على أقوال أشهرها قولان: الأول: أنه نبي وهو قول الجمهور، واختلف القائلون به في كونه نبياً رسولاً أو نبياً فقط، وأكثرهم على القول بنبوته دون رسالته (¬4). والثاني: أنه ولي لا نبي، وهو قول بعض الصوفية ومن وافقهم (¬5). والصحيح قول الجمهور بأنه نبي لا ولي، وقول من قال منهم بنبوته دون رسالته، والأدلة على ذلك كثيرة، وقد ذكرها غير واحد من أهل العلم. يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -: "والذي لا يتوقف فيه الجزم بنبوته" (¬6). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 286، 287). (¬2) ينظر: فتوى في الخضر لابن تيمية ضمن جامع الرسائل له (5/ 131)، والزهر النضر في حال الخضر لابن حجر العسقلاني، والخدر في أمر الخضر للقارئ (ص 73)،وما بعدها. (¬3) فتح الباري (6/ 433). (¬4) ينظر: تفسير القرطبي (11/ 16)، مدارج السالكين (2/ 475 - 476)، فتح الباري (6/ 434)، الحذر في أمر الخضر (ص 83)، روح المعاني للألوسي (15/ 320)، وتفسير القرطبي (11/ 16). (¬5) ينظر: نشر المحاسن الغالية لليافعي (48، 70). (¬6) الزهر النضير (ص 162).

ويقول العلامة الألوسي (¬1) - رحمه الله -: " ... والمشهور ما عليه الجمهور -يعني القول بنبوته- وشواهده من الآيات والأخبار كثيرة، وبمجموعها يكاد يحصل اليقين" (¬2). وقال القرطبي - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} الكهف: 65: " الرحمة في هذه الآية النبوة. وقيل: النعمة ... قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)} الكهف: 65، أي علم الغيب" (¬3). وقد اختلف العلماء كذلك فيما يتعلق بحياته وتعميره على قولين: الأول: القول بوفاته، وهو ما عليه المحققون من أهل العلم (¬4). والثاني: القول بتعميره، وهو قول لبعض الصوفية ومن وافقهم (¬5). الأدلة من الكتاب والسنة على قول من قال بوفاته: من الكتاب: - قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الأنبياء: 34، فالخضر إن كان بشراً فقد دخل في هذا العموم لا محالة، ولا يجوز تخصيصه منه إلا بدليل صحيح (¬6). ¬

(¬1) هو محمود شكري بن عبد الله بن محمود الخطيب، البغدادي، الحسيني، المشهور بأبي المعالي الألوسي، سلفي حنفي، من مؤلفاته: غاية الأماني في الرد على النبهاني، فتح المنان تتمة منهاج التأسيس رد صلح الإخوان، صب العذاب على من سب الأصحاب وغيرها، توفي سنة (1342 هـ). ينظر: الأعلام (7/ 172)، معجم المؤلفين (3/ 810). (¬2) روح المعاني (15/ 320). (¬3) تفسير القرطبي (11/ 16). (¬4) ينظر: جامع المسائل (5/ 131)، المنار المنيف لابن القيم (ص 72)، البداية والنهاية لابن كثير (1/ 312)، فتح الباري (6/ 434). (¬5) ينظر: لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري (ص 151)، نشر المحاسن الغالية (ص 395). (¬6) ينظر: المنار المنيف (69 - 70)، البداية والنهاية (1/ 312)، وتفسير ابن كثير - (ج 5 / ص 341).

- قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} آل عمران: 81، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء، ليؤمن به وينصرنه" (¬1). فالخضر إن كان نبياً أو ولياً فقد دخل في هذا الميثاق، فلو كان حياً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان أشرف أحواله أن يكون بين يديه يؤمن بما أنزل الله عليه، وينصره أن يصل أحد من الأعداء إليه، ولم يثبت أن الخضر اجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على موته (¬2). ومن السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة لا يبقى على ظهر الأرض أحد) (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة-: (وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله، ما على الأرض نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة) (¬4). قال ابن الجوزي: "فهذه الأحاديث الصحاح تقطع دابر دعوى حياة الخضر" (¬5). وبمجموع هذه الأدلة فإن الراجح -والله أعلم- القطع بموته. ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (3/ 330) برقم (7327) من طريق المثنى وأحمد بن حازم، كلاهما عن أبي نعيم، عن سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنه - بنحوه. وذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 405) بلفظه عن ابن عباس، وبنحوه عن جمع من الصحابة والتابعين. (¬2) ينظر: البداية والنهاية (1/ 312). (¬3) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب السمر في العلم برقم (116)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تأتي مائة سنة ...) برقم (2537)، من حديث عبد الله بن عمر به. (¬4) أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تأتي مائة سنة ...) برقم (2537)، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬5) نقله عنه ابن كثير في البداية والنهاية (1/ 313)، وأصل كلامه في كتابه عجالة المنتظر في شرح حال الخضر وهو غير مطبوع، وللاستزادة ينظر: المسائل العقدية في فيض القدير (ص 657 - 662).

المطلب الثاني الإيمان بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -

المطلب الثاني الإيمان بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - تمهيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. يفسر الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - الشهادة، فيقول: "شهادة (أن لا إله إلا الله) و (أن محمداً رسول الله) هي الركن الأول من أركان الإسلام، ومعنى (لا إله إلا الله): لا معبود بحق إلا الله، وهي نفي وإثبات. (لا إله) نافياً جميع العبادة لغير الله، (إلا الله) مثبتاً جميع العبادة لله وحده لا شريك له، وأما كلمة (محمد رسول الله) فمعناها: الإقرار برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - والإيمان بها والانقياد لها قولاً وفعلاً واعتقاداً، واجتناب كل ما ينافيها من الأقوال والأعمال والمقاصد والتروك، وبعبارة أخرى معناها: طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع" (¬1). لا إله إلا الله هي كلمة الإخلاص وعنوان التوحيد، ولا يتم إسلام عبد دون تحقيق معناها، والعمل بمدلولها. وهي تعني إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة وحده لا شريك له، والبراءة من كل معبود سواه، فمعنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله (¬2). ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، وأن تعلم وتعتقد بأن محمد بن عبد الله القرشي ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 86 - 87). (¬2) ينظر: تفسير الطبري (9/ 161) (11/ 317 - 318)، تفسير البغوي (7/ 285)، مجموع الفتاوى (3/ 101) (13/ 202 - 205)، تفسير ابن كثير (1/ 215)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/ 44)، تجريد التوحيد المفيد للمقريزي (47، 48)، تطهير الاعتقاد للصنعاني (5، 6)، مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (2/ 120)، تيسير العزيز الحميد (73، 74)، فتح المجيد (1/ 121)، مفتاح الجنة لا إله إلا الله للمعصومي الحنفي (60، 62)، معارج القبول للحكمي (2/ 416)، أضواء البيان (4/ 508) (6/ 273).

الهاشمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الخلق من الجن والإنس، وأنه عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، بل يطاع ويتبع، من أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وأن تعلم وتعتقد بأن تلقي التشريع سواء في العقيدة، أم في شعائر العبادات التي أمر الله بها، أم في نظام الحكم والتشريع، أم في مجال الأخلاق، أو في مجال بناء الأسرة، أو في مجال التحليل والتحريم. . لا يكون إلا عن طريق هذا الرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه رسول الله المبلغ عنه شريعته، فلا يتحقق معنى شهادة أن محمداً رسول الله إلا بتمام الاتباع وكمال الاقتداء، بهدي النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وجوب اتباعه: قال الشيخ - رحمه الله -: "الأدلة متضافرة على وجوب اتباعه عليه الصلاة والسلام في كل ما جاء به من التشريع فعلاً كان أو قولاً، أمراً أو نهياً، إيماناً به وتسليماً له وعملاً بمقتضاه؛ إلاّ أن المتبع فيه من التشريع ليس على وزن واحد في حكمه، بل جزيئاته متفاوتة في الرتبة؛ فمنه المطلوب والممنوع والمباح، فكان واجباً اتباعه عليه الصلاة والسلام في كل ذلك على الوجه الذي بينته الأدلة التفصيلية بإيجاب الواجب وندب المندوب والعمل بكل منهما في درجته، والتوسع في المباح بفعله تارة وتركه أخرى، ومنع المحرم والمكروه وتجنب كل منهما حسب درجته. وبالجملة الأمر ظاهر في وجوب الاتباع والإجمال إنما هو في المتبع فيه فيرجع في بيان ¬

(¬1) ينظر: دعاوى المناوئين لدعوة محمد بن عبد الوهاب للدكتور عبد العزيز العبد اللطيف (1/ 108)، الأصول الثلاثة (1/ 8)، الغنية عن الكلام وأهله للإمام الخطابي (1/ 41)، عقيدة المسلم للشيخ محمد بن جميل زينو (8/ 5)، الإسلام أصوله ومبادئه لمحمد بن عبد الله بن صالح السحيم (1/ 169)، دين الحق لعبد الرحمن بن حماد آل عمر (51 - 52)، أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء نشر وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية (1/ 339)، موسوعة الدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمعها وقدم لها ورتبها الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود (4/ 204)، كتاب العلم للعثيمين (1/ 52)، شرح العقيدة الطحاوية لصالح آل الشيخ (1/ 315)، من أخلاق الرسول الكريم لعبد المحسن بن حمد العباد البدر (ج 1/ 46).

درجته إلى الأدلة التفصيلية لينزل على ضوئها كل فعل أو قول منزلته، وهو شبيه في الجملة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ...} النحل: 90 الآية" (¬1). وبين الشيخ - رحمه الله - عودة الضمير في قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ...} النور: 63، فيقول: " جملة {... قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ ...} النور: 63، جاءت تابعة لقوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ...} النور: 63، تقريراً للنهي وتهديداً لمن خالف؛ فكان الواجب رجوع الضمير إلى الرسول؛ فإنه المقصود في الآية بالتحذير من مخالفة أمره على أن نصوص الشريعة قررت التلازم بين طاعة الله وطاعة رسوله ومعصية الله ومعصية رسوله - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). ويقول كذلك الشيخ - رحمه الله -: " بين مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع غير سبيل المؤمنين تلازمٌ كالتلازم بين معصية الله ومعصية رسوله، فكل ما كان مشاقة للرسول؛ فهو اتباع لغير سبيل المؤمنين، وكذا العكس، كما أن كل معصية لله معصية لرسوله وكل طاعة لله أو لقضائه طاعة لرسوله ولقضائه، وكذا العكس، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} النساء: 13 - 14، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} الأحزاب: 36، وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ ...} النساء: 69. وفي الحديث: ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 239 - 240)، ينظر: المسألة السادسة من مسائل الأوامر والنواهي في كتاب "الموافقات"للشاطبي. (¬2) الإحكام (1/ 242)، وينظر: الإحكام (1/ 244،249).

(من أطاعني؛ فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ...) (¬1) إلخ. فلم يكتف بأحدهما عن الآخر ولم ينفك عنه" (¬2). ما ذكره الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - وساقه من نصوص شرعية محكمة يبين وجوب الإيمان بنبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ومحبته وتصديقه وطاعته والانقياد له، يعد من أصول الإيمان الذي لا يتم إيمان العبد إلا به، ولا يستقيم له أمر إلا باعتقاده، بل إنه لا يقبل للمرء صرف ولا عدل إلا بتوحيد متابعته ونهج طريقه؛ إذ جميع السبل غير سبيله مسدودة، وكل الأعمال على غير هديه مردودة، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} آل عمران: 31 - 32، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} النساء: 69، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} النساء: 115، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} النور: 63. وهكذا في كثير من النصوص القرآنية الكريمة. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: (من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) (¬3). وقال: (إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العُريان فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب يقاتل من وراء الإمام ويتقي به برقم (2957)، ومسلم في كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء ... برقم (1835)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 273). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالسنة، باب الإقتداء بسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (7280) (الفتح 13/ 249)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثلُ من عصاني وكذب بما جئت به من الحق) (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (بعثت بالسيف حتى يعُبد الله لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمُحي، وجعُل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم) (¬2). قال الإمام أحمد: "نظرت في المصحف فوجدت فيه طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة وثلاثين موضعاً" (¬3). وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله -: "والمقصود أن بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أن بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة؛ فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة، وقد أقسم - صلى الله عليه وسلم - بأن (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) (¬4)، وأقسم الله سبحانه بقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} النساء: 65. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالسنة، الإقتداء بسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (7283) (الفتح13/ 250)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل باب شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته ... برقم (19) (4/ 1788 - 1789) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (5093)، وقال عنه الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح (7/ 121). (¬3) الإبانة لابن بطة (1/ 260). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان برقم (15) (الفتح 1/ 58)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان باب وجوب محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من الأهل والولد ... برقم (44) (1/ 67)، من حديث أنس ابن مالك - رضي الله عنه - ولفظ البخاري: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، وعند البخاري أيضاً وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: (فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده).

أولا: بيان بعض معجزاته - صلى الله عليه وسلم -

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الأحزاب: 36، فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره - صلى الله عليه وسلم - ... " (¬1). - بعض المسائل المتعلقة بالإيمان بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. عرض الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - لبعض المسائل المتعلقة بالإيمان بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على وجه الخصوص، وهي فيما يلي: أولاً: بيان بعض معجزاته - صلى الله عليه وسلم -. الطريق المشهورة عند أهل الكلام والنظر: تقرير النبوة بالمعجزات ... ، ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح، ولكن الدليل غير محصور في المعجزات، فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا إلا على أجهل الجاهلين (¬2). 1 - ثبوت معجزاته - صلى الله عليه وسلم -. قال الشيخ - رحمه الله -: "الأمور التي تتصل بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أنواع: -منها ما نقل تواتراً من إخباره عن نفسه أنه نبي ودعوته الناس لاتباعه والإيمان به. -ومنها ما نقل تواتراً من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -. -ومنها دلالة ما شوهد أو نقل من معجزاته على ما ادعاه من الرسالة. فأما الأول والثاني فالأخبار فيهما متواترة عن محسات ومشاهدات، وهي أقوى نقلاً وآكد إثباتاً لصدور ما تضمنته عنه - صلى الله عليه وسلم - ونسبته إليه من الخبر عن البلاد النائية، والخلفاء والملوك والوجهاء في العصور الماضية، ومن الإخبار عن شجاعة علي وكرم حاتم، ونحوها من ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 37 - 38). وينظر: الشفا للقاضي عياض، إذ عقد فصلاً في وجوب طاعته عليه الصلاة والسلام وآخر في وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه، وثالثاً في الوعيد على مخالفته وعصيان أوامره (2/ 6) وما بعدها. (¬2) ينظر: شرح الطحاوية (1/ 158).

الأمور التي يضرب بها المثل في الاستفاضة والتواتر، فمن أنكر ذلك فهو إما مجنون أو مكابر لا تصح مناظرته. أما الثالث: فيكفي بعض ما نقل من معجزاته في إثبات رسالته يقيناً ولو بطريق النظر؛ وإلاّ ما قامت بذلك الحجة على من أرسله الله إليهم ولا سقطت به معاذيرهم ولا استبيحت به دماء المخالفين وأموالهم ولا كان ثواب ولا عقاب، وذلك باطل بنصوص القرآن والسنة القولية والعملية المستفيضة بل المتواترة، فمن أنكر رسالته بعد مشاهدة الآيات أو البلاغ الصحيح فهو أيضاً إما مجنون وإما مكابر حسود أو مقلد مخدوع غلبه على أمره من هم في نظره من كبراء قومه" (¬1). ولقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى تأييد الأنبياء والرسل بالدلائل والحجج والبراهين التي تبين صدقهم فيما يدعون الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما سواه حتى تقوم الحجة على الناس، ولا يبقى لأحد عذر في عدم تصديقهم وطاعتهم. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} الحديد: 25، أي بالدلائل والآيات البينات والحجج الباهرات التي تدل على صدقهم (¬2). وذكر أهل العلم أن أعلام نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - تبلغ ألفاً، بل قد قال بعضهم إن ما في القرآن من الآيات التي تدل على نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن لبشر الإحاطة بها (¬3). ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 25) و (2/ 47). (¬2) تفسير القرآن العظيم (3/ 315). (¬3) ينظر: دلائل النبوة للبيهقي (1/ 10)، والجواب الصحيح (4/ 79،249).

2 - ذكر بعض معجزاته - صلى الله عليه وسلم -

2 - ذكر بعض معجزاته - صلى الله عليه وسلم -. - الإخبار عن الغيب بإخبار الله له. بين الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - أقسام الغيب، فقال: "من الغيب: 1 - ما استأثر الله بعلمه فلم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبيّاً مرسلاً كتحديد الوقت الذي يقوم فيه الخلق لله رب العالمين للحساب، فإنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)} الأعراف: 187، وقال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} الأحزاب: 63، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} النازعات: 42 - 45، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما الحديث الطويل المشهور «أن جبريل سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "متى الساعة؟ " قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل!) (¬1) .. 2 - ومن الغيب ما أعلمه الله بعض عباده كالأمور المستقبلة التي أخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت معجزة له وآية من آيات الله خص الله بها رسوله، وهي داخلة في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الجن: 26 - 27، وفي قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} آل عمران: 179، وبهذا يتبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم الغيب علماً كلياً، وإنما كان يعلمه علماً جزئياً في حدود ما أطلعه الله عليه، شأنه في ذلك شأن إخوانه النبيين، والمقصود الإيضاح بالمثال لا للاستقصاء" (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام ... برقم (50)، ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم (8)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنهم -. (¬2) فتاوى اللجنة (2/ 170 - 171). ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 450 - 453)، (1/ 477)، (2/ 176 - 177).

ثانيا: خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -

علم الغيب من الأمور التي استأثر الله تعالى بها، واختص بها نفسه جل وعلا، دون من سواه من ملك مقرب أو نبي مرسل، وهو يطلع من يرتضيه من رسله على بعض الغيب متى شاء وإذا شاء (¬1). قال القاضي عياض - رحمه الله -: "وتجرى أحكامه عليه السلام على الظاهر، ولو شاء الله لأطلعه على سرائر عباده ومخبآت ضمائر أمته ... وكل ذلك من علم الغيب الذي استأثر به عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فيعلمه منه ما شاء ويستأثر بما شاء، ولا يقدح هذا في نبوته، ولا يفصم عروة من عصمته، وخفي عليه - صلى الله عليه وسلم - حال أهل الإفك حتى جاءه الخبر من الله، ويخفى عليه - صلى الله عليه وسلم - أمور كثيرة يطول عدها، حتى يأتيه الوحي بخبرها" (¬2). ثانياً: خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. الخصائص النبوية هي الفضائل والأمور التي انفرد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وامتاز بها إما عن إخوانه الأنبياء، وإما عن سائر البشر. وهي ضربان: الأول: خصائص تشريعية: وهي ما اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - من التشريعات الإلهية. والثاني: خصائص تفضيلية: وهي الفضائل والتشريفات التي كرم الله بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - دون غيره (¬3). ¬

(¬1) ينظر: ودرء التعارض (5/ 73)، وأعلام السنة المنشورة (ص 95)، ومعارج القبول (2/ 571)، أشراط الساعة (ص 15). (¬2) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى (2/ 186) وما بعدها. (¬3) ينظر: خصائص المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بين الغلو والجفاء للصادق محمد (23 - 25).

1 - ما عد من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وهو ثابت

ويمكن تقسيم ما أورده الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - من الخصائص إلى قسمين: 1 - ما عد من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وهو ثابت. - اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بالسماع في قبره. قال الشيخ - رحمه الله -: "الأصل: أن الأموات عموماً لا يسمعون نداء الأحياء من بني آدم ولا دعاءهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} فاطر: 22، ولم يثبت في الكتاب ولا في السنة الصحيحة ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع كل دعاء أو نداء من البشر حتى يكون ذلك خصوصية له، وإنما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه يبلغه صلاة وسلام من يصلي ويسلم عليه فقط، سواء كان من يصلي عليه عند قبره أو بعيداً عنه كلاهما سواء في ذلك؛ لما ثبت عن علي بن الحسين بن علي ن: (أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم) (¬1). أما حديث: (من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي بعيداً بلغته) فهو حديث ضعيف عند أهل العلم (¬2). وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام) (¬3). فليس بصريح أنه يسمع سلام المسلم، بل يحتمل أنه يرد ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (8586)، وقال الألباني في تحذير الساجد (ص 127): إسناده مسلسل بأهل البيت، إلا أن أحدهم وهو علي بن عمر مستور، وقال الشيخ ابن عثيمين في مجموع فتاويه (9/ 448): إسناده متصل وفيه عنعنة لكنها لا تضر. (¬2) ينظر: أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم (158). والعقيلى في الضعفاء الكبير (4/ 136)، برقم (1696). وإسناد ضعيف فيه العلاء بن عمرو الحنفي وهو ضعيف الحديث ومحمد بن مروان السدي وهو مجهول، وقال بوضعه شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (27/ 241)، والألباني في سلسة الأحاديث الضعيفة برقم (203). (¬3) أخرجه الترمذي كتاب المناسك باب زيارة القبور برقم (2041)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (2266).

عليه إذا بلغته الملائكة ذلك، ولو فرضنا سماعه سلام المسلم لم يلزم منه أن يلحق به غيره من الدعاء والنداء" (¬1). وقال: كذلك: "سماع الأصوات من خواص الأحياء، فإذا مات الإنسان ذهب سمعه فلا يدرك أصوات من في الدنيا ولا يسمع حديثهم، {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} فاطر: 22، فأكد تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - عدم سماع من يدعوهم إلى الإسلام بتشبيههم بالموتى، والأصل في المشبه به أنه أقوى من المشبه في الاتصاف، بوجه الشبه، وإذًا فالموتى أدخل في عدم السماع وأولى بعدم الاستجابة من المعاندين الذين صموا آذانهم عن دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام وعموا عنها، وقالوا: قلوبنا غلف، وفي هذا يقول تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} فاطر: 13 - 14، وأما سماع قتلى الكفار الذين قبروا في القليب يوم بدر نداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياهم وقوله لهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا، فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا) وقوله لأصحابه: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) (¬2) حينما استنكروا نداءه أهل القليب فذلك من خصوصياته التي خصه الله بها فاستثنيت من الأصل العام بالدليل، وهكذا سماع الميت قرع نعال مشيعي جنازته مستثنى من هذا الأصل، وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام) (¬3) مستثنى من هذا الأصل" (¬4). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 472 - 473) تصرف يسير. (¬2) أخرجه البخاري كتاب المغازي باب قتل أبي جهل برقم (3976)، وأخرجه مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها باب عرض مقعد الميت من الجنة ... برقم (2873)، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه أبو داود (2/ 218)، كتاب المناسك باب: زيارة القبور (2041)، وقد حسنه الألباني. ينظر: صحيح سنن أبي داود (1/ 570) ح 2041. (¬4) فتاوى اللجنة (1/ 478 - 479).

ومن المعلوم أن الاعتقاد بأن الموتى يسمعون هو السبب الأقوى لوقوع كثير من المسلمين اليوم في الشرك الأكبر، ألا وهو دعاء الأولياء والصالحين وعبادتهم من دون الله عز وجل ... فإذا تبين أن الصواب بأن الموتى لا يسمعون لم يبق حينئذ معنى لدعاء الموتى من دون الله تعالى (¬1). قال ابن عبد الهادي (¬2) في معنى رد الروح للسلام في حديث: (ما من أحد يسلم علي ...): " ... فإن قوله: (إلا ردَّ الله عليَّ روحي) بعد قوله: (ما من أحد يسلم علي ...) يقضي ردّ الروح بعد السلام، ولا يقتضي استمرارها في الجسد، وليعلم أن رد الروح في البدن وعودها إلى الجسد بعد الموت لا يقتضي استمرارها فيه، ولا يستلزم حياة أخرى قبل يوم النشور نظير الحياة المعهودة، بل إعادة الروح إلى الجسد في البرزخ إعادة لا تزيل عن الميت اسم الموت ... بل هي نوع حياة برزخية، والحياة جنس تحتها أنواع، وكذلك الموت، فإثبات بعض أنواع الموت لا ينافي الحياة، كما في الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا استيقظ من النوم قال: (الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) (¬3) " (¬4). عن ابن عمر م: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على قليب بدر فقال: (هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً) وقال: (إنهم ليسمعون الآن ما أقول)، فذكر ذلك لعائشة فقالت: وهم ابن عمر إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلت هو الحق)، ثم قرأت قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} النمل: 80، حتى قرأت الآية. ¬

(¬1) ينظر: الآيات البينات للشيخ الألباني (10 - 11). (¬2) هو: محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة، أبو عبد الله، سلفي المعتقد، من أعلام المحدثين، وأحد تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية، من مؤلفاته: الصارم المنكى في الرد على السبكي، المحرر في الأحكام، توفي سنة (744 هـ). ينظر: الدرر الكامنة لابن حجر (3/ 331)، تذكرة الحفاظ للذهبي (4/ 1508)، شذرات الذهب (6/ 141)، البداية والنهاية (14/ 210). (¬3) أخرجه البخاري (5/ 2326)، كتاب الدعوات، باب: ما يقول إذا نام، ح 5953، ومسلم (4/ 2083)، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، ح 2711. (¬4) الصارم المنكي (213 - 214)، باختصار. وينظر: الروح لابن القيم (162 - 163)، وشرح النونية لابن عيسى (1/ 169 - 170).

قال القرطبي - رحمه الله -: " اعلم رحمك الله أن عائشة - رضي الله عنها - قد أنكرت هذا المعنى واستدلت بقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} النمل: 80، وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} فاطر: 22، ولا تعارض بينهما، لأنه جائز أن يكونوا يسمعون في وقت ما أو في حال ما، فإن تخصيص العموم ممكن وصحيح إذا وجد المخصص، وقد وجد هنا بدليل ما ذكرناه (¬1)، وبقوله عليه الصلاة والسلام: (إنه ليسمع قرع نعالهم) (¬2)، وبالمعلوم من سؤال الملكين للميت في قبره وجوابه لهما وغير ذلك مما لا ينكر" (¬3). وقال الشيخ محمد الشنقيطي - رحمه الله -: "والحاصل أن تأوّل عائشة ك بعض آيات القرآن لا تردّ به روايات الصحابة العدول الصحيحة الصريحة عنه - صلى الله عليه وسلم - ويتأكّد ذلك بثلاثة أمور: الأول: أن رواية العدل لا تردّ بالتأويل. الثاني: أن عائشة - رضي الله عنها - لما أنكرت رواية ابن عمر عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنهم ليسمعون الآن ما أقول قالت: إن الذي قاله - صلى الله عليه وسلم - (إنهم ليعلمون الآن أن الذي كنت أقول لهم هو الحق) فأنكرت السماع ونفته عنهم وأثبتت لهم العلم، ومعلوم أن من ثبت له العلم صحّ منه السماع كما نبّه عليه بعضهم. الثالث: هو ما جاء عنها مما يقتضي رجوعها عن تأويلها إلى الروايات الصحيحة. قال ابن حجر - رحمه الله -: ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير (¬4) بإسناد جيّد عن عائشة مثل حديث أبي طلحة وفيه (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ¬

(¬1) من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهل القليب. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب الميت يسمع خفق النعال برقم (1338)، ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه برقم (2870). (¬3) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 181). (¬4) هو: يونس بن بكير بن واصل الحافظ أبو بكر الشيباني الكوفي الحمال صاحب المغازي؛ قال ابن معين: صدوق، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وقال أبو داود: ليس بحجة، قال الشيخ شمس الدين: مما ينقم عليه التشيع، وقال ابن معين: ثقة إلا أنه مرجئ، وقال العجلي: ضعيف الحديث، وروى له مسلم تبعاً، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. ينظر: الوافي بالوفيات للصفدي (29/ 177).

وأخرجه أحمد بإسناد حسن فإن كان محفوظاً فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة لكونها لم تشهد القصّة انتهى منه (¬1). واحتمال رجوعها لما ذكر قوي لأن ما يقتضي رجوعها ثبت بإسنادين. قال ابن حجر - رحمه الله -: إن أحدهما جيّد والآخر حسن ثم قال ابن حجر قال الإسماعيلي (¬2) كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه لكن لا سبيل إلى ردّ رواية الثقة إلا بنصّ مثله يدلّ على نسخه أو تخصيصه أو استحالته (¬3) " (¬4). وقال العيني - رحمه الله -: " قال ابن التين (¬5): لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية، لأن الموتى لا يسمعون لا شك، لكن إذا أراد الله إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع كقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} الأحزاب: 72، وقوله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} فصلت: 11، وأن النار اشتكت إلى ربها، ويكون معنى قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} النمل: 80، مثل قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} القصص: 56، ثم قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} النمل: 80، وقبله: قال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)} النمل: 79 - 80، قال أبو الليث السمرقندي (¬6) - رحمه الله -: هذا مثل ضربه للكفار، فكما أنك لا تسمع الموتى فكذلك لا تفقه ¬

(¬1) فتح الباري (7/ 304). (¬2) هو: (¬3) فتح الباري (7/ 304). (¬4) أضواء البيان (6/ 134 - 135). (¬5) هو: أبو محمد عبد الواحد بن التين الصفاقسي المغربي المالكي. الشهير بابن التين، فقيه محدث مفسر. له اعتناء زائد في الفقه والتفسير، اعتمده الحافظة ابن حجر في شرح البخاري، وكذلك ابن رشد وغيرهما، توفي سنة (611 هـ)؛ من تصانيفه: " المخبر الفصيح في شرح البخاري الصحيح ". ينظر: كشف الظنون (1/ 46)، هدية العارفين لإسماعيل باشا (1/ 635)، شجرة النور الزكية لمحمد بن محمد مخلوف (ص 168). (¬6) هو أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم البخاري السمرقندي، علامة من أئمة الحنفية ورائد من الزهاد، قدم بغداد وحدث بها، وهو مفسر ينقل عنه كثير من المتأخرين، وهو صاحب كتاب تنبيه الغافلين وكتاب بستان العارفين، توفي سنة 373 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (13/ 301)، ومقدمة تحقيق كتاب تنبيه الغافلين (ص 9).

كفار مكة، {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)} قرأ ابن كثير: {ولا يسمع الصم (80)} بفتح الياء وبضم "الصمُ" على أنه فاعل "لا يسمع" والباقون "ولا تُسمع" بالخطاب ونصب "الصمَ" على المفعولية، قوله: قال تعالى: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)} النمل: 80، يعني إذا أعرضوا عن الحق مكذبين" (¬1). وقال الزمخشري (¬2) - رحمه الله - عند قول الله تعالى: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)} النمل: 80 - : " تأكيد لحال الأصم لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن تولى عنه مدبراً كان أبعد عن إدراك صوته" (¬3). وقال الشوكاني - رحمه الله - عند قول الله تعالى: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)} النمل: 80 - : " ظاهر نفي إسماع الموتى العموم، فلا يخص منه إلا ما ورد بدليل كما ثبت في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - خاطب القتلى في قليب بدر فقيل له: يا رسول الله إنما تكلم أجساداً لا أرواح لها، وكذلك ما ورد من أن الميت يسمع خفق نعال المشيعين له إذا انصرفوا (¬4) " (¬5). ¬

(¬1) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (8/ 202)، وينظر: أضواء البيان (6/ 131 - 135). (¬2) هو: أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري الخوارزمي، العلامة النحوي كبير المعتزلة والداعي إلى الاعتزال، ولد (467 هـ) كان رأساً في البلاغة والعربية وله نظم جيد، توفي سنة 538 هـ. من تصانيفه: الكاشف في التفسير، وأساس البلاغة، وغيرها. ينظر: وفيات الأعيان (4/ 254 - 260)، السير (20/ 252 - 256)، البداية والنهاية (12/ 219). (¬3) الكشاف (3/ 387). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الميت يسمع خفق النعال، برقم (1338)، ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيم أهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه برقم (2870). (¬5) فتح القدير (4/ 151).

اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بأنه خاتم النبيين

- اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بأنه خاتم (¬1) النبيين. قال الشيخ - رحمه الله -: "في معناه ما رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم من طريق أنس، قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت؛ فلا رسول بعدي ولا نبي) (¬2) الحديث، وفي آخر عند أحمد بلفظ: (لا نبوة بعدي إلا المبشرات) (¬3) الحديث، وقد صح في ذلك المعنى أحاديث بلغت درجة التواتر" (¬4). قال ابن كثير - رحمه الله -: " وقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} الأحزاب: 40، كقوله عز وجل {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} الأنعام: 124، فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فإن كل رسول نبي ولا ينعكس وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث جماعة من الصحابة ن فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي قال فشق ذلك على الناس فقال ولكن المبشرات قالوا يا رسول الله وما المبشرات قال رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة) (¬5) وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى دارا فأتمها إلا لبنة واحدة فجئت أنا فأتممت ¬

(¬1) يقال: خاتم بفتح التاء وكسرها وقد قرئ بهما، والفتح بمعنى الختام والانتهاء، والمعنى أنه انتهاء النبيين فهو كالخاتم والطابع الذي يكون عند الانتهاء. والكسر بمعنى أنه خاتمهم يعني جاء آخرهم فلم يبق بعده نبي، فيه انتهت النبوة والرسالة - صلى الله عليه وسلم -. ينظر: مختار الصحاح (1/ 71)، ولسان العرب (12/ 165). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (13412)، والترمذي في كتاب الرؤيا باب ذهبت النبوة وبقيت المبشرات برقم (2272)، قال الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2272) صحيح الإسناد. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (23283)، قال الألباني في إرواء الغليل (8/ 129): إسناده صحيح. (¬4) الإحكام في أصول الأحكام (3/ 151 - 152). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (13412)، والترمذي في كتاب الرؤيا باب ذهبت النبوة وبقيت المبشرات برقم (2272)، قال الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2272) صحيح الإسناد.

تلك اللبنة) (¬1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قال فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون) (¬2)، وعن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته) (¬3)، وعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقول إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي) (¬4)؛ فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به وإكمال الدين الحنيف له وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل ولو تخرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم فكلها محال وضلال عند أولي الألباب كما أجرى الله سبحانه وتعالى على يد الأسود العنسي (¬5) باليمن ومسيلمة الكذاب (¬6) باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان لعنهما الله وكذلك كل مدع لذلك إلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله ¬

(¬1) وأخرجه البخاري كتاب المناقب باب خاتم النبيين برقم (3534)، ومسلم كتاب الفضائل باب ذكر كونه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين برقم (2287). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة المقدمة برقم (523). (¬3) أخرجه الإمام أحمد برقم (16712)، قال الحاكم: صحيح الإسناد، (2/ 656)، حديث برقم (4175)، وصححه الألباني في شرح الطحاوية (ص 159) .. (¬4) أخرجاه في الصحيحين فأخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب قوله تعالى: ((من بعدي اسمه أحمد)) برقم (4896)، ومسلم في كتاب الفضائل باب في أسمائه - صلى الله عليه وسلم - برقم (2355). (¬5) هو: عيهلة بن كعب بن عوف العنسي المذحجي، ذو الحمار، أسلم يوم أسلمت اليمن، ثم ارتد عن الإسلام، وادعى النبوة، قتل سنة 11 هـ. ينظر: الأعلام (5/ 111). (¬6) هو: مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي، أبو ثمامة، ادعى النبوة، وتلقب بالرحمن، حتى عرف برحمان اليمامة، قتل سنة 12 هـ. ينظر: شذرات الذهب (1/ 23)، الأعلام (7/ 226).

تعالى معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه فإنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر إلا على سبيل الاتفاق أو لما لهم فيه من المقاصد إلى غيره ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم كما قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)} الشعراء: 221 الآيات، وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم في غاية البر والصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات والأدلة الواضحات والبراهين الباهرات فصلوات الله وسلامه عليهم دائما مستمرا مادامت الأرض والسموات" (¬1). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 494 - 495)، وينظر: اللفظ المكرم (2/ 5) وما بعدها، الخصائص الكبرى (1/ 8)، سبل الهدى والرشاد (11/ 56 - 57)، شرح الزرقاني (5/ 300).

اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بأن الشيطان لا يتمثل عليه

- اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بأن الشيطان لا يتمثل عليه. يفسر الشيخ - رحمه الله - قوله - صلى الله عليه وسلم - من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، فيقول: " معنى الحديث على هذه الرواية: أن من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام على صورته التي كان عليها في الدنيا فسيرى تأويل رؤياه ووقوع ما أشارت إليه من الخبر في دنياه؛ لأن رؤياه على صورته حق؛ لما دل عليه قوله آخر الحديث: (فإن الشيطان لا يتمثل بي) (¬1). وليس المراد أنه يرى ذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيقظته فعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي ...) (¬2) الحديث، ومعناه: من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - على صورته التي كان عليها في الدنيا فرؤياه حق، فإن الشيطان لا يتمثل بصورته، وروى مسلم في صحيحه هذا الحديث بلفظ: (من رآني في المنام فسيراني، أو فكأنما رآني) (¬3) على الشك، ولم يذكر كلمة اليقظة، ومعناه: صدق الرؤيا وأن تأويلها سيتحقق" (¬4). وقال الشيخ - رحمه الله - كذلك: "مضت سنة الله أن جعل الناس أحياء في الدنيا بعد أن كانوا أمواتاً؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، ثم يميتهم فيها عند انتهاء آجالهم ثم يبعثهم يوم القيامة للحساب والجزاء، قال الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} البقرة: 28، وقال سبحانه في سورة المؤمنون: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} المؤمنون: 15 - 16، وجعل سبحانه تلك السنة الكونية عامة للأنبياء والمرسلين حتى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الرؤيا باب قوله من رآني في المنام ... برقم (2266). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب التعبير باب من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام برقم (6993). (¬3) أخرجها مسلم، كتاب الرؤيا، باب قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من رآني في المنام فقد رآني) برقم (2266). (¬4) فتاوى اللجنة (1/ 484 - 485).

عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} الزمر: 30 - 31، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما بلغ الرسالة وأكمل الله به دينه وأقام به الحجة على خلقه، وصلى عليه أصحابه رضي الله عنهم صلاة الجنازة، ودفنوه حيث مات في حجرة عائشة ك، وقام من بعده الخلفاء الراشدون، وقد جرى في أيامهم أحداث ووقائع فعالجوا ذلك باجتهادهم ولم يرجعوا في شيء منها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن زعم بعد ذلك أنه رآه في اليقظة حيًا وكلمه أو سمع منه شيئًا قبل يوم البعث والنشور فزعمه باطل؛ لمخالفته النصوص والمشاهدة وسنة الله في خلقه، وليس في هذا الحديث دلالة على أنه سيرى ذاته في اليقظة في الحياة الدنيا؛ لأنه يحتمل أن المراد بأنه: فسيراني يوم القيامة، ويحتمل أن المراد: فسيرى تأويل رؤياه؛ لأن هذه الرؤيا صادقة بدليل ما جاء في الروايات الأخرى من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فقد رآني) (¬1) الحديث. وقد يراه المؤمن في منامه رؤيا صادقة على صفته التي كان - صلى الله عليه وسلم - عليها أيام حياته الدنيوية" (¬2). وما ذكره الشيخ - رحمه الله - من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرى في اليقظة هو القول الراجح؛ أما من قال بجواز رؤيته - صلى الله عليه وسلم - يقظة بعد وفاته فيرد عليهم من وجوه: 1 - أن القول بذلك معارض بالأدلة النقلية والعقلية والحسية الدالة على وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يرد على ذلك حياته في قبره إذ حياته فيه حياة برزخية (¬3). 2 - أن رؤيته - صلى الله عليه وسلم - يقظة بعد وفاته لو كانت، ممكنة، لكان أولى الناس بها أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، ولا سيما مع قيام المقتضي لهذه الرؤية، فإنه قد جرى بين الصحابة من النزاع في كثير من المسائل ما يستدعي ظهوره لهم وفصله بينهم (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب التعبير باب من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، برقم (6993). (¬2) فتاوى اللجنة (1/ 485 - 486). (¬3) ينظر: حياة الأنبياء بعد وفاتهم للبيهقي (32 - 49)، توضيح المقاصد لابن عيسى (2/ 160 - 171)، الصواعق المرسلة الشهابية لابن سحمان (98 - 101)، شرح الكافية الشافية للهراس (1/ 402). (¬4) ينظر: مجموع الفتاوى (7/ 392 - 393).

3 - أن القول بذلك يلزم منه لوازم باطلة، منها: القول باستمرار التشريع، وأن يخلو القبر من جسده - صلى الله عليه وسلم - فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب، وأن يكون من رآه صحابياً وغيرها (¬1). 4 - أن القائلين بذلك اضطربوا في رؤيته - صلى الله عليه وسلم - هل هي رؤية لذاته على الحقيقة أو رؤية مثال لها، وهل تكون بالقلب أو بالبصر (¬2)، وهذا محسوس والاختلاف فيها على هذا الوجه يدل على عدم تحققها. 5 - أن القائلين بذلك لم يذكروا على قولهم هذا دليلاً يُعتمد عليه، وما ذكروه أمران: • حديث: (من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة) (¬3): والحديث أخرجه البخاري من طريق عبد الله بن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن محمد بن شهاب الزهري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - به. والجواب عنه من وجهين: أ- أن أهل العلم اختلفوا في المراد بالحديث على أقوال (¬4)، أصحها أن المراد به التشبيه والتمثيل، ويدل لذلك روايات الحديث الأخرى فقد رواه بقية أصحاب الزهري بلفظ: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو فكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي) (¬5). ¬

(¬1) ينظر: فتح الباري (12/ 401 - 402). (¬2) ينظر: أقوالهم في الحاوي للفتاوى لجلال الدين السيوطي (2/ 263). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب التعبير باب من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام برقم (6993). (¬4) ينظر: فتح الباري (12/ 385)، وشرح صحيح مسلم (15/ 24). (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الرؤيا، باب قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من رآني في المنام فقد رآني)، برقم (2266).

اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بشفاعته لعمه أبي طالب

ب- أن حمل الحديث على رؤيته - صلى الله عليه وسلم - يقظة بعد وفاته وإن كان أحد الأقوال في المراد بالحديث إلا أنه قول ضعيف؛ إذ إن جماعة رأوه في المنام ولم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، ومعلوم أن خبر الصادق لا يتخلف (¬1). • وأما الحكايات التي يذكرها المصنفون في الكرامات أو يتناقلها العامة من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة بعد وفاته: فهذه الحكايات ليست حجة شرعية يجب المصير إليها؛ إذ هي كذب مختلق، أو تزوير شيطان مرق؛ ولهذا لم يقع مثل هذا لأحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان (¬2). - اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بشفاعته لعمه أبي طالب. قال الشيخ - رحمه الله -: " أبو طالب هو أخف أهل النار عذاباً يوم القيامة، بسبب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - له في ذلك، وإنما يخفف الله عنه ما هو فيه من العذاب بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لما رواه مسلم في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو ينتعل بنعلين يغلي منهما دماغه) (¬3). ولما رواه مسلم وغيره عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: (يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: (نعم، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) (¬4)، وفي رواية عن العباس: (قلت: يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك؟ قال: (نعم، وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح) (¬5)، وروى مسلم أيضًا، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر عنده عمه أبو طالب، فقال: (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه) (¬6). ¬

(¬1) ينظر: فتح الباري (12/ 385). (¬2) ينظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 44)، غاية الأماني (2/ 225 - 226). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب أهون أهل النار عذاباً برقم (212). (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبي طالب والتخفيف عنه بسببه برقم (209). (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبي طالب والتخفيف عنه بسببه برقم (209). (¬6) أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب قصة أبي طالب برقم 3885)، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبي طالب والتخفيف عنه بسببه برقم (210).

وكل من مات كافرًا فهو مخلد في النار، سواء كان من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - أم من غيرهم؛ لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)} التغابن: 10، وما جاء في معناها من الآيات" (¬1). وهذه الشفاعة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبي طالب ودليلها ما سبق ذكره من كلام الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -، ومما سبق يظهر أن سبب شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعمه في تخفيف العذاب هو دفاعه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونصرته له، حتى ورد أنه أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة. وينبغي أن نعلم هنا أن هذه الشفاعة التي نفعت أبا طالب، مع كونه كافراً، شفاعة تخفيف فقط، لا شفاعة إخراج من النار (¬2). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 488 - 490). (¬2) ينظر: التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي (1/ 249)، والبعث والنشور للبيهقي (ص 31)، ومجموع الفتاوى (1/ 144)، والشفاعة عند أهل السنة والرد على المخالفين فيها، د. ناصر الجديع (47 - 48).

اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بتعدد أسمائه

- اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بتعدد أسمائه. قال الشيخ - رحمه الله -: " لم يصح تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه بشيء منه إلا خمسة أسماء أو ستة فقط" (¬1). عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب) (¬2). قال الخطابي: " قوله: (لي خمسة أسماء) معناه أن هذه الأسماء مذكورة في كتب الله تعالى (¬3)، فأي اسم وجد منها فهو اسمه وصفته. وأما محمد وأحمد فهما مشهوران، فـ (محمد) قدمه لأنه أشرفها، و (أحمد) أي أحمد الحامدين، فالأنبياء حمادون، وهو أحدهم، وأما (الحاشر) فقد ذكر تفسيره في الحديث؛ وهو الذي يحشر الناس على أثره، كقوله: (أنا أول من تنشق عنه الأرض) (¬4)، و (العاقب): الآخر، يريد: أني خاتم الأنبياء، جاء عقبهم، يقال: عقبت القوم أعقبهم إذا جئت آخرهم" (¬5) " (¬6). قال ابن القيم - رحمه الله -: " أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها نعوت ليست أعلاما محضة لمجرد التعريف بل أسماء مشتقة من صفات قائمة به توجب له المدح والكمال فمنها محمد وهو أشهرها وبه سمي في التوراة صريحاً ... بما يوافق عليه كل عالم من مؤمني أهل الكتاب، ومنها أحمد وهو الاسم ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 174). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برقم (3532)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل باب في أسمائه - صلى الله عليه وسلم - برقم (2355). (¬3) قال النووي في شرح صحيح مسلم (15/ 106): "قال العلماء: وإنما اقتصر على هذه الأسماء مع أن له - صلى الله عليه وسلم - أسماء غيرها؛ لأنها موجودة في الكتب المتقدمة وموجودة للأمم السابقة". (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل باب تفضيل نبينا - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلائق برقم (2278). (¬5) أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري (3/ 1587 - 1588). (¬6) ينظر: أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعانيها لابن فارس (ص 33)، والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (1/ 228 - 235)، وشرح صحيح مسلم (15/ 104 - 106)، وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 21 - 22)، وزاد المعاد (1/ 86 - 97).

الذي سماه به المسيح ... ، ومنها المتوكل ومنها الماحي والحاشر والعاقب والمقفي ونبي التوبة ونبي الرحمة ونبي الملحمة والفاتح والأمين، ويلحق بهذه الأسماء: الشاهد والمبشر والبشير والنذير والقاسم والضحوك والقتال وعبد الله والسراج المنير وسيد ولد آدم وصاحب لواء الحمد وصاحب المقام المحمود وغير ذلك من الأسماء لأن أسماءه إذا كانت أوصاف مدح فله من كل وصف اسم لكن ينبغي أن يفرق بين الوصف المختص به أو الغالب عليه ويشتق له منه اسم وبين الوصف المشترك فلا يكون له منه اسم يخصه ... ؛ وأسماؤه - صلى الله عليه وسلم - نوعان: أحدهما: خاص لا يشاركه فيه غيره من الرسل كمحمد وأحمد والعاقب والحاشر والمقفي ونبي الملحمة. والثاني: ما يشاركه في معناه غيره من الرسل ولكن له منه كماله فهو مختص بكماله دون أصله كرسول الله ونبيه وعبده والشاهد والمبشر والنذير ونبي الرحمة ونبي التوبة. وأما إن جعل له من كل وصف من أوصافه اسم تجاوزت أسماؤه المائتين كالصادق والمصدوق والرؤوف الرحيم إلى أمثال ذلك وفي هذا قال من قال من الناس: إن لله ألف اسم (¬1) وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ألف اسم ومقصوده الأوصاف" (¬2). ¬

(¬1) قال القشيري: إن لله ألف اسم ثلاثمائة في التوراة وثلاثمائة في الزبور وثلاثمائة في الإنجيل وتسعة وتسعين في القرآن وواحدا في صحف إبراهيم. ينظر: حاشية العدوي لعلي الصعيدي العدوي المالكي (2/ 631)، الثمر الداني شرح رسالة القيرواني لصالح عبد السميع الآبي الأزهري (ص 705). (¬2) زاد المعاد (1/ 84)، وينظر: جلاء الأفهام لابن القيم (ص 172)، فتح الباري (6/ 558).

اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - برؤية من وراءه

- اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - برؤية من وراءه. قال الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله -: " ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأصحابه: (إنه لا يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم، إني أراكم من وراء ظهري) (¬1) والأصل: أنه كسائر البشر لا يرى من وراء الحجاب الذي لا تخترقه الأبصار إلا ما خصه الدليل" (¬2). قال ابن حجر - رحمه الله -: والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار، إدراك حقيقي، خاص به - صلى الله عليه وسلم -، انخرقت فيه العادة، على هذا عمل المصنف (¬3)، فأخرج هذا الحديث في علامات النبوة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره (¬4)، وحكاه القاضي عياض عن جمهور العلماء (¬5). وقال الإمام العيني - رحمه الله -: " قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من وراء ظهري) أي من خلف ظهري ... والعلماء اختلفوا في معنى هذه الرؤية فقال قوم: - المراد بها العلم، إما بطريق أنه كان يوحى إليه بيان كيفية فعلهم، وإما بطريق الإلهام، وهذا ليس بشيء لأنه لو كان ذلك بطريق العلم ما كانت فائدة في التقييد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من وراء ظهري). - وقال قوم المراد به أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير في بعض الأحوال، وهذا أيضاً ليس بشيء وهو ظاهر وأنكر ذلك الإمام أحمد: إنكارا شديدا. - وقال الجمهور وهو الصواب إنه من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وإن إبصاره إدراك حقيقي انخرقت له فيه العادة ولهذا أخرجه البخاري هذا الحديث في علامات النبوة. ¬

(¬1) متفق عليه من حديث أنس، فأخرجه البخاري في الصلاة باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة .. (1/ 515) برقم (419). ومسلم في الصلاة باب الأمر بتحسين الصلاة برقم (425). (¬2) فتاوى اللجنة (1/ 477). (¬3) يعني البخاري. (¬4) الفتح (1/ 514). (¬5) إكمال المعلم للقاضي عياض (2/ 336 - 337). وينظر: شرح النووي لمسلم (4/ 149).

واختلف العلماء كذلك في كيفية رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلف ظهره:- - فقيل كانت له عين خلف ظهره يرى بها من وراءه دائماً. - وقيل كانت له بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يعني مثل خرق الإبرة يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره. - وقيل بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة أمثلتهم فيها فيشاهد بذلك أفعالهم" (¬1). وكل هذه الأقوال في كيفية الرؤية تفتقر للدليل الصحيح والله أعلم. والخصائص الثابتة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - كثيرة، وما ذكره الشيخ عبد الرزاق: طرف منها، وقد أفردها غير واحد من أهل العلم بمصنفات خاصة (¬2). ¬

(¬1) عمدة القاري (5/ 255)، عمدة القاري (4/ 157)، وينظر: تفسير ابن كثير (6/ 171)، التمهيد لابن عبد البر (18/ 346)، فصول من السيرة (1/ 261)، مشكل الآثار للطحاوي (12/ 317). (¬2) ينظر: غاية السول في خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن علي بن الملقن (ص 223)، اللفظ المكرم لمحمد الخضيري (2/ 5)، الخصائص الكبرى لجلال الدين السيوطي (2/ 314)، مرشد المحتار لمحمد بن علي بن طولون (ص 123)، خصائص المصطفى بن الغلو والجفاء لصادق بن محمد بن إبراهيم (31 - 79)، وذكر المنجد في معجم ما ألف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جملة منها (187 - 190).

2 - ما عد من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وهو غير ثابت

2 - ما عد من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وهو غير ثابت. - اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بأنه المقصود من خلق الخلق. سُئل الشيخ - رحمه الله - عن هذا الحديث (لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك) فأجاب بقوله: " ذكره العجلوني (¬1)، وقال: قال الصغاني (¬2): إنه موضوع، ثم قال: وأقول: لكنه معناه صحيح وإن لم يكن حديثًا. نقول: بل هو باطل لفظًا ومعنى؛ فإن الله تعالى إنما خلق الخلق ليعبدوه، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} الذاريات: 56، ولم يثبت حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن الخلق خلقوا من أجله لا الأفلاك ولا غيرها من المخلوقات، وذكره محمد بن علي الشوكاني (¬3) وقال: قال الصغاني: موضوع، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} الطلاق: 12" (¬4). ويبين الشيخ - رحمه الله - الحكمة من خلق السماوات والأرض، فقال: "لم تخلق السموات والأرض من أجله - صلى الله عليه وسلم -، بل خلق لما ذكره الله سبحانه من قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ ¬

(¬1) في (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس) وهو إسماعيل بن محمد بن عبد الهادي العجلوني الدمشقي، أبو الفداء، من مؤلفاته: كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، شرح الحديث المسلسل بالدمشقيين، الفيض الجاري شرح صحيح البخاري وغيرها، توفي سنة 1162 هـ. ينظر: سلك الدرر (1/ 259)، الأعلام (1/ 325). (¬2) هو محمد بن إسحاق بن جعفر الصغاني الخرساني، أبو بكر، نزيل بغداد، أحد الثقات، روى عنه مسلم والترمذي ومات سنة (275 هـ). ينظر: طبقات الحفاظ للسيوطي (1/ 50)، معجم البلدان (3/ 403). (¬3) في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة (1/ 326). (¬4) فتاوى اللجنة (1/ 465).

أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} الطلاق: 12، أما الحديث المذكور (¬1) فهو مكذوب على النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أساس له من الصحة" (¬2). والقول بأنه - صلى الله عليه وسلم - المقصود من الخلق قول باطل من وجوه: 1 - أن القول بذلك يعارض النصوص الشرعية الدالة على أن المقصود من الخلق ابتلاؤهم بالعبادة كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} الذاريات: 56، وقوله سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} الملك: 2، وأن الله تعالى هو الممد للمخلوقات والمتصرف فيها كيف يشاء كقوله سبحانه: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} البقرة: 284، وقوله جل وعلا: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} المائدة: 17. 2 - أن القول بذلك ينافي بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما أخبر الله به عنه وأخبر هو عن نفسه كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} الكهف: 110، وقوله سبحانه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} الأعراف: 188، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً) (¬3). 3 - أن هذا القول مأخوذ من بعض الفلسفات الفاسدة، والعقائد الباطلة كالفلسفة الهندية، والعقيدة النصرانية. ¬

(¬1) الحديث هو (لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك). (¬2) فتاوى اللجنة (1/ 469). (¬3) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} الشعراء: 214، (3/ 1497) برقم (4771) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - به.

4 - أن غاية ما استدلوا به أحاديث موضوعة لا تقوم بها الحجة (¬1). ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " ما يذكرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كوكباً، أو أن العالم كله خلق منه، أو أنه كان موجوداً قبل أن يخلق أبواه، أو أنه كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه به جبريل، وأمثال هذه الأمور، فكل ذلك كذب مفترى باتفاق أهل العلم بسيرته. والأنبياء كلهم لم يخلقوا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل خلق كل واحد من أبويه، ونفخ الله فيه الروح. ولا كان كلما يعلم الله لرسله وأنبيائه يوحيه يأخذونه بواسطة سوى جبريل، بل تارة يكلمهم الله وحياً يوحيه إليهم، وتارة يكلمهم من وراء حجاب كما كلم موسى بن عمران وتارة يبعث ملكاً فيوحي بإذنه ما يشاء، ومن الأنبياء من يكون على شريعة غيره، كما كان بني إسرائيل على شريعة التوراة. وأما كونهم كلهم يأخذون من واحد فهذا يقوله ونحوه أهل الاتحاد من أهل الوحدة والاتحاد كابن عربي صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأمثالهما" (¬2). ¬

(¬1) ينظر: الجواب الصحيح (3/ 384)، حقيقة الصوفية للقاسم (ص 280)، مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية (1/ 393). (¬2) مجموع الفتاوى (18/ 367 - 368).

اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بأنه خلق من نور

- اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بأنه خلق من نور. قال الشيخ مبيناً هذه العبارة: "وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه نور من نور الله إن أريد به أنه نور ذاتي من نور الله فهو مخالف للقرآن الدال على بشريته، وإن أريد بأنه نور باعتبار ما جاء به من الوحي الذي صار سببًا لهداية من شاء من الخلق فهذا صحيح، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - نور هو نور الرسالة والهداية التي هدى الله بها بصائر من شاء من عباده، ولا شك أن نور الرسالة والهداية من الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} الشورى: 51. وليس هذا النور مكتسبًا من خاتم الأولياء كما يزعمه بعض الملاحدة، أما جسمه - صلى الله عليه وسلم - فهو دم ولحم وعظم ... إلخ، خُلق من أب وأم ولم يسبق له خلق قبل ولادته، وما يروى أن أول ما خلق الله نور النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو أن الله قبض قبضة من نور وجهه وأن هذه القبضة هي محمد - صلى الله عليه وسلم - ونظر إليها فتقاطرت فيها قطرات فخلق من كل قطرة نبيًا، أو خلق الخلق كلهم من نوره - صلى الله عليه وسلم -، فهذا وأمثاله لم يصح منه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). وقال الشيخ عبد الرزاق: كذلك: "النبي - صلى الله عليه وسلم - نور هدى ورشاد، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} الشورى: 52، و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} الأحزاب: 45 - 46، وليس بدنه نورًا وليس هو من نور الله الذي هو وصفه، بل هو لحم وعظم وما خالطهما، خلق من أب وأم كغيره كما مضت بذلك سنة الله تعالى في البشر، وكان يأكل ويشرب ويقضي من شأنه، وله ظل إذا مشى في شمس أو نحوها، وأما قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} المائدة: 15 - 16، فالمراد بالنور في ذلك: ما بعثه الله به من الوحي، من ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 446 - 447)،وينظر: فتاوى اللجنة 467 - 468). و (ص 366 وما بعدها من [مجموع الفتاوى] لابن تيمية، الجزء الثامن عشر).

عطف الخاص على العام ولم يثبت في القرآن ولا في السنة الصحيحة أنه نور عرش الله، أما ما يروى من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلق من نور الله فهو حديث موضوع" (¬1). ومن قال بأن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - خلق من نور؛ فلا بد من أن يبين مراده وإلا فقوله هذا باطل من وجوه: 1 - أن القول بذلك ينافي بشرية نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن البشر مخلوقون من التراب لا من النور، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)} الروم: 20. وقال - صلى الله عليه وسلم -: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) (¬2). فهذا خبر عام في جميع البشر، فتخصيص نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه خلق من نور يحتاج إلى مخصص، ولا مخصص (¬3). 2 - أن القول بذلك يفضي إلى بعض العقائد الفاسدة كاعتقاد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخلوق من نور الله تعالى، وأن العالم كله خلق من نوره، وأنه أول المخلوقات، وأن خلقه متقدم على العرش والقلم، وقد التزم جماعة من القائلين بذلك بهذه العقائد (¬4). 3 - أن القول بذلك مأخوذ من بعض الفلسفات القديمة، والنظريات الفاسدة (¬5). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 463)، وينظر: فتاوى اللجنة (1/ 466 - 467) فتاوى اللجنة (1/ 464). (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب في أحاديث متفرقة (4/ 2294) برقم (2996) من حديث عائشة - رضي الله عنها - به. (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (11/ 94 - 95)، فتاوى ابن عثيمين (1/ 333). (¬4) ينظر: الفتوحات المكية لابن عربي الطائي (1/ 119)، الإنسان الكامل لعبد الكريم الجليلي (2/ 46)، الإبريز لأحمد بن المبارك (ص 252). (¬5) ينظر: الجواب الصحيح (3/ 384)، حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ لعبد الرؤوف القاسم (ص 280)، التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق لزكي مبارك (1/ 210، 279، 201)، الانحرافات العقدية عند الصوفية لإدريس محمود إدريس (1/ 393)، خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء (100 - 109).

اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بأنه رأى ربه

- اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بأنه رأى ربه. قال الشيخ - رحمه الله - مبيناً: "لم ير نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه في الدنيا بعيني رأسه على الصحيح من قولي العلماء في ذلك وإنما رأى جبريل عليه السلام على صورته معترضا الأفق، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} النجم: 5 - 17" (¬1). هذه المسألة من المسائل الخلافية بين أهل السنة والجماعة والخلاف فيها قد وقع بين الصحابة - رضي الله عنهم - وغيرهم، قال ابن أبي العز- بعد تفصيله فيها وحكايته للأقوال، وترجيحه لنفي الرؤية البصرية-: ونحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى، وإن كانت رؤية الرب تعالى أعظم وأعلى، فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها ألبته (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "قد اتفق أئمة المسلمين على أن أحداً من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا، ولم يتنازعوا إلا في النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة مع أن جماهير الأمة اتفقوا على أنه لم يره بعينه في الدنيا، وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة وأئمة المسلمين. ولم يثبت عن ابن عباس ولا عن الإمام أحمد وأمثالهم أنهم قالوا: إن محمداً رأى ربه بعينه، بل الثابت عنهما: إما إطلاق الرؤية، وإما تقييدها بالفؤاد، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه" (¬3). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (2/ 192)، وينظر: فتاوى اللجنة (2/ 188، 192) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 370). (¬2) شرح الطحاوية (224 - 225). وينظر: كتاب الغنية في مسألة الرؤية لابن حجر العسقلاني. (¬3) مجموع الفتاوى (2/ 335) (5/ 490)، وينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/ 519).

والأدلة متضافرة نقلاً وعقلاً: فمن الأدلة النقلية: - قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} الأعراف: 143. - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت) (¬1). وجه الاستدلال به: أن الحديث صريح في نفي رؤية الله تعالى في الدنيا، وقد خاطب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، فإذا كانت الرؤية الدنيوية منتفية في حقهم فغيرهم من باب أولى (¬2). وأما الأدلة العقلية: " ... لم نر الله في الدنيا لعجزنا عن ذلك وضعفنا كما لا نستطيع التحديق في شعاع الشمس، بل كما لا تطيق الخفاش أن تراها، لا لامتناع رؤيتها، بل لضعف بصره وعجزه ... " (¬3). أما رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لله - عز وجل - ليلة المعراج: فقد اختلفت أقوال السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه ليلة المعراج، وهي في مجملها على ثلاثة أضرب: الأول: أقوال تثبت الرؤية مطلقاً. الثاني: أقوال تنفي الرؤية مطلقاً. الثالث: أقوال تقيد الرؤية القلبية لا البصرية. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر ابن صياد (4/ 2245) برقم (2931) من حديث بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - به. (¬2) ينظر فتح الباري (13/ 69). (¬3) بيان تلبيس الجهمية (1/ 357 - 358)، وينظر: مجموع الفتاوى (6/ 136).

ومن ثم اختلف أهل العلم بعدهم في تحرير أقوالهم على مذهبين: المذهب الأول: من يرى أن الاختلاف بين أقوالهم اختلاف تضاد لا تنوع يوجب الترجيح بينهما لا الجمع، واختلف القائلون بذلك في القول الراجح منها ووجهه. والمذهب الثاني: من يرى أن الاختلاف بين أقوالهم اختلاف تنوع لا تضاد يوجب الجمع لا الترجيح (¬1). والمذهب الثاني هو الصحيح -والله أعلم - واختاره جمع من المحققين منهم شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2)، وتلميذه ابن القيم (¬3)، وابن كثير (¬4)، وابن أبي العز (¬5)، والسفاريني (¬6)، والشنقيطي (¬7)، وغيرهم؛ وهو اختيار الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وأما الرؤية فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين"، وعائشة أنكرت الرؤية. فمن الناس من جمع بينهما فقال: عائشة أنكرت رؤية العين وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد، والألفاظ الثابتة عن ابن عباس هي مطلقة، أو مقيدة بالفؤاد، تارة يقول: "رأى محمد ربه"، وتارة يقول: "رآه محمد" ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح أنه رآه بعينه ... وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل: كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربك؟ فقال: (نور أنى أراه) (¬8). ¬

(¬1) ينظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة (2/ 477 - 563)، الرؤية للدار قطني (ص 308 - 361)، شرح اعتقاد أهل السنة (3/ 512 - 523)، مجموع الفتاوى (2/ 335، 3/ 386، 6/ 509)، زاد المعاد (3/ 37)، تفسير ابن كثير (4/ 263)، شرح الطحاوية (1 م222 - 225)، فتح الباري (8/ 608)، لوامع الأنوار البهية (2/ 250 - 256)، أضواء البيان (3/ 363). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى (6/ 509 - 510). (¬3) ينظر: زاد المعاد (3/ 37 - 38). (¬4) ينظر: تفسيره (4/ 263). (¬5) نظر: شرح الطحاوية (1/ 222 - 225). (¬6) ينظر: لوامع الأنوار البهية (2/ 254 - 255) (¬7) ينظر: أضواء البيان (3/ 399). (¬8) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نور أنا أراه)، برقم (291).

وقد قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} الإسراء: 1، ولو كان قد رآه نفسه بعينه لكان ذكر ذلك أولى. وكذا قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)} النجم: 12، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} النجم: 18، ولو كان رآه بعينه لكان ذكر ذلك أولى. وفي الصحيحين عن ابن عباس في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} الإسراء: 60، قال: "هي رؤيا عين أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به" (¬1) وهذه رؤيا الآيات؛ لأنه أخبر الناس بما رآه بعينه ليلة المعراج، فكان ذلك فتنة لهم، حيث صدقه قوم وكذبه قوم، ولم يخبرهم أنه رأى ربه بعينه، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه" (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} الإسراء: 60 (3/ 1461) برقم (4716). (¬2) مجموع الفتاوى (6/ 509 - 510).

ثالثا: بشريته - صلى الله عليه وسلم -

ثالثاً: بشريته - صلى الله عليه وسلم -. 1 - النبي - صلى الله عليه وسلم - كسائر البشر. يبين الشيخ عبد الرزاق: أن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كسائر بني آدم، فيقول: " نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو كسائر بني آدم خلقه الله من ذكر وأنثى بالنص من الكتاب والسنة وبشهادة الواقع الحسي، ثم توفاه عند انتهاء أجله، فوجوده ممكن كسائر المخلوقات إلا أن الله تعالى ميزه بالرسالة فاصطفاه رسولاً إلى الناس كافة وخاتماً للأنبياء عليهم السلام " (¬1). ولا ريب أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جنس البشر لقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} الكهف: 110، وقال تعالى: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)} المؤمنون: 33، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)} فصلت: 6. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) (¬2). قال ابن عباس بعد قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الكهف: 110، علم الله رسوله التواضع لئلا يزهو على خلقه فأمره الله أن يقر فيقول أنا آدمي مثلكم إلا إني خصصت بالوحي وأكرمني الله به يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد لا شريك له (¬3). وقال الشوكاني - رحمه الله -: أمر سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يسلك مسلك التواضع فقال {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي إن حالي مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية ومن كان هكذا ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 458 - 459). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح برقم (5063)، ومسلم في كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ... برقم (1401). (¬3) ينظر: تفسير البغوي (3/ 187).

2 - الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس بشرا مثلنا

فهو لا يدعي الإحاطة بكلمات الله إلا أنه امتاز عنهم بالوحي إليه من الله سبحانه قال يوحى إلي وكفى بهذا الوصف فارقا بينه وبين سائر أنواع البشر (¬1). 2 - الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس بشراً مثلنا. يبين الشيخ - رحمه الله - أن مثل هذا العبارة تحتمل حقاً وباطلاً، فقال: "هذه الكلمة مجملة تحتمل حقاً وباطلاً، فإن أريد بها إثبات البشرية للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس مماثلاً للبشر من كل وجه، بل يشاركهم في جنس صفاتهم فيأكل ويشرب ويصح ويمرض ويذكر وينسى ويحيا ويموت ويتزوج النساء ونحو ذلك ويختص بما حباه الله به من الإيحاء إليه وإرساله إلى الناس بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً - فهذا حق، وهو الذي شهد به الواقع وأخبر به القرآن، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} الكهف: 110، فأمره أن يخبر أمته بأنه بشر مثلهم إلا أن الله اصطفاه لتحمل أعباء الرسالة وأوحى إليه بشريعة التوحيد والهداية، وقال تعالى في بيان ما جرى من الحوار بين الرسل وأممهم: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)} إبراهيم: 10 - 11، فأقر الرسل بأنهم بشر مثلنا ولكن الله منّ عليهم بالرسالة فإن الله سبحانه يمنّ على من يشاء من عباده بما شاء ويصطفي منهم من أراد؛ ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ومثل هذا في القرآن كثير. ¬

(¬1) ينظر: فتح القدير (3/ 318)، وتفسير السعدي (1/ 489)، وتفسير ابن كثير (2/ 519)، وتفسير البغوي (3/ 187)، وأضواء البيان (3/ 355، 356).

وإن أريد به أن الرسول ليس بشراً أصلاً أو أنه بشر لكنه لا يماثل البشر في جنس صفاتهم بوجه ما من الوجوه، بل يختلف عنهم اختلافاً كلياً في كل صفة من صفاتهم؛ فهذا باطل يكذبه الواقع، وكفر صريح لمناقضته لما صرح به القرآن من إثبات بشريتهم ومماثلتهم للبشر فيما عدا ما اختصهم الله به من الوحي والنبوة والرسالة والمعجزات. وإن أريد أنه ليس مثل البشر من جهة أنه يعلم الغيب أو كامل القدرة فيجيء الكلام عليه في الجواب عن الأمر الثاني والثالث (¬1). وإن أريد غير ذلك فعلى من يتكلم بمثل هذه الكلمات أن يعرب عن مراده ويبين قصده ليبحث معه فيه. وعلى كل حال لا يصح إطلاق هذه الكلمة نفياً ولا إثباتاً إلا مع التفصيل والبيان؛ لما فيها من اللبس والإجمال، ولذا لم يطلقها القرآن إثباتًا إلا مع بيان ما خص به رسله، كما في الآيات المتقدمة وكما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)} فصلت: 6 - 7. وكما يخشى من التعبير بمماثلتهم للبشر بإطلاق: انتقاص الرسل، والتذرع إلى إنكار رسالتهم؛ يخشى من نفي المماثلة بإطلاق: الغلو في الرسل، وتجاوز الحد بهم إلى ما ليس من شأنهم، بل من شؤون الله سبحانه. فالذي ينبغي للمسلم التفصيل والبيان؛ ليتميز الحق من الباطل والهدى من الضلال" (¬2). وقد سبق الحديث عن بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العنصر السابق. ¬

(¬1) ينظر: فتاوى اللجنة (1/ 450 - 455). (¬2) فتاوى اللجنة (1/ 450 - 458).

3 - الرسول - صلى الله عليه وسلم - كامل القدرة

3 - الرسول - صلى الله عليه وسلم - كامل القدرة. يبن الشيخ أن مثل هذه العبارة تحتملاً حقاً وباطلاً، فقال: "إن أريد بكمال قدرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكمال النسبي بالنظر إلى بني جنسه من البشر فهو مسلم به، وإن أريد به الكمال المطلق فهو باطل، وغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتشبيه للمخلوق بالخالق؛ لأن الكمال المطلق في القدرة ونحوها من اختصاص الله جل شأنه، أما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقدرته محدودة مستمدة من الله وليست له من ذاته؛ ولذا تفاوتت قوة وضعفًا في صحته ومرضه، وأمره الله أن يقول للكفار حين طلبوا منه الآيات {إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} العنكبوت: 50، وأمره الله أن يقول لهم حينما استعجلوا العذاب: قال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} الأنعام: 58، إلى غير ذلك مما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ليس له الكمال المطلق قوة واقتدارًا وإنما ذلك إلى الله وحده، ومن ذلك الحديث الصحيح الذي فيه: إنه سقط عن فرسه وجحش شقه حتى صلى بالناس جالساً (¬1)، وحديث إصابته في غزوة أحد (¬2)، وفي ذهابه للطائف قبل الهجرة للدعوة إلى التوحيد، فعن ابن عباس ن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه نبي الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬3)، وفيه عن سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن كان يسكب الماء وبما دووي، قال: كانت فاطمة عليها السلام بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تغسله وعلي يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم) (¬4). وكسرت رباعيته يومئذٍ وجرح وجهه وكسرت البيضة على رأسه، فلو كان له - صلى الله عليه وسلم - كمال القدرة لما قدر أحد من أعدائه على إيذائه بجرح وجهه وكسر رباعيته وكسر البيضة على رأسه" (¬5). ¬

(¬1) ينظر: الحديث الذي أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب الصلاة في السطوح والمنبر الخشب برقم 378). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب غزوة أحد برقم (1791)، والبخاري تعليقاً في كتاب المغازي، باب {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} آل عمران: 128 (3/ 1241). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجرح يوم أحد، برقم (4074) .. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجراح يوم أحد برقم (4075). (¬5) فتاوى اللجنة (1/ 453 - 455).

النبي - صلى الله عليه وسلم - كامل كمالاً بشرياً, وأما الكمال المطلق فهو لله وحده لا يشاركه فيه مخلوق من مخلوقاته كائناً من كان لا ملكا مقربا ولا نبياً مرسلاً, كما ذكر ذلك الشيخ عبد الرزاق:، وجميع المخلوقات يلحقها النقص. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطرى فيرفع فوق منزلته، أو يعطى بعض خصائص الألوهية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) (¬1). أي لا تمدحوني بالباطل ولا تجاوزوا الحد في مدحي كما عملت النصارى مع عيسى فمدحوه حتى جعلوه إلها. وروى أحمد والنسائي أن أناسا قالوا له: يا رسول الله؛ يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا أيها الناس: قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل) (¬2). ولا يخفى على عاقل أن الموجودات منقسمة إلى كاملة وناقصة، والكامل أشرف من الناقص، ومهما تفاوتت درجات الكمال واقتصر منتهى الكمال على واحد حتى لم يكن الكمال المطلق إلا له، وكل ما سواه عاجز لا قدرة له، إلا بما أقدره متصف بجميع صفات الكمال، وكل ما سواه فلازمه النقص وليس الكمال المطلق إلا له وهو الله (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله واذكر الكتاب مريم ... برقم (3445). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (13553)، وصححه الألباني في غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام (ص 99). (¬3) ينظر: الصواعق المرسلة (3/ 1010)، درء التعارض (7/ 362)، معارج القبول (1/ 102)، شرح كتاب التوحيد (1/ 91)،تفسير السعدي (1/ 466)،تفسير ابن كثير (2/ 574)، المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى لمحمد بن محمد الغزالي أبو حامد (1/ 47).

4 - وفاته - صلى الله عليه وسلم -

4 - وفاته - صلى الله عليه وسلم -. قال الشيخ - رحمه الله -: "دل القرآن على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ميت، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} الزمر: 30، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} العنكبوت: 57، وهو - صلى الله عليه وسلم - داخل في هذا العموم، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)} الأنبياء: 34، وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} الرحمن: 26 - 27، ... إلى أمثال ذلك من الآيات الدالة على أن الله قد توفاه إليه؛ ولأن الصحابة ن قد غسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه، ولو كان حياً حياته الدنيوية ما فعلوا به ما يفعل بغيره من الأموات، ولأن فاطمة ك قد طلبت إرثها من أبيها - صلى الله عليه وسلم - لاعتقادها بموته، ولم يخالفها في ذلك الاعتقاد أحد من الصحابة، بل أجابها أبو بكر - رضي الله عنه -: بأن الأنبياء لا يورثون ولأن الصحابة ن قد اجتمعوا لاختيار خليفة للمسلمين يخلفه، وتم ذلك بعقد الخلافة لأبي بكر - رضي الله عنه -، ولو كان حياً كحياته في دنياه لما فعلوا ذلك، فهو إجماع منهم على موته، ولأن الفتن والمشاكل لما كثرت في عهد عثمان وعلي م، وقبل ذلك وبعده لم يذهبوا إلى قبره لاستشارته أو سؤاله في المخرج من تلك الفتن والمشكلات وطريقة حلها، ولو كان حياً كحياته في دنياه لما أهملوا ذلك وهم في ضرورة إلى من ينقذهم مما أحاط بهم من البلاء، أما روحه فهي في أعلى عليين؛ لكونه أفضل الخلق، وأعطاه الله الوسيلة وهي أعلى منزلة في الجنة عليه الصلاة والسلام" (¬1). عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عمر. فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توفي، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ما مات، ولكنه قد ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى بن عمران. فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات. قال: وأقبل أبو بكر، حتى نزل على باب المسجد. حين بلغه الخبر-وعمر يكلم الناس- فلم يلتفت إلى شيء، حتى دخل ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 470 - 481)، وينظر: فتاوى اللجنة (1/ 122 - 128).

على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجى في ناحية البيت، عليه برد حِبَرة، فأقبل حتى كشف عن وجهه، ثم أقبل عليه فقبله ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتبها الله عليك: فقد ذُقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً. ثم رد البرد على وجهه. وخرج -وعمر يكلم الناس- فقال: على رسلك يا عمر، أنصت. فأبى إلا أن يتكلم. فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس. فلما سمع الناس كلام أبي بكر أقبلوا عليه، وتركوا عمر. فحمد الله تعالى، وأثنى عليه. ثم قال: أيها الناس، إنه من كان يعبد محمداً. فإن محمداً قد مات. ومن كان يعبد الله تعالى، فإن الله حي لا يموت. قال: ثم تلا هذه الآية: قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} آل عمران: 144، قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت، حتى تلاها أبو بكر يومئذ، قال: وأخذها الناس عن أبي بكر، فإنما هي في أفواههم. قال أبو هريرة فقال عمر: فو الله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها. فعثرت حتى وقعتُ إلى الأرض، ما تحملني رجلاي، فاحتملني رجلان، وعرفت أن رسول الله قد مات) (¬1). ولا نقول إلا كما قال أبو بكر وعمر م حينما دخلوا عليه وهو ميت وهما في الصف الأول حيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم إنا نشهد إنك قد بلغت ما أنزل إليك ونصحت لأمتك وجاهدت في سبيل الله حتى أعز الله تعالى دينه وتمت كلمته، ونؤمن بك وحدك لا شريك لك فاجعلنا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه واجمع بيننا وبينه حتى يعرفه بنا وتعرفنا به فإنك كنت بالمؤمنين رؤوفاً رحيما لا نبغي بالإيمان بدلاً ولا نشتري به ثمناً أبداً (¬2). ¬

(¬1) ينظر: الدر المنثور (2/ 337)، ومسند الشاميين للطبراني (8/ 403)، مختصر سيرة الرسول لمحمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - (246 - 247). (¬2) ينظر: دلائل النبوة (7/ 251).

5 - الحياة البرزخية لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وإثبات موته

5 - الحياة البرزخية لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وإثبات موته: يقرر الشيخ - رحمه الله - هذا بقوله: "إن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره حياة برزخية يحصل له بها التنعم في قبره بما أعده الله له من النعيم جزاء له على أعماله العظيمة الطيبة التي قام بها في دنياه، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، ولم تعد إليه روحه ليصير حيًا كما كان في دنياه ولم تتصل به وهو في قبره اتصالاً يجعله حياً كحياته يوم القيامة، بل هي حياة برزخية وسط بين حياته في الدنيا وحياته في الآخرة، وبذلك يعلم أنه قد مات، كما مات غيره ممن سبقه من الأنبياء وغيرهم" (¬1). ويبين الشيخ - رحمه الله - أن تفاصيل الحياة البرزخية الأصل فيها أنها من الغيب، فيقول: " والأصل في الأمور الغيبية: اختصاص الله بعلمها، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} الأنعام: 59، وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} النمل: 65، لكن الله تعالى يطلع من ارتضى من رسله على شيء من الغيب، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} الجن: 26 - 27، وقال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)} الأحقاف: 9، وثبت في حديث طويل من طريق أم العلاء أنها قالت: (لما توفي عثمان بن مظعون أدرجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك فقد أكرمك الله عز وجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وما يدريك أن الله أكرمه) فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 470 - 471)، وينظر: فتاوى اللجنة (1/ 480 - 481).

وأنا رسول الله ما يفعل بي) فقلت: والله لا أزكي بعده أحدًا أبدًا) (¬1)، وفي رواية له: (ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به)، وقد ثبت في أحاديث كثيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعلمه الله بعواقب بعض أصحابه فبشرهم بالجنة، وفي حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أن جبريل سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة، فقال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) (¬2) ثم لم يزد على أن أخبره بأماراتها، فدل على أنه علم من الغيب ما أعلمه الله به دونما سواه من المغيبات، وأخبره به عند الحاجة. كما أن الله سبحانه أخبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه مغفور له في سورة الفتح. وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (النبي في الجنة وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة - وهو ابن أبي وقاص - وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) (¬3) رضي الله عنهم جميعًا، وهذا كله من علم الغيب الذي أطلع الله نبيه عليه." (¬4). فلا نثبت من الحياة البرزخية إلا ما ورد به الدليل لأنها من الأمور الغيبية، فإن كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب إلا ما أعلمه الله فغيره من البشر لا يعلمون من باب أولى. والحياة البرزخية تختلف عن الحياة المعروفة في الدنيا، يقول الشيخ سليمان ابن سحمان - رحمه الله -: "ومن المعلوم أنه لم يكن - صلى الله عليه وسلم - حياً في قبره كالحياة الدنيوية المعهودة، التي تقوم فيها الروح بالبدن، وتدبره وتصرفه، ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس والنكاح، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات باب القرعة في المشكلات برقم (2687). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان ... برقم (50)، ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى برقم (8). (¬3) أخرجه الإمام أحمد من حديث سعيد بن زيد (1/ 187، 188)، وأبو داود (5/ 37، 38، 39)، والترمذي (5/ 651)، وابن ماجه (1/ 49)، ولم يذكر أبا عبيدة، كما أخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف (1/ 193)، وذكر أبا عبيدة ولم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والحديث صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4649)، وفي صحيح ابن ماجة برقم (133). (¬4) فتاوى اللجنة (1/ 122 - 128).

6 - هل سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهل نفذ فيه السحر؟

وغير ذلك، بل حياته - صلى الله عليه وسلم - حياة برزخية، وروحه في الرفيق الأعلى وكذلك أرواح الأنبياء، والأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت، فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، ونبينا في المنزلة العليا التي هي الوسيلة" (¬1). قال الألباني معلقاً على حديث: (الأنبياء أحياء في قبورهم) (¬2): "الذي يجب أن يتخذه المؤمن في هذا الصدد: الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالأقيسة والآراء كما يفعل أهل البدع الذين وصل الأمر ببعضهم إلى ادّعاء أن حياته - صلى الله عليه وسلم - في قبره حقيقية يأكل ويشرب ويجامع النساء، وإنما هي حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى" (¬3). 6 - هل سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهل نفذ فيه السحر؟ قال الشيخ - رحمه الله -: " الرسول - صلى الله عليه وسلم - من البشر، فيجوز أن يصيبه ما يصيب البشر من الأوجاع والأمراض وتعدي الخلق عليه وظلمهم إياه كسائر البشر إلى أمثال ذلك مما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فغير بعيد أن يصاب بمرض أو اعتداء أحد عليه بسحر ونحوه يخيل إليه بسببه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، كأن يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وهو لم يطأهن، أو أنه يقوى على وطئهن حتى إذا جاء إحداهن فتر ولم يقو على ذلك، لكن الإصابة أو المرض أو السحر لا يتجاوز ذلك إلى تلقي الوحي عن الله تعالى ولا إلى البلاغ عن ربه إلى العالمين؛ لقيام الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على عصمته - صلى الله عليه وسلم - في تلقي الوحي وبلاغه وسائر ما يتعلق بشؤون الدين، والسحر نوع من الأمراض التي أصيب بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من بني زريق يقال له: لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا ¬

(¬1) الصواعق المرسلة الشهابية (ص 82). (¬2) أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/ 147)، قال الألباني: إسناده جيد. السلسلة الصحيحة (2/ 189). (¬3) السلسلة الصحيحة (2/ 191).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دعا ثم دعا ثم قال: (يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، فجاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما وجع الرجل، قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، قال: وجف طلعة ذكر، قال: أين هو؟ قال: في بئر ذي أروان) قالت: فأتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أناس من أصحابه، ثم قال: (يا عائشة، كأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن نخلها رؤوس الشياطين) قالت: فقلت: يا رسول الله، أفلا أحرقته؟ قال: (لا، أما أنا فقد عافاني الله فكرهت أن أثير على الناس شرًا) فأمر بها فدفنت) (¬1). ومن أنكر وقوع ذلك فقد خالف الأدلة وإجماع الصحابة وسلف الأمة متشبثًا بشبه وأوهام لا أساس لها من الصحة فلا يعول عليها" (¬2). والذي وقع للرسول - صلى الله عليه وسلم - من السحر هو نوع من المرض الذي يتعلق بالصفات والعوارض البشرية والذي لا علاقة له بالوحي وبالرسالة التي كُلف بإبلاغها، لذلك يظن البعض أن ما أصاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من السحر هو نقصٌ وعيبٌ وليس الأمر كما يظنون لأن ما وقع له هو من جنس ما كان يعتريه من الأعراض البشرية كأنواع الأمراض والآلام ونحو ذلك، فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يعتريهم من ذلك ما يعتري البشر كما قال الله سبحانه وتعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} إبراهيم: 11، واستدل ابن القصار (¬3) على أن الذي أصابه كان من جنس المرض يقول الرسول في حديث آخر: (أما أنا فقد شفاني الله) (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الطب باب السحر برقم (5763)، ومسلم في كتاب السلام باب السحر برقم (2189). (¬2) فتاوى اللجنة (1/ 569 - 570). (¬3) هو علي بن أحمد البغدادي القاضي أبو الحسن المعروف بابن القصار تفقه بالأبهري، قاله الشيرازي وله كتاب في مسائل الخلاف لا أعرف للمالكيين كتاب في الخلاف أكبر منه وكان أصوليا نظارا ولي قضاء بغداد وقال أبو ذر هو أفقه من رأيت من المالكيين وكان ثقة قليل الحديث، توفي سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة 398 هـ. ينظر: الديباج المذهب لإبراهيم بن علي اليعمري المالكي (1/ 199). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده برقم (3268).

رابعا: بعض الأقوال الكفرية والبدع في نبينا - صلى الله عليه وسلم -

قال القاضي عياض - رحمه الله -: " قد نزه الله سبحانه وتعالى الشرع والنبي عما يدخل في أمره لبساً، وإنما السحر مرض من الأمراض وعارض من العلل يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته. وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه وشريعته، أو يقدح في صدقه لقيام الدليل، والإجماع على عصمته من هذا، أما ما طرأ عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فُضل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان" (¬1). رابعاً: بعض الأقوال الكفرية والبدع في نبينا - صلى الله عليه وسلم -. 1 - الأقوال الكفرية. -القول بوحدة الوجود. يرد الشيخ - رحمه الله - على من قال: إن حقيقة قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)} النجم: 8، هي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس مغاير لله تعالى فلا تزعم أنه كان هناك وجودان فما رأى - صلى الله عليه وسلم - إلا نفسه. فيقول الشيخ - رحمه الله -: " الصواب أن الذي دنا فتدلى جبريل عليه الصلاة والسلام حتى رآه الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما صح بذلك الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن زعم أن الذي دنا فتدلى هو الله تعالى فقد أخطأ خطأً فاحشاً، ثم القول بأنه ليس هناك وجودان، وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ما رأى في ذلك الوقت إلا نفسه (قول بوحدة الوجود) وذلك كفر صريح. ويتبين أن من قال بهذا القول ليس على الحق، بل على الباطل، وأنه ليس بمؤمن فضلاً عن أن ¬

(¬1) الشفاء (2/ 160)، وينظر: زاد المعاد (4/ 124 - 125)، وردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر جمعها الشيخ - رحمه الله - مقبل بن هادي الوادعي.

2 - البدع

يكون من أهل السنة والجماعة، بل كافر مرتد عن ملة الإسلام إن كان قد زعم أنه مسلم" (¬1). وآثرت الحديث مفصلاً عن هذه المسألة في الفصل الثاني من الباب الثاني من هذه الرسالة والذي هو بعنوان جهوده في بيان الفرق والمذاهب المعاصرة، خشية التكرار والإطالة. 2 - البدع. -التردد على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. بين الشيخ عبد الرزاق: الحكم في التردد على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ولا يشرع للمسلم كلما دخل المسجد النبوي التردد إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء عنده ولا اتخاذه عيداً يعود إليه المرة بعد المرة؛ لما رواه أبو داود بإسناد حسن رواته ثقات عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) (¬2)، ولما روي عن علي بن الحسين (أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو فنهاه، وقال: "ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم) (¬3) وإسناده جيد، وكان الصحابة رضي الله عنهم أحرص على الخير منا وأحب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعرف بحقه على الأمة وبآداب زيارته منا، ومع ذلك لم ينقل عن أحد منهم أنه كان يتردد على قبره - صلى الله عليه وسلم - والدعاء عنده، لكن ثبت عن ابن عمر م أنه كان إذا حضر إلى المدينة من سفر فقط جاء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه)، ثم ينصرف، ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 461 - 462). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (8790)، وأبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور برقم (2042)، وصححه النووي في "الأذكار" (ص 93)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (7226) وفي "صحيح وضعيف سنن أبي داود" برقم (2042). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (8586)، صححه الألباني في تلخيص أحكام الجنائز برقم (10) (ص 88).

ولهذا كره مالك بن أنس رحمه الله لأهل المدينة أن يأتي أحدهم إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما دخل المسجد، وقال: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها) " (¬1). (ولا تجعلوا قبري عيداً) قال الإمام بن تيمية - رحمه الله -: " العيد اسم ما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائدا ما يعود السنة أو يعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك" (¬2). وقال بن القيم - رحمه الله -: العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان مأخوذ من المعاودة والاعتياد فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع الانتساب بالعبادة وبغيرها كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله تعالى عيداً للحنفاء ومثابة للناس كما جعل أيام العيد منها عيدا وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بكعبة ومنى ومزدلفة وسائر المشاعر انتهى (¬3). وقيل العيد: ما يعاد إليه أي لا تجعلوا قبري عيدا تعودون إليه متى أردتم أن تصلوا علي فظاهره منهي عن المعاودة والمراد المنع عما يوجبه وهو ظنهم بأن دعاء الغائب لا يصل إليه ويؤيده قوله وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم أي لا تتكلفوا المعاودة إلي فقد استغنيتم بالصلاة علي (¬4). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الحديث يشير إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم عنه فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدا" انتهى (¬5). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 479 - 480). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (ص 189)، وينظر: مرقاة المفاتيح لعلي بن سلطان القاري (3/ 11)، شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ص 166)، تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله (ص 157). (¬3) إغاثة اللهفان (1/ 190). (¬4) ينظر: شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله (ص 305)، تيسير العزيز الحميد (ص 286)، عون المعبود (6/ 23). (¬5) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص 307).

"والحديث دليل على منع السفر لزيارته - صلى الله عليه وسلم - لأن المقصود منها هو الصلاة والسلام عليه والدعاء له - صلى الله عليه وسلم - وهذا يمكن استحصاله من بعد كما يمكن من قرب وأن من سافر إليه وحضر من ناس آخرين فقد اتخذه عيدا وهو منهي عنه بنص الحديث فثبت منع شد الرحل لأجل ذلك بإشارة النص كما ثبت النهي عن جعله عيدا بدلالة النص وهاتان الدلالتان معمول بهما عند علماء الأصول ووجه هذه الدلالة على المراد قوله تبلغني حيث كنتم فإنه يشير إلى البعد والبعيد عنه صلى الله عليه وسلم لا يحصل له القرب إلا باختيار السفر إليه والسفر يصدق على أقل مسافة من يوم فكيف بمسافة ففيه النهي عن السفر لأجل الزيارة والله أعلم" (¬1). وقد روي أن الحسن بن الحسن بن علي (¬2) رأى رجلا ينتاب القبر فقال يا هذا ما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء أي الجميع يبلغه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين (¬3). والرسول سدّ الطريق المُفضية إلى الشرك، بنهيه عن اتخاذ قبره عيداً، لأن هذا من وسائل الشرك، ومن الطرق الموصلة إلى الشرك. وفي الحديث النهي عن التردّد على قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أجل الصلاة عليه والسلام عليه، لأن هذا وسيلة إلى الشرك، ومن اتخاذه عيداً، ولهذا ما كان الصحابة رضي الله عنهم كلما دخلوا المسجد يذهبون إلى قبر الرسول ليسلموا عليه أو يصلوا عليه، أبداً، إنما يفعلون هذا إذا جاءوا من سفر فقط، لأنك إذا أكثرت التردّد عليه صار من اتخاذه عيداً (¬4). ¬

(¬1) عون المعبود (6/ 33). (¬2) هو: الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو محمد، إقامته ووفاته في المدينة توفي سنة (90 هـ). ينظر: الوافي بالوفيات للصفدي (11/ 318)، الأعلام للزركلي (2/ 187). (¬3) اللفظة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع وعزاها لسعيد بن منصور في سننه قال ابن تيمية - رحمه الله -: (وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل ابن أبي سهيل قال رآني الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ... "إلخ. ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم (ص 331)، مجموع الفتاوى (27/ 122)، إغاثة اللهفان (1/ 191 - 192). (¬4) ينظر لما سبق: تفسير ابن كثير (3/ 516)، شرح كتاب التوحيد (1/ 305)، معارج القبول (2/ 530)، إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 83)، عون المعبود (6/ 22 - 25).

التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم -

- التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الشيخ - رحمه الله -: "من توسل إلى الله في دعائه بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو حرمته أو بركته أو بجاه غيره من الصالحين أو حرمته أو بركته فقال: (اللهم بجاه نبيك أو حرمته أو بركته أعطني مالاً وولداً أو أدخلني الجنة وقني عذاب النار) مثلاً فليس بمشرك شركاً يخرج عن الإسلام، لكنه ممنوع؛ سداً لذريعة الشرك، وإبعاداً للمسلم من فعل شيء يفضي إلى الشرك، ولا شك أن التوسل بجاه الأنبياء والصالحين وسيلة من وسائل الشرك التي تفضي إليه على مر الأيام، على ما دلت عليه التجارب وشهد له الواقع، وقد جاءت أدلة كثيرة في الكتاب والسنة تدل دلالة قاطعه على أن سد الذرائع إلى الشرك والمحرمات من مقاصد الشريعة، من ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} الأنعام: 108، فنهى سبحانه المسلمين عن سب آلهة المشركين التي يعبدونها من دون الله مع أنها باطلة؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سب المشركين الإله الحق سبحانه انتصارًا لآلهتهم الباطلة جهلًا منهم وعدوانًا، ومنها: نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد؛ خشية أن تعبد، ومنها: تحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، وتحريم إبداء المرأة زينتها للرجال الأجانب، وتحريم خروجها من بيتها متعطرة، وأمر الرجال بغض البصر عن زينة النساء، وأمر النساء أن يغضضن من أبصارهن؛ لأن ذلك كله ذريعة إلى الافتتان بها ووسيلة إلى الوقوع في الفاحشة، قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} النور: 30 - 31 الآية. وثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) (¬1)؛ ولأن التوسل بالجاه والحرمة ونحوهما في الدعاء عبادة، والعبادة توقيفية، ولم يرد في الكتاب ولا في ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور برقم (1330)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور ... برقم (529) ..

سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه ما يدل على هذا التوسل، فعلم أنه بدعة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (¬1) " (¬2). وقال الشيخ - رحمه الله -: " فإن الله تعالى أكرم ويكرم شخصاً مثلاً بجاه غيره عنده سبحانه كما أكرم الصغيرين بصلاح أبيهما رحمة من ربك -قصة موسى والخضر في سورة الكهف وغيرها- والمحظور أن يدعو الإنسان ربه بشخص أو بجاه شخص فهذا هو الذي لم يشرع" (¬3). وقد سبق الحديث عن هذا في فصل نواقض التوحيد والقوادح فيه المبحث الثاني نواقض توحيد الألوهية والقوادح فيه في مسألة التوسل، وآثرت الإحالة له خشية التكرار (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة .. برقم (1718). وبنحوه في البخاري في كتاب الصلح باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود برقم (2697). (¬2) فتاوى اللجنة (1/ 501 - 503، 505 - 506، 511، 513، 516، 520). (¬3) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 194). (¬4) ينظر: (171 - 178).

الاحتفال بالمولد

- الاحتفال بالمولد. قال الشيخ - رحمه الله -: "في نظري ونظر الكثيرين من أهل السنة والجماعة أن الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعة منكرة ... ويجب التسليم من كل منصف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتفل بمولد نفسه ولا بمولد غيره من الرسل والصحابة مع امتداد حياته بعد الرسالة ولا احتفل بمولده أحد من الصحابة وهم خير القرون المشهود لهم بالخير، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكرم الخلق على نفوسهم وأحب العالمين إلى قلوبهم ولو احتفلوا بمولده لنقل لتوفر الدواعي على نقله؛ فيكفي في الاستشهاد على أن ترك الاحتفال بمولده سنة وأن فعله بدعة لعدم نقلهم لفعله .. أما ما ذكر عن حسان بن ثابت وعلي بن أبي طالب والبراء بن عازب وأنس بن مالك ن من الثناء على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم لم يلتزموا فيه وقتاً معيناً يتخذونه موسماً ومجتمعاً وهذا متفق عليه ومندوب إليه لشرح سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تدريساً أو دفاعاً عنه عند وجود الدواعي لذلك دون التزام حال معينة أو زمان أو مكان معين وإنما البدعة التزام زمن أو مكان بعينه يعتبر موسماً ويعتاد الناس الاجتماع فيه شأنهم فيه كشأنهم في الأعياد بل هذا ربما أدى إلى الغلو في إعظام النبي - صلى الله عليه وسلم - وإطرائه وقد نهى عن ذلك فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) (¬1) " (¬2). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " اتخاذ هذا اليوم عيداً محدث لا أصل له فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا من غيرهم من اتخذ ذلك عيدا حتى يحدث فيه أعمالا إذ الأعياد شريعة من الشرائع فيجب فيها الاتباع لا الابتداع وللنبي - صلى الله عليه وسلم - خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة مثل يوم بدر وحنين والخندق وفتح مكة ووقت هجرته ودخوله المدينة وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ مثال تلك الأيام أعيادا وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعيادا أو اليهود وإنما العيد شريعة فما شرعه الله اتبع وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه وكذلك ما يحدثه بعض ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله واذكر في الكتاب مريم ... برقم (3445). (¬2) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 202).

الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا مع اختلاف الناس في مولده فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له منا وهم على الخير أحرص وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان" (¬1). ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 294 - 295)، وينظر: المورد في عمل المولد للفاكهاني، وحكم الاحتفال بالمولد النبوي والرد على من أجازه لمحمد بن إبراهيم، حكم الاحتفال بالمولد النبوي عبدالعزيز بن باز، الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي لحمود التويجري، الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف لأبي بكر الجزائري، والقول الفصل في حكم التوسل بخير الرسل لإسماعيل الأنصاري، الاحتفال بالمولد بين الاتباع والابتداع لمحمد بن سعد شقير.

مسألة: الإقسام بالنبي - صلى الله عليه وسلم - هل ينعقد يمينا أو لا

مسألة: الإقسام بالنبي - صلى الله عليه وسلم - هل ينعقد يمينا أو لا. قال الشيخ - رحمه الله -: " إن أئمة الفقهاء؛ كمالك، وأبي حنيفة، والشافعي رحمهم الله قالوا: إن الحلف بغير الله مطلقاً منهي عنه سواء كان المحلوف به نبياً أم غيره ولا ينعقد ذلك يميناً، وهو القول الصحيح عن أحمد رحمه الله، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: إنه هو الصواب؛ والقول الآخر عنه أن الحلف بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يجوز، وينعقد يميناً، وبعض الحنابلة عمم ذلك في الأنبياء، وينبني على القول بجواز ذلك وانعقاده جواز الإقسام على الله بالنبي أو الأنبياء، وعليه يخرج حديث توسل الأعمى بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر ابن تيمية أن القول بجواز الحلف بالنبي وانعقاده قول ضعيف شاذ، وكذا ما بني عليه من جواز الإقسام على الله به وما يناسبه من التوسل به كذلك، وما قاله شيخ الإسلام هو الصواب وهو قول جمهور أهل العلم، وهو مقتضى الأدلة الشرعية" (¬1). اختلف العلماء في حكم الحلف بغير الله: 1 - الأحناف: يرى بعض الأحناف أن الحلف بغير الله لا يجوز، بل هو منهي عنه، وفي ذلك يقول الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -: "لا يحلف إلا بالله متجرداً بالتوحيد والإخلاص" (¬2). بينما الكثير من الأحناف لا سيما المتأخرين منهم يذهبون إلى جواز ذلك وبعضهم يرى كراهيته (¬3). 2 - المالكية: جاء في الشرح الصغير: " لا يجوز الحلف بالنبي والكعبة من ما عظمه الله تعالى ... وفي حرمة الحلف بذلك وكراهيته قولان ... وإن قصد بحلفه بكالعزى من كل ما عبد من دون الله ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 524 - 525). (¬2) ينظر: بدائع الصنائع للكساني (3/ 8،9 - 21). (¬3) ينظر: حاشية ابن عابدين (3/ 705)، والبحر الرائق في شرح كنز الرقائق لزين الدين بن نجم الحنفي (4/ 301).

التعظيم من حيث أنه معبود فكفر وارتداد عن دين الإسلام ... وإن لم يقصده فحرام قطعاً بلا ردة" (¬1). وجاء في مقدمات ابن رشد (¬2): " والأيمان تنقسم على ثلاثة أقسام: مباحة ومكروهة ومحظورة، فالمباحة الحلف بالله تعالى، أو باسم من أسمائه الحسنى، وبصفة من صفاته تعالى ... والمكروهة الحلف بغير الله تعالى ... والمحظورة أن يحلف باللات والعزى والطواغيت أو بشيء مما يعبد من دون الله تعالى، لأن الحلف بالشيء تعظيم له والتعظيم لهذه الأشياء كفر بالله تعالى" (¬3). 3 - الشافعية: قال الشافعي - رحمه الله -: " وكل يمين بغير الله فهي مكروهة منهي عنها من قبل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) (¬4) " (¬5). وقال: " فكل من حلف بغير الله كرهت له وخشيت أن تكون يمينه معصية" (¬6). وقال النووي - رحمه الله -: " الحلف بالمخلوق مكروه، كالنبي والكعبة وجبريل والصحابة والآل، وقال الشافعي - رحمه الله -: أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية. قال الأصحاب أي حراماً أو إثماً، فأشار إلى تردد فيه، قال الإمام: " والمذهب القطع بأنه ليس بحرام بل مكروه ... قال الأصحاب فلو اعتقد الحالف في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى كفر ... " (¬7). ¬

(¬1) الشرح الصغير للدردير (2/ 203). (¬2) هو: أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي، الإمام العلامة شيخ المالكية قاضي الجماعة بقرطبة، كان فقيهاً عالماً، حافظاً للفقه عارفاً بالفتوى، من أهل الرياسة في العلم مع الدين والفضل، توفي سنة (520 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء (19/ 501 - 502)، شذرات الذهب (4/ 62)، هدية العارفين لإسماعيل باشا البغدادي (2/ 85). (¬3) مقدمات ابن رشد (ص 308 - 309). (¬4) أخرجه البخاري كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم برقم (6646)، وأخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، برقم (1648). (¬5) الأم (7/ 55). (¬6) الأم (7/ 56). (¬7) روضة الطالبين للنووي (11/ 6).

4 - الحنابلة: قال ابن قدامه - رحمه الله -: " ولا يجوز الحلف بغير الله وصفاته نحو أن يحلف بأبيه أو الكعبة أو صحابي أو إمام ... قال ابن عبد البر: وهذا أصل مجموع عليه ... ثم إن لم يكن الحلف بغير الله محرماً فهو مكروه، فإن حلف فليستغفر الله تعالى، وليذكر الله تعالى ... " (¬1). وجاء في كشاف القناع: " ويحرم الحلف بغير الله وغير صفاته ولو كان الحلف بنبي لأنه شرك في تعظيم الله ... " (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وقد ثبت أنه لا يجوز القسم بغير الله لا بالأنبياء ولا بغيرهم ... والحلف بالمخلوقات لا تنعقد به اليمين ولا كفارة فيه حتى لو حلف بالنبي لم تنعقد يمينه ولم يجب عليه كفارة عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأبى حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين بل نهى عن الحلف بهذه اليمين فإذا لم يجز أن يحلف بها الرجل ولا يقسم بها على مخلوق فكيف يقسم بها على الخالق جل جلاله" (¬3). ¬

(¬1) المغني (9/ 491 - 492). (¬2) كشاف القناع للبهوتي (6/ 188). (¬3) مجموع الفتاوى (1/ 286)، وينظر: شرح العقيدة الطحاوية (1/ 262)، التوسل والوسيلة (1/ 106).

المطلب الثالث خوارق العادات

المطلب الثالث خوارق العادات (¬1). تحدث الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عن خوارق العادات وذكر منها، المعجزة والسحر والكرامة، وفرق بين المعجزة والسحر، وفيما يلي بيان ذلك: 1 - المعجزة: قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " كل ما لم تبلغه طاقة البشر، ولم يقع في دائرة قدرتهم، فهو معجزة، وقد تطلق المعجزة على ما خرج عن طاقة العامة من الخلق دون الخاصّة، كبعض المسائل العلمية، واختراع بعض الآلات، والأجهزة الحديثة، وغيرها مما لا يقوى عليه إلا خواص الناس، وكالغوص، والسباحة، وحمل الأثقال، وهذا عجز نسبي يكون في مخلوق دون آخر" (¬2). يعرف الشيخ - رحمه الله - المعجزة بقوله: "والمراد بالمعجزة: هي الأمر الخارق للعادة الخارج عن سنة الله في خلقه، الذي يظهره الله على يد مدعي النبوة تصديقاً له في دعواه، وتأييداً له في رسالته، مقروناً بالتحدي لأمته، ومطالبتهم أن يأتوا بمثله، فإذا عجزوا كان ذلك آية من الله تعالى على اختياره إيّاه، وإرساله إليهم بشريعته" (¬3) (¬4). ¬

(¬1) والعادات: السنن الكونية، وخوارقها: ما يخالف نظامها، وهي ثلاثة أنواع: الأولى: المعجزات؛ على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - تأييداً له وتحدياً لقومه. والثانية: الكرامة؛ على يد الولي تأييداً له وإكراماً. والثالثة: السحر؛ على يد الساحر المشعوذ فتنة وابتلاءً. (¬2) مذكرة التوحيد (ص 60). (¬3) مذكرة التوحيد (ص 60). (¬4) ينظر: في تعريف المعجزة اصطلاحاً، عند أهل السنة والجماعة: النبوات (ص 2، 11، 28)، وشرح العقيدة الطحاوية (1/ 558)، لوامع الأنوار (1/ 290). وعند المعتزلة: شرح الأصول الخمسة للقاضي الهمذاني (ص 568 - 572). وأما تعريفه عند الأشاعرة: الإنصاف الباقلاني (ص 16)، وأعلام النبوة لأبي حسن علي للماوردي (ص 18).

ويبين الشيخ - رحمه الله - ضرورة المعجزة للأنبياء والرسل: فيقول: "فإن خبر الإنسان عن نبوة نفسه بلا معجزة، دعوى شيء غير مألوف في سنة الله مع خلقه، فلا تقبل حتى تؤيد بما يجعلها جارية على سنته سبحانه، وما عهده البشر في إرساله رسله، بخلاف إخبار إنسان عدل عن مثله " (¬1). ويقول - رحمه الله -: "فإن دعواه النبوة بلا معجزة على خلاف سنة الله في إرساله رسله" (¬2). وقال الشيخ - رحمه الله -: "الأنبياء ليسوا كغيرهم في المعجزات، وقياس غيرهم عليهم في المعجزات باطل " (¬3). قال شيخ الإسلام: "آيات الأنبياء وبراهينهم هي الأدلة، والعلامات المستلزمة لصدقهم، فمعجزات الأنبياء هي آياتهم وبراهينهم كما سماهم الله بذلك، لأن الدليل لا يكون إلا مستلزماً، للمدلول عليه، مختصاً به، ولا يكون مشتركاً بينه وبين غيره، بل إما أن يكون مساوياً له في العموم والخصوص، أو يكون أخص منه (¬4). حينئذ فإن جنس الأنبياء، متميزون عن غيرهم بالآيات والدلائل الدالة على صدقهم، التي يعلم العقلاء أنها لم توجد لغيرهم، بل إذا عبر عنها بأنها خرق عادة، فالمراد بذلك: أنها خارجة عن الأمر المعتاد لغير الأنبياء، وأنها من العجائب الخارجة عن النظائر، فلا يوجد نظيرها لغير الأنبياء (¬5). ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 47). (¬2) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 52). (¬3) شبهات حول السنة (ص 22). (¬4) ينظر: النبوات (ص 2، 11، 28). (¬5) ينظر: النبوات (ص 112)

2 - السحر

2 - السحر: يعرف الشيخ - رحمه الله - السحر بقوله: " أما السحر: فهو في اللغة: كل ما دقّ، ولطف، وخفي سببه؛ فيشمل قوة البيان، وفصاحة اللسان، لما في ذلك من لطف العبارة، ودقة المسلك، ويشمل النميمة لما فيها من خفاء أمر النمام، وتلطفه في خداع من نمّ بينهما ليتم له ما يريد من الوقيعة، ويشمل العزائم العقد التي يعقدها الساحر، وينفث فيها مستعيناً بالأرواح الخبيثة من الجنّ، فيصل بذلك في زعمه إلى ما يريد من الأحداث والمكاسب" (¬1). والسحر كما بين الشيخ - رحمه الله -: كل ما دق، ولطف، وخفي سببه (¬2). وقد عُرف بتعاريف متعددة، منها: - صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره (¬3). - كل أمر يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع (¬4). - هو إخراج الباطل في صورة الحق (¬5). وغير ذلك. أما التعريف الاصطلاحي للسحر فهو: عزائم (¬6) ورقى (¬7) وعقد (¬8) تؤثر في الأبدان والقلوب، فيُمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن الآخر (¬9). ¬

(¬1) مذكرة التوحيد (60 - 61). (¬2) ينظر: معجم الصحاح (2/ 679)، لسان العرب (4/ 348)، القاموس المحيط (2/ 45). (¬3) ينظر: تهذيب اللغة للأزهري (282 - 370). (¬4) ينظر: المعجم الوسيط (1/ 419). (¬5) ينظر: معجم مقاييس اللغة (3/ 138). (¬6) العزائم: هي الرقى، وعزم الراقي: كأنه أقسم على الداء، والعزيمة من الرقى التي يعزم بها على الجن والأرواح، وعزائم القرآن: الآيات التي تقرأ على ذوي الآفات لما يرجى من البرء بها. ينظر: المعجم الوسيط لعدة مؤلفين منهم أحمد الزيات (2/ 599)، تاج العروس للزبيدي (33/ 89)، لسان العرب (12/ 400). (¬7) الرقى: رقى الراقي رقية ورقياً: إذا عوذ ونفث في عوذته. ينظر: لسان العرب (14/ 332). (¬8) العقد: هو عقد الخيط التي تنفث فيها السواحر فقد فسر ابن قدامة ذلك بقوله: السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن، وينفثن في عقدهن. ينظر: الكافي لابن قدامة (4/ 166). (¬9) ينظر: الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل، لابن قدامة المقدسي (4/ 164). وقد نقل هذا التعريف عن ابن قدامة بعض المؤلفين منهم: 1 - الشيخ منصور البهوتي في شرح منتهى الإرادات (3/ 394). 2 - سلمان بن عبد الله بن محمد بن عبدالوهاب في تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص 382). 3 - حمد بن علي بن عتيق في إبطال التنديد باختصار شرح التوحيد (ص 79). 4 - الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد (ص 285).

الفرق بين المعجزة والسحر: ويبين الشيخ - رحمه الله - الفرق بينهما، فيقول: " وبذلك يتبين الفرق بين المعجزة والسحر: 1 - فالمعجزة ليست من عمل النبي، وكسبه. إنما هي خلق محض من الله تعالى على خلاف سنته في الكائنات. وأما السحر: فمن عمل الساحر، وكسبه سواء أكان تعويذات، أم بياناً، أم نميمة، أم غير ذلك، وله أسبابه ووسائله التي قد تنتهي بمن عرفها ومهر فيها، واستعملها إلى مسبباتها، فليس خارقاً للعادة، ولا مخالفاً لنظام الكون في ربط الأسباب بمسبباتها، والوسائل بمقاصدها. 2 - والمعجزة: تظهر على يد مدَّعي النبوة لتكون آية على صدقه في رسالته التي بها هداية الناس من الضلالة، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، والأخذ بأيديهم إلى ما ينفعهم في عقائدهم, وأخلاقهم، وأبدانهم، وأموالهم. أما السحر: فهو خلق ذميم، أو خرافة، أو صناعة يموه بها الساحر على الناس، ويضللهم، ويخدعهم بها عن أنفسهم، وما ملكت أيديهم، ويتخذها وسيلة لكسب العيش من غير حله، ويفرق بها بين المرء وزوجه، والصديق وصديقه، وبالجملة يفسد بها أحوال الأمة بخفاء، والناس عنه غافلون. 3 - سيرة من ظهرت على يده المعجزة حميدة، وعاقبته مأمونة، فهو صريح في القول والفعل، صادق اللهجة، حسن العشرة، سخي، كريم، عفيف عما في أيدي الناس، يدعو إلى الحق، وينافح دونه بقوة وشجاعة.

أما الساحر: فسيرته ذميمة، ومغبته وخيمة، خائن خداع سيئ العشرة، يأخذ ولا يُعطي، يدعو إلى الباطل، ويسعى جهده في ستره، خشية أن يفتضح أمره، وينكشف سره، فلا يتم ما أراد من الشرّ والفساد. 4 - من ظهرت على يده المعجزة يقود الأمم والشعوب إلى الوحدة والسعادة، ويهديها طريق الخير، وعلى يده يسود الأمن والسلام، ويفتح البلاد، ويكون العمران. أما الساحر: فهو آفة الوحدة، ونذير الفرقة، والتخريب والفوضى، والاضطراب" (¬1). قد أتى الشيخ - رحمه الله - على أهم الفروق بين المعجزة والسحر (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إن جميع ما يختص بالسحر هو مناقض للنبوة، فوجود ذلك يدل على أن صاحبه ليس بنبي، ويمتنع أن يكون دليلاً على النبوة، فإنما استلزم عدم الشيء لا يستلزم وجوده، وكذلك ما يأتي به أهل الطلاسم (¬3) وعبادة الكواكب (¬4) مناقض للنبوة (¬5) ولهذا قال الله تعالى عن من شبه النبي بالساحر: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)} الإسراء: 48. ¬

(¬1) مذكرة التوحيد (60 - 62). (¬2) ينظر للاستزادة: النبوات (128 - 257)، وإثارة الحق على الخلق لمحمد إبراهيم الحسني (ص 127)، وحجة الله على العالمين ليوسف النبهاني (ص 10)، وأعلام النبوة (ص 16). (¬3) الطلسم: لفظ يوناني. وهو في علم السحر خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيات الكواكب العلوية بالطبائع السفلية، لجلب محبوب، أو دفع أذى، وقد اشتغل المصريون القدماء، والبابليون، والكلدانيون، والسريانيون بعلم الطلاسم، واشتغل به في المشرق جابر بن حيان، وبعده مسلمة بن أحمد المجريطي في الأندلس. ينظر: المعجم الوسيط (2/ 568)، دائرة المعارف لوجدي 5/ 770. (¬4) قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: أهل دعوة الكواكب الذين يدعون الشمس والقمر والنجوم، ويعبدونها، ويسجدون لها، كما كان النمرود بن كنعان وقومه يفعلون ذلك، وكما يفعل ذلك المشركون من الهند والترك والعرب والفرس وغيرهم. وقد ذكر أبو عبد الله محمد بن الخطيب الرازي في كتابه الذي صنّفه في هذا الفن قطعة كبيرة من أحوال هؤلاء. وقد تواترت الأخبار بذلك عن هؤلاء، وأنه يحصل لأحدهم أشخاص منفصلة عنه تقضي كثيراً من حوائجه، ويسمونها روحانية الكواكب. ينظر: الصفدية (192، 1241.1173). (¬5) ينظر: النبوات لشيخ الإسلام (1/ 273).

3 - الكرامة

3 - الكرامة: قال الشيخ - رحمه الله -: "الكرامة: أمر خارق للعادة يظهره الله تعالى على يد عبد من عباده الصالحين حياً أو ميتاً إكراماً له فيدفع به عنه ضراً أو يحقق له نفعاً أو ينصر به حقاً، وذلك الأمر لا يملك العبد الصالح أن يأتي به إذا أراد كما أن النبي لا يملك أن يأتي بالمعجزة من عند نفسه، بل كل ذلك إلى الله وحده" (¬1). فالمعجزة في اللغة: "تعم كل خارق للعادة وكذلك الكرامة في عرف أئمة أهل العلم المتقدمين ولكن كثير من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما فيجعلون المعجزة للنبي والكرامة للولي وجماعها الأمر الخارق للعادة" (¬2). وتعريف الكرامة: "بأنها ظهور أمر خارق للعادة من قبل شخص غير مقارن لدعوى النبوة، فما لا يكون مقرونا بالإيمان والعمل الصالح يكون استدراجا، وما كان مقرونا بدعواها يكون معجزة" (¬3). يقول ابن أبي العز - رحمه الله -: " إنما الكرامة لزوم الاستقامة، وأن الله تعالى لم يكرم عبدا بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} يونس: 62. وأما ما يبتلي الله به عبده من السر بخرق العادة أو بغيرها أو بالضراء فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه بل قد سعد بها قوم إذا أطاعوه وشقي بها قوم إذا عصوه ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 574). (¬2) شرح العقيدة الطحاوية (1/ 558). (¬3) قطف الثمر (1/ 106).

كما قال تعالى {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)} الفجر: 15. ولهذا كان الناس في هذه الأمور ثلاثة أقسام: قسم ترتفع درجتهم بخرق العادة، وقسم يتعرضون بها لعذاب الله، وقسم يكون في حقهم بمنزلة المباحات" (¬1). والكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه، لا قصد لهم فيه ولا تحدي ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران عليها السلام، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني، وقصة أصحاب الكهف، فإنها خصت بكرامات (¬2). ¬

(¬1) شرح الطحاوية (1/ 560). (¬2) ينظر: شرح كتاب التوحيد (1/ 198)، الغنية في أصول الدين لعبد الرحمن النيسابوري (ص 152).

المبحث الرابع جهود الشيخ في تقرير اليوم الآخر

المبحث الرابع جهود الشيخ في تقرير اليوم الآخر. تمهيد في تعريف اليوم الآخر اليوم: واحد الأيام. يقول ابن فارس: "الياء والواو والميم كلمة واحدة، وهي اليوم: الواحد من الأيام ... " (¬1). والآخر: نقيض المتقدم. يقول ابن فارس":الهمزة والخاء والراء أصل واحد صحيح، إليه ترجع فروعه، وهو خلاف التقدم" (¬2). والمراد باليوم الآخر هنا: يوم القيامة، ويدخل فيه كل ما كان مقدمة إليه كالحياة البرزخية، وأشراط الساعة (¬3). وسمي بذلك" لأنه آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة" (¬4)، ويطلق عليه أسماء أخرى ذكرها أهل العلم، وأوردوا أدلتها، وبينّوا معانيها في كتبهم بما يغني عن تسطيره (¬5). ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة (ص 1111)، وانظر: تهذيب اللغة (4/ 3990)، الصحاح (5/ 2065)، لسان العرب (12/ 649)، القاموس المحيط (ص 1514). (¬2) معجم مقاييس اللغة (ص 93)، وانظر: تهذيب اللغة (1/ 131)، الصحاح (2/ 576)، لسان العرب (4/ 11)، القاموس المحيط (ص 436). (¬3) ينظر: تعظيم قدر الصلاة (1/ 393)، المنهاج في شعب الإيمان (1/ 336)، شعب الإيمان (2/ 1)، إحياء علوم الدين (4/ 441)، مجموع الفتاوى (3/ 145)، معارج القبول (2/ 703)، فتاوى ابن عثيمين (5/ 127). (¬4) فتح الباري (1/ 118)، وانظر: فتاوى ابن عثيمين (5/ 127). (¬5) ينظر: إحياء علوم الدين (4/ 441)، التذكرة في أحوال الموتى للقرطبي (1/ 328)، النهاية لابن كثير (1/ 323)، فتح الباري (11/ 403)، لوامع الأنوار البهية (2/ 168).

والإيمان باليوم الآخر هو الركن الخامس من أركان الإيمان التي لا يصح إيمان العبد إلا بها، وهو يتضمن أربعة أمور: الأول: الإيمان بما يكون قبله مما هو مقدمة له كالموت، وعذاب القبر، وأشراط ... الساعة. والثاني: الإيمان بالبعث. والثالث: الإيمان بالحساب والجزاء، وأحوال اليوم الآخر. والرابع: الإيمان بالجنة والنار (¬1). والأمور الغيبية لا مجال للاجتهاد فيها، إلا ما ثبت عن المعصوم، كما بين ذلك الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (¬2). ومعنى الإيمان باليوم الآخر: هو الإيمان بكل ما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه وأخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه وأحوال يوم القيامة وما فيها من البعث والحشر والصحف والميزان والحساب والحوض والصراط والجنة والنار، وغيرها من الأمور الثابتة في الكتاب أو السنة وسمي باليوم الآخر لتأخره عن الدنيا (¬3). والحياة في التصور الإسلامي ليست هي الحياة الدُّنيا القصيرة المحدودة، وليست هي عمر الإنسان القصير المحدود. ¬

(¬1) ينظر: تعظيم قدر الصلاة (1/ 393)، المنهاج في شعب الإيمان (1/ 336)، شعب الإيمان (2/ 5)، مجموع الفتاوى (2/ 703)، فتاوى ابن عثيمين (5/ 127). (¬2) تعليقات الشيخ على تفسير الجلالين (ص 194). (¬3) ينظر: العقيدة الواسطية لابن تيمية مع شرحها للدكتور صالح الفوزان (ص 142)، الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن السعدي (ص 16).

إنما الحياة في التصور الإسلامي تمتد طولاً في الزمان إلى أبد الآباد، وتمتد في المكان إلى دار أخرى في جنة عرضها السماوات والأرض، أو نار تتسع لكثير من الأجيال التي عمرت وجه الأرض أحقاباً من السنين أعاذنا الله وإياكم منها (¬1). ¬

(¬1) ينظر: اليوم الآخر في ظلال القرآن لأحمد فايز (ص 3، 4)، وأشراط الساعة ليوسف الوابل (ص 27، 28).

المطلب الأول الحياة البرزخية

المطلب الأول الحياة البرزخية. تحدث الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عن عذاب القبر ونعيمه، وهل يرى أهل البرزخ بعضهم بعضا، وفيما يلي ذكر ذلك. والبرزخ في اللغة: كل حاجز بين شيئين، فالبرزخ بين الدنيا والآخرة (¬1). واصطلاحاً: هو مدة احتباسهم -أي البشر- عن الجنة أو النار ما بين الموت والبعث (¬2). أولاً: ثبوت عذاب القبر ونعيمه: قال الشيخ - رحمه الله - عند قوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} غافر: 45 - 46: "فيه دليل على إثبات عذاب القبر كما يقول أهل السنة، وذلك لأن عرضهم على النار غدواً وعشياً بعد الموت وقبل الساعة، بدليل قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} غافر: 46" (¬3). وقال الشيخ - رحمه الله -: " وثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يستعيذ في صلاته من عذاب القبر ويأمر أصحابه بذلك) (¬4)، واستعاذ بالله من عذاب القبر ثلاث مرات في بقيع الغرقد حينما كان يلحد لميت من أصحابه (¬5)، ولو لم يكن عذاب القبر ثابتاً لم يستعذ بالله ولا أمر أصحابه به" (¬6). ¬

(¬1) ينظر: إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس (3/ 122)، لسان العرب (3/ 8)، مختار الصحاح (1/ 20). (¬2) ينظر: رفع الأستار للصنعاني (1/ 94). (¬3) تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 14)، وانظر: فتاوى اللجنة (3/ 442 - 443). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب ما يتعوذ من الجن برقم (2822)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب ما يستعاذ منه في الصلاة برقم (588)، (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (18140)، وعبد الرزاق في مصنفه برقم (6737)، والآجري في "الشريعة" (ص 367 - 370)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر برقم (20، 1، 2)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح، وصححه الحاكم (1/ 37 - 40)، وقال الشيخ الألباني في أحكام الجنائز وبدعها (ص 198): القسم الأول منه إلى قوله: وكأن على رؤوسنا الطير صحيح على شرط الشيخين. (¬6) فتاوى اللجنة (3/ 443).

وقال - رحمه الله -: " وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} إبراهيم: 27، يدخل فيه تثبيت المؤمن وخذلان الكافر عند سؤال كل منهما في قبره، وأن المؤمن يوفق في الإجابة وينعم في قبره، وأن الكافر يخذل ويتردد في الإجابة ويعذب في قبره، وسيجيء ذلك في حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -، ومن أدلة عذاب القبر أيضاً ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس م أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) فدعا بجريدة رطبة فشقها نصفين وغرز على كل قبر واحدة وقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) (¬1). وقد تواترت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثبوت سؤال الميت في قبره وثبوت نعيمه فيه أو عذابه حسب عقيدته وعمله بما لا يدع مجالاً للشك في ذلك، ولم يعرف عن الصحابة ن في ثبوت ذلك خلاف؛ ولذا قال بثبوته أهل السنة والجماعة، ومما ورد في ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والحاكم في صحيحه عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقعد وقعدنا حوله كأن على رؤوسنا الطير وهو يلحد له، فقال: (أعوذ بالله من عذاب القبر) ثلاث مرات، ثم قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا ... الحديث) (¬2) " (¬3). وقد ثبت عذاب القبر ونعيمه بالكتاب والسنة والإجماع وقد ذكر جزءاً منها الشيخ - رحمه الله - في حديثه السابق؛ والأحاديث تواترت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الفتنة من حديث البراء ابن عازب، وأنس بن مالك، وأبي هريرة وغيرهم - رضي الله عنهم - (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب الجريد على القبر وباب عذاب القبر من الغيبة والنميمة برقم (1361، 1378)، ومسلم في كتاب الطهارة باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه برقم (292). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (18140)، وعبد الرزاق في مصنفه برقم (6737)، والآجري في "الشريعة" (ص 367 - 370)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر برقم (20، 1، 2)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح، وصححه الحاكم (1/ 37 - 40)، وصححه الألباني في شرح العقيدة الطحاوية (ص 396). (¬3) فتاوى اللجنة (3/ 443، 447). (¬4) مجموع الفتاوى (4/ 257)، وينظر: (4/ 285)، والروح لابن القيم (1/ 384)، وشرح الطحاوية (2/ 578)، ونظم المتناثر للكتاني (ص 125).

وأجمعت الأمة على وقوعها، والتعوذ بالله - عز وجل - منها (¬1). وهي عامة لكل ميت مقبور وغير مقبور، وإضافتها للقبر للغالب (¬2). ثانياً: هل يرى أهل البرزخ بعضهم بعضاً: ويقول الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله -: " ولا نعلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً يعتمد عليه، في أن أهل البرزخ يرى بعضهم بعضاً ويتحدث بعضهم مع بعض" (¬3). المسألة من مسائل الغيب التي لا مجال للعقل فيها، ولا حكم إلا للنصوص، وقد وردت الأحاديث في تزاور المؤمنين في قبورهم، والأمر بتحسين الأكفان لموتاهم، لأجل ذلك، وهذا يقتضي أنه يحصل لهم تزاور في قبورهم على هيئة وكيفية، لا علم لنا بها، إنما ذلك في علم الغيب، وأمور البرزخ وأحواله لا تقاس بأحوال الدنيا (¬4). والأرواح - كما بين ابن القيم- قسمان: أرواح معذبة، وأرواح منعمة، فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة، فتتلاقى، وتتزاور، وتتذكر ما كان منها في الدنيا، وما يكون من أهل الدنيا (¬5). "وكل روح تكون مع رفيقها الذي، هو على مثل عملها، فروح نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في الرفيق الأعلى، والدليل على تزاورها، وتلاقيها قول الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ڑ} ¬

(¬1) ينظر: رسالة إلى أهل الثغر للأشعري (ص 279). (¬2) ينظر: الروح (1/ 299)، وشرح الطحاوية (2/ 579)، وشرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور للسيوطي (ص 143)، ولوامع الأنوار البهية (2/ 9)، جمع الشتيت في شرح أبيات التثبيت للصنعاني (ص 82). (¬3) فتاوى اللجنة (3/ 456). (¬4) ينظر: التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة لمحمد بن فرج القرطبي (ص 72)، والمسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد (ص 705 - 707). (¬5) ينظر: الروح (ص 17) وما بعدها، وقد أكثر ابن القيم والسيوطي من إيراد الأحاديث والآثار والحكايات على ذلك؛ ينظر: شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور لجلال الدين السيوطي (ص 182) وما بعدها، والتذكرة (ص 155)، ومجموع الفتاوى (24/ 368 - 369).

النساء: 69، وهذه المعية ثابتة في الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاث. وقد أخبر الله عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وأنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وهذا يدل على تلاقيهم، وأما تلاقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات، فشواهد هذه المسألة وأدلتها أكثر من أن تحصر، والحس والواقع شاهد بذلك، وتلتقي أرواح الأحياء والأموات كما تلتقي أرواح الأحياء، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} الزمر: 42، فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات، تلتقي في المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها (¬1)، ويدل على ذلك -أيضا- أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره، ويخبره الميت بما لا يعلم الحي، فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل، وربما أخبره بمال دفنه الميت في مكان لم يعلم به سواه، وربما أخبره بدَيْن عليه " (¬2). قال الحكيم الترمذي (¬3): الأرواح تجول في البرزخ فتبصر أحوال الدنيا وأحوال الملائكة تتحدث في السماء عن أحوال الآدميين وأرواح تحت العرش وأرواح طيارة إلى الجنان إلى حيث شاءت على أقدارهم من السعي إلى الله أيام الحياة (¬4). ¬

(¬1) ينظر: تفسير الطبري) 24/ 9)، وتفسير القرطبي (15/ 260)، شرح الصدور (ص 262)، الآيات البينات في عدم سماع الأموات على مذهب الحنفية السادات للألوسي تحقيق الألباني (ص 106). (¬2) شرح العقيدة الطحاوية، لفضيلة الشيخ عبدالعزيز الراجحي حفظه الله وهو عبارة عن أشرطة مفرغة ضمن الدورة العلمية التي أقيمت بجامع شيخ الإسلام ابن تيمية، موجودة في المكتبة الشاملة (ص 299). (¬3) هو: محمد بن علي بن الحسن بن بشر، أبو عبد الله، المشهور بالحكيم الترمذي، من مؤلفاته: ختم الولاية، ونوادر الأصول، وعلل الشريعة وغيرها، توفي سنة (319 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 439)، طبقات الشافعية الكبرى (2/ 245). (¬4) شرح الصدور (ص 243).

المطلب الثاني الحياة الآخرة، وما تتضمنها

المطلب الثاني الحياة الآخرة، وما تتضمنها. تحدث الشيخ عبد الرزاق: عن الحياة الآخرة، وفصل في بعض مواقفها، فيما يلي: أولاً: البعث: البعث في اللغة: يختلف تعريف البعث في اللغة باختلاف ما علق به (¬1)، فقد يطلق ويراد به: 1 - الإرسال: يقال بعثت فلاناً أو ابتعثته أي أرسلته. 2 - البعث من النوم: يقال: بعثه من منامه إذا أيقظه. 3 - الإثارة: وهو أصل البعث، ومنه قيل للناقة: بعثتها إذا أثرتها وكانت قبل باركة. والبعث في الشرع: البعث في الشرع يراد به: إحياء الله الموتى وإخراجهم من قبورهم أحياء للحساب والجزاء (¬2). المقارنة بين المعنى الشرعي واللغوي لكلمة "البعث": نجد ترابطاً ظاهراً، وذلك أن من معاني البعث في اللغة الإثارة لما كان ساكناً من قبل، وكذا الإرسال كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} النحل: 36، وهذا ما جاء في كلمة البعث مراداً بها معناها الشرعي الذي هو إرسال الحياة إلى الأموات وإثارتها من جديد لتتهيأ لما يراد منها من الانطلاقة إلى الموقف للحساب (¬3). ¬

(¬1) ينظر: تهذيب اللغة (2/ 334 - 335)، القاموس المحيط (1/ 168)، وغيرهما من كتب اللغة في مادة "بعث". (¬2) ينظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 206)، شرح جوهرة التوحيد للبيجوري (ص 170)، العقائد الإسلامية لسيد سابق (ص 269)، فتح الباري (11/ 393) (3/ 4)، لوامع الأنوار البهية (2/ 157). (¬3) ينظر: الحياة الآخرة لغالب عواجي (1/ 62).

والبعث ثابت بالأدلة النقلية والعقلية، بأوجه متعددة، وطرق متنوعة، توجب القطع به، والإيمان بحصوله (¬1)، ولهذا " أجمع أهل الملل عن آخرهم على جوازه ووقوعه" (¬2)، ولم يشذ منهم إلا طوائف لا عبرة بها (¬3). قال السفاريني (¬4): " اعلم أنه يجب الجزم شرعاً أن الله تعالى يبعث جميع العباد ويعيدهم بجميع أجزائهم الأصلية وهي التي شأنها البقاء من أول العمر إلى آخره، ويسوقهم إلى محشرهم لفصل القضاء، فإن هذا حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة " (¬5). قال الشيخ - رحمه الله - معلقاً على قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)} الواقعة: 58 - 62، "فهذه الآيات، ذكرت لتنزيه الله تعالى وتقديسه عما ظنه به منكرو البعث، وسيقت لإثبات قدرته على المعاد، كما يرشد إليه ما قبلها من الآيات " (¬6). قال الشيخ - رحمه الله -: " يعيد الله سبحانه خلق الناس يوم القيامة من عجب الذنب فينبتون منه سوياً كما ينبت الزرع من الحب، والنخل من النوى، ثم يخرجون من قبورهم حفاة عراة ¬

(¬1) ينظر: كتاب البعث لابن أبي داود، البعث والنشور للبيهقي، التذكرة (1/ 277)، مجموع الفتاوى (9/ 224)، شرح الطحاوية (2/ 589 - 597)، لوامع الأنوار البهية (2/ 157). (¬2) المواقف في علم الكلام للإيجي (ص 372). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 284، 262، 313 - 316)، شرح العقيدة الطحاوية (2/ 589)، لوامع الأنوار البهية (2/ 157 - 159)، واتفاق الشرائع على البعث للشوكاني، واليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والإسلام د. فرج الله عبد الباري (ص 120). (¬4) هو: محمد بن أحمد بن سالم السفاريني، أبو العون، أحد علماء الحديث والأصول والأدب، ولد في نابلس من قرى فلسطين، وتوفي بها سنة (1188 هـ)، له تصانيف عدة منها: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، ولوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية، البحور الزاخرة في علوم الآخرة. ينظر: الأعلام (6/ 14). (¬5) لوامع الأنوار (2/ 157). (¬6) ينظر: مذكرة التوحيد (21 - 22).

غرلاً (¬1)، سراعاً، كأنهم جراد منتشر أو فراش مبثوث لا يضلون طريق الموقف، بل هم أهدى إليه من القطا (¬2)، كأنهم إلى نصب يوفضون ... ومن قرأ آيات البعث من سورة القمر والمعارج والقارعة وأمثالها يتبين له الكثير مما تقدم، وثبت في الصحيحين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً) ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)} الأنبياء: 104" (¬3). إن الإيمان بالبعث أمر معلوم من الدين بالضرورة، ومنكره خارج عن الإسلام. ولقد خص ذكر اليوم الآخر بمزيد من العناية والتعظيم لشأنه في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجمع على ذلك المسلمون؛ فإن المتتبع لطريقة القرآن الكريم في مجادلة خصوم العقيدة، يجد أن الاهتمام باليوم الآخر أخذ قسطاً واسعاً من تلك الحجج والبراهين الدامغة لمنكري اليوم الآخر، وكذا في السنة المطهرة (¬4). قال علي بن أبي العز الحنفي - رحمه الله -: " القول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء: أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال فتستحيل تراباً، ثم ينشئها الله نشأة أخرى كما استحال في النشأة الأولى، فإنه كان نطفة ثم صار علقة ثم صار مضغة ثم صار عظاماً ولحماً ثم أنشأه خلقاً سوياً، كذلك الإعادة: يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب" (¬5). ويقول ابن حزم: " اتفق أهل القبلة على تنابذ فرقهم على القول بالبعث في القيامة وعلى تكفير من أنكر ذلك، ومعنى هذا القول: أن لمكث الناس وتناسلهم في دار الابتلاء التي هي الدنيا أمداً يعلمه الله تعالى، فإذا انتهى ذلك الأمد مات كل من في الأرض، ثم يحيي الله عز ¬

(¬1) جمع أغرل وهو الأقلف والأغلف الذي لا يختن. ينظر: لسان العرب (11/ 490)، تاج العروس (30/ 87)، تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم لمحمد الحميدي (ص 159)، مشارق الأنوار للقاضي عياض (2/ 132)، غريب الحديث لابن الجوزي (2/ 154). (¬2) القطاة واحدة قطا وهو نوع من اليمام يُؤْثر الحياة في الصحراء ويتخذ أفحوصه في الأرض ويطير جماعات ويقطع مسافات شاسعة وبيضه هُرقَّط. ينظر: المعجم الوسيط (2/ 748) "قطا". (¬3) فتاوى اللجنة (3/ 458 - 459). (¬4) ينظر: الحياة الآخرة ما بين البعث إلى دخول الجنة أو النار للدكتور غالب عواجي (1/ 73). (¬5) شرح الطحاوية (ص 464).

ثانيا: الشفاعة

وجل كل من مات منذ خلق الله عز وجل الحيوان إلى انقضاء الأمد المذكور، ورد أرواحهم التي كانت بأعيانها، وجمعهم في موقف واحد وحاسبهم عن جميع أعمالهم ووفاهم جزاءهم، ففريق من الجن والإنس في الجنة وفريق في السعير، وبهذا جاء القرآن والسنن" (¬1). ثانياً: الشفاعة: الشفاعة لغة: خلاف الوتر، وهي الوسيلة والطلب. قال ابن فارس: (الشين والفاء والعين، أصل صحيح يدل على مقارنة الشيئين، والشفع خلاف الوتر .. وشَفَعَ فلانٌ لفلانٍ إذا جاء ثانِيه ملتمساً مطلبه ومُعِيناً له) (¬2). والشفاعة في الاصطلاح: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة (¬3). قال الشيخ - رحمه الله - معلقاً على قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} المدثر: 48: "لأن الله لم يرض عنهم لكفرهم فلا يقبل فيهم شفاعة، ولو تكلم شافع في شأن كافر ككلام إبراهيم الخليل مع ربه في شأن أبيه لم يقبل" (¬4). قال الشيخ - رحمه الله -: "شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعة الصالحين يوم القيامة ثابتة في القرآن، وقد وردت فيها أحاديث صحيحة تفسر ما جاء في القرآن، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) (¬5)، والشفاعة أنواع. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن (¬6) - رحمه الله -: "وذكر -يعني ابن القيم-: أن الشفاعة ستة أنواع: ¬

(¬1) ينظر: الفصل لابن حزم (4/ 79). (¬2) معجم مقاييس اللغة (ص 531). (¬3) ينظر: النهاية لابن الأثير (2/ 399)، لوائح الأنوار (2/ 246). (¬4) تعليق على الجلالين (ص 230). (¬5) أخرجه أحمد (3/ 230) برقم (12810)، وأبو داود في كتاب السنة باب في الشفاعة برقم (4739)، والترمذي كتاب صفة القيامة والرقائق والورع باب ما جاء في الشفاعة برقم (2435، 2436)، وابن حبان في الصحيح برقم (2596، موارد)، والحاكم في المستدرك (1/ 9)، وحسنه الألباني في ظلال الجنة برقم (830). (¬6) هو: العلامة المجدد الثاني، الشيخ أبو الحسن، عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب. ولد في الدرعية سنة 1193 هـ، من مؤلفاته، فتح المجيد، وقرة عيون الموحدين، ومُلخص منهاج السنة، وإرشاد طالب الهدى، توفي سنة 1285 هـ. ينظر: الأعلام (3/ 304)، علماء الدعوة (ص 40)، مقدمة فتح المجيد طبعة رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء (9 - 15).

الأول: الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي إليه - صلى الله عليه وسلم - فيقول: (أنا لها)، وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليتشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف، وهذه شفاعة يختص بها لا يشركه فيها أحد. الثاني: شفاعته لأهل الجنة في دخولها، وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه. الثالث: شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم فيشفع لهم ألا يدخلوها. اهـ. الرابع: شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم، والأحاديث بها متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة وبدّعوا من أنكرها، وصاحوا به كل جانب، ونادوا عليه بالضلال. الخامس: شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفعة درجاتهم، وهذه مما لم ينازع فيها أحد وكلها مختصة بأهل الإخلاص الذين لم يتخذوا من دون الله ولياً ولا شفيعاً، كما قال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} الأنعام: 51. السادس: شفاعته في بعض أهله الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه، وهذه خاصة بأبي طالب وحده. اهـ. (¬1) " (¬2). قال الشيخ - رحمه الله -: " من أنكر حديث الشفاعة العظمى أو أحاديث الشفاعة الأخرى التي رواها البخاري في صحيحه وغيره من أئمة الحديث فهو مخالف لأهل السنة والجماعة وسلف الأمة ذاهب مذهب أهل الزيغ والضلال" (¬3). قال الشيخ - رحمه الله -: " لا يموت الكفار ولا المؤمنون ولا عصاة المؤمنين بعد موتتهم التي ماتوها عند انتهاء أجلهم في الحياة الدنيا لا موتاً حقيقياً ولا موتاً غير حقيقي كالنوم، لكن ناس من عصاة المؤمنين أصابتهم النار بذنوبهم فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة ¬

(¬1) فتح المجيد (ص 175، 176). (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 472، 473). (¬3) فتاوى اللجنة (3/ 476).

فيهم، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم-أو قال: بخطاياهم- فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة، أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل) فقال رجل من القوم: كأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان في البادية (¬1) " (¬2). الشفاعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)} طه: 109.وغيرها من الآيات الدالة. وأما من السنة: فقد تواترت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات الشفاعة (¬3) وقد أورد الشيخ - رحمه الله - هذا في كلامه السابق. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "أحاديث الشفاعة كثيرة متواترة، منها في الصحيحين أحاديث متعددة، وفي السنن والمسانيد مما يكثر عدده" (¬4). وأما الإجماع: فقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات الشفاعة، وعدها من معاقد العقائد التي يجب الإيمان بها، والرد على من أنكرها (¬5). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار برقم (185). (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 478). (¬3) ينظر: السنة لابن عاصم (2/ 399)، شرح صحيح مسلم (3/ 35)، قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 12)، إثبات الشفاعة للذهبي (ص 22)، شرح العقيدة الطحاوية (1/ 258)، فتح الباري (11/ 426)، لوامع الأنوار البهية (2/ 208). (¬4) مجموع الفتاوى (1/ 314). (¬5) ينظر: شرح صحيح مسلم (3/ 35)، مجموع الفتاوى (1/ 148)، لوامع الأنوار البهية (2/ 208)، الدين الخالص لصديق حسن خان (2/ 22).

يقول أبو حاتم وأبو زرعة رحمهما الله: " أدركنا العلماء في جميع الأمصار ... فكان مذهبهم ... الشفاعة حق" (¬1). والشفاعة المثبتة: هي الشفاعة التي استجمعت شروطها، وانتفت موانعها (¬2). يقول العلامة ابن القيم - رحمه الله -: " الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله ... وهو لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع الرسول. فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها" (¬3). والشفاعة قسمان: أحدها: الشفاعة العامة الثابتة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولغيره كالملائكة والنبيين والمؤمنين. ثانيهما: الشفاعة الخاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والتي لا يشاركه فيها أحد. والشفاعة بقسميها أنواع، اختلف أهل العلم في عدها تبعاً لاختلافهم في أدلتها من حيث الصحة والدلالة، وجملتها عندهم ثمانية أنواع، وقد ساق الشيخ عبد الرزاق: جملة منها في كلامه السابق. وأدلة هذه الأنواع، والكلام في ثبوتها ودلالتها مبسوط في مواضعه من كتب أهل العلم (¬4). ¬

(¬1) ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 177). (¬2) ينظر: الدرر السنية (2/ 158)، مجموعة الرسائل النجدية (2/ 65 - 66) (3/ 94 - 97)، (4/ 130 - 136)، فتح المجيد (2/ 355)، الشفاعة للدكتور ناصر الجديع (ص 69 - 82). (¬3) مدارج السالكين (1/ 341). (¬4) ينظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة (2/ 588)، الحجة في بيان المحجة (2/ 459 - 564)، الدرة فيما يجب اعتقاده (ض294 - 297)، الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 289)، التذكرة (2/ 56 - 78)، شرح صحيح مسلم (3/ 35 - 36)، مجموع الفتاوى (3/ 147)، شرح العقيدة الطحاوية (1/ 282)، فتح الباري (11/ 426 - 428)، الشفاعة للدكتور ناصر الجديع (ص 38) وما بعدها.

ثالثا: الرؤية

ثالثاً: الرؤية (¬1): قال الشيخ - رحمه الله - معلقاً على قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} المطففين: 15: "فيه إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، فإنه إذا حجب الكافرين عن رؤيته تعذيباً لهم فقد منحها المؤمنين نعيماً لهم" (¬2). لقد ثبتت رؤية الله تعالى بنص الكتاب والسنة والإجماع (¬3)، وسنذكر بعضها فيما يلي: -الأدلة من القرآن الكريم: يستدل أهل السنة والجماعة على رؤية الله تعالى بأدلة من كتاب الله - عز وجل - ظاهرة الدلالة على ثبوت الرؤية له، وإذا ثبتت رؤيته تعالى سواء كان ذلك في الجنة أو في الموقف كان ذلك إبطالاً لمن خرج عن الحق فنفى إمكان وقوعها. ومن الأدلة التي يستدل بها أهل الحق: - قال سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} يونس: 26 وجه الاستدلال: أن الحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم كما فسرها بذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، فقد روى مسلم في صحيحه عن صهيب قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى منادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً ويريد أن ينجزكموه، ¬

(¬1) أما رؤية الله - عز وجل - في الدنيا فقد سبق الحديث عليها في المطلب الثاني من الفصل الرابع في خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما عد من خصائصه وهو غير ثابت في اختصاصه بأنه رأى ربه - عز وجل -. (¬2) تعليق الشيخ على الجلالين (ص 266). (¬3) ينظر: الرد على الجهمية للدارمي (ص 87)، كتاب التوحيد لابن خزيمة (2/ 406)، كتاب الرؤية للدارقطني (ص 91 - 308)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 160)، الحجة في بيان المحجة (2/ 236)، مجموع الفتاوى (2/ 29، 5/ 485، 16/ 84)، بيان تلبيس الجهمية (2/ 253)، حادي الأرواح (ص 267 - 319)، شرح الطحاوية (1/ 207 - 215)، فتح الباري (13/ 424)، لوامع الأنوار البهية (2/ 243). (¬4) ينظر: حادي الأرواح (ض270)، شرح الطحاوية (1/ 211).

الأدلة من السنة المطهرة

فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويُدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة) (¬1). - وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} المطففين: 15. وغير ذلك من الآيات. وجه الاستدلال: أن الله تعالى إذا احتجب عن الكافرين في السخط، كان هذا دليلاً على أن أولياءه يرونه في الرضا، وبهذا احتج جمع من أئمة السلف (¬2). - الأدلة من السنة المطهرة: وكما ثبتت الرؤية من كتاب الله - عز وجل -؛ ثبتت كذلك في السنة النبوية بالأحاديث الصحيحة المشهورة المتواترة (¬3)، كما ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - (¬4)، وجمعها غير واحد من أهل العلم في مصنفات مستقلة (¬5)، وتتبعها العلامة ابن القيم في كتابه حادي الأرواح وساقها معزوة إلى مخرجيها فبلغت ثلاثين حديثاً (¬6). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " إن الأحاديث والآثار في هذا كثيرة مشهورة، قد دون العلماء فيها كتباً، مثل كتاب الرؤية للدارقطني ولأبي نعيم وللآجري، وذكرها المصنفون في السنة كابن بطة، واللاكائي، وابن شاهين، وقبلهم عبد الله بن أحمد بن حنبل، وحنبل بن ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه برقم (181) (1/ 163). (¬2) ينظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة (2/ 443)، حادي الأرواح (ص 272)، شرح الطحاوية (1/ 211 - 212). (¬3) ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 470)، الحجة في بيان المحجة (2/ 245)، مجموع الفتاوى (6/ 469)، حادي الأرواح (ص 277، 319). (¬4) الأزهار المتناثرة (ص 147). (¬5) ذكر طائفة منها شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (6/ 486)، ومما هو مطبوع: التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة للآجري، والرؤية للدارقطني، ورؤية الله تعالى لابن النحاس. (¬6) ينظر: حادي الأرواح (ص 277 - 307).

إسحاق، والخلال، والطبراني، وغيرهم، وخرجها أصحاب الصحيح والمسانيد والسنن وغيرهم" (¬1). ونذكر بعض الأدلة من السنة المطهرة: - فمما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أناس: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: (هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: (فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك، يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقون (¬2)، فيأتيهم الله في غير الصورة (¬3)، التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه) (¬4) الحديث. - وقال - صلى الله عليه وسلم -: (تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه - عز وجل - حتى يموت) (¬5). ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى (6/ 486). (¬2) قال النووي: " قال العلماء: إنما بقوا في زمرة المؤمنين؛ لأنهم كانوا في الدنيا متسترين بهم؛ فيتسترون بهم أيضاً في الآخرة، وسلكوا مسلكهم ودخلوا في جملتهم وتبعوهم ومشوا في نورهم، حتى ضرب بينهم بِسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، وذهب عنهم نور المؤمنين" شرح النووي لمسلم (1/ 428). (¬3) إثبات الصورة لله تعالى مما كثر فيه الكلام بين العلماء، وقد جاءت السنة بإثبات الصورة لله تعالى وأن إطلاق هذه اللفظة على الله ليس فيها محذور إلا عندما يتخيل الشخص فيها معنى التشبيه. قال أبو محمد ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (ص 261): "والذي عندي -والله تعالى أعلم- أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد". ينظر: نقض تأسيس الرازي لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 455)، ونقض أساس التقديس لابن تيمية، وعقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن لحمود التويجري، وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ عبد الله الغنيمان (2/ 32 - 68)، وصفات الله عز وجل للسقاف (ص 198 - 200). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب الصراط جسر جهنم برقم (6574)، وينظر: صحيح مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب فضل صلاة الصبح والعصر والمحافظة عليها برقم (633). (¬5) أخرجه مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر ابن صياد برقم (2931) (4/ 2245).

رابعا: الجنة والنار

- وأما الإجماع: فقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات الرؤية في الآخرة، وسؤال الله الكريم حصولها، وحكى إجماعهم غير واحد من أهل العلم (¬1). رابعاً: الجنة والنار: 1 - خلق الجنة والنار ووجودهما الآن: قال الشيخ - رحمه الله -: " إن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، وأنهما باقيتان لا تفنيان. وفيما يلي بيان مذهب أهل السنة والجماعة: اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار موجودتان في الدنيا. ولم يعرف لهم مخالف في صدر الإسلام، واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة" (¬2). ودلل الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع، فقال: " الأدلة من الكتاب: قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} آل عمران: 133، وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} الحديد: 21، فدل التعبير عن إعداد الجنة للمؤمنين بالفعل الماضي على أنها موجودة بالفعل في الدنيا. وقال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} البقرة: 24، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} آل عمران: 131، وقال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)} النبأ: 21 - 22، فدل التعبير بالماضي على أن النار وجدت فعلاً. ¬

(¬1) ينظر: الرد على الجهمية للدارمي (ص 103)، شرح صحيح مسلم (3/ 15)، مجموع الفتاوى (6/ 469، 510)، حادي الأرواح (ص 319)، لوامع الأنوار البهية (2/ 240). (¬2) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 10).

وأما من السنة: فالأحاديث الدالة على وجودهما الآن كثيرة، منها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة) (¬1)، وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزتك، لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بالجنة فحفت بالمكاره، فقال: ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها ثم رجع، فقال: وعزتك، لقد خشيت ألا يدخلها أحد، قال: ثم أرسله إلى النار، قال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر فإذا هي يركب بعضها بعضا، ثم رجع فقال: وعزتك، لا يدخلها أحد سمع بها، فأمر بها فحفت بالشهوات، ثم قال: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها، فرجع فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها) (¬2). فهذان الحديثان صريحان في إعداد كل من الجنة والنار لأهلها، وروى مالك في الموطأ وأصحاب السنن من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما نسمة المؤمن طير تعلق في شجر الجنة حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة) (¬3)، وجاء في حديث خسوف الشمس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى الجنة والنار وهو يخطب أصحابه وأنه حدثهم عنهما، وثبت أن الله أسكن آدم وحواء الجنة قبل أن يهبطهما إلى الأرض من أجل مخالفتهما لله بأكلهما من الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي برقم (1379)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه برقم (2866). (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب صفة الجنة والنار باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات برقم (2560)، والنسائي في كتاب الأيمان والنذور برقم (4684)، حسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2560)، وفي صحيح الترغيب والترهيب برقم (3669). (¬3) أخرجه الإمام أحمد برقم (15349) من حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه -، وصححه الألباني في شرحه على العقيدة الطحاوية برقم (378).

وأما الإجماع: فإن صدر هذه الأمة لم يزالوا على القول بوجودهما في الدنيا حتى نبتت نابتة من القدرية والمعتزلة فأنكرت ذلك وهم يحتجون بالنصوص، وبإجماع الأمة قبل وجودهم" (¬1). إن من الإيمان باليوم الآخر: الاعتقاد الجازم والتصديق التام بالجنة والنار، فأهل السنة والجماعة يعتقدون: أ- أن الجنة والنار موجودتان معدّتان لأهلهما ولا تفنيان، فالجنة دار كرامة الله أعدها لأوليائه المقربين والأبرار، والنار دار عذابه أعدّها دار هوان لأعدائه المشركين والمنافقين والكفار. ب- أن أهلهما لا يموتون كما جاء النص فيه، يقال لأهل كل منهما: خلود ولا موت، وكما قال سبحانه عن أهل كل منهما: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} البقرة: 39، وقد سبق ذكر بعض الأدلة في كلام الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - السابق. ج- أن أهل الجنة في نعيم أبدي متجدد، قال تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} البقرة: 25، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} النساء: 57. وقال تعالى في نعيمهم: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} هود: 108، وأهل النار في عذاب أبدي سرمدي دائم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} النساء: 56، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)} الجن: 23 (¬2). ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 10). (¬2) ينظر: النهاية في الملاحم والفتن (2/ 407)، أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة، د. محمد بن عبد الرحمن الخميس (640)، مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (2/ 54، 55).

- شبهة من أنكروا وجود الجنة والنار الآن: قال الشيخ - رحمه الله -: " أولاً: خلق الجنة والنار قبل يوم الجزاء عبث، لأن كلاً منهما تبقى معطلة مدة طويلة دون أن يجزى بها أحد، والعبث محال على الله. وأجيب أولاً: بأنه معارضة للنصوص الصحيحة بالعقل في أمر غيبي لا يعرف إلا بالنقل، وثانياً: بأن وجودهما في الدنيا فيه فائدة، لأن المؤمنين ينعمون في قبورهم، وأرواحهم نسمات تعلق في شجر الجنة، والكفار يعذبون في قبورهم بالعرض على النار ورؤية كل منهم مقعده فيها إلى أن يبعثه الله كما تقدم بيانه، فوجودهما ليس بعبث. استدلوا ثانياً: بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} القصص: 88، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} آل عمران: 185، قالوا: فلو كانتا موجودة الآن لهلكتا وذاق كل من فيهما الموت عند النفخة الأول في الصور من أجل إنهاء الدنيا وتخريبها. وأجيب أن كلا من الجنة والنار مستثنى مما يصيبه الهلاك والفناء، عند النفخة الأولى، لأنهما خلقتا للبقاء، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} الزمر: 68، أدخلتا في عموم من شاء الله بقاءه جمعاً بين الأدلة، وأيضاً المعنى كل شيء كتب الله عليه الهلاك أو ذوق الموت هالك، والجنة والنار ليستا مما كتب عليه الهلاك، لأنهما خلقتا للجزاء، وأيضاً معنى كل شيء هالك إلا وجهه كل عمل حابط إلا ما أريد به وجه الله، بدليل قوله في صدر الآية: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} القصص: 88. استدلوا ثالثاً: بما ذكره الله عن امرأة فرعون من قولها: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} التحريم: 11، وبقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لقيت إبراهيم ليلة أسرى بي، فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم بأن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر) (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد برقم (3462)، صححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3462).

نخلة في الجنة) (¬1) رواهما الترمذي في سننه. قالوا: فلو كانت الجنة غير مخلوقة مفروغاً منها لما طلبت امرأة فرعون من ربها أن يبني لها بيتاً فيها، ولما قال - صلى الله عليه وسلم -: (أنها قيعان، وأنها لا تزال يغرس فيها كلما كان التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير من العابدين) (¬2). وأجيب بأن ما ذكرتم دليل على وجود الجنة الآن لا على عدمها إلا أنها لا تزال يخلق الله فيها أنواعاً من النعيم ما ذكره الذاكرون، بل يجدد الله فيها يوم القيامة أنواعا من النعيم فالإنشاء فيها مستمر اليوم ويوم القيامة، والنعيم فيها متجدد أبد الآبدين" (¬3). القول بخلق الجنة والنار ووجودهما الآن مذهب أهل السنة والجماعة قاطبة سلفاً وخلفاً (¬4) ومن وافقهم من الأشاعرة (¬5) والماتريدية (¬6)، وخالف في ذلك الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم (¬7) فقالوا بنفي خلقهما ووجودهما الآن. يقول العلامة ابن أبي العز - رحمه الله -: "اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل على ذلك أهل السنة، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية، فأنكرت ذلك وقالت: بل ينشئهما الله يوم القيامة ... وحرفوا النصوص عن مواضعها، وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم" (¬8). ¬

(¬1) أخرجها الطبراني في المعجم الصغير برقم (103)، صححه الألباني في شرح الطحاوية (ص 423). (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد برقم (3426) وحسنه، وحسنه كذلك الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3462). (¬3) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 11). (¬4) ينظر: الشرح والإبانة لابن بطة (ص 206)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة (6/ 1184)، الحجة في بيان المحجة (1/ 471 - 475)، درء التعارض (8/ 345 - 346)، حادي الأرواح (ص 11)، شرح العقيدة الطحاوية (2/ 614 - 620)، لوامع الأنوار البهية (2/ 230). (¬5) ينظر: مقالات الإسلاميين لأبي حسن الأشعري (1/ 349)، الإرشاد (ص 319)، أصول الدين للبغدادي (ص 237)، شرح المقاصد (5/ 107). (¬6) ينظر: أصول الدين للبزدوي (ص 165 - 166)، المسايرة لابن الهمام (ص 247 - 249). (¬7) ينظر: متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار (ص 160 - 161). (¬8) شرح الطحاوية (2/ 641).

2 - دوام الجنة والنار

2 - دوام الجنة والنار: قال الشيخ - رحمه الله -: " اتفق أهل السنة على أن الجنة لا تفنى، وذهب الجمهور منهم إلى أن النار أيضاً لا تفنى وقالت طائفة قليلة منهم بفناء النار. والدليل على بقاء الجنة من الكتاب: قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} الرعد: 35، وقال تعالى: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)} الحجر: 48، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} ص: 54، وقال تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)} الدخان: 56، وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} هود: 108. واختلف السلف في الاستثناء من خلود المؤمنين في الجنة بقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} هود: 108، فقيل: إنه استثناء للمدة التي يمكثها عصاة المؤمنين في النار قبل دخولهم الجنة من مدة خلودهم في الجنة، فالمعنى يخلد المؤمنون في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا مدة شاء ربك أن يقضيها عصاة المؤمنين في النار وقيل دخولهم الجنة. وقيل: إنه استثناء الرب ولا يفعله، كقولك: والله لا أكرمن إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا ترى إلا إكرامه. وقريب منه قيل: من أن الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله، لا أنهم باستقرارهم في الجنة وتمكنهم منها خرجوا من مشيئة الله، ولا ينافي ذلك إرادته إرادة كونية أن يخلدوا فيها، ونظيره قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)} الإسراء: 86، وهو سبحانه بقاء ما أوحى به إلى رسوله، وقوله: قال تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} الشورى: 24، وهو سبحانه لا يشاء الختم على قلب رسوله، بل أراد له استمرار الهداية والإمداد بالنور وصفاء البصيرة، وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} يونس: 16، وقد شاء سبحانه إعلامهم به،

وتلاوة رسوله القرآن عليهم، إلى غير هذا من النظائر التي يقصد بذكر المشيئة فيها إثبات كمال الاختيار، وأن الأمور لما تخرج من دائرة تقديره سبحانه وتصريفه. واختار ابن جرير أن "لا" بمعنى "لكن"، وعليه يكون الاستثناء منقطعاً، والمعنى خالدين فيها سوى ما شاء ربك من زيادة النعيم، أو لكن هنا من زيادة النعيم والإكرام على الخلود ما لا يقدر قدره إلا الله، فليس المراد قطع أمد الخلود ولكن المراد زيادة نعيم إلى جانب خلودهم في الجنة بدليل ما ختمت به الآية من قوله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} هود: 108. الدليل من السنة: - على أبدية الجنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت) (¬1) وقوله: (ينادي مناد يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا) (¬2)، وقوله: (يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت) (¬3) " (¬4). بين الشيخ - رحمه الله - الآراء في أبدية النار، فقال: " أما أبدية النار: ففيها آراء كثيرة للسلف منها رأيان: الأول: رأي جمهور السلف، قالوا: إن النار باقية لا تفنى، ومن دخل بقي مخلدا فيها أبدا إلا من دخلها من عصاة المؤمنين فإنهم يخرجون منها. واستدلوا على بقائها ومن بها من الكافرين بقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} البقرة: 167، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب في دوام نعيم أهل الجنة ... برقم (2836). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب في دوام نعيم أهل الجنة ... برقم (2837). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار برقم (6548)، ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء برقم (2850). (¬4) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (11 - 12).

مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)} المائدة: 36، وقوله: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)} الزخرف: 75، قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} فاطر: 36، وقوله: قال تعالى: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} الإسراء: 97، وغيرها من الآيات. الرأي الثاني: أن النار تفنى بعد أن يستوفي الكفار نصيبهم من العذاب فيها، ونسب هذا القول إلى عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة من الصحابة (¬1)، وابن تيمية وابن القيم (¬2) وجماعة، واستدل لهذا الرأي بقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)} الأنعام: 128، وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} هود: 106 - 107، قالوا: استثنى من الخلود في الآيتين بقوله في الآية الأولى {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وبقوله في الآية الثانية {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ولم يأتِ بعد الاستثناءين ما يدل على عدم الانقطاع وانتهاء العذاب كما جاء عقب الاستثناء من الخلود في نعيم الجنة، فإن الآية ختمت بقوله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} ¬

(¬1) ينظر: الرد على من قال بفناء الجنة والنار لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق أ. د. محمد بن عبد الله السمهري (ص 53). (¬2) ينبغي أن ننبه أن لابن تيمية وابن القيم قولاً بعدم فناء النار، جاء في مجموع فتاوى شيخ الإسلام (18/ 307) قوله في إجابة سؤال: " وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك، ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين، كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله، وسنة رسوله، وجماع سلف الأمة وأئمتها" وليس في مؤلفات شيخ الإسلام شيء صريح في أنه لا يقول بفناء النار؛ أما ابن القيم ففي كتاب "حادي الأرواح" ذكر بعض الآثار وبعض الأدلة للقائلين بفناء النار، ولكنه ليس صريحاً في أنه يقول بفناء النار، لكن ذكر بعض الأدلة لمن يقول بفناء النار. ينظر: كلام الشيخ عبد العزيز الراجحي في شرح الرد على الجهمية - المكتبة الشاملة-، والرد على من قال بفناء الجنة والنار وبيان الأقوال في ذلك لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق أ. د. السمهري ..

هود: 108، وهو دال على دوام النعيم واستمراره فكان قرينة على أن الاستثناء الذي قبله لا يراد به الإخراج، إنما يراد به إثبات كمال الاختيار واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} النبأ: 23، تجعل اللبث في النار مدة محدودة، فدل على انتهاء العذاب، واستدلوا أيضاً بأن النار موجب غضبه، والجنة موجب رحمته، وقد روى البخاري في صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لما قضى الله الخلق كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي سبقت غضبي) (¬1) وفي رواية (تغلب غضبي) قالوا فلو بقي الكافر في النار، ولم تفن النار لكان غضبه قد سبق رحمته، وفي هذا خلف لخبر الصادق - صلى الله عليه وسلم - عن ربه، وخلف خبر مستحيل. قالوا وما ورد من النصوص الدالة على خلود الكفار فيها أبداً وعدم خروجهم منها فلا نزاع فيه، لكنه يعني البقاء في العذاب ما دامت النار باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد، وهناك فرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس قائم، وبين من ينهدم حبسه وينقض بناؤه، فيبطل حبسه وينتهي سجنه بانتقاض البناء، وقد يناقش هذا بأنه وإن صلح جواباً عن أدلة الخلود فلا يصلح جواباً عن النصوص الصريحة في أن عذابها مقيم، وأنه كان غراماً، وأن النار كلما هبت وأدها الله سعيراً، وأنهم لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف بل يزيدهم الله عذاباً، وأنهم لكما نضجت جلودهم بدلهم الله جلود غيرها ليذوقوا العذاب، اللهم إلا أن قال: إن الاستثناء بالمشيئة في الآيتين السابقتين مسلط على جميع النصوص التي دلت على دوام العذاب واستمراره، وعلى كل حال فالموضوع من شئون الله فليترك إلى الله سبحانه والله أعلم" (¬2). أجمع أهل السنة والجماعة (¬3) ومن وافقهم (¬4) على القول ببقاء الجنة، ودوام نعيمها، وخلود أهلها، وخالف في ذلك الجهمية فقالوا بفنائها وأهلها. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم برقم (7422) .. (¬2) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (12 - 13). (¬3) ينظر: الشرح والإبانة (ص 208)، أصول السنة لابن زمنين (ص 139 - 140)، عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص 364)، مراتب الإجماع لابن حزم (ص 13)، الحجة في بيان المحجة (2/ 253)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 581)، حادي الأرواح (ص 323)، شرح الطحاوية (2/ 620). (¬4) ينظر: الفصل (4/ 83)، أصول الدين للبغدادي (ص 238)، أصول الدين للبزدوي (ص 165 - 166)، المسايرة (ص 247 - 249).

وأما النار فقد اختلف الناس في بقائها، ودوام عذابها، وخلود أهلها على ثمانية أقوال (¬1)، أهمها ثلاثة: الأول: أن النار كالجنة باقية لا تفنى، وأن الله تعالى يخرج منها من يشاء، ويبقى فيها الكفار بقاءً أبدياً لا انقضاء له. والثاني: أن النار تفنى، وأن الله تعالى يخرج منها من يشاء، ثم يبقيها ما يشاء، ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه. والثالث: الإمساك عن ذلك كله، والوقوف عند قوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} هود: 107. والقول الصحيح -والله أعلم- أن النار كالجنة باقية لا تفنى، وهو قول جمهور أهل السنة والجماعة (¬2)،وحكاه بعضهم إجماعاً (¬3). والأدلة متظافرة من الكتاب والسنة وقد ذكر الشيخ - رحمه الله - أدلة من الكتاب أما من السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (يدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، كل خالد فيما هو فيه) (¬4). ¬

(¬1) ينظر: حادي الأرواح (ص 329 - 332)، شرح الطحاوية (2/ 624)، فتح الباري (11/ 421 - 422). (¬2) ينظر: أصول السنة لابن أبي زمنين (ص 139 - 140)، عقيدة السلف وأصحاب الحديث لإسماعيل الصابوني (ص 364)، الحجة في بيان المحجة للأصبهاني (2/ 263، 436)، شرح الطحاوية (2/ 260 - 261)، كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار للشوكاني (2/ 789)، لوامع الأنوار (2/ 230). (¬3) ينظر: مراتب الإجماع لابن حزم (ص 13)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 581)، رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار للصنعاني (ص 116). (¬4) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب برقم (6544) (4/ 2049)، ومسلم، كتاب الحنة، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفة برقم (2850) (4/ 2189) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما به.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم -أو قال بخطاياهم- فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة ...) (¬1). والقولان الآخران لا تقوى أدلتهما على معارضة هذه الأدلة الصريحة، والجواب عنهما يطول المقام بتسطيره، وما ذكره الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - في كلامه السابق يغني عن إعادته. ¬

(¬1) أخرجه، مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة برقم (185) (1/ 172) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - به.

المبحث الخامس جهود الشيخ في تقرير الإيمان بالقضاء والقدر

المبحث الخامس جهود الشيخ في تقرير الإيمان بالقضاء والقدر. تمهيد في تعريف القضاء والقدر. أورد الشيخ - رحمه الله - معنى القدر في الشرع، فقال: " معناه: أن الله سبحانه وتعالى علم الأشياء كلها قبل وجودها وكتبها عنده وشاء ما وجد منها وخلق ما أراد خلقه، وهذه هي مراتب القدر الأربع التي يجب الإيمان بها، ولا يكون العبد مؤمناً بالقدر على الكمال حتى يكون مؤمناً بها، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أجاب جبريل لما سأله عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) (¬1)، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن الصامت أنه قال له: (إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تؤمن بالقدر وتعلم أنما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك) (¬2) الحديث، وقد أوضح هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في العقيدة الواسطية (¬3) " (¬4). التعريف: 1 - معنى القضاء لغة: هو بالمدّ، ويقصر، أصله: قَضَايٌ؛ لأنّه من قضيت، إلا أنّ الياء لَمّا جاءت بعد الألف همزت. يقول ابن فارس: " القاف والضّاد والحرف المعتلّ أصل صحيح يدلٌ على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه" (¬5). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان الإسلام ... برقم (8). (¬2) ينظر: الشريعة للآجري باب الإيمان بأنه لا يصح لعبد الإيمان (1/ 194). (¬3) تكلم شيخ الإسلام عن القدر في مواضع عديدة من هذا الكتاب. (¬4) فتاوى اللجنة (3/ 512). (¬5) معجم مقاييس اللغة (ص 893).

ويتبين مما تقدم أن معنى القضاء في اللغة هو إحكام الشيء وإتمام الأمر، وهذا هو أصل معنى القضاء الواردة في اللغة، وقد يأتي بمعنى القدر (¬1). ويطلق القضاء على معان عدّة منها: الأمر، والأداء، والحكم، والفراغ، والإعلام، والموت (¬2)؛ وهذه هي أهم معاني (القضاء) في اللغة، وهناك اشتقاقات أخرى ذكرَتها كتب اللغة (¬3). 2 - معنى القدر لغة: والقدر في اللغة: مصدر قَدَرَ يَقدر قَدَراً. يقول ابن فارس: "القاف والدّال والرّاء أصل صحيح يدلّ على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته" (¬4). ويطلق القدر على معان عدّة منها: الحكم، والقضاء، والطّاقة، والتّضييق، والتّقدير (¬5). 3 - معنى القضاء والقدر شرعاً: والمراد بالقضاء والقدر في الشرع: علم الله بالأشياء قبل كونها، وكتابته لها في اللوح المحفوظ، ومشيئته سبحانه لوقوعها، وخلقه سدد خطاكم لها على ما سبق به علمه وكتابته ومشيئته (¬6). ومراتب القدر أربع، وهي إجمالاً: أ- العلم: أي أن الله علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم. ب- الكتابة: أن الله كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ. ¬

(¬1) ينظر: مفردات القرآن للراغب الأصبهاني (ص 422). (¬2) ينظر: تهذيب اللغة (3/ 2986)، الصحاح (6/ 2463)، لسان العرب (15/ 186)، القاموس المحيط (ص 1708). (¬3) ينظر: في مادة (قضى): الصحاح (6/ 2463)، وتهذيب الصحاح (3/ 1051)، ولسان العرب (15/ 186)، وتاج العروس (10/ 396)، وأساس البلاغة للزمخشري (ص 513)، وغيرها. (¬4) معجم مقاييس اللغة (ص 876). (¬5) ينظر: تهذيب اللغة (3/ 2896)، الصحاح (2/ 786)، لسان العرب (5/ 74)، القاموس المحيط (ص 591). (¬6) ينظر: شرح السنة (1/ 142)، معالم السنن (4/ 297)، شرح صحيح مسلم (1/ 217)، جامع الرسائل (2/ 355)، مجموع الفتاوى (3/ 148 - 149)، لوامع الأنوار البهية (1/ 345، 349)، فتاوى ابن عثيمين (2/ 79 - 81).

ت- المشيئة: أي أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ليس في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئته سبحانه ولا يكون في ملكه إلا يريد. ث- الخلق والتكوين: أن الله خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد كما دلت على ذلك النصوص (¬1). ويتبين مما سبق ما بين المعنى اللغوي لكل من القضاء والقدر والمعنى الشرعي من ربط قوي، فكل منهما يأتي بمعنى الآخر، ومعاني القضاء ترجع إلى إحكام الأمر وإتقانه وإنفاذه، كما أن معاني القدر ترجع إلى التقدير، والله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلق، فعلمها وكتبها وشاءها وخلقها، وهي مقتضية ومقدرة فتقع حسب أقدارها، ويتبين من خلال ذلك ما بين معنى القضاء والقدر في اللغة والشرع من ترابط (¬2). وقد اختلف أهل العلم في لفظي القضاء والقدر هل هما بمعنى واحد أم معان متغايرة، واختلف القائلون بالتغاير بينهما في تحديد وجهه (¬3). والراجح -والله أعلم- في هذه المسألة أنّ لفظي القضاء والقدر بينهما عموم وخصوص، فإذا أطلق القضاء مفرداً شمل القدر، وإذا أطلق القدر مفرداً شمل القضاء. وأمّا إذا اجتمعا فالمراد بالقضاء ما يقضيه الله تعالى في خلقه من إيجاد أو إعدام أو تغيير، والمراد بالقدر ما قدّره الله تعالى في الأزل، فالقدر سابق والقضاء لاحق (¬4). ¬

(¬1) يلحظ أن لفظ (القدر) أكثر وروداً في الكتاب والسنة من لفظ (القضاء) وذلك عند الدلالة على وجوب الإيمان بهذا الركن من أركان الإيمان، مثل قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} القمر: 49، وحديث جبريل: (وتؤمن بالقدر خيره وشره). ينظر: القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذهب الناس فيه للدكتور عبد الرحمن المحمود (ص 40). (¬2) ينظر: القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذهب الناس فيه (ص 39). (¬3) ينظر: فتح الباري (11/ 149، 477)، عمدة القاري للعيني (23/ 145)، فتاوى ابن عثيمين (1/ 52، 62)، القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة (ص 30). (¬4) ينظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية لمجموعة من أئمة الدعوة النجدية (10/ 512 - 513)، فتاوى ابن عثيمين (1/ 52، 62).

المطلب الأول معنى الإيمان بالقضاء والقدر وما يتضمنه

المطلب الأول معنى الإيمان بالقضاء والقدر وما يتضمنه. قال الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله -: " عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علماً، وأنه كتب في اللوح المحفوظ كل ما سيكون وأن كل ما علمه وكتبه فهو كائن لا محالة، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} الأنفال: 75، ... إلى غير ذلك من الآيات ... وثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) (¬1) ... " (¬2). وقال الشيخ - رحمه الله -: " ثبت أن الله تعالى وسع كل شيء رحمة وعلماً، وكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، وعمت مشيئته وقدرته كل شيء، بيده الأمر كله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لما قضى وهو على كل شيء قدير. وقد دل على ذلك وما في معناه نصوص الكتاب والسنة، وهي كثيرة معروفة، عند أهل العلم، ومن طلبها من القرآن ودواوين السنة وجدها، من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)} العنكبوت: 62، وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} القمر: 49، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} السجدة: 13، ومما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ما حث على الذكر به عقب الصلاة من قوله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) (¬3)، وكذا ما جاء في حديث عمر - رضي الله عنه - من سؤال جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (الإيمان: أن ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان الإسلام ... برقم (8). (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 352 - 354). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب الذكر بعد الصلاة برقم (844)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم (593).

تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) (¬1)، فهذه النصوص وما في معناها تدل على كمال علمه تعالى بما كان وما هو كائن على تقديره كل شؤون خلقه، وعلى عموم مشيئته وقدرته، ما شاءه سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن" (¬2). الإيمان بالقضاء والقدر هو الرّكن السادس من أركان الإيمان التي لا يصح إيمان العبد إلا بها، وهو يتضمّن أربعة أمور: الأول: الإيمان بأن الله تعالى علم بكلّ شيء جملة وتفصيلاً، أزلاً وأبداً، سواء كان ذلك مِمّا يتعلّق بأفعاله أو بأفعال عباده. الثاني: الإيمان بأنّ الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ. وفي هذين الأمرين يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} الحج: 70. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السّماوات والأرض بخمسين ألف سنة) (¬3). الثالث: الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى، سواء كانت مما يتعلّق بفعله أم مما يتعلّق بفعل المخلوقين. قال الله تعالى فيما يتعلّق بفعله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} القصص: 68، وقال {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} إبراهيم: 27، وقال: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} آل عمران: 6. وقال تعالى فيما يتعلق بفعل المخلوقين: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} النساء: 90، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)} الأنعام: 137. الرابع: الإيمان بأنّ جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها، وصفاتها، وحركتها. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان الإسلام ... برقم (8). (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 518 - 519). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب القدر باب حجاج آدم موسى عليهما السلام برقم (2653).

قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} الزمر: 62، وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} الفرقان: 2. وللإيمان بالقدر أهمية كبرى بين أركان الإيمان، يدركها كل من له إلمام ولو يسير بقضايا العقيدة الإسلامية وأركان الإيمان؛ ولذلك ورد التنصيص في السنة النبوية على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره. "وترجع أهمية هذا الركن ومنزلته بين بقية أركان الإيمان إلى عدة أمور: الأول: ارتباطه مباشرة بالإيمان بالله تعالى، وكونه مبنياً على المعرفة الصحيحة بذاته تعالى وأسمائه الحسنى، وصفاته الكاملة والواجبة له تعالى، وقد جاء في صفاته سبحانه صفة العلم، والإرادة، والقدرة، والخلق، ومعلوم أن القدر إنما يقوم على هذه الأسس، "وعلى هذا الأساس قامت عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر، فكان الإيمان بهما متمماً للإيمان بالله تعالى، وبصفاته، وعنصراً من حقيقته المشرقة" (¬1). ولا شك أن الإقرار بتوحيد الله وربوبيته لا يتم إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فمن زعم أن هناك خالقاً غير الله تعالى فقد أشرك، والله تعالى خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد (¬2). ولهذا السبب -والله أعلم- لم يذكر ركن الإيمان بالقدر في كتاب الله تعالى مع بقية أركان الإيمان كما ورد في السنة، لأن الإيمان بالقدر هو إيمان بربوبيته وأسمائه وصفاته، ومراتب القدر الأربع هي صفات الله تعالى. الثاني: حين ننظر إلى هذا الكون، ونشأته، وخلق الكائنات فيه، ومنها هذا الإنسان، نجد أن كل ذلك مرتبط بالإيمان بالقدر، فـ (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) (¬3)، والإنسان يوجد على هذه الأرض، وينشأ تلك النشأة الخاصة، ويعيش ما شاء الله في حياة متغيرة، فيها الصحة ¬

(¬1) مع الله في صفاته وأسمائه الحسنى لحسن أيوب (ص 116). (¬2) ينظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص 304) تحقيق الألباني. (¬3) أخرجه لإمام أحمد في مسنده برقم (22196)، والترمذي: كتاب القدر باب ما جاء في الرضا بالقضاء برقم (2155)، (4/ 457)، من حديث عبادة بن الصامت، وأبو داود في كتاب السنة، باب القدر برقم (4700)، صححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2155).

والسقم، والغنى والفقر، والقوة والضعف، والنعم والمصائب، والفرح والحزن ... وينظر الإنسان من حوله فيرى تفرق هذه الصفات على الناس، وعلى الجماعات والدول ... ، ينظر إلى كل ذلك فلا يجد المخرج إلا في العقيدة الصحيحة، وعلى رأسها الإيمان بالقدر. الثالث: والإيمان بالقدر هو المحك الحقيقي لمدى الإيمان بالله تعالى على الوجه الصحيح، وهو الاختيار القوي لمدى معرفة الإنسان بربه تعالى، وما يترتب على هذه المعرفة من يقين صادق بالله، وبما يجب له من صفات الجلال والكمال، وذلك لأن القدر فيه من التساؤلات والاستفهامات الكثيرة لمن أطلق لعقله المحدود العنان فيها. وقد كثر الاختلاف حول القدر، وتوسع الناس في الجدل والتأويل لآيات القرآن الواردة بذكره، بل وأصبح أعداء الإسلام في كل زمن يثيرون البلبلة في عقيدة المسلمين عن طريق الكلام في القدر، ودس الشبهات حوله، ومن ثم أصبح لا يثبت على الإيمان الصحيح واليقين القاطع إلا من عرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، مسلماً الأمر لله، مطمئن النفس، واثقاً بربه تعالى، فلا تجد الشكوك والشبهات إلى نفسه سبيلاً، وهذا ولا شك أكبر دليل على أهمية الإيمان به بين بقية الأركان" (¬1). ¬

(¬1) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذهب الناس فيه (83 - 85).

المطلب الثاني أفعال العباد

المطلب الثاني أفعال العباد. قال الشيخ - رحمه الله -: " مذهب أهل السنة أن أفعال العباد الاختيارية مخلوقة لله مكسوبة للعبد، فخلقه إياها لا ينافي كسب العبد لها " (¬1). ورد الشيخ على من قال في أفعال العبادة أنها كسب لهم على معنى تعلق قدرتهم بمباشرتهم التي هي أكسابهم، ووقوع هذه الأفعال أو بعضها على وجوه تخالف قصد مكتسبها يدل على موقع أوقعها كما أراد غير مكتسبها والله ربنا، خلقنا وخلق أفعالنا .. ، فقال: " وهذا إلى القول بالجبر أقرب منه إلى القول بإثبات الاختيار للعبد في أفعاله" (¬2). قال الشيخ - رحمه الله -: " لا يريد الله كوناً ولا شرعاً أن يظلم عباده لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} النساء: 40، ولقوله في الحديث: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) (¬3) وإن كان يريد كوناً لا شرعاً أن يظلم بعض العباد بعضاً لوقوعه منهم، ولو لم يرده لم يقع" (¬4). أفعال العباد قسمان: اضطراريّة واختياريّة. فالاضطراريّة: كحركات المرتعش ونبضات العروق ونحو ذلك، وهذه لا خلاف بين النّاس في كونها خارجة عن قدرة العبد. والاختياريّة: ما سوى ذلك (¬5) -وهي محلّ البحث هنا- وقد اختلف الناس فيها، وتعدّدت مذاهبهم تجاهها، وحاصل الكلام عليها ما يلي: أفعال العباد الاختيارية لها متعلقان: ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 34). (¬2) مجموعة ملفات الشيخ (ص 178). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم برقم (2577). (¬4) تعليق الشيخ على الجلالين (ص 12). (¬5) ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 405).

الأول: تعلّقها بالله - عز وجل - من حيث خلقه لها وعدمه. والثاني: تعلّقها بالعباد من حيث قدرتهم عليها وعدمها. فأهل السنة والجماعة قالوا: بأنّ أفعال العباد كلّها من طاعة ومعصية، وخير وشرّ، مخلوقة لله تعالى، وأنّ العباد لهم قدرة على أفعالهم، وهم فاعلون لها على الحقيقة، وهي قائمة بهم، ومنسوبة إليهم، ومن ثم فإنهم يستحقّون عليها المدح والذّمّ والثواب والعقاب. فجمعوا في قولهم بين المتعلقين، وقالوا بِكلا الجهتين، لدلالة نصوص الوحيين. فمن الأدلة على خلق الله لأفعال العباد: قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} الصافات: 96 وقوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} القمر: 49 ومن الأدلة على قدرة العباد على أفعالهم ونسبتها لهم حقيقة. قوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)} المؤمنون: 63 وقوله سبحانه: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} السجدة: 17 وجمع الله بين الأمرين في قوله - عز وجل -: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} الشمس: 7 - 10 (¬1). ¬

(¬1) ينظر: خلق أفعال العباد (ص 188)، شرح السنة للبغوي (1/ 142 - 144)، مجموع الفتاوى (3/ 373 - 374، 8/ 117 - 118، 486 - 488)، شفاء العليل (1/ 333، 363)، شرح الطحاوية (1/ 321، 2/ 640)، لوامع الأنوار البهية (1/ 291)، أفعال العباد بين أهل السنة ومخالفيهم للدكتور عبد العزيز الحميدي (ص 13 - 90).

وقد خالف أهل السنة والجماعة في ذلك أهل الطّوائف والفرق: فالجهمية الجبرية ومن وافقهم قالوا بالمتعلق الأول دون الثاني فأثبتوا خلق الله لأفعال العباد ونفوا قدرة العباد عليها، وسووا بين أفعالهم الاختيارية وأفعالهم الاضطرارية (¬1). والمعتزلة القدرية ومن وافقهم قالوا بالمتعلق الثاني دون الأول فنفوا خلق الله لأفعال العباد، وقالوا بأن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم، وأثبتوا قدرة العباد المطلقة على أفعالهم (¬2). ورامت الأشعرية التوسط بين الجبرية والقدرية فأحدثت نظرية الكسب، وحارت أفهامهم في تصورها، واضطربت أقوالهم في التعبير عنها (¬3). وحاصلها أن الكسب هو الاقتران العادي بين قدرة العبد الحادثة وفعله الواقع بقدرة الله وحدها (¬4). وبناء على ذلك قالوا: إنّ أفعال العباد خلق لله وكسب للعباد، وليس لقدرة العبد المخلوقة فيه أثر في فعله، ولكن الفعل يحدث عندها لا بها (¬5). والرد على الكسب الأشعري، وبيان بطلانه يطول، فأكتفي بطرف منه: 1 - أن النصوص الشرعية قد دلت على خلق الله لأفعال العباد وإثبات القدرة لهم عليها، ونسبتها لهم حقيقة، واستحقاقهم المدح والذم والثواب والعقاب وفقاً لها، وقد تقدم ذكر بعضها. ¬

(¬1) ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 338)، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 87)، الفرق بين الفرق (ص 211). (¬2) ينظر: المغني في أبواب العدل والتوحيد للقاضي عبد الجبار (8/ 8، 16، 43) (9/ 95)، شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (ص 336) وما بعدها، إنقاذ البشر من الجبر والقدر لعلي بن الحسين الكاظم المرتضي ضمن رسائل العدل (1/ 256 - 305). (¬3) ينظر: أصول الدين للبغدادي (ص 133)، الإرشاد للجويني (ص 188)، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 97)، القضاء والقدر للرازي (ص 77)، غاية المرام للآمدي (ص 223)، شرح المقاصد لمسعود التفتازاني (4/ 263). (¬4) نقله ابن القيم - رحمه الله - في شفاء العليل (1/ 368) عن بعض متأخري الأشاعرة دون تعيينه، واستحسنه في بيان قولهم وتلخيص اختلافهم. (¬5) ينظر: أصول الدين للبغدادي (ص 133)، الإرشاد (ص 188)، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 97)، القضاء والقدر للرازي (ص 77)، غاية المرام (ص 223)، شرح المقاصد (4/ 263).

2 - أن القول بالكسب بهذا المعنى قول حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة المفضلة فلم يعرف القول به إلا في زمن الأشعري. 3 - أن القول بالكسب بهذا المعنى قول متناقض؛ إذ القائل به لا يستطيع أن يوجد فرقاً بين الفعل الذي نفاه عن العبد، والكسب الذي أثبته له، ولهذا فإن حقيقته القول بالجبر (¬1) وهذا ما قاله الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -. 4 - أن القول بالكسب بهذا المعنى قول غير معقول؛ إذ لا حقيقة له ولا حاصل تحته، ولذا شنع أعداء الأشاعرة به عليهم، وعده بعض الأشاعرة عقدة تورّط فيها أصحاب الأشعري (¬2). 5 - أن القول بالكسب بهذا المعنى مبني على أصلين باطلين، قال بهما الأشعري وجمهور أصحابه والتزموا ما يراد عليهما، وهما: القول بأنّ الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق، وأن قدرة العبد لا يكون مقدورها إلا مقارناً للفعل لا خارجاً عنه (¬3). 6 - أن كبار أعلام الأشاعرة اضطربت أقوالهم في الكسب، وذهب كلّ منهم إلى رأي، وفرّ إلى قول، فمنهم من نحا إلى التّصريح بحقيقة المذهب وهو الجبر، ومنهم من اقترب إلى القول بمذهب أهل السنة والجماعة في ذلك، ومنهم من سعى إلى النهوض بالمذهب الأشعري من عثرته وتوجيه قول إمامه بما لا يوافقه عليه أصحابه الأشاعرة فضلاً عن غيرهم (¬4). ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 119، 378، 403 - 407)، منهاج السنة (3/ 209). (¬2) ينظر: منهاج السنة (3/ 209)، شفاء العليل (1/ 370). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 119 - 120). (¬4) ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 128 - 129)، شفاء العليل (1/ 369).

المطلب الثالث التحسين والتقبيح

المطلب الثالث التحسين والتقبيح. قال الشيخ - رحمه الله -: " والقول بالتحسين والتقبيح العقليين، أصل فاسد" (¬1). ويبين الشيخ - رحمه الله - أقوال بعض الفرق في التحسين والتقبيح، فيقول: " الصحيح أن محل النزاع الحسن والقبح، بمعنى اشتمال الفعل على مصلحة كان بها حسناً أو على مفسدة كان بها قبيحاً، ثم نشأ عن ذلك خلاف آخر: هل تثبت الأحكام بما في الأفعال من حسن أو قبح ولو لم يرد شرع أم يتوقف ذلك على ورود الشرع؟ فذهب الجبرية: ومن في حكمهم إلى نفي الحسن والقبح بهذا المعنى وجعلوهما تابعين لأمر الشرع ونهيه، لذلك جعلوا العلل في باب القياس أمارات، وذهب المعتزلة: إلى إثباتهما وبناء الحكم عليهما ولو لم يرد شرع؛ فأثبتوا لزوم الأحكام لها فإذا أدرك العقل الحسن في فعل قضى بطلبه، وإذا أدرك القبح في فعل حكم بمنعه، ولذلك جعلوا العلل في باب القياس بواعث ودواعي لبناء الحكم، وذهب جماعة: إلى إثبات الحسن والقبح العقليين ونفوا التلازم بينهما وبين الأحكام، وقالوا: لا يثبت حكم إلا بالشرع. وأثبتوا بأدلة الفطرة والعقل والنقل ما ذكر من الحسن والقبح وأنها لا تستلزم الحكم بل تنفيه حتى يثبته الشرع، وجعلوا أدلة المعتزلة في إثباتهما رداً على الجبرية في نفيهم لهما، وجعلوا أدلة الجبرية رداً على المعتزلة في إثبات أحكام الشرع بهما؛ فأخذوا الحق من قول الفريقين، وردوا باطل كل منهما بما مع الآخر من أدلة الحق" (¬2). وقال الشيخ - رحمه الله -: " الحق أن في الأفعال صفات هي منشأ حسنها أو قبحها، وقد دل على ذلك الحس أو الفطرة والعقل والشرع، والمخالف يعترف بذلك في تعليله الأحكام ¬

(¬1) مذكرة التوحيد (ص 58). (¬2) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 113). راجع المجلد الأول من مدراج السالكين لابن القيم، وإلى جواب أهل العلم والإيمان لابن تيمية؛ ففيهما تفصيل المذاهب وبسط الأدلة.

وبيان حكمها وأسرارها وخاصة في القياس وبيان ميزة الشريعة الإسلامية على غيرها، والممنوع استلزامها للأحكام الشرعية وإثباتها بهما دون شرع" (¬1). يقصد بالتحسين والتقبيح هنا معرفة ما إذا كان حسن الشيء وقبحه ذاتياً في الشيء نفسه، ومدركاً بالعقل، أم أنه اعتباري ونسبي، وليست الأشياء في ذاتها حسنة ولا قبيحة. وقد اختلف أهل الكلام في ذلك على قولين رئيسيين: الأول: قول المعتزلة، وهو أن الحسن والقبح في الأشياء ذاتي، ويمكن إدراكه بالعقل. الثاني: قول الأشاعرة، وهو أن الحسن والقبح في الأشياء اعتباري، ونسبي، أي: أنه ليس صفة لازمة وذاتية في الشيء، وإنما يعرف حسن الأشياء وقبحها باعتبارات إضافية. وقبل هذا أرى من المهم بيان معاني الحسن والقبح، وتحديد محل النزاع، فأقول: يطلق الحسن والقبح على عدة معان، بعضها متفق عليه بين أهل الكلام وغيرهم، وبعضها مختلف فيه. والمعاني التي تراد بالحسن والقبح هي: الأول: يطلق الحسن والقبح ويراد به ما يوافق غرض الفاعل من الأفعال وما يخالفه، فما يوافق غرضه يسمى حسناً، وما يخالفه يسمى قبيحاً، ويعبر عنه بموافقة وملائمة الطبع، ومنافرته، وقد يعبر عنه بالمصلحة والمفسدة، فيقال: الحسن ما فيه مصلحة، والقبح ما فيه مفسدة، وما خلا منهما فليس شيئاً منهما، بل هو عبث. والحسن والقبح بهذا المعنى اعتباري ونسبي، وليس ذاتياً، فإن (قُتِل زيدٌ) مثلاً مصلحة لأعدائه، ومفسدة لأوليائه (¬2). ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 122)، وينظر: (1/ 114، 116، 119). (¬2) ينظر: المستصفى في علم الأصول لأبو حامد الغزالي (1/ 56)، الإحكام للآمدي (1/ 79)، الأربعين للرازي (ص 246)، المواقف في علم الكلام للإيجي (ص 324).

الثاني: كون الشيء صفة كمال، أو صفة نقص، كالعلم والجهل (¬1). ويرى شيخ الإسلام - رحمه الله - أن هذا المعنى راجع إلى المعنى الأول: لأنه عائد إلى الموافقة والمخالفة، وهو اللذة والألم، فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألم بالنقص، فيعود الكمال والنقص إلى الملائم والمنافي (¬2). وهذان المعنيان لا نزاع بين أهل الكلام أنهما عقليان يستقل العقل بإدراكهما (¬3). الثالث: كون الفعل يتعلق به المدح والثواب، أو الذم والعقاب (¬4). فما تعلق به المدح والثواب في الدنيا والآخرة كان حسناً، وما تعلق به الذم والعقاب في الدنيا والآخرة كان قبيحاً. وهذا المعنى هو الذي وقع فيه النزاع بين أهل الكلام. وبالجملة فإن الجميع متفقون على أن من الأشياء ما لا يدرك إلا بالشرع، وذلك كبعض تفاصيل الشرائع والعبادات. كما أن الجميع متفقون على أن الحسن والقبح بمعنى الملاءمة والمنافرة للإنسان معلوم بالعقل. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: " والعقلاء متفقون على أن كون بعض الأفعال ملائماً للإنسان، وبعضها منافياً له، إذا قيل هذا حسن وهذا قبيح، فهذا الحسن والقبح مما يعلم بالعقل باتفاق العقلاء ... ولا ريب أن من أنواعه ما لا يعلم إلا بالشرع، ولكن النزاع فيما قبحه معلوم لعموم الخلق كالظلم والكذب ونحو ذلك" (¬5). وباستعراض أقوال الطائفتين: المعتزلة والأشاعرة في هذه المسألة، يظهر جلياً أن كل طائفة أصابت من جهة، وأخطأت من جهة أخرى. ¬

(¬1) ينظر: المحصل للرازي (ص 293)، المواقف (ص 323). (¬2) ينظر: رسالة الاحتجاج بالقدر لشيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 310)، ضمن مجموع الفتاوى. (¬3) ينظر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى، للدكتور محمد ربيع المدخلي (ص 82). (¬4) ينظر: المحصل للرازي (ص 293)، المواقف (ص 324). (¬5) رسالة الاحتجاج بالقدر (8/ 309)، ضمن مجموع الفتاوى.

فالمعتزلة أصابوا في أن لتلك الأفعال حسناً وقبحاً ذاتياً يمكن إدراكه بالعقل، وأخطؤوا في ترتيب التكليف والعقاب على ذلك. كما أن الأشاعرة أخطؤوا في زعمهم أن تلك الأفعال لم تثبت لها صفة الحسن والقبح إلا بخطاب الشرع، وأنها في ذاتها ليست حسنة ولا قبيحة، وأصابوا في قولهم بأن التكليف والعقاب موقوف على خطاب الشرع، وفي إثباتهم للحسن والقبح الشرعيين (¬1). ومن أبرز من رد على الأشاعرة وبين فساد قولهم ابن القيم - رحمه الله - في أكثر من ستين وجهاً (¬2). وقد دل على فساد هذا المذهب الشرع والعقل والفطرة (¬3). ¬

(¬1) ينظر: موقف المتكلمين للدكتور الغصن (1/ 318 - 319)، القضاء والقدر للدكتور المحمود (248 - 257). (¬2) ينظر: كتابه مفتاح دار السعادة (2/ 62 - 118). (¬3) ينظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة للدكتور سليمان الغصن (ص 319) وما بعدها.

هل الإنسان مخير أم مسير؟ يجيب على هذا الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -، قائلاً: "الإنسان مخير ومسير، أما كونه مخيراً فلأن الله سبحانه أعطاه عقلاً وسمعاً وبصراً وإرادة فهو يعرف بذلك الخير من الشر، والنافع من الضار ويختار ما يناسبه، وبذلك تعلقت به التكاليف من الأمر والنهي، واستحق الثواب على طاعة الله ورسوله، والعقاب على معصية الله ورسوله؛ وأما كونه مسيراً فلأنه لا يخرج بأفعاله وأقواله عن قدر الله ومشيئته، كما قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} الحديد: 22، وقال سبحانه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} التكوير: 28 - 29، وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} يونس: 22 الآية، وفي الباب آيات كثيرة وأحاديث صحيحة كلها تدل على ما ذكرنا لمن تأمل الكتاب والسنة" (¬1). وقال الشيخ - رحمه الله - مبيناً حكمة الله وأنه لا يظلم: " إن الله حكم عدل علي حكيم لا يظلم مثقال ذرة جواد كريم يضاعف الحسنات ويعفو عن السيئات، ثبت ذلك بالفعل الصريح والنقل الصحيح فلا يتأتى مع كمال حكمته ورحمته وواسع مغفرته أن يكلف عباده دون أن يكون لديهم إرادة واختيار لما يأتون وما يذرون وقدرة على ما يفعلون، ومحال في قضائه العادل وحكمته البالغة أن يعذبهم على ما هم إلى فعله ملجئون وعليه مكرهون. وإذاً فقدر الله المحكم العادل وقضاؤه المبرم النافذ من عقائد الإيمان الثابتة التي يجب الإذعان لها وثبوت الاختيار للمكلفين وقدرتهم على تحقيق ما كلفوا به من القضايا التي صرح بها الشرع وقضى بها العقل، فلا مناص من التسليم بها والرضوخ لها، فإذا اتسع عقل الإنسان لإدراك السر في ذلك فليحمد الله على توفيقه، وإن عجز عن ذلك فليفوض أمره لله، وليتهم ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 516 - 517).

نفسه بالقصور في إدراك الحقائق فذلك شأنه في كثير من الشؤون، ولا يتهم ربه في قدره وقضائه وتشريعه وجزائه فإنه سبحانه هو العلي القدير الحكيم الخبير" (¬1). يقول الشيخ - رحمه الله - في توفيق الله العبد للإيمان: " بعث الله سبحانه الرسل وأنزل عليهم الكتب مبشرين ومنذرين إلى جميع الأمم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ووفق من شاء من عباده إلى الإيمان فضلاً منه ورحمة، وخذل من شاء منهم فلم يوفقه للإيمان حكمة منه وعدلاً، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} يونس: 25، كما علم سبحانه في علمه السابق قبل خلق الخلق أن من عباده مؤمنين سيدخلهم الجنة وأن منهم كافرين سيدخلهم النار" (¬2). القول في معنى "الظلم" مبني على مسألة التحسين والتقبيح، وقد وقع الخلاف في معنى الظلم على ثلاثة أقوال: 1. قول الجهمية والأشاعرة، وهؤلاء قالوا في تعريف الظلم: إما أنه التصرف في ملك الغير، أو أنه مخالفة الآمر الذي تجب طاعته، وهؤلاء يقولون: الظلم بالنسبة لله غير ممكن الوجود، بل كل ممكن إذا قدر وجوده فإنه عدل، والظلم منه ممتنع غير مقدور، وهو محال لذاته كالجمع بن الضدين، وكون الشيء موجوداً معدوما. وهؤلاء يقولون لو عذب الله المطيعين ونعّم العاصين لم يكن ظالماً، لأن الظلم عندهم إنما هو التصرف في ملك الغير، والله تعالى مالك الملك، فأي فعل فعله ولو كان تعذيب أنبيائه وملائكته وأهل طاعته، وتكريم أعدائه من الكفار والشياطين لم يكن ظالماً، لأنه لم يتصرف إلا في ملكه، وكذلك فليس هناك آمر فوقه حتى يخالفه. وهذا قول جمهور الأشاعرة، وهو قول كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد (¬3). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 520 - 521). (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 522 - 523)؛ وينظر: فتاوى اللجنة (3/ 526 - 527). (¬3) ينظر: "أقوم ما قيل في القضاء والقدر" مجموع الفتاوى (8/ 90)، "قاعدة في المعجزات والكرامات" مجموع الفتاوى (11/ 347 - 355)، منهاج السنة (1/ 316 - 317)، الدرء (8/ 22، 492) (9/ 49 - 62)، شرح الأصفهانية (ص 161).

2. قول المعتزلة، وهؤلاء يقولون: إن الظلم مقدور لله تعالى، ولكنه منزه عنه، وهذا حق، ولكنهم يجعلون الظلم الذي حرمه الله وتنزه عنه نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض، وشبهوه في الأفعال ما يحسن منها ومالا يحسن بعباده، فضربوا له من أنفسهم الأمثال، ولذلك فهم يسمون مشبهة الأفعال (¬1). وبناء على هذا قالوا: " إذا أمر العبد ولم يعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالما له، والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالا كما قالوا: إنه لا يقدر أن يضل مهتديا، وقالوا عن هذا: إذا أمر اثنين بأمر واحد، وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالماً إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان، جعلوا تركه لها ظلماً، وكذلك ظنوا أن التعذيب لمن كان فعله مقدرا ظلم له، ولم يفرقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك ومن لم يقم" (¬2). فالله عند المعتزلة عدل لا يظلم لأنه لم يرد وجود شيء من الذنوب، لا الكفر ولا الفسوق ولا العصيان، بل العباد يفعلون ذلك بغير مشيئته، والله لم يخلق شيئا من أفعال العباد لا خيراً لا شراً، لأنه لو كان خالقاً لها ثم عاقب العاصين لكان ظالماً لهم (¬3). 3. قول أهل السنة، قالوا: الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهذا معناه في اللغة، يقال: من أشبه أباه فما ظلم، ومن استرعى الذئب فقد ظلم (¬4)، وعلى هذا المعنى بنى أهل السنة تعريفهم للظلم الذي نزه الله نفسه عنه فقالوا: إن الله تعالى حكم عدل يضع الأشياء في مواضعها، فلا يضع شيئاً إلا في موضعه الذي يناسبه، ولا يفرق بين متماثلين، ولا يسوي بين مختلفين (¬5). وعلى هذا فالظلم الذي حرمه الله على نفسه، وتنزه عنه فعلاً وإرادة هو ما فسره به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل المرء سيئات غيره، ولا يعذب بما لم تكسب يداه، وأنه لا ينقص من حسناته فلا يجازي بها أو ببعضها، وهذا الظلم الذي نفى الله خوفه عن ¬

(¬1) ينظر: منهاج السنة (1/ 315). (¬2) ينظر: شرح قصيدة ابن القيم لأحمد عيسى (1/ 59). (¬3) ينظر: جامع الرسائل لابن تيمية (1/ 123). (¬4) ينظر: الصحاح (1/ 170)، ولسان العرب (12/ 380)، وينظر: تأويل مشكل القرآن (ص 467). (¬5) ينظر: جامع الرسائل (1/ 124).

العبد بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} طه: 112، قال المفسرون: لا يخاف أن يحمل عليه من سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، وقيل: يظلم بأن يؤاخذ بما لم يعمل (¬1). ويتلخص مذهب أهل السنة فقولهم هو الوسط، ولم ينتج عنه إلا ما هو حق فيما قالوه حول القدر (¬2) حيث إنهم أثبتوا الشرع والقدر، وجعلوا للعبد إرادة وقدرة بها يفعل فعله، وعليها مدار التكليف بعد قيام الحجة الرسالية، وأهل السنة لم ينفوا قدرة العبد كما فعلت الأشعرية بناء على قولهم في التحسين والتقبيح، كما أنهم لم ينفوا قدرة الله على أفعال العباد كما فعلت المعتزلة بناء على مذهبهم في التحسين والتقبيح (¬3). ¬

(¬1) ينظر: زاد المسير سورة طه، شرح الطحاوية (ص 507)، منهاج السنة (1/ 90 - 92). (¬2) ينظر: مفتاح دار السعادة (2/ 42 - 44). (¬3) ينظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 257)، موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود (1323 - 1325).

الفصل الخامس: جهود الشيخ عبد الرزاق في مسائل الصحابة، والإمامة، والأسماء والأحكام، والولاء والبراء

[الفصل الخامس: جهود الشيخ عبد الرزاق في مسائل الصحابة، والإمامة، والأسماء والأحكام، والولاء والبراء] المبحث الأول جهوده في الصحابة والإمامة، وفيه مطلبان. المطلب الأول الصحابة. تمهيد تعريف الصحابة. الصحابة: جمع صحابي. وهو في اللغة: مشتق من الصحبة، والصحبة مصدر صحب فهو صاحب (¬1). يقول ابن فارس: " الصّاد والحاء والباء أصل واحد يدل على مقارنة الشيء ومقاربته، ومن ذلك الصّاحب، والجمع صحب ... " (¬2). وأما في الاصطلاح: فقد اختلف أهل العلم فيمن يصدق عليه اسم الصحابي، وتعددت تعريفاتهم له (¬3). ونختار منها ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -: " أصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي: من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به، ومات على الإسلام؛ ... وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين كالبخاري (¬4) وشيخه أحمد بن حنبل (¬5) ومن تبعهما، ووراء ذلك أقوال أخرى شاذة ... " (¬6). ¬

(¬1) ينظر: تهذيب اللغة (2/ 1978)، الصحاح (1/ 161)، لسان العرب (1/ 519)، القاموس المحيط (ص 134). (¬2) معجم مقاييس اللغة (ص 587). (¬3) ينظر: سياق أقوالهم وأدلتهم في تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شرف الصحبة للعلائي (ص 30 - 50). (¬4) ينظر: فتح الباري (7/ 3 - 5). (¬5) ينظر: شرح أصول الاعتقاد (1/ 159 - 160). (¬6) الإصابة (1/ 158 - 159)، وينظر: منهاج السنة (4/ 243)، اختصار علوم الحديث لابن كثير (2/ 491)، والمقنع في علوم الحديث لابن الملقن (2/ 491).

أولا: أصول أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

أولاً: أصول أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يبين الشيخ - رحمه الله - أن من أصول أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ معاقبة من يقوم بلعن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وأن الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغيّر عن وجهه، والصحيح منها هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران وإما مجتهدون مخطئون لهم أجر واحد، والخطأ مغفور لهم وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره؛ وأن أهل السنة والجماعة قلوبهم وألسنتهم سليمة على أصحاب رسول الله؛ وأنهم يمسكون عما شجر بين الصحابة فلا يقال بالعصمة لطائفة والتأثيم لأخرى وأن كل واحدة من الطائفتين مؤمنة وقد شهد لها القرآن بأن قتال المؤمنين لا يخرجهم عن الإيمان فقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الحجرات: 9 (¬1). إذن فمذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة هو محبتهم، واعتقاد عدالتهم، وأنه يجب تعظيمهم سيما المهاجرين والأنصار؛ واعتقاد فضلهم؛ والإمساك والكف عن الخوض فيما شجر بين الصحابة من حروب ومنازعات؛ وألا يتعرض لواحد منهم بسب أو تعريض، فلهم من الفضائل وحسن الشمائل الكثير؛ كنصرة الإسلام والذب عن الدين، والمعاونة والتبليغ؛ فهم من حاز قصب السبق في مضمار المآثر، وتبرزهم على من سواهم في اقتناء المناقب والمفاخر (¬2)، وقد قيل في مدحهم: جبال الحجى أسد الوغا غصص العدا ... شموس العلا سحب الندا بالمواهب (¬3). ¬

(¬1) ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 393 - 396)، الإبانة الصغرى لابن بطة (ص 160 - 161)، ومجموع الفتاوى (3/ 154 - 156). (¬2) سيأتي بيان ما سبق في الجزئيات القادمة إن شاء الله؛ ينظر: فيض القدير للمناوي (1/ 347) (2/ 453) (5/ 516)، وطبقات السبكي (6/ 243) وما بعدها، أعلام الموقعين (1/ 5)، شرح السنة للبغوي (14/ 68)، وشرح العقيدة الطحاوية (2/ 689)، ولوامع الأنوار البهية (2/ 376)، والمسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد (ص 881). (¬3) قال عبد السلام هارون معجم شواهد العربية (1/ 59): البيت في حاشية ياسين العلمي على التصريح بمضمون التوضيح للأزهري (2/ 96) دون ذكر قائله.

ثانيا: عدالة الصحابة

ثانياً: عدالة الصحابة. قال الشيخ - رحمه الله -: " والصحابة عدول" (¬1). العدالة في اللغة: مصدر عَدُل، يقال: عَدُل يعدِلُ عدولة وعدالة (¬2). يقول ابن فارس: "العين والدال واللام أصلان صحيحان، لكنهما متقابلان كالمتضادين: أحدهما يدل على استواء، والآخر يدل على اعوجاج" (¬3). أما في الاصطلاح: فقد اختلف أهل العلم في تعريفها اختلافاً كثيراً (¬4)، وأجمعها قول الحافظ السيوطي (¬5) - رحمه الله - فإنه عرفها بقوله: "هي ملكة - أي: هيئة راسخة في النفس- تمنع من اقتراف كبيرة، أو صغيرة دالة على الخسة، أو مباح يخل بالمروءة". ثم أعقب ذلك بقوله: " وهذه أحسنُ عبارة، أحسنَ في حدها" (¬6). الأدلة على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -: الأدلة على عدالتهم كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع. أما من الكتاب: فقد أثنى الله عليهم في آيات كثيرة منها: قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ¬

(¬1) تعليق الشيخ على الإحكام في أصول الأحكام (2/ 101). (¬2) ينظر: تهذيب اللغة (3/ 2358)، والصحاح (5/ 1760)، لسان العرب (11/ 430)، القاموس (ص 1331). (¬3) معجم مقاييس اللغة (ص 745). (¬4) ينظر: الكفاية في علوم الحديث للخطيب (ص 102). (¬5) هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد، المشهور بجلال الدين السيوطي، أشعري المعتقد، شافعي المذهب، مكثر من التصنيف، من مصنفاته: الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع، الخصائص الكبرى، شرح الصدور بأحوال الموتى والقبور وغيرها، توفي سنة 911 هـ. ينظر: الضوء اللامع (4/ 65 - 70)، شذرات الذهب (8/ 51). (¬6) الأشباه والنظائر (ص 413).

الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} الفتح: 29. وأما من السنة: فأحاديث كثيرة كذلك فيها بيان خيريتهم وأفضليتهم منها: حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) (¬1). وغير ذلك من الأحاديث. أما الإجماع: فقد أجمع أهل السنة على عدالتهم. قال صلاح الدين العلائي (¬2) - رحمه الله -: " الذي ذهب إليه جمهور السلف والخلف أن العدالة ثابتة لجميع الصحابة - رضي الله عنهم - وهي الأصل المستصحب فيهم إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد منهم لِما يوجب الفسق مع علمه، وذلك مما لم يثبت صريحاً عن أحد منهم - بحمد الله- فلا حاجة إلى البحث عن عدالة من ثبت له الصحبة ولا الفحص عنها بخلاف من بعدهم" (¬3). فيتضح مما سبق أن من أصول معتقد أهل السنة والجماعة أن الصحابة - رضي الله عنهم - عدول، ولم يترك أمر عدالتهم للناس بل ثبت ذلك في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وإجماع أهل السنة قاطبة، ولم يخالف في ذلك إلا جماعات شاذة متبعة لهواها لا يعتد بخلافها (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (3650). (¬2) هو: خليل بن كيكلدي بن عبد الله الدمشقي المعروف بصلاح الدين العلائي، شافعي متفنن، من مؤلفاته: تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شرف الصحبة، جزء في تفسير الباقيات الصالحات، جامع التحصيل لأحكام المراسيل وغيرها؛ توفي سنة (761 هـ). ينظر: الدرر الكامنة (2/ 91)، شذرات الذهب (6/ 190). (¬3) تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة (ص 60)، ينظر: الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص 67)، والاستيعاب لابن عبد البر (1/ 129)، وآداب الشافعي ومناقبه للرازي (ص 305 - 306)، والباعث الحثيث لابن كثير (ص 176 - 177). (¬4) ينظر: الإصابة لابن حجر (1/ 9)، تفسير القرطبي (16/ 197)، والكفاية في علم الرواية للخطيب (ص 93، 96)، الإصابة لابن حجر (1/ 9)، وعلوم الحديث لابن الصلاح (ص 264)، وألفية السيوطي (ص 266)، وفتح المغيث (ص 349).

ثالثا: سب الصحابة

وعدالتهم لا تعني عصمتهم من الذنوب والمعاصي (¬1). يقول ابن تيمية - رحمه الله - مبيناً عقيدة السلف في الصحابة - رضي الله عنهم -: هم (¬2) لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم (¬3). ثالثاً: سب الصحابة. قال الشيخ - رحمه الله - في من سب الصحابة - رضي الله عنهم -: " وحذر - صلى الله عليه وسلم - من سب الصحابة، فقال: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) (¬4).فمن سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو شتمهم وخاصة الثلاثة أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ... فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله وعارضهما بذمه إياهم، وكان محروماً من المغفرة التي وعدها الله من جاء بعدهم واستغفر لهم ودعا الله ألا يجعل في قلبه غلاً على المؤمنين" (¬5). سبق بيان عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - وما لهم من فضل وسبق في هذه الأمة، ولهذا فإن سبهم حرام بالكتاب والسنة، والإجماع. فمن الكتاب: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)} الأحزاب: 57. ¬

(¬1) المراد بالعدالة الثابتة لجميع الصحابة هي قبول روايتهم من غير تكلف البحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، إذ تعمد الكذب في الرواية والانحراف فيها لا يقع منهم رضي الله عنهم. ينظر: هامش تدريب الراوي شرح التقريب (2/ 215). (¬2) أي: أهل السنة والجماعة، فبعد أن بين معتقدهم في أن الصحابة عدول، بين أن عدالتهم رضي الله عنهم لا تعني عصمتهم، فنفى العصمة عن أفرادهم، أما مجموعهم رضي الله عنهم فلا يجتمع على ضلالة. ينظر: إعلام الموقعين (4/ 155). (¬3) العقيدة الواسطية شرح الهراس (ص 146)، وينظر: المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي (ص 232). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه من طريق أبي هريرة وأبي سعيد الخدري (1/ 1967 - 1968) برقم (2541). (¬5) فتاوى اللجنة (3/ 400).

ومن أذية النبي - صلى الله عليه وسلم - سب أصحابه وقد أخبر أن إيذاءهم إيذاء له، ومن آذاه فقد آذى الله (¬1) وأي أذية للصحابة أبلغ من سبهم. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} الأحزاب: 58. {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} الفتح: 29. ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة - رضي الله عنهم - أنه لا يسبهم شخص إلا لما وجد في قلبه من الغيظ عليهم، وقد بين تعالى في هذه الآية إنما يغاظ بهم الكفار، فدلت على تحريم سبهم، والتعرض لهم بما وقع بينهم على وجه العيب لهم (¬2). وقد جاءت الإشارة إلى تحريم سبهم في غير ما آية من كتاب الله تعالى. ومن السنة: فقد جاءت النصوص القطعية الدالة على تحريم سبهم وتجريحهم أو الطعن فيهم والحطّ من قدرهم، ومن ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه) (¬3). ¬

(¬1) عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه" قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب فيمن سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم (3862)، وابن حبان في كتاب إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن مناقب الصحابة برقم (7256)، وقد ضعفه الألباني في ضعيف تخريج الطحاوية برقم (471)، (673)، وفي السلسلة الضعيفة برقم (2901)، وفي ضعيف الجامع الصغير برقم (1160). (¬2) ينظر: الجامع لأحاكم القرآن (16/ 296 - 297)، شرح السنة للبغوي (1/ 229)، عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام - رضي الله عنهم -، د. ناصر بن علي الشيخ (2/ 831 - 836). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه من طريق أبي هريرة وأبي سعيد الخدري (1/ 1967 - 1968) برقم (2541).

وأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على تحريم سبهم والطعن في عدالتهم إجماعاً قطعياً (¬1)؛ يقول الإمام محي الدين أبو زكريا يحي النووي - رحمه الله -: " باب تحريم سب الصحابة، ثم قال: اعلم أن سب الصحابة - رضي الله عنهم - حرام من فواحش المحرمات سواء من لابس الفتن منهم وغيره لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون ... قال القاضي عياض: وسب أحدهم من المعاصي الكبائر" (¬2). يقول العلامة الألوسي - رحمه الله -: " حرمة سب الصحابة - رضي الله عنهم - مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، أو يتنازع فيه اثنان" (¬3). قال الذهبي - رحمه الله -: " فمن طعن فيهم أو سبهم فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم، وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم، وما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثنائه عليهم، وبيان فضائلهم ومناقبهم وحبهم ... ، والطعن في الوسائط طعن في الأصل، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول، هذا ظاهر لمن تدبره، وسلم من النفاق، ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته" (¬4). والساب للصحابة - رضي الله عنهم - على أصناف، فمنهم من لا ريب في كفره، ومنهم من لا يحكم بكفره، ومنهم من يتردد فيه وكلام شيخ الإسلام الآتي يبين ذلك: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك، ¬

(¬1) ينظر: الشفا (2/ 1108 - 1114)، وشرح صحيح مسلم (16/ 93)، والصارم المسلول (3/ 1067) وما بعدها، فتاوى السبكي (2/ 570 - 593)، إلقام الحجر لمن زكى ساب أبي بكر وعمر للسيوطي (ص 63 - 72)، والرد على الرافضة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ضمن مجموع مؤلفاته (11/ 15 - 20)، وإرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - للشوكاني (ص 50 - 69)، وصب العذاب على من سب الأصحاب للألوسي (ص 470). (¬2) شرح صحيح مسلم (16/ 92 - 93)، وينظر: السنة لابن أبي عاصم (470)، الشريعة للآجري (5/ 2491)، الحجة في بيان المحجة للأصبهاني (2/ 395). (¬3) الأجوبة العراقية (ص 49). (¬4) الكبائر المنسوب للذهبي ص 282 باختصار.

فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير (¬1)، ولا يحكم بكفره بمجردّ ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفر من العلماء. وأما من لعن وقبَّح مطلقاً فهذا محل الخلاف فيهم، لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد. وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب في كفره؛ فإنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق ... " (¬2). عليه فحكم الساب يختلف باختلاف اعتقاده، ومن سبه، ومتعلق سبه. وليعلم أن سب الصحابة - رضي الله عنهم - باب للزندقة، وعلامة وأمارة لأهل الأهواء والبدع، يقول الإمام أحمد بن حنبل: " ومن انتقص واحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أبغضه لحدث كان منه، أو ذكر مساوئه، كان مبتدعاً حتى يترحم عليهم جميعاً، ويكون قلبه لهم سليماً" (¬3). ¬

(¬1) التعزير: في اللغة يطلق على معان منها: المنع، والنصرة، والتأديب، واصطلاحاً: عقوبة غير مقدرة شرعاً بقصد منها منع الجاني من المعاودة وردعه عن المعصية. ينظر: لسان العرب (4/ 561 - 562)، وحاشية الروض المربع (7/ 345). (¬2) الصارم المسلول (3/ 1110 - 1111)، ينظر: الرد على الرافضة ضمن مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب (11/ 18 - 19). (¬3) رسالة أصول السنة له (ص 33) ضمن عقائد أئمة السلف جمع فواز زمرلي.

رابعا: فضل الصحابة والمفاضلة فيما بينهم

رابعاً: فضل الصحابة والمفاضلة فيما بينهم. قال الشيخ - رحمه الله -: " صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير هذه الأمة وقد أثنى الله عليهم في كتابه، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} التوبة: 100، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} الفتح: 18، إلى غير ذلك من الآيات التي أثنى الله فيها على الصحابة ووعدهم بدخول الجنة، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي من هؤلاء السابقين، وممن بايع تحت الشجرة، فقد بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه لعثمان فكانت شهادة له وثقة منه به، وكانت أقوى من بيعة غيره للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أثنى عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة إجمالاً وتفصيلاً وخاصة أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وبشر هؤلاء بالجنة في جماعة آخرين من الصحابة" (¬1). وقال الشيخ - رحمه الله -: " وهم يتفاوتون فيما بينهم، فبعضهم فوق بعض درجات، فأعلاهم درجة أهل بيعة الرضوان وكل من آمن قبل فتح مكة وأنفق في سبيل الله وقاتل إعلاء لكلمة الله، قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} الحديد: 10، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه كان بين عبد الرحمن بن عوف وبين خالد بن الوليد شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) (¬2)، فدل الحديث على أن من أسلم قبل فتح مكة وقبل صلح الحديبية كعبد الرحمن بن عوف أفضل ممن أسلم بعدهما كخالد بن الوليد، وإذا كان ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 398 - 400). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه من طريق أبي هريرة وأبي سعيد الخدري (1/ 1967 - 1968) برقم (2541).

حال خالد بن الوليد ومن أسلم معه أو بعده من الصحابة بالنسبة لعبد الرحمن بن عوف والسابقين معه إلى الإسلام هو ما ذكر في الحديث فكيف بحال من جاء بعد الصحابة بالنسبة إلى الصحابة - رضي الله عنهم -، وفي صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) (¬1)، وفي حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) (¬2) قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة" (¬3). " أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضل ما ليس لأحد بعدهم" (¬4). والقول بمقتضى ذلك من معاقد العقائد التي أجمع عليها أهل السنة والجماعة (¬5)، وصنفوا فيها المصنفات، وأفردوا في تقريرها المؤلفات (¬6). وما أجمل ما قاله السفاريني في منظومته: وليس في الأمة كالصحابة ... في الفضل والمعروف والإصابة فإنهم قد شاهدوا المختارا ... وعاينوا ... الأسرار ... والأنوار وجاهدوا في الله حتى بانا ... دين الهدى وقد سما الأديانا وقد أتى في محكم التنزيل ... من فضلهم ما يشفي من غليل وفي الأحاديث وفي الآثار ... وفي كلام القوم ... والأشعار ¬

(¬1) أخرجه النسائي في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} الفتح: 18 برقم (11444)، وأخرجه مسلم بنحوه في كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم - باب فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان - رضي الله عنهم - برقم (2496)، وقد صححه الألباني في تخريجه للعقيدة الطحاوية برقم (530) .. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد برقم (2652). (¬3) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 14). (¬4) أورده البيهقي عن الإمام الشافعي - رحمه الله - في مناقب الشافعي (1/ 442 - 443). (¬5) ينظر: العقيدة الطحاوية مع شرحها (2/ 689)، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 7 - 8)، جامع بيان العلم وفضله (2/ 36)، شرح السنة للبربهاري (ص 68 - 69)، عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص 289)، مجموع الفتاوى (3/ 152 - 156)، لوامع الأنوار البهية (2/ 379 - 380). (¬6) ينظر: معجم ما ألف عن الصحابة وأمهات المؤمنين وآل البيت لمحمد بن إبراهيم الشيباني.

ما قد ربا من أن يحيط نظمي ... عن بعضه فاقنع وخذ عن علم (¬1) وقد اختلف الناس في الكلام في المفاضلة بين الصحابة - رضي الله عنهم -: - فمنهم من أمسك عن الخوض فيها. - ومنهم من تكلم بمقتضى النصوص. والذي عليه إجماع أهل السنة والجماعة قاطبة القول بأفضلية أبي بكر ثم عمر - رضي الله عنهما - (¬2). يقول الإمام الشافعي - رحمه الله -: " ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصحابة، وإنما اختلف من اختلف منهم في علي وعثمان" (¬3). قال البيهقي - رحمه الله - بعد ذكره قول الشافعي هذا بسنده: " وروينا عن جماعة من التابعين وأتباعهم نحو هذا" (¬4). وقال يحيى بن سعيد القطان (¬5) - رحمه الله -: " من أدركت من أصحاب النبي والتابعين لم يختلفوا في أبي بكر وعمر وفضلهما، وإنما كان الاختلاف في علي وعثمان" (¬6). وجملة أقوال السلف رحمهم الله في المفاضلة بين عثمان وعلي ثلاثة: الأول: تفضيل عثمان على علي، هو قول جمهورهم (¬7). الثاني: تفضيل علي على عثمان، وهو قول أكثر أهل الكوفة" (¬8). ¬

(¬1) الدرة المضية مع شرحها لوامع الأنوار (2/ 377 - 383). (¬2) ينظر: السنة لابن أبي عاصم (ص 568)، السنة لعبد الله بن أحمد (2/ 574)، السنة للخلال (2/ 404)، شرح أصول الاعتقاد (7/ 136)، الاعتقاد للبيهقي (ص 522)، شرح صحيح مسلم (15/ 148)، مجموع الفتاوى (3/ 153) (4/ 421)، منهاج السنة (8/ 223 - 224). (¬3) أورده البيهقي في الاعتقاد (ص 522). (¬4) الاعتقاد للبيهقي (ص 522). (¬5) هو يحي بن سعيد بن فروخ القطان، إمام في الحديث والسنة، توفي سنة 197 هـ. ينظر: تاريخ بغداد (14/ 135)، سير أعلام النبلاء (9/ 175). (¬6) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (7/ 1367). (¬7) ينظر: الاستيعاب (3/ 214)، معالم السنن (4/ 303)، منهاج السنة (2/ 73، 82 - 85) (8/ 85)، فتح الباري (7/ 16). (¬8) ينظر: معالم السنن (4/ 303)، منهاج السنة (8/ 224)،مجموع الفتاوى (4/ 426)، فتح الباري (7/ 16).

والثالث: التوقف عن المفاضلة بينهما، وهو قول بعض أهل المدينة، ورواية عن الإمام مالك - رحمه الله - (¬1). وقد استقر إجماع أهل السنة والجماعة بَعْدُ على تقديم عثمان على علي (¬2). وأفضل الصحابة بعدهم بقية العشرة المبشرين بالجنة؛ ثم أهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر؛ ثم أهل بيعة الرضوان؛ على الصحيح؛ ثم أهل أحد؛ ثم بقية المهاجرين؛ ثم بقية الأنصار (¬3). وقد دل الكتاب والسنة على أوجه التفاضل بين الصحابة - رضي الله عنهم -، وجماع هذه الأوجه هو ما سلف من كل واحد منهم من أعمال البر والطاعات التي تتفاضل منزلتها عند الله تعالى. فمن أوجه التفاضل بينهم: * السبق إلى الإسلام: فالسابق إلى الإسلام أفضل من المسبوق، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} التوبة: 100. * الإنفاق والجهاد قبل الفتح: فمن أنفق قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعده وقاتلوا، كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} الحديد: 10. * شهود بدر: فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لعل الله أن يكون اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) (¬4). ¬

(¬1) ينظر: المدونة (6/ 451)، جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 186)، الانتقاء له (ص 35 - 36)، فتح الباري (7/ 16). (¬2) ينظر: الاستيعاب (3/ 214)، ومقدمة ابن الصلاح (ص 149)، ومجموع الفتاوى (3/ 153)، فتح الباري (7/ 34) (7/ 58). (¬3) ينظر: شرح السنة للبربهاري (ص 68)، مقدمة ابن الصلاح (ص 149)، الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي (ص 198 - 203)، مجموع الفتاوى (3/ 152 - 153)، اختصار علوم الحديث لابن كثير (1/ 501)، فتح الباري (7/ 58)، لوامع الأنوار البهية (2/ 357)، معارج القبول (3/ 1126). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب غزوة الفتح وما بعث حاطب بن أبي بلتعة ... برقم (4274)، ومسلم في كتاب الفضائل باب من فضائل أهل بدر برقم (2494).

خامسا: مذهب أهل السنة والجماعة فيما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

* شهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة: فمن شهد له بها أفضل، كشهادته للعشرة بالجنة. * شهود بيعة الرضوان: فمن شهدها أفضل، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} الفتح: 10، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الفتح: 18 (¬1). خامساً: مذهب أهل السنة والجماعة فيما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. علق الشيخ على قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) فقيل: هذا القاتل فما بال المقتول؟ فقال: (كان حريصاً على قتل صاحبه) (¬2) وبيان كيفية الحكم بهذا الحديث في الفتنة الكبرى أيام الخلافة الرشيدة: فقال الشيخ - رحمه الله -: " مذهب أهل السنة والجماعة الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والترضي عنهم جميعاً، واعتقاد أنهم كانوا مجتهدين فيما عملوا، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر وخطؤه مغفور، والحديث المذكور إنما هو في المسلمين اللذين يقتتلان ظلماً وعدواناً لا باجتهاد شرعي" (¬3). قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: " من السنة الواضحة الثابتة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمعين، والكف عن ذكر ما شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو واحداً منهم أو انتقصه أو طعن عليه أو عرض بعيبهم أو عاب أحداً منهم فهو مبتدع رافضي خبيث مخالف لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة" (¬4). ¬

(¬1) ينظر لما سبق من أوجه: منهج الإمام ابن الصلاح في تقرير العقيدة والرد على المخالفين عرض ودراسة لعبدالله أحمد الغامدي (ص 362 - 364)، مباحث المفاضلة في العقيدة، د. محمد الشظيفي (ص 243 - 244). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب وإن طائفتين من المؤمنين اقتتلوا ... برقم (31)، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما برقم (2888). (¬3) فتاوى اللجنة (3/ص 400) (¬4) طبقات الحنابلة (1/ 30).

"الإمساك عن ذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر زلاتهم، ونشر محاسنهم ومناقبهم، وصرف أمورهم إلى أجمل الوجوه، من أمارات المؤمنين المتبعين لهم بإحسان الذين مدحهم الله - عز وجل - بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الحشر: 10" (¬1). والقول بذلك هو ما عليه أهل السنة والجماعة قاطبة قولاً وعملاً (¬2). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في تقرير عقيدتهم: " ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم: منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه. والصحيح منه: هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون ... " (¬3). والذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة أن علياً - رضي الله عنه - هو أولى بالحق في قتاله مع معاوية، وفي قتاله مع عائشة وطلحة والزبير - رضي الله عنهم - أجمعين (¬4). قال الإمام أحمد - رحمه الله - بعد أن قيل له: ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية، قال: "ما أقول فيهم إلاّ الحسنى" (¬5). ¬

(¬1) الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم (ص 347). (¬2) ينظر: الإمامة والرد على الرافضة (314 - 342، 363)، الشرح والإبانة (ص 268)، تنزيه خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان من الظلم والفسق لأبي يعلى (ص 85 - 88)، عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني (ص 294)، مجموع الفتاوى (3/ 152 - 156)، سير أعلام النبلاء (10/ 92)، اختصار علوم الحديث (2/ 498 - 501)، شرح الطحاوية (2/ 722 - 725)، معارج القبول (3/ 1208). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 154 - 156). (¬4) ينظر: شرح صحيح مسلم (9/ 39)، مجموع الفتاوى (3/ 407،436 - 439) (35/ 51 - 55)، شرح العقيدة الطحاوية (2/ 723 - 724)، فتح الباري (6/ 619) (13/ 67)، لوائح الأنوار (2/ 38 - 39)، والصواعق المحرقة (2/ 622 - 623). (¬5) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (213 - 214).

سادسا: حجية قول الصحابي

سادساً: حجية قول الصحابي. قال الشيخ - رحمه الله -: " لا فرق بين الصحابي والتابعي - في أن قول الصحابي حجة على قول التابعي-؛ فإن التفاوت بينهما في العلم والتقوى لا يوجب أن يكون قول الأعلم الأتقى حجة على من دونه، لأن الصحابي من أهل الاجتهاد، والخطأ ممكن عليه؛ فلا يجب على التابع المجتهد العمل بمذهبه كالصحابيين والتابعيين ... " (¬1). وقال الشيخ - رحمه الله -: " لا شك أن الصحابة أهل للاجتهاد ولا يتهم مثلهم في التقصير، وقد خطأ بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه؛ بل جوز كلٌ الخطأ على نفسه في اجتهاده" (¬2). وقال - رحمه الله -: " كان الصحابة أعرف بالله تعالى وأبعد نظراً وأدق فهماً في نصوص الشريعة ممن جاء بعدهم لصفاء أذهانهم ومكانهم من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزول الوحي عليه، ولم يكن بينهم اختلاف في التوحيد، ولا مناظرات في مسائله لرجوعهم إلى الفطرة السليمة، والأدلة العقلية الصريحة، ونصوص الشريعة الصحيحة، وبعدهم عن موارد الشبه ومنازع الأهواء ... وإنما تكلموا في تفاصيل الفروع لوقوعها، وضرورة الناس إلى معرفة أحكامها، واختلفوا في مسائل منها؛ للإجمال في الأدلة، وللتفاوت في البلاغ والفهم، ونحو ذلك من الأسباب، واتفقوا في مسائل لم يوجد فيها المقتضي للخلاف" (¬3). يفصل المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، فيقول: " من قال من العلماء قول الصحابي حجة فإن كان لم يخالفه غيره من الصحابة ولا عرف نص يخالفه ثم إذا اشتهر ولم ينكروه كان إقراراً على القول فقد يقال إجماع إقراري أنهم أقروه لم ينكره أحد منهم وهم لا يقرون على باطل. وأما إذا لم يشتهر فهذا إن عرف أن غيره لم يخالفه فقد يقال هو حجة وأما إذا عرف أنه خالفه فليس بحجة بالاتفاق. ¬

(¬1) تعليق الشيخ على الإحكام في أصول الأحكام (4/ 183 - 185). (¬2) تعليق الشيخ على الإحكام في أصول الأحكام (4/ 228). (¬3) تعليق الشيخ على الإحكام في أصول الأحكام (4/ 276).

سابعا: محبة الصحابة

وأما إذا لم يعرف هل وافقه غيره أو خالفه لم يجزم بأحدهما. ومتى كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا فيما يخالفها بلا ريب عند أهل العلم" (¬1). سابعاً: محبة الصحابة. قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " أهل السنة والجماعة يحبون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويثنون عليهم ويترضون عنهم كما أثنى الله عليهم وترضى عنهم، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} التوبة: 100، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الفتح: 29إلى آخر السورة، إلى غير ذلك من الآيات التي وردت فيها ثناء الله عليهم وترغيب المؤمنين في حبهم والدعاء لهم ولمن تبعهم بإحسان ... ويرى أهل السنة أن حب الصحابة دين وإيمان وإحسان لكونه امتثالاً للنصوص الواردة في فضلهم، وأن بغضهم نفاق وضلال لكونه معارضاً لذلك، ومع ذلك فهم لا يتجاوزون الحد في حبهم أو في حب أحد منهم لقوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} النساء: 171، ولا يجفون أحداً منهم، ولا يتبرءون منه" (¬2). الصحابة هم خير القرون، وصفوة هذه الأمة وأفضل هذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم -، ويجب علينا أن نتولاهم ونحبهم ونترضى عنهم وننزلهم منازلهم، فإن محبتهم واجبة على كل مسلم، وحبهم دين وإيمان وقربى إلى الرحمن، وبغضهم كفر وطغيان. فهم حملة هذا الدين، فالطعن فيهم طعن في الدين كله لأنه وصلنا عن طريقهم بعد أن تلقوه غضًّا طريًّا ¬

(¬1) التوسل والوسيلة (1/ 104)، وينظر: منهاج السنة النبوية (3/ 406)، الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (1/ 415)، تدريب الراوي للسيوطي (1/ 187). (¬2) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 14).

عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشافهة ونقلوه لنا بكل أمانة وإخلاص ونشروا الدين في كافة ربوع الأرض في أقل من ربع قرن وفتح الله على أيديهم بلاد الدنيا فدخل الناس في دين الله أفواجاً (¬1). وقد دل الكتاب والسنة على وجوب موالاة الصحابة ومحبتهم وأنها دليل صدق إيمان الرجل. فمن الكتاب قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} التوبة: 71. وإذا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مقطوعاً بإيمانهم بل هم أفضل المؤمنين لتزكية الله ورسوله لهم فإن موالاتهم ومحبتهم دليل إيمان من قامت به هذه الصفة. ومن السنة حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار) (¬2). والنصوص في هذا كثيرة جداً لا يسع المقام ذكرها على أنه يحسن التنبيه هنا على ما يترتب على موالاة الصحابة رضوان الله عليهم من الآثار الطيبة في الدنيا والآخرة مما يشحذ الهمم على تحقيق موالاتهم. فمن آثار موالاتهم الطيبة في الدنيا الفلاح والغلبة والنصر كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} المائدة: 56. قال ابن كثير: "كل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ومنصور في الدنيا والآخرة" (¬3). ومن ثمار محبتهم في الآخرة ما يُرجى لمُحبّهم من الحشر معهم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ¬

(¬1) ينظر: أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية (ص 254)، وتفسير القرطبي (8/ 38)، وشرح صحيح مسلم للنووي (16/ 83). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب علامة الإيمان حب الأنصار برقم (17). (¬3) تفسير ابن كثير (2/ 72).

ثامنا: علم الصحابة

كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المرء مع من أحب) (¬1) (¬2). ثامناً: علم الصحابة. يبين الشيخ أن الصحابة لا يجوز في حقهم جميعاً أن يجهلوا أمراً من أمور القرآن أو لفظة من ألفاظه؛ فقال - رحمه الله -: " لا يجوز أن يجهل الصحابة جميعاً أمراً من أمور القرآن التشريعية أو يخطئوا فيه جميعاً؛ لأن ذلك ينافي نصوص الكتاب والسنة الدالة على ثبوت عصمة الأمة في إجماعها. ويجوز أن يجهل بعضهم الحكم القرآني أو يخطئ فيه ويعلمه غيره، أما إجماعهم على الخطأ فغير جائز ولا واقع" (¬3). لقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعلم الناس وأفقههم في دين الله، وهذا من خيريتهم فهم كما في الحديث: (خير القرون ...) (¬4)، وخيريتهم وفضلهم جاء من وجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم يعلمهم ويرشدهم مع ما صاحب ذلك من إيمان صادق وذهن وقاد لتلقي العلم، قال الحسن البصري - رحمه الله - وقد ذُكر الصحابة عنده قال: أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله - عز وجل - لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم (¬5). وقد نزل القرآن الكريم موافقاً لرأي أحدهم؛ فإذا علمت آراءهم وعلمهم وفقههم علمت بحق أنهم علماء، يقول مجاهد - رحمه الله -: العلماء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال قتادة ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب علامة حب الله - عز وجل - ... برقم (6168)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب المرء مع من أحب برقم (2641). (¬2) ينظر: أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة تأليف نخبة من العلماء وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية (1/ 357 - 358). (¬3) فتاوى اللجنة (3/ ص 401) (¬4) أخرجه البخاري كتاب الأدب باب علامة حب الله عز وجل برقم (6168)، ومسلم في كتاب البر والصلة والأدب، باب المرء مع من أحب برقم (2641). (¬5) كتاب الشريعة للآجري (4/ 1686).

في قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} سبأ: 6، قال: هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال ابن عباس في قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} البقرة: 121، قال: يتبعونه حق اتباعه، يحلُون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه. وقال قتادة (¬2): " هؤلاء أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - آمنوا بكتاب الله فصدقوا به وأحلوا حلاله وحرموا حرامه وعملوا بما فيه: وقال مجاهد: يعملون به حق علمه (¬3). إن العلم الحقيقي والعلم النافع هو العلم الذي يعمل به صاحبه، وهذا كان حال الصحابة - رضي الله عنهم - وهكذا كان يربيهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، ويصف ابن عمر رضي الله عنهما ذلك فيقول: لقد لبثنا برهة من دهر وأحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، تنزل السورة على محمد - صلى الله عليه وسلم - فنتعلم حلالها وحرامها، وأمرها وزجرها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها، كما يتعلم أحدكم السورة، ولقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، يقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يعرف حلاله ولا حرامه، ولا أمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، وينثره نثر الدقل" (¬4). ومن تتبع أقوال الصحابة علم عمق فهمهم، وسعة علمهم - رضي الله عنهم - وأرضاهم، كيف لا وهم خير القرون (¬5)، وقد أوصانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتمسك بسنتهم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (... فإنه من يعش منكم يرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها ¬

(¬1) ينظر: تفسير الطبري (22/ 44)، وهداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم (446). (¬2) هو: قتادة بن دعامة بن عزيز بن سدوس أبو الخطاب السدوسي البصري الضرير الأكمه، حافظ العصر، وقدوة المفسرين والمحدثين، كان من أوعية العلم وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ، توفي سنة 118 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب (8/ 351)، والشذرات (1/ 153). (¬3) ينظر: تفسير الطبري (1/ 518 - 520)، الإيمان لابن مندة (1/ 364). (¬4) كتاب الإيمان لابن مندة (1/ 369)، والدقل: هو رديء التمر ويابسه. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (2/ 127). (¬5) ينظر: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم (ص 456).

تاسعا: موقف أهل البدع وأهل السنة من الصحابة

بالنواجذ) (¬1)؛ فلعلمهم - رضي الله عنهم - ولفقههم ومعرفتهم بقول الله وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - صارت سنة الخلفاء منهم متبوعة، وطريقتهم هي طريق النجاة عند حصول الفتن. وقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم والاهتداء بهديهم والتمسك بعهدهم، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي، أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود) (¬2). هذا هو فضل الصحابة وهذا هو فقههم وعلمهم، فما حقهم علينا؟ لقد فرّط أناس في حق الصحابة وأفرط آخرون، والحق هو قول أهل الحق أهل السنة والجماعة، وهذا ما سيتضح في المبحث التالي إن شاء الله. تاسعاً: موقف أهل البدع وأهل السنة من الصحابة. قال الشيخ - رحمه الله -: " أما الخوارج فقد أبغضوا عثمان وعليا وعمرو بن العاص ومعاوية وكثيراً من الصحابة وتبرءوا منهم، ولهذا سموا النواصب لمناصبتهم عليا ومن والاه العداوة والبغضاء، وبراءتهم من كثير من الصحابة. وأما الروافض فقد أبغضوا أبا بكر وعمر وعثمان وكثيراً من الصحابة وتبرءوا منهم، وقالوا لا ولاء إلا ببراء، أي لا يصح من أحد ولاء لآل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر وعثمان ومن تبعهم، وسموا رافضة، لأنهم رفضوا مجلس زيد بن علي زين العابدين من أجل موالاته أبا بكر وعمر، فسماهم رافضة. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب السنة باب في لزوم السنة (4/ 200)، والترمذي في كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدع (5/ 44) برقم (2676) وقال عنه حسن صحيح، واللفظ له، ولقد صحح الألباني إسناده في صحيح سنن الترمذي (2/ 342)، وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (1/ 15). (¬2) أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، باب مناقب عبد الله بن مسعود (5/ 672) برقم (3805) وقال حديث حسن غريب من هذا الوجه، وصحيح الألباني إسناده في صحيح سنن الترمذي (3/ 230).

وبهذا يعلم أن أهل السنة والجماعة وسط في موالاة الصحابة ومن تبعهم بين الخوارج والروافض. وقد رد أهل السنة مذهب الخوارج والروافض بما تقدم من النصوص العامة في فضل الصحابة وبالنصوص الخاصة في فضل واحد أو جملة منهم" (¬1). روى أصحاب السنن من طريق حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) (¬2)، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من طريق عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في شأن عثمان وتكريمه: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة) (¬3) ومنها ما رواه البخاري ومسلم من طريق سعد بن أبي وقاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي بن أبي طالب: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) (¬4) إلى غير هذا من الأحاديث الدالة على فضل الصحابة إجمالاً أو تفصيلا. صار الناس مع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفين ووسطاً (¬5). فالخوارج جفت بعض الصحابة، وفرطت في حقهم، وكفرت علياً وعثمان - رضي الله عنهما -، والحكمين ومن رضي بالتحكيم، وتبرأت منهم (¬6). أما المعتزلة فلم تجرؤ على القول بالتكفير وقالت بالتفسيق، وأن أحد الفريقين: فريق علي ابن أبي طالب أو معاوية بن أبي سفيان فاسق غير مقبول الشهادة، وزاد بعض المعتزلة بالتبرؤ من معاوية وعمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، والتجرؤ على سب الصحابة جملة (¬7). ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 19). (¬2) أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، باب مناقب عبد الله بن مسعود (5/ 672) وقال حديث حسن غريب من هذا الوجه، وصحيح الألباني إسناده في صحيح سنن الترمذي (3/ 230). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب من فضائل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - برقم (2401). (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - برقم (2404). (¬5) ينظر: في هذا المعنى: المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال وهو مختصر منهاج السنة لابن تيمية للذهبي (ص 74)، والسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل (1/ 222). (¬6) الخوارج هم الذين يكفرون بالمعاصي، ويخرجون على ولاة الأمر، ويستحلون قتال المسلمين، وهم الذين خرجوا على عليّ ابن أبي طالب وقاتلهم بالنهروان. ينظر: مقالات الإسلاميين لأبي حسن الأشعري (1/ 167)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 132)، والفرق بين الفرق للبغدادي (ص 50). (¬7) ينظر: الفرق بين الفرق (ص 83)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 63)، وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (ص 69)، مقالات الإسلاميين (1/ 235)، البرهان في عقائد أهل الأديان لعباس السكسكي (ص 49).

أما الشيعة فقد جمعوا بين الغلو والجفاء؛ فغلوا في حب عليّ بن أبي طالب حتى ألّهه بعضهم، وفضله آخرون على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -.وجفوا مع بعض الصحابة وسبوهم ورموهم بالجهل، واستطالوا في شتمهم خاصة أبا بكر وعمر، حتى صار ذلك من علامات الروافض ووصفهم، ولم يكتفوا بالسب والشتم للصحابة الكرام حتى جاوزوه إلى القول بالتبرؤ من أفاضلهم كأبي بكر وعمر وكثير من الصحابة، وتجميع الشيعة على القول بالتبري والتولي قولاً وفعلاً وعقداً (¬1)، وقالوا: لا ولاء إلا ببراء، أي لا ولاء لعلي بن أبي طالب واعتقاد إمامته إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر وعثمان (¬2)، بل من الشيعة من يكفر أكثر الصحابة نعوذ بالله من الضلال (¬3). هؤلاء هم الذين فرطوا أو أفرطوا في حق الصحابة - رضي الله عنهم -، والحق مع أهل الوسط أهل السنة والجماعة، ويتلخص معتقدهم في الصحابة - رضي الله عنهم - في أمور نعددها: 1 - عدالة الصحابة: الصحابة كلهم عدول ثقات. 2 - وجوب محبة الصحابة وتوقيرهم من غير إفراط ولا تفريط، ومن غير تفريق. 3 - وجوب ذكر محاسنهم، والترضي عنهم والدعاء لهم، وعدم الخوض فيما شجر بينهم إلا بالحق. 4 - النهي عن سب الصحابة ن، أو ذكر أحدهم بما يسوء. وقد تقدم الحديث عن كل واحد مما سبق. ¬

(¬1) ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 169). (¬2) ينظر: شرح العقيدة الطحاوية لاين أبي العز الحنفي (2/ 697). (¬3) ينظر: الفرق بين الفرق للبغدادي (ص 22).

المطلب الثاني: الإمامة.

المطلب الثاني الإمامة. تمهيد تعريف الإمامة الإمامة في اللغة: مصدر من الفعل أمَّ، يقال: "أمَّهم وأمّ بهم: تقدَّمهم ... " (¬1). "والإمام: كل من اقتدي به وقدم في الأمور، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية، والقرآن إمام المسلمين" (¬2). وأما في الاصطلاح: فقد عرّفها أهل العلم بتعريفات عدّة، وهي وإن اختلفت في الألفاظ فهي متقاربة في المعاني (¬3)، ومن أشهرها تعريفا الماوردي (¬4) وابن خلدون رحمهما الله. يقول الماوردي: " الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به" (¬5). ويقول ابن خلدون: " الإمامة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به" (¬6). ¬

(¬1) القاموس المحيط (ص 1392)، وينظر: تهذيب اللغة (1/ 201)، والصحاح (5/ 1865)، ولسان العرب (12/ 24). (¬2) معجم مقاييس اللغة (ص 48). (¬3) ينظر: غياث الأمم في اجتياث الظلم للجويني (ص 15)، المواقف (ص 395)، شرح الأصول الخمسة (ص 750)، التعريفات (ص 35)، إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة لصديق حسن (ص 17). (¬4) هو: علي بن محمد بن حبيب الماوردي، أبو الحسن، البصري الشافعي، من مؤلفاته: أعلام النبوة، الأحكام السلطانية، النكت والعيون في تفسير القرآن الكريم وغيرها، توفي سنة 450 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (18/ 64)، شذرات الذهب (3/ 285). (¬5) الأحكام السلطانية (ص 5). (¬6) المقدمة (ص 190).

وليس هناك فرق بين لفظتي الإمامة والخلافة، إذ عامة النصوص الواردة في هذا الباب تدل على إطلاق إحدى الكلمتين على الأخرى ولم يرد في شيء منها ما ينبئ على تغاير معنييهما أو الفرق بينهما، وهذا ما أفاده جمع من أهل العلم أيضاً ووجد في منصوص كلامهم. قال النووي: " يجوز أن يقال للإمام الخليفة والإمام وأمير المؤمنين" (¬1). والإمامة عند أهل السنة والجماعة من أعظم واجبات الدين؛ لأنه لا قيام للدين إلا بها، فإن الله تعالى أوجب على الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ... ، ولا يتم ذلك إلا بالقوة والإمارة. قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: " لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، قيل له: هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ قال: يؤمن بها السبيل ويقام بها الحدود ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء" (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ لأنه لا قيام للدين إلاًّ بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس ... ؛ لأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلاَّ بقوة وإمارة، وكذلك ما أوجبه الله من الجهاد، والعدل، وإقامة الحج والجمع والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلاَّ بالقوة والإمارة ... " (¬3). ¬

(¬1) روضة الطالبين (10/ 49)، وينظر: مقدمة ابن خلدون (ص 171)، وتاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة (1/ 20)، ولسان العرب مادة "خلف" (9/ 83). (¬2) منهاج السنة (1/ 548)، والسياسة الشرعية (ص 63 - 64). (¬3) السياسة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 129) باختصار.

أولا: حكم الإمامة

أولاً: حكم الإمامة. قال الشيخ - رحمه الله -: " إنابة ولي أمر عام للمسلمين يتولى شئونهم وتنتظم به أمورهم ويجتمع شملهم واجب على المسلمين، ويجب عليهم أن يختاروا من بينهم من يصلح للقيام بواجب الأمة، وإن لم يكن في الأمة من يصلح لذلك إلا واحد تبين عليهم أن يقيموه والياً عاماً عليهم، وتعين عليه أن يتقبل تولي هذا المنصب، حفاظاً لكيانها، وتحقيقاً لما ينهض بها سياسة وتدبيراً، وثقافة وعلماً، وإنتاجا وكسباً ... والحكمة في ذلك رعاية مصلحة الأمة، ... وقد شهدت الفطرة بضرورة إقامة ولي عام على المسلمين على مصالحهم ... ويبذل وسعه في توحيد كلمتهم ولم شعثهم، بل عرف الإنسان أن اتخاذ القيادة وضرورتها أمر جبلت عليه الحيوانات العجماوات، فإنا لا نكاد نجد طائفة من الحيوانات على اختلاف أنواعها ... إلا اتخذت لنفسها قيادة تنظم مسيرها وعملها ... وتنصيب الولاة والأئمة أمر معروف طبعت عليه القبائل والأمم، وكما دل العمل المستمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعث السرايا أنه ما بعث سرية إلا وقد أمر عليها أميراً وأوصاها بطاعته، ودل عمله في البلاد الإسلامية أنه لم يترك بلداً دون أن يؤمر على أهلها أميراً ولم يسافر عن المدينة إلا وقد أمر عليها أميراً، فإذا كان هذا شأنه في الولايات الخاصة، فالولايات العامة ألزم، والعناية بها أتم وأوجب، ولا تكون ولاية خاصة في أمة إلا عن طريق الولاية عامة" (¬1). نصب الإمام واجب بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع، والقواعد الشرعية (¬2). فمن الكتاب: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} النساء: 59. فالله سبحانه أوجب على المسلمين طاعة أولي الأمر منهم، وهم العلماء والأمراء، والأمر بالطاعة دليل على وجوب نصب ولي الأمر؛ لأن الله تعالى لا يأمر بطاعة من لا وجود ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 19 - 20). (¬2) ينظر: الأحكام السلطانية للماوردي (ص 5)، والأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص 19)، والمقدمة الزهراء في إيضاح الإمامة الكبرى للذهبي (ص 69)، تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لابن جماعة (ص 48).

له، ولا يفرض طاعة من وجوده مندوب، فالأمر بطاعته يقتضي الأمر بإيجاده (¬1). وغير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، والتي يطول ذكرها وإيضاح وجه المراد منها وبيان معانيها، ويكفي أن جميع آيات الحدود والقصاص والأحكام التي لا يستطيع القيام بها وتنفيذها إلا الإمام دالة على وجوب وجوده وإقامة منصبه. ومن السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) (¬2). وفعله - صلى الله عليه وسلم - حيث تولّى زعامة الدولة الإسلامية الأولى. أما الإجماع: فقد اتفق السواد الأعظم من المسلمين على اختلاف طوائفهم على وجوب نصب الإمام، ولم يشذ عن ذلك إلا النجدات، من الخوارج ونفر من المعتزلة (¬3). يقول العلامة ابن حزم - رحمه الله -: " اتفق جميع أهل السنة، وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل، يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم" (¬4). ولهذا أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على الاشتغال بها قبل دفن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد حكى هذا الإجماع غير واحد من أهل العلم (¬5). ¬

(¬1) ينظر: تفسير البيضاوي (2/ 206)، وتفسير الطبري (5/ 150)، وغير ذلك من التفاسير في آية (59) من سورة النساء. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء (3/ 1478) برقم (1851) من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - به. (¬3) يُعزى القول بذلك إلى عبد الرحمن بن كيسان المشهور بأبي بكر الأصم وهشام بن عمرو الفوطي من كبار المعتزلة. ينظر: مقالات الإسلاميين (2/ 149)، الفرق بين الفرق (ص 163). (¬4) الفصل (4/ 149). (¬5) ينظر: مراتب الإجماع لاين جزم (ص 144)، الأحكام السلطانية للماوردي _ص 5)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص 19)، شرح السنة للبغوي (10/ 84)، تفسير القرطبي (1/ 264)، شرح صحيح مسلم (12/ 205، فتح الباري (13/ 208)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 182 - 183)، وشرح النووي لصحيح مسلم (12/ 205)، والصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي (ص 7 - 8).

ثانيا: الواجب نحو الأئمة

ثانياً: الواجب نحو الأئمة. قال الشيخ - رحمه الله -: "وقد دلت عناية الكتاب والسنة بالحث الكثير على طاعة ولاة الأمور، والتحذير الشديد من الخروج عليهم ومنازعتهم مكتفية في تقبل الولاية بالخبر عنها وانتظام الأمر بها " (¬1). 1 - السمع والطاعة لهم: دلت النصوص الشرعية على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر وأئمة المسلمين ما لم يأمروا بمعصية، منها: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} النساء: 59 وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) (¬2). فأهل السنة والجماعة يرون السمع والطاعة للإمام في غير معصية الله، فمن ولي من أمورهم شيئاً عن رضى واختيار أو غلبة وقهر، فإن طاعته واجبة براً كان أو فاجراً ما لم يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له في ذلك الأمر، ولا يرون الخروج عليهم وإن جاروا، كما يرون الجهاد معهم والدعاء لهم، ودفع الصدقات إليهم إذا طلبوها، والصلاة خلفهم؛ لأن طاعتهم في معروف طاعة لله تعالى وامتثالاً لأمره حيث قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} النساء: 59. يقول العلامة ابن أبي العز - رحمه الله -: " دل الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر، ما لم يأمروا بمعصية، فتأمل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} النساء: 59، كيف ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 20). (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (4/ 2232) برقم (7144)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (3/ 1469) برقم (1839) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - به.

2 - عدم الخروج عليهم

قال: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم؟ لأن أولي الأمر لا يفردون بالطاعة، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله، وأعاد الفعل مع الرسول؛ لأنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، فإن الرسول لا يأمر بغير طاعة الله، بل هو معصوم في ذلك، وأما ولي الأمر، فقد يأمر بغير طاعة الله، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله. وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا، فلأنه يترتب على الخروج عن طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور، فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل" (¬1). ويقول ابن تيمية متحدثاً عن مذهب أهل السنة والجماعة: " إنهم لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة، فلا يجوزون طاعته في معصية الله وإن كان إماماً عادلاً، فإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعوه، مثل أن يأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصدق والعدل والحج والجهاد في سبيل الله، فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله ... فأهل السنة لا يطيعون ولاة الأمور مطلقاً، إنما يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). 2 - عدم الخروج عليهم: دلّت النصوص الشرعية على تحريم الخروج على ولاة الأمور وأئمة المسلمين، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، فميتته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برّها وفاجرها، ولا يفي بذي عهدها، فليس مني) (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله: ¬

(¬1) شرح الطحاوية (2/ 542 - 543)، وينظر: مجموع الفتاوى (35/ 5 - 17)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 180 - 181). (¬2) منهاج السنة (3/ 387). (¬3) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن (3/ 1476) برقم (1848) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - به.

أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ومن ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعنَّ يداً من طاعة) (¬1). فمن أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة والخروج عليهم وإن جاروا. قال الإمام أحمد - رحمه الله -: " ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه، وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان الرضا والغلبة، فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن مات الخارج عليه مات ميتةً جاهلية، ولا يحلُّ قتال السلطان، والخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق ... " (¬2). قال النووي: " لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق ... " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم برقم (1855) من حديث عوف بن مالك الأشجعي. (¬2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 181). (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 229)، وينظر: شرح العقيدة الطحاوية (2/ 540 - 544)، والإبانة لأبي الحسن الأشعري (ص 61)، والشريعة للآجري (ص 38 - 41)، واعتقاد أئمة الحديث للإسماعيلي (ص 75 - 76)، والشرح والإبانة لابن بطة (ص 276 - 278)، والاعتقاد للبيهقي (ص 242 - 246)، والعقيدة الواسطية مع شرحها للهراس (ص 257 - 259)، رسالة إلى أهل الثغر لعلي بن إسماعيل الأشعري (ص 296 - 297)، عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص 294).

المبحث الثاني: جهوده في تقرير مسائل الأسماء والأحكام.

المبحث الثاني جهوده في تقرير مسائل الأسماء والأحكام: تمهيد في تعريف مسائل الأسماء والأحكام، وأهميتها: المراد بالأسماء: أسماء الدين، مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق. والمراد بالأحكام: أحكام هؤلاء في الدنيا والآخرة، أي: أحكام أصحاب هذه الأسماء (¬1). يقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: " هذه المسائل أعني: مسائل الإسلام والإيمان، والكفر والنفاق مسائل عظيمة جداً، فإن الله - عز وجل - علق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة، واستحقاق الجنة والنار، والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة ... وقد صنف العلماء قديماً وحديثاً في هذه المسائل تصانيف متعددة، وممن صنف في الإيمان من أئمة السلف: الإمام أحمد، وأبو عبيد القاسم بن سلام (¬2)، وأبو بكر بن أبي شيبة (¬3)، ومحمد بن أسلم الطوسي (¬4) رحمهم الله وكثرت فيه التصانيف بعدهم من جميع الطوائف" (¬5). وقد أشار الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - إلى أهمية هذه المسائل، وضرورة العناية بها وفيما يلي عرض لكلامه - رحمه الله -. ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى (13/ 38). (¬2) هو القاسم بن سلام بن عبد الله، المشهور بأبي عبيد، من أئمة الحديث وكبار السلف، من مؤلفاته: غريب الحديث، والإيمان، وغيرهما، توفي سنة 224 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (10/ 490)، شذرات الذهب (2/ 54). (¬3) هو: عبد الله بن محمد بن إبراهيم أبي شيبة العبسي مولاهم، المشهور بابن أبي شيبة، من حفاظ الحديث وأعلام السلف، من مؤلفاته: المصنف، والإيمان، والأدب وغيرها، توفي سنة 235 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (11/ 122)، شذرات الذهب (2/ 85). (¬4) هو محمد بن أسلم بن سالم بن يزيد، أبو الحسن، الكندي، الخرساني، الطوسي، من أئمة السلف وعبّادهم، توفي سنة 242 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (12/ 195)، وشذرات الذهب (2/ 100). (¬5) جامع العلوم والحكم (1/ 114).

المطلب الأول: جهوده في مسائل الإيمان.

المطلب الأول جهوده في مسائل الإيمان. 1 - تعريف الإيمان: الإيمان في اللغة: مصدر آمن يؤمن إيماناً فهو مؤمن (¬1)، وهو بمعنى الإقرار لا مجرد التصديق؛ فإن الإيمان يتضمن أمرين: أحدهما: الإخبار. ثانيهما: الالتزام. والتصديق إنما يتضمن الأول دون الثاني، بخلاف الإقرار فإنه يتضمنهما جميعاً (¬2). ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " معلوم أن الإيمان هو الإقرار لا مجرد التصديق، والإقرار يتضمن قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو الانقياد" (¬3). وأما الإيمان في الشرع: فهو حقيقة مركبة من اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح. كما عرفة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -، بقوله: " قول أهل السنة والجماعة: أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان وتصديق بالجنان" (¬4). ¬

(¬1) ينظر: تهذيب اللغة (1/ 209)، معجم مقاييس اللغة (ص 88)، الصحاح (5/ 2071)، لسان العرب (13/ 21)، والقاموس المحيط (ص 1518). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى (7/ 530 - 531). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (7/ 638). (¬4) فتاوى اللجنة (3/ 248).

والأدلة على ذلك متظافرة من الكتاب والسنة والإجماع: فمن الكتاب: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} المائدة: 41 "كان الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - من شدة حرصه على الخلق يشتد حزنه لمن يظهر الإيمان، ثم يرجع إلى الكفر. فأرشده الله تعالى، إلى أنه لا يأسى ولا يحزن على أمثال هؤلاء. فإن هؤلاء، لا في العير ولا في النفير. إن حضروا لم ينفعوا، وإن غابوا لم يفقدوا. ولهذا قال مبينا للسبب الموجب لعدم الحزن عليهم {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} فإن الذين يؤسى ويحزن عليهم، من كان معدودا من المؤمنين، ظاهراً وباطناً. وحاشا لله، أن يرجع هؤلاء عن دينهم، ويرتدوا، فإن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لم يعدل به صاحبه غيره، ولم يبغ به بدلا" (¬1)؛ فالمعنى ووجه الاستدلال من حقق الإيمان ظاهراً وباطناً. ومن السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) (¬2). "فهذه الشعب تتفرع من أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن" (¬3)، وقد عني جمع من أهل العلم بعدها وفقاً لذلك (¬4). ¬

(¬1) تفسير السعدي (ص 231). (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان (1/ 29) برقم (9)، ومسلم واللفظ له، كتاب الإيمان، باب عدد شعب الإيمان (1/ 63) برقم (35) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) فتح الباري (1/ 52). (¬4) ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/ 911 - 940)، الإبانة الكبرى لابن بطة تحقيق رضا نعسان (2/ 650 - 653).

أما الإجماع: فقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل (¬1). وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم، منهم: وكيع بن الجراح (¬2) (¬3) وأبو عبيد القاسم بن سلام (¬4)، والبخاري (¬5)، والبغوي (¬6)، وابن عبد البر (¬7) رحمهم الله جميعاً. وقد خالف أهل السنة والجماعة في ذلك عامةُ الطوائف والفرق (¬8)، ومنهم الأشاعرة فإنهم اتفقوا على أن الإيمان هو تصديق القلب، وأن أعمال الجوارح غير داخلة في مسماه، واختلفوا في إقرار اللسان على قولين (¬9). ¬

(¬1) ينظر: الإيمان لابن أبي شيبة (ص 46)، والإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص 66)، الإيمان للعدني (ص 79)، الإيمان لابن مندة (2/ 5)، الشريعة (2/ 611)، الإبانة الكبرى، تحقيق نعسان (2/ 760)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 830)، والحجة في بيان المحجة (1/ 403)، وأصول السنة لابن أبي ومنين (ص 207)، وشرح السنة للبربهاري (ص 67)، وعقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص 264)، ومسائل الإيمان لأبي يعلى (152)، الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي (ص 181)، والإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 293 - 295)، وشرح الطحاوية (2/ 459)، ولوامع الأنوار البهية (1/ 403). (¬2) هو وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي، أبو سفيان، الرؤاسي، إمام محدث، من أئمة السلف، من مؤلفاته: الزهد، التفسير، فضائل الصحابة وغيرها، توفي سنة 197 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (9/ 140)، شذرات الذهب (1/ 349). (¬3) ينظر: كتاب الإيمان للعدني (ص 96). (¬4) ينظر: الإيمان له (ص 66). (¬5) ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/ 886). (¬6) ينظر: شرح السنة (1/ 38 - 39). (¬7) ينظر: التمهيد (9/ 238). (¬8) ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 213)، مجموع الفتاوى (13/ 47 - 51)، الإيمان لشيخ الإسلام (ص 72)، شرح الطحاوية (2/ 459). (¬9) القول الأول: أنه لا يكفي التصديق وحده بل لا بد معه من الإقرار بالشهادتين باللسان، فإن تركه مع القدرة عليه كان كافراً مخلداً في النار. القول الثاني: أنه من أهل الجنة، وتركه التلفظ به معصية فقط. ينظر: المنح المكية في شرح الهمزية للهيثمي (3/ 1340 - 1341)، وتحفة المحتاج بشرح المنهاج للهيثمي تحقيق عبد الله بن محمود (4/ 112)، الفتاوى الحديثة للهيتمي (ص 263)، إحياء علوم الدين للغزالي (1/ 104 - 105)، آراء ابن حجر الهيتمي الاعتقادية عرض وتقويم في ضوء عقيدة السلف، د. محمد بن عبد العزيز الشايع (ص 664 - 665).

2 - زيادة الإيمان ونقصانه

والذي عليه جمهورهم أن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، وأما إقرار اللسان وعمل الجوارح فهي خارجة عن مسماه (¬1). وهذا قول باطل لأن الإيمان ليس في اللغة مجرد التصديق ولو فرضنا أنه كذلك في اللغة فإن الأعمال داخلة في مسماه (¬2). 2 - زيادة الإيمان ونقصانه: قال الشيخ - رحمه الله -: " مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص" (¬3). قال الشيخ - رحمه الله - عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} محمد: 17: " في ذلك دليل على ما ذهب إليه أهل السنة من زيادة إيمان المهتمين باستماعهم للقرآن استماع تدبر واعتبار" (¬4). تواترت نصوص الوحيين في الدلالة على زيادة الإيمان ونقصانه. فمن الكتاب: قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} الأنفال: 2. ومن السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير) (¬5). والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ¬

(¬1) ينظر: التمهيد للباقلاني (ص 389)، وأصول الدين للبغدادي (ص 247)، الإرشاد للجويني (ص 333)، شرح المقاصد للتفتازاني تحقيق د عبد الرحمن عميرة (5/ 175). (¬2) ينظر: شرح الطحاوية (2/ 473)، ومجموع الفتاوى (7/ 541) (7/ 583). (¬3) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 244)، وينظر: فتاوى اللجنة (3/ 253)، وتعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 80). (¬4) تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 80). (¬5) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه (1/ 38) برقم (44)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1/ 182) برقم (193) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - به.

وكل دليل يدل على زيادة الإيمان فهو دليل على نقصه والعكس بالعكس، إذ ما قبل الزيادة قبل النقصان (¬1). والقول بمقتضى ذلك هو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة (¬2)، وانعقد عليه إجماعهم (¬3). واتفق الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعون ومن بعدهم من علماء أهل السنة على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية (¬4). قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: " الإيمان يزداد وينقص" (¬5). وقال عمير بن حبيب - رضي الله عنه -: " الإيمان يزيد وينقص، قيل له: ما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله - عز وجل - وحمدناه وخشيناه فذلك زيادته، فإذا غفلنا وضيعنا فذلك نقصانه" (¬6). وروى اللالكائي بسنده عن البخاري أنه قال: " لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" (¬7). ¬

(¬1) ينظر: السنة للخلال (2/ 688)، شعب الإيمان (1/ 160)، الفصل (3/ 237)، فتح الباري (1/ 47). (¬2) ينظر: السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 310)، الإيمان لأبي عبيد (ص 72)، والإيمان للعدني (ص 94)، الإبانة الكبرى، تحقيق: نعسان (2/ 861)، والشريعة (2 م603)، وشرح أصول الاعتقاد (3/ 18)، وأصول السنة لابن أبي زمنين (ص 207)، والتبصير في الدين لابن جرير (ص 197)، وشرح السنة للبربهاري (ص 67)، وعقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص 264)، والتمهيد (9/ 243، 252)، ومسائل الإيمان لأبي يعلى (ص 395)، الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي (ص 181)، ومجموع الفتاوى (7/ 505)، وشرح الطحاوية (2/ 466)، ولوامع الأنوار البهية (1/ 411)، وزيادة الإيمان ونقصانه لعبد الرزاق العباد (ص 33 - 131). (¬3) ينظر: شرح السنة للبغوي (1/ 38 - 39)، والتمهيد (9/ 238)، ومجموع الفتاوى (7/ 672)، ومدارج السالكين (1/ 421). (¬4) ينظر: شرح السنة للبغوي (1/ 38 - 39). (¬5) الشريعة للآجري (2/ 582) برقم (214). (¬6) الشريعة للآجري (2/ 583) برقم (215)، والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد (1/ 315)، صريح السنة للطبري (ص 25). (¬7) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 193 - 197) برقم (230)، فتح الباري (1/ 61).

3 - الفرق بين الإيمان والإسلام

وممن قال بزيادته ونقصانه (¬1): الإمام مالك، والشافعي، وأحمد، والثوري (¬2)، وابن عيينة (¬3)، وابن جريج (¬4)، ووكيع (¬5)، والبخاري كما في صحيحه (¬6). 3 - الفرق بين الإيمان والإسلام: قال الشيخ - رحمه الله -: " كلٌّ من الإيمان والإسلام يطلق عند الانفراد على جميع أحكام الشريعة عقيدة وعملاً وقولاً وخلقاً، وإذا اجتمعا كما في حديث سؤال جبريل النبي عليهما الصلاة والسلام كان الإسلام للأحكام الظاهرة والإيمان للأحكام الباطنة، مع استلزام كل منهما إذا صح للآخر؛ فكل إيمان صحيح يستلزم إسلاماً صحيحاً، وكل إسلام صحيح لا يكون إلا عن إيمان صحيح" (¬7). اختلف أهل العلم رحمهم الله في الإيمان والإسلام هل هما بمعنى واحد، أم معان متغايرة؟ والخلاف جار بين أهل السنة والجماعة على قولين: ¬

(¬1) ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/ 963 - 964)، مسائل الإيمان لأبي يعلى (ص 253). (¬2) هو: أبو عبد الله، سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، إمام الحفاظ، أمير المؤمنين في الحديث، ساد الناس في زمانه بالورع والعلم والتقوى، وانتفع بعلمه خلق كثير، توفي سنة 61 هـ. ينظر: حلية الأولياء (6/ 356) (7/ 144)، وفيات الأعيان (2/ 386 - 391)، السير (7/ 229 - 279). (¬3) هو: أبو محمد، سفيان بن عيينة الهلالي الكوفي، من كبار الأئمة، كان عالماً متقناً مجوداً، جمع وصنف، وانتهي إليه علو الإسناد، توفي سنة 198 هـ. ينظر: التاريخ الكبير (4/ 94 - 95)، وفيات الأعيان (2/ 391 - 393)، السير (8/ 454 - 475). (¬4) هو: أبو خالد، عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج القرشي الأموي، الإمام، الحافظ، صاحب التصانيف، وأول من دون العلم بمكة، توفي سنة 150 هـ. ينظر: الجرح والتعديل (5/ 356 - 358)، وفيات الأعيان (3/ 163 - 164)، السير (6/ 325 - 336). (¬5) هو: وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي، أبو سفيان، الرُّاسي الكوفي، الإمام الحافظ، محدث العراق، كان من بحور العلم وأئمة الحفظ، ثقةً مأموناً رفيعاً كثير الحديث حجة، توفي سنة 197 هـ، وقيل 196 هـ. ينظر: الجرح والتعديل (1/ 219)، والتاريخ الكبير (8/ 179)، والسير (9/ 140 - 171). (¬6) ينظر: صحيح البخاري (1/ 11). (¬7) تعليق الشيخ على الإحكام (1/ 64)

أحدهما: أن الإيمان والإسلام بمعنى واحد، وممن قال بهذا القول: البخاري (¬1)، ومحمد ابن نصر (¬2) (¬3)، وابن مندة (¬4)، وابن عبد البر (¬5) رحمهم الله جميعاً. وثانيهما: أن الإيمان والإسلام مفترقان، وهو قول كثير من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم (¬6)، واختاره الخلال (¬7) (¬8)، وابن بطة (¬9)، والخطابي (¬10)، واللالكائي (¬11) (¬12)، وأبو يعلى (¬13)، وأبو القاسم الأصبهاني (¬14) (¬15)، ¬

(¬1) صحيح البخاري (1/ 27)، وفي شرح مذهبه فتح الباري (1/ 114). (¬2) هو محمد بن نصر بن الحجاج المروزي، أبو عبد الله، من أئمة السلف وأعلامهم، من مؤلفاته: تعظيم قدر الصلاة، واختلاف الفقهاء، وقيام الليل وغيرها، توفي سنة 294 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (14/ 33)، وشذرات الذهب (2/ 216). (¬3) تعظيم قدر الصلاة (2/ 506 - 531). (¬4) الإيمان له (1/ 321). (¬5) ينظر: التمهيد (9/ 247، 250). (¬6) ينظر: السنة للخلال (3/ 602)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 812)، (¬7) هو أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخلال، أبو بكر، سلفي حنبلي، من أبرز علماء الحنابلة، من مؤلفاته: السنة، الجامع لعلوم أحمد، والحث على التجارة والصناعة والعمل، وغيرها، توفي سنة 311 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (14/ 297)، وشذرات الذهب (2/ 261). (¬8) ينظر السنة له (3/ 602). (¬9) ينظر: الشرح والإبانة (ص 182). (¬10) معالم السنن (4/ 315). (¬11) هو هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي اللالكائي، أبو القاسم، سلفي شافعي، من مؤلفاته: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وكرامات الأولياء وغيرها، توفي سنة 418 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (17/ 419)، وشذرات الذهب (3/ 211). (¬12) ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 812). (¬13) ينظر: مسائل الإيمان (ص 421 - 436). (¬14) هو إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي التيمي الأصبهاني أبو القاسم، المعروف بقوام السنة، سلفي شافعي، من مؤلفاته: الحجة في بيان المحجة، وشرح عقيدة أهل السنة، ودلائل النبوة، وسير السلف الصالحين وغيرها، توفي سنة 535 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (2/ 8)، شذرات الذهب (4/ 105). (¬15) ينظر: الحجة في بيان المحجة (1/ 406 - 407).

والبغوي (¬1)، وابن الصلاح (¬2)، وابن تيمية (¬3)، وابن كثير (¬4)، وابن رجب (¬5) رحم الله الجميع. واختلف القائلون بالتفريق بينهما في تحديد وجهه، والأكثر على أنه إذا قرن بينهما فإن الإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة والإيمان يفسر بالأعمال الباطنة، كما في حديث جبريل وغيره من الآيات والأحاديث التي قرنت بينهما. وأما إذا أفرد أحدهما فيدخل فيه الآخر، كما في حديث وفد عبد القيس (¬6) حيث فسر الإيمان بما فسر به الإسلام، وكما في حديث عمرو بن عبسة (¬7) حيث فسر الإسلام بما فسر به الإيمان. يقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: " اسم الإسلام والإيمان إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قرن بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه الآخر بانفراده ودل الآخر على الباقي، وقد صرح بهذا جماعة من الأئمة" (¬8). وهذا ما قرره واختاره الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -. ¬

(¬1) ينظر: شرح صحيح مسلم (1/ 145). (¬2) ينظر: شرح صحيح مسلم (1/ 148)، والإيمان لابن تيمية (ص 345). (¬3) ينظر: الإيمان له (ص 343، 349). (¬4) ينظر: تفسيره (4/ 230). (¬5) ينظر: جامع العلوم والحكم (1/ 105 - 108). (¬6) قال - صلى الله عليه وسلم -: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان ...) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان (1/ 41) برقم (53)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - (1/ 47 - 48) برقم (17). (¬7) قال عمرو بن عبسة - رضي الله عنه -: أي الإسلام أفضل: قال - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان)، قال: وما الإيمان؟ قال: (تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت) أخرجه عبد الرزاق (11/ 127) برقم (20107)، وأحمد (28/ 251 - 252) برقم (17027)،وأورده الهيثمي في المجمع (1/ 59) (3/ 207) وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2903). (¬8) جامع العلوم والحكم (1/ 106).

المطلب الثاني: جهوده في مسائل الكبائر

المطلب الثاني جهوده في مسائل الكبائر أولاً: تعريف الكبيرة: الكبيرة في اللغة: ضد الصغيرة. يقول ابن فارس: " الكاف والباء والراء أصل صحيح يدل على خلاف الصغيرة" (¬1). وهي مشتقة من الكُبْرِ وهو لا يخرج عن معنيين: أحدهما: العظمة. وثانيهما: الإثم الكبير (¬2). وأما في الاصطلاح: فقد اختلف أهل العلم في تعريفها اختلافاً كثيراً، وتعددت أقوالهم فيها، حتى زادت على العشرين (¬3). يقول ابن القيم - رحمه الله -: "وأما الكبائر فقد اختلف السلف فيها اختلافاً لا يرجع إلى تباين وتضاد، وأقوالهم متقاربة" (¬4). وجملة هذه الأقوال ترجع إلى أحد أمرين: أحدهما: تعريفها بالعد؛ وقد اختلفوا في عدها. ثانيهما: تعريفها بالحد؛ وقد اختلفوا في حدها (¬5). ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة (ص 915). (¬2) ينظر: تهذيب اللغة (4/ 3090)، الصحاح (2/ 801)، لسان العرب (5/ 125)، القاموس المحيط (ص 601). (¬3) ينظر: تفسير البغوي (2/ 201 - 204)، شرح صحيح مسلم (2/ 85 - 57)، مجموع الفتاوى (11/ 350) وما بعدها، مدارج السالكين (1/ 321 - 327). (¬4) مدارج السالكين (1/ 320). (¬5) مدارج السالكين (1/ 320).

ثانيا: حكم مرتكب الكبيرة

وأولى الأقوال بالصواب تعريف الكبيرة بالحد، وحدها: بأنها كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب. وما قاربه في المعنى (¬1). ثانياً: حكم مرتكب الكبيرة: يبين الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - عقيدة أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة، فيقول: " عقيدة أهل السنة والجماعة أن من مات من المسلمين مصراً على كبيرة من كبائر الذنوب كالزنى والقذف والسرقة يكون تحت مشيئة الله سبحانه إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه على الكبيرة التي مات مصراً عليها، ومآله إلى الجنة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: 48، وللأحاديث الصحيحة المتواترة الدالة على إخراج عصاة الموحدين من النار، ولحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا) وقرآ آية النساء (¬2) - يعني الآية المذكورة، وأكثر لفظ سفيان قرأ الآية: (فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب في ذلك شيئاً فعوقب فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئاً من ذلك فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) (¬3) " (¬4). اختلف الناس في مرتكب الكبيرة من جهتين: الأولى: اسمه. والثانية: حكمه. ¬

(¬1) وهذا القول هو المأثور عن أكثر السلف، واختاره جمع من المحققين من أهل العلم. ينظر: مجموع الفتاوى (11/ 650)، مدارج السالكين (1/ 327)، الكبائر للذهبي (ص 22)، الآداب الشرعية لابن مفلح (1/ 242)، شرح الطحاوية (2/ 525)، فتح الباري (12/ 188)، الذخائر (ص 121). (¬2) قال ابن حجر في فتح الباري (8/ 640): أي: آية بيعة النساء، وهي: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} الممتحنة: 12. اهـ. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة وبيعة العقبة، برقم (3892)، وقد رواه بغير هذا اللفظ من عدة طرق وأرقام الحديث (18، 3893، 6784، 7055)، 7199، 7213، 7468). (¬4) فتاوى اللجنة (1/ 728 - 729)، وينظر: (1/ 726 - 743).

فذهب الخوارج (¬1) والمعتزلة (¬2) إلى أنه في الآخرة خالدٌ في النار، واختلفوا في اسمه في الدنيا وحكمه فيها، فكفره الخوارج، وقال المعتزلة أنه في منزلة بين المنزلتين. وذهبت المرجئة إلى أن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، وأنه في الآخرة من أهل الجنة إذا مات موحداً مؤمناً وإن زنى وسرق وقتل (¬3). وتوسط أهل السنة والجماعة، فقالوا: إن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأن حكمه في الدنيا حكم بقية المسلمين، وهو في الآخرة إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له (¬4). ¬

(¬1) ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 168)، الملل والنحل (1/ 115)، مختصر تاريخ الإباضية، لأبي الربيع سليمان الباروني (ص 66)، ومشارق أنوار العقول لعبد الحميد حميد السالمي (2/ 312 - 315). (¬2) ينظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (ص 666). (¬3) ينظر: الملل والنحل (1/ 139 - 140)، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص 108). (¬4) ينظر: شرح السنة للبربهاري (ص 73)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 162، 175، 176)، شرح السنة للبغوي (1/ 103)، مجموع الفتاوى (3/ 151، 374) (4/ 307)، شرح الطحاوية (2/ 524)، عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني (ص 276).

المطلب الثالث: جهوده في مسائل الكفر والتكفير

المطلب الثالث جهوده في مسائل الكفر والتكفير أولاً: تعريف الكفر: الكفر لغة: مصدر كَفَرَ يَكْفُرُ كُفْراً (¬1). يقول ابن فارس: " الكاف والفاء والراء أصل صحيح يدل على معنى واحد، وهو الستر والتغطية ... والكفر: ضد الإيمان، سمي بذلك تغطية الحق" (¬2). وأما في الشرع: فالكفر ضد الإيمان (¬3)،وقيل: " جحد ما لا يتم الإسلام بدونه" (¬4). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " الكفر عدم الإيمان باتفاق المسلمين" (¬5). قال أهل السنة والجماعة بأن الكفر يكون بالاعتقاد، أو القول، أو العمل، أو بها جميعاً، وأن الكفر بالقول والعمل يقع بمجرده، دون اشتراط اقترانه بالتكذيب أو عدم الانقياد، أو كونهما علامة أو دليلاً عليهما (¬6). ¬

(¬1) ينظر: تهذيب اللغة (4/ 3160)، والصحاح (2/ 807)، ولسان العرب (5/ 144)، والقاموس المحيط (ص 605). (¬2) معجم مقاييس اللغة (ص 930 - 931). (¬3) ينظر: تعظيم قدر الصلاة (2/ 549)، والتبصير في معالم الدين لابن جرير (ص 162)، ومجموع الفتاوى (7/ 639) (12/ 335)، ومختصر الصواعق المرسلة (2/ 421). (¬4) العين وأثر في عقائد أهل الأثر لعبد الباقي المواهبي الحنبلي (ص 40)، وينظر: إيثار الحق على الخلق لابن الوزير (ص 376 - 377)، ونجاة الخلف في اعتقاد السلف لعثمان النجدي (ص 15). (¬5) مجموع الفتاوى (2/ 86). (¬6) ينظر: تعظيم قدر الصلاة (2/ 930)، ومجموع الفتاوى (7/ 220، 557 - 558)، والصارم المسلول (3/ 955) وما بعدها، والدرر السنية (10/ 149) وما بعدها، والتوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد لعلوي السقاف.

ثانيا: التحذير من التكفير بغير حق، وضرورة الاحتياط في الحكم به

ثانياً: التحذير من التكفير بغير حق، وضرورة الاحتياط في الحكم به: قال الشيخ - رحمه الله -: " لا يجوز نفي الإيمان عن المسلم، بل هو حرام؛ لما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلاَّ رجعت عليه) (¬1)، وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من دعا رجلاً بالكفر، أو يا عدو الله وليس كذلك إلاَّ حار (¬2) عليه) (¬3) " (¬4). وقال الشيخ - رحمه الله - معلقاً على قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الحجرات: 9 الآية: " دل ذلك على أن المؤمن لا يكفر بالذنب ضرورة، لأن الله سمى المقتتلين مؤمنين، وأخبر أنهم إخوة لمن يصلح بينهم ممن لم يشاركهم في القتال" (¬5). قال الشيخ - رحمه الله -: " تختلف كبائر الذنوب في فحشها وعظم جرمها: فمنها ما هو شرك، ومنها ما ليس بشرك، ومذهب أهل السنة والجماعة: أنهم لا يكفرون مسلماً بما كان منها دون الشرك ... ، أما ما كان من الكبائر مثل الاستعانة بغير الله كدعاء الأموات لتفريج الكربات والنذر للأموات والذبح لهم فهذه الكبائر وأمثالها كفر أكبر يجب البيان لمن ارتكبها وإقامة الحجة عليه، فإن تاب بعد البيان قبلت توبته وإلا قتله ولي أمر المسلمين لردته" (¬6). ¬

(¬1) أخرجه البخاري كتاب الأدب، باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال برقم (6104)، ومسلم كتاب الإيمان بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر برقم (60). (¬2) حار: بالحاء المهملة، أي رجع عليه، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)} الانشقاق: 14 أي يرجع. ينظر: المعجم الوسيط (1/ 205)، معجم مقاييس اللغة (2/ 117). (¬3) أخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم (1/ 80) برقم (61) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - به. (¬4) فتاوى اللجنة (2/ 140). (¬5) تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 95). (¬6) فتاوى اللجنة (2/ 136 - 137).

الكفر حكم شرعي متلقى من نصوص الشريعة، والحكم به بمحض العقل ومجرد الرأي من القول على الله بغير علم (¬1). ولهذا وردت النصوص بالتحذير من التكفير بغير حق، وضرورة الاحتياط في الحكم به. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)} النساء: 94. وقد بين الشيخ - رحمه الله - الأدلة من السنة في كلامه السابق. وقد ذكر الفقهاء من شتى المذاهب في كتبهم كتاب المرتد، وبينوا فيه من الأحكام المترتبة على الردة ما يؤكد خطورة التكفير، وضرورة الاحتياط في الحكم به (¬2). "ولهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله" (¬3). قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: " قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} الإسراء: 15. إخبار عن عدله تعالى وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه" (¬4). ¬

(¬1) ينظر: درء التعارض (1/ 242)، منهاج السنة (5/ 244)، ومختصر الصواعق المرسلة (2/ 421)، والعواصم والقواصم في الذب عن السنة لأبي القاسم محمد الوزير (4/ 178). (¬2) ينظر: بدائع الصنائع للكاساني (7/ 134)، وفتح القدير لابن الهمام (6/ 91)، وجامع الأمهات لابن الحاجب (ص 512)، والذخيرة للقرافي (12/ 13)، وروضة الطالبين (7/ 283)، وكنز الراغبين شرح منهاج الطالبين للمحلي (4/ 267)، والفروع لابن مفلح (6/ 164)، وكشاف القناع للبهوتي (6/ 167). (¬3) الرد على البكري لشيخ الإسلام (1/ 381). (¬4) تفسير ابن كثير (3/ 29) وما بعدها.

- عدم المؤاخذة قبل الإنذار

عدم المؤاخذة قبل الإنذار: قال الشيخ - رحمه الله -: " المسلمون لا يحكمون على غيرهم بأنهم في النار إلا بشرط وهو: أن يكونوا قد بلغهم القرآن أو بيان معناه من دعاة الإسلام بلغة المدعوين؛ لقوله الله - عز وجل -: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} الأنعام: 19، وقوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} الإسراء: 15، فمن بلغتهم الدعوة الإسلامية من غير المسلمين وأصر على كفره فهو من أهل النار لما تقدم من الآيتين، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلاَّ كان من أهل النار" (¬1)، والأدلة في هذا المعنى من الآيات والأحاديث كثيرة. أما الذين لم تبلغهم الدعوة على وجه تقوم به الحجة عليهم فأمرهم إلى الله - عز وجل -، والأصح من أقوال أهل العلم في ذلك: أنهم يمتحنون يوم القيامة فمن أطاع الأوامر دخل الجنة ومن عصى دخل النار" (¬2). الكفر حكم شرعي متلقى من نصوص الشريعة، والحكم به بمحض العقل ومجرد الرأي من القول على الله بغير علم (¬3). يقول الشاطبي (¬4) - رحمه الله -: " جرت سنته- سبحانه- في خلقه، أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل، فإذا قامت الحجة عليهم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولكلّ جزاء مثله؛ كما أنه تعالى أنزل القرآن برهاناً في نفسه على صحة ما فيه، وإقامة للحجة وزاد على يدي رسوله عليه الصلاة والسلام من المعجزات ما في بعضه كفاية" (¬5). ¬

(¬1) أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ... برقم (153). (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 496 - 497). (¬3) ينظر: الشفا للقاضي عياض (2/ 1065)، درء التعارض (1/ 242)، منهاج السنة (5/ 244)، مختصر الصواعق المرسلة (2/ 421). (¬4) هو: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، محدث، فيه أصولي لغوي، كان من أئمة المالكية، مات سنة (790 هـ)، وله مؤلفات منها: الموافقات، وكتاب الاعتصام. ينظر: معجم المؤلفين (1/ 77)، والأعلام (1/ 75). (¬5) الموافقات (3/ 377) بتصرف يسير.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "والذي عليه السلف والأئمة أن الله تعالى لا يُعَذِّب إلا من بلغته الرسالة، ولا يعذِّب إلا من خالف الرسل كما دلّ عليه الكتاب والسنة، ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال، والمجانين وأهل الفترات (¬1)، فهؤلاء فيهم أقوال، أظهرها ما جاءت به الآثار أنهم يمتحنون يوم القيامة، فيبعث إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب، وإن عصوه استحقوا العذاب" (¬2). ¬

(¬1) الفترة: هي ما بين كل نبييّن كانقطاع الرسالة بين عيسى عليه السلام ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. ينظر: تفسير ابن كثير (2/ 34). (¬2) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (1/ 310)، وينظر: طريق الهجرتين (ص 414)، ومدارج السالكين (1/ 188).

ثالثا: اعتبار المقاصد في التكفير

ثالثاً: اعتبار المقاصد في التكفير: الحكم بالكفر يتناول الظاهر والباطن للتلازم بينهما، وهو فرع عن القول بأن الإيمان اعتقاد وقول وعمل (¬1). ولهذا فإن الاعتقادات والأقوال والأعمال الكفرية من حيث هي قسمان (¬2): الأول: ما لا يحتمل إلا الكفر. كسب الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ودينه، وإهانة المصحف ونحو ذلك؛ فإن هذه الأعمال لا تحتمل إلا الكفر فلا ينظر إلى قصد من عملها ولا إلى نيته ولا إلى قرائن أحواله. قال الشيخ - رحمه الله -: "والردة هي الكفر بعد الإسلام، وتكون بالقول، والفعل، والاعتقاد، والشك، فمن أشرك بالله، أو جحد ربوبيته أو وحدانيته أو صفة من صفاته أو بعض كتبه أو رسله، أو سب الله أو رسوله، أو جحد شيئاً من المحرمات المجمع على تحريمها أو استحله، أو جحد وجوب ركن من أركان الإسلام الخمسة، أو شك في وجوب ذلك أو في صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء، أو شك في البعث، أو سجد لصنم أو كوكب ونحوه- فقد كفر وارتد عن دين الإسلام" (¬3). وقال الشيخ - رحمه الله - فيمن يعتقد تصرف أحد في الكون سوى الله: "من يعتقد ذلك كافر؛ لأنه أشرك مع الله غيره في الربوبية، بل هو أشد كفراً من كثير من المشركين الذين أشركوا مع الله غيره في الألوهية" (¬4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده. هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل" (¬5). ¬

(¬1) ينظر: ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة للدكتور عبد الله القرني (ص 212 - 217). (¬2) الصارم المسلول (3/ 955). (¬3) فتاوى اللجنة (2/ 6 - 7)، وينظر: (2/ 12 - 13، 15، 18،22، 24). (¬4) فتاوى اللجنة (1/ 58) وينظر: (2/ 25، 44، 65). (¬5) مجموع الفتاوى (7/ 616)، وينظر: شرح الأصفهانية (ص 142)، أعلام الموقعين (3/ 107).

ثانيا: ما يحتمل الكفر وعدمه

ويقول: " لو أخذ يلقي المصحف في الحش، ويقول أشهد أن ما فيه كلام الله، أو جعل يقتل نبياً من الأنبياء، ويقول أشهد أنه رسول الله، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذباً فيما أظهره من القول" (¬1). "والحكم بالكفر هنا إنما هو للفعل لا للفاعل، إذ لا يلزم من الحكم بكفر الفعل تكفير الفاعل؛ لكون تكفيره يتوقف على وجود الشروط وانتفاء الموانع" (¬2). ثانياً: ما يحتمل الكفر وعدمه: كالسجود لغير الله، وإفشاء سر المسلمين لعدوهم ونحو ذلك؛ فإن هذه الأعمال تحتمل الكفر وعدمه، فالمعتبر فيها قصد من عملها ونيته وقرائن أحواله. قال الشيخ - رحمه الله -: " كل من آمن برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وسائر ما جاء به في الشريعة إذا سجد بعد ذلك لغير الله من ولي وصاحب قبر أو شيخ طريق يعتبر كافراً مرتداً عن الإسلام مشركاً مع الله غيره في العبادة، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده؛ لإتيانه بما ينقض قوله من سجوده لغير الله. لكنه قد يعذر لجهله فلا تنزل به العقوبة حتى يعلم وتقام عليه الحجة ويمهل ثلاثة أيام؛ إعذارا إليه ليراجع نفسه، عسى أن يتوب، فإن أصر على سجوده لغير الله بعد البيان قتل لردته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) (¬3) " (¬4). فالسجود لغير الله يحتمل أن يكون عبادة وقربة، فهو حينئذ كفر، ويحتمل أن يكون تعظيماً وتحية، فهو حينئذ معصية؛ ولهذا لم يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفر معاذ - رضي الله عنه - بمجرد سجوده له، وإنما استفصل منه (¬5). ففي الحديث عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: (لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما هذا يا معاذ؟ قال: أتيت الشام فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 360). (¬2) آراء ابن حجر الهيتمي الاعتقادية (ص 697). (¬3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬4) فتاوى اللجنة (1/ 334 - 335). (¬5) ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 360).

رابعا: موانع التكفير

نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلا تفعلوا، فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) (¬1). رابعاً: موانع التكفير: يرى الشيخ - رحمه الله - أن الحكم بالكفر على من تلبس به يمنع منه موانع عدة قرر بعضها في كلامه. فقال - رحمه الله -: " الكفر في صفات الله تعالى هو إنكار ما علم ثبوته منها بعد البلاغ أو الإلحاد فيه بتحريف عن المقصود بدون شبهة يعذر بمثلها ... ومن خالف الحق في ذلك عناداً بعد البيان وإقامة الحجة فهو كافر غير معذور، ومن خالف في ذلك متأولاً لشبهة يعذر بمثلها فهو مخطىء معذور، ويؤجر على اجتهاده" (¬2). لما كان الحكم بالكفر يلزم منه لوازم عدة، ويبنى عليه أحكام كثيرة؛ ذكر أهل العلم ما يمنع منه، ويقدح في الحكم به، وبحثوا في ضوابط كل منها، وجملتها أربعة، هي: الجهل (¬3)، والخطأ (¬4)، والتأويل (¬5)، والإكراه (¬6). ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجة، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة (1/ 595) برقم (1853)، وأحمد (32/ 145) برقم (19403)، وقال الشوكاني في نيل الأوطار (6/ 360): إسناده صالح وله ما يشهد له فيتقوى به، وقال الألباني في إرواء الغليل (7/ 55): إسناده حسن. (¬2) فتاوى اللجنة (3/ 174). (¬3) ينظر: التمهيد (18/ 46 - 47)، مجموع الفتاوى (1/ 491)، (3/ 231)، (7/ 619)، (11/ 407 - 409)، (35/ 165)، ومدارج السالكين (1/ 367)، وفتح الباري (6/ 523)، والدرر السنية (10/ 432)، وفتاوى اللجنة الدائمة (1/ 220، 528) (2/ 96 - 99)، ومجموع فتاوى الشيخ ابن باز (2/ 528 - 530)، وفتاوى الشيخ ابن عثيمين (2/ 126 - 138)، ونواقض الإيمان الاعتقادية للدكتور محمد الوهيبي (1/ 225) وما بعدها. (¬4) ينظر: شرح صحيح مسلم (17/ 71)، وفتح الباري (13/ 29). (¬5) ينظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 510 - 511)، والشفا (2/ 1051 - 1065)، والدرة لابن حزم (ص 414)، ومجموع الفتاوى (3/ 231)، والعواصم والقواصم (4/ 176)، ومنهاج التأسيس والتقديس للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (ص 102)، والإرشاد في معرفة الأحكام (ص 209). (¬6) ينظر: تفسير القرطبي (10/ 182)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 56)، وجامع العلوم والحكم (2/ 370 - 371)، وفتح الباري (12/ 314)، وفتح القدير للشوكاني (3/ 197).

من يعذر لعدم البلاغ لا لمجرد الجهل

"فمن وقع في كفرٍ عملاً أو قولاً ثم أقيمت عليه الحجة وبُيِّن له أنَّ هذا كفرٌ يخُرج من الملة فأصَرَّ على فعله طائعاً غير مُكْرَهٍ، متعمّداً غير مخطئ ولا متأوّلٍ فإنَّه يكفر ولو كان الدافع لذلك الشهوة أو أيّ غرضٍ دنيويٍّ، وهذا ما عليه أهل الحق وعليه ظاهرين إلى قيام الساعة إن شاء الله" (¬1). "والمتأولون من أهل القبلة الذين ضلوا وأخطؤوا في فهم ما جاء في الكتاب والسنة مع إيمانهم بالرسول واعتقادهم صدقه في كل ما قال، وأن ما قاله كان حقاً والتزموا ذلك، لكنهم أخطؤوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية، فهؤلاء قد دل الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدين، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين، وأجمع الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعون ومن بعدهم من أئمة السلف على ذلك" (¬2). وضابط التأويل المعتبر الإعذار به شرعاً والمانع من الكفر ما كان تأويلاً سائغاً بخلاف ما هو دون ذلك، وهذا يختلف باختلاف ظهور المسائل، وصراحة أدلتها، وقوة التأويل فيها، وورود الشبهة عليها، وسلامة قصد المتأول، وامتلاكه آلة النظر (¬3). وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - جملة من المسائل التي يعذر بالتأويل فيها فيقاس عليها نحوها (¬4). - من يعذر لعدم البلاغ لا لمجرد الجهل: يقرر الشيخ - رحمه الله -: "بأنه لا يعذر المكلف بعبادة غير الله أو تقربه بالذبائح لغير الله أو نذره لغير الله ونحو ذلك من العبادات التي هي من اختصاص الله إلاَّ إذا كان في بلاد غير إسلامية ولم تبلغه الدعوة، فيعذر لعدم البلاغ لا لمجرد الجهل؛ لما رواه مسلم عن أبي هريرة ¬

(¬1) التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو العمل أو الاعتقاد، لعلوي بن عبد القادر السَّقَّاف (ص 14). (¬2) الإرشاد في معرفة الأحكام لابن سعدي (ص 207) (¬3) ينظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 510 - 511)، والشفا (2/ 1051 - 1065)، والدرة لابن حزم (ص 414)، ومجموع الفتاوى (3/ 231)، والعواصم والقواصم (4/ 176)، ومنهاج التأسيس والتقديس للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (ص 102)، والإرشاد في معرفة الأحكام (ص 209)، آراء ابن حجر الهيتمي الاعتقادية (ص 694). (¬4) ينظر: مجموع الفتاوى (20/ 33 - 36).

- رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة- أَي ممنْ هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلُّهم يجب عليه الدخول في طاعته - يهودي ولا نصراني ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النار) (¬1)، فلم يعذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من سمع به، من يعيش في بلاد إسلامية قد سمع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا يعذر في أصول الإيمان بجهله" (¬2). العذر بالجهل له اعتبار في مسألة التكفير بالنسبة لمن يغلب عليه التلبس به، كمن أسلم حديثاً، ومن نشأ في البادية ونحوهما. " لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيهُ أمته، ولا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القول بها فيما روى عنه العدول، فإن خالف بعد ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يقدر بالعقل، ولا بالروية والقلب والفكر، ولا نكفرّ بالجهل بها أحداً إلا بعد انتهاء الخبر إليه به" (¬3). قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} الإسراء: 15، وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} القصص: 59. وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} النساء: 165، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} إبراهيم: 4، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} التوبة: 115، وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ ¬

(¬1) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس ونسخ الملل، برقم (219). (¬2) فتاوى اللجنة (1/ 765). (¬3) مختصر العلو للذهبي (ص 177)، ينظر: إثبات صفة العلو لابن قدامة (ص 124) تحقيق بدر البدر، اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (ص 195)، المحلى لابن حزم (13/ 151)، خلق أفعال العباد للبخاري (ص 61).

قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} الأنعام: 155 - 157. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحجة لا تقوم إلا بعد العلم والبيان. وأما السنة: ولعل من أظهر الأدلة (¬1) في اعتبار الجهل عذراً، حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن رجلاً لم يعمل خيراً قط فقال لأهله إذا مات فأحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباَ لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل، فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم بين يديه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله له) (¬2). قال ابن قدامة المقدسي - رحمه الله -: " فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام، والناشئ بغير دار الإسلام، أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم: لم يحكم بكفره" (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "إني دائماً - ومن جالسني يعلم ذلك مني - من أعظم الناس نهياً عن أن يُنسب معيَّن إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله تعالى قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر، ولا بفسق، ولا بمعصية ... وكنت أبيِّن أن ما نُقل عن السلف والأئمَّة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا: فهو أيضاً حقٌّ، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين ... والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما ¬

(¬1) والأدلة هاهنا كثيرة، ولعلم من آكد هذه الأدلة حديث الذي أمر أهله بإحراقه والذي قال عنه ابن تيمية: "وهو حديث متواتر عن الني - صلى الله عليه وسلم -، رواه أصحاب الحديث والأسانيد من حديث أبي سعيد، وحذيفة، وعقبة بن عمرو، وغيرهم من وجوه متعددة". مجموع الفتاوى (12/ 491)، ينظر: مجموع الفتاوى (11/ 408، 409)، ومجموع الزوائد للهيتمي (10/ 194 - 196)، العواصم والقواصم لابن الوزير (4/ 175). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3478)، وأخرجه مسلم في كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله، برقم (2756). (¬3) المغني (8/ 131).

قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكن الرجل قد يكون حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً " (¬1). وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: " إن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام والذي نشأ ببادية، أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف (¬2) فلا يكفر حتى يعرف، وأما أصول الدين التي أوضحها الله كتابه فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة" (¬3). ويقول- في موضع آخر-: " إن الشخص المعّين إذا قال ما يوجب الكفر، فإنه لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي يخفى دليلها على بعض الناس وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة تدفع بها في نحر من كفرّ البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات، بعد بلوغ الحجة ووضح المحجة" (¬4). والحاصل أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفراً، كما يكون معذوراً بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقاً، وذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال أهل العلم، وهو مقتضى حكمة الله تعالى، ولطفه، ورأفته، فلن يعذب أحداً حتى يعذر إليه (¬5)، ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 229). (¬2) الصرف: صرف الرجل عما يهواه؛ كصرفه مثلاً عن محبة زوجته إلى بغضها. والعطف: عمل سحري كالصرف، ولكنه يعطف الرجل عما لا يهواه إلى محبته بطرق شيطانية. ينظر: فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (1/ 144)، التبيان شرح نواقض الإسلام للعلوان (1/ 33)، التمهيد لشرح كتاب التوحيد لصالح آل الشيخ (1/ 422). (¬3) مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (3/ 11). (¬4) الدرر السنية (8/ 244)، ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/ 54، 12/ 180)، الدرر السنية (1/ 66)، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (1/ 73، 74)، مجموع فتاوى ابن باز (4/ 26، 27). (¬5) قيام الحجة تقتضي الإدراك وفهم الدلالة، والإرشاد، وإن لم يتحقق توفيق أو انتفاع كما قال الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فصلت: 17. ينظر: نواقض الأيمان القولية والعملية، د. عبد العزيز العبد اللطيف (ص 74).

خامسا: الحكم فيمن رد السنة

والعقول لا تستقل بمعرفة ما يجب لله تعالى من الحقوق، ولو كانت تستقل بذلك لم تتوقف الحجة على إرسال الرسل. خامساً: الحكم فيمن رد السنة: قال الشيخ - رحمه الله -: " الحكم فيمن رد السنة جملة -أي كلها- فهو كافر، فمن لم يقبل منها إلا ما كان في القرآن فهو كافر لأنه معارض للقرآن ومناقض لآياته، والله تعالى يقول: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} آل عمران: 32، ويقول تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر: 7، ويقول تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} المائدة: 92 ... ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} النساء: 59، أي: تنازع الرعية، وأولو الأمر من العلماء والحكام {فِي شَيْءٍ} فردوه إلى الله والرسول، فلم يجعله إلى الله وحده، بل جعله إلى الله وإلى الرسول، ورده إلى الله رده إلى كتاب الله، ورده إلى الرسول بعد وفاته رده إلى سنته عليه الصلاة والسلام، فدعواه أنه يعمل بالقرآن عقيدة وعملاً وخلقاً ويرد السنة جملة -هذه الطائفة التي تسمى نفسها (القرآنية) - دعوة باطلة، وهو مناقض لنفسه لأنه كذب آيات القرآن التي فيها الأمر باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ ما جاء به، وطاعته فيما جاء به من عند الله عموماً دون أن يخص آيات القرآن، ثم هو في الوقت نفسه كيف يصلي؟ وكيف يحدد أوقات الصلوات؟، وكيف يصوم؟، وعن أي شيء يصوم؟، وتفاصيل الصيام كيف يعرفها؟، وكيف يحج بيت الله الحرام؟، فليس هناك إلا أركان محدودة من الحج في سورة البقرة، وكذلك أين نصب الزكاة؟ وكيف يزكي؟ " (¬1). ¬

(¬1) شبهات حول السنة للشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص 47 - 49).

ثم بين الشيخ - رحمه الله - أن من ادعى هذا فهو مناقض لنفسه فقال - رحمه الله -: " فمن يدعي هذا مغالط ومناقض لنفسه، ومناقض للقرآن؛ لأنه رد آياته الكثيرة التي ورد فيها الأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأخذ بما جاء به، ومناقض لإجماع المسلمين ولإجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فإنهم جميعاً لم يشذ واحد منهم عن الأخذ بالسنة، فإذاً هو كافر بالقرآن وإن ادّعى أنه مؤمن به، والكافر بآية منه كالكافر بكل آياته، كافر بالإجماع منكر له أي: إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فما فيهم واحد شذ عن السنة وأنكرها جملة، وإذا أنكر أحدهم شيئاً فإنها ينكر حديثاً من جهة الراوي لا من جهة أنه كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أي: السنة. وهذا أيضاً لا يقوى على أن يقوم بالصلوات الخمس على وجهها المعلوم من الدين بالضرورة، فصلاة العصر أربع ركعات، وصلات الصبح ركعتان لا يجد هذا في كتاب الله فمن أين جاء هذا؟ ما جاء إلا من تعليم جبريل للرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وتعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، فمن أين يأتي بهذا؟ فهذا مجمل الرد عليه، وإثبات أنه كافر بالقرآن كافر بالإجماع اليقيني، كافر بالمعلوم من الدين بالضرورة، من مثل أن ركعات الظهر أربع، والعصر أربع، والعشاء أربع، والمغرب ثلاث، والصبح ركعتان، وكافر أيضاً بتفاصيل الصيام لأنها ليست في القرآن، وهي معلومة من الدين بالضرورة، فلذلك كان كافراً" (¬2). قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يوشك أن يقعد الرجل متكئاً على أريكته، يحدث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه) (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة برقم (32211)، ومسلم في كتاب المساجد ووضع الصلاة باب أوقات الصلوات الخمس برقم (610)، من حديث أبي مسعود قلت أما حديث تعليم جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول نزل جبريل فأمني فصليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه يحسب بأصابعه خمس صلوات. (¬2) شبهات حول السنة (ص 47 - 49) وينظر (ص 51). (¬3) أخرجه أحمد في مسند الشاميين برقم (16722)، وأبو داود في كتاب السنة باب في لزوم السنة برقم (4640)، والحاكم في كتاب العلم، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع برقم (8186).

سادسا: الحكم بغير ما أنزل الله

وقد ظهرت جماعة يسمون أنفسهم القرآنيين، يقرءون القرآن الكريم وينكرون السنة النبوية بالكلية، والحق أنهم منكرون للقرآن الكريم قبل إنكار السنة؛ فمنكر السنة منكر للقرآن بلا ريب؛ إذ كيف يصلي وكم صلاة يصليها، وما أركان الصلاة، وما سننها ومبطلاتها؟ وكيف يزكي وكيف يصوم وكيف يحج؟ وأنكر بعض المعاصرين السنة القولية، وأقر السنة العملية. وأنكر بعض المعاصرين ممن ليس لهم اختصاص بالسنة أحاديث الشفاعة، وأولوا الآيات القرآنية الصريحة في الشفاعة، والبعض الآن يتكئ على أريكته وينفخ أوداجه ثم يضعف أحاديث الشيخين البخاري ومسلم التي أجمعت الأمة على صحتها (¬1). سادساً: الحكم بغير ما أنزل الله: يرى الشيخ - رحمه الله - أن النظم التي وضعت ليتحاكم إليها الناس، مضاهاة لتشريع الله داخلة في معنى الطاغوت، فقال: " معنى الطاغوت العام: هو كل ما عبد من دون الله مطلقاً تقرباً إليه بصلاة أو صيام أو نذر أو ذبيحة أو لجوء إليه فيما هو من شأن الله لكشف ضر أو جلب نفع أو تحكيماً له بدلاً من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك. والمراد بالطاغوت في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)} النساء: 60، كل ما عدل عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى التحاكم إليه من نظم وقوانين وضعية أو تقاليد وعادات متوارثة أو رؤساء قبائل ليفصل بينهم بذلك، أو بما يراه زعيم الجماعة أو الكاهن. ومن ذلك يتبين: أن النظم التي وضعت ليتحاكم إليها مضاهاة لتشريع الله داخلة في معنى الطاغوت، لكن ¬

(¬1) ينظر: موسوعة الدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن نايف الشحود (6/ 39)،رد شبهات حول عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ضوء السنة النبوية الشريفة لعماد السيد محمد إسماعيل الشربينى (1/ 529)، عدالة الصحابة ن ودفع الشبهات لعماد الدين الشربيني (1/ 1).

من عبد دون الله وهو غير راض بذلك كالأنبياء والصالحين لا يسمى طاغوتاً، وإنما الطاغوت: الشيطان الذي دعاهم إلى ذلك وزينه لهم من الجن والإنس" (¬1). الأصل في الحكم بغير ما أنزل الله قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} المائدة: 44. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو، عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله، فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرها، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله سبحانه وتعالى كسوالف البادية، وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر، فإن كثيراً من الناس أسلموا، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله، فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله، فهم كفار، وإلا كانوا جهالاً" (¬2). ولابن القيم - رحمه الله - تفصيل في الحكم بغير ما أنزل الله، أوضحه بقوله: " والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين: الأصغر والأكبر، حسب حال الحاكم. فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه، مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر. وإن جهله وأخطأه، فهذا مخطئ، له حكم المخطئين" (¬3). قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله -: " فانظر كيف سجل تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله، الكفر والظلم والفسوق، ومن الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ولا يكون كافراً، بل كافر مطلقاً: إما كفر عمل، وإما كفر ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (1/ 784 - 794). (¬2) منهاج السنة (5/ 130). (¬3) مدارج السالكين (1/ 346).

سابعا: تكفير المعين وغير المعين

اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهم - في تفسير هذه الآية (¬1) من رواية طاووس وغيره يدل على أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة" (¬2). سابعاً: تكفير المعين وغير المعين: يقول الشيخ - رحمه الله -: " تكفير غير المعين مشروع بأن يقال: من استغاث بغير الله فيما دفعه من اختصاص الله كافر، كمن استغاث بنبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء أن يشفيه أو يشفي ولده مثلاً. وتكفير المعين إذا أنكر معلوماً من الدين بالضرورة؛ كالصلاة، أو الزكاة أو الصوم بعد البلاغ واجب، وينصح، فإن تاب وإلاَّ وجب على ولي الأمر قتله كفراً، ولو لم يشرع تكفير المعين عندما يوجد منه ما يوجب كفره ما أقيم حد على مرتد عن الإسلام" (¬3). مذهب أهل السنة وسط بين من يقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، وبين من يكفر المسلم بكل ذنب دون النظر إلى توفر شروط التكفير وانتفاء موانعه، فهم يطلقون التكفير على العموم، ولكن تحقق التكفير على المعين لا بد له من توفر شروط، وانتفاء موانع، أما تكفير غير المعين فمشروع. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر قولاً يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية ... ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه ... " (¬4). ¬

(¬1) ينظر: جامع البيان في تأويل القرآن (4/ 592 - 597)، والجامع لأحكام القرآن (6/ 190 - 191)، ومدارج السالكين (1/ 344 - 346). (¬2) تحكيم القوانين (ص 13). (¬3) فتاوى اللجنة (2/ 140). (¬4) مجموع الفتاوى (35/ 165) باختصار، وينظر: مجموع الفتاوى (3/ 354).

ومواقف السلف من أحاديث الوعيد لمن ارتكب الكبائر وعدم إنفاذها على الأعيان مستفيضة مشهورة (¬1)، أمَّا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع في إلحاق التكفير بالمعين فإنه يطلق عليه ويستتاب فإن تاب وإلاّ قتل. وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفراً فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قال ذلك لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا كما هو في نصوص الوعيد، فإن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} النساء: 10، فهذا أو نحوه من النصوص حق لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار، لجواز أن لا يلحقه وعيد لفوت شرط أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، ونحو ذلك. وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، أو لم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، أو لم يفهمها لشبهة عرضت له يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء في المسائل النظرية أو العملية. هذا الذي عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجماهير أئمة الإسلام" (¬2). ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى (20/ 278 - 289)، والرد على البكري (1/ 382). (¬2) مجموع الفتاوى (3/ 230 - 231)، وينظر: الاستقامة لابن تيمية (1/ 163 - 165)، وبغية المرتاد لابن تيمية (ص 353 - 354)، ومنهاج السنة (2/ 604)، ومنهج ابن تيمية في مسألة التكفير للمشعبي (1/ 193) وما بعدها.

المبحث الثالث: جهوده في تقرير الولاء والبراء.

المبحث الثالث جهوده في تقرير الولاء والبراء. أولاً: تعريف الولاء والبراء. الولاء في اللغة: المحبة؛ والى فلان فلاناً: إذا أحبه؛ والموالاة ضد المعاداة (¬1). الولاء في الاصطلاح: الولاية هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطناً (¬2). البراء في اللغة: برئ إذا تخلص، وبرئ إذا تنزه وتباعد، وبرئ إذا أعذر وأنذر (¬3). البراء في الاصطلاح: هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار (¬4). شرح تعريف الولاء والبراء: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " الولاية: ضد العداوة. وأصل الولاية: المحبة والتقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد ... والولي: القريب، يقال: هذا يلي هذا: أي يقترب منه، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) (¬5).أي لأقرب رجل إلى البيت. فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معادياً له ... فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه" (¬6). ¬

(¬1) ينظر: لسان العرب (3/ 985 - 986)، والقاموس المحيط (4/ 294). (¬2) ينظر: من مفاهيم عقيدة السلف الصالح الولاء والبراء في الإسلام لمحمد سعيد القحطاني (ص 98 - 90)، والإيمان لنعيم ياسين (ص 145). (¬3) ينظر: لسان العرب (1/ 183)، والقاموس المحيط (1/ 8). (¬4) ينظر: من مفاهيم عقيدة السلف الصالح الولاء والبراء في الإسلام لمحمد سعيد القحطاني (ص 90). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الفرائض باب ميراث الولد من أبيه وأمه برقم (6732)، ومسلم في كتاب الفرائض باب ألحقوا الفرائض بأهلها ... برقم (1615). (¬6) الفرقان لابن تيمية (ص 7).

ثانيا: تقرير الولاء والبراء

ثانياً: تقرير الولاء والبراء. قال الشيخ - رحمه الله -: " الولاء والبراء أصل من أصول الإسلام، وهما مظهران من مظاهر إخلاص المحبة لله، ثم لأنبيائه وللمؤمنين. والبراء: مظهر من مظاهر كراهية الباطل وأهله. وهذا أصل من أصول الإيمان وأما أهميته بالنظر للوقت الحاضر: فلأنه قد اختلط الحابل بالنابل!، وغفل الناس عن مميزات المؤمنين التي يتميزون بها عن الكافرين، وضعُف الإيمان في قلوبهم حتى ظهرت فيهم مظاهر يكرهها المؤمن. والوا الكافرين أمما ودولاً، وزهدوا في كثير من المؤمنين، وحطوا من قدرهم وساموهم سوء العذاب" (¬1). وعلق الشيخ - رحمه الله - على قوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الفتح: 29، بقوله: " دلَّ ذلك على ما كان عليه سلف الأمة من الولاء للمؤمنين، ووجوب التراحم بينهم، والبراء من الكافرين، وإعلانهم العداوة والبغضاء، وذلك خلاف ما عليه المسلمون اليوم" (¬2). قال الشيخ - رحمه الله -: " نهى الله تعالى المؤمنين أن يوالوا اليهود وغيرهم من الكفار ولاء ود ومحبة وإخاء ونصرة، وأن يتخذوهم بطانة ولو كانوا غير محاربين للمسلمين، قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} المجادلة: 22، وما في معناه من نصوص الكتاب والسنة" (¬3). قال الشيخ - رحمه الله -: " لا يجوز للمسلم أن يشارك الكفار في أعيادهم ويظهر الفرح والسرور بمناسباتهم ويعطل الأعمال سواء كانت دينية أو دنيوية، لأن مشاركتهم مشابهة لأعداء الله المحرمة، ومن التعاون معهم على الباطل، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 116، 117)، وينظر: المرجع السابق (ص 172، 173). (¬2) تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 92). (¬3) فتاوى اللجنة (2/ 64).

(من تشبه بقوم فهو منهم) (¬1)، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} المائدة: 2" (¬2). 1 - أهمية الولاء والبراء. إن الولاء والبراء شرط في الإيمان، كما قال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} المائدة: 80 - 81. يقول ابن تيمية عن هذه الآية: " فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط، وجد المشروط بحرف (لو) التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودلّ ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه ... " (¬3). والولاء والبراء أوثق عرى الإيمان، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله) (¬4). يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (¬5): " فهل يتم الدين أو يقام علم الجهاد، أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله، والمعاداة في الله والموالاة في الله، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة، ومحبة من غير عداوة ولا ¬

(¬1) أخرجه أحمد (2/ 50، 92)، وأبو داود في كتاب اللباس باب في لبس الشهرة برقم (4031)، وصححه الألباني في غاية المرام برقم (109)، وفي الإرواء برقم (1269). (¬2) فتاوى اللجنة (2/ 73)، ينظر: المرجع السابق (2/ 74 - 78) (2/ 95 - 100). (¬3) الإيمان (ص 14). (¬4) أخرجه أحمد برقم (18053). (¬5) هو: سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، أحد أئمة الدعوة السلفية النجدية، محدث فقيه، من مؤلفاته: تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد، حاشية على المقنع في الفقه، الدلائل في عدم موالاة أهل الإشراك، توفي سنة 1233 هـ. ينظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون للبسام (2/ 341)، وعلماء الدعوة لعبد الرحمن آل الشيخ (ص 37).

بغضاء، لم يكن فرقان بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" (¬1). يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (¬2): " وأصل الموالاة الحب، وأصل المعادة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة، ونحو ذلك من الأعمال" (¬3). 2 - مشاركة الكفار في أعيادهم. أما تهنئتهم بشعائر الكفر المختصة بهم فحرام بالاتفاق، وذلك مثل أن يهنأهم بأعيادهم فيقول: عيدك مبارك، أو تهنأ بهذا العيد، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الزنا ونحوه. وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنباً لمقت الله وسقوطهم من عينه، وإن بلي الرجل فتعاطاه دفعاً لشر يتوقعه منهم فمشى إليهم ولم يقل إلا خيراً ودعا لهم بالتوفيق والتسديد فلا بأس بذلك (¬4). ¬

(¬1) رسالة أوثق عرى الإيمان (ص 38). (¬2) هو: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، النجدي الأزهري، من أعلام الدعوة السلفية الإصلاحية في نجد، من مؤلفاته: منهاج التأسيس في كشف شبهات داود بن جرجيس، ومصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام، وعيون المسائل وغيرها، توفي سنة 1293 هـ. ينظر: علماء الدعوة لعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ (ص 47)، الأعلام (4/ 182). (¬3) الدرر السنية (2/ 157). (¬4) أحكام أهل الذمة لابن القيم (1/ 205 - 206).

- معاملة الذمي

معاملة الذمي: قال الشيخ - رحمه الله -: " الطريقة المثلى في معاملة المسلمين للذمي: الوفاء له بذمته؛ للآيات والأحاديث التي أمرت بالوفاء بالعهد، وبره ومعاملته بالعدل، بقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} الممتحنة: 8، ولين القول معه، والإحسان إليه عموماً إلاَّ فيما منع منه الشرع، كبدئه بالسلام، وتزويجه المسلمة، وتوريثه من المسلم، ونحو ذلك مما ورد النص بمنعه" (¬1). يعلم أن الولاء شيء والمعاملة شيء آخر والأصل في هذا قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} الممتحنة: 8، وقد اختلف أهل العلم في تفسيرها على أقوال عدة: وأقربها ما رجحه ابن جرير: أن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم. لأن الله - عز وجل - عم بقوله: {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} الممتحنة: 8، جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضاً دون بعض (¬2). والإسلام بفعله هذا - حتى في حالة الخصومة- يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك، وعدالة المعاملة انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع (¬3). قال فضيلة الشيخ عبد العزيز الراجحي حفظه الله: " الكافر الذِّمِّيّ الذي له عهد، بيننا وبينه عهد أو صلح، أو دخل إلى البلاد بذمة أو عهد وما أشبه ذلك، فهؤلاء لا يجوز ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (2/ 94). (¬2) تفسير الطبري (28/ 66). (¬3) ينظر: في ظلال القرآن (6/ 3544).

قتلهم، ولا أخذ أموالهم، بل إن ذلك فيه الوعيد الشديد، قال - صلى الله عليه وسلم -: (من قتل معاهداً لم يَرُحْ رائحة الجنة) (¬1)، فمن كبائر الذنوب، فليس كل كافر يحل دمه وماله إنما هذا الكافر الحربي الذي بيننا وبينه حرب، وبيننا وبينه سلاح، هذا حلال دمه وماله" (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجزية، باب إثم من قتل معاهداً بغير جرم برقم (3166). (¬2) شرح رسالة كتاب الإيمان للإمام أبو عبيد القاسم بن سلام شرحها الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي في دورة علمية وهي مفرقة على المكتبة الشاملة (1/ 307).

الباب الثاني: منهج الشيخ وجهوده في الرد على المخالفين

الباب الثاني: منهج الشيخ وجهوده في الرد على المخالفين. وفيه تمهيد وثلاثة فصول:

تمهيد

تمهيد

في التعريف بأهل السنة والجماعة وتميزهم عن الفرق. أولاً: التعريف بأهل السنة والجماعة: السنة في اللغة: السيرة والطريقة محمودةً كانت أو مذمومة. قال ابن فارس - رحمه الله -: " السين والنون أصل واحد مطرد، وهو جريان الشيء واطراده في سهولة، والأصل قولهم: سننت الماء على وجهي أسنُّه سناً، إذا أرسلته إرسالاً ... ومما اشتق منه: السنة، وهي السيرة. وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سيرته" (¬1). قال ابن الأثير (¬2) - رحمه الله -: " وقد تكرر في الحديث ذكر (السنة) وما تصرف منها، والأصل فيها الطريقة والسيرة" (¬3). أما السنة في الاصطلاح فلها عدة إطلاقات (¬4) والذي يهمنا هنا اصطلاح (السنة) حينما يقال: "أهل السنة" في مجال العقائد، خاصة لما حدث الافتراق في الأمة الإسلامية، يقول ابن رجب - رحمه الله -: " وعن سفيان الثوري - رحمه الله - قال: استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء" (¬5)، ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان عليها هو وأصحابه، السالمة من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفضيل بن عياض (¬6) - رحمه الله - يقول: " أهل السنة من ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة (3/ 60، 61) مادة (سن)، وينظر: الصحاح للجوهري (5/ 1238 - 2140)، ولسان العرب (13/ 220 - 228). (¬2) هو: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري ثم الموصلي، ولد سنة (544 هـ)، كان فقيهاً محدثاً أديباً نحوياً ورعاً عاقلاً، ذا برِّ وإحسان، توفي بالموصل - رحمه الله - سنة (606 هـ)، وله مصنفات بديعة منها جامع الأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والنهاية في غريب الحديث. ينظر: وفيات الأعيان (4/ 7)، والسير (21/ 488)، وشذرات الذهب (5/ 22). (¬3) النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 223). (¬4) السنة لها اصطلاحات عدة: فعند المحدثين، ينظر: فتح الباري (13/ 245)، والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للسباعي (ص 47)، ودراسات في الحديث النبوي للأعظمي (1/ 1)؛ وعند علماء أصول الفقه، ينظر: الموافقات للشاطبي (4/ 3)، والنهاية لابن الأثير (2/ 409)؛ وعند الفقهاء، ينظر: إرشاد الفحول للشوكاني (ص 31)؛ وتطلق في مقابل البدعة، ينظر: الموافقات (4/ 4)؛ وقد تطلق السنة على كل ما دل عليه دليل شرعي، ينظر: السنة للسباعي (ص 48)، والموافقات (4/ 4 - 6). (¬5) أحرجه اللالكائي في شرح السنة برقم (49). (¬6) هو: الفضيل بن عياض بن مسعود أبو علي التميمي الخراساني، الإمام القدوة الثبت الزاهد العابد، أحد أعلام التصوف في القرن الثاني الهجري، ولد سنة (107 هـ) بسمرقند ونشأ بأبيورد، وسكن مكة حتى توفي بها سنة (187 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء (8/ 421)، وتقريب التهذيب (ص 448)، طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي، (ص 22 - 27)، دار الكتب العلمية، ط 2003.

عرف ما يدخل في بطنه من حلال" (¬1)، وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصال السنة التي كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -. ثم صار في عرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم: السنة عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات خاصة في مسائل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر، وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السنة، وإنما خصوا هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا هلكة، وأما السنة الكاملة فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات" (¬2). وقد عرف الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - أهل السنة والجماعة في الاصطلاح، فقال: " هم من كانوا على مثل ما كان عليه محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، فهؤلاء هم أهل السنة والجماعة" (¬3) (¬4). ¬

(¬1) أحرجه بلفظ مقارب اللالكائي في شرح السنة برقم (51)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 104). (¬2) كشف الكربة (ص 19 - 20)، وللاستزادة: موقف ابن تيمية من الأشاعرة للدكتور عبد الرحمن المحمود (1/ 25). (¬3) فتاوى اللجنة (2/ 230)، وينظر: المرجع السابق (2/ 240). (¬4) ينظر: شرح السنة للالكائي (1/ 83) برقم (160)، والحوادث والبدع لأبي شامة (ص 22).

ثانياً: تميز أهل السنة والجماعة عن بقية الفرق: قال الشيخ - رحمه الله -: " كان الناس أمة واحدة على الحق بما أودع الله فيهم من فطرة الإسلام، وبما عهد إليهم من الهدى والبيان، فلما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، فاجتالتهم الشياطين عن الصراط المستقيم ... إلا أنه سبحانه جرت سنته، واقتضت حكمته، أن يقيض للحق في كل عصر جماعة تقوم عليه، وتهدي الناس إليه، إنجازاً للوعد بحفظ دينه، وإقامةً للحجة، وإسقاطاً للمعاذير، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} الحجر: 9، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) (¬1).وفي رواية، قالوا: يا رسول الله! من الفرقة الناجية؟ قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). وفي رواية، قال: (هي الجماعة يد الله على الجماعة). وقد تبين من ذلك أن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، وإن شعارها كتاب الله، وهدي رسوله، عليه الصلاة والسلام وما كان عليه سلف الأمة الذين يؤمنون بمحكم النصوص، ويعملون بها، ويردون إليه ما تشابه منها. وأما الفرق الضالة، فشعارها مفارقة الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، واتباع الأهواء، وشرع ما لم يأذن به الله من البدع والآراء الزائفة بناءً على أصول وضعوها، يوالون عليها، ويعادون، فمن وافقهم عليها، أثنوا عليه وقرّبوه، وكان في زعمهم من أهل السنة والجماعة، ومن خالفهم تبرأوا منه ونبذوه، وناصبوه العداوة والبغضاء، وربما رموه بالكفر، والخروج من ملة الإسلام لمخالفته لأصولهم الفاسدة" (¬2). ¬

(¬1) أحرجه ابن ماجة في سننه في كتاب الفتن باب افتراق الأمم برقم (3992)، وابن حبان في كتاب التاريخ، ذكر افتراق اليهود والنصارى فرقا مختلفة برقم (6247)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجة برقم (3992)، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1429). (¬2) مذكرة التوحيد للشيخ (ص 109 - 116)، وينظر: تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 93)، تعليق الشيخ على الإحكام (4/ 129)، فتاوى اللجنة (2/ 292 - 293).

وقد تميز أهل السنة والجماعة عن بقية الفرق بميزات عديدة منها (¬1): (أولاً) - اقتصارهم في مصدر التلقي على الوحي: كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة، والتحذير من مخالفتها. ويكون ذلك: - الاعتقاد الجازم بأنه لا يتحقق رضا الله تبارك وتعالى والفوز بجنته والنجاة من عذابه إلا بالإيمان بهما والعمل بما جاءا به (¬2). - الاعتقاد بأن هذا الدين كامل، والله تبارك وتعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} المائدة: 3، ومسألة كمال الدين من المسائل المهمة في بيان منهج السلف رحمهم الله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فكل ما يحتاج الناس إليه في دينهم، فقد بيّنه الله ورسوله بياناً شافياً، فكيف بأصول التوحيد والإيمان" (¬3). - وجوب تقديم الشرع على العقل عند توهم التعارض، وإلاّ ففي حقيقة الواقع لا يمكن أن يتعارض النقل الصحيح مع العقل الصريح (¬4). - الأدب مع نصوص الكتاب والسنة، وذلك بأن تراعى ألفاظهما عند بيان العقيدة، وأن لا تستخدم الألفاظ والمصطلحات الموهمة غير الشرعية (¬5). ¬

(¬1) ينظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (1/ 51 - 71) بتلخيص واختصار مع بعض الزيادات ويراجع للاستزادة. (¬2) ينظر: أصول السنة لابن زمنين (ص 1)، درء التعارض (1/ 277)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/ 228)، الأحكام لابن حزم (1/ 99). (¬3) ينظر: تفسير سورة الإخلاص، ضمن مجموع الفتاوى (17/ 443). (¬4) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 141)، الصواعق المرسلة (2/ 741،742)، قواعد المنهج السلفي مصطفى حلمي (253 - 257). (¬5) ينظر: درء التعارض (5/ 86)، نقض التأسيس (2/ 110).

(ثانياً) - عدم الخوض في علم الكلام والفلسفة، والاقتصار في بيان وفهم العقيدة على ما في الكتاب والسنة، وتجلى هذا في التالي: - الحرص على العلم النافع مع العمل، قال معروف الكرخي - رحمه الله - (¬1): " إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل وإذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل" (¬2). وللعلم النافع علامات ذكرها بعض العلماء (¬3). - النهي عن البدع، ومن ذلك علم الكلام، وقد كان موقف السلف واضحاً ومشهوراً من علم الكلام، وموقف السلف من علم الكلام كان لأسباب (¬4) وليس هذا موطن بسطه وتسطيره. - الرد على المنحرفين وأصحاب الأهواء بمنهج متميز، فالسلف رحمهم الله لما حذروا من المنطق ومن علم الكلام لم يكتفوا بهذا، وإنما ردوا وناقشوا أصحاب البدع بالأدلة النقلية والعقلية المبنية على الكتاب والسنة. والسلف رحمهم الله لم ينهوا عن جنس النظر والاستدلال، ولكن معارضتهم تركزت على الأساليب الكلامية المبنية على غير الكتاب والسنة (¬5). ¬

(¬1) هو: معروف بن فيروز أو فيرزان، أبو محفوظ البغدادي الكرخي، أحد الزهاد، مدحه الإمام أحمد. توفي سنة (200 هـ). سنة الولادة ينظر: كتاب مناقب معروف الكرخي وأخباره لابن الجوزي، وتاريخ بغداد (13/ 199)، وطبقات الحنابلة (1/ 381)، وسير أعلام النبلاء (9/ 339). (¬2) أحرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 361)، وابن الجوزي في مناقب معروف الكرخي (122 - 123). (¬3) ينظر: بيان فضل علم السلف على الخلف لابن رجب (51 - 54). (¬4) ينظر: بيان فضل علم السلف لابن رجب (55 - 58)، ومنهج علماء الحديث والسنة مصطفى حلمي (60 - 61)، ومنطق ابن تيمية (ص 277). (¬5) ينظر: قواعد المنهج السلفي مصطفى حلمي (ص 85)، منهج علماء الحديث والسنة له (ص 40).

(ثالثاً) - حجية السنة في العقيدة ومن ذلك خبر الآحاد، وهذا من القواعد الكبرى في منهج السلف رحمهم الله وتميزوا بها عن كثير من أهل الأهواء والبدع؛ والقول بأن أخبار الآحاد لا تفيد العلم ومن ثم فلا يحتج بها في العقيدة بدعة كبرى تلقفها أو أحدثها المعتزلة (¬1). قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " أحاديث الآحاد الصحيحة قد تفيد اليقين إذا احتفت بالقرائن وأفادت غلبة الظن وعلى كلتا الحالتين يجب الاحتجاج بها في إثبات العقيدة وسائر الأحكام الشرعية ولذلك أدلة كثيرة ... منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل آحاداً الناس بكتبه (¬2) إلى ملوك الدول ووجهائها ككسرى وقيصر يدعوهم فيها إلى الإسلام عقيدته وشرائعه ولو كانت الحجة لا تقوم عليهم بذلك لكونهم أحاداً ما اكتفى بإرسال كتابه مع واحد لكونه عبثاً ... " (¬3) (¬4). (رابعاً) - أن الصحابة أعلم الناس بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعقيدة، لذلك فأقوالهم وتفاسيرهم للنصوص حجة لأنهم رضي الله عنهم قد اكتمل فيهم الفهم والمعرفة لأصول الدين التي دل عليها كتاب الله المنزل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) ينظر: الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص 72)، والتمهيد لابن عبد البر (1/ 2)،شرح الكوكب المنير لابن النجار الفتوحي (2/ 352)،ولوامع الأنوار البهية (1/ 19)، والمسودة في أصول الفقه لآل تيمية (ص 248)،ومجموع الفتاوى (20/ 259 - 263)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (2/ 540 - 543)،ومذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (104 - 105)، شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (ص 769). (¬2) ينظر: في ذلك كتاب أخبار الآحاد من صحيح البخاري (13/ 244). (¬3) مجموعة ملفات الشيخ (ص 160)، ينظر: شبهات حول السنة للشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 27 - 33). (¬4) ولذلك أدلة كثيرة ذكرها أبو محمد على بن حزم في مباحث السنة من كتاب الأحكام في أصول الأحكام (2/ 78 - 88)، وذكرها ابن القيم في كتابه الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (1/ 75) وما بعدها، والشافعي في الجزء الثالث من كتابه الرسالة فصل في " الحجة في تثبيت خبر الواحد" (1/ 401) وما بعدها.

ولمكانة الصحابة عند السلف حرصوا على تدوين أقوالهم وآرائهم في مختلف المسائل، فقد روى صالح بن كيسان (¬1) قال: " اجتمعت أنا والزهري (¬2) -ونحن نطلب العلم- فقلنا: نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ثم قال الزهري: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة. قال: فقلت أنا: لا، ليس بسنة، لا نكتبه. قال: فكتب ولم أكتب، فأنجح وضيعت" (¬3). (خامساً) - التسليم لما جاء به الوحي، مع إعطاء العقل دوره الحقيقي، وعدم الخوض في الأمور الغيبية مما لا مجال للعقل فيه، فالسلف رحمهم الله لم يلغوا العقل كما يزعم خصومهم من أهل الكلام، أو من لا خبرة له بمذهب السلف من غيرهم، كما أنهم لم يحكموه في جميع أمورهم كما فعل أهل الضلال، وإنما وزنوا الأمر بموازين الشرع (¬4). (سادساً) - لم يكونوا يتلقون النصوص ومعهم أصول عقلية يحاكمون النصوص إليها، كما فعل المعتزلة وغيرهم الذين وضعوا أصولاً عقلية، ثم لما جاءوا إلى القرآن والسنة وما فيهما من دلالات في الاعتقاد، نظروا فما وجدوه موافقا لتلك الأصول العقلية أخذوا به، وما وجدوه مخالفا لشيء منها أولوه أو أنكروا الاحتجاج به. ¬

(¬1) هو: صالح بن كيسان المدني، أبو محمد أو أبو الحارث، مؤدب أولاد عمر بن عبد العزيز، ثقة، ثبت، فقيه، مات بعد سنة: 140 هـ. ينظر: تهذيب تاريخ دمشق (6/ 380)، وتذكرة الحفاظ (1/ 148)، وسير أعلام النبلاء (5/ 454)، والتقريب (1/ 362)، وطبقات الحفاظ (ص 63). (¬2) هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله، أبو بكر القرشي الزهري المدني، فقيه حافظ متقن، توفي سنة 125 هـ. ينظر: طبقات ابن سعد الجزء المتمم (ص 157)، وفيات الأعيان (4/ 177)، وغاية النهاية في طبقات القراء (2/ 262)، وسير أعلام النبلاء (5/ 326)، والوافي للصفدي (5/ 24)، وتهذيب التهذيب (9/ 445). (¬3) أحرجه عبد الرزاق في المصنف (11/ 258) ورقمه (20487)، وابن سعد في الطبقات (2/ 388)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 360). (¬4) ينظر: المدرسة السلفية لمحمد بن عبد الستار نصار (ص 478).

(سابعاً) - الرجوع إلى جميع النصوص الواردة في مسألة معينة، وعدم الاقتصار على بعضها دون البعض الآخر، وهذا ناشئ من أنهم لا يفرقون بين النصوص وليس لديهم أصول عقلية متقررة سلفا عندهم ليأخذوا من النصوص ما وافقها ويدعوا ما خالفها، فمذهبهم هو الوسط فلا يسلكون مثل هذا المنهج، بل يأخذون بجميع النصوص. (ثامناً) - التزام العدل والإنصاف مع أعدائهم، فهم يعترفون بما عند الخصوم من حق، ولا يعميهم ما يجدونه عندهم من ضلال فيصدهم عن قول الحق فيهم، أو يدعوهم إلى رميهم بما ليس فيهم من الباطل. (تاسعاً) - لا يتعصبون لشخص إلاّ للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فعندهم أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلاّ الهادي البشير عليه الصلاة والسلام، لأنه الذي لا ينطق عن الهوى. (عاشراً) - موقفهم من الفرق الإسلامية، إقرار من كان منهم موافقاً للكتاب والسنة، والإنكار على من كان مخالفاً للكتاب والسنة. قال الشيخ - رحمه الله -: " نقرهم -أي أصحاب الفرق- على ما وافقوا فيه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وننكر عليهم ما خالفوا فيه الكتاب والسنة" (¬1). ثم قال - رحمه الله -: " الجماعات الإسلامية تدخل في الفرقة الناجية، إلاَّ من أتى منهم بمكفر يخرج عن أصل الإيمان، لكنهم تتفاوت درجاتهم قوة وضعفاً بقدر إصابتهم للحق وعملهم به وخطئهم في فهم الأدلة والعمل، فأهداهم أسعدهم بالدليل فهماً وعملاً، فاعرف جهات نظرهم، وكن مع أتبعهم للحق وألزمهم له، ولا تبخس الآخرين إخوانهم في الإسلام فترد عليهم ما أصابوا فيه من الحق، بل اتبع الحق حيثما كان ولو ظهر على لسان من يخالفك في بعض المسائل، فالحق رائد المؤمن، وقوة الدليل من الكتاب والسنة هي الفيصل بين الحق والباطل" (¬2). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (306). (¬2) ينظر: فتاوى اللجنة (2/ 238، 240).

الفصل الأول: منهجه في الرد على المخالفين

الفصل الأول: منهجه في الرد على المخالفين وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول مصادر الشيخ عبد الرزاق عفيفي في ذكر الفرق وتاريخها

المبحث الأول مصادر الشيخ عبد الرزاق عفيفي في ذكر الفرق وتاريخها. قد سلك الشيخ - رحمه الله - مسلك التوثيق في ذكر الفرق وقد أحال في كثير من كلامه على الفرق إلى الكتب الآتي ذكرها:- 1. (مقالات الإسلاميين) لأبي الحسن الأشعري (¬1). 2. (الفرق بين الفرق) لعبد القاهر البغدادي (¬2) (¬3). 3. (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم (¬4) (¬5). ¬

(¬1) هو: علي بن إسماعيل بن سالم بن إسماعيل الأشعري أبو الحسن، شيخ الأشاعرة وإمامهم، مر بثلاثة أطوار في حياته: طور انتحل فيه الاعتزال، وطور سلك فيه مسلك ابن كلاب، وطور نهج فيه منهج السلف مع لوثة اعتزالية، ومن مؤلفاته: مقالات الإسلاميين، الإبانة، اللمع وغيرها، توفي سنة (234 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء (15/ 85)، شذرات الذهب (2/ 303). (¬2) ينظر لإحالة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: تعليقه على الإحكام (1/ 180)، (2/ 246)، (3/ 138).فتاوى اللجنة (2/ 299،374). (¬3) هو: أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي الفقيه الشافعي، نزل خراسان، وأحد أعلام الشافعية، كان علامة ماهراً في فنون كثيرة، وله مصنفات في النظر والعقليات، ومن مصنفاته: أصول الدين، والفرق بين الفرق، توفي سنة (429 هـ). ينظر: وفيات الأعيان (3/ 174)، والسير (17/ 572)، والبداية والنهاية (12/ 48). (¬4) ينظر لإحالة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: فتاوى اللجنة (2/ 299،374). (¬5) هو: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي اليزيدي، فقيه محدث متكلم، له مؤلفات كثيرة، منها: الفصل في الملل والأهواء والنحل، والدرة فيما يجب اعتقاده، والمحلى، توفي سنة (456 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء (18/ 184)، شذرات الذهب (3/ 299).

4. (الملل والنحل) للشهرستاني (¬1) (¬2). 5. (منهاج السنة) لابن تيمية (¬3). 6. (مجموع الفتاوى) لابن تيمية (¬4). 7. (الإيمان) لابن تيمية (¬5). 8. (مدارج السالكين) لابن القيم (¬6). 9. (المنتقى) للذهبي (¬7). 10. (الميزان) للذهبي (¬8). ¬

(¬1) ينظر لإحالة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: تعليقه على الإحكام (1/ 229)، (2/ 7)، (3/ 138)، فتاوى اللجنة فتاوى اللجنة (2/ 299 - 300، 374). (¬2) هو: محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني، أشعري متكلم، له مصنفات منها: نهاية الإقدام في علم الكلام، الملل والنحل، مصارعة الفلاسفة، توفي سنة (548 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء (20/ 286)، شذرات الذهب (4/ 149). (¬3) ينظر لإحالة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: فتاوى اللجنة (2/ 299،375). (¬4) ينظر لإحالة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: مجموعة ملفات الشيخ (ص 155). (¬5) ينظر لإحالة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: تعليقه على الإحكام (2/ 246). (¬6) ينظر لإحالة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: فتاوى اللجنة (2/ 264). (¬7) ينظر لإحالة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: فتاوى اللجنة (2/ 374، 375). (¬8) ينظر لإحالة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: تعليقه على الإحكام (1/ 180).

11. (لسان الميزان) لابن حجر (¬1). 12. (كتاب الخطوط العريضة) لمحب الدين الخطيب (¬2) (¬3). 13. (مختصر التحفة الاثني عشرية) للدهلوي (¬4) (¬5). 14. (هذه هي الصوفية) لعبد الرحمن الوكيل (¬6) (¬7). ¬

(¬1) ينظر لإحالة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: تعليقه على الإحكام (1/ 229). (¬2) ينظر لإحالة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: فتاوى اللجنة (2/ 374، 375). (¬3) هو: محب الدين بن أبي الفتح بن عبد القادر بن صالح بن عبد الرحيم بن محمد الخطيب، أصل أسرته من بغداد من ذرية الشيخ عبد القادر الجيلاني، تولى تحرير " مجلة الأزهر " ست سنوات، وأنشأ المطبعة السلفية ومكتبتها، فأشرف على نشر عدد كبير من كتب التراث وغيرها، توفي سنة (1389 هـ)؛ وله من التصانيف: "الخطوط العريضة لدين الإثنى عشرية" الذي بين فيه كذب الروافض على الله وعلى رسوله وعلى كتابه وعلى آل البيت الطاهرين، الرعيل الأول في الإسلام، اتجاه الموجات البشرية في جزيرة العرب، ذكرى موقعة حطين، وغيرها. ينظر: الأعلام (5/ 282)، تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع الهجري» فكري فيصل - دمشق 1986 (2/ 847 - 862). (¬4) ينظر لإحالة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: فتاوى اللجنة (2/ 299،374، 375). (¬5) هو: هو المحدث الشاه عبدالعزيز غلام حكيم الدهلوي، المتوفى 1239 هـ، له من المصنفات: "بستان المحدثين"، و"العجالة النافعة" في مهمات علم الحديث، و"تحفة الاثنا عشرية" نقله إلى العربية: السيد محمود شكري الألوسي، وحققه: محب الدين الخطيب وغيرها. وهو ابن المحدث الإمام الشاه ولي الله الدهلوي، المتوفى سنة 1176 هـ، إمام نهضة الحديث في الهند. ينظر: مختصر التُحفة الاثنى عشرية لشاه عبدالعزيز غلام حكيم الدهلوي رحمه الله على شبكة سحاب السلفية http://www.sahab.net. (¬6) ينظر لإحالة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: فتاوى اللجنة (2/ 264). (¬7) هو: الشيخ عبد الرحمن بن عبد الوهاب الوكيل عين نائبًا للشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - بعد انتخابه كرئيس عام لجماعة أنصار السنة المحمدية في (22 صفر 1379 هـ 27 أغسطس 1959 م)، وبعد سفر الشيخ عبد الرزاق عفيفي إلى السعودية انتخب رئيساً عاماً للجماعة في (15 محرم 1380 هـ الموافق 9 يوليو 1960 م) وانتخب الدكتور محمد خليل هراس نائبًا له، ثم انتدب الشيخ الوكيل بعد ذلك للتدريس في كلية الشريعة بمكة المكرمة، وظل يشغل وظيفة أستاذ للعقيدة بقسم الدراسات العليا إلى أن توفي في (22 جمادى الأولى 1390 هـ) بمكة ودفن في الحجون، من مؤلفاته: هذه هي الصوفية، صوفيات، الصفات الإلهية، حقق كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية، مصرع التصوف للإمام البقاعي وغيرها. ينظر: عبد الرحمن الوكيل http://ar.wikipedia.org.

المبحث الثاني: طريقته في الكلام على الفرق

المبحث الثاني طريقته في الكلام على الفرق. من سمات منهج الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - في الكلام على الفرق، ما يلي: 1 - الإيجاز والاختصار في حكاية الآراء، ونقل الأقوال والروايات، والاقتصار في معظمها على موطن الشاهد منها، دون سردها كاملة، بل قد يشير إلى الرواية أو الحادثة إشارة دون ذكرها، كما يظهر ذلك في طائفة: الخوارج والفرق التابعة لها، والمعتزلة، والصوفية وغيرها. 2 - التعقيب على الآراء في بعض الفرق نحو: المعتزلة، والشيعة، والإسماعيلية، ... وغيرها، فلم يقتصر دور المؤلف في تلك الطوائف على العرض فقط، بل عقب على الآراء بما يراه ويعتقده، سواء كان نقداً، أو مناقشة، أو بيان ما يلزم منها، أو مقارنتها بغيرها من آراء الطوائف الأخرى، بل الأديان والمذاهب المنحرفة، والإشارة إلى أنها مصدر بعض تلك الآراء، وغير ذلك من التعقيبات. 3 - ذكر ما يجمع الطائفة الواحدة من مسائل وآراء، قبل الخوض في تفصيل آراء كل فرقة منها، وهذا في بعض الطوائف: كالخوارج، والدروز وغيرهم. 4 - الاقتصار - غالباً- في بيان الرد على الآراء التي تفردت بها الطائفة، وتميزت بها عن غيرها، فيورد آراء أتباعها في تلك المسائل، نحو الجبرية في مسائل أفعال العباد والقدر، والصفاتية في مسائل الصفات، والخوارج والشيعة في مسائل الإمامة وما يتعلق بها، والمرجئة في مسائل الإيمان، ونحو ذلك وهذا المنهج سار عليه في الجملة، وقد يسترسل حينا في بعض الطوائف، فيورد آراء أتباعها في غير تلك المسائل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

5 - حين يورد أدلة طائفة ما، يقدم الأدلة المقدمة لدى الطائفة نفسها، مثل طريقة المتكلمين وغيرهم والأشعرية ما ثبت بالعقل بذكر الأدلة العقلية، وما ثبت بالسمع بذكر الأدلة النقلية، ونحو ذلك. 6 - العناية بتعريف بعض أسماء الفرق، كالخوارج والشيعة والمعتزلة وغيرهم، فقد عرف بتلك الأسماء وبين المراد منها. 7 - في معرض رده على بعض الفرق يبين أخطاءهم ومخالفتهم لأهل السنة والجماعة مثل صنيعه مع الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم. 8 - بيانه لحكم الإسلام في بعض الفرق مثل الدروز والنصيرية والقادرية وغيرهم. 9 - خص الشيخ عبد الرزاق: بعض مؤسسي الفرق بالحديث وبيان خللهم مثل حديثه عن عبد القادر الجيلاني وجمال الدين الأفغاني. 10 - دعوته إلى الاعتدال فقد دعا إلى عدم إعطاء العقل أكبر مما يستحق فيرد به الشرع. وأخيراً هذه سمات منهج الشيخ - رحمه الله - في كلامه على الفرق بوجه عام، وقد يخالف أو يغاير بعضها في بعض الطوائف، أما منهجه في مناقشتها فهو كما يلي.

المبحث الثالث: منهجه في مناقشتها

المبحث الثالث منهجه في مناقشتها. منهج الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - هو منهج متميز استقاه من هدي الكتاب والسنة وطريقة أهل العلم. فكان مما تميز به أسلوب الشيخ في النصيحة والردود العلمية: أولاً: العدل والإنصاف، إذ مقياسهُ في ذلك القرآن والسنة؛ ومما يذكر في هذا، قوله - رحمه الله -: "وهؤلاء الذين خرجوا عن أهل السنة والجماعة في مسائل من أصول الدين، ففيهم من السنة بقدر ما بقي لديهم مما وافقوا فيه الصحابة - رضي الله عنهم - وأئمة الهدى من مسائل أصول الإسلام، وفيهم من البدع والخطأ بقدر ما خالفوهم فيه من ذلك قليلاً كان أو كثيراً، وأقربهم إلى أهل السنة والجماعة أبو الحسن الأشعري ومن تبعه عقيدة واستدلالاً" (¬1)، ومن ذلك قوله - رحمه الله -: " إن القول بسقوط التكاليف أو بوحدة الوجود يؤمن به بعض الصوفية لا كلهم" (¬2). ثانياً: الاعتماد في أسلوب المناقشة على إيراد الأدلة الشرعية والعقلية التي تؤيد ما يعتقده، فقد سلك طريقة التوثيق، ويبين أحياناً الحكم في بعض المسائل، ويتضح هذا في ردود الشيخ - رحمه الله -، ومن ذلك رده على ما يعتقده الملحدون، فيقول: " وجود الله معلوم من الدين بالضرورة، وهو صفة لله بإجماع المسلمين، بل صفة لله عند جميع العقلاء حتى المشركين لا ينازع في ذلك إلا ملحد دهري، ولا يلزم من إثبات الوجود صفة لله أن يكون له موجد؛ لأن الوجود نوعان، وجود ذاتي ... ، ووجود حادث" (¬3)؛ ومن ذلك أيضاً، رده - رحمه الله - على من أنكرت أركان الإسلام، فقال: " من أنكر وجحد شيئاً من أركان الإسلام أو من واجبات الدين المعلومة بالضرورة فهو كافر ومارق من دين الإسلام" (¬4). ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ (ص 157). (¬2) مجموعة ملفات الشيخ (ص 220). (¬3) فتاوى اللجنة (3/ 190). (¬4) فتاوى اللجنة (2/ 494).

ثالثاً: التواضع وخفض الجناح وعدم الاستعلاء والتكبر والترفع في مخاطبة المخطئ، فلم يُحفظ عن الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - شيء من قبيل الاستعلاء والتكبر. رابعاً: الرحمة والشفقة بالخلق، ومحبة الخير والنصح لهم، ومن ذلك قوله - رحمه الله -: "لا يغترَ إنسان بما آتاه الله من قوة في العقل وسعة في التفكير، وحصيلة في العلم، فيجعل عقله أصلاً، ونصوص الكتاب والسنة الثابتة فرعاً، فما وافق منهما عقله قبله واتخذه ديناً وما خالفه منهما لوى به لسانه وحرفه عن موقعه، وأوله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره ... ثقة بعقله ... واتهاماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... إلخ" (¬1). خامساً: القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصح للخلق، وعدم المجاملة أو المحاباة في ذلك، ومما يذكر في ذلك، ردهُ - رحمه الله - على من لا يرى اتباع الشريعة الإسلامية، بقوله: " من اعتقد أن هناك أحداً يسعه الخروج من اتباع شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر يخرج من ملة الإسلام، وشريعته هي القرآن الذي أوحاه الله إليه، قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} الإسراء: 106، ومن الشريعة: السنة النبوية التي هي تبيين وتفصيل للقرآن، قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)} النحل: 64" (¬2). سادساً: إحياؤه لسنة الرد على المخالفين - رحمه الله -، مع تقيده بالأدب النبوي الكريم، فجمع في ذلك بين هدي السلف في الردود على المخالف وبين التأدب بآداب السنة النبوية المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، إذ المراد هو التصويب، وإرشاد ذلك المخطئ وليس التشفي وإسقاط الآخرين، وهذا يتضح في جهوده في بيان الفرق والمذاهب المعاصرة بجلاء (¬3). ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ (ص 40 - 41).وينظر: مجموعة ملفات الشيخ (88 - 89) و (127 - 128)، وشبهات حول السنة (58) وما بعدها. (¬2) فتاوى اللجنة (2/ 394). (¬3) ويتضح جلياً جميع ما ذكر من منهج الشيخ - رحمه الله - في فصول ومباحث (منهج الشيخ وجهوده في الرد على المخالفين).

سابعاً: في معرض رد الشيخ - رحمه الله - على الخطأ يعقبه بذكر مذهب السلف الصحيح فيه، ومن ذلك قوله - رحمه الله - في رده على من قال بتناسخ الأرواح: "ما ذكر من أن الروح تنتقل من إنسان إلى آخر ليس بصحيح، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)} الأعراف: 172، وجاء تفسير هذه الآية فيما رواه مالك في موطئه أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سُئل عن هذه الآية السابقة، فقال عمر - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسال عنها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون) (¬1)، قال ابن عبد البر: معنى هذا الحديث، قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة - رضي الله عنهم - أجمعين وغيرهم. وقد أجمع أهل السنة والجماعة على ذلك وذكروا: أن القول بانتقال الروح من جسم إلى آخر هو قول أهل التناسخ وهم من أكفر الناس، وقولهم هذا من أبطل الباطل" (¬2). ويتضح مما سبق أن منهج الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - واضحاً في التحقيق العلمي والأسلوب الرفيع المقنع. ¬

(¬1) أحرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (311)، وأبو داود برقم (4703)، والترمذي برقم (5071)، والحاكم في المستدرك (1/ 27)، قال الألباني صحيح، إلا مسح الظهر ينظر: صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4703)، وتخريجه للطحاوية برقم (266). (¬2) فتاوى اللجنة (2/ 434 - 435).

الفصل الثاني: جهوده في بيان الفرق والمذاهب المعاصرة

الفصل الثاني: جهوده في بيان الفرق والمذاهب المعاصرة

التمهيد

التمهيد بين الشيخ عبد الرزاق عفيفي سبب ضلال الفرق، فقال - رحمه الله - محذراً: " لا يغترَ إنسان بما آتاه الله من قوة في العقل وسعة في التفكير، وحصيلة في العلم، فيجعل عقله أصلاً، ونصوص الكتاب والسنة الثابتة فرعاً، فما وافق منهما عقله قبله واتخذه ديناً وما خالفه منهما لوى به لسانه وحرفه عن موقعه، وأوله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره ... ثقة بعقله ... واتهاماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... واتهاماً لثقات الأمة وعدولها، الذين نقلوا إلينا نصوص الشريعة ووصلت إلينا عن طريقهم قولاً وعملاً ... فأي عقل من العقول يجعل أصلاً يحكم في نصوص الشريعة فترد أو تنزل على مقتضاه فهما وتأويلاً، أعقل الخوارج في الخروج على الولاة، وإشاعة الفوضى وإباحة الدماء، أم عقل الجهمية في تأويل نصوص الأسماء والصفات وتحريفها عن مواضعها وفي القول بالجبر، أم عقل المعتزلة ومن وافقهم في تأويل نصوص أسماء الله وصفاته ونصوص القضاء والقدر وإنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، أم عقل الغلاة في إثبات الأسماء والصفات والغلاة في سلب المكلفين المشيئة والقدرة على الأعمال، أم عقل من قالوا بوحدة الوجود ... إلخ" (¬1). لا شك أن سبب ضلال الفرق على وجه العموم هو عدولهم عن الصراط المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه. قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الأنعام: 153. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطّاً وقال: (هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن يساره وقال: هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه)، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ...} الأنعام: 153 (¬2). ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ (ص 40 - 41).وينظر: مجموعة ملفات الشيخ (88 - 89) و (127 - 128)، وشبهات حول السنة (58) وما بعدها. (¬2) أحرجه النسائي في كتاب التفسير باب قوله تعالى (وأن هذا صراطي مستقيما) برقم (11110)، والحاكم في كتاب التفسير باب أنا وأصحابي حيز والناس حيز لا هجرة بعد الفتح برقم (3241) (2/ 348) وقال حديث صحيح الإسناد، وصححه الألباني في تخريجه لأحاديث الطحاوية (ص 587).

وعموماً فإن الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم تشعبت بهم الطرق، فهناك أهل الوهم (¬1) والتخييل (¬2) (الفلاسفة)، وهناك أهل التحريف والتأويل كالمعتزلة وغيرهم من علماء الكلام، وهناك أهل التجهيل (¬3) والتضليل (¬4) الذين ادعوا أن النصوص الشرعية من قرآن وسنة يراد بها خلاف مدلولها الظاهر وأن المراد الخفي لا يعلمه غيرهم وإلى هذا الصنف تنتمي الباطنية، وما كل ذلك إلا أنهم أقحموا العقل فيما ليس له. ولقد اعتبر الإسلام العقل ولم يلغه، فمن مظاهر اعتباره للعقل وعدم إلغائه له أن أطلق له العنان في التفكير فيما يدركه ويشاهده، ومنعه من التفكير والتخبط فيما لا يدركه ولا يقع تحت حسه من المغيبات التي لا يمكن أن يصل في تفكيره فيها إلى نتيجة (¬5). وقد جاء عن السلف رحمهم الله قولهم: " العقل نوعان: عقل أعين بالتوفيق، وعقل كيد بالخذلان. فالعقل الذي أعين بالتوفيق: يدعو صاحبه إلى موافقة أمر الأمر المفترض الطاعة، والانقياد لحكمه، والتسليم لما جاء عنه ... والعقل الذي كيد: يطلب بتعمقه الوصول إلى علم ما ¬

(¬1) الوَهْمُ: مِنْ خَطَرات القلْبِ، والجمع: أوهامٌ، كما في المحكم، أو هو: (مَرْجوحُ طَرَفي المُتَرَدَّدِ فيه)، وقال الحكماء: هو قوة جسمانية للإنسان محلُّها آخر التَّجويفِ الأوسط من الدِّماغ، من شأنها إدراكُ المعاني الجُزئيَّة المتعلِّقَة بالمحسوسات، كشجاعة زيدٍ، وهذه القُوةُ هي التي تَحْكُم في الشَّاة بأن الذِّئب مهروبٌ منه، وأن الولد معطوفٌ عليه، وهذه القوَّة حاكمةٌ على القوى الجُسمانية كلها، مستخدمةٌ، وهو أضعف من الظن. ينظر: التعريفات للجرجاني (ص 329)، تاج العروس (34/ 62)، المغرب في ترتيب المعرب للمطرزي (2/ 374)، كتاب الكليات لأيوب الكفومي (ص 943). (¬2) التخييل: تَصوِيرُ خَيالِ الشيء في النَّفْس، ومنه قوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)} طه: 66. ينظر: لسان العرب (11/ 231)، مختار الصحاح (ص 82)، تاج العروس (28/ 450). (¬3) التجهيل: هو النسبة إلى الجهل والمجهلة بوزن المرحلة الأمر الذي يحمل على الجهل ومنه قولهم الولد مجهلة، والجهل ضد العلم. ينظر: لسان العرب (11/ 129)، مختار الصحاح (ص 49). (¬4) التضليل: تصيير الإنسان إلى الضلال، والتّضلال كالتّضليل، ورجلٌ ضِلِّيل: كثير الضّلال ومضلَّلٌ لا يوفَّق لخير. ينظر: المخصص لأبي حسن علي بن إسماعيل النحوي (4/ 50)، لسان العرب (11/ 349)، كتاب الكليات (ص 44). (¬5) ينظر: لمكانة العقل في الإسلام في كتاب موقف المتكلمين للغصن (1/ 262 - 273).

استأثر الله بعلمه، وحجب أسرار الخلق عن فهمه، حكمة منه بالغة؛ ليعرفوا عجزهم عن درك غيبه، ويسلموا لأمره طائعين ... " (¬1). فللعقول حد، إن وقفت عنده نجت وسلمت، وإن تعدته ضلت وعطبت. يقول السفاريني - رحمه الله -: " إن الله تعالى خلق العقول وأعطاها قوة التفكير، وجعل لها حداً تقف عنده من حيث ما هي مفكرة، لا من حيث ما هي قابلة للوهب الإلهي، فإذا استعملت العقول أفكارها فيما هو في طورها وحدها، ووفت النظر حقه أصابت بإذن الله تعالى، وإذا سلطت الأفكار على ما هو خارج عن طورها، ووراء حدها الذي حده الله لها، ركبت متن عمياء، وخبطت خبط عشواء ... " (¬2). وإذا جعلنا العقل هو الأصل فأي عقل من العقول يجعل أصلاً يحكم في نصوص الشريعة فترد أو تنزل على مقتضاه فهما وتأويلاً. ولقد أحسن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في قوله: " ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين لهذا الباب في أمر مريج، فإن من أنكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أن لله علماً وقدرة وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل. ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل بل منهم من يزعم أن العقل جوز وأوجب ما يدّعي الآخر أن العقل أحاله فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة، فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد لجدل هؤلاء. وكل من هؤلاء مخصوم بما خصم به الآخر وهو من وجوه: أحدها: بيان أن العقل لا يحيل ذلك. ¬

(¬1) نقله قوام السنة عن ابن السمعاني في الحجة (ص 187). (¬2) لوامع الأنوار البهية (1/ 105).

والثاني: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل. والثالث: أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول جاء بها بالاضطرار كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويل القرامطة والباطنية في الحج والصلاة والصوم وسائر ما جاءت به النبوات. الرابع: أن يبين أن العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص وإن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن درك التفصيل وإنما يعلمه مجملا إلى غير ذلك من الوجوه على أن الوجوه الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية. وإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه ومن المعلوم للمؤمنين أن الله تعالى بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا" (¬1). ومن البدهي لدى كل مسلم أن الإسلام - عقيدة وسلوكا - هو الميزان الصحيح الحكم، والحكم العدل في تقويم الأديان والمذاهب، والحكم على مدى استقامة الأمم والشعوب أو انحرافها. وعلى هذا فإن المتأمل لحال البشرية الدينية اليوم يرى أن الناس على أربعة أصناف: الصنف الأول: مسلم متمسك بدينه معتصم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، يؤمن بالله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على هدى من دين الله وبصيرة. وهؤلاء رغم قلتهم منتشرون - بحمد لله - في سائر المعمورة يربطهم رباط العقيدة الصحيح وأخوة الإيمان، وهم الطائفة التي عناها رسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله في الحديث الصحيح عن جماعة من الصحابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) (¬2).والمقصود بأمر الله هنا: قيام الساعة كما هو صريح في أحاديث أخرى: (حتى تقوم الساعة) (¬3). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (5/ 28 - 30). (¬2) أحرجه مسلم في صحيحة في كتاب الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، برقم (1920). (¬3) أحرجه ابن ماجة في كتاب المقدمة باب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم (6)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (270)، وفي صحيح وضعيف سنن ابن ماجة برقم (6).

ومن كان من هذه الطائفة؛ سَعُد في الدنيا والآخرة بنعمة الإسلام والإيمان {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الكهف: 28. الصنف الثاني: المنتمون للإسلام وهم على شيء من الانحراف والضلال أو على الكفر أو الجهل، وهم مع الأسف كثير ممن يدعي الإسلام من الصوفية، والرافضة، والباطنية، والنصيرية، وأصحاب المبادئ والاتجاهات الهدامة: كالاشتراكية، والبعثية، والقومية، والعلمانية، وسواهم من ذوي الانحراف العقدي والعملي. وهؤلاء هم الذين استثنى منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الطائفة المنصورة الظاهرة على الحق رغم قلتها. وهؤلاء دعاة شر على أبواب جهنم، ويملكون من الأساليب والوسائل الجذابة والخادعة ما يشكل خطرا على شباب المسلمين الذين لم يتسلحوا بالعقيدة الإسلامية الصافية التي تحصنهم. الصنف الثالث: أتباع الديانات الضالة: وهؤلاء: إما كتابيون، وهم الذين ينتمون إلى الأديان المنزلة من الله في أصلها ولكن دخلها التحريف والشرك ثم نسخت، وهم اليهود والنصارى. وإما وثنيون يتبعون دينا مبتدعا يقوم في أصله على الشرك والوثنية وتقديس المخلوقات، كالبراهمة والبوذيين والكنفوشسيين والمجوس وأكثر الفلاسفة، وهذا الصنف كافر صريح الكفر، وعلى المسلم أن لا يرتبط معهم بأخوة أو مودة أو ولاء؛ لأنهم محادون لله ورسوله. الصنف الرابع: الملاحدة: وهم الذين لا يدينون بدين، أو يتبعون مذاهب تجحد وجود الخالق سبحانه وتعالى، وهم بعض الفلاسفة والدهريون والشيوعيون وبعض العلمانيين ونحوهم، وهم كفار ملاحدة (¬1). ¬

(¬1) ينظر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة للدكتورين العقل والقفاري (ص 11 - 13).

المبحث الأول: الخوارج

المبحث الأول الخوارج. تمهيد تعريف الخوارج الخوارج: هم الذين يكفرون بالمعاصي، ويَخْرُجون على أئمة المسلمين وجماعتهم. ويشمل ذلك: الخوارج الأولين (المحكمة الحرورية)، ومن تفرع عنهم من الأزارقة والصفرية والنجدات، (وهذه الثلاث قد انقرضت)، والأباضية (وهم الباقون إلى اليوم). كما يشمل اسم الخوارج كل من أخذ بأصولهم وسلك سبيلهم، كجماعات التكفير والهجرة في هذا العصر ونحوهم، وعلى هذا فإن الخوارج قد يخرجون في كل زمان، وسيظهرون في آخر الزمان، وكما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخوارج الأولين، فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - كذلك عن المتأخرين، وأنهم يخرجون في آخر الزمن، قال - صلى الله عليه وسلم -: (سيخرج قوم في آخر الزمان، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم جناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة) (¬1) (¬2). وقد عرف الشهرستاني في كتابه (¬3)؛ الخوارج تعريفاً سياسياً عاماً، اعتبر فيه الخروج على الإمام المتفق على إمامته الشرعية خروجاً في أي زمن كان حيث يقول: " كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان". ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، برقم (6930). (¬2) الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل (ص 21). (¬3) الملل والنحل (1/ 114)، وينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 207)، والفصل لابن حزم (2/ 113).

- نشأة الخوارج

- نشأة الخوارج: قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - معلقاً على قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة) (¬1): " هذا الحديث وما في معناه قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطائفة المسماة بـ: الخوارج؛ لأنهم يغلون في الدين ويكفرون المسلمين بالذنوب التي لم يجعلها الإسلام مكفرة، وقد خرجوا في زمن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأنكروا عليه أشياء فدعاهم إلى الحق وناظرهم في ذلك فرجع كثير منهم إلى الصواب وبقي آخرون، فلما تعدوا على المسلمين قاتلهم علي - رضي الله عنه - وقاتلهم الأئمة بعده؛ عملاً بالحديث المذكور وما جاء في معناه من الأحاديث، ولهم بقايا إلى الآن، والحكم عام في كل من اعتقد عقيدتهم في كل زمان ومكان" (¬2). يختلف المؤرخون في تحديد بدء نشأة الخوارج هل كان ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في عهد عثمان أو في عهد علي - رضي الله عنهم -، أو أن نشأتهم لم تبدأ إلا بظهور نافع بن الأزرق وخروجه عام 64 هـ؛ واختار الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - القول بأن نشأتهم بدأت بانفصالهم عن جيش الإمام علي - رضي الله عنه - وخروجهم عليه، وهذا الرأي هو الذي عليه الكثرة الغالبة من العلماء إذ يعرفون الخوارج بأنهم هم الذين خرجوا على علي بعد التحكيم، ومن هؤلاء الأشعري فقد أرخ للخوارج، وأقدم من أرخ لهم منهم هم الخارجون على الإمام علي وقال عنهم: " والسبب الذي سموا له خوارج خروجهم على علي بن أبي طالب" (¬3). وبسط هذه الأقوال يطول، وعلينا أن نفرق بين بدء نزعة الخروج على صورة ما، وظهور الخوارج كفرقة لها آراؤها الخاصة، ولها تجمعها الذي تحافظ عليه وتعمل به على نصرة هذه الآراء. ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، برقم (6930). (¬2) فتاوى اللجنة (2/ 368)، وينظر: مذكرة التوحيد للشيخ عبد الرزاق (ص 119). (¬3) مقالات الأشعري (1/ 207)، وينظر: الفرق بين الفرق (ص 74)، فجر الإسلام لأحمد أمين (ص 257).

- أوصاف الخوارج

والواقع أن بدء نزعة الخروج قد بدأت بذرتها الأولى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باعتراض ذي الخويصرة عليه؛ أما خروجها كطائفة لها اتجاهها السياسي وآراؤها الخاصة، فهو خروج الذين خرجوا على علي - رضي الله عنه - منذ وقعة صفين، وهم الذين ينطبق عليهم مصطلح الخوارج بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة (¬1). - أوصاف الخوارج: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وتشير الأحاديث التي ورد فيها ذكر الخوارج إلى أوصافهم، والأمر بقتالهم، وذمهم. وقد صحت هذه الأحاديث بأوجه عديدة بلغت عشرة أوجه، كما ذكر الإمام أحمد بن حنبل، وقد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفة منها" (¬2). وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " والخوارج هم أول من كفَّر المسلمين، يكفِّرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله" (¬3). وقال: " وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فعاقب الطائفتين، أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرّق غاليتهم بالنار، وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يفضّله على أبي بكر وعمر" (¬4). فصار هؤلاء هم "الخوارج المارقين (¬5) الذين أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، قاتلهم علي، واتفق أئمة الدين على قتالهم - من الصحابة والتابعين ومن بعدهم-، ولم يكفّرهم علي ¬

(¬1) ينظر: الخوارج للدكتور/ غالب عواجي (ص 37 - 47). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 279). (¬3) مجموع الفتاوى (7/ 279). (¬4) مجموع الفتاوى (7/ 279)، وينظر: صحيح البخاري فتح الباري (12/ 290)، وما بعدها، ومسلم (1/ 742) وما بعدها. (¬5) سميت الخوارج المارقة من وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم في الحديث الصحيح: " يمرقون من الدين".

وسعد، وغيرهما، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقتلهم علي حتى سفكوا الدماء الحرام، ولم يغنم أموالهم" (¬1). ثم بين شيخ الإسلام - رحمه الله - أنه: إذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك (¬2). وقال شيخ الإسلام أيضاً: " ولهذا كان أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع، الخوارج المارقون" (¬3). ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 282). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 283). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 349)

-تسمية الخوارج بهذا الاسم

تسمية الخوارج بهذا الاسم: وقال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " وحديث العلماء في الفرق الإسلامية عن الخوارج؛ إنما هو عن هؤلاء الذين خرجوا على علي - رضي الله عنه - من أجل التحكيم. أما طلحة، والزبير، ومعاوية، ومن تبعهم، فلم يُعْرَفُوا عند علماء المسلمين بهذا الاسم" (¬1). ثم استرسل - رحمه الله - على إطلاق كلمة الخوارج، فقال: " صارت كلمة (الخوارج) تطلق على كل من خرج على إمام من أئمة المسلمين، اتفقت الجماعة على إمامته في أي عصر من العصور، دون أن يأتي ذلك الإمام بكفر ظاهر ليس له عليه حجة. وإذن فأول من أحدث هذه البدعة في هذه الأمة؛ الجماعة التي خرجت على علي بن أبي طالب سنة (39 هـ) ... " (¬2). إن كلمة (خوارج) أطلقت على أولئك النفر الذين خرجوا على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعد قبوله التحكيم عقب معركة "صفين" إذ اعتبر هؤلاء التحكيم خطيئة تؤدي إلى الكفر، ومن ثم طلبوا من "علي" أن يتوب من هذا الذنب، وانتهى الأمر بأن خرجوا من معسكره. وقد قبل الخوارج هذه التسمية، ولكنهم فسروا الخروج بأنه خروج من بيوتهم جهاداً في سبيل الله، وفقاً لقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} النساء: 100. وقد أطلق على الخوارج أيضاً اسم (الشُّراة) وربما يكونون هم الذين وصفوا أنفسهم بذلك؛ لأنهم يزعمون أنهم باعوا أنفسهم لله، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} التوبة: 111. وسموا أيضاً بـ (الحرورية)؛ لانحيازهم في أول أمرهم إلى قرية "حروراء" بالقرب من الكوفة. كما سموا أيضاً بـ (المحكمة)؛ لرفعهم شعار "لا حكم إلا لله" والتفافهم حوله. وسموا كذلك بـ (النواصب)؛ لمناصبتهم علياً ومن والاه ¬

(¬1) مذكرة التوحيد للشيخ عبد الرزاق (ص 120). (¬2) مذكرة التوحيد للشيخ عبد الرزاق (ص 120 - 122).

العداوة والبغضاء، وبراءتهم من كثير من الصحابة. وسموا بـ (الوعيدية)؛ لقولهم بتخليد من ارتكب كبيرة في النار. ومهما يكن من شيء، فإن اسم (الخوارج) في معناه الأول الذي يشير إلى الانشقاق، ومفارقة الجماعة، أصبح الاسم السائر على هذه الجماعة (¬1). وسموا بذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفهم بأنهم (يخرجون على حين فرقة من المسلمين) (¬2)، ولأنهم يخرجون على أئمة المسلمين، وعلى جماعتهم بالاعتقاد والسيف، وهذا وصف عام لكل من سلك سبيلهم إلى يوم القيامة (¬3). ¬

(¬1) ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 114)، والخوارج في العصر الأموي لنايف محمود معروف (187/ 194)، العقود الفضية في أصول الإباضية لسالم أحمد الحارثي (37/ 38، 46)، وتاريخ الطبري (5/ 55)، ودراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين للدكتور أحمد محمد جلي (ص 53). (¬2) أحرجه البخاري في كتاب الأدب باب ما جاء في قول الرجل ويلك، برقم (6163)، ومسلم في كتاب الزكاة باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم (1064). (¬3) الخوارج أول الفرق في التاريخ (ص 22).

- أصول الخوارج

- أصول الخوارج: قال الشيخ - رحمه الله - في بيان بعض أصولهم: "ومن أصولهم التي اشتركت فيها فرقهم: البراءة من علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعائشة، وابن عباس - رضي الله عنهم - وتكفيرهم. والقول بأن الخلافة ليست في بني هاشم فقط -كما تقول الشيعة- ولا في قريش فقط- كما تقول أهل السنة-؛ بل في الأمة عربها وعجمها، فمن كان أهلاً لها، علماً، واستقامة في نفسه، وعدالة في الأمة؛ جاز أن يختار إماماً للمسلمين، والخروج على أئمة الجور، وكل من ارتكب منهم كبيرة؛ ولذلك سموا (الخوارج). والإيمان عندهم: عقيدة، وقول، وعمل. وقد وافقوا في هذا أهل السنة والجماعة، وخالفوا غيرهم من الطوائف. ومن أصولهم أيضاً: التكفير بالكبائر، فمن ارتكب كبيرة فهو كافر. وتخليد من ارتكب كبيرة في النار إلا النجدات في الأخيرين؛ ولذا سموا (وعيدية). ومن أصولهم أيضاً: القول بخلق القرآن. وإنكار أن يكون الله قادراً على أن يظلم. وتوقف التشريع والتكليف على إرسال الرسل. وتقديم السمع والطاعة على العقل، على تقدير التعارض؛ فمن وافقهم في هذه الأصول فهو منهم، وإن خالفهم في غيرها. ومن وافقهم في بعضها، ففيه منهم بقدر ذلك" (¬1). نستطيع القول بأن منهجهم وأصولهم وسماتهم العامة كالتالي (¬2): 1 - التكفير بالمعاصي (الكبائر)، وإلحاق أهلها (المسلمين) بالكفار في الأحكام والدار والمعاملة والقتال. ¬

(¬1) مذكرة التوحيد للشيخ عبد الرزاق (ص 121 - 122)، وينظر في أصول الخوارج: غاية المراد في نظم الاعتقاد لنور الدين السالمي العماني (ص 12)، ورسالة في فرق الشيعة والخوارج وتكفيرهم غلاتهم للدبسي (ص 13)، مختصر تاريخ الإباضية للباروني (ص 65). (¬2) ينظر: الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام (ص 31 - 33) استفدت منه طريقة السبر والتقسيم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " والفرق .. في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار حرب، ودارهم هي دار الإيمان. وكذلك يقول جمهور الرافضة، وجمهور المعتزلة، والجهمية، وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم (¬1). فهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفراً" (¬2). وقال: " وأما التكفير بذنب أو اعتقاد سُنِّيٍّ فهو مذهب الخوارج، والتكفير باعتقاد سُنِّيٍّ مذهب الرافضة والمعتزلة وكثير من غيرهم" (¬3). من أصول الخوارج اعتبار مرتكب الكبيرة كافراً فقد بنى الخوارج رأيهم فيه على قولهم: إن العمل بأوامر الدين والانتهاء عما نهى عنه جزء من الإيمان، فمن عطل الأوامر، وارتكب النواهي لا يكون مؤمناَ، بل كافراً إذ الإيمان لا يتجزأ ولا يتبعض. ولم يقف الخوارج عند هذا الحد، بل اعتبروا الخطأ في الرأي ذنباً، واتخذوا هذا مبدأ للتبرؤ والولاية، فمن ارتكب خطأ تبرؤوا منه وعدوه كافراً، ومن اتبع رأيهم، وسلم من الذنوب في ظنهم تولوه، وبناء على ذلك تولوا أبا بكر، وعمر، وعثمان في سنيه الأولى، وعلياً قبل التحكيم، وتبرؤوا من عثمان في سنيه الأخيرة لأنه -في زعمهم- غير وبدل، ولم يسر سيرة أبي بكر وعمر، وحكموا بكفره، وتبرؤوا من علي حينما قبل التحكيم وحكموا أيضاً بكفره، كما تبرؤوا وكفروا كلاً من طلحة، والزبير، وأم المؤمنين عائشة، وأبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، ومعاوية، وحكام بني أمية (¬4). قال الأشعري: " أجمعت الخوارج على إكفار علي بن أبي طالب أن حكَّم، وهم مختلفون هل كفره: شرك أم لا؟ وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر، إلا النجدات، فإنها لا تقول ¬

(¬1) ولذلك كان بعض السلف يُسمي كل أهل الأهواء: (خوارج) ينظر: الخوارج أول الفرق في التاريخ (ص 35). (¬2) مجموع الفتاوى (19/ 73). (¬3) مجموع الفتاوى (19/ 75). (¬4) ينظر: الفرق بين الفرق (ص 72 - 74)، ومجموع الفتاوى (4/ 467 - 468).

ذلك، وأجمعوا على أن الله سبحانه يعذب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلا النجدات أصحاب نجدة" (¬1). 2 - الخروج على أئمة المسلمين اعتقاداً وعملاً -غالباً-، أو أحدهما أحياناً. قال الشيخ - رحمه الله -: " أما الخوارج فقد أبغضوا عثمان وعلياً وعمرو بن العاص ومعاوية وكثيراً من الصحابة ن وتبرؤوا منهم، ولهذا سموا النواصب لمناصبتهم عليا ومن والاه العداوة والبغضاء، وبراءتهم من كثير من الصحابة" (¬2). 3 - الخروج على جماعة المسلمين ومعاملتهم معاملة الكفار في الدار والأحكام، والبراء منهم وامتحانهم، واستحلال دمائهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: - في معرض ذكره لصفات الخوارج-: " فهؤلاء أصل ضلالهم اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل، وأنهم ضالون، وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم، ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفراً، ثم يرتبون على الكفر أحكاماً ابتدعوها" (¬3). 4 - صرف نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى منازعة الأئمة والخروج عليهم، وقتال المخالفين. 5 - كثرة القراء الجهلة فيهم والأعراب، وأغلبهم كما وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام) (¬4). 6 - ظهور سيما الصالحين عليهم، وكثرة العبادة كالصلاة والصيام، وأثر السجود، وتشمير الثياب، ومسهمة وجوههم من السهر، ويكثر فيهم الورع (على غير ¬

(¬1) مقالات الإسلاميين (1/ 170)، وينظر: الخوارج لغالب عواجي (ص 336 - 345). (¬2) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 19)، ينظر: رسالة في فرق الشيعة والخوارج وتكفيرهم غلاتهم للدبسي (ص 13). (¬3) مجموع الفتاوى (28/ 297). (¬4) صحيح البخاري، كتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، برقم (6930).

فقه)، والصدق والزهد، مع التشدد والتنطع في الدين كما وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم ...) (¬1). 7 - ضعف الفقه في الدين، وقلة الحصيلة من العلم الشرعي، كما وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) (¬2). 8 - ليس فيهم من الصحابة ولا الأئمة والعلماء وأهل الفقه في الدين أحد، كما قال ابن عباس: " وليس فيكم منهم أحد" (¬3) -يعني الصحابة-. 9 - الغرور والتعالم والتعالي على العلماء، حتى زعموا أنهم أعلم من علي وابن عباس وسائر الصحابة، والتفّوا على الأحداث الصغار والجهلة قليلي العلم من رؤوسهم. 10 - الخلل في منهج الاستدلال؛ حيث أخذوا بآيات الوعيد وتركوا آيات الوعد، واستدلوا بالآيات الواردة في الكفار، وجعلوها في المخالفين لهم من المسلمين؛ كما قال فيهم ابن عمر رضي الله عنهما: " انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين" (¬4). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بها جملة المسلمين وأئمتهم، إحداهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، أو ما ليس بحسنة حسنة، هذا هو الذي أظهروه في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال له ذو الخويصرة التميمي: اعدل، فإنك لم تعدل، حتى قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل، لقد خبت ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، برقم (6931)، ومسلم في كتاب الزكاة باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم (1064). (¬2) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن .. ،برقم (5058)، ومسلم في كتاب الزكاة باب التحريض على قتل الخوارج، برقم (1066). (¬3) ينظر: سنن النسائي الكبرى (5/ 166)، المستدرك على الصحيحين (2/ 164)، سنن البيهقي الكبرى (8/ 179)، الاعتصام للشاطبي (2/ 188). (¬4) شرح السنة للحسين بن مسعود البغوي (10/ 233).

وخسرت إن لم أعدل) (¬1)، فقوله: فإنك لم تعدل، جعل منه لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - سفهاً وترك عدل، وقوله: "اعدل"أمر له بما اعتقده هو حسنة من القسمة التي لا تصلح، وهذا وصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لا بد أن يثبت ما نفته السنة، وينفي ما أثبتته السنة، يحسن ما قبحته السنة، ويقبح ما حسنته السنة، وإلا لم يكن بدعة، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل، لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة. وثانيها: أن الخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف بزعمهم ظاهر القرآن. وغالب أهل البدع غير الخوارج يتابعونهم في الحقيقة على هذا؛ فإنهم يرون أن الرسول لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه " (¬2). 11 - الجهل بالسنة واقتصارهم على الاستدلال بالقرآن غالباً. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " والخوارج جوزوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدَّقوه فيما بلغه من القرآن؛ دون ما شرعه من السنة التي تخالف - بزعمهم- ظاهر القرآن؛ وغالب أهل البدع والخوارج يتابعونهم في الحقيقة على هذا، فإنهم يرون أن الرسول لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه، كما يحكى عن عمرو بن عبيد (¬3) في حديث الصادق المصدوق (¬4)، وإنما يدفعون عن نفسهم الحجة؛ إما برد النقل، وإما بتأويل المنقول. فيطعنون تارة في الإسناد، وتارة في المتن، وإلا فهم ليسوا ¬

(¬1) أحرجه البخاري في صحيحة، كتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، برقم (6933). (¬2) مجموع الفتاوى (19/ 72 - 73). (¬3) هو: عمرو بن عبيد أبو عثمان البصري، القدري رأس المعتزلة، عُرف بالزهد والعبادة، رويت له أقوال شنيعة في موقفه من النصوص، وكذبه العلماء، توفي سنة (144 هـ). ينظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (12/ 162)، سير أعلام النبلاء (6/ 104). (¬4) حديث الصادق المصدوق: عن ابن مسعود رضي الله عنه في القدر، قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ...) الحديث في صحيح البخاري كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة، برقم (3207)، ومسلم كتاب القدر باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه .. برقم (2643).

متبعين ولا مؤتمين بحقيقة السنة التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل ولا بحقيقة القرآن" (¬1). وبين شيخ الإسلام: ما يترتب على تعطيل السنة، فقال: " والخوارج لا يتمسكون من السنة إلا بما فسّر مجملها دون ما خالف ظاهر القرآن عندهم، فلا يرجمون الزاني، ولا يرون للسرقة نصاباً، وحينئذٍ فقد يقولون: ليس في القرآن قتل المرتد، فقد يكون المرتد عندهم نوعين ... " (¬2). والذي أدى بالخوارج إلى مثل هذه الآراء هو سوء فهمهم للقرآن، فهم لم يقصدوا معارضته، ولكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يُوجب تكفير أرباب الذنوب، وإذا كان المؤمن هو البر التقي، فمن لم يكن براً تقياً، فهو كافر مخلد في النار. ثم قالوا: إن عثمان وعلياً، ومن والاهما ليسوا بمؤمنين؛ لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله. فكانت بدعة الخوارج لها مقدمتان -كما يقول ابن تيمية - الأولى أن من خالف القرآن بعمل أو رأي أخطأ فيه فهو كافر. والثانية أن عثمان وعلياً، ومن والاهما كانوا كذلك، وكلا المقدمتين خطأ (¬3). 12 - سرعة التقلب واختلاف الرأي وتغييره (عواطف بلا علم ولا فقه)، لذلك يكثر تنازعهم وافتراقهم فيما بينهم، وإذا اختلفوا تفاصلوا وتقاتلوا. 13 - التعجل في إطلاق الأحكام والمواقف من المخالفين (سرعة إطلاق الحكم على المخالف بلا تثبت). 14 - الحكم على القلوب واتهامها، ومنه الحكم باللوازم والظنون. 15 - القوة والخشونة والجلد والجفاء والغلظة في الأحكام والتعامل، وفي القتال والجدل. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (19/ 73). (¬2) مجموع الفتاوى (13/ 48 - 49). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (13/ 30 - 31)، ودراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين (ص 67).

- فرق الخوارج

16 - قصر النظر، وضيق العطَنَ (¬1)، وقلة الصبر، واستعجال النتائج. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " فهم جهال فارقوا السنة والجماعة عن جهل" (¬2). 17 - يقتلون أهل الإسلام ويخاصمونهم، ويدعون أهل الأوثان كما وصفهم في الحديث (¬3). - فرق الخوارج: قال الشيخ - رحمه الله -: " ورءوسهم ستة: الأزارقة، والنجدات، والصفرية، والعجاردة، والأباضية، والثعالبة، وعنها تتفرع فرقهم" (¬4). عند حصر فرق الخوارج الأصلية منها أو الفرعية يظهر كثرة اختلاف العلماء في ذلك، وذلك لأن كتب الفرق الإسلامية لم تتفق أبداً على تقسيم فرقهم الرئيسية أو الفرعية على عدد معين، فنجد بعضهم يعدها أربعاً، وبعضهم يعدها خمساً، وبعضهم يعدها سبعاً، وبعضهم يعدها ثماناً، وآخرون خمساً وعشرين ... (¬5) إلخ. وهكذا يتباين عددهم عند علماء الفرق، وهذا يعود بالطبع إلى عوامل هامة ومنها: 1 - أن الخوارج كانوا من الفرق الثائرة المضطهدة من جهة خصومهم وهم عامة الناس، الأمر الذي أدى إلى عدم التمكن من الدراسة الدقيقة لفرقهم في عصر خروجهم. 2 - أنهم هم أنفسهم ساهموا في إخفاء أمرهم بحيث أخفوا كتبهم عن أعين الناس؛ إما خوفاً ¬

(¬1) العطن ما حول الحوض والبئر من مبارك الإبل ومناخ القوم ويجمع على أعطان عطنت الإبل تعطن عطونا وإعطانها حبسها على الماء بعد الورد، وفلان واسع العطن واسع الصبر والحيلة عند الشدائد سخي كثير المال وضده ضيق العطن. ينظر: العين للخليل بن أحمد (2/ 14)، القاموس المحيط (ص 1569)، المعجم الوسيط (2/ 609). (¬2) المنهاج (3/ 464). (¬3) ينظر: مشارق أنوار العقول للسالمي (2/ 318 - 328). (¬4) مذكرة التوحيد للشيخ عبد الرزاق (ص 120 - 121). (¬5) ينظر: الفرق بين الفرق (ص 24)، مقالات الإسلاميين (1/ 183)

عليها منهم أو ضنا بها عنهم، وهي قليلة جداً قلة فراغ الخوارج الذين وهبوا كل أوقاتهم للحرب أو الإعداد لها على طول حياتهم. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وأقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم لم نقف لهم على كتاب مصنف، كما وقفنا على كتب المعتزلة، والرافضة، والزيدية، والكرامية، والأشعرية، والسالمية، وأهل المذاهب الأربعة، والظاهرية، ومذاهب أهل الحديث، والفلاسفة، والصوفية ونحو هؤلاء" (¬1). 3 - أنهم لم ينعموا بالاستقرار والهدوء الذي ينتج عنهما نظرهم في العلوم وتحقيقهم لمذهبهم وتأريخهم لفرقهم المختلفة تأريخا مضبوطا يساعد على حصرها حصراً صحيحا، وقد يعود ذلك لقلة فراغ الخوارج الذين وهبوا كل أوقاتهم للحرب أو الإعداد لها على طول حياتهم. 4 - أنهم كانوا سريعي التفرق؛ إذ أدنى سبب تافه كافٍ لتفرقهم إلى فرق. ولهذا تشعبت فرقهم واختلط أمرها على المؤرخين (¬2). وعلى كلٍ فسوف أقدم هنا -إن شاء الله تعالى- تعريفاً موجزاً عن الفرق التي ذكرها الأشعري (¬3)، مركزاً على ذكر مؤسس كل فرقة، وبعض آرائهم التي تميزهم عن غيرهم، مع الإحالة إلى كلام الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عند كل فرقة في موطنها، لأن المقام يضيق عن بسط القول في ذلك. قال الأشعري - رحمه الله -: " وأول من أحدث الخلاف بينهم نافع بن الأزرق الحنفي، والذي أحدثه البراء من القعدة، والمحنة لمن قصد عسكره، وإكفار من لم يهاجر إليه" (¬4). "ويُعدُّ افتراق ابن الأزرق أول انقسام في الخوارج، وكان ذلك سنة 64 هـ حين فاصلوا ابن الزبير، فافترقوا إلى أربع فرق كبرى: 1 - الأزارقة. 2 - الصفرية. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (13/ 48 - 49). (¬2) ينظر لما سبق: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي (ص 193). (¬3) ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 168، 169). (¬4) مقالات الإسلاميين (1/ 168، 169).

أولا: الأزارقة

3 - النجدات. وقد انقرضت هذه الثلاث. 4 - الأباضية وهي الباقية إلى اليوم" (¬1). ويؤيد هذا التقسيم ما ذكره الأشعري من أن أصل قول الخوارج إنما هو قول الأزارقة والإباضية والصفرية والنجدية، وكل الأصناف سوى الأزارقة والإباضية والنجدية، فإنما تفرعوا عن الصفرية (¬2). أولاً: الأزارقة (¬3). هم أتباع أبي راشد نافع ابن الأزرق (¬4)، وقد كثر خروجهم وحروبهم للدولة الإسلامية حتى إن المهلب بن أبي صفرة بقي في حربه لهم تسع عشرة سنة إلى أن فرغ من أمرهم أيام الحجاج (¬5). -بدع الأزارقة: ¬

(¬1) الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام للدكتور ناصر العقل (ص 38). (¬2) ينظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 156). (¬3) ينظر: لكلام الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عنهم في مذكرة التوحيد (ص 123)، وتعليق الشيخ على الإحكام (1/ 229). (¬4) هو: نافع بن الأزرق بن قيس الحنفي، البكري الوائلي، الحروري، أبو راشد: رأس الأزارقة، وإليه نسبتهم. كان أمير قومه وفقيههم. من أهل البصرة. صحب في أول أمره عبد الله بن عباس. وله أسئلة رواها عنه، قال الذهبي: مجموعة في جزء، أخرج الطبراني بعضها في مسند ابن عباس من المعجم الكبير. وكان هو وأصحاب له من أنصار الثورة على (عثمان)، ووالوا عليا، إلى أن كانت قضية (التحكيم) بين علي ومعاوية، فاجتمعوا في (حروراء) وهى قرية من ضواحي الكوفة، ونادوا بالخروج على علي، وعرفوا لذلك، هم ومن تبع رأيهم، بالخوارج وكان نافع (صاحب الترجمة) يذهب إلى سوق الأهواز، ويعترض الناس بما يحير العقل (كما يقول الذهبي)، وكان (نافع) جبارا فتاكا، قاتله المهلب بن أبى صفرة ولقي الأهوال في حربه وقتل يوم (دولاب) على مقربة من الأهواز سنة (65 هـ). ينظر: الكامل لابن الأثير (3/ 341)، الملل والنحل (1/ 118 - 119)، والعقد الفريد لأحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي (2/ 390)، تلبيس إبليس (ص 93). (¬5) ينظر: الملل والنحل (1/ 120).

1 - أنهم كفروا عليا - رضي الله عنه - وقالوا إن الله أنزل في شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} البقرة: 204، وكذلك كفروا عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبدالله بن عباس - رضي الله عنهم - وقالوا بتخليدهم في النار. 2 - تكفيرهم القاعد عن القتال. 3 - إباحة قتل أطفال المخالفين والنساء. 4 - إسقاط الرجم عن الزاني. 5 - إسقاط حد المحصنات من النساء. 6 - أن التقية غير جائزة في قول ولا عمل. 7 - تجويزهم أن يبعث الله تعالى نبيا يعلم أنه يكفر بعد نبوته أو كان كافرا قبل البعثة. 8 - أنه من ارتكب كبيرة من الكبائر فإنه كافر كفرا يخرج عن الملة ويخلد في النار مع سائر الكفار واستدلوا بكفر إبليس لعنه الله وقالوا ما ارتكب إلا كبيرة حيث أمر بالسجود لآدم فامتنع وإلا فهو عارف بوحدانية الله (¬1). 9 - ذهبوا إلى أن مخالفيهم مشركون، وألحقوا بهم في الشرك أطفالهم، وأنهم جميعاً مخلدون في النار، ومن ثم يحل قتلهم وقتالهم. وأن دار مخالفيهم دار حرب يستباح منها ما يستباح في دار الحرب من قتل الأطفال والنساء، وسلب الذراري، وغنيمة الأموال، وأن من خالفهم لا يحفظ له عهد، ولا تؤدى إليه أمانة. 10 - أن من أقام في دار الكفر (يقصدون غير معسكرهم) وقعد عن اللحاق بهم، وإن كان على رأيهم، اعتبروه مشركاً. 11 - وأن من قصدهم لابد من استعراضه، وامتحانه للتأكد من صدق نيته، وذلك يدفع إليه أسير من مخالفيهم، ويأمروه بقتله، فإن قتله صدقوه في أنه منهم، وإن لم يقتله اعتبروه منافقاً ومشركاً وقتلوه (¬2). ¬

(¬1) ينظر لما سبق من بدعهم: الفصل في الملل والنحل بحاشية الشهرستاني (1/ 162)، الخوارج للعواجي (ص 201)، معجم ألفاظ العقيدة (ص 31). (¬2) ينظر لما سبق: الفرق بين الفرق (ص 83)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 121 - 122).

ثانيا: الصفرية

12 - إسقاطهم حد الرجم عن الزاني المحصن بحجة أنه لم يرد في القرآن نص عليه (¬1). 13 - كما أسقطوا أيضا حد القذف عمن قذف المحصن من الرجال مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء، تمسكاً أيضا - في زعمهم- بما ورد في القرآن (¬2). 14 - وذهبوا أيضاً إلى أن يد السارق تقطع في القليل، والكثير من غير اعتبار لنصاب الشيء المسروق، وأن القطع يكون من المنكب، كما أوجبوا على الحائض الصلاة والصوم في حيضها (¬3). 15 - كما أنهم حرموا قتل النصارى واليهود، وأباحوا قتل المسلمين (¬4). وهذه الآراء واضح فيها الجهل، وعدم العلم، والفهم للقرآن، وعدم الإلمام بالسنة، ويصدق عليهم بهذا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) (¬5). ثانياً: الصفرية (¬6). من فرق الخوارج أتباع زياد بن الأصفر. وقولهم كقول الأزارقة في تكفير أصحاب الذنوب، ولكنهم لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم. وهم ثلاث فرق: 1 - فرقة تزعم أن صاحب كل ذنب مشرك. 2 - وفرقة تقول إن اسم الكفار واقع على صاحب ذنب ليس فيه حد، والمحدود خارج من الإيمان وغير داخل في الكفر. ¬

(¬1) الملل والنحل للشهرستاني (1/ 121). (¬2) الملل والنحل (1/ 121). (¬3) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/ 189). (¬4) ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 169 - 174)، الفرق بين الفرق (ص 83 - 84)، الملل والنحل (1/ 120 - 122)، دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين لأحمد جلي (ص 73). (¬5) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن .. ،برقم (5058)، ومسلم في كتاب الزكاة باب التحريض على قتل الخوارج، برقم (1066). (¬6) ينظر: لذكر الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - لهم في مذكرة التوحيد (ص 120).

ثالثا: النجدات العاذرية

3 - وفرقة تقول إن اسم الكفر يقع على صاحب الذنب إذا حدَّه الوالي على ذنبه (¬1). ثالثاً: النجدات العاذرية (¬2). النجدات فرقة من فرق الخوارج أتباع نجدة بن عامر الحنفي (¬3). - بِدع النجدات العاذرية: 1 - الدين عندهم معرفة الله تعالى، ومعرفة رسله عليهم الصلاة والسلام، وتحريم دماء المسلمين (ويقصدون موافقيهم في المذهب) (¬4)، والإقرار بما جاء من عند الله جملة، فهذا واجب على الجميع معرفته، ولا عذر في الجهل به؛ ما سوى ذلك، فالناس معذورون فيه إلى أن تقوم عليهم الحجة في الحلال والحرم. وتبني النجدات مبدأ العذر بالجهل في أحكام الفروع، حتى سموا العاذرية. 2 - فرقوا في حكمهم على مرتكب الذنب بين من يأتي الذنوب، ويصر عليها، وبين من يأتيها من غير إصرار. واعتبروا الأول مشركاً، وإن كان الذنب نظرة بسيطة، أو كذبة صغيرة، أو غيرها من الصغائر، وأما الثاني فهو مسلم، وإن اقترف الكبائر كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر. وبناء على هذا يمكن أن يفهم ما نسب إلى نجدة من أنه تولى أصحاب الحدود من موافقيه، وقال: لعل الله يعذبهم بذنوبهم في غير جهنم، ثم يدخلهم الجنة، وزعم أن النار لا يدخلها إلا من خالف في دينه. 3 - ونسب إلى النجدات أيضاً أنهم أسقطوا حد الخمر، وقالوا بعدم وجوب الإمامة (¬5). ¬

(¬1) ينظر لما سبق: المقالات للأشعري (1/ 182)، الفرق بين الفرق للبغدادي (ص 90)، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 137)، معجم ألفاظ العقيدة (ص 258). (¬2) ينظر: لكلام الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عنهم في مذكرة التوحيد (ص 124). (¬3) هو: نجدة بن عامر بن عبد الله بن ساد بن المفرج الحنفي أو الثقفي كما يقول بعضهم. ويختلف النقل في مكان خروجه؛ فبعضهم يرى أنه كان من اليمامة ومنها انتشر أمره إلى بقية البلدان وهذا هو المشهور، وقد قتل في السنة الثانية والسبعين من الهجرة. ينظر: الكامل لابن الأثير (4/ 201، 206)، والملل والنحل (1/ 122)، ومقالات الأشعري (1/ 174)، وتلبس إبليس (ص 95)، والفرق بين الفرق (ص 87). (¬4) يظهر من هذا أن من لم يكن منهم فليس من المسلمين. (¬5) ينظر لما سبق: الملل والنحل (1/ 123 - 124)، والفرق بين الفرق (ص 87 - 89)، ومقالات الإسلاميين (ص 91)، تلبس إبليس (ص 95)، مقالات الأشعري (1/ 175)، التنبيه والرد (ص 67)، التبصير في الدين (ص 43)، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص 55)، والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان (ص 25).

رابعا: الأباضية

وهذه الآراء كذلك واضح فيها الجهل، وعدم العلم، والفهم للقرآن، وعدم الإلمام بالسنة، ويصدق عليهم بهذا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) (¬1). رابعاً: الأباضية (¬2). هم أتباع عبد الله بن أباض التميمي، ونسبت إليه (¬3). - الأباضية بين فرق الخوارج: يدعي الأباضيون أنهم ليسوا خوارج، وينفون عن أنفسهم هذه النسبة، والحقيقة أنهم ليسوا من غلاة الخوارج كالأزارقة، مثلاً، لكنهم يتفقون مع الخوارج في مسائل عديدة منها: 1 - أن عبد الله بن إباض يعتبر نفسه امتداداً للمحكمة الأولى من الخوارج. 2 - كما يتفقون مع الخوارج في تعطيل الصفات. 3 - والقول بخلق القرآن. 4 - وتجويز الخروج على أئمة الجور (¬4). إذا عرفنا أن الأباضية فرق من فرق الخوارج الكبرى، بإجماع المؤرخين الذين عاصروهم ومن بعدهم، فإنه من الضروري أن نتعرف على موقع الأباضية بين فرق ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن .. ،برقم (5058)، ومسلم في كتاب الزكاة باب التحريض على قتل الخوارج، برقم (1066). (¬2) مذكرة التوحيد (ص 127). (¬3) هو: عبد الله بن إباض بن تيم اللات بن ثعلبة التميمي من بني مرة عبيد رهط الأحنف بن قيس، توفي في أواخر أيام عبد الملك بن مروان. ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 134)، والفرق بين الفرق (24، 103)، الأباضية لعلي يحي معمر (ص 30، 353)، ومختصر تاريخ الإباضية للباروني (ص 19)، الكامل للمبرد (2/ 179). (¬4) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة للدكتور مانع الجهني نشر الندوة العالمية (1/ 58)، وينظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 156).

الخوارج؛ فالأباضية لا تخالف سائر الخوارج في غالب أصولهم، وأشهر مسألة اختلفوا فيها مع غيرهم من فرق الخوارج بعد أن فارقوا ابن الزبير، حيث لم يبرأ من عثمان - رضي الله عنهم -، وهي: مسألة الموقف من المخالفين، أي حكمهم على بقية المسلمين، فأغلب الخوارج يرون ما عداهم من المسلمين كفاراً مشركين، يجب قتالهم ولا يجوز مناكحتهم ولا إرثهم ولا أكل ذبائحهم، ودارهم دار حرب. أما الأباضية، فإنها وإن رأت جواز قتال المسلمين أحياناً، إلا أنها تقول: بأنهم كفار نعمة، ويجرون عليهم أحكام الموحدين من حيث النكاح والإرث والسبي والغنائم، وجواز معايشتهم والإقامة بينهم. وهذه المسألة من المسائل التي أجمع كُتاب الفرق على أن الأباضية خالفت فيها سائر الخوارج، وأنها تعد من الفوارق الرئيسية، بل هي الميزة التي أضفت على الأباضية سمة الاعتدال تجاه المخالفين، والتي جعلت الأباضية تعايش بقية المسلمين وتسالمهم حتى اليوم (¬1). - بعض الفرق الأباضية (¬2). بين الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - بعض الفرق الأباضية (¬3)، وهي: 1 - الحفصية (¬4). ¬

(¬1) الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام (64 - 65)، وينظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 183) وما بعدها، والفرق بين الفرق للبغدادي (ص 103)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 133)، الإباضية بين الفرق الإسلامية لعلي يحي معمَّر (ص 247)، معجم ألفاظ العقيدة لأبي عبد الله عامر عبد الله فالح (ص 15)،. (¬2) قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: "فرقة الأباضية من الفرق الضالة؛ لما فيهم من البغي والعدوان والخروج على عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -، ولا تجوز الصلاة خلفهم". ينظر: فتاوى اللجنة (2/ 369). (¬3) ينظر: مذكرة التوحيد (ص 127 - 128). (¬4) الحفصية: فرقة من فرق الأباضية أصحاب حفص بن أبي المقدام، وله أقوال تخرج عن الإسلام، كإنكار النبوة وإنكاره الجنة والنار واستحلال كثير من المحرمات، وقد أثبت علماء الفرق بأنها أولى فرق الإباضية. ولكن علي يحيى معمر ينفي- في كتاب (الإباضية بين الفرق الإسلامية ص 21) - أن تكون هذه الفرقة من الإباضية أشد النفي بل ويشك فيها وفي وجودها، وينكر أن يكون لهذه الفرقة أو زعيمها ذكر في كتب الإباضية. ينظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 110)، مقالات الأشعري (1/ 183)، الفرق بين الفرق (ص 104)، معجم ألفاظ العقيدة (ص 150).

موقف الصحابة والسلف من الخوارج وحكمهم فيهم

2 - الحارثية (¬1). وقد اندثرت هذه الفرق التي انشقت عن الإباضية، وقد تبرأ سائر الإباضية من أفكارهم وكفروهم لشططهم وابتعادهم عن الخط الإباضي الأصلي، الذي لا يزال إلى يومنا هذا (¬2). موقف الصحابة والسلف من الخوارج وحكمهم فيهم. كان موقف الصحابة - رضي الله عنهم - والسلف من بعدهم، من الخوارج قوياً وحازماً، وقد تجلى في التحذير منهم ومن بدعهم ومقالاتهم الفاسدة، كما كانوا يناظرونهم ويعلمونهم كما فعل علي بن أبي طالب وابن عباس - رضي الله عنهما -. وكانوا يرونهم شرار الخلق. وكانوا يقاتلونهم إذا حدث منهم قتال أو بغي أو قطعوا السبل وتعرضوا لمصالح المسلمين. وإليك نماذج من مواقف السلف من الخوارج: 1 - أخرج الآجري في الشريعة عن ابن طاووس، عن أبيه قال: ذكر لابن عباس - رضي الله عنه -: "يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به" (¬3). يعني بما يصيبهم عند قراءة القرآن من الصعق والغشي. 2 - قال الآجري: " فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام - عدلاً كان الإمام أو جائراً- فخرج وجمع جماعة وسل سيفه واستحل قتال المسلمين، فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن ولا بطول قيامه في الصلاة ولا بدوام صيامه، ولا بحسن ألفاظه في ¬

(¬1) الحارثية: أصحاب الحارث بن يزيد الأباضي الخارجي، خالف الأباضية في قوله بالقدر على مذهب المعتزلة وفي الاستطاعة قبل الفعل، وزعمت الحارثية انه لم يكن لهم إمام بعد المحكمة الأولى إلا عبد الله بن أباضى وبعده حارث ابن مزيد الاباضى. ينظر: الفرق بين الفرق (ص 105)، معجم ألفاظ العقيدة (ص 139). (¬2) ينظر: تاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة (1/ 85)، الموسوعة الميسرة (1/ 61). (¬3) الشريعة (ص 27 - 28).

العلم، إذا كان مذهبه مذهب الخوارج، وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبار لا يدفعها كثير من علماء المسلمين، بل لعله لا يختلف في العلم بها جميع أئمة المسلمين" (¬1). 3 - وأخرج ابن بطة (¬2): عن قتادة {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} آل عمران: 7 قال: إن لم يكن الحرورية والسبئية فلا أدري من هم؟ ولعمري لو كان أمر الخوارج هدى لاجتمع ولكنه كان ضلالة فتفرق، وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافاً كثيراً، فوالله إن الحرورية لبدعة وإن السبئية لبدعة ما أنزلت في كتاب ولا سنّهن نبي ... والحرورية والسبئية والروافض أصحاب عبد الله بن سبأ، الذين حرقهم عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالنار وبقي بعضهم (¬3). ورغم شدة موقف الصحابة والأئمة من بعدهم منَ الخوارج وقتالهم لهم، إلا أنهم توقفوا في تكفيرهم. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " ومما يدل على أن الصحابة لم يكفّروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم، وكان عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة يصلون خلف نجدة الحروري، وكانوا أيضاً يحدثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم كما يخاطب المسلم المسلم، كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري، لما أرسل إليه يسأله عن مسائل، وحديثه في البخاري، وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة، وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما يتناظر المسلمان، وما زالت سيرة المسلمين على هذا، ما جعلوهم مرتدين كالذين قاتلهم الصديق" (¬4). ¬

(¬1) الشريعة (ص 28). (¬2) هو: عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العكبري المشهور بابن بطة، حنبلي سلفي، من مؤلفاته: الإبانة الكبرى، والإبانة الصغرى، توفي سنة 387 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (16/ 529)، شذرات الذهب (3/ 122). (¬3) ينظر: الإبانة (2/ 607 - 608). (¬4) منهاج السنة (5/ 247 - 248).

وقال كذلك - رحمه الله -: " والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيرا لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم، لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين، كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع" (¬1). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (7/ 217 - 218).

المبحث الثاني الشيعة

المبحث الثاني الشيعة. قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - في التعريف بهذا المصطلح في اللغة: " الشياع: القوة والانتشار، يقال: شَاعَ الخبر إذا انتشر، وكَثُرَ التكلُّم به. وشيعة الرجل: خواصُّه، وجماعته الذين ينتشرون، ويتقوَّى بهم؛ لنسب يجمعهم، أو لأتباعهم إياه في مذهبه، وسيرهم على منهاجه وسننه، وتجمع الشيعة على (شيع)، وتجمع شيع على (أشياع) " (¬1). ويبين الشيخ - رحمه الله - معناها في الاصطلاح، بقوله: " والمراد بالشيعة هنا: كل من شايع علي بن أبي طالب خاصة، وقال بالنصِّ على إمامته، وقصر الإمامة على آل البيت، وقال بعصمة الأئمة من الكبائر، والصغائر، والخطأ. وقال: لا ولاء لعلي إلا ببراء من غيره من الخلفاء الذين في عصره قولاً، وفعلاً، وعقيدةً، إلاَّ في حال التقية. وقد يثبت بعض الزيدية الولاء دون البراء. فهذه أصول الشيعة التي يشترك فيها جميع فرقهم، وإن اختلفت كل فرقة عن الأخرى في بعض المسائل -فمن قال ممن ينتسب إلى الإسلام- بهذه الأصول، فهو شيعيٌّ، وإن خالفهم فيما سواها. ومن قال بشيء منها، ففيه من التشيع بحسبه" (¬2). ويبين الشيخ - رحمه الله - رءوسهم، فيقول: " ورءوس فرق الشيعة خمسة: الزيدية، والإمامية، والكيسانية، والغلاة، والإسماعيلية. ومن العلماء من لم يجعل الإسماعيلية فرقة رئيسة" (¬3). الشيعة: من حيث مدلولها اللغوي تعني القوم، والصحب، والأتباع، والأعوان (¬4). ولكن كلمة "شيعة" اتخذت معناً اصطلاحيا، خلال التاريخ الإسلامي، واستخدمت للدلالة على جماعة اعتقدت بأن الإمامة ليست من المصالح العامة، التي تفوض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بها بتعيينهم، بل هي ركن الدين، وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفاله، ولا تفويضه ¬

(¬1) مذكرة التوحيد (ص 129). (¬2) مذكرة التوحيد (ص 129 - 130). (¬3) مذكرة التوحيد (ص 130). (¬4) ينظر: لسان العرب (8/ 188)، الصحاح للجوهري (4/ 375)، القاموس المحيط (1/ 950)، المعجم الوسيط (1/ 503)، النهاية في غريب الأثر (2/ 1269)، تهذيب اللغة (3/ 41).

إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم؛ فأصبح الاعتقاد بالنص والوصية في الإمامة معيار التمييز بين الشيعة وغيرهم من فرق الإسلام، مع القول بعصمة الأئمة وغيرها من العقائد الباطلة (¬1). وهذه الجماعة هي من فضّلت إمامة علي بن أبي طالب وبنيه على الخليفة عثمان بن عفان، ومن بعده من الأئمة، مع تفضيلهم إمامة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عن الجميع؛ وفي وقتها لم يكن الخلاف دينياً ولا النزاع قبلياً فكان أبناء علي - رضي الله عنهم - يفدون إلى الحكام ويصلون خلفهم، ومع ذلك لم تتميز به طائفة مخصوصة بأصول تخالف بها جماعة المسلمين. إلى أن تطورت عقائد الشيعة إلى حد إنكار الكثير من المسلمات والأسس التي قام عليها الإسلام. ولذلك أطلق عليهم علماء السلف روافض تمييزاً لهم عن الشيعة الأوائل. ومن أبرز سمات الشيعة بفرقهم أنهم من أسرع الناس سعياً إلى الفتن في تاريخ الأمة قديماً وحديثاً. ولذلك انقسمت الشيعة إلى فرق كثيرة، من أشهرها الرافضة الإمامية الاثنا عشرية، والزيدية، وإسماعيلية وغيرها (¬2). ¬

(¬1) ينظر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين لأحمد جلي (ص 167). (¬2) ينظر: الموسوعة الميسرة (2/ 1084 - 1085)، التعريفات للجرجاني (1/ 171)، الشيعة والسنة لإحسان إلهي ظهير (ص 31 - 40) وما بعدها، ومعجم ألفاظ العقيدة (ص 247).

تنسب إلى الشيعة فرق متعددة تطرف بعضها، فرفعت علياً وذريته إلى مرتبة الألوهية، أو النبوة، وجعلت منزلة "علي" أعلى من منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومرتبته. وبعضها لم يصل إلى هذا المستوى من الغلو والانحراف. وقد أنكر الشيعة أنفسهم نسبة تلك الفرق الغالية إليهم، أو إلى الإسلام (¬1)، ولكن كُتَّاب الفرق الإسلامية جميعاً يثبتون علاقة وطيدة بين هذه الفرق الغالية، وبين التيار الشيعي العام. وإذا لم يكن لهؤلاء الغلاة صلة بالتشيع في صورته العامة، فإنهم، ولا شك، اتخذوا من التشيع ستاراً، ومن حب آل البيت وسيلة إلى نشر أفكارهم المنحرفة وعقائدهم الباطلة (¬2). وسأذكر هنا إن شاء الله فرق الشيعة التي تناولها الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -، معدداً لها، متجنباً الإسهاب في تعريفها ونشأتها، خشية الإطالة وإثقال كاهل الرسالة، محيلاً إلى كلام الشيخ عن كل فرقة في موطنه (¬3): 1 - الشيعة الإمامية الاثنا عشرية (¬4) (¬5). ¬

(¬1) ينظر: المقالات والفرق لسعد بن عبد الله الأشعري القمي -وهو من الإمامية- (ص 64)، الشيعة في الميزان لمحمد جواد مغنية (ص 291/ 294). (¬2) ينظر: دراسة عن الفرق لأحمد جلي (ص 180 - 181)، الشيعة وآل البيت لإحسان إلاهي ظهير (ص 47) وما بعدها، فجر الإسلام لأحمد أمين (ص 276). (¬3) ولآراء هذه الفرق ومعرفة أصولها، ينظر: مقالات الإسلاميين (ص 66) وما بعدها، الملل والنحل (1/ 173) وما بعدها، الفرق بين الفرق (ص 123) وما بعدها. (¬4) ينظر: لكلام الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عنهم في فتاوى اللجنة (2/ 374، 380). (¬5) الشيعة الإمامية الاثنا عشرية: هذه الفرقة لها عدة أسماء، فإذا قيل عنهم الرافضة فهم الذين يرفضون إمامة الشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -، ويسبون ويشتمون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وإذا قيل عنهم الشيعة، فهم الذين شايعوا علياً - رضي الله عنه - على الخصوص وقالوا بإمامته؛ وإذا قيل لهم الاثنا عشرية فلاعتقادهم، بإمامة اثني عشر إماماً، آخرهم الذي دخل السرداب بسامراء وهو محمد بن الحسن العسكري على حد زعمهم، وادعت هذه الفرقة بأن هؤلاء الاثني عشر لهم من الأمور ما ليس لغيرهم كادعائهم الغيب ويعلمون متى يموتون ويعلمون ما كان وما سيكون وما إن كان كيف سيكون وهذا ما جاء في أصح كتبهم وهو الكافي في الأصول للكليني؛ وإذا قيل لهم الإمامية فلأنهم جعلوا الإمامة ركناً خامساً من أركان الإسلام، وجعلوا من الإمامة القضية الأساسية التي شغلتهم، وإذا قيل لهم جعفرية فلنسبتهم إلى الإمام جعفر الصادق وهو الإمام السادس عندهم، الذي كان من فقهاء عصره، ويُنسب إليه كذباً وزوراً فقه هذه الفرقة. ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 65)، الملل والنحل (1/ 146)، الفرق بين الفرق (ص 29)، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان للسكسكي (ص 65)، دراسة عن الفرق لأحمد جلي (ص 203 - 270)، الموسوعة الميسرة (1/ 51)، معجم ألفاظ العقيدة (ص 21 - 22).

2 - الزيدية (¬1) (¬2). 3 - الرافضة (¬3). 4 - الزرارية (¬4) (¬5). 5 - الإسماعيلية (¬6). 6 - النصيرية (¬7). ¬

(¬1) ينظر: لكلام الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عنهم في مذكرة التوحيد (ص 131 - 132). (¬2) والزيدية هي: إحدى فرق العدلية القدرية التي تقول بالعدل، إذ تنفي خلق الله تعالى لأفعال العباد بزعم نفي الجبر، كما تعطل نصوص الصفات الذاتية والفعلية لله تعالى تحت دعوى التوحيد. وتعد الزيدية (الهادوية) أقرب فرق الشيعة إلى أهل السنة والجماعة، إذ يتصف مذهبهم بالابتعاد عن غلو الاثني عشرية وباقي فرق الشيعة، كما أن نسبتها ترجع إلى مؤسسها زيد بن علي زين العابدين، الذي كان يرى صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم جميعاً، ولم يقل أحد منهم بتكفير أحد من الصحابة. ومن مذهبهم جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، إلا أن فرق الزيدية انحرفت، ما عدا الهادوية، عن مبادئ زيد هذه ورفضوا خلافة الشيخين وتبرؤوا من عثمان وقالوا بالرجعة وعصمة الأئمة موافقة للرافضة. ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 136)، الفرق بين الفرق (ص 29)، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 154)، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص 77)، دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين لأحمد جلي (ص 277 - 296)، الموسوعة الميسرة (1/ 76)، معجم ألفاظ العقيدة (ص 217 - 228). (¬3) كلام الشيخ - رحمه الله - عن الرافضة تجده في مبحث "الباطنية" مع التعليق عليه، يُنتقل إلى (ص 689). (¬4) ينظر: لكلام الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عنهم في مجموعة ملفات الشيخ (ص 24). (¬5) الزرارية: فرقة من فرق الشيعة الرافضة أتباع زرارة بن أعين (ت150 هـ)، ويدعون "التيمية"، وقد كان زرارة عمارياً إلاَّ أنه سأل عبد الله بن جعفر عن مسائل فلم يجبه عن بعضها فأنكر إمامته، وقال بإمامة موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان يقول إن الله تعالى لم يكن عالماً ولا قادراً ثم خلق لنفسه علما وحياة وقدرة وإرادة وسمعاً وبصراً. ينظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 101)، الفرق بين الفرق (ص 52)، ومعجم ألفاظ العقيدة (ص 216). (¬6) وهي من فرق الشيعة أفردت في المبحث الرابع " الباطنية" مع التعليق، يُنتقل إلى (ص 689). (¬7) وهي فرقة من غلاة الشيعة أفردت في المبحث الرابع " الباطنية" مع التعليق، يُنتقل إلى (ص 689).

7 - الكيالية (¬1) (¬2). 8 - الهشامية (¬3) (¬4). 9 - النعمانية (¬5) (¬6). ¬

(¬1) ينظر: لكلام الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عنهم في مجموعة ملفات الشيخ (ص 24). (¬2) الكيالية: فرقة من غلاة الشيعة أتباع أحمد بن الكيال، وكان من دعاة واحد من أهل البيت بعد جعفر بن محمد الصادق، وهو من الأئمة المستورين. وادعى الإمامة أولاً، ثم ادعى أنه القائم ثانيا. ينظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (2/ 17)، ومعجم ألفاظ العقيدة (ص 355 - 356). (¬3) ينظر: لكلام الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عنهم في مجموعة ملفات الشيخ (ص 24). (¬4) هي: فرقة من غلاة الشيعة أتباع أبي هاشم ابن محمد بن الحنفية قالوا بانتقال محمد بن الحنفية: وانتقال الإمامة منه إلى ابنه أبي هاشم. ينظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (1/ 201)، ومعجم ألفاظ العقيدة (ص 448). (¬5) ينظر: لكلام الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عنهم في مجموعة ملفات الشيخ (ص 24). (¬6) فرقة من غلاة الشيعة أصحاب محمد بن النعمان أبي جعفر الأحول، الملقب بشيطان الطاق، وهم الشيطانية أيضاً. والشيعة تقول: هو مؤمن الطاق. وهو تلميذ الباقر محمد بن علي بن الحسيني، وأفضى إليه أسرار من أحواله وعلومه، وما يحكى عنه من التشبيه فهو غير صحيح. قيل: وافق هشام بن الحكم في أن الله تعالى لا يعلم شيئاً حتى يكون. وقال إن الله تعالى نور على صورة إنسان رباني، ونفى أن يكون جسماً. ويحكى عن داود أنه قال: اعفوني عن الفرج واللحي، واسألوني عما وراء ذلك: فإن في الأخبار ما يثبت ذلك. وذكر أنه سئل عن قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)} النجم: 42، قال إذا بلغ الكلام إلى الله تعالى فأمسكوا. ينظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (2/ 23)، ومعجم ألفاظ العقيدة (ص 432 - 433).

المبحث الثالث أهل الكلام

المبحث الثالث أهل الكلام. تمهيد ذكر الشيخ - رحمه الله - كلام ابن القيم:، والذي قال فيه: " وعلمت أن المعطلة من أعظم الناس عمى ومكابرة، ويكفي ظهور شاهد الصنع فيك خاصة، كما قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} الذاريات: 21، فالموجودات بأسرها شواهد صفات الرب - عز وجل -، ونعوته، وأسمائه؛ وهي كلها تشير إلى الأسماء الحسنى وحقائقها، وتنادي بها، تدل عليها، وتخبر بها بلسان الحال، كما قيل: تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملك الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطاً ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل تشير بإثبات الصفات لربها ... فصامتها يهدي ومن هو قائل (¬1) فلست ترى شيئاً أدل على شيء من دلالة المخلوقات على صفات خالقها، ونعوت كماله، وحقائق أسمائه. وقد تنوعت أدلتها بحسب تنوعها؛ فهي تدل عقلاً، وحساً، وفطرةً، ونظراً، واعتباراً. ا. هـ " (¬2). بين الشيخ - رحمه الله - طريقة المتكلمين، ثم رد عليهم؛ بقوله: " مقابلة العقلي بالشرعي تشعر بأن رؤية الله وتنزيهه عن الشريك ونحوهما إنما ثبت بالدليل العقلي لا بدليل الشرع، وهذه طريقة كثير من المتكلمين؛ فإنهم يرون أن أدلة النصوص خطابية لا برهانية لا تكفي لإثبات القضايا العقلية والمسائل الأصولية، اللهم إلا في طريق الخبر كتاباً وسنة بعد الاستقراء، وبعد ثبوت أصل الشرع بالعقل" (¬3). ¬

(¬1) ذكر هذه الأبيات ابن القيم في مدارج السالكين (3/ 356)، وهي من شعر عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي، محدث حافظ فقيه أديب مؤرخ مفسر صوفي، ولد بدمشق عام 1050 هـ، وبها توفي عام 1143 هـ، وهذا البيت في ديوانه. ينظر ترجمته في: سلك الدرر للمرادي (3/ 30)، والأعلام للزركلي (4/ 32). (¬2) مذكرة التوحيد (ص 38)، وينظر: مدارج السالكين (3/ 356). (¬3) تعليق الشيخ على الإحكام (1/ 370).

ويرد الشيخ - رحمه الله - على هذه الطريقة، فيقول: " وهذا غير صحيح؛ فإن نصوص الشرع كما جاءت بالخبر الصادق في القضايا العقلية وغيرها جاءت بتقرير الحق في ذلك بأوضح حجة وأقوى برهان لكنها لم تجيء على أسلوب الصناعة المنطقية المتكلفة بل على أسلوب من نزل القرآن بلغتهم بأفصح عبارة وأعلى بيان وأقرب طريق إلى الفهم وأيسره لأخذ الأحكام، ومن تتبع أدلة القرآن في إثبات التوحيد والرسالة والبعث وغير ذلك من أصول التشريع واستقرأ السنة في ذلك تبين له خطأ أولئك الذين وصموا ربهم وكتابه ونبيه وسنته بما لا يصدر إلا من عدو للمسلمين يريد الكيد لهم في أصول دينهم ومصادر تشريعهم ليردهم بذلك إلى ما يزعمه أصولاً عقلية وغالبها شكوك ومحارات، وإن كان فيها شيء من الأدلة الحقة؛ فقد جاء به الشرع، فاللهم أغننا بكتابك وسنة نبيك عن موارد الوهم ومزالق الضلال" (¬1) (¬2).اللهم آمين. وبين الشيخ - رحمه الله - في معرض الرد على من رد السنة لمخالفتها للعقل، فقال: " فيجب على الإنسان أن يتهم عقله وتفكيره بدلاً من أن يتهم رسوله، أو الرواة العدول، أو أن يتهم ربه في وحيه، وليثق بربه وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ثقته في تفكيره، فإن العقل قاصر، وجُرب عليه الخطأ كثيراً، ومداه محدود، وما يجهله أكثر مما يعلمه. فعليه أن يعتقد في تفكيره القصور، وأن يعتقد في وحي الله الكمال والصدق، وأن يعتقد في الرواة الذين استوفوا شروط النقل المضبوطة المعروفة عند المحدثين الثقة بهم أكثر من ثقته بتفكيره" (¬3). قال ابن القيم - رحمه الله -: " الواقع حقيقة أنه ما اتهم أحد دليلا للدين إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن المأفون في عقله وذهنه فالآفة من الذهن العليل لا في نفس الدليل وإذا رأيت من أدلة الدين ما يشكل عليك وينبو فهمك عنه فاعلم أنه لعظمته وشرفه استعصى عليك وأن تحته كنزا من كنوز العلم ولم تؤت مفتاحه بعد هذا في حق نفسك؛ وأما بالنسبة إلى ¬

(¬1) تعليق الشيخ على الإحكام (1/ 370). (¬2) ينظر: درء التعارض (8/ 48)، الصواعق المرسلة (3/ 1136). (¬3) شبهات حول السنة (ص 19)، ينظر: المرجع السابق (ص 58).

غيرك فاتهم آراء الرجال على نصوص الوحي وليكن ردها أيسر شيء عليك للنصوص فإن لم تفعل ذلك فلست على شيء" (¬1). ¬

(¬1) مدارج السالكين (2/ 335).

المطلب الأول: قول بعض الفرق في الصفات ورد الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - عليهم

المطلب الأول قول بعض الفرق في الصفات ورد الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - عليهم (¬1). تطرق الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - لبعض انحرافات الفرق في صفات الله عز وجل، ومنها ما يلي: 1 - الجهمية. بين الشيخ - رحمه الله - في معرض رده على الجهمية أخطاءهم ومخالفتهم لأهل السنة؛ فمنها: 1 - مخالفتهم لما تتوارد النصوص على إثباته من غير دليل يرشد إلى ذلك؛ معتمدين في ذلك على ما أودعه الله عباده من القول؛ ومن ذلك نفيهم صفة العلو ذاتاً ومنزلة عن الله عز وجل (¬2)، وزعمهم أن الاستواء بمعنى الاستيلاء (¬3). 2 - قيام الجهمية بتحريف آيات الكتاب وتفسيرها بغير ما قصد منها، وهم يزعمون أنهم اضطروا إليه فرارا من تشبيه الله بخلقه، وهذا مثل التكذيب بها ومعارضتها بالشبه؛ والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن تثبت هذه الصفات على ما يليق بجلاله وعظيم سلطانه. كما أن رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ثابتة على ما يليق به فلا يلزم التشبيه (¬4). 3 - إنكارهم لصفات الله على الحقيقة ومن ذلك صفة الرضا والمحبة لله عز وجل، فهذه الصفات تثبت لله بما يليق بجلاله سبحانه (¬5). 4 - إرجاعهم بعض الصفات لبعضها الآخر، تأويلاً منهم، فيثبتون لازمها الذي فسروها به، فيدل عقلاً على ثبوتها، فلزمهم ما فروا منه؛ أما أهل السنة والجماعة فيثبتون هذه الصفات التي يرد بها الدليل لله حقيقة على ما يليق بجلاله (¬6). ¬

(¬1) لهذا القسم تعلق وثيق بمبحث الأسماء والصفات وقد أُفرد هنا لبيان ردود الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - على بعض نفاة الصفات. (¬2) ينظر: تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 9، 197). (¬3) ينظر: تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 145). (¬4) ينظر: تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص،27، 211،280، 281). (¬5) ينظر: تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 89، 96). (¬6) ينظر: تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 153،171،195).

5 - نفيهم صفة الكلام عن الله عز وجل؛ أما أهل السنة والجماعة فيثبتون الكلام لله حقيقة على ما يليق به، ومنه أن الله تعالى نادى موسى حقيقة بكلام سمعه موسى في حينه (¬1). الجهمية إحدى الفرق الكلامية التي تنتسب إلى الإسلام، بنت مذهبها على مقالات كلامية، ولها ثلاثة إطلاقات (¬2). الأول: الجهمية الأولى الغلاة، الذين ينكرون أسماء الله وصفاته وأفعاله، ويردون النصوص المتعلقة بها، أو يؤولونها، ويقولون بالإرجاء والجبر، ويسمون أيضاً بالجهمية الخالصة، أو المحضة. الثاني: المثبتون للأسماء دون الصفات من المعتزلة ومن وافقهم، من الرافضة، والزيدية، والخوارج، والنجارية (¬3)، والضرارية (¬4)، ونحوهم. الثالث: الصفاتية، وهم الفرق الكلامية التي تثبت الأسماء الحسنى وبعض الصفات على اختلاف بينهم فيما يثبت وما ينفى، كالكلابية (¬5) والأشاعرة (¬6)، ¬

(¬1) ينظر: تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 252). (¬2) التسعينية لابن تيمية (1/ 265، 270 - 271). (¬3) النجارية: أصحاب الحسين بن محمد النجار، وهم جبرية في الأفعال، معطلة في الصفات، مرجئة في الإيمان، وأهم فرقهم ثلاث: برغوثية، زعفرانية، مستدركة. ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 138)، المقالات (1/ 199)، الفرق بين الفرق (ص 207). (¬4) الضرارية: أصحاب ضرار بن عمرو الكوفي، وهم يشابهون النجارية في كثير من أقوالهم، وقد عدها الشهرستاني من الجبرية، وعدها كل من ابن حزم، والسكسكي ضمن المعتزلة، وعدها الأشعري والبغدادي فرق مستقلة. ينظر: الملل والنحل (1/ 142)، الفرق بن الفرق (ص 213)، البرهان (ص 39). (¬5) الكلابية: هم أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب من آرائهم: أن أسماء الله وصفاته لذاته لا هي الله ولا هي غيره، وأنها قائمة بالله، ولا يجوز أن تقوم بالصفات صفات، وأن الصفات لا تتغاير، وأن العلم لا هو القدرة ولا غيرها، وكذلك سائر الصفات، وأن الإيمان لا يتفاضل بمعنى أنه شيء واحد لا يزيد ولا ينقص. وأن القرآن معنى قائم بالنفس لا يتعلق بالقدرة والمشيئة، وأنه لازم لذات الله. ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 249 - 253، 2/ 225 - 227)، نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني (ص 181)، أصول الدين لعبد القاهر البغدادي (ص 50). (¬6) الأشاعرة: هم طائفة من طوائف أهل الكلام، ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري في مذهبه الثاني بعد رجوعه عن الاعتزال، وعامتهم يثبتون سبع صفات فقط لله تعالى، ويوافقون المرجئة في الإيمان، والجبرية في القدر. ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 94)، خبيئة الأكوان لصديق حسن خان (ص 50 - 51).

والماتريدية (¬1)، ومن وافقه. نسبة الجهمية ينتسبون إلى الجهم بن صفوان السمرقندي أبي محرز الراسبي، ضال مبتدع، زرع شراً عظيماً، كان صاحب خصومات وكلام، قتله سَلَم بن أَحْوَز (¬2) سنة 128 هـ (¬3)، من بدعهم: القول بنفي الأسماء والصفات عن الله تعالى، وأن العبد مجبور على فعله ولا قدرة له ولا اختيار، وأن الإيمان إنما هو المعرفة، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وغيرها (¬4). بدع الجهمية: 1 - الإرجاء في أبواب الإيمان، فقالوا: إن الإيمان هو المعرفة فقط، وأن الكفر هو الجهل فقط، فكانوا بذلك أشد الطوائف غلواً في الإرجاء. 2 - الجبر في أبواب القدر، فهم جبرية خالصة، ينكرون قدرة العبد على أفعاله. 3 - القول بفناء الجنة والنار، وإنكار بعض السمعيات: كالصراط، والميزان، والحوض، والشفاعة. 4 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمقصود به عند أهل البدع: جواز الخروج على الحاكم الجائر (¬5). ¬

(¬1) الماتريدية: هم طائفة من طوائف أهل الكلام، ينتسبون إلى أبي منصور الماتريدي، وعامتهم يثبتون ثمان صفات فقط لله تعالى، ويقولون: بالكلام النفسي، وأن القرآن حكاية عن كلام الله، ويوافقون الأشاعرة في كثير من أصولهم. ينظر: أصول الدين للبزدوي (ص 2) وما بعدها، التمهيد لأبي المعين النسفي (ص 16) وما بعدها، الماتريدية دراسة وتقويماً للدكتور أحمد الحربي. (¬2) سَلَم بن أَحْوَز بن أربد، من بني كابية بن حرقوص، كان على شُرْطة نصر بن سيّار بخرسان. ينظر: البداية والنهاية (13/ 148)، توضيح المشتبه (1/ 163). (¬3) ينظر: ميزان الاعتدال (1/ 426)، والأعلام (2/ 141). (¬4) ينظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع لمحمد بن أحمد الملطي (ص 110)، مقالات الإسلاميين (1/ 214)، الفرق بين الفرق (ص 211)، الملل والنحل للبغدادي (ص 145)، الفصل (4/ 204)، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 86)، البرهان (ص 4)، سير أعلام النبلاء (6/ 26)، ميزان الاعتدال (1/ 426)، البداية والنهاية (13/ 147 - 148، 199، 221). (¬5) ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 278)، مجموع الفتاوى (8/ 466 - 467، 16/ 165، 17/ 199)، منهاج السنة النبوي (3/ 31 - 32)، الجهمية والمعتزلة نشأتها وأصولها ومناهجها وموقف السلف منها قديماً وحديثاً، أ. د. ناصر العقل (ص 127)، النفي في أبواب صفات الله عز وجل بين أهل السنة والجماعة والمعطلة لأزرقي سعيداني (ص 521 - 522).

كانت للسلف الصالح -رحمهم الله- مواقف وجهود بارزة في محاربة البدع وأهلها عموماً، وجهود متميزة في محاربة بدعة الجهمية وأهلها خصوصاً، وذلك لخطورة هذه المقالة وكونها أول مقالة تعارض الوحي بالرأي (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " فأما الرد على الجهمية القائلين بنفي الصفات وخلق القرآن، ففي كلام التابعين وتابعيهم والأئمة المشاهير من ذلك شيء كثير، وفي مسألة القرآن من ذلك آثار كثيرة جداً، مثل ما روى ابن أبي حاتم، وابن شاهين واللالكائي، وغيرهم من غير وجه" (¬2). وقد نُقل الإجماع عن السلف الصالح على تكفير الجهمية (¬3). ¬

(¬1) ينظر: الصواعق المرسلة (3/ 1069 - 1070). (¬2) مجموع الفتاوى (12/ 418). (¬3) ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 344)، مجموع الفتاوى (17/ 447 - 448)، الجهمية والمعتزلة (ص 109 - 122).

2 - المعتزلة

2 - المعتزلة. سبب تسمية المعتزلة بهذا الاسم: قال كذلك الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " واعتزل واصل بن عطاء مجلس الحسن وجلس إلى اسطوانة يقرئ مذهبه واجتمع إليه تلاميذ فقال الحسن: اعتزلنا واصل، فسمي من تبعه في ذلك المعتزلة، وقيل: سموا بذلك لاعتزالهم رأي الفريقين الخوارج والمرجئة وليس صحيحاً فإن أهل السنة توسطوا بين الفريقين ولا يسمون بذلك" (¬1) (¬2). وقد بين الشيخ - رحمه الله - أصول المعتزلة في معرض رده على بعض مخالفاتهم لمنهج أهل السنة والجماعة؛ فمن أصولهم (¬3): 1 - قال الشيخ - رحمه الله -: " استفاد المعتزلة من الفلسفة اليونانية وتمكنوا منها وصبغوها بصبغة دينية واستغلوها في الجدل والحجاج والرد على الملحدين الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا وقلوبهم تفيض كفراً فأثاروا الفتن وولدوا الشكوك في المسائل الدينية" (¬4). 2 - قولهم في مرتكب الكبيرة أنه في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، وقد خالفوا بذلك أهل السنة والجماعة من السلف فإنهم لا يحكمون بخروج المؤمن من الإيمان بارتكابه الكبيرة. 3 - قولهم أن أخص أوصاف الله القدم وبذلك نفوا عنه الصفات، خشية تعدد القدماء، فقالوا: الله عالم لذاته قادر لذاته إلى آخره، أو عالم بعلم هو عين ذاته قادر بقدرة هي ذاته لا معنى قائم بالذات؛ وخالفوا أهل السنة الذين قالوا: إن ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ (ص 2)،وينظر: (ص 22). (¬2) ينظر: شرح العقيدة الطحاوية (1/ 588)، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين لمحمد بن عمر بن الحسين الرازي (1/ 39)، والانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار ليحيى بن أبي الخير العمراني (3/ 755). (¬3) ينظر: مجموعة ملفات الشيخ (ص 2 - 3). (¬4) مجموعة ملفات الشيخ (ص 22).

صفات الله تعالى قائمة بالذات ملازمة لها، وليست هناك ذات مجردة عن الصفات (¬1). 4 - وقالوا: إن كلام الله مخلوق في كل. 5 - وقالوا: بأن الله لا يُرى بالأبصار يوم القيامة وتأولوا كل النصوص في ذلك. 6 - أخضعوا العقل في ردهم لما ثبت من صفات لله قائمة بذاته مثل الرؤية وغيرها وكأنهم أخذوا ذلك من الفلاسفة. 7 - نفوا القدر بمعنى إنكار عموم مشيئته وشمول قدرته سبحانه وتعالى، وقالوا: بأن العبد مريد لفعل نفسه الاختياري خالق له بقدرته التي أودعها الله فيه، وقالوا: بأن الله أراد -كونا- الخير والناس هم الذين أرادوا لأنفسهم الشر، وقد خالفوا أهل السنة في ذلك فقد أثبتوا لله عموم قدرة ومشيئته الكونية خلافاً للمعتزلة ومن ذهب مذهبهم، إذ لا يكون من الله فعل إلا بإرادته (¬2). 8 - أوجبوا على الله عقلاً أن يدخل من مات على الإيمان والطاعة والتوبة الجنة، كما يجب عليه عقلاً أن يدخل من ارتكب كبيرة النار ويخلد فيها وسموا هذا وعداً ووعيداً وكأنهم أخذوا هذا من الخوارج. 9 - ومن أصولهم التحسين والتقبيح العقليان، وقالوا: بأن العقل يدرك حسن الحسن وقبح القبيح فتمكينه معرفة، وقالوا: بأنه لو لم يرد الشرع ببيان الحسن والقبيح لوجب بالعقل فعل الحسن وترك القبيح؛ وهذا أصل فاسد. 10 - قالوا: بأن الله حكيم فلا يفعل إلا الصلاح، وأوجبوا عليه بالعقل رعايته ذلك، أما الأصلح فقد اختلفوا في وجوبه وسموا ذلك عدلاً وكأنهم أخذوا هذا الأصل من زعماء القدرية، وهذا مبني على ما ذهبوا إليه من قولهم في التحسين والتقبيح العقليين (¬3)؛ وبذلك خالفوا أهل السنة والجماعة الذين يثبتون القدر بجميع مراتبه. ¬

(¬1) ينظر: فتاوى ورسائل الشيخ عبد الرزاق عفيفي (1/ 161). (¬2) تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 12، 32،80، 261). (¬3) ينظر: مذكرة التوحيد (ص 58).

من أهم الفرق الكلامية التي نشأت بالتزامن تقريباً مع نشأة الجهمية، أو بعدها بقليل، فرقة المعتزلة، وهي من أكبر الفرق الكلامية التي عُرفت بآرائها المستقلة. المعتزلة من الفرق الكلامية العقلانية المنتسبة للإسلام، ظهرت في عصر التابعين، أواخر العصر الأموي، وانتشرت في العصر العباسي، اعتمدت النظر العقلي المجرَّد أساساً لعقائدها وأفكارها، فخلطوا بين الشرعيات والفلسفة والعقليات في كثير من مسائل العقيدة، وهم فرق وطوائف يجمعهم غالباً القول بالأصول الخمسة المعروفة عنهم، وهي: التوحيد (¬1)، والعدل (¬2)، والوعد والوعيد (¬3)، والمنزلة بين المنزلتين (¬4)، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬5) (¬6). إن نشأة الاعتزال كان نتيجة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة النظر العقلي المجرّد في النصوص الدينية، وذلك نتيجة التأثر بالفلسفة اليونانية والهندية، والعقائد اليهودية والنصرانية (¬7). وقد ارتبط هذا التطور في أصل منشئه بقصة واصل بن عطاء (¬8)، مع شيخه الحسن البصري حين دخل رجل على مجلسه فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون ¬

(¬1) يقصدون به سلب لمعنى الكثرة والتعدد والتركيب فنفوا عن الله جميع الصفات وأولوا كل نص متواتر جاء بإثبات شيء من ذلك. (¬2) يقصدون به نفي أن يكون الله خالقاً لأفعال العباد. (¬3) يقصدون به أنه يجب على الله إنفاذ وعده ووعيده، وإلا كان مخلفاً للميعاد فرتبوا على هذا معاقبة العاصي، وعدم خروج أهل الكبائر من النار، وإنكار الشفاعة لهم. (¬4) يقصدون بها مرتكب الكبيرة فهو عندهم ليس مؤمناً ولا كافراً ولكنه بين الكفر والإيمان في الدنيا وخالد في النار في الآخرة. (¬5) يقصدون به نشر الأصول التي اعتقدوها والأمر بها فأباحوا قتل المخالف والخروج على الحاكم الشرعي. ينظر لتفسير معنى هذه الأصول: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (141، 135 - 136، 345 - 355، 697)، المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها أ. د. عوّاد المعتق (151 - 207، 209 - 254، 255 - 264، 265 - 282)، مقالات الإسلاميين (1/ 466). (¬6) ينظر: الموسوعة الميسرة (1/ 69). (¬7) ينظر: الجهمية والمعتزلة (ص 127)، الموسوعة الميسرة (1/ 69). (¬8) واصل بن عطاء الغزَّال، أو حذيفة المخزومي البصري القدري، رأس المعتزلة وإمامهم، صاحب عبد الله بن محمد بن الحنفية، كان بليغاً، يلثغ في الراء فيتجنبها، توفي سنة (131 هـ). ينظر: ميزان الاعتدال (4/ 329)، سير أعلام النبلاء (5/ 464).

أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ فتفكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد يقرر ما أجاب على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة (¬1). وقد كان السلف يردّون على أقوالهم، وما المواقف التي اتخذها السلف أيام محنة القول بخلق القرآن إلا صورة عظيمة من صور التحدي والوقوف في وجه ترويج هذه الفرقة لمذهبها بين الناس، وبخاصة موقف الإمام أحمد: الذي كان موقفه حقيقاً بأن يجعله إماماً لأهل السنة والجماعة في ذلك العصر وبعده (¬2). ¬

(¬1) ينظر: الملل والنحل (1/ 42)، الفرق بين الفرق (ص 118)، سير أعلام النبلاء (5/ 464). (¬2) ينظر: البداية والنهاية (14/ 393 - 405).

3 - الأشعرية

3 - الأشعرية. بين الشيخ - رحمه الله - أصول الأشعرية في معرض رده على بعض مخالفاتهم لمنهج أهل السنة والجماعة؛ فمن أصولهم: 1 - ذهب الأشعرية في صفة الكلام لله بأنها صفة نفسية ذاتية قديمة قائمة بذات الله تعالى، ليست بحرف ولا صوت، ووافقوا في ذلك مذهب الكلابية (¬1). 2 - نفت الأشعرية حدوث الكونيات بأنها محل للحوادث، فلزمهم بذلك نفي قيام الصفات الفعلية بالله والتزموا تأويل النصوص المثبتة لصفات الأفعال بما يسمونه قديماً (¬2). 3 - قولهم بالجبر وسموه كسباً (¬3). 4 - قولهم إن المسببات توجد عند وجود الأسباب لا بها، والنتائج توجد عند وجود الأدلة لا بها، ومذهب أهل السنة والجماعة أنها توجد بها لكن لا بذاتها بل بجعل الله لها أسباباً لمسبباتها، ودلائل على نتائجها (¬4). 5 - الأشعرية يرون أن أحكام الله خطابه، وأنها قديمة غير مخلوقة، وأنها شيء واحد في نفسه، وإن تعددت باعتبار متعلقاتها وتعلقاتها (¬5). إن الحديث عن الأشعرية والأشاعرة يُعَدُّ من أصعب الأمور التي تواجه الباحث في العقيدة وفي باب الصفات خصوصاً؛ للانتشار الواسع لهذا المذهب، مما يستوجب اهتماماً خاصاً به؛ ولقربه أيضاً من معتقد أهل السنة والجماعة في العديد من أبواب المعتقد (¬6)، مما ¬

(¬1) ينظر: مجموعة ملفات الشيخ (ص 177)، وتعليق الشيخ على الإحكام (2/ 173). (¬2) ينظر: مجموعة ملفات الشيخ (ص 177). (¬3) ينظر: مجموعة ملفات الشيخ (ص 157). (¬4) تعليق الشيخ على الإحكام (3/ 286). (¬5) تعليق الشيخ على الإحكام (3/ 313). (¬6) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنّة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف، فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث، وهم يعدّون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل: المعتزلة والرافضة وغيرهم؛ بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم: المعتزلة والرافضة ونحوهم". ينظر: بيان تلبيس الجهمية (2/ 87)، مجموع الفتاوى (6/ 55، 8/ 230)، درء التعارض (4/ 101 - 102، 6/ 292)، التدمرية (ص 190 - 191).

أوجد خلطاً عند الكثير ممن كتبوا عن هذا المذهب، بينه وبين مذهب أهل السنة والجماعة، فكان من الواجب الوقوف عند هذه الأمور (¬1). الأشعرية فرقة كلامية واسعة الانتشار، تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري، ظهرت في القرن الرابع الهجري وما بعده. بدأت أصولها بنَزَعات كلامية خفيفة، تلقفها الأشعري عن ابن كلاب تدور حول نفي الصفات الاختيارية، مع القول بالجبر والإرجاء، ثم تطورت وتوسعت في المناهج الكلامية حتى أصبحت في القرون المتأخرة -الثامن وما بعده- فرقة كلامية محضة، ذات منهج عقلاني فلسفي، مع خلط ذلك بالصوفية والقبورية، فاتخذت البراهين العقلية الكلامية وسيلة في محاجة خصومها من المعتزلة والفلاسفة وغيرهم (¬2). والأشاعرة: هم أتباع المذهب الأشعري الذين حادوا عن منهج السلف أهل السنة والجماعة في العقيدة (¬3). أهم معتقداتهم: 1 - يعتمد الأشاعرة في مصادر التلقي للعقيدة -إضافة إلى مصادر التلقي المعروفة لدى أهل السنة والجماعة وهي: القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع- على العقل، بل هو المصدر الأساس لديهم، وهو المعوّل عليه والمقدَّم إذا وجد إيهام التعارض بينه وبين النصوص الشرعية (¬4). 2 - يقولون بأن أول واجب على المكلف هو النظر، أو القصد إلى النظر، أو الشك (¬5). ¬

(¬1) النفي في باب الصفات (ص 614). (¬2) ينظر: الفرق الكلامية المشبهة والأشاعرة والماتريدية أ. د. ناصر العقل (ص 49)، الموسوعة الميسرة (1/ 87). (¬3) ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 94)، خبيئة الأكوان لصديق حسن خان (ص 50 - 51). (¬4) ينظر: الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقادية لأبي المعالي الجويني (ص 359 - 360)، أساس التقديس في علم الكلام للفخر الرازي (ص 125 - 126)، شرح المواقف للجرجاني (4/ 50 - 53). (¬5) ينظر: الرسالة القشيرية لعبد الكريم القشيري (ص 426)، ميزان العمل لأبو حامد الغزالي (405 - 407)، موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 595 - 599، 632 - 644، 667 - 670).

3 - لا يجعلون النصوص الشرعية هي العمدة في تلقي العقائد، بل إنهم يسلطون عليها قواعدهم العقلية ويخضعونها للتأويل والتحريف أو الرد بحجة ظنيتها عما دلالة أو ثبوتاً، إذا خالفت معقولاتهم الفاسدة، ولا يوردون النصوص إلا اعتضاداً لما قرروه سلفاً بقواعدهم العقلية (¬1). 4 - التوحيد عندهم يشمل ثلاثة أمور هي: -أن الله واحد في ذاته لا قسيم له. -أن الله واحد في صفاته لا شبيه له. - أن الله واحد في أفعاله لا شريك له (¬2). ولا إله إلا الله عندهم معناها: لا خالق إلا الله، ويفسرون الألوهية بأنها القدرة على الاختراع (¬3). 5 - الأشاعرة مرجئة في أبواب الإيمان ومذهبهم أقرب إلى مذهب الجهمية، إذ يقولون بأنه التصديق القلبي فقط، واختلفوا في النطق بالشهادتين، أيكفي عنه التصديق القلبي أم لا بد منه؛ ولا يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه، كما أنهم يوجبون الاستثناء في الإيمان (¬4). 6 - يعتمدون في باب القدر على نظرية الكسب، في محاولة للتوفيق بين مذهب القدرية والجبرية، وهي تؤول في آخرها إلى الجبر، ويعجز التعبير عن تفسيرها (¬5). 7 - قالوا بأن إرسال الرسل راجع إلى المشيئة المحضة، أي: خالية من الحكمة، ولا دليل على صدق النبي إلا المعجزة؛ وينكرون صدور جميع الذنوب من الأنبياء، صغيرها وكبيرها، لمنافاتها العصمة (¬6)، وغير ذلك من المسائل التي خالفوا فيها منهج أهل السنة والجماعة (¬7). ¬

(¬1) أساس التقديس (ص 123 - 132). (¬2) ينظر: الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به للباقلاني (ص 33 - 34)، نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني (ص 90). (¬3) ينظر: أصول الدين (ص 123)، شرح أسماء الله الحسنى للرازي (ص 124). (¬4) ينظر: الإرشاد (ص 397)، غاية المرام في علم الكلام للآمدي (ص 311)، شرح المواقف (8/ 351،360). (¬5) ينظر: الإنصاف (ص 45 - 46)، أصول الدين (ص 133)، الإرشاد (ص 187 - 203)، نهاية الإقدام (ص 77). (¬6) ينظر: البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات للباقلاني (ص 37 - 38)، نهاية الإقدام (ص 370)، غاية المرام (234). (¬7) ينظر: منهج الأشاعرة في العقيدة د. سفر الحوالي، النفي في باب صفات الله عز وجل (ص 620 - 622).

- موقف أهل السنة والجماعة ممن خالفهم في بعض مسائل أصول الدين

موقف أهل السنة والجماعة ممن خالفهم في بعض مسائل أصول الدين: قال الشيخ - رحمه الله -: " وهؤلاء الذين خرجوا عن أهل السنة والجماعة في مسائل من أصول الدين، ففيهم من السنة بقدر ما بقي لديهم مما وافقوا فيه الصحابة ن وأئمة الهدى من مسائل أصول الإسلام، وفيهم من البدع والخطأ بقدر ما خالفوهم فيه من ذلك قليلاً كان أو كثيراً، وأقربهم إلى أهل السنة والجماعة أبو الحسن الأشعري ومن تبعه عقيدة واستدلالاً" (¬1). قال الشيخ - رحمه الله -: " وموقفنا من أبي بكر الباقلاني (¬2) والبيهقي (¬3) وأبي الفرج ابن الجوزي (¬4) وأبي زكريا النووي وابن حجر العسقلاني، وأمثالهم ممن تأول بعض نصوص صفات الله تعالى أو فوضوا في أصل معناها، أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم فرحمهم الله رحمة واسعة وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة ن وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخير، ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ (ص 157). (¬2) هو: القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم المعروف بالباقلاني البصري الشافعي الأصولي المتكلم المشهور، كان على مذهب أبي الحسن الأشعري ومؤيداً اعتقاده وناصراً طريقته سكن بغداد، وصنف التصانيف الكثيرة في علم الكلام وغيره، توفي - رحمه الله - ببغداد سنة (403 هـ). ينظر: تاريخ بغداد (2/ 455)، ووفيات الأعيان (4/ 98)، والعبر للذهبي (2/ 207)، وشذرات الذهب (3/ 168). (¬3) هو: الحافظ العلامة أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي الشافعي صاحب التصانيف، لزم الحاكم مدة فأخذ عنه وعن غيره، كتب الحديث وحفظه في صباه، وتفقه وبرع، وارتحل إلى العراق والجبال والحجاز، توفي - رحمه الله - سنة (458 هـ)، وله مصنفات عديدة منها: شعب الإيمان وكتاب الأسماء والصفات وكتاب البعث والنشور. ينظر: وفيات الأعيان (1/ 96)، وتذكرة الحفاظ (3/ 1132)، والعبر (2/ 308)، وشذرات الذهب (3/ 304). (¬4) هو: العلامة الحافظ المفسر، عالم العراق، وواعظ الآفاق، صاحب التصانيف السائرة في فنون العلم: أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله، ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، أكثر من التصنيف في أنوا ع العلوم من التفسير والحديث والفقه والزهد والوعظ والتاريخ وغيرها، توفي - رحمه الله - سنة (597 هـ)، ومن مصنفاته: كشف المشكل من حديث الصحيحين، وزاد المسير في علم التفسير، وتلبيس إبليس. ينظر: وفيات الأعيان (3/ 116)، وتذكرة الحفاظ (4/ 1342)، وشذرات الذهب (4/ 329).

وأنهم أخطؤوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض ذلك" (¬1) (¬2). سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين: حكم الترحم على من مات وعنده خطأ عقدي، فأجاب بقوله: " ... هناك علماء مشهودٌ لهم بالخير، لا ينتسبون إلى طائفة معينة مِن أهل البدع؛ لكن في كلامهم شيءٌ من كلام أهل البدع؛ مثل ابن حجر العسقلاني والنووي رحمهما الله فإن بعض السفهاء من الناس قدحوا فيهما قدحاً تاماً مطلقاً من كل وجه، حتى قيل لي: إن بعض الناس يقول: يجب أن يُحْرَقَ فتح الباري؛ لأن ابن حجر أشعري، وهذا غير صحيح. فهذان الرجلان بالذات ما أعلم اليوم أن أحداً قدَّم للإسلام في باب أحاديث الرسول مثلما قدَّماه، ويدلك على أن الله سبحانه وتعالى بحوله وقوته -ولا أَتَأَلَّى على الله- قد قبلها، ما كان لمؤلفاتهما من القبول لدى الناس؛ لدى طلبة العلم، بل حتى عند العامة، فالآن كتاب رياض الصالحين يُقرأ في كل مجلس, ويقرأ في كل مسجد، وينتفع الناس به انتفاعاً عظيماً، وأتمنى أن يجعل الله لي كتاباً مثل هذا الكتاب، كلٌّ ينتفع به في بيته وفي مسجده. فكيف يقال عن هذين: إنهما مبتِدعان ضالان، لا يجوز الترحُّم عليهما، ولا يجوز القراءة في كتبهما! ويجب إحراق فتح الباري، وشرح صحيح مسلم؟! سبحان الله! فإني أقول لهؤلاء بلسان الحال وبلسان المقال: أَقِلُّوا عليهمُ لا أبا لأبيكمُ ... مِن اللومِ أو سدوا المكان الذي سدوا من كان يستطيع أن يقدم للإسلام والمسلمين مثلما قدَّم هذان الرجلان، إلا أن يشاء الله. فأنا أقول: غفر الله للنووي، ولابن حجر العسقلاني، ولمن كان على شاكلتهما ممن نفع الله بهم الإسلام والمسلمين. وأمِّنوا على ذلك" (¬3). قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: " من كان عنده أخطاء اجتهادية تأوَّل فيها غيره، كابن حجر، والنووي، وما قد يقع منهما من تأويل بعض الصفات: لا يُحكم عليه بأنه مبتدع، ولكن يُقال: هذا الذي حصل منهما خطأ، ويرجى لهما المغفرة بما قدماه من ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ (ص 158). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 14) (7/ 392) (13/ 227)، وشرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله (1/ 512). (¬3) كلام الشيخ محمد بن صالح العثيمين في "لقاءات الباب المفتوح" (43/السؤال رقم 9).

4 - الملحدون

خدمة عظيمة لسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما إمامان جليلان، موثوقان عند أهل العلم" (¬1). وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله -: " مثل النووي، وابن حجر العسقلاني، وأمثالهم، من الظلم أن يقال عنهم: إنهم من أهل البدع، أنا أعرف أنهما من "الأشاعرة"، لكنهما ما قصدوا مخالفة الكتاب والسنَّة، وإنما وهِموا، وظنُّوا أنما ورثوه من العقيدة الأشعرية: ظنوا شيئين اثنين: أولاً: أن الإمام الأشعري يقول ذلك، وهو لا يقول ذلك إلاَّ قديماً؛ لأنه رجع عنه. وثانياً: توهموه صواباً، وليس بصواب" (¬2). 4 - الملحدون. رد الشيخ - رحمه الله - على ما يعتقده الملحدون، فيقول: " وجود الله معلوم من الدين بالضرورة، وهو صفة لله بإجماع المسلمين، بل صفة لله عند جميع العقلاء حتى المشركين لا ينازع في ذلك إلا ملحد دهري، ولا يلزم من إثبات الوجود صفة لله أن يكون له موجد؛ لأن الوجود نوعان، وجود ذاتي ... ، ووجود حادث" (¬3). الإلحاد في اللغة: هو الميل، وورود هذه اللفظة يقترن بأسماء الله وآياته كما قال عز وجل: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} الأعراف: 180. فالإلحاد في الاصطلاح: الميل عما يجب اعتقاده أو عمله وهو قسمان: أحدهما: في أسماء الله. الثاني: في آياته. في أسمائه: وهو العدول عن الحق الواجب فيها وهو أربعة أنواع: 1 - أن ينكر شيئا منها أو مما دلت عليه الصفات كما فعلت المعطلة. ¬

(¬1) المنتقى من فتاوى الفوزان (2/ 211، 212)، وينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 240). (¬2) من (شريط رقم 666) "من هو الكافر ومن هو المبتدع ". (¬3) فتاوى اللجنة (3/ 190).

2 - أن يجعلها دالة على تشبيه الله لخلقه كما فعل المشبهة. 3 - أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه لأن أسماء الله توقيفية كتسمية النصارى له "أبا" وتسمية الفلاسفة له " علة فاعلة" ونحو ذلك. 4 - أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام كاشتقاق اللات من الإله والعزى من العزيز. وأما الإلحاد في آياته فيكون في الآيات الشرعية -وهي ما جاءت به الرسل من الأحكام والأخبار-، وفي الآيات الكونية -وهي ما خلقه الله ويخلقه في السموات والأرض-. فأما الإلحاد في الآيات الشرعية فهو تحريفها أو تكذيب أخبارها أو عصيان أحكامها، أما الإلحاد في الآيات الكونية فهو نسبتها إلى غير الله أو اعتقاد شريك أو معين له فيها (¬1). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "قال تعالى: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)} الأنعام: 126، وقال عن إبليس {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ ...} الأعراف: 16 - 17 وقال تعالى {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} سبأ: 20. وهؤلاء الملحدون من أكابر متبعيه فإنه قعد لهم على صراط الله المستقيم فصدهم عنه حتى كفروا بربهم وآمنوا أن نفوسهم هي معبودهم وإلههم" (¬2). وقال شيخ الإسلام في معرض رده على المتكلمين (¬3): " صار أهل السنة يصفون الله بالوجود وكمال الوجود، وأولئك يصفون بعدم كمال الوجود، أو بعدم الوجود بالكلية؛ فهم ممثلة معطلة؛ ممثلة في العقل والشرع، معطلة في العقل والشرع" أ. هـ. 5 - الحلولية. يبين الشيخ - رحمه الله - مذهب الحلولية، فيقول: "من اعتقد أن الله - عز وجل - بذاته في الأرض فهذا مخالف للكتاب والسنة والإجماع وهو مذهب الحلولية الذين يقولون: إن الله حال في ¬

(¬1) فتح رب البرية بتلخيص الحموية لابن عثيمين - رحمه الله - (ص 23). (¬2) مجموع الفتاوى (2/ 267). (¬3) في كتاب دقائق التفسير (5/ 110).

5 - الحلولية

كل مكان فمن قال بذلك عن جهل بُيِّن له الحكم، فإن أصر أو كان يقول ذلك لا عن جهل فهو كافر بالله فلا تصح الصلاة خلفه" (¬1). عقيدة الحلول لا ترتبط بفرقة أو طائفة معينة بل هي معتقد طوائف عدة وفرق كثيرة أولها النصارى الذين قالوا بحلول اللاهوت -أي الله- في الناسوت -أي عيسى ابن مريم-، ثم تبعهم غلاة الروافض الذين يقولون بحلول الذات الإلهية بعلي بن أبي طالب، وجاء بعدهم طوائف من المعتزلة والجهمية سلكوا مسلك حلول الذات الإلهية في من يشاء من البشر (¬2) (¬3). والحلول نوعان: حلول خاص: وهو قول النسطورية (¬4) من النصارى ونحوهم ممن يقولون إن اللاهوت حل في الناسوت كحلول الماء في الإناء وهو قول الرافضة الذين يقولون إنه حل في علي بن أبي طالب. والحلول العام: وهو القول الذي ذكره أئمة أهل السنة والجماعة عن طائفة الجهمية المتقدمين الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان (¬5) (¬6). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (3/ 201). (¬2) وقد نزغ بذلك بعض أهل الضلال من حلولية الجهمية, والصوفية كما جاء ذلك في "فصوص ابن عربي", و"فتوحاته المكية", وممن ذهب إلى ذلك -أيضا-: ابن سبعين, والحلاج, وغيرهم من أرباب أهل الحلول والاتحاد؛ ولهذا يروى عن بعضهم أنه قال: ما في الجبة إلا أنا, وما في الجبة إلا الله -تعالى الله عن ذلك-. والتفت أحدهم إلى تلاميذه, وقال: لا إله إلا أنا .. فاعبدون. -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-؛ لأنه يزعم أن الله حال في ذاته. ينظر: شرح الفتوى الحموية، د. حمد بن عبد المحسن بن أحمد التويجري (ص 394). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (2/ 298)، الجواب الصحيح (3/ 366). (¬4) هي فرقة من فرق النصارى قالوا إن مريم لم تلد الإله إنما ولدت الإنسان وأن الله لم يلد الإنسان إنما ولد الإله، وموطنها في الموصل والعراق وخراسان، وهم منسوبون إن نسطور وكان بطريركا في القسطنطينية. ينظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (1/ 49). (¬5) المخالفين لمنهج السلف في مسألة العلو يقولون بأحد قولين حينما يسئلون عن علو الله سبحانه وتعالى، فبعضهم يقول: الله في كل مكان، وبعضهم يقول: إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه! والحقيقة أن هذين القولين باطلان، أما من يقول: إن الله في كل مكان ... فلا شك أن هذا القول ينبت منه الحلول الباطل ... وحقيقته في النهاية الانتهاء إلى إنكار وجود الله؛ لأن معنى ذلك أنه سبحانه وتعالى ليس له ذات متميزة ... وبهذا استدل الأئمة رحمهم الله تعالى، وبينوا به بطلان مذاهب الحلول. ينظر: شرح كتاب لمعة الاعتقاد، د. عبد الرحمن المحمود (6/ 3) المكتبة الشاملة. (¬6) ينظر: التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية لابن مهدي (ص 252)، والتدمرية تحقيق د. محمد السعوي (ص 107).

قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " وبالجملة فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر واتحاده به وإن البشر يكون إلها وهذا من الآلهة، فهو كافر مباح الدم" (¬1). قال كذلك: " ليس هناك ثمة كفر أعظم من هذا الكفر, ولا إلحاد أعظم من هذا الإلحاد؛ لأن هذا الكلام, أو هذا الاعتقاد يلزم عليه .. أنه ليس هناك ثمة شرك على وجه الأرض, فكل ما عبد من دون الله فهو عبادة لله على حد قول هؤلاء, فالذين عبدوا العجل قالوا: ما عبدوا إلا الله, الذين عبدوا الأصنام, الذين عبدوا عزير, الذين عبدوا المسيح, الذين عبدوا الأشجار, والذين عبدوا الأحجار, وأي شرك أعظم من هذا الشرك؟ وأي كفر أعظم من هذا الكفر؟ يقول: وقد نزغ بذلك بعض أهل الضلال فزعموا أن الله -تعالى- في كل شيء بنفسه كائنا كما هو في العرش. يزعمون أن الله فوق العرش وفي كل مكان, في هذا المسجد, في السوق, في السيارة -كما سيأتي-؛ حتى في الحشوش -تعالى الله عن ذلك-" (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (2/ 481). (¬2) نقلاً عن شرح الفتوى الحموية، د. حمد التويجري (1/ 394)، وينظر: مجموع الفتاوى (2/ 481 - 486).

المطلب الثاني: قول بعض الفرق في القدر

المطلب الثاني قول بعض الفرق في القدر. موضوع "القضاء والقدر" من الموضوعات الكبرى التي خاض فيها الناس، مؤمنهم وكافرهم، على مر العصور والأزمان، وقد تكلم فيها الجميع، وشغلت أذهان الفلاسفة والمتكلمين وأتباع الطوائف من أهل الملل من غيرهم. والسبب في ذلك واضح وهو ارتباط القدر بحياة الناس وأحوالهم اليومية وما فيها من أحداث وتقلبات. والأقوال في القدر -بإجمال- لم تتغير قبل الإسلام أو بعده، فهي ترجع دائماً إلى ثلاثة أقوال: 1 - قول أهل الجبر، الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على أفعاله وليس له إرادة ولا قدرة، ويمثل هذا في الفرق الإسلامية مذهب الجهمية ومن وافقهم، وهو ما يسمى في العصور المتأخرة بالمذهب الحتمي. 2 - ويقابلهم قول أهل حرية الإرادة، واستقلال الإنسان في أفعاله عن خالقه، وأن الإنسان له إرادة مستقلة عن إرادة الله، كما أنه هو الذي يخلق أفعاله، ويمثل هذا المذهب المعتزلة (القدرية)، ومن وافقهم. 3 - وهناك قول وسط بين هؤلاء وهؤلاء، يثبتون القدر وأن الله خالق كل شيء، ويقولون أيضاً: إن للإنسان إرادة ومشيئة ولكنها خاضعة لمشيئة الله، كما أن له قدرة يفعل بها فعله، لكنه هو وأفعاله مخلوق لله تعالى. وهذا مذهب السلف وأتباع الأنبياء. وبين هذه الطوائف - الثلاث- قد تنشأ فرق أخرى، تميل في بعض المسائل إلى طائفة، وفي المسائل الأخرى إلى طائفة ثانية، ويكون الحكم عليها حسب ما يغلب على مذهبها (¬1). ونعرض لبعضهم فيما يلي:- ¬

(¬1) ينظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1308).

1 - الجبرية والمعتزلة

1 - الجبرية والمعتزلة. قال الشيخ - رحمه الله -: " القدرة نوعان: الأولى: بمعنى توفر الأسباب والآلات، وهي مناط التكليف، فيها يتمكن العبد من القيام بما كلف به، وهي موجودة في كل مكلف مسلم أو كافر مطيع أو عاص، وتكون مقارنة للفعل وقد تتقدم عليه، وبذلك يتبين أن التكليف بالفعل لا يتقدم عليها. والثانية: بمعنى التوفيق وهذه مقارنة للفعل وموجودة فيمن أطاع دون من عصى وليست مناطاً للتكليف. وقد أثبت الجبرية القدرة بمعنى التوفيق ونفوا القدرة بمعنى توفر الأسباب والآلات، وذهب المعتزلة إلى العكس" (¬1). القدرة التي يتمكن بها العبد من الفعل، تسمى بالاستطاعة، وقد عُرفت بأنها: "عرض يخلقه الله في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية" (¬2)، وهي في عرف المتكلمين: "عبارة عن صفة بها يتمكن الحيوان من الفعل والترك" (¬3). وقد وقع الخلاف فيها على أقوال: 1 - قول الجهمية، وهو أنه ليس للعبد أي استطاعة، لا قبل الفعل ولا معه، بل له قدرة شكلية غير مؤثرة في الفعل أصلاً، وتسمى فعلا له تجوزاً (¬4). 2 - قول المعتزلة ومن وافقهم: وهو أن الله تعالى قد مكن الإنسان من الاستطاعة، وهذه الاستطاعة قبل الفعل، وهي قدرة عليه وعلى ضده، وهي موجبة للفعل (¬5). ¬

(¬1) تعليق الشيخ على الإحكام (1/ 179). (¬2) التعريفات للجرجاني (ص 12). (¬3) التعريفات (ص 12). (¬4) ينظر: الملل والنحل (1/ 85)، البحر الزخار لابن المترضى (1/ 122)، الفرق بين الفرق (ص 2111)، الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد للجويني (ص 215). (¬5) ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 300)، الفرق بين الفرق (ص 116)، نظرية التكليف آراء القاضي عبد الجبار الكلامية، لعبد الكريم عثمان (ص 317) وما بعدها، شرح الأصول الخمسة للهمداني المعتزلي (ص 398).

3 - قول الأشاعرة ومن وافقهم: وهو أن الاستطاعة مع الفعل لا تجوز أن تتقدمه ولا أن تتأخر عنه، بل هي مقارنة له، وهي من الله تعالى، وما يفعله الإنسان بها فهو كسب له (¬1). 4 - قول أهل السنة -وهو الذي عليه محققو المتكلمون وأهل الفقه والحديث والتصوف وغيرهم- وهو التفصيل: أ- فهناك استطاعة للعبد بمعنى الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات، وهي التي تكون مناط الأمر والنهي، وهي المصححة للفعل، فهذا لا يجب أن تقارن الفعل، بل تكون قبله متقدمة عليه، وهذه الاستطاعة المتقدمة صالحة للضدين ومثالها قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} آل عمران: 97، فهذه الاستطاعة قبل الفعل ولو لم تكن إلا مع الفعل لما وجب الحج إلا على من حج، ولما عصى أحد بترك الحج. وهذه الاستطاعة هي مناط الأمر والنهي، وهي التي يتكلم فيها الفقهاء وهي الغالبة في عرف الناس. ب- وهناك الاستطاعة التي يجب معها وجود الفعل، وهذه هي الاستطاعة المقارنة، الموجبة له، ومن أمثلتها قوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)} هود: 20، وقوله: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)} الكهف: 101، "فالمراد بعدم الاستطاعة مشقة ذلك عليهم وصعوبته على نفوسهم، فنفوسهم لا تستطيع إرادته وإن كانوا قادرين على فعله لو أرادوه، وهذه حال من صده هواه أو رأيه الفاسد عن استماع كتب الله المنزلة واتباعها وقد أخبر أنه لا يستطيع ذلك، وهذه الاستطاعة هي المقارنة الموجبة له" (¬2)، وهي الاستطاعة الكونية التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل (¬3). ¬

(¬1) ينظر الإرشاد (ص 219 - 220)، معالم أصول الدين للرازي (ص 83)، المعتمد للقاضي أبي يعلى (ص 142). (¬2) درء التعارض (1/ 61). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 129 - 130، 290 - 292، 371 - 376، 441)، ومنهاج السنة (1/ 7 - 8، 369 - 373)، درء التعارض (9/ 241)، موقف ابن تيمية من الأشاعرة، د. المحمود (3/ 1331 - 1332).

وقد توسط أهل السنة والجماعة في مسألة القدر وقدرة العباد بين المعتزلة المسمّون بـ"القدرية"، الذين انتشر على أيديهم القول بنفي القدر، وإنكار علم الله السابق بالأمور؛ وبين الجبرية الذين نفوا الفعل عن العبد وأضافوه إلى الله وقالوا بأن الله يجبر العباد على أعمالهم، والعباد مجبورون على أفعالهم وإنما تضاف الأعمال إلى العباد على جهة المجاز فقط كما تنسب للشمس ضوؤها فيقال: إنها مضيئة لأن الله جعلها كذلك؛ ومن أهم فرق الجبرية الجهمية (¬1). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "إن التأثير إذا فسر بوجود شرط الحادث أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر، وانتفاء موانع - وكل ذلك بخلق الله تعالى- فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار، وإن فسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون ولا معاوق مانع، فليس شيء من المخلوقات مؤثرا، بل الله وحده خالق كل شيء لا شريك له ولا ند له، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ... فإذا عرف ما في لفظ التأثير من الإجمال والاشتراك ارتفعت الشبهة، وعرف العدل المتوسط بين الطائفتين" (¬2) (¬3). وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب في الكلية قدح في الشرع، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب، فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافياً في حصول النبات، بل لا بد من ريح مربية بإذن الله ولا بد من صرف الانتفاء عنه، فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وكذلك الولد لا يولد بمجرد ¬

(¬1) ينظر: الفرق بين الفرق (ص 19)، الإيمان لابن تيمية (368)، القضاء والقدر، د. عبد الرحمن المحمود (ص 168) وما بعدها. (¬2) مجموع الفتاوى (8/ 134 - 135) وينظر: نفس المرجع (8/ 487 - 488) و (8/ 389 - 390). (¬3) ينظر غلو الجهمية في القدر: الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد لأبي الحسن الخياط (2/ 67 - 68)، شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (ص 233)، الكشاف للزمخشري (2/ 88).

إنزال الماء في الفرج، بل كم من أنزل ولم يولد له، بل لا بد من أن الله شاء خلقه، فتحبل المرأة وتربيه في الرحم، وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع" (¬1). قال ابن عبد البر: " قال الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} القمر: 49، وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} التكوير: 29. فليس لأحد مشيئة تنفذ إلا أن تنفذ منها مشيئة الله تعالى، وإنما يجري الخلق فيما سبق من علم الله، والقدر سر الله لا يدرك بجدال ولا يشفي منه مقال، والحجاج فيه مرتجة، لا يفتح شيء منها إلا بكسر شيء وغلقه، وقد تظاهرت الآثار وتواترت الأخبار فيه عن السلف الأخيار الطيبين الأبرار بالاستسلام والانقياد والإقرار بأن علم الله سابق، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} فصلت: 46" (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (8/ 70) ينظر: الجواب الكافي (ص 39 - 41)، ولطائف المعارف لابن رجب (ص 83) وما بعدها،. (¬2) التمهيد (6/ 13 - 14)، وينظر: شرح صحيح مسلم للنووي (16/ 195 - 196)،.

2 - الأشعرية

2 - الأشعرية. وقال الشيخ - رحمه الله -: " متعلق القدرة الحادثة الأخذ بالأسباب وهي مؤثرة فيها بتمكين الله لها وإقداره لعبده عليها، أما ترتيب المسببات عليها فمن الله، فهو وحده سبحانه الذي يوجد المسببات بأسبابها لا عندها كما يقول الأشعرية، فمثلاً حز إبراهيم الخليل بالسكين في رقبة ولده، وضرب موسى الكليم البحر بعصاه، ورمى محمد الخليل الحصى، كل ذلك من فعل المخلوق، أما أن تنقطع الرقبة أو ينفلق البحر أو يصيب الحصى من رمي به فإلى الله إن شاء رتب ذلك فحصل كما في الأخيرين، وإن شاء لم يحصل كما في قصة الذبيح مع أبيه إبراهيم عليهم الصلاة والسلام" (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر، إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات، والأسباب ليست مستقلة بالمسببات، بل لا بد لها من أسباب أخرى تعاونها، ولها مع ذلك أضداد تمانعها، والسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بد من الإرادة الجازمة مع القدرة، وإذا أريد بالقدرة القوة القائمة بالإنسان فلا بد من إزالة الموانع كإزالة القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كالعدو وغيره" (¬2). ويحسن هنا أن أسوق خلاصة اعتقاد أهل السنة والجماعة في القدر ملخصاً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: 1 - القدر يشمل أربع مراتب في درجتين: "الدرجة الأولى: أن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح ¬

(¬1) تعليق الشيخ على الإحكام (1/ 180) وينظر: نفس المرجع (1/ 189). (¬2) مجموع الفتاوى (8/ 487 - 488).

المحفوظ مقادير الخلق، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام، وطويت الصحف. وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد. فهذه الدرجة تشمل مرتبتين: الأولى: العلم، والثانية: الكتابة. الدرجة الثانية: مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه، فلا خالق غيره، ولا رب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته، وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد. فهذه الدرجة تشمل مرتبتين: الأولى: الإرادة والمشيئة، والثانية: الخلق والتكوين. 3 - أما أفعال العباد فهي داخلة في المرتبة الرابعة، ومذهب السلف فيها: أن الله خالق أفعال العباد، والعباد فاعلون حقيقة، والعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم، وخالق قدرتهم وإرادتهم" (¬1). ¬

(¬1) العقيدة الواسطية لابن تيمية (ص 21 - 22) مع تصرف يسير، وينظر: شفاء العليل لابن القيم (ص 29)، لمعة الاعتقاد لابن قدامة (ص 19 - 20)، وشرح الطحاوية (ص 274 - 276) وما بعدها و (ص 394، 502) وما بعدها، ومعارج القبول لحافظ حكمي (2/ 326) وما بعدها.

المطلب الثالث: الإيمان عند بعض المرجئة.

المطلب الثالث. الإيمان عند بعض المرجئة. قال الشيخ - رحمه الله -: " الإرجاء: التأخير. والمرجئة من المتكلمين والفقهاء أصناف منهم من قال: الإيمان مجرد التصديق. ومنهم من قال: الإيمان مجرد النطق بالشهادتين. ومنهم من قال: التصديق وعمل القلب. ومنهم من قال: الإيمان التصديق وقول اللسان، وهم المرجئة الفقهاء. وسموا مرجئة لتأخيرهم بعض مسمى الإيمان عن الدخول في مفهومه، وهناك طوائف أخرى من المرجئة" (¬1). وقع الخلاف بين الطوائف في حقيقة الإيمان، وهل الأعمال داخلة فيه وحكم مرتكب الكبيرة- على أقوال: 1 - قول أهل السنة والجماعة وجماهير السلف، إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قالوا ومرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته وفي الآخرة تحت المشيئة. 2 - قول المعتزلة والخوارج، وهؤلاء يقولون: الإيمان قول واعتقاد وعمل، وأما مرتكب الكبيرة: أ- فحكمه في الدنيا عند المعتزلة أنه ليس بمؤمن ولا كافر، بل هو في منزلة بين المنزلتين، ومن ثم فليس مباح الدم. وأما عند الخوارج فهو كافر مباح الدم والمال. ب- وأما حكمه في الآخرة فقد اتفق الخوارج والمعتزلة على أنه مخلد في النار كالكفار. 3 - قول مرجئة الفقهاء -من أتباع أبي حنيفة- أن الإيمان قول واعتقاد، وأما الأعمال فغير داخلة فيه. وأما حكم مرتكب الكبيرة عندهم فهو موافق لمذهب أهل السنة. 4 - قول الجهمية: أن الإيمان هو المعرفة فقط، وما عداها من تصديق القلب وإقراره، ومن القول والعمل، فغير داخل في الإيمان، وهذا قول الجهم. ولازم قوله أن إبليس وفرعون ومن ¬

(¬1) تعليق الشيخ على الإحكام (2/ 246).

شابههم ممن عرف الله وعاند فسب الله ورسوله، وعاداهم، وقتل الأنبياء، وهدم المساجد، وأهان المصاحف- أنه مؤمن كامل الإيمان. 5 - قول الماتريدية: أن الإيمان هو التصديق، وأما قول اللسان فهو دليل عليه وليس داخلا فيه، وأما العمل فغير داخل فيه. 6 - قول الكرامية: أن الإيمان قول باللسان فقط. وهذا لإثبات إيمانه في الدنيا، أما في الآخرة فمن لم يرافق قوله ما في قلبه من الاعتقاد الصحيح -كالمنافق- فهو مخلد في النار. 7 - قول الكلابية والأشعرية: ولهم في الإيمان قولان: أحدهما: أنه قول واعتقاد وعمل، وهذا قول موافق لأهل السنة والجماعة. والثاني: أن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته، ويختلف تعبير الأشاعرة هنا فتارة يقولون هو المعرفة كقول جهم، وتارة يقولون هو التصديق (¬1). أما مذهبهم في مرتكب الكبيرة فهو موافق لقول أهل السنة. ويلاحظ أن القول الثاني هو الذي اشتهر عند الأشاعرة، وهو الذي نصره أئمتهم ممن جاء بعد الأشعري، وهو الذي استقر عليه المذهب؛ وهذه خلاصة الأقوال في الإيمان (¬2). ¬

(¬1) ينظر: الإيمان لابن تيمية (ص 189 - 239)، والتسعينية (ص 160)، ومجموع الفتاوى (2/ 94). (¬2) ينظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1349 - 1351)

المبحث الرابع الباطنية

المبحث الرابع الباطنية. تمهيد الباطنية: نسبة إلى التأويل بالباطن، تصدق على كل من يذهب إلى التأويل بالباطن في القرآن الكريم، أو الحديث الشريف. ولقد تستروا بفكرة ضالة وخبيثة مؤداها: أن النصوص الشرعية من قرآن وسنة لها ظاهر وباطن. فالظاهر ما يفهم من النص العربي، والباطن: ما يفهمونه بوساوسهم وأوهامهم الخبيثة دون قاعدة يرجع إليها في فهم هذا الباطن، إلاَّ محض الخرافات التي تساعدهم على تحويل النص الشرعي إلى ألوان كفرهم وتحقيق غايتهم التي يرمون إليها، وهي سلخ المسلمين من عقيدتهم وتحويلهم عن دينهم. وقد انقسم أهل هذا المذهب الباطني إلى فرق عديدة لكل منها صورة خاصة من الكفر والضلال، ويجمعها كلها هدف واحد هو هدم الإسلام، والنيل من عقيدة المسلمين (¬1). وتعتبر الحركات الباطنية من أخطر الحركات في تاريخ العالم الإسلامي، وكذلك الرافضة والطائفتان متداخلتان في المنهج والاعتقاد والموقف من أهل السنة، ولا عجب؛ إذ كلها قائمة على مبدأ التشيع ومنطلقة منه، وإن كان التطور في بعضها قد يصل إلى الغلو أو الإباحة كما حدث للإسماعيلية والقرامطة، إلا أن القاسم المشترك بينها هو دعوى موالاة أهل البيت والقيام بالواجب نحوهم، واستخلاص حقوقهم المغتصبة- من الإمامة وغيرها- من أعدائهم؛ وهذه الحركات لا تزال -حتى الآن- تقوم بدور خطير في عالمنا الإسلامي وتحظى -كما يحظى من يتبناها من دول وغيرها- بدعم كبير من اليهود والنصارى والملاحدة -من شيوعيين ولا دينيين-؛ إذ أدرك أعداء الإسلام أن حرب المسلمين - ويقصد ¬

(¬1) ينظر لما سبق: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات للدكتور محمد مجاهد نور الدين (ص 31 - 32).

أهل السنة- لا تتم إلا بإحياء الطائفية بينهم ودعم تلك الفرق والحركات المناهضة للإسلام الحق (¬1). وصدقت فيهم مقولة أبي حامد الغزالي - رحمه الله -: " إنه مذهب ظاهره الرفض، وباطنه الكفر المحض، ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم" (¬2). ومن فرق الباطنية: 1 - غلاة الرافضة قال الشيخ - رحمه الله -: " وأما الروافض فقد أبغضوا أبا بكر وعمر وعثمان وكثيراً من الصحابة وتبرءوا منهم، وقالوا لا ولاء إلا ببراء، أي لا يصح من أحد ولاء لآل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر وعثمان ومن تبعهم، وسموا رافضة، لأنهم رفضوا نصرة زيد بن علي زين العابدين من أجل موالاته أبا بكر وعمر، فسماهم رافضة ... وقالوا بتناسخ الأرواح" (¬3). وقال الشيخ - رحمه الله -: " انتقص الله وطعن في أفعاله وشرائعه اليهود والرافضة، بخفاء الفرق بين النسخ والبداء (¬4)، وتعذر الفصل بينهما عليهم؛ فمنعت اليهود النسخ حماية لجناب الله في زعمهم، وجهلت الرافضة ربها؛ فحكمت بأن الله يبدو له من المصالح والمفاسد ما كان خفياً عليه؛ فينقض ما أبرمه (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً). ومن تبين أمر اليهود وحسدهم لمن جاء بعد موسى من الأنبياء، وكيدهم لشرائع الإسلام، وتبين حال الرافضة، ووقف على فساد دخيلتهم وزندقتهم؛ بإبطان الكفر وإظهار الإسلام، وأنهم ورثوا مبادئهم عن اليهود ونهجوا في الكيد للإسلام منهجهم؛ علم أن ما قالوه من الزور والبهتان، إنما كان عن قصد سيئ وحسد للحق وأهله، وعصبية ممقوتة دفعتهم إلى ¬

(¬1) ينظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (1/ 115). (¬2) فضائح الباطنية تحقيق عبد الرحمن بدوي (ص 37). (¬3) مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 19)، وينظر: مجموعة ملفات الشيخ (ص 24)، فتاوى اللجنة (2/ 434 - 435) (3/ 368). (¬4) ينظر لمعنى (النسخ والبداء) في التعليق الذي يعقب كلام الشيخ - رحمه الله -.

الدس والخداع وإعمال معاول الهدم سراً وعلناً للشرائع ودولها القائمة عليها، ومن قرأ آيات القرآن وتاريخ الفريقين ظهر له ما هم عليه من الدخل والمكر السيئ" (¬1). وقال الشيخ - رحمه الله - مبيناً ما سبق في تعليقه على قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} الرعد: 39: " بين (تعالى) في آخر الآية أن كل ما يكون منه من محو وإثبات وتبديل وتغيير واقع بمشيئته فعلاً وكونياً أو تشريعاً، ومسطور عنده في أم الكتاب جرى به القلم؛ فكتب ما هو كائن من ناسخ ومنسوخ وسعادة وشقاوة وسائر ما يكون من التغيير والتبديل كل منها في وقته الذي حدد له في علمه (تعالى) وكتابه، ورهين بأسبابه حسب ما تقتضيه الحكمة، وبذلك يتبين أنه لا يلزم من المحو والإثبات عموماً أن يكون بدا لله أمر كان خفياً عليه، بل كل ما كان وما سيكون من فعل أو تشريع تفسير عملي وتطبيق واقعي دقيق موافق لسابق علمه، وما جرى به قلمه في كتابه" (¬2). حدثت انقسامات داخل المذاهب الرافضية الباطنية: ومنها: الانقسام الذي وقع حول من يكون الإمام بعد جعفر الصادق - رحمه الله -. فطائفة: قالت: الإمام بعده ابنه موسى واستمرت الإمامة بعده إلى الإمام الثاني عشر - المهدي المنتظر عندهم- وهؤلاء هم الرافضة الموسوية، والجعفرية، الاثنا عشرية، ومن يطلع على عقائدهم ومذاهبهم يرى أنه لا يمكن أن يكونوا طائفة معتدلة بحال من الأحوال، إلا حال التقية. وطائفة: قالت: الإمام بعده أي - بعد جعفر الصادق- ابنه إسماعيل -الذي مات في عهد أبيه- وهؤلاء هم طائفة الإسماعيلية التي انبثقت منها حركة القرامطة، والدولة الفاطمية في المغرب ومصر، والإسماعيلية في بلاد فارس وغيرها (¬3). ¬

(¬1) تعليق الشيخ على الإحكام (2/ 136 - 137). (¬2) تعليق الشيخ على الإحكام (2/ 138 - 139). (¬3) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (ص 117).

1 - الرافضة

الرافضة: هي تلك الطائفة من الشيعة التي تعتقد بأحقية أهل البيت في الإمامة على باقي الصحابة، بمن فيهم الشيخان - رضي الله عنهم -، وأن الإمامة ركن من أركان الدين بنص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الأنبياء والأئمة معصومون، ويشمل أيضا، كل من يقول بالبداء والرجعة والغيبة والتولي والتبري إلا في حالة التقية. ويرجح العلماء سبب التسمية لرفضهم إمامة الشيخين وأكثر الصحابة، وقد أطلق عليهم هذا الاسم بعد رفضهم إمامة زيد بن علي، وتفرقهم عنه؛ لعدم موافقته على أفكارهم، وكانت تسمى من قبل الخشبية والإمامية، ومن أشهر فرقهم الاثنا عشرية (¬1). أخطر عقائد غلاة الرافضة: 1 - التأويل الفاسد: وإنما كان فاسداً لأنه صدر عن اعتقادهم أن للقرآن ظاهراً وباطناً، وأن المراد منه باطنه دون ظاهره، وأن علم الباطن مقصور عليهم وحدهم، فانطلق غلاة الرافضة كغيرهم من غلاة الباطنية يحرفون لفظ القرآن عن معناه إلى ما يتفق مع عقيدتهم وأهوائهم؛ وبالتأويل الفاسد تحلل الروافض من القيم الأخلاقية، والشعائر الدينية، ونشروا الإباحة والإلحاد. فالخطابية (¬2) استحلوا الزنا، وشرب الخمر، وقالوا بترك الصلاة، مؤولين قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} النساء: 28. وقالوا: خففت عنا يا أبا الخطاب، وقالوا من عرف الإمام فلا حرج عليه ... الخ. وهذا شبيه بنهج اليهود في التأويل والتحريف، وله صلة قوية بما كان عليه المجوس من الفرس. ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 35 - 36)، الملل والنحل (1/ 155)، مقالات الإسلاميين (ص 65)، والتبصير في الدين للإسفراييني (ص 29 - 30)، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للإمام الرازي (ص 77)، الموسوعة الميسرة (2/ 1065)، بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 43 - 44). (¬2) هي فرقة من غلاة الشيعة، أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع مولى بني أسد، وهو الذي عزا نفسه إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه. فلما وقف الصادق على غلوه الباطل في حقه تبرأ منه ولعنه، وأمر أصحابه بالبراءة منه. وشدد القول في ذلك، وبالغ في التبرؤ منه واللعن عليه. فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه. وزعم أبو الخطاب أن الأئمة أنبياء، ثم آلهة. وقال بألهية جعفر بن محمد، وألوهية آبائه رضي الله عنهم. وهم أبناء الله وأحباؤه. والإلهية نور في النبوة، والنبوة نور في الإمامة ... ينظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (2/ 15 - 17).

2 - التشبيه والحلول: أي القول بتشبيه الله بالإنسان، وأن له تعالى أعضاء كأعضائه، والقول بالحلول أيضاً حين اعتقد غلاتهم حلول الإله بذاته أو روحه جزء أو كلا في البشر، وهذا قوي الصلة بوثنية الفرس وتحريفات اليهود والنصارى، وهو مناف لعقيدة التوحيد، فالقول بالحلول باطل ومحال: فحلول الشيء لا يتصور إلاّ إذا كان الحال بحيث لا يتعين إلاّ بتوسط المحل، ولا يمكن أن يتعين واجب الوجود سبحانه بغيره، فحلوله في غيره محال. وأما التشبيه فقد نتج عن تأويلهم لبعض النصوص الشرعية على غير وجهها الصحيح فوصفوا الله سبحانه بما لا يليق به، وما ذلكَ إلاّ لركونهم إلى التأويل المهلك وتركهم للتفويض المدرك (¬1). 3 - البداء: وهو مما قالت به اليهود (¬2)، ولا يجوز على الله؛ لأنه مخالف تماماً للنسخ المقرر شرعاً إذ أن البداء بمعنى أنه بدا لله شيء كان يجهله أو يجهل الحكمة منه، ثم بدا له أن يفعله، وهذا مفهوم يؤدي إلى جواز التغير عليه سبحانه. وهو مختلف تماماً عن معنى النسخ. 4 - الرجعة: وهو القول برجعة الإمام مرة أخرى إلى الحياة بعد موته ليؤدي دوره في هداية الناس إلى مذهبه، وهذه أيضاً يقول بها اليهود (¬3). 5 - التناسخ: أي القول بتناسخ الأرواح وانتقالها من جسم إلى جسم وهذا هو الثواب والعقاب، وهو معنى القيامة عندهم، ويكون ذلكَ في الدنيا فيثاب المطيع مثلاً بأن تنتقل ¬

(¬1) ينظر: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 49). (¬2) وقد أطال العلامة موسى جار الله رحمه الله تعالى النفس في بيان بطلان دعوى البداء لله تعالى، وأن الرافضة قد أخذوه من اليهود، ونقل نصوص التوراة، من سفر التكوين وغيره، فينظر الوشيعة في كشف شنائع عقائد الشيعة، د. صالح الرقب، (110 - 120)، وينظر: التوراة (سفر التكوين، الفصل السادس، فقرة: 5)، (سفر الخروج، الفصل: 32 فقرة: 12، 14)، (وسفر قضاة، الفصل الثاني، فقرة: 18)، (وسفر صموئيل الأول، الفصل الخامس عشرة فقرة: 10، 34)، (وسفر صموئيل الثاني، الفصل: 24، فقرة: 16)، (وسفر أخبار الأيام الأول، الفصل: 21، فقرة: 1)، (وسفر أرميا، الفصل: 42، فقرة: 10)، (وسفر عاموس، الفصل: 7، فقرة: 3)، (وسفر يونان، الفصل: 3، فقرة: 10) وغيرها. (¬3) ينظر: العهد القديم (إصحاح الفصل:4، فقرة: 5).

روحه إلى شيءٍ حسن كالطاووس مثلاً، ويعاقب المجرم العاصي بأن تنتقل روحه إلى شيء قبيح مثل الكلب أو قرد. فالجزاء في الدنيا وليس هناك حياة آخرة. يقول ابن حزم: " ويبلغ الأمر بمن ذهب منهم إلى هذا أنه يأخذ أحدهم البغل والحمار فيعذبه ويضربه ويعطشه ويجيعه على أن روح أبي بكر وعمر حلت فيها" (¬1). ¬

(¬1) ينظر لما سبق من عقائد: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 172)، بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 49)، ومجموع فتاوى العقيدة لمحمد بن صالح العثيمين (4/ 293)،والأديان والفرق والمذاهب المعاصرة للعبد القادر بن شيبة الحمد (ص 239 - 245).

2 - الإسماعيلية

2 - الإسماعيلية. قال الشيخ - رحمه الله - في الإسماعيلية الذين يعتقدون أن الله حل في علي: " اعتقاد أن الله حل في علي أو غيره كفر محض مخرج من ملة الإسلام، وكذلك اعتقاد أن هناك أحداً يتصرف في السماء والأرض غير الله سبحانه كفر أيضاً، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} الأعراف: 54" (¬1). رد الشيخ - رحمه الله - على من لا يرى اتباع الشريعة الإسلامية، بقوله: " من اعتقد أن هناك أحداً يسعه الخروج من اتباع شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر يخرج من ملة الإسلام، وشريعته هي القرآن الذي أوحاه الله إليه، قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} الإسراء: 106، ومن الشريعة: السنة النبوية التي هي تبيين وتفصيل للقرآن، قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)} النحل: 64" (¬2). أنكرت هذه الفرقة أركان الإسلام، فرد عليهم الشيخ - رحمه الله -، قائلاً: " من أنكر وجحد شيئاً من أركان الإسلام أو من واجبات الدين المعلومة بالضرورة فهو كافر ومارق من دين الإسلام" (¬3). الإسماعيلية فرقة باطنية، انتسبت إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، ظاهرها التشيع لآل البيت، وحقيقتها هدم عقائد الإسلام، تشعبت فرقها وامتدت عبر الزمان حتى وقتنا الحاضر، وحقيقتها تخالف العقائد الإسلامية الصحية. وقد مالت إلى الغلو الشديد لدرجة أن الشيعة الاثني عشرية يكفرون أعضاءها. ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (2/ 393). (¬2) فتاوى اللجنة (2/ 394). (¬3) فتاوى اللجنة (2/ 494).

وقد تشعبت الإسماعيلية لفرق عده هي؛ الإسماعيلية القرامطة (¬1)، والإسماعيلية الفاطمية (¬2)، والإسماعيلية الحشاشون (¬3)، وإسماعيلية الشام (¬4)، والإسماعيلية البهرة (¬5)، ¬

(¬1) هم فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة، يقال لهم الإسماعيلية، لانتسابهم إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، ويقال لهم القرامطة، قيل نسبة إلى قرمط بن الأشعث البقار، الذي انقلب على الإسماعيلية الباطنية وقام بإنشاء مذهباً خاصاً به؛ ظاهرها التشيع لآل البيت والانتساب إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وحقيقتها الإلحاد والإباحية وهدم الأخلاق والقضاء على الدولة الإسلامية، قالوا إن للإسلام ظاهراً وباطناً، حكموا في فترة من الفترات الجزيرة وبلاد الشام والعراق وما وراء النهر, وارتكبوا مجازر بحق المسلمين وهم الطائفة الوحيدة التي تجرأت على سرقة الحجر الأسود من الكعبة المشرفة، وقد تميزت بالقتل والاغتيالات لأهداف سياسية ودينية متعصبة. ينظر: مجموع الفتاوى (35/ 141)، البداية والنهاية (11/ 71)، تاريخ ابن خلدون (4/ 30)، معجم ألفاظ العقيدة (ص 333). (¬2) هي أهم الفرق الإسماعيلية التي بدأت سرية [وتسمي تلك الفترة بـ "دور الستر"] وتمتد مذ نشأت وحتى عبيد الله المهدي الذي نقلها من السرية إلى العلنية وأقام لدعوته الضالة دولة في غرب إفريقيا وحكمت الشمال الإفريقي والشام إلى أن أزالها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله , بالتزامن - التقريبي - مع دولة شكلوها في اليمن، وقد ذهب العلماء أن مذهب هذه الفرقة شر من اليهود والنصارى بل شر من غلاة الرافضة الذين يدعون بألوهية علي بن أبي طالب. (¬3) عرفوا بالحشاشين لأنهم كانوا يكثرون من تدخين الحشيش، تواجدوا قديما بالشام وفارس وبلاد الشرق , ولازالت لهم مناطق مستقلة إلى الآن. (¬4) امتلكوا قلاعًا وحصونًا في طول البلاد وعرضها فيما مضى، وما تزال لهم بقايا في سلمية والخوابي والقدموس ومصياف وبانياس والكهف. (¬5) هم إسماعيلية الهند واليمن، وعملوا بالتجارة فوصلوا إلى الهند واختلط بهم الهندوس، وكمعظم الشيعة يجمعهم الاعتقاد بالأئمة, لكنهم خلافا للإمامية يعتقدون بأئمة "مستورين" لا يعرف عنهم أحد شيئا ولا "علماء البهرة" ذاتهم؛ ويذهب أحد الأقوال في نشأة وتطور طائفة البهرة، أنهم أصلاً من الفاطميين الشيعة الذين كانوا في مصر إبان العصر الفاطمي عندما انتهى العصر الفاطمي هاجر الكثيرون من مصر وانتقلوا من بلد إلى أخر حتى انتهى بهم المقام إلى جنوب الهند؛ زعيم فرقة الإسماعيلية البهرة ملاجي محمد برهان الدين هو الزعيم الثاني والخمسون، وقد استلم زمام الزعامة بعد وفاة الزعيم الحادي والخمسين طاهر سيف الدين، وهذا الزعيم يعد من أغنياء العالم بما يحلبه من أتباعه. ينظر كلام الشيخ عبد الرزاق عفيفي عنهم: فتاوى اللجنة (2/ 272 - 273)، (2/ 386 - 387)، (2/ 388 - 390).

والإسماعيلية الأغاخانية (¬1)، والإسماعيلية الواقفة (¬2)، والمكارمة (¬3). ويتضح أن الإسماعيلية في بدايتها كانت إحدى الفرق الشيعية، ولكنها غلت في أئمتها وتأثرت بمؤثرات كثيرة حتى وصل الأمر إلى أن اعتبرتها معظم الفرق الإسلامية كافرة وخارجة من حظيرة الإسلام، لما أسبغوه على إمامهم من صفات تصل به إلى ما يشبه مقام الألوهية، ولقولهم بالتناسخ وإنكارهم صفات الله سبحانه وتعالى، ولعدم استمدادهم عقيدتهم من خالص الكتاب والسنة (¬4). أخطر عقائد الإسماعيلية: 1 - ينفون عن الله ما وصف به نفسه، ويرون أن ذلك من مستلزمات التوحيد الخالص على غرار ما قال به أفلاطون (¬5) من فلاسفة اليونان عن العلة الأولى، ¬

(¬1) يسكنون نيروبي ودار السلام وزنجبار ومدغشقر والكنغو والهند وباكستان وسوريا ومركز القيادة الرئيسي لهم مدينة كراتشي؛ وهي فرقة نبعت من الإسماعيلية، ومؤسسها حسن علي شاه، الملقب هو وأبناؤه الذين خلفوه في زعامة الفرقة (آغاخان). (¬2) هي فرقة إسماعيلية وقفت عند الأمام محمد بن إسماعيل وهو أول "الأئمة المستورين" وقالت برجعته بعد غيبته. ينظر لما سبق من فرق الإسماعيلية: مجموع الفتاوى (35/ 128)، معجم ألفاظ العقيدة (ص 47، 79، 149، 280، 316، 333)، والموسوعة الميسرة (2/ 403)، والموجز في المذاهب والأديان المعاصرة (ص 131، 132)، موسوعة فرق الشيعة د. ممدوح الحربي (ص 257)، التحفة المهدية لفالح بن مهدي (ص 47). (¬3) المكارمة فرقة الإسماعيلية مؤسس يهودي يقال له: ميمون بن ديصاء، وهم الآن مستقرون في مدينة نجران في جنوب الجزيرة العربية، وتنتشر هذه الطائفة في قبيلة يام باليمن، ويعرفون بالمكارمة، ويقدس هؤلاء زعيمهم، ويقال: إنه ينتحل مذهب البابوات من صنع صكوك لأتباعه على قطع في الجنة! وبعض أفراد هذه الطائفة يقيمون في الهند، وباكستان. ينظر: القرامطة لطه الولي (ص 35)، الموسوعة المسيرة (1/ 389)،دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين الخوارج والشيعة د. أحمد جلي (ص 340). (¬4) ينظر: الموسوعة الميسرة (1/ 383 - 389)، بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 51)، معجم ألفاظ العقيدة (ص 43). (¬5) هو: الفيلسوف المعروف أفلاطون بن أرسطون، وقد تحدر أفلاطون من سلالة ارستقراطية رفيعة، ولد في أثينا سنة 429 ق. م، ومات في أثينا سنة 348 ق. م، كان من فلاسفة اليونان، وكانت معظم كتابات أفلاطون عبارة عن محاورات، بطلها الرئيس سقراط، وقد اتفق النقاد على صحة نسبة 28 حوار بالإضافة إلى ثلاث عشرة رسالة إلى أفلاطون. ينظر: أفلاطون، لعبد الرحمن بدوي (ص 173)، وأفلاطون للدكتور أحمد الأهواني (ص 9 - 10)، الفكر اليوناني أفلاطون للدكتور حسين حرب (ص 195)، وتاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم (ص 62)، وعيون الأنباء في طبقات الأطباء لموفق الدين الخزرجي (1 - 80).

وأنها واحدة من كل وجه. وبذلك لا يوصف الله بصفات تستوحى معانيها من تجارب الحس؛ لأنها إضافات لا تتفق مع الواحدة الخالصة. وهذا ما اشترك فيه الإسماعيلية مع غيرها من الفرق الضالة التي حاولت طمس معالم الإسلام وتقويض أصوله. 2 - بناء على عقيدتهم في (الألوهية) فإن العقل الأول هو الذي دبر الكون وأرسل الرسل والوحي إلى الأنبياء. والناطق السابع عندهم بالوحي هو "محمد بن إسماعيل" الذي نسخ شريعة الإسلام. 3 - الإمام وهو محور الدعوة الإسماعيلية، وهو وارث الأنبياء جميعاً، ووارث كل من سبقه من الأئمة، ويصفونه بصفات ترفعه إلى ما يشبه الإله، ويخصونه بعلم الباطن لما له من صفات قدسية، فهو يد الله وجنب الله ووجه الله (¬1). وهكذا نرى الإسماعيلية تصل إلى أخطر النتائج، وهي فتح باب النبوة وعدم إغلاقه على الإطلاق، وهذا يعني أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يكن خاتم النبيين، ولا برسالته أكمل الدين. فالنبوة مستمرة بصفة دورية!!. وعلى هذه الفكرة الخبيثة قامت (دعوة القاديانية والبهائية) في العصر الحديث، وهذا القدر من عقائد الإسماعيلية كاف للحكم بكفرهم وموضح لخبث هدفهم، وسوء نيتهم، وتهافت فكرهم. ويتبين مما سبق أن مذهب الإسماعيلية قد تأثر بعقائد الفرس القديمة، والأفكار الهندية المشوشة، والمسيحية المحرفة، وعناصر من الفلسفة اليونانية التي انصهرت كلها في عقيدة باطنية تقوم على استخلاص الباطن من الظاهر عن طريق التأويل الفاسد المهلك الذي يمكنهم من توجيه دعوتهم إلى كافة مستويات أتباعهم (¬2). ¬

(¬1) ينظر: دراسات في الفرق والمذاهب القديمة والمعاصرة لعبد الله الأمين (ص 67 بتصرف). (¬2) ينظر لما سبق من عقائد فاسدة: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 53 - 58)، فرق الشيعة للحسن بن موسى النوبتخي (1/ 68 - 69)، الفرق بين الفرق (1/ 46)، الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 91)، التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية لطاهر الإسفراييني (1/ 38)، فضائح الباطنية للغزالي (1/ 16)، منهاج النبوة لابن تيمية (6/ 437) (8/ 12).

3 - النصيرية

3 - النصيرية: قال الشيخ - رحمه الله -: " النصيرية والإسحاقية: من غلاة الشيعة يرون ظهور الروحانيات في صور جسمية خَيرة أو خبيثة ويزعمون أن الله يظهر في صورة إنسان وأن جزءاً من الله حل في علي به يعلم الغيب ويفصل مالا طاقة لأحد به من البشر ويرون أيضاً إباحة المحارم وإسقاط التكاليف إلا أن النصيرية أميل إلى مشاركة علي لله في الإلهية والإسحاقية أميل إلى مشاركة علي لمحمد في النبوة؛ والنصيرية نسبة إلى محمد بن نصير النميري والإسحاقية نسبة إلى إسحاق بن زيد بن الحارث" (¬1). قال الشيخ - رحمه الله - في رده على من قال بتناسخ الأرواح والتي هي من عقائد النصيرية: "ما ذكر من أن الروح تنتقل من إنسان إلى آخر ليس بصحيح، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)} الأعراف: 172، وجاء تفسير هذه الآية فيما رواه مالك في موطئه أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سُئل عن هذه الآية السابقة، فقال عمر - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسال عنها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون) (¬2)، قال ابن عبد البر: معنى هذا الحديث، قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة - رضي الله عنهم - أجمعين وغيرهم. وقد أجمع أهل السنة والجماعة على ذلك ¬

(¬1) مجموعة ملفات الشيخ (ص 25). (¬2) أحرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (311)، وأبو داود برقم (4703)، والترمذي برقم (5071)، والحاكم في المستدرك (1/ 27)، قال الألباني صحيح، إلا مسح الظهر ينظر: صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4703)، وتخريجه للطحاوية برقم (266).

وذكروا: أن القول بانتقال الروح من جسم إلى آخر هو قول أهل التناسخ وهم من أكفر الناس، وقولهم هذا من أبطل الباطل" (¬1). النصيرية (¬2): هي حركة باطنية ظهرت في القرن الثالث الهجري هم أتباع محمد بن نصير النميري ويعد أصحابها من غلاة الشيعة الذين قالوا بألوهية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بناء على اعتقادهم بأن ظهور الروح بالجسد الجسماني أمر يجيزه العقل، فهو يشبه ظهور جبريل عليه السلام بصورة بشر، وظهور الشيطان بصورة إنسان يتكلم بلسانه، إلى آخر ما قالوا به من معتقدات فاسدة باطلة قصدوا بها نقض عرى الإسلام وزلزلة بنيانه. فلا عجب أن تراهم مع كل غاز لأرض المسلمين. وقد أطلق عليهم الاستعمار الفرنسي لسوريا اسم (العلويين) ستراً وتغطية لحقيقة أمرهم (¬3). أخطر عقائد النصيرية: 1 - يقولون بألوهية الإمام وعصمته: وهي ألوهية - في نظرهم- مثلثة الأجزاء متحدة الحقيقة كما هي عند النصارى. فهي عندهم: معنى واسم وباب. كما هي عند النصارى: أب وابن وروح قدس. أما المعنى فهو: علي بن أبي طالب، وهو الله العلي القدير عندهم. وأما الاسم فهو: محمد بن عبد الله، وهو حجابها النوراني. ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (2/ 434 - 435). (¬2) النصيرية أنفسهم يرفضون هذه التسمية، ويطلقون على أنفسهم اسم "العلويين" لأنهم من الطوائف التي تؤله أو تقدس علي بن أبي طالب، وتعبده، ويذهب النصيرية إلى أن هذا هو الاسم الأصلي للطائفة ولكن الأتراك حرموهم من هذا الاسم وأطلقوا عليهم اسم النصيرية نسبة إلى الجبال التي يسكنونها نكاية بهم، واحتقاراً لهم. وأن الفرنسيين عند انتدابهم على سوريا في بداية هذا القرن، أعادوا الاسم القديم للطائفة، وأصدروا مرسوماً في 1/ 9/1920 م سميت بموجبه جبال النصيرية بأراضي العلويين المستقلة. ينظر: تاريخ العلويين (ص 401) وما بعدها، دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين (ص 357). (¬3) ينظر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين لأحمد جلي (ص 357)، الموجز في المذاهب والأديان لناصر القفاري وناصر العقل (ص 136 - 138)،موقف ابن تيمية من الأشاعرة (1/ 119 - 120)، مجموع الفتاوى (35/ 145 - 160).

وأما الباب فهو: سلمان الفارسي الذي يوصل إلى الحجاب النوراني. وبعد انتهاء دور النبوة أصبح هؤلاء الثلاثة يتنقلون في الأئمة الاثني عشر حتى خلفوها إلى (محمد بن نصير النميري) حسب ادعائه (¬1). 2 - ويزعمون بأن للعقيدة باطناً وظاهراً، وأنهم وحدهم العالمون بباطن الأسرار. من ذلكَ قولهم بأن القرآن: هو مدخل لتعليم الإخلاص لعلي، وقد قام سلمان (¬2) (تحت اسم جبريل) بتعليم القرآن لمحمد! (¬3). ولهم قداسات شبيهة بقداسات النصارى تدل بألفاظها على صريح كفرهم (¬4). 3 - القول بالتناسخ: قال به الغلاة في كل ملة، فهو عقيدة مشتركة بينَ أهل الديانات. ومقتضى مذهب هؤلاء الغلاة أن لا دار إلاَّ دار الدنيا، وأن القيامة إنما هي خروج الروح من البدن ودخولها في بدن آخر. إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وأنهم مسرورون في هذه الأبدان أو معذبون فيها. والأبدان هي الجنات وهي النار، وأنهم منعمون في الأجسام الحسنة الأنيسة المنعمة، ومعذبون في الأجسام الرديئة المشوهة من كلاب وقرود وخنازير وحيات، وأن المؤمن عندهم يتحول سبع مرات قبل أن يأخذ مكانه بين النجوم (¬5). ¬

(¬1) ينظر: دراسات في الفرق لعبد الله أمين (ص 108). (¬2) يذهب الشيعة إلى أن لكل إمام باباً، وأن أبواب الأئمة كانوا على النحو التالي: 1 - علي، وبابه سلمان الفارسي. 2 - الحسن، وبابه قيس بن ورقة المعروف بالسفينة. 3 - الحسين، وبابه رشيد الهجري ... وجعلوا لكل إمام من الاثني عشر باباً عدا محمد المهدي فلم يكن له باب. ينظر: تاريخ العلويين لمحمد أمين غالب الطويل (ص 201 - 202، 235)، ودراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين (ص 357 - 358). (¬3) ينظر: الموسوعة الميسرة (ص 513 - 514). (¬4) بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 61). (¬5) ينظر: فرق الشيعة للنوبخي (ص 32).

وعلماء الإسلام مجمعون على كفر القائلين بالتناسخ لإنكارهم معلوماً من الدين بالضرورة وهو الإيمان باليوم الآخر وما يتعلق به (¬1). 4 - قال ابن نصير بإباحة المحارم وأحل اللواط بين الرجال (¬2): وأسقط التكاليف الشرعية استناداً إلى تأويلاتهم الباطنية الفاسدة التي لا تستند إلى دليل. وتلك نزعة قديمة ترتبط بالمجوسية (¬3)، والزرادشتية (¬4)، والمزدكية (¬5)، ذلك أن للمجوس طبقة من الكهنة كانت تبيح الزواج بالأقارب المقربين، يقول الشهرستاني: عرف عن مزدك دعوته إلى الإباحية، واستباحة أموال الناس وأنها فيء، واستحلال النساء، فقد تزوج "يزدجرد" الثاني (¬6) الذي تولى الحكم في ¬

(¬1) ينظر: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 61 - 62). (¬2) الموسوعة الميسرة (ص 513). (¬3) المجوس: عبدة النار ويقولون: إن للعالم إلهين: النور والظلمة، والأول قديم، والثاني حادث خلافاً للثنوية الذين يقولون بأزليتهما واختلافهما في الجوهر والطبع، ونشأت المجوسية في بلاد الفرس. ينظر: رسالة إلى أهل الثغر لعلي بن إسماعيل أبو حسن الأشعري (1/ 310)، اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (4/ 695)، الفرق بين الفرق (1/ 269). (¬4) أتباع زرادشت من أهل أذربيجان، زعموا أن لهم أنبياء وملوكا، وهم طائفة من المجوس، قالوا بأنه لا ينسب لله الظلمة، ولكن الخير والشر والفساد والطهارة والخبث إنما حصلت من امتزاج النور والظلمة، ولو لم يمتزجا لما كان وجود للعالم وهما يتغالبان حتى ينتصر النور، ولهم من الاعتقادات الباطلة الأخرى. ينظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 77)، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، للرازي (1/ 86)، مسائل الجاهلية لمحمد بن عبد الوهاب (ص 50). (¬5) أتباع مزدك بن نامذان من الثنوية. كان إباحياً زنديقاً ادعى النبوة، وأظهر دين الإباحية، والمزدكية فرقة من المجوس عباد النار، وقول المزدكية كقول المانوية في الأصلين النور والظلمة إلا أن مزدك كان يقول النور يفعل بالقصد والاختيار، والظلمة تفعل على الخبط والاتفاق؛ وأصل الشيوعية الحمراء من المزدكية التي نادي بها كارل ماركس واحتضنها لينين، من قولهم بأن الأشياء كلها ملك لله مشاع بين الناس لا يختص به أحد. ينظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، للرازي (ص 134، 141)، التحفة المهدية لفالح بن مهدي (ص 380). (¬6) هو: يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد بن بهرام بن سابور ذي الأكتاف الملك المشهور، ومن ولده كسرى نوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد الأصغر. ينظر: توضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم وكناهم، لمحمد عبد الله قيسي الدمشقي (9/ 222).

حكم الإسلام في النصيرية

القرن الخامس الميلادي من ابنته، كما عرف أن "بهرام جور" (¬1) الذي حكم في القرن السادس الميلادي قد تزوج من أخته، ويذكر أن عادة الزواج بالمحارم كانت عادة منتشرة في " الزرادشتية". وكانت أكثر شيوعاً بينَ أهل التقى - أي الكهنة- إرضاء لآلهتهم (¬2). حكم الإسلام في النصيرية: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " هؤلاء القوم الموصوفون المسمون بـ"النصرية" هم وسائر أصناف القرامطة (¬3) الباطنية: أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم من ضرر الكفار المحاربين ... فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهاد المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله، ولا برسوله، ولا بكتابه، ولا بأمر ولا بنهي ولا بثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا بملة من الملل السالفة، بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند المسلمين ويتأولونه على أمور يقرونها، ويدعون أنها علم الباطن من ذلكَ قولهم: إن الصلوات الخمس: معرفة أسرارهم، والصيام المفروض: كتمان أسرارهم، وحج البيت العتيق: زيارة شيوخهم، وأن يدي أبي لهب هما: أبو بكر وعمر، وأن النبي العظيم ¬

(¬1) هو: بهرام جور بن يزدجرد أحد ملوك الفرس، ويطلق عليه عند المؤرخين بهرام الخامس، توفي (438 م)، وقد أطالت الأساطير حكمه وسيرته. ينظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري (1/ 406)، تاريخ الإسلام للذهبي (48/ 79)، مآثر الإنافة لأحمد القلقشندي (1/ 284). (¬2) ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (2/ 424). (¬3) كان ظهور هذه الطائفة 176 هـ بظهور ميمون بن ديصان الذي نصب للمسلمين الحبائل وكان يبطن المجوسية ويظهر الإسلام، وكان يجعل لكل آية تفسيراً ولكل حديث تأويلا، وجعل الفرائض والسنة رموزا وإشارات، وكان يخدم إسماعيل بن جعفر، وظهر أيام حمدان قرمط فاجتمعا وتساعدا على نشر هذا المذهب الشنيع، فسموا بالقرامطة؛ وأصل القرمطة في اللغة تقارب الشيء بعضه من بعض، يقال خط مقرمط ومشي مقرمط. واسقطوا العبادات وقالوا لا يأمر بها إلا العوام؛ والدين الحقيقي عندهم هو الدين الباطني وبذلك يسمون باطنيين ولا يؤمر به إلا الخواص منهم. ينظر: التحفة المهدية لفالح بن مهدي (ص 47)، درء التعارض (2/ 305)، فرق الشيعة للحسن بن موسى النوبتخي (1/ 72).

4 - الدروز

والإمام المبين هو علي بن أبي طالب، ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة ... وصنف علماء المسلمين كتباً في كشف أسرارهم، وهتك أستارهم، وبينوا ما هم عليه من الكفر والزندقة ... وقد اتفق علماء الإسلام على أن مثل هؤلاء لا تجوز مناكحتهم ... ، ولا تباح ذبائحهم، ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين، ولا يصلى على من مات منهم أبداً ... وأما استخدام هؤلاء في ثغر من ثغور المسلمين أو حصونهم وجندهم فهو من الكبائر بمنزلة من استخدم الذئاب في رعي الغنم، فإنهم من أغش الناس للمسلمين ولولاة أمرهم، ومن أحرص الناس على إفساد الملة والدولة" (¬1). وبمثل هذا قال أكثر علماء الإسلام ممن يوثق في دينهم ويعتد بآرائهم في هؤلاء المارقين الخارجين على تعاليم الدين (¬2). 4 - الدروز: قال الشيخ - رحمه الله -: " أصل الدروز فرقة سرية من فرق القرامطة الباطنية يتسمون بالتقية وكتمان أمرهم على من ليس منهم، ويلبسون أحياناً لباس التدين والزهد والورع ويظهرون الغيرة الدينية الكاذبة، ويتلونون ألواناً عدة من الرفض والتصوف وحب آل البيت ... حتى إذا سنحت لهم الفرصة وقويت شوكتهم ووجدوا من الحكام من يواليهم وينصرهم ظهروا على حقيقتهم ... مبادئهم: أ- يقولون بالحلول، فهم يعتقدون أن الله حل في علي - رضي الله عنه - ثم حل في أولاده بعده واحداً بعد واحد حتى حل في الحاكم العبيدي أبي علي المنصور بن العزيز، فالإلهية حلت ناسوته ويؤمنون برجعة الحاكم وأنه يغيب ويظهر. ب- التقية، فهم لا يبينون حقيقة مذهبهم إلاَّ لمن كان منهم، بل لا يفشون سرهم إلاَّ لمن أمنوه ووثقوا به من جماعتهم. ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (28/ 477 - 501، 35/ 415،3، 3/ 356، 357) بتصرف. (¬2) ينظر: معارج القبول (3/ 1180)، المواقف للإيجي (3/ 684)، المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي (1/ 302)، زيارة القبور لابن تيمية (1/ 68)، منهاج السنة (7/ 219).

ج- عصمة أئمتهم، فهم يرون أن أئمتهم معصومون من الخطأ والذنوب، بل ألهوهم وعبدوهم من دون الله كما فعلوا ذلك بالحاكم. د- دعواهم علم الباطن، فهم يزعمون أن لنصوص الشريعة معاني باطنة هي المقصودة منها دون ظواهرها، وبنوا على هذا إلحادهم في نصوص الشريعة وتحريفهم لأخبارها وأوامرها ونواهيها. هـ - يقولون بقول أهل الطبيعة، فيقولون: إن الطبائع مولدة للحياة، والموت ينشأ عن فناء الحرارة الغريزية كانطفاء السراج عند انتهاء الزيت إلاَّ من اعتبط- أي: قتل بحادث مثلاً. و- النفاق في الدعوة والمخادعة فيها: فهم يظهرون التشيع وحب آل البيت لمن يدعونه، وإذا استجاب لهم دعوه إلى الرفض وأظهروا له معايب الصحابة وقدحوا فيهم، فإذا قبل منهم كشفوا له معايب علي وطعنوا فيه، فإذا قبل منهم ذلك انتقلوا به إلى الطعن في الأنبياء، وقالوا: إن لهم بواطن وأسراراً تخالف ما دعوا إليه أممهم، وقالوا: إنهم كانوا أذكياء وضعوا لأممهم نواميس شرعية ليحققوا بذلك مصالح وأغراضاً دنيوية .. إلخ" (¬1). الدروز: إحدى الفرق الباطنية التي تأثرت كثيراً بعقائد الإسماعيلية وقد اشترك في تأسيس هذه الفرق عدة شخصيات -ليس هذا المجال لبسطها- جعلت الخليفة بأمر الله محور العقيدة الدرزية (¬2). أخطر عقائد الدروز (¬3): 1 - يقولون بألوهية الحاكم بأمر الله الفاطمي (¬4)، وأن روح الإله قد حلت في جسده، وهذه العقيدة تقوم على أن للحاكم بأمر الله طبيعتين: ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (2/ 400 - 405) باختصار. (¬2) ينظر: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 66 - 68). (¬3) ينظر: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 68 - 70)، والموسوعة الميسرة (ص 224 - 226)، ودراسات في الفرق لعبد الله الأمين (ص 144 - 157)، الحركات الباطنية في الإسلام لمصطفى غالب (ص 263). (¬4) الحاكم الذي دارت حوله هذه الدعوة، كان ذا شخصية شاذة غريبة الأطوار فاسدة المزاج مختلطة التفكير، وقد نسب إليه من الأفعال، والتصرفات ما يدل على أن الشيطان تمكن منه ولبس عليه، وسيطر على حياته؛ وكان يقول من أرخوا له، أنه يخترع في كل وقت أموراً، وأحكاماً يحمل الرعية عليها، وكان يفرض الشيء ثم ينقضه، توفي سنة (411 هـ). ينظر: البداية والنهاية لابن كثير (12/ 9 - 10)، والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي (4/ 176 - 185)، والحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية لمحمد عبد الله عنان.

(أ) طبيعة لاهوتية خفيفة لأن الله سبحانه وتعالى اتخذ الحاكم حجاباً له. (ب) طبيعة ناسوتية ظهر بها بصورة الحاكم بأمر الله المتجسد أمام الناس، ليعبد الله ظاهراً موجوداً رحمة منه بعباده. وقد ظهر الإله في صورة إنسان؛ لأن الإنسان أفضل المخلوقات. والحاكم بأمر الله هو الصورة الناسوتية الأخيرة لله؛ ولهذا فهم يعبدونه ويقدسونه. وحين قتل الحاكم بأمر الله سارع دعاة تأليهه إلى القول بأنه لم يقتل ولم يمت ولكنه اختفى أو رفع إلى السماء وسيرجع ويملأ الأرض عدلاً. وإنما غاب الحاكم بأمر الله اختباراً لهم أو غضباً منهم، وسوف يظهر في اليوم الموعود من تحت صخرة بيت المقدس. 2 - ويقولون بالتناسخ: فكل درزي يموت تنتقل روحه ليحل في أول مولود منهم لا من غيرهم. وهم جميعاً من أهل الجنة، والمسيئ فيهم تطهر روحه بتنقلها في أجسام فقراء أو مرضى فإذا طهرت لبست أجسام السعداء من الرؤساء والأغنياء. والفرق بينَ تناسخ الدروز وتناسخ النصيرية يكمن في الجسم الذي تنتقل إليه الروح، فهو عند الدروز لا يكون غير جسم الإنسان بالذات بخلاف النصيرية. ويوم الحساب - عندهم- هو نهاية مراحل انتقال الأرواح وتناسخها في الأجسام، وحينئذ ينتصر التوحيد على عقائد الشرك. وعقيدة التناسخ التي يقول بها الدروز وغيرهم من الفرق الباطنية تخالف الإسلام وإجماع علماء المسلمين. 3 - وهم يبغضون أهل الديانات الأخرى والمسلمين على وجه الخصوص، ويستبيحون دماءهم، وأموالهم، وغشهم كلما تيسر لهم ذلك. 4 - ويعتقدون بأن ديانتهم نسخت كل ما قبلها، وينكرون جميع أصول الإسلام وفروعه.

حكم الإسلام فيهم

5 - وينكرون القرآن الكريم، ويقولون إنه من وضع سلمان الفارسي، ولهم مصحف خاص بهم يمسى "المنفرد بذاته". 6 - التستر والكتمان من أصول معتقداتهم وليس هذا من باب التقية وإنما هو من أصول ديانتهم. حكم الإسلام فيهم: يبين الشيخ - رحمه الله - حكم الله فيهم، فيقول: "سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عما يحكم به في الدروز والنصيرية، فأجاب بما يأتي: وهؤلاء الدرزية والنصيرية كفار باتفاق المسلمين، لا يحل أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم، بل ولا يقرون بالجزية فإنهم مرتدون عن دين الإسلام ليسوا مسلمين ولا يهود ولا نصارى ولا يقرون بوجوب الصلوات الخمس ولا وجوب صوم رمضان ووجوب الحج، ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد، فهم كفار باتفاق المسلمين (¬1) ... " (¬2). وهكذا نرى أن الدروز كونوا لهم ديناً جديداً استمدوه من بعض الوثنيات القديمة، والفلسفة اليونانية، وبعض التصورات المسيحية، وخلطوا ذلك كله، بل بنوه على بعض آراء الشيعة الإسماعيلية، ومن ثم لا ينبغي أن يعدوا من المسلمين، أو يعاملوا معاملة الفرق الإسلامية، وقديماً قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية: "بأنهم أعظم كفراً من الغالية، ويقولون بقدم العالم، وإنكار المعاد، وإنكار واجبات الإسلام ومحرماته، وهم من القرامطة الباطنية الذين هم أكفر من اليهود والنصارى، ومشركي العرب، وغايتهم أن يكونوا فلاسفة على مذهب أرسطو، وأمثاله، أو مجوساً. وقولهم مركب من قول الفلاسفة، والمجوس، ويظهرون التشيع نفاقاً ... إن كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون، بل هم الكفرة الضالون، فلا يباح أكل طعامهم، وتسبى نساؤهم وتؤخذ أموالهم، فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم ... إلخ" (¬3). كما ذكر ابن عابدين (¬4) في حاشيته أن الدروز لا ملة لهم إذ يقول: "ظهر ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى (35/ 161). (¬2) ينظر: فتاوى اللجنة (2/ 405 - 432). (¬3) مجموع الفتاوى (35/ 162). (¬4) هو: محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي، فقيه الديار الشامية، وإمام الحنفية في عصره. ولد في دمشق عاصمة سورية وعرف المترجم بابن عابدين، وهي شهرة تعود إلى جده محمد صلاح الدين الذي أطلق عليه اللقب لصلاحه، من مؤلفاته الكثيرة: الحاشية: وتسمى (رد المحتار على الدر المختار) تعرف باسم حاشية ابن عابدين، رفع الأنظار عما أورده الحلبي على الدر المختار، العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، الرحيق المختوم في الفرائض، شرح كنز الدقائق للنسفي، وغيرها؛ توفي في 21 ربيع الثاني سنة 1252 هـ. ينظر: هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين لإسماعيل باشا البغدادي (6/ 367)، حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر لعبد الرزاق البيطار (2/ 25)، إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون لإسماعيل باشا محمد أمين (3/ 7).

5 - القاديانية

من كلامهم -أي الفقهاء- حكم القاضي المنصوب في بلاد الدروز في القطر الشامي، ويكون درزياً ويكون نصرانياً، فكل منهما لا يصح حكمه على المسلمين فإن الدرزي لا ملة له كالمنافق، والزنديق، وإن سمى نفسه مسلماً" (¬1). 5 - القاديانية: بين الشيخ - رحمه الله - الحكم في الطريقة القاديانية، بقوله: " لقد صدر الحكم من حكومة الباكستان على هذه الفرقة بأنها خارجة عن الإسلام، وكذلك صدر من رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة الحكم عليها بذلك، ومن مؤتمر المنظمات الإسلامية المنعقد في الرابطة في عام 1394 هـ ... والخلاصة: أنها طائفة تدعي أن مرزا غلام أحمد الهندي نبي يوحى إليه وأنه لا يصح إسلام أحد حتى يؤمن به، وهو من مواليد القرن الثالث عشر، وقد أخبر الله سبحانه في كتابه الكريم أن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين (¬2)، وأجمع علماء المسلمين على ذلك، فمن ادعى أنه يوجد بعده نبي يوحى إليه من الله - عز وجل - فهو كافر لكونه مكذباً لكتاب الله - عز وجل -، ومكذباً للأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدالة على أنه خاتم النبيين، ومخالفاً لإجماع الأمة" (¬3). ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (5/ 355)، وينظر: مصرع التصوف لبرهان الدين البقاعي (1/ 183). (¬2) ينظر: سورة الأحزاب الآية (40)، وينظر: مسند أحمد (2/ 398، 412)، و (3/ 79، 248) و (4/ 81، 84، 127، 128) و (5/ 278)، والبخاري برقم (3535)، ومسلم برقم (2286، 2287). (¬3) فتاوى اللجنة (2/ 312 - 314).

قال الشيخ - رحمه الله -: " روى الإمام أحمد والترمذي والحاكم من طريق أنس، قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت؛ فلا رسول بعدي ولا نبي) (¬1) الحديث، وفي آخر عند أحمد بلفظ: (لا نبوة بعدي إلا المبشرات) (¬2) الحديث، وقد صح في ذلك المعنى أحاديث بلغت درجة التواتر، وفيها الرد على القاديانية ومن ذهب مذهبهم في عدم ختم النبوة" (¬3). تنسب الطائفة القاديانية إلى مدينة (قاديان) بالهند. وأحياناً يطلق عليهم اسم (الأحمدية) نسبة إلى مؤسس مذهبهم "غلام أحمد"؛ ولا يخفى أن القاديانية وليدة السياسة الإنجليزية؛ وكذلك البيئة الفكرية في الهند لها دورها الفعال في ظهور نحلة القاديانية الباطلة (¬4). ¬

(¬1) أحرجه أحمد في مسنده برقم (13412)، والترمذي في جامعه في كتاب الرؤيا باب ذهبت النبوة وبقيت المبشرات برقم (2272)، وقال عنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي حديث رقم (2272): صحيح الإسناد. (¬2) أحرجه أحمد في مسنده برقم (23283)، قال الهيثمى في مجمع الزوائد (7/ 173): رجاله ثقات. (¬3) تعليق الشيخ على الإحكام (3/ 151 - 152)، ينظر: تفسير ابن كثير لقوله تعالى: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) الأحزاب. (¬4) ينظر: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 108 - 111).

حكم الإسلام فيها

عقائد القاديانية: 1 - ادعى غلام أحمد القادياني في بادئ أمره أنه داعية إلى الإصلاح وتجديد الدين، ثم ادعى أنه المسيح الموعود والمهدي المنتظر، وأخيراً ادعى النبوة وأفضليته على الأنبياء عليهم السلام. 2 - ويعتقد القاديانيون بأن الله يصوم، ويصلي، وينام، ويصحو، ويكتب، ويخطئ، ويجامع - تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً-. 3 - يعتقد القاديانيون أن (قاديان) كالمدينة المنورة ومكة المكرمة، بل أفضل منهما وأن أرض (قاديان) حرم، وأنها هي قبلتهم، وإليها حجهم. 4 - يبيحون الخمر والأفيون والمخدرات والمسكرات. 5 - القاديانية تحرم الجهاد، وتقول بالطاعة العمياء للحكومات الإنجليزية؛ لأنهم أولو الأمر بنص القرآن حسب زعمهم، ومن لا يلتزم بتعاليم القاديانية فهو كافر! (¬1). حكم الإسلام فيها: يقول الإمام الغزالي: إن الأمة قد فهمت بالإجماع من هذا اللفظ (لا نبي بعدي)، ومن قرائن أحواله ... عدم وجود نبي بعده أبداً، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص، ومنكر هذا يكون منكراً للإجماع (¬2). والقاديانية كشفت عن وجهها حين أنكرت الجهاد لتصبح الشعوب الإسلامية بقرة حلوباً للمستعمرين يأخذون لبنها، ويظلمونها في علفها .. وقد قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)} آل عمران: 149، كما أن للقاديانية علاقات وطيدة مع إسرائيل، فقد فتحت لهم إسرائيل المراكز والمدارس ومكنتهم من إصدار مجلة تنطق باسمهم وطبع الكتب والنشرات لتوزيعها في العالم (¬3). ¬

(¬1) ينظر: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 111 - 113)، التصريح بما تواتر في نزول المسيح لمحمد أنور شاه الكشميري (1/ 38، 78)، الموسوعة الميسرة (1/ 416 - 420). (¬2) الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص 113). (¬3) بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 113).

6 - البهائية

وكان قرار (¬1) مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمر الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الآخر 1406 هـ، الموافق 22 - 28 كانون الأول (ديسمبر) 1985 م، عند استفتائه عن القاديانية والفئة المتفرعة عنها التي تدعي اللاهورية، من حيث اعتبارهما في عداد المسلمين أو عدمه، قالوا: " إن ما ادعاه ميرزا غلام أحمد من النبوة والرسالة ونزول الوحي عليه إنكار صريح لما ثبت من الدين بالضرورة ثبوتاً قطعياً يقينياً من ختم الرسالة والنبوة بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا ينزل وحي على أحد بعده. وهذه الدعوى من ميرزا غلام أحمد تجعله وسائر من يوافقونه عليها مرتدين خارجين عن الإسلام. وأما اللاهورية فإنهم كالقاديانية في الحكم عليهم بالردة، بالرغم من وصفهم ميرزا غلام أحمد بأنه ظل وبروز لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). ويتضح مما سبق وبعد أن أفتى علماء الإسلام بكفرهم، أن القاديانية دعوة ضالة، ليست من الإسلام في شيء، وعقيدتها تخالف الإسلام في كل شيء، ويتضح تأثرهم بالمسيحية واليهودية والحركات الباطنية في عقائدهم وسلوكهم على الرغم من ادعائهم الإسلام ظاهريا. 6 - البهائية: قال الشيخ - رحمه الله - عند قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} النمل: 13 - 14: "إن فرعون حينما أخذته الحجة، وانتصر عليه موسى، لم يبق بيده سلاح إلا التمويه على قومه، وإنذار موسى ومن آمن به أن يذلهم، ويذيقهم العذاب الأليم. وأنى له ذلك! والله من ورائهم محيط؟! وقد كتب على نفسه أن يجعل العاقبة للمتقين. وقال تعالى: {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)} الإسراء: 103. ¬

(¬1) قرار رقم: 4 (4/ 2). (¬2) مجلة المجمع (العدد الثاني، 1/ 209).

وقد ورث ذلك الزيغ، والإلحاد أناس ظهروا في عصور متعاقبة بأسماء مختلفة، واشتهروا بألقاب متنوعة. فتارة يسمون (بالدهريين): وأخرى (برجال الحقيقة، ووحدة الوجود) وأحياناً (بالشيوعيين)، وأخرى (بالوجوديين). - اللقب الجديد - وآونة (بالبهائيين). إلى غير ذلك من العبارات التي اختلفت حروفها ومبانيها، وائتلفت مقاصدها، واتحدت معانيها، فكلها ترمي إلي غرض واحد، وتدور حول محور واحد، هو أنه ليس للعالم رب يخلق ويدبر، وليس له إله يعبد ويقصد. وبما تقدم (¬1) من دليل حاجة الممكن إلى موجد، ودليل وجوب وجوده - تعالى - يظهر لك فساد مذهبهم، وخروجه عن مقتضى النظر، وموجب العقل، وما يصدق ذلك، ويؤيده من أدلة السمع" (¬2). البهائية: فرقة ضالة مؤسسها الميرزا حسين علي البهاء، وقد ادعى النبوة والرسالة ثم الألوهية وزعم أن الله حل فيه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-؛ وتقطن الغالبية العظمى من البهائيين في إيران وقليل منهم في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين المحتلة وغير ذلك (¬3). بعض أفكارهم ومعتقداتهم (¬4): 1 - يعتقد البهائيون أن الباب هو الذي خلق كل شيء بكلمته وهو المبدأ الذي ظهرت عنه جمع الأشياء. 2 - يقولون بالحلول والاتحاد والتناسخ وخلود الكائنات، وأن الثواب والعقاب إنما يكونان للأرواح فقط على وجه يشبه الخيال. ¬

(¬1) ينظر: مذكرة التوحيد (ص 16 - 28). (¬2) مذكرة التوحيد (ص 24 - 25). (¬3) ينظر: البهائية وسائل وغايات، د/ طه الدسوقي (ص 53)، الموسوعة الميسرة (ص 409 - 415). (¬4) ينظر: الموسوعة الميسرة (1/ 412 - 413)، البهائية أضواء وحقائق، لإحسان إلهي ظهير، البهائية تاريخها وعقيدتها، لعبد الرحمن الوكيل، الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة (ص 160 - 164).

حكم الإسلام فيهم

3 - يوافقون اليهود والنصارى في القول بصلب المسيح. 4 - يؤولون القرآن تأويلات باطنية ليتوافق مع مذهبهم. 5 - ينكرون معجزات الأنبياء وحقيقة الملائكة والجن، كما ينكرون الجنة والنار. 6 - يحرمون الحجاب على المرأة، ويحللون المتعة، وشيوعية النساء والأموال. 7 - تحريم الجهاد وحمل السلاح وإشهاره ضد الأعداء خدمة للمصالح الاستعمارية. 8 - ينكرون أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، مدعين استمرار الوحي. وغير ذلك من هذه المعتقدات الفاسدة ... ولا شك أن الحركات الباطنية كانت هي الأصل الذي نشأت عنه البهائية بل الكثير من الفرق المنحرفة والإلحادية، وقد ركزت البهائية بل الكثير من الفرق المنحرفة، منذ تاريخها الأول على محاربة الإسلام من خلال التأكيد على أنه دين قديم يحتاج إلى التجديد والتطوير؛ والبهائية هي نحلة أساسها فكر شيعي تنقلت مع الدعوة الباطنية عبر التاريخ وظهرت بوضوح في القرن الثالث عشر الهجري (¬1). حكم الإسلام فيهم: أفتى علماء المسلمين بكفر البهائيين وخروجهم عن الإسلام وأن من اعتنق مذهبهم من المسلمين صار مرتداً عن الإسلام، كما قرر مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة عام 1398 هـ (¬2). ¬

(¬1) ينظر: البابية، د/محمد عبده يماني (ص 42)، البهائية والقاديانية، د/أسعد السمحراني (ص 125)، البهائية صليبية الغرس إسرائيلية التوجيه لمحمود ثابت الشاذلي (ص 61). (¬2) ينظر: العقيدة والأديان والاتجاهات المعاصرة للشيخ محمد صالح العثيمين (ص 90)، والعقيدة، لعمر سليمان الأشقر (195 - 196)، والبهائية والقاديانية (ص 131).

المبحث الخامس الصوفية

المبحث الخامس الصوفية. قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " جماعة الطرق الصوفية مبتدعة وهم ضالون مضلون" (¬1). وقال الشيخ - رحمه الله -: " يغلب على الطرق الصوفية البدع" (¬2). وقال الشيخ - رحمه الله -: " إن القول بسقوط التكاليف أو بوحدة الوجود يؤمن به بعض الصوفية لا كلهم" (¬3). ثم بين الشيخ - رحمه الله - سبب تسمية الصوفية، فقال: " قيل: إن الصوفية نسبوا إلى الصِفة لشبههم بجماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - فقراء كانوا يأوون إلى صفة في المسجد النبوي، وهذا ليس بصحيح، فإن النسبة إلى الصِفة صفّي بتشديد الفاء وياء النسب دون واو، وقيل: نسبوا إلى صفوة؛ لصفاء قلوبهم وأعمالهم، وهذا خطأ أيضاً؛ لأن النسبة إلى (الصفوة) صفوي، ولأنهم تغلب فيهم البدعة وفساد العقيدة، وقيل: نسبوا إلى الصوف؛ لأنه كان شعاراً لهم في اللباس، وهذا أقرب إلى اللغة وإلى واقعهم" (¬4). قال الشيخ - رحمه الله -: " الطرق الصوفية طوائف شتى منها: التجانية، والقادرية، والخلوتية ... الخ ولا تخلو طائفة منها من البدع، وإن تفاوتت في ذلك، فمنها المقل ومنها المكثر" (¬5). تعريف الصوفية: التصوُّف حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة، ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقا ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (2/ 297)، (2/ 265). (¬2) فتاوى اللجنة (2/ 268)، ينظر: المرجع السابق (2/ 269 - 282، 295، 296،298،300 - 304). (¬3) مجموعة ملفات الشيخ (ص 220). (¬4) فتاوى اللجنة (2/ 266). (¬5) فتاوى اللجنة (2/ 299).

مميزة معروفة باسم الصوفية، ويتوخّى المتصوفة تربية النفس، والسمو بها بغية الوصول إلى معرفة الله تعالى بالكشف (¬1) والمشاهدة لا عن طريق اتباع الوسائل الشرعية، ولذا جنحوا في المسار حتى تداخلت طريقتهم مع الفلسفات الوثنية: الهندية والفارسية واليونانية المختلفة. ويلاحظ أن هناك فروقاً جوهرية بين مفهومي الزهد والتصوف أهمها: أن الزهد مأمور به، والتصوف جنوح عن طريق الحق الذي اختطَّه أهل السنة والجماعة؛ وقد اختُلف في مرجع تسميتها بالصوفية كما ساق الخلاف الشيخ - رحمه الله - في كلامه السابق، وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2) وابن خلدون (¬3) وطائفة كبيرة من العلماء من أنها نسبة إلى الصُّوف، إذ كان شعار رهبان أهل الكتاب الذين تأثر بهم الأوائل من الصوفية، وبالتالي فقد أبطلوا كل الاستدلالات والاشتقاقات الأخرى على مقتضى قواعد اللغة العربية، مما يبطل محاولة نسبة الصوفية أنفسهم لأهل الصفة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو محاولة نسبة أنفسهم إلى علي بن أبي طالب والحسن البصري، وسفيان الثوري - رضي الله عنهم - وهي نسبة تفتقر إلى الدليل ويعوزها الحجة والبرهان؛ أما تعريف التصوف في الاصطلاح فقد اختلف فيه اختلافاً كثيراً، ¬

(¬1) الكشف: في المصطلح الشرعي هو كرامة من الكرامات للمؤمن الصالح الملتزم بالكتاب والسنة غير المبتدع، هو أن يحصل للولي من العلم ما لا يحصل لغيره أو يكشف له من الأمور الغائبة عنه ما لا يكشف لغيره كما حصل لعمر بن الخطاب حين كُشف له من الأمور الغائبة عنه ما لا يكشف لغيره كما حصل لعمر بن الخطاب حين كُشف له وهو يخطب في المدينة عن إحدى السرايا المحصورة في العراق فقال لقائدها واسمه "سارية بن زنيم" الجبل يا سارية فسمعه القائد فاعتصم الجبل؛ وفي المصطلح الصوفي: تعني رفع الحجب عن قلب الصوفي وبصره بعد اتحاده مع الله، ليعلم صاحب الكشف بعد ذلك كل ما يجري في الكون، أو أن يكشف للصوفي عن معان جديدة في القرآن والسنة والآثار فيما يعرف بعلم الحقيقة التي لا يعلمها علماء الشريعة أو علماء الظاهر، ويقال عن الكشف في الاصطلاح أهل الحقيقة: هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الخفية وجوداً وشهوداً، ويزعمون أنهم يتلقون الكشف عن الخضر، أو عن ملك الإلهام، أو أنهم يتلقونه عن الله تعالى رأساً وبلا واسطة. ودرجات الكشف النهائية عندهم تتحقق بشهود أحدية الذات في صور الصفات، في مقام البقاء بعد الفناء، والكشف بهذا المعنى الصوفي ما هو في الحقيقة إلا إيحاءات شيطانية ووساوس نفسية {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} الأنعام: 121. ينظر: مجموع فتاوى العقيدة لابن عثيمين (4/ 310)، الموسوعة الميسرة (2/ 1130). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى (11/ 6 - 24)، تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص 161). (¬3) ينظر: مقدمة ابن خلدون (ص 467).

الطرق الصوفية المعاصرة

فقيل: الإعراض عن الاعتراض، وقيل: هو صفاء المعاملة مع الله، وقيل: الأخذ بالحقائق، والكلام بالدقائق، والإياس مما في أيدي الخلائق. وبالجملة فالصوفية كانت بداية للزهد ثم تطورت وصارت مذاهب شتَّى وطرائق قددا منها ما يقرب من السنة ومنها ما يَبْعُد، بل منها ما يصل حدَّ الزندقة (¬1). "ولا شك أن ما يدعوا إليه الصوفية من الزهد، والورع والتوبة والرضا ... إنما هي أمور من الإسلام، وأن الإسلام يحث على التمسك بها والعمل من أجلها، ولكن الصوفية في ذلك يخالفون ما دعا إليه الإسلام، إذ ابتدعوا مفاهيم وسلوكيات لهذه المصطلحات مخالفة لما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وصحابته. لكن الذي وصل إليه بعضهم من الحلول والاتحاد والفناء، وسلوك طريق المجاهدات الصعبة، إنما انحدرت هذه الأمور إليهم من مصادر دخيلة على الإسلام" (¬2). ومن أشهر الطرق الصوفية المعاصرة: 1 - القادرية. قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " والشيخ عبد القادر الجيلاني وإن كان رأيه في استواء الله على عرشه ونحوه من صفات الله سديداً، لا يلزم أن يكون رأيه في سائر ما يراه في الدين سديداً، فقد عرف عنه أنه قال: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله (¬3)؛ وروي عنه ذلك من طرق عدة وتأوله له من يحسن الظن به، من ذلك ما ذكره الشيخ ¬

(¬1) ينظر: تعريفات الجرجاني (ص 59 - 60)، وهذه هي الصوفية، لعبدالرحمن الوكيل، الموسوعة الميسرة (1/ 249) وما بعدها، معجم ألفاظ العقيدة (ص 260 - 261). (¬2) الموسوعة الميسرة (1/ 270). (¬3) بهجة الأسرار ومعدن الأنوار لنور الدين أبي الحسن علي بن يوسف بن جرير اللخمي الشطنوفي (ص 11).

أبو حفص السهروردي (¬1) في عوارفه. أنه من شطحات الشيوخ التي لا يقتدى بهم فيها ولا يقدح في مقاماتهم ولا منازلهم فكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم - صلى الله عليه وسلم -. وقد قيل إن أبا الفرج ابن الجوزي صنف كتاباً ينقم فيه على الشيخ عبدالقادر أشياء كثيرة ... فإذا كان هذا حاله ففي الإفراط في الثناء عليه تغرير بالناس وحث لهم على التزام طريقته وقراءة كتبه، وأكثر الناس لا يميز بين الحق والباطل والسنة والبدعة، فيقع بذلك فيما لا يحمد عقباه" (¬2). وقال الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -، كذلك: " الشيخ عبد القادر الجيلاني تنسب له طريقة القادرية ... وهو برئ من قصيدة كفرية براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وأتباعه يكذبون عليه كثيراً وينسبون إليه ما هو بريء منه" (¬3). ¬

(¬1) هو: عمر بن محمد بن عبد الله القرشي، التيمي، البكري، السهروردي، البغدادي، صوفي شافعي، من مؤلفاته: عوارف المعارف، والمشيخة، وأعلام الهدى، وعقيدة أرباب التقى وغيرها، توفي سنة 632 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (22/ 375)، طبقات الشافعية للسبكي (8/ 338). (¬2) مجموعة ملفات الشيخ (ص 181)، ينظر: ترجمة الجيلاني في طبقات الحنابلة لابن رجب (ص 290 - 299). (¬3) فتاوى اللجنة (2/ 357).

- التعريف بالشيخ عبد القادر الجيلاني

- التعريف بالشيخ عبد القادر الجيلاني: هو: الشيخ العالم الزاهد محيي الدين أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح عبد الله ابن جنكي دوست الجيلي الحنبلي شيخ بغداد، ولد بجيلان، سنة إحدى وسبعين وأربع مئة (471 هـ)، عاش الشيخ عبد القادر تسعين سنة وانتقل إلى الله في عاشر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمس مئة (561 هـ)، وشيعه خلق لا يحصون ودفن بمدرسته في بغداد رحمه الله تعالى (¬1). كان يفتي على المذهبين: الشافعي والحنبلي، وكانت فتواه محل رضا العلماء بالعراق، فقد كان متبحراً في علوم الشريعة وعلوم اللغة، حتى ذاع صيته بين معاصريه واتسعت شهرته، فكثر أتباعه ومريدوه، وتخرج على يديه الكثير؛ وقد كان عبد القادر الجيلاني كثير الذرية أنجب تسعاً وأربعين ولداً؛ حمل أحد عشر منهم تعاليمه وطريقته، ونشروها ما بينَ غرب آسيا والإقليم المصري، ثم اتسعت طريقته وانتشرت حتى شملت في نهاية القرن التاسع عشر حدود العالم الإسلامي ما بين مراكش وجزر الهند الشرقية. ويقصد إلى مقامه كل عام جموع هائلة من أتباعه للزيارة والتبرك (¬2). قال عنه السمعاني - رحمه الله -: "إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه صالح، ديِّن خيِّر، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة" (¬3). -أقوال أهل العلم في الشيخ عبد القادر: قال الإمام الذهبي خاتماً ترجمة الشيخ عبد القادر بقوله: "وفي الجملة الشيخ عبد القادر كبير الشأن، وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه، واللهُ الموعد، وبعض ذلك مكذوب عليه" (¬4). وقال عنه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "كان له سمت حسن، وصمت غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه زهد كثير، وله أحوال صالحة ومكاشفات، ولأتباعه ¬

(¬1) ينظر: طبقات الحنابلة لابن رجب (ص 290 - 299)، سير أعلام النبلاء (20/ 439 - 451). (¬2) ينظر: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 142 - 143)،. (¬3) ينظر: سير أعلام النبلاء (20/ 441)، شذرات الذهب (4/ 200). (¬4) سير أعلام النبلاء (20/ 451).

وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالاً وأفعالاً، ومكاشفات أكثرها مغالاة، وقد كان صالحاً ورعاً، وقد صنف كتاب (الغنية)، و (فتوح الغيب)، وفيهما أشياء حسنة، وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبالجملة كان من سادات المشايخ، توفي وله تسعون سنة ودفن بالمدرسة التي كانت له" (¬1). قال ابن السمعاني - رحمه الله -: "إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه صالح، ديِّن خيِّر، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة" (¬2). وقال الحافظ ابن رجب معتذراً لما صدر من الشيخ عبد القادر: "ومن ساق الشيوخ المتأخرين مساق الصدر الأول، وطالبهم بطرائقهم، وأراد منهم ما كان عليه الحسن البصري وأصحابه مثلاً من العلم العظيم، والعمل العظيم، والورع العظيم، والزهد العظيم، مع كمال الخوف والخشية، وإظهار الذل والحزن والانكسار، والازدراء على النفس، وكتمان الأحوال والمعارف والمحبة والشوق ونحو ذلك، فلا ريب أنه يزدري المتأخرين، ويمقتهم، ويهضم حقوقهم، فالأولى تنزيل الناس منازلهم، وتوفيتهم حقوقهم، ومعرفة مقاديرهم، وإقامة معاذيرهم، وقد جعل الله لكل شيء قدراً. ولما كان الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي عظيم الخبرة بأحوال السلف والصدر الأول، قل من كان في زمانه يساويه في معرفة ذلك، وكان له أيضاً حظ من ذوق أحوالهم، وقسط من مشاركتهم في معارفهم، كان لا يعذر المشايخ المتأخرين في طرائقهم المخالفة لطرائق المتقدمين ويشتد إنكاره عليهم؛ وقد قيل: إنه صنف كتاباً ينقم فيه على الشيخ عبد القادر أشياء كثيرة ... -إلى أن قال- وللشيخ عبد القادر رحمه الله كلام حسن في التوحيد والصفات، والقدر، وفي علوم المعرفة موافق للسنة. وله كتاب "الغنية لطالبي طريق الحق"، وكتاب "فتوح الغيب"، وجمع أصحابه من مجالسه في الوعظ كثيراً، وكان متمسكاً في مسائل الصفات والقدر ونحوها بالسنة، بالغاً في الرد على من خالفها" (¬3). ¬

(¬1) البداية والنهاية (12/ 252). (¬2) نقلاً عن: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (1/ 119)، وتاريخ الإسلام للذهبي (39/ 89)، وسير أعلام النبلاء (20/ 441). (¬3) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (1/ 120 - 121).

وقد يُنقل عن الجيلاني من الكرامات وخوارق العادات ما لم ينقل عن غيره، لكثرة ما نَسب إليه أتباعه من ذلك؛ والنقاد من أهل الرواية لا يحفلون بهذه النقول إذ لا أسانيد لها يحتج بها (¬1). القادرية: تنسب القادرية إلى عبد القادر الجيلاني. أما بالنسبة لفرقة القادرية والتي هي فرقة من فرق الصوفية، فمن أهم عقائدهم: 1 - يؤمن أتباع الطريقة القادرية بعقيدة وحدة الوجود التي تدين بها الصوفية، وقد ورد ذلك في ثنايا بعض مؤلفات شيخها الجيلاني، منها قوله: "الحمد لله الذي وُجد في كل شيء، وحضر عند كل شيء" (¬2)، وقوله: "ومعنى الوصول إلى الله عز وجل خروجك عن الخلق، فإذا وصلت إلى الحق عز وجل - على ما بيّنا - فكن آمناً أبداً من سواه عز وجل، فلا ترى لغيره وجوداً ألبته" (¬3). 2 - الاعتقاد بأنه بإمكان الصوفي رؤية الله في الدنيا، وذلك برفع حُجُب الكائنات عن قلبه. يقول عبد القادر: "المؤمن العارف له عينان ظاهرتان، وعينان باطنتان، فيرى بالعينين الظاهرتين ما خلق الله عز وجل في الأرض، ويرى بالعينين الباطنتين ما خلق الله عز وجل في السماوات، ثم يرفع الحجب عن قلبه، فيراه، فيصير مقرّباً" (¬4). 3 - ذم الآخرة وطلاّبها، بزعم أن مقصود الصوفية هو الوصول إلى الامتزاج بالوجود الإلهي، إذ يقول الجيلاني: "شجاعة الخواص (أي الصوفية) في الزهد في الدنيا والآخرة" (¬5). ويقول أيضا "اخلع نعليك: دنياك وآخرتك، وتجرد عن الأكوان، وافن عن الكل، وتطيب بالتوحيد" (¬6). ¬

(¬1) دائرة المعارف الإسلامية (11/ 171). (¬2) عقيدة الصوفية للقصير (ص 187)، نقلاً عن الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية لإسماعيل محمد القادري. (¬3) عقيدة الصوفية للقصير (ص 188)، نقلاً عن فتوح الغيب لعبد القادر الجيلاني. (¬4) عقيدة الصوفية للقصير (ص 189)، نقلاً عن الفتح الرباني لعبد القادر الجيلاني. (¬5) عقيدة الصوفية للقصير (ص 189)، نقلاً عن فتوح الغيب لعبد القادر الجيلاني. (¬6) عقيدة الصوفية للقصير (ص 189)، نقلاً عن فتوح الغيب لعبد القادر الجيلاني.

2 - النقشبندية

2 - النقشبندية. قال الشيخ - رحمه الله -: " تكثر البدع عند جماعة الطرق الصوفية عموماً كالذكر الجماعي في صفوف أو حلقات بصوت واحد وذكرهم الله بالاسم المفرد بصوت واحد مثل: الله الله، حي حي، قيوم قيوم ... وذكرهم بضمير الغائب مثل: هو، هو .. وذكرهم بكلمة آه، وفي نشيدهم على الأذكار شر كثير، مثل: الاستغاثة بغير الله وطلب المدد من الأموات مثل: البدوي (¬1)، والشاذلي (¬2)، والجيلاني، وغيرهم، وفي كتبهم بدع كثيرة وشر مستطير، ويخص النقشبندية وذكرهم الله بلفظ الجلالة في الورد اليومي بحركات قلبية مع نفس تشبه حركة اللسان بالكلام دون تحريك للسان واستحضار المريد شيخه وورده اليومي مع اعتقاد وساطته في نجاته يوم القيامة، وهذه الأمور كلها من البدع المنكرة؛ لأن تلك الأذكار لم يثبت منها شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أوحي إليه من الكتاب والسنة، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (¬3)، وقال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (¬4) " (¬5). ¬

(¬1) هو: أحمد بن علي بن إبراهيم الحسيني، أبو العباس البدوي، المتصوف، صاحب الشهرة في الديار المصرية. أصله من المغرب، ولد بفاس سنة (596 هـ)، وطاف البلاد وأقام بمكة والمدينة. ودخل مصر في أيام الملك الظاهر بيبرس، فخرج لاستقباله هو وعسكره، وأنزله في درا ضيافته. وزار سورية والعراق سنة 634 هـ وعظم شأنه في بلاد مصر فانتسب إلى طريقته جمهور كبير بينهم الملك الظاهر. وتوفي ودفن في طنطا سنة (675 هـ)، حيث تقام في كل عام سوق عظيمة يفد إليها الناس من جميع أنحاء القطر المصري احتفاءً بمولده. من مؤلفاته: حزب، وصايا، صلوات، وقد أفرد بعضهم سيرته في كتب، منها كتاب السيد البدوي لمحمد فهمي عبد اللطيف. ينظر: شذرات الذهب (5/ 345)، الأعلام (1/ 175). (¬2) هو: علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف ابن هرمز الشاذلي المغربي، أبو الحسن: رأس الطائفة الشاذلية، من المتصوفة، وسكن " شاذلة " قرب تونس، فنسب إليها، ولد سنة (591 هـ)، وتوفي سنة (656 هـ)، من مؤلفاته: الأوراد المسماة حزب الشاذلي، والسر الجليل في خواص حسبنا الله ونعم الوكيل. ينظر: الأعلام (4/ 305). (¬3) أحرجه مسلم في صحيحة كتاب الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718). (¬4) أحرجه مسلم في صحيحة كتاب الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718). (¬5) فتاوى اللجنة (2/ 361 - 362).

النقشبندية: تنسب إلى (بهاء الدين محمد بن محمد البخاري) المعروف بشاه نقشبند (¬1) المولود سنة 618 هـ بقرية قرب بخارى والمتوفى (791 هـ). وهي فرقة صوفية فيها انحرافات كثيرة منها: زعمهم أن الله يُرى في الدنيا، والاستعانة بمشايخهم من دون الله وقولهم بفناء النار ووحدة الوجود وزعمهم معرفة علم الغيب وكثير من البدع (¬2). وأصول الطريقة النقشبندية متوافقة في كثير من تفاصيلها مع الطرق الصوفية الأخرى. فإن فيها من البدع والشركيات والقول بوحدة الوجود وما يحكونه عن أحوال مشايخهم وخصائصهم وتصرفهم المطلق في ذرات الكون، ما لا يشك معه أحد في أن هذه الطريقة إحدى طرق الصوفية الغلاة، الخارجين على الكتاب والسنة، مع إصرار أصحابها بأنها طريقة سنية لا تخرج عن أهل السنة والجماعة شبرا واحدا (¬3). ¬

(¬1) ولقب بنقشبند، قيل: لانطباع صورة لفظ الله على ظاهر قلبه من كثرة ذكر الله، وقيل: سمي نقشبند، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع كفه الشريف على قلب الشيخ محمد بهاء الدين الاويسي نقشبند، فصار نقشا في القلب. ينظر: تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب لمحمد أمين الكردي الإربلي (ص 539). (¬2) ينظر: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 147)، معجم البدع لرائد صبري (ص 654)، ومعجم ألفاظ العقيدة (ص 438). (¬3) ينظر: المواهب السرمدية لمحمد أمين الكردي (ص 3)، الأنوار القدسية (ص 5) والحدائق الوردية (ص 3) لعبد المجيد الخاني. وكتاب البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية لمحمد بن عبد الله الخاني (ص 9).

3 - التيجانية

3 - التيجانية: يبين الشيخ - رحمه الله - ضلال هذه الفرقة، فيقول: " أحمد التيجاني وأتباعه الملتزمون لطريقته، من أشد خلق الله غلواً وكفراً وضلالاً وابتداعاً في الدين، لما لم يشرعه الله سبحانه ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). قال كذلك - رحمه الله -: " الطريقة التيجانية طريقة منكرة لا تتفق مع هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته، بل فيها بدع شركية تخرج من يعتقدها أو يعمل بها من ملة الإسلام والعياذ بالله ... " (¬2). وقد أفرد الشيخ - رحمه الله - بحثاً كاملاً (¬3) مع اللجنة الدائمة للإفتاء في الطريقة التيجانية، وتَضَمن هذا البحث التالي: 1 - كلمة عن أحمد التيجاني، ومنشئ هذه الطريقة، ومصدرها. 2 - نبذ من عقيدته وعقيدة أتباعه. 3 - حكم الشريعة فيمن يعتقد هذه العقيدة. التيجانية: هي إحدى الفرق الصوفية التي تشترك مع غيرها في الإيمان بمعتقدات الصوفية ويزيدون على هذه المعتقدات شيئاً خاصاً بهم كالاعتقاد بإمكانية مقابلة النبي - صلى الله عليه وسلم - والالتقاء به التقاء مادياً في هذه الدنيا، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خصهم بصلاة (الفاتح لما أغلق) دون سواهم من المسلمين، وتنسب فرقة التيجانية إلى مؤسسها: أبي العباس أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن محمد سالم التيجاني (1150 - 1230 هـ) المولود بقرية تسمى (عين ماضي) من القرى الصحراوية الجزائرية. وقد أنشأ طريقه عام (1196 هـ) في قرية أبي سمغون، وصارت مدينة فاس المركز الأول لهذه الطريقة وبها زاويته التيجانية، ومنها انطلقت دعوته إلى طريقته، فانتشرت في القارة الإفريقية بوجه عام، وصار لهذه الطريقة أتباع ودعاة (¬4). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (2/ 323). (¬2) فتاوى اللجنة (2/ 318)، ينظر: فتاوى اللجنة (2/ 324، 343). (¬3) حاشية فتاوى اللجنة الدائمة (2/ 324 - 341). (¬4) ينظر: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 148)، الموسوعة الميسرة (1/ 281)، والاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى لأحمد بن خالد الناصري (3/ 83، 105، 130).

أهم أفكارهم وعقائدهم (¬1): 1 - هم مؤمنون بالله سبحانه على نحو صوفي، فهم يؤمنون بوحدة الوجود، كما يؤمنون بالفناء الذي يطلقون عليه اسم (وحدة الشهود). 2 - الغيب - عندهم - قسمان: "غيب مطلق": استأثر الله بعلمه. "غيب مقيد": يغيب عن بعض المخلوقين دون بعض، وهم يزعمون أن مشايخهم يعلمون الغيب. 3 - يدعي زعيمهم ومؤسس مذهبهم "أحمد التجاني" أنه قد التقى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لقاءً حسياً مادياً، وأنه كلمة مشافهة، وتعلم من النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلاة الفاتح لما أغلق" التي تكفر الذنوب وتضاعف الثواب أكثر من ثواب قراءة القرآن آلاف المرات! وهذا من شأنه أن يؤدي إلى فتورهم وكسلهم في أداء العبادات والتهاون بها، وهذا مخالف لما يأمر به الدين ويحث عليه. 4 - يقولون: إن أحمد التجاني هو (خاتم الأولياء) كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (خاتم الأنبياء). والواضح أن هذه الطريقة قد تأثرت بما ذهب إليه بعض أعلام الصوفية كابن عربي، والحلاج، وغيرهما. وقد ساعد على تقبل هذه الأفكار وانتشارها جهل العامة بالدين الصحيح، وانتشار البدع والخرافات في البيئة الإسلامية، حتى أن عدد التيجانيين في نيجيريا وحدها بلغ عشرة ملايين نسمة!. ¬

(¬1) ينظر في أفكارهم وعقائدهم: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 149)، الموسوعة الميسرة (1/ 281).

4 - البريلوية

4 - البريلوية. يرد الشيخ - رحمه الله - على دعوى فرقة (البريلوية) الذين يعتقدون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ظل له، فيقول: " هذا القول باطل مناف لنصوص القرآن والسنة الصريحة الدالة على أنه صلوات الله وسلامه عليه بشر لا يختلف في تكوينه البشري عن الناس وأن له ظلاً كما لأي إنسان، وما أكرمه الله به من الرسالة لا يخرجه من وصفه البشري الذي خلقه الله عليه من أم وأب، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} الكهف: 110، وقال تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} إبراهيم: 11؛ أما ما يروى من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلق من نور الله (¬1) فهو حديث موضوع" (¬2). البريلوية: هي فرقة صوفية نشأت في الهند أيام الاستعمار البريطاني. ومؤسسها: أحمد رضا خان بن تقي علي خان (1272 - 1340 هـ) والذي سمى نفسه عبد المصطفى. ولد أحمد رضا خان في بلدة "بريلي" بولاية "اترابرديش"، وتتلمذ على المرزا غلام قادر بيك الشقيق الأكبر للميرزا غلام أحمد القادياني، كما زار مكة (1295 هـ) وقرأ على بعض المشايخ فيها. كان نحيل الجسم مصاباً بأمراض مزمنة فكان حاد المزاج، شديد الغضب، بذيء اللسان. له عدد من المؤلفات منها "أنباء المصطفى"، و"خالص الاعتقاد"، و"مرجع الغيب"، وله ديوان شعر "حدائق بخشش" (¬3). ¬

(¬1) ورد في الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة للكنهوي من حديث عبد الله بن جابر بن عمرو الأنصاري (ص 42)، قال الحافظ السيوطي في الحاوي للفتاوى (1/ 312): "ليس له إسناد يعتمد عليه" اهـ، وهو حديث موضوع جزمًا، وفيه اصطلاحات المتصوفة، وهذا الحديث هو عمدة الصوفية فيما زعموه واعتقدوه ونشروه أن الرسول هو قبة الكون، وهو أول الوجود، وأنه جزء من نور الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً، وأن كل المخلوقات خلقت بأجزاء منه. (¬2) فتاوى اللجنة (1/ 464). (¬3) بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 150).

أهم أفكارهم وعقائدهم: يميز هذه الفرقة عن غيرها مغالاة أفرادها في محبة وتقديس الأنبياء والأولياء بصفة عامة، وخاصة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي وصفوه بما يرفعه فوق خصائص البشر. فهم يعتقدون أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - والأولياء من بعده لديهم قدرة على التصرف في الكون، حتى رفعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قريب من مرتبة الألوهية، يقول أحمد رضا خان في ديوانه (حدائق بخشش) (¬1): "أي يا محمد - صلى الله عليه وسلم - لا أستطيع أن أقول لك الله، ولا أستطيع أن أفرق بينكما، فأمرك إلى الله هو أعلم بحقيقتك ". كما زعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والأولياء يعرفون ما استأثر الله بعلمه (¬2)؛ والنبي في نظرهم حاضر بعد موته، وناظر لأفعال الخلق في كل زمان ومكان، فهم ينكرون بشرية النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجعلونه نوراً من نور الله؛ وهم كذلك يستغيثون بالأنبياء والأولياء، ويشيدون القبور ويجصصونها، وينذرون لها النذور ويتبركون بها، إلى آخر ما وقعوا فيه من أمور الشرك ومخالفة الشرع بالغلو في الدين أحياناً، والتهجم والافتراء على العلماء العاملين من أمثال الإمام محمد بن عبد الوهاب، والإمام ابن تيمية، وتلميذه الإمام ابن القيم، وكل من دعا إلى التوحيد الخالص، ونبذ الشرك والشركاء (¬3). ¬

(¬1) (2/ 104). (¬2) ينظر: خالص الاعتقاد لأحمد رضا خان (ص 53 - 54). (¬3) ينظر: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 150 - 152)، البريلوية عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهير.

المبحث السادس القومية

المبحث السادس القومية. تمهيد لقد عاشت الأمة الإسلامية ردحاً طويلاً من الزمان تتقدم المجتمعات الإنسانية وتملك زمام القيادة العالمية، فصنعت للإنسانية تاريخاً مجيداً يغتبط به كل إنسان وتقر به عينه. حتى انغمس الكثير من المسلمين في الترف المادي والعقلي وضيعوا الأوقات فيما لا فائدة فيه، فصار العالم الإسلامي فريسة للحضارة الأوربية "غربية وشرقية" على حد سواء، حيثُ التقى الفكر الغربي والشرقي في انتكاس الفطرة الإنسانية فكان أساس فلسفتها "لا موجود إلا المادة"، وانطلق الغزو الفكري الأجنبي يعربد في بلاد الإسلام يحاول السيطرة عليها، وفرض وصايته الكاملة على أهلها، فألغيت الخلافة الإسلامية سنة 1342 هـ، وأصاب العالم الإسلامي ما أصابه من آثار سيئة نتيجة هذا الغزو الفكري المادي الملحد، وما زال يعاني من هذه الآثار حتى الآن. ومن هذه الآثار: أولاً: أثر الغزو الفكري الغربي في العالم الإسلامي: 1 - الاستشراق. أ- إثارة الشبهات. ب- تشجيع الفكر الفاسد. ج- تحريف الكلم عن مواضعه. د- اعتدادهم بكتبهم وأبحاثهم وإيهام بعض الدارسين بدقتها وصحتها. 2 - التبشير- التنصير. أ- مدارس التبشير. ب- تهيئة الفرصة أمام البعثات من الدول الإسلامية إلى الدول الغربية.

3 - فصل الدين عن الدولة. 4 - إحياء القوميات وإسقاط الخلافة الإسلامية. ثانياً: أثر الغزو الفكري الماركسي في العالم الإسلامي. ثالثاً: أهم العوامل الداخلية التي مكنت للتيارات الفكرية الضالة. 1 - الجهل بالدين. 2 - انتشار البدع والخرافات. 3 - نشاط الأقليات غير المسلمة (¬1). وليس هذا مجال البسط فيما سبق ذكره من آثار إلا أني أحببت أن آتي بإلماحه بسيطة عن فكرة الغزو الفكري للعالم الإسلامي وأن القومية ضمن هذا الغزو. وإن لم يكن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - تحدث مباشرة عن القومية (¬2) إلا أنه تحدث عن العلمانية والتي تعود لثلاث حركات منها، حركة القومية التي هي مجال حديثنا، وحركة البعث (¬3)، وحركة الناصرية (¬4) (¬5). ¬

(¬1) ينظر لما سبق: التغريب أخطر التحديات في وجه الإسلام لأنور الجندي (ص 17)، التغريب طوفان من الغرب للواء أحمد عبد الوهاب (ص 15)، واقعنا المعاصر لمحمد قطب (ص 198 - 204)، الإسلام والحضارة العربية لمحمد محمد حسين (ص 18)، فتياتنا بين التغريب والعفاف، د. ناصر العمر (ص 33). (¬2) لم أجد فيما قرأت ووقع بين يدي من تراث الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - حديثاً له عن القومية. (¬3) حزب البعث العربي الاشتراكي" حزب ولد عام (1943 م)، وهو حزب قومي علماني، يدعو إلى الانقلاب الشامل في المفاهيم والقيم العربية لصهرها وتحويلها إلى التوجه الاشتراكي، شعاره المعلن (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) وهي رسالة الحزب، أما أهدافه فتتمثل في الوحدة والحرية والاشتراكية. ينظر: الموسوعة الميسرة (1/ 470)، حزب البعث تاريخه وعقائده، لسعيد بن ناصر الغامدي. (¬4) الناصرية حركة قومية عربية، نشأت في ظل حكم جمال الدين عبد الناصر -رئيس مصر عام 1954 - 1970 م- واستمرت بعد وفاته، واشتقت اسمها من اسمه، وتبنت الأفكار التي كان ينادي بها وهي: الحرية والاشتراكية والوحدة، وهي نفس أفكار الأحزاب القومية اليسارية العربية الأخرى. ينظر: الموسوعة الميسرة (1/ 485)، الناصرية في قفص الاتهام، لعبد المتعال الجبري، الناصرية وثنية سياسية، د. فهمي الشناوي. (¬5) (1 - فصل الدين عن الدولة. 2 - منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين. 3 - إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب). وهي المبادئ العلمانية التي هي من المبدأ الأساسي السادس في عقيدة فكر القومية، كما بين ذلك صاحب كتاب المحاضرات العشر لأنطون سعادة -مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي- (ص 94).

القومية

- القومية: هي حركة سياسية فكرية متعصبة، تدعو إلى تمجيد العرب، وإقامة دولة موحدة لهم، على أساس من رابطة الدم والقربى واللغة والتاريخ، وإحلالها محل رابطة الدين. وهي صدى للفكر القومي الذي سبق أن ظهر في أوربا (¬1). يصفها سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - بأنها: " دعوة جاهلية إلحادية تهدف إلى محاربة الإسلام والتخلص من أحكامه وتعاليمه". ويقول عنها: " وقد أحدثها الغربيون من النصارى لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره بزخرف من القول ... فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإسلام، واغتر بها كثير من الأغمار ومن قلدهم من الجهال، وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان". ويقول، أيضاً: " هي دعوة باطلة وخطأ عظيم ومكر ظاهر وجاهلية نكراء وكيد سافر للإسلام وأهله" (¬2). تطلق هذه الكلمة "القومية" ويراد بها أن أبناء الأصل الواحد واللغة الواحدة ينبغي أن يكون ولاؤهم واحداً، وإن تعددت أرضهم وتفرقت أوطانهم، كما يراد بها أيضاً: السعي للوصول إلى توحيد الوطن بحيث تجتمع القومية الواحدة في وطن شامل، فيكون الولاء للقومية مصحوباً بالولاء للأرض، ولكن يظل الولاء للقومية هو الأصل حتى وإن لم تتحقق وحدة الأرض (¬3). تاريخها: إن مفهوم القومية في هذا العصر يقوم على (العصبية) التي لم تخل من بعض أنواعها عصور الجاهلية عبر تاريخ الإنسانية الطويل، فعصبية القبيلة، وعصبية الجنس، وعصبية اللغة، وعصبية الدين، كلها تدل على أن القومية نزعة جاهلية قديمة لم تبتكرها جاهلية القرن العشرين. ¬

(¬1) الموسوعة الميسرة (1/ 444). (¬2) نقد القومية العربية للشيخ ابن باز - رحمه الله - والكتاب موجود بكاملة في فتاويه (1/ 280 - 318). (¬3) بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 273).

كان مولد القوميات في أوربا حركات إصلاحية مبتورة غير ناضجة استغلها أصحاب الأطماع والأهواء وحولوها إلى شؤم وشرور. إن فكرة "القومية" تقوم على أمور لا خيار للإنسان فيها، من المولد في أرض معينة، والكلام بلغة الأرض والمجتمع الذي ولد فيه، وعلى المصالح المادية البحتة ... إلخ. وفي الوقت نفسه تنبذ ما للإنسان فيه اختيار كالإيمان بالله وما جاء على لسان رسله. ورغم هذه الآثار السيئة الناتجة عن نعرة القومية والوطنية في أوربا فقد قامت أوربا بتصدير دعاوي القومية والوطنية إلى الشرق الإسلامي؛ لتحارب المسلمين من داخل نفوسهم، وتزعزع العقيدة في قلوبهم. وهكذا فإن تيار الفكرة القومية كانت مهمته إقصاء الإسلام وتفريغ القضية السياسية والاجتماعية بوجه عام من المحتوى الإسلامي (¬1). وقد شجعت الدول الأوربية الكبرى على ظهور القومية العربية - والتي نشأت من الثورة العربية (¬2) - في صورتها العلمانية؛ لتحقيق مطامعها في احتلال الشرق الإسلامي (¬3). موقف الإسلام من الدعوة القومية: الإسلام يحارب القومية باعتبارها عصبية جاهلية، أنكرها الإسلام وحذر منها، وسد منافذها، فلا بقاء للدين العالمي والأمة الواحدة مع هذه العصبية الممقوتة. ومصادر الشريعة الإسلامية زاخرة برفض هذه العصبية الجاهلية وتشنيعها، بل ترفضها الأديان السماوية الصحيحة كلها، النصوص الواردة في ذلك أكثر من أن تستقصى. ¬

(¬1) ينظر لما سبق من تاريخ القومية: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 273 - 279). (¬2) الثورة العربية التي انفجرت عام 1916 لتحرير الأمة العربية وتوحيدها وكانت باسم الحرية والديمقراطية وأحدثته هذه الدعوات فجوة بين الحكام العثمانيين والرعية. ينظر: الخديعة حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي، لمحمد الغزالي (ص 155)، أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها: التبشير - الاستشراف - الاستعمار، دراسة وتحليل وتوجيه (ودراسة منهجية شاملة للغزو الفكري)، لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (ص 214). (¬3) أساليب الغزو الفكري للدكتور علي جريشة (ص 77، 78).

العلمانية

إن الإسلام لا يمنع الناس من الانتماء لوطنهم وحبهم له فهذا أمر فطر عليه الحيوان فضلاً عن الإنسان، فالحيوان يحب جحره ويدفع عنه، والطير يألف عشه ويحافظ عليه، فكيف بالإنسان؟! ولكن الإسلام ينكر أن تكون رابطة الدم أو اللغة أو الأرض أو المصالح المشتركة أقوى من رابطة الإسلام أو أعلى من رابطة الدين والعقيدة الصحيحة، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} التوبة: 24. والقوميون العرب يوالون كل عرب أياً كانت ديانته، فهم ينحون الدين جانباً ويفصلونه عن الدولة، ويتجمعون تحت لواء القومية العربية، معتقدين أن قوميتهم العربية تحقق لهم من المنافع ما يعجز الإسلام عن تحقيقه، وهذا جهل فاضح، ومخالفة صريحة لنصوص القرآن الكريم التي تدل على وجوب بغض الكافرين ومعاداتهم وتحريم موالاتهم (¬1). ذكر الشيخ - رحمه الله - العلمانية والتي تعد من الأحزاب والحركات والاتجاهات المعاصرة، والتي تهدف لهدم الإسلام، فآثرت أن أُدرجها هنا للترابط بينها وبين القومية. - العلمانية. سُئل الشيخ - رحمه الله - عن الحكومة العلمانية، فقال: " إذا كانت تحكم بغير ما أنزل الله فالحكومة غير إسلامية" (¬2). ¬

(¬1) ينظر لما سبق من موقف الإسلام من الدعوة القومية: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 279 - 286)، فتاوى الشيخ ابن باز (1/ 320 - 321). (¬2) فتاوى اللجنة (1/ 789).

جاء في القاموس الإنجليزي أن كلمة "علماني" معناها: دنيوي، أو مادي، أو ليس بديني، فالمقصود من الكلمة هو إقامة الحياة بعيداً عن الدين، أو الفصل الكامل بين الحياة والدين (¬1). وجاء في معجم ألفاظ العقيدة أن العلمانية: تأتي لمعان منها: العالمية، ومنها اللادينية، ومنها فصل الدين عن الدولة وعن الحياة. وكلمة العلمانية اصطلاح جاهلي غربي يشير إلى انتصار العلم على الكنيسة التي حاربت التطور باسم الدين (¬2). نشأة العلمانية: كانت أوربا في العصور الوسطى غارقة في بحر من الظلمات تعيش في ظروف دينية متردية للغاية، فقد عبثت الكنيسة بدين الله المنزل وحرف القساوسة ديانة المسيح، وعملوا على تشويهها، وقدموها للناس في صورة منفردة تمجها العقول ويرفضها الشعور. فتعارض هذا الدين المبدل مع مصالح الناس في دنياهم ومعاملاتهم، وفي نفس الوقت تعارض مع حقائق العلم الثابتة. فكان لا بد من التمرد على دين يحارب العلم ويناصر المجرمين، فما كان من الأوربيون إلا أن قاموا بإبعاده وطرده من كافة جوانب الحياة، ولكنهم أعلنوا حربا على الدين كله حتى الإسلام. وفكرة العلمانية وسمتُها المميزة هي الإلحاد؛ ولقد أصبح الطابع المميز للفكر العلماني هو التمرد على الدين المنزل من عند الله (¬3). موقف الإسلام والمسلمين منها: لا يمكن التعايش السلمي بين العلمانية والإسلام؛ لأن الدين الحق لا يمكن أن يكون عقيدة مفصولة عن الشريعة فالعقيدة أصل يدفع إلى الشريعة، والالتزام بالشريعة هو مقتضى ¬

(¬1) ينظر: معجم أكسفورد (ص 1371)، Oxford ADVANCED LEARNERS Dictionary 7 th adition (page 1371) . (¬2) (ص 300)، وينظر: جذور العلمانية للدكتور السيد أحمد فرج (ص 105). (¬3) ينظر: العلمانية نشأتها وتطورها للدكتور سفر الحوالي (ص 128 - 136)، بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 263 - 266).

العقيدة ذاتها، مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، بحيث لا تكون الشهادة صحيحة وقائمة إن لم تؤد عند صاحبها هذا المعنى وهو الالتزام بما جاء من عند الله. والتحاكم إلى شريعة الله ورفض التحاكم إلى أي شريعة سوى شريعة الله، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} النساء: 65 (¬1). قال الإمام ابن تيمية - رحمه الله -: " فلما نفى الإيمان حتى توجد هذه الغاية دل ذلك على أن هذه الغاية فرض على الناس فمن تركها كان من أهل الوعيد" (¬2). وانطلاقاً من هذا المفهوم نستطيع أن نرى حكم الله في العلمانية بسهولة ووضوح أنها باختصار: نظام طاغوتي جاهلي يتنافى مع لا إله إلا الله من ناحيتين أساسيتين متلازمتين: أولا:- من ناحية كونها حكماً بغير ما أنزل الله. إن العلمانية تعني - بداهة - الحكم بغير ما أنزل الله، فهذا هو معنى قيام الحياة على غير الدين، ومن ثم فهي -بالبديهة أيضاً- نظام جاهلي لا مكان لمعتقده في دائرة الإسلام، بل هو كافر بنص القرآن الكريم: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} المائدة: 44. ثانيا:- من ناحية كونها شركاً في عبادة الله. فمن نواقض الإسلام العشرة - غير الشرك الذي هو الناقض الأكبر والذي لا شك أن العلمانية نوع منه كما سيأتي ناقضان: 1 - من اعتقد أن غير هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر. 2 - من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى -عليه السلام- فهو كافر (¬3). ¬

(¬1) ينظر: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 263 - 266)، تفسير القرآن العظيم (1/ 520). (¬2) كتاب الإيمان لابن تيمية (ص 33). (¬3) ينظر: مجموعة التوحيد، ابن عبد الوهاب وابن تيمية، وغيرهما من العلماء (37 - 38).

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)} النساء: 150 - 151، وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين، فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلي عن شرائعه (¬1). ¬

(¬1) ينظر: العلمانية نشأتها وتطورها للدكتور سفر الحوالي (ص 669 - 698).

المبحث السابع مذاهب وفرق معاصرة

المبحث السابع مذاهب وفرق معاصرة. لعلي أُقسم ما ذكره الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - من فرق وأديان إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الأديان الشرقية. 1 - البراهمة. قال الشيخ - رحمه الله -: "البراهمة: قيل: إنهم جماعة من حكماء الهند تبعوا فيلسوفا يسمى "برهام" فنسبوا إليه، وقيل: إنهم طائفة عبدت صنماً يسمى "برهم" فنسب إليه. وتطرف البراهمة فأحالوا أن يصطفي الله نبياً، ويبعث من عباده رسولاً، وزعموا أن إرسالهم عبث، إما لعدم الحاجة إليهم اعتماداً على العقل في التمييز بين المفاسد والمصالح، واكتفاء بإدراكه ما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد. وإما لاستغناء الله عن عباده، وعدم حاجته إلي أعمالهم، خيراً كانت أم شراً، إذ هو - سبحانه - لا ينتفع بطاعتهم، ولا يتضرر لمعصيتهم. وقد تقرر عدم كفاية العقل في إدراك المصالح والمفاسد وحاجة العالم إلى الرسالة تحقيقاً لمصالحهم، مع غنى الله عن الخلق وأعمالهم، فليس إرسالهم عبثاً بل هو مقتضى الحكمة، وموجب فضله وإحسانه ورحمته بعباده، والله عليم حكيم. إن إرسال الله الرسل ليس مستحيلاً في نفسه، ولا عبثاً حتى يجافي حكمة الله؛ بل هو جائز عقلاً، داخل في نطاق قدرة الله الشاملة وإرادته النافذة؛ مع أن بعض البراهمة قد اعترف برسالة آدم، وآخرين منهم اعترفوا برسالة إبراهيم - عليه السلام -، وعندهم من البدع الشركية ووسائل الشرك والخرافات الشيء الكثير" (¬1). ¬

(¬1) ينظر: مذكرة التوحيد (ص 58 - 59)، مجموعة ملفات الشيخ (ص 165 - 166)، فتاوى اللجنة (2/ 308، 309)، تعليق الشيخ على الإحكام (1/ 113)، الحكمة من إرسال الرسل (ص 16).

البراهمة: هم الذين يزعمون أن العقل يُغني عن الوحي. وفي القرن الثامن قبل الميلاد أطلق على الديانة الهندوسية اسم "البرهمية" نسبة إلى "برهماً" وهو في اللغة السنسكريتية (¬1) معناه "الله"-وهذا أحد الأقوال وسبق في كلام الشيخ - رحمه الله - بعض الأقوال الأخرى- ورجال دين الهندوس يعتقدون أنه الإله الموجود بذاته الذي لا تدركه الحواس وإنما يدرك بالعقل وهو الأصل الأزلي المستقل الذي أوجد الكائنات كلها ومنه يستمد العالم وجوده؛ ويعتقد الهندوس أن رجال هذا الدين يتصلون في طبائعهم بعنصر "البرهم" ولذلك أطلق عليهم اسم "البراهمة" (¬2). ومن أبرز زعمائهم زعيم الهند غاندي، يقول مفاخراً: "عندما أرى البقرة لا أجدني أرى حيواناً لأنني أعبد البقر وسأدافع عن عبادتهم أمام العالم أجمع" ولقد قاده عقله إلى تفضيل أمه البقرة على أمه التي ولدته (¬3). والبرهمية -الهندوسية- ديانة وثنية يعتنقها معظم أهل الهند (¬4). وعندهم من البدع الشركية ووسائل الشرك والخرافات الشيء الكثير فمنها: أن مصير الإنسان عندهم بعد الموت - كما يقولون - لا تؤمن بحياة أخرى فيها جنّة ونار وثواب وعقاب، وإنَّما يرتبط مصير النفس بموضوع التناسخ، حيث تنتقل الأنفس من بدن إلى آخر، وأعمال الإنسان هي التي تحدِّد مصير النفس، فإذا سلك سبيل الخير واتّبع ¬

(¬1) السنسكريتية هي: لغة قديمة في الهند وهي لغة طقوسية للهندوسية، والبوذية، والجانية. لها موقع في الهند وجنوب شرق آسيا مشابه للغة اللاتينية واليونانية في أوروبا في القرون الوسطى، ولها جزء مركزي في التقليد الهندوسي. السنسكريتية هي إحدى الاثنتين وعشرين لغة رسمية للهند. تدرس في الهند كلغة ثانية. كما أن بعض البراهمية -وهم الوعاظ من الطبقة العالية- يعتبرونها لغتهم الأم. لقد كانت اللغة السنسكريتية وما زالت في الهند في المعابد فيسمح فقط لكهنة البراهما بقراءة النصوص السنسكريتية, أما في الماضي فتواجدت في الأدب الهندي: أدب لغتي البالي والبراكريت، الأدب الدرافيدي الباكر، الأدب البنغالي. وغيره ينظر: مادة (السنسكريتية) الموسوعة الحرة ويكيبيديا، ar.wikipedia.org. (¬2) الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة لعبد القادر شيبة الحمد (ص 59 - 68). (¬3) ينظر: الرسل والرسالات، عمر الأشقر (ص 37)، ومعجم ألفاظ العقيدة (ص 69). (¬4) الموسوعة الميسرة (2/ 712، 985).

الفضائل انعتقت نفسه من دورة الحياة في الأبدان واتحدّت بالروح الكلية، وإلاَّ تبقى في هذه الدورة متنقلة من بدن إلى آخر. وعندهم ما يسمى بالطبقات الأربع: فيتكون المجتمع حسب الهندوسية من أربع طبقات هي: البراهمة، الكشاتريا، الويشاش، الشودر. ومزاعم الهندوسية تصل إلى حدِّ التمييز في مصدر ما يتكوّن منه أهل كلّ طبقة, فيقولون: لسعادة العالم خلق برهما البراهمة من وجهه، والكشتريين من ذراعيه، والويش من فخذيه، والشودر من قدميه. كذلك فالزواج عندهم يربط المرأة بزوجها رباطاً أبدياً، لذلك انتشر عندهم إذا مات الزوج قبل الزوجة أن تحرق الأرملة مع جثمان زوجها لأنَّه خير لها أن لا تبقى بعده (¬1). ¬

(¬1) ينظر لما سبق: الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة، لعبد القادر شيبة الحمد (ص 59 - 68)، دائرة المعارف (5/ 374)، (3، 375 - 377)، (9، 548)، والفكر الشرقي القديم، جون كولر، ترجمة كامل يوسف حسين، مراجعة الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، (ص 78، 79، 97، 162)، وأديان الهند الكبرى، الدكتور أحمد شلبي (ص 114، 125، 126، 135، 136).

2 - الثنوية

2 - الثنوية. قال الشيخ - رحمه الله -: " الثنوية: طائفة تزعم أن النور والظلمة أزليان قديمان فنسبت إلى الاثنين" (¬1). التثنية والثنوية: عقيدة للمجوس -يعتقدون- أن العالم له إلهين الظلمة والنور. ويعتقدون أن النور والظلمة أزليان قديمان بخلاف المجوس فإنهم قالوا بحدوث الظلام وبتساويهما في القدم واختلافهما في الجوهر والطبع والفعل والحيز والمكان والأجناس والأبدان والأرواح (¬2). والثنوية مذهب ديني فلسفي قديم يمثل أحد أطوار الديانة المجوسية، شاع في بلاد فارس قبل النصرانية وبعدها، وانتسبت إليه فرق تحمل أسماء أصحابها، ومن أقدمها الزرادشتية والديصانية والمانوية والمزدكية. ويقوم مذهب الثنوية على أساس أن العالم مركب من أصلين قديمين أزليين وممتزجين هما: النور والظلمة، ويختلفان في الجوهر والطبع والصفات والفعل، فجوهر النور: الصفاء والنقاء والجمال، وجوهر الظلمة: القبح واللؤم. وفعل النور: الخير والصلاح، وفعل الظلمة: الشر والفساد والفوضى. إلا أن طوائف الثنوية تختلف في تقرير طريقة هذا الامتزاج، ولم يتأثر من المسلمين بالثنوية إلا قلة اتهمت بالزندقة (¬3). ¬

(¬1) تعليق الشيخ على الإحكام (1/ 113). (¬2) ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 285)، معجم ألفاظ العقيدة (ص 84). (¬3) ينظر: الموسوعة الميسرة (2/ 1032)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 290 - 299).

القسم الثاني: ما تفرع عن اليهودية

القسم الثاني: ما تفرع عن اليهودية. 1 - الماسونية. تكلم الشيخ - رحمه الله - عن الماسونية، وأسوق كلامه مع شيء من التقسيم: " أولاً: تعريفه لها: الماسونية: هي جمعية سرية سياسية تهدف إلى القضاء على الأديان والأخلاق الفاضلة وإحلال القوانين الوضعية والنظم غير الدينية محلها، وتسعى جهدها في إحداث انقلابات مستمرة وإحلال سلطة مكان أخرى بدعوى حرية الفكر والرأي والعقيدة. ثانياً: بيانه لأهدافها ونظرياتها: ويؤيد ذلك ما أعلنه أحد الماسونية ... في مؤتمر الطلاب الذي انعقد في 1865 م في مدينة لييج التي تعتبر أحد المراكز الماسونية من قوله: يجب أن يتغلب الإنسان على الإله، وأن يعلن الحرب عليه، وأن يخرق السموات ويمزقها كالأوراق. ويؤيده ما ذكر في المحفل الماسوني الأكبر سنة 1922 م ما نصه: سوف نقوي حرية الضمير في الأفراد بكل ما أوتينا من طاقة، وسوف نعلنها حرباً شعواء على العدو الحقيقي للبشرية الذي هو الدين. ويؤيده أيضاً قول الماسونيين: إن الماسونية تتخذ من النفس الإنسانية معبوداً لها، وقولهم: إنا لا نكتفي بالانتصار على المتدينين ومعابدهم، إنما غايتنا الأساسية إبادتهم من الوجود. وقولهم: ستحل الماسونية محل الأديان وأن محافلها ستحل محل المعابد ... إلى غير هذا مما فيه شدة عداوتهم للأديان وحربهم لها حرباً شعواء لا هوادة فيها. ثالثاً: بيانه - رحمه الله - لنشأتها: والجمعيات الماسونية من أقدم الجمعيات السرية التي لا تزال قائمة ولا يزال منشؤها غامضاً وغايتها غامضة على كثير من الناس، بل لا تزال غامضة على كثير من أعضائها. لإحكام رؤسائها ما بيتوا من مكر سيء وخداع دفين ولشدة حرصهم على كتمان ما أبرموه من تخطيط، وما قصدوا إليه من نتائج وغايات.

رابعاً: الأسس التي استقت منها الماسونية نظرياتها: وقد وضعت أسس الماسونية على نظريات فأخذت من مصادر عدة، أكثرها التقاليد اليهودية ... ويؤيد أيضاً ما ذكر في سجلات الماسونية من قولهم: لقد تيقن اليهود أن خير وسيلة لهدم الأديان هي الماسونية، وأن تاريخ الماسونية يشابه تاريخ اليهود في الاعتقاد ... خامساً: حقيقة الماسونية: وعلى أن الماسونية في ظاهرها دعوة إلى الحرية في العقيدة والتسامح في الرأي، والإصلاح العام للمجتمعات، ولكنها في حقيقتها ودخيلة أمرها دعوة إلى الإباحية والانحلال وعوامل هرج ومرج وتفكك في المجتمعات ... سادساً: حكم من هو عضو فيها: وعلى هذا فمن كان من المسلمين عضواً في جماعة الماسونية وهو على بينة من أمرها، ومعرفة بحقيقتها ودفين أسرارها، أو أقام مراسمها وعني بشعائرها كذلك، فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلاَّ قتل، وإن مات على ذلك فجزاؤه جزاء الكافرين. ومن انتسب إلى الماسونية وكان عضواً في جماعتها وهو لا يدري عن حقيقتها ولا يعلم ما قامت عليه من كيد للإسلام والمسلمين وتبييت الشر لكل من يسعى لجمع الشمل وإصلاح الأمم، وشاركهم في الدعوة العامة، والكلمات المعسولة التي لا تتنافى حسب ظاهرها مع الإسلام فليس بكافر، بل هو معذور في الجملة لخفاء واقعهم عليه، ولأنه لم يشاركهم في أصول عقائدهم ولا في مقاصدهم ... لكن يجب عليه أن يتبرأ منهم إذا تبين له أمرهم ويكشف للناس عن حقيقتهم ويبذل جهده في نشر أسرارهم وما بيتوا للمسلمين من كيد وبلاء ليكون ذلك فضيحة لهم ولتحبط به أعمالهم" (¬1). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة (2/ 440 - 445).

الماسونية: تطلق كلمة " الماسونية" ويراد بها "البناؤون الأحرار" الذين بنوا هيكل سليمان، فهم أصحاب حرف مختلفة لا تربطهم نقابة أو رابطة رسمية، فكونوا لأنفسهم جمعية أُطلق على كل عضو فيها كلمة "أخ" وفي هذا إشعار بأنها قامت على الإخاء والمحبة والمساواة بينَ أفراد البشرية كلها! فهي دعوة لخير البشرية كما يزعمون. ولو كانَت هذه حقيقتها فعلاً فلماذا تختفي في الظلام لتعمل فيه وترهب النور وتخشاه؟ المعروف أن الماسونية تهدد كل من يبوح برموزها، أو يحاول الكشف عن طلاسمها بالقتل والإبادة! (¬1). يقول أحد المؤرخين المحدثين: " الماسونية آلة صيد بيد اليهود يصرعون بها كبار الساسة، ويخدعون الأمم الغافلة والشعوب الجاهلة" (¬2). الأفكار والمعتقدات: ·يكفرون بالله ورسله وكتبه وبكل الغيبيات ويعتبرون ذلك خزعبلات وخرافات. ·العمل على إسقاط الحكومات الشرعية وإلغاء أنظمة الحكم الوطنية في البلاد المختلفة والسيطرة عليها. ·إباحة الجنس واستعمال المرأة كوسيلة للسيطرة. ·العمل على تقسيم غير اليهود إلى أمم متنابذة تتصارع بشكل دائم. ·بث سموم النزاع داخل البلد الواحد وإحياء روح الأقليات الطائفية العنصرية. ·تهديم المبادئ الأخلاقية والفكرية والدينية ونشر الفوضى والانحلال والإرهاب والإلحاد. ·استعمال الرشوة بالمال والجنس مع الجميع وخاصة ذوي المناصب الحساسة لضمهم لخدمة الماسونية، والغاية عندهم تبرر الوسيلة. إحاطة الشخص الذي يقع في حبائلهم بالشباك من كل جانب لإحكام السيطرة عليه وتسييره كما يريدون ولينفذ صاغراً كل أوامرهم. ·الشخص الذي يلبي رغبتهم في الانضمام إليهم يشترطون عليه التجرد من كل رابط ديني أو أخلاقي أو وطني وأن يجعل ولاءه خالصاً للماسونية. ¬

(¬1) ينظر: بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات (ص 209). (¬2) المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها للدكتور عبد الرحمن عميرة (ص 25).

موقف الإسلام من الماسونية

·كل شخص استفادوا منه ولم تعد لهم به حاجة يعملون على التخلص منه بأية وسيلة ممكنة. ·العمل على السيطرة على رؤساء الدول لضمان تنفيذ أهدافهم التدميرية. ·السيطرة على الشخصيات البارزة في مختلف الاختصاصات لتكون أعمالهم متكاملة. السيطرة على أجهزة الدعاية والصحافة والنشر والإعلام واستخدامها كسلاح فتاك شديد الفاعلية. دعوة الشباب والشابات إلى الانغماس في الرذيلة وتوفير أسبابها لهم، وإباحة الاتصال بالمحارم، وتوهين العلاقات الزوجية وتحطيم الرباط الأسري. · السيطرة على المنظمات الدولية بترؤسها من قبل أحد الماسونيين كمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ومنظمات الأرصاد الدولية، ومنظمات الطلبة والشباب والشابات في العالم (¬1). موقف الإسلام من الماسونية: نبهت الهيئات الإسلامية على خطر الماسونية، وخداعها، وأهدافها، وحذرت المسلمين من الوقوع في شباكها. ففي عام 1974 م أصدر المؤتمر الإسلامي المنعقد في مكة التحذير التالي: (الماسونية: جماعة سرية هدّامة لها صلة وثيقة بالصهيونية العالمية التي تحركها وتدفعها لخدمة أغراضها، وتتستر تحت شعارات جذابة كالحرية والإخاء والمساواة، وما إلى ذلكَ مما أوقع في شباكها كثيراً من المسلمين وقادة البلاد وأهل الفكر ... الخ) (¬2). وأصدرت لجنة الفتوى بالأزهر الشريف بياناً بهذا الصدد جاء فيه: ¬

(¬1) ينظر لما سبق من أفكار ومعتقدات: رسائل في الأديان والفرق والمذاهب لمحمد الحمد (ص 110 - 120)، المذاهب الفكرية المعاصرة لغالب عواجي (1/ 494) وما بعدها، الموجز في الأديان والمذهب المعاصرة (ص 47 - 55). (¬2) ينظر: العقيدة اليهودية وخطرها على الإنسانية للدكتور سعد الدين السيد صالح (ص 234)، اليهودية للدكتور أحمد شلبي (ص 249)، رسائل في الأديان والفرق والمذاهب لمحمد الحمد (ص 122).

2 - والعيسوية

(أما بعد ... فإن الإسلام والمسلمين يحاربهم الأعداء العديدون من كل جانب وبكل الأسلحة من مادية وأدبية، يريدون بذلك الكيد للإسلام والمسلمين، ولكن الله ناصرهم ومعزهم) (¬1). وكذلك فتوى اللجنة الدائمة التي سقناها في أول هذه الجزء. 2 - والعيسوية: قال الشيخ - رحمه الله -: " والعيسوية: فرقة من اليهود تنتسب إلى أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني، ادعى النبوة وبدأ دعوته زمن مروان بن محمد الحمار، وحارب أصحاب المنصور بالري" (¬2). العيسوية: طائفة من اليهود أتباع أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني ابتدع دعوته في زمن آخر ملوك بني أمية مروان بن محمد، وادعى أنه نبي وأنه المسيح المنتظر، وكان يعترف بالتلمود، ويقول بنبوة عيسى ومحمد إلى العرب، فتبعه كثير من اليهود وادعوا له آيات ومعجزات، وقد قتل مع أصحابه من قبل جنود المنصور (¬3). ¬

(¬1) ورد هذا البيان في مجلة الأزهر (10/ 57)، عدد شوال 1405 هـ. (¬2) تعليق الشيخ على الإحكام (3/ 143)، ينظر ترجمهم ومذاهبهم في: كتاب الملل للشهرستاني، والفصل لابن حزم. (¬3) ينظر: الملل والنحل (1/ 506)، الفصل الملل والنحل لابن حزم الظاهري (1/ 179)، رسالة الرد على الرافضة لأبو حامد المقدسي (ص 144)، ومعجم ألفاظ العقيدة (ص 303).

القسم الثالث: من ينكرون المحسوسات

القسم الثالث: من ينكرون المحسوسات. - السوفسطائية. قال الشيخ - رحمه الله -: " السوفسطائية: قيل إنها ثلاث فرق: الأولى: عنادية، وهي التي تنكر حقائق الأشياء الحسية والعقلية وتكذب حسها وعقلها وترى ذلك وهماً وخيالاً. الثانية: اللاأدرية: وهي التي تشك في حقائق الأشياء وتتردد فيها وتقول: لا أدري ألها وجود أو لا. الثالثة: عندية: وهي التي ترى أن ليس للأشياء حقيقة ثابتة في نفسها، بل تتبع إدراك من أدركها وعقيدة من خطرت بباله، وهذه مذاهب باطلة بضرورة الحس والعقل، ومعنى السفسطة: الحكمة المموهة. وتطلق على نوع من الأدلة، وهو ما كانت مقدماته وهمية كاذبة أو شبيهة بالحق وليست به" (¬1). وقال الشيخ - رحمه الله -: " ومنهم من ضعف عقله، وضاقت مداركه؛ فعميت عليه الحقائق، واشتبه عليه الأمر الواضح؛ فأنكر البديهيات، ورد الآيات البينات، بل منهم من انتهى به انحراف مزاجه وضعف عقله إلى أن ينكر ما تدركه الحواس؛ كالسوفسطائية" (¬2). والسفسطائيون فرقة ينكرون المحسوسات، وهم من أصناف الكفرة الذين قبل الإسلام، وهم فلاسفة اليونان وزعيمهم "بروتاجوراس" ولد سنة 480ق. م، ونظريتهم تقوم على أنه ليس هناك وجود خارجي مستقل عما في أذهاننا، فيما يظهر للشخص أنه الحقيقة يكون هو الحقيقة له، فإذا رأى السراب ماء فهو عنده حقيقة ماء (¬3). ¬

(¬1) تعليق الشيخ على الإحكام (2/ 26)، ينظر: فتاوى بن تيمية (ج19)، وكتاب التوحيد (ص 47). (¬2) الحكمة من إرسال الرسل (ص 17)، وينظر: مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - (ص 166). (¬3) ينظر: التعريفات (ص 63)، وكشاف اصطلاح الفنون، لمحمد علي التهانوي (3/ 173)، والمعجم الفلسفي، لمجمع اللغة العربية القاهرة (1/ 658)، معجم ألفاظ العقيدة (ص 228 - 229)، الموسوعة المسيرة (2/ 170).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " الفلسفة لفظ يوناني ومعناها محبة الحكمة، والفيلسوف في لغتهم محب الحكمة، ولهذا يقولون سوفستيا أي حكمة مموهة، ثم كثرت في الألسنة فقيل سفسطة أي حكمة مموهة، وأما ما يقوله طائفة ممن يحكي مقالات الناس إن في العالم رجلا كان اسمه "سوفسطا" وأنه كان هو وشيعته ينكرون الحقائق كلها؛ وجعلوا هذه أربع فرق فرقة تجزم بنفي الحقائق، وطائفة تجزم بنفي العلم بها وتقول ليس عند أحد منهم علم بشيء، وطائفة واقفة يقولون لا ندري تسمى المتجاهلة وتسمى اللاأدرية، وطائفة تجعل الحقائق تتبع العقائد، فكل من اعتقد شيئا فهو في نفس الأمر على ما اعتقد، فهذا النقل على ظاهره باطل ليس في العالم طائفة معروفة تقول بشيء من هذه الأقوال في كل شيء ولا رجل اسمه "سوفسطا"، ولكن كل من هذه الأقوال قد يعرض لكثير من الناس في بعض الأمور فيكون قد سفسط في ذلك الأمر كالكفار الذين جحدوا ما علموا أنه الحق، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} النمل: 14، وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} البقرة: وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} الأنعام: 33 " (¬1). ولشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - رأي في السفسطة يقول فيه: "وإنما المقصود أن الناقلين للمقالات وأهل الجدل صاروا يعتبرون باللفظة المعربة (سوفسيقيا) وهي (سوفسطا) عن هذا المعنى الذي يتضمن إنكار الحق وتمويه بالباطل، وظن من ظن أن هذا قول ومذهب عام لطائفة في كل حق، وليس الأمر كذلك، وإنما هو عارض النبي آدم في كثير من أمورهم، فكل من جحد حقاً معلوما وموَّه ذلك بباطل فهو مسفسط في هذا الموضع وإن كان مقراً بأمور أخرى" (¬2). ¬

(¬1) الصدفية (2/ 323 - 324). (¬2) بيان تلبيس الجهمية (1/ 324).

الفصل الثالث: جهوده في الرد على الأعلام

الفصل الثالث: جهوده في الرد على الأعلام وفيه تمهيد وثلاثة مباحث

المبحث الأول جهوده في الرد على المخالفات العقدية في تفسير الجلالين

المبحث الأول جهوده في الرد على المخالفات العقدية في تفسير الجلالين. تمهيد التعريف بالكتاب ومؤلِّفَيه. تفسير الجلالين: سُمِّي هذا التفسير بـ " الجلالين " نسبة إلى مؤلِّفَيه الجليلين: جلال الدين المحلَّي، وجلال الدين السيوطي؛ وهو من التفاسير القيِّمة المفيدة، التي لاقت انتشاراً واسعاً بين المسلمين، وعمَّ النفع به ديار المسلمين كافة، لما امتاز به من عبارة وجيزة، وأسلوب واضح بيِّن، ليس فيه تعقيد ولا غموض (¬1). بداية التأليف: بدأ الإمام جلال الدين المحلَّي - رحمه الله - بتأليف هذا التفسير في القرن الثامن الهجري من سورة الكهف وانتهى به إلى سورة الناس، وعندما شرع في تفسير سورة الفاتحة وما بعدها وافته المنيَّة قبل أن يُتمَّ كتابة تفسير النصف الأول من القرآن؛ ثم جاء الإمام السيوطي بعده - وهو من علماء القرن التاسع الهجري - فقام بإتمام تفسير ما لم يتمكن الإمام المحلَّي من تفسيره، سائراً على نهج الأول؛ فشرع في تفسير سورة البقرة، وأتم التفسير إلى نهاية سورة الإسراء. وبعمل هذين الإمامين اكتمل هذا التفسير، الذي كان له من القبول الكثير (¬2). ¬

(¬1) ينظر: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (2/ 48 - 49). (¬2) ينظر: كشف الظنون لمصطفى عبد الله (1/ 445)، خلاصة الأثر للمحبي (4/ 152)، إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون لإسماعيل باشا بن محمد أمين (3/ 304)، وينظر لمقدمات تفسير الجلالين فقد طبع طبعات كثيرة متنوعة طبع مرة وحده مجرداً وأخرى بحاشية المصحف وثالثة مع حاشية الصاوي ورابعة مع حاشية الجمل وأوسع حواشيه حاشية الجمل.

- منهج المؤلفين

وقد اشترك في تأليفه الشيخان: - "جلال الدين المحلي" (¬1) واسمه: محمد بن أحمد، ولد سنة 791 هـ، وتوفي سنة 864 هـ. - "جلال الدين السيوطي" واسمه: عبد الرحمن بن أبي بكر، ولد سنة 849 هـ، وتوفي سنة 911 هـ. ومنهج المؤلِّفَين: 1 - كان يقوم على ذِكْرِ ما تدل عليه الآيات القرآنية، وما يُفهم منها، ومن ثَمَّ اختيار أرجح الأقوال وأصحها. ويقوم كذلك على إعراب ما يحتاج إلى إعراب، دون توسُّع أو تطويل يُخرج عن القصد، بل في حدود ما يفي بالغرض، ويوضح المقصود والمطلوب. 2 - وكان من منهج المؤلِّفَين التنبيه على القراءات القرآنية المشهورة على وجه لطيف، وبتعبير وجيز، والإعراض عن القراءات الشاذة غير المرضيَّة. ¬

(¬1) هو: العلامة المحقق جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي، والمحلى نسبة إلى مدينة المحلة الكبرى، التي ولد بها في سنة (791 هـ) وتوفى سنة (864 هـ) عن عمر 73 سنة. قال عنه العلامة الصاوي: "كان على غاية من العلم والعمل والزهد والورع والحلم حتى كان من أخلاقه أنه يقضى حوائج بيته بنفسه مع كونه كان عنده الخدم والعبيد." أهم أعماله ومؤلفاته تفسير القرآن الكريم من أول سورة الكهف حتى آخر القرآن العظيم مع تفسير سورة الفاتحة في النهاية. وقد اعتمد على التفسير على إعراب ما يحتاج والتنبيه على القراءات المختلفة المشهورة على وجه لطيف وتعبير وجيز مع ترك التطويل. وجاء تلميذه جلال الدين السيوطي بعده بست سنوات فتمم هذا التفسير على أسلوب ومنهاج معلمه جلال الدين المحلي من البقرة حتى آخر سورة الإسراء وبذلك سمى تفسيرهما "تفسير الجلالين" وذاعت تسميته بهما واشتهرت على أوسع نطاق وصار من أتى بعدهما في تفسير القرآن يهتدي بأسلوبهما ويسترشد بعملهما فكانا رائدين عظيمين لكثير من أهل العصر. ينظر: حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطي (1/ 148)، أبجد العلوم للقنوجي (2/ 186)، طبقات المفسرين للداودي، لأحمد بن محمد الأدنوي (1/ 336).

جهود العلماء: ونظراً لأهمية هذا التفسير، وما امتاز به عن غيره من التفاسير، فقد اتجهت إليه هِمَمُ كثيرٍ من العلماء؛ فوضعوا عليه التعاليق المفيدة، وكتبوا عليه الحواشي الشارحة، وكان من أهم الحواشي التي كُتبت على هذا التفسير، حاشية الجمل (¬1)، وحاشية الصاوي (¬2)، وحاشية الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - التي بدأت من سورة غافر إلى الناس (¬3). المآخذ على هذا التفسير: ومما يُؤخذ على هذا التفسير أنَّ مؤلِّفيه لم يلتزما منهج أهل السنة والجماعة في مسائل الأسماء والصفات، التي أجمع السلف على إثباتها، دون تحريف، أو تعطيل، أو تكييف، أو تمثيل؛ بل سارا المؤلِّفين رحمهما الله فيه على منهج الأشاعرة في تأويل الصفات، ووقعت لهما بعض الإسرائيليات. وعلى الرغم من المآخذ التي أخذت على هذا التفسير، بيد أنه بقي يحتفظ بمكانته في المكتبة الإسلامية، جنبًا إلى جنب مع كتب التفسير الأخرى، وقد اعتبر أحد الكتب التي يُرجع إليها في فهم الكتاب العزيز. ¬

(¬1) هو: سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الأزهري، المعروف بالجمل: فاضل من أهل منية عجيل (إحدى قرى الغربية بمصر) انتقل إلى القاهرة. له مؤلفات منها: الفتوحات الإلهية -أربع مجلدات-، حاشية على تفسير الجلالين، والمواهب المحمدية بشرح لشمائل الترمذية، وفتوحات الوهاب حاشية على شرح المنهج، في فقه الشافعية. ينظر: الأعلام (3/ 131). (¬2) هو: أحمد بن محمد الخلوتي، الشهير بالصاوي: فقيه مالكي، نسبته إلى (صاء الحجر) في إقليم الغربية، بمصر. توفي بالمدينة المنورة. من مؤلفاته: حاشية على تفسير الجلالين، وحواش على بعض كتب الشيخ أحمد الدردير في فقه المالكية، والفرائد السنية، وشرح همزية البوصيري. ينظر: شجرة النور الزكية في طبقات المالكية للمخلوف (ص 364)، الأعلام (1/ 246). (¬3) ينظر: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (2/ 48 - 49).

منهج الشيخ عبد الرزاق عفيفي: في تعليقه على الجلالين

منهج الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - في تعليقه على الجلالين. بين الشيخ - رحمه الله - منهجه في تعليقه على تفسير الجلالين (¬1): 1 - أن يكون التعلق موجزاً. 2 - يُبين فيه مذهب السلف إجمالاً في آيات الأسماء والصفات. 3 - يُبين تحريف المتأولين، وغلو أهل البدع في الصالحين. 4 - إضافة مسائل توحيد العبادة عند الكلام على الآيات التي تتصل بذلك. تعقيب الشيخ على الجلالين: 1 - علق الشيخ - رحمه الله - مسألة خلق القرآن وبين الصواب في تفسير الآية، وذكر بعض المفسرين الذين ذهبوا مذهب السلف. فقال الشيخ - رحمه الله - راداً على تفسير "الجعل: بالإيجاد" عند قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)} الزخرف: 3: " تفسير الجعل بالإيجاد مبني على القول بخلق القرآن لفظاً فقط أو لفظاً ومعنى، ذلك خطأ والصواب تفسير الجعل بالإنزال أو الوصف والتسمية أو البيان، كما ذكر ابن جرير والبغوي وغيرهما ممن يذهب مذهب السلف من المفسرين" (¬2). 2 - بين الشيخ - رحمه الله - في معرض رده مسألة الغلو في الصالحين التي ظهرت في تفسير الجلالين. فقال الشيخ - رحمه الله - عند قوله تعالى: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)} الأحقاف: 13: " هذا إنما يتحقق يوم القيامة، أما الدنيا فيخاف فيها الأنبياء ويحزنون، فقد خاف موسى وهارون أن يطغى عليهما فرعون، وأوجس موسى في نفسه خيفة حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم، فكان منها ما كان، وخاف يعقوب على يوسف أن يأكله الذئب، وحزن على ¬

(¬1) ينظر: مقدمته على تفسير الجلالين (ص 5). (¬2) تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 41).

غيبة ولديه حتى ابيضت عيناه من الحزن، وحزن الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عدم إيمان قومه وكاد يهلك أسفاً لعدم استجابتهم له، وحزن على موت ولده إلى غير ذلك، فمن جعل ذلك جزاء من الله للصالحين في الدنيا فقد حرف كلام الله عن مواضعه وجعله عرضة للكذب وخلف الوعد، وكان من الغلاة في الأنبياء والصالحين، وصدق فيه حديث: (هلك المتنطعون) (¬1) " (¬2). 3 - أوضح الشيخ - رحمه الله - منهج الجلالين في نصوص الأسماء والصفات بأنه منهج الجهمية والمعطلة الذين نفوا علو الله بذاته على خلقه، ونفوا عنه نسبة المجيء، وبين الشيخ - رحمه الله - الصواب في ذلك. فقال الشيخ - رحمه الله - في رده على تفسير قوله تعالى: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} الملك: 16: بـ (سلطانه وقدرته): " اتبع الشارح - في تأويل الآية - الجهميةَ الذين نفوا عُلو الله بذاته على خلقه والصواب أن السماء، بمعنى العلو، والمعنى: أأمنتم الله الذي في العلو أو في معنى على، والتقدير: أأمنتم الله الذي على السماء" (¬3). وقال الشيخ - رحمه الله - في رده كذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} الفجر: 22 بـ (أمره): "العدول عن نسبة المجيء لله إلى نسبته لأمره ونحوه من تأويل الجهمية الذين يحيلون أن يكون من الله نفسه مجيء، والصواب أن الله بنفسه يجيء يوم القيامة لفصل القضاء، كما نصت عليه الآية وبينته الأحاديث الصحيحة وهو مذهب السلف" (¬4). 4 - بين الشيخ - رحمه الله - خطأ الجلالين في إرجاع بعض الصفات إلى بعضها الآخر، وأن ذلك من تأويلهم لنصوص الأسماء والصفات. ¬

(¬1) أحرجه مسلم في كتاب العلم باب هلك المتنطعون برقم (2670). (¬2) تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 69 - 70). (¬3) تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 197، 211). (¬4) تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 280).

فقد رد الشيخ عليهم عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} المجادلة: 1:عالم، فقال الشيخ - رحمه الله -: " الصواب أن العلم غير السمع والبصر، فالسمع تدرك به الأصوات جهراً كانت أم سراً، والبصر تدرك به المرئيات، والعلم محيط بذلك وبغيره من أحوال العلم، وكل من السمع والبصر والعلم من صفات الله التي تثبت بالسمع والعقل، فيجب الإيمان بها جميعها دون إرجاع بعضها إلى الآخر" (¬1). 5 - بين الشيخ خطأ الجلالين في أخذهم لتأويل الجهمية، وأن لازم الصفة التي فسروا بها تدل عقلاً على ثبوت الصفة التي نفوها، وبين منهج السلف في إثبات الصفات. فقد رد الشيخ - رحمه الله - على المفسر لما فسر قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ} الصف: 4بـ (ينصر ويكرم)، فقال: " هذا من تأويل الجهمية نفاة الصفات الذين يحيلون أن يتصف الله بالمحبة حقيقة، فيؤولون ما ورد من ذلك بالنصر والإحسان، أما السلف فيثبتون المحبة صفة لله حقيقة على ما يليق بجلاله، ويتبع ذلك النصر ونحوه من آثارها، بل ثبوت لازمها الذي فسروها به يدل عقلاً على ثبوتها، فلزمهم ما فروا منه" (¬2). 6 - نقد الشيخ على المفسر التأويل لصفة اليد وبين الصواب في ذلك. فقال الشيخ - رحمه الله - في رده على تفسير قوله تعالى: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} الملك: 1 بـ (السلطان والقدرة): " ها هنا أمران: الأول عموم قدرة الله وكمال تصرفه في الكون بيسر وسهولة، وهذا مستفاد من كون الملك بيد الله، والثاني ثبوت صفة ذات لله تعالى، وهذا مستفاد من إضافة اليد إليه تعالى، فكل من الأمرين حق مستفاد من الآية، أما ما ذكر الشارح فمع ما فيه من تأويل اليد فراراً من إثباتها صفة لله فيه اضطراب في العبارة، إذ تقدير الكلام على تفسيره تنزه عن صفات المحدثين الذي في تصرفه السلطان والقدرة، ولا شك أن السلطان والقدرة ليسا في التصرف" (¬3). ¬

(¬1) تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 153). (¬2) تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 171). (¬3) تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 195).

7 - بين الشيخ - رحمه الله - أن من حجج النفاة، أنهم اضطروا لذلك التأويل (¬1) فراراً من تشبيه الله بخلقه - وهذا هو حقيقة التعطيل، لأن التعطيل هو نفي الصفات وجحودها-، فبين خطأهم في ذلك، وأثبت صفة رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة. فقال في رده على الشارح لما فسر قوله تعالى: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} الفجر: 28 بـ (يقال لها ذلك عند الموت، أي: ارجعي إلى أمره وإرادته): " هذا من التأويل الذي يزعم نفاة الصفات أنهم اضطروا إليه فراراً من تشبيه الله بخلقه، والصواب أن الرجوع إلى الله لقاؤه يوم القيامة والوقوف بين يديه للحساب والجزاء على ما يليق بجلاله. كما أن رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ثابتة على ما يليق به فلا يلزم التشبيه، أو المراد بالنفس الروح ولقاؤها ربها حين خروجها من الجسد ساعة الموت" (¬2) (¬3). ¬

(¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في بيان نموذج لمقالات هؤلاء الذين فتحوا باب التأويل: " ولهذا قال كثير منهم -كأبي الحسين البصري، ومن تبعه كالرازي واللآمدي وابن الحاجب- أن الأمة إذا اختلفت في تأويل الآية على قولين، جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين. فجوزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث وأن يكون الله أنزل الآية، وأراد بها معنى لم يفهمه الصحابة والتابعون، ولكن قالوا: إن الله أراد معنى آخر. وهم لو تصوروا هذه المقالة لم يقولوا هذا فإن أصلهم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة" ينظر: مجموع الفتاوى (13/ 59). (¬2) تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 281). (¬3) قال الشيخ عبد الرحمن المحمود حفظه الله: "ابتدع المتأخرون معنى للتأويل لم يكن معروفا عند السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وقالوا: هو صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، وقد أولى شيخ الإسلام هذه المسألة اهتماماً كبيراً، وعرض لها في مناسبات عديدة من كتبه، وانطلق في ذلك من بيان معاني التأويل الواردة في الكتاب السنة وأقوال السلف، حيث أوضح من خلال التتبع الدقيق لموارد لفظه -التأويل- في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وأئمة السلف وانتهي من ذلك إلى أن التأويل ورد عندهم بمعنيين: 1 - أنه بمعنى المرجع والمصير، والحقيقة التي يؤول إليها الشيء،2 - أنه بمعنى التفسير؛ أما المعنى الثالث فليس معروفاً عندهم" موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1144)، وينظر: مجموع الفتاوى (17/ 364 - 372)، الدرء (1/ 14 - 15).

المبحث الثاني: جهوده في الرد على الآمدي.

المبحث الثاني جهوده في الرد على الآمدي. تمهيد التعريف بالكتاب ومؤلفه. الإحكام في أصول الأحكام: كتاب في أصول الفقه الإسلامي يبحث في الألفاظ وما يتعلق بها، والأدلة الشرعية القرآن والسنة، والكلام في الأخبار وأحكامها في فصل مطول، وعرض للأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة والعموم والخصوص، والجمع والاستثناء والكناية بالضمير والإشارة والإعجاز والتشبيه، والنسخ والمتشابه، ثم تكلم في ختام الكتاب عن مبحث الإجماع (¬1). المؤلف (¬2): هو أبو الحسن علي بن أبي علي محمد بن سالم التغلبي الآمدي، ولد بآمد عام 551 هـ، وتوفي ليلة الاثنين وقت صلاة المغرب ثاني صفر سنة 631 هـ بدمشق. ومن تصانيفه: أبكار الأفكار في أصول الدين ثلاث مجلدات، واختصره في كتاب منائح القرائح مجلد، مجلد لطيف في أصول الفقه، الإحكام في أصول الأحكام في مجلدين، كتاب منتهى السول في علم الأصول مجلد، كتاب رموز الكنوز مجلد، لباب الألباب مجلد في المنطق، فرائد الفوائد في الحكمة مجلد، الغرائب وكشف العجائب في الاقترانات الشرطية مجلد، شرح جدل الشريف مجلد، غاية الأمل في الجدل، الباهر في الحكم الزواهر، حكمة ثلاث مجلدات، غاية المرام في علم الكلام مجلدتان، ثلاث تعاليق خلاف، كشف التمويهات ¬

(¬1) ينظر: مقدمة كتاب الإحكام (1/ 15 - 17)، كشف الظنون (1/ 17)، هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين لإسماعيل باشا (5/ 707). (¬2) ينظر: الوافي بالوفيات للصفدي (21/ 225 - 230)، كشف الظنون (1/ 17).

منهج الشيخ عبد الرزاق في تعليقه على الإحكام

على الإشارات والتنبيهات مجلدة كبيرة، مآخذ على المحصول مجلدة، المآخذ الجلية في المواخذات الجدلية جزء. قال فيه الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -: " إن الآمدي درس الفلسفة بأقسامها المختلفة وتوغل فيها وتشبعت بها روحه حتى ظهر أثر ذلك في تأليفه، ومن قرأ كتبه وخاصة ما ألفه في علم الكلام وأصول الفقه يتبين له ما ذكرت، كما يتبين له منها أنه كان قوي العارضة كثير الجدل واسع الخيال كثير التشقيقات في تفصيل المسائل والترديد والسبر والتقسيم في الأدلة إلى درجة قد ينتهي بالقارئ أحياناً إلى الحيرة ... وما الآمدي إلا عالم من البشر يخطئ ويصيب؛ فلننتفع بالصواب من قوله ولنرد عليه خطأه، ولنستغفر الله له، وليكن شأننا معه كشأننا مع غيره من علماء المسلمين" (¬1). منهج الشيخ عبد الرزاق في تعليقه على الإحكام (¬2): 1 - عدم الوقوف من الكتاب موقف الشارح، لأنه غني بوضوحه عن شرحه كما ذكر:، لكنه وقف وقفة المدقق لما فيه من أخطاء عقدية. 2 - اقتصر الشيخ - رحمه الله - على نقد الدليل، والتنبيه على خطأ في رأي وتأويلٍ لنص، وبيان لضعف حديث، أو تصحيح لتحريف في الأصول التي طبع عليها. 3 - الاكتفاء أحيانا عن تفصيل القول أو بيان الخطأ في البحث بالإشارة إلى مراجع معتمدة. ¬

(¬1) ينظر: مقدمة كتاب الإحكام في أصول الأحكام بتعليق الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - (ص 13 - 14). (¬2) ينظر: مقدمة كتاب الإحكام في أصول الأحكام بتعليق الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - (ص 10 - 11).

رد الشيخ على الآمدي

رد الشيخ على الآمدي: 1 - بين الشيخ خطأ الآمدي إذ اعتذر لليهود والرافضة، ووضح الشيخ - رحمه الله - بأن مبادئ الرافضة موروثة من اليهود. فقال الشيخ - رحمه الله - في معرض رده على الآمدي: " اعتذر الآمدي عن اليهود والرافضة في انتقاصهم لله وطعنهم في أفعاله وشرائعه بخفاء الفرق بين النسخ والبداء (¬1)، وتعذر الفصل بينهما عليهم؛ فمنعت اليهود النسخ حماية لجانب الله في زعمهم، وجهلت الرافضة ربها (¬2)؛ ¬

(¬1) البداء له معانٍ: البداء في العلم: وهو أن يظهر له ما علم، ولا أظن عاقلاً يعتقد هذا الاعتقاد في الله عز وجل. والبداء في الإرادة: وهو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد وحكم. والبداء في الأمر: وهو أن يأمر بشيء ثم يأمر بشيء آخر بعده بخلاف لك. ومن لم يُجَوِّز النسخ ظنّ أن الأوامر المختلفة في الأوقات المختلفة متناسخة. والفرق بين النسخ والبداء من وجهين: أحدهما: أن البداء: هو أن يأمر بالأمر والآمر لا يدري ما يؤول إليه الحال. والنسخ هو: أن يأمر بالأمر والآمر يدري أنه سيحيله في وقت كذا، ولا بدَّ قد سبق ذلك في علمه وحتمه من قضائه. والثاني: أن سبب النسخ لا يوجب إفساد الموجب لصحة الخطاب الأوّل، والبداء يكون سببه دالاً على إفساد الموجب لصحة الأمر الأوّل. مثل: أن يأمره بعمل يقصد به مطلوباً، فيتبيّن أن المطلوب لا يحصل بذلك الفعل فيبدو له ما يوجب الرجوع عنه. ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 148)، نواسخ القرآن لابن الجوزي (ص 83)، وكلام الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام (3/ 136). (¬2) اقر كبار علماء الرافضة بأنواع النسخ، ومن علماء الرافضة الذين اقروا بالنسخ: 1 - الشيخ أبو علي الفضل الطبرسي، "صاحب كتاب مجمع البيان في تفسير القران" وذكر النسخ حين شرح آية النسخ آيه 106 سورة البقرة. 2 - أبو جعفر محمد الطوسي الملقب عند الرافضة بشيخ الطائفة، وذكر أنواع النسخ في كتابة التبيان في تفسير القران (1 - 13) مقدمة المؤلف، وأيضا كتابه العدة في أصول الفقه (2/ 516). 3 - كمال الدين عبد الرحمن العتائقي الحلي في كتابه الناسخ والمنسوخ (ص 35). 4 - محمد علي في كتابه لمحات من تاريخ القران (ص 222). 5 - العلامة محسن الملقب بالفيض الكاشاني فقد اقر بنسخ التلاوة حين شرح آية {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} البقرة: 106، قال: " ما ننسخ من آية بأن نرفع حكمها ... أو ننسها بأن نرفع رسمها"، في كتابه شرح الكاشاني والمعروف أن نرفع رسمها أي نرفع خطها وهذا يعني رفع تلاوتها. 6 - الفقيه حمزة بن علي بن زهرة الحلبي جوز أنواع النسخ، في كتابة غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع (2/ 343 - 344). 7 - السيد المرتضي الملقب علم الهدى جوز أنواع النسخ، في كتابة الذريعة آلة أصول الشريعة (1/ 428).

فحكمت بأن الله يبدوا له من المصالح والمفاسد ما كان خفياً عليه؛ فينقض ما أبرمه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-؛ ومن تبين أمر اليهود وحسدهم لمن جاء بعد موسى من الأنبياء، وكيدهم لشرائع الإسلام، وتبين حال الرافضة، ووقف على فساد دخيلتهم وزندقتهم؛ بإبطان الكفر وإظهار الإسلام، وإنهم ورثوا مبادئهم عن اليهود ونهجوا في الكيد للإسلام منهجهم علم أن ما قالوه من الزور والبهتان، إنما كان عن قصد سيئ وحسد للحق وأهله، وعصبية ممقوتة دفعتهم إلى الدس والخداع وإعمال معاول الهدم سراً وعلناً للشرائع ودولها القائمة عليها، ومن قرأ آيات القرآن وتاريخ الفريقين ظهر له ما هم عليه من الدخل والمكر السيئ" (¬1). 2 - أوضح الشيخ - رحمه الله - منهج الآمدي في العقيدة بأنه منهج الأشاعرة، وبين تناقضه. قال الشيخ - رحمه الله -: " لو قال المعتزلي: أحكام الله من صنعه؛ لقلنا: إنه بنى تعبيره على مذهبه من أن كلام الله مخلوق لفظه ومعناه؛ لكن الآمدي أشعري يرى أن أحكام الله خطابه، وأنها قديمة غير مخلوقة، وأنها شيء واحد في نفسه، وإن تعددت باعتبار متعلقاتها وتعلقاتها ... (¬2)؛ فكيف يقول هنا: إن أحكام الله من صنعه؛ ¬

(¬1) تعليق الشيخ على الإحكام (3/ 136 - 137). (¬2) قال الشيخ د. عبد الرحمن المحمود وفقه الله: " وقع الخلاف في مسألة تعليل أفعال الله على أقوال: 1 - قول من نفى الحكمة وأنكر التعليل، وهؤلاء يقولون: إن الله تعالى خلق المخلوقات، وأمر المأمورات، لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة، وصرف الإرادة، وهذا مذهب الجهمية والأشاعرة وهو قول ابن حزم وأمثاله. - ينظر: الإرشاد للجويني (ص 268) وما بعدها، ونهاية الأقدام (ص 297)، ومحصل أفكار المتقدمين للرازي (ص 205)، الفصل (3/ 174) - ط دار المعرفة. الأحكام لابن حزم (8/ 1110) وما بعدها.- 2 - إن الله فعل المفعولات وخلق المخلوقات، وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، ولكن هذه الحكمة مخلوقة، منفصلة عنه، لا ترجع إليه، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم. - ينظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل، لعبد الجبار الهمذاني (6/ 48، 11/ 92 - 93).- 3 - قول من يثبت حكمة وغاية قائمة بذاته تعالى، ولكن يجعلها قديمة غير مقارنة للمفعول. 4 - إن الله فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، وهذه الحكمة تعود إلى الرب تعالى، لكن بحسب علمه، والله تعالى خلق الخلق ليحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه، فهذه حكمة مقصودة واقعة، بخلاف قول المعتزلة فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد. وهذا قول الكرامية الذين يقولون: من وجد منه ذلك فهو مخلوق له وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخوقه له. - ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 39).- 5 - قول أهل السنة وجمهور السلف وهو أن الله حكمة في كل ما خلق، بل له في ذلك حكمة ورحمة.- ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 35 - 36)، شفاء العليل لابن القيم (ص 400 - 434).- هذه خلاصة الأقوال في هذه المسألة، ويلاحظ أنها تنتهي إلى قولين. أحدهما: نفاة الحكمة، وهو قول الأشاعرة ومن وافقهم. والثاني: قول الجمهور الذين يثبتون الحكمة. وهؤلاء على أقوال: أشهرها قول المعتزلة الذين يثبتون حكمة تعود إلى العباد ولا تعود إلى الرب، وقول جمهور السلف الذين يثبتون حكمة تعود إلى الرب تعالى. - ينظر: أقوم ما قيل في القضاء والقدر - مجموع الفتاوى (8/ 83 - 93، 97 - 98)، منهاج السنة (1/ 97 - 98) ط دار العروبة المحققة، والاستغاثة (ص:2/ 27)، جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/ 198 - 203)، درء التعارض (8/ 54)، مجموع الفتاوى (8/ 377 - 381)، ومنهاج السنة (1/ 94 - 95) ط دار العروبة المحققة.- ويلاحظ أن من نفي الحكمة والتعليل - كالأشاعرة - دفعه ذلك إلى الميل إلى الجبر وإثبات الكسب القدرة غير المؤثرة للعبد. ومن أثبت حكمة تعود إلى العباد، جعلوا هذه الحكمة لا تتم إلا بأن يكون العباد هم الخالقين لأفعالهم وهذا قول المعتزلة. أما أهل السنة فلم يلزمهم لازم من هذه اللوازم الباطلة، ولذلك جاء مذهبهم وسطا في باب القدر - كما سيأتي أن شاء الله -" ينظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (5/ 270).

فكان ينبغي أن يقول: أحكام الله من شرعه، إحقاقاً للحق، وأدباً مع الله في نسبة صفاته إليه، وليسلم من التناقض" (¬1). ¬

(¬1) تعليق الشيخ على الإحكام (3/ 358).

المبحث الثالث: جهوده في الرد على آخرين.

المبحث الثالث جهوده في الرد على آخرين. - جمال الدين الأفغاني. قال الشيخ - رحمه الله -: " جمال الدين الأفغاني من الرجال الذين اشتهروا بين الناس بالإصلاح والنهوض بالأمم الإسلامية وبعث الوعي فيهم وإيقاظهم من رقدتهم وقد اختلف الكاتبون من حياته في تقديره ذماً ومدحاً وثناءً وقدحاً فمنهم من أحسن الظن به فأثنى عليه وأعلى من شأنه وعده من كبار المصلحين المخلصين للإسلام والمسلمين الذين أيقظوا الشعوب ليحرروا بلادهم من براثن الاستعمار وذل الاستعباد، ومنهم من أساء الظن به فرماه بالماسونية والمكر والخداع ووصمه بالكفر والإلحاد والسعي في تفويض العروش والكيد للإسلام والقضاء على الخلافة الإسلامية شأنه في ذلك شأن غيره ممن حظي بشهرة في جانب الحياة من أنصاره ومن يواليه وخصومه ومن يناوئه ويعاديه ... " (¬1). فالشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - لم يجزم في كلامه السابق بمدح جمال الدين الأفغاني ولا ذمه، لأن ما استند عليه في الحكم على الأفغاني بالماسونية، فيه تردد وشكوك وتخمين وظنون لا تنهض للقطع بالحكم على الرجل. ¬

(¬1) مجموعة مؤلفات الشيخ (ص 208).

التعريف به: هو محمد بن صفدر (¬1) المازندراني الشيعي الرافضي الحسيني (¬2)، المشهور بجمال الدين الأفغاني، ولد بأسد آباد من مازندران في همدان ببلاد إيران (¬3) عام (1254 هـ) (1838 م)، وتوفي في استنبول عام (1897 م) على إثر مرض السرطان الذي ظهر في فكه السفلي (¬4). الحكم عليه: يحتل جمال الدين الأفغاني مكاناً مرموقاً في نهضة العرب الحديثة، ولا سيما في مصر، ولكنه لم يرتبط بمصر وحدها، وإنما توزعت حياته بين إيران وأفغانستان وتركيا والهند وفرنسا وإنجلترا وروسيا، وكان شخصاً غير مرغوب فيه في كثير من البلاد التي نزل بها، ومع هذا نظر إليه المؤرخون نظرة فيها الكثير من التباين والتعارض، وكان سبب هذا هو نقص المعلومات التي تتعلق بحياته وغموضها (¬5). ¬

(¬1) وهو اسم إيراني شيعي يعني: البطل ممزق الصفوف. (¬2) وقد اختلف المترجمون في نسبه لأنه كان يظهر في كل أرض باسم جديد وشخصية مختلفة، ومن هذه الأسماء: جمال الدين الإستانبولي، جمال الدين الأسد آبادي، جمال الدين الحسيني، جمال الدين الأفغاني الكابلي، جمال الدين الطوسي، جمال الدين الرومي. ينظر: لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث لعلي الوردي (3/ 313)، جمال الدين الأفغاني للدكتور علي عبد الحليم محمود (ص 27). (¬3) وقيل: ولد بأفغانستان وكان لأسرة أفغانية عريقة ينتهي نسبها إلى الحسين بن علي - رضي الله عنه -، ونشأ في كابول عاصمة الأفغان، وأنه سني المذهب. ينظر: فيمن يرى أنه مفترى عليه: جمال الدين الأفغاني المفترى عليه، د. محمد عمارة، وجمال الدين الأفغاني والثورة الشاملة، للسيد يوسف. (¬4) ينظر: جمال الدين الأفغاني بين دارسيه، لعلي شلش (ص 231 - 234)، وتاريخ الآداب العربية لرزق الله بن يوسف (1/ 163). (¬5) ينظر: جمال الدين الأفغاني بين دارسيه، لعلي شلش (ص 5 - 6)، وللتوسع يراجع الكتاب السابق والواقع في (244) صفحة، لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث، لعلي الوردي (3/ 311)، ومنهج المدرسة العقلية في التفسير للشيخ فهد الرومي (ص 155) ..

يقول مصطفى فوزي غزال (¬1) بعد بحث طويل في سيرة جمال الدين الأفغاني: "تشير الروايات أن الأفغاني كان في عقيدته خللٌ فالظاهر أنه شيعي إمامي اثنا عشري على مذهب الإيرانيين، كما أنه يؤمن بصحة نظرية دارون (¬2)، بل إنه يعتبر هذه النظرية هي من مفاخر المسلمين، وأنهم السابقون إليها، كما أنه يؤمن بوحدة الوجود على الطريقة الفلسفية التي تقول بأن الوجود المحسوس وغير المحسوس يشكل مجموعة الذات الإلهية، كما أنه يرى أن النبوة مكتسبة يمكن الوصول إليها بالمجاهدة والرياضة، عدا على التلاعب بالنصوص القرآنية وتكييفها لتنسجم مع العلوم العصرية التي لا زالت في نطاق التجربة والاختبار ... ويجب أن لا ننسى أن بين التقية والعمل في السر تلازماً وكلاهما من بدع الشيعة وهو قائم على الكذب والخداع" (¬3). قال عنه الشيخ سفر الحوالي: " أما الأفغاني فهو رجل رافضي تلبس بلباس السنة، وسمى نفسه الأفغاني رغم أنه إيراني الأصل، وهو رجل باطني يقول بوحدة الأديان، كما أنه ¬

(¬1) الدكتور مصطفى فوزي بن عبد العزيز غزال، له من المؤلفات: دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام، والحيل والأساليب في الدعوة إلى التبشير، وأفول شمس الحضارة من نافذة الخمور، وأفول شمس الحضارة الغربية من نافذة الجرائم، وفضائح الكنائس والباباوات والقسس والرهبان والراهبات، وغيرها .. (¬2) تقول نظرية دارون: أن أصل المخلوقات كائن صغير تطور مع مرور السنين إلى سلالات أخرى أرقى إلى أن وصلنا إلى الإنسان، وبما أن الأديان السماوية تقول، أن الله خلق الإنسان مباشرة، وأنه لم يتطور من قرد فإن هذا يخالف نظرية دارون، إذن الأديان خاطئة والله غير موجود، ونقول إن نظرية دارون وخاصة تكون الإنسان من قرد عملية لم تثبت علمياً أبداً بل هي نظرية أي رأي ووجهة نظر، قال الأستاذ وحيد الدين خان " فقبل كل شيء يجب ألا يفوتنا أن الداروينية لا تزال نظرية غير ثابتة كلياً حتى الآن، أن نظرية الارتقاء لا تثبت شيئاً أكثر من أن الأنواع المختلفة لم توجد في وقت واحد "، وقال آرثر كيث " الارتقاء غير ثابت ولا يمكن إثباته "، وقال الأستاذ وحيد الدين خان " إن محامي نظرية الارتقاء لم يتمكنوا حتى الآن من تمكيننا من مشاهدة أو تجربة أي أساس تقوم عليه مزاعمهم فعلى سبيل المثال ليس بوسعهم أن يثبتوا لك بالرؤية المباشرة في معمل ما، كيف توجد الحياة من مادة لا حياة فيها"، وقال الأستاذ محمد علي يوسف " هل يمكن أن تكون الطفرات حقيقة وسيلة للتطور، أن الدراسة الطويلة المتصلة لهذه الطفرات في كثير من الكائنات وخاصة ذبابة الفاكهة المسماة دورسوفيلا ميلانوجستر تدل على أن الغالبية العظمى من الطفرات تكون من النوع المميت، أما الأنواع غير المميتة منها فإن التغيرات المصاحبة لها تكون من النوع الذي يؤدي إلى التشويه، أو على الأقل من النوع المتعادل الذي يحدث تأثيرات فسيولوجية تضعف من قوة الفرد ". ينظر: المفصل في شرح آية لا إكراه في الدين، جمع وإعداد، علي بن نايف الشحود (3/ 54). (¬3) دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام (ص 384 - 387).

عميل للسياسة الإنجليزية، وتلقن علومه في بلاطات ملوك أوروبا، فهو رجل -نستطيع أن نقول- لا صلة له بالإسلام" (¬1). ¬

(¬1) ينظر: عقيدة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، موقع الشيخ سفر الحوالي http://www.alhawali.com.

الخاتمة

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على عبده، ورسوله محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فهذه نهاية هذا البحث، حيث عشنا فيما مضى مع عَلَم من أعلام هذه الأمة الذي كان من نوادر عصره علماً وأدباً وفضلاً وكرماً ونبلاً، وهو الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -، وكان الكلام حول منهجه في تقرير عقيدة السلف، وموقفه من المخالفين لها؛ فأشكر الله على ما وفق إليه من إتمام هذا البحث، بحسب الجهد والطاقة، ولا أدعي فيه الكمال والإحاطة، فإن أصبت فيما بحثته وعرضته فهو من فضل ربي وتوفيقه، فله الحمد والفضل والثناء الحسن، وإن أخطأت في ذلك أو بعضه فهو مني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأستغفر المولى جل وعز وأتوب إليه، فلم أقصد سوى الحق. ويمكن إيجاز أهمّ ما توصلت إليه من خلاصة لهذا البحث فيما يلي: 1 - من خلال دراسة سيرة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - الذاتية، تبين لي إعراضه: عن الشهوات الدنيوية وهمّته في المقامات العلوية عند رب العالمين. 2 - مكانته العلمية البارزة حيث يعد شيخ جيل من علماء المملكة العربية السعودية. 3 - أن مصادر تلقِّي العقيدة، والأحكام الشرعية عند الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -، هي الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، والإجماع المؤيد بهما، وبالعقل الموزون بموازين الشرع، وبالفطرة السليمة؛ وقد كان: عاملاً بجميع الأدلة، غير مطرح لبعضها، مقدماً فهم السلف الصالح وعلمهم -من الصحابة والتابعين، أهل القرون المفضلة وأحوالهم- على فهمه وفهم من بعدهم. فهو بهذا نهج منهج أهل الحديث، أهل السنة والجماعة. 4 - ربطه: بين العلم والعمل، وهذا هو دين العلماء الربانيين الراسخين في العلم. 5 - سلوكه مسلك السلف في بيان العقيدة بالأدلة وتأصيلها والرد على مخالفيها ومناقشتهم ورد باطلهم، وقرر ما عليه أهل السنة والجماعة. 6 - تميز الشيخ عبد الرزاق: بسلامه صدره -كسلامة منهجه- في باب النقد والتعديل والتجريح للعلماء وغيرهم، واعتداله في الحكم على الناس، وكان ذلك

واضحاً في رده على المذاهب والفرق وبيان عورها، وهذا منهج يقوم على العلم الراسخ، والإنصاف الحق، والعدل المبني على التثبت والديانة. 7 - أيضاً لا يفوتني الإشادة بالسمات الشخصية للشيخ عبد الرزاق: وشخصيته العلمية، التي اتسمت بالأمانة العلمية، والتجرد لطلب الحقيقة، والبحث عن القول المدلل بأدلة الوحيين مع التواضع الجم والسيرة الحميدة. 8 - تبين فيما سبق أن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - سار على خطى السلف في باب الأسماء والصفات، فقد كان منهجه في هذا الباب يقوم على إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل كما يليق بجلاله، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل، بل إنها تمر كما جاءت في الكتاب والسنة. 9 - أوضح: خطر الشرك، وأنه أعظم ذنب عصي الله به وقد تطرق لبعض الأعمال الشركية كالحلف بغير الله، والسحر، والحكم بغير ما أنزل الله. 10 - في باب الإيمان، تحدث: عن عقيدة أهل السنة والجماعة، فقرر أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وذكر الأدلة على ذلك. 11 - تطرق: للخوارج والشيعة والصوفية وغيرهم ورد عليهم؛ مع رده على بعض الأعلام كالجلالين والآمدي وغيرهم. وبعد، فبقراءتي لكتبه وتحرير أقواله وسبرها في باب العقيدة وجدته - رحمه الله - سلفياً صرفاً، فلم أجد له مسألة واحدة خالف فيها السلف أبداً، وبهذا أقطع وأجزم من خلال التتبُّع والاستقراء لأكثر كتبه. والحمد لله أولاً وآخراً، والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن والاه. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} الصافات: 180 - 182.

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع 1 - الإباضية بين الفرق الإسلامية عند كتاب المقالات في القديم والحديث، لعلي يحي معمَّر، مكتبة وهبة، مطابع سجل العرب، ط:1، 1396 هـ. 2 - الإبانة الكبرى، لابن بطة، تحقيق: رضا بن نعمان بن معطي وآخرين، دار الراية، الرياض، ط:2، 1415 هـ. 3 - أحكام الجنائز وبدعها، لمحمد بن ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، ط:1، 1412 هـ. 4 - الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق: بشير محمد عيون، مكتبة المؤيد، ط:3، 1411 هـ. 5 - أبجد العلوم" الواشي المرقوم في بيان أحوال العلوم"، لصديق حسن خان القنوجي، اعتنى به: عبد الجبار زكار، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب العلمية، دمشق، 1978 م. 6 - الإبريز في كلام سيدي عبد العزيز الدباغ، لأحمد بن المبارك السجلماسي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:3، 1423 هـ. 7 - مشارق أنوار العقول، لعبد الحميد حميد السالمي، دار الجيل تحقيق عبد الرحمن عميرة، تعليق لأحمد الخليلي، دار الجيل ط:1، 1409 هـ 8 - إبطال التأويلات لأخبار الصفات، لأبي يعلى الفراء، تحقيق ودراسة: أبي عبد الله محمد بن حمد الحمود النجدي، مكتبة دار الإمام الذهبي، ط:1، 11410 هـ. 9 - الرد على من قال بفناء الجنة والنار وبيان الأقوال في ذلك، أ. د. محمد بن عبد الله السمهري، دار بلنسية، ط:1، 1415 هـ. 10 - معنى حديث الشؤم في ثلاثة ومباينته للطيرة الشركية، أ. د. محمد بن عبد العزيز العلي، دار طيبة ط:1، 1429 هـ. 11 - إبطال التنديد باختصار شرح التوحيد، حمد بن علي بن عتيق، دار الكتاب والسنة بباكستان، ط:6، 1415 هـ. 12 - إتحاف النبلاء بسير العلماء، د. راشد بن عثمان الزهراني، دار الصميعي، ط:1، 1418 هـ. 13 - الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، ط:2، 1414 هـ. 14 - إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد، لمحمد إبراهيم الحسني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:2، 1987 م. 15 - إثبات الشفاعة، للذهبي، تحقيق: إبراهيم باجس عبد المجيد، أضواء السلف، ط:1، 1420 هـ. 16 - إثبات صفة العلو، لابن قدامة، تحقيق بدر البدر، الدار السلفية، الكويت، ط:1، 1406 هـ. 17 - تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، ط:1، 1422 هـ. 18 - إثبات علو الله ومباينته لخلقه والرد على من زعم أن معية الله للخلق ذاتية، لحمود بن عبد الله التويجري، مكتبة المعارف، الرياض، ط:1، 1405 هـ. 19 - الشفاعة، لمقبل بن هادي الوادعي، دار الأثير، ط:4، 1423 هـ. 20 - غاية المراد في نظم الاعتقاد، لنور الدين السالمي العماني، تعليق: أبو راس عبد الله بن محمد الكاملي، المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسطنطينة، 1371 هـ. 21 - رسالة في فرق الشيعة والخوارج وتكفيرهم غلاتهم، لمحيي الدين الدبسي، دار الكتب المصرية، 1311 هـ. 22 - ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر، وبيان بعد محمد رشيد رضا عن السلفية، لمقبل بن هادي الوادعي، دار الحرمين، القاهرة. 23 - اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، تحقيق: يوسف بن أحمد البكري وآخر، دار رمادي للنشر، ط:1، 1418 هـ. 24 - معجم شواهد العربية، لعبد السلام هارون، مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع، ط:3، 2002 م. 25 - أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها: التبشير - الاستشراف - الاستعمار، دراسة وتحليل وتوجيه (ودراسة منهجية شاملة للغزو الفكري)، لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (ص 214). 26 - الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية، لأبي الثناء الشهاب الألوسي، المطبعة الحميدية، بغداد، 1301 هـ.

27 - أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين جمعاً ودراسة، د. سليمان محمد الدبيخي (ص 137). 28 - الأحكام السلطانية، علي بن محمد الماوردي، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، دار الاعتصام. 29 - الأحكام السلطانية، لأبي يعلى محمد بن الحسين الفراء: تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت 1421 هـ. 30 - أحكام القرآن، لأبي بكر الرازي الجصاص، دار الكتاب العربي. 31 - أحكام أهل الذمة، لابن القيم، تحقيق: د. صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، ط:4، 1994 م. 32 - الإحكام في أصول الأحكام، علي بن محمد الآمدي، تحقيق الشيخ عبد الرزاق عفيفي، دار الصميعي، الرياض، ط:1، 1424 هـ. 33 - إحياء علوم الدين، محمد بن محمد بن محمد الغزالي، لجنة نشر الثقافة الإسلامية، القاهرة، مصر، 1356 هـ. 34 - اختصار النكت، للماوردي تفسير للعز بن عبد السلام ولله الأسماء الحسنى (1/ 88)، 35 - اختصار علوم الحديث، لابن كثير، مطبوع مع شرحه الباعث الحثيث، لأحمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1403 هـ. 36 - آداب الشافعي ومناقبه، عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، تحقيق عبد الغني عبد الخالق، دار الكتب العلمية، بيروت. 37 - الآداب الشرعية والمنح المرعية، لمحمد بن مفلح الحنبلي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخر، مؤسسة الرسالة، ط:3، 1419 هـ. 38 - أديان الهند الكبرى، الدكتور أحمد شلبي (ص 114، 125، 126، 135، 136). 39 - الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة، لعبد القادر شيبة الحمد، مكتبة دار الزمان، المدينة المنورة، ط:2، 1426 هـ. 40 - الأذكار، للنووي، تحقيق: محيي الدين مستور، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، مكتبة دار التراث، المدينة المنورة، دار ابن كثير، بيروت. 41 - آراء ابن حجر الهيتمي الاعتقادية عرض وتقويم في ضوء عقيدة السلف، د. محمد بن عبد العزيز الشايع، مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، 1427 هـ. 42 - الأربعين في أصول الدين، محمد بن عمر الرازي، تحقيق د. أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ط:1، 1406 هـ. 43 - الأربعين في دلائل التوحيد، لأبي إسماعيل الهروي، تحقيق: د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، ط:1، 1404 هـ. 44 - إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات، لمحمد بن علي الشوكاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1404 هـ. 45 - إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، للشوكاني، تحقيق: أبي الحسن علي بن أحمد الرزاحي، مكتبة الرضوان، مصر، ط:1، 1427 هـ. 46 - إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، للشوكاني، تحقيق: د. شعبان محمد إسماعيل، دار الكتبي، القاهرة، مصر، ط:1، 1413 هـ. 47 - الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد، للشيخ صالح الفوزان، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، ط:2، 1412 هـ. 48 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقادية، لأبي المعالي الجويني، تحقيق: الشيخ زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، ط:1، 1416 هـ. 49 - الإرشاد في معرفة الأحكام، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مكتبة المعارف، الرياض، 1400 هـ. 50 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:2، 1405 هـ. 51 - إزالة الستار عن الجواب المختار لهداية المحتار، لابن عثيمين، دار طيبة، ط:1، 1410 هـ. 52 - قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة، جلال الدين السيوطي، تحقيق: خليل محيي الدين الميس، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، ط:1، 1985 م. 53 - أساس البلاغة، للزمخشري، دار الفكر، 1399 هـ. 54 - أساس التقديس في علم الكلام، محمد بن عمر بن الحسين الفخر الرازي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط:1، 1415 هـ.

55 - الاستقامة، لابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، مصر. 56 - الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، لأحمد بن خالد الناصري دار الكتاب، الدار البيضاء المغرب، ط:1، 1997 م. 57 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب، يوسف بن عبد البر، تحقيق: علي البجاوي، بهامش الإصابة. 58 - أسد الغابة في معرفة الصحابة، لعي بن محمد بن الأثير الجزري، طبعة القاهرة، مصر، 1970 م. 59 - الإسلام أصوله ومبادئه، لمحمد بن عبد الله بن صالح السحيم، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، السعودية، ط:1، 1421 هـ. 60 - الإسلام والحضارة العربية، لمحمد محمد حسين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط:7، 1407 هـ. 61 - أسماء الله الحسنى في الكتاب والسنة " أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب المقدس "، د. محمود عبد الرازق الرضواني، مكتبة سلسبيل، القاهرة، ط:1، 1429 هـ. 62 - أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعانيها، لأبي الحسن أحمد بن فارس اللغوي الرازي، تحقيق: ماجد الذهبي، منشورات مركز المخطوطات والتراث والوثائق، ط:1، الكويت، 1409 هـ. 63 - الأسماء والصفات، أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق عبد الله الحاشدي، مكتبة السوادي، ط:1، 1413 هـ. 64 - الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الشافعية، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، طبعة عيسى البابي الجلبي وشركاه، تراجع. 65 - اشتقاق أسماء الله تعالى لأبي القاسم الزجاجي، تحقيق: أ. د. عبد الحسين المبارك، دار الفكر، ط:1،2009 م. 66 - أشراط الساعة، يوسف بن عبد الله الوابل، دار ابن الجوزي، الدمام، ط:3، 1414 هـ. 67 - الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وآخر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1415 هـ. 68 - أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة تأليف نخبة من العلماء وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية (1/ 357 - 358). 69 - أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة، لنخبة من العلماء طباعة الشؤون الإسلامية بالسعودية، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، السعودية، ط:1، 1421 هـ. 70 - الأصول الثلاثة، للشيخ عبد الرحمن البراك، راجعه وقرأه على المؤلف: عبد الرحمن بن صالح السديس، دار التدمرية. 71 - أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة، د. محمد بن عبد الرحمن الخميس، دار الصميعي، السعودية. 72 - أصول الدين، عبد القاهر بن طاهر البغدادي، دار الكتب العلمية، ط:3، 1401 هـ. 73 - أصول الدين، لأبي اليسر البزدوي، تحقيق د. هانز بيترلنس، طبعة مصطفى الحلبي، مصر، ط:1، 1383 هـ. 74 - أصول السنة، محمد بن عبد الله ابن أبي زمنين، تحقيق عبد الله بن محمد البخاري، مكتبة الغرباء، المدينة المنورة، ط:1، 1415 هـ. 75 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1413 هـ. 76 - إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد، للشيخ صالح بن فوزان، مؤسسة الرسالة، ط:3، 1423 هـ. 77 - الاعتصام، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، تحقيق: مشهور بن حسن آل سليمان، مكتبة التوحيد، ط:1، 1421 هـ. 78 - اعتقاد أئمة الحديث، لأبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، تحقيق: محمد بن عبد الرحمن الخميس، دار العاصمة، الرياض، ط:1، 1412 هـ. 79 - الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، للبيهقي، تحقيق: أحمد عصام الكاتب، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط:1، 1401 هـ. 80 - اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، لمحمد بن عمر بن الحسين الرازي، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط:2، 1405 هـ. 81 - إعجاز القرآن في علاج السحر والحسد ومسّ الشيطان، لمحمد محمود عبد الله، مؤسسة الإيمان، دار الجديد، ط:1، 1996 م. 82 - إعجاز القرآن، محمد بن الطيب الباقلاني، تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف، مصر، ط:3.

83 - إعراب القرآن، لأبي جعفر النحاس، تحقيق: زهير غازي زاهد، عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية، بيروت، ط:2، 1405 هـ. 84 - أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، سليمان بن حمد الخطابي، تحقيق د. محمد بن سعد آل سعود، مركز إحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، ط:1، 1409 هـ. 85 - أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي، تحقيق ودراسة: د. محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود، الناشر جامعة أم القرى. 86 - أعلام السنة المنشورة، لحافظ الحكمي، من مطبوعات دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية، 1399 م. 87 - أعلام العراق، لمحمد بهجت الأثري، الدار العربية للموسوعات، ط:1، 2002 م. 88 - أعلام الموقعين عن رب العالمين، للإمام ابن القيم الجوزية، راجعه وعلق عليه: عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت. 89 - أعلام النبوة، لأبي حسن علي للماوردي، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، ط:1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1407 هـ. 90 - الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، 1990 م. 91 - إعلان النكير على المفتونين بالتصوير، للشيخ حمود بن عبد الله التويجري، طبع في دار الهجرة، الرياض. 92 - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق محمد حامد الفقي، مكتبة الرياض الحديثة. 93 - أفعال العباد بين أهل السنة ومخالفيهم، د. عبد العزيز الحميدي، رسالة ماجستير بقسم العقيدة بالجامعة الإسلامية، سنة 1411 هـ. 94 - أفلاطون في الإسلام، د. عبد الرحمن بدوي، دار الأندلس، بيروت، ط:3، 1402 هـ. 95 - أفلاطون، للدكتور أحمد فؤاد الأهواني، دار المعارف، القاهرة، ط:4، 1991 م. 96 - الاقتصاد في الاعتقاد، للغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1403 هـ. 97 - الاقتصاد في الاعتقاد، لأبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي، حققه وعلق عليه: أحمد بن عطية بن علي الغامدي، مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة، ط:1، 1414 هـ. 98 - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق د. ناصر عبد الكريم العقل، مكتبة الرشد، الرياض، ط:2، 1411 هـ. 99 - الإقناع لطالب الانتفاع، للحجاوي المقدسي، تحقيق، د. عبد الله التركي، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلام، مصر، ط:1، 1418 هـ. 100 - إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة، صديق حسن خان، تحقيق مجموعة من الأساتذة، ط:1، 1411 هـ. 101 - إكمال المعلم بفوائد مسلم المعروف بشرح القاضي عياض، للإمام عياض بن موسى اليحصبي، تحقيق: د. يحيى إسماعيل، دار الوفاء، مكتبة الرشد، ط:1، 1419 هـ. 102 - إكمال تهذيب الكمال، لعلاء الدين مغلطاي بن قليج الحنفي، تحقيق: عادل بن محمد وآخر، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، ط:1، 1422 هـ. 103 - الألفاظ الموضحات لأخطاء دلائل الخيرات، لعبد الله بن محمد الدويش، طبع ضمن مجموع مؤلفات الشيخ عبد الله الدويش، واعتنى بها واشرف على طبعها: عبد العزيز بن أحمد المشيقح. دار العليان للنشر، بريدة-القصيم، ط:1، 1411 هـ، وقد طبع على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن محمد بن سعود الكبير جزاه الله خيرا. 104 - ألفية السيوطي في علم الحديث، شرح وتصحيح: أحمد محمد شاكر، المكتبة التجارية (مصطفى الباز)، مكة المكرمة. 105 - إلقام الحجر لمن زكى ساب أبي بكر وعمر، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: مصطفى عاشور، مكتبة الساعي، الرياض. 106 - الأم، محمد بن إدريس الشافعي، مصورة من الطبعة الأميرية ببولاق، 1321 هـ. 107 - أمالي ابن سمعون، لأبي الحسن محمد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس البغدادي، تحقيق: عامر حسن صبري، دار البشائر الإسلامية، ط:1، 1423 هـ.

108 - الإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح وأثره في علم الحديث، لمشهور بن حسين آل سلمان، دار الصميعي، الرياض، ط:1، 1417 هـ. 109 - الإمامة والرد على الرافضة، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق د. علي بن محمد الفقيهي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة، ط:3، 1415 هـ. 110 - إنباء الغمر بأنباء العمر، أحمد بن علي بن حجر، دار الكتب العلمية، بيروت، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية، ط:2، 1406 هـ. 111 - الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار، ليحيى بن أبي الخير العمراني، تحقيق: سعود بن عبد العزيز الخلف، أضواء السلف، الرياض، ط:1، 1999 م. 112 - الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء مالك بن أنس والشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهم، للإمام الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر الأندلسي، اعتنى به: سيدي عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله، الناشر مكتب المطبوعات الإسلامية، بحلب، الطبعة الأولى، 1417 هـ. 113 - مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية، لإدريس محمود إدريس، رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية 1412 هـ. 114 - الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، لعبد الكريم بن إبراهيم الجليلي، تحقيق: صلاح بن محمد عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1418 هـ. 115 - الإنسان وعلاقته بالملائكة والجان، لمنصور الرفاعي عبيد، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ط:1، 1423 هـ. 116 - الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف، للصنعاني، تحقيق: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر، دار عفان للنشر والتوزيع، الخبر السعودية، ط:1، 1418 هـ. 117 - الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، محمد بن طيب الباقلاني، تحقيق محمد زاهد الكوثري، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط:3، 1413 هـ. 118 - إنقاذ البشر من الجبر والقدر، علي بن الحسين الكاظم المرتضي (مطبوع ضمن رسائل العدل). 119 - الأنوار القدسية في بيان قواعد الصوفية، عبد الوهاب الشعراني، دار صادر، بيروت، ط:1، 1999 م. 120 - أوائل المقالات، المفيد بن محمد بن النعمان، دار الكتاب الإسلامي، بيروت، 1403 هـ. 121 - أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، لابن هشام الأنصاري، المكتبة العصرية، بيروت، 1422 هـ. 122 - الآيات البينات في عدم سماع الأموات على مذهب الحنفية السادات، لنعمان بن محمود الألوسي، تحقيق: الألباني، ط:2، 1399 هـ. 123 - إيثار الحق على الخلق في رد الاختلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد، للإمام محمد إبراهيم الوزير الصنعاني، دار الكتب العلمية، ط:2، 1407 هـ. 124 - إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين، لابن تيمية، الموجود ضمن مجموع الفتاوى الجزء (19). 125 - إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، إسماعيل باشا محمد أمين البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، مصور عن طبعة إسطنبول، سنة 1945 م. 126 - الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة، لعبد الله بن عبد الحميد الأثري، تقديم: د. عبد الرحمن بن صالح المحمود، مدار الوطن، الرياض، ط:1، 1424 هـ. 127 - الإيمان: ابن مندة، تحقيق د. علي محمد فقيهي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط:2، 1406 هـ. 128 - الإيمان، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:3، 1408 هـ. 129 - الإيمان، لابن أبي شيبة، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:2، 1403 هـ. 130 - الإيمان، لابن تيمية، خرج أحاديثه: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:4، 1413 هـ. 131 - الإيمان، لأبي عبيد القاسم بن سلام، تحقيق: الألباني، دار الأرقم، ط:2، 1405 هـ. 132 - الإيمان، لمحمد بن يحيى أبي عمر العدني، تحقيق: محمد حمدي الجابري، الدار السلفية، الكويت، ط:1، 1407 هـ.

133 - الإيمان أركانه حقيقته نواقضه، د. محمد نعيم ياسين، دار عمر بن الخطاب، الإسكندرية. 134 - البابية، د/محمد عبده يماني، دار القبلة للثقافة الإسلامية. 135 - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، لابن كثير، تأليف: أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1403 هـ. 136 - البحر الرائق في شرح كنز الرقائق، لزين الدين بن نجم الحنفي المصري، المكتبة الماجدية، باكستان. 137 - بحوث ودراسات في المذاهب والتيارات للدكتور محمد مجاهد نور الدين، دار الهجرة، أبها، ط:1، 1419 هـ. 138 - بدائع التفسير، لابن القيم، جمعه وخرج أحاديثه: يسري السيد محمد، دار ابن الجوزي، الدمام، ط:1، 1427 هـ. 139 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط:2، 1982 م. 140 - بدائع الفوائد، لمحمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، اعنتى به: أحمد عبد السلام، دار الكتب العلمية، ط:1، 1414 هـ. 141 - البداية والنهاية، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير، مكتبة المعارف، بيروت، ط:1. 142 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن التاسع، لمحمد بن علي الشوكاني، دار المعرفة، بيروت، ط:1، 1348 هـ. 143 - البرهان في علوم القرآن، لمحمد بن عبد الله الزركشي، تحقيق د. يوسف المرعشلي وآخرين، دار المعرفة، بيروت، ط:1، 1410 هـ. 144 - البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان، لأبي الفضل عباس بن منصور السكسكي، تحقيق: د. بسام علي العموش، مكتبة المنار الزرقاء، ط:1، 1408 هـ. 145 - بريق الجمان بشرح أركان الإيمان، لمحمد محمدي بن محمد جميل النورستاني، نشر غراس، الكويت، ط:1، 1428 هـ. 146 - البريلوية عقائد وتاريخ، لإحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة، لاهور، ط:1، 1403 هـ. 147 - البعث، لابن أبي داود، تحقيق: أبي إسحاق الحويفي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط:1، 1408 هـ. 148 - البعث والنشور، لأحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: محمد السعيد بن بسيوني، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط:1، 1408 هـ. 149 - بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة، لعبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب، ط:17، 1426 هـ. 150 - بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة، لابن تيمية، تحقيق د. موسى الدويش، مكتبة العلوم والحكم، ط:3، 1415 هـ. 151 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة لجلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت. 152 - البلاغ المبين، لعبد المجيد يوسف الشاذلي، الكتاب على موقع المؤلف http://alshazly.org/. 153 - البهائية تاريخها وعقيدتها وصلتها بالباطنية والصهيونية، لعبد الرحمن الوكيل، مطبعة المدني، القاهرة، ط:2، 1407 هـ. 154 - البهائية صليبية الغرس إسرائيلية التوجيه، لمحمود ثابت الشاذلي، مكتبة وهبة، 1410 هـ. 155 - البهائية والقاديانية، د/أسعد السحمراني، دار النفائس، بيروت، ط:1، 1407 هـ. 156 - البهائية وسائل وغايات، د/ طه الدسوقي، دار الهدى للطباعة، ط:1، 1405 هـ. 157 - بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، لنور الدين أبي الحسن علي بن يوسف بن جرير اللخمي الشطنوفي، تحقيق: محمد حسني مصطفى، دار القلم العربي، ط:1، 2003 م. 158 - البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية، لمحمد بن عبد الله الخاني، دار الكتب العلمية، 2003 م. 159 - بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخبار بشرح جوامع الأخبار، لعبد الرحمن السعدي، ضمن: المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن ابن ناصر السعدي. 160 - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، القسم الخامس والسادس والسابع، تحقيق، د. عبد العزيز اليحيى وآخرين، رسائل علمية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ويسمى كذلك "نقض التأسيس"، طبع منه جزآن بتحقيق محمد ابن عبد الرحمن بن قاسم، مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، وللكتاب أجزاء أخري مخطوطة في جامعة الملك سعود، ط:1، 1391 هـ. 161 - البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر والنارنجيات، لمحمد بن الطيب الباقلاني، تحقيق: مكارثي، المكتبة المشرقية، بيروت، 1958 م. 162 - بيان فضل علم السلف على الخلف، لابن رجب، تحقيق: محمد بن ناصر العجمي، دار الأرقم، الكويت، ط:2، 1400 هـ.

163 - تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمد بن محمد الزبيدي، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306 هـ. 164 - تاريخ ابن خلدون " العبر وديوان المبتدأ والخبر"، لعبد الرحمن بن خلدون، بيروت 1971 م. 165 - تاريخ الآداب العربية لرزق الله بن يوسف بن عبد المسيح بن يعقوب شيخو. 166 - تاريخ الإسلام، للذهبي، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمرية، دار الكتاب العربي، بيروت، ط:1، 1410 هـ. 167 - تاريخ الأمم والملوك، للطبري، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، ط:2. 168 - تاريخ الأنبياء والرسل والارتباط الزمني والعقائدي، د. محمد وصفي، دار الفضيلة، القاهرة. 169 - الارتباط الزمني والعقائدي بين الأنبياء والرسل، لمحمد وصفي، تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي، دار ابن حزم، ط:1، 1997 م. 170 - التاريخ الأوسط، للبخاري، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، مكتبة دار التراث - حلب , القاهرة -، ط:1، 1397 هـ. 171 - تاريخ الخلفاء، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر، ط:1، 1371 هـ. 172 - تاريخ العلويين، لمحمد أمين غالب الطويل، طبعة اللاذقية، الهند، 1924 م. 173 - تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط:2. 174 - التاريخ الكبير، لمحمد بن إسماعيل البخاري، دار الفكر، بيروت. 175 - تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية، لمحمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة. 176 - تاريخ بغداد للخطيب، البغدادي، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1417 هـ. 177 - تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع الهجري، لفكري فيصل، دمشق، 1986 م. 178 - تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، للشيخ عبد المجيد الزنداني، أ. د. سعد يلدرم، الشيخ محمد الأمين ولد محمد، هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، مكة المكرمة، ط:2، 1421 هـ. 179 - تأويل مختلف الحديث، لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، دار الكتب العلمية. 180 - تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، ط:3، 1401 هـ. 181 - التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، لأبي طاهر الإسفراييني، تحقيق: كمال يوسف الحوت، عالم الكتب، بيروت، ط:1، 1983 م. 182 - التبصير في معالم الدين، لمحمد بن جرير الطبري، تحقيق: د. علي الشبل، دار العاصمة، الرياض، ط:1 ن 1416 هـ. 183 - التبيان شرح نواقض الإسلام لمحمد بن عبد الوهاب، لسليمان ناصر بن عبد الله العلوان، دار المسلم للنشر والتوزيع، ط:6. 184 - تجريد التوحيد المفيد، لأحمد بن علي المقريزي، تحقيق علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط:1، 1417 هـ. 185 - فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن، للسعدي، تحقيق: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر، دار ابن الجوزي، الدمام، ط:2، 1422 هـ. 186 - تحريم النظر في كتب الكلام، لموفق الدين ابن قدامة المقدسي، تحقيق: عبد الرحمن دمشقية، عالم الكتب، الرياض، ط:1، 1410 هـ. 187 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لمحمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري أبو العلا، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1412 هـ. 188 - تحفة المحتاج بشرح المنهاج، للهيثمي، تحقيق: عبد الله بن محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1403 هـ. 189 - التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية، للشيخ فالح بن مهدي آل مهدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن صالح المحمود، دار الوطن، ط:1، 1414 هـ. 190 - تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة، لخليل بن كيكلدي العلائي، تحقيق: د. عبد الرحيم القشقري، دار العاصمة، الرياض، ط:1، 1410 هـ. 191 - تحكيم القوانين، لمحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل شيخ، دار المسلم، الرياض، ط:1، 1411 هـ.

192 - تدريب الراوي في شرح تقريب النووي، للسيوطي، تحقيق: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، الرياض، ط:5، 1422 هـ. 193 - التدمرية، لابن تيمية، تحقيق: د. محمد السعوي، مكتبة العبيكان، ط:7، 1423 هـ. 194 - تذكرة الحفاظ، للذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت. 195 - تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي، د. عبد الرزاق البدر، غرس للنشر والتوزيع، الكويت، ط:1، 1424 هـ. 196 - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، لمحمد بن فرج القرطبي، خرج أحاديثه: محمود البسطويسي، دار البخاري، المدينة المنورة، ط:1، 1417 هـ. 197 - الترتيب الفريد من شروحات كتاب التوحيد، رتبه وأعده: أبو توحيد لقمان حسن أمين، المكتبة الشاملة. 198 - ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة، للأستاذ الطاهر أحمد الزاوي، دار الفكر، ط:3، 1959 م. 199 - ترجمات معاني القرآن الكريم وتطور فهمه عند الغرب، د. عبد الله عباس الندوي، سلسلة دعوة الحق، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1996 م. 200 - ترجمة القرآن الكريم وأثرها في معانيه، د. نجدت رمضان، دار المحبة، ط:1، دمشق، سوريا، 1998 م. 201 - ترجمة القرآن وما فيها من المفاسد ومنافاة الإسلام لمحمد رشيد رضا، دراسة حول ترجمة القرآن الكريم، د. أحمد إبراهيم مهنا، 202 - التسعينية، لابن تيمية، تحقيق: د. محمد العجلان، مكتبة العارف، الرياض، ط:1، 1420 هـ. 203 - التصريح بما تواتر في نزول المسيح، لمحمد أنور شاه الكشميري الهندي، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، كتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط:4، 1402 هـ. 204 - التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق، د. زكي مبارك، مطبعة الاعتماد، مصر، ط:1، 1357 هـ. 205 - تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، لمحمد بن إسماعيل اليمني الصنعاني، تعليق: إسماعيل الأنصاري، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:5، 1405 هـ. 206 - التعريب والمعرب وهو المعروف بحاشية ابن بري، لعبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي المصري، تحقيق: د. إبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405 هـ. 207 - التعريفات، لعلي بن محمد الجرجاني، تحقيق: جماعة من العلماء، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1403 هـ. 208 - تعظيم قدر الصلاة، للمروزي، تحقيق: د. عبد الرحمن الفريوائي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط:1، 1406 هـ. 209 - تعليق الشيخ ابن باز على الواسطية، موقع الشيخ ابن باز: http://www.binbaz.org.sa/. 210 - التعليقات على لمعة الاعتقاد، للشيخ عبد الله بن جبرين، دار الصميعي، ط:1، 1995 م. 211 - التغريب أخطر التحديات في وجه الإسلام، لأنور الجندي، دار الاعتصام. 212 - التغريب طوفان من الغرب، للواء أحمد عبد الوهاب، مكتبة التراث الإسلامي، ط:1، 1411 هـ. 213 - تفسير ابن أبي حاتم. القسم الأول، تحقق: د. أحمد عبد الله الزهراني، دار ابن القيم، ط: 1، 1408 هـ. 214 - تفسير ابن عطية "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز"، تحقيق: الرحالي الفاروق ورفاقه، مؤسسة دار العلوم، قطر، ط:1، 1398 هـ. 215 - تفسير أسماء الله الحسنى، للزجاج، تحقيق: أحمد يوسف الدقاق، منشورات دار المأمون للتراث، دمشق، 1395 هـ. 216 - تفسير البغوي "معالم التنزيل"، للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: خالد العك ومروان سوار، دار المعرفة، ط:4، 1415 هـ. 217 - تفسير البيضاوي "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط:2، 1388 هـ. 218 - تفسير التحرير والتنوير، لابن عاشور، الدرر التونسية للنشر، 1984 هـ. 219 - تفسير الثعالبي "الجواهر الحسان في تفسير القرآن"، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت. 220 - تفسير الجلالين، تعليق: الشيخ عبد الرزاق عفيفي -من سورة غافر إلى سورة الناس-، دار الوطن، الرياض، ط:1، 1415 هـ.

221 - تفسير الخازن " لباب التأويل في معاني التنزيل"، لعلاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الشهير بالخازن، دار الفكر، بيروت، 1399 هـ. 222 - تفسير السعدي (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)، لشيخ عبد الرحمن السعدي، مركز صالح بن صالح الثقافي بعنيزة، ط:2، 1412 هـ. 223 - تفسير السمرقندي "بحر العلوم"، لنصر بن محمد بن أحمد السمرقندي، دار الكتب العلمية، ط:1، 1413 هـ. 224 - تفسير الطبري "جامع البيان في تأويل القرآن"، لمحمد بن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1412 هـ. 225 - تفسير القاسمي " محاسن التأويل"، لجمال القاسمي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، عيسى البابي الحلبي، مصر. 226 - تفسير القرآن العظيم، لإسماعيل بن كثير القرشي، دار الخير، بيروت، ط:1، 1410 هـ. 227 - تفسير القرآن الكريم، لابن عثيمين، دار ابن الجوزي، ط:1، 1423 هـ. 228 - تفسير القرطبي " الجامع لأحكام القرآن "، لمحمد بن أحمد القرطبي، تصحيح أحمد البردوني، ط:2. 229 - التفسير الكبير، للرازي، دار الكتب العلمية، طهران، ط:2. 230 - تفسير اللباب في علم الكتاب، لعمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الجواد وآخرين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1419 هـ. 231 - تفسير المنار لمحمد رشيد رضا، طباعة المنار، ط:1، 1353 هـ. 232 - تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم، لمحمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله الأزدي الحميدي، تحقيق: الدكتورة: زبيدة محمد سعيد عبد العزيز، مكتبة السنة، القاهرة، ط:1، 1415 هـ. 233 - تفسير لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي "النكت والعيون"، تحقيق: خضر محمد خضر، راجعه د. عبد الستار أبو غدة، مطابع مقهوي، الكويت، طباعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط:1، 1402 هـ. 234 - تقريب التدمرية، لمحمد بن صالح العثيمين، مكتبة السنة، مصر، ط:1، 1413 هـ. 235 - تقريب التهذيب، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، عناية: عادل مرشد، مؤسسة الرسالة، ط:1، 1423 هـ. 236 - تلخيص كتاب الاستغاثة بالمعروف بالرد على البكري، لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: محمد بن علي عجال، مكتبة الغرباء، الأثرية، المدينة، ط:1، 1417 هـ. 237 - تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، لمحمد بن الطيب الباقلاني، تحقيق: عماد الدين أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط:3، 1414 هـ. 238 - التمهيد لشرح كتاب التوحيد، دروس ألقاها صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، دار التوحيد، ط:1، 1424 هـ. 239 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، تحقيق: سعيد أحمد أعراب وآخرين، وزارة الأوقاف، الرباط، المملكة المغربية، 1387 هـ. 240 - تنبيه الغافلين، لأبي الليث السمرقندي، القاهرة، مطبعة المشهد الحسيني، 1373 هـ. 241 - تنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة، للشيخ ابن سحمان، دار العاصمة، الرياض، ط:2، 1410 هـ. 242 - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع لمحمد بن أحمد الملطي، تحقيق: محمد زاهد الكوثري، مكتبة المثنى، بغداد، العراق، مكتبة المعارف، بيروت، 1388 هـ. 243 - التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية، للشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد، دار الرشد، الرياض، ط:2، 1416 هـ. 244 - التنجيم والمنجمون وحكم ذلك في الإسلام، لعبد المجيد بن سالم المشعبي، مكتبة الصديق، الطائف، ط:1، 1414 هـ. 245 - تنزيه خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان من الظلم والفسق في مطالبته بدم أمير المؤمنين عثمان، لمحمد بن الحسين بن خلف المشهور بالقاضي أبي يعلى، تحقيق: أبي عبد الله الأثري، مكتبة الرشد، الرياض، ط:1، 1422 هـ. 246 - تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب، لمحمد أمين الكردي الإربلي، ترتيب: محمد رياض، دار الكتب العلمية، لبنان، ط:1،1995 م.

247 - تهافت الفلاسفة، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي، تحقيق: د. علي بو ملحم، دار ومكتبة الهلال، بيروت، لبنان، ط:1، 1994 م. 248 - تهذيب الأسماء واللغات، ليحيى بن شرف الدين النووي، إدارة الطباعة المنيرية. 249 - تهذيب التهذيب، لابن حجر، تحقيق: جماعة من الباحثين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط:1، 1416 هـ. 250 - تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للحافظ أبي الحجاج المزي، تحقيق: د. بشَّار عوَّاد معروف، مؤسسة الرسالة، ط:1، 1413 هـ. 251 - تهذيب اللغة، لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، عناية: محمد عوض مرعب وزملائه، دار إحياء التراث العربي، 1421 هـ. 252 - تهذيب تاريخ دمشق، لابن عساكر، هذبه ورتبه: الشيخ عبد القادر بدران، دار إحياء التراث العربي، ط:3، 1407 هـ. 253 - توحيد الألوهية، لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى. 254 - التوحيد وإثبات صفات الرب -عز وجل-، للإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة، دراسة وتحقيق: د. عبد العزيز الشهوان، مكتبة الرشد، ط:6، 1418 هـ. 255 - التوحيد وقرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ص 422). 256 - التوحيد ومعرفة أسماء الله - عز وجل- وصفاته على الاتفاق والتفرد، لابن منده، تحقيق: د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، مكتبة الغرباء الأثرية، ط:2، 1414 هـ. 257 - التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو العمل أو الاعتقاد، لعلوي بن عبد القادر السَّقَّاف، دار ابن القيم، الدمام، ط:1، 1420 هـ. 258 - التوسل والوسيلة، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ضمن مجموع الفتاوى. 259 - التوسل وأنواعه وأحكامه، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:5، 1406 هـ. 260 - التوصل إلى حقيقة التوسل المشروع والممنوع، لمحمد نسيب الرفاعي، ط:4. 261 - توضيح الأحكام من بلوغ المرام، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام، مؤسسة الخدمات الطباعية، لبنان، ط:2، 1414 هـ. 262 - توضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم وكناهم، لمحمد عبد الله قيسي الدمشقي، تحقيق: محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط:2، 1414 هـ. 263 - توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم الموسوعة بالكافية الشافية، لأحمد بن إبراهيم بن عيسى، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:3، 1406 هـ. 264 - التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح، للشوكاني، تحقيق: ناصر ابن عبد الله الميمان، المكتبة المكية، مكة المكرمة، ط:1، 1418 هـ. 265 - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:7، 1407 هـ. 266 - تيسير العزيز الحميد، لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، مكتبة الرياض الحديثة. 267 - تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، عبد الله بن عبد الرحمن آل بسام، تحقيق: محمد صبحي بن حسن حلاق، مكتبة الصحابة- الإمارات العربية المتحدة، مكتبة التابعين-القاهرة، ط:10، 1426 هـ 268 - تيسير الوصول إلى الثلاثة الأصول، لعبد المحسن بن محمد القاسم، ط:1، 1427 هـ. 269 - تيسير لمعة الاعتقاد، د. عبد الرحمن بن صالح المحمود، على موقع المؤلف www.almahmood.islamlight.net. 270 - الثقات، لابن حبان، عناية: محمد عبد المعين خان، طبعة دائرة المعارف العثمانية، بحيدر أباد، الهند، ط:1، 1398 هـ. 271 - الثمر الداني شرح رسالة القيرواني، لصالح عبد السميع الآبي الأزهري، المكتبة الثقافية، بيروت. 272 - حياة الألباني وآثاره، لمحمد بن الوليد الطرطوشي، تحقيق: علي حسن الحلبي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط:1، 1411 هـ. 273 - جامع الأمهات، لعثمان بن أبي بكر بن الحاجب، دار اليمامة للنشر، ط:1، 1419 هـ. 274 - جامع الرسائل لابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، دار المدني، جدة، ط:2، 1405 هـ.

275 - جامع العلوم والحكم، للعلامة أبي الفرج ابن رجب الحنبلي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم بلجس، مؤسسة الرسالة، ط:7، 1423 هـ. 276 - جامع المسائل، لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: محمد عزيز شمي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط:1، 1422 هـ. 277 - جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، لابن عبد البر، تحقيق: أبو الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، الدمام، ط:2، 1416 هـ. 278 - الجديد في شرح كتاب التوحيد لمحمد بن عبدالعزيز السليمان القرعاوي، مكتبة التوفيق، الرياض، دار لبنان، بيروت، ط:3، 1404 هـ. 279 - جذور العلمانية الجذور التاريخية للصراع بين العلمانية والإسلام في مصر منذ البداية وحتى عام 1948 م، للدكتور السيد أحمد فرج، دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة مصر، ط:1، 1405 هـ. 280 - الجرح والتعديل، لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، مصورة من طبعة دار المعارف العثمانية بالهند، ط:1. 281 - جريدة الرياض العدد 9573 الجمعة 4 ربيع الآخر 1415 هـ الموافق 9/ 9/1994 م. 282 - جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام، لمحمد بن أبي بكر القيم الجوزية، تحقيق: محيي الدين مستور، مكتبة دار التراث، المدينة المنورة، ط:1، 1408 هـ. 283 - http://www.saaid.net/Doat/samer/8.zip جلاء البصائر في الرد على كتابي شفاء الفؤاد والذخائر، لسمير بن خليل المالكي، على موقع صيد الفوائد http://www.saaid.net. 284 - جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، للسيد نعمان الألوسي، مطبعة المدني، 1401 هـ. 285 - جماعة أنصار السنة المحمدية نشأتها-أهدافها-منهجها-جهودها، للدكتور أحمد بن محمد الطاهر، دار الهدي النبوي-الرياض، دار الفضيلة-مصر، ط:1، 1425 هـ. 286 - جمال الدين الأفغاني المفترى عليه، د. محمد عمارة، دار الشرق للنشر والتوزيع، ط:1، 1984 م. 287 - جمال الدين الأفغاني والثورة الشاملة، للسيد يوسف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط:1، 1999 م. 288 - جمال الدين الأفغاني بين دارسيه، لعلي شلش، دار الشروق، ط:1، 1987 م. 289 - جمال الدين الأفغاني والاتجاهات الإسلامية في أدبه، للدكتور علي عبد الحليم محمود، دار عكاظ، جدة، 1980 م. 290 - جمع الشتيت في شرح أبيات التثبيت، للصنعاني، أشرف على تصحيحه: حسن محمد المشاط، مطابع دار الثقافة، مكة المكرمة، ط:1، 1381 هـ. 291 - الجهمية والمعتزلة نشأتها وأصولها ومناهجها وموقف السلف منها قديماً وحديثاً، أ. د. ناصر العقل، دار الوطن، الرياض، ط:1، 1421 هـ. 292 - جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، لأبي عبد الله شمس الدين بن محمد بن أشرف بن قيصر الأفغاني، دار الصميعي، ط:1، 1416 هـ. 293 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: د. عبد العزيز بن إبراهيم العسكر وآخرين، دار العاصمة، الرياض، ط:1، 1414 هـ. 294 - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، تحقيق: يوسف علي بديوي، دار ابن كثير، ط:2، 1409 هـ. 295 - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لمحمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق: علي الشربجي وقاسم النوري، مؤسسة الرسالة، ط:1، 1412 هـ. 296 - حاشية ابن عابدين، (رد المحتار على الدر المختار)، لمحمد أمين بن عابدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1415 هـ. 297 - حاشية الدسوقي على شرح الكبير، الدردير، المكتبة التجارية، القاهرة، 1329 - 1355 هـ. 298 - حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع، لعبد الرحمن بن قاسم، ط:3، 1405 هـ.

299 - حاشية العدوي، لعلي الصعيدي العدوي المالكي، تحقيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر، بيروت، 1412 هـ. 300 - حاشية كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن قاسم، ط:4، 1414 هـ. 301 - الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية، لمحمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي-القاهرة، دار الرفاعي-الرياض، ط:3، 1404 هـ. 302 - الحاكمية في تفسير أضواء البيان، لعبد الرحمن بن عبد العزيز السديس، دار طيبة، الرياض، ط:1، 1412 هـ. 303 - الحاوي في الفتاوى، لجلال الدين السيوطي، تصوير دار الكتاب العربي بلبنان، عن الطبعة المصرية. 304 - حجة الله على العالمين، ليوسف بن إسماعيل النبهاني، تحقيق: عبد الوارث محمد علي، دار الكتب العلمية، ط:1، 2005 م. 305 - الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة، لإسماعيل بن محمد الأصبهاني، تحقيق: د. محمد بن ربيع المدخلي وآخر، دار الراية، الرياض، ط:1، 1411 هـ. 306 - الحدائق الوردية، لعبد المجيد بن محمد الخاني النقشبندي، تحقيق: د. عاصم كيالي، دار الكتب العلمية، ط:1، 2010 م. 307 - الحذر في أمر الخضر، لعلي بن سلطان القاري الهروي، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، ط:1، 1900 م. 308 - الحركات الباطنية في الإسلام، لمصطفى غالب، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، ط:2، 1980 م. 309 - حركة الأرض ودورانها حقيقة علمية أثبتها القرآن، لمحمد علي الصابوني، دار وحي القلم للطباعة والنشر والتوزيع، ط:1، 2004 م. 310 - حزب البعث تاريخه وعقائده، لسعيد بن ناصر الغامدي. دار الوطن للنشر، الرياض، ط:1، 1411 هـ. 311 - حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، للسيوطي، حققه: خليل المنصور، دار الكتب العلمية، ط:1، 1418 هـ. 312 - الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين، لعبد الرحمن السعدي، مطبوع ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي، القسم الثالث، مركز صالح بن صالح الثقافي في عنيزة، ط: 2، 1412 هـ. 313 - الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، لمحمود عبد الرؤوف القاسم، دار الصحابة، بيروت، ط:1، 1408 هـ 314 - حكم الإسلام في الصور والتصوير، لدندل جبر، مكتبة المنار. 315 - الحكمة من إرسال الرسل، للشيخ عبد الرزاق عفيفي، دار الصميعي، الرياض، ط:2، 1420 هـ. 316 - الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى، للدكتور محمد ربيع المدخلي، مكتبة لينة للنشر والتوزيع، ط:1، 1409 هـ. 317 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم أحمد الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط:3، 1400 هـ. 318 - حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، لعبد الرزاق البيطار. 319 - الباعث على إنكار الحوادث والبدع، لأبي شامة عبد الرحمن بن إسماعيل، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، ط:3، 1401 هـ. 320 - الحياة الآخرة ما بين البعث إلى دخول الجنة أو النار، للدكتور غالب عواجي، المكتبة العصرية الذهبية، جدة، 1421 هـ. 321 - حياة الأنبياء بعد وفاتهم، لأحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: د. أحمد بن عطية الغامدي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة، ط:1، 1414 هـ. 322 - حياة الحيوان الكبرى، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 323 - خالص الاعتقاد لأحمد رضا خان البريلوي، طبعة لاهور. 324 - حدائق بخشش، لأحمد رضا خان البريلوي، ديوان شعري، طبعة باكستان. 325 - خبيئة الأكوان في افتراق الأم على المذاهب والأديان، لصديق حسن خان، طبع في مطبعة الجوائب، كانبور، 1296 هـ / 1879 م، (في آخر لقطة العجلان). 326 - الخديعة حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي، لمحمد الغزالي، دار نهضة مصر، ط:1. 327 - الخصائص الكبرى، لجلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1421 هـ. 328 - خصائص المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بن الغلو والجفاء، لصادق بن محمد بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، ط:1، 1421 هـ. 329 - خلاصة الأثر، للمحبي، دار صادر، بيروت. 330 - خلق أفعال العباد، للإمام البخاري، تحقيق: بدر البدر، الدار السلفية، الكويت، ط:1، 1405 هـ.

331 - الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام، أ. د. ناصر بن عبد الكريم العقل، دار الوطن، الرياض، ط:1، 1416 هـ. 332 - الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها، د. غالب عواجي، المكتبة العصرية الذهبية، جدة، ط:2، 1423 هـ. 333 - الخوارج في العصر الأموي، د. نايف محمود معروف، دار الطليعة، بيروت، ط:3، 1406 هـ. 334 - الداء والدواء، لابن القيم، تحقيق: علي بن عبد الحميد، دار ابن الجوزية، الدمام، ط:2، 1417 هـ. 335 - دائرة المعارف الإسلامية، أصدرها مجموعة من المستشرقين، ترجمة: أحمد الشنتاوي ورفاقه، وزارة المعارف، القاهرة، مصر. 336 - دائرة معارف القرن " الرابع عشر- العشرين"، لمحمد فريد وجدي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لمحمد فريد وجدي، ط:3، 1971 هـ. 337 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي، دار الفكر، بيروت، 1993 م. 338 - الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد، لمحمد بن علي الشوكاني، مكتبة الصحابة، الكويت. 339 - درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط:2، 1411 هـ. 340 - دراسات في الفرق والمذاهب القديمة والمعاصرة، لعبد الله الأمين، دار الحقيقة، بيروت، ط:1، 1406 هـ. 341 - دراسات في علوم القرآن، أ. د. فهد الرومي، مكتبة التوبة، الرياض، ط:6، 1416 هـ. 342 - دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين الخوارج والشيعة، للدكتور أحمد محمد جلي، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ط:2، 1408 هـ. 343 - الدرة فيما يجب اعتقاده، لابن حزم، تحقيق: عبد الحق التركماني، مركز البحوث الإسلامية في السويد، ودار ابن حزم في بيروت، 1430 هـ. 344 - الدرر السنية في الأجوبة النجدية، لمجموعة من أئمة الدعوة النجدية، جمع عبد الرحمن القاسم، ط:5، 1413 هـ 345 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر، حققه: محمد سيد جاد الحق، مطبعة المدني بمصر، ط:2، 1385 هـ. 346 - دعاوى المناوئين لدعوة محمد بن عبد الوهاب، عرض ونقض: د. عبد العزيز العبد اللطيف، دار الوطن، ط:1، 1412 هـ. 347 - دعوة التوحيد، د. محمد بن خليل هراس، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1406 هـ. 348 - دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام، لمصطفى فوزي بن عبد اللطيف غزال، دار طيبة، الرياض، ط:1، 1403 هـ. 349 - دفع إيهام التشبيه عن أحاديث الصفات ونقد كتاب (تأويل الأحاديث الموهمة للتشبيه)، تأليف أ. د. محمد السمهري، دار بلنسية، الرياض، ط:1، 1420 هـ. 350 - دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأحمد الحسين البيهقي، ت: عبد المعطي قلعجي، دار القلم، بيروت، ط:1، 1405 هـ. 351 - الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب، لإبراهيم بن علي اليعمري المالكي، لابن فرحون، تحقيق: د. محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث للطبع والنشر، القاهرة. تراجع 352 - دين الحق، لعبد الرحمن بن حماد آل عمر، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، السعودية، ط:6، 1420 هـ. 353 - الدين الخالص، لمحمد صديق حسن خان، دار التراث، القاهرة. 354 - ديوان أبي العتاهية، تقديم وشرح/مجيد طراد، دار الكتاب العربي، ط:4، 2003 م. 355 - الذخيرة، لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: محمد حجي، دار الغرب، بيروت، 1994 م. 356 - الذريعة آلة أصول الشريعة، للسيد المرتضي الملقب علم الهدى الرافضي علي بن الحسين الموسوي البغدادي، طبعة: انتشارات طهران. 357 - ذم التأويل، لعبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد، تحقيق: بدر البدر، دار الفتح، الشارقة، ط:1، 1414 هـ. 358 - ذيل طبقات الحنابلة، لعبد الرحمن بن رجب الحنبلي، دار المعرفة، بيروت. 359 - الرؤية، للدار قطني، تحقيق: إبراهيم العلي وآخر، دار الفكر للنشر والتوزيع، ط:2، 1986 م. 360 - رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد علي المريسي العنيد، تحقيق: علي النشار، عمار طالبي، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1971 م.

361 - رد شبهات حول عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ضوء السنة النبوية الشريفة، لعماد السيد محمد إسماعيل الشربينى، رسالة دكتوراه، إشراف: أ. د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، أستاذ الحديث وعلومه بكلية أصول الدين بالقاهرة. 362 - الرد على الأخنائي، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: عبد الرحمن المعلمي، الرئاسة العامة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية، 1404 هـ. 363 - الرد على البكري المعروف "بالاستغاثة"، لشيخ الإسلام، مطبعة الدار العلمية، دلهي، ط:2، 1405 هـ، أخرى بتحقيق: عبد الله بن دجين السهلي، دار الوطن، الرياض، ط:1، 1417 هـ. 364 - الرد على الجهمية، للدارمي، تحقيق: بدر البدر، الدار السلفية، الكويت، ط:1، 1405 هـ. 365 - الرد على الرافضة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ضمن مجموع مؤلفاته 366 - الرد على الزنادقة والجهمية، للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: إسماعيل الأنصاري، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض. 367 - الرد على المنطقيين، لابن تيمية، إدارة ترجمان السنة، باكستان، ط:2، 1393 هـ. 368 - رسائل في الأديان والفرق والمذاهب، لمحمد الحمد، دار ابن خزيمة، الرياض، ط:1، 1427 هـ. 369 - رسائل في العقيدة، لابن عثيمين، دار طيبة، الرياض، ط:2، 1406 هـ. 370 - رسالة أصول السنة، للإمام أحمد، ضمن عقائد أئمة السلف، دار الكتاب العربي، بيروت، ط:1، 1415 هـ. جمع: فواز زمرلي. 371 - رسالة الاحتجاج بالقدر لشيخ الإسلام ابن تيمية، ضمن مجموع الفتاوى، المجلد الثامن. 372 - رسالة الرد على الرافضة لأبي حامد المقدسي، تحقيق: عبد الوهاب خليل الرحمن، الدار السلفية، بومباي، ط:1، 1409 هـ. 373 - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لابن تيمية، تحقيق: د. لعبد الرحمن اليحيى، دار الفضيلة، الرياض. 374 - الرسالة القشيرية، لعبد الكريم القشيري، تحقيق: د. عبد الحليم محمود وآخر، دار المعارف، القاهرة. 375 - رسالة إلى أهل الثغر، لعلي بن إسماعيل أبو حسن الأشعري، تحقيق: عبد الله شاكر الجندي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط:1، 1409 هـ. 376 - رسالة أنواع التوحيد وأنواع الشرك، ضمن الجامع الفريد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، المطبوع في مؤسسة مكة للطباعة والإعلان. 377 - رسالة أوثق عرى الإيمان، سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، تحقيق: د. الوليد بن عبدالرحمن بن محمد آل فريان، من كتاب مجموع الرسائل. 378 - الرسل والرسالات، د. عمر الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط:5، 1414 هـ. 379 - رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار، لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:1، 1405 هـ. 380 - رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر، لمرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، تحقيق: أسعد المغربي، دار حراء، الدمام، ط:1، 1410 هـ. 381 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للسيد محمود الألوسي البغدادي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط:4، 1405 هـ. 382 - الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء، لابن القيم، تحقيق: د. بسام علي العموش، دار ابن تيمية، ط:2، 1412 هـ. 383 - روضة الطالبين وعمدة المفتين، ليحيى بن شرف الدين النووي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:2، 1405 هـ. 384 - الروضة الندية شرح الدرر البهية، لصديق حسن خان، القاهرة، مكتبة دار التراث. 385 - الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية، لزيد بن عبد العزيز الفياض، دار الوطن، الرياض، ط:3، 1414 هـ. 386 - زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت لبنان، ط:1، 1384 هـ.

387 - زاد المعاد في هدي خير العباد، محمد بن أبي بكر الزرعي بن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط:13، 1406 هـ. 388 - الزهر النضر في حال الخضر، لابن حجر العسقلاني، تحقيق صلاح الدين مقبول أحمد، مجمع البحوث الإسلامية، دلهي، الهند، ط:1، 1408 هـ. 389 - زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه، لعبد الرزاق العباد البدر، مكتبة دار القلم والكتاب، الرياض، ط:1،1416 هـ. 390 - زيارة القبور، لابن تيمية، نشر إدارة الطباعة والترجمة بالإفتاء، الرياض، ط:1،1410 هـ. 391 - سبل السلام شرح بلوغ المرام، لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، مطبعة صبيح، القاهرة. 392 - سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد - صلى الله عليه وسلم، لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي، تحقيق: المحقق مصطفى عبد الواحد - وآخرين، دار النشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بلد النشر القاهرة - مصر، 1418 هـ. 393 - السحر بين الحقيقة والخيال، د. أحمد بن ناصر الحمد، مكتبة التراث، مكة المكرمة، ط:1، 1408 هـ. 394 - السحر بين الماضي والحاضر، د. محمد بن إبراهيم الحمد، دار ابن خزيمة، الرياض، ط:1، 1429 هـ. 395 - السحر والشعوذة وخطورتهما على الفرد والمجتمع، للشيخ صالح الفوزان، عبارة عن محاضرة ألقاها معالي الشيخ، قام بتوثيقها تسجيلات التقوى الإسلامية بالرياض، طبعته مجالس الهدى للإنتاج والتوزيع، اعتنى به وأعده: أبو عبد الرحمن عادل بن علي الفريدان. 396 - سد الذرائع في مسائل العقيدة على ضوء الكتاب والسنة الصحيحة، د: عبد الله شاكر محمد الجنيدى، الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، مجلة الجامعة العدد (114) السنة الرابعة والثلاثون، 1422 هـ. 397 - سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:4، 1405 هـ. 398 - سلك الدرر وأعيان القرن الثاني عشر، لمحمد خليل المرادي، دار البشائر، بيروت، ط:1، 1408 هـ. 399 - السنة، لأحمد بن محمد الخلال، تحقيق: د. عطية الزهراني، دار الراية، الرياض، ط:1، 1410 هـ. 400 - السنة، لعبد الله بن أحمد بن حنبل، تحقيق: د. محمد بن سعيد القحطاني، رمادي للنشر، الدمام، ط:3، 1416 هـ. 401 - السنة، لعمرو بن أبي عاصم الشيباني، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:3، 1413 هـ. 402 - سنن ابن ماجه، لمحمد بن يزيد القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة. 403 - سنن أبي داوود، لسليمان بن الأشعث الجستاني، ت: د. عزت الدعاس وآخرين، دار الحدي، بيروت، ط:1، 1394 هـ. 404 - سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى الترمذي، تحقيق: أحمد شاكر، دار الفكر، بيروت 1408 هـ. 405 - سنن الكبرى، لأحمد بن الحسين البيهقي، دار المعرفة، بيروت، 1413 هـ. 406 - سنن الكبرى، لأحمد بن شعيب النسائي، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري، وسيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ط:1، 1411 هـ. 407 - سنن النسائي، لأحمد بن شعيب النسائي، ترقيم عبد الفتاح أبي غدة، دار البشائر، بيروت، ط:3، 1409 هـ. 408 - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، دار المعارف للطباعة والنشر بيروت لبنان. 409 - سير أعلام النبلاء، لمحمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط مع آخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط: 8، 1412 هـ. 410 - سيف الله على من كذب على أولياء الله، للشيخ صنع الله الحلبي، تقريظ: صالح بن فوزان الفوزان، تحقيق: علي رضا المدني، دار الكتاب والسنة، ط:1، 1407 هـ. 411 - شأن الدعاء، للخطابي، تحقيق: أحمد يوسف الدقاق، دار المأمون للتراث دمشق وبيروت، ط:1، 1404 هـ. 412 - شبهات حول السنة ورسالة الحكم بغير ما أنزل الله، للشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -، دار الفضيلة، ط:1، 1417 هـ. 413 - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، لمحمد بن محمد مخلوف، مصورة عن المطبعة السلفية، القاهرة، 1349 هـ.

414 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب،"لابن العماد" عبد الحي ابن أحمد بن محمد العكري الحنبلي، دار المسير بيروت لبنان، ط:2، 1399 هـ. 415 - شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة، لسعيد بن علي بن وهف القحطاني، راجعه الشيخ: د. عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين رحمه الله، دار ابن الحزم، ط:1، 2007 م. 416 - شرح أسماء الله الحسنى، لفخر الدين محمد بن عمر الرازي، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، ط:2، 1410 هـ. 417 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لهبة الله بن الحسن اللالكائي، تحقيق: د. أحمد سعد حمدان الغامدي، دار طيبة للنشر والتوزيع الرياض، ط:2، 1411 هـ. 418 - شرح الأصفهانية لابن تيمية، تحقيق: حسنين مخلوف، تصوير دار الكتب الحديثة بالقاهرة. 419 - شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار بن أحمد، حققه وقدم له: د. عبد الكريم عثمان، طبعة أم القرى للطباعة والنشر مصر، ط:2، 1408 هـ. 420 - شرح الزرقاني على موطأ مالك، دار المعرفة، بيروت، 1398 هـ. 421 - شرح السنة، للحسن بن علي البربهاري، تحقيق: خالد بن قاسم الردادي، دار السلف، الرياض، ط:3، 1421 هـ. 422 - شرح السنة، للحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: زهير الشاويش وشعيب الأرنؤوط، المكتب الإسلامي بيروت ودمشق، ط:2، 1403 هـ. 423 - شرح الصدور بتحريم رفع القبور، لمحمد بن علي الشوكاني، مطبوعات الجامعة الإسلامية، المدينة النبوية، 1395 هـ. 424 - شرح الصدور بشرح حال الموتى وأهل القبور، لجلال الدين السيوطي، قدم له وفهرسه: زهير شفيق الكبي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط:1، 1411 هـ. 425 - الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، لأبي البركات أحمد بن محمد بن أحمد الدردير العدوي، المعروف بمالك الصغير، دار المعارف، القاهرة، 1986 م. 426 - شرح العقيدة الأصفهانية، لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: حسنين محمد مخلوف، دار الكتب الإسلامية، مصر، وأخرى بتحقيق، د. محمد بن عودة السعوي، وهي رسالة دكتوراه مقدمة بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام، الرياض. 427 - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، تحقيق ومراجعة جماعة من العلماء، تخريج الألباني، طبعة المكتب الإسلامي، الطبعة التاسعة 1408 هـ. 428 - شرح العقيدة الطحاوية، للشيخ سفر بن عبدا لرحمن الحوالي، والكتاب موجود على موقع الشارح http://www.alhawali.com/. 429 - شرح العقيدة الطحاوية، لصالح آل الشيخ، مفرغة موجودة على برنامج المكتبة الشاملة. 430 - شرح العقيدة الطحاوية، للشيخ عبد العزيز الراجحي، مفرغة موجودة على برنامج المكتبة الشاملة. 431 - شرح العقيدة الواسطية، لعبد الله بن محمد الغنيمان، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، وموجودة على برنامج المكتبة الشاملة. 432 - شرح العقيدة الواسطية من تقريرات: سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، أخرجها وأعدها للطبع: د. عبد المحسن بن محمد بن قاسم (1/ 38). 433 - شرح العقيدة الواسطية، لابن عثيمين، دار الثريا، الرياض، ط:2، 1424 هـ. 434 - شرح العقيدة الواسطية، للشيخ صالح الفوزان، مكتبة المعارف، ط:5، 1410 هـ. 435 - شرح العقيدة الواسطية، للهراس، ضبطه نصه وخرج أحاديثه: علوي السقاف، دار الهجرة للنشر والتوزيع الرياض، ط:1، 1411 هـ. 436 - شرح الفتوى الحموية، د. حمد بن عبد المحسن بن أحمد التويجري، الكتاب في المكتبة الشاملة. 437 - شرح الكافية الشافية، لمحمد خليل هراس، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1406 هـ.

438 - شرح الكوكب المنير، لابن النجار الفتوحي، تحقيق: د. محمد الرحيلي وآخر، مركز البحث العلمي، دار إحياء التراث الإسلامي، 1400 هـ. 439 - شرح المقاصد، لمسعود بن عمر الشهير بسعد الدين التفتازاني، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، عالم الكتب، بيروت، ط:1، 1409 هـ. 440 - شرح المواقف، لعلي بن محمد الجرجاني، مطبعة السعادة، مصر، ط:1، 1325 هـ. 441 - الشرح الميسر لكتاب التوحيد، لعبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم، الكتاب موجود على المكتبة الشاملة. 442 - شرح الواسطية " توضيح مقاصد الواسطية "، للشيخ عبد الرحمن البراك، إعداد: عبد الرحمن بن صالح السديس، دار التدمرية، ط:2، 1430 هـ. 443 - شرح جوهرة التوحيد "تحفة المزيد"، للبيجوري برهان الدين إبراهيم بن حسن اللقاني، تحقيق: عبد العالي عياتو، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، ط:1، 2009 م. 444 - شرح حديث النزول، لابن تيمية، المكتب الإسلامي بيروت لبنان، ط:6، 1402 هـ. 445 - شرح دالية أبي الخطاب الكلوذاني، شرح: د. هاني بن عبد الله بن جبير، مكتبة الرشد، ط:1، 1431 هـ. 446 - شرح رسالة كتاب الإيمان، للإمام أبو عبيد القاسم بن سلام، شرحها: الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي في دورة علمية وهي مفرقة على المكتبة الشاملة. 447 - شرح صحيح البخاري، لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال البكري القرطبي، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، ط:2، 1423 هـ. 448 - شرح صحيح مسلم، للنووي، دار المعرفة، بيروت، ط:8، 1422 هـ. 449 - شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، للغنيمان، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية http://www.islamweb.net. 450 - شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، للشيخ عبد الله الغنيمان، مطبعة المدني بالقاهرة توزيع مكتبة الدار بالمدينة المنورة، ط:1، 1405 هـ. 451 - شرح كتاب لمعة الاعتقاد، د. عبد الرحمن المحمود، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية http://www.islamweb.net. 452 - شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، لمحمد بن صالح العثيمين، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان، ومكتبة الرشد بالرياض، ط:1، 1403 هـ. 453 - شرح منتهى الإرادات، لمنصور البهوتي، مطبعة أنصار السنة، مصر. 454 - الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، لابن بطة، تحقيق: رضا نعسان معطي، المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة. 455 - الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا، مكتبة الرشد، الرياض، ط:1، 1422 هـ. 456 - الشريعة، للآجري، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ط:1، 1403 هـ. 457 - شعب الإيمان، للبيهقي، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1410 هـ. 458 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض اليحصبي، دار الفكر بيروت لبنان. 459 - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم، تحقيق: عمر الحفيان، مكتبة العبيكان، الرياض، ط:1، 1420 هـ. 460 - الشفاعة عند أهل السنة والرد على المخالفين فيها، د. ناصر بن عبد الرحمن الجديع، دار أطلس، الرياض، ط:1، 1417 هـ. 461 - الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي حياته العلمية، وجهوده الدعوية، وآثاره الحميدة، لمحمد بن أحمد سيد أحمد، المكتب الإسلامي، ط:1، 1418 هـ. 462 - الشيخ حافظ بن أحمد حكمي، د. أحمد علوش، مكتبة، الرشد، الرياض، ط:2، 1995 م. 463 - الشيخ عبد القادر الجيلاني وآراؤه الاعتقادية، د. سعيد بن مسفر القحطاني، مؤسسة الجريسي، الرياض، ط:1، 1418 هـ.

464 - الشيعة في الميزان، لمحمد جواد مغنية، دار الجواد، ط:11، 1986 م. 465 - الشيعة وآل البيت، لإحسان إلاهي ظهير، مكتبة بيت السلام، الرياض، ط:1، 1429 هـ. 466 - الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لابن تيمية، حققه: محمد عبد الله الحلواني وآخر، دار رمادي للنشر، الدمام، ط:1، 1417 هـ. 467 - الصارم المنكي في الرد على السبكي، لمحمد بن أحمد بن عبد الهادي، تحقيق: عقيل المقطري، مؤسسة الريان، بيروت، ط:1، 1412 هـ. 468 - صب العذاب على من سب الأصحاب، لمحمود شكري الألوسي، تحقيق: عبد الله البخاري، دار أضواء السلف، الرياض، ط:1، 1417 هـ. 469 - الصحاح "تاج اللغة وصحاح العربية"، لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين بيروت لبنان، ط:2، 1399 هـ. 470 - الصحيح المسند من أسباب النزول، لأبي عبد الرحمن مقبل بن هادى الوادعي، مكتبة ابن تيمية، ط:4، القاهرة 1408 هـ. 471 - الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين، لأبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي، دار ابن حزم، بيروت، ط:1، 1411 هـ. 472 - صحيح ابن حبان، لمحمد بن حبان البستي، ترتيب: علي بن بلبان القارئ، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط:2، 1414 هـ. 473 - صحيح الأدب المفرد للبخاري، لمحمد ناصر الدين الألباني، دار الصديق، ط:1، 1421 هـ. 474 - صحيح البخاري، لمحمد إسماعيل البخاري، مراجعة: محمد علي قطب وآخرين، المكتبة العصرية، صيدا بيروت، ط:2، 1418 هـ. 475 - صحيح الجامع الصغير وزياداته، للألباني، أشرف على طباعته: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي بيروت، ط:2، 1406 هـ. 476 - صحيح مسلم، لمسلم بن الحجاج النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الإسلامية، إستانبول. 477 - صحيح وضعيف سنن أبي داود، للألباني، مكتب التربية العربي لدول الخليج، توزيع المكتب الإسلامي بيروت، ط:1، 1409 هـ. 478 - صريح السنة، للطبري، تحقيق: بدر معتوق، دار الخلفاء بالكويت، 1405 هـ. 479 - الصفات الإلهية تعريفها، أقسامها لمحمد بن خليفة بن علي التميمي (ص 65). 480 - الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه، للدكتور محمد أمان بن علي الجامي، مطابع الجامعة الإسلامية نشر المجلس العلمي، إحياء التراث الإسلامي بالجامعة، ط:1، 1408 هـ. تراجع 481 - صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة، لعلوي بن عبد القادر السقاف، دار الهجرة، ط:2، 1422 هـ. 482 - الصفدية، لابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، دار الفضيلة، الرياض، ط:1، 1421 هـ. 483 - الصواعق المحرقة في الرد على أهل الرفض والزندقة، لابن حجر الهيتمي، تحقيق: د. عبدالرحمن بن عبد الله التركي وكامل محمد الخراط، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ. 484 - الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية، لسليمان بن سحمان، تحقيق: عبد السلام آل عبد الكريم، دار العاصمة، الرياض، ط:1، 1409 هـ. 485 - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لمحمد بن أبي بكر بن القيم، تحقيق: د. علي الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض، ط:2، 1412 هـ. 486 - الصوفية" للشيخ د. سعيد بن مسفر القحطاني، رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى. 487 - الضعفاء الكبير، للعقيلي، حققه: د. عبد المعطي أمين قلعجي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ط:1، 1404 هـ. 488 - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، لمحمد السخاوي، دار الكتب الإسلامي، القاهرة. 489 - ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة، للدكتور عبد الله القرني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط:1، 1413 هـ.

490 - الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق، لسليمان بن سحمان، تحقيق: عبد السلام آل عبد الكريم، دار العاصمة، الرياض، ط:4، 1421 هـ. 491 - الطب النبوي، لابن القيم، تحقيق: عبد الغني عبد الخالق، دار الفكر، بيروت، الناشر مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر. 492 - طبقات ابن سعد الجزء المتمم، على موقع جامع الحديث http://www.alsunnah.com، وطبع باسم: "الطبقات الكبرى الطبقة الرابعة من الصحابة ممن أسلم عند فتح مكة وما بعد ذلك"، بتحقيق: د. عبد العزيز عبد الله السلومي، وصدر عن مكتبة الصديق، الطائف، 1416 هـ. 493 - طبقات الصوفية، لأبي عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، دار الكتب العلمية، 2003 م. 494 - طبقات الحفاظ للسيوطي، تحقيق: علي يحيى عمر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط:1، 1393 هـ. 495 - طبقات الحنابلة، لمحمد بن محمد بن أبي يعلى الفراء، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، مصر 1371 هـ. 496 - طبقات الشافعية الكبرى، لعبد الوهاب بن علي السبكي، تحقيق: عبد الفتاح الحلو وآخرين، دار إحياء الكتب العربية. 497 - الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد، دار صادر، بيروت. 498 - طبقات المفسرين، لأحمد بن محمد الأدنروي، تحقيق: سليمان بن صالح الخزي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط:1، 1997 م. 499 - طبقات النحويين واللغويين، لأبي بكر محمد بن الحسين الزبيدي الأندلسي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، القاهرة. 500 - طبقات فحول الشعراء، لمحمد بن سلام الجمحي، تحقيق: محمود شاكر، دار المدني، جدة. 501 - طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1423 هـ. 502 - في ظلال القرآن، لسيد قطب، دار الشروق، مصر، ط:35، 2005 م. 503 - عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة للدكتور عبد الكريم عبيدات، دار اشبيليا، الرياض، ط:2، 1419 هـ. 504 - العبر في خبر من غبر، للذهبي، تحقيق: محمد السيد بين بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1405 هـ. 505 - العبودية، لابن تيمية، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:5، 1359 هـ. 506 - عدالة الصحابة رضى الله عنهم في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ودفع الشبهات، لعماد الدين الشربيني، مدرس الحديث وعلومه بجامعة الأزهر، 1425 هـ. 507 - العرش وما روى فيه، لابن أبي شيبة محمد بن عثمان، تحقيق: محمد بن حمد الحمود، مكتبة المعلا، الكويت، ط:1، 1306 هـ. 508 - العرشية، لشيخ الإسلام، ضمن الفتاوى المجلد السادس. 509 - العظمة، لعبد الله بن محمد أبو الشيخ الأصبهاني، تحقيق: رضاء الله بن محمد المباركفوري، دار العاصمة، الرياض، ط:1، 1408 هـ. 510 - العقائد الإسلامية، لسيد سابق، تصوير دار الكتاب العربي، لبنان، 1406 هـ. 511 - العقد الفريد، لأحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، ضبطه وشرحه: أحمد أمين وأحمد الزين إبراهيم الأبياري، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط:2، 1381 هـ. 512 - العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، لمحمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي أبو عبد الله، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت. 513 - العقود الفضية في أصول الإباضية، لسالم بن حمد الحارثي الإباضي، طبعته وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان، ط:1، 1403 هـ. 514 - عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن، د. حمود التويجري، دار اللواء، ط:2، 1419 هـ. 515 - عقيدة السلف وأصحاب الحديث، لإسماعيل الصابوني، د. ناصر بن عبد الرحمن الجديع، دار العاصمة، الرياض، ط:1، 1406 هـ. 516 - العقيدة السلفية في كلام خير البرية، لعبدالله بن يوسف الجديع، دار الإمام مالك، دار الصميعي، الرياض، ط:2، 1416 هـ. 517 - عقيدة المسلم، للشيخ محمد بن جميل زينو، موجود على المكتبة الشاملة.

518 - العقيدة اليهودية وخطرها على الإنسانية، للدكتور سعد الدين السيد صالح، مكتبة الصحابة، جده، ط:2، 1416 هـ. 519 - عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام - رضي الله عنهم -، د. ناصر بن علي الشيخ، مكتبة الرشد، الرياض، ط:3، 1421 هـ. 520 - العقيدة في الله، د. عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان، الأردن، ط:10، 1415 هـ. 521 - العلم والبحث العلمي، لحسين عبد الحميد رشوان، المكتب الجامعي، الإسكندرية. 522 - علماء الدعوة، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، مطبعة المدني، مصر، 1386 هـ. 523 - علماء نجد خلال ثمانية قرون، للشيخ عبد الله البسام، دار العاصمة، الرياض، ط:2، 1419 هـ. 524 - العلمانية نشأتها وتطورها، للدكتور سفر الحوالي، موقع الشيخ الحوالي. 525 - علو الله على خلقه، لموسى الدويش، عالم الكتب، بيروت، ومكتبة العلوم والحكم، ط:1، 1407 هـ. 526 - العلو للعلي العظيم وإيضاح صحيح الأخبار من سقيمها، محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: عبد الله بن صالح البراك، دار الوطن، الرياض، ط:1، 1420 هـ. 527 - العلو للعلي الغفار، للذهبي، اعتنى به: أشرف بن عبد المقصود، مكتبة أضواء السلف، الرياض، ط:1، 1416 هـ. 528 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لمحمود بن أحمد العيني، دار إحياء التراث العربي. 529 - العهد القديم (إصحاح الفصل:4، فقرة: 5). 530 - العواصم والقواصم في الذب عن السنة لأبي القاسم، لمحمد بن إبراهيم بن الوزير، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط:2، 1412 هـ. 531 - عون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، ط:1، 1410 هـ. 532 - العين وأثر في عقائد أهل الأثر لعبد الباقي المواهبي الحنبلي، تحقيق: عصام رواس قلعجي، الناشر: دار المأمون للتراث، دمشق، ط:1، 1987 م. 533 - العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السمامرائيين مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط:1، 1408 هـ. 534 - عيون الأنباء في طبقات الأطباء لموفق الدين الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة، شرح وتحقيق: د. نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت. 535 - غاية الأماني في الرد على النبهاني، لمحمود شكري الألوسي، مكتبة العلم، جدة. 536 - غاية السول في خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لعمر بن علي بن الملقن، تحقيق: عبد الله بحر الدين عبد الله، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط:2 ن 1422 هـ. 537 - غاية المرام في علم الكلام، لعلي بن أبي علي الآمدي، تحقيق: حسن محمد عبد اللطيف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في جمهورية مصر العربية، 1391 هـ. 538 - غاية النهاية في طبقات القراء، لابن الجوزي، عني بنشره: برجستراسر، مطتبة الخانجي، مصر، طبعة مصورة عنها، ط:1، 1351 هـ. 539 - غريب الحديث، لإبراهيم الحربي، تحقيق: سليمان العايد، طبعة جامعة أم القرى، ط:1، 1405 هـ. 540 - غريب الحديث، لعبد الرحمن بن علي بن الجوزي، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية بيروت، ط:1، 1405 هـ. 541 - غريب الحديث، للخطابي، تحقيق: عبد الكريم إبراهيم الغرباوي، طبعة جامعة أم القرى، 1402 هـ. 542 - الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، لأبي الحسن عبد الرحيم بن محمد عثمان الخياط، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1925 م. 543 - مغني المحتاج، لمحمد الخطيب الشربيني، دار الفكر، بيروت. 544 - غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع، لأبي المكارم حمزة بن علي، المعروف بابن زهرة، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادري، نشر مؤسسة الإمام الصادق، ط:1، 1417 هـ. 545 - الغنية في أصول الدين، لعبد الرحمن النيسابوري، تحقيق: عماد الدين حيدر، مؤسسة الكتب، لبنان، ط:1، 1406 هـ.

546 - غياث الأمم في اجتياث "التياث- تراجع" الظلم، لأبي المعالي الجويني، تحقيق: د. مصطفى حلمي وآخر، دار الدعوة، الإسكندرية. 547 - الفائق في غريب الحديث، لمحمود بن عمر الزمخشري، دار الفكر، بيروت، ط:3، 1933 هـ. 548 - فتاوى ابن عثيمين، جمع وترتيب: فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، دار الوطن، ط: الأخيرة، 1413 هـ. 549 - الفتاوى الحديثية، لابن حجر الهيتمي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط:1، 1419 هـ. 550 - فتاوى السبكي، لعلي بن عبد الكافي السبكي، دار المعرفة، بيروت. 551 - الفتاوى السعدية، للشيخ عبد الرحمن السعدي، مكتبة المعارف، الرياض، ط:2، 1402 هـ. 552 - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب: محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرزاق الدويش، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية، الرياض، ط:3، 1419. 553 - فتاوى مهمة، لشيخ عبد العزيز بن باز ومحمد بن صالح العثيمين، دار العاصمة، الرياض، ط:1، 1413 هـ. 554 - فتاوى نور على الدرب، وهي عبارة عن أجوبة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، إعداد: د. عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار، والشيخ محمد بن موسى بن عبد الله الموسى، تحت إشراف رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، ط:1، 1420 هـ. 555 - فتاوى وأحكام في نبي الله عيسى أجاب عنها الشيخ عبد الله بن جبرين، جمع: على بن عبد الله العماري، بدون دار طبع، الطبعة الأولى 1420 هـ. 556 - الفتاوى والرسائل للشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، جمع وترتيب وتحقيق: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، المطبعة الحكومية، مكة المكرمة، ط:1، 1399 هـ. 557 - فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم، جمع وترتيب: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة، ط:1، 1399 هـ. 558 - فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، إعداد: وليد منسي والسعيد صابر، دار الفضيلة للنشر والتوزيع، ط:1، 1418 هـ. 559 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، تحقيق: عبد العزيز بن باز، وتصحيح: محب الدين الخطيب، وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، المطبعة السلفية، القاهرة، 1380 هـ. 560 - فتح القدير شرح الهداية، لكمال بن الهمام، تصوير دار الفكر بلبنان عن طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر. 561 - فتح القدير، لمحمد بن علي الشوكاني، طبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط:2، 1383 هـ. 562 - فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، طبعة رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، ط:4،1422 هـ. 563 - فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، تحقيق: د. الوليد الفريان، دار الصميعي، الرياض، ط:1، 1415 هـ. 564 - فتح المغيث شرح ألفية الحديث، السخاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1403 هـ. 565 - فتح رب البرية بتلخيص الحموية، لابن عثيمين، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط:4، 1410 هـ. 566 - فتوح الغيب، لعبد القادر الجيلاني، تحقيق: أب سهل، المقطم للنشر والتوزيع، ط:1، 2007 م. 567 - الفتوحات المكية، لابن عربي الطائي، تحقيق: د. عثمان يحي، وزارة الثقافية والإعلام بمصر، 1492 هـ. 568 - الفتوى الحموية، لابن تيمية، صمن مجموع الفتاوى، المجلد الخامس. 569 - فتوى في الخضر، لابن تيمية ضمن جامع الرسائل له، المجلد الخامس. 570 - فتياتنا بين التغريب والعفاف، د. ناصر العمر، دار الوطن، الرياض، ط:9، 1425 هـ. 571 - فجر الإسلام، لأحمد أمين، دار الشروق، ط:1، 2009 م. 572 - فرق الشيعة، للحسن بن موسى النوبتخي، دار الأضواء، ط:1، 1984 م.

573 - الفرق الكلامية المشبهة والأشاعرة والماتريدية، أ. د. ناصر العقل، دار الوطن، الرياض، ط:1، 1422 هـ. 574 - الفرق بين الفرق، لعبد القاهر البغدادي، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت. 575 - الفرقان بين الحق والباطل، لابن تيمية، ضمن مجموع الفتاوى. 576 - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لابن تيمية، تحقيق: عبد الرحمن اليحيى، دار طويق للنشر والتوزيع، الرياض، ط:1، 1414 هـ. 577 - الفروع، لمحمد بن مفلح المقدسي، راجعه: عبد الستار أحمد فراج، عالم الكتب، ط:4، 1405 هـ. 578 - الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة وآخر، دار الجيل، بيروت، 1405 هـ. 579 - فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت. 580 - فضل علم السلف على الخلف، لابن رجب الحنبلي، تحقيق: محمد العجمي، الدار السلفية الكويت، ط:1، 1406 هـ. 581 - الفقه الأكبر لأبي حنيفة، لأبي حنيفة، مطبوع مع شرحه لملا علي قاري الحنفي، دار الكتب العلمية، بيروت. 582 - الفكر الشرقي القديم، جون كولر، ترجمة كامل يوسف حسين، مراجعة الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط:1، 2001 م. 583 - الفكر اليوناني قبل أفلاطون، للدكتور حسين حرب، دار الفكر اللبناني، ط:1. 584 - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، لمحمد بن علي الشوكاني، تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:3، 1402 هـ. 585 - فوات الوفيات، لمحمد بن شاكر الكتبي، تحقيق: إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت. 586 - فيض القدير شرح الجامع الصغير، للعلامة محمد عبد الرؤوف المناوي، دار المعرفة، ط:2، 1391 هـ. 587 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، لابن تيمية، تحقيق: د. ربيع المدخلي، مكتبة لينة، مصر، ط:1، 1409 هـ. 588 - القاموس المحيط، لمحمد بن يعقوب الفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة بيروت، ط:2، 1407 هـ. 589 - قدم العالم وتسلسل الحوادث بين ابن تيمية والفلاسفة لكاملة الكواري، تقديم: سفر الحوالي، دار أسامة للنشر والتوزيع، الأردن، ط:1، 2001 م. 590 - القرامطة: أول حركة اشتراكية في الإسلام، لطه الولي، دار العلم للملايين، بيروت، ط:1، 1981 م. 591 - القرآن الكريم تاريخه وعلومه، د. محمد بن عبد الله المهدي البدري، دار القلم، دبي الإمارات العربية المتحدة، 1984 م. 592 - القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذهب الناس فيه للدكتور عبد الرحمن المحمود، دار الوطن، الرياض، ط:2، 1418 هـ. 593 - القضاء والقدر، للأشقر، دار النفائس، الكويت، ط:2، 1410 هـ. 594 - القضاء والقدر، لمحمد بن عمر الرازي، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، ط:1، 1410 هـ. 595 - قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، لصديق حسن خان، حققه: د. عاصم بن عبد الله القريوتي، طبع شركة الشرق الأوسط للطباعة. 596 - القواعد الحسان في تفسير القرآن، لابن سعدي مطبعة أنصار السنة المحمدية، القاهرة، 1366 هـ. 597 - القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، لابن عثيمين، تحقيق: أشرف بن عبد المقصود، أضواء السلف، الرياض، 1416 هـ. 598 - قواعد المنهج السلفي، لمصطفى حلمي، دار الدعوة، الإسكندرية، ط:2، 1405 هـ. 599 - القول الرشيد في أهم أنواع التوحيد، لسليمان بن ناصر بن عبد الله العلوان، موجود على المكتبة الشاملة. 600 - القول السديد شرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار الوطن، الرياض، 1412 هـ. 601 - القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد، أ. د. عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر، دار ابن عفان، الخبر، المملكة العربية السعودية، ط:1، 1417 هـ.

602 - القول السديد في مقاصد التوحيد، لابن سعدي، صمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ ابن سعدي، طباعة مركز ابن صالح الثقافي، عنيزة. 603 - القول المعين في مرتكزات معالجي الصرع والسحر والعين، لأسامة بن ياسين المعاني أبو البراء، دار العالي، ط:1، 1421 هـ. 604 - القول المفيد على كتاب التوحيد، لابن عثيمين، تحقيق: د. سليمان أبا الخيل وآخر، دار العاصمة، الرياض، ط:1، 1420 هـ. 605 - الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، لمحمد بن أحمد أبي عبد الله الذهبي الدمشقي، دار الكتب العلمية، ط:1، 1403 هـ. 606 - الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل، لعبد الله بن أحمد بن قدامة، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:4، 1405 هـ. 607 - الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (نونية ابن القيم) تحقيق: محمد بن عبدالرحمن العريفي، ناصر بن يحيى الحنيني، عبد الله بن عبدالرحمن الهذيل، فهد بن علي المساعد (1/ 184). 608 - الكامل في التاريخ، لعلي بن محمد بن الأثير الجزري، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط:1، 1404 هـ. 609 - الكامل في التاريخ، لابن الأثير، دار الكتاب العربي، بيروت، ط:4، 1403 هـ. 610 - الكامل، للأبي العباس محمد بن يزبد المبرد، منشورات دار الحكمة، دمشق. 611 - الكبائر، للذهبي، تحقيق: مشهور حسن سلمان، مكتبة المنار، الأردن، ط:1، 1408 هـ. 612 - كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، لمحمد بن عبد الوهاب، تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط، دار السلام، الرياض، 1413 هـ. 613 - كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب -عز وجل-، لمحمد بن إسحاق بن خزيمة، تحقيق: د. عبد العزيز الشهوان، مكتبة الرشد، الرياض، ط:2، 1411 هـ. 614 - كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية، لأبي حاتم الرازي، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، 1415 هـ. 615 - كتاب العلم، لابن عثيمين، دار الثريا للنشر، الرياض، ط:1، 1420 هـ. 616 - كشاف اصطلاح الفنون، لمحمد علي الفاروقي التهانوي، دار صادر، بيروت، لبنان. 617 - كشاف القناع على متن الإقناع، للبهوتي، مطبعة أنصار السنة المحمدية، القاهرة، 1366 هـ. 618 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، لمحمود بن عمر الزمخشري، دار المعرفة، بيروت. 619 - كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار، للشوكاني، مطبوع ضمن الفتح الرباني في فتاوى الشوكاني، مكتبة الجيل الجديد، اليمن. 620 - كشف الأوهام والالتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس، لسليمان بن سحمان، حقيق: عبد العزيز بن عبد الله الزير آل حمد، دار العاصمة، السعودية، ط:1، 1415 هـ. 621 - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل بن محمد العجلوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط:3، 1352 هـ. 622 - كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون، لمصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة، دار العلوم الحديثة. 623 - كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة، لابن رجب الحنبلي، تحقيق: محمد عبد العزيز، المكتبة القيّمة بالسودان، 1982 م. 624 - الكفاية في علم الرواية، لأحمد بن علي الخطيب البغدادي، دار ابن تيمية، القاهرة، 1410 هـ. 625 - الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي، تحقيق: أبو عبد الله السورقي, إبراهيم حمدي المدني، دار النشر: المكتبة العلمية، المدينة المنورة. 626 - الكلام المنتقى مما يتعلق بكلمة التقوى، لابن حجي الحنبلي، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، ط:1، 1995 م. 627 - الكلام على مسألة الاستواء على العرش لابن عبد الهادي، تحقيق: د. ناصر السلامة، دار الفلاح، مصر. 628 - الكليات "معجم في المصطلحات والفروق اللغوية"، لأيوب بن موسى الكفومي، تحقيق: عدنان درويش وآخر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط:2، 1419 هـ.

629 - كنز الراغبين شرح منهاج الطالبين، لمحمد بن أحمد المحلي، "مطبوع مع حاشية قليوبي وعميرة"، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1417 هـ. 630 - الكواشف الجلية عن معاني الواسطية لابن تيمية، لعبد العزيز السلمان، طبعة وقفية 17، 1410 هـ. 631 - الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية، لمرعي بن يوسف الكرمي، تحقيق: نجم عبد الرحمن خلف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1406 هـ. 632 - لباب التأويل في معاني التنزيل، لعلي بن محمد الخازن، طبع عيسى البابي الحلبي، القاهرة. 633 - اللباب في علوم القرآن لأبي حفص عمر بن علي الدمشقي الحنبلي، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1419 هـ. 634 - لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن منظور، دار صادر، بيروت، ط:2، 1414 هـ. 635 - لسان الميزان، لابن حجر، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط:2، 1390 هـ. 636 - لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، لابن رجب، مؤسسة الريان، دار ابن حزم، ط:2، 1417 هـ. 637 - لطائف المنن، لابن عطاء الله السكندري، تحقيق: خالد عبد الرحمن العك، دار البشائر للطباعة والنشر، ط:1، 2008 م. 638 - اللفظ المكرم بخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - المكرم، لمحمد الخضيري، تحقيق: محمد الأمين محمد الجكني، مطابع ابن تيمية، القاهرة، ط:1، 1405 هـ. 639 - لقاءات الباب المفتوح، وهي عبارة عن سلسلة لقاءات كان يعقدها فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: بمنزله كل خميس. ابتدأ الشيخ هذه اللقاءات في أواخر شوال تقريباً في العام (1412 هـ) وانتهت هذه السلسلة في الخميس الرابع عشر من شهر صفر، عام (1421 هـ). وهي مسجلة قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية. 640 - لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث، د. علي الوردي، مطبعة: أمير- قم، إيران، ط:1،1413 هـ. 641 - لمحات من تاريخ القران، لمحمد علي الأشقر، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط:1، 1988 م. 642 - لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، لابن قدامة، شرح: الشيخ ابن عثيمين، مكتبة المعارف، الرياض، ط:3، 1405 هـ. 643 - لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقدية الفرقة المرضية، لمحمد السفاريني الحنبلي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:3، 1411 هـ. 644 - مآثر الإنافة في معالم الخلافة، لأحمد القلقشندي، تحقيق: عبد الستار فراج، لبنان، ط:1. 645 - مباحث المفاضلة في العقيدة، د. محمد بن عبد الرحمن أبو يوسف الشظيفي، دار ابن عفان، الخبر، ط:1، 1419 هـ. 646 - مباحث في علوم القرآن، لمناع القطان، مؤسسة الرسالة، ط:8، 1401 هـ. 647 - متشابه القرآن، للقاضي عبد الجبار، تحقيق: عدنان محمد زرزور، دار التراث بالقاهرة، دار النصر للطباعة. 648 - المجلى في شرح "القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لابن عثيمين"، لكاملة الكواري، دار ابن حزم، بيروت، ط:1، 1422 هـ. 649 - المجموع الثمين، فتاوى الشيخ ابن عثيمين، جمع وترتيب: فهد السليمان، ط:3، 1411 هـ. 650 - مجموع الرسائل والمسائل النجدية لبعض علماء نجد الأعلام، دار العاصمة، الرياض، ط:2، 1412 هـ. 651 - المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث، لأبي موسى محمد بن أبي بكر المديني الأصفهاني، تحقيق: عبد الكريم الغرباوي، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، ط:1، 1406 هـ. 652 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، طبعة دار الفكر، بيروت، 1412 هـ. 653 - مجموع تفسير، ابن تيمية، من ست سور: الأعلى, والشمس, والليل, والعلق, والبينة, والكافرون, وهو مطبوع في مجلد واحد, جمعه وعلَّق عليه: عبد الصمد شرف الدين. وهذه قطعة يسيرة من تفسير شيخ الإسلام عثر عليها المعتني بها ونشرها, وهي برمَّتها موجودة في مجموع ابن قاسم.

654 - المجموع شرح المهذب، للنووي، حققه وأكمله: محمد نجيب المطيعي، مكتبة الإرشاد، جدة. 655 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن القاسم وابنه محمد، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، 1416 هـ. 656 - مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، جمع وترتيب: فهد السليمان، دار الثريا، الرياض، ط:2، 1414 هـ. 657 - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، للشيخ عبدالعزيز بن باز، جمع، د. محمد بن سعد الشويعر، تحت إشراف رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، ط:3، 1421 هـ. 658 - مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ط:2، 1423 هـ. 659 - مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي، عبارة عن أوراق بعضها مخطوط والبعض الآخر مطبوع، قمت بترتيبها وترقيمها. 660 - محبة الرسول بين الاتباع والابتداع، لعبد الرؤوف محمد عثمان، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إدارة الطبع والترجمة، الرياض، ط:1، 1414 هـ. 661 - محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، للرازي، وبذيله تلخيص المحصل للطوسي، راجعه: طه عبدالرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة. 662 - محصل أفكار المتقدمين، والمتأخرين من الحكماء والمتكلمين، للرازي، تحقيق: د. حسين أتاي، مكتبة التراث، القاهرة، مصر، ط:1، 1411 هـ. 663 - المحلى بالآثار، للإمام أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، تحقيق: د. عبد الغفار البندري، دار الفكر، بيروت. 664 - المحيط في اللغة، لأبي القاسم إسماعيل ابن عباد بن العباس بن أحمد بن إدريس لطلقاني، تحقيق: الشيخ محمد حسن آل ياسين، عالم الكتب، بيروت، ط:1، 1414 هـ. 665 - مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة لبنان، بيروت، 1986 م. 666 - مختصر الأسئلة والأجوبة على العقيدة الواسطية، لعبد العزيز السلمان، الناشر: غير معروف، الرياض، المملكة العربية السعودية، وقف لله تعالى، ط:10، 1410 هـ. 667 - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم، اختصره: محمد ابن الموصلي، تحقيق: سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة، ط:1، 1412 هـ. 668 - مختصر العقيدة الطحاوية، تعليق الألباني، مكتبة المعارف، الرياض. 669 - مختصر العلو للعلي الغفار، للذهبي، تحقيق واختصار، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت، ط:2، 1413 هـ. 670 - مختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية، اختصره: بدر الدين محمد بن علي البعلي، تحقيق: محمد حامد الفقي، ط:2، 1406 هـ. 671 - مختصر تاريخ الإباضية، لسليمان الباروني، مكتبة الاستقامة، تونس، ط:2. 672 - مختصر تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل، لعبد الله الزيد، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، ط:1، 1416 هـ. 673 - مختصر سيرة الرسول، لمحمد بن عبد الوهاب:، دار الفيحاء -دمشق، دار السلام- الرياض، ط:1، 1417 هـ. 674 - مختصر صحيح البخاري " التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح والمشهور بـ (مختصر الزبيدي) "، للزبيدي أبي محمد عبد الله بن سعد الأزدي الأندلسي، تحقيق: صلاح الدين الحمصي - محمد شادي عربش، دار المنهاج للنشر والتوزيعط:1، 2009 م. 675 - المخصص لأبي الحسن علي بن إسماعيل النحوي اللغوي الأندلسي المعروف بابن سيده، المكتب التجاري، بيروت. 676 - مدارج السالكين، لابن القيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الفكر، بيروت، 1412 هـ. 677 - مدخل إلى علوم القرآن والتفسير، لفاروق حمادة، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب، ط:1، 1399 هـ. 678 - المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية، د. إبراهيم البريكان، دار السنة في الخبر، ودار ابن عفان في القاهرة، ط:5، 1418 هـ. 679 - المدخل لدراسة القرآن الكريم، لمحمد أبو شيبة، القاهرة، الحديثة للطباعة، 1393 هـ.

680 - المدرسة السلفية وموقف رجالها من المنطق وعلم الكلام، لمحمّد عبد الستار نصار، دار الأنصار، ط:1، 1399 هـ. 681 - المدونة الكبرى، للإمام مالك بن أنس، رواية سحنون بن سعيد، دار صادر، بيروت. 682 - المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات وموقف المسلم منها، د. غالب بن علي عواجي، المكتبة العصرية الذهبية، جدة، ط:1، 1427 هـ. 683 - المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها، للدكتور عبد الرحمن عميرة، دار الجيل للطبع والنشر والتوزيع، ط:3، 1985 م. 684 - مذكرة التوحيد، للشيخ عبد الرزاق، دار الوطن للنشر، الرياض، ط:1، 1413 هـ. 685 - مذكرة في أصول الفقه على روضة الناظر، للشنقيطي، دار القلم، بيروت. 686 - مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والمعتقدات، لابن حزم، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط:2، 1400 هـ. 687 - مرشد المحتار إلى خصائص النبي المختار - صلى الله عليه وسلم -، لمحمد بن علي بن طولون الدمشقي، تحقيق: د. بهاء محمد الشاهد، مكتبة الإمام الشافعي. 688 - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، لعلي بن سلطان القاري، المطبعة الميمنية. 689 - مسائل الإيمان، لأبي يعلى، تحقيق: سعود الخلف، دار العاصمة، الرياض، 1410 هـ. 690 - مسائل الجاهلية، لمحمد بن عبد الوهاب، تحقيق: محمود شكري الألوسي، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1396 هـ. 691 - المسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد للدكتور عبد الرحمن بن عبد الله التركي، رسالة جامعية لنيل درجة الدكتوراه في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض. 692 - المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة، لعبد الإله بن سلمان الأحمدي، دار طيبة، الرياض، ط:1، 1412 هـ. 693 - المسايرة، لابن الهمام، وعليها حاشية ابن قطلوبغا، مطبعة بولاق، ط:1، 1317 هـ. 694 - المستدرك على الصحيحين، للحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1411 هـ. 695 - المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع: محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ط:1، 1418 هـ. 696 - المستصفى في علم الأصول، لأبي حامد الغزالي، تحقيق: محمد التركي، دار هجر، مصر، ط:1، 1419 هـ. 697 - مسلك القرآن الكريم في إثبات البعث، لعلي بن محمد الفقيهي، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، السنة الثالثة عشر - العدد (50 - 51) ربيع الآخر - رمضان 1401 هـ. 698 - مسند الإمام أحمد، تحقيق وشرح: أحمد شاكر، دار المعارف، مصر، ط:4، 1373 هـ، وأخرى بتحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط:2، 1420 هـ. 699 - مسند الشاميين، للطبراني، تحقيق: حمدي السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1409 هـ. 700 - المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني، القاهرة. 701 - مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي، دار التراث، طباعة المكتبة العتيقة. 702 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، لأحمد الفيُّومي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1414 هـ. 703 - مصرع التصوف، لبرهان الدين البقاعي، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، عباس أحمد الباز، مكة المكرمة، 1400 هـ. 704 - المصنف، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:2، 1403 هـ. 705 - المصنف، لعبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقديم وضبط: كمال يوسف الحوت، دار التاج بيروت، ط:1، 1409 هـ. 706 - مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية، لإدريس محمود إدريس، مكتبة الرشد، الرياض، ط:1، 1419 هـ. 707 - مع الله في صفاته وأسمائه الحسنى، لحسن أيوب، دار القلم، كويت، ط:4، 1974 م. 708 - معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، للحافظ بن أحمد حكمي، تحقيق: عمر بن محمود أبي عمر، دار ابن القيم، المملكة العربية السعودية، الدمام، ط:2، 1413 هـ.

709 - معالم أصول الدين، للرازي، تحقيق: طه عبد الرؤوف، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة. 710 - معالم السنن شرح سنن أبي داود، لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي، عناية: الأستاذ: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1416 هـ. 711 - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار، لبدر الدين العيني، تحقيق: ياسر بن إبراهيم أبو تميم، الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - قطر، ط:1، 1429 هـ. 712 - المعتزلة، وأصولهم الخمسة، وموقف أهل السنة منها د. عواد بن عبد الله المعتق، مكتبة الرشد، الرياض، ط:2، 1416 هـ. 713 - معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات، د. محمد خليفة التميمي، أضواء السلف، ط:1، 1419 هـ. 714 - المعتمد في أصول الدين، للقاضي أبي يعلى، تحقق: وديع حداد، دار المشرق، بيروت. 715 - معجزة القرآن، للشيخ متولي الشعراوي، إدارة الكتب والمكتبات، طبع 1993 م. 716 - معجم الأدباء، لياقوت الحموي، دار الفكر، ط:3، 1400 هـ. 717 - معجم البدع، لرائد صبري، دار العاصمة، الرياض، ط:1، 1417 هـ. 718 - معجم البلدان، لياقوت الحموي، دار الكتاب العربي، بيروت. 719 - معجم ألفاظ العقيدة لأبي عبد الله عامر عبد الله فالح، مكتبة العبيكان، ط:2، 1420 هـ. 720 - المعجم الفلسفي، لجميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1978 م. 721 - المعجم الكبير، لسليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: حمدي السلفي، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالعراق، ط:2. 722 - معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط:1، 1414 هـ. 723 - معجم المناهي اللفظية، لبكر بن عبد الله أبو زيد، دار العاصمة، الرياض، ط:2. 724 - المعجم الوسيط لعدة مؤلفين لإبراهيم مصطفى وآخرين، عن: مجمع اللغة العربية، المكتبة الإسلامية. 725 - معجم ما ألف عن الصحابة وأمهات المؤمنين وآل البيت، لمحمد بن إبراهيم الشيباني، منشورات مركز المخطوطات والتراث والوثائق، الكويت، ط:1، 1414 هـ. 726 - معجم ما ألف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، د. صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط:1، 1415 هـ. 727 - معجم مفردات القرآن الكريم، للراغب الأصفهاني، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، ط:1، 2008 م. 728 - معجم مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس، تحقيق: د. شهاب الدين أبي عمرو، دار الفكر، بيروت، ط:1، 1415 هـ. 729 - المعلم بفوائد مسلم، للمازري، تحقيق: محمد الشاذلي النفير، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط:2، 1387 هـ. 730 - المغرب في ترتيب المعرب، للمطرزي، تحقيق: محمود فاخوري، وعبد الحميد مختار، مكتبة أسامة بن زيد، حلب، ط:1، 1399 هـ. 731 - المغني في أبواب العدل والتوحيد، للقاضي عبد الجبار، تحقيق: أحمد الأهوائي وآخرين، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر. 732 - المغني لابن قدامة (1/ 526)،. 733 - مفتاح الجنة لا إله إلا الله، لمحمد سلطان المعصومي الحنفي، تحقيق علي حسن الحلبي، المكتبة الإسلامية، الأردن، ط:1، 1408 هـ. 734 - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، لابن القيم، تحقيق: علي بن حسن عبد الحميد الحلبي، دار ابن عفان الخبر، المملكة العربية السعودية، ط:1، 1416 هـ. 735 - مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، 1392 هـ. 736 - المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات، د. محمد بن عبد الرحمن المغراوي، دار المنار، الخرج، المملكة العربية السعودية. 737 - المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود (10/ 491). 738 - المفصل في شرح آية لا إكراه في الدين، جمع وإعداد، علي بن نايف الشحود (3/ 54). 739 - المفهم لما أشكل من تخليص مسلم، للقرطبي، تحقيق: محي الدين مستو وآخرين، دار الكلم، دمشق، ط:1، 1417 هـ.

740 - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، لأبي حسن الأشعري، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، 1411 هـ. 741 - مقالات في علم القرآن وأصول التفسير، لمساعد الطيار، دار المحدث، الرياض، ط:1، 1425 هـ. 742 - المقالات والفرق، لسعد بن عبد الله الأشعري القمي، مطبعة حيدري، طهران، 1963 م. 743 - مقدمات، لابن رشد، تحقيق: حمدي الدمرداش محمد، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، ط:1، 2007 م. 744 - مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، لابن الصلاح عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398 هـ، نشر وتوزيع دار الباز بمكة المكرمة. 745 - مقدمة ابن خلدون، لعبد الرحمن بن خلدون، دار القلم، بيروت، ط:5، 1984 م. 746 - المقدمة الزهراء في إيضاح الإمامة الكبرى، للذهبي، تحقيق: طلعت الحلوني، دار ابن عباس، مصر، ط:1، 1424 هـ. 747 - المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، لمحمد بن محمد الغزالي أبو حامد، طبع بعناية: بسام الجابي، الجفان والجاني للطباعة والنشر، ط:1، 1407 هـ. 748 - المقنع في علوم الحديث، لعمر بن علي بن الملقن، تحقيق: عبد الله بن يوسف الجديع، دار فواز، الإحساء، ط:1، 1413 هـ. 749 - المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف، موسوعة فقهية كبرى، تحقيق: د. عبد الله التركي، هجر للطباعة والنشر، ط:1، 1414 هـ. 750 - الملخص في شرح كتاب التوحيد، للشيخ صالح بن فوزان، دار العاصمة، الرياض، ط:1، 1422 هـ. 751 - الملل والنحل، لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، ط:3. 752 - الملل والنحل، لأبي منصور عبد القادر بن طاهر البغدادي، تحقيق: ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت. 753 - الممتع في شرح المقنع، للتنوخي، تحقيق: د. عبد الملك بن دهيش، دار خضر للطباعة والنشر، ط:1، 1418 هـ. 754 - من أخلاق الرسول الكريم، لعبد المحسن بن حمد العباد البدر، طيبة الدمشقية للطباعة والنشر، ط:1، 2006 م. 755 - من لطائف التعبير القرآني حول سير الأنبياء والمرسلين، آدم ونوح وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام، لفؤاد سندي، مكة المكرمة، ط:1، 1424 هـ. 756 - من مفاهيم عقيدة السلف الصالح الولاء والبراء في الإسلام لمحمد سعيد القحطاني، تقديم فضيلة الشيخ/ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -، دار طيبة، الرياض، ط:12، 1427 هـ. 757 - المنار المنيف في الصحيح والضعيف، لابن القيم، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط:1، 1390 هـ. 758 - مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي، تحقيق: معالي د. عبد الله التركي، وعلي محمد عمر، مكتبة الخانجي بمصر، ط:1، 1399 هـ. 759 - مناقب معروف الكرخي وأخباره لابن الجوزي، تحيقيق: د. عبد الله الجبوري، ط: الأولى، 1406 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت. 760 - مناهل العرفان في علوم القرآن، لمحمد عبد العظيم الزرقاني، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، القاهرة. 761 - المنتقى من فتاوى الفوزان، الكتاب موجود على برنامج المكتبة الشاملة. 762 - المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال وهو مختصر منهاج السنة لابن تيمية للذهبي، تحقيق: محب الدين الخطيب. 763 - منتهى الإرادات، للفتوحي، مع حاشية النجدي، تحقيق، د. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط:1، 1419 هـ. 764 - المنح المكية في شرح الهمزية، للهيثمي، تحقيق: بسام محمد بارود، المجمع الثقافي، أبو ظبي، ط:1، 1418 هـ. 765 - منطق ابن تيمية ومنهجه الفكري، د. محمد حسني الزين، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:1، 1399 هـ. 766 - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس، لعبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، دار الهداية، الرياض، ط:2، 1407 هـ. 767 - منهاج السنة النبوية لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط:1، 1406 هـ. 768 - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، للنووي، دار المعرفة، بيروت، ط:8، 1422 هـ.

769 - المنهاج في شعب الإيمان، للحسين بن الحسن الحليمي، تحقيق: حلمي محمود فودة، دار الفكر، ط:1، 1399 هـ. 770 - منهج ابن تيمية في مسألة التكفير، لعبد المجيد بن سالم بن عبد الله المشعبي، أضواء السلف، الرياض، ط:1، 1418 هـ. 771 - منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، لعثمان بن عليّ حسن، مكتبة الرشد، الرياض، ط:2، 1413 هـ. 772 - منهج الأشاعرة في العقيدة د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي، الدار السلفية، الجزائر، ط:1، 1990 م. 773 - منهج الإمام ابن أبي العز الحنفي وآراؤه في العقيدة من خلال شرحه للطحاوية، لعبد الله الحافي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط:1، 1424 هـ. 774 - منهج الإمام ابن الصلاح في تقرير العقيدة والرد على المخالفين عرض ودراسة، لعبد الله أحمد الغامدي، رسالة ماجستير في قسم العقيدة المذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1424 - 1425 هـ. 775 - منهج البحث العلمي عند العرب، لجلال محمد عبد الحميد موسى، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، ط:1، 1972 م. 776 - منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، للشيخ فهد الرومي، دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع، ط:1، 1998 م. 777 - منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير عقيدة التوحيد، لإبراهيم البريكان، دار ابن القيم- الرياض، دار ابن عفان-القاهرة، ط:1، 1425 هـ. 778 - منهج علماء الحديث والسنة وأصول الدين، د. مصطفى حلمي، دار الدعوة، الاسكندرية. 779 - الموافقات في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشاطبي، شرحه الشيخ: عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1411 هـ. 780 - المواقف في علم الكلام، لمفيد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، عالم الكتب، بيروت. 781 - المواهب السرمدية في مناقب النقشبندية، لمحمد أمين الكردي النقشبندي، تحقيق: لجنة التراث بالمكتبة، الناشر المكتبة الأزهرية للتراث، ط:1، 2005 م. 782 - الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة (ص 103)، للشيخين د. ناصر القفاري، أ. د. ناصر العقل، دار الصميعي للنشر والتوزيع، ط:1، 1413 هـ. 783 - موسوعة الدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جمعها وقدم لها ورتبها الباحث في القرآن والسنة: علي بن نايف الشحود، موجودة على المكتبة الشاملة. 784 - الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، للدكتور مانع الجهني نشر الندوة العالمية، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، الرياض، ط:5، 1424 هـ. 785 - الموطأ الإمام مالك، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مصطفى، البابي الحلبي، القاهرة. 786 - موقف ابن تيمية من الأشاعرة، للدكتور عبد الرحمن المحمود، مكتبة الرشد، الرياض، ط:1، 1416 هـ. 787 - موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة عرضاً ونقداً، د. سليمان الغصن، دار العاصمة، الرياض، ط:1، 1416 هـ. 788 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، تحقيق: علي محمد معوض وآخرين، دار الكتب العلمية، ط:1، 1416 هـ. 789 - ميزان العمل، لأبي حامد الغزالي، تحقيق: سليمان سليم البواب، دار الحكمة، دمشق، بيروت، 1407 هـ. 790 - الناصرية في قفص الاتهام، لعبد المتعال الجبري، الناصرية وثنية سياسية، د. فهمي الشناوي. 791 - النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن، د. عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، ط:6، 1405 هـ. 792 - النبوات، لابن تيمية، تحقيق: د. عبد العزيز الطويان، أضواء السلف، الرياض، ط:1، 1420 هـ. 793 - نجاة الخلف في اعتقاد السلف، لعثمان النجدي، تحقيق: علي حسن عبد الحميد، ط:1، 2002 م. 794 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، لأبي المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1413 هـ. 795 - نزهة النظر شرح نخبة الفكر، لابن حجر، تحقيق: علي حسن الحلبي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط:1، 1412 هـ. 796 - نشر المحاسن الغالية في فضل المشايخ الصوفية أصحاب المقامات العالية، لعبد الله بن أسعد اليافعي، ط:1، 1381 هـ.

797 - نظرية التكليف آراء القاضي عبد الجبار الكلامية، لعبد الكريم عثمان، مؤسسة الرسالة 1391 هـ. 798 - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي برهان الدين أبو الحسن، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، ط:1، 2006 م. 799 - نظم المتناثر من الحديث المتواتر، للكتاني، دار الكتب السلفية، القاهرة، ط:2. 800 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، لأحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق: د. إحسان عباس، دار صادر، 1388 هـ. 801 - النفي في أبواب صفات الله عز وجل بين أهل السنة والجماعة والمعطلة، لأزرقي سعيداني، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط:1، 1426 هـ. 802 - نقد القومية العربية للشيخ ابن باز: والكتاب موجود بكاملة في فتاويه؛ والمكتب الإسلامي، بيروت، 1384 هـ. 803 - نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد الدارمي على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد، تحقيق: د. رشيد بن حسن الألمعي، مكتبة الرشد، ط:1، 1418 هـ. 804 - نهاية الإقدام في علم الكلام، لعبد الكريم الشهرستاني، تحقيق: ألفراد جيوم، مكتبة الثقافة الدينية. 805 - نهاية المحتاج في شرح المنهاج، لمحمد بن أحمد بن شهاب الدين الرملي، طباعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1386 هـ. 806 - النهاية في الملاحم والفتن، لابن كثيرن تحقيق: طه الزيني، دار الكتب الحديثة، مصر، ط:1. 807 - النهاية في غريب الأثر، لأبي السعادات الجزري، تحقيق: محمد حلبي وخليل شيحا، دار المعارف، بيروت، ط:1، 1419 هـ. 808 - النهاية في غريب الأثر للجزري، تحقيق: د. محمود الطناحي وطاهر الزاوي، المكتبة العلمية، بيروت، 1399 هـ. 809 - النهاية في غريب الحديث والأثر، لمجد الدين المبارك بن محمد بن الأثير، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، وآخرين، دار الفكر، بيروت. 810 - النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، لمحمد بن حمد الحمود، مكتبة الإمام الذهبي، الكويت، ط:7، 1426 هـ. 811 - النهضة الإصلاحية في جنوب المملكة العربية السعودية، لعمر أحمد المدخلي، 1416 هـ. 812 - نواسخ القرآن، لابن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1405 هـ. 813 - نواقض الإيمان الاعتقادية، للدكتور محمد الوهيبي، دار المسلم، الرياض، ط:1، 1416 هـ. 814 - نواقض الإيمان القولية والعملية، للدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف، دار الوطن، الرياض، ط:1، 1414 هـ. 815 - نواقض توحيد الأسماء والصفات، أ. د. ناصر القفاري، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط:1، 1419 هـ. 816 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، لمحمد بن علي الشوكاني، دار التراث، القاهرة. 817 - هداية الحيارى في الرد اليهود والنصارى، لابن القيم، مصطفى أبو النصر الشلبي، مكتبة السوادي، جدة، ط:1، 1408 هـ. 818 - هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، لإسماعيل باشا البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، مصورة عن طبعة إسطنبول سنة 1951 م. 819 - هذه هي الصوفية، لعبد الرحمن الوكيل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:4. 820 - الوافي بالوفيات، للصفدي، عناية: رمزي بعلبكي، دار النشر فانز شتايز، شتوتغارت، ط:2، 1411 هـ. 821 - واقعنا المعاصر، لمحمد قطب، مؤسسة المدينة للصحافة، جدة، ط:1، 1407 هـ. 822 - الوحي المحمدي، لمحمد رشيد رضا، المكتب الإسلامي، ط:9، 1399 هـ. 823 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لأبي العباس أحمد بن خلكان، تحقيق: د. يوسف علي الطويل، ومريم قاسم الطويل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1419 هـ. 824 - وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم لعبد العزيز الجليل، دار طيبة، الرياض، ط:3، 1422 هـ. 825 - اليهودية، للدكتور أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط:7، 1984 م. 826 - اليوم الآخر في ظلال القرآن، د. أحمد فايز الحمصي، الشركة المتحدة للنشر والتوزيع، ط:2، 2000 م.

المجلات والتسجيلات والكتب الأجنبية: 827 - العالم الرباني والمصلح المجاهد محاضر ألقاها فضيلة الشيخ أ. د. عبد الرحمن السديس مفرغة في كتاب العلامة عبد الرزاق عفيفي. 828 - مجلة الأزهر: المجلد 7/ ص 45. 829 - مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، (37/ 204). 830 - مجلة الحكمة: العدد الثاني (ص 19). 831 - مجلة الدعوة: العدد (1463) بتاريخ 15/ 5/1415 هـ الموافق 20 أكتوبر 1994 م. 832 - مجلة المعرفة: العدد (162). 833 - Oxford ADVANCED LEARNERS Dictionary 7 th adition مواقع الشبكة العنكبوتية: 834 - ملتقى أهل التفسير www.tafsir.net 835 - المجلس العلمي majles.alukah.net 836 - شبكة روض الرياحين cb.rayaheen.net 837 - موقع الشاعر إبراهيم بركات ismaeilborik.blogspot.com 838 - موقع الشيخ سفر الحوالي www.alhawali.com 839 - موقع معهد آفاق التيسير الإلكتروني www.afaqattaiseer.com 840 - شبكة سحاب السلفية www.sahab.net 841 - ملتقى أهل السنة والجماعة www.sd-sunnah.com 842 - ويكيبيديا الموسوعة الحرة ar.wikipedia.org 843 - إسلام ويب www.islamweb.net 844 - موقع الشبكة الإسلامية www.islamweb.net 845 - موقع الشيخ عبد العزيز الراجحي www.sh-rajhi.com 846 - ملتقى أهل الحديث www.ahlalhdeeth.com

§1/1