منهج الإمام الطاهر بن عاشور في التفسير

نبيل أحمد صقر

مقدمة

مقدمة: الراسخ فى العلم بعيد عن التكلف والتعنت فليس بينه وبين الحق حاجب الإمام ابن عاشور

يسعى هذا الكتاب إلى دراسة" منهج الإمام محمد الطاهر بن عاشور فى تفسيره المسمى التحرير والتنوير" وقد صدّره بمقدمات تعين القارئ والدارس على فهم الكثير من القضايا المتصلة بعلوم القرآن الكريم، وقد حدّد ابن عاشور فى هذه المقدمات وسائل التفسير التى أقام عليها منهجه سواء التفسير بالرواية أم التفسير بالدراية فيما ذكره من أقوال وما أبداه من آراء وما استعرضه من روايات. وجرى تقسيم هذا الكتاب على أربعة أبواب وخاتمة. الباب الأول: ابن عاشور ومصادر الكتاب: ودار الحديث فيه حول ترجمة حياة ابن عاشور بقدر ما أتيح من مصادر، وكان الاعتماد الأول فى ذلك على ما جاء فى المقدمة التى تصدرت التحرير والتنوير، وعلى ما وجدناه من عبارات تلقى بعض الضوء على سيرته الذاتية وما تولاه من مناصب قضائية وعلمية، وما انعكس فى كتابه هذا من تنظيم، وما اتخذه من مواقف وآراء فى المجالات المختلفة، كذا دار الحديث حول بواعث تأليف هذا التفسير والمصادر التى اعتمد عليها، وهى كثيرة متنوعة، فأتينا ببعض الأمثلة من كل نوع على سبيل تعريف القارئ وتقدير الجهد المبذول من قبل صاحب التفسير، حتى أننا اعتبرنا أن تعدد المصادر وكثرتها على النحو الذى رأيناه وموقفه من كتب التراث من مقومات منهج التفسير عنده. الباب الثانى: منهج الطاهر بن عاشور فى التفسير بالرواية: وكان الحديث فيه أولا حول خطته فى تفسير السور، ثم تحديد

مقومات منهجه فى تفسير الآيات، حيث أتينا بأمثلة متفرقة من التحرير والتنوير تحت كل عنوان، وقد كانت هناك ضرورة لا بدّ منها فى نقل بعض النصوص المطولة حيث لا تتم الفائدة منها إلا على هذا النحو، ومن ثم رصد عناصرها وتحليلها. الباب الثالث: منهج الطاهر بن عاشور فى التفسير بالدراية: وقد تم فى هذا الباب توضيح معنى التفسير بالرأى عنده، والأدوات التى استعان بها، حيث لم ينفصل التفسير بالرواية عن التفسير بالدراية، وإنما كانت الآية عنده وحدة واحدة يستعين بما يراه مناسبا فى سبيل تفسيرها. الباب الرابع: موقف الطاهر بن عاشور من المذاهب الاعتقادية: ودار الحديث فيه حول هذا الموقف، وقد وجدنا فى صفحات كثيرة من" التحرير والتنوير" مناقشات عديدة واعية لأشهر المذاهب الاعتقادية المعروفة فى التاريخ الإسلامى، وما يتصل بذلك من قضايا التأويل والتشريع، وقد خلت هذه المناقشات من كل تعصب أو تسرع فى إصدار الأحكام، كما كانت مناقشات ابن عاشور لكل القضايا التى طرحها فى تفسيره مالكا فيها أدوات الناقد البصير أمام كتب التراث الإسلامى، حتى يمكن القول أن محاولة تصفية جانب كبير من هذا التراث من شوائب كثيرة علقت به قد تمت فى هذا التفسير بنجاح لا يمكن إنكاره. وفى الخاتمة: أهم ما توصل إليه الكتاب من نتائج. ومن الله العون والسداد

الباب الأول ابن عاشور ومصادره تفسيره

الباب الأول ابن عاشور ومصادره تفسيره

ابن عاشور: 1296 - 1393 هـ، 1879 - 1973 م:

ابن عاشور: 1296 - 1393 هـ، 1879 - 1973 م: لم يكتب ابن عاشور ترجمة ذاتية لحياته- على ما نعرف- ولم يؤرخ له أحد من المؤرخين المعاصرين، وليس هناك إلا القليل كتب فى بعض الدوريات أو المجلات التونسية عنه، والتى استمد منها صاحب" الأعلام" خير الدين الزركلى أبرز ملامح حياة الرجل وبعض أنشطته الثقافية (¬1). وخلاصة ما ذكره الزركلى فى هذا الصدد: - محمد الطاهر بن عاشور رئيس المفتيين المالكيين وشيخ جامع الزيتونة وفروعه بتونس. - عين سنة 1932 م شيخا للإسلام مالكيا. - وهو من أعضاء المجمعين العربيين فى دمشق والقاهرة. - له مصنفات مطبوعة من أشهرها: 1 - مقاصد الشريعة الإسلامية. 2 - أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام. 3 - التحرير والتنوير فى تفسير القرآن صدر منه عشرة أجزاء. 4 - الوقف وآثاره فى الإسلام (¬2). 5 - أصول الإنشاء والخطابة. 6 - تحقيق ونشر" ديوان بشار بن برد" 4 أجزاء ¬

_ (¬1) عنوان الأديب 2: 122، والمنتخب المدرسى 137، ومجلة الهداية الإسلامية 2: 29، وشجرة النور: 392، ومعجم المطبوعات 156. (¬2) وذكر صاحب الأعلام فى ترجمة" عبد الله بن عبد الرحمن الأصبهانى" أديب له تصانيف، منها" إيضاح المشكل لشعر المتنبى- خ" ... منه نسخة فى المكتبة الأحمدية بتونس، حققها الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور وطبعت فى الدار التونسية". خير الدين الزركلى، ج 4، ص 96، دار العلم للملايين، ط. 10، 1992 م.

- وهو والد محمد الفاضل (¬1). - البيئة التى نشأ فيها الطاهر بن عاشور كانت تتمتع بإمكانات ثقافية عالية خصوصا فيما يتعلق بأصول الدين وفروعه، والفقه ومذاهبه، واللغة والأدب والبلاغة والتاريخ والفلسفة وغير ذلك من العلوم. ونستدل على ذلك بما يلى: - جعل صاحب التحرير والتنوير بعض أقوال" ابن عاشور الجد الوزير" (¬2) من مصادره فى تفسير بعض الأقوال أو القضايا الواردة فى هذا التفسير، مما يعنى أن لهذا الجد ثقافة دينية واسعة تجعل حفيده يستظهرها ويسجل ما يحتاج إليه منها. - تدرجه فى مناصب القضاء (¬3)، وما يستلزمه ذلك من التمرس بعلوم الفقه وقضاياه، والأحكام التنفيذية ومشاكلها الميدانية، ووصوله إلى الإفتاء وشياخة جامع الزيتونة، ثم تعيينه شيخا للإسلام على المذهب المالكى من الأدلة الواضحة على مبلغ ما يتمتع به من علم، وما كسبه من مهارات. - تمكنه من فنون العربية جعله واحدا من العلماء المبرزين الذين اعترفت بهم المؤسسات الثقافية العالية المستوى كمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجمع اللغة العربية بدمشق. - تنوع اتجاهات التأليف عنده فيما سبق ذكره من كتب. ¬

_ (¬1) الأعلام قاموس تراجم، ج 6، ص 174. (¬2) انظر: التحرير والتنوير، ج 16، ص 79، الدار التونسية للنشر، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، 1984 م. (¬3) أسندت إليه خطة القضاء فى 26 رجب 1341 هـ. ذكر ذلك ابن عاشور فى هامش التمهيد، ج 1، ص 6.

الكتاب وبواعث تأليفه:

- تعدد المصادر وكثرتها واختلافها والقضايا الفقهية واللغوية والفلسفية والبلاغية التى تعرض لها فى تفسيره، ونبذه لمبالغات بعض المفسرين ونقده للمذاهب المختلفة بروح الإنصاف والاعتدال والمحاولات الواعية للإقناع. - المنهج الذى سار عليه تفسيره، ومقومات هذا المنهج دليل على عقلية منظمة مجددة بعيدة عن التقليد. - تواضعه فى نفسه حين عرض بواعث تأليف التحرير والتنوير كما سنرى بعد قليل. - امتداد هذه المسيرة إلى ابنه محمد الفاضل الذى تخرج من المعهد الزيتونى وأصبح أستاذا فيه، ثم عميدا له، ثم شغل خطة القضاء فى تونس، ثم منصب مفتى الجمهورية، ثم أصبح عضوا فى المجمع اللغوى بالقاهرة، وعضوا فعالا فى رابطة العالم الإسلامى بمكة، ومن أشهر مؤلفاته: - أعلام الفكر الإسلامى فى تاريخ المغرب العربى. - الحركة الأدبية والفكرية فى تونس. - أركان الحياة العلمية بتونس. - أركان النهضة الأدبية بتونس. - التفسير ورجاله. وقد عاش محمد الفاضل" ت 1970 م" فى حياة أبيه مسترشدا بتوجيهه معتمدا على مكتبته الحافلة (¬1). الكتاب وبواعث تأليفه: طبع هذا الكتاب على مراحل عدة، المرحلة الأولى تم فيها طبع الجزء ¬

_ (¬1) انظر الأعلام، ج 6، ص 325.

الأول منه سنة" 1384 هـ- 1964 م" والثانى سنة" 1384 هـ- 1965 م" وهو ينتهى بتفسير الآية" 252" من سورة البقرة، وتولى الطبع والنشر فى هذه المرحلة السيد عيسى البابى الحلبى- القاهرة (¬1). والمرحلة الثانية تحدث عنها صاحب الأعلام فى ترجمة ابن عاشور ... " طبع منه عشر أجزاء" (¬2). والمرحلة الثالثة تولت طبعه، الدار التونسية للنشر مستقلة مرة، وبالاشتراك مع" الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان- طرابلس- ليبيا" مرة أخرى، وتم فى هذه المرحلة طبع الكتاب كله فى ثلاثين جزءا فى خمسة عشر مجلدا. أما عن بواعث تأليف الكتاب فيقول ابن عاشور فى تمهيده لهذا التفسير: «كان أكبر أمنيتى منذ زمن بعيد، تفسير الكتاب المجيد، الجامع لمصالح الدنيا والدين، وموثق شديد العرى من الحق المتين، والحاوى لكليات العلوم ومعاقد استنباطها، والآخذ قوس البلاغة من محل نياطها، طمعا فى بيان نكت من العلم وكليات من التشريع، وتفاصيل من مكارم الأخلاق، كان يلوح أنموذج من جميعها فى خلال تدبره، أو مطالعة كلام مفسره» (¬3). ويقول عن المرحلة التى سبقت تفسير الكتاب، ومحاولة تجنبه متاعب فوق طاقة من يتعرض لتفسير الكتاب الكريم. ¬

_ (¬1) انظر الدكتور إبراهيم عبد الله رفيدة، النحو وكتب التفسير، ج 2، ص 26، 1، ط 2، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان- طرابلس، الجماهيرية الليبية الشعبية، 1984 م. (¬2) الأعلام، ج 6، ص 174. (¬3) محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ص 5، ج 1، الدار التونسية للنشر. الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان.

«ولكن كنت على كلفتى بذلك أتجهم التقحم على هذا المجال، وأحجم عن الزج بسية قوسى فى هذا النضال، اتقاء ما عسى أن يعرض له المرء نفسه من متاعب تنوء بالقوة، أو فلتأت سهام الفهم وإن ساعد الذهن كمال الفتوة» (¬1). ويتابع وصفه لهذه المرحلة وتأجيله تحقيق رغبة نفسه فى إنجاز مثل هذا العمل، والعقبات التى تحول بينه وبين هذا التحقيق إلى أن فتح الله عليه: «فبقيت أسوّف النفس مرة ومرة أسومها زجرا، فإن رأيت منها تصميما أحلتها على فرصة أخرى، وأنا آمل أن أمنح من التيسير، وما يشجع على قصد هذا الغرض العسير، وفيما أنا بين إقدام وإحجام، أتخيل هذا الحقل مرة القتاد وأخرى الثمام، إذا أنا بأملى قد خيل إلىّ أنه تباعد أو انقضى، إذ قدّر أن تسند إلىّ خطة القضا، فبقيت متلهفا ولات حين مناص، وأضمرت تحقيق هاته الأمنية متى أجمل الله الخلاص، وكنت أحادث بذلك الأصحاب والإخوان، وأضرب المثل بأبى الوليد بن رشد فى كتاب البيان، ولم أزل كلما مضت مدة يزداد التمنى وأرجو إنجازه، إلى أن أوشك أن تمضى عليه مدة الحيازة، فإذا الله قد منّ بالنقلة إلى خطة الفتيا. وأصبحت الهمة مصروفة إلى ما تنصرف إليه الهمم العليا، فتحول إلى الرجاء ذلك اليأس، وطمعت أن أكون ممن أوتى الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها الناس، هنالك عقدت العزم على تحقيق ما كنت أضمرته، واستعنت بالله تعالى واستخرته، وعلمت أن ما يهول من توقع كلل أو غلط، لا ينبغى أن يحول بينى وبين نسج هذا النمط، إذا بذلت الوسع فى الاجتهاد، وتوخيت طرق الصواب والسداد» (¬2). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ص 5، ج 1. (¬2) التحرير والتنوير، ص 6، ج 1.

وعند ما استقرت خواطره، واطمأن قلبه، وهدأت الأحوال من حوله، ووضح الهدف، وبان السبيل أمامه قال: «أقدمت على هذا المهم إقدام الشجاع على وادى السباع، متوسطا فى معترك أنظار الناظرين، وزائر بين ضباح الزائرين» (¬1). فجعلت حقا علىّ أن أبدى فى هذا التفسير للقرآن نكتا لم أر من سبقنى إليها، وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارة لها وآونة عليها، فإن الاقتصار على الحديث المعاد، تعطيل لفيض القرآن الذى ماله من نفاذ» (¬2). وأياما كانت تحمل هذه الفقرة من ثقة ونوازع نفسية، نراه يقول فى نهاية هذا التمهيد: «وقد ميّزت ما يفتح الله لى من فهم فى معانى كتابه وما أجليه من المسائل العلمية، مما لا يذكره المفسرون، وإنما حسبى فى ذلك عدم عثورى عليه فيما بين يدىّ من التفاسير فى تلك الآية خاصة، وليست أدعى انفرادى به فى نفس الأمر، فكم من كلام تنشئه تجدك قد سبقك إليه متكلم، وكم من فهم تستظهره وقد تقدّمك إليه متفهم» (¬3). وقد صدّر الكتاب بمقدمات عشر لكل منها عنوان على النحو التالى: - فى التفسير والتأويل وكون التفسير علما. - فى استمداد علم التفسير. - فى صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأى ونحوه. ¬

_ (¬1) الزائرين هنا اسم فاعل من زأر بهمزة بعد الزاى، وهو الذى مصدره الزئير، وهو صوت الأسد قال عنترة: حلّت بأرض لزائرين فأصبحت ... عسرا على طلأبك انبه محزم (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 6، 7. (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 7، 8.

- فيما يحق أن يكون غرض المفسر. - فى أسباب النزول. - فى القراءات. - قصص القرآن. - فى اسم القرآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها. - فى أن المعانى التى تتحملها جمل القرآن، تعتبر مرادة بها. - فى إعجاز القرآن. وهى مقدمات تساعد إلى حد كبير فى تحديد مقومات منهجه فى التفسير والاسترشاد بها فى دراسة هذا المنهج وتوضيح أسسه ومراميه، فضلا عما تحويه من فائدة وآراء حافلة. والحق أن قارئ هذا التفسير يشعر بمدى ما يتمتع به صاحبه من قدرة على التهذيب والتحليل والاختيار والتعليل، ومدى ما يسّره من توضيح كثير من المشكلات، وما بذله من جهد فى عرض قضايا الإعجاز القرآنى وغيرها من القضايا. والحق أيضا أن ما وفره ابن عاشور لتفسيره من تنوع فى المصادر واختلافها، وما اكتسبه من علوم وفنون وتجارب، وما تمتع به من مواهب، وتأنيه قبل الشروع فى تأليف هذا الكتاب، وحواره الدائم مع نفسه وتردده قبل البدء فيه، ثم وضوح أهدافه من هذا الكتاب الذى أطلق عليه فى أول الأمر" تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد" كل ذلك وغيره جعل للكتاب قيمة علمية تضاف إلى جهود العلماء الأفاضل الذين تفخر بهم المكتبة الإسلامية.

مصادر الكتاب:

مصادر الكتاب: أولا: كتب التفسير: 1 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشرى الخوارزمى" ت 538 هـ" (¬1). 2 - المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز أبو محمد عبد الحق بن عطية الغرناطى الأندلسى" ت 542 هـ" (¬2). 3 - مفاتيح الغيب أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن على الرازى الملقب بفخر الدين" ت 727 هـ" (¬3). 4 - روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى شهاب الدين، السيد محمود أفندى الآلوسي" ت 1270 هـ" (¬4). 5 - الكشف والبيان فى تفسير القرآن أبو إسحق أحمد بن إبراهيم الثعلبى النيسابورى" ت 724 هـ" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر الدكتور مصطفى الصاوى الجوينى، منهج الزمخشرى فى التفسير، دار المعارف، القاهرة، والدكتور محمد حسين الذهبى، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 429، دار القلم، بيروت- لبنان. وانظر محمد الفاضل بن عاشور، التفسير ورجاله، ص 77، دار الكتب الشرقية، ط 2، 1972 م، تونس. (¬2) انظر: التفسير والمفسرون، ج 1، ص 239، والتفسير ورجاله، ص 67. (¬3) انظر: التفسير والمفسرون، ج 1، ص 290، والتفسير ورجاله، ص 97. (¬4) انظر: التفسير والمفسرون، ج 1، ص 351، والتفسير ورجاله، ص 197. (¬5) انظر معجم الأدباء، ج 5، ص 36، ووفيات الأعيان، ج 1، ص 22، والتفسير والمفسرون، ج 1، ص 228.

6 - أنوار التنزيل والسرور التأويل عبد الله بن محمد بن على البيضاوى" ت 691 هـ" (¬1). 7 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى العمارى" ت 982 هـ" (¬2). 8 - الجامع لأحكام القرآن أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى" ت 671 هـ" (¬3). 9 - تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسى من تقييد تلميذه الآبى" ت 803 هـ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر التفسير والمفسرون، ج 1، ص 296، والتفسير ورجاله، ص 129، وطبقات المفسرين للداودى، ص 102، وطبقات الشافعية، ج 5، ص 59. (¬2) انظر التفسير والمفسرون، ج 1، ص 344، التفسير ورجاله، ص 159، وكشف الظنون، ج 1، ص 67. (¬3) انظر ترجمته: طبقات المفسرين للسيوطى، ص 28، وطبقات الداودى، ج 2، ص 65، والتفسير والمفسرون، ج 1، ص 123. (¬4) يقول الفاضل بن عاشور فى" التفسير ورجاله" ص 154، 155. «وكان ابن عرفة- فى تفسيره- يسلك مسلك الجمع والتحليل والإملاء فتتلى الآية أو الآيات بين يديه، ثم يأخذ معناها بتحليل التركيب وإيراد كلام أئمة اللغة أو النحو على معانى المفردات ومفاد التراكيب منشدا على ذلك الشواهد وموردا الأمثال والأحاديث، ويهتم بالتخريج والتأويل حتى تتفتح دلالة الآية مستقيمة على المعنى الذى يتعلق به، ويرد ما عسى أن يكون قد وقع من تخريج بعيد أو تأويل غير مقبول بتطبيق القواعد اللغوية والنكت البلاغية أو بإثارة ما يتعلق بالمفاد من مباحث أصلية ترجع إلى أصول الدين أو أصول الفقه جاعلا عمدته فى هذه المباحث تفسير ابن عطية وتفسير الكشاف، فيعتبر كلام ابن عطية حاصلا بين أيدى مستمعيه ليسايره أو يرده. ويورد كلام الزمخشرى كلما تعلق قصده بإيراده لنقل أو استدلال أو دحض، ويكثر إيراد الآراء والمذاهب عن العلماء فى كل مسألة يحسبها من أئمة المذاهب أو المتكلمين أو رجال الأصول لا سيما أصحابه الأدنون فى طريقته النظرية مثل عز الدين بن عبد السلام والإمام الرازى والقاضى عياض والقاضى ابن العربى والإمام المازرى»

10 - جامع البيان فى تفسير القرآن محمد بن جرير بن كثير بن غالب الطبرى" ت 310 هـ" (¬1). 11 - كتاب درة التنزيل المنسوب لفخر الرازى، وربما ينسب للراغب الأصفهانى (¬2). 12 - أحكام القرآن أبو بكر أحمد بن على الرازى الجصاص" ت 370 هـ" (¬3). 13 - البرهان فى علوم القرآن بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى" ت 794 هـ" (¬4). 14 - تفسير أبى القاسم الحسين بن على الشهير بالمغربى البويهى" بغداد"" ت 418 هـ" (¬5). 15 - معالم التنزيل أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوى" ت 510 هـ" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر التفسير ورجاله، ص 45، والتفسير والمفسرون، ج 1، ص 207، ووفيات الأعيان، ج 1، ص 232، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكى، ج 2، ص 138، ومعجم الأدباء، ج 18، ص 40 وما بعدها. وانظر: الإمام الطبرى، دكتور فتحى الدرينى، دراسات وبحوث فى الفكر الإسلامى المعاصر، المجلد الأول، ص 163، [معالم المنهج العلمى فى تفسير الإمام الطبرى]، دار قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت- دمشق، ص 1، 1408 هـ- 1988 م. (¬2) انظر بغية الوعاة للسيوطى، ص 295. وانظر تفسير البحر المحيط، ج 1، ص 9. (¬3) انظر وفيات الأعيان، ج 2، ص 265،- كشف الظنون، ج 2، ص 299. (¬4) انظر ترجمته: حسن المحاضرة فى أخبار مصر، القاهرة، للسيوطى، ج 1، ص 185، 186، المطبعة الشرقية، سنة 1327 هـ، والدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة لابن حجر، ج 3، ص 997 - 398، طبع حيدرآباد، 1349 هـ وشذرات الذهب فى أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلى، ج 6، ص 335. (¬5) انظر التحرير والتنوير، ج 3، ص 111. (¬6) انظر ترجمته فى طبقات المفسرين للسيوطى، ص 13، ووفيات الأعيان، ج 1، ص 145، والطبقات الكبرى، ج 4، ص 214.

16 - تفسير القرآن العظيم عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمرو بن كثير" ت 774 هـ" (¬1) 17 - تفسير شمس الدين محمود بن عبد الرحمن الأصفهانى الشافعى" ت 749 هـ" (¬2). 18 - حواشى عبد الحكيم السيالكوتي، وشهاب الدين الخفاجى التى سماها" عناية القاضى وكفاية الراضى، على البيضاوى، والطيبى، والرازى، والشيرازى، والسعد والتفتازاني، والسيد الجرجانى، والقزوينى على الكشاف، وحاشية محمد الهندانى على الكشاف المسماة" توضيح الكشاف" بخط مؤلفها (¬3). 19 - مجمع البيان فى تفسير القرآن أبو على الفضل بن الحسن الطبرسى" ت 548 هـ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: ترجمته فى الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة، ج 1، ص 373، فى طبقات المفسرين للداودى، ص 37. وانظر: التفسير والمفسرون، ج 1، ص 243. (¬2) هو محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الأصفهانى، جمع فى تفسيره بين الكشاف ومفاتيح الغيب، وهو مخطوط بالمكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة بتونس. انظر: التحرير والتنوير، ج 1، ص 89، وانظر الأعلام للزركلى، ج 7، ص 176. (¬3) انظر التحرير والتنوير، الكتاب الأول، ج 1، ص 19، 107، 131، 243، 259، ج 2، ص 15، 89. وانظر التفسير ورجاله، ص 145 - 146. (¬4) انظر محسن الأمين العاملى، أعيان الشيقة، ص 279، ج 42، حققه حسن الأمين، مطبعة الإنصاف، بيروت- لبنان. وانظر آقابزرك الطهرانى، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ص 231، ج 4، دار الأضواء، بيروت- لبنان.

ثانيا: كتب الحديث النبوى:

20 - معانى القرآن أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء" ت 207 هـ" (¬1). 21 - تفسير القرآن الحكيم المشتهر" بتفسير المنار" الشيخ محمد رشيد رضا" ت 1953 م" (¬2). 22 - تفسير الشيخ محمد عبده" ت 1905 م" (¬3). ثانيا: كتب الحديث النبوى: 1 - الجامع الصحيح" صحيح البخارى" لأبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى"" 194 - 256 هـ". 2 - صحيح مسلم" مسلم بن الحجاج القشيرى النيسابورى"" 206 - 261 هـ". 3 - سنن أبى داود" سليمان بن الأشمخ السجستانى"" 202 - 275 هـ". 4 - سنن الترمذى" محمد بن عيسى الترمذى"" 200 - 275 هـ". 5 - سنن النسائى" لأبى عبد الرحمن أحمد بن شعيب"" 215 - 302 هـ". 6 - سنن ابن ماجة" لأبى عبد الله محمد بن يزيد القزوينى المعروف بابن ماجة"" 207 - 274 هـ". ¬

_ (¬1) انظر: مراتب النحويين، أبو الطيب اللغوى، ص 86، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. وانظر: طبقات الزبيدى، ص 143. (¬2) محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين البغدادى الأصل، الحسينى النسب، صاحب مجلة المنار وأحد رجال الإصلاح الإسلامى، لازم الشيخ محمد عبده وتتلمذ له، أشهر آثاره مجلة المنار، أصدر منها 34 مجلدا، وتفسير القرآن الكريم، انظر الأعلام للزركلى، ج 6، ص 126. (¬3) محمد عبده بن حسن خير الله من آل التركمانى، مفتى الديار المصرية (1317 هـ)، ومن كبار رجال الإصلاح والتجديد، له تفسير القرآن الكريم، طبعه ولم يتمه، ورسالة التوحيد، وشرح نهج البلاغة. انظر الأعلام للزركلى، ج 6، ص 181.

ثالثا: مصادر الفقه:

7 - الموطأ" أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحى"" 95 - 179 هـ" (¬1). 8 - المسند" أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيبانى"" 164 - 241 هـ". 9 - شعب الإيمان" البيهقى هو أحمد بن الحسن بن على (أبو بكر) " ت 458 هـ" صاحب كتاب السنن الكبرى- ودلائل النبوة. 10 - كتب الإلزامات" الدار قطنى" أبو الحسن على بن عمر بن أحمد ابن مهدى المشهور بالدار قطنى، نسبة إلى دار القطن ببغداد، أمير المؤمنين فى الحديث صاحب السنن" ت 385 هـ". فضلا عن كتب الحديث لابن مردويه، والبزار، وعبد بن حميد، والديلمى، وابن مندة، وأبى نعيم الأصبهانى، وابن عساكر، وأبى بكر الآجرى، وابن حبان. ومن كتب شروح الأحاديث فتح البارى فى شرح صحيح البخارى لابن حجر العسقلانى، والعينى فى شرح صحيح البخارى، والمعلم على صحيح مسلم، وتحفة الأحوذى بشرح جامع الترمذى لأبى يعلى محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفورى، والمستدرك على الصحيحين لمحمد بن عبد الله الحاكم (¬2). ثالثا: مصادر الفقه: 1 - بصائر ذوى التمييز مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادى" ت 817 هـ". ¬

_ (¬1) وللموطأ روايات عديدة أشهرها رواية يحيى المصمودى" ت 234 هـ- 848 م" وهى الرواية الأكثر شيوعا وانتشارا، ثم رواية محمد بن الحسن الشيبانى"" ت 189 هـ" وانظر وفيات الأعيان، لابن خلكان، ج 6، ص 143. (¬2) انظر: طبقات السبكى، ووفيات الأعيان، وتاريخ بغداد، ولسان الميزان، وتذكرة الحفاظ.

2 - الذخيرة أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافى" ت 682 - 1285 م". 3 - المحلى على بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهرى" ت 456 هـ". 4 - مجموع الرسائل والمسائل تقى الدين أحمد بن تيمية الحرانى" ت 728 هـ". 5 - رسائل فى علم أصول الفقه محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان شافع" الشافعى"" ت 204 هـ". 6 - الموافقات فى أصول الفقه أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطى المالكى" الشاطبى"" ت 790 هـ". 7 - العارضة أبو بكر بن عربى محمد بن عبد الله بن محمد المعافرى" الإشبيلي المالكى"" ت 543 هـ". 8 - أقوال ابن خويزمنداذ" من أئمة المالكية" من أهل أواخر القرن الرابع الهجرى. 9 - أقوال الشيخ ابن عاشور" الجد". 10 - الكليات أبو البقاء الكفوى" أيوب بن موسى الحسينى القريمي الكفوى"" ت 1093 هـ". 11 - آداب النكاح قاسم بن يأمون الأخماسى 12 - البيان والتحصيل الوليد محمد بن أحمد بن رشد" ت 520 هـ"

رابعا: مصادر النحو:

13 - الشرح والتوجيه والتعليل فى مسائل المستخرجة وضمنه" المستخرجة من الأسمعية" المعروفة بالعتبية" محمد العتبى" ت 255 هـ". رابعا: مصادر النحو: أ- مدرسة البصرة: 1 - أبو عمرو بن العلاء" ت 154 هـ" (¬1). 2 - الخليل بن أحمد الفراهيدى البصرى" ت 175 هـ" (¬2). 3 - عمرو بن عثمان بن قنبر" سيبويه" ت 180 هـ" (¬3). 4 - محمد بن المقنبر" قطرب"" ت 206 هـ" (¬4). 5 - الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة" ت 211 هـ" (¬5). 6 - محمد بن يزيد الأزدى" المبرد"" ت 247 هـ" (¬6). 7 - أبو إسحاق إبراهيم بن السرى بن سهل" الزجاج"" ت 310 هـ" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر ترجمته: معجم الأدباء، ج 11، ص 48، والفهرست، ص 48، بغية الوعاة للسيوطى، ص 367، ط 1326 هـ، القاهرة. (¬2) انظر ترجمته: معجم الأدباء، ج 1، ص 72، ووفيات الأعيان فى" الخليل" وإنباه الرواة، وطبقات القراء لابن الجوزى، ج 1، ص 275. (¬3) انظر ترجمته: مقدمة تهذيب اللغة للأزهرى، الفهرست، ص 82، تاريخ بغداد، ج 12، ص 195، ومعجم الأدباء، ج 16، ص 114، ووفيات الأعيان فى" عمرو"، إنباه الرواة، ج 2، ص 346. (¬4) انظر ترجمته: الفهرست، ص 84، معجم الأدباء، ج 19، ص 52، ووفيات الأعيان فى" محمد"، وتهذيب اللغة للأزهرى، ج 1، ص 11، وتاريخ بغداد، ج 3، ص 298، وبغية الوعاة، ص 104. (¬5) انظر ترجمته: الفهرست لابن النديم، ص 83، ومعجم الأدباء، ج 11، ص 224، وابن خلكان فى" سعيد" وإنباه الرواة، ج 2، ص 36، وبغية الوعاة، ص 258. (¬6) انظر ترجمته: الفهرست، ص 93، تاريخ بغداد، ج 3، ص 380، وفيات الأعيان فى" محمد بن يزيد"، ومعجم الأدباء، ج 19، ص 111، إنباه الرواة، ج 3، ص 241، وبغية الوعاة، ص 116. (¬7) انظر ترجمته: وفيات الأعيان فى" إبراهيم" وتاريخ بغداد، ج 6، ص 89، ومقدمة تهذيب اللغة والفهرست، ص 96، ومعجم الأدباء، ج 1، ص 130، وبغية الوعاة، ص 179.

ب - مدرسة الكوفة:

ب- مدرسة الكوفة: 1 - يحيى بن زياد بن عبد الله" الفراء"" ت 207 هـ" (¬1). 2 - أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنبارى" ت 328 هـ" (¬2). ج- مدرسة بغداد: 1 - أبو على الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسى" ت 377 هـ" (¬3). 2 - أبو الفتح عثمان بن جنى الموصلى" ت 392 هـ" (¬4). 3 - يعيش بن على بن يعيش بن أبى السرايا" ت 643 هـ" (¬5). د- مدرسة الأندلس: 1 - محمد بن عبد الله الإشبيلي (¬6). 2 - جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك" ت 646 هـ" (¬7). 3 - أبو الحسين على بن إسماعيل الأندلسى المعروف بابن سيده" ت 458 هـ". ¬

_ (¬1) انظر ترجمته: الفهرست، ص 104، تاريخ بغداد، ج 14، ص 149، وفيات الأعيان فى" يحيى"، ومعجم الأدباء، ج 20، ص 9، وبغية الوعاة، ص 411. (¬2) انظر ترجمته: الفهرست، ص 75، معجم الأدباء، ج 18، ص 306، وإنباه الرواة، ج 3، ص 201، وتاريخ بغداد، ج 3، ص 181، ووفيات الأعيان، ج 6، ص 176، وبغية الوعاة، ص 91. (¬3) انظر ترجمته: تاريخ بغداد، ج 7، ص 275، إنباه الرواة، ج 1، ص 273، وبغية الوعاة، ص 216. (¬4) انظر ترجمته: يتيمة الدهر للثعالبى، ج 1، ص 89، تاريخ بغداد، ج 11، ص 311، معجم الأدباء، ج 12، ص 81، إنباه الرواة، ج 2، ص 335، ووفيات الأعيان، ج 1، ص 313. (¬5) انظر ترجمته: وفيات الأعيان، ج 7، ص 46، وبغية الوعاة، ص 419. (¬6) جاء فى هامش تفسير التحرير والتنوير، ج 1، الكتاب الأول، ص 343" ابن العلج أحد نحاة الأندلس، قل من يعرف اسمه، ولم يترحم له فى البغية، وهو محمد بن عبد الله الإشبيلي له كتاب البسيط فى النحو. (¬7) انظر ترجمته: طبقات الشافعية للسبكى، ج 5، ص 28، وبغية الوعاة، ص 53، والنجوم الزاهرة، ج 7، ص 243.

هـ - المدرسة المصرية:

هـ- المدرسة المصرية: 1 - جمال الدين عثمان بن عمر بن أبى بكر" ابن الحاجب"" ت 646 هـ" (¬1). 2 - جمال الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد بن هشام الأنصارى" ت 761 هـ" (¬2). 3 - جلال الدين عبد الرحمن السيوطى" ت 911" (¬3). خامسا: مصادر الشعر: أ- أصحاب القصائد التسع المشهورات: امرؤ القيس (¬4)، عنترة العبسى (¬5)، لبيد بن ربيعة العامرى (¬6)، النابغة الذبيانى (¬7)، زهير بن أبى سلمى (¬8)، عمر بن كلثوم (¬9)، ¬

_ (¬1) انظر ترجمته: طبقات القراء للجزرى، ج 1، ص 508، وطبقات القراء للذهبى، وتاريخ ابن كثير، ج 13، ص 176، وبغية الوعاة، ص 323. (¬2) انظر ترجمته: الدرر الكامنة لابن حجر، ج 7، ص 308، وبغية الوعاة، ص 293، وفى دائرة المعارف الإسلامية، ج 1، ص 295. (¬3) انظر ترجمته" السيوطى": ترجمته لنفسه فى حسن المحاضرة، ج 1، ص 188، وذيل الطبقات الكبرى للشعرانى، ص 4. وانظر: تقرير الإسناد فى تفسير الاجتهاد للسيوطى، تحقيق الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد، ص 11 وما بعدها، دار الدعوة، الإسكندرية، 1983 م. (¬4) انظر ترجمته: طبقات الشعراء، ص 43، الشعر والشعراء، ج 1، ص 105، الأغانى، ج 9، ص 76، شرح شواهد المغنى، ص 21، خزانة الأدب، ج 1، ص 160، ت سنة 80 قبل الهجرة. (¬5) انظر ترجمته: الشعر والشعراء، ج 1، ص 270، الأغانى، ج 8، ص 235، شرح شواهد المغنى، ج 1، ص 481، ت 600 أو 615 للميلاد. (¬6) صحابى أدرك الجاهلية والإسلام، ت 41 هـ أو 60 هـ. انظر ترجمته: الشعر والشعراء، ج 1، ص 274، الأغانى، ج 15، ص 291، شرح شواهد المغنى، ص 152، خزانة الأدب، ج 1، ص 337. (¬7) واسمه زياد بن عمرو بن معاوية، ت 28 قبل الهجرة، انظر ترجمته: الشعر والشعراء، ج 1، ص 157، الأغانى، ج 11، ص 33، شرح شواهد المغنى، ج 1، ص 78، خزانة الأدب، ج 1، ص 287. (¬8) انظر ترجمته: طبقات فحول الشعراء، ص 43، الشعر والشعراء، ج 1، ص 137، الأغانى، ج 1، ص 298، شرح شواهد المغنى، ج 1، ص 131، خزانة الأدب، ج 1، ص 375، ت 631 م. (¬9) واسمه ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن سعد، وكان عالما بأنساب العرب وأخبارها وترجمته فى الشعر والشعراء، ج 1، ص 257، الأغانى، ج 9، ص 104، شرح شواهد المغنى، ص 240، وتوفى سنة 7 هـ.

ب - من الشعراء الأوائل:

الأعشى (¬1)، طرفة بن العبد (¬2)، الحارث بن حلزة (¬3). ب- من الشعراء الأوائل: عبدة بن الطيب (¬4)، والمتلمس (¬5)، وحاتم بن عبد الله الطائى (¬6)، علقمة بن عبدة (¬7)، الحطيئة (¬8)، العباس بن مرداس (¬9)، أبو الطمحان القينى (¬10)، أمية بن أبى الصلت (¬11)، عمرو بن معد يكرب (¬12)، زياد بن الأعجم (¬13). ¬

_ (¬1) انظر ترجمته: طبقات فحول الشعراء، ص 127، الشعر والشعراء، ج 1، ص 234، الأغانى، ج 11، ص 46، شرح شواهد المغنى، ج 1، ص 21، الخزانة، ج 1، ص 519. (¬2) انظر ترجمته: طبقات فحول الشعراء، ص 115، الشعر والشعراء، ص 185، شرح شواهد المغنى، ص 805، الخزانة، ج 1، ص 414، توفى سنة 70 قبل الهجرة. (¬3) انظر ترجمته: الشعر والشعراء، ج 1، ص 197، الأغانى، ج 11، ص 37، ولم يعدّه أبو زيد القرشى من أصحاب المعلقات، راجع جمهرة أشعار العرب، تحقيق محمد على البجاوى. وراجع- إن شئت- شرح القصائد التسع المشهورات لأبى جعفر أحمد بن محمد النحاس ت 338 هـ، تحقيق أحمد الخطاب، مديرية الثقافة العامة. سلسلة كتب التراث (23) وزارة الأعلام- الجمهورية العراقية، مطبعة دار الحرية، بغداد. (¬4) انظر ترجمته: فى الأغانى، ج 18، ص 163، وانظر ابن قتيبة الشعر والشعراء، ج 2، ص 613، دار الثقافة بيروت- لبنان. (¬5) انظر ترجمته: فى الأغانى، ج 1، ص 120، دار ثقافة بيروت، وطبقات فحول الشعراء لابن سلام السفر الأول، ص 155، تحقيق محمود محمد شاكر، دار المدنى بجدة. (¬6) انظر ترجمته: شرح شواهد المغنى، ج 70، وخزانة الأدب، ج 1، ص 494، والأغانى، ج 16، ص 96، وانظر الشعر والشعراء، ج 1، ص 164. (¬7) انظر ترجمته: الشعر والشعراء، ج 1، ص 145، وطبقات فحول الشعراء، السفر الأول، ص 131، الأغانى، ج 21، ص 172، ط. بولاق، الخزانة، ج 1، ص 172. (¬8) انظر ترجمته: الشعر والشعراء، ج 1، ص 238، والخزانة، ج 1، ص 408، وطبقات فحول الشعراء، السفر الأول، ص 104. (¬9) انظر ترجمته: الأغانى، ج 13، ص 62، والخزانة، ج 1، ص 71، وانظر الشعر والشعراء، ج 1، ص 218. (¬10) انظر ترجمته: الأغانى، ج 11، ص 125، الخزانة، ج 3، ص 426، وانظر الشعر والشعراء، ج 1، ص 35. (¬11) انظر ترجمته: الأغانى، ج 3، ص 179، الخزانة، ج 1، ص 118، وانظر الشعر والشعراء، ج 1، ص 369. (¬12) انظر ترجمته: الأغانى، ج 114، ص 24، الخزانة، ج 1، ص 422، وانظر الشعر والشعراء، ج 1، ص 289. (¬13) انظر ترجمته: الأغانى، ج 14، ص 98، والخزانة، ج 4، ص 192، والكامل للمبرد، ج 2، ص 226، وانظر الشعر والشعراء، ج 1، ص 343.

ج - ومن الطبقة الثالثة من فحول الجاهلية

ج- ومن الطبقة الثالثة من فحول الجاهلية أبو ذؤيب الهذلى (¬1)، ومن الطبقة السابعة المتلمس (¬2)، والعاشرة الكميت بن معروف (¬3) ومن أصحاب المراثى الخنساء (¬4) ومن طبقة شعراء القرى العربية حسان بن ثابت (¬5)، وكعب بن مالك (¬6)، وعبد الله بن رواحة (¬7)، ومن شعراء الطوائف أمية بن أبى الصلت (¬8)، وأبو محجن الثقفى (¬9)، ومن طبقة شعراء اليهود السموأل (¬10). د- ومن الطبقة الأولى من فحول الإسلام: جرير (¬11) والفرزدق (¬12) والأخطل (¬13) والراعى (¬14) ¬

_ (¬1) انظر ترجمته فى الأغانى، ج 6، ص 56، والخزانة، ج 1، ص 201، وطبقات ابن سلام، السفر الثانى، ص 131، وشرح شواهد المغنى، ص 10. (¬2) سبق بيانه. (¬3) انظر ترجمته فى الأغانى، ج 15، ص 108، وشرح شواهد المغنى، ص 13، والخزانة، ج 1، ص 69، وطبقات ابن سلام، السفر الثانى، ص 195، والشعر والشعراء، ج 2، ص 485. (¬4) انظر ترجمتها: شرح شواهد المغنى، ص 89، الخزانة، ج 3، ص 403، وانظر الشعر والشعراء، ج 1، ص 260، وطبقات فحول الشعراء، السفر الأول، ص 210. (¬5) انظر ترجمته: فى الأغانى، ج 4، ص 2، ص 17، والخزانة، ج 1، ص 111، وطبقات ابن سلام، السفر الأول، ص 215. (¬6) انظر ترجمته طبقات ابن سلام، السفر الأول، ص 215. (¬7) انظر ترجمته: طبقات ابن سلام، السفر الأول، ص 216، وانظر صحيح مسلم، فضائل الصحابة. (¬8) سبق بيانه. (¬9) انظر ترجمته فى الأغانى، ج 21، ص 137، والخزانة، ج 3، ص 550، وطبقات ابن سلام، السفر الأول، ص 268، والشعر والشعراء، ج 1، ص 336. (¬10) انظر ترجمته: طبقات ابن سلام، السفر الأول، ص 279. (¬11) انظر ترجمته: الأغانى، ج 7، ص 35، شرح شواهد المغنى، ص 16، والخزانة، ج 1، ص 36، طبقات ابن سلام، السفر الثانى، ص 374، والشعر والشعراء، ج 1، ص 374. (¬12) انظر ترجمته: وفيات الأعيان رقم 755، والخزانة، ج 1، ص 105، طبقات فحول الشعراء، السفر الثانى، 299، والشعر والشعراء، ج 1، ص 380. (¬13) انظر ترجمته: الأغانى، ج 7، ص 161، شرح شواهد المغنى، ص 46، والخزانة، ج 1، ص 20، وطبقات ابن سلام، السفر الثانى، ج 451، الشعر والشعراء، ج 1، ص 393. (¬14) الراعى هو عبيد بن حصين من بنى عامر بن صعصعة لقب بالراعى لكثرة وصفه للإبل، وهو من شعراء الدولة الأموية.

هـ - ومن الطبقة الرابعة من فحول الإسلام

ومن الطبقة الثانية كثير (¬1)، وذو الرمة (¬2) هـ- ومن الطبقة الرابعة من فحول الإسلام حميد بن ثور (¬3)، والسادسة الأحوص (¬4). والتاسعة رؤبة بن العجاج الراجز (¬5) والعجاج (¬6). وومن شعراء بغداد بشار بن برد" ت 167 هـ" وكان آخر من يحتج النحاة بشعرهم، وابن الرومى" أبو الحسن على ابن العباس بن جرجيس ت 284 هـ". والشريف الرضى" أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوى ت 404 هـ" ومن شعراء الشام أبو تمام" حبيب بن أوس الطائى" ت 231 هـ"، والمتنبى" أبو الطيب أحمد بن الحسين ت 354 هـ"، وأبو العلاء المعرى" أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخى ت 449 هـ"، ومن شعراء الأندلس أحمد بن عبد ربه، صاحب العقد الفريد ت 338 هـ". ¬

_ (¬1) انظر ترجمته: الأغانى، ج 8، ص 147، شرح شواهد المغنى، ص 24، والخزانة، ج 2، ص 281، وطبقات ابن سلام، السفر الثانى، ص 540، والشعر والشعراء، ج 1، ص 410. (¬2) انظر ترجمته: الأغانى، ج 16، ص 106، وفيات الأعيان، رقم 469، شرح شواهد المغنى، ص 53، الخزانة، ج 1، ص 50، طبقات ابن سلام، السفر الثانى، ص 549، والشعر والشعراء، ج 2، ص 437. (¬3) انظر ترجمته: الأغانى، ج 4، ص 97، وشرح شواهد المغنى، ص 73، وانظر الشعر والشعراء، ج 1، ص 306. (¬4) انظر ترجمته: الأغانى، ج 4، ص 470، الخزانة، ج 1، ص 231، وانظر طبقات ابن سلام، السفر الثانى، ص 655. (¬5) انظر ترجمته: الأغانى، ج 20، ص 323، وانظر طبقات ابن سلام، السفر الثانى، ص 761. (¬6) انظر ترجمته: الأغانى، ج 2، ص 323، والشعر والشعراء، ج 2، ص 495، وانظر طبقات ابن سلام، السفر الثانى، ص 753.

سادسا: مصادر اللغة:

سادسا: مصادر اللغة: 1 - مفردات غريب القرآن: " الراغب الأصبهانى" أبو القاسم الحسين بن محمد المفضل الأصبهانى" ت 502 هـ". 2 - لسان العرب " ابن منظور" أبو الفضل جمال الدين بن منظور الإفريقي المصرى" ت 711 هـ" 3 - القاموس المحيط أبو الطاهر مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادى" ت 817 هـ" 4 - المقامات أبو محمد القاسم بن على بن محمد بن عثمان الحريرى البصرى" ت 516 هـ" 5 - كتاب غريب الحديث أبو عبيد القاسم بن سلام" ت 287 هـ" 6 - تهذيب اللغة أبو منصور محمد بن أحمد الأزهرى" ت 370 هـ" 7 - الصحاح أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهرى" ت 398 هـ" 8 - معجم مقاييس اللغة أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا" ت 390 هـ" 9 - تبصرة المتذكر الكواشى أحمد بن يوسف بن الحسن بن رافع" موفق الدين أبو العباس"" ت 680 هـ".

سابعا: مصادر البلاغة:

10 - مجالس ثعلب أبو العباس أحمد بن يحيى" ت 291 هـ" 11 - أمالى القالى أبو على إسماعيل بن القاسم البغدادى اللغوى" ت 356 هـ" 12 - تاج العروس السيد محمد مرتضى الزبيدى" أبو الفيض"" ت 1205 هـ" 13 - التعريفات على بن محمد الشريف الجرجانى" ت 716 هـ". سابعا: مصادر البلاغة: 1 - البيان والتبيين: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ" ت 255 هـ" 2 - إعجاز القرآن: " أبو بكر الباقلانى" محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم" ت 403 هـ" 3 - المفتاح" أبو يعقوب السكاكى" سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن محمد السكاكى" ت 626 هـ" 4 - تلخيص المفتاح" الخطيب القزوينى" أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الخطيب القزوينى" ت 739 هـ" 5 - الشافية" عبد القاهر الجرجانى" عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانى" ت 471 هـ".

ثامنا: كتب الغزالى والتصوف:

6 - سرار البلاغة ودلائل الإعجاز عبد القاهر الجرجانى 7 - أساس البلاغة محمود بن عمر الزمخشرى" ت 538 هـ" 8 - الكلم النوابغ محمود بن عمر الزمخشرى 9 - المنتخب من كنايات الأدباء وإشارات البلغاء أبو العباس أحمد الجرجانى" ت 482 هـ" 10 - سر الفصاحة " ابن سنان الخفاجى الحلبى" أبو محمد، عبد الله محمد بن سعيد بن سنان" ت 466 هـ- 1073 م" ثامنا: كتب الغزالى والتصوف: أ- كتب الغزالى:" ت 505 هـ" 1 - إحياء علوم الدين 2 - المستظهرى 3 - المقصد الأسنى فى أسماء الله الحسنى 4 - المستصفى فى علم الأصول ب- كتب التصوف: 1 - حكمة الإشراق" شهاب الدين السهروردى" أبو الفتوح يحيى بن جشى بن أميرك"" ت 588 هـ"

تاسعا: مصادر الفلسفة:

2 - هياكل النور شهاب الدين السهروردى 3 - أقوال الحسن البصرى أبو سعيد الحسن بن يسار البصرى" ت 110 هـ" 4 - المعيار عن كتاب سراج المريدين" أبو بكر بن عربى" محمد بن عبد الله بن محمد المعافرى الإشبيلي المالكى" ت 1148 م". 5 - الفتوحات المكية الشيخ محى الدين بن عربى" ت 638 هـ" تاسعا: مصادر الفلسفة: 1 - الإشارات الشيخ الرئيس أبو على الحسين بن سينا" ت 428 هـ". 2 - فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال الوليد محمد بن أحمد بن رشد" ت 520 هـ" 3 - المقدمات الممهدات ابن رشد 4 - أقوال سقراط وأفلاطون عاشرا: الكتب العامة - كتب الأديان: 1 - التوراة 2 - الإنجيل

- كتب السيرة:

- كتب السيرة: * السيرة النبوية أبو بكر محمد بن إسحاق بن يسار" ت 151 هـ- 768" * الروض الأنف فى شرح السيرة النبوية للسهيلى - كتب المذاهب: * الملل والنحل، عمر بن عبد الكريم بن أحمد أبو الفتح الشهرستاني" ت 548 هـ". - علوم القرآن: 1 - الإتقان فى علوم القرآن جلال الدين بن أبى بكر بن محمد بن سابق الدين السيوطى" ت 911 هـ". 2 - أسباب النزول" الواحدى" على بن أحمد بن محمد بن على بن متويه" أبو الحسن الواحدى" ت 468 هـ- 1076 م". 3 - العارضة أبو بكر بن عربى، محمد بن عبد الله بن محمد المعافرى الإشبيلي المالكى" ت 543 هـ- 1148 م". 4 - شرح" لمع الأدلة لإمام الحرمين" عبد الملك بن عبد الله الجوينى" ت 478 هـ" 5 - شرح الأسماء ابن برجان الإشبيلي" ت 536 هـ" (¬1) ¬

_ (¬1) هو عبد السلام بن عبد الرحمن شهريار بن برجان" ت 537" له شرح على الأسماء الحسنى، وأبلغها إلى مائة واثنين وثلاثين اسما انظر التحرير والتنوير، ج 3، ص 611

- دوائر العارف:

6 - التسهيل فى علوم التنزيل" ابن جزى الكلبى" أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزى الكلبى الغرناطي" ت 741 هـ" - دوائر العارف: دائرة المعارف الإسلامية الحادى عشر: كتب التراجم: 1 - جمهرة أنساب العرب أبو محمد على بن أحمد بن حزم الظاهرى" ت 456 هـ" 2 - معجم الأدباء" ياقوت الحموى" أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومى الجنس الحموى المولد" ت 621 هـ". 3 - الإصابة فى معرفة الصحابة أبو الفضل أحمد بن على بن حجر العسقلاني" ت 852 هـ" 4 - كتاب" الشفا" فى فضائل المصطفى القاضى عياض بن موسى" ت 544 هـ". 5 - الأنوار النبوية فى آباء خير البشرية محمد بن عبد الرفيع الجعفرى المرسى الأندلسى، نزيل تونس" ت 3013 هـ". 6 - تذكرة الحفاظ أبو عبد الله شمس الدين عمر الذهبى" ت 748 هـ".

الثانى عشر: مصادر منوعة:

الثانى عشر: مصادر منوعة: 1 - كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون مصطفى بن عبد الله المشهور بكاتب جلبى حاجى خليفة" ت 1068 هـ". 2 - العواصم من القواصم فى تحقيق موقف الصحابة بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، أبو بكر بن عربى" ت 543 هـ" 3 - محاضرة للإيطالى المستعرب فريدو 4 - المدارك القاضى عياض بن موسى" ت 544 هـ" 5 - الإكمال القاضى عياض بن موسى 6 - شرح القصيدة العضدية الجلال الدواني وهذه الكثرة من المصادر وتنوعها أتاحت لابن عاشور أن يعرض المسائل والقضايا على أكثر من وجه، ويحدد مواطن الاختلاف، أو الاتفاق معها، مما جعله ينفذ من خلالها ليصل إلى ما يرتضيه ويطمئن إليه، وهو لا يفعل ذلك إلا بعد تحليل ورد الشيء إلى أصله، وليس رائده فى ذلك جمع الآثار والأقوال وحشو كتابه بالغث والثمين، ولكنه يقوم من خلال ما استعان به من وسائل التفسير سواء التفسير بالرواية أم الدراية بالتتبع والاستقصاء واستقراء كل ما قيل حول الآية تقريبا، ولا ينتقل إلى تفسير الآية التالية إلا بعد أن تكون الآية السابقة قد أوضح معناها وحدد مبناها، وكشف كثيرا من عجائبها وأسرارها.

ولو تتبعنا- على سبيل المثال- مصادره من كتب التفسير نجد" كشاف الزمخشرى الاعتزالى" قد أخذ نصيبا وافرا من التحرير والتنوير، وقد اتفق مع صاحبه فى بعض المسائل، واختلف معه فى مسائل أخرى، بل قد يتفق مع المذهب الاعتزالى كله أو يختلف، وهو فى عرضه لكل ذلك لم يكتف بالكشاف فحسب، بل رجع إلى كثير ممن تولوا شروح هذا التفسير، يناقش ويحلل ويعلل خصوصا دقيق الكلام من مسائل العقيدة والإيمان. أما البلاغة وفنونها، فلم ينقل عن الزمخشرى نقلا حرفيا، بل كان هناك نقول أخرى من مختلف كتب البيان والبديع وأسرار البلاغة والإعجاز، إضافة إلى ثقافته الواسعة فى هذا الميدان. كذلك كتب التفسير الأخرى التى تنوعت اتجاهاتها واهتماماتها لم يكن ابن عاشور ناقلا منها فحسب، إنما كان حكما واعيا بينها، يذكر قول المفسر أو ما رواه ومعه قول مفسر آخر أو مفسرين آخرين، فإذا كانت الأقوال مقنعة لعقله وضميره ذكرها مستأنسا بها، وإن لم تكن عارضها مفندا دون تعصب أو تطرف، والقارئ يشعر أمام هذه المعارضة أن وراءها عقل راجح، وذهن متقد، وميزان لم تفقد يد صاحبه الإحساس بمقدار الأوزان. وكتب الحديث النبوى كانت عونا صادقا له، رجع إليها فيما احتاجه تفسير الآية من أقوال أو أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، ذاكرا إياها فى المواطن التى تحتاج إلى ذكرها، أو مكتفيا ببعض الإشارات إليها، وله مواقف أمام السند والمتن كانت جديرة بتسجيلها نراها فيما يستقبل من صفحات هذه الدراسة، وهو فى هذا الشأن لم يكتف بكتب الحديث المعتبرة المذكورة، ولكنه رجع أيضا إلى شرّاحها، فلا يغفل عما ذكروه فى شروح الأحاديث النبوية وتبيين مقاصدها.

وتنوعت عنده أيضا مصادر الفقه بمختلف مذاهبه، يجمع بين الأقوال حينا، أو يذكر قولا لأحد أئمتها مقرونا باسم بعض الصحابة والتابعين، وعلى الرغم من أنه مالكى المذهب إلا أنه لم يتوقف عند ذلك، فلم يتعصب لمذهبه الفقهى، ولم يناصر إلا ما وجده يتفق مع الآية أو الحديث، أو ما فيه المصلحة للناس جميعا، ولم يلجأ إلى القياس أو الإجماع إلا فيما ارتضاه أئمة المسلمين، وهما على كل حال لم يمثلا دورا بارزا فى تفسيره، اللهم إلا فى بعض القضايا القليلة التى رجع فيها إلى علماء الأصول كالغزالى والشافعى والشاطبى. أما عن مصادر النحو، فلم يترك ابن عاشور مدرسة نحوية إلا وأخذ منها، وقرن بين أقوال رجالها، وقارن بين مذاهبهم، وأكثر الأقوال كان يعزوها إلى أصحابها، علاوة على جهوده النحوية التى زاحمت كثيرا هذه الأقوال. وتنوعت عنده مصادر الشعر من جاهلى وإسلامى وأموى، وامتد استشهاده بالشعر إلى العصر العباسى، كشعر المتنبى وأبى نواس وأبى العلاء، على الرغم من توقف كثير من النقاد عند عصر الفرزدق وجرير والأخطل والبعيث وأضرابهم، والغالب أن ابن عاشور قد وجد عند هؤلاء الشعراء العباسيين ما يستشهد به أو يستأنس، وقد كانوا- ولا ريب- من أرباب اللغة وأصحاب الباع الطويل فيها. وشغلت" اللغة" فى التحرير والتنوير حيزا كبيرا ولم يكتف صاحبه بمعنى اللفظ المعجمى أو المقابل له، وإنما كان السياق عونا أساسيا فى كشف دلالات اللفظ القرآنى، وكان ابن عاشور يلجأ إلى ضروب الاشتقاق ووجوه الأعراب، وقد يحدد المعنى الشرعى للفظ وتفصيل معناه مستعينا بأقوال علماء اللغة وواضعى المعاجم وكتب الأدب القديم والأمالى العلمية والمجالس النقدية والأدبية والتعريفات اللغوية، وجهده الشخصى فى كل ذلك ظاهر، وثقافته اللغوية العريضة أظهر.

ومن كتب التصوف رجع ابن عاشور إلى كتب الغزالي سواء أكانت فى أصول الفقه كالمستصفى فى علم الأصول أم الكتب الأخرى التى دارت حول التصوف السنى، وقد ضمّ ابن عاشور فى كتابه نقولا أخرى عن رجال هذا المذهب، ونقوله هذه قد تعنى الموافقة حينا، والمعارضة حينا، وأبرز ألوان هذه المعارضة كانت حول تفاوت مراتب الكشف عند الصوفى وتعلق ذلك بتفسير القرآن الكريم حيث لا تقوم الشريعة إلا على أصول ثابتة. وكان أكثر مصادره فى الفلسفة عند ابن سينا وابن رشد فضلا عن أقوال ابن رشد فى الفقه والتفسير، وكانت نقوله عنهما فى الحكمة أو الفلسفة بعيدة عن التعقيدات التى ينبو عنها تفسير كتاب الله الكريم. كذلك رجع ابن عاشور إلى التوراة والإنجيل يستعين بما ورد فيها من قصص الأنبياء وخصوصا أنبياء بنى إسرائيل بدلا من أن يحشو كتابه بالإسرائيليات، وذهب فى ذلك إلى ما يؤيده من آيات أو أحاديث نبوية أو مرويات عن الصحابة والتابعين، ويضعّف الحديث إذا وجده كذلك، ولا يقبل المرويات أو يرفضها إلا بعد ذكر أسباب اتفاقه أو اختلافه معها. واستقل ابن إسحاق صاحب كتاب السيرة النبوية برجوع ابن عاشور إليه فيما يتصل بأحداث هذا التاريخ، كذلك كان الشهرستانى فى كتابه الملل والنحل، وهو واحد من كتّاب المذاهب المعدودين. أما مصادر علوم القرآن فقد تنوعت هى أيضا، كما تنوعت كتب التراجم، فضلا على دائرة المعارف الإسلامية وكشف الظنون ومحاضرة العالم الإيطالى المستعرب فريدو. ومهما يكن من أمر، فإن ما ذكرته هذه الدراسة من مصادر التفسير عند ابن عاشور، لم تكن هى مصادره كلها وإلا لاستغرق ذلك صفحات

وصفحات، واحتاج الأمر إلى كتاب آخر، وقد كان المقصد ضرب الأمثلة لكل نوع منها وتصنيفه، ومن ثم توضيح مقومات المنهج عنده، وأولها تعدد المصادر وتنوعها وقبول أقوالها أو رفضها بعيدا عن روح التقليد.

الباب الثانى منهج الطاهر بن عاشور فى التفسير بالرواية

الباب الثانى منهج الطاهر بن عاشور فى التفسير بالرواية

أولا: خطته فى تفسير السور:

أولا: خطته فى تفسير السور: يتناول ابن عاشور تفسير القرآن سورة سورة حسب ترتيبها فى المصحف الإمام، وقبل أن يشرع فى تفسيرها جعل لكل سورة مقدمة يذكر فيها اسم السورة وسبب تسميتها بهذا الاسم، ثم ترتيبها فى النزول وأسباب نزولها على وجه الإجمال، أما نزول الآيات منها- إن نزلت بسبب- فيتناوله عند تفسيرها، ثم يذكر عدد آيات السورة، ثم ما إذا كانت السورة مكية أو مدنية، وأخيرا أهم الأغراض التى تحتويها. ذكر اسم السورة وسبب هذه التسمية: قال عن اسم سورة" النبأ" وسبب تسميتها: «سميت هذه السورة فى أكثر المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة" سورة النبأ" لوقوع كلمة" النبأ" فى أولها. وسميت فى بعض المصاحف وفى صحيح البخارى وفى تفسير ابن عطية والكشاف" سورة عما يتساءلون" وفى تفسير القرطبى سماها" سورة عم" أى بدون زيادة" يتساءلون" تسمية لها بأول جملة فيها، وتسمى" سورة التساؤل"، لوقوع" يتساءلون" فى أولها، وتسمى سورة" المعصرات" لقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (¬1). فهذه خمسة أسماء، واقتصر فى الإتقان على أربعة أسماء: عم، والنبأ، والتساؤل، والمعصرات (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النبأ: الآية 14. (¬2) التحرير والتنوير، ج 30، ص 5. - وانظر تفسير القرطبى، ج 1، ص 65" باب ذكر معنى السورة والآية والحرف" دار إحياء التراث العربى، بيروت- لبنان 1405 هـ- 1985 م. وانظر تفسير الطبرى، ج 1، ص 34" باب بيان أن لسور القرآن أسماء سماها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، دار المعرفة بيروت- لبنان، 1409 هـ- 1989 م.

ترتيب النزول:

وذكر عن سبب تسمية سورة" النساء" بهذا الاسم: «سميت هذه السورة فى كلام السلف سورة النساء، ففي صحيح البخارى عن عائشة قالت:" ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده" وكذلك سميت فى المصاحف وفى كتب السنة وكتب التفسير، ولا يعرف لها اسم آخر. ووجه تسميتها بإضافة إلى النساء أنها افتتحت بأحكام صلة الرحم، ثم بأحكام تخص النساء، وأن فيها أحكاما كثيرة فى أحكام النساء، والأزواج، والبنات، وختمت بأحكام تخص النساء» (¬1). ترتيب النزول: قال عن سورة النازعات: «هى معدودة الحادية والثمانين فى ترتيب النزول، نزلت بعد سورة النبأ، وقبل سورة الانفطار» (¬2). وفى سورة المائدة ... قال: «روى ابن أبى حاتم عن مقاتل أن آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ- إلى- عَذابٌ أَلِيمٌ نزلت عام الحديبية فلعل ذلك الباعث للذين قالوا: إن سورة العقود نزلت عام الحديبية، وليس وجود تلك الآية فى هذه السورة بمقتضى أن يكون ابتداء نزول السورة سابقا على نزول الآية، إذ قد تلحق الآية بسورة نزلت متأخرة عنها. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 211. (¬2) التحرير والتنوير، ج 30، ص 59. وانظر تفسير القرطبى، ج 1، ص 59،" باب ما جاء فى ترتيب سور القرآن".

وفى الإتقان: إنها نزلت قبل سورة النساء، ولكن صح أن آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (¬1) نزلت يوم عرفة فى عام حجة الوداع. ولذلك اختلفوا فى أن هذه السورة نزلت متتابعة أو متفرقة، ولا ينبغى التردد فى أنها نزلت منجمة. وقد روى عن عبد الله بن عمر وعائشة أنها آخر سورة نزلت، وقد قيل: إنها نزلت بعد النساء، وما نزل بعدها إلا سورة براءة، بناء على أن براءة آخر سورة نزلت، وهو قول البراء بن عازب فى صحيح البخارى، وفى مسند أحمد عن عبد الله بن عمر، وأسماء بنت يزيد: أنها نزلت ورسول الله فى سفر، وهو على ناقته العضباء، وأنها نزلت عليه كلها. قال الربيع بن أنس: نزلت سورة المائدة فى مسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى حجة الوداع. وفى شعب الإيمان، عن أسماء بنت يزيد: أنها نزلت بمنى، وعن محمد ابن كعب: أنها نزلت فى حجة الوداع بين مكة والمدينة وعن أبى هريرة: نزلت مرجع رسول الله من حجة الوداع فى اليوم الثامن عشر من ذى الحجة، وضعّف هذا الحديث. وقد قيل: إن قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (¬2) أنزل يوم فتح مكة (¬3). «ويظهر عندى أن هذه السورة نزل بعضها بعد بعض سورة النساء، وفى ذلك ما يدل على أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد استقام له أمر العرب وأمر المنافقين ولم يبق فى عناد الإسلام إلا اليهود والنصارى. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: الآية 3. (¬2) سورة المائدة: الآية 2. (¬3) التحرير والتنوير، ج 6، ص 68 - 69.

- أسباب النزول:

أما اليهود فلأنهم مختلطون بالمسلمين فى المدينة وما حولهما، وأما النصارى فلأن فتوح الإسلام قد بلغت تخوم ملكهم فى حدود الشام. وفى حديث عمر فى صحيح البخارى: وكان من حول رسول الله قد استقام له ولم يبق إلا ملك غسان بالشام كنا نخاف أن يأتينا» (¬1). وقد كثرت المرويات حول ترتيب هذه السورة كما ذكر ابن عاشور، لذا لم يترك حديثا أو رواية أو قولا مما سبق إلا وقد ذكر مصدره، أو عزاه إلى صاحبه، فإذا كان مصدره صحيح البخارى قبله، وإذا كان غير ذلك أبدى ما يفيد قبوله أو عدم قبوله ذاكرا الأسباب، ثم انتهى بعد عرض هذه المرويات على هذا النحو الذى ظهر له مؤيدا ذلك بحديث ابن عمر من صحيح البخارى. - أسباب النزول: وذكره لها فى مقدمة كل سورة كان على سبيل الإجمال- كما سبق- وفى تفسيره للآيات يذكر سبب نزول الآية إن كانت قد نزلت بسبب. قال فى أسباب نزول سورة آل عمران: «وذكر الواحدى فى أسباب النزول، عن المفسرين: إن أول هذه السورة إلى قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ نزل بسبب وفد نجران، وهو وفد السيد والعاقب، أى سنة اثنتين من الهجرة، ومن العلماء من قالوا: نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال، وكان نزولها فى وقعة أحد، أى شوال سنة ثلاث، وهذا أقرب» (¬2). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 6، ص 71. (¬2) التحرير والتنوير، ج 3، ص 144.

وفى سبب نزول سورة الكهف:

وفى سبب نزول سورة الكهف: «وسبب نزولها ما ذكره كثير من المفسرين، وبسطه ابن إسحاق فى سيرته بدون سند، وأسنده الطبرى إلى ابن عباس بسند فيه رجل مجهول: إن المشركين لما أهمهم أمر النبيء- صلى الله عليه وسلم- وازدياد المسلمين معه وكثر تساؤل الوافدين إلى مكة من قبائل العرب عن أمر دعوته، بعثوا النضر ابن الحارث، وعقبة بن أبى معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة (يثرب) يسألونهم رأيهم فى دعوته، وهم يطمعون أن يجد لهم الأحبار ما لم يهتدوا إليه مما يوجهون به تكذيبهم إياه. قالوا: فإن اليهود أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء (أى صفاتهم وعلاماتهم) علم ليس عندنا، فقدم النضر وعقبة إلى المدينة ووصفا لليهود دعوة النبيء- صلى الله عليه وسلم- وأخبراهم ببعض قوله. فقال لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبئ وإن لم يفعل فالرجل متقول، سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ما كان أمرهم. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها وسلوه عن الروح ما هى. فرجع النضر وعقبة فأخبرا قريشا بما قاله أحبار اليهود. فجاء جمع من المشركين إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسألوه عن هذه الثلاثة؛ فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخبركم بما سألتم عنه غدا (وهو ينتظر وقت نزول الوحى عليه بحسب عادة يعلمها). ولم يقل: إن شاء الله. فمكث رسول الله ثلاثة أيام لا يوحى إليه، وقال ابن إسحاق: خمسة عشر يوما، فأرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا اليوم عدة أيام لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، حتى أحزن ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وشق عليه ثم جاءه جبريل- عليه السلام- بسورة الكهف وفيها جوابهم عن الفتية وهم أهل الكهف. وعن الرجل الطواف وهو ذو القرنين،

وأنزل عليه فيما سألوه من أمر الروح، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (¬1). من سورة الإسراء. قال السهيلى: وفى رواية عن ابن إسحاق من غير طريق البكائى (أى زياد بن عبد الله البكائى الذى يروى عنه ابن هشام) أنه قال فى هذا الخبر: فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو (أى الروح) جبريل. وهذا خلاف ما روى غيره أن يهود قالت لقريش: سلوه عن الروح فإن أخبركم به فليس بنبي وإن لم يخبركم به فهو نبئ. أ. هـ وأقول: قد يجمع بين الروايتين بأن النبيء- صلى الله عليه وسلم- بعد أن أجابهم عن أمر الروح بقوله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي بحسب ما عنوه بالروح عدل بهم إلى الجواب عن أمر كان أولى لهم العلم به وهو الروح الذى تكرر ذكره فى القرآن مثل قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (¬2)، وقوله: وَالرُّوحُ فِيها (¬3) (وهو من ألقاب جبريل) على طريقة الأسلوب الحكيم مع ما فيه من الإغاظة لليهود، لأنهم أعداء جبريل كما أشار إليه قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ (¬4). الآية. ووضحه حديث عبد الله بن سلام فى قوله للنبى- صلى الله عليه وسلم- حين ذكر جبريل- عليه السلام- «ذاك عدو اليهود (من الملائكة) فلم ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: الآية 85. (¬2) سورة الشعراء: الآية 193. (¬3) سورة القدر: الآية 4. (¬4) سور البقرة: الآية 97.

عدد آيها:

يترك النبى- صلى الله عليه وسلم- لهم منفدا قد يلقون منه التشكيك على قريش إلا سده عليهم» (¬1). وقد ذكر مصدر الرواية الأولى، وهو عن ابن إسحاق عن المفسرين، وأبدى نقده لما ذكره الطبرى من سند لهذه الرواية، أما الرواية الأخرى فلم يذكر مصدرها، ولما أمكنه الجمع بينهما ساق ابن عاشور ما يعزز هذا الجمع. عدد آيها: وذلك مما تتعدد فوائده مثل معرفة أحكام الوقف، والقراءة فى الصلاة، أو فى غيرها، ومضاعفة الثواب للمستزيد وعلو منزلته. قال عن عدد آيات سورة الطور: «وعدّ أهل المدينة ومكة أيها سبعا وأربعين، وعدّها أهل الشام وأهل الكوفة تسعا وأربعين، وعددها أهل البصرة ثمانيا وأربعين» (¬2). وعن سورة الحديد: «وعدت آيها فى عدد أهل المدينة ومكة والشام ثمانا وعشرين، وفى عد أهل البصرة والكوفة تسعا وعشرين» (¬3). سورة المجادلة: «آيها فى عدّ أهل المدينة وأهل مكة إحدى وعشرون، وفى عدّ أهل الشام والبصرة والكوفة اثنتان وعشرون» (¬4). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 15، ص 242. (¬2) التحرير والتنوير، ج 27، ص 36. (¬3) التحرير والتنوير، ج 27، ص 355. (¬4) التحرير والتنوير، ج 28، ص 6.

مكيها ومدنيها:

مكيها ومدنيها: وتحقيق المكى والمدنى من العلوم الشريفة التى عنى بها علماء الإسلام، ولهم فى ذلك جهود وأبحاث، وفوائد هذا العلم كثيرة حيث يستعان به فى تفسير القرآن الكريم، ويعرف من خلاله كيفية الدعوة إلى الله تعالى، فأساليب القرآن فى مكة تختلف عنها فى المدينة تبعا للظروف والمقام والأحوال، وقد عنى ابن عاشور بهذا العلم، وحرص على ذكر المكى من السور والمدنى منها فى مقدمة كل سورة. قال عن سورة الشورى: «هى مكية كلها عند الجمهور، وعدّها فى الإتقان فى عداد السور المكية، وقد سبقه إلى ذلك الحسن بن الحصار فى كتابه فى الناسخ والمنسوخ كما عزاه إليه فى الإتقان، وعن ابن عباس وقتادة استثناء أربع آيات أولاها قوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (¬1) إلى آخر الأربع آيات، وعن مقاتل استثناء قوله تعالى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا (¬2) إلى قوله إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (¬3) روى أنها نزلت فى الأنصار وهى داخلة فى الآيات الأربع التى ذكرها ابن عباس، وفى أحكام القرآن لابن الفرس عن مقاتل: إن قوله وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ (¬4) الآية، نزل فى الأهل الصفة ¬

_ (¬1) سورة الشورى: الآية 23. (¬2) سورة الشورى: الآية 23. (¬3) سورة الشورى: الآية 24. (¬4) سورة الشورى: الآية 27.

وعن سورة محمد:

فتكون مدينة. وفيه عنه أن قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (¬1) إلى قوله ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ نزل بالمدينة» (¬2). وعن سورة محمد: «وهى مدينة بالاتفاق حكاه ابن عطية وصاحب الإتقان، وعن النسفى: أنها مكية، وحكى القرطبى عن الثعلبى وعن الضحاك وابن جبير: أنها مكية، ولعله وهم ناشئ عما روى عن ابن عباس أن قوله وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ (¬3) الآية، نزلت فى طريق مكة قبل الوصول إلى حراء، أى فى الهجرة» (¬4). أغراض السورة: وذلك ما يختتم به مقدمة كل سورة، مفصلا القول فى أغراضها، مبينا ما تحمله من وعد ووعيد، وإنذار وبشرى، أو نفى وتوبيخ، أو إثبات وتأييد، قال عن سورة الحجر: «افتتحت بالحروف المقطعة التى فيها تعريض بالتحدى بإعجاز القرآن، وعلى التنويه بفضل القرآن وهديه، وإنذار المشركين بندم يندمونه على عدم إسلامهم، وتوبيخهم بأنهم شغلهم عن الهدى انغماسهم فى شهواتهم، وإنذارهم بالهلاك عند حلول إبّان الوعيد الذى عينه الله فى علمه ...... » (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الشورى: الآية 39. (¬2) التحرير والتنوير، ج 25، ص 24. (¬3) سورة محمد: الآية 13. (¬4) التحرير والتنوير، ج 14، ص 7. (¬5) التحرير والتنوير، ج 14، ص 7.

وعن سورة الإسراء:

وعن سورة الإسراء: «العماد الذى أقيمت عليه أغراض هذه السورة إثبات نبوة محمد- صلى الله عليه وسلم- وإثبات أن القرآن وحى من الله، وإثبات فضله وفضل من أنزل عليه، وذكر أنه معجز، ورد مطاعن المشركين فيه وفيمن جاء به، وإبطال إحالتهم أن يكون النبى- صلى الله عليه وسلم- أسرى به إلى المسجد الأقصى .... » (¬1). وقد التزم ابن عاشور فى مقدمة تفسير كل سورة بهذه الخطة، ومن الملحوظ أن أغلب ما ذكره فيها كان عن طريق الرواية التى حرص على ذكر مصادرها سواء كتب التفسير، أو الحديث، أو علوم القرآن. وقد يرجح بين الأقوال أو الروايات حين يجد الحديث ضعيفا كما ذكر فى" ترتيب النزول" عن سورة المائدة فى حديث أبى هريرة، ثم رجّح أن بعضها قد نزل بعد بعض سورة النساء التى قالت عنها أم المؤمنين عائشة «ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده» وقد قوّى هذا الترجيح عنده ما ذكره من حديث ابن عمر فى صحيح البخارى، وقد يوفق بين روايتين كما فعل فى أسباب نزول سورة الكهف حيث عضض هذا التوفيق ببعض الآيات وبحديث «ذاك عدو اليهود من الملائكة». وقد يميل أحيانا إلى الاختصار كما فعل فى" العدد"، أما أغراض السورة فقد استقل بالحديث عنها لأن ذلك مما يعتمد على الفهم والموهبة. ويحمد لابن عاشور أنه لم يذكر فى مقدمة تفسير كل سورة أحاديث فضائل السور التى حرص على ذكرها كثير من المفسرين، وقد نبّه العلماء إلى بطلانها وعدم الالتفات إليها (¬2). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 15، ص 7. (¬2) انظر تفسير القرطبى، ج 1، ص 78" باب فى التنبيه على أحاديث وضعت فى فضل سور القرآن وغيره".

ثانيا: منهجه فى التفسير:

ثانيا: منهجه فى التفسير: بعد فراغ ابن عاشور مما قدّم به كل سورة يتناول تفسير كل آية أو أكثر ليس كطريقة تجزيئية فحسب، وإنما يربط بين المناسبات، ويذكر التعليلات، حاشدا لكل آية ما يناسبها. وقد رأينا أن يتم الحديث عن هذا المنهج على بابين، الأول منهما" التفسير بالرواية" والآخر" التفسير بالدراية". ومقومات التفسير بالرواية عنده هى: 1 - تفسير القرآن بالقرآن 2 - التفسير بالحديث النبوى 3 - التفسير بأقوال الصحابة 4 - التفسير بأقوال التابعين 5 - التفسير بأسباب النزول 6 - التفسير بالقصص 7 - التفسير بالناسخ والمنسوخ 8 - التفسير بالقراءات 9 - التفسير بأقوال من التوراة والإنجيل.

1 - تفسير القرآن بالقرآن:

1 - تفسير القرآن بالقرآن: هو أجل الوسائل لمعرفة أجل الغايات، فما أجمل فى كتاب الله فى موضع فإنه قد بسط فى موضع آخر. يقول محمد الأمين الجكنى عن هذا النوع من التفسير: «إن أشرف أنواع التفسير وأجلها تفسير كتاب الله بكتاب الله، إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله جل وعلا من الله جل وعلا» (¬1). وتفسير القرآن بالقرآن يراه الشيخ الذهبى مرحلة تتقدم غيرها من مراحل التفسير «ولا يجوز لأحد مهما كان أن يعرض عنها إلى مرحلة أخرى، لأن صاحب الكلام أدرى بمعانى كلامه، وأعرف به من غيره» (¬2). وتقع وجوه الاختلاف بين كل مفسر وآخر فى استخدام هذا النوع من التفسير بأنواعه المختلفة حيث نرى من يستعين به فى معنى لفظة أو تحديد دلالتها (¬3)، أو توضيح حكم، أو جمع تفاصيل قصة من القصص القرآنى وزعت فى سور كثيرة. ¬

_ (¬1) محمد الأمين بن محمد المختار الجكنى الشنقيطى" ت 1393 هـ" أضواء البيان فى إيضاح القرآن بالقرآن، المجلد الأول، ص 67، طبع وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية 1403 هـ- 1983 م. (¬2) دكتور محمد حسين الذهبى، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 40، دار الكتب الحديثة، القاهرة. وانظر تقى الدين أحمد بن تيمية، مقدمة فى أصول التفسير، ص 39، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت- لبنان، 1980 م. (¬3) ذكرت الدكتور عائشة عبد الرحمن عن المنهج الذى شرحه المرحوم الأستاذ" أمين الخولى فى كتابه" مناهج تجديد فى فهم دلالات الألفاظ: «نقدر أن العربية هى لغة القرآن فنلتمس الدلالة اللغوية الأصيلة التى تعطينا حس العربية للمادة فى مختلف استعمالاتها الحسية والمجازية، ثم تخلص للمح الدلالة القرآنية باستقراء كل ما فى القرآن من صيغ اللفظ، وتدبر سياقها الخاص فى الآية والسورة، وسياقها العام فى القرآن كله». التفسير البيانى للقرآن الكريم، ج 1، ص 11، دار المعارف، مصر، ط 6.

ونرى أيضا من يستخدمه فى ترجيح قراءة على أخرى من القراءات المشهورة، أو دفع لما يوهم التعارض بين بعض الآيات. ويقول ابن عاشور فى مقدمة التحرير والتنوير عن هذا النوع من التفسير: «ولا يعد أيضا من استمداد التفسير ما فى بعض آى القرآن من معنى يفسر بعضا آخر منها، لأن ذلك من قبيل حمل بعض الكلام على بعض، كتخصيص العموم، وتقييد المطلق، وبيان المجمل، وتأويل الظاهر، ودلالة الاقتضاء، وفحوى الخطاب، ولحن الخطاب، ومفهوم المخالفة، وذكر ابن هشام فى المغنى اللبيب، فى حرف" لا" عن أبى على الفارسى أن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء فى سورة وجوابه فى سورة أخرى، نحو وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (¬1)، وجوابه ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (¬2) أهـ، وهذا كلام لا يحسن إطلاقه، لأن القرآن قد يحمل بعض آياته على بعض، وقد يستقل بعضها عن بعض، إذ ليس يتعين أن يكون المعنى المقصود فى بعض الآيات مقصودا فى جميع نظائرها، بله ما يقارب غرضها» (¬3). وقد سار ابن عاشور فى تفسير القرآن بالقرآن وفق هذا المفهوم الذى حدده فى الفقرة السابقة، ومن أمثلة ذلك ما ذكره فى توضيح معنى لفظة فى قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الحجر: الآية 6. (¬2) سورة القلم: الآية 2. (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 27.

كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (سورة المطففين: الآية 14) " والقلوب: العقول ومحال الإدراك، وهذا كقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ (¬1). وفى معنى" إهلاك القرى" ذكر فى قوله تعالى: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (سورة الأنعام: الآية 131). " والإهلاك: إعدام ذات الموجود وإماتة الحى. قال تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (¬2)، فإهلاك القرى إبادة أهلها وتخريبها، وإحياؤها إعادة عمرانها بالسكان والبناء، قال تعالى: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها (¬3) وإهلاك القرى هنا شامل لإبادة سكانها. لأن الإهلاك تعلق بذات القرى، فلا حاجة إلى التمجز فى إطلاق القرى على أهل القرى كما فى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬4). لصحة الحقيقة هنا، ولأنه يمنع منه قوله: وأهلها غافلين. ألا ترى إلى قوله تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (¬5). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 30، ص 199، والآية من سورة البقرة: 7. (¬2) سورة الأنفال: الآية 42. (¬3) سورة البقرة: الآية 259. (¬4) سورة يوسف: الآية 82. (¬5) سورة الإسراء: الآية 16.

فجعل إهلاكها تدميرها، وإلى قوله: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها (¬1). وفى إيضاح معنى آية والقصد من كناية الضمائر فيها. ذكر فى قوله تعالى: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ* وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ* إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (¬2). " الكتاب المستبين" هو التوراة، والمستبين القوى الوضوح، فالسين والتاء للمبالغة يقال: استبان الشيء إذا ظهر ظهورا شديدا. وتعدية فعل الإتيان إلى ضمير موسى وهارون مع أن الذى أوتى التوراة هو موسى كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ (¬3) من حيث إن هارون كان معاضدا لموسى فى رسالته فكان له حظ من إيتاء التوراة كما قال الله فى الآية الأخرى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً (¬4)، وهذا من استعمال الإيتاء فى معنييه الحقيقى والمجازى» (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الفرقان: الآية 40. وانظر التحرير والتنوير، ج 8، ص 82. (¬2) سورة الصافات: الآيات 17 - 122. (¬3) سورة البقرة: الآية 87. (¬4) سورة الأنبياء: الآية 48. (¬5) التحرير والتنوير، ج 23، ص 164.

وفى توضيح الدلالة من خلال السياق ذكر فى قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (سورة الزمر: الآية 9). وفعل" يعلمون" فى الموضعين منزل منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول. والمعنى: الذين اتصفوا بصفة العلم، وليس المقصود الذين علموا شيئا معينا حتى يكون من حذف المفعولين اختصارا إذ ليس المعنى عليه، وقد دل على أن المراد الذين اتصفوا بصفة العلم قوله عقبة إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أى أهل العقول، والعقل والعلم مترادفان، أى لا يستوى الذين لهم علم فهم يدركون حقائق الأشياء على ما هى عليه، وتجرى أعمالهم على حسب علمهم، مع الذين لا يعلمون فلا يدركون الأشياء على ما هى عليه، بل تخلط عليهم الحقائق وتجرى أعمالهم على غير نظام، كحال الذين توهموا الحجارة آلهة ووضعوا الكفر موضع الشكر. فتعين أن المعنى، لا يستوى من هو قانت آناء الليل يحذر ربه ويرجوه، ومن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله، وإذ قد تقرر أن الذين جعلوا لله أندادا هم الكفار بحكم قوله قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا (¬1). ثبت أن الذين لا يستوون معهم هم المؤمنون، أى هم أفضل منهم، وإذ قد تقرر أن الكافرين من أصحاب النار فقد اقتضى أن المفضلين عليهم هم من أصحاب الجنة. وعدل عن أن يقول: هل يستوى هذا وذاك، إلى التعبير بالموصول إدماجا للثناء على فريق ولزم فريق بأن أهل الإيمان أهل علم وأهل الشرك أهل ¬

_ (¬1) سورة الزمر: الآية 8.

جهالة فأغنت الجملة بما فيها من إدماج عن ذكر جملتين، فالذين يعلمون هم أهل الإيمان، قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (¬1) والذين لا يعلمون هم أهل الشرك الجاهلون، قال تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (¬2). والأمثلة السابقة دار أغلبها حول معنى" اللفظة" لتحقيق الدلالة القرآنية لها من خلال السياق. ومن الأمثلة التى تتصل بالأحكام، ما ذكره فى قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (سورة الأنعام: 151). «ومن المفسرين من فسر الفواحش بالزنا، وجعل ما ظهر منها ما يفعله سفهاؤهم فى الحوانيت وديار البغايا، وبما بطن اتخاذ الأخدان سرا، روى هذا عن السدى، وروى عن الضحاك وابن عباس، كان أهل الجاهلية يرون الزنا سرا حلالا، ويستقبحونه فى العلانية، فحرم الله الزنى فى السر والعلانية، وعندى أن صيغة الجمع فى الفواحش ترجّح التفسير الأول كقوله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ (¬3). ولعل الذى حمل هؤلاء على تفسير الفواحش بالزنى قوله فى سورة ¬

_ (¬1) سورة فاطر: الآية 28. (¬2) سورة الزمر: الآية 64، وانظر التحرير والتنوير، ج 23، ص 349. (¬3) سورة النجم: الآية 32.

2 - التفسير بالحديث النبوى:

الإسراء فى آيات عددت منهيات كثيرة تشابه آيات هذه السورة، وهى قوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا (¬1). وسوف نرى هذا النوع من التفسير فى مواطن كثيرة يشترك مع مقومات التفسير الأخرى عند ابن عاشور. 2 - التفسير بالحديث النبوى: شغل الحديث النبوى مكانة كبيرة فى التحرير والتنوير، وأخذ أشكالا عديدة فى الإسناد والمتن، كما تعددت مصادره، وكان أكثرها شيوعا صحيح البخارى وصحيح مسلم يليهما موطأ الإمام مالك. يقول الإمام الشاطبى عن دور السنة فى بيان مقاصد القرآن الكريم: «السنة راجعة فى معناها إلى الكتاب، فهى تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره، وتخصيص عامه، وتقييد مطلقه» (¬2). وذكر الدكتور فتحى الدرينى: «إن من القرآن الكريم ما لا يمكن ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: الآية 32. وانظر التحرير والتنوير، ج 8، ص 160. وانظر أمثلة أخرى، ج 7، ص 153، 214، ج 12 ص 32، ج 17 ص 19 ج 20 ص 42، ج 24 ص 24 ج 25 ص 180، ج 27 ص 185 ج 28 ص 112، ج 30 ص 178 (¬2) المواقفات، ج 4، ص 3. وانظر الرسالة للإمام الشافعى، ص 32، 88، 158، تحقيق وشرح محمود محمد شاكر، مطبعة الحلبى، القاهرة، 1358 هـ- 1940 م. وانظر ابن قيم الجوزية، أعلام الموقعين عن رب العالمين، ج 3، ص 5، راجعه وقدم له طه عبد الرءوف سعد، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.

تحقيق معناه، أو إدراك أبعاد كليه، أو تفصيل مجمله، أو كيفية أداء تكاليفه على الوجه المراد منه إلا توقيفا ووحيا، بما اختص به الله تعالى رسوله ببيانه، ولم يتركه لتعدد النظر الاجتهادى التفسيرى، وهذا بالإجماع» (¬1). وعن تفسير السنة للحلال والحرام فى القرآن يقول الشيخ محمد أبو زهرة: «إن هذا القسم من القرآن الكريم تكفلت به السنة النبوية، لأن هذا من تبليغ الرسالة المحمدية وهو معناها، ومن يعارضها إنما يعارض تبليغ الرسالة النبوية، ويفترى على الله الكذب، فكل ما فى القرآن من أحكام فقهية سواء أكانت تتعلق بالعبادات أم كانت تتعلق بتنظيم المجتمع الإنسانى الذى يبتدئ بالأسرة، ويتدرج إلى الجماعات ثم الأمة وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة المسلمين بغيرهم من الأمم فى السلم والحرب، كل هذا ببيان النبى صلى الله عليه وسلم، وهو حجة علينا يجب اتباعه» (¬2). والتفسير بالحديث النبوى كان له دور بارز فى التحرير والتنوير استعان به ابن عاشور فى مواطن كثيرة من تفسيره، وقد رأينا فى صفحات الباب الأول من هذه الدراسة مصادره فى الحديث وكثرتها وتنوعها، وقد حرص أن يشير إلى مصدر الحديث عند الاستعانة به مكتفيا أحيانا باسم الراوى الأول له، ذكر فى قوله تعالى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (سورة النور: 51). ¬

_ (¬1) دراسات وبحوث فى الفكر الإسلامى المعاصر، ص" هـ" من المقدمة، دار قتيبة للنشر والتوزيع، بيروت- دمشق، 1408 هـ- 1988 م. وراجع: الإتقان، ج 2، ص 205، ومقدمة ابن تيمية، ص 39، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 49، تفسير القرطبى، ج 1، ص 37. (¬2) الشيخ محمد أبو زهرة، المعجزة الكبرى" القرآن" ص 588 - 589، دار الفكر العربى، القاهرة.

«وفى الموطأ من حديث زيد بن خالد الجهنى: «إن رجلين اختصما إلى رسول الله. فقال أحدهما: يا رسول الله اقضى بيننا بكتاب الله (يعنى وهو يريد أن رسول الله يقضى له كما وقع التصريح فى رواية الليث بن سعد فى البخارى أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله فقال: أنشدك بالله إلا قضيت لى بكتاب الله). وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لى أن أتكلم (يريد لا تقضى له علىّ فأذن لى أن أبيّن) فقال رسول الله تكلم .... » إلخ (¬1). وأحيانا يذكر حديثا أجمع عليه بعض رجال الحديث ثم يذكر اسم الراوى الأول له ... قال فى الآية الخامسة والأربعين من سورة العنكبوت: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ. «روى أحمد وابن حبان والبيهقى عن أبى هريرة قال: «جاء رجل إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن فلانا يصلى بالليل فإذا أصبح سرق، فقال: سينهاه ما تقول» أى صلاته بالليل» (¬2). وذكر فى قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ (سورة الطور: 21). «وقد روى جماعة منهم الطبرى والبزار وابن عدى وأبو نعيم وابن ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 18، ص 274. (¬2) التحرير والتنوير، ج 20، ص 260.

مردويه حديثا مسندا إلى ابن عباس عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله يرفع ذرية المؤمن فى درجته وإن كانوا دونه (أى فى العمل كما صرح به فى رواية القرطبى) لتقربهم عينه ثم قرأ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ إلى قوله مِنْ شَيْءٍ (¬1). وحينا آخر يذكر مصدر الحديث مكتفيا به على وجه الاختصار، ثم يذهب إلى تأييده صراحة خصوصا إذا كان من أحاديث البخارى ... ذكر فى قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (سورة الإسراء: 1). «ففي صحيح البخارى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «بينما أنا فى المسجد الحرام بين النائم واليقظان إذ أتانى جبريل ... » إلى آخر الحديث. وهذا أصح وأوضح مما روى فى حديث آخر أن الإسراء كان من بيته أو كان من بيت أم هانى بنت أبى طالب أو من شعب أبى طالب والتحقيق حمل ذلك على أنه إسراء آخر، وهو الوارد فى حديث المعراج إلى السماوات وهو غير المراد فى هذه الآية، فللنبى- صلى الله عليه وسلم- كرامتان: أولاهما الإسراء وهو المذكور هنا، والأخرى المعراج وهو المذكور فى حديث الصحيحين مطولا وأحاديث غيره. وقد قيل إنه هو المشار إليه فى سورة النجم» (¬2). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 27، ص 49. (¬2) التحرير والتنوير، ج 14، ص 23. وانظر أمثلة أخرى: ج 6، ص 228، ج 7، ص 53. ج 22، ص 11 وص 24، ج 23، ص 263 وص 318، ج 24، ص 116 وص 294، ج 25، ص 84 وص 92، ج 26، ص 282 وص 393، ج 30، ص 52 وص 79.

أ - موقفه من السند:

أ- موقفه من السند: وإذا كان هناك اضطراب فى سلسلة الرواة تصدى لنقد السند معللا سبب هذا الاضطراب، ومن ذلك ما ذكره فى قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (سورة يونس: 62 - 64) «وروى الترمذى عن أبى الدرداء أنه سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فقال «ما سألنى عنها أحد غيرك منذ أنزلت فهى الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له» قال الترمذى: وليس فى عطاء بن يسار أى ليس فى الحديث أن أبا صالح يرويه عن عطاء بن يسار كما هو معروف فى رواية أبى صالح إلى أبى الدرداء، وعليه فالحديث منقطع غير متصل السند، وقد رواه الترمذى بسندين آخرين منهما عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر عن أبى الدرداء وذلك سند فيه مجهول، فحالة إسناد هذا الخبر مضطربة لظهور أن عطاء لم يسمعه من أبى الدرداء» (¬1). ب- موقفه من المتن: ومن المواطن التى تمثل موقفه من المتن إذا وجد فيه ضعفا، ما ذكره فى قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا (سورة النساء: الآية 6). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 11، ص 219. وانظر أمثلة أخرى ج 10، ص 278، ج 11 ص 75، 78، ج 15، ص 242، ج 27، ص 340، ج 28، ص 316، ج 30، ص 43.

«وبلوغ صلاحية الزواج تختلف باختلاف البلاد فى الحرارة والبرودة، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد فى القوة والضعف، والمزاج الدموى والمزاج الصفراوى. فلذلك أحاله القرآن على بلوغ أمد النكاح، والغالب فى بلوغ البنت أنه أسبق من بلوغ الذكر، فإن تخلفت عن وقت مظنتها فقال الجمهور: يستدل بالسن الذى لا يتخلف عنه أقصى البلوغ عادة، فقال مالك فى رواية ابن القاسم عنه، هو ثمان عشرة سنة للذكور والإناث، وروى مثله عن أبى حنيفة فى الذكور، وقال: فى الجارية سبع عشرة سنة، وروى غير ابن القاسم عن مالك أنه سبع عشرة سنة، والمشهور عن أبى حنيفة: أنه تسع عشرة سنة للذكور وسبع عشرة للبنات. وقال الجمهور: خمس عشرة سنة. قاله القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر، وإسحاق، والشافعى، وأحمد والأوزاعى، وابن الماجشون وبه قال أصبغ، وابن وهب من أصحاب مالك، واختاره الأبهرى من المالكية، وتمسكوا بحديث ابن عمر أنه عرضه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرضه يوم أحد وهو ابن خمس عشرة فأجازه، ولا حجة فيه إذ ليس يلزم أن يكون بلوغ عبد الله بن عمر هو معيار بلوغ عموم المسلمين» فصادف أن رآه النبى- صلى الله عليه وسلم- وعليه ملامح الرجال، فأجازه، وليس ذكر السن فى كلام ابن عمر إيماء إلى ضبط الإجازة. وقد غفل عن هذا ابن العربى فى أحكام القرآن فتعجب من ترك هؤلاء الأئمة تحديد السن فى البلوغ بخمس عشرة سنة، والعجب منه أشد من عجبه منهم، فإن قضية ابن عمر قضية عين، وخلاف العلماء فى قضايا الأعيان معلوم، واستدل الشافعية بما روى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: إذ

3 - التفسير بأقوال الصحابة:

استكمل الولد خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه، وأقيمت عليه الحدود، وهو حديث ضعيف لا ينبغى الاستدلال به». فهو يعرض هنا مسألة" بلوغ صلاحية الزواج" من بعض جوانبها، وتعليل اختلاف البلاد والأمزجة فيها، ثم يسرد أقوال أئمة المذاهب الفقهية أو أصحابهم أو غيرهم من العلماء، ثم يتناول بعض المرويات التى جاءت فى هذه المسألة، فإذا لم ترتق إلى درجة الحجية عنده سارع إلى نقدها وبيان عدم موافقته عليها، وقد رأيناه يذكر استدلال الشافعية بحديث ضعّفه بناء على ما ساقه من نقد لهذه الأقوال والمرويات وما ترتب عليها من أحكام فى بلوغ سن النكاح أو الجهاد. وقد تكون هناك أشكال كثيرة أخرى- سنراها فى صفحات مقبلة- لاحتجاج ابن عاشور بالنصوص النبوية، كأن يذكر مثلا: جاء فى الحديث، أو فى الحديث، أو يذكر جزءا من الحديث دون تمامه، أو غير ذلك من الأشكال، فقد كان يسعى إلى عدم الإطالة، فلا يحمل القارئ ما لا يطيق، ولا الكتاب ما لا يستطيع. 3 - التفسير بأقوال الصحابة: إذا كانت السنة النبوية تعد المرتبة الثانية فى تفسير القرآن الكريم بعد تفسير" القرآن بالقرآن" فإن أقوال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هى المرتبة التالية لها، فهم الذين سمعوا منه مباشرة وتناوبوا هذا السماع وشاركوا فى مجالسه وغزواته وشاهدوا أحواله وأفعاله (¬1). ¬

_ (¬1) انظر ابن حجر العسقلانى، فتح البارى بشرح صحيح البخارى، كتاب العلم، ج 1، ص 152، ط سنة 1384 هـ. وانظر صحيح مسلم، كتاب الإيمان، ج 1، ص 90، طبعة عيسى البابى الحلبى. وانظر صحيح البخارى باب علامات النبوة، ج 4، ص 243، ط. دار الشعب، القاهرة.

ويقول الشيخ أبو زهرة: «إن الصحابة هم الذين سمعوا القرآن الكريم ابتداء، وهم الذين شاهدوا وعاينوا، وتلقوا التفسير عن النبى- صلى الله عليه وسلم- وكان ما يبهم عليهم يسألون النبى- صلى الله عليه وسلم- ويروى عن ذى النورين عثمان، رضى الله تعالى، عنه، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان كلما تلا عليهم طائفة من الآيات تولى تفسيرها لهم، فكان تفسيرهم أقرب إلى السنة، بل يعده الكثيرون من السنة، ما دام لا يمكن أن يكون للرأى فيه مجال» (¬1). ويقول أيضا: «وإن الصحابة أعلم الناس بمعانى الألفاظ القرآنية لأنهم من العرب، ومن أعلم الناس بلغة العرب، وما يكون غريبا بالنسبة لنا، لا يكون غريبا بالنسبة لهم، والألفاظ معروفة معانيها لهم» (¬2). وفى الإتقان: «روى الحاكم فى المستدرك أن تفسير الصحابى الذى شهد الوحى والتنزيل له حكم المرفوع» (¬3). والمقصود هنا التفسير الذى لا يدرك بالرأى، ولا يستقل العقل بإدراكه. ويظهر موقف ابن عاشور من صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خصوصا أبا بكر وعمر وعائشة رضى الله عنهم فيما ذكره فى تفسير ¬

_ (¬1) محمد أبو زهرة، المعجزة الكبرى" القرآن"، ص 561، وانظر تقى الدين أحمد بن تيمية. مقدمة فى أصول التفسير، ص 10، 39. (¬2) محمد أبو زهرة، المعجزة الكبرى" القرآن"، ص 561، وانظر الحافظ ابن كثير، الباعث الحثيث. شرح اختصار علوم الحديث، أحمد محمد شاكر، ص 151، ط 3، 1399 هـ- 1979 م، دار التراث- القاهرة. (¬3) الإتقان فى علوم القرآن، ج 2، ص 225، دار المعرفة، بيروت- لبنان، ط 4، 1398 هـ- 1978 م.

قوله تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (سورة النور: 17، 18). «قال ابن العربى: قال هشام بن عمار (¬1): «سمعت مالكا يقول: من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سبّ عائشة قتل لأن الله يقول يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (¬2). فمن سبّ عائشة فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قتل» أ. هـ. يريد بالمخالفة إنكار ما جاء به القرآن نصا وهو يرى أن المراد بالعود لمثله فى قضية الإفك لأن الله برّأها بنصوص لا تقبل التأويل، وتواتر أنها نزلت فى شأن عائشة، وذكر ابن العربى عن الشافعية أن ذلك ليس بكفر، وأما السب بغير ذلك فهو مساو لسب غيرها من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم» (¬3). وقد وقف غلاة الشيعة من الصحابة موقفا لا يتسم بالإنصاف لأغراض حزبية عديدة (¬4). ومن الصحابة الذين ذكر أقوالهم عبد الله بن عمر، ذكر ابن عاشور فى تفسير قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ¬

_ (¬1) هشام بن عمار السلمى الدمشقى الحافظ المقرئ الخطيب. سمع مالكا وخلفا، وثّقه ابن معين، توفى سنة 245، وعاش اثنتين وتسعين سنة، لم يترجمه عياض فى" المدارك" ولا ابن فرحون فى" الديياج" فالظاهر أنه لم يكن من أتباع مالك، وقد ذكره الذهبى فى" الكاشف" والمزى فى" تهذيب الكمال". (¬2) سورة النور: الآية 17. (¬3) التحرير والتنوير، ج 18، ص 183. (¬4) قال ابن كثير: «وأما طوائف الروافض وجهلهم وقلة عقلهم، ودعاويهم أن الصحابة كفروا: إلا سبعة عشر صحابيا، وسموهم، فهو من الهذيان بلا دليل إلا مجرد الرأى الفاسد، عن ذهن بارد، وهوى متبع» (اختصار علوم الحديث، ص 155).

ذكر ابن عاشور:

وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (سورة الأنعام: 59). «وفى الصحيح عن عبد الله بن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال «مفاتح الغيب خمس» إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما فى الأرحام، وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا، وما تدرى نفس بأى أرض تموت إن الله عليم خبير» (¬1). وأخذ ابن عباس نصيبا وافرا من هذه الأقوال، ومثال ذلك ما جاء فى قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (سورة الشورى: الآية 17). ذكر ابن عاشور: «وعن ابن عباس: كل ما جاء فعل" ما أدرك" فقد أعلمه الله به «أى بيّنه لرسوله صلى الله عليه وسلم» عقب كلمة" ما أدرك" نحو وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ* نارٌ حامِيَةٌ (¬2)، وكل ما جاء فيه وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (¬3)، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (¬4). لم يعلمه به أى لم يعقبه بما يبين إبهامه. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 7، ص 270. (¬2) سورة القارعة: الآيتان 10، 11. (¬3) سورة الشورى: الآية 17. (¬4) سورة عبس: الآية 3.

ويعقّب ابن عاشور: ولعل معنى هذا الكلام أن الاستعمال خص كل صيغة من هاتين الصيغتين بهذا الاستعمال فتأمل (¬1). وعن على وابن مسعود، ذكر فى تفسير قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (سورة النحل: 90). «روى أحمد بن حنبل: إن هذه كانت السبب فى تمكن الإيمان من عثمان بن مظعون، فإنها لما نزلت كان عثمان بن مظعون بجانب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكان حديث الإسلام، وكان إسلامه حياء من النبى- صلى الله عليه وسلم- وقرأها النبى عليه. قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان فى قلبى. وعن عثمان بن أبى العاص: كنت عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالسا إذ شخّص بصره، فقال: أتانى جبريل فأمرنى أن أضع هذه الآية بهذا الموضع" إن الله يأمر بالعدل" الآية أهـ. وهذا يقتضى أن هذه الآية لم تنزل متصلة بالآيات التى قبلها فكان وضعها فى هذا الموضع صالحا لأن يكون بيانا لآية وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ إلخ، ولأن تكون مقدمة لما بعدها وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ الآية. وعن ابن مسعود إن هذه الآية أجمع آية فى القرآن. وروى ابن ماجة عن على قال: أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 25، ص 68 - 69. وانظر أمثلة أخرى عن ابن عباس ج 14، ص 326، ج 19، ص 91/ 201/ 222، ج 23، ص 311، ج 25، ص 83/ 221، ج 26، ص 217.

قبائل العرب، فخرج، فوقف على مجلس قوم من شيبان بن ثعلبة فى الموسم. فدعاهم إلى الإسلام وأن ينصروه، فقال مفروق بن عمرو منهم: إلام تدعونا أخا قريش، فتلا عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية. فقال: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك» (¬1). وعن مالك بن صعصعة وجابر بن عبد الله الأنصارى ذكر ابن عاشور فى قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (سورة مريم: 56، 57). وقوله وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قال جماعة من المفسرين هو رفع مجازى، والمراد: رفع المنزلة، لما أوتيه من العلم الذى فاق به على من سلفه. ونقل هذا عن الحسن، وقال به أبو مسلم الأصفهانى، وقال جماعة: هو رفع حقيقى إلى السماء، وفى الإصحاح الخامس من سفر التكوين، «وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه» وعلى هذا فرفعه مثل رفع عيسى- عليه السلام- والأظهر أن ذلك بعد نزع روحه وروحنة جثته، ومما يذكر عنه أنه بقى ثلاث عشرة سنة لا ينام ولا يأكل حتى تروحن، فرفع. وأما حديث الإسراء فلا حجة فيه لهذا القول لأنه ذكر فيه عدة أنبياء غيره وجدوا فى السماوات. ووقع فى حديث مالك بن صعصعة عن الإسراء بالنبى- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات أنه وجد إدريس- عليه السلام- ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 14، ص 259.

فى السماء وأنه لما سلم عليه قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح. فأخذ منه أن إدريس- عليه السلام- لم تكن له ولادة على النبى- صلى الله عليه وسلم- لأنه لم يقل له والابن الصالح، ولا دليل فى ذلك لأنه قد يكون قال ذلك اعتبارا بأخوة التوحيد فرجحها على صلة النسب فكان ذلك من حكمته. على أنه يجوز أن يكون ذلك سهوا من الراوى، فإن تلك الكلمة لم تثبت فى حديث جابر بن عبد الله فى صحيح البخارى. وقد جزم البخارى فى أحاديث الأنبياء بأن إدريس جد نوح أو جد أبيه. وذلك يدل على أنه لم يرمى قوله «مرحبا بالأخ الصالح، ما ينافى أن يكون أبا للنبى- صلى الله عليه وسلم-» (¬1). وعن أبى هريرة ذكر فى قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (سورة الشعراء: 224 - 227). «وقال أبو هريرة سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول على المنبر «أصدق كلمة أو أشعر كلمة قالتها العرب كلمة لبيد: ألا كل شىء ما خلال الله باطل» (¬2). وعن عائشة وابن عباس وأبى هريرة، ذكر فى تفسير قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (سورة الشعراء: 214). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 16، ص 132. (¬2) التحرير والتنوير، ج 19، ص 211.

«ففي حديث عائشة وابن عباس وأبى هريرة فى صحيحى البخارى ومسلم يجمعها قوله، لما نزلت و" أنذر عشيرتك الأقربين"، قام رسول الله على الصفا فدعا قريشا فجعل ينادى: يا بنى فهر يا بنى عدى، لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فقال: يا معشر قريش، فعم وخص، يا بنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله سلينى من مالى ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئا، وكانت صفية وفاطمة من المؤمنين وكان إنذارها إعمالا لفعل الأمر فى معانيه كلها من الدعوة إلى الإيمان وإلى صالح الأعمال، فجمع النبى- صلى الله عليه وسلم- بين الإنذار من الشرك والإنذار من المعاصى لأنه أنذر صفية وفاطمة وكانتا مسلمتين. وفى صحيح البخارى عن ابن عباس قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صعد النبى على الصفا فجعل ينادى يا بنى فهر، يا بنى عدى، لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش تسمع فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن فيلا بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى؟ قالوا: نعم ما جرّبتنا عليك إلا صدقا، قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك

سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت يدا أبى لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب (¬1). ومن الأمثلة التى حشد فيها أقوالا عن بعض الصحابة والتابعين ما ذكره فى قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (سورة الأحقاف: 17). «وعن ابن عباس ومروان بن الحكم ومجاهد والسدى وابن جريج أنها نزلت فى ابن لأبى بكر الصديق واسمه عبد الكعبة الذى سماه النبى- صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن بعد أن أسلم عبد الرحمن قالوا: كان قبل الهجرة مشركا وكان يدعوه أبوه أبو بكر وأمه أم رومان إلى الإسلام ويذكراه بالبعث، فيرد عليهما بكلام مثل ما ذكره فى هذه الآية. ويقول: فأين عبد الله بن جدعان، وأين عثمان بن عمرو، وأين عامر ابن كعب، ومشايخ قريش حتى أسألهم عما يقول محمد. لكن ليست الآية خاصة به حتى تكون نازلة فيه، وبهذا يؤول قول عائشة رضى الله عنها لما قال مروان بن الحكم لعبد الرحمن هو الذى يقول الله فيه «والذى قال لوالديه أف لكما» وذلك فى قصة إشارة عبد الرحمن على مروان أخذه البيعة ليزيد بن معاوية بالعهد له بالخلافة. ففي صحيح البخارى فى كتاب التفسير عن يوسف بن ماهك أنه قال: «كان مروان بن الحكم على الحجاز استعمله معاوية فخطب، فجعل يذكر يزيد ابن معاوية لكى يبايع له بعد أبيه (أى بولاية العهد) فقال له عبد الرحمن ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 19، ص 201.

ابن أبى بكر أهرقلة" أى اجعلتموها وراثة مثل سلطنة هرقل" فقال خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذى أنزل الله فيه «والذى قال لوالديه أف لكما أتعدانني» فقالت عائشة من وراء حجاب، ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذرى (أى براءتى) وكيف يكون المراد ب" الذى قال لوالديه أف لكما" عبد الرحمن بن أبى بكر وآخر الآية يقول" أولئك الذين حق عليهم القول" إلى" خاسرين" فذكر اسم الإشارة للجمع، وقضى على المتحدث عنهم بالخسران، ولم أقف على من كان مشركا وكان أبواه مؤمنين، وأياما كان فقد أسلم عبد الرحمن قبل الفتح فلما أسلم جب إسلامه ما قبله، وخرج من الوعيد الذى فى قوله أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ الآية. لأن ذلك وعيد، وكل وعيد فإنما هو مقيد تحققه بأن يموت المتوعد به غير مؤمن، وهذا معلوم بالضرورة من الشريعة. وتلقب عند الأشاعرة بمسألة الموافاة، على أنه قيل إن الإشارة بقوله" أولئك" عائدة إلى" الأولين" من قوله «ما هذا إلا أساطير الأولين» (¬1). ومن الملحوظ فى أغلب الأمثلة السابقة حرص ابن عاشور فيما يرويه من أقوال الصحابة على ذكر مصادره مثل صحيح البخارى وصحيح مسلم وسنن ابن ماجة ومسند أحمد بن حنبل فضلا عن كتب التفسير. ومن الملحوظ أيضا أن هذه الأقوال تناولت جوانب مختلفة من التفسير، فالمثال الأول وهو عن ابن عمر كان فى معنى مفاتيح الغيب وعددها، والمثال الثانى وهو عن ابن عباس كان حول استعمال بعض الصيغ، والثالث من هذه الأمثال وهو عن ابن مسعود دار حول إسلام عثمان بن مظعون وبعض الحوادث فى زمن الدعوة، والمثال الرابع عن مالك بن صعصعة، وجابر بن عبد ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 26، ص 37.

4 - التفسير بأقوال التابعين:

الله عن مكانة النبى إدريس عليه السلام، والخامس وهو المروى عن أبى هريرة كان فى وصف أشعر أو أصدق كلمة قالتها العرب، والسادس عن عائشة وابن عباس وأبى هريرة دار حول سبب نزول الآية المذكورة، والمثال السابع والأخير وهو عن بعض الصحابة والتابعين دار حول تعيين فيمن نزلت الآية. وابن عاشور وهو يستعين بهذه الأقوال المختلفة اختلافا بينا كان يذكر الرواية أو القول، فإذا وجد ما يقتضى التعليق أو التوضيح فعل، وإن كان هناك اضطراب فى السند بيّنه، وتبدو موافقته على الشيء حين يسكت عنه، أو يؤوّ له مع وجود قرينة التأويل. 4 - التفسير بأقوال التابعين: وقف علماء الحديث من أقوال التابعين مواقف مختلفة، كما اختلفوا فى قول الصحابى «فالتابعى إذا ورد عنه فى التفسير شىء يدرك بالرأى لم يكن له حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لجواز أن يكون أدركه بنفسه استنادا إلى الدلالات اللغوية وغيرها من القرائن التى تعين على فهم المعنى، وإن ورد عنه ما لا يدرك بالرأى بأن يكون من المعانى التى لا يستقل العقل بإدراكها فذلك له حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه مرفوع مرسل فيجرى فيه من المذاهب ما يجرى فى الأحاديث المرسلة» (¬1). ¬

_ (¬1) عبد الوهاب عبد المجيد غزلان البيان فى مباحث من علوم القرآن ص 106، 107 مطبعة دار التأليف- القاهرة. وذكر ابن كثير عن الحديث المرسل:" قال ابن الصلاح: وصورته التى لا خلاف فيها: حديث التابعى الكبير الذى أدرك جماعة من الصحابة وجالسهم، كعبيد الله بن عدى بن الخيار، ثم سعيد بن المسيب وأمثالهما، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم". شرح اختصار علوم الحديث ص 39. وذكر ابن كثير فى موضع آخر:" قال ابن الصلاح: وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه، هو الذى استقر عليه آراء جماعة حفاظ الحديث ونقاد الأثر وتداولوه فى تصانيفهم" ص 40. وانظر ابن قيم الجوزية أعلام الموقعين عن رب العالمين ج 1 ص 31" الحديث المرسل" راجعة طه عبد الرءوف سعد دار الكتب العلمية- بيروت.

ويقول ابن كثير: «وقد ذكر مسلم فى مقدمة كتابه" إن المرسل فى أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة" وكذا حكاه ابن عبد البر عن جماعة من أصحاب الحديث» (¬1). وذكر على لسان ابن الصلاح: «والاحتجاج به مذهب مالك وأبى حنيفة وأصحابهما فى طائفة» (¬2). فما موقف ابن عاشور- المالكى المذهب- من أحاديث التابعين أو أقوالهم؟ لقد استعان فى تفسيره بما جاء عن بعض التابعين على هذا النحو: ذكر عن مجاهد فى تفسير قوله تعالى: قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً* قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (سورة طه: الآيات 57، 58، 59). «قال مجاهد: أنه مكان نصف، وكأن المراد أنه نصف من المدينة لئلا يشق الحضور فيه على أهل أطراف المدينة» (¬3). وعن قتادة فى قوله تعالى: ¬

_ (¬1) شرح اختصار علوم الحديث ص 40. (¬2) المصدر السابق: الصفحة نفسها. (¬3) التحرير والتنوير ج 16 ص 246. ومجاهد: هو أبو حجاج مجاهد بن جبر، ويقال ابن جبير، ويقال ابن جبير بالتصفير، الإمام المشهور المكى المخزومى مولاهم مولى عبد الله بن أبى السائب المخزومى وهو تابعى إمام متفق على جلالته وإمامته، وهو إمام الفقه والتفسير والحديث" ت 101 هـ" وانظر مقدمة فى أصول التفسير ابن تميمة، ص 10، 44.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (سورة النحل: 90). «وعن قتادة: ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به فى هذه الآية. وليس من خلق كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدح فيه، وإنما نهى عن سفاسف الاخلاق ومذاقها» (¬1). وعن عكرمة فى قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (سورة النحل 28). «وعن عكرمة: نزلت هذه الآية بالمدينة فى قوم أسلموا بمكة، ولم يهاجروا فأخرجتهم قريش إلى بدر كرها فقتلوا ببدر» (¬2). وعن أول ما نزل من سورة المائدة ذكر: «وعن محمد بن كعب القرظى: إن أول ما نزل من هذه السورة قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ- إلى قوله- صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (¬3). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 14 ص 259. قتادة: هو أبو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسى الأكمه، عربى الأصل، روى عن أنس وأبى طفيل وابن سيرين وعكرمة وعطاء بن أبى رباح وغيرهم، وكان قوى الحافظة، واسع الاطلاع فى الشعر العربى، بصيرا بأيام العرب، عليما بأنسابهم، متضلعا فى اللغة العربية، ومن هنا جاءت شهرته بالتفسير، شهد له سعيد بن المسيب. (¬2) التحرير والتنوير ج 14 ص 138. عكرمة: هو عبد الله عكرمة مولى ابن عباس الهاشمى المدنى، أصله بربرى من أهل المغرب، وهو من كبار التابعين، وأحد الأئمة الأعلام، وروى عن مولاة، وعن السيدة عائشة، وأبى هريرة. (¬3) سورة المائدة: الآيتان 15، 16.

ثم نزلت بقية السورة فى عرفة فى حجة الوداع (¬1) وفى قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ الشعراء 197. " وعن مقاتل نزل بالمدينة. وكان الذى دعاه إلى ذلك أن مخالطة علماء بنى إسرائيل كانت بعد الهجرة. ولا يخفى أن الحجة لا تتوقف على وقوع مخالطة علماء بنى إسرائيل؛ فقد ذكر القرآن مثل هذه الحجة فى آيات نزلت بمكة، من ذلك قوله: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (¬2) فى سورة الرعد وهى مكية وقوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (¬3) فى سورة القصص وهى مكية. وقوله: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ (¬4) فى سورة العنكبوت وهى مكية. وشأن علماء بنى إسرائيل مشهور بمكة، وكان لأهل مكة صلات مع اليهود بالمدينة ومراجعة بينهم فى شأن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم عند قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ فى سورة الإسراء ولذا فالذى نوقن به أن السورة كلها مكية ... » (¬5). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 6 ص 71. القرظى: هو أبو حمزة، أو أبو عبد الله، محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظى المدنى، من حلفاء الأوس، روى عن على، وابن مسعود، وابن عباس وغيرهم، وروى عن أبى بن كعب بالواسطة، وقد اشتهر بالثقة والعدالة والورع وكثرة الحديث وتأويل القرآن (ت 118 هـ) (¬2) سورة الرعد: الآية 43. (¬3) سورة القصص: الآية 52. (¬4) سورة العنكبوت: الآية 47. (¬5) مقاتل: هو مقاتل بن سليمان، كان يأخذ عن اليهود علم الكتاب، واتهمه أبو حنيفة بأنه مشبّه كذاب، وقال ابن المبارك فيه: ما أحسن تفسيره لو كان ثقة. (ت 150 هـ).

وفى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ (سورة النساء: 77). «وقال السدى:" الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ" قوم أسلموا قبل أن يفرض القتال وسألوا أن يفرض عليهم القتال، فلما فرض القتال إذا فريق يخشون الناس» (¬1). وفى قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (سورة البقرة: 197). «وقال عطاء: حاضرو المسجد الحرام أهل مكة وأهل عرفة، ومر، وعرنة وضحينان، والرجيع، وقال الزهيرى: أهل مكة ومن كان على مسافة يوم أو نحوه، وقال ابن زيد: أهل مكة، وذى طوى، وفج، وما يلى ذلك. وقال طاوس" حاضر والمسجد الحرام كل من كان داخل الحرم» (¬2). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 5 ص 125. السّدى: أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبى كريمة السدى، رمى بالتشيّع، روى عن أنس وعبد الله بن عباس، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن عدى: مستقيم الحديث صدوق (ت 127 هـ). (¬2) التحرير والتنوير ج 2 ص 230.-

وفى قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ (سورة البقرة: الآية 230). " وذهب ابن جبير وعطاء وابن دينار وجابر بن زيد إلى أن طلاق البكر ثلاثا فى كلمة يقع طلقة واحدة، لأنه قبل البناء بخلاف طلاق المبنى بها، وكأن وجه قولهم فيه: أن معنى الثلاث فيه كناية عن البينونة، والمطلقة قبل البناء تبنيها الواحدة" (¬1) والملحوظ فى هذه النقول خلوها من الأحاديث النبوية، وإنما هى أقوال دارت حول تحديد مكان يوم الزينة كما جاء عن مجاهد فى المثال الأول، ¬

_ - عطاء: وكنية عطاء أبو محمد المكى القرشى مولى ابن خثيم القرشى القهرى. وعطاء معدود من كبار التابعين، ولد فى خلافة عثمان، وسمع العبادلة الأربع، قال الشافعى ليس فى التابعين أحد أكثر اتباعا للحديث منه. الزهرى: أبو بكر محمد بن مسلم عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهرى القرشى، أحد كبار صغار التابعين، ويعتبر من صغار التابعين لرؤيته ولقائه القليل من الصحابة منهم: أنس بن مالك، فقد روى عنه الزهرى ما يقرب من خمسين حديثا، وهى منتشرة فى كتب الحديث الستة المعتمدة عند أهل السنة (ت 571 هـ). ابن زيد: جابر بن زيد الأزدى البصرى" أبو الشعثاء، تابعى فقيه من الأئمة، من أصل البصرة، صحب ابن عباس، وكان من بحور العلم، وفى كتاب الزهد للإمام أحمد:" لما مات جابر ابن زيد قال قتادة: اليوم مات أعلم أهل العراق" طاوس: طاوس بن كيسان، أدراك خمسين من الصحابة وبلغ منزلة الأئمة الأعلام وأخذ عنه الصفوة من التابعين توفى 106 هـ. (¬1) التحرير والتنوير ج 2 ك 2 ص 420. ابن الجبير: سعيد بن جبير" أبو محمد، أو عبد الله" كان حبشى الأصل، أسود اللون، أبيض الخصال، سمع جماعة من أئمة الصحابة، وروى عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما" ابن دينار: هو عبيد الله بن عبد الله بن دينار، ثقة، احتج به البخارى والأئمة الأربعة، وقال على بن المدينى: صدوق" ت 98 هـ".

5 - التفسير بأسباب النزول:

أو الأخلاق التى كان عليها أهل الجاهلية وما أمر الله به منها إذا كانت من الخلق الحسن أو ما كانوا عليه من أخلاق مذمومة، ونهى الله تعالى عنها كما جاء عن قتادة فى المثال الثانى، أو نزول الآية الثامنة والعشرين من سورة النحل فى المدينة كما جاء عن عكرمة فى المثال الثالث، أو أول ما نزل من سورة المائدة عن محمد بن كعب القرظى فى المثال الرابع، وكذلك ما جاء عن مقاتل فى المثال الخامس، وما جاء عن السدى فى شأن قوم أسلموا، وسألوا أن يفرض عليهم القتال فى المثال السادس، أو ما جاء عن عطاء وطاوس فى شأن حاضرى المسجد الحرام، أو ما جاء فى شأن طلاق البكر كما جاء عن ابن جبير وعطاء وابن دينار وجابر بن زيد فى المثالين السابع والثامن. وقد كانت مصادر ابن عاشور فى الحديث النبوى من كتب السنة المعتبرة فضلا عما عرفناه عن موقفه من السند والمتن والأحاديث الضعيفة وأحاديث فضائل السور، وكانت النقول عن التابعين عنده تمثل الجانب الذى يمكن الاستئناس به حيث تدرك بالعقول معانيه، أو ما تلقاه هؤلاء التابعون من أقوال عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أسباب النزول، أو أول ما نزل من آيات بعض السور أو مكان نزولها. (¬1) 5 - التفسير بأسباب النزول: من الأقوال التى تحدد قيمة أسباب النزول فى التفسير وشروط استخدامها، وكذا الأقوال التى توضح سبب نزول القرآن منجما خصوصا الآيات التى نزلت بسبب. ¬

_ (¬1) ابن تيمية:" قال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين فى الفروع ليست حجة، فكيف تكون فى التفسير؟ يعنى أنها لا تكون حجة على غيرهم مما خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب فى كونه حجة .... " مقدمة فى أصول التفسير ص 28.

ومما ذكره الدكتور فتحى الدرينى: «اقتضاء صحة التفسير وعلميته" للمأثور" أمر تقتضيه ظروف تنزيله منجما على مدى ثلاث وعشرين عاما تقريبا، إذ احتفت ببعض آية ظروف ومناسبات، يطلق عليها" أسباب النزول" مما لم يتح لغير من عاصر التنزيل مشاهدتها، والوقوف على دقائقها، كما يطلق عليها بعض من تخصص فى علم أسباب النزول" القصة التشريعية" وهى عنصر بالغ الأهمية من عناصر ثقافة المفسر، إذ تسدد خطاه فى تعيين المعنى المراد، فكانت من القرائن الدالة عليه، دون أن يكون لها من أثر على تكييف النص القرآنى، فى قصر شمول معناه، أو عموم حكمه، أو تقييد إطلاقه، وإنما هى مجرد قرائن، أو دوال للاستيضاح فحسب» (¬1). وذكر أيضا: «ومعلوم أن هذه" المناسبات" لا يمكن الوقوف عليها بالنسبة إلى الأجيال الخالفة من العلماء، أو تصورها إلا عن طريق" النقول المأثورة" فكان هذا العنصر الأثرى إذن أساسيا فى قوام تفسير المفسر بالنسبة إلى الآى التى احتفت بها مثل تلك الظروف والمناسبات لما تلقى من ضوء على المراد من معنى النص، ولا سيما إذا كان النص القرآنى ذا وجوه من المعانى، أو يحتمل دلالات، فكان" سبب النزول" أنه قرينة على تعيين مراد الشارع منها، أو ترجيحه على الأقل» (¬2). ¬

_ (¬1) دراسات وبحوث فى الفكر الإسلامى المعاصر، ص 167، 168. وانظر البرهان فى علوم القرآن بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى" ت 794 هـ" ص 22 ج 1 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية صيدا- بيروت. (¬2) دراسات وبحوث فى الفكر الإسلامى المعاصر، ص 168. وعن حكمة نزول القرآن منجما يقول النيسابورى:" إن الرسول لم يكن له بد من التلقين والحفظ" غرائب القرآن ورغائب الفرقان على هامش تفسير الطبرى ج 19 ص 12 دار المعرفة- بيروت- لبنان.-

ويقول ابن خلدون: «كان القرآن ينزل جملا جملا، وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع» (¬1). والنيسابورى: «إن نزول القرآن بحسب الوقائع والحوادث أوفق فى باب التكليف والاستبصار» (¬2). والقسطلانى: «إن الوحى فى الزمن الأخير من الحياة النبوية كان أكثر نزولا لأن الوفود بعد فتح مكة كثروا، وكثر سؤالهم عن الأحكام» (¬3). وقد أظهرت الأقوال السابقة أهمية أسباب النزول فى تفسير كثير من الآيات ووصفت الضوابط التى يمكن بواسطتها الاستعانة بها. وابن عاشور استعان بأسباب النزول وجعل لها فصلا خاصا من المقدمات العشر التى ذكرها فى مقدمة التحرير والتنوير حيث رسم فيه منهجه فى الاستعانة بهذه الوسيلة، ومما ذكره فى هذا الفصل. «أولع كثير من المفسرين يتطلب أسباب نزول آى القرآن، وهى حوادث يروى أن الآيات من القرآن نزلت لأجلها لبيان حكمها أو حكايتها أو إنكارها أو نحو ذلك، وأغربوا فى ذلك وأكثروا حتى كاد بعضهم أن يوهم ¬

_ - ويقول الزركشى:" تنجيم القرآن أقرب إلى الضبط والتثبت" البرهان فى علوم القرآن ج 1 ص 236. دار إحياء الكتب العربية 1376 هـ- 1957 م. ويقول ابن حجر:" لو نزل جملة واحدة على أمة أمية لا يقرأ غالبهم ولا يكتب لشق عليهم حفظه"، فتح البارى بشرح صحيح البارى ج 9 ص 6. (¬1) ابن خلدون، المقدمة، ص 438 ط 1 مصطفى محمد. (¬2) غرائب القرآن ورغائب الفرقان، هامش تفسير الطبرى ج 19 ص 12. (¬3) إرشاد السارى إلى شرح صحيح البخارى ج 7 ص 496. وانظر الإتقان للسيوطى ج 1 ص 38 النوع التاسع:" معرفة سبب النزول" دار المعرفة بيروت- لبنان ط 4، 1398 هـ- 1978 م. وانظر لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطى، هامش تفسير الجلالين دار المعارف- القاهرة.

الناس أن كل آية من القرآن نزلت على سبب، حتى رفعوا الثقة بما ذكروا، بيد أنّا نجد فى بعض آى القرآن إشارة إلى الأسباب التى دعت إلى نزولها. ونجد لبعض الذى أسبابا تثبت بالنقل دون احتمال أن يكون ذلك رأى الناقل، فكان أمر أسباب نزول القرآن دائر بين القصد والإسراف، وكان فى غض النظر عنه وإرسال حبله على غاربه خطر عظيم فى فهم القرآن» (¬1). وفحوى هذا الكلام أن ابن عاشور ينعى على بعض المفسرين الذين أكثروا فى ذكر أسباب النزول وأغربوا فيها ليوهموا الناس أن لكل آية سببا فى نزولها، ومن ثم رفعوا الثقة فيما يذكرون من أقوال. وعلى الجانب الآخر وجد ابن عاشور فى بعض الآيات إشارة إلى الأسباب التى دعت إلى نزولها، كما أن لبعض الآيات أسبابا ثبتت بالنقل لا بالرأى، وعلى ذلك لا يستطيع أن يغض النظر عن ذكر هذه الأسباب أو الإشارات ولكن دون إسراف أو مبالغة. وذكر أيضا فى هذا الفصل: «إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه بها لأن فيها بيان مجمل، أو إيضاح خفى وموجز، ومنها ما يكون وحده تفسيرا، ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة التى بها تأويل الآية أو نحو ذلك». أى أن أسباب النزول تمثل عونا كبيرا فى بيان المواد من الآية المطروحة أمام المفسر أيا ما كانت الحاجة التى تستوجب وقوفه عندها شريطة أن تكون صحيحة الأسانيد كما ذكر ابن عاشور فى مواضع كثيرة فى هذا الفصل. وابن عاشور وهو يستعين بأسباب النزول نراه أحيانا يذكر أكثر من سبب فى نزول الآية الواحدة ... ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 1 ص 46.

ذكر فى سبب نزول قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها (سورة البقرة: الآية 26). روى الواحدى فى أسباب النزول عن ابن عباس أن الله تعالى لما أنزل قوله: لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ (¬1) وقوله: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً (¬2) قال المشركون أرأيتم أى شىء يصنع بهذا، فأنزل الله إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها وروى عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت فى كتابه وضرب بها المثل ضحك اليهود وقالوا ما يشبه أن يكون هذا كلام الله فأنزل الله إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي الآية» (¬3). والرواية الأولى عن ابن عباس، والثانية عن الحسن وقتادة، ويمكن التوفيق أو الجمع بينهما حيث لا يختلف موقف المشركين أو اليهود فيما ضربه الله تعالى من مثل فى الآيتين المذكورتين، ولعل ذلك هو المقصود من قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي ........ الآية. حيث يتوقف فهم المراد منها على علم المفسر بسبب نزولها». ¬

_ (¬1) سورة الحج: الآية: 73. (¬2) سورة العنكبوت: الآية 41. (¬3) التحرير والتنوير ج 1 ص 358 الكتاب

وذكر فى قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (¬1). " روى الطبرى، والواحدى" فى سبب نزول هذه الآية: أن عياش بن أبى ربيعة المخزومي كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة قبل هجرة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وكان أخا أبى جهل لأمه، فخرج أبو جهل وأخوه الحارث ابن هشام، والحارث بن زيد بن أبى أنيسة فى طلبه، فأتوه بالمدينة وقالوا له: " إن أمك أقسمت أن لا يظلها بيت حتى تراك، فارجع معنا حتى تنظر إليك، ثم ارجع، وأعطوه موثقا من الله أن لا يهيجوه، ولا يحولوا بينه وبين دينه، فخرج معهم فلما جاوزوا المدينة أوثقوه، ودخلوا به مكة، وقالوا له" لا نحلك من وثقائك حتى تكفر بالذى آمنت به" وكان الحارث بن زيد يجلده ويعذبه، فقال عياش للحارث «والله لا ألقاك خاليا إلا قتلتك» فبقى بمكة حتى خرج يوم الفتح إلى المدينة فلقى الحارث بن زيد بقباء، وكان الحارث قد أسلم ولم يعلم عياش بإسلامه، فضربه عياش فقتله، ولما أعلم أنه أسلم رجع عياش إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بالذى صنع تنزلت: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً فتكون هذه الآية قد نزلت بعد فتح مكة. ¬

_ (¬1) سورة النساء: الآية 92.

وفى ابن عطية: قيل نزلت فى اليمان. والد حذيفة بن اليمان حين قتله المسلمون يوم أحد خطأ. «وفى رواية للطبرى: أنها نزلت فى قضية أبى الدرداء حين كان فى سرية، فعدل إلى شعب فوجد رجلا فى غنم له، فحمل عليه أبو الدرداء بالسيف، فقال الرجل" لا إله إلا الله" فضربه فقتله وجاء بغنمه إلى السرية، ثم وجد فى نفسه شيئا فأتى إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فذكر له فنزلت الآية» (¬1). ونحن هنا أمام ثلاث روايات فى سبب نزول هذه الآية الأولى ذكرها الطبرى والواحدى، والثانية ابن عطية فى تفسيره، والأخيرة الطبرى وحده، والأولى والأخيرة ذكرهما الطبرى على الرغم من اختلافهما. وفى الإتقان: «كثيرا ما يذكر المفسرون لنزول الآية أسبابا متعددة، وطرق الاعتماد فى ذلك أن ينظر إلى العبارة الموافقة، فإن عبّر أحدهما بقوله: نزلت فى كذا، والآخر نزلت فى كذا، وذكر أمرا آخر، فإن هذا يراد به التفسير لا ذكر سبب النزول، فلا منافاة بين قوليهما إذا كان اللفظ يتناولهما، وإن عبر أحد بقوله نزلت فى كذا، وصرح الآخر بذكر سبب النزول فهو المعتمد، وذاك استنباط» (¬2). وأحيانا ما يذكر رواية واحدة كما فى قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (سورة العنكبوت: الآية 3). روى الطبرى عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: نزلت هذه الآية: الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا إلى قوله: وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (¬3). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 5 ص 157. (¬2) الإتقان ج 1 ص 42، وانظر" النوع السابع والسبعين". (¬3) سورة العنكبوت: الآيات 1، 2، 3.

«فى عمار بن ياسر إذ كان يعذب فى الله، هو وأمثاله مثل عياش بن أبى ربيعة، والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام ممن كانوا يعذبون بمكة، وكان النبى- صلى الله عليه وسلم- يدعو لهم الله بالنجاة لهم وللمستضعفين من المؤمنين» (¬1). «ورواية الطبرى هذه عن عبد الله بن عبيد بن عمير صريحة الجزم بأنها فى سبب نزول الآيات المذكورة وقد نبّه السيوطى إلى ان قبيل المسند من الصحابى إذا وقع من تابعى فهو مرفوع أيضا لكنه مرسل، فقد يقبل إذا صح المسند إليه وكان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير أو اعتضد بمرسل آخر أو نحو ذلك» (¬2). وكما ذكر فى قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (سورة النور الآية 55). قال أبو العالية (¬3): مكث رسول الله بمكة عشر سنين بعد ما أوحى إليه خائفا هو وأصحابه، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة وكانوا فيها خائفين ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 20، ص 206. (¬2) انظر: الإتقان، ج 1، ص 42. (¬3) أبو العالية: هو رفيع بن مهران الرياحى مولاهم، أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بسنتين، روى عن على وابن مسعود وابن عباس وابن عمرو وأبى بن كعب وغيرهم، وهو من الثقات التابعين المشهورين بالتفسير، قال فيه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم ثقة، وقد أجمع عليه أصحاب الكتب الستة.

يصبحون ويمسون فى السلاح، فقال رجل: يا رسول الله أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال رسول الله: لا تغبرون (أى تمكثون) إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم فى الملإ العظيم محتبيا ليس عليه حديدة" ونزلت هذه الآية. فكان اجتماع هذه المناسبات سببا لنزول هذه الآية فى موقعها هذا بما اشتملت عليه من الموعود به الذى لم يكن مقتصرا على إبدال خوفهم أمنا كما اقتضاه أثر ابى العالية، ولكنه كان من جملة الموعود كما كان سببه من عداد الأسباب» (¬1). وأحيانا يذكر روايات عدة ويستبعد واحدة منها، ذكر فى قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ سورة الحج الآية 11. «والظاهر أن هذه الآية نزلت بالمدينة. ففي صحيح البخارى عن ابن عباس فى قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء». وفى رواية الحسن: أنها نزلت فى المنافقين يعنى المنافقين من الذين كانوا مشركين مثل: عبد الله بن أبى بن سلول، وهذا بعيد لأن أولئك كانوا مبطنين الكفر فلا ينطبق عليهم قوله" فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ". وممن يصلح مثالا لهذا الفريق العرنيون الذين أسلموا وهاجروا وجاءوا إلى المدينة، فأمرهم ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 18، ص 282.

النبى- صلى الله عليه وسلم- بأن يلحقوا براعى إبل الصدقة خارج المدينة فيشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحوا فلما صحوا قتلوا الراعى واستاقوا الذود ومروا، فألحق بهم النبى- صلى الله عليه وسلم- الطلب فى أثرهم حتى لحقوا بهم فأمر بهم فقتلوا. وفى حديث الموطأ: أن أعرابيا أسلم وبايع النبى- صلى الله عليه وسلم- فأصابه وعك بالمدينة، فجاء إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- يستقيله بيعته فأبى أن يقيله: فخرج من المدينة فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «المدينة كالكير تنفى خبثها وينصع طيبها» فجعله خبثا لأنه لم يكن مؤمنا ثابتا، وذكر الفخر عن مقاتل إن نفرا من أسد وغطفان قالوا: نخاف أن لا ينصر الله محمدا فينقطع الذى بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميزوننا، فنزل فيهم قوله تعالى مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ (الحج: 15). وعن الضحاك (¬1): «أن الآية نزلت فى المؤلفة قلوبهم منهم: عينية بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس قالوا: ندخل فى دين محمد فإن أصبنا خيرا عرفنا أنه حق، وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل. وهذا كله ناشئ عن الجهل وتخليط الأسباب الدنيوية بالأسباب الأخروية، وجعل المقارنات الاتفاقية كالمعلومات اللزومية، وهذا أصل كبير من أصول الضلالة فى أمور الدين وأمور الدنيا. ولنعم المعبر عن ذلك قوله تعالى: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ إذ لا يهتدى إلى تطلب المسببات من أسبابها» (¬2). ¬

_ (¬1) الضحاك بن مزاحم البلخي الخرسانى" أبو القاسم" مفسر كان يؤدب الطفال، ويقال كان فى مدرسته ثلاث آلاف صبى، وهو من أشراف المعلمين وفقهاءهم، وله كتاب فى التفسير، توفى بخرسان 105 هـ- 723 م. انظر الأعلام، ج 3، ص 215. (¬2) التحرير والتنوير، ج 17، ص 211.-

6 - التفسير بالقصص:

من خلال استقراء الأمثلة السابقة- وغيرها- مما أورده ابن عاشور فى أسباب النزول يمكن القول أن أبرز سمات استخدام ابن عاشور لأسباب النزول هى: - ذكر أكثر من رواية فى سبب نزول الآية الواحدة دون ترجيح أو توثيق، وأحيانا يستبعد واحدة من هذه الروايات مع تعليل هذا الاستبعاد. - أهم مصادر أسباب النزول عند ابن عاشور: البخارى، والموطأ، والواحدى، والطبرى، وابن عطية وتفسير الفخر الرازى، ولا يمنع ذلك أن تكون هناك مصادر أخرى من كتب الحديث كصحيح مسلم، والترمذى، وابن ماجة وغيرهم، أو من كتب التفسير الأخرى كتفسير الجصاص والقرطبى والزمخشرى. - قد يكتفى أحيانا باسم التابعى الذى وردت عنه الرواية دون ذكر الإسناد من قبيل الاختصار. - أكثر الذين ذكر مروياتهم فى أسباب النزول من التابعين الذين وثّقهم النقاد. 6 - التفسير بالقصص: التفسير بالقصص من الوسائل التى لجأ إليها ابن عاشور فى تفسيره «والقصص القصة، وفعل بمعنى مفعول كالنقص والقبض، والقصص جمع القصة، ويقال اقتصصت الحديث، وقصصته قصا، وقصصا رويته على جهته، وهو من اقتصصت بالخبر تتتابع فيه المعانى» (¬1). ¬

_ - وانظر أمثلة أخرى: ج 2 ص 193، 197، 298، 324، 338. ج 3 ص 304، 349. ج 5 ص 208. ج 8 ص 33. ج 10 ص 143. ج 11 ص 30. ج 15 ص 242. ج 16 ص 85. ج 17 ص 154. ج 18 ص 282، 286. ج 22 ص 20. ج 23 ص 202. ج 24 ص 270. ج 27 ص 165. ج 28 ص 232. (¬1) أبو على الفضل بن الحسن الطبرسى، مجمع البيان فى تفسير القرآن، المجلد الثانى، ج 3، ص 102 منشورات مكتبة الحياة بيروت- لبنان 1380 هـ 1961 م.

وهناك فروق بين تفسير القصة فى حدود المضمون القرآنى والفهم العربى للنصوص القرآنية، والذى يعتبر فيه النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة أو التابعين هو المصدر الأساسى، وبين الإسرائيليات فمصدرها الأساسى أهل الكتاب يهود ومسيحيون وعوامهما (¬1). ويقول الشيخ محمد أبو زهرة عن طابع القصص القرآنى: «إننا إذ نظرنا نظرة فاحصة تليق بمقام القرآن، ومكانته فى البيان الغربى، نجد أن التكرار فيه له مغزى، ذلك أن القرآن ليس كتاب قصص، وليس كالروايات القصصية التى تذكر الحوادث المتخيلة أو الوقعة. إنما قصص القرآن، وهو قصص لأمور واقعة، يساق للعبر وإعطاء المثلات، وبيان مكان الضالين ومنزلة المهتدين، وعاقبة الضلال وعاقبة الهداية، وبيان ما يقاوم به النبيون، وورائهم كل الدعاة للحق، فهو قصص للعبرة بين الواقعات، لا لمجرد المتعة من الاستماع، والقراءة، ولذلك قال الله تعالى فى آخر قصة نبى الله يوسف عليه السلام. لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (¬2) (سورة يوسف: الآية 111). ويقول أبو جعفر الطوسى عن الوجه فى تكرير القصة بعد القصة فى القرآن الكريم: «إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة، فلو لم تكن الأنباء والقصص مكررة لوقعت قصة ¬

_ (¬1) انظر الدكتور محمد حسين الذهبى، الإسرائيليات فى التفسير والحديث مكتبة وهبة- القاهرة. (¬2) الشيخ محمد أبو زهرة، المعجزة الكبرى" القرآن، ص 162 - 163.

موسى إلى قوم، وقصة نوح إلى قوم آخرين، فأراد الله بلطفه ورحمته أن يشهر هذه القصص فى أطراف الأرض، ويلقيها فى كل سمع، ويثبتها فى كل قلب، ويزيد الحاضرين فى الإفهام» (¬1). ولا نعتقد أن هدف القصص القرآنى كان على هذا النحو، فالقصة الواحدة لا تتكرر بعينها فى السور المختلفة، ولكنها فى كل سورة تحمل طابعا مغايرا يختلف من حيث الإطالة أو التركيز تبعا للعبرة المقصودة، فضلا عن تنوع هذه القصص، فليست هى مقصورة على قصص الأنبياء فحسب، ولكن هناك أيضا قصص ابني آدم، وأهل الكهف، وقارون، وأصحاب الأخدود، وأصحاب الفيل، وقصص صدر الدعوة الإسلامية، كالغزوات، والهجرة، والإسراء وغيرها (¬2). ومما ذكره ابن عاشور فى مقدمة التحرير والتنوير عن المنهج القصصى للقرآن الكريم: «والقصة: الخبر عن حادثة غائبة عن المخبر بها، فليس ما فى القرآن من ذكر الأحوال الحاضرة فى زمن نزوله قصصا مثل ذكر وقائع المسلمين مع عدوهم وجمع القصة قصص بكسر القاف، وأما القصص بفتح القاف فاسم للخبر المقصوص وهو مصدر وسمى به المفعول، يقال قصّ على فلان إذا أخبره بخبر. وأبصر أهل العلم أن ليس الغرض من سوقها قاصرا على حصول العبرة والموعظة مما تضمنته القصة من عواقب الخير أو الشر، ولا على حصول التنويه بأصحاب تلك القصص فى عناية الله بهم، أو التشويه بأصحابها فيما لاقوه من ¬

_ (¬1) التبيان فى تفسير القرآن، المجلد الأول، ج 1، ص 14. (¬2) وانظر أبا القاسم محمد بن أحمد بن حرى الكلبى الغرناطى (ت 741 هـ) التسهيل لعلوم التنزيل، ص 6، الدار العربية للكتاب.

غضب الله عليهم كما تقف عنده أفهام القانعين بظواهر الأشياء وأوائلها، بل الغرض من ذلك أسمى وأجلّ. إن فى تلك القصص لعبرا جمة وفوائد للأمة؛ ولذلك نرى القرآن يأخذ من كل قصة أشرف مواضيعها ويعرض عما عداه ليكون تعرضه للقصص منزها عن قصد التفكه بها. من أجل ذلك كله لم تأت القصص فى القرآن متتالية متعاقبة فى سورة أو سور كما يكون كتاب التاريخ، بل كانت مفرقة موزعة على مقامات تناسبها، لأن معظم الفوائد الحاصلة منها لها علاقة بذلك التوزيع، هو ذكر وموعظة لأهل الدين فهو بالخطابة أشبه» (¬1). ومن القصص القرآنى الذى يتعلق بالحوادث الغابرة قصة أصحاب الأخدود المذكورة فى سورة البروج. يقول ابن عاشور عن بعض أغراض هذه السورة: «ابتدئت أغراض هذه السورة بضرب المثل للذين فتنوا المسلمين بمكة بأنهم قوم فتنوا فريقا ممن آمن بالله فجعلوا أخدودا من نار لتعذيبهم ليكون المثل تثبتا للمسلمين وتعبيرا لهم على أذى المشركين وتذكيرهم بما جرى على سلفهم فى الإيمان من شدة التعذيب الذى لم ينلهم مثله، ولم يصدهم ذلك عن دينهم، وإشعار المسلمين بأن قوة الله عظيمة فسيلقى المشركون جزاء صنيعهم ويلقى المسلمون النعيم الأبدى والنصر» (¬2). ومما ذكره فى تفسير قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ* وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ* وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ* قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ سورة البروج، الآية 1 - 4. «وهذه قصة اختلف الرواة فى تعيينها وفى تعيين المراد منها فى هذه الآية. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 64 - 65. (¬2) التحرير والتنوير، ج 3، ص 236.

والروايات كلها تقتضى أن المفتونين بالأخدود قوم اتبعوا النصرانية فى بلاد اليمن على أكثر الروايات، أو فى بلاد الحبشة على بعض الروايات، وذكرت فيها روايات متقاربة تختلف بالإجمال والتفصيل، والترتيب، والزيادة، والتعيين، وأصحها ما رواه مسلم والترمذى عن صهيب أن النبى صلى الله عليه وسلم ساقها تفسيرا لهذه الآية، والترمذى ساق حديثها فى تفسير سورة البروج. وعن مقاتل كان الذين اتخذوا الأخاديد فى ثلاث من البلاد بنجران، وبالشام، وبفارس. أما الذى بالشام ف (أنطانيوس) الرومى وأما الذى بفارس فهو (بختنصر) والذى بنجران ف (يوسف ذو نواس). ولنذكر القصة التى أشار إليها القرآن تؤخذ من سيرة ابن إسحاق على أنها جرت فى نجران من بلاد اليمن، وأنه كان ملك وهو ذو نواس له كاهن أو ساحر، وكان للساحر تلميذ اسمه عبد الله بن الثامر وكان يجد فى طريقه إذ مشى إلى الكاهن صومعة فيها راهب كان يعبد الله على دين عيسى عليه السلام ويقرأ الإنجيل اسمه (فيميون) بفاء، فتحتية، فميم، فتحتية (وضبط فى الطبعة الأوروبية من سيرة ابن إسحاق- التى يلوح أن أصلها المطبوعة عليه أصل صحيح، بفتح فسكون فكسر فضم)، قال السهيلى، ووقع للطبرى بقاف عوض الفاء. وقد يحرف فيقال ميمون بميم فى أوله وبتحتية واحدة، أصله فى غسان من الشام ثم ساح فاستقر بنجران، وكان منعزلا عن الناس مختفيا فى صومعته، وظهرت لعبد الله فى قومه كرمات. وكان كلما ظهرت له كرامة دعا من ظهرت لهم إلى أن يتبعوا النصرانية، فكثر المتنصرون فى نجران، وبلغ ذلك الملك ذا نواس وكان يهوديا، وكان أهل نجران مشركين يعبدون نخلة طويلة، فقتل الملك الغلام وقتل الراهب

وأمر بأخاديد وجمع فيها حطب وأشعلت، وعرض أهل نجران عليها فمن رجع عن التوحيد تركه ومن ثبت على الدين الحق قذفه فى النار. فكان أصحاب الأخدود ممن عذب من أهل دين المسيحية فى بلاد العرب. وقصص الأخاديد كثيرة فى التاريخ، والتعذيب بالحرق طريقة قديمة، ومنها: نار إبراهيم عليه السلام. وأما تحريق عمرو بن هند مائة من بنى تميم وتلقيبه بالمحرق فلا أعرف أن ذلك كان باتخاذ أخدود. وقال ابن عطية: رأيت فى بعض الكتب أن أصحاب الأخدود هو محرق وآله الذى حرق من بنى تميم مائة» (¬1). وفى قوم تبّع ذكر فى قوله تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (سورة الدخان: الآية 37). «وافتتح الكلام بالاستفهام التقريرى لاسترعاء الأسماع لمضمونه لأن كل أحد يعلم أن تبعا ومن كان قبله من الملوك خير من هؤلاء المشركين. والمعنى: أنهم ليسوا خيرا من قوم تبع ومن قبلهم من الأمم الذين استأصلهم الله لأجل إجرامهم فلما ماثلوهم فى الإجرام فلا مزية لهم تدفع عنهم استئصال الذى أهلك الله به أمما قبلهم. والاستفهام فى" أهم خير أم قوم تبع" تقريرى، إذ لا يسعهم إلا أن يعترفوا بأن قوم تبع والذين من قبلهم خير منهم لأنهم كانوا يضربون بهم الأمثال فى القوة والمنعة؛ والمراد بالخيرية التفضيل فى القوة والمنعة، كما قال تعالى بعد ذكر قوم فرعون أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ (¬2). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 30، ص 241، 242. (¬2) سورة القمر: الآية 43.

وقوم تبع هم حمير، وهم سكان اليمن وحضر موت من حمير وسبأ، وقد ذكرهم الله تعالى فى سورة ق. وتبع بضم الميم وتشديد الموحدة لقب لمن يملك جميع بلاد اليمن حميرا وسبأ وحضر موت. فلا يطلق على الملك لقب تبع إلا إذا ملك هذه المواطن الثلاثة، قيل سموه تبعا باسم الظل لأنه يتبع الشمس كما يتبع ظل الشمس، ومعنى ذلك: أنه يسير بغزوته إلى كل مكان تطلع عليه الشمس، كما قال تعالى فى ذى القرنين فَأَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ إلى قوله لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (¬1) وقيل لأنه تتبعه ملوك مخاليف اليمن، وتخضع له جميع الأقيال والأذواء من ملوك مخاليف اليمن وأذوائه، فلذلك لقب تبعا لأنه تتبعه الملوك. وتبع المراد هنا المسمى أسعد والمكنى أبا كرب، كان قد عظم سلطانه وغزا بلاد العرب ودخل مكة ويثرب وبلغ العراق، ويقال إنه الذى بنى مدينة الحيرة فى العراق، وكانت دولة تبع فى سنة ألف قبل البعثة المحمدية، وقيل كان فى حدود السبعمائة قبل بعثة النبى صلى الله عليه وسلم. وتعليق الإهلاك بقوم تبع دونه يقتضى أن تبعا نجا من هذا الإهلاك وأن الإهلاك سلّط على قومه، قالت عائشة: ألا ترى أن الله ذم قومه ولم يذمه. والمروى عن النبى صلى الله عليه وسلم فى مسند أحمد وغيره أنه قال: «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم (وفى رواية) كان مؤمنا» وفسره بعض العلماء بأنه كان على دين إبراهيم عليه السلام، وأنه اهتدى إلى ذلك بصحبة حبرين من أحبار اليهود لقيهما بيثرب حين غزاها، وذلك يقتضى نجاته من الإهلاك ولعل الله أهلك قومه بعد موته أو فى مغيبه» (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الكهف، والآيات المقصودة: 86 - 90. (¬2) التحرير والتنوير، ج 25، ص 308.

وعن عاد وثمود ذكر فى قوله تعالى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى * وَثَمُودَ فَما أَبْقى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (سورة النجم 50 - 52). «لما استوفى ما يستحقه مقام النداء على باطل أهل الشرك من تكذيبهم النبى، صلى الله عليه وسلم، وطعنهم فى القرآن ومن عبادة الأصنام، وقولهم فى الملائكة، وفاسد معتقدتهم فى أمور الآخرة، وفى المتصرف فى الدنيا، وكان معظم شأنهم فى هذه الضلالات شبيها بشأن أمم الشرك البائدة؛ نقل الكلام إلى تهديدهم بخوف أن يحل بهم ما حل بتلك الأمم البائدة، فذكر من تلك الأمم أشهرها عند العرب وهم: عاد، وثمود، وقوم نوح، وقوم لوط. فموقع هذه الجملة كموقع الجمل التى قبلها فى احتمال كونها زائدة على ما فى صحف موسى وإبراهيم ويحتمل كونها مما شملته الصحف المذكورة فإن إبراهيم كان بعد عاد وثمود وقوم نوح، وكان معاصرا للمؤتفكة عالما بهلاكها. ولكون هلاك هؤلاء معلوما لم تقرن الجملة بضمير الفصل. ووصف عاد ب" الأولى" على اعتبار عاد اسما للقبيلة كما هو ظاهر. ومعنى كونها أولى لأنها أول العرب ذكرا وهم أول العرب البائدة، وهم أول أمة أهلكت بعد قوم نوح. وأما القول بأن عاد هذه لما هلكت خلفتها أمة أخرى تعرف بعاد إرم أو عاد الثانية كانت فى زمن العماليق فليس بصحيح. ويجوز أن يكون" الأولى" وصفا كاشفا، أى عادا السابقة، وقيل" الأولى" صفة عظمة، أى الأولى فى مراتب الأمم قوة وسعة.

وإنما قدم فى الآية ذكر عاد وثمود على ذكر قوم نوح مع أن هؤلاء أسبق لأن عادا وثمودا أشهر فى العرب وأكثر ذكرا بينهم وديارهم فى بلاد العرب» (¬1). وفى قصة موسى عليه السلام، ذكر ابن عاشور فى تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ (سورة البقرة: الآية 61). «وقد أشارت الآية إلى قصة ذكرتها التوراة مجملة منتثرة، وهى أنهم لما ارتحلوا من برية سينا من" حوريب" ونزلوا فى برية" فاران" فى آخر الشهر الثانى من السنة الثانية من الخروج سائرين إلى جهات" حبرون" فقالوا تذكرنا السمك الذى كنا نأكله فى مصر مجانا (أى يصطادونه بأنفسهم) والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم وقد يبست نفوسنا فلا نرى إلا هذا المن فبكوا فغضب الله عليهم وسأله موسى العفو فعفا عنهم، وأرسل عليهم السلوى فادخروا منها طعام شهر كامل» (¬2). والقصص القرآنى ليست كغيرها من القصص، فأحداثها واقع تاريخى يخلو من المبالغات والأوهام والأباطيل، وقد تكون مجملة مرة، ومفصلة مرة أخرى، ولكن تختلف صياغتها فى كل مرة من هذه المرات تبعا للهدف الذى يسعى إليه السياق، ووحدة الحدث والوحدة العامة تغنيان عن تفاصيل كثيرة، ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 27، ص 152. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 521.

ولا يلعب الترتيب الزمنى فيها شرطا بارزا، وغالبا ما يعقب أحداث القصة تعليل واضح مظهرا الجزاء أو العاقبة. ومن وجوه الإعجاز فى القصص القرآنى أن عرب الجزيرة العربية قبل الإسلام لم يعرفوا هذه القصص، لا فى أخبارها، ولا فى أسلوبها. وإذا كان بعض هذه الأخبار قد وصل إليهم، فقد كان عن طريق اليهود والمسيحيين من ساكنى الجزيرة العربية، وبعض التجار الذين كانوا ينتقلون بين أرجائها، وتناقلتها الأفواه، وتشويش الحقائق فيها ظاهر، والأكاذيب والتحريف والمعتقدات الفاسدة تملؤها. وقد تكون فى القصص القرآنى تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم، وتثبيت فؤاده، وتثبيت قلوب المؤمنين معه، وقد يكون فيها كذلك شحذ للهمم أو استرواح للنفوس، ولكن يتحقق كل ذلك من خلال عرض حقائق معجز فى أسلوبه، مقنع فى عظاته، تتعدد فيه ألوان البيان الصافى أيا ما كانت صور التكرار. وقد قرأنا فى المثال السابق قصة موسى مع اليهود الذين خرجوا معه، وعدم صبرهم على طعام واحد، وفى المثال التالى جزء آخر من قصة موسى عليه السلام وهو لم يزل فى المهد، وقد حرص ابن عاشور على بيان ما تضمنه من موعظة وذكرى. جاء فى تفسير قوله تعالى: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ سورة القصص: الآية 13. «وموضع العبرة من هذه القصة أنها تتضمن أمورا ذات شأن فيها ذكرى للمؤمنين وموعظة للمشركين.

فأول ذلك وأعظمه: إظهار أن ما علمه الله وقدره هو كائن لا محالة كما دلّ عليه قوله وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ (¬1) إلى قوله يَحْذَرُونَ وإن الحذر لا ينجى من القدر. وثانيه: إظهار أن العلو الحق لله تعالى وللمؤمنين وأن علو فرعون لم يغن عنه شيئا فى دفع عواقب الجبروت والفساد ليكون فى ذلك عبرة لجبابرة المشركين من أهل مكة. وثالثه: أن تمهيد القصة بعلو فرعون وفساد أعماله مشير إلى أن ذلك هو سبب الانتقام منه والأخذ بناصر المستضعفين ليحذر الجبابرة سوء عاقبة ظلمهم وليرجوا الصابرون على الظلم أن تكون العاقبة لهم. ورابعه: الإشارة إلى حكمة وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (¬2) فى جانب بنى إسرائيل وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ (¬3) فى جانب فرعون إذ كانوا فرحين باستخدام بنى إسرائيل وتدبير قطع نسلهم. وخامسه: أن إصابة قوم فرعون بفئة من قبل من أملوا منه النفع أشد عبرة للمعتبر وأوقع حسرة على المستبصر، وأدل على أن انتقام الله يكون أعظم من انتقام العدو، كما قال فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً مع قوله عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً (¬4). ¬

_ (¬1) سورة القصص: الآيتان 5، 6. (¬2) سورة البقرة: الآية 216. (¬3) سورة البقرة: الآية 216. (¬4) سورة القصص: الآية 8، 9.

وسادسه: أنه لا يجوز بحكم التعقل أن تستأصل أمة كاملة لتوقع مفسد فيها، لعدم التوازن بين المفسدين، ولأن الإحاطة بأفراد أمة كاملة متعذرة فلا يكون المتوقع فساده إلا فى جانب المغفول عنه من الأفراد فتحصل مفسدتان هما: أخذ البرىء وانفلات المجرم. وسابعه: تعليم أن الله بالغ أمره بتهيئة الأسباب المفضية إليه، ولو شاء الله لأهلك فرعون ومن معه بحادث سماوى ولما قدر لإهلاكهم هذه الصورة المرتبة ولأنجى موسى وبنى إسرائيل إنجاء أسرع، ولكنه أراد أن يحصل ذلك بمشاهدة تنقلات الأحوال ابتداء من إلقاء موسى فى اليم إلى أن يرده إلى أمه فتكون فى ذلك عبرة للمشركين الذى وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (¬1). وليتوسموا من بوارق ظهور النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وانتقال أحوال دعوته فى مدارج القوة أن ما وعدهم به واقع بأخره. وثامنه: العبرة بأن وجود الصالحين من بين المفسدين يخفف من فساد المفسدين، فإن وجود امرأة فرعون كان سببا فى صد فرعون عن قتل الطفل مع أنه تحقق أنه إسرائيلى فقالت امرأته لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً. وتاسعه: ما فى قوله: وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ من الإيماء إلى تذكير المؤمنين بأن نصرهم حاصل بعد حين، ووعيد المشركين بأن وعيدهم لا مفر لهم منه. وعاشره: ما فى قوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ من الإشارة إلى أن المرء يؤتى من جهله النظر فى أدلة العقل. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: الآية 32.

ولما فى هذه القصة من العبر اكتفى مصعب بن الزبير بطالعها عن الخطبة التى حقه أن يخطب بها فى الناس حين حلوا له بالعراق من قبل أخيه عبد الله بن الزبير، مكتفيا بالإشارة مع التلاوة فقال: طسم* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ (وأشار إلى جهة الشام يريد عبد الملك بن مروان) وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ (وأشار بيده نحو الحجاز، يعنى أخاه عبد الله ابن الزبير وأنصاره) وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما (وأشار إلى العراق يعنى الحجاج) منهم ما كانُوا يَحْذَرُونَ» (¬1). ومن قصص صدر الدعوة الإسلامية، ذكر صاحب التحرير والتنوير فى قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا سورة الحشر، الآية 2. «وتفصيل القصة التى أشارت إليها الآية على ما ذكره جمهور أهل التفسير: أن بنى النضير لما هاجر المسلمون إلى المدينة جاءوا فصالحوا النبى صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له، ويقال: إن مصالحتهم ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 20، ص 86، 87. والآيات من سورة القصص من 1 إلى 6.

كانت عقب وقعة بدر لما غلب المسلمون المشركين لأنهم توسموا أنه لا تهزم لهم راية، فلما غلب المسلمون يوم أحد نكثوا عهدهم وراموا مصالحة المشركين بمكة، إذ كانوا قد قعدوا عن نصرتهم يوم بدر (كدأب اليهود فى موالاة القوى) فخرج كعب بن الأشرف وهو سيد بنى النضير فى أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا المشركين عند الكعبة على أن يكونوا أعوانا لهم على مقاتلة المسلمين. فلما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أمر محمد بن مسلمة أن يقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة فى حصنه فى قصة مذكورة فى كتب السنة والسير. وذكر ابن إسحاق سببا آخر وهو أنه لما انقضت وقعة بئر معونة فى صفر سنة أربع كان عمرو بن أمية الضمرى أسيرا عند المشركين، فأطلقه عامر ابن الطفيل. فلما كان راجعا إلى المدينة أقبل رجلان من بنى عامر وكان لقومهما عقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلا مع عمرو بن أمية، فلما ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يحسب أن يثأر بهما من بنى عامر الذين قتلوا أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ببئر معونة، ولما قدم عمرو بن أمية أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد قتلت قتيلين ولا أدينهما، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بنى النضير يستعينهم فى دية ذينك القتيلين، إذ كان بين بنى النضير وبنى عامر حلف، وأضمر بنو النضير الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر المسلمين بالتهيؤ لحربهم. ثم أمر النبى صلى الله عليه وسلم المسلمين بالسير إليهم فى ربيع الأول سنة أربع من الهجرة، فسار إليهم هو والمسلمين وأمرهم بأن يخرجوا من قريتهم فامتنعوا وتنادوا إلى الحرب ودس إليهم عبد الله بن أبى بن سلول أن لا

يخرجوا من قريتهم وقال: إن قاتلكم المسلمون فنحن معكم ولننصرنكم وإن أخرجتم لنخرجن معكم، فدربوا على الأزقة (أى سدوا منافذ بعضها لبعض ليكون كل درب منها صالحا للمدافعة) وحصنوها، ووعدهم أن معه ألفين من قومه وغيرهم وأن معهم قريظة وحلفاءهم من غطفان من العرب، فحاصرهم النبى صلى الله عليه وسلم وانتظروا عبد الله بن أبى بن سلول وقريظة وغطفان أن يقدموا إليهم ليردوا عنهم جيش المسلمين، فلما رأوا أنهم لم ينجدوهم قذف الله فى قلوبهم الرعب، فطلبوا من النبى صلى الله عليه وسلم الصلح فأبى إلا الجلاء عن ديارهم وتشارطوا على أن يخرجوا، ويحمل كل ثلاثة أبيات منهم حمل بعير مما شاءوا من متاعهم، فجعلوا يخربون بيوتهم ليحملوا معهم ما ينتفعون به من الخشب والأبواب. فخرجوا فمنهم من لحق بخيبر، وقليل منهم لحقوا ببلاد الشام فى مدن (أريحا) وأذرعان من أرض الشام وخرج قليل منهم إلى الحيرة» (¬1). فى الأمثلة السابقة- وفى غيرها- لم ينفصل تفسير القصص القرآنى عن السياق، ولم يجعل ابن عاشور للقصة القرآنية قسما خاصا بها كما يفعل كثير من المفسرين كالطبرسى فى مجمع البيان، وابن كثير فى تفسير القرآن العظيم، وكانت تتآذر وسائل كثيرة أخرى عنده لتوضيح المقصود منها، مثل الاستعانة بآيات من سور أخرى مناسبة، وأحاديث وآثار عن الصحابة والتابعين، وأقوال مفسرين ومؤرخين وعلماء، فضلا عن التوراة أو الإنجيل، وقد كان ابن عاشور فى كل ذلك بعيدا عن المبالغات والحشو والإسرائيليات، ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 28، ص 67. وانظر أمثلة أخرى: ج 1 ص 526، ج 2 ص 303، ج 7 ص 342، ج 8 ص 101، ج 12 ص 75، ج 20 ص 33، 68، 85، 168، ج 27 ص 12، ج 30 ص 241.

7 - التفسير بالناسخ والمنسوخ:

حاشدا هذه الوسائل لبيان الصدق التاريخى للقصة القرآنية وإظهار وجوه الإعجاز فيها من حيث الإخبار عن حوادثها وأشخاصها، ومن حيث تكرار بعض عناصرها فى أكثر من سورة، وفى كل مرة نجد لونا جديدا من التصريف البيانى أعجز العرب عن محاكاته، فضلا عن استخلاص العبر والحكم والحث على النظر والتأمل فى نهاية الجبابرة وجزاء المكابرين، وسير الأنبياء وما لاقوه من صنوف الغرور والعنت من أجل التوحيد والعدالة والأخلاق، وانتصار الحق، وانتصار المؤمنين به، وتثبيت قلب الرسول الكريم وقلب من آمن بدعوته. وكان ابن عاشور فى تقديمه كل سورة تتحدث آياتها عن قصة أو أكثر مفصلة أو مجملة يذكر أغراضها وما تحويه من مثل وتذكير وإشعار، ثم يتناول تفسيرها لغة وإعرابا، ثم يسرد أحداثها وما تحويه من إخبار عن حوادث سابقة كقصة أصحاب الأخدود، وأمم غابرة كقوم تبّع وعاد وثمود، وأنبياء يدعون وملوك يستكبرون كقصة فرعون مع موسى عليه السلام، وأقوام يعاندون ويضمرون الغدر كالمنافقين، وانهيار صفوفهم وتخاذل أعوانهم ثم انتصار مسلمى صدر الدعوة المحمدية عليهم على النحو الذى رأيناه فى المثال الأخير من الأمثلة السابقة. 7 - التفسير بالناسخ والمنسوخ: يتفق المسلمون على وقوع النسخ فى بعض آيات القرآن الكريم، كما يتفق علماؤهم على أهمية معرفة الناسخ والمنسوخ فى كتاب الله، «فأول ما ينبغى لمن أحب أن يتعلم شيئا من علم هذا الكتاب الابتداء فى علم الناسخ والمنسوخ اتباعا لما جاء عن أئمة السلف رضى الله عنهم أجمعين، لأن كل من

تكلم فى شىء من هذا الكتاب العزيز ولم يعلم الناسخ والمنسوخ كان ناقصا» (¬1). ويقول الخوئى: «لا خلاف بين المسلمين فى وقوع النسخ، فإن كثيرا من أحكام الشرائع السابقة قد نسخت بأحكام الشريعة الإسلامية، وإن جملة من هذه الشريعة قد نسخت بأحكام أخرى من هذه الشريعة نفسها» (¬2). ويحدد ابن الجوزى المواطن التى يقع فيها النسخ فى القرآن الكريم بقوله: «والنسخ إنما يقع فى الأمر والنهى دون الخبر المحض، والاستثناء ليس بنسخ، ولا التخصيص، وأجاز بعض من لا يعتد بخلافه وقوع النسخ فى الخبر المحض، وسمى الاستثناء والتخصيص نسخا، والفقهاء على خلافه» (¬3). وذكر السيوطى: «قال ابن الحصار: إنما يرجع فى النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أو عن صحابى يقول آية كذا نسخت كذا. قال: وقد يحكم به عند وجود التعارض المقطوع به مع علم التاريخ ليعرف المتقدم والمتأخر، ولا يعتمد فى النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهادا لمجتهدين، من غير نقل صحيح، ولا معارضة بينة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم تقرر فى عهده (ص) والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأى والاجتهاد. قال: والناس فى هذا بين طرفى نقيض، فمن ¬

_ (¬1) أبو القاسم هبة الله بن سلامة، الناسخ والمنسوخ، ص 4، مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبى، ط 2، 1387 هـ- 1967 م. (¬2) أبو القاسم الموسوى الخوئى، البيان فى تفسير القرآن، المجلد الأول، ص 303، منشورات دار التوحيد للنشر والتوزيع، ط 2، الكويت، 1399 هـ- 1979 م. (¬3) جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن الجوزى، المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ، ص 16، تحقيق د. حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط 2، 1406 هـ- 1986 م.

قائل لا يقبل فى النسخ أخبار أحاد العدول، ومن متساهل يكتفى بقول مفسر أو مجتهد والصواب خلاف قولهما» (¬1). ويفهم من أقوال ابن الحصار فى الفقرة السابقة أن من شروط تحديد الآيات الناسخة والآيات المنسوخة: 1 - الرجوع فى النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 - يحكم بالنسخ عند وجود تعارض مقطوع به من علم التاريخ الذى يمكن به معرفة الآيات المتقدمة فى النزول عن الآيات المتأخرة أى (أن يكون حكم المنسوخ ثابتا قبل ثبوت حكم الناسخ) (¬2). 3 - قبول أخبار آحاد العدول (¬3). 4 - لا اجتهاد فى النسخ، ولا قبول لقول مفسر واحد فيه، وإنما المعتمد فى ذلك النقل والتاريخ. وفى تفسير ابن عاشور لقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها سورة البقرة: الآية 106. يقول عن معنى النسخ: ¬

_ (¬1) الإتقان، ج 2، ص 32. وانظر التسهيل فى علوم التنزيل، ابن جزى، ص 10، (الباب السابع فى الناسخ والمنسوخ). (¬2) ابن الجوزى، المصفى بأكف أهل الرسوخ، ص 12. (¬3) انظر محمد بن إدريس الشافعى، الرسالة، ص 404، مطابع المختار الإسلامى، ط 2، 1976 م. وانظر: سيف الدين على بن محمد الآمدى، الإحكام فى أصول الأحكام، ج 2، ص 47، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، 1400 هـ- 1980 م. وانظر: ابن حجر العسقلانى، فتح البارى بشرح صحيح البخارى، ج 13، ص 231، ط 1، 1384 هـ.

«والنسخ إزالة الشيء بشيء آخر، قاله الراغب، فهو عبارة عن إزالة صورة أو ذات وإثبات غيرها عوض لها، نقول: نسخت الشمس الظل لأن شعاعها أزال الظل وخلفه فى موضعه، ونسخ الظل الشمس كذلك لأن خيال الجسم الذى حال بين الجسم المستنير وبين شعاع الشمس الذى أناره قد خلف الشعاع فى موضعه، ويقال نسخت ما فى الخلية من النحل والعسل إلى خلية أخرى، وقد يطلق على الإزالة فقط دون تعويض كقولهم نسخت الريح الأثر، وعلى الإثبات لكن على إثبات خاص، وهو إثبات المزيل، وأما أن يطلق على مجرد إثبات فلا أحسبه صحيحا فى اللغة، وإن أو همه ظاهر كلام الراغب، وجعل منه قولهم نسخت الكتاب إذا أخططت أمثال حروفه فى صحيفتك إذا وجدوه إثباتا محضا، لكن هذا توهم لأن يطلق النسخ على محاكاة حروف الكتاب بإطلاق مجازى بالصورة أو تمثيله بتشبيه الحالة بحالة من يزيل الحروف من الكتاب الأصلى إلى الكتاب المنتسخ، ثم جاءت من ذلك النسخة، قال تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (¬1) وقال وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ (¬2) وأما قولهم الولد نسخة من أبيه فمجاز على مجاز، ولا يطلق النسخ على الزوال بدون إزالة، فلا تقول نسخ الليل النهار لأن الليل ليس بأمر وجودى، بل هو الظلمة الأصلية الحاصلة من انعدام الجرم المنير» (¬3). ويقول فى تفسير الآية السابقة: «والمراد من النسخ هنا الإزالة وإثبات العوض بدليل قوله نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الجاثية، الآية 29. (¬2) سورة الأعراف، الآية 154. (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 654. (¬4) التحرير والتنوير، ج 1، ص 654. وذكر هبة الله بن سلامة: «المنسوخ فى كتاب الله على ثلاثة أضرب، فمنه ما نسخ خطه وحكمه، ومنه ما نسخ خطه وبقى حكمه ومنه ما نسخ حكمه وبقى خطه» الناسخ والمنسوخ، ص 5.

والمقصود بالإزالة وإثبات العوض تبعا لهذا القول هو رفع حكم شرعى سابق بحكم شرعى آخر متأخر عنه، سواء أكان حكما أخف أم مماثل أم أثقل (¬1) مراعاة لمصلحة العباد. وما تحتاجه الدعوة من تدرج وتأسيس. ويقول صاحب التحرير والتنوير فى تفسير قوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ سورة النحل، الآية 101. «فيشمل التبديل نسخ الأحكام مثل نسخ قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها (¬2) بقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (¬3) لأن نسخ الأحكام إنما كثر بعد الهجرة حين تكونت الجامعة الإسلامية. وأما نسخ التلاوة فلم يرد من الآثار ما يقتضى وقوعه فى مكة فمن فسر به الآية كما نقل عن مجاهد فهو مشكل». وقوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ... الآية وهى من سورة الإسراء، وكان نزولها فى مكة، وقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ... الآية، وهى من سورة الحجر مكية أيضا، والنسخ إنما كثر فى السور المدينة حيث ¬

_ (¬1) انظر التفسير الكبير، الفخر الرازى، ج 3، ص 232. ومما ذكره فى تفسير قوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها: «إن الذى يدل على وقوعه" الأثقل" أن الله سبحانه نسخ فى حق الزناة الحبس فى البيوت إلى" الجلد والرجم"، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ... ». (¬2) سورة الإسراء، الآية 110. (¬3) سورة الحجر، الآية 94.

تختلف فى مميزاتها عن السور المكية من حيث الأسلوب والخصائص والظروف، وكون الآية الثانية ناسخة للأولى فهو نسخ الحكم وبقاء التلاوة، وأما نسخ التلاوة وبقاء الحكم فليس هناك- كما ذكر ابن عاشور- مما يؤيده من آثار تقتضى وقوعه، وما نقل عن مجاهد فى هذا الشأن مما يوجب التباسا فى الفهم. ويشمل التعارض بالعموم والخصوص ونحو ذلك من التعارض الذى يحمل بعضه على بعض، فيفسر بعضه بعضا، ويؤول بعضه بعضا، كقوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ (¬1) فى سورة الشورى مع قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا (¬2) فى سورة المؤمنين فيأخذوا بعموم وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فيزعمونه إعراضا عن أحد الأمرين إلى الأخير منهما. وكذلك قوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا (¬3) يأخذون من ظاهره أنه أمر بمشاركتهم فإذا جاءت آيات بعد ذلك لدعوتهم وتهديدهم زعموا أنه انتقض كلامه وبدا له ما لم يكن يبدو له من قبل. وكذلك قوله تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ (¬4) مع آيات وصف عذاب المشركين وثواب المؤمنين. ¬

_ (¬1) سورة الشورى، الآية 5. (¬2) سورة غافر، الآية 7. (¬3) سورة المزمل، الآية 10. (¬4) سورة الأحقاف، الآية 9.

وكذلك قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (¬1) مع قوله تعالى لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ (¬2) ومن هذا ما يبدو من تخالف بادئ الأمر كقوله بعد ذكر خلق الأرض ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ (¬3) فى سورة فصلت مع قوله تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (¬4) من سورة النازعات، فيحسبونه تناقضا مع الغفلة عن محمل" بعد ذلك"، من جعل (بعد) بمعنى (مع) وهو استعمال كثير، فهم يتوهمون التناقض مع جهلهم أو تجاهلهم بالوحدات الثمانية المقررة فى المنطق. فالتبديل فى قوله تعالى" بَدَّلْنا" هو التعويض ببدل، أو عوض. والتعويض لا يقتضى إبطال المعوض- بفتح الواو- بل تقتضى أن يجعل شىء عوضا عن شىء. وقد يبدو للسامع أن مثل لفظ المعوض- بفتح الواو- جعل عوضا عن مثل لفظ العوض- بالكسر- فى آيات مختلفة باختلاف الأغراض من تبشير وإنذار أو ترغيب وترهيب، أو إجمال وبيان، فيجعله الطاعنون اضطرابا لأن مثله قد كان بدل ولا يتأملون فى اختلاف الأغراض» (¬5). ويدفع ابن عاشور تلك الدعاوى الباطلة التى قالها المشركون، فإذا نزلت آية ما، ثم أنزل الله آية أخرى يحمل معناها تعارضا على النحو الذى ذكره مفسرنا، أبدوا سخطهم وأظهروا سخريتهم، وقالوا على ما حكت الآية ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية 164. (¬2) سورة النحل، الآية 25. (¬3) سورة فصلت، الآية 11. (¬4) سورة النازعات، الآية 30. (¬5) التحرير والتنوير، ج 14، ص 281.

عنهم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ظانين ظنا فاسدا أن محمدا صلى الله عليه وسلم أتى بهذا القرآن من عند نفسه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، فالقرآن يفسر بعضه بعضا، ويؤول بعضه بعضا، وهم يجهلون اختلاف المقامات والأحوال من لين وترغيب وشدة وترهيب وعموم وخصوص، ويعتقد هؤلاء المشركون أن ذلك تناقضا، هيأ لهم ذلك جهلهم وتعلقهم بضلالهم، أو يتعمدون المكابرة أمام الحقائق ويخلطون بينها دون اعتبار لوجوه الخطاب واختلاف المرامى، وبعد أن يرد ابن عاشور هذه المطاعن يبين المقصود من" بَدَّلْنا" فى الآية الكريمة السابقة، حيث ذكر أن المعنى هو التعويض ببدل أى عوض، ولا يعنى ذلك إبطال المعوض" بالفتح" بل هو قائم وقد يكون مما نسخ خطه وبقى حكمه، أو ما نسخ حكمه وبقى خطه تبعا لمقتضيات الخطاب (¬1). ومن أمثلة ما ذكره فى رفع حكم آية وبقاء تلاوتها فى قوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (¬2). «قال المفسرون على أن هذه الآية ناسخة للتى قبلها فسقط وجوب تقديم الصدقة لمن يريد مناجاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وروى ذلك عن ابن عباس واستبعده ابن عطية» (¬3). ¬

_ (¬1) راجع البرهان للزركشى، ج 2، ص 15. (¬2) سورة المجادلة، الآية 13. (¬3) التحرير والتنوير، ج 28، ص 46. ويقول هبة الله بن سلامة عن سورة المجادلة: «نزلت بالمدينة بإجماعهم وفيها آيات منسوخة، وهى إحدى الفضائل عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه، لأنه روى عنه أنه قال: فى كتاب الله آية-

وفى تفسير قوله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (سورة الأنعام، الآية 141). ذكر ابن عاشور: «وإنما أوجب الله الحق فى الثمار والحب يوم الحصاد؛ لأن الحصاد إنما يراد للادخار، وإنما يدخر المرء ما يريده للقوت، فالادخار هو فطنة الغنى الموجبة لإعطاء الزكاة، والحصاد مبدأ تلك المظنة، فالذى ليست له إلا شجرة أو شجرتان، فإنما يأكل ثمرها مخضورا قبل أن ييبس، فلذلك رخصت الشريعة لصاحب الثمرة أن يأكل من الثمر إذا أثمر، ولم توجب عليه إعطاء حق الفقراء إلا عند الحصاد، ثم إن حصاد الثمار، وهو جذاذها، فهو قطعها لادخارها، وأما حصاد الزرع فهو قطع السنبل من جذور الزرع ثم يفرك الحب الذى فى السنبل ليدخر، فاعتبر ذلك الفرك بقية للحصاد، ويظهر من هذا أن الحق إنما وجب فيما يحصد من المذكورات مثل الزبيب والتمر والزرع والزيتون، من زيته أو من حبه بخلاف الرمان والفواكه. ¬

_ - ما عمل بها أحد قبلى ولا بعدى إلى يوم القيامة، فقيل: ما هى؟ فقال: إن رسول الله (ص) لما كثر عليه المسائل فخاف أن تفرض على أمته، فعلم الله ذلك فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فأمسكوا عن رسول الله (ص) قال على رضى الله عنه: ولم أملك إذ ذاك إلا دينارا فصرفته بعشرة دراهم، فكنت كلما أردت أسأله مسألة تصدقت بدرهم حتى لم يبق معى غير درهم واحد فتصدقت به، وسألته، فنسخت الآية، وناسخها قوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا الآية» الناسخ والمنسوخ، ص 89، 90. وانظر المصفى بأكف أهل الرسوخ، ابن الجوزى، ص 55. وانظر معرفة الناسخ والمنسوخ، محمد بن حزم، ص 372، من هامش تنوير المقباس فى تفسير ابن عباس، الفيروزآبادى، مطبعة الحلبى- القاهرة.

وعلى القول المختار: فهذه الآية غير منسوخة، ولكنها مخصصة ومبينة بآيات أخرى وبما يبينه النبى- صلى الله عليه وسلم- فلا يتعلق بإطلاقها، وعن السدى أنها نسخت بآية الزكاة، يعنى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً (¬1) وقد كان المتقدمون يسمون التخصيص نسخا» (¬2). وعلى هذا النحو اعتبر ابن عاشور قوله تعالى كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ... الآية غير منسوخة، إنما هى مخصصة ومبيّنة بآيات أخرى وبما قام ببيانه صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن ما روى عن السدى فى كون هذه الآية منسوخة يرجع إلى أن المتقدمين كانوا يسمون التخصيص نسخا. وفى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة البقرة الآية 62). ذكر ابن عاشور: «ومعنى من آمن بالله، الإيمان الكامل، وهو الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بقرينة المقام وقرينة قوله وَعَمِلَ صالِحاً إذ شرط قبول الأعمال الإيمان الشرعى، لقوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وقد عدّ عدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة عدم الإيمان بالله لأن مكابرة ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية 103. (¬2) التحرير والتنوير، ج 8، ص 122. ولم يذكرها هبة الله بن سلامة فى الآيات المنسوخة من سورة الأنعام .. انظر كتابه، ص 44 - 46.

المعجزات القائمة مقام تصديق الله تعالى للرسول المتحدى بها يؤول إلى تكذيب الله تعالى فى ذلك التصديق، فذلك المكابر غير المؤمن بالله الإيمان الحق، وبهذا يعلم أن لا وجه الدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (¬1) إذ لا استقامة فى دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال إن الله أخبر به عن مؤمنى أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا على ذلك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون معنى الآية كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر من يؤتى أجره مرتين «ورجل من أهل الكتاب آمن برسوله ثم آمن بى فله أجران». وأما القائلون بأنها منسوخة، فأحسب أن تأويلها عندهم أن الله أمهلهم فى أول تلقى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن ينظروا فلما عاندوا نسخها بقوله وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ لئلا يفضى قولهم إلى دعوى نسخ الخبر» (¬2). وقد ذكر هبة الله بن سلامة عن هذه الآية (البقرة: 62): «والناس فيها قائلان، فقالت طائفة منهم مجاهد والضحاك وابن مزاحم هى محكمة ويقرءونها بالمحذوف المقدر، فيكون التقدير على قولهما: إن الذين آمنوا ومن آمن من الذين هادوا والنصارى والصابئين، وقال الأكثرون: هى منسوخة وناسخها عندهم: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً الآية» (¬3). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: الآية 85. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 539. (¬3) الناسخ والمنسوخ، ص 11.

وابن عاشور على أن هذه الآية غير منسوخة كما جاءت الروايات عن مجاهد والضحاك وابن مزاحم حيث لا يقع النسخ فيما أخبر به القرآن، ويقدم ابن عاشور استثناء لوقوع مثل هذا النسخ وهو أن يكون المؤمنون من أهل الكتاب والصابئون قد آمنوا بما جاءت به الرسل دون تحريف، أو تبديل وماتوا قبل البعثة المحمدية، ويكون معنى الآية كحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يؤتى أجره مرتين، أما عن القائلين بنسخها ففيما ذكره ابن عاشور من تأويلها عندهم يمنع وقوع نسخ الخبر، وتلك محاولة للتوفيق بين الفريقين عمادها عدم قبول الأقوال إلا بعد التحليل والتعليل. وفى قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (سورة البقرة: الآية 115). ذكر ابن عاشور: «وقد قيل إن هذه الآية إذن للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يتوجه فى الصلاة إلى أية جهة شاء، ولعل مراد هذا القائل أن الآية تشير إلى تلك المشروعية لأن الظاهر أن الآية نزلت قبل نسخ استقبال بيت المقدس إذ الشأن توالى نزول الآيات وآية نسخ القبلة قريبة الموقع من هذه، والموجه أن يكون مقصد الآية عاما كما هو الشأن فتشمل الهجرة من مكة والانصراف عن استقبال الكعبة» (¬1). وذكر ابن سلامة أن هذه الآية محكمة والمنسوخ منها قوله تعالى فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (¬2). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 683. (¬2) الناسخ والمنسوخ، ص 12.

8 - التفسير بالقراءات:

وفى الإتقان (¬1) «على رأى ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ سورة البقرة: الآية 144» ويقول منّاع القطان: «وقد قيل- وهو الحق- إن الأولى غير منسوخة لأنها فى صلاة التطوع فى السفر على الراحلة، وكذا فى حال الخوف والاضطرار، وحكمها باق كما فى الصحيحين، والثانية فى الصلوات الخمس، والصحيح أنها ناسخة كما ثبت فى السنة من استقبال بيت المقدس» (¬2). وعند ابن عاشور أن مقصد الآية عام أى ليست منسوخة، وحكمها باق يؤيد ذلك ما جاء فى الصحيحين. وابن عاشور لم يسرف فى استخدام هذا النوع من التفسير، ولم يكن من المكثرين فيه، وعند تفسيره لكثير من الآيات فى السور المختلفة، لم يتعرض لكونها ناسخة أو منسوخة، كما ذهب كثير من عوام المفسرين، وعند استخدامه لهذا التفسير لم يكن يقبل الأقوال على علاتها، إنما يقبل ما انتهى التحليل إليه، أو ما سمع بالتوفيق بين أكثر من قول، أو ما يؤيده أعلى المصادر توثيقا. 8 - التفسير بالقراءات: يرى ابن عاشور- كما جاء فى المقدمة السادسة التى جعلها للقراءات- أن للقراءات حالتين؛ إحداهما لا تعلق لها بالتفسير بحال، وإنما هى تتصل باختلاف القراء فى وجوه النطق بالحروف والكلمات كمقادير المد والإمالات والتخفيف والتسهيل والتحقيق والجهر والهمس والغنة، وفى تعدد ¬

_ (¬1) ج 2، ص 30. (¬2) مباحث فى علوم القرآن، ص 243.

وجوه الإعراب، ومزية القراءات من هذه الجهة عائدة إلى أنها حفظت على أبناء العربية ما لم يحفظه غيرها، وهو تحديد كيفيات نطق العرب: بالحروف فى مخارجها وصفاتها، وذلك غرض مهم جدا لكنه لا علاقة له بالتفسير. وبعد ذكره لأمثال مختلفة من شذوذ بعض القراءات وما حدث حولها من اختلافات، وما فعله عثمان رضى الله عنه فى جمع المسلمين حول المصحف الإمام، يقول: «من أجل ذلك اتفق علماء القراءات والفقهاء على أن كل قراءة وافقت وجها فى العربية ووافقت خط المصحف- أى مصحف عثمان- وصح سند راويها؛ فهى قراءة صحيحة لا يجوز ردها، قال أبو بكر بن العربى ومعنى ذلك عندى أن تواترها تبع لتواتر المصحف ناشئ عن تواتر الألفاظ التى كتبت فيها، قلت: وهذه الشروط الثلاثة، هى شروط فى قبول القراءة إذا كانت غير متواترة عن النبى صلى الله عليه وسلم، بأن كانت صحيحة السند إلى النبى ولكنها لم تبلغ حد التواتر فهى بمنزلة الحديث الصحيح، وأما القراءة المتواترة فهى غنية عن هذه الشروط لأن تواترها يجعلها حجة فى العربية، ويغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف المجمع عليه، ألا ترى أن جمعا من أهل القراءات المتواترة قرءوا قوله تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (¬1) بطاء مشالة أى بمتهم، وقد كتبت فى المصاحف كلها بالضاد الساقطة» (¬2). ¬

_ (¬1) سورة التكوير، الآية 24. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 53. وذكر مكى بن أبى طالب عن شروط صحة القراءات «وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال، وهى: أن ينقل عن الثقات إلى النبى صلى الله عليه وسلم، ويكون وجهه فى العربية التى نزل بها القرآن شائعا، ويكون موافقا لخط المصحف». الإبانة عن معانى القراءات، ص 18. وانظر: أبا على الحسن بن أحمد الفارسى، الحجة فى علل القراءات السبع، تحقيق على الجندى ناصف، د. عبد الحليم النجار، د. عبد الفتاح شلبى ومراجعة محمد على النجار، دار الكتاب العربى للطباعة والنشر، القاهرة.

ومفاد هذا الكلام أن شروط القراءات التى اتفق عليها العلماء والفقهاء وهى التى صح سندها ووافقت خط المصحف والعربية ولو من جهة هى قراءة صحيحة لا يجوز ردّها، وأن تواترها تابع لتواتر الألفاظ الذى كتبت فيه كما يقول ابن عربى. وعند ابن عاشور: «هذه الشروط المتفق عليها بين العلماء والفقهاء وهى شروط للقراءة غير المتواترة عن النبى صلى الله عليه وسلم وهى صحيحة السند، وإن لم تبلغ حد التواتر فهى غنية عن هذه الشروط لكون هذا التواتر يجعلها حجة فى الغربية، ومن ثم يغنيها عن شرط موافقة رسم المصحف، وساق ابن عاشور مثلا فيما أجمع عليه بعض أهل القراءات المتواترة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ بطاء مشالة حيث كتبت فى المصاحف كلها بالضاد الساقطة. ومع هذا نستطيع القول إن هذه الشروط الثلاثة التى أجمع عليها علماء القراءات والفقهاء كان الغرض الأول لهم من ذلك هو جمع المسلمين حول قراءات بعينها فلا يتسع الخلاف بينهم، وقد راعوا فى شروطها التوسعة على الألسن. وذلك ما سعى إليه عثمان رضى الله عنه من كتابة المصاحف وتوزيعها على الأمصار، وقد قبل هذا العمل من عثمان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم على بن أبى طالب رضى الله عنه، وقد أجمع الإمامية الاثنى عشرية المعتدلة على هذه القراءات، وكرهوا تجريد قراءة مفردة» (¬1). ¬

_ (¬1) ذكر أبو جعفر الطوسى عن قراءة الإمامية الاثنى عشرية المعتدلة «إنهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القراء، وكرهوا تجريد قراءة بعينها» التبيان فى تفسير القرآن، ج 1، ص 7، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملى، مكتبة الأمين .. النجف الأشرف. وانظر: أبا على الفضل بن الحسن الطبرسى: مجمع البيان فى تفسير القرآن، المجلد الأول، المقدمة ص 25، مكتبة الحياة، بيروت- لبنان، 1380 هـ- 1961 م.

وكان الطبرسى صاحب مجمع البيان فى تفسير القرآن يذكر فى قسم" القراءة" عند الآية المطروحة للبحث بعض القراءات عن النبى- صلى الله عليه وسلم- ولكن تفسيره كله كان قائما على القراءات التى وافقت خط المصحف الإمام ووافقت العربية ولو بوجه، وصح سندها. أما القراءات المتواترة التى استغنت على الاعتضاد بموافقة خط المصحف، فعلى الرغم مما ذكره ابن عاشور عنها فهى خارجة عن الإجماع المذكور الذى حدد الهدف منه بحصر الخلاف بين المسلمين وتوحيد صفوفهم إزاء قراءة النص الكريم، وتبقى للقراءات الأخرى وجهتها التاريخية فحسب بعد أن انتهت مرحلتها والدوافع التى أدت إليها. ويقول ابن عاشور عن القراءات العشر التى وافقت شروط العلماء والفقهاء، والتى يقرأ بها جمهور المسلمين: «وقد انحصر توفر الشروط فى الروايات العشر للقراء وهم: نافع بن أبى نعيم المدنى، وعبد الله بن كثير المكى، وأبو عمرو المازنى البصرى، وعبد الله بن عامر الدمشقى، وعاصم بن أبى النجود الكوفى، وحمزة بن حبيب الكوفى، والكسائى على بن حمزة الكوفى، ويعقوب بن إحسان الحضرمى البصرى، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع المدنى، وخلف البزار (بزاى فألف فراء مهملة) الكوفى، وهذا العاشر ليست له رواية خاصة، وإنما اختار لنفسه قراءة تناسب قراءات أئمة الكوفة، فلم يخرج عن قراءات قراء الكوفة إلا قليلا. وبعض العلماء يجعل قراءة ابن محيصن واليزيدى والحسن والأعمش، مرتبة دون العشر، وقد عد الجمهور ما سوى ذلك شاذا لأنه لم ينقل بتواتر حفاظ القرآن» (¬1). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 24.-

وعن علاقة القراءات بالتفسير ... يقول: «وأما القراءات فلا يحتاج إليها إلا فى حين الاستدلال بالقراءة على تفسير غيرها، وإنما يكون فى معنى الترجيح لأحد المعانى القائمة من الآية أو لاستظهار على المعنى، فذكر القراءة كذكر الشاهد فى كلام العرب، لأنها إن كانت مشهورة، فلا جرم أنها تكون حجة لغوية، وإن كانت شاذة فحجتها لا من حيث الرواية لأنها لا تكون صحيحة الرواية، ولكن من حيث إن قارئها ما قرأ بها إلا استنادا لاستعمال عربى صحيح، إذ لا يكون القارئ معتدا به إلا إذا عرفت سلامة عربيته، كما احتجوا على أن أصل الحمد لله أنه منصوب على المفعول المطلق بقراءة هارون العتكى الحمد لله بالنصب كما فى ¬

_ - وذكر أبو طالب مكى أسباب استخدامه أحيانا للقراءات الشاذة فى إعراب بعض آيات القرآن: «وإنما تذكر هذه الوجوه ليعلم تصرف الإعراب ومقاييسه، لا لأن يقرأ به، فلا يجوز أن يقرأ إلا بما روى وصح عن الثقات المشهورين عن الصحابة والتابعين- رضى الله عنهم- ووافق خط المصحف» مشكل إعراب القرآن، المجلد الأول، ص 10، تحقيق ياسين محمد السواس، ط 2، دار المأمون للتراث، دمشق. وانظر السبعة فى القراءات: - أسانيد قراءة نافع بن نعيم (ت 169 هـ) ص 88. - أسانيد قراءة عبد الله بن كثير المكى (ت 120 هـ) ص 92. - أسانيد قراءة أبى عمر بن العلاء (ت 154 هـ) ص 98. - أسانيد قراءة عبد الله بن عامر (ت 118 هـ) ص 101. - أسانيد قراءة عاصم بن أبى النجود (ت 118 هـ) ص 94. - أسانيد قراءة حمزة بن حبيب الزيات (ت 156 هـ) ص 97. - أسانيد قراءة على بن حمزة الكسائى (ت 189 هـ) ص 98. أبو بكر أحمد موسى بن العباس بن مجاهد، تحقيق دكتور شوقى ضيف، ط 2، دار المعارف، مصر، 1980 م. وانظر: النشر فى القراءات العشر، ج 1، ص 46، عن قراءات يعقوب وأبى جعفر يزيد وخلف البزاز وابن الجزرى.

الكشاف، وبذلك يظهر أن القراءة لا تعد تفسيرا من حيث هى طريق فى أداء ألفاظ القرآن، بل من حيث إنها شاهد لغوى» (¬1). نخلص من هذه الفقرة إلى أن قراءة بعض الآيات- فى حدود القراءات العشر- يمكن أن تفسر بقراءة أخرى ترجيحا لمعنى قائم فى الآية، أو استظهارا على المعنى ذاته، أى أنها حجة لغوية لكونها صحيحة الرواية، وإذا كانت شاذة، فحجتها لا من سبيل الرواية، وإنما من سبيل الاستعمال العربى الفصيح. ومن خلال الأقوال السابقة ومن غيرها أيضا يتبين لنا أن استخدام ابن عاشور للقراءات كانت على النحو التالى: - هى شاهد لغوى أيما كان نوعها سواء أكانت متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- على النحو الذى ذكره ابن عاشور، أم كانت من القراءات العشر المشهورة التى توافق خط المصحف. - والقراءات العشر هذه فضلا عن أنها شاهد لغوى فهى مما يمكن التفسير به على أنه ترجيح لمعنى الآية أو استظهار له. وعن بعض وجوه الخلاف التى وقعت بين القراء بسبب الرسم العثمانى، ذكر فى تفسير قوله تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ سورة التكوير: الآية 24. وكتبت كلمة" بضنين" فى مصاحف الأمصار بضاد ساقطة كما اتفق عليه القراء. وحكى عن أبى عبيد، قال الطبرى: هو ما عليه مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءاتهم به. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 25.

وفى الكشاف «هو فى مصحف أبىّ بالضاد وفى مصحف ابن مسعود بالظاء» وقد اقتصر الشاطبى فى منظومته فى الرسم على رسمه بالضاد، إذ قال: والضاد فى" بضنين" تجمع البشر. وقد اختلف القراء فى قراءته، فقرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر وخلف وروح عن يعقوب بالضاد الساقطة التى تخرج من حافة اللسان مما يلى الأضراس وهى القراءة الموافقة لرسم المصحف الإمام. وقرأه الياقوت بالظاء المشالة التى تخرج من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وذكر فى الكشاف أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قرأ بهما، وذلك مما لا يحتاج إلى التنبيه، لأن القراءتين ما كانتا متواترين إلا وقد رويتا عن النبى صلى الله عليه وسلم" والضاد والظاء" حرفان مختلفان والكلمات المؤلفة من أحدهما مختلفة المعانى غالبا إلا نحو حضض بضادين ساقطتين وحظظ بظاءين مشالين وحضظ بضاد ساقطة بعدها ظاء مشالة وثلاثتها بضم الحاء وفتح ما بعد الحاء، فقد قالوا: إنها لغات فى كلمة ذات معنى واحد وهم اسم صمغ يقال له: خولان. ولا شك أن الذين قرءوه بالظاء المشالة من أهل القراءات المتواترة، وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائى ورديس عن يعقوب قد ردوه متواترا عن النبى صلى الله عليه وسلم، ولذلك فلا يقدح فى قراءتهم كونها مخالفة لجميع نسخ مصاحف الأمصار لأن تواتر القراءة أقوى من تواتر الخط إن اعتبر للخط تواتر، وما ذكر من شرط موافقة القراءة لما فى مصحف عثمان لتكون قراءة صحيحة تجوز القراءة بها، إنما هو بالنسبة للقراءات التى لم ترو متواترة كما بيّناه فى المقدمة السادسة فى مقدمات هذا التفسير. وقد اعتذر أبو عبيدة عن اتفاق مصاحف الإمام على كتابتها بالضاد

مع وجود الاختلاف فيها بين الضاد والظاء فى القراءات المتواترة، بأن قال «ليس هذا بخلاف الكتاب لأن الضاد والظاء لا يختلف خطهما فى المصاحف إلا بزيادة رأس إحداهما على رأس الأخرى فهذا قد يتشابه ويتدانى» أهـ يريد بهذا الكلام أن ما رسم فى المصحف الإمام ليس مخالفة من كتاب المصاحف للقراءات المتواترة، أى أنهم يراعون اختلاف القراءات المتواترة فيكتبون بعض نسخ المصاحف على اعتبار اختلاف القراءات وهو الغالب. وهاهنا اشتبه الرسم فجاءت الظاء دقيقة الرأس. ولا أرى للاعتذار عن ذلك لأنه لما كانت القراءتان متواترتين عن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمد كتاب المصاحف على إحداهما وهى التى قرأ بها جمهور الصحابة وخاصة عثمان بن عفان، وأو كلوا القراءة الأخرى إلى حفظ القارئين. وإذ تواترت قراءة" بضنين" بالضاد الساقطة و" بظنين" بالظاء المشالة علمنا أن الله أنزله بالوجهين وأنه أراد كلا المعنيين (¬1). والمعنى الأول يقول عنه ابن عاشور: «ومعنى" ضنين" بالضاد الساقطة، فهو البخيل الذى لا يعطى ما عنده، مشتق من الضنّ، بالضاد مصدر ضن، إذا بخل، ومضارعه بالفتح والكسر ... أى ما صاحبكم ببخيل أى بما يوحى إليه، وما يخبر به عن الأمور الغيبية طلبا للانتفاع بما يخبر به بحيث لا ينبئكم عنه إلا بعوض تعطونه» (¬2). والمعنى الثانى يقول عنه ابن عاشور: «وأما معنى" ظنين" بالظاء المشالة فهو فعيل بمعنى مفعول، مشتق من الظن بمعنى التهمة، أى مظنون، ويراد أنه مظنون به سوء، أى أن يكون كاذبا فيما يخبر به عن الغيب» (¬3). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 161 - 162. (¬2) المصدر السابق، ج 3، ص 162. (¬3) التحرير والتنوير، ج 3، ص 163.

أى أن معنى" ضنين" وهى القراءة التى توافق خط المصحف الإمام" البخيل"، ومعنى" ظنين" وهى من القراءة التى لا توافقه" الكذاب". والمعنيان يتوافقان، فهما ينفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بخيلا فيما أخبر به من الغيب إلا بمقابل كما يفعل الكهان والعرّاف الذين كانوا يزعمون أنهم يتلقون الأخبار عن الجن، وهم فى ذلك كاذبون. وذكر ابن عاشور فى قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى * وَثَمُودَ فَما أَبْقى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (سورة النجم: الآية 50). «وقرأ الجمهور" وثمودا" بالتنوين على إطلاق اسم جد القبيلة عليها. وقرأ عاصم وحمزة بدون تنوين على إرادة اسم القبيلة» (¬1). وهما قراءتان توافقان خط المصحف، والتفسير بالقراءة الأخرى منهما ترجيح لمعنى قائم فى الآية المذكورة. وفى قوله تعالى: رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ سورة الطلاق: الآية 1. وذكر ابن عاشور: «وقرأ الجمهور" مبيّنة" بكسر الياء التحتية، أى هى تبين لمن تبلغه أنها فاحشة عظيمة فإسناد التبيين إليها مجازيا باستعارة التبيين للوضوح، أو تبيين لولاة الأمور صدورها من المرأة، فيكون إسناد التبيين إلى الفاحشة مجازا عقليا ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 27، ص 154.

وإنما المبين ملابسها وهو الإقرار والشهادة فيحمل فى كل حالة على ما يناسب معنى التبيين. وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم مبينة بفتح التحتية، أى كانت فاحشة ببنتها الحجة، أو بينها الخارج ومحمل القراءتين واحد. ووصفهما بمبينة إما أن يراد به أنها واضحة فى جنس الفواحش. أى فاحشة عظيمة وهذا المقام يشعر بأن عظمها هو عظم ما يأتيه النساء من أمثالها عرف وإما أن يراد به مبينة الثبوت للمدة التى تخرج» (¬1). فقراءة الجمهور" مبيّنة" بكسر الياء التحتية وهو ما عليه المصحف الإمام، هى تبين ولى الأمر الذى يقيم الحد بعد الإقرار والشهادة. والقراءة الأخرى" مبيّنة" بفتح الياء التحتية أى إن كانت فاحشة بينتها الحجة، وهى قراءة توافق خط المصحف، والتفسير بها هنا هو استظهار للمعنى المقصود من الآية. وذكر فى قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (سورة الإسراء: الآية 31). «وقرأ الجمهور" خطئا"- بكسر الخاء وسكون الطاء بعدها همزة- إى إنما- وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو جعفر" خطا" بفتح الخاء وفتح الطاء- والخطأ ضد الصواب، أى أن قتلهم محض خطأ ليس فيه ما يعذر عليه فاعله. وقرأ ابن كثير" خطاء" بكسر الخاء وفتح الطاء وألف بعد الطاء بعده همزة ممدودا، وهو فعال من خطئ إذا أجرم، وهو لغة فى خطء، وكأن الفعال ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 28، ص 300، 301.

9 - التفسير بأقوال من التوراة والإنجيل:

فيها للمبالغة، وأكد" إن" لتحقيقه ردا على أهل الجاهلية إذا كانوا يزعمون أن وأد البنات من السداد، ويقولون: دفن البنات من المكرمات، وأكد أيضا بفعل" كان" لإشعار" كان" بأنه كونه إنما أمرا مستقرا» (¬1). والقراءة الأولى ما عليه المصحف الإمام، وما قرأه الآخرون وهو مما يوافقه يمكن التفسير به على أن يكون ترجيحا لما تقصده الآية. 9 - التفسير بأقوال من التوراة والإنجيل: لم يسلم كثير من كتب التفسير من الاستعانة بالإسرائيليات خصوصا المواطن التى أجمل فيها القرآن أخبار الأمم الماضية والحوادث الغابرة وسير الأنبياء والمرسلين وأحوال الناس معهم. ومن أمثال هذه الكتب تفسير الطبرى والثعلبى (¬2) والبغوى (¬3) وابن كثير والزمخشرى (¬4) والسيوطى وغيرهم، على اختلاف فى تقبلها، أو التنبيه على زيفها، أو الالتفات إلى عدم جدوى الكثير منها. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 15، ص 89. انظر أمثلة أخرى: ج 13، ص 230، 250. ج 14، ص 116، 136، 152، 167. ج 15، ص 36، 69، 89. ج 28، ص 86، 254، 289، 355. ج 30، ص 149، 161، 176، 184، 230، 333، 339، 466، 538. (¬2) انظر د. محمد حسين الذهبى: الإسرائيليات فى التفسير والحديث، ص 131، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 3، 1406 هـ- 1986 م. وذكر الذهبى عن تفسير الثعلبى المسمى" الكشف والبيان عن تفسير القرآن": «هذا التفسير لا يزال مخطوطا إلى اليوم، ومنه نسخة غير كاملة بمكتبة الأزهر الشريف فى أربع مجلدات كبار وهو يجرى على طريقة التفسير بالمأثور دون ذكر الأسانيد وكان أبرز الجوانب فى تفسير الثعلبى هو الجانب القصصى الإسرائيلى» المصدر السابق، ص 125. (¬3) انظر د. محمد إبراهيم الشريف البغوى الفراء وتفسيره للقرآن الكريم ص 475" الإسرائيليات عند البغوى وأثر الثعلبى فيها"، مطبعة المدينة- القاهرة، 1406 - 1986 م. (¬4) انظر د. مصطفى الصاوى الجوينى: منهج الزمخشرى فى تفسير القرآن وبيان إعجازه"، ص 161 وما بعدها، دار المعارف بمصر، 1959 م.

وقد ترجع أسباب الاستعانة بهذه الإسرائيليات عند هؤلاء المفسرين إلى ما ذكره ابن الصلاح: «لا يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل فى الأسانيد، ورواية ما سوى الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام لبيان ضعفها فيما سوى صفات الله، وأحكام الشريعة من الحلال والحرام، وغيرهما، وذلك كالمواعظ والقصص وفضائل الأعمال وسائر ما لا تعلق له بالأحكام والعبادات» (¬1). ومهما يكن من أمر فإن رجال العلم الإسلامى ونقاده قد نبهوا كثيرا إلى ما تحمله هذه الإسرائيليات من خرافات وأباطيل، يقول جولد تسيهر: «التفسير الذى يرفضه الجادون من الناس بدا فى تحذير أحمد بن حنبل مقترنا فى مجموعة واحدة من الأساطير المحفوفة بالأسرار والخرافات عن الحروب وميادين التصورات الاختيارية مما يعوزه السند المؤيد الذى يتطلبه العلم الدينى الإسلامى منذ عهده المبكر من قديم، شرطا فى المعرفة الجديرة بالوثوق» (¬2). ويقول ابن حزم عن موقف المسلمين من هذه الإسرائيليات وعن الذين نقلت عنهم من بنى إسرائيل: «فما نزل القرآن والسنة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- بتصديقه ¬

_ (¬1) أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى المعروف بابن الصلاح (ت 643 هـ) علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح، ص 39، مطبعة السعادة، القاهرة 1326 هـ. ويقول ابن خلدون: «إن هذه الإسرائيليات ليست مما يرجع إلى الأحكام فتتحرى فيها الصحة التى يجب العمل بها، وتساهل المفسرون فى مثل ذلك، وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات» مقدمة ابن خلدون، ص 349، ط مصطفى محمد. وانظر صحيح البخارى بشرح السندى، ج 3، ص 99 - 100، باب" قالوا اتخذ الله ولدا"، دار إحياء الكتب المصرية، القاهرة، عيسى البابى الحلبى. (¬2) اجنتس جولد تسيهر، مذاهب التفسير الإسلامى، 75، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار، مكتبة الخانجى، القاهرة، 1374 هـ- 1955 م.

صدقنا به، وما نزل النص بتكذيبه، أو ظهر كذبه كذّبنا به، وما لم ينزل نص بتصديقه أو تكذيبه، وأمكن أن يكون حقا أو كذبا، لم نصدقهم ولم نكذبهم، وقلنا ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقوله، كما قلنا فى نبوة من لم يأتنا باسمه نص» (¬1). ولم يلجأ ابن عاشور إلى الإسرائيليات فى تفسيره، واستعان بأقوال من التوراة والإنجيل فى تفصيل ما أجمل من قصص الأنبياء فى القرآن الكريم. وقد رأينا موقفه من أحاديث فضائل السور ورفضه لها، وموقفه من الأحاديث الضعيفة ونقده للسند أو المتن واعتماده على أوثق مصادر الأحاديث وخصوصا صحيح البخارى وصحيح مسلم، كما رأينا استعانته بأقوال الصحابة والتابعين فى الحدود التى قبلها نقاد العلم الإسلامى أو علماء الأصول. كذلك رأينا عدم إسرافه فى الاستعانة بأسباب النزول أو المنسوخ من الآيات، ورأيناه كذلك لم يلجأ إلى الحشو والمبالغة فى التفسير بالقصص، واعتمد فى تفسيره بالقراءات على الصحيح أو المشهور منها، أما الشاذ منها فكنت شاهدا لغويا فحسب. فما هى الضوابط التى وضعها عند استعانته بأقوال من التوراة والإنجيل؟ وقد تعيننا الأمثلة التالية على معرفة هذه الضوابط، ذكر فى تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (سورة البقرة: الآية 67). ¬

_ (¬1) أبو محمد على بن أحمد بن حزم الظاهرى (ت 456 هـ) " الفصل فى الملل والأهواء والنحل"، ج 1، ص 216، المطبعة الأدبية، 1317 هـ.

«تعرضت هذه الآية لقصة من قصص بنى إسرائيل ظهر فيها من قلة التوقير لنبيهم ومن الإعنات فى المسألة والإلحاح فيها، إما للتعصى من الامتثال، وإما لبعد أفهامهم عن مقصد الشارع ورومهم التوقيف على ما لا قصد إليه. قيل إن أول هذه القصة هو المذكور بقوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها (¬1) الآيات، وإن قول موسى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ناشئ عن قتل النفس المذكورة، وإن قول موسى قدم هنا لأن خطاب موسى عليه السلام لهم قد نشأ عنه ضرب من مذامهم فى تلقى التشريع وهو الاستخفاف بالأمر حين ظنوه هزؤا والإعنات فى المسألة، فأريد من تقديم جزء القصة تعدد تقريعهم، هكذا ذكر صاحب الكشاف والموجهون لكلامه، ولا يخفى أن ما وجهوا به تقديم جزء القصة لا يقتضى إلا تفكيك القصة إلى قصتين تعنون كل واحدة منهما بقوله:" وإذ" مع بقاء الترتيب، على أن المذام قد تعرف بحكايتها والتنبيه عليها بقوله أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ وقوله وَما كادُوا يَفْعَلُونَ. فالذى يظهر لى أنهما قصتان أشارت الأولى وهى المحكية هنا إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة، وهذه هى القصة التى أشارت إليها التوراة فى السفر الرابع، وهو سفر التشريع الثانى (تثنية) فى الإصحاح 21 أنه «إذا وجد قتيل لا يعلم قاتله فإن أقرب القرى إلى موقع القتيل يخرج شيوخها ويخرجون عجلة من البقرة لم يحرث عليها ولم تنجر بالنير فيأتون بها إلى واد دائم السيلان لم يحرث ولم يزرع ويقطعون عنقها هنالك ويتقدم الكهنة من بنى لاوى فيغسل شيوخ تلك القرية أيديهم على العجلة فى الوادى ويقولون لم تسفك أيدينا هذا الدم ولم تبصر أعيننا سافكه فيغفر لهم الدم» (¬2) أ. هـ ¬

_ (¬1) سورة البقرة: الآية 72. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 564.

وفى قوله تعالى: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا سورة آل عمران: 38. ذكر ابن عاشور: «عد هذا فى فضائل مريم، لأنه من جملة ما يزيد فضلها لأن أبا التريبة يكسب خلقه وصلاحه مرباه. وزكرياء كاهن إسرائيلى اسمه زكرياء من بنى أبيا بن باكر بن بنيامين من كهنة اليهود، جاءته النبوءة فى كبره وهو ثانى من اسمه زكرياء من أنبياء بنى إسرائيل وكان متزوجا امرأة من ذرية هارون اسمها" اليصابات" وكانت امرأته نسيبة مريم كما فى إنجيل لوقا، قيل: كانت أختها، والصحيح أنها كانت خالتها، أو من قرابة أمها، ولما ولدت مريم كان أبوها قد مات فتنازع كفالتها جماعة من أحبار بنى إسرائيل حرصا على كفالة بنت حبرهم الكبير، واقترعوا على ذلك كما يأتى، فطارت القرعة لزكرياء، والظاهر أن جعل كفالتها للأحبار لأنها محررة لخدمة المسجد فيلزم أن تربى تربية صالحة لذلك» (¬1). وعن اسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والتبشير بدعوته على لسان عيسى عليه السلام، ذكر ابن عاشور فى تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ سورة الصف: الآية 6. «ويصح اعتبار" أحمد" تفضيلا حقيقيا فى كلام عيسى عليه السلام، ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 235.

أى مسماه أحمد منى، أى أفضل، أى فى رسالته وشريعته، وعبارات الإنجيل تشعر بهذا التفضيل، ففي إنجيل يوحنا فى الإصحاح الرابع عشر «وأنا أطلب من الأب (أى من ربنا) فيعطيكم (فارقليط) آخر ليثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذى لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه» ثم قال: وأما الفارقليط الروح القدس الذى سيرسله الأب (الله) باسمى فهو يعلمكم كل شىء ويذكركم بكل ما قلته لكم (أى فى جملة ما يعلمكم أن يذكركم بكل ما قلته لكم) وهذا يفيد تفضيله على عيسى بفضيلة دوام شريعته المعبر عنها بقول الإنجيل: «ليثبت معكم إلى الأبد» وبفضيلة عموم شرعه للأحكام المعبر عنه بقوله «يعلمكم كل شىء». والوصف ب" أحمد" على المعنى الثانى فى الاسم: أن سمعته وذكره فى جيله والأجيال بعده موصوف بأنه أشد ذكر محمود وسمعة محمودة. وهذا معنى قوله فى الحديث: «أنا حامل لواء الحمد يوم القيامة» وأن الله يبعثه مقاما محمودا. ووصف" أحمد" بالنسبة إلى المعنى الثالث فى الاسم رمز إلى أنه اسمه العلم يكون بمعنى" أحمد"، فإن لفظ محمد اسم مفعول من حمد المضاعف الدال على كثرة الحامدين إياه كما قالوا: فلان ممدح، إذا تكرر مدحه من مادحين كثيرين. فاسم" محمد" يفيد معنى: المحمود حمدا كثيرا ورمز إليه بأحمد. وهذه الكلمة الجامعة التى أوحى الله بها إلى عيسى عليه السلام أراد الله بها أن تكون شعارا لجميع صفات الرسول الموعود به صلى الله عليه وسلم، صيغت بأقصى صيغة تدل على ذلك إجمالا بحسب ما تسمح اللغة

بجمعه من معانى. ووكل تفصيلها إلى ما يظهر من شمائله قبل بعثته وبعدها ليتوسمها المتوسمون ويتدبر مطاويها الراسخون عند المشاهدة والتجربة. جاء فى إنجيل متى فى الإصحاح الرابع والعشرين قول عيسى «ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرا ولكن الذى يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص ويكرز ببشارة الملكوت هذه فى كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يكون المنتهى»، ومعنى يكرز: يدعو وينبئ، ومعنى يصير إلى المنتهى: يتأخر إلى قرب الساعة. وفى إنجيل يوحنا فى الإصحاح الرابع عشر «إن كنتم تحبوننى فاحفظوا وصاياى وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر يثبت معكم إلى الأبد». و (فارقليط) كلمة رومية، أى بوانية تطلق بمعنى المدافع أو المسلح، أى الذى يأتى بما يدفع الأحزان والمصائب، أى يأتى رحمة، أى رسول مبشر، وكلمة أخرى صريحة فى أنه رسول مثل عيسى. وفى الإصحاح الرابع عشر «والكلام الذى تسمعونه ليس لى بل للذى أرسلنى وبهذا كلمتكم وأنا عندكم (أى مدة وجودى بينكم) وأما (الفارقليط) الروح القدس الذى سيرسله الأب باسمى، فهو يعلمكم كل شىء ويذكركم بكل ما قلته (ومعنى" باسمى" أى بصفة الرسالة) لا أتكلم معكم كثيرا لأن رئيس هذا العالم يأتى، وليس له فى شىء ولكن ليفهم العالم أنى أحب الأب وكما أوصانى الأب أفعل». وفى الإصحاح الخامس عشر منه: «ومتى جاء الفارقليط الذى سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذى من عند الأب ينبثق فهو يشهد لى» (¬1). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 28، ص 184 إلى 186.

«وقد ورد فى سفر التكوين من التوراة ذكر امرأة نوح مع الذين ركبوا السفينة وذكر خروجها من السفينة بعد الطوفان ثم طوى ذكرها لما ذكر الله بركته نوحا وبنيه وميثاقه معهم فلم تذكر معهم زوجته. فلعلها كفرت بعد ذلك أو لعل نوحا تزوج امرأة أخرى بعد الطوفان لم تذكر فى التوراة» (¬1). وعند تحديد ضوابط الاستعانة بمثل هذه الأقوال من التوراة والإنجيل من خلال الأمثلة السابقة فقد ذكر ابن عاشور فى تفسير قوله تعالى وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ... الآية، ما تعرضت له الآية من ذكر قصة من قصص بنى إسرائيل، ثم نوّه بما جاء فى الكشاف والموجهين لكلامه، وأن تقديم جزء القصة لا يقتضى إلا تفكيكها إلى قصتين، الأولى وهى المحكية فى هذه الآية وهى التى أشارت إليها التوراة فى السفر الرابع" سفر الخروج" ثم نقل ابن عاشور نصها. وفى المثال الثانى كان عن ثانى ما اسمه زكريا من أنبياء بنى إسرائيل وزوجته" اليصابات" كما فى إنجيل لوقا. وفى المثال الثالث كان عن تبشير عيسى عليه السلام ببعثة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وما سيكون لدعوته وشريعته من بقاء ومكانة، كما جاء فحوى عبارات الإنجيل سواء إنجيل يوحنا أم إنجيل متى. وفى المثال الأخير كان النقل من التوراة عن انطواء ذكر امرأة نوح، وتعليل ابن عاشور لهذا الانطواء. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 28، ص 374، 375. وانظر أمثلة أخرى: ج 1، ص 430. ج 2، ص 306، 486. ج 6، ص 173. ج 7، ص 70، 311. ج 13، ص 48. ج 16، ص 84، 214. ج 17، ص 126. ج 23، ص 259.

واستعانة ابن عاشور ببعض ما جاء من التوراة والإنجيل كانت من قبيل تفصيل ما أجمل من القصص القرآنى، وليس لهذه الأقوال من خطر سواء فى العقيدة أم التشريع، كما أنها ليست من قبيل الحشو والاستهواء اللذين نراهما فى الإسرائيليات التى زجّها بعض المفسرين فى كتبهم وقبولها دون تحقيق. ومهما يكن من أمر فقد أكثر العلماء من التنبيه على خطورة المرويات الإسرائيلية فى كتب التفسير أيا ما كانت اتجاهات أصحابها، وأنسب ما نستطيع التذكير به فى هذا الأمر هو قول الشيخ أحمد محمد شاكر عن مرويات بنى إسرائيل: «إن إباحة التحدث عنهم فيما ليس عندنا دليل على صدقه ولا كذبه شىء، وذكر ذلك فى تفسير القرآن وجعله قولا، أو رواية فى معنى الآيات، أو فى تعيين ما لم يعيّن فيها، أو فى تفصيل ما أجمل فيها شىء آخر، لأن فى إثبات مثل ذلك بجوار كلام الله ما يوهم أن هذا الذى لا نعرف صدقه ولا كذبه مبين لقول الله تعالى، ومفصل لما أجمل فيه، وحاشا لله ولكتابه من ذلك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ما أذن بالتحدث عنهم أمرنا أن لا نصدقهم ولا نكذبهم (¬1) فأى تصديق لروايتهم وأقاويلهم أقوى من أن نقرنها بكتاب الله، ونضعها موضع التفسير والبيان» (¬2). ومن ثم يمكن القول إن ابن عاشور لم يقع فى شرك الإسرائيليات وأكاذيبها، وكانت استعانته بأقوال من التوراة والإنجيل فى الحدود التى تلقى بعض الأضواء على أحداث تاريخية لم يدر حولها خلاف يذكر، أو تمس العقيدة الإسلامية ولا أحكامها، وكانت بعيدة عن الرغبة فى استهواء القراء وجمع الأقوال فحسب، كما يفعل بعض المفسرين الذى استهوتهم هذه الإسرائيليات. ... ¬

_ (¬1) انظر صحيح البخارى، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بنى إسرائيل. (¬2) عمدة التفاسير عن الحافظ ابن كثير، اختصار وتحقيق أحمد محمد شاكر، ج 1، ص 15، دار المعارف، مصر، 1956 م.

تلك هى مقومات التفسير بالرواية عند ابن عاشور فى تفسيره" التحرير والتنوير"، ولم يكن فيها مقلدا يقبل الروايات أو الأقوال دون إعمال العقل، وإنما كان واعيا بقيمة كتب التراث الإسلامى فى ميدان التفسير الذى يمثل جانبا مهما من ضمير الأمة وتاريخها، يتعامل مع هذا التراث بتفتح فكرى، يأخذ منه ما يأخذ، ويرفض منه ما يرفض، يأخذ من أعلى مصادره توثيقا، وما يتطابق مع الفكر النيّر بعد تحقيق وتحليل، ويرفض ما دون ذلك معللا أسباب الرفض، مقتنعا بالمحتوى الأصيل من هذا التراث، مبتعدا عن سلطان التعوّد والقبول بلا مناقشة. إن محاولة تصفية جانب كبير من التراث الإسلامى من شوائب كثيرة علقت به تمت فى" التحرير والتنوير" بنجاح لا يمكن إنكاره، ولعل الاسم الذى اختاره ابن عاشور لتفسيره هذا يؤكد عزمه على ذلك بعد وضوح الهدف أمامه، حيث اعتمد تحقيق هذا الهدف على عقل مستنير استطاع به صاحبه النفاذ إلى هذا التراث والإلمام بالتيارات المختلفة التى صاحبت تسجيله، والاتجاهات المتضاربة التى اختلفت عليه ليخرج لنا بأصفى ما يمكن الخروج به من النصوص والمأثورات.

الباب الثالث منهج الطاهر بن عاشور فى التفسير بالدراية

الباب الثالث منهج الطاهر بن عاشور فى التفسير بالدراية

تمهيد:

تمهيد: من المقرر الثابت أن تكون القواعد التالية أمام من يفسر القرآن بالرأى: - إن مجال الرأى فيما لا نص فيه سواء من القرآن أم من السنة الصحيحة، أم ما أجمع عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. - العلم الصحيح بما فى القرآن من الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والخاص والعام، والمبين والمبهم، والمقطوع والموصول، والفرائض والأحكام. - أن تتوفر له الخبرة اللازمة بالأسانيد والمتون ليعرف الصحيح منها والسقيم. - أن يكون ملما بتاريخ الفقه وأصوله واختلاف أئمة المذاهب الفقهية وأصحابهم، فأعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس. - العلم بلغة العرب «المفردات والترادف والاشتراك اللغوى والاشتقاق والإعراب والصرف والشعر» والقراءات والبلاغة وعلومها" الفصاحة والبيان والبديع". - أن يكون منزها عن آراء العوام، بعيدا عن جعل تفسير كتاب الله لحزب أو هوى. - أن يتمتع بالذوق الكريم، والموهبة اللازمة، والخشوع التام، صادق الرغبة فى الاستعانة بنور الله تعالى (¬1). ¬

_ (¬1) راجع- إن شئت- - البرهان فى علوم القرآن، الزركشى، ج 1، ص 13. - البحر المحيط، ابن حيان الأندلسى، ج 1، ص 7، مكتبة النصر الحديثة، الرياض. - مقدمة فى أصول التفسير، ابن تيمية، ص 29، منشورات مكتبة الحياة، بيروت- لبنان، 1980 م. - التفسير والمفسرون، د. محمد حسين الذهبى، ج 1، ص 280، دار القلم، بيروت- لبنان.

التفسير بالرأى عند ابن عاشور:

التفسير بالرأى عند ابن عاشور: فى المقدمة الثالثة من المقدمات العشر التى تصدرت" التحرير والتنوير" كتب ابن عاشور عن التفسير بغير المأثور، ومعنى التفسير بالرأي، حيث طرح سؤالا طويلا فى أول هذه المقدمة ... قال: «إذ قلت: أراك بما عددت من علوم التفسير تثبت أن تفسيرا كثيرا لم يستند إلى مأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، وتبيح لمن استجمع من تلك العلوم حظا كافيا، وذوقا ينفتح له بهما من معانى القرآن ما ينفتح عليه أن يفسر من آى القرآن بما لم يؤثر عن هؤلاء، فيفسر بمعان تقتضيها العلوم التى يستمد منها علم التفسير، وكيف حال التحذير الواقع فى الحديث الذى رواه الترمذى عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» (¬1). والحديث الذى رواه أبو داود والترمذى والنسائى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من تكلم فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»، وكيف محمل ما روى من تحاشى بعض السلف عن التفسير بغير توقيف؟ فقد روى عن أبى بكر الصديق أنه سئل عن «الأبّ فى قوله: وَفاكِهَةً وَأَبًّا (¬2)، فقال: «أى أرض تقلنى، وأى سماء تظلنى، إذ قلت فى القرآن برأيى»، ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبى إحجامهما عن ذلك» (¬3). ¬

_ (¬1) انظر سنن الترمذى، ج 2، ص 157،" أبواب التفسير" وذكر فى موضع آخر: «قال أبو عيسى: هكذا روى عن بعض أهل العلم من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شدّدوا فى هذا، فى أن لا يفسر القرآن بغير علم». أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة، الجامع الصحيح، ج 5، ص 200، تحقيق إبراهيم عطوة عوض، ط. الحلبى. (¬2) سورة عبس: الآية 31. (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 28، المقدمة الثالثة.

وذكر فى الإجابة عن ذلك:

وذكر فى الإجابة عن ذلك: «قلت: أرانى كما حسبت أثبت ذلك وأبيحه، وهل اتسعت التفاسير وتفننت مستنبطات معانى القرآن إما رزقه الذين أوتوا العلم من فهم كتاب الله؟ وهل يتحقق قول علمائنا: «إن القرآن لا تتقضى عجائبه» إلا بازدياد المعانى باتساع التفسير؟ ولولا ذلك لكان التفسير مختصرا فى ورقات قليلة، وقد قالت عائشة: «ما كان رسول الله يفسر من كتاب الله إلا آيات معدودات علمه جبريل إياهن» (¬1). ويقول معللا الأسباب التى أدت إلى عدم الركون إلى التفسير بالمأثور فحسب: «لو كان التفسير مقصورا على بيان معانى مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرا، ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة، فمن يليهم فى تفسير آيات القرآن وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم، قال الغزالى والقرطبى: لا يصح أن يكون كل ما قاله الصحابة فى التفسير مسموعا من النبى- صلى الله عليه وسلم- لوجهين: أحدهما: أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه من التفسير إلا تفسير آيات قليلة، وهى ما تقدم عن عائشة. ثانيهما: أنهم اختلفوا فى التفسير على وجوه مختلفة لا يمكن الجمع بينها وسماع جميعها» (¬2). ثم يتساءل: ¬

_ (¬1) المصدر السابق، الصفحة نفسها. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 30.

«وهل استنباط الأحكام التشريعية من القرآن فى خلال القرون الثلاثة الأولى من قرون الإسلام إلا من قبيل التفسير لآيات القرآن بما لم يسبق تفسيرها به قبل ذلك؟ وهذا الإمام الشافعى يقول: تطلبت دليلا على حجية الإجماع فظفرت به فى قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (¬1). ويقول عن المحاذير التى جعلت أمام من يفسر القرآن بالرأى: «وأما الجواب عن الشبهة التى نشأت من الآثار المروية فى التحذير من تفسير القرآن بالرأى فمرجعه إلى خمسة وجوه» (¬2). وهذه الوجوه تدور حول ألا يكون المراد بالرأى هو القول عن مجرد خاطر دون الاستناد إلى نظر فى أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، وألا يتدبر المفسر القرآن حق تدبره، فيفسره بما يخطر له من بادئ الرأى دون إحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير، أو أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأول القرآن وفق رأيه ويصرفه عن المراد، أو يفسر القرآن برأى مستند إلى ما تقتضيه اللفظة، ثم يزعم أن ذلك هو المراد دون غيره لما فى ذلك من تضييق على المتأولين، وأخيرا أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة فى التدبر والتأويل ونبذ التسرع إلى ذلك. ويقول عن موقف التابعين فى التفسير، وعن بعض المفسرين الذين التزموا بالآثار المروية، وعن بعضهم الآخر الذين نحوا بتفاسيرهم إلى التفسير بغير المأثور: ¬

_ (¬1) سورة النساء: الآية: 115. وانظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 30. (¬2) المصدر السابق، الصفحة نفسها.

«إن التابعين قالوا أقوالا فى معانى القرآن لم يسندوها ولا ادعوا أنها محذوفة الأسانيد، وقد اختلفت أقوالهم فى معانى آيات كثيرة اختلافا ينبئ إنباء واضحا بأنهم إنما تأولوا تلك الآيات من أفهامهم كما يعلمه من له علم بأقوالهم، وهى ثابتة فى تفسير الطبرى ونظرائه، وقد التزم الطبرى فى تفسيره أن يقتصر على ما هو مروى عن الصحابة والتابعين، لكنه لا يلبث فى كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب، وحسبه بذلك تجاوزا لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور وذلك طريق ليس بنهج، وقد سبقه إليه بقى بن مخلد ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبرى فيه معاصروه، مثل ابن حاتم وابن مردويه والحاكم، فلله در الذين لم يحبسوا أنفسهم فى تفسير القرآن على ما هو مأثور مثل الفراء وأبى عبيدة من الأولين، والزجاج والرّمانى ممن بعدهم، ثم الذين سلكوا طريقهم مثل الزمخشرى وابن عطية» (¬1). وهذه ضوابط استخلصها ابن عاشور من المراحل المتعاقبة لتاريخ التفسير التى تنوعت فيها أدوات المفسرين واتجاهاتهم، خصوصا أصحاب الاتجاهات الإخبارية والنزعات الحزبية، أو الإشارات الصوفية أو القصصية، وأقحموا فى التفسير ما لا خير فيه، وجاءوا بالموضوعات والإسرائيليات، وابتعدوا عن أصالة العربية ومقاصد الشريعة، وضيقوا معانى الآية، واستباحوا لأنفسهم أن يقولوا دون علم أو تأويل صحيح. أما هؤلاء الذين خلصت نياتهم وسلمت قلوبهم واكتملت أدواتهم وقدراتهم والذين عرفهم تاريخ التفسير من صحابة وتابعين ومفسرين فلهم أن يقولوا بما هداهم الله إليه، وقد راح ابن عاشور وفق هذه الضوابط التى انتهى إليها فى (التفسير بالرأى) يفسر آيات الكتاب الكريم، يستعين أولا بمقومات ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 33.

أولا: الشعر:

التفسير بالمأثور يتصدرها تفسير القرآن بالقرآن فيما يحمل بعض آياته على بعض، ثم بما صحّ من أحاديث وآثار، ثم راح بعد ذلك يكشف بعض أبعاد الآية وإيحاءات ألفاظها مستغلا خصائص العربية وإمكاناتها فى هذا الكشف من حيث تركيب المفردات وصياغة الجمل والفوارق الإعرابية، وما يمثل العرب فى سننهم وكلامهم. ولا يتوقف (التفسير بالرأى) عند ابن عشور عند هذا الحد، بل يتعداه إلى الاستعانة بأقوال أئمة المذاهب الفقهية وأصحابهم، وأقوال الفلاسفة وأصحاب الدراسات البيانية، وآراء أصحاب العلوم الحديثة فى بيان معنى الآية، أو ما يمكن أن يكون معناها. ومقومات التفسير بالرأى عند ابن عاشور: أولا: الشعر. ثانيا: اللغة: أ- الألفاظ ب- الأعراب ثالثا: الاستعانة بعلوم البلاغة رابعا: الاستعانة بأقوال فقهاء الأمصار فى تفسير آيات الأحكام خامسا: الاستعانة بأقوال الفلاسفة وعلماء الهيئة أولا: الشعر: احتل الشعر مكانة بارزة فى التحرير والتنوير، وقد مرّ بنا فى الباب الأول من هذه الدراسة بعض أسماء الشعراء الذين ذكرهم ابن عاشور فى تفسيره، والواقع أن الشعراء الذين احتج ابن عاشور بأشعارهم كانوا من الكثرة التى يصعب حصرها، ووجدنا- على سبيل المثال- فى المجلد الأول" 848 ص"

أكثر من مائة وأربعين شاعرا بعد استبعاد الأسماء المكررة، فآثرنا أن نذكر بعضهم فى الباب الأول بعد مراعاة عصورهم، ثم نأتى ببعض الأمثلة فيما تناوله ابن عاشور فى تفسيره كله آخذين بعين الاعتبار عصور الشعر المختلفة. ولا بدّ أن نقرر- فى صدد هذا الباب- أن استخدام ابن عاشور للتفسير بالرواية بكل مقوماته لم ينفصل عن التفسير بالدراية بكل لوازمه، وما جاء من أمثلة سابقة أو لا حقة كان من قبيل تصنيف مقومات التفسير فى" التحرير والتنوير". ومن وجوه الاختلاف التى وقعت فى الاحتجاج بالشعر ما جاء فى الإتقان: «قال أبو بكر بن الأنبارى: قد جاء عن الصحابة والتابعين كثيرا الاحتجاج على غريب القرآن، ومشكله بالشعر، وأنكر جماعة لا علم لهم على النحويين ذلك، قالوا: إذا فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلا للقرآن، قالوا: وكيف يجوز أن يحتج بالشعر على القرآن، وهو مذموم فى القرآن والحديث، قال: ليس الأمر كما زعموه من أنّا جعلنا الشعر أصلا للقرآن، بل أردنا تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر، لأن الله تعالى قال: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا (¬1)، وقال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (¬2)، وقال ابن عباس: الشعر ديوان العرب، فإذا أخفى علينا الحرف من القرآن الذى أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه» (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الزخرف: الآية 3. (¬2) سورة الشعراء: الآية 195. (¬3) الإتقان، ج 1، ص 157.-

وقد ذهب ابن عاشور فى تفسيره يحتج بالشعر فى تبيين الحرف الغريب فى القرآن وبعض الاستعمالات اللغوية عند العرب ومما احتج به من شعر الحارث بن حلزة (¬1)، والنابغة (¬2)، وغاوى بن ظالم أو عباس بن مرداس (¬3) فى لفظ" رب" من قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ (سورة الفاتحة: الآية 1). قال ابن عاشور: «والعرب لم تكن تخص لفظ الرب به تعالى لا مطلقا ولا مقيدا، قال الحارث بن حلزة: وهو الرب والشهيد على يو ... م الحيارين والبلاء بلاء يعنى عمرو بن هند، وقال النابغة فى النعمان بن الحارث: تخبّ إلى النعمان حتى تناله ... فدى لك من رب طريقى وتالدى وقال فى النعمان بن المنذر حين مرض: وربّ عليه الله أحسن صنعه ... وكان له على البرية ناصرا وقال صاحب الكشاف ومن تابعه: إنه لم يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا، ولم يأتوا على ذلك بسند، وقد رأيت أن الاستعمال بخلافه، أما إطلاقه على كل آلهتهم فلا مرية فيه كما قال غاوى بن ظالم، أو عباس بن مرداس: ¬

_ - وذكر السيوطى: «أخرج أبو بكر بن الأنبارى فى كتاب الوقف من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: إذا سألتم عن شىء من غريب القرآن فالتمسوه فى الشعر، فإن الشعر ديوان العرب». المزهر فى علوم اللغة وأنواعها، ج 2، ص 302، شرحه وضبطه، محمد أحمد جاد المولى، على محمد البجاوى، محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابى الحلبى، القاهرة. وانظر عائشة عبد الرحمن، الإعجاز البيانى للقرآن ومسائل ابن الأزرق، ج 2، دار المعارف، مصر، ط 2، 1987 م. (¬1) من أصحاب القصائد التسع المشهورات. (¬2) من أصحاب القصائد التسع المشهورات. (¬3) من الشعراء الأوائل.

أربّ يبول الثعلبان برأسه ... لقد هان من بالت عليه الثعالب وسموا العزى الرّبة، وجمعه أرباب أدلّ دليل على إطلاقه على متعدد، فكيف تصح دعوى تخصيص إطلاقه عندهم بالله تعالى، وأما إطلاقه مضافا أو متعلقا بخاص فظاهر وروده بكثرة نحو: رب الدار، رب الفرس، ورب بنى فلان» (¬1). وهو فى هذا المثال لم يتبع صاحب الكشاف، أو غيره من المفسرين (¬2)، وأهل اللغة فى إطلاق" الرب" على غير الله تعالى إلا مقيدا، نحو رب الدار، ورب الفرس ... ، وذكر ابن عاشور إنهم لم يأتوا على ذلك بسند، وهو فيما ساقه من شواهد شعرية قد ذهب إلى أن العرب قد أطلقوا" الرب" مجردا من الإضافة إلى الأشخاص، أو بعض آلهتهم قبل الإسلام، وجمعه على أرباب أدلّ دليل على ذلك. ومن شعر عبيد بن الأبرص (¬3). وفى دلالة" قد" الداخلة على الفعل المضارع، ذكر فى قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (سورة البقرة: الآية 144). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 167. (¬2) انظر تفسير القرطبى، ج 1، ص 137، وتفسير الطبرى، ج 1، ص 46. وتفسير ابن كثير، ج 1، ص 43، ط 5، دار الأندلس، بيروت. وتفسير البيضاوى، ج 1، ص 9، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 هـ- 1988 م. (¬3) شاعر من دهاة الجاهلية وحكمائها، وهو أحد أصحاب المجمهرات المعدودة، طبقة ثانية من المعلقات، انظر الشعر والشعراء لابن قتيبة، ص 84، والأغانى 19: 84، وخزانة البغدادى، ص 323

«وجيء بالمضارع مع" قد" للدلالة على التجدد، والمقصود تحدد لازمه ليكون تأكيدا لذلك اللازم وهو الوعد، فمن أجل ذلك غلب على" قد" الداخلة على المضارع أن تكون للتكثير مثل ربما يفعل، كما قال عبيد بن الأبرص. قد أترك القرن مصفرا أنامله ... كأنّ أثوابه مجت بفرصاد» (¬1) من شعر زهير (¬2)، ومالك بن الريب (¬3). فى التعبير عن المستقبل بأحداث لم تقع بعد، لغرض استحضار السامع لها على هيئة مخصوصة، ذكر ابن عاشور فى قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (سورة البقرة: الآية 175). «وقوله فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ تعجيب من شدة صبرهم على عذاب النار، ولما كان شأن التعجيب أن يكون ناشئا عن مشاهدة صبرهم على العذاب، وهذا الصبر غير حاصل فى وقت نزول هاته الآية بنى التعجيب على تنزيل غير الواقع منزلة الواقع لشدة استحضار السامع إياه بما وصف به من الصفات الماضية، وهذا من طرق جعل المحقق الحصول فى المستقبل بمنزلة الحاصل، ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ الماضى وتنزيل المتخيل منزلة المشاهد كقول زهير: ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 27. (¬2) من أصحاب القصائد التسع المشهورات. (¬3) هو مالك بن الريب بن حوط بن حوط، كان ظريفا أديبا فاتكا، وهرب من الحجاج لأنه هجاه، وخرج إلى خراسان، ففرّ مع سعيد بن العاص، مات بها، انظر معجم الشعراء للمرزبانى، ص 265، تحقيق عبد الستار أحمد فراج.

تبصر خليلى هل ترى من ظعائن ... تحملنى بالعلياء من فوق جرثم بعد أن ذكر إنه وقف بالدار بعد عشرين حجة، وقول مالك بن الريب. دعانى الهوى من أهل ودى وحيرتى ... بذى الطيسين فالتفت ورائيا وقريب منه قوله تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (¬1) على جعل" لَتَرَوُنَّ" جواب" لو" (¬2)، ومن شعر" الأحوص" (¬3). وفى كون فعل" الخوف" بتعدى لمفعول واحد ومفعولين، ذكر فى تفسير قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (سورة الأعراف: الآية 59). «وفعل الخوف يتعدى نفسه إلى الشيء المخوّف منه، ويتعدى إلى مفعول ثان بحرف" على" إذا كان الخوف من خبر يلحق غير الخائف، كما قال الأحوص: فإذا تزول تزول على متخرط ... نخشى بوادره على الأقران» (¬4) ومن شعر" كعب بن زهير" (¬5). ¬

_ (¬1) سورة التكاثر: الآية 5، 6. (¬2) التحرير والتنوير، ج 2، ص 125. (¬3) من الطبقة السادسة من فحول الجاهلية. (¬4) التحرير والتنوير ج 8، ص 190. (¬5) من الطبقة الثانية من فحول الجاهلية.

ذكر ابن عاشور فى معنى" قاصِراتُ الطَّرْفِ" وما شاع من هذا الوصف، فى قوله تعالى: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (سورة الرحمن: الآية 56). «وقاصرات الطرف: صفة لموصوف محذوف تقديره نساء، وشاع المدح بهذا الوصف فى الكلام حتى نزل منزلة الاسم، ف" قاصِراتُ الطَّرْفِ" نساء فى نظرهن مثل القصور، والغض خلقة فيهن، وهذا نظير ما يقول الشعراء من المولدين مراض العيون، أى: مثل المراض خلقة، والقصور مثل الغض من صفات عيون المها والظباء، قال كعب بن زهير: وما سعاد غداة البين إذا رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول» (¬1) وقد أكثر ابن عاشور فى تفسيره كله من ذكر الشواهد الشعرية فى العصر الجاهلى، ومن الشعراء الذين أتى بأبياتهم: المتلمس، وحاتم بن عبد الطائى، وأبو الطمحان القينى، وحميد بن ثور، وعمرو بن معد يكرب، وسحيم بن وثيل، وعنترة العبسى، وأوس بن حجر، ولبيد بن ربيعة العامرى، وامرؤ القيس، وذو الإصبع العدوانى، والوليد بن المغيرة، وعروة بن أذنية، وعلقمة بن عبدة الملقب بالفحل، والمعلوط القويعى، وعمرو بن البراقة النهمى، وقيس بن الحطيم، وبشامة بن حزن، والحرث بن كلدى، والخطيل بن أوس، وغيرهم كثيرون. ومن شعراء العصر الأموى الفرزدق (¬2) وجرير (¬3). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 27، ص 269. (¬2) من الطبقة الأولى من فحول الإسلام. (¬3) من الطبقة الأولى من فحول الإسلام.

ذكر فى تعدية الفعل نبأ وأنبأ من قوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (سورة التحريم: الآية 3). «واعلم أن نبأ وأنبأ مترادفان وهما بمعنى أخبر وأن حقهما التعدية على مفعول واحد لأجل ما فيهما من همزة التعدية أو التضعيف، وإن كان لم يسمع فعل مجرد لهما، وهو مما أميت فى كلامهم استغناء بفعل علم، والأكثر أن يتعديا إلى ما زاد على المفعول بحرف جر نحو: نبأت به، وقد يحذف حرف الجر فيعديان إلى مفعولين، كقوله هنا: «من أنبأن هذا» أى بهذا، وقول الفرزدق: نبئت عبد الله بالجو أصبحت ... كراما مواليها لئاما ما صميها حمله سيبويه على حذف الحرف، وقد يضمنان معنى: اعلم، فيعديان إلى ثلاثة مفاعيل كقول النابغة: نبئت زرعة والسفاهة كاسمها ... يهدى إلى غرائب الأشعار» (¬1) وفى قوله تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً* لِلطَّاغِينَ مَآباً* لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (سورة النبأ، الآية 21، 22، 23). ذكر ابن عاشور: «ودخول حرف" إن" فى خبر" إن" يفيد تأكيدا على التأكيد الذى أفاده حرف التأكيد الداخل على قوله يَوْمَ الْفَصْلِ» (¬2)، على حد قول جرير: ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 28، ص 355. (¬2) سورة النبأ: الآية 17، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً

إن الخليفة إن الله سربله ... سربال ملك به ترجى الخواتيم ومنه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ (¬1)، وتكون الجملة من تمام ما خوطبوا بقوله: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (¬2). وفى معنى" الوسوسة" احتج ببيت رؤبة بن العجاج الراجز (¬3) فى قوله تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما (سورة الأعراف: الآية 20). ذكر ابن عاشور: «كانت وسوسة الشيطان بقرب نهى آدم عن الأكل من الشجرة، فعبّر عن القرب بحرف التعقيب إشارة إلى أنه قرب قريب لأن التعقيب كل شىء بحسبه. والوسوسة الكلام الخفى الذى لا يسمعه إلا المدانى للمتكلم، قال رؤية يصف صائدا: وسوس يدعو جاهدا رب الفلق ... سرا وقد أون تأوين العقق» (¬4) وهكذا كان الشعر عند ابن عاشور من الوسائل التى تكشف عن معنى كلمة، أو توضيح دلالة، أو بيان أثر الحروف الزائدة على الفعل المجرد، أو التنبيه عن الاستعمالات اللغوية المختلفة لبعض الصيغ التى اشتهرت فى العربية. ¬

_ (¬1) سورة الحج: الآية 17. (¬2) سورة النبأ: الآية 18. وانظر التحرير والتنوير، ج 30، ص 34. (¬3) من الطبقة التاسعة من فحول الإسلام. (¬4) التحرير والتنوير، ج 8، ص 56 القسم الثانى.

وهو فى كل ذلك ينسب البيت إلى صاحبه، وقد يذكر المناسبة التى قيلت فيه، زيادة فى البيان، وربما ذكر أكثر من شاهد على ما يذهب إليه سعيا إلى توكيد عموم الاستخدام واطراده، لا حالة قائمة بذاتها. وشواهده- كما رأينا- تمثل عصور الاحتجاج" الجاهلى وصدر الإسلام والأموى" والتى عليها علماء اللغة وفنونها المختلفة من حيث الاحتجاج بها ما دامت خالصة من الشوائب والاختلاط، وبقى لها صفاؤها الذى نقلته الأجيال، حريصة عليه، حارسة له. وابن عاشور فيما نقله من شواهد نجده لم يحتج بأبيات مجهولة، كما أنه لم يحتج ببيت أو أكثر على روايات مختلفة تطرق إليها الاحتمال، أو تلجأ إليها الضرورة الشعرية، كما أن استخدامه لهذه الشواهد آزره الاحتجاج بنصوص قرآنية، وأمثال عرفها التراث العربى الجاهلى من الكلام الفصيح. ومن شعراء ما بعد عصور الاحتجاج الذين جاء ابن عاشور بذكرهم: المتنبى، وأبو العلاء المعرى، وابن العميد، والحسن بن طباطبا، وابن الرومى، وأبو فراس الحمدانى، وأبو تمام ... وغيرهم. ومن خلال الأمثلة التالية يمكن التعرف على المواطن التى استعان ابن عاشور فيها بشعر هؤلاء، أو بغيرهم ممن جاءوا بعد عصور الاحتجاج: ذكر فى معنى" العبادة" وسرها وتأثيرها عند تفسير قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (سورة الفاتحة: الآية 5). «لا شك أن داعى العبادة التعظيم والإجلال، وهو إما عن محبة أو عن خوف، وأهمه ما كان عن محبة لأنه يرضى نفس فاعله، قال: أهابك إجلالا وما بك قدرة ... علىّ ولكن ملء عين حبيبها

هى تستلزم الخوف من غضب المحبوب، قال محمود الوراق، أو منصور الفقيه: تعصى الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمرى فى القياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع ولذلك قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (¬1)، فذلك يشعر بأن اتباع الشريعة يوجب محبة الله وأن المحب يود أن يحبه حبيبه كما قال المتنبى: أنت الحبيب ولكنى أعوذ به ... من أن تكون محبا غير محبوب وإلى هذا النوع ترجع عبادة أكثر الأمم، ومنها العبادة المشروعة فى جميع الشرائع لأنها مبنية على حب الله تعالى، وكذلك عبادة المشركين أصنامهم، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ (¬2). ومن الأمم من عبدت عن خوف دون محبة، وإنما هو لاتقاء شر كما عبدت بعض الأمم الشياطين، وعبدت المانوية من المجوس المعبود" أهرمن" وهو عندهم رب الشر والضر، ويرمزون إليه بعنصر الظلمة وأنه تولد من خاطر سوء خطر للرب" يزدان" إله الخير، قال المعرى: فكّر يزدان على غيره ... فصيغ من تفكيره أهرمن» (¬3) ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: الآية 31. (¬2) سورة البقرة: الآية 165. (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 182، 183.

وعند تفسيره لقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (سورة البقرة: الآية 18). ذكر: «قال صاحب الكشاف: فإن قلت هل يسمى ما فى الآية استعارة؟ قلت: مختلف فيه، والمحققون على تسميته تشبيها بليغا لا استعارة، لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون» أ. هـ أى لأن الاستعارة تعتمد على لفظ المستعار منه، أو المستعار له فى جملة الاستعارة، فمتى ذكرا معا فهو تشبيه، ولا يضر ذكر لفظ المستعار له فى غير جملة الاستعارة لظهور أنه لولا العلم بالمستعار له فى الكلام لما ظهرت الاستعارة، ولذلك اتفقوا على أن قول ابن العميد: قامت تظللنى من الشمس ... نفس أعز علىّ من نفسى قامت تظللنى ومن عجب ... شمس تظللنى من الشمس إن قوله" شمس" استعارة، ولم يمنعهم من ذلك ذكر المستعار له قبل قوله" نفس أعز" وضميرها فى قوله" قامت تظللنى"، وكذا إذا كان لفظ المستعار غير مقصود ابتناء التشبيه عليه لم يكن مانعا من الاستعارة كقول أبى الحسن بن طباطبا: لا تعجبوا من يلى غلالته ... قد ذرّ أزراره على القمر فإن الضمير لم يذكر ليبنى عليه التشبيه، بل جاء التشبيه عقبه» (¬1). وعن شروط التأويل الصحيح ذكر فى تفسيره لقوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (سورة البقرة: 42) ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 314.

«إن التأويل لا يصح إلا إذا دلّ عليه دليل قوى، أما إذ وقع التأويل لما يظن أنه دليل فهو تأويل باطل، فإن وقع بلا دليل أصلا فهو لعب لا تأويل، ولهذا نهى الفقهاء عن اقتباس القرآن فى غير المعنى الذى جاء له كما قال ابن الرومى: لئن أخطأت فى مدحي ... ك ما أخطأت فى منعى لقد أنزلت حاجاتى ... بواد غير ذى زرع» (¬1) وفى معنى" الطَّرْفِ" ذكر عند تفسيره لقوله تعالى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ* لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (سورة آل عمران: 126 إلى 128). «والطرف- بالتحريك- يجوز أن يكون بمعنى الناحية، ويخص بالناحية التى هى منتهى المكان، قال أبو تمام: كانت هى الوسط المحمى فاتصلت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا فيكون استعارة لطائفة من المشركين كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها (¬2). ويجوز أن يكون المعنى الجزء المتطرف من الجسد كاليدين والرجلين ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 472. (¬2) سورة الرعد: الآية 41.

والرأس فيكون مستعارا هنا لإشراف المشركين، أى ليقطع من جسم المشرك أهم أعضائه، أى ليستأصل صناديد الذين كفروا، وتنكير (طرفا) للتفخيم (¬1). وكل ذلك معان جديدة لم تأت فى شعر عصور الاحتجاج، وإنما عرفها الشعر بعد ذلك، حيث نضجت علوم البلاغة وألوان التعبير وموضوعاته المختلفة، فلم يكن للمحبوب هيبة الإجلال فى العصر الجاهلى أو ما تلاه من عصور الاحتجاج، كما لم يكن هناك محبة الخالق التى توجب اتباع شريعته، أو تصوير لأحوال بعض الأمم التى عبدت آلهتها عن خوف دون محبة مثلما ورد فى تفسير قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. وفى المثال الثانى عند تفسير قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ وما فيه من تشبيه بليغ كما أجمع عليه أصحاب البلاغة، حيث استعان ابن عاشور ببيتى ابن العميد فى توضيح ما ذهب إليه هؤلاء، فمتى ذكر المستعار منه، أو المستعار له فى جملة الاستعارة فهو تشبيه، وإذا كان المستعار غير مذكور ابتنى التشبيه عليه، ولم يكن ذلك مانعا من الاستعارة كما جاء فى بيت أبى الحسن بن طباطبا وذلك من فنون البديع التى نضجت فى عصر ابن المعتز (¬2) وقدامة بن جعفر (¬3)، وأبى الهلال العسكرى (¬4). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 78. (¬2) انظر عبد الله بن المعتز، البديع، ص 1 وما بعدها، تحقيق وتعليق كرانشوفسكى، ط 4، مكتبة المثنى، بغداد، 1967 م. (¬3) انظر أبو الفرج قدامة بن جعفر، نقد الشعر، ص 58، تحقيق جمال مصطفى، مكتبة الخانجى، القاهرة، ط 3. (¬4) انظر أبو الهلال العسكرى، كتاب" الصناعتين" ص 266، تحقيق محمد على البجاوى، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت- لبنان، 1406 هـ- 1986 م.

وفى المثال الثالث ذكر ابن عاشور فى تفسير قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ ... الآية، شروط التأويل الصحيح، فقوله تعالى ينهى عن خلط الحق بالباطل، لذا نهى الفقهاء عن الاقتباس من القرآن فى غير المعنى الذى جاء له، ومثل ابن عاشور هذا الحال ببيتى ابن الرومى، فإذا كان مديح لصاحبه خطأ، فلم يكن هناك خطأ فى منعه، وحاله فى ذلك شبيه يحسن حط رحاله فى واد قفر لا زرع ولا حياة فيه مثله كمن يؤوّل القرآن فى غير معناه. وفى المثال الرابع فى تفسير معنى" الطَّرْفِ"، فى قوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فهو بمعنى الناحية الذى هو منتهى المكان، كما يقول: طرف المدينة، وهو هنا مستعار لطائفة من المشركين، ويجوز أن يكون لأشرافهم، وبيت أبى تمام المذكور معناه: إن المكان المحمى كان فى الوسط، وتتابع الأصداف عليه حصلته بعيدا، كذا استئصال هؤلاء الذين يمثلون اليدين والرجلين والرأس من جسد الشرك. نخلص من ذلك إلى أن توظيف الشعر عند ابن عاشور كان على النحو التالى: - كان شعر عصور الاحتجاج كاشفا عن معنى المفردات القرآنية، أو كيفية الاستعمالات اللغوية وأحوالها المختلفة كما عرفها الكلام العربى الفصيح (¬1). ¬

_ (¬1) ذكر الدكتور رمضان عبد التواب عن الشعر الجاهلى: «كان أساسا لاعتماد اللغويين- فى غالب الأحيان- لاستنباط قواعد الكلام العربى ودلالات ألفاظه، وتصنيف صيغه وأوزن مفرداته». فصول فى فقه اللغة، ص 8، ط 3، مكتبة الخانجى، القاهرة 1408 هـ- 1997 م.

ثانيا: اللغة:

- أما الشعر الذى تخطى عصور الاحتجاج فكان الشعراء قد رسخت أقدامهم فى العربية، وتقدمتهم دراسات بلاغية مختلفة حيث تأثر شعرهم باتجاهاتها الجديدة وموضوعاتها المستحدثة، فأخذوا ينشدون أشعارهم وفق معايير نقدية جديدة، واخترعوا أغراضا لم تظهر على ساحة التعبير الشعرى من قبل، واحتاجوا إلى صور فيها من الفطنة والتأمل والتجربة والظلال والألوان وحركات النفس الداخلية ما يسمح بالتعبير عن أشواق الإنسان وعواطفه العليا وذوقه الخالص من التكلف والمبالغة، ودعتهم روح العصر إلى التعبير عن صورهم بوسائل جديدة، ومسالك طريفة يظهرون فيها استقلالهم عن الأشكال الشعرية التقليدية، والمضامين والأشكال والأفكار التى لا توافق زمانهم. وقد أعان هذا الشعر الجديد ابن عاشور فى توضيح بعض الجوانب البلاغية للآية، فالقرآن لا تنقضى عجائبه، ولكل عصر أدواته التى يحاول بها الوصول إلى مكنون بعض هذه العجائب. ثانيا: اللغة: أ- الألفاظ: لم يشغل الحديث عن اللغة فى المقدمات العشر فى التحرير والتنوير جزءا خاصا به، وقد يرجع ذلك لدورها البارز فى كل ما ذكره ابن عاشور فى هذه المقدمات، فهى جانب مهم فيما تناوله فى المقدمة الأولى [فى التفسير والتأويل وكون التفسير علما] وفى المقدمة الثانية [فى استمداد علم التفسير] وفى الثالثة [فى صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأى] وفى السادسة [فى القراءات] وفى التاسعة [فى أن المعانى التى تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها] وفى العاشرة [فى إعجاز القرآن].

وقد أوضح ابن عاشور دور اللغة فى المقدمات المذكورة هذه وعلاقتها بما عنون به كل مقدمة، وقام تفسيره على حيوية هذا الدور وتداخله، فما ترك من آية إلا واستوفى الجانب اللغوى حقه، يتناول كل كلمة منها، يفصل القول فيها من كل جانب لغويا كان أو شرعيا، حقيقة أو مجازا، يستعين بكل ما يمكن الاستعانة به من قرآن وحديث وشعر وقول مفسر. وعالم لغة أو غير ذلك من الشواهد، ومن وراء ذلك كله ثقافته الواسعة فى هذا الميدان، وبعد حديثه عن الكلمة من حيث دلالتها اللغوية أو الشرعية يذكر موقع الجملة التى جاءت فيها هذه الكلمة فى الإعراب ووجه العلاقة بينها وبين الجملة التالية لها، فالسورة عنده تمثل وحدة عامة مهما كان تعدد أغراضها. ومما ذكره فى" المقدمة الثانية" فى بيان دور اللغة وقواعد العربية وعلاقتهما بفهم معانى القرآن. «أما العربية فالمراد منها معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم سواء حصلت تلك المعرفة بالسجية والسليقة، كالمعرفة الحاصلة للعرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم، أم حصلت بالتلقى والتعلم كالمعرفة الحاصلة للعرب الذين شافهوا بقية العرب ومارسوهم، والمولدين الذين درسوا علوم اللسان ودونوها. إن القرآن كلام عربى فكانت قواعد العربية طريقا لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم، لمن ليس بعربى بالسليقة، ونعنى بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربى، وهى: متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعانى، والبيان، ومن وراء ذلك استعمال العرب المتّبع من أساليبهم فى خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم» (¬1). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 18.

وتعيننا هذه الفقرة على ترسّم خطى ابن عاشور فى تفسيره اللغوى، فقواعد العربية طريق لفهم معانى القرآن، وما تعنيه هذه القواعد من مجموع علوم اللسان العربى، وهى متن اللغة والتصريف والنحو والمعانى والبيان فضلا عما استعمله العرب فى أساليبهم فى الخطب والشعر وتراكيب البلغاء منهم. وقد قدّمنا الحديث عن" الشعر" لأنه أخطر ما دونه العرب على لسانهم وأكثر أنواع البيان بقاء وانتشارا. وفى سبيل تحديد الأسس التى قام عليها تفسيره للألفاظ نأتى بهذا المثال، ثم بأمثلة أخرى تفصّل أبعاد هذا التفسير، وطريقة تناوله لصور الألفاظ المختلفة. قال فى تفسير لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، من قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (سورة البقرة: الآية 1، 2) «حال من الكتاب أو خبر أول أو ثان، والريب الشك، وأصل الريب القلق واضطراب النفس، وريب الزمان وريب المنون نوائب ذلك، قال الله تعالى: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (¬1)، ولما كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الريب فصار حقيقة عرفية، يقال رابه الشيء إذا شككه أى يجعل ما أوجب الشك فى حاله، فهو متعد، ويقال أرابه كذلك إذ الهمزة لم تكسبه تعدية زائدة، فهو مثل لحق وألحق، وزلقه، وأزلقه، وقد قيل إن أراب أضعف من راب، أراب بمعنى قرّبه من أن يشك، قاله أبو زيد، وعلى التفرقة قال بشار: ¬

_ (¬1) سورة الطور: الآية 30.

أخوك الذى إن ربته قال إنما ... أرتب وإن عاتبته لان جانبه (¬1) وفى الحديث «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» أى دع الفعل الذى يقربك من الشك فى التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك فى فعله شك فى أنه مباح (¬2). ويعنى ابن عاشور هنا بتوضيح معنى" الريب" وأصل هذه الكلمة، ويأتى بشاهد من القرآن، ويبين حركة النفس فى حال الشك وما يصاحبها من قلق غلب عليه" الريب" فصار حقيقة عرفية، ويأخذ فى شرح" رابه" دون همزة أو عند دخولها عليه، ثم يقارن بينهما من حيث الأقرب إلى كلام العرب كما ذكره أبو زيد، ويأتى ببيت بشار لتوضيح الفرق بينهما، ثم بحديث يفسر به المقصود من" الريب". وبعد فراغه من ذلك يتناول بالتفصيل معنى" هُدىً" لغويا ويتتبع نظائره ودلالته والمنقول منه، وما استقر عليه معناه فى الشرع وأثره على المتقين. وقوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الهدى اسم مصدر الهدى، ليس له نظير فى لغة العرب إلا سرّى وتقى وبكى ولفى مصدر لفى فى لغة قليلة، وفعله هدى هديا يتعدى إلى المفعول الثانى بإلى، وربما تعدى إليه بنفسه على طريقة الحذف المتوسع (¬3). «والهدى على التحقيق هو الدلالة التى من شأنها الإيصال إلى البغية، ¬

_ (¬1) أى إن فعلت معه ما يوجب شكه فى مودتك راجع نفسه، وقال إنما قربنى من الشك ولم أشك فيه، أى التمس لك العذر. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 222. (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 222.

وهذا هو الظاهر فى معناه لأن الأصل عدم الترادف، فلا يكون هدى مرادفا لدلّ، ولأن المفهوم من الهدى الدلالة الكاملة، وهذا مرافق للمعنى المنقول إليه الهدى فى العرف الشرعى» (¬1). «والهدى الشرعى هو الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذى لا ينقض صلاح الآجل، وأثر هذا الهدى هو الاهتداء، فالمتقون يهتدون بهديه، والمعاندون لا يهتدون لأنهم لا يتدبرون» (¬2). ويقول فى" لِلْمُتَّقِينَ" «والمتقى من اتصف بالاتقاء وهو طلب الوقاية، والوقاية الصيانة والحفظ من المكروه، فالمتقى هو الحذر المتطلب للنجاة من شىء مكروه مضر، والمراد هنا المتقين لله، أى الذين هم خائفون غضبه، واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه، فإذا قرئ عليهم القرآن استمعوا له وتدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا» (¬3). «والتقوى الشرعية هى امتثال الأوامر واجتناب المنهيات من الكبائر وعدم الاسترسال على الصغائر ظاهرا وباطنا أى اتقاء ما جعل الله الاقتحام فيه موجبا غضبه وعقابه، فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعذاب الأليم» (¬4). وعن كل من الهدى والمتقين يقول: «والمراد من الهدى ومن المتقين فى الآية معناهما اللغوى، فالمراد أن القرآن من شأنه الإيصال إلى المطالب الخيرية، وأن المستعدين للوصول به إليها ¬

_ (¬1) المصدر السابق، الصفحة نفسها. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 225. (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 226. (¬4) المصدر السابق، الصفحة نفسها.

المصدر:

هم المتقون، أى هم الذين تجردوا عن المكابرة ونزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين وخشوا العاقبة وصانوا أنفسهم من خطر غضب الله، هذا هو الظاهر، والمراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا بالله وبمحمد وتلقوا القرآن بقوة وعزم على العمل به» (¬1). وابن عاشور- كما رأينا فى هذا المثال- يربط بين المعنى اللغوى والدلالة القرآنية للفظة الواحدة، ثم يمد هذا الربط [بين المعنى والدلالة] إلى المعنى الشرعى ويسهب القول فيه. وقد سار تفسيره للألفاظ على هذا النهج، يتناول اللفظة الواحدة يبين معناها ومبناها وأصلها ودلالتها فى السياق القرآنى والمعنى الشرعى لها إن كانت من الألفاظ التى تتحمل ذلك، ثم يجمع بين كل كلمتين أو أكثر فى الآية الواحدة يربط بين المراد منها جميعا، وفى تفسيره هذا يحيط اللفظة الواحدة بكثير من الشواهد التى سبق الحديث عنها، ومهما كانت كثرة هذه الشواهد فإن جهوده اللغوية كانت ظاهرة، وكثيرا ما كان يستقل بهذه الجهود فى تناول هذه المعانى. ومن صور الألفاظ التى تحدث عنها فى هذا النوع من التفسير اسم المصدر وأنواع الاشتقاق المختلفة، وكون الحديث هنا عن منهجه اللغوى فحسب نكتفى ببعض ما ذكره فى الأمثلة التالية دون المقومات الأخرى. المصدر: ذكر فى معنى" الْبَلاغُ" من قوله تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (سورة إبراهيم: الآية 52). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 226.

«البلاغ: اسم مصدر التبليغ، أى هذا المقدار من القرآن فى هذه السورة تبليغ للناس كلهم» (¬1). وفى معنى" الْأَمَلُ" فى قوله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (سورة الحجر: الآية 3). «والأمل: مصدر، وهو ظن حصول أمر مرغوب فى حصوله مع استبعاد حصوله، فهو واسطة بين الرجاء والطمع ألا ترى قول كعب: أرجو وآمل أن ترنو مودتها ... وما أخال لا ينال منك تنويل» (¬2) وفى معنى" مَغْرَمٍ" من قوله تعالى: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (سورة الطور: الآية 40). «والمغرم بفتح الميم مصدر ميمى (¬3)، وهو الغرم، وهو ما يغرض على أحد من عوض يدفعه» (¬4). ولم يذكر ابن عاشور أن المصدر من المشتقات «ويرى البصريون أن المصدر أصل المشتقات، لكونه بسيطا، أى يدل على الحدث فقط خلاف الفعل، فإنه يدل على الحدث والزمن، أما الكوفيون فيعدون الفعل أصلا ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 13، ص 254. (¬2) التحرير والتنوير، ج 14، ص 14. (¬3) المصدر الذى هو أصل المشتقات إنما هو المصدر غير الميمى، وأما المصدر الميمى فهو مشتق من الفعل المضارع. (¬4) التحرير والتنوير، ج 27، ص 75. انظر أمثلة أخرى: ج 6، ص 18، 22، 50، ج 7، ص 56، 79، 229، 248، ج 8، ص 298، ج 16، ص 10، 164، ج 17، ص 53، ج 28، ص 145، 169، ج 29، ص 16، 20، 21، 23، 25، 34.

الاشتقاق:

للمشتقات، لأن المصدر يجيء بعده فى التصريف فيقال مثلا: ضرب يضرب ضربا» (¬1)، وعلى ذلك يميل ابن عاشور إلى المذهب البصرى فى كون المصدر أصل المشتقات، ومن ثم راح يقدمه عليها ويوضح معناه فى مقدمة تفسيره اللغوى للآية. الاشتقاق: اعتنى ابن عاشور فى تفسيره للألفاظ بالمشتقات مثل اسم الفاعل واسم المفعول وصيغ المبالغة، واعتبر المصدر هو الأصل، ويقول السيوطى عن الاشتقاق: «هو أخذ صيغة من أخرى، مع اتفاقهما معنى، ومادة أصلية، وهيئة تركيب لها، ليدل بالثانية على معنى الأصل بزيادة مفيدة، لأجلها اختلفا حروفا أو هيئة، كضارب من ضرب، وحذر من حذر» (¬2). والاشتقاق على ذلك يمثل عند ابن عاشور إحدى الوسائل التى تثرى تفسيره للمفردات، ويمكن الحديث عن ذلك على النحو التالى: أ- اسم الفاعل (¬3): ذكر فى تفسير قوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (سورة الأنعام: الآية 45). «والدابر اسم فاعل من دبره من باب كتب، إذا مشى من ورائه، ¬

_ (¬1) د. رمضان عبد التواب، فصول فى فقه اللغة، ص 291، مكتبة الخانجى- القاهرة، ط 3، 1408 هـ- 1987 م. (¬2) المزهر فى علوم اللغة، ج 1، ص 346. وانظر د. صبحى الصالح، دراسات فى فقه اللغة، ص 174، بيروت، 1970 م. (¬3) اسم الفاعل صفة تؤخذ من الفعل المعلوم لتدل على معنى وقع من الموصوف بها أو قام به على وجه الحدوث لا الثبوت: ككاتب ومجتهد.

والمصدر الدبور- بضم الدال- ودابر الناس آخرهم، وذلك مشتق من الدبر، وهو الوراء، قال تعالى: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ (¬1) فقطع الدابر كناية عن ذهاب الجميع، لأن المستأصل يبدأ بما يليه، ويذهب ليستأصل إلى أن يبلغ آخره وهو دابره، وهذا مما جرى مجرى المثل، وقد تكرر فى القرآن كقوله: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ. ومما ينبغى ملاحظته فى هذا المثال قوله «دابر الناس آخرهم، وذلك مشتق من الدبر» أى أن اسم الفاعل" دابِرَ" مشتق من المصدر" الدبر" وهو ما يوضح أن المصدر أصل المشتقات عند ابن عاشور. وفى قوله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (سورة الملك: الآية 22). قال عن المكب والسوىّ: «والمكب: اسم فاعل من أكب، إذا صار ذا كبّ، فالهمزة فيه أصلها لإفادة المصير فى الشيء مثل همزة أقشع السحاب، إذا دخل فى حالة القشع، ومنه قولهم أنفض القوم إذا هلكت مواشيهم، وأرملوا إذا فنى زادهم، وهى أفعال قليلة فيما جاء فيه المجرد متعديا والمهموز قاصرا. والسوىّ: الشديد الاستواء فعيل يعنى فاعل، قال تعالى: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (¬2)، و [أم] فى قوله:" أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا" حرف عطف، ¬

_ (¬1) سورة الحج: الآية 65. (¬2) سورة مريم: الآية 43.

وهى [أم] المعادلة لهمزة الاستفهام، و [من] الأولى والثانية فى قوله" أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا" أو قوله" أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا" موصولتان، ومحملهما أن المراد منهما فريق المؤمنين وفريق المشركين، وقيل: اريد شخص معين أريد بالأولى أبو جهل، وبالثانية النبى صلى الله عليه وسلم، أو أبو بكر أو حمزة رضى الله عنهما» (¬1). وقد عالج ابن عاشور فى هذا المثال كلا من" المكب" و" السوى" ويفصل القول فيهما، فذكر فى الأول حاله فى دخول الهمزة على فعله وما يفيد ذلك من معنى، وجاء بأمثلة من كلام العرب مستدلا بها، وفى" السوى" وهو الشديد الاستواء أتى بشاهد من القرآن على ذلك، ثم أوضح المقصود ب [أم] و [من] فى قوله تعالى" أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا" و" أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا"، وبعد تناوله اللغوى هذا يذكر المراد منهما، وذلك يعنى أن التناول اللغوى للألفاظ سابق على تفسير الآية لتحقيق التكامل المرجو فيما يمكن أن يكون مقصدها. وذكر فى تفسير قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (سورة الذاريات: 47). «والموسع: اسم فاعل من أوسع، إذا كان ذا وسع، أى قدرة، وتصاريفه جائية من السعة، وهى امتداد مساحة المكان ضد الضيق، واستعير معناها للوفرة فى أشياء مثل الأفراد، مثل عمومها فى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (¬2)، ووفرة المال مثل لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ (¬3)، وقوله: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ (¬4)، وجاء فى أسمائه تعالى فى الواسع إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (¬5)، ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 29، ص 46. (¬2) سورة الأعراف: الآية 156. (¬3) سورة الطلاق: الآية 7. (¬4) سورة البقرة: الآية 236. (¬5) سورة البقرة: الآية 115.

ب - اسم المفعول:

وهو عند إجرائه على الذات يفيد كمال صفاته الذاتية: الموجود، والحياة، والعلم، والقدرة، والحكمة، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ ومنه قوله هنا وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (¬1). ويلاحظ هنا أيضا قوله عن اسم الفاعل [الموسع] " وتصاريفه جائية من السعة" أى المصدر، وتحديد معناه بالتضاد، وأخذ بعد ذكر معناه الحقيقى يذكر ما استعير إليه وأنواع هذه الاستعارة مثل الوفرة فى الأفراد والوفرة فى المال، وما جاء من أسمائه تعالى وإجرائه على الذات العليا، وكانت الشواهد القرآنية المعين الأوحد على تحقيق فهم هذه الأنواع، وفى هذا المثال نرى أن التناول اللغوى الحسى سابق على انتقاله إلى دلالته. ب- اسم المفعول (¬2): ومن المشتقات التى استخدمها ابن عاشور فى تفسيره للألفاظ المفعول واسمه، أو المصدر الذى جاء على وزن مفعول، أو ما صيغ على مثال فعيل بمعنى مفعول، يختار من الآية اللفظة التى جاءت على هذه الهيئة وتحتاج إلى بيان ميزانها الصرفى، فيسهب فى الحديث عما اعتراها من تغيير، وجدّ من معناها فى كل مقام. ومن ذلك ما ذكره فى تفسير قوله تعالى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (سورة مريم: الآية 8). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 27، ص 16. وانظر أمثلة أخرى: ج 7، ص 322، ج 14، ص 52، ج 28، ص 133. (¬2) اسم المفعول: صفة تؤخذ من الفعل المجهول، للدلالة على حدث وقع على الموصوف بها على وجه الحدوث والتجدد، لا الثبوت والدوام، كمكتوب، وممرور به ومنطلق به.

والعتى- بضم العين- فى قراءة الجمهور: مصدر عتا العود إذا يبس، وهو بوزن فعول أصله عتوو، والقياس فيه إن تصحح الواو لأنها إثر ضمة ولكنهم لما استثقلوا توالى ضمتين بعدهما واوان وهما بمنزلة- ضمتين- تخلصوا من ذلك الثقل بإبدال ضمة العين كسرة ثم قلبوا الواو الأولى ياء لوقوعها ساكنة إثر كسرة فلما قلبت ياء اجتمعت تلك الياء مع الواو التى هى لام. وكأنهم ما كسروا التاء فى عتى بمعنى اليبس إلا لدفع الالتباس بينه وبين العتو الذى هو الطغيان فلا موجب لطلب تخفيف أحدهما دون الآخر» (¬1). وهو هنا يتتبع أصل الكلمة وما حدث فى هذا الأصل من تغيير وأسبابه، والتفريق بين الهيئة التى استقرت عليهما وبين غيرها مما يشابهها أو يتفق معها فى بعض الحروف. ومن الأمثلة التى توضح كذلك طريقة ابن عاشور فى تناوله للمفعول ما ذكره فى الآيات التالية: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا* فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً (سورة مريم: الآية 25). والجنى: فعيل بمعنى مفعول، أى مجتنى، وهو كناية عن حدثان سقوطه، أى عن طراوته، ولم يكن من الرطب المخبوء من قبل لأن الرطب متى كان أقرب عهدا بنخلته كان أطيب طعما» (¬2). جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (سورة مريم: الآية 61). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 16، ص 71. (¬2) التحرير والتنوير، ج 16، ص 88.

«والوعد: هنا مصدر مستعمل فى معنى المفعول. وهو من باب كسا، فالله وعد المؤمنين الصالحين جنات عدن، فالجنات لهم موعودة من ربهم» (¬1). فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (سورة الأنبياء: الآية 15). «والحصيد: فعيل بمعنى مفعول، أى المحصود، وهذه الصيغة تلازم تلازم الإفراد والتذكير إذا جرت على الموصوف بها كما هنا» (¬2). وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (سورة الملك: الآية 5). «والسعير: اسم صيغ على مثال فعيل بمعنى مفعول فى: سعر النار، إذا أوقدها وهو لهب النار، أى أعددنا للشياطين عذاب طبقة أشد طبقات النار حرارة وتوقدا فإن جهنم طبقات» (¬3). وهو فى هذه الأمثلة يذكر المفعول ووزنه ومعناه كما فى" جَنِيًّا"، أو مصدره المستعمل فى معنى المفعول وبابه ثم معناه كما فى" الوعد" أو صيغته وتلازمها فى الإفراد والتذكير كما فى" الحصيد" أوص يغته وأصلها ومعناه كما فى السعير. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 16، ص 137. (¬2) التحرير والتنوير، ج 17، ص 28. (¬3) التحرير والتنوير، ج 29، ص 22. وانظر أمثلة أخرى: ج 6، ص 8، 91، 131، ج 16، ص 88، 152، 137، 214، ج 17، ص 28، ج 28، ص 27، ج 29، ص 22.

صيغ المبالغة:

صيغ المبالغة: وهى من المشتقات التى لجأ إليها ابن عاشور فى تفسيره اللغوى، يذكر اللفظة التى جاءت على هذا النحو، مثل معناها ووظيفة الحروف المزيدة على الأصل، ثم يتولى بيان المقصود منها فى الآية، ومثال ذلك ما جاء فى تفسير قوله تعالى فى معنى" الاستحسار": وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ* يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (سورة الأنبياء: الآية 19، 20). «والاستحسار: مصدر كالحسور وهو التعب، فالسين والتاء فيه للمبالغة فى الوصف كالاستكبار والاستنكار والاستيخار، أى لا يصدر منهم الاستحسار الذى هو التعب الشديد الذى يقتضيه عملهم العظيم، أى لا يقع منهم ما لو قام بعملهم غيرهم لاستحسر ثقل ذلك العمل، معبّر بالاستحسار هنا الذى هو الحسور القوى لأنه المناسب للعمل الشديد، ونفيه من قبيل نفى المقيد بقيد خرج مخرج القالب فى أمثاله. فلا يفهم من نفى الحسور القوى أنهم قد يحسرون حسورا ضعيفا. وهذا المعنى قد يعبر عنه أهل المعانى بأن المبالغة فى النفى لا فى المنفى» (¬1). وقد يذكر أصل اللفظة التى جاءت على إحدى صيغ المبالغة وما جاء على مثالها من كلام العرب، ويكثر من الشواهد القرآنية فى معنى هذه الصيغة، ومثال ذلك ما ذكره فى تفسير قوله تعالى فى معنى" الصديقة". ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 17، ص 36.

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (سورة المائدة: 75). «والصديقة صيغة مبالغة، مثل شريب ومسيك، مبالغة فى الشرب والمسك، ولقب امرئ القيس بالملك الضليل، لأنه لم يهتد إلى ما يسترجع به ملك أبيه. والأصل فى هذه الصيغة أن تكون مشتقة من المجرد الثلاثى. فالمعنى المبالغة فى وصفها بالصدق، أى صدق وعدد بها، وهو ميثاق الإيمان وصدق وعد الناس، كما وصف إسماعيل- عليه السلام- بذلك فى قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ (¬1). وقد لقب يوسف بالصديق، لأنه صدق وعد ربه فى الكف عن المحرمات مع توفر أسبابها، ومثل: أريد هنا وصفها بالمبالغة فى التصديق لقوله تعالى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها (¬2)، كما لقب أبو بكر بالصديق لأنه أول من صدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما فى قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ (¬3) فيكون مشتقا من المزيد» (¬4). وكما فى قوله تعالى فى معنى كفّارة: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ¬

_ (¬1) سورة مريم: الآية 54. (¬2) سورة التحريم: الآية 12. (¬3) سورة الزمر: الآية 33. (¬4) التحرير والتنوير، ج 6، ص 286.

التصريف:

فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (سورة المائدة: الآية 89). «وقوله ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إشارة إلى المذكور، زيادة فى الإيضاح والكفارة مبالغة فى كفر بمعنى ستر وأزال. وأصل الكفر- بفتح الكاف- الستر. وقد جاءت فيها دلالتان على المبالغة هما التضعيف والتاء الزائدة، كتاء نسّابة وعلامة، والعرب يجمعون بينهما غالبا» (¬1). وفى المثالين السابقين رأينا إصرار ابن عاشور على رد اللفظة إلى أصلها، فالصديقة مشتقة من المصدر الثلاثى، والحروف الزائدة على المجرد الثلاثى تعنى المبالغة فى وصف السيدة العذراء بالصدق، أى صدق وعد ربها، ويأتى بالشاهد القرآنى يستدل به على المعنى الذى تسعى إليه الآية، أو ما قيل فى الغرض من هذه الصيغة المذكورة، كذلك فى" كفّارة" وهى على فعالة من كفر بمعنى ستر وأزال، وأصلها" كفر" بفتح الكاف، وما طرأ عليها من تضعيف الفاء والتاء الزائدة تدلان على المبالغة وكان العرب يجمعون بينها. التصريف (¬2): وهو مما لجأ إليه ابن عاشور فى تناوله للألفاظ حيث يعتنى باللفظة التى تحتاج إلى بيان تصريفها، ويذكر أقوال العلماء من المدارس النحوية كالبصرة ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 7، ص 19. وانظر أمثلة أخرى: ج 15، ص 280، ج 28، ص 134. (¬2) هو العلم الذى يبحث فى التغييرات التى تطرأ على أبنية الكلمات وصورها المختلفة من الداخل.

والكوفة والأندلس ووجوه الخلاف التى وقعت فى هذا التصريف. أو يستقل هو بالقول فيه. ومن ذلك ما ذكره فى تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ (سورة المائدة: الآية 101). «و (أشياء) كلمة تدل على جمع (شىء)، والظاهر أنه صيغة جمع لأن زنة شىء (فعل)، و (فعل) إذا كان معتل العين قياس جمعه (أفعال) مثل بيت وشيخ. فالجارى على متعارف التصريف أن يكون (أشياء) جمعا، وأن همزته الأولى همزة مزيدة للجمع. إلا أن (أشياء) ورد فى القرآن هنا ممنوعا من الصرف، فتردد أئمة اللغة فى تأويل ذلك، وأمثل أقوالهم فى ذلك قول الكسائى: إنه لما كثر استعماله فى الكلام أشبه (فعلاء)، فمنعوه من الصرف لهذا الشبه، كما منعوا سراويل من الصرف وهو مفرد لأنه شابه صيغة الجمع مثل مصابيح. وقال الخليل وسيبويه: (أشياء) اسم جمع (شىء) وليس جمعا فهو مثل طرفاء وحلفاء فأصله شيئاء، فالمدّة فى آخره مدّة تأنيث، فلذلك منع من الصرف، وادعى أنهم صيروه أشياء بقلب مكانى. وحقه أن يقال: شيئاء بوزن (فعلاء) مضار بوزن (لفعاء)» (¬1). وفى هذا المثال رد ابن عاشور أشياء إلى شىء، وذكر ميزانها الصرفى فإذا كانت اللفظة" شىء" معتلة العين كبيت وشيخ وكل منهما معتلة العين أصبح وزنهما قياسا على" أفعال" كأبيات وأشياخ، وكذلك شىء تجمع على ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 7، ص 66.

أشياء، ولكن مجيئها فى هذه الآية كان ممنوعا من الصرف، وقد راح ابن عاشور يذكر قول الكسائى" الكوفة" وقول الخليل وسيبويه [البصرة] وتعليلهم فى عدم صرف" أشياء". وذكر فى قوله تعالى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (سورة الكهف: الآية 5). «والأفواه: جمع فم وهو بوزن أفعال، لأن أصل فم فوه بفتحتين بوزن جمل، أو فيه بوزن ربح، فحذفت الهاء من آخره لثقلها مع قلة حروف الكلمة بحيث لا يجد الناطق حرف يعتمد عليه لسانه، ولأن ما قبلها حرف ثقيل وهو الواو المتحركة فلما بقيت الكلمة مختومة بواو متحركة أبدلت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار (فا) ولا يكون اسم على حرفين أحدهما تنوين، فأبدلت الألف المنونة بحرف صحيح وهو الميم لأنها تشابه الواو التى هى الأصل فى الكلمة لأنهما شفهيتان فصار" فم" ولما جمعوه ردّوه إلى أصله» (¬1). ومما ذكره عن أبى حيان" الأندلسى" ما جاء فى تفسير قوله تعالى: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (سورة القلم: الآية 12). «والاعتداء: مبالغة فى العدوان فالافتعال فيه للدلالة على الشدة والأثيم: كثير الإثم، وهو فعيل من أمثلة المبالغة قال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ* طَعامُ الْأَثِيمِ (¬2)، والمراد بالإثم هنا ما يعد خطيئة وفسادا عند أهل العقول والمروءة وفى الأديان المعروفة. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 15، ص 253. (¬2) سورة الدخان: الآية 43.

قال أبو حيان: وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة ولو؟؟؟ فيها فجاء" خلاف" وبعده" مهين" لأن النون فيها تواخ مع الميم، أى ميم" أثيم" ثم جاء وهماز مشاء بصفتى المبالغة، ثم جاء" مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ" صفات مبالغة أ. هـ. يريد أن الافتعال فى" مُعْتَدٍ" للمبالغة (¬1). ويذكر ابن عاشور فى المثال السابق: إن الاعتداء" افتعال" للدلالة على الشدة، والأثيم فعيل، وهما من المبالغة، والتصريف هنا عون له فى تحديد هوية اللفظة، ومن ثم تعريف المراد منها، وذكر بعد ذلك قول أبى حيان فيما جاء من صفات المبالغة فى قوله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (¬2)، وما أراده من أن الافتعال فى" معتد" للمبالغة. ومما استقل بالقول فيه، ما جاء فى تفسير قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (سورة المطففين: الآية 1، 2، 3). «والاكتيال: افتعال من الكيل، وهو يستعمل فى تسلم ما يكال على طريقة استعمال أفعال: ابتاع، وارتهن، اشترى، فى معنى أخذ المبيع وأخذ الشيء الرهون وأخذ السلعة المشتراة، فهو مطاوع كال، كما أن ابتاع مطاوع باع، وارتهن مطاوع رهن، واشترى مطاوع شرى، قال تعالى: فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (¬3). أى نأخذ طعاما قليلا، ثم تنوسى منه معنى المطاوعة» (¬4). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 29، ص 73. (¬2) سورة القلم: الآية 10، 11. (¬3) سورة يوسف: الآية 63. (¬4) التحرير والتنوير، ج 30، ص 190 -

وكذلك فى هذا المثال ذكر ابن عاشور وزن اللفظة المختارة وهى اكتيال على وزن افتعال وأصله من الكيل واستعماله على النحو المبين فى قوله السابق. والتصريف عنده تتردد فيه أسماء أعلام اللغة من المدارس المختلفة، أو يعتمد فيه على جهوده اللغوية وثقافته الواسعة مستعينا بالشواهد من القرآن فى كثير من المواطن، يختار اللفظة من الآية التى تحتاج إلى ذكر صرفها، وينفذ بعده إلى أصلها ومعناها واستعمالاتها. ومن خلال الصفحات السابقة وما جاء فيها من أمثلة تناول فيها ابن عاشور تفسير الألفاظ يمكن أن نحدد أهم الأسس التى قام عليها هذا التفسير على النحو التالى: - تناول اللفظة الواحدة فى كل آية وذكر معناها الحسى، ثم ما انتقلت إليه حقيقة أو مجازا، ثم دلالتها فى السياق أى الدلالة القرآنية لها دون الفصل بين كل ذلك. - يتم الربط بين [المعنى والدلالة] وبين المعنى الشرعى للفظة إن كانت من الألفاظ التى تدخل تحت هذا المعنى. - كان التناول اللفظى محاطا بكثير من الشواهد المختلفة من قرآن وحديث وشعر وقول عالم وما شاع على ألسنة العرب وأساليبهم، وكانت الشواهد القرآنية أكثر ذكرا من الشواهد الأخرى. ¬

_ - وانظر أمثلة أخرى: ج 6، ص 245، ج 15، ص 176، 260، 282، ج 16، ص 79، ج 18، ص 22، ج 29، ص 38، ج 30، ص 22.

الإعراب:

- وعلى الرغم من كثرة هذه الشواهد على اختلاف ألوانها، فإن جهوده فى اللغة ظاهرة، وكانت تحليلاته تحمل دقة الحس وفهم اللغة كشف بهما ألوانا مختلفة من فصاحة اللفظة القرآنية. - فى تناوله للمصدر كان يميل إلى المذهب البصرى الذى يعتبر المصدر أصل للمشتقات. - يمثل الاشتقاق عنده إحدى الوسائل التى تثرى تفسيره للألفاظ، وعلى ذلك يفصّل القول فيها من حيث صياغتها وأصلها ومبناها ومعناها فى أحوالها المختلفة وما توحى به اللفظة المعنية فى السياق القرآنى. - وكان التصريف عونا له فى تعريف الحروف الزائدة على أصل الكلمة والمقصد منها، يستفيد بجهود العلماء السابقين واختلافهم، ويضيف إليها جهوده التى حملت كثيرا من أصالة الحس ورصانة التحليل. الإعراب: يبدو الحرص الشديد عند ابن عاشور فى استخدام الإعراب وسيلة من وسائل تفسير الآية والكشف عن مقاصدها (¬1)، وقد يكون الباعث على ذلك هو إحاطة اللفظ القرآنى إحاطة تمنع الخطأ فى أدائه، واللحن فى قراءته. وتعددت أقوال رجال المدارس النحوية المختلفة عنده، وقد يكون لكل مدرسة من هذه المدارس طابعها الذى تتميز به فى تقعيد القواعد، وتأصيل الأحكام، وقد يكون لكل نحوى منها موقفه الذى يتميز به عن غيره من النحاة أمام الشواهد القرآنية، والقراءات، والاحتجاج بالحديث النبوى، وقوانين الاطراد والعلل والأقيسة وما يتبع ذلك من اتجاهات، وقد يكون هناك اتفاق أو ¬

_ (¬1) انظر الزركشى، البرهان فى علوم القرآن، ج 1، ص 301، طبع الحلبى، 1957، القاهرة. وانظر الإتقان، ج 1، ص 235، النوع" الحادى والأربعون"" فى معرفة إعرابه".

اختلاف بين هذه المدارس، أو بين رجال المدرسة الواحدة فى بعض المسائل أو أغلبها، فإننا نجد فى التحرير والتنوير استعراضا لبعض هذه الأنشطة، وتسجيلا لألوان من هذه الجهود التى بذلها هؤلاء النحاة ليصبح الإعراب مادة ضرورية فى التفسير القرآنى. وقد رأينا فى الباب الأول من هذه الدراسة عند الحديث عن مصادر النحو فى" التحرير والتنوير" تعدد المدارس النحوية وأسماء أشهر رجالها التى وردت فى هذا التفسير مثل مدرسة البصرة (¬1)، والكوفة (¬2) وبغداد (¬3)، والأندلس (¬4)، ومصر (¬5). ¬

_ (¬1) وذكر ابن خلدون فى مقدمته عن الإعراب: «طال الكلام فى هذه الصناعة، وحدث الخلاف بين أهلها فى الكوفة والبصرة المصريين القديمين للعرب، وكثرت الأدلة والحجاج بينهم، وتباينت الطرق فى التعليم وكثر الاختلاف فى إعراب كثير من آى القرآن باختلافهم فى تلك القواعد»، ص 755. (¬2) يقول السيوطى عن هاتين المدرستين اللتين تزعمتا النحو العربى «اتفقوا على أن البصريين أصح قياسا لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع، ولا يقيسون على الشاذ، والكوفيون أوسع رواية». الاقتراح فى أصول النحو، ص 100، مطبعة دائرة المعارف النظامية، حيدرآباد، 1310 هـ. وذكر الدكتور عبد الرحمن السيد: «والكوفيون قبلوا كل ما جاء عن العرب، واعتدوا به، وجعلوه أصلا من أصولهم التى يرجعون إليها، ويقيسون عليها، لم يعنهم أن يقفوا عند ما روى لهم من نصوص يستوثقون منه، ويتبينون صمته، ويكثر سماعهم لأمثاله حتى يصبح جديرا بالأخذ وموضع الاعتبار». مدرسة البصرة النحوية، نشأتها وتطورها، ص 145 - 146، دار المعارف- مصر، 1388 هـ- 1968 م. (¬3) يقول الدكتور شوقى ضيف عن نشوء المدرسة البغدادية: «اتبع نحاة بغداد فى القرن الرابع الهجرى نهجا جديدا فى دراستهم ومصنفاتهم النحوية يقوم على الانتخاب من آراء المدرستين البصرية والكوفية جميعا». المدارس النحوية، ص 245، دار المعارف، مصر، ط 4. وانظر: د. عبد الفتاح شلبى" أبو على الفارسى"، ص 106، مطبعة نهضة مصر، القاهرة. (¬4) ويقول الدكتور شوقى ضيف عن مدرسة الأندلس واتجاهها إلى المدرسة البغدادية: «أخذت دراسة النحو تزدهر فى الأندلس منذ عصر ملوك الطوائف فإذا نحاتها يخالطون جميع النحاة السابقين من بصريين وكوفيين وبغداديين، وغذاهم ينتهجون نهج الآخرين من الاختيار من آراء نحاة الكوفة والبصرة». المدارس النحوية، ص 292. (¬5) ويقول عن المدرسة المصرية: «كانت فى أول نشأتها شديدة النزوع إلى المدرسة البصرية، حتى إذا كان القرن الرابع الهجرى أخذت مسرعة تترسم منهج المدرسة البغدادية وما شرعته من تصويب-

كما تظهر جهوده النحوية وآراؤه الشخصية فى قضايا الإعراب بجواز أقوال رجال هذه المدارس، ومن أمثلة ذلك، ما ذكره ابن عاشور فى تفسير الآية التالية: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (سورة الفاتحة: الآية 7). «كلمة" غير" مجرورة باتفاق القراء العشرة، وهى صفة" للذين أنعمت عليهم" أو بدل منه، والوصف والبدلية سواء فى المقصود، وإنما قدم فى الكشاف بيان وجه البدلية لاختصار الكلام عليها ليفضى إلى الكلام على الوصفية، فيورد عليها كيفية صحة توصيف المعرفة بكلمة" غير" التى لا تتصرف، وإلا فإن جعل غير المغضوب صفة للذين هو الوجه، وكذلك أعربه سيبويه فيما نقل عنه أبو حيان، ووجهه بأن البدل بالوصف ضعيف، إذ الشأن أن البدل هو عين المبدل منه، أى اسم ذات له، يريد أن معنى التوصيف فى- غير- أغلب من معنى ذات أخرى ليست السابقة، وهو وقوف عند حدود العبارات الاصطلاحية، حتى احتاج صاحب الكشاف إلى تأويل- غير المغضوب- بالذين سلموا من الغضب، وأنا لا أظن الزمخشرى أراد تأويل غير، بل أراد بيان المعنى» (¬1). وابن عاشور فيما ذكره هنا عن الزمخشرى صاحب الكشاف" مدرسة بغداد" فى تقديمه بيان وجه البدلية، وإيراده صحة توصيف المعرفة بكلمة" غير" التى لا تتعرف، وفيما نقله أبو حيان" مدرسة الأندلس" عن سيبويه" مدرسة البصرة" وما أراده الزمخشرى من بيان معنى" غير" لا تأويلها، لم يكن ناقلا فحسب، وإنما تظهر فعاليته ودرايته التامة بهذا الفن، وقد ذهب يذكر وجوه أخرى ل" غير" من مدارس نحوية مختلفة ... قال بعد الفقرة السابقة: ¬

_ - آراء المدرسة البصرية تارة، وتصويب المدرسة الكوفية تارة ثانية، مع تركهما تارة ثالثة والأخذ بآراء المدرسة البغدادية، ومع النفوذ إلى آراء اجتهادية تارة أخرى». المدارس النحوية، ص 371. (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 95.

«فالتوصيف إما باعتبار كون الذين أنعمت عليهم ليس مرادا به فريق معين، فكان وزان تعريفه بالصلة وزان المعرف بأل الجنسية المسماة عند علماء المعانى بلام العهد الذهنى، فكان فى المعنى كالنكرة، وإن كان لفظه لفظ المعرفة لإضافته لمعرفة وهو فى المعنى كالنكرة لعدم إرادة شىء معين، وإما باعتبار تعريف غير فى مثل هذا لأن غير إذا أريد بها نفى ضد الموصوف أى مساوى نقيضه صارت معرفة، لأن الشيء يتعرف بنفى ضده نحو عليك بالحركة غير السكون، فلما كان من أنعم عليه لا يعاقب كان المعاقب هو المغضوب عليه، هكذا نقل ابن هشام عن ابن السراج والسيرافى وهو الذى اختاره ابن الحاجب فى أماليه على قوله تعالى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ (¬1)، ونقل عن سيبويه أن غيرا إنما لم تتعرف لأنها بمعنى المغاير فهى كاسم الفاعل وألحق بها مثلا وسوى وحسب وقال إنها تتعرف إذا قصد بإضافتها الثبوت. وكأن مآل المذهبين واحد لأن غيرا إذا أضيفت إلى ضد موصوفها وهو ضد واحد أى إلى مساوى نقيضه تعينت له الغيرية فصارت صفة ثابتة له غير منتقلة، إذ غيرية الشيء لنقيضه ثابتة له أبدا فقولك عليك بالحركة غير السكون هو غير قولك مررت بزيد غير عمرو وقوله غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ من النوع الأول». وقد ذكر ما نقله ابن هشام (المدرسة المصرية) عن ابن السراج السيرافى (المدرسة البصرية) وما اختاره ابن الحاجب (المدرسة المصرية) فى أماليه، كما ذكر ابن عاشور ما نقل عن سيبويه، وبعد استعراضه لوجوه الخلاف بين هؤلاء فى (غير) ينتهى إلى (وكأن مآل المذهبين واحد) وتعليله فى ذلك أن (غير) إذا أضيفت إلى ضد موصوفها، أى ضد واحد يتساوى فى ¬

_ (¬1) سورة النساء: الآية 95.

نقيضه تعينت له الغيرية، فصارت صفة ثابتة له غير منتقلة، ويوضح ذلك بهذين المثالين: فقولك (عليك بالحركة غير السكون)، هو غير قولك (مررت بزيد غير عمرو)، فالحركة ضد السكون، أو هى غير السكون، أو نقيضها تماما، وله صفة الثبات ولا تنتقل إلى غير هذه الصفة. أما فى المثال الثانى: فعمرو فى هذا المثال لا تتحقق له الصفة الثابتة اللازمة للنقيض التام، وعلى ذلك فإن قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ من النوع الأول، لأنه مع قوله تعالى: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يتناقض تماما فى المعنى المقصود. وكان ابن عاشور فى تتبعه لأقوال النحاة والمفسرين خصوصا الزمخشرى لا ينى أبدا عن إبداء رأيه فى هذه الأقوال مهما كان الإجماع عليها من رجال المدرسة الواحدة، أو مع غيرها من المدارس النحوية الأخرى، مقيما الدليل على ما يذهب إليه من القرآن أو الشعر العربى القديم أو ما ذكره العلماء، ولم يعتمد ابن عاشور كثيرا على أقوال النحاة ولا المفسرين فى" الإعراب"، وما أتى به من هذه الأقوال كانت تجد منه معارضة فى أحايين كثيرة مع تقديم الدليل على صحة ما يذهب إليه، وكان يذكر دائما: «والرأى عندى، وعندى، والذى أراه». أما اعتماده الأكبر فى" الإعراب" فكان على ثقافته الواسعة وعمق درايته بهذا الفن. ومن المشكلات الإعرابية التى تعرض لها فى الإعراب ما جاء فى تفسير قوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ

وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (سورة النساء: الآية 162). «وعطف" المقيمين" بالنصب ثبت فى المصحف الإمام، وقرأه المسلمون فى الأقطار دون نكير، فعلمنا أنه طريقة عربية فى عطف الأسماء الدالة على صفات المحامد على أمثالها، فيجوز فى بعض المعطوفات النصب على التخصيص بالمدح، والرفع على الاستئناف للاهتمام، كما فعلوا ذلك فى النعوت المتتابعة سواء كانت بدون عطف أم بعطف، كقوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ إلى قوله وَالصَّابِرِينَ (¬1)، قال سيبويه فى كتابه" باب ما ينتظم فى التعظيم والمدح": وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول، وإن شئت قطعته فابتدأته، وذكر من قبيل ما نحن بصدده هذه الآية، فقال: «فلو كان كله رفعا كان جيدا، ومثله: «والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأساء والضراء» ونظيره قول الخرنق: لا يبعدن قومى الذين همو ... سمّ العداة وآفة الجزر النازلون بكل معترك ... والطيبيين معاقد الأزر وفى رواية يونس عن العرب، يرفع" النازلون" ونصب" الطيبين" لتكون نظير هذه الآية، والظاهر أن هذا ما يجرى وقوعه فى القرآن فى معطوفات متتابعات كما فى سورة البقرة، وفى هذه الآية، وفى قوله فى" الصائبون فى سورة المائدة" (¬2). ¬

_ (¬1) ونصه: «ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأساء والضراء .. ». (سورة البقرة: الآية 177). (¬2) التحرير والتنوير، ج 6، ص 29.

وابن عاشور- فى هذا المثال- فى دفاعه عن الرسم العثمانى وقراءة المسلمين لأمثال هذه الآية دون نكير يأتى بآيات أخرى تدل على اضطراد هذه القراءات فى القرآن الكريم على أن ذلك كان معروفا عند العرب حيث يمكن عطف الأسماء الدالة على صفات المحامد على أمثالها، فيجوز فى بعض المعطوفات النصب على التخصيص بالمدح" أخص أو أمدح"" المقيمين"، كما يجوز أيضا الرفع على الاستئناف" المقيمون" وذكر ما قاله سيبويه فى هذا الشأن، وما استدل عليه من بيتى الخرنق السابقين، وما رواه يونس بن حبيب بشأنهما، وما جرى وقوعه فى القرآن على هذا النحو. وفى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة المائدة: الآية 69). ذكر ابن عاشور: «موقع هذه الآية دقيق، ومعناها أدق، وإعرابها تابع لدقة الأمرين، وإعرابها يتعقد إشكاله بوقوع قوله" الصائبون" بحالة رفع بالواو فى حين أنه معطوف على اسم- إنّ- فى ظاهر الكلام. واعلم أن هذه الجملة يجوز أن تكون استئنافا بيانيا ناشئا على تقدير سؤال يخطر فى نفس السامع لقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ (¬1)، فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجىء الإسلام، هل هم على شىء، أو ليسوا على شىء، وهل نفعهم اتباع دينهم ¬

_ (¬1) سورة المائدة: الآية 68.

أيامئذ، فوقع قوله «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا» والآية جوابا لهذا السؤال المقدر» (¬1). ويجوز أن تكون هذه الجملة مؤكدة لجملة وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا (¬2) ... إلخ، فبعد أن اتبعت تلك الجملة بما اتبعت به من الجمل عاد الكلام بما يفيد معنى تلك الجملة تأكيد للوعد، ووصلا لربط الكلام، وليلحق بأهل الكتاب الصابئون، وليظهر الاهتمام يذكر حال المسلمين فى جنات النعيم» (¬3). «فالذى أراه أن يجعل خبر" إن" محذوفا، وحذف خبر" إن" وارد فى الكلام الفصيح غير قليل، كما ذكر سيبويه فى كتابه، وقد دل على الخبر ما ذكره بعده من قوله فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ .. إلخ ويكون قوله وَالَّذِينَ هادُوا عطف جملة على جملة، فيجعل الَّذِينَ هادُوا مبتدأ، ولذلك حق رفع ما عطف عليه، وهو" والصابئون" وهذا أولى من جعل" والصابئون" مبتدأ الجملة وتقدير خبر له، أى والصابئون كذلك، كما ذهب إليه الأكثرون لأن ذلك يقضى إلى اختلاف المتعاطفات فى الحكم مع أقحاف التقصى عن ذلك، ويكون قوله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ مبتدأ ثانيا، وتكون" من" موصولة، والرابطة للجملة بالتى قبلها محذوفا، أى من آمن منهم، وجملة فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ خبرا عن" من" الموصولة، واقترانها بالفاء لأن الموصول شبيه بالشرط، وذلك كثير فى ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 6، ص 268. (¬2) سورة المائدة: الآية 65. (¬3) التحرير والتنوير، ج 6، ص 268.

نخلص من ذلك إلى أن الإعراب كان عند ابن عاشور على الوجه التالى:

الكلام كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ (¬1) الآية، ووجود الفاء فيه يعيّن كونه خبرا عن" من" الموصولة، وليس خبر" إنّ" (¬2). وما وقع فى صدر تفسير هذه الآية هو حرص على المعنى أولا، ثم تأتى بعد ذلك وجوه الإعراب، ويبدو ذلك فيما ذكره ابن عاشور أن تكون الجملة استئنافا بيانيا على تقدير سؤال عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجىء الإسلام، أو أن تكون هذه الجملة مؤكدة للآية السابقة لها وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ... على النحو الذى ذكره. وبعد عرضه لهذين الوجهين يدلى برأيه فى جعل خبر" إن" محذوفا وهو كما يقول: «وارد فى الكلام الفصيح غير قليل كما ذكر سيبويه فى كتابه»، وعلى الرغم مما يفضله النحاة فى الإعراب الذى لا يميل إلى تقدير محذوف فإن ما قدمه ابن عاشور فى هذا التقدير يجعل المعنى واضحا مستقيما، وكان شاهده فى ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ .... الآية. نخلص من ذلك إلى أن الإعراب كان عند ابن عاشور على الوجه التالى: - فى مسائل الإعراب لم تكن استعانته بأقوال رجال المدارس النحوية المختلفة فحسب، وإنما ظهرت جهوده النحوية وآراؤه الشخصية كذلك أيضا، وما أتى به من هذه الأقوال وجدت منه معارضة فى أحايين كثيرة مع تقديم الدليل على صحة ما يذهب إليه. ¬

_ (¬1) سورة البروج: الآية 10. (¬2) التحرير والتنوير، ج 6، ص 269.

ثالثا: الاستعانة بعلوم البلاغة:

- فى جهوده هذه كان القرآن الكريم أبرز الشواهد التى قدمها. - لم يكن الحديث النبوى من شواهده فى الإعراب. - المعنى عنده مقدم عن الإعراب. - كان ينسب القول إلى صاحبه، ولم يلجأ إلى قول مجهول ولا الروايات المتناقضة. - دفاعه عن الرسم القرآنى- فى المشكلات الإعرابية- كان ردا للقراءات الشاذة التى خالفت هذا الرسم، ودفعا للروايات الموضوعة للتشكيك فيه. ثالثا: الاستعانة بعلوم البلاغة: كتب ابن عاشور فى المقدمة العاشرة من المقدمات التى تصدرت تفسيره تحت عنوان" فى إعجاز القرآن" ما يزيد عن ثمانى عشر صفحة تدور حول هذا الإعجاز وموقف المفسرين منه، وجهود البلغاء السابقين، وما استخلصه هو من آراء ونظرات، ويصعب على الدارس لهذه المقدمة أن يختار منها فقرات يمثل بها اتجاه ابن عاشور وطريقة تناوله للإعجاز القرآنى، ويصعب على الدارس بعد اختياره هذا أن يترك فقرات أو يهمل ذكرها، فالمقدمة كلها بحث متكامل وبناء قائم ونتائج منسجمة مع مقدماتها، ولا يجنى القارئ ثمار ذلك كله إلا بعد قراءة متأنية ومحاولات متكررة مستمرة فى الدرس والفهم. وقد يشفع للدارس بعد اختياره لفقرات من هذه المقدمة أياما كانت صعوبة الاختيار أن ذكر أمثلة من تفسير الآيات الذى قام به ابن عاشور لبيان هذا الإعجاز فيه بعض ما يغنى ولو من بعيد. قال بعد أن بين طبيعة الخوض فى وجوه الإعجاز القرآنى وتفوق القرآن على كل كلام بليغ بما توفر له من خصائص حتى عجز السابقون واللاحقون منهم عن الإتيان بمثله، وكون القرآن المعجزة الكبرى للنبى صلى الله عليه وسلم، وكونه المعجزة الباقية والتى تحدى بها الرسول معانديه تحديا صريحا.

«وقد اختلف العلماء فى تعليل عجرهم عن ذلك، فذهبت طائفة قليلة إلى تعليله بأن الله صرفهم عن معارضة القرآن فسلبهم المقدرة، أو سلبهم الداعى، لتقوم الحجة عليهم بمرأى ومسمع من جميع العرب، ويعرف هذا القول بالصرفة، كما فى المواقف للعضد، والمقاصد للتفتازانى، ولم ينسبوا هذا القول إلا إلى الأشعرى فيما حكاه أبو الفضل عياض فى الشفاء إلى النظّام والشريف المرتضى وأبى إسحاق الأسفرايين فيما حكاه عنهم عضد الدين فى المواقف، وهو قول ابن حزم، صرح به فى كتاب الفصل، وقد عزاه صاحب المقاصد فى شرحه إلى كثير من المعتزلة» (¬1). وابن عاشور يرفض مبدأ الصرفة هذا، إذ أن تقرير هذا المبدأ يعنى عدم جواز التحدى بالقرآن الكريم لكون إعجازه ليس من داخله، أو من خصائصه التى انفرد بها، وعجائبه التى تفوق بها عن سائر كلام البشر ... ويقول: «وأما الذى عليه جمهرة أهل العلم والتحقيق واقتصر أئمة الأشعرية عليه، وإمام الحرمين وعليه الجاحظ وأهل العربية كما فى المواقف، فالتعليل لعجز المتحدثين به بأنه بلوغ القرآن فى درجات البلاغة، والفصاحة مبلغا تعجز قدرة بلغاء العرب عن الإتيان بمثله، وهو الذى نعتمده ونسير عليه فى هذه المقدمة العاشرة» (¬2). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 103. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 104. وذكر نصير الدين الطوسى" ت 672 هـ" إعجاز القرآن .. قيل لفصاحته، وقيل لأسلوبه، وقيل لصرفه ... والكل محتمل". تجديد العقائد، ص 130، دراسة وتحقيق د. عباس محمد حسن سليمان، دار المعرفة الجامعية- الإسكندرية، 1996. وانظر فخر الدين محمد بن عمر الرازى" 606 هـ" نهاية الإيجاز فى دراسة الإعجاز، ص 4، 5، نسخة مخطوطة بتحقيق الدكتور محمد مصطفى هدارة، حيث ذهب الرازى مؤكدا أن وجه إعجازه يكمن فى فصاحته"

«وقد بدا لى دليل قوى على هذا وهو إبقاء الآيات التى نسخ حكمها وبقيت متلوة من القرآن ومكتوبة فى المصاحف، فإنها لما نسخ حكمها لم يبق وجه لبقاء تلاوتها وكتبها فى المصاحف إلا ما فى مقدار مجموعها من البلاغة بحيث يلتئم منها مقدار ثلاث آيات متحدى بالإتيان بمثلها، مثال ذلك آية الوصية من سورة العقود» (¬1). ويرى ابن عاشور ملاك وجوه الإعجاز راجعا إلى ثلاث جهات أولها بلوغه الغاية القصوى مما يمكن أن يبلغه الكلام العربى البليغ من حصول كيفيات فى نظمه، مفيدة معانى دقيقة ونكتا من أغراض الخاصة من بلغاء العرب مما لا يفيده أصل وضع اللغة، وثانيها: ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف فى نظم الكلام مما لم يكن معهودا فى أساليب العرب، ولكنه غير خارج عما تسمح به اللغة، وثالثها: ما أودع فيه من المعانى الحكمية والإشارات إلى الحقائق العلمية والعقلية بما لم تبلغ إليه عقول البشر فى عصر نزول القرآن وفى عصور بعده متفاوتة. ومما قدمه ابن عاشور من تلك الوجوه التى جاءت فى القرآن الكريم وما فيه من ألوان الخطاب المعجز وأفانين البلاغة. «وفيه التنبيه على محسن المطابقة كقوله فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (¬2). والتنبيه على ما فيه من تمثيل كقوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 104. (¬2) سورة الحج: الآية 4. وانظر الزركشى: البرهان، ج 3، ص 458

وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ (¬1)، وقوله: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (¬2). ولذلك فنحن نحاول تفصيل شىء مما أحاط به علمنا من وجوه الإعجاز، نرى من أفانين الكلام الالتفات وهو نقل الكلام من أحد طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى طريق آخر منها، وهو بمجرده معدود من الفصاحة، وسماه ابن جنى شجاعة العربية لأن ذلك التغيير يجدد نشاط السامع، فإذا انضم إليه اعتبار لطيف يناسب الانتقال إلى ما انتقل إليه صار من أفانين البلاغة، وكان معدودا عند بلغاء العرب من النفائس، وقد جاء منه فى القرآن ما لا يحصى كثرة مع دقة المناسبة فى الانتقال. وكان للتشبيه والاستعارة عند القوم المكان القصى والقدر العلى فى باب البلاغة، وبه فاق امرؤ القيس ونبهت سمعته، وقد جاء فى القرآن من التشبيه والاستعارة ما أعجز العرب كقوله: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (¬3)، وقوله: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ (¬4)، وقوله: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ (¬5)، ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت: الآية 43. (¬2) سورة إبراهيم: الآية 25. (¬3) سورة مريم: الآية 4. وانظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 109. وانظر د. أحمد المطلوب، معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، ج 2، ص 170، ط 1، المجمع العلمى العراقى، 1403 هـ- 1983 م. (¬4) سورة الإسراء: الآية 24. (¬5) سورة يس: الآية 37.

وقوله: يا أَرْضُ ابْلَعِي (¬1)، وقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ (¬2) إلى غير ذلك من وجوه البديع. ورأيت من محاسن التشبيه عندهم كمال الشبه، ورأيت وسيلة ذلك الاحتراس، وأحسنه ما وقع فى القرآن كقوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (¬3). احتراس عن كراهة الطعام: وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى (¬4) احتراس عن أن تتخلله أقذاء من بقايا نحلة. والحديث هنا عن بعض وجوه البلاغة مثل حسن المطابقة، والالتفات، والاستعارة، ومحاسن التشبيه، ومدى اهتمام العرب بهما، وامتياز امرئ القيس فيهما، وما جاء فى القرآن منهما على وجوه بديعة غير مسبوقة أسكتت الفصحاء. ويمثل التقديم والتأخير وصياغتهما فى جمل القرآن عند ابن عاشور لونا من ألوان الإعجاز، ويأتى بمثل فى هذه المقدمة، ويفصل القول فيه: «وإن للتقديم والتأخير فى وضع الجمل وأجزائها فى القرآن دقائق عجيبة كثيرة لا يحاط بها وسننبّه على ما يلوح منها فى مواضعه إن شاء الله. وإليك مثلا من ذلك يكون لك عونا على استجلاء أمثاله. قال تعالى: ¬

_ (¬1) سورة هود: الآية 44. (¬2) سورة البقرة: الآية 138. (¬3) سورة محمد: الآية 15. (¬4) سورة محمد: الآية 15. وانظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 109.

إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً* لِلطَّاغِينَ مَآباً إلى قوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً* حَدائِقَ وَأَعْناباً إلى قوله: وَكَأْساً دِهاقاً* لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (¬1)، فكان للابتداء بذكر جهنم ما يفسر المفاز فى قوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً أنه الجنة لأن الجنة مكان فوز. ثم كان قوله: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً ما يحتمل لضمير (فيها) من قوله لا يَسْمَعُونَ فِيها أن يعود إلى وَكَأْساً دِهاقاً وتكون (فى) للظرفية المجازية أى الملابسة أو السببية أى لا يسمعون فى ملابسة شرب الكأس ما يعترى شاربيها فى الدنيا من اللغو واللجاج، وأن يعود إلى (مفازا) بتأويله باسم مؤنث وهو الجنة وتكون (فى) للظرفية الحقيقية أى لا يسمعون فى الجنة كلاما لا فائدة فيه ولا كلاما مؤذيا. وهذه المعانى لا يتأتى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم ولم يعقب بكلمة (مفازا). ولم يؤخر (وكأسا دهاقا) ولم يعقب بجملة لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً ... إلخ (¬2). فالتقديم والتأخير فى هذه الآية قد أغنى عن كثير من الكلام اللذان لولاهما لطال، واحتاج الأمر إلى كثير من التفاصيل لبلوغ المعنى المقصود، وقد كان الإيجاز فن العرب الأول، والتمكن منه والقدرة عليه معيار أساسى من معايير التصرف فى الكلام على وجه بليغ (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النبأ: الآيات من 21 إلى 35. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 111. (¬3) «سأل معاوية بن أبى سفيان صحار بن عياش العبدى عن البلاغة، فأجاب صحّار: الإيجاز، فاستفسر عنه، فقال صحار: لا تبطئ ولا تخطئ». الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب" ت 155 هـ"، البيان والتبيين، ج 1، ص 54، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.

ويقول عن لهجات العرب ولسان قريش ومن حولها من القبائل، ومجىء القرآن بأصفى اللهجات العربية، وصراحة كلماته، ومناسبة كل كلمة لموقعها فى السياق والدلالة الذاتية الكامنة فيها بحيث لا تقوم مقامها كلمة أخرى. «وأما ما يعرض للهجات العرب فذلك شىء تفاوتت فى مضماره جياد ألسنتهم، وكان المجلى فيها لسان قريش ومن حولها من القبائل المذكورة فى المقدمة السادسة، وهو مما فسر به حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف، ولذلك جاء القرآن بأحسن اللهجات وأخفها وتجنب المكروه من اللهجات، وهذا من أسباب تيسير تلقى الأسماع له ورسوخه فيها. قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (¬1). ومما أعده فى هذه الناحية صراحة كلماته باستعمال أقرب الكلمات فى لغة العرب دلالة على المعانى المقصودة، وأشملها لمعان عديدة مقصودة بحيث لا يوجد فى كلمات القرآن كلمة تقصر دلالتها عن جميع المقصود منها فى حالة تركيبها، ولا تجدها مستعملة: لا فى حقائقها مثل إيثار كلمة" حرد" فى قوله تعالى: وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (¬2)، إذ كان جميع معانى الحرد صالحة للإرادة فى ذلك الغرض، أو مجازات أو استعارات أو نحوها مما تنصب عليه القرائن فى الكلام، فإن اقتضى الحال تصرفا فى معنى اللفظ كان التصرف بطريق التضمين وهو كثير فى القرآن مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي ¬

_ (¬1) سورة القمر: الآية 17. (¬2) سورة القلم: الآية 25.

أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ (¬1) فجاء فعل" أتوا" مضمنا معنى مرّوا فعدى بحرف على؛ لأن الإتيان تعدى إلى اسم القرية والمقصود فيه الاعتبار بمآل أهلها، فإنه يقال أتى أرض بنى فلان، ومر على حى كذا، وهذه الوجوه كلها لا تخالف أساليب الكلام البليغ، بل هى معدودة فى دقائقه ونفائسه التى تقل نظائرها فى كلام بلغائهم لعجز فطنة الأذهان البشرية عن الوفاء بجميعها (¬2). وعن نظم القرآن وجمعه بين الموعظة والتشريع (¬3) على خلاف ما جاء من أساليب العرب ... يقول: «نرى من أعظم الأساليب التى خالف بها القرآن أساليب العرب أنه جاء فى نظمه بأسلوب جامع بين مقصديه وهما: مقصد الموعظة. ومقصد التشريع، فكان نظمه يمنح بظاهرة السامعين ما يحتاجون أن يعلموه وهو فى هذا النوع يشبه خطبهم، وكان فى مطاوى معانيه ما يستخرج منه العالم الخبير أحكاما كثيرة فى التشريع والآداب وغيرها، وقد قال فى الكلام على بعضه وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ (¬4)، هذا من حيث ما لمعانيه من العموم والإيماء إلى الحلل والمقاصد وغيرها» (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الفرقان: الآية 40. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 113. (¬3) ذكر الزمخشرى فى تفسير قوله تعالى: الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ الرحمن: 1، 2. «عدّد الله عز وعلا آلاءه فأراد أن يقدم أول شىء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وأصناف نعمائه وهى نعمة الدين، فقدم من نعمة الدين ما هو فى أعلى مراتبها وأقصى مراقبها، وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم وحى الله رتبة وأعلاه منزلة، وأحسنه فى أبواب الدين أثرا، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها العيار عليها». تفسير الزمخشرى، ج 4، ص 43. (¬4) سورة آل عمران: الآية 7. (¬5) التحرير والتنوير، ج 1، ص 116.

وعن ألفاظ القرآن وائتلافها، ونظام فواصله الذى لم يعرفه العرب قبل نزوله، وتميزه عن فنون القول السابقة له، وانتشاره بين القبائل لخفته على الأسماع والقلوب والألسن وتأثيره الروحانى ... يقول: «وكان لفصاحة ألفاظه وتناسبها فى تراكيبه وترتيبه على ابتكار أسلوب الفواصل العجيبة المتماثلة فى الأسماع، وإن لم تكن متماثلة الحروف فى الأسجاع، كان لذلك سريع العلوق بالحوافظ خفيف الانتقال والسير فى القبائل، مع كون مادته ولحمته هى الحقيقة دون المبالغات الكاذبة والمفاخرات المزعومة، فكان بذلك له صولة الحق وروعة لسامعيه، وذلك تأثير روحانى وليس بلفظى ولا معنوى. وقد رأيت المحسنات فى البديع جاءت فى القرآن أكثر مما جاءت فى شعر العرب، وخاصة الجناس كقوله: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (¬1)، والطباق كقوله: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (¬2)، وقد ألف ابن أبى الإصبع كتابا فى بديع القرآن. وصار- لمجيئته نثرا- أدبا جديدا غضا ومتناولا لكل الطبقات، وكان لبلاغته وتناسقه نافذ الوصول إلى القلوب حتى وصفوه بالسحر وبالشعر أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الكهف: الآية 104. (¬2) سورة الحج: الآية 4. (¬3) سورة الطور: الآية 30. وانظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 119. وانظر د. صبحى الصالح، مباحث فى علوم القرآن، ص 340.

هذا بعض ما جاء فى هذه المقدمة. وشأن المعجزة القرآنية ووجوه الإعجاز فيها تتعدد أسبابه ولا تنتهى عند حد، وأياما كان الكلام حولها، والدراسات التى قامت بشأنها، والجهود التى بذلها العلماء المتخصصون من أهل البلاغة كالباقلانى والرمانى وعبد القاهر وعياض والسكاكى والقزوينى وابن الأثير وغيرهم، أو من أهل التفسير كالزمخشرى والفخر الرازى والطبرسى والألوسي وغيرهم، ومحاولاتهم الاقتراب من كشف أسرار بدائع نظم القرآن وتراكيبه المميزة عن سائر الكلام، والحقائق التى تضمنها والشرائع التى اشتمل عليها، وتأثيره فى النفوس والقلوب والأسماع والأرواح. كل ذلك وغيره يمكن اعتباره بحثا متجددا عن سر عظمة القرآن، حتى يمكن القول أن لكل عصر كشوفا تضاف إلى جهود السابقين، وتهدى من بعدهم لإضافة الجديد من هذه الكشوفات. ودليلنا على ذلك ما قدم به ابن عاشور المعجزة الخالدة فى مقدمته المذكورة، حيث تناول بعض وجوه الإعجاز فى الكتاب الكريم فى اللفظ والمعنى والصياغة والتركيب وألوان البديع ... إلخ، ثم راح فى ثنايا كتابه يذكر أقوال السابقين من أهل البلاغة والتفسير يقبل بعضها ويناقش ويرفض بعضها الآخر، ويسجل ما غفل عنه هؤلاء، ويأتى بالجديد من وجوه الإعجاز الكامنة فى القرآن رافضا مبدأ الصرفة التى قال به بعض المعتزلة وعلى رأسهم النظام الاعتزالى. وبعض الأعلام الآخرين الذين سبق ذكرهم. وقد قرأنا فى الباب الأول من هذه الدراسة بعض مصادر البلاغة فى التحرير والتنوير، وقد جاء ذكر أصحاب هذه المصادر على درجات متفاوتة، وأكثر الأقوال ذكرا فى هذا التفسير كانت للجاحظ والباقلانى وعبد القاهر

الجرجانى والزمخشرى، وكان للأخير نصيبا وافرا، يتعقب ابن عاشور أقواله، إن وافقه حينا فهو يعارضه فى أحايين كثيرة كأنه ينتظر منه الذلة الواحدة ليفتح عليه بابا من النقد الشديد والسخرية الخاطفة. ومما ذكره من أقوال عبد القاهر ما جاء فى تفسير قوله تعالى: قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (سورة البقرة: الآية 32). «قال الشيخ فى دلائل الإعجاز ومن شأن إن إذا جاءت على هذا الوجه (أى أن نفع إثر كلام وتكون لمجرد اهتمام) أن تفنى غناء الفاء العاطفة (مثلا) وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا، فأنت ترى الكلام بها مقطوعا موصولا وأنشد قول بشار: بكرا صاحبى قبل الهجير ... إن ذاك النجاح فى التبكير وقول بعض العرب: فغنها وهى لك الفداء ... إن غناء الإبل الحداء فإنهما استغنيا بذكر إن عن الفاء، وإن خلفا الأحمر لما سأل بشارا لماذا لم يقل" بكرا فالنجاح فى التكبير" أجابه بشار بأنه أتى بها عربية بدوية ولو قال" فالنجاح" لصارت من كلام المولدين (أى أجابه جوابا أحاله فيه على الذوق) وقد بين الشيخ عبد القاهر سببه، وقال الشيخ فى موضوع آخر ألا ترى أن الفرض من قوله" إن ذاك النجاح فى التكبير" أن يبين المعنى فى قوله لصاحبيه" بكرا" وأن يحتج لنفسه فى الأمر بالتكبير ويبين وجه الفائدة منه أه» (¬1). ومفاد هذا الكلام الذى ذكره عبد القاهر أن" إن" إذا جاءت كذلك ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 414.

" إنك أنت العليم الحكيم" وهى واقعة إثر كلام سابق فإنها تغنى- على سبيل المثال- عن الفاء العاطفة، ومجيئها على هذا النحو بعد أمرا عجيبا حيث يكون الكلام بها مقطوعا" وموصولا فى آن واحد، وعلى ذلك جاء قول بشار السابق، وإجابته لخلف الأحمر توضيح وجه الذرة فى هذا الاستعمال العربى الخالص، وما ذكره عبد القاهر فى آخر الفقرة يقاس عليه قوله تعالى حكاية عن الملائكة" إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" فبيان وجه الفائدة من قولهم هذا على هذه الشاكلة هو إقرار بأن علمهم مما علّمهم الله ولا علم لهم سواه. ومما عارضه من أقوال البلاغيين ما ذكره فى تفسير قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (سورة فاطر الآية 43). «واعلم أن قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ قد جعل فى علم المعانى مثالا للكلام الجارى على أسلوب المساواة دون إيجاز ولا إطناب. وأول من رأيته مثّل بهذه الآية للمساواة هو الخطيب القزوينى فى الإيضاح وفى تلخيص المفتاح، وهو مما زاده على ما فى المفتاح ولم يمثل صاحب المفتاح للمساواة بشيء، ولم أدر من أين أخذه القزوينى، فإن الشيخ عبد القاهر لم يذكر الإيجاز والإطناب فى كتابه. وإذا قد صرّح صاحب المفتاح «إن المساواة هى متعارف الأوساط وأنه لا يحمد فى باب البلاغة ولا يذم» فقد وجب القطع بأن المساواة لا تقع فى الكلام البليغ بله المعجز، ومن العجيب إقرار العلامة التفتازاني كلام صاحب تلخيص المفتاح وكيف يكون هذا من المساواة وفيه جملة ذات قصر والقصر من الإيجاز لأنه قائم مقام جملتين: جملة إثبات للمقصود، وجملة نفيه عما سواه،

فالمساواة أن يقال: يحيق المكر السيئ بالماكرين دون غيرهم، فما عدل عن ذلك إلى صيغة القصر فقد سلك طريقة الإيجاز. وفيه أيضا حذف مضاف إذ التقدير: ولا يحيق ضر بالمكر السيئ إلا بأهله، على أن فى قوله" بأهله" إيجازا لأنه عوض عن أن يقال: بالذين تقلدوه، والوجه أن المساواة لم تقع فى القرآن وإنما مواقعها فى محادثات الناس التى لا يعبأ فيها بمراعاة آداب اللغة» (¬1). ومعارضته هنا تتمثل فى جعل قوله تعالى فى علم المعانى مثالا للكلام الجارى على أسلوب المساواة دون إيجاز ولا إطناب، وأول من مثّل بهذه الآية على المساواة هو الخطيب ... ، ويتساءل ابن عاشور من أين أخذه القزوينى على الرغم من عدم ذكر عبد القاهر له، وأما عن تعريف صاحب المفتاح للمساواة" وإنه لا يحمد ولا يذم" يقول عن مضمونه ابن عاشور: لا يقع فى الكلام البليغ فا بالك لو كان معجزا، ومن ثم يتعجب عن موافقة التفتازاني على ذلك، وراح صاحب التحرير والتنوير ينفى أن تكون فى الآية مساواة فهى ذات قصر" لا- إلا" وهو من الإيجاز لأنه يقوم مقام جملتين" إثبات ونفى"، وفيها أيضا حذف مضاف" ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فضلا عما يعود إليه الضمير فى" بأهله". وبلاغة القرآن تبعا لهذا لم تشمل المساواة، فمكانها فى المحادثات التى تقع بين الناس حيث لا تراعى فيها آداب اللغة. وفى قوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (سورة القلم: الآية 16). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 22، ص 336.

«ذكر" والْخُرْطُومِ" أريد به الأنف. والظاهر أن حقيقة الخرطوم الأنف المستطيل كأنف الفيل والخنزير ونحوهما من كل أنف مستطيل، وقد خلط أصحاب اللغة فى ذكر معانيه خلطا لم تتبين منه حقيقته من مجازه. وذكر الزمخشرى فى الأساس معانيه المجازية ولم يذكر معناه الحقيقى، وانبهم كلامه فى الكشاف إلا أن قوله فيه: وفى لفظ الخرطوم استخفاف وإهانة، تقتضى أن إطلاقه على أنف الإنسان مجاز مرسل. وجزم ابن عطية أن حقيقة الخرطوم مخطم السبع، أى أنف مثل الأسد، فإطلاق الخرطوم على أنف الإنسان هنا استعارة كإطلاق المشفر وهو شفة البعير على شفة الإنسان، فى قول الفرزدق: فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ... ولكن زنجى غليظ المشافر» (¬1) وينتقد ابن عاشور هنا أصحاب اللغة لخلطهم فى ذكر معنى" الخرطوم" حتى لم تتبين الحقيقة أو المجاز من كلامهم، كما أنه يحمل على الزمخشرى أنه ذكر معانيه المجازية فقط، وما أورده من هذه المعانى كان مبهما، وقوله فى هذه المعانى ومنها معنى" الْخُرْطُومِ" فيه استخفاف وإهانة، ويدل فى نهاية الأمر أنه مجاز مرسل، وما جزم به ابن عطية أنه أنف مثل أنف الأسد، وعلى ذلك حين يطلق على أنف الإنسان هنا فهو استعارة كما يطلق المشفر" شفة البعير" على شفة الإنسان حين يسخر منه أو يذم، وذهب ابن عاشور فى تأييد ذلك بقول الفرزدق. وذكر فى تفسير قوله تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ* قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (سورة الشعراء: الآية 23، 24). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 29، ص 77.

«وأشار صاحب الكشاف وصرح صاحب المفتاح بأن جواب موسى بما يبين حقيقة" رب العالمين" تضمن تنبيها على أن الاستدلال على إثبات الخالق الواحد يحصل بالنظر فى السماوات والأرض وما بينهما نظرا يؤدى إلى العلم بحقيقة الرب الواحد الممتاز عن حقائق المخلوقات. ولهذا أتبع بيانه بقوله إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أى إن كنتم مستعدين للإيقان طالبين لمعرفة الحقائق غير مكابرين، وسمى العلم بذلك إيقانا لأن شأن اليقين بأن خالق السموات والأرض وما بينهما هو الإله لا يشاركه غيره» (¬1). وهو هنا يؤيد- على غير عادته- ما قال به كل من صاحب الكشاف وصاحب المفتاح فيما ذكراه عن جواب موسى عليه السلام حين سأله فرعون عن" رب العالمين" وما جاء من معنى قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. وذكر فى قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (سورة النساء: الآية 46). «قال الجاحظ فى كتاب البيان عند قول عوف بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود يصف أرض نصيبك" كثيرة العقارب قليلة الأقارب" يضعون (قليلا) فى موضع (ليس)، كقولهم: فلان قليل الحياء. ليس مرادهم أن هناك حياء وإن قل:" قلت، ومنه قول العرب: قلّ رجل يقول ذلك، يريدون أنه غير موجود. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 19، ص 117، 118.

وقال صاحب الكشاف عند قوله تعالى: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (¬1)، والمعنى تفى التذكير والقلة مستعمل فى معنى النفى"، وإنما استعملت العرب القلة عوضا عن النفى لضرب من الاحتراز والاقتصاد، فكأن المتكلم يخشى أن يتلقى عموم نفيه بالإنكار فيتنازل عنه إلى إثبات قليل وهو يريد النفى» (¬2). وعلى الرغم مما يستعين به ابن عاشور من أقوال البلاغيين فيما لا يعارضهم فيه فليس هو ناقل فحسب، وإنما هو يستخلص رأيا يضيف شيئا، وقد لجأ هنا إلى قول الجاحظ فى وضع العرب" قليلا" مكان" ليس" ويأتى هو بمثل آخر" قلّ رجل يقول ذلك" ويتناوله بالشرح، ثم يذكر قول صاحب الكشاف ويتناوله بالتعليق والتوضيح مبينا علة هذا الاستعمال، بينما وقف الجاحظ والزمخشرى عند ذكر السبب. ومما تهكم به الزمخشرى فى الكشاف من تأويلات الروافض ينقل عنه ابن عاشور فى تفسير قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (سورة النحل: 68 - 69). «ومن لطيف النوادر ما فى الكشاف، أن من تأويلات الروافض أن المراد بالنحل فى الآية على وآله وعن بعضهم أنه قال عند المهدى: إنما النحل ¬

_ (¬1) سورة النمل: الآية 62. (¬2) التحرير والتنوير، ج 5، ص 77.

بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم، فقال له رجل: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بنى هاشم، فضحك المهدى وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم» (¬1). واستقل ابن عاشور كثيرا فى بيان وجوه إعجاز القرآن سواء فى الحرف الواحد، أم اللفظة الواحدة، أم الجملة الواحدة، يبين موضع كل منهم ودوره فى مقصد الآية على طريقة العرب فى كلامهم المصفى الذى تراعى فيه آداب اللغة ومحاسنها وخلوصها من أى شوب متفوقا عليها متحديا لأصحابها، فيه ما فيه من حقائق وصفاء وتأثير ونقاء، ولم يطلق أحكامه دون تعريف أو تحديد، وإنما كان فى أحكامه هذه محددا للأسباب، كاشفا عن العلات، خبيرا يفسر- قدر طاقته- كتاب الله وإيحاءاته النبيلة. ومن ذلك ما ذكره فى تفسير قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ .... (سورة البقرة: الآية 255). «وجملة" لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ" تقرير لانفراده بالإلهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته، وتعليل لاتصافه بالقيومية، لأن من كانت جميع الموجودات ملكا له فهو حقيق بأن يكون قيومها وألا يهملها، ولذلك فصلت الجملة عن التى قبلها. واللام للملك، والمواد بالسماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات، فقد دلت الجملة على عموم الموجودات بالموصول وصلته، وإذا ثبت ملكه لعموم ثبت أنه لا يشذ عن ملكه موجود فحصل معنى الحصر، ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 14، ص 210.

ولكنه زاده توكيدا بتقديم المسند- أى لا غيره- لإفادة الرد على أصناف المشركين، من الصابئة عبدة الكواكب كالسريان واليونان، ومن مشركى العرب، لأن مجرد حصول معنى الحصر بالعموم لا يكفى فى الدلالة على إبطال العقائد الضالة، فهذه الجملة أفادت تعليم التوحيد بعمومها، وأفادت إبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر، وهذه بلاغة معجزة» (¬1). والحديث هنا عن دور الحرف واللفظة والجملة. الحرف: اللام لام الملك. اللفظة: السماوات والأرض، واسم الموصول" ما" وصلته. الجملة: الله لا إله إلا هو، له ما فى السموات والأرض. وتفصيل ذلك: الحرف: قد عرفنا الغرض منه. اللفظة: السماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات. اسم الموصول" ما" وصلته - دلالة العموم به حيث ترتب على هذه الدلالة عدم شذوذ موجود عن ملك الله تعالى ومن ثم حصول معنى الحصر. - زيادة هذا الحصر بالتوكيد ويتمثل ذلك بتقديم المسند" أى لا غير" وما يفيده من الرد على أصناف المشركين المذكورين، وما أفادته الجملة من تعليم التوحيد بعمومها، وإبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر. وجملة" له ما فى السموات وما فى الأرض" تحمل تقرير وتعليل وتوحى بالعلاقة الوثيقة بينها وبين الجملة السابقة" لا إله إلا هو" على الرغم من أنها مفصولة عنها. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 20.

وابن عاشور هنا فى هذا المثال- فى حديثه عن الإعجاز القرآنى- يرصد وضع الحرف واللفظة والجملة دون أن يفصل طبيعة اللغة عن دلالتها، وتوظيف اللغة على هذا النحو توظيفا يكشف عن بعض أبعاد الآية حيث يلتئم المعنى اللغوى مع المعنى البلاغى دون استطراد أو تفريع. ويتضح دور اللغة عنده كذلك فيما ذكره فى تفسير قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ (سورة النساء: الآية 34). «ومن بديع الإعجاز صوغ قوله بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فى قالب صحيح للمصدرية وللموصولية، فالمصدرية مشعرة بأن القيامية سببها تفضيل من الله وإنفاق، والموصولية مشعرة بأن سببها ما يعلمه الناس من فضل الرجال ومن إنفاقهم ليصلح الخطاب للفريقين، عالمهم وجاهلهم، كقول السموأل أو الحارثى: مثلى إن جهلت الناس عنّا وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول ولأن فى الإتيان ب (ما) مع الفعل على تقدير احتمال المصدرية جزالة لا توجد فى قولنا: بتفضيل الله وبالإنفاق، لأن العرب يرجحون الأفعال على الأسماء فى طرق التعبير» (¬1). واللغة هنا هى التى تقوم ببيان وجه الإعجاز فى الآية، فقوله تعالى فيها صالح لخطاب الفريقين المذكورين. الجاهل: الخطاب فيه بالمصدرية التى تشعر أن سبب قوامية الرجال على النساء هو تفضيل من الله تعالى، وبما ينفقون من أموال عليهن. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 40، 41.

العالم: الخطاب فيه بالموصولية التى تشعر أن سبب التفضيل بما يعلمه الناس من فضل الرجال وإنفاقهم. كما أن إتيان (ما) مع الفعل" بما فضّل الله" إذا كان هناك تقدير للمصدرية فيه جزالة لا توجد كما لو كان القول" تفضيل الله" وبالإنفاق حيث يرجح العرب الأفعال على الأسماء فى كلامهم. ويتضح لنا مما سبق- سواء مما ذكره ابن عاشور فى المقدمة العاشرة، أو من الأمثلة التى جاءت فى ثنايا تفسيره- أن الإعجاز القرآنى يقوم أولا على رفض مبدأ الصرفة، وأن هذا الإعجاز كامن فى القرآن ذاته، وما جاء به من أساليب تجرى على سنن العرب فى كلامهم إلا أنها أعجزت الفصحاء منهم على أن يأتوا ولو بآية من مثله فى مجال التحدى والتوكيد لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأييد له، وقد تتضافر عوامل كثيرة فى بيان وجوه الإعجاز القرآنى التى تتكشف لكل عصر سابق ولا حق والتى لا تنتهى عند حد، ولكن اللغة هى أبرز هذه العوامل، فهى التى برع فيها القوم، وهى مجال التحدى، لذا لعبت الدور الأمثل عند ابن عاشور فى بيان الإعجاز حيث يقوم كل من الحرف واللفظة والجملة بدوره فى الأداء المعجز، ولا ينفصل أى منهم فى دلالته عن الدلالات الأخرى لما تسعى إليه الآية من بيان، وكان الشعر الجاهلى عنده من المصادر الأصيلة التى أعانته على ذلك. وابن عاشور من هذا المنطلق يمثل بحق الاتجاه العربى فى بيان الإعجاز القرآنى الذى يقوم على أصول عربية خالصة بعيدا عن اتجاه المناطقة الواقع تحت تأثير المنطق أو الفلسفة. وأيا ما كانت وجوه الفائدة عنده من الاستعانة بثمرة جهود البلاغيين الذين ذكرهم خصوصا عبد القاهر الجرجانى ونظرية النظم عنده إلا أن استقلاله وجهوده وذوقه كانوا من أنشط العوامل فى هذا الميدان.

رابعا: الاستعانة بأقوال فقهاء الأمصار فى تفسير آيات الأحكام:

رابعا: الاستعانة بأقوال فقهاء الأمصار فى تفسير آيات الأحكام: استعرض ابن عاشور فى تفسير هذه الآيات كثيرا من أقوال أئمة المذاهب الفقهية وأصحابهم فضلا عن الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين، وكان تفسيره للآية الواحدة زاخرا بكثير من أقوال العلماء والفقهاء حتى كأنه لم يترك قولا واحدا لما ذكروه فى الآية المطروحة أمامه، سواء ما أجمع عليه هؤلاء أو اختلفوا فيه. واتخذ هذا الاستعراض أشكالا مختلفة عند مناقشة الآراء الفقهية، فحينا يجمع بين ما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك والشافعى، أو أبو حنيفة وبعض فقهاء الأمصار كالليث بن سعد، وحينا بين ما ذهب إليه مالك والشافعى دون غيرهما، أو مالك والشافعى وبعض التابعين، أو ما روى أحمد بن حنبل فى مسنده وغيره من أصحاب الأئمة، وقد أخذ مالك فى هذا الاستعراض نصيبا أكثر من غيره من الفقهاء أصحاب المذاهب وأكثر مروياته عنه كان من الموطأ، ثم يليه أبو حنيفة والشافعى، وأخذ الإمام أحمد بن حنبل نصيبا دون هؤلاء، وكان ابن عاشور غالبا ما يعزو كل قول إلى صاحبه، أو يذكر مصدره إذا كان حديثا أو كتابا من كتب الفقه أو التفسير. ومن ذلك ما ذكره فى قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا (سورة البقرة: الآية 41). «ومن هنا فرضت مسألة جعلها المفسرون متعلقة بهاته الآية، وإن كان تعلقها بها ضعيفا وهى مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن والدين، ويتفرع عنها أخذ الأجرة على تعليم العلم، وعلى بعض ما فيه عبادة كالأذان والإمامة، وحاصل القول فيها أن الجمهور من العلماء أجازوا أخذ الأجر على تعليم

القرآن فضلا عن الفقه والعلم، فقال بجواز ذلك الحسن وعطاء والشعبى وابن سيرين ومالك والشافعى وأحمد وأبو ثور والجمهور، وحجتهم فى ذلك الحديث الصحيح عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» وعليه فلا محل لهاته الآية على هذا المعنى عندهم بحال؛ لأن المراد بالاشتراء فيها معناه المجازى وليس فى التعليم استبدال ولا عدول ولا إضاعة. وقد نقل ابن رشد إجماع أهل المدينة على الجواز ولعله يريد إجماع جمهور فقهائهم. وفى المدونة: لا بأس بالإجارة على تعليم القرآن، ومنع ذلك ابن شهاب من التابعين من فقهاء المدينة وأبو حنيفة وإسحاق ابن راهويه وتمسكوا بالآية، وبأن التعليم لذلك طاعة وعبادة كالصلاة والصوم فلا يؤخذ عليها أجر، كذلك وبما روى عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال" دراهم المعلمين حرام" وعن عبادة بن الصامت أنه قال" علّمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة فأهدى إلى رجل منهم قوسا فسألت النبى صلى الله عليه وسلم فقال إن تسرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها، وأجاب عن ذلك القرطبى بأن الآية محملها فيمن تعين عليه التعليم فأبى إلا بالأجر، ولا دليل على ما أجاب به القرطبى، فالوجه أن ذلك كان فى صدر الإسلام وبث الدعوة فلو رخص فى الأجر فيه لتعطل تعليم كثير لقلة من ينفق فى ذلك لأن أكثرهم لا يستطيعه، ومحمل حديث ابن عباس على ما بعد ذلك حين شاع الإسلام وكثر حفاظ القرآن، وأقول لا حاجة إلى هذا كله لأن الآية بعيدة عن هذا الغرض كما علمت، وأجاب القرطبى عن القياس بأن الصلاة والصوم عبادتان قاصرتان، وأما التعليم فعبادة متعدية، فيجوز أخذ الأجر على ذلك الفعل وهذا الفارق مؤثر، وأما حديث أبى هريرة وحديث عبادة ففيهما ضعف من جهة إسناديهما كما بينه القرطبى، قلت: ولا أحسب الزهرى يستند

لمثلهما، ولا للآية ولا لذلك القياس ولكنه رآه واجبا فلا تؤخذ عليه أجرة، وقد أفتى متأخروا والحنفية بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والفقه، قال فى الدرر وشرحه «ويفتى اليوم بصحتها أى الإجارة لتعليم القرآن والفقه، والأصل أن الإجارة لا تجوز عندنا على الطاعات والمعاصى، لكن لما وقع الفتور فى الأمور الدينية جوّزها المتأخرون» أهـ (¬1). لم ير ابن عاشور فى هذه الآية علاقة بينها وبين المسألة التى جعلها المفسرون متعلقة بها، وهى مسألة أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم وبعض ما فيه عبادة كالآذان وإمامة الصلاة. وعلى الرغم من ذلك يتناول هذه المسألة فيذكر من قال بجواز ذلك وهم الحسن وعطاء والشعبى وابن سيرين ومالك والشافعى وأحمد وأبو ثور والجمهور، وحجتهم فى ذلك الحديث المذكور، وهؤلاء لا يرون أن هذه الآية لا علاقة لها بهذه المسألة المتقدمة، فالمقصود بالاشتراء معناه المجازى لا الحقيقى حيث لا استبدال ولا عدول ولا إضاعة. وقد شغلت هذه المسألة أذهان الفقهاء والعلماء كما جاء فيما نقله ابن رشد، وما ذكره ابن عاشور من" المدونة" فى جواز أخذ هذا الأجر، ومنهم من منع ذلك كابن شهاب وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه، وبما روى عن أبى هريرة وعبادة بن الصامت. وبعد أن ذكر ابن عاشور إنه لا دليل على ما أجاب به القرطبى وإن هذه المسألة شغلت الناس فى صدر الإسلام، وقد منع أخذ الأجر هذا لظروف الدعوة وأحوال الناس إبّان ذلك، واستبعد أن تكون الآية المذكورة متعلقة بهذا الغرض. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 467.

ثم يعود إلى ذكر ما أجاب به القرطبى عن القياس ويؤيده، وينتقد حديث أبى هريرة وعبادة كما بينه القرطبى، ويرفض أن يستند الزهرى لمثلهما ولا للآية ولا لهذا القياس. ويعود إلى ما أفتى به متأخرو الحنيفة ... وينتهى إلى جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن والفقه. ولا حاجة بنا إلى التذكير أن حاجة الناس وظروفهم، وطبيعة ما يلم بهم من عوامل تسمح بمضمون هذه الفتوى خصوصا ما نعلمه عن كثير من البلاد الإسلامية، أو التى يقيم فيها مسلمون غير الناطقة بلغة القرآن فى حاجة إلى دعاة متخصصين متفرغين لرسالتهم ليستطيعوا مواجهة الدعاوى التبشيرية، أو النظريات الإلحادية، فضلا عن المراحل التعليمية المختلفة فى بلاد الإسلام حيث يحتاج فيها النشئ والشباب إلى رعاية دينية وثقافة إسلامية لا يمكن تركهما لجهود متطوعة بلا ضوابط لا بدّ منها، كما أن المساجد بما فيها المساجد التى تقام بالجهود الذاتية للجماعات أو الأفراد لا بدّ أن يتولى الإمامة والخطابة فيها من هم على دراية كافية بالعلم الدينى الذى يجعلهم أهلا لهذه الوظيفة يرتبطون بها دون أن تشغلهم المطالب اليومية. ومما ذكره فى تفسير قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (سورة البقرة: الآية 124). «وفى الآية أن المتصف بالكبيرة ليس مستحقا لإسناد الإمامة إليه أعنى سائر ولايات المسلمين: الخلافة والإمارة والقضاء والفتوى ورواية العلم وإمامة الصلاة ونحو ذلك. قال فخر الدين قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين

الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له، وفى تفسير ابن عرفة تسليم ذلك، ونقل ابن عرفة عن المازرى والقرطبى عن الجمهور إذا عقد للإمام على وجه صحيح ثم فسق وجار فإن كان فسقه بكفر وجب خلعه وأما بغيره من المعاصرى فقال الخوارج والمعتزلة وبعض أهل السنة يخلع وقال جمهور أهل السنة لا يخلع بالفسق والظلم وتعطيل الحدود ويجب وعظه وترك طاعته فيما لا تجب فيه طاعة وهذا مع القدرة على خلعه فإن لم يقدر عليه إلا بفتنة وحرب فاتفقوا على منع القيام عليه وأن الصبر على جوره أولى من استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء وانطلاق أيدى السفهاء والفساق فى الأرض وهذا حكم كل ولاية فى قول علماء السنة وما نقل عن أبى حنيفة من جوار كون الفاسق خليفة وعدم جواز كونه قاضيا قال أبو بكر الرازى الجصاص هو خطأ فى النقل» (¬1). وأمر هذه" الولايات" قد شغل صفحات طويلة فى تاريخ الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، واختلف الناس حولها خصوصا" الخلافة" ووقفت الفرق الإسلامية مواقف شتى أمامها كالشيعة والمعتزلة والخوارج وسلف الأمة وغيرهم، وقد رأينا ابن عاشور فى تفسيره لهذه الآية يذكر كثيرا من الأقوال، ويستعرض بعض الآراء فيما ذكره المفسرون والفقهاء والمتكلمون وأصحاب المذاهب، ثم ينتهى إلى قول علماء السنة فى أمر الخلافة موضحا سبب ما قال به هؤلاء، وذلك- كما قلنا- كان دأب ابن عاشور فى تفسير كل آية من آيات الأحكام، يجمع فى تفسير كل آية منها الآراء المتفقة والمختلفة، ويستخلص منها رأيا أو موقفا، أو يقول برأى مستقل عن ذلك ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 707.

جميعا، وقد رأيناه فى المثال السابق يذهب إلى تأييد ما أجمع عليه الفقهاء من أهل السنة دون تعصب أو هجوم على من خالفهم. ذكر فى تفسير قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا (سورة النساء: الآية 22). «وقد اختلف الفقهاء فيمن زنى بامرأة هل تحرم على ابنه أو على أبيه، فالذى ذهب إليه مالك فى الموطأ والشافعى: أن الزنى لا ينشر الحرمة، وهذا الذى حكاه الشيخ أبو محمد بن أبى زيد فى الرسالة، ويروى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس، وهو قول الزهرى وربيعة، والليث. وقال أبو حنيفة، وابن الماجشون من أصحاب مالك: الزنى ينشر الحرمة. قال ابن الماجشون: مات مالك على هذا. وهو قول الأوزاعى والثورى، وقال ابن المواز: هو مكروه، ووقع فى المدونة (يفارقها) فحمله الأكثر على الوجوب، وتأوله بعضهم على الكراهة، وهذه المسألة جرت فيها مناظرة بين الشافعى ومحمد بن الحسن أشار إليها الجصاص فى أحكامه، والفخر فى مفاتيح الغيب وهى طويلة» (¬1). ووجوه الخلاف هنا حول" الزنى والحرمة" فيما ذهب إليه مالك والشافعى، ما جاء فى" الرسالة" وما يروى عن عكرمة عن ابن عباس، وقول الزهرى وربيعة والليث فى أن الزنا" ينشر الحرمة"، وما قال به أبو حنيفة وابن ماجشون وقوله مات مالك على" الزنا ينشر الحرمة" فضلا عن قول ابن المواز" هو مكروه" وما وقع فى المدونة، والأكثر على الوجوب، وما تأوله بعضهم على الكراهة، وابن عاشور بعد عرضه لكل ذلك يقول: ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 290.

«والظاهر أن قوله" إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ، قصد منه بيان صحة ما سلف من ذلك فى عهد الجاهلية، وتعذر تداركه الآن، لموت الزوجين، من حيث إنه يترتب عليه ثبوت أنساب، وحقوق مهور ومواريث، وأيضا بيان تصحيح أنساب الذين ولدوا من ذلك النكاح، وأن المسلمين انتدبوا للإقلاع عن ذلك اختيارا منهم، وقد تأول سائر المفسرين قوله تعالى إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ بوجوه ترجع إلى التجوز فى معنى الاستثناء أو فى معنى" ما نكح" حملهم عليها أن نكاح زوج الأب لم يقرره الإسلام بعد نزول الآية، لأنه قال إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا أى ومثل هذا لا يقرر لأنه فاسد بالذات» (¬1). وهو فضلا عما ذكره المفسرون من تأويل فى معنى الاستثناء أو حملهم فيما لم يقرره الإسلام فى عدم صحة نكاح زوجة الأب بعد وفاته يبدى ما ظهر له من قوله تعالى إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فالحكم كان واقعا على ما ترتب من تقاليد فى عصر الجاهلية، ومن ثم يتعذر تداركه للأسباب التى ذكرها. وذكر فى قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (سورة الأنعام: الآية 90). «والمذاهب فى هذه المسألة أربعة: المذهب الأول مذهب مالك: إن شرائع من قبلنا تكون أحكاما لنا، لأن الله أبلغها إلينا. والحجة على ذلك ما ثبت فى الصحاح من أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى قضية الربيع بنت النضر حين كسرت ثنية جارية عمدا أن تكسر ثنتيها فراجعته أمها وقالت ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 291.

: والله لا تكسر ثنية الربيع، فقال لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-" كتاب الله القصاص"، وليس فى كتاب الله حكم القصاص فى السن إلا ما حكاه عن شرع التوراة بقوله وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ إلى قوله: وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ (¬1). وما فى الموطأ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: من نسى الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول فى كتابه وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (¬2)، وإنما قال الله حكاية عن خطابه لموسى- عليه السلام- وبظاهر هذه الآية لأن الهدى مصدر مضاف مظاهره العموم- ولا يسلم كون السياق مخصصا له كما ذهب إليه الغزالى، ونقل علماء المالكية عن أصحاب أبى حنيفة مثل هذا. وكذلك نقل عنهم ابن حزم فى كتابه الإعراب فى الحيرة والالتباس الواقعين فى مذاهب أهل الرأى والقياس. وفى توضيح صدر الشريعة حكايته عن جماعة من أصحابهم ولم يعينه. ونقله القرطبى عن كثير من أصحاب الشافعى. وهو منقول فى كتب الحنيفة عن عامة أصحاب الشافعى. المذهب الثانى: ذهب أكثر الشافعية والظاهرية: أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا. واحتجوا بقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً (¬3). ونسب القرطبى هذا القول لكثير من أصحاب مالك وأصحاب الشافعى. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: الآية 45. (¬2) سورة طه: الآية 14. (¬3) سورة المائدة: الآية 48.

الثالث: إنما يلزم الاقتداء بشرع إبراهيم- عليه السلام- لقوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً (¬1) ولم أقف على تعيين من نسب إليه هذا القول. الرابع: لا يلزم إلا اتباع شريعة عيسى لأنها آخر الشرائع نسخت ما قبلها ولم أقف على تعيين صاحب هذا القول. قال ابن رشد فى المقدمات: وهذا أضعف الأقوال» (¬2). وهو هنا يعرض مسألة" شرائع من قبلنا تكون أحكاما لنا" من خلال أربعة مذاهب: الأول: عن مالك وأصحابه، والثانى: عن أكثر الشافعية والظاهرية، والثالث والرابع: لم يقف ابن عاشور على تعيين صاحبيهما، وعلى الرغم من ذلك فقد أتى بهما ليحيط الآية- على عادته- بأغلب ما قيل فيها من تفسير. ونقول فيما جاء عن هذه المذاهب: إن ما ثبت فى الصحاح من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قضية الربيع بنت النضر، وقوله صلى الله عليه وسلم" كتاب الله القصاص" وكتاب الله هنا هو القرآن، والمعنى العام لهذا الحديث هو العدل، وما حكاه القرآن عن شرع التوراة فى قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها .... الآية. فالضمير فى" عليهم" يعود على أتباع التوراة، وقوله عليه السلام: «من نسى الصلاة فليصلها إذ ذكرها». فالصلاة هنا هى الصلاة التى تعلمها المسلمون منه حيث يقرءون فيها بعض آى القرآن الذى نزل بعد موسى عليه السلام. ¬

_ (¬1) سورة النحل: الآية 123. (¬2) التحرير والتنوير، ج 7، ص 358.

ليهن لكم أن قد نفيتم بيوتنا

والمذاهب الثانى: وهو عن أكثر الشافعية والظاهرية أن «شرع من قبلنا ليس شرعا لنا» وحجتهم فى ذلك قوله تعالى: شِرْعَةً وَمِنْهاجاً نص صريح فى تخصيص شريعة الإسلام لمن آمن وعمل بها، وهى حجة المسلمين. والثالث فقوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فالمقصود العام هنا هو التوحيد. والرابع: فى اتباع شريعة عيسى عليه السلام لأنها آخر الشرائع نسخت ما قبلها، كذلك الإسلام نسخ ما قبله، فضلا عن عدم نسبة هذين المذهبين لأحد بعينه، وتضعيف ابن رشد للمذهب الرابع. وذكر فى تفسير قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (سورة المائدة: 33 - 34). «والنفى من الأرض: الإبعاد من المكان الذى هو وطنه لأن النفى معناه عدم الوجود والمراد الإبعاد، لأنه إبعاد عن القوم الذين حاربوهم. يقال: نفوا فلانا، أى أخرجوه من بينهم، وهو الخليع وقال النابغة: ليهن لكم أن قد نفيتم بيوتنا أى أقصيتمونا عن دياركم. ولا يعرف فى كلام العرب معنى للنفى غير هذا، وقال أبو حنيفة وبعض العلماء: النفى هو السجن. وحملهم على هذا التأويل

به ذئب يعوى كالخليج المعبل

البعيد التفادى من دفع أضرار المحارب عن قوم كان فيهم بتسليط ضره على قوم آخرين وهو نظر يحمل على التأويل، ولكن قد بين العلماء أن النفى يحصل به دفع الضر لأن العرب كانوا إذا أخرج أحد من وطنه ذل وحصدت شوكته، قال امرؤ القيس: به ذئب يعوى كالخليج المعبل وذلك حال غير مختص بالعرب فإن للمرء فى بلده وقومه من الإقدام ما ليس له فى غير بلدة. على أن من العلماء من قال: ينفون إلى بلد بعيد منحاز إلى جهة بحيث يكون فيه كالمحصور. قال أبو الزناد: كأن النفى قديما إلى (دهلك) وإلى (باضع) وهما جزيرتان فى بحر اليمن» (¬1). واللغة هنا كانت عونا له فى استنباط معنى النفى، وهو عدم الوجود، والمراد: الإبعاد جزاء لمن يحاربون الله ورسوله، وما قال به أبو حنيفة وبعض العلماء إنه السجن دفعا للضر الذى يسببونه هؤلاء إذا نفوا إلى ديار قوم آخرين، وذلك ما حملهم على هذا التأويل، ومن ثم ذهب ابن عاشور يذكر أقوالا أخرى على لسان فقهاء آخرين، والنفى يحصل به دفع الضر على عادة العرب، وإن ذلك أمر غير مختص بالعرب، فالنفى أو المستبعد إلى غير دياره لا يملك الفعل أو القول الحر، أما ما ذكره عن بعض العلماء" ينفون إلى بلد بعيد"، وقول أبى الزناء" كان النفى قديما إلى دهلك" فهو إصرار من المفسر على المعنى اللغوى للنفى كما عرفه العرب من كلامهم، وتقريره لما ذهب إليه أبو حنيفة وبعض العلماء كان تقديرا للبواعث فحسب. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 6، ص 184.

خامسا: الاستعانة بأقوال الفلاسفة وعلماء الهيئة:

وابن عاشور المالكى المذهب لم يقف تفسيره لآيات الأحكام على أقوال رجال هذا المذهب، وإنما كان يستعين بكل قول من المذاهب الفقهية الأخرى فيما يناسب الآية، ولا يمنع ذلك من نصرته للمذهب المالكى مع ذكر من قال بذلك الحكم من الصحابة والتابعين على طريقة مالك فى استنباط الأحكام وقواعده ومنها" عمل أهل المدينة". خامسا: الاستعانة بأقوال الفلاسفة وعلماء الهيئة: وهى من الوسائل التى استخدمها ابن عاشور فى التفسير بالرأى، يستعين بها أحيانا فى الحدود التى ذكرها فى المقدمة الرابعة ... قال: «الحكمة وإن كانت علما اصطلاحيا وليس هو تمام المعنى للآية إلا أن معنى الآية الأصلى لا يفوت، وتفاريع الحكمة تعين عليه، وكذلك أن تأخذ من قوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ (¬1) تفاصيل من علم الاقتصاد السياسى، وتوزيع الثروة العامة، وتعلل ذلك مشروعية الزكاة والمواريث والمعاملات المركبة من رأس المال وعمل على أن ذلك تومئ إليه الآية إيماء» (¬2). أى أن هذه الأقوال، لا تعنى وحدها المقصود من الآية، وإنما هى تعين على فهمه، أو تشير إليه على نحو من الأنحاء، كما فى الآية المذكورة فى الفقرة السابقة، ولكن يبقى المعنى الأصلى من عمل المفسرين، ويقول عن بعض العلوم الأخرى: «وإن بعض مسائل العلوم قد تكون أشد تعلقا بتفسير آى القرآن كما تفرض مسألة كلامية لتقرير دليل قرآنى مثل برهان التمانع لتقرير معنى قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا (¬3)، وكتقرير مسألة المتشابه ¬

_ (¬1) سورة الحشر: الآية 7. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 43. (¬3) سورة الأنبياء: الآية 22.

تحقيق معنى، نحو قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ (¬1) فهذا كونه من آيات التفسير واضح، وكذا قوله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (¬2). فإن القصد منه الاعتبار بالحالة المشاهدة، فلو زاد المفسر ففصّل تلك الحالة وبيّن أسرارها بما هو مبيّن فى علم الهيأة كان قد زاد المقصد خدمة، وإما على وجه التوفيق بين المعنى القرآنى وبين المسائل الصحيحة من العلم، حيث يمكن الجمع، وإما على وجه الاسترواح من الآية كما يؤخذ من قوله تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ (¬3) أن فناء العالم يكون بالزلازل، ومن قوله: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (¬4) الآية أن نظام الجاذبية يختل عند فناء العالم» (¬5). ويعنى ذلك أن هناك صنف من العلوم يمكن الاستفادة منه فى تفسير بعض الآيات خصوصا المتصلة بمسائل الكلام أو علم الهيئة، فإذا لجأ المفسر إلى ذلك زاد من الأضواء التى تكشف عن قصد الآية، أو قد يكون غرض المفسر التوفيق بين المعنى القرآنى وما صح من مسائل العلوم التى تتصل بمظاهر الكون، أو يكون للاسترواح أى اطمئنان القلب أن يكون ذلك من المعانى التى تحتملها الآية، ومن ثم يضع ابن عاشور شرطا أساسيا لاستعانة المفسر بمثل هذه العلوم. ¬

_ (¬1) سورة الذاريات: الآية 47. (¬2) سورة ق: الآية 6. (¬3) سورة الكهف: الآية 47. (¬4) سورة التكوير: الآية 1. (¬5) التحرير والتنوير، ج 1، ص 43.

«وشرط كون ذلك مقبولا أن يسلك فيه مسلك الإيجاز، فلا يجلب إلا الخلاصة من ذلك العلم، ولا يصير الاستطراد كالغرض المقصود له، لئلا يكون كقولهم السىّ بالسىّ يذكر» (¬1). أى يجلب المفسر خلاصة النافع المفيد من هذه العلوم، ولا يكون الاستطراد مسلكه لتبقى له صفته الأولى كمفسر. ومن وجوه الخلاف التى وقعت بين جماعة من العلماء فى تفسير القرآن بعلوم الحكمة ذكر ابن عاشور: «فأما جماعة منهم فيرون من الحسن التوفيق بين العلوم غير الدينية وآلاتها وبين المعانى القرآنية، ويرون القرآن مشيرا إلى كثير منها، قال ابن رشد الحفيد فى فصل المقال: «أجمع المسلمون على أن ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، والسبب فى ورود الشرع بظاهر وباطن هو اختلاف نظر الناس، وتباين قرائحهم فى التصديق» (¬2). ويقول عن ابن عربى: «وذهب ابن عربى فى العواصم إلى إنكار التوفيق بين العلوم الفلسفية والمعانى القرآنية، ولم يتكلم على غير هاته العلوم، وذلك على عادته فى تحقير الفلسفة لأجل ما خولطت به من الضلالات الاعتقادية، وهو فى ذلك مستخف بالحكماء» (¬3). ثم يفصل القول فى الحاجة إلى العلوم التى لها علاقة بالقرآن الكريم وحاجة المفسر إليها: ¬

_ (¬1) السي بسين: مهملة مكسورة وتحتية مشددة، والنظير والمثيل. وانظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 43. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 43. (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 45.

«وأنا أقول: إن علاقة العلوم بالقرآن على أربع مراتب: الأولى: علوم تضمنها القرآن كأخبار الأنبياء والأمم، وتهذيب الأخلاق والفقه والتشريع والاعتقاد والأصول والعربية والبلاغة. الثانية: علوم تزيد المفسر علما كالحكمة، والهيأة وخواص المخلوقات. الثالثة: علوم أشار إليها أو جاءت مؤيدة له كعلم طبقات الأرض والطب والمنطق. الرابعة: علوم لا علاقة لها به إما لبطلانها كالزجر والعيافة والميثولوجيا، وإما لأنها لا تعين على خدمته كعلم العروض والقوافى (¬1). وهو فى هذه الأطر التى حددها فى قوله هذا قد استعان بما تضمنه القرآن من علوم وذهب يفسر آياته ويبين مقاصدها، وقد رأينا ذلك فيما مر بنا من صفحات، ومن علوم الحكمة والهيأة وخواص المخلوقات راح يستعين ببعض مسائلها دون استطراد وفى الحدود التى رسمها، كما أن العلوم التى أشار إليها القرآن، أو جاءت مؤيدة له، فقد حوى تفسير التحرير والتنوير الكثير منها فى المواطن التى تناسبها دون حشر أو إقحام، أما العلوم التى ذكرها فى" المرتبة الرابعة" فلم يلجأ إليها، أو استعان بها فى تفسيره، فهى كما يقول إما باطلة، أو لا تعين على خدمة القرآن الكريم. ومما ذكره ابن عاشور من أقوال فى معنى" العبادة ومراتبها" من كلام الإمام الفخر الرازى والشيخ الرئيس ابن سينا فى تفسير قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (سورة الفاتحة: الآية 5). «قال الفخر" مراتب العبادة ثلاث: الأولى أن يعبد الله طمعا فى ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 45.

الثواب وخوفا من العقاب وهى العبادة، وهى درجة نازلة ساقطة لأنه جعل الحق وسيلة لنيل المطلوب، والثانية أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته والانتساب إليه بقبول تكاليفه وهى أعلى من الأولى إلا أنها ليست كاملة لأن المقصود بالذات غير الله. الثالثة أن يعبد الله لكونه إلها خالقا مستحقا للعبادة وكونه هو عبد إله، وهذه أعلى المقامات وهو المسمى بالعبودية أه. قلت ولم يسم الإمام المرتبة الثالثة باسم، والظاهر أنها ملحقة فى الاسم بالمرتبة الثالثة أعنى العبودية لأن الشيخ ابن سينا قال فى الإشارات «العارف يريد الحق لا لشىء غيره ولا يؤثر شيئا على عرفانه وتقيده له فقط ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا لرغبة أو رهبة أه فجعلها حالة واحدة» (¬1). وفى حقيقة" الفطرة" ذكر فى تفسير قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (سورة الروم: الآية 30). «وقد بيّن أبو على ابن سينا حقيقة الفطرة فى كتابه" النجاة" فقال «ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل فى الدنيا دفعة وهو عاقل، لكنه لم يسمع رأيا، ولم يعتقد مذهبا، ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسة، ولكنه شاهد المحسوسات وأخذ منها الحالات، ثم يعرض على ذهنه شيئا ويتشكك فيه، فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به، وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة، وليس كل ما توجبه فطرة الإنسان بصادق، إنما الصادق فطرة القوم ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 180.

التى تسمى عقلا، وأما فطرة الذهن بالجملة، فربما كانت كاذبة، وإنما يكون هذا الكذب فى الأمور التى ليست محسوسة بالذات بل هى مبادئ للمحسوسات. فالفطرة الصادقة هى مقدمات وآراء مشهورة محمودة أو جبت التصديق بها: إما شهادة الكل مثل: أن العدل جميل وإما شهادة الأكثر، وإما شهادة العلماء أو الأفاضل منهم، وليست الذائعات من جهة ما هى ذائعات مما يقع التصديق بها فى الفطرة، فما كان من الذائعات ليس بأوّلى عقلى ولا وهمى فإنها غير فطرية، ولكنها متقررة عند الأنفس لأن العادة مستمرة عليها منذ الصبى وربما دعا إليها محبة التسالم والاصطناع المضطر إليهما الإنسان» (¬1)، أو شىء من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستئناس (¬2)، أو الاستقراء الكثير، أو كون القول فى نفسه ذا شرط دقيق لأن يكون حقا صرفا فلا يفطن لذلك الشرط ويؤخذ على الإطلاق أه» (¬3). وفى معنى الجمال والحب، ذكر فى قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (سورة آل عمران: الآية 31). ولم يستطع الفلاسفة توضيح علة ملاءمة بعض ما يعبر عنه بالجمال للنفوس: ككون الذات جميلة أو قبيحة الشكل، وكون المربع أو الدائرة حسنا ¬

_ (¬1) وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا (سورة العنكبوت: الآية 25). (¬2) قال تعالى حكاية عن قوم كذبوا الرسل تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (إبراهيم: 10). (¬3) التحرير والتنوير، ج 21، ص 90.

ضروب الناس عشاق ضروبا

لدى النفس، والشكل المختل قبيحا، ومع الاعتراف باختلاف الناس فى بعض ما يعبر عنه بالجمال والقبح كما قال أبو الطيب: ضروب الناس عشاق ضروبا وأن بعض الناس يستجيد من الملابس ما لا يرضى به الآخر، ويستحسن من الألوان ما يستقبحه الآخر، ومع ذلك كله فالمشاهد أن معظم الأحوال لا يختلف فيها الناس السالمو الأذواق. فأما المتقدمون فقال سقراط: سبب الجمال حب النفع، وقال أفلاطون: «الجمال أمر إلهى أزلى موجود فى عالم غير قابل للتغير، قد تمتعت الأرواح به قبل هبوطها إلى الأجسام فلما نزلت إلى الأجسام صارت مهما رأت شيئا على مثال ما عهدته فى العوالم العقلية، وهى عالم المثال مالت إليه لأنه مألوفها من قبل هبوطها». وذهب الطبائعيون إلى أن الجمال شىء ينشأ عندنا عن الإحساس بالحواس، ورأيت فى كتاب جامع أسرار الطب للحكيم عبد الملك بن زهر القرطبى «العشق الحسى إنما هو ميل النفس إلى الشيء الذى تستحسنه وتستلذه، وذلك أن الروح النفسانى الذى مسكنه الدماغ قريب من النور البصرى الذى يحيط بالعين ومتصل بمؤخر الدماغ وهو الذكر، فإذا نظرت العين إلى الشيء المستحسن انضم النورى البصرى وارتعد فبذلك الانضمام والارتعاد يتصل بالروح النفسانى فيقبله قبولا حسنا ثم يودعه الذكر فيوجب ذلك المحبة، ويشترك أيضا بالروح الحيوانى الذى مسكنه القلب لاتصاله بأفعاله فى الجسد كله فحينئذ تكون الفكرة والهم والسهر» (¬1). رأينا فى المثال الأول من الأمثلة السابقة عند تفسير قوله تعالى: ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 226.

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ما ساقه ابن عاشور من قول الإمام الفخر الرازى فى مراتب العبادة، وما ذكره الشيخ الرئيس ابن سينا فى المرتبة الثالثة من هذه المراتب. وفى المثال الثانى كان حول حقيقة الفطرة التى فطر الله الناس عليها كما ذكرها بشيخ الرئيس. وفى المثال الأخير رأينا اختلاف الحكماء كسقراط وأفلاطون فى أمر الجمال ومذاهب الناس فى رد أسبابه إلى أصول متباينة عندهم، أو نشأته كما عند الطبائعيين، أو تعريف العشق الحسى كما جاء عند عبد الله بن زهر القرطبى فى كتابه جامع أسرار الطب. وكل تلك الأقوال قد تلقى ضوءا على معنى اللفظة من الآية" العبودية، الفطر، الجمال، الحب أو العشق"، ومعانى تلك الألفاظ قد شغلت الحكماء طويلا، وذهب كل منهم مذاهب مختلفة فى تحديد مراميها أو دلالاتها، وحين ينقل ابن عاشور هذه الأقوال كان ذلك فى دائرة الاستفادة منها، تعينه فى تعميق معنى اللفظة لا معنى الآية، حيث يبقى هذا المعنى للمفسر، يقترب منه بأدواته المختلفة، ويحيطه بما يستطيعه منها دون أن تنفرد أقوال الحكماء بمعنى الآية أو تطغى عليه. ومن علوم الهيئة وخواص المخلوقات، وهى من علوم المرتبة الثانية التى صنفها ابن عاشور على هذا النحو، كذا من العلوم التى أشار إليها القرآن الكريم، أو جاءت مؤيدة له والمصنفة عند ابن عاشور فى المرتبة الثالثة ... ذكر فى تفسير قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (سورة البقرة: الآية 29).

«وقد عد الله تعالى فى هذه الآية وغيرها السماوات سبعا، وهو أعلم بها والمراد منها، إلا أن الظاهر الذى دلت عليه القواعد العلمية أن المراد من السموات الأجرام العلوية العظيمة، وهى الكواكب السيارة المنتظمة مع الأرض فى النظام الشمسى، ويدل لذلك أمور، أحدهما: أن السموات ذكرت فى غالب مواضع القرآن مع ذكر الأرض، وذكر خلقها هنا مع ذكر خلق الأرض، فدل على أنها عوالم كالعالم الأرضى، وهذا ثابت للسيارات، ثانيها: أنها ذكرت مع الأرض من حيث إنها أدلة بديع صنع الله تعالى، فناسب أن يكون تفسيرها تلك الأجرام المشاهدة للناس المعروفة للاسم الدال نظام سيرها وباهر نورها على عظمة خالقها، ثالثها: أنها وصفت بالسبع، وقد كان علماء الهيئة يعرفون السيارات السبع من عهد الكلدان وتعاقب علماء الهيئة من ذلك العهد إلى العهد الذى نزل فيه القرآن فما اختلفوا فى أنها سبع، رابعها: أن هاته السيارات هى الكواكب المنضبط سيرها بنظام مرتبط مع نظام سير الشمس والأرض، ولذلك يعبر عنها علماء الهيئة المتأخرون بالنظام الشمسى، فناسب أن تكون هى التى قرن خلقها بخلق الأرض، وبعضهم يفسر السموات بالأفلاك، وهو تفسير لا يصح لأن الأفلاك هى الطرق التى تسلكها الكواكب السيارة فى الفضاء، وهى خطوط فرضية لا ذوات لها فى الخارج» (¬1). وما ذكره ابن عاشور فى هذه الفقرة يعد مما أشار إليه القرآن الكريم أو يتفق معه، وابن عاشور يلجأ إلى توضيح ذلك من خلال صياغة القرآن لهذه الحقائق، أو ما وصفه بها، واتفاق العلماء إلى عصر نزوله حولهما، وقد رفض ابن عاشور تفسير بعض العلماء أن السموات هى الأفلاك، وتعليله فى هذا الرفض أن السموات غير الأفلاك، فهى الطرق التى تسلكها الكواكب السيارة ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 385 - 386.

فى الفضاء، وذكر فى هامش الصفحة نفسها: «إن علماء الهيئة يقسمون الأجرام العلوية أقساما: الأول الشموس، وهى شمس عالمنا هذا، وهنالك شموس أخرى يعبّر عنها بالثوابت، وهى لبعدها الشاسع عنا لم يتيسر ضبط سيرها، ويعبر عن كل شمس بأنه الجرم المركزى، لأنه تتبعه سيارات تدور حوله، الثانى: السيارات وهى الكواكب التى تدور حول الشمس وتستمد نورها من نور الشمس وهى: نبتون، أورانوس، زحل، المشترى، المريخ، الأرض، الزهرة، عطارد. الثالث: نجميات وهى سيارات صغيرة واقعة بين فلكى المريخ والمشترى، الرابعة: الأقمار وهى توابع للسيارات تدور حول واحد من السيارات وهى واحد تابع للأرض وأربعة للمشترى وثمانية لزحل وأربعة لأورانوس وواحد لنبتون، ويعبر عن هذا المجموع بالنظام الشمسى لأن جميع حركاته مرتبطة بحركة الشمس» (¬1). وقد وضع هذه الفقرة فى هامش الصفحة زيادة فى توضيح المقصود من الأجرام السماوية، ولكون أقوال العلماء فى ذلك التقسيم ليس مما تسعى إليه الآية ولا هو من تفسيرها، ويؤكد ابن عاشور بعد ذلك ما جاء به القرآن وما يؤيده العلماء. «هذا وقد ذكر الله تعالى السموات سبعا هنا وفى غير آية، وقد ذكر العرش والكرسى مما يدل على أنهما محيطان بالسماوات، وجعل السموات كلها فى مقابلة الأرض، وذلك يؤيد ما ذهب إليه علماء الهيئة من عد الكواكب السيارة تسعة، وهذه أسماؤها على الترتيب فى بعدها عن الأرض: نبتون، أورانوس، زحل، المشترى، المريخ، الشمس، الزهرة، عطارد، بلكان» (¬2). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 386. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 366.

ويقول أيضا: «والأرض فى اصطلاحهم كوكب سيار، وفى اصطلاح القرآن لم تعد معها، لأنها التى منها تنظر الكواكب وعد عوضا عنها القمر، وهو من توابع الأرض فعدّه معها عوض عن عد الأرض تقريبا لأفهام السامعين، وأما الثوابت فهى عند علماء الهيئة شموس سابحة فى شاسع الأبعاد عن الأرض، ولعل الله لم يجعلها سماوات ذات نظام كنظام السيارات السبع، فلم يعدها فى السموات، أو أن الله إنما عدّلنا السموات التى هى مرتبطة بنظام أرضنا» (¬1). وهو فى ذلك لم يسلم بكل ما قاله علماء الهيئة، فأسرار الكون البعيد ما زال أغلبها غامضا عن العقول، بعيدا عن أدوات العلم أو مناهجه، والأبعاد التى أشارت إليها الآية أكثرها لم يقترب منها العقل الإنسانى، وما قرّبه الله إلى أفهامنا إنما هو حث على التدبر والتصديق. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 366.

الباب الرابع موقف الطاهر بن عاشور من المذاهب الاعتقادية

الباب الرابع موقف الطاهر بن عاشور من المذاهب الاعتقادية

تقديم:

تقديم: لم يتعرض أحد من المفسرين- على الرغم من اختلاف منازعهم فى التفسير- إلى هذه الكثرة من المذاهب الاعتقادية المختلفة كما تعرض لها ابن عاشور فى تفسيره. من هذه المذاهب التى تعرض لها: التصرف والاعتزال والجبرية والشيعة والخوارج، وكلها فرق تدور فى دائرة الإسلام، والبهائية وهى خارجة عنه. وقد تناول فى هذا الاستعراض أبرز قضايا كل مذهب، وقد يتفق معه أحيانا، أو يختلف معه أحيانا أخرى، وهو فى اتفاقه معه يستعين ببعض أقوال رجاله، كما فعل مع المتصوفة والمعتزلة، غير أنه فى اختلافه لا يسعى إلى مناصرة مذهبه السنى فحسب، بل نجده يوفر جهدا واسعا من المعارف والتحليلات التى تهمد تمهيدا حرا للإقناع والإنصاف، أما البهائية فقد وقف منها موقف المعارضة التامة وأخرج متبعيها عن حوزة الإسلام. وقد رأينا أن نقدم نبذة عند الحديث عن كل مذهب- إذا لزمت الضرورة- تبين أهم أسسه التى يقوم عليها واتجاهاته التى يسعى إليها دون إطالة لا يستفاد منها، ومن ثم إحالة القارئ- فى بعض المواضع- إلى المصادر المعتبرة عند أصحاب المذهب إذا شاء المزيد.

أولا: التصوف:

أولا: التصوف: يقول الغزالى عن خواص الصوفية: «إن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق (¬1) والحال (¬2) وتبدل الصفات، وكم من الفرق بين أن تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابها وشروطها، وبين أن تكون صحيحا وشبعان» (¬3)، ويقول عن هؤلاء المتصوفة وهو يتحدث عن سيرته وسبيله إليهم. «علمت أنهم أرباب الأحوال، لا أصحاب الأقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والعلم، بل بالذوق والسلوك» (¬4). ¬

_ (¬1) الذوق فى معرفة الله: عبارة عن نور ربانى عرفانى، يقذفه الحق بتجليه فى قلوب أوليائه، فيفرقون بواسطته بين الحق والباطل دون أن يعتمدوا فى ذلك التفريق على كتاب أو غيره. انظر: كمال الدين عبد الرازق القاسانى" من صوفية القرن الثامن الهجرى"، اصطلاحات الصوفية، تحقيق الدكتور محمد كمال إبراهيم جعفر، ص 162، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1981 م. (¬2) الحال عند الصوفية: معنى يرد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب، أو حزن، أو قبض، أو بسط، ويزال الحال بظهور صفات النفس، فإذا دام وصار ملكا يسمى مفاجأة، فالأحوال مواهب، والمقومات مكاسب، فالأولى تأتى بعين الجود، والثانية يبذل المجهود. انظر المصدر السابق ص 62. (¬3) أبو حامد الغزالى" ت 505 هـ" المنقذ من الضلال ص 132 حققه وقدمه له د. جميل صليبا، ود. كمال عياد، دار الأندلس بيروت- لبنان ط 8. والتصوف عند الغزالى:" هو عبارة عن تجرد القلب لله تعالى واستحقار ما سوى الله، وحاصلة يرجع إلى عمل القلب والجوارح" إحياء علوم الدين ج 6 ص 1089 دار الشعب. انظر كتاب التعريفات، على بن محمد الشريف الجرجانى" ت 816 هـ" مكتبة لبنان- بيروت 1969 م. (¬4) أبو حامد الغزالى، المنقذ من الضلال، ص 133.

وفى رواية عن سهل التسترى" ت 282 هـ" يذكر فيها أصول المتصوفة:" أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم". وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة وأداء الحقوق" (¬1). وفى معنى قوله صلى الله عليه وسلم:" اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم" (¬2). ذكر أبو طالب مكى:" طلب علم القلوب، ومعرفة الخواطر وتفصيلها فريضة لأنها رسل الله تعالى إلى العبد، ووسواس العدو والنفس، فيستجيب لله تعالى بتنفيذ ما سنه إليه، وفيها ابتلاء الله تعالى للعبد، واختيار تقتضيه مجاهدة النفس فى نفسها، ولأنها أول النية التى هى أول العمل، وعنها تظهر الأفعال، وعلى قدرها تضاعف الأعمال" (¬3). ¬

_ (¬1) أبو عبد الرحمن السلمى" ولد 412 هـ" طبقات الصوفية ص 220 تحقيق نور الدين شريبة. مطابع دار الكتاب العربى القاهرة 1372 هـ- 1973 م. (¬2) جاء فى سنن ابن ماجة:" حدثنا هشام بن عمار: حدث حفص بن سليمان، ثنا كثير بن شنظير، عن محمد بن سرين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب" وذكر المعلق: فى الزوائد اسناده ضعيف لضعف حفص بن سليمان، وقال السيوطى:" سئل الشيخ محى الدين النووى رحمه الله تعالى عن هذا الحديث، فقال: أنه ضعيف أى سندا، وإن كان صحيحا، أى معنى، وقال تلميذه جمال الدين المزى، هذا حديثه روى من طرق تبلغ رتبة الحسن، وهو كما قال، فإنى رأيت له خمسين طريقا وقد جمعت فى جزء" ج 1 ص 80 كتاب 17 باب" فضل العلماء والحث على طلب العلم، وانظر شرح مسند أبى حنيفة شرح الملا على القارئ ص 76 قدم له وضبطه الشيخ خليل محيى الدين الميس، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان 1405 هـ- 1985 م. (¬3) أبو طالب مكى" ت 386 هـ قوت القلوب ج 2 ص 17 المكتبة الحسينية المصرية الأزهر 1351 هـ- 1933.

وهذا العلم يرتبط بمفاهيم عملية وأخلاقية «فالعلم حرف لا يعربه إلا العمل، والحرف لا يعبر به إلا الإخلاص، والإخلاص حرف لا يعربه إلا الصبر، والصبر لا يعربه إلا التسليم» (¬1). وتلعب التجربة الذاتية عند المتصوف دورها المهم، وتنكشف له معانى القرآن- كما يقول أصحاب هذا المذهب- تبعا لعمق كل مرحلة من مراحل التجربة وما تتميز به كل مرحلة من جلد وصدق واستغناء، ويقول الحلاج: " الحقيقة دقيقة، طرقها مضيقة، فيها نيران شهيقة، ودونها مفازة عميقة، الغريب سلكها يخبر عن قطع مقامات الأربعين، مثل مقام الذوب والرهب، والسلب والطلب، والعجب، والعطب، والطرب والشره، والترة، والصفاء، والصدق، والرفق والعتق، والصريح والتمنى، والعد والكد، والرد والامتداد والاعتداد والانفراد والانقياد والمراد، والشهود والحضور، والرياضة والحياطة ..... فهذه مقامات أهل الصفاء والصفوية، ولكل مقام علو مفهوم وغير مفهوم" (¬2). وكما تختلف هذه المقامات وتتدرج مستوياتها تختلف أيضا الحقيقة من صوفى إلى صوفى، ومن مقام إلى آخر، فيعيد تأويلها حسبما تتجلى له فى كل مقام" فلكل صوفى عالم روحى قائم بذاته، والطرق الصوفية المؤدية إلى الله هى بقدر عدد هذه العوالم الروحية، وإذا عرّف بعض علماء الصوفية بأنه- أى التصوف- إدراك الحقائق، فليس لهذا التعريف من معنى إلا أنه إدراك الحقائق ¬

_ (¬1) محمد بن عبد الجبار النفرى" ت 354 هـ" المواقف والمخاطبات ص 71 تحقيق أرثر إربرى تقديم د. عبد القادر محمود الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985 م. (¬2) الحسين بن منصور الحلاج، كتاب الطواسين، ص 8، تحقيق وتصحيح، بولس نويا الميسوعى، دار النديم القاهرة 1989 م.

الإلهية كما يدركها كل صوفى على حدة، وبمقدار استعداده الروحى وتكوينه" (¬1). ومحيى الدين بن عربى" ت 638 هـ" من مفسرى هذا المذهب يقول فى مقدمة تفسيره عن التجربة الروحية التى مر بها «طالما تعهدت تلاوة القرآن وتدبرت معانيه بقوة الإيمان، وكنت مع المواظبة على الأوراد حرج الصدر قلق الفؤاد، لا ينشرح بها قلبى، ولا يصرفها عنى ربى، حتى استأنست بها فألفتها، وذقت حلاوة كأسها وشربتها، فإذا أنا بها نشيط النفس، ثلج الصدر، متسع البال، منبسط القلب، تتكشف لى تحت كل آية من المعانى ما يكل بوصفه لسانى، لا القدرة تفى بضبطها وإحصائها ولا القوة تصير على نشرها، فتذكرت خير من آتى ما ازدهانى، مما وراء المقاصد والأمانى، قول النبى الأمى الصادق عليه أفضل الصلوات من كل صامت وناطق،" ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع" (¬2). وفهمت منه أن ¬

_ (¬1) الدكتور أبو العلا عفيفى التصوف" الثورة الروحية فى الإسلام ص 118 - 119 دار المعارف- مصر 1963 م. (¬2) جاء فى الفتوحات المكية: " وقد أجمع أصحابنا، أهل الكشف على صحة خبر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى آى القرآن أنه: " ما من آية إلا ولها ظاهر وباطن وحد ومطلع". وذكر ابن عربى: " ولكل مرتبة من هذه المراتب رجال، ولكل طائفة من هذه الطوائف قطب، وعلى ذلك القطب يدور فلك ذلك الكشف". محى الدين بن عربى- السفر الثالث ج 18 الباب 27 مراتب رجال الله فى فهم مراتب القرآن.- تحقيق د. عثمان يحيى- تصدير ومراجعة د. إبراهيم مدكور، الهيئة العامة للكتاب 1401 هـ- 1981 م، وانظر مقدمة تفسير البغوى، معالم التنزيل، المجلد الأول، ص 35، وانظر السهروردى، عوارف المعارف على هامش الإحياء ج 1 ص 52 طبعة الحلبى- القاهرة 1369 هـ والتفسير والمفسرون ج 2 ص 3.

الظهر هو التفسير، والبطن هو التأويل والحد ما يتناهى إليه المفهوم من معنى الكلام، والمطلع ما يصعد إليه منه، فيطلع على شهود الملك العلام" (¬1). ويفهم من ذلك أن التفسير عند هؤلاء القوم لا يقوم على الظاهر وما يدل عليه من معان ترتبط بحقيقة الألفاظ أو مدلولاتها فحسب، وإنما يقوم أيضا على الباطن الذى لا تتوقف معانيه عند شاطئ معلوم، فهى تتمدد وتتزايد تبعا لنضج التجربة الروحية للمتصوف، يقول الدكتور السيد خليل: «المتصوفة ينزعون فى تفسيرهم منزع الرمزيين من أهل الكتاب، فيجعلون كل شىء فى القرآن رمزا لمعنى آخر يتستر وراءه، ولا يحفلون بالمدلول اللغوى حفلهم بهذه الرموز، وتلك الإشارات، ولكنهم لا ينكرون ظاهر اللغة كما يفعل سواهم من الفرق الإسلامية» (¬2). ومن شروط هذا التفسير" وجوب الجمع بين الظاهر والباطن دون رفع أحدهما، أو بعبارة أخرى وجوب الجمع بين مدلول التعبير المباشر لبعض الآية، وبين مدلول التعبير الرمزى لها، وعدم جواز التفسير الباطنى إلا لأهل الكشف وبذلك لا تكون فكرة الباطن أو الدلالة الرمزية منفذا يحارب منه، الإسلام لأنها فكرة واسعة لا أدلّ على اتساعها من احتوائها لدوائر تنسب إلى الإسلام ¬

_ (¬1) محى الدين بن عربى، تفسير القرآن الكريم، المجلد الأول ص 4 - دار السلام- القاهرة، المكتبة العصرية- بيروت- إشراف إبراهيم الأبياري، وانظر مذاهب التفسير الإسلامى ص 248، وكشف الظنون ج 1 ص 233 وطبقات المفسرين للسيوطى ص 37. (¬2) الدكتور السيد أحمد خليل- نشأة التفسير فى الكتب المقدسة والقرآن، ص 75 الوكالة الشرقية للثقافة- الإسكندرية 1954 م. وانظر محى الدين بن عربى- الفتوحات المكية السفر السابع ج 30 ص 158" السعادة كل السعادة فى الجمع بين الظاهر والباطن"

البسملة:

مثل المشائية الإسلامية والشيعة بجميع فرقها وخاصة الإسماعيلية، وأن يكون للكشف شهود عليه من الكتاب والسنة" (¬1). ويقول الدكتور سيد عبد التواب عبد الهادى: «لقد دارت باطنيات اللغة فى أشهر التفاسير الصوفية حول موضوعين رئيسيين هما: الحروف التى فى أوائل السور مثل: الم، طه، ص، ق ..... والبسملة» (¬2). البسملة: ويطلق عليها ابن عربى" فاتحة الفاتحة" ويقول: «أنه لما قد منا أن الأسماء الإلهية هى سبب وجود العالم، وانها المسلطة عليه والمؤثرة، لذلك كان" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" عندنا خبر ابتداء مضمر، وهو ابتداء العالم وظهوره، لأنه تعالى يقول: ظهور العالم هو" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"، أى باسم الله الرحمن الرحيم ظهر العالم، واختصت (البسملة) بالثلاثة الأسماء الإلهية لأن الحقائق تعطى ذلك، فالله: هو الاسم الجامع للأسماء كلها، والرحمن: صفة عامة، رحمن الدنيا والآخرة، بها (أى بالرحمة العامة) رحم الله كل شىء من العالم فى الدنيا» (¬3). وكل كلمة، وكل حرف، وكل نقطة من البسملة رموز لمعنى خاص عند ابن عربى، يقول عن رمزية الباء:" بسم" بالباء ظهر الوجود، وبالنقطة تميز ¬

_ (¬1) الدكتور سيد عبد التواب عبد الهادى- الرمزية الصوفية فى القرآن الكريم 73 دار المعارف، مصر 1979 م. انظر: مقدمة ابن خلدون ص 490 - المطبعة الأميرية- القاهرة- 1284 هـ وانظر: تاريخ التصوف فى الإسلام للدكتور قاسم غنى ص 59 ترجمة عن الفارسية صادق نشأت- راجعة د. أحمد ناجى القيس، د. محمد مصطفى حلمى- مكتبة النهضة المصرية 1972 م. (¬2) " الرمزية الصوفية فى القرآن الكريم" ص 32. (¬3) الفتوحات المكية، السفر الثانى ج 9 ص 133 - 134.

الحروف المقطعة:

العابد من المعبود، قيل للشبلى- رضى الله عنه- أنت الشبلى؟ فقال: أنا النقطة التى تحت الباء، وهو قولنا: النقطة للتمييز بين العابد والمعبود، وهو وجود العبد بما تقتضيه حقيقة العبودية، وكان الشيخ أبو مدين يقول: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الباء عليه مكتوبة" (¬1). وذكر عن رمزية السين:" ثم إنه سكن السين من" بسم" تحت ذل الافتقار والفاقة، كسكوننا تحت طاعة الرسول لما قال تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (¬2) فسكنت السين من" بسم" لتتلقى من الباء الحق اليقين، فلو تحركت" السين" قبل أن تسكن لاستبدت بنفسها، وضيف عليها من الدعوى وهى سين مقدسة، فسكنت، فلما تلقت من الباء الحقيقة المطوية أعطيت الحركة فلم تتحرك فى بعض المواطن إلا بعد ذهاب الباء .... " (¬3). ونقل الدلالة المباشرة للفظ إلى دلالة غير مباشرة على هذا النحو يعد عند الصوفية إشارة إلى معنى باطن مخزون تحت كلام ظاهر، ونوع من أنواع التجربة الذاتية عند المتصوف، ومرحلة من مراحل" الكشف" التى يمر بها. الحروف المقطعة: والحروف المقطعة، أو فواتح بعض السور يؤولها المتصوفة تأويلات مختلفة، وقد أخذ تأويلها عند ابن عربى فى" الفتوحات" حيزا كبيرا وعامة الحروف عنده ما لها اختصاص قرآنى، وما ليس لها هذا الاختصاص، وحروف ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص 134. (¬2) سورة النساء: الآية 80. (¬3) الفتوحات المكية، السفر الثالث ج 9 ص 139 وانظر التحرير والتنوير ج 1 ص 137 وما بعدها" الكلام على البسملة"

تختص بالبداية وحروف لم تختص لا بالبداية ولا بالختام، ولا ب" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"، والحروف عند صاحب الفتوحات مقسمة إلى طبقات، وكل طبقة لها حروفها وخواصها، ويقول عن مصادره فى هذا التأويل: «كشف لنا عن ذلك كشف إلهام» (¬1). ويذكر فى تصنيفه لهذه الحروف وطبقاتها: الطبقة الأولى من الخواص حروف السور المجهولة وهم الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والطاء، والحاء، والقاف، والنون. واعنى بهذا صورة اشتراكهم فى اللفظ والرقم، فاشتراكهما فى الرقم اشتراكها فى الصورة، والاشتراك اللفظى إطلاق اسم واحد عليها، مثل زيد وزيد آخر، فقد اشتركا فى الصورة والاسم، وأما المقرر عندنا والمعلوم فإن الصاد من" المص" (¬2) وفى" كهيعص" (¬3) و" أَحْرَصَ" (¬4). ليس كل واحد منهن عين الآخر منهن، ويختلف كل حرف باختلاف أحكام السورة، وأحوالها، ومنازلها، وهكذا جميع الحروف على هذه المرتبة، وهذه تعمها لفظا وخطا (¬5). ويذكر عن الطبقة الثانية: " أما الطبقة الثانية من الخاصة وهم خاصة الخاصة، فكل حرف وقع فى أول سورة من القرآن، مجهولة وغير مجهولة، وهى: حرف الألف، والياء، والباء، والسين، والكاف، والقاف والتاء، والواو، والصاد، والنون، واللام والهاء، والعين (¬6). ¬

_ (¬1) الفتوحات المكية، السفر الأول ج 7 ص 352. (¬2) سورة الأعراف الآية 1. (¬3) سورة مريم الآية 1. (¬4) سورة ص الآية 1. (¬5) الفتوحات المكية، السفر الأول ج 7 ص 353. (¬6) المصدر السابق، الصفحة نفسها.

وعن الثالثة" وأما الطبقة الثالثة من الخواص وهم الخلاصة فهى الحروف الواقعة فى أواخر السور مثل: النون، والميم، والراء، والباء، والدال، والزاى، والألف، والطاء، والياء، والواو، والهاء، والظاء، والثاء، واللام، والفاء والسين (¬1). ويستمر توزيع هذه الطبقات وتقسيم الحروف إلى الخاصة، وخاصة الخاصة، والخلاصة، وصفاء الخلاصة، وعين صفاء الخلاصة، وبالرغم مما سوّده من صفحات كثيرة فى هذا التوزيع والتقسيم يقول: «وربما نرغب فى نقص شىء منها مخافة التطويل» (¬2). وهذه هى أهم الأسس والاتجاهات التى يقوم عليها مذهب التصوف خصوصا فى ميدان التفسير ونظرة رجاله إلى النص القرآنى، وأهم ما يلفتنا فى هذا الشأن: 1 - إن الذوق والحال وتبدل الصفات يلعبون دورا أساسيا فى التجربة الصوفية لا يرتقى إليها التعليم أو الوسائل المحررة. 2 - الأصول الأخلاقية للتصوف كما حددتها الرواية عن سهل التسترى: التمسك بكتابة الله والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل الحلال وكف الأذى واجتناب الآثام والتوبة وأداء الحقوق. 3 - اختلاف المقامات من مقام إلى آخر عند الصوفى، ووفقا للتجربة الذاتية له يتبعه اختلاف" الحقيقة" حسبما تتجلى له فى كل مقام. 4 - وجوب الجمع بين الظاهر والباطن دون رفع أحدهما فى مجال التفسير القرآنى وعدم جواز التفسير الباطنى إلا لأهل الكشف شريطة أن يكون لهذا الكشف شهود عليه من الكتاب والسنة. ¬

_ (¬1) الفتوحات المكية، السفر الأول ج 7 ص 353. (¬2) المصدر السابق الصفحة نفسها.

وموقف ابن عاشور من هذا المذهب يتضح فيما ذكره من أقوال رجاله، جاء فى المقدمة الثالثة من التحرير والتنوير فى صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأى ونحوه. «قال الغزالى فى الإحياء" التدبر فى قراءة القرآن إعادة النظر فى الآية، والتفهم أن يستوضح من كل آية ما يليق بها كى تتكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تتكشف إلا للموفقين» (¬1). وفى معنى الإخلاص نقل عن الغزالى فى تفسير قوله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ (¬2). «عرّف الغزلى الإخلاص بأنه تجريد بقصد التقرب إلى الله والابتعاد عن جميع الشوائب» (¬3). ومما نقله عنه أيضا فى تفسير قوله تعالى: قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (¬4). «وقال أبو حامد الغزالى فى المقصد الأسنى: الحكيم ذو الحكمة والحكمة عبارة عن المعرفة بأفضل الأشياء، فأفضل العلوم العلم بالله وأجل الأشياء هو الله، وقد سبق أنه لا يعرف كنه معرفته غيره، وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم فهو الحكيم الحق لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم، إذ أجل العلوم هو العلم الأزلى القديم الذى لا يتصور زواله، المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها خفاء، ولا شبهة ولا يتصور ذلك إلا فى علم الله أه" (¬5). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير المقدمة الثالثة ج 1 ص 29. (¬2) سورة الزمر: الآية 3. (¬3) التحرير والتنوير ج 23 ص 378. (¬4) سورة البقرة الآية 32. (¬5) التحرير والتنوير ج 1 ص 416.

وفى تفسير قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ* إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ* يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (¬1). نقل عن الحسن البصرى: (¬2) «وأعلم أن رواية رويت عن الحسن البصرى أنه قرأ" الحبك" بكسر الحاء وضم الباء وهى غير جارية على لغة من لغات العرب» (¬3). وذكر أيضا بعض ما نسب إليه من أقوال مثل: «سورة النجم" وقيل: السورة كلها مدينة ونسب إلى الحسن البصرى: أن السورة كلها مدينة، وهو شذوذ» (¬4). وقد قرأنا منذ قليل بعض ما ذكره محيى الدين بن عربى فى تفسير" البسملة" وما يعتقدوه فيها من إشارات باطنية أو رمزية، ونرى ابن عاشور، يفسرها بعيدا عن هذه الإشارات، وذكر فى تفسيرها: ¬

_ (¬1) سورة الذاريات الآية 7، 8، 9. (¬2) هو أبو سعيد الحسن بن يسار البصرى كان من سادات التابعين وكبرائهم سنا ومقاما. وقال: لقيت من الصحابة سبعين بدريا وثلاثمائة صحابى. وكان مولده لسنتين خلتا من خلافة عمر، وكان أبوه مولى لزيد بن ثابت الأنصارى رضى الله عنه وأمه خيرة مولاة أم سلمة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم، وتغيب عنه أمه أحيانا فيبكى فتأخذ أم سلمة تعلله بثديها حتى تعود أمه، ولتكرار محاولات إسكاته در عليه ثديها فرضع منها، فهو من بيت النبوة رضاعة، ويعتبره الصوفية فى رأس سلسلة سند التصوف فهم يقولون أن الحسن أخذ الطريقة، (ولبس الخرقة) من الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه، وعلى أخذها من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من أهم مظاهر التصوف عند الحسن البصرى سيطرة الحزن والخوف من الله سبحانه وتعالى. انظر وفيات الأعيان لابن خلكان ج 2 ص 69 ترجمة د. إحسان عباس ط صادر، بيروت. (¬3) التحرير والتنوير ج 26 ص 341. (¬4) التحرير والتنوير ج 27 ص 87.

«وقال الأستاذ الإمام محمد عبده: أن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم ونحوها باسم الأب والابن والروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم، فجاءت فاتحة كتاب الإسلام بالرد عليهم موقظة لهم بأن الإله الواحد وإن تعددت أسماؤه فإنما هو تعدد الأوصاف دون تعدد المسميات، يعنى فهو رد عليهم بتغليظ وتبليد. وإذا صح أن فواتح النصارى وأدعيتهم كانت تشتمل على ذلك- إذا الناقل أمين- فهى نكتة لطيفة. وعندى أن البسملة كان ما يراد منها قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه السلام فهى من كلام الحنيفية، فقد حكى الله عن إبراهيم أنه قال لأبيه يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ (¬1) وقال سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (¬2) ومعنى الحفى قريب من معنى الرحيم. وحكى عن قوله وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (¬3) وورد ذكر مرادفها من كتاب سليمان إلى ملكة سبأ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (¬4) والمظنون أن سليمان اقتدى فى افتتاح كتابه بالبسملة بالبسملة بسنة موروثة من عهد إبراهيم جعلها إبراهيم كلمة باقية فى وارثى نبوته، وأن الله أحيا هذه السنة فى الإسلام فى جملة ما أحيا له من الحنيفية. كما قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ (¬5). ¬

_ (¬1) سورة مريم الآية 45. (¬2) سورة مريم الآية 47. (¬3) سورة البقرة الآية 128. (¬4) سورة النمل الآية 30. (¬5) التحرير والتنوير ج 1 ص 151 والآية من سورة الحج 78.

الحروف المقطعة عند ابن عاشور:

ومن المواطن التى وافقهم فيها ما ذكره فى تفسير قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (¬1). «وقد فسّر الصوفية العبادة بأنها فعل ما يرضى الرب والعبودية بالرضا بما يفعل الرب، فهى أقوى، وقال بعضهم: العبودية الوفاء بالعهود، وحفظ الود، والرضا بالموجود، والصبر على المفقود، وهذه اصطلاحات لا مشاحة فيها» (¬2). الحروف المقطعة عند ابن عاشور: كذلك قرأنا تأويل ابن عربى للحروف المقطعة وتصنيفه لهذه الحروف وطبقاتها وما ذكره عن مصادره فى هذا التأويل، ونرى ابن عاشور يذكر فى أول تفسير سورة البقرة:" الم". «تحير المفسرون فى محل هاته الحروف الواقعة فى أول هاته السور، وفى فواتح سور أخرى عدة، جميعها تسع وعشرون سورة ومعظمها من السور المكية، وكان بعضها فى ثانى سورة نزلت وهى ن وَالْقَلَمِ (¬3) وأخلق بها أن تكون مثار حيرة ومصدر أقوال متعددة وأبحاث كثيرة، ومجموع ما وقع من حروف الهجاء أوائل السور أربعة عشر حرفا وهى نصف حروف الهجاء وأكثر السور التى وقعت فيها هذه الحروف: السور المكية عدا البقرة وآل عمران، والحروف الواقعة فى السور هى- أ، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، هـ، ى بعضها تكرر فى سور وبعضها لم يتكرر، وهى من القرآن لا محالة ومن المتشابه فى تأويلها. ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة الآية 5. (¬2) التحرير والتنوير ج 1 ص 180. (¬3) سورة القلم الآية 1.

ولا خلاف أن هاته الفواتح حين ينطق بها القارئ أسماء لحروف التهجى التى ينطق فى الكلام بمسمياتها، وأن مسمياتها الأصوات المكيفة بكيفيات خاصة تحصل فى مخارج الحروف، ولذلك إنما يقول القارئ (ألف لام ميم) مثلا ولا يقول (الم). وإنما كتبوها فى المصاحف بصور الحروف التى يتهجى بها فى الكلام، ولم يكتبوها بدوالّ ما يقرءونها به فى القرآن لأن المقصود التهجى بها، وحروف التهجى تكتب بصورها لا بأسمائها. ومثل لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليه، وهذا أولى لأنه أشمل للأقوال المندرجة تحتها، وإلى هنا خلص أن الأرجح من تلك الأقوال الثلاثة وهى كونها تلك الحروف لتبكت المعاندين وتسجيلا لعجزهم عن المعارضة، أو كونها أسماء للسور الواقعة هى فيها، أو كونها أقساما أقسم بها لتشريف قدر الكتابة، وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية، وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو أولها: فإن الأقوال الثانى والسابع والثامن والثانى عشر والخامس عشر والسادس عشر يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضية من أسماء أو كلمات لكان حق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها، لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليها، وهذا أولى لأنه أشمل الأقوال، وعرفت اسميتها من دليلين: أحدهما اعتوار أحوال الأسماء عليها مثل التعرف حين تقول: الألف، والباء، ومثل الجمع حين تقول الجيمات، وحين الوصف حين تقول ألف ممدودة، والثانى ما حكاه سيبويه فى كتابه: قال الخليل يوما وسأل أصحابه كيف تلفظون بالكاف التى لك والباء التى فى ضرب، فقيل نقول كاف باء فقال: إنما جئتهم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف، وقال أقوال كه وبه «يعنى بهاء وقعت فى آخر النطق به ليعتمد عليها اللسان عند النطق إذا بقيت على حرف واحد لا يظهر فى النطق به مفردا» (¬1). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 1 ص 206 - 207.

وقد ذكر ابن عاشور فى تفسير هذه الحروف واحدا وعشرين قولا بعضها عن الخلفاء الأربعة فى روايات ضعيفة، أو عن ابن عباس، أو عن الشعبى وسفيان أو عن محمد بن القرظى والربيع بن أنس وغيرهم. ومما يلفتنا من هذه الأقوال فيما يتصل بأقوال المتصوفة ما ذكره عن ابن عربى ....... قال: «جزم الشيخ محى الدين فى الباب الثامن والتسعين والمائة فى الفصل 27 منه من كتابه الفتوحات أن هائه الحروف المقطعة فى أوائل السور أسماء للملائكة وأنها إذا تليت كانت كالنداء لملائكة، فتصغى أصحاب تلك الأسماء إلى ما يقوله التالى بعد النطق بها فيقولون صدقت إن كان ما بعدها خير، ويقولون هذا مؤمن حقا نطق حق وأخبر بحق فيستغفرون له، وهذا لم يقله غيره وهو دعوى» (¬1). وتظهر معارضة ابن عاشور لأصول هذا المذهب فيما ذكره فى تفسير قوله تعالى: قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً* أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً* وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً* فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً* وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (¬2). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 1 ص 207 - 208. (¬2) سورة الكهف الآية 78 إلى الآية 82.

«واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلا بنوا عليه قواعد موهومة. فأول ما أسسوا منها أن الخضر لم يكن نبيا وإنما كان عبدا صالحا، وإن العلم الذى أوتيه ليس وحيا ولكنه إلهام، وأن تصرفه الذى تصرفه فى الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية، وأن الخضر منحه الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعا لتلقى العلوم الباطنية، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقيه. وبنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحى، وسموه الوحى الإلهامى، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام، وقد فصله الشيخ محى الدين بن العربى فى الباب الخامس والثمانين من كتابه" الفتوحات المكية" وبيّن الفرق بينه وبين وحى الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منثورة فى الأبواب الثالث والسبعين والثامن والستين بعد المائتين. والرابع والستين بعد ثلاثمائة، وجزم بأن هذا الوحى الإلهامى لا يكون مخالفا للشريعة، وأطال فى ذلك، ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز. وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجة، وعرّفوه بأنه إيقاع شىء فى القلب يثلج له الصدر، وأبطلوا كونه حجة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوما، ولتفاوت مراتب الكشف عندهم، وقد تعرض لها النسفى فى عقائده، وكل ما قاله النسفى فى ذلك حق ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط» (¬1). فكون الخضر ليس نبيا وأجله فى الدنيا محدود بزمن، وإنما هو عبد صالح منحه الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعا لتلقى العلوم الباطنية، ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 16 ص 15، 16.

ثانيا: الاعتزال:

ويظهر لأهل المراتب العلي فى الأولياء ..... فذلك من القواعد الموهومة التى أسسوها، ولا يخلو ما قاله ابن عربى فى" الفتوحات" عن الوحى الإلهامى من غموض ورموز، وقد أبطل العلماء ما يسمى" الإلهام حجة" لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوما، ولتفاوت مراتب الكشف، أى أن" الحقيقة" التى تظهر للصوفى فى كل مرتبة يمر بها تختلف عن المراتب الأخرى، والشريعة لا تقوم إلا على أصول ثابتة ودلائل واضحة. ثانيا: الاعتزال: إذا كان المتصوفة قد أسسوا تفسيرهم للقرآن الكريم على أن لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع، ووجوب الجمع بين الظاهر والباطن، وعدم جواز التفسير الباطنى إلا لأهل الكشف، فإن المعتزلة أقاموا تفسيرهم على" التأويل" وأبرز مقومات هذا التأويل هو التوسع اللغوى. يقول الدكتور مصطفى الصاوى الجوينى: «إن المعتزلة ترى أن اللغة مجاز فى الأغلب، وهم يدينون بالتوسع اللغوى فى التعبير ليلين لقولهم تأويل النصوص ويطّوع» (¬1). ويذكر اجنتس جولد تسيهر أن المعتزلة: «أسسوا مذهبهم على نصوص القرآن من ناحية، وإضعاف الحجج المقامة عليهم من تلك النصوص عن طريق الحذق فى تأويلها واستخدامها فى تأييد مذهبهم الخاص» (¬2). ويقول فى موضع آخر: «سيكون من قبيل الافتراض الخاطئ أن نظن أن المعتزلة كان همهم فى تفسير القرآن التنصل عن قصد من النقل، والإقدام ¬

_ (¬1) منهج الزمخشرى فى تفسير وبيان إعجازه ص 244 دار المعارف مصر 1959 م. وانظر: عبد الرحمن بن على بن محمد بن على الجوزى" ت 597 هـ" المدهش فى علوم القرآن والحديث واللغة وعيون التاريخ والوعظ ص 23 مطبعة الآداب- بغداد 1348 هـ. (¬2) مذاهب التفسير الإسلامى ص 122 دار اقرأ ط 3 بيروت- لبنان 1405 هـ- 1985 م.

1 - التوحيد:

على فهم النص باتجاه نقدى حر، ولا يجوز بنا أن نغفل الحقيقة الواقعة من أنهم لم يصدروا عن حرية الرأى، بل عن الورع والتقوى» (¬1). وأصول هذا المذهب: العدل، والتوحيد، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهم يفسرون العدل والتوحيد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وما يتعلق بها تفسيرا يتفق مع مذهبهم، إذ أن ظاهر أصولهم فى هذه المسائل يتفق مع «أصول أهل الصلاة من أهل السنة والجماعة كما يقول الملطى، وهو يقصد بهذا القول أن لأهل السنة أيضا مواقف بصدد العدل والتوحيد والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن هذه المواقف تتفق مع مذهبهم فى الأصول، ومعنى هذا أن أهل السنة والمعتزلة على السواء يسلمون بالأصول الأربعة الأولى، مع اختلاف أسلوب التفسير والفهم عند كل من الفريقين، وتبقى بعد هذا المنزلة بين المنزلتين كأصل يختص به المعتزلة وحدهم» (¬2). 1 - التوحيد: هو الأصل الأول من أصولهم، والذى أدّى بهم إلى" التأويل" بالمفهوم الاعتزالى، ويقول الدكتور أبو ريان: " هو أهم هذه الأصول الخمسة وإليه ترجع سائر الأصول، وقد دافع المعتزلة عن وحدانية الله وردوا على المجوسية القائلين بإلهين، وأثبتوا وجود إله قديم واحد لا شريك له، كما ردوا على الدهرية الذين أنكروا وجود الصانع (الله). ¬

_ (¬1) مذاهب التفسير الإسلامى ص 133 - 134 دار إقراط 3 بيروت- لبنان 1405 هـ- 1985 م. (¬2) دكتور محمد على أبو ريان، تاريخ الفكر الفلسفى فى الإسلام ص 154 دار النهضة العربية بيروت- لبنان 1976 م.

2 - العدل:

كذلك فقد أثبتوا وحدة الذات الإلهية، فنفوا الصفات الزائدة عن الذات لأنها تؤدى إلى الشرك، ولهذا سموا بالمعطلة، وهم يقولون أن الله عالم بذاته لا بعلم زائد لا يعلم زائد على الذات، وكذلك فقد نزهوا الله عن التشبيه بصفات الإنسان، وبهذا أوّلوا جميع آيات التشبيه الواردة فى القرآن، وأنكروا رؤية الله فى الآخرة لأنها تؤدى إلى التشبيه إذ كيف ترى الباصرة روحا مطلقا. (¬1) 2 - العدل: هو الأصل الثانى عندهم، ويطلق عليهم حيانا أهل العدل والتوحيد، وإذا أريد تمييزهم عن غيرهم من المذاهب الأخرى يطلق عليهم" العدلية" .. يقول أبو ريان: «المعتزلة هم أهل العدل والتوحيد، وليس هناك مسلم أيا كانت دعواه لا يؤمن بالعدل الإلهى، ولكن الفضل يعزى إلى المعتزلة فى تعميق مفاهيم المسلمين عن العدالة الإلهية استجابة لدواعى العقل والمنطق، فهم فى هذه المسألة مثلهم فى مسألة التوحيد يتمسكون بدعوى العقل وبضرورة قضاياه، ويغفلون أمرا هاما طالما أوقعهم فى تناقص صريح مع أنفسهم، ذلك أنهم بينما يرفضون النظر إلى الذات الإلهية، على المستوى الإنسانى من حيث الجوهر ¬

_ (¬1) دكتور محمد على أبو ريان تاريخ الفكر الفلسفى فى الإسلام ص 161. وانظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار بن أحمد- تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان" التوحيد" ص 149 - 298 وراجع مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعرى (ت 330 هـ) تحقيق محمد محى الدين عبد الحميد مكتبة النهضة المصرية 1950 م. وانظر المغنى فى أبواب التوحيد والعدل: القاضى عبد الجبار" ت 415 هـ" تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود، الدكتور سليمان دينا الدار المصرية للتأليف والترجمة، ونسخة أخرى تحقيق أمين الخولى- مطبعة دار الكتب- القاهرة 1960 م.

3 - الوعد والوعيد:

والطبيعة نجدهم من ناحية أخرى يخضعون القدرة الإلهية لموازين المنطق العقلى الإنسانى ويتصورون أن ثمت حتمية عقلية يخضع لها الفعل الإلهى، فكيف يمكن للعقل الإنسانى بمنطقة المحدود أن يدرك المنطق الإلهى وأقضيته، ونحن عاجزون عن تتبع الأسباب الحقيقية لأفعالنا الإنسانية المحدودة؟! وعلى أية حال فإن المعتزلة كما حكّموا العقل فى مسألة التوحيد نراهم يفعلون نفس الشيء فى مسألة العدل الإلهى، فهم يرون أن العدل من صفات الله أما الظلم والجوار فهما منفيان عنه تعالى، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (¬1). 3 - الوعد والوعيد: وأساسه ما وعد الله به حق نافذ، وما توعد به حق نازل، ويقول الشيخ الذهبى عن هذا الأصل: «مضمونه، أن الله يجازى من أحسن بالإحسان، ومن أساء بالسوء، ولا يغفر لمرتكب الكبيرة ما لم يتب، ولا يقبل فى أهل الكبائر شفاعة، ولا يخرج أحد منهم من النار. وأوضح من هذا أنهم يقولون: إنه يجب على الرب أن يثيب المطيع ويعاقب مرتكب الكبيرة، فصاحب الكبيرة إذا مات ولم يتب لا يجوز أن يعفو الله عنه، لأنه أوعد بالعقاب على الكبائر، وأخبر به. فلو لم يعاقب لزم الخلف فى وعيده، وهم يعنون بذلك أن الثواب على الطاعات، والعقاب على المعاصى قانون حتمى التزم الله به، كما قالوا: إن ¬

_ (¬1) دكتور محمد على أبو ريان تاريخ الفكر الفلسفى فى الإسلام ص 165 - 166 والآيتان: سورة فصلت: الآية 46، سورة النحل الآية: 8.

4 - المنزلة بين المنزلتين:

مرتكب الكبيرة مخلد فى النار، ولو صدّق بوحدانية الله وآمن برسله، لقوله تعالى فى الآية (81) من سورة البقرة. بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (¬1) 4 - المنزلة بين المنزلتين: عن هذا الأصل يقول ابن حزم الظاهرى:" عرف المعتزلة بأنهم أصحاب القول بالمنزلة بين المنزلتين، وربما كان هذا القول سبب اعتزالهم، وقد عرّفوا الإيمان بأنه معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، وأن كل عمل- فرضا كان أو نفلا- إنما يدخل تحت الإيمان، كلما ازداد الإنسان خيرا ازداد إيمانا، وكلما عصى نقص إيمانه (¬2). ومن الروايات التى ذكرت فى سبب ظهور المعتزلة وتسميتهم بهذا الاسم ما ذكره واصل بن عطاء فى حلقة الحسن البصرى حين دخل أحد السائلين فقال: «يا إمام الدين، لقد ظهرت فى زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركنا من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا فى ذلك اعتقادا؟ فتفكر ¬

_ (¬1) محمد حسين الذهبى التفسير والمفسرون ص 369 ج 1 دار القلم بيروت- لبنان ط 1. (¬2) أبو محمد على بن أحمد بن حزم الظاهرى" ت 456 هـ" الفصل فى الملل والأهواء والنحل ج 4 ص 188 المطبعة الأدبية- القاهرة 1317 هـ.

5 - الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:

الحسن فى ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول مؤمن مطلقا، ولا كافرا مطلقا، بل هو فى منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد يقرر ما أجاب فأجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل. فسمى هو وأصحابه معتزلة» (¬1). 5 - الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: وهو الأصل الذى حاول بعض المعتزلة من خلال تطبيقه فرض معتقداتهم على جمهور المسلمين على الرغم مما يقول به المعتزلة من إعلاء دور العقل وحرية الفكر و «يقضى هذا المبدأ بمجاهدة كل من خالف حكم الله وأوامره ونواهيه تحقيقا للآية الكريمة: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (¬2). وقد رأى جمهور المعتزلة أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يجب أن يبدأ بالقلب، ثم يدرج إلى استخدام اللسان أولا، ثم استعمال اليد ثانية أى استخدام القوة. وقد طبقوا هذا المبدأ إبان محنة خلق القرآن، واعتبروه فرض عين لا فرض كفاية، لكن فريقا منهم لم يتشدد فى تطبيقه مخافة أن يزجوا بأنفسهم فى غمار حلبة الصراع السياسى. وقالوا: لا يصلح له إلا من علم المعروف ونهى عن المنكر وعلم كيف يرتب الأمر فى إقامته وكيف يباشره (¬3). ¬

_ (¬1) أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن بكر أحمد الشهرستانى" ت 548 هـ" الملل والنحل ج 1 ص 48 تحقيق محمد سعيد كيلانى، القاهرة 1977 م. (¬2) سورة آل عمران الآية 104. (¬3) دكتور محمد على أبو ريان تاريخ الفكر الفلسفى فى الإسلام ص 170 - 171. وانظر عبد القاهر بن طاهر البغدادى" ت 429 هـ" الفرق بين الفرق تقديم وتعليق عبد الرءوف سعد مؤسسة الحلبى- القاهرة.

هذه هى بعض الأضواء على تلك الأصول، وقد تفرع منها الكثير من القضايا التى أثيرت فى مجال العقيدة، أو السياسة، أو الفكر، أو الخصومة مع المذاهب الأخرى، مثل خلق القرآن، ورؤية الله تعالى، وأفعال العباد، والحسن والقبيح العقليين، والكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التاويل للزمخشرى يعد عمدة كتب التفسير الاعتزالى وأشهرها، وأعجب به كثيرون، وقام بشرحه علماء من الشرق والغرب، واختصره بعضهم، ونقل منه بعضهم الآخر (¬1)، وكتبت فيه أبحاث مطولة تظهر قيمته العلمية ومناحيه البلاغية، وسخط عليه كثيرون وحذروا منه لما يوحيه من نصرة المذهب الاعتزالى والطعن فى أولياء الله تعالى، وفيما أطلقه صاحبه من أسماء وصفات على أهل السنة والجماعة على سبيل التعريض (¬2). ونقول ابن عاشور من هذا التفسير كثيرة متنوعة خصوصا فيما يتصل بالتفسير وعلومه، أو بالبلاغة وفنونها، أو النحو ومساءلة، أو اللغة ودلالات ألفاظها إذا كان هناك اتفاق أو تطابق فى الآراء. وتبرز معارضة ابن عاشور للمذهب الاعتزالى بعامة وللزمخشرى بخاصة إذا لم يكن هناك تطابق فى الآراء وتباعدت وجوه الاختلاف. ¬

_ (¬1) ذكر أبو على الفضل بن الحسن الطبرسى:" فإنى لما فرغت من كتابى الكبير فى التفسير المرسوم بمجمع البيان لعلوم القرآن ثم عثرت من بعد بالكتاب" الكشاف لحقائق التنزيل، لجار الله العلامة، واستصلحت من بدائع معانيه، وروائع ألفاظه ومبانيه، ما لا يلقى مثله فى كتاب مجتمع الأطراف، ورأيت أن أسمه وأسميه بالكافى الشافى" جوامع الجامع ج 1 ص 12 دار الأضواء بيروت- لبنان ط 1 1405 هـ- 1985 م. وانظر ابن تميمة مقدمة فى أصول التفسير ص 36. (¬2) انظر ملا كاتب شلبى كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون ج 2 ص 176 وما بعدها مكتبة العالم، نظارة المعارف الناشر حسن حلمى 1310 م.

ومن أمثلة هذه النقول التى تعبر عن الاتفاق او التطابق ما ذكره فى المقدمة الأولى من المقدمات العشر التى تصدرت تفسيره: " قال العلامة الزمخشرى فى خطبة الكشاف" الحمد لله الذى أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما، ونزّله على حسب المصالح منجما، فقال المحققون فى شراحه، جمع بين أنزل ونزّل لما فى نزّل من الدلالة على التكثير، والذى يناسب ما أراده العلامة فى التدريج والتنجيم، وأنا أرى أن استفادة معنى التكثير فى حال استعمال التضعيف للتعدية أمر من مستتبعات الكلام حاصل من قرينة عدول المتكلم البليغ عن المهموز الذى هو خفيف إلى المضعف الذى هو ثقيل، فذلك العدول قرينة على المراد وكذلك الجمع بينهما فى مثل كلام الكشاف قرينة على إرادة التكثير» (¬1). ونقل عن الزمخشرى ما ذكره فى شروط المتصدى لتفسير كتاب الله، ودور علم المعانى وعلم البيان فى هذا الميدان، فضلا على العلوم الأخرى: " قال فى الكشاف: علم التفسير الذى لا يتم تعاطيه وإجالة النظر فيه لكل ذى علم، فالفقيه وإن برز على الأقران فى علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بزّ أهل الدنيا فى صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصرى أوعظ، والنحوى وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوى وإن علل اللغات بقوة لحييه، لا يتعدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شىء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع فى علمين مختصين بالقرآن وهما علمى البيان والمعانى أهـ" (¬2). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 1 المقدمة الأولى ص 11. (¬2) التحرير والتنوير ج 1 المقدمة الثانية ص 19.

ومما نقله ابن عاشور من تفسير الزمخشرى لبعض الآيات مثل ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (¬1). «قال فى اكشاف قوله ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ليس ببيان لتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المؤولين، أى أن المسئولين يقولون للسائلين قلنا لهم ما سلككم فى سقر قالوا لم نك من المصلين» أهـ (¬2). وقوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (¬3). «الثانى ما ذكره صاحب الكشاف أن" يُخادِعُونَ" استعارة تمثيلية تشبيها للهيئة الحاصلة من معاملتهم للمؤمنين ولدين الله، ومن معاملة الله إياهم فى الإملاء لهم والإلقاء عليهم، ومعاملة المؤمنين إياهم فى إجراء أحكام المسلمين عليهم، بهيئة فعل المتخادعين» (¬4). وقوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (¬5). «قال فى الكشاف:" لا يجوز أن يكون هذا التشبيه فى المركب والمفرق بأن صور حال المشرك بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته ¬

_ (¬1) سورة المدثر الآية 42. (¬2) التحرير والتنوير ج 1 المقدمة العاشرة ص 122. (¬3) سورة البقرة الآية 9. (¬4) التحرير والتنوير ج 1 ص 227. (¬5) سورة الحج الآية 31.

الطير فتفرق فرعا فى حواصلها، أو عصفت به الريح التى هوت به فى بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان فى علوه بالسماء، والذى ترك الإيمان، وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التى تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذى يطوح به فى وادى الضلالة بالريح التى تهوى بما عصفت به فى وادى الضلالة بالريح التى تهوى بما عصفت به فى بعض المهاوى المتلفة» أهـ. يعنى أن المشرك لما عدل عن الإيمان الفطرى وكان فى مكنته فكأنه كان فى السماء فسقط منها، فتوزعته أنواع المهالك. ولا يخفى عليك أن فى مطاوى هذا التمثيل تشبيهات كثيرة لا يعوزك استخراجها» (¬1). وقوله تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (¬2). قال صاحب الكشاف: ألزمهم الله الحجة فى هذه الآيات أى قوله: (أفلم يدبروا القول) (¬3). وقوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (¬4). والظهير: المظاهر، أى المعين، وتقدم فى قوله تعالى: وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً فى سورة الإسراء وهو فعيل بمعنى مفاعل، أى مظاهر مثل حكيم بمعنى محكم وعوين بمعنى معاون. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 17 ص 254. (¬2) سورة المؤمنون الآية 72. (¬3) التحرير والتنوير ج 18 ص 97، والآية من سورة" المؤمنون": 68. (¬4) سورة الفرقان الآية 55.

وقوله عمر بن معد يكرب: أمن ريحانة الداعى السميع أى المسمع: قال فى الكشاف" ومجىء فعيل بمعنى فاعل غير عزيز" (¬1) وقوله تعالى: وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (¬2). " وجعل صاحب الكشاف جملة" وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ" معترضة، وعليه فالواو اعتراضية غير عاطفة وأن ضمير" لِتَكُونَ" عائد إلى المرة من فعل كفا أى الكفة (¬3). وقوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ (¬4). «وقال الزمخشرى: الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأولية والآخرية. والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء، وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين» أهـ (¬5). وقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً* وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (¬6). «وفى الكشاف: وفعال فعل كله فاشى فى الكلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره» (¬7). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 19 ص 57. (¬2) سورة الفتح الآية 20. (¬3) التحرير والتنوير ج 26 ص 179. (¬4) سورة الحديد الآية 3. (¬5) التحرير والتنوير ج 27 ص 363. (¬6) سورة النبأ الآية 27 - 28. (¬7) التحرير والتنوير ج 30 ص 41.

وهذه النقول وأمثالها لا تخرج عن كونها نقاط اتفاق بعيدة عن التأويل الاعتزالى ومراميه. ففي قوله تعالى: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ...... الآية توضيح لمعنى السؤال وإجابته، وفى قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ ...... الآية توضيح لمعنى" يخادعون" وتصوير حال المخالفين ومعاملة المؤمنين لهم، وفى قوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ ..... تفسير لما ذكرته الآية من أحوال المشرك بالله وتوزع أنواع المهالك له. والنقول الأخرى لا تتعدى كونها توضيحا لمعنى قول أو كلمة أو جملة أو دلالة لفظة ووزنها واعتبار فصاحتها. وأياما كان الأمر فإن هذه النقول التى اعتبرت من نقاط الالتقاء أو الاتفاق تتصل بنحو أو بآخر بعلوم اللغة والأعراب والبيان والمعانى، وهى من العلوم التى برع فيها صاحب الكشاف، ولفتت أنظار العلماء إليه، وزادوا فى إعجابهم به، وابن عاشور حين استعان بأقوال الكشاف فيما يتصل بعلوم التفسير كان من هؤلاء العلماء الذين أعجبوا به، ولكنه إعجاب منوط بشروط لا يتجاوزها. ففي قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (¬1). ¬

_ - انظر أمثلة أخرى: ج 1 ص 118، ج 19 ص 91. ج 19 ص 230، ج 3 ص 324. ج 25 ص 51، ج 27 ص 346. (¬1) سورة القيامة: الآية 22 - 25.

ذكر ابن عاشور: «وأخبر عنها خبرا ثابتا بقوله" إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، وظاهر لفظ" ناظِرَةٌ" أنه من نظر بمعنى، عاين ببصره إعلانا بتشريف تلك الوجوه أنها تنظر إلى جانب الله تعالى نظرا خاصا لا يشاركها فيه من يكون دون رتبهم، فهذا معنى الآية بإجماله ثابت بظاهر القرآن وقد أيدتها الأخبار الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم. فقد روى البخارى ومسلم عن أبى سعيد الخدرى وأبى هريرة" أن أناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون فى رؤية الشمس والقمر إذا كان صحوا؟ قلنا: لا: قال: فإنكم لا تضارون فى رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون فى رؤيتهما" وفى رواية" فإنكم ترونه كذلك" وساق الحديث فى الشفاعة. وروى البخارى عن جرير بن عبد الله قال:" كنا جلوسا عند النبى صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: أنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون فى رؤيته" وبما قال" سترون ربكم عيانا". " روى مسلم عن صهيب بن سنان عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:" إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبين وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار، وقال: فيكشف الحجاب فما يعطون شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم" فدلالة الآية على أن المؤمنين يرون بأبصارهم رؤية متعلقة بذات الله على الإجمال دلالة ظنية لاحتمالها تأويلات تأولها المعتزلة بأن المقصود رؤية جلاله، وبهمة قدسه التى لا تخول رؤيتها لغير أهل السعادة. ويلحق هذا بمتشابه الصفات، وإن كان مقتضاه ليس إثبات صفة، ولكنه يؤول إلى الصفة ويستلزمها لأنه آيل إلى

اقتضاء جهة الذات، ومقدار يحاط بجميعه أو ببعضه إذا كانت الرؤية بصرية، فلا جرم أن يعد الوعد برؤية أهل الجنة ربهم تعالى من قبيل المتشابه». " ولعلماء الإسلام فى ذلك أفهام مختلفة، فأما صدر الأمة وسلفها فإنهم جروا على طريقتهم التى تخلقوا بها من سيرة النبى صلى الله عليه وسلم من الإيمان بما ورد من هذا القبيل على إجماله، وصرف أنظارهم عن التعمق فى تشخيص حقيقته وأدرجه تحت أحد أقسام الحكم العقلى، فقد سمعوا هذا ونظائره كلها أو بعضها أو قليلا منها، فما شغلوا أنفسهم به ولا طلبوا تفصيله، ولكنهم انصرفوا إلى ما هو أحق بالعناية وهو التهمم بإقامة الشريعة وبثها وتقرير سلطانها، مع الجزم بتنزيه الله تعالى عن اللوازم العارضة لظواهر تلك الصفات، جاعلين إمامهم المرجوع إليه فى كل هذا قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (¬1). أو ما يقارب هذا من دلائل التنزيه الخاصة بالتنزيه عن بعض ما ورد الوصف به مثل قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (¬2) بالنسبة إلى مقامنا هذا مع اتفاقهم على عدم العلم بتفصيل ذلك لا يقدح فى عقيدة الإيمان، فلما نبع فى علماء الإسلام تطلب معرفة حقائق الأشياء وألجأهم البحث العلمى إلى التعمق فى معانى القرآن ودقائق عباراته وخصوصيات بلاغته، لم يروا طريقة السلف مقنعة لأفهام أهل العلم من الخلف لأن طريقتهم فى العلم طريقة تمحيص وهى اللائقة بعصرهم، وقارن ذلك ما حدث فى فرق الأمة الإسلامية من النحل الاعتقادية، والقاء شبه الملاحدة على المنتمين إلى الإسلام وغيرهم، وحدا بهم ذلك إلى ¬

_ (¬1) سورة الشورى الآية 11. (¬2) سورة الأنعام الآية 103.

الغوص والتعمق لإقامة المعارف على أعمدة لا تقبل التزلزل، ولدفع شبه المتشككين ورد مطاعن الملحدين، فسلكوا مسالك الجمع بين المتعارضات من أقوال ومعان وإقرار كل حقيقة فى نصابها، وذلك بالتأويل الذى يقتضيه المقتضى ويعضده الدليل، فسلكت جماعات مسالك التأويل الإجمالى بأن يعتقدوا تلك المتشابهات على إجمالها، ويوقنوا بالتنزيه عن ظواهرها ولكنهم لا يفصلون صرفها عن ظواهرها، بل يجملون التأويل، وهذه الطائفة تدعى السلفية تقرب طريقتها من طريقة السلف فى المتشابهات، وهذه الجماعات متفاوتة فى مقدار تأصيل أصولها تفاوتا جعلها فرقا فمنهم الحنابلة، والظاهرية والخوارج الأقدمون غير الذين التزموا طريقة المعتزلة» (¬1). وما يلفتنا فيما ذكره ابن عاشور فى تفسير هذه الآية أن" ناظرة" من نظر بمعنى عاين ببصره إعلانا بتشريف تلك الوجوه أنها تنظر إلى جانب الله تعالى نظرا خاصا لا يشاركها فيه من يكون دون رتبتهم. وراح يؤيد [الرؤية] بأخبار واردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فما رواه البخارى ومسلم فى صحيحهما، ولكنها أخبار تعنى أن الرؤية رؤية عين، خصوصا ما رواه البخارى عن جرير بن عبد الله:" إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون فى رؤيته وربما قال: سترون ربكم عيانا". وما أبهم علينا فيما ذكره ابن عاشور فى تفسيره لهذه الآية قوله:" فهذا معنى الآية بإجماله بظاهر القرآن"، ثم قوله بعد ذلك:" فدلالة الآية على الإجمال دلالة ظنية لاحتمالها تأويلات تأولها المعتزلة". فثبوت المعنى بظاهر القرآن- كما يقول- هو دلالة قطعية لا ظنية خصوصا إذا أيدته الأخبار الواردة عن أعلى مراتب الحجية والتوثيق. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 29 ص 353.

أما قول المعتزلة: «فلا جرم أن بعد الوعد برؤية أهل الجنة ربهم تعالى من قبيل المتشابه» (¬1) فقول مردود تفنده روايات البخارى ومسلم، كما أن" الرؤية" مرتبة تشريف وجزاء للمؤمنين الذين ابيضت وجوههم، ولا شىء أحب إليهم من النظر إلى ربهم، ولا يعقل أن يكون هذا الجزاء الكريم مما يغمض على الأذهان أو القلوب التى تسعى إلى هذه الرتبة. أما قوله عن علماء الإسلام الذين لم يروا طريقة السلف مقنعة لأفهام أهل العلم من الخلف: " فسلكوا مسالك الجمع بين المتعارضات من أقوال ومعان وإقرار كل حقيقة فى نصابها، وذلك بالتأويل الذى يقتضيه المقتضى يعضده الدليل .... ولكنهم لا يفصلون صرفها عن ظواهرها بل يجملون التأويل". فهى مسالك قد وضعوا لها معايير لتفسير أمثال هذه الآية وتبعد بها عن التأويلات التى تخرجها عن معناها المقصود الذى يخاطب الله به عباده. ... ومما أورده ابن عاشور من معان وروايات وأقوال مما يصح اعتباره أنه من نقاط الخلاف بينه وبين المذهب الاعتزالى. جاء فى الكشاف فى تفسير هذه الآية:" إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ" أن المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ¬

_ (¬1) فيما ورد من أقوال عن المحكم والمتشابه: أ- المحكم: ما عرف المراد منه، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه. ب- المحكم: ما لا يحتمل إلا وجها واحدا، والمتشابه ما احتمل أوجها. ج- المحكم: ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان، والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه واحتاج إلى بيان برده إلى غيره. الشيخ مناع القطان مباحث فى علوم ص 216 مؤسسة الرسالة بيروت- لبنان ط 22. راجع" رسائل ابن تميمة" عن المحكم والمتشابه والتأويل.

فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظور إليه محال، فوجب حمله على معنى الاختصاص، والذى يصح معه أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بى، يريد معنى التوقع والرجاء» (¬1). والزمخشرى ينفى الرؤية، ويصرف المعنى إلى الاختصاص الذى يتضمن التوقع والرجاء، وهو على النقيض مما ذهب إليه ابن عاشور نفسه حين قال فى صدر تفسير هذه الآية" لأنه من نظر بمعنى عاين ببصره" والآية السابقة، والأحاديث التى ساقها ابن عاشور فى تفسيره لها تذهب إلى أن" الرؤية" رؤية معاينة، ولكنها لم تذهب إلى" كيف" والإيمان بها- والله أعلم- على هذا النحو واجب، وهو ما قصده علماء الإسلام الذين تحدث عنهم ابن عاشور فيما سبق أنهم" يجملون التأويل". وفى معنى" اليمين" ذكر ابن عاشور فى تفسير قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (¬2). والباء فى" بِيَمِينِهِ" للآلة والسببية. واليمين: وصف لليد ولا يد هنا وإنما هى كناية عن القدرة لأن العمل يكون باليد اليمين، قال الشاعر أنشده الفراء والمبرد، وقال القرطبى: ولما رأيت الشمس أشرق نورها ... تناولت منها حاجتى بيمين أى بقدرة. وضمير (منها) يعود على مذكور فى أبيات قبله. والمقصود من هاتين الجملتين تمثيل عظمة الله تعالى بحال من أخذ ¬

_ (¬1) الكشاف، المجلد الرابع، ص 192 دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت- لبنان. (¬2) سورة الزمر الآية 67.

الأرض فى قبضته ومن كانت السماوات مطويّة أفلاكها وآفاقها بيده تشبيه المعقول بالمتخيل، وهى تمثيلية تنحلّ أجزاؤها إلى استعارتين، فيها دلالة على أن الأرض والسماوات باقية غير مضمحلة، ولكن نظامها المعهود اعتراه تعطيل، وفى الصحيح عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله عليه وسلم يقول: «يقبض الله الأرض ويطوى السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك، أين ملوك الأرض». وعن عبد الله بن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنّا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع. فيقول أنا الملك، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» (¬1). ويقول فى آخر تفسيره لهذه الآية: «إنما كان ضحك النبى- صلى الله عليه وسلم- استهزاء بالحبر فى ظنه أن الله يفعل ذلك حقيقة وأن له يدا وأصابع حسب اعتقاد اليهود التجسيم، ولذلك أعقبه بقراءة" وما قدروا الله حق قدره" لأن افتتاحها يشتمل على إبطال ما توهمه الحبر ونظراؤه فى الجسمية، وذلك معروف من اعقادهم، وقد ردّه القرآن عليهم غير مرة مما هو معلوم، فلم يحتج النبى- ص- إلى التصريح بإبطاله، واكتفى بالإشارة التى يفهمها المؤمنون، ثم أشار إلى ما توهمه اليهودى توزيعا على الأصابع إنما هو مجاز عن الأخذ والتصرف» (¬2). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 24 ص 63 (¬2) المرجع نفسه والصفحة نفسها

والزمخشرى فى تفسيره: «والغرض من هذا الكلام إذا أخذته بجملته ومجموعه تصوير عظمته، والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقية، أو جهة مجاز» (¬1). وفحوى كلام ابن عاشور فى تفسير هذه الآية أن معنى" اليمين" وصف لليد، ولا يد هنا. وإنما هى كناية عن القدرة، واستشهد على هذا المعنى بما أنشده الفراء والمبرد وما ذكره القرطبى: ومقصود هاتين الجلتين تمثيل لعظمة الله تعالى. وفيما أورده من حديث أبى هريرة" يطوى السموات بيمينه"، وما ذكره فى آخر تفسيره للآية، واستهزاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالحبر اليهودى حين ظن أن الله يفعل ذلك حقيقة، وأن له يدا وأصابع حسب اعتقاد اليهود التجسيم، وما توهمه اليهودى توزيعا على الأصابع إنما هو مجاز عن الأخذ والتصرف. وأياما كان الأمر فإن ابن عاشور قد ذهب إلى صرف معنى" اليد" إلى معنى مجازى، ودرا فهمه لحديث الرسول" صلى الله عليه وسلم" الذى رواه ابن مسعود على هذا النحو. ومهما يكن من شىء، فإن الزمخشرى وابن عاشور يهدفان إلى تنزيه الله تعالى عن أن يشابه المخلوقين، ف" اليد" التى نعلمها بالضرورة، ولا نعلم كيفيتها، هى عند ابن عاشور القدرة، وعند الزمخشرى إذا أخذنا الكلام بجملته ومجموعة تصوير عظمة الله تعالى والتوفيق على كنه جلاله ... يقصد صرف اللفظ، أو تأويل المعنى إلى ما يتفق مع مذهبه (¬2). ¬

_ (¬1) الكشاف المجلد الثالث ص 408 دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت- لبنان. (¬2) انظر تفسير التحرير والتنوير ج 6 ص 248. تفسير قوله تعالى:" وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا، بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ" المائدة: 64.-

يقول الشيخ القطان عن مثل هذا التأويل: «إنما لجأ إليه كثير من المتأخرين مبالغة منهم فى تنزيه الله تعالى عن مماثلته للمخلوقين كما يزعمون، وهذا زعم باطل أوقفهم فى مثل ما هربوا منه وأشد، فهم حين يؤلون اليد بالقدرة مثلا إنما قصدوا الفرار من أن يثبتوا للخالق يدا لأن للمخلوقين يدا، فاشتبه عليهم لفظ اليد فأولوها بالقدرة، وذلك تناقض منهم، لأنهم يلزمهم فى المعنى الذى نفوه، لأن العباد لهم قدرة أيضا، فإن كان ما أثبتوه من القدرة حقا ممكنا كان إثبات اليد لله حقا ممكنا أيضا، وأن كان إثبات اليد باطلا ممتنعا لما يلزمه من التشبيه فى زعمهم كان إثبات القدرة باطلا ممتنعا أيضا، وما جاء عن أئمة السلف وغيرهم من ذم للمتأولين إنما هو لمثل هؤلاء الذين تأولوا ما يشتبه عليهم معناه على غير تأويله وإن كان لا يشتبه على غيرهم» (¬1). وفى قوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (¬2). ذكر ابن عاشور: «والمعنى أن مصير من على الأرض إلى الفناء، وهذا تذكير بالموت وما بعده من الجزاء. و" وجه ربك" ذاته، فذكر الوجه هنا جار على عرف كلام العرب، قال فى الكشاف: والوجه يعبر به عن الجملة والذات» أهـ. ¬

_ - وانظر التحرير والتنوير ج 29 ص 15 تفسير قوله تعالى" تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" الملك: 1. (¬1) الشيخ مناع القطان مباحث فى علوم القرآن ص 219 - 200. (¬2) سورة الرحمن: الآية 27.

وقد أضيف إلى اسمه تعالى لفظ الوجه بمعان مختلفة منها ما هنا، ومنها قوله: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (¬1) وقوله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ (¬2). وقد علم السامعون أن الله تعالى يستحيل أن يكون له وجه بالمعنى الحقيقى، وهو الجزء الذى فى الرأس. واصطلح علماء العقائد على تسمية مثل هذا" المتشابه" وكان السلف يحجمون عن الخوض فى ذلك مع اليقين باستحالة ظاهرة على الله تعالى، ثم تناوله علماء التابعين ومن بعدهم بالتأويل تدريجا إلى أن اتضح وجه التأويل بالجرى على قواعد علم المعانى فزال الخفاء، واندفع الجفاء. وضمير المخاطب فى قوله" وجه ربك" خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، والمقصود تبليغه إلى الذين يتلى عليهم القرآن ليتذكروا ويعتبروا. ويجوز أن يكون خطابا لغير معين ليعم كل مخاطب. ولما كان الوجه هنا بمعنى الذات وصف ب" ذُو الْجَلالِ"، أى العظمة" وَالْإِكْرامِ" أى المنعم على عبادة، وإلا فإن الوجه الحقيقى لا يضاف للإكرام فى عرف اللغة، وإنما يضاف للإكرام اليد، أى فهو لا يفقد عبيده جلاله وإكرامه، وقد دخل فى الجلال جميع الصفات الراجعة إلى التنزيه عن النقص وفى الإكرام جميع صفات الكمال الوجودية وصفات الجمال كالإحسان (¬3). وذكر الكشاف فى تفسيره هذه الآية: " وَجْهُ رَبِّكَ" ذاته، والوجه يعبر به عن الجملة والذات، ومساكين مكة يقولون:" أين وجه عربى كريم ينقذنى من الهوان" ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 115. (¬2) سورة الإنسان الآية 9. (¬3) التحرير والتنوير ج 27 ص 203، 254.

وهذا على نحو أو آخر يعد تطابقا فيما ذهب إليه ابن عاشور والزمخشرى، حيث انتهى كل منهما إلى أن" الوجه" تعبير عن الذات. وقد جرى ابن عاشور فى تفسيره لمثل هذه الآيات على هذا النحو (¬1)، ولا خلاف بينه وبين الزمخشرى، قد يسهب صاحب التحرير والتنوير، وقد يوجز صاحب الكشاف، ولكنهما فى نهاية الأمر يتفقان على عدم الأخذ بظاهر القرآن فى تفسير آيات الصفات. وهذا التطابق ينحصر فى هذه الدائرة، ومن المؤكد أن هناك اختلاف بين الإمامين وقع فى مسائل عديدة، منها ما ذكره ابن عاشور فى تفسير قوله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ (¬2). «وأما الذين رأوا الاتحاد بين معانى الإرادة والمشيئة والرضى وهو قول كثير من أصحاب الأشعرى وجميع الماتريدية فسلكوا فى تأويل الآية محل لفظ" لعباده" على العام المخصوص، أى لعبادة المؤمنين واستأنسوا لهذا المحمل بأنه الجارى على غالب استعمال القرآن فى لفظة" العباد" لاسم الله، أو ضمير قوله عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ (¬3). قالوا: فمن كفر فقد أراد الله كفره ومن آمن فقد أراد الله إيمانه، والتزم كلا الفريقين" الأشاعرة والماتريدية" أصله فى تعلق إرادة الله وقدرته بأفعال العباد الاختيارية المسمى بالكسب ولم يختلف إلا فى نسبة الأفعال للعباد أهي حقيقة أم مجازية، وقد عد الخلاف فى تشبيه الأفعال بين الفريفين لفظيا. ¬

_ (¬1) انظر التأويل عند ابن عاشور ج 11 ص 172. (¬2) سورة الزمر الآية 7. (¬3) سورة الإنسان الآية 6.

ومن العجيب تهويل الزمخشرى بهذا القول إذ يقول: «ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله ما نفاه عن ذاته من الرضى بالكفر فقال: هذا من العام الذى أريد به الخاص ... إلخ. فكان آخر كلامه ردا لأوله وهل يعد التأويل تضليلا، أم هل يعد العام المخصوص بالدليل من النادر القليل» (¬1). وذكر الشهرستانى وهو يتحدث عن" الأشعرية" هم أصحاب أبى الحسن على بن إسماعيل المنتسب إلى أبى موسى الأشعرى رضى الله عنهما، وسمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا مرسى الأشعرى كان يقرر عين ما يقرر الأشعرى أبو الحسن فى مذهبه، وقد جرت مناظرة بين عمرو بن العاص وبينه، فقال عمرو: أين أجد أحدا أحاكم إليه ربى؟ فقال أبو موسى: أنا ذلك المتحاكم إليه، فقال عمرو: أو يقدّر علىّ شيئا ثم يعذبنى عليه؟ قال: نعم، قال عمرو: ولم؟ قال: لأنه لا يظلمك، فسكت عمرو ولم يجد جوابا" (¬2). والإرادة الإلهية من المسائل التى يكثر فيها الجدل بين الفرق الإسلامية، أو بين الفلاسفة من أصحاب الأديان، ولعل مرجع اختلافهم إلى وعورة هذا النوع من المسائل، وصعوبة الاتفاق بينهم على تعريف محدد للإرادة الإلهية فضلا على أسباب الاختلاف الأخرى. وعلى سبيل الاختصار يمكن القول بأن الأشاعرة يقولون بالإرادة الإلهية الكاملة، وأنه خالق لكل شىء الخير والشر على السواء، أما المعتزلة ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 23 ص 34. (¬2) الملل والنحل ج 1 ص 94.

فكانوا ينظرون إلى الإرادة الإلهية على أنها محددة بخلق الخير دون الشر، وهذا فى حد ذاته تحديد للإرادة الإلهية" (¬1). وقد أوضح ابن عاشور فى تفسيره لهذه الآية موقف الأشاعرة من هذه الإرادة بقوله: قالوا: فمن كفر فقد أراد الله كفره، ومن آمن فقد أراد الله إيمانه" ومن ثم يظهر تعجب ابن عاشور من تهويل الزمخشرى فيما ذهب إليه الأشاعرة فى فهمهم للإرادة الإلهية، «إذ يقول: ولقد تحمل بعض الغواة ليثبت لله وما نفاه عن ذاته من الرضى والكفر، فقال هذا من العام الذى أريد به الخاص ... ». ويسارع ابن عاشور باتهام الزمخشرى بالتناقض" فكان آخر كلامه ردا لأوله"، ثم تساءل مفندا مزاعم صاحب الكشاف:" وهل يعد التأويل تضليلا، أم هل يعد العام المخصوص بالدليل من النادر القليل". نخلص من ذلك كله إلى أن أثر تفسير الكشاف عند ابن عاشور كان فيما اتفقت فيه الآراء أو تطابقت وجوه النظر، وقد يمثل ذلك تأثرا أو إعجابا خصوصا فى ميادين البلاغة واللغة والنحو والمعانى والبيان، كما كان هناك أيضا بعض وجوه الاتفاق فى عدم الأخذ بظاهر القرآن فى آيات الصفات، وكان لكل منهما وسائله وأدواته وطريقته فى بيان اعتقاده. كذلك كان هناك اختلاف بين المفسرين حيث مال ابن عاشور إلى موقف الأشاعرة فى فهمهم للإرادة الإلهية الذى ناهضة الزمخشرى، ومن ثم انبرى ابن عاشور مدافعا عن هذا المفهوم، وراح يفند مزاعم المفسر الاعتزالى. ¬

_ (¬1) انظر دكتور عبد البارى محمد داود الإرادة عند المعتزلة والأشاعرة ص 176 دار المعرفة الجامعية 1996 م. وانظر القاضى عبد الجبار، المغنى، فى أبواب التوحيد والعدل، تحقيق الأب جورج قنواتى مراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، إشراف" طه حسين".

ثالثا: الجبرية:

ثالثا: الجبرية: وعن اعتقاد أصحاب هذا المذهب وأقوال بعض رجاله وصداها عند الأمويين يقول أبو ريان: «أساس هذا المذهب الاعتقاد بأن الإنسان مجبور على أفعاله، وأن الله تعالى مقدر هذه الأفعال، فلا قدرة للإنسان ولا اختيار، والجهم بن صفوان أول من قال بذلك، وقد استغل الحكام الأمويون مقالته هذه فى توطيد حكمهم وقبول مظالمهم. ومن آراء الجهم الكلامية: «نفى الصفات الإلهية التى تؤدى إلى تشبيهه تعالى بمخلوقاته، وإثبات صفتى الفعل والخلق لله وحده، إذ لا يصح وصف المخلوقات بها، ومن ثم فهى مجبورة على أفعالها، وكذلك فقد نفى الجهم أن يكون الله متكلما أو أن يكون مرئيا، وقال بخلق القرآن وفناء الخالدين» (¬1). وذكر عبد القاهر البغدادى: «الجهمية أتباع جهم بن صفوان الذى قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وأنكر الاستطاعات كلها، وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وزعم أيضا أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى فقط، وأن الكفر هو الجهل به، وقال: لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز، كما يقال على المجاز، زالت الشمس، ودارت الرحى من غير أن يكونا فاعلين أو مستطلعين لما وصفتا به، وزعم أن الله تعالى حادث، وامتنع عن وصف الله بأنه شىء، أو حىّ، أو عالم مريد، وقال بحدوث كلام الله تعالى كما قالته القدرية ... وأكفره أصحابنا فى جميع ضلالاته، ¬

_ (¬1) دكتور محمد على أبو ريان تاريخ الفكر الفلسفى فى الإسلام ص 146 وانظر الشهرستانى فى الملل النحل ج 1 ص 85 وما بعدها.

وأكفرته القدرية فى قوله: (إن الله تعالى خالق أعمال العباد) فاتفق أحناف الأمة على تكفيره" (¬1). وتتلاقى معظم هذه الأقوال مع الأقوال الجعد بن درهم الذى قال بالقدر وخلق القرآن والتعطيل. وذكر ابن عاشور فى تفسير قوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (¬2). وسبب هذه الضلالة العارضة لأهل الضلال من الأمم التى تلوح فى عقول بعض عوام المسلمين فى معاذيرهم للمعاصى والجرائم أن يقولوا: أمر الله أو مكتوب عند الله أو نحو ذلك. هو جهل بأن حكمة الله تعالى فى وضع نظام هذا العالم اقتضت أن يجعل حجابا بين تصرفه تعالى فى أحوال المخلوقات، وبين تصرفاتهم فى أحوالهم بمقتضى إرادتهم، وذلك الحجاب هو ناموس ارتباط المسببات بأسبابها، وارتباط أحوال الموجودات فى هذا العالم بعضها بعض، ومنه ما يسمى بالكسب والاستطاعة عند جمهور الأشاعرة، ويسمى بالقدرة عند المعتزلة وبعض الأشاعرة، وذلك هو مورد التكليف الدال على ما يرضاه الله وما يرضى به، وأن الله وضع نظام هذا العالم بحكمة، فجعل قوامه هو تدبير الأشياء أمورها من ذواتها بحسب قوى أودعها فى الموجودات لتسعى لما ¬

_ (¬1) الفرق بين الفرق ص 158 ط 1 القاهرة 1998 م. (¬2) سورة الأنعام الآية 148.

خلقت لأجله، وزاد الإنسان مزية بأن وضع له عقلا يمكنه من تغيير أحواله على حسب احتياجه، ووضع له فى عقله وسائل الاهتداء إلى الخير والشر، كما قيض له دعاة إلى الخير تنبهه إليه إن ضلّه عقله، أو حجبته شهوة، فإن هو لم يرعو عن غيه، فقد خان نفسه وبهذا ظهر تخليط أهل الضلالة بين مشيئة العباد ومشيئة الله، فلذلك رد الله عليهم هنا قولهم:" لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا" لانهم جعلوا ما هو مشيئة لهم مشيئة الله تعالى، ومع ذلك فهو قد أثبت مشيئة فى قوله:" ولو شاء الله ما أشركوا" فهى مشيئة تكوين نظام الجماعة. فهذه المشيئة التى اعتلوا بها مشيئة لا تتوصل إلى الاطلاع على كنهها عقول البشر، فلذلك نفى الله عليهم استنادهم إليها على جهلهم بكنهها فقال: " كذلك كذب الذين من قبلهم" فشبه بتكذيبهم تكذيب المكذبين الذين من قبلهم، فكنى بذلك عن كون مقصد المشركين من هذه الحجة تكذيب النبى- صلى الله عليه وسلم- وليس فى هذه الآية ما ينهض حجة لنا على المعتزلة، ولا للمعتزلة علينا، وأن حاول كلا الفريقين ذلك لأن الفريقين متفقان على بطلان حجة المشركين وفى الآية حجة على الجبرية (¬1). ومفاد هذا الكلام أن ابن عاشور قد ذهب فى تفسيره لهذه الآية إلى أن الله سبحانه قد وضع نظاما للعالم اقتضت حكمته تعالى أن يجعل حجابا بين تصرفه فى أحوال المخلوقات وبين تصرفاتهم وفق مشيئتهم، أو بمقتضى إرادتهم وفق ناموس ارتباط المسببات والموجودات، وقد يطلق على ذلك (الكسب والاستطاعة) عند الأشاعرة، أو (القدرة) عند المعتزلة. والإنسان فى حساب هذا الناموس الإلهى مسئول عن أفعاله ليصح التكليف، ويرفض ابن عاشور هذه المعاذير التى يتذرع بها بعض عوام المسلمين ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 8 ص 147.

رابعا: الشيعة:

فى ارتكاب الجرائم والمعاصى تنصلا من المسئولية، وهى معاذير تسللت من أعطاف الجبرية التى تقول أن الإنسان مجبور على أفعاله، ولا حرية له ولا اختيار، وقد خلط معتقدوها بين مشيئة الله ومشيئة العباد. ونفى ابن عاشور أن تكون هذه الآية حجة لمذهبه السنى على المعتزلة، ولا للمعتزلة على هذا المذهب، والحجة فى هذه الآية قائمة على الجبرية، فقول المشركين باطل لأنهم عللوا شركهم وجرائمهم وشرك آبائهم بمشيئة الله، وهذا كذب سبقهم إليه الذين قبلهم، وقد أزاقهم الله بأسه، وقوله تعالى: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا استهزاء بقولهم السابق لتطاولهم على ما لا يستطيعون من فهم النظام الإلهى، وأن هؤلاء المشركين لا يتبعون إلا ظنونهم أو تخيلاتهم ساعين إلى تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما الكاذبون إلا هم. رابعا: الشيعة: يقول صاحب (مجمع البيان فى تفسير القرآن): (والشيع الفرق، ولكل فرقة شيعة على حدة، وشيعت فلانا اتبعته، والتشيع هو الاتباع على وجه التدين والولاء للمتبوع، والشيعة صارت فى العرف اسما لمتبعى أمير المؤمنين (عليه السلام) على سبيل الاعتقاد بإمامته بعد النبى (صلى الله عليه وسلم وآله) فلا فصل فى الإمامية والزيدية وغيرهم، ولا يقع إطلاق هذه اللفظة على غيرهم من المتبعين سواء كان متبوعا محقا أم باطلا إلا أن تسقط عنه لام التعريف، ويضاف بلفظ (بنى) للتبعيض، فيقال هؤلاء شيعة بنى العباس أو شيعة بنى فلان) (¬1). ¬

_ (¬1) أبو الفضل بن الحسن الطبرسى (ت 548 هـ) مجمع البيان فى تفسير القرآن المجلد الثالث ج 7 ص 91. منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت- لبنان 1380 هـ- 1961 م وانظر: مسألة التقريب بين-

وذكر محمد حسين الزين: (إن المعانى الحقيقية التى قدمناها للتشيع الحق لا تخول لأحد أن يطلق. اسم الشيعة على غير الاثنى عشرية، وأكثر الزيدية اليوم ومثلهم الإسماعيلية لا يعرفون إلا بهذين الانتسابين، وربما أن العظمية والواقفية لا وجود لهم فى هذا العصر انحصر اسم الشيعة بالشيعة الإمامية الاثنى عشرية واختص بهم) (¬1). ويلاحظ أن الطبرسى فى تعريفه جعل (الشيعة) لقبا عاما لكل الذين اعتقدوا بإمامة على بن أبى طالب (رضى الله عنه) بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) بلا فصل، حيث يطلق هذا اللقب على غيرهم بالمعنى الذى ذهب إليه، وانتهى التعريف عند محمد حسين الزين إلى انحصار هذا اللقب فى الشيعة الإمامية للاثنى عشرية للأسباب التى ذكرها. وأيا ما كان الأمر فإن الإمامية الاثنى عشرية" تعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل والمربين مهما عظموا وكبروا، بل يجب النظر فيها كما يجب النظر فى التوحيد والعدل) (¬2). ¬

_ - المذاهب الإسلامية أسس ومنطقات- بقلم 15 علامة وباحثا ينتمون لمختلف المذاهب الإسلامية. ص 63 وما بعدها- دار التقريب بين المذاهب الإسلامية ط 1 1415 هـ- 1994 م. بيروت- لبنان وانظر: لسان العرب، ج 33، ص 185 (مادة شيع) دار صادر، دار بيروت. وانظر: محمد صادق الصدر الشيعة، ص 73، مكتبة نينوى الحديثة، طهران، ناصر خسروى مروى. (¬1) محمد حسين الزين، الشيعة فى التاريخ ص 43، دار الآثار للطباعة والنشر، بيروت- لبنان ط 2، 1399 هـ- 1979 م. (¬2) محمد رضا المظفر، عقائد الإمامية ص 102، دار الزهراء- بيروت- لبنان، ط 2 1400 هـ- 1980 م. ويقول ابن تميمة: (فلو كانت الإمامة ركنا فى الإيمان لا يتم إيمان أحد إلّا به، لوجب أن يبينه الرسول بيانا عاما قاطعا للعذر، كما بين الشهادتين، والإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر،-

وترجع أهمية الإمامة ووجود إمام عند الاثنى عشرية لكيلا تخلو الأرض من حجة يهدى الناس إلى الجادة، ذكر الكلينى رواية (عن على بن إبراهيم عن أبيه، عن محمد بن أبى عمير بن منصور بن يونس وسعدان بن مسلم عن إسحاق بن عمار عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول: إن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام، كيما أن زاد المؤمنون شيئا ردهم، وإن نقصوا شيئا أتمه لهم) (¬1). وهم يؤمنون بأنه لو لم يبق فى الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة، ذكر الكلينى، أحمد بن إدريس، ومحمد بن يحيى جميعا، عن أحمد بن محمد بن عيسى بن عبيد عن محمد بن سنان، عن حمزة بن الطيار، عن أبى عبد الله (عليه السلام). قال: لو بقى اثنان لكان أحدهما الحجة على صاحبه) (¬2) وفضلا عن ذلك فإن أهمية الولاية، أو الإمامة ترجع إلى أسباب كثيرة تؤكد ضرورتها عند هؤلاء (فإن امتداد الرسالة السماوية كان يقتضى إيجاد حفظه لها، يصونونها ويحفظونها بعد النبى، ويطبقونها ويوضحونها، ويفسرون ما التبس منها، ويدافعون عنها ويبلغونها، امتدادا لسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنهم يصدرون عنها، وينهلون منها) (¬3). ¬

_ - فكيف ونحن نعلم بالاضطرار من دينه أن الذين دخلوا فى دين الله أفواجا لم يشترط على أحد منهم فى الإيمان بالإمامة لا مطلقا ولا معينا) منهاج السنة النبوية فى نقص الكلام والشيعة والقدرية ج 1، ص 26 دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت- لبنان. (¬1) أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكلينى (ت 328/ 329 هـ) الأصول من الكافى ج 1 ص 178 باب (إن الأرض لا تخلو من حجة) صححه وعلق عليه على أكبر الغفارى، دار الكتب الإسلامية طهران، بازار سلطانى، ط 3، 1388 هـ. (¬2) الأصول من الكافى، ج 1، ص 179، باب (أنه لو لم يبق فى الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة). (¬3) عبد اللطيف برى- ولاية أهل البيت- ص 49، دار المعاف للمطبوعات- بيروت. وانظر: محمد حسين آل كاشف الغطاء، أصل الشيعة وأصولها، ص 67، مؤسسة الأعلمى للمطبوعات- بيروت.

ويقول صاحب الفقرة السابقة عن آل البيت: (أنهم درسوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتربوا فى حجره، ونهلوا الوحى من شفتيه، وقلبه، وعقله، وضميره صافيا مضيئا سليما، حتى خلق فيهم الحصانة الروحية، والكفاءة العلمية التشريعية، والمناعة الأخلاقية العالية مما لم يتيسر لغيرهم، فتحولوا فى مدرسة الرسول إلى قرآن ناطق وإسلام حى) (¬1). ومجمل عقائد الشيعة الاثنى عشرية فى الأصول: التوحيد، والنبوة، والمعاد الجسمانى، والعدل، والإمامة، والإمامة أميز نقاط الخلاف بين الإمامية وبين الفرق الإسلامية الأخرى كأهل السنة، والمعتزلة، والخوارج من حيث إنها نص أو شورى، وبين فرق الإمامية ذاتها كالاثنى عشرية، والزيدية، والإسماعيلية من حيث شروط الإمام وانتقال الإمامة من إمام إلى آخر. ومن الروايات التى يذكرها الطوسى فى أماليه، وهو عند الاثنى عشرية ملقب بشيخ الطائفة، وهذه الرواية تحدد بعض مواقفهم من خلافة الصديق والفاروق (رضى الله عنهما) قال: حدثنا أبو منصور السكرنى قال: حدثنا على بن عمر قال: حدثنا أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن العباس قال: حدثنا مهنأ بن يحيى قال: حدثنا عبد الرازق عن أبيه عن مسافر بن مسعود قال ليلة الجن: قال لى رسول الله (صلى الله عليه وسلم وآله) يا ابن مسعود نعيت إلىّ نفسى، فقلت: استخلف يا رسول الله، قال: من؟ قلت: أبا بكر، فأعرض ¬

_ (¬1) عبد اللطيف برى، ولاية أهل البيت، ص 50. وانظر" محمد مرعى الأمين الأنطاكى"، مذهب أهل البيت ص 98 - 99، مكتبة الثقلين قم- إيران. وانظر" محمد حسين آل الكاشف الغطاء"،" ت 1973 م" أصل الشيعة وأصولها- مؤسسة الأعلمى للمطبوعات بيروت- لبنان 1391 هـ.

عنى، ثم قال يا ابن مسعود نعيت إلىّ نفسى، قلت استخلف، قال منّ؟ قلت عمر، فأعرض عنى، ثم قال يا ابن مسعود نعيت إلىّ نفسى، قلت: استخلف: قال: من؟ قلت: عليا قال: أما إنهم إن أطاعوه دخلوا الجنة أجمعون أكتعون) (¬1). وقد أوّل الإمامية الاثنا عشرية الكثير من الآيات لصالح مذهبهم، منها قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (¬2) جاء فى الصفوة لمناقب آل بيت النبوة: «قال أبو بكر النقاش: أجمع جمهور المفسرين أن هذه الآية نزلت فى علىّ وفاطمة وابنيهما، لا فى أزواجه لتذكير الضمير فى" يذهب عنكم، ويطهركم» (¬3). وفى تفسير الصافى: «عن زيد بن على بن الحسين عليهم السلام أن جهّالا من الناس يزعمون أنه إنما أراد الله بهذه الآية أزواج النبى- صلى الله عليه وسلم وآله- وقد كذبوا وأثموا وأيمن الله، ولو عنى أزواج النبى- صلى الله عليه وسلم وآله- لقال: ليذهب عنكن الرجس ويطهركن تطهيرا، وكان الكلام مؤنثا كما قال: اذكرن ما يتلى فى بيوتكم ولا تبرجن، ولستن كأحد من النساء» (¬4). ¬

_ (¬1) أبو جعفر محمد بن محمد بن الحسن الطوسى (ت 460 هـ) أمالى الشيخ الطوسى، ص 313 - 314، تقديم محمد صادق بحر العلوم. مؤسسة الوفاء، بيروت- لبنان. (¬2) سورة الأحزاب الآية 33. (¬3) عبد الرءوف محمد بن تاج العارفين بن على بن زين العابدين المعروف بالمناوى الشافعى ص، م مخطوط رقم 22 مكتبة جامعة الإسكندرية- الشاطبى. (¬4) محمد محسن بن الشاه محمود المعروف بالفيض الكاشانى" ت 1091 هـ" ج 22 ص 187 مؤسسة الأعلى بيروت- لبنان ط 2 1702 هـ- 1982 م. وانظر مجمع البيان، المجلد الخامس ج 22 ص 239 وانظر عبد اللطيف برى، ولاية أهل البيت ص 11.

وذكر ابن عاشور فى تفسير الآية الكريمة السابقة" التعريف فى البيت" تعريف العهد هو بيت النبى صلى الله عليه وسلم وبيوت النبى عليه الصلاة والسلام كثيرة، فالمراد بالبيت هنا بيت كل واحدة من أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، وكل بيت من تلك البيوت اهله النبى صلى الله عليه وسلم وزوجته صاحبة ذلك ولذلك جاء بعده قوله وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ (¬1) وضميرا الخطاب موجهان إلى نساء النبى صلى الله عليه وسلم على سنن الضمائر التى تقدمت. وإنما جىء بالضميرين بصيغة جمع المذكر على طريقة التغليب لاعتبار النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا الخطاب لأنه رب كل بيت من بيوتهن، وهو حاضر هذا الخطاب إذ هو مبلغه. وفى هذا التغليب إيماء إلى أن هذا التطهير لهن لأجل مقام النبى صلى الله عليه وسلم لتكون قريناته مشابهات له فى الذكاء والكمال، كما قال الله تعالى وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ (¬2) يعنى أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، وهو نظير قوله فى قصة إبراهيم رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت (¬3) والمخاطب زوج إبراهيم وهو معها (¬4). وذكر أيضا: «وأهل البيت: أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، والخطاب موجه إليهن وكذلك ما قبله وما بعده لا يخالط أحدا شك فى ذلك ولم يفهم منها ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 33. (¬2) سورة النور الآية 26. (¬3) سورة هود الآية 73. (¬4) التحرير والتنوير ج 22 ص 15.

أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم والتابعون إلا أن أزواج النبى عليه السلام هن المراد بذلك وأن النزول فى شأنهن» (¬1). ويقول عن حديث الكساء: «وأما ما رواه الترمذى عن عطاء بن أبى رباح عن عمر بن أبى سلمة قال: لما نزلت على النبى" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" فى بيت أم سلمة دعا فاطمة وحسنا وحسينا فجللهم بكساء وعلىّ خلف ظهره، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتى فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا». قال: هو حديث غريب من حديث عطاء عن عمر عن أبى سلمة ولم يسمه الترمذى بصحة ولا حسن ووسمه بالغرابة. وفى صحيح مسلم عن عائشة خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرهل، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء على فأدخله ثم قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً». وهذا أصرح من حديث الترمذى فمحمله أن النبى صلى الله عليه وسلم ألحق أهل الكساء بحكم هذه الآية وجعلهم أهل بيته كما ألحق المدينة بمكة فى حكم الحرمية بقوله «إن إبراهيم حرم مكة وإنى أحرم ما بين لابتيها" وتأويل البيت على معنييه الحقيقى والمجازى يصدق ببيت النسب كما يقولون: فيهم" البيت" والعدد، ويكون هذا من حمل القرآن على جميع محامله غير المتعارضة، وكأن حكمة تجليلهم معه بالكساء تقوي استعارة البيت بالنسبة إليهم تقريبا لصورة البيت بقدر الإمكان فى ذلك الوقت ليكون الكساء ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 22 ص 15.

بمنزلة البيت، ووجود النبى صلى الله عليه وسلم معهم فى الكساء كما هو فى حديث مسلم تحقيق لكون ذلك الكساء منسوبا إليه، وبهذا يتضح أن أزواج النبى صلى الله عليه وسلم هن آل بيته بصريح الآية، وأن فاطمة وابنيها وزوجها مجعولون أهل بيته بدعائه أو بتأويل الآية على محاملها» (¬1). والشيعة الإمامية يرمون من تفسير هذه الآية كما جاء عند الصافى وغيره من مفسرى المذهب إلى القول بعصمة الأئمة الاثني عشرية. وهناك أسباب كثيرة ذكرها الاثنا عشرية استوجبت فى نظرهم- عصمة الإمام (فالعصمة فى الإمامة شرط لازم عقلا للاستقامة وحفظ النظام، ومنصب الإمام لطف، وتمكنه من التصرف لطف آخر، فلا يتوقف على كونه مبسوط اليد كالنبى- صلى الله عليه وآله- من غير فرق بينهما (¬2). والاثنا عشرية لهم أبحاث مطولة فى عصمة الأئمة، وقد ارتبطت عندهم بعصمة الأنبياء (فالإمام كالنبى يجب أن يكون معصوما من جميع الرذائل والفواحش، ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت، عمدا وسهوا، كما يجب أن يكون معصوما من السهو والخطأ والنسيان، لأن الأئمة حفظة الشرع والقوامون عليه، حالهم فى ذلك حال النبى، والدليل الذى اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة بلا فرق) (¬3). ويجمل هاشم معروف الحسنى القول فى مفهوم العصمة بقوله: (إن العصمة ليس لها مفهوم يتخطى إمكانات الإنسان، بنحو يكون هذا المخلوق ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 22 ص 15. (¬2) عبد الصاحب الحسنى العاملى، روح الإيمان فى الدين الإسلامى ص 245 - 246 - مؤسسة الأعلمى بيروت- لبنان 1395 هـ- 1975 م. (¬3) محمد رضا المظفر، عقائد الإمامية، ص 104.

البشرى إنسانا آخر له طبيعة غير طبائع الناس، إن المعصوم فى رأى هشام بن الحكم، ورأى جميع الشيعة إنسان يغضب ويرضى، ويحزن ويفرح، ويتلذذ ويتألم، ويجب ويكره إلى غير ذلك من صفات الإنسان، وهذه الحالات وإن كانت من شأنها أن تسيطر على الإنسان، وتسوقه إلى المعاصى والمنكرات واتباع الشهوات واللذات، إلا أنها فى الأنبياء والأئمة (ع) تكون مغلوبة للقوة الخيرة التى تصرفهم إلى الطاعة، وتسيطر على الدواعى التى تحرك إلى المعصية بنحو تصبح تلك الدعاوى معدومة التأثير وكانها لم تكن (¬1). وعصمة الأئمة ظهرت بعد وفاة جعفر الصادق على يد هشام ابن الحكم (ت 199 هـ- 815 م) وهو فى أغلب الأقوال أول من تبناها، ودعا لها (وقد رأى بعد إيمانه بالإمامة، وكونها وارثة النبوة أن الإمام أحوج إلى العناية الإلهية من النبى بحكم اتصال الأنبياء بالله عن طريق الوحى وامتناع ذلك على الإمام، فتبنى هشام" العصمة"، وأضافها إلى الأئمة فجعلهم فى مقام يستطيعون منه الصدور عن الحق والصواب دون حاجة إلى الوحى (¬2). وذكر عبد القاهر البغدادى (وكان هشام يجيز على الأنبياء العصيان مع قوله بعصمة الأئمة من الذنوب، ورغم أن نبيه صلى الله عليه وسلم عصى ربه عز وجل فى أخذ الفداء من أسارى بدر غير أن الله عز وجل عفا عنه، وتأول على ذلك قوله تعالى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ (¬3). وفرق فى ذلك بين النبى والإمام بأن النبى إذا عصى آتاه الوحى بالتنبيه على خطاياه، والإمام لا ينزل عليه الوحى، فيجب أن يكون معصوما عن المعصية (¬4). ¬

_ (¬1) هاشم معروف الحسنى، الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة ص 205 دار القلم، بيروت- لبنان 1978 م. (¬2) الدكتور كامل مصطفى الشيبى، الصلة بين التصوف والتشيع، ص 141 دار المعارف مصر ط 2. (¬3) سورة الفتح الآية 2. (¬4) عبد القاهر بن طاهر البغدادى (ت 429 هـ) الفرق بين الفرق، ص 42، مؤسسة الحلبى وشركائه،-

فالعصمة قوة تمنع الإمام من ارتكاب الذنوب مع قدرته على القيام بها حتى يكون هناك معنى للثواب، وتمنعه أيضا من السهو والنسيان والخطأ لأن الإمام حافظ للشرع القوّام عليه، وقد بلغ من العلم والتقوى مرتبة لا يصدر منه ما يجافى الحق لتحكّم قوى الخير فيما يصدر عنه من قول أو فعل. ومن المواطن التى خالفهم فيها ابن عاشور ما ذكره فى تفسير قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (¬1). «وأما الشيعة فإنهم يذكرون التسليم على علىّ وفاطمة وآلهما، وهو مخالف لعمل السلف فلا ينبغى اتباعهم فيه لأنهم قصدوا به الغض من الخلفاء والصحابة» (¬2). ونكاح المتعة من القضايا المشهورة فى الفقه الإمامى، وذكر ابن عاشور فى تفسير الآية: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (¬3). روايات عدة، منها: «وذهب جمع: منهم ابن عباس، وأبى بن كعب، وابن جبير أنها، نزلت فى نكاح المتعة لما وقع فيها من قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ونكاح المتعة: هو ¬

_ - تقديم وتعليق طه عبد الرءوف سعد، وانظر الشهرستانى، الملل والنحل ج 1 ص 84، تحقيق محمد سيد كيلانى- مطبعة البابى الحلبى 1396 هـ- 1976 م. (¬1) سورة الأحزاب الآية 56. (¬2) التحرير والتنوير ج 22 ص 103. (¬3) سورة النساء الآية 12.

الذى تعاقد الزوجان على أن تكون العصمة بينهما مؤجلة بزمان أو بحالة، فإذا انقضى ذلك الأجل ارتفعت العصمة، وهو نكاح قد أبيح فى الإسلام لا محالة، ووقع النهى عنه يوم خيبر، أو يوم حنين على الأصح. والذين قالوا حرام يوم خيبر قالوا: ثم أبيح فى غزوة الفتح، ثم نهى عنه فى اليوم الثالث من يوم الفتح، أو قيل: نهى عنه فى حجة الوداع، قال أبو داود: وهو أصح: والذى استخلصناه أن الروايات فيها مضطربة اضطرابا كبيرا (¬1). ويقول" وقد اختلف العلماء فى الأخير من شأنه: فذهب الجمهور إلى أن الأمر استقر على تحريمه: فمنهم من قال: نسخته آية المواريث لأن فيها وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ (¬2). فجعل للأزواج حق الميراث، وقد كانت المتعة لا ميراث فيها، وقيل: نسخها ما رواه مسلم عن سبرة الجهنى، أنه رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مسندا ظهره إلى الكعبة ثالث يوم من الفتح يقول: أيها الناس إنى كنت أذنت لكم فى الاستمتاع من هذه النساء إلا أن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة (¬3). «وانفراد سبرة به مثل ذلك اليوم مغمز فى روايته على أنه ثبت أن الناس استمتعوا. وعن على بن أبى طالب، وعمران بن حصين، وابن عباس، وجماعة من التابعين والصحابة أنهم قالوا بجوازه. قيل: مطلقا وهو قول الإمامية، وقيل: فى حال الضرورة عند أصحاب ابن عباس من أهل مكة ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 5 ص 10. (¬2) سورة النساء الآية 12. (¬3) التحرير والتنوير ج 5 ص 10.

واليمن، وروى عن ابن عباس أنه قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقى» (¬1). وعن عمران بن حصين فى الصحيح أنه قال: أنزلت آية المتعة فى كتاب الله ولم ينزل بعدها آية تنسخها، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثم قال رجل برأيه ما شاء، يعنى عمر بن الخطاب حين نهى عنها فى زمن من خلافته، وكان ابن عباس يفتى بها، فلما قال له سعيد بن جبير: أتدري ما صنعت بفتواك فقد سارت بها الركبان حتى قال القائل: قلت للركب إذ طال الثواء بنا ... يا صاح هل لك فى فتوى ابن عباس فى بضة رخصة الأطراف ناعمة ... تكون مثواك حتى مرجع الناس والذى يستخلص من مختلف الأخبار أن المتعة أذن فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرتين، ونهى عنها مرتين. والذى يفهم من ذلك أن ليس ذلك بنسخ مكرر، ولكنه إناطة، وإباحتها بحال الاضطرار، فاشتبه على الرواة تحقيق عذر الرخصة بأنه نسخ. وقد ثبت أن الناس استمتعوا فى زمن أبى بكر، وعمر، ثم نهى عنها عمر فى آخر خلافته. والذى استخلصناه فى حكم نكاح المتعة أنه جائز عند الضرورة الداعية إلى تأجيل مدة العصمة، مثل الغربة فى سفر أو غزو إذا لم تكن مع الرجل زوجته، ويشترط منه ما يشترط فى النكاح من صداق وإشهار وولى حيث يشترط، وأنها تبين منه عند انتهاء الأجل، وأنها لا ميراث فيها بين ¬

_ (¬1) بفاء بعد الشين، أى إلا قليل وأصله من قولهم: شفيت الشمس إذا غربت وفى بعض الكتب شقى.

الرجل والمرأة، إذا مات أحدهما فى مدة الاستمتاع، وأن عدتها حيضة واحدة، وأن الأولاد لاحقون بأبيهم المستمتع. وشذ النحاس فزعم أنه لا يلحق الولد بأبيه فى نكاح المتعة. ونحن نرى أن هذه الآية بمعزل عن أن تكون نازلة فى نكاح المتعة، وليس سياقها سامحا بذلك، ولكنها صالحة لاندراج المتعة فى عموم" ما استمتعتم" فيرجع فى مشروعيته نكاح المتعة إلى ما سمعت آنفا (¬1). وما انتهى إليه ابن عاشور فى تفسيره لهذه الآية بمعزل عن أن تكون نازلة فى نكاح المتعة، ولكنها صالحة لاندراج المتعة فى عموم" ما استمتعتم" ويذهب إلى مشروعية هذا النوع من الزواج عند الضرورة بالشروط التى ذكرها. ومن الروايات التى ذكرها الطبرى فى تفسيره لهذه الآية الكريمة: حدثنا يونس قال: أخبرنى ابن وهب قال ابن زيد فى قوله (فما استمتعتم به منهن .... ) الآية قال: هذا النكاح، وما فى القرآن إلا النكاح، إذا أخذتها واستمتعت بها فأعطها أجرها، والصداق، فإن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ. فرض الله عليها العدة، وفرض الله لها الميراث، قال: الاستمتاع هو النكاح، هاهنا إذا دخل بها) (¬2)، وقد ساق عدة روايات تدور حول هذا المعنى، وأن المقصود من هذه الآية هو الزواج الصحيح، ثم يذكر عدة روايات أخرى مخالفة للمعنى السابق منها: (حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يحيى بن عيسى قال: حدثنا نصير بن أبى الأشعث، قال: حدثنا ابن حبيب بن أبى ثابت عن أبيه قال: أعطانى ابن عباس مصحفا فقال: هذا على قراءة أبى، .... ، .... ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 5 ص 11. (¬2) محمد بن جرير الطبرى: جامع البيان فى تأويل آى القرآن ج 8 ص 175.

قال أبو كريب، قال يحيى، فرأيت المصحف عند بصير فيه: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) (¬1). وبعد الفراغ من ذكر هذه الروايات يختم الطبرى القول فى تفسير هذه الآية:" أولى التأويلين فى ذلك بالصواب، تأويل من تأوله، فى نكحتموه منهن فجامعتموه فأتوهن أجورهن لقيام الحجة بتحريم الله متعة النساء على وجه النكاح الصحيح، أو الملك الصحيح على لسان رسوله (صلى الله عليه وسلم) (¬2). وإلى هذا التحريم ذهب ابن كثير ويقرر: (والعمدة ما ثبت فى الصحيحين عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الوحشية يوم خيبر) (¬3). وفى تحريمه أيضا قال أبو بكر الحازمى: (قرأت على أبى المظفر عيد الصمد بن الحسين بن عبد الغفار أخبرنى زاهر بن ظاهر، أنا أبو سعيد بن محمد بن عبد الرحمن أنا أبو عمر ومحمد بن أحمد ثنا أبو يعلى، ثنا أبو خيثمة عن حسن وعبد الله ابن محمد بن على عن أبيهما عن علىّ رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية (¬4). ¬

_ (¬1) محمد بن جرير الطبرى: جامع البيان فى تأويل آى القرآن ج 8 ص 175. (¬2) الرجع السابق ج 8 ص 178. (¬3) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج 1 ص 474. وانظر صحيح مسلم، كتاب النكاح، ج 2 ص 1027 دار إحياء التراث العربى بيروت- لبنان، وانظر: صحيح البخارى بشرح السندى، المجلد الثانى ج 3، كتاب الذبائح الصيد والتسمية على الصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، ص 369 - دار النفائس ط 3، وانظر الترمذى كتاب الأطعمة باب ما جاء فى لحوم الحمر الأهلية، المجلد الرابع، ص 254 - 255 (¬4) أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن موسى الحازمى (ت 584 هـ) الاعتبار فى الناسخ والمنسوخ من الآثار ص 302، 303 تحقيق محمد أحمد عبد العزيز- مكتبة عاطف- الأزهر.

وفى كتاب الناسخ والمنسوخ عن قتادة لم يذكر هذه الآية فيما وقع فيه النسخ من سورة النساء (¬1) وكذلك ابن الجوزى (¬2) وذكر ابن حزم: قوله تعالى (فما استمتعتم به منهن ..... ) الآية نسخت بقوله صلى الله عليه وسلم (إنى قد أحللت هذه المتعة، ألا وإن الله ورسوله قد حرّماها، ألا فيبلغ الشاهد الغائب، ووقع ناسخها من القرآن موضع ذكر ميراث الزوجة الثمن والربع، فلم يكن لها نصيب، وقال محمد بن إدريس الشافعى: (موضع تحريمها فى سورة المؤمنون، ونسخها قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ (¬3). وأجمعوا أنها ليست بزوجة، ولا ملك اليمين، فنسخها الله بهذه الآية (¬4)، وإلى ذلك ذهب هبة الله بن سلامة فى كتابه الناسخ والمنسوخ (¬5). والمقصود منها النكاح الصحيح الذى يتوفر له الولى، والمهر، والشهود، كما ذهب الطبرى، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن المتعة كما جاء فى الصحيحين وكتب السنة الأخرى، أو أن تكون منسوخة بقوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ...... الآية (¬6). ¬

_ (¬1) انظر ص 38 إلى 40. (¬2) أبو الفرج عبد الرحمن بن على بن محمد بن على الجوزى" ت 597 هـ" المصفى بأكف أهل الرسوخ فى علم الناسخ والمنسوخ ص 23 إلى ص 26 تحقيق الدكتور حاتم صالح الضافى، مؤسسة الرسالة بيروت- لبنان ط 1402 هـ- 1986 م. (¬3) سورة المؤمنون الآية 5، 6. (¬4) ابن حزم، الناسخ والمنسوخ، ص 331 هامش تنوير المقباس المنسوب لابن عباس، أبو الطاهر محمد ابن يعقوب الفيروزآبادى" ت 817 ط مكتبة مصطفى البابى الحلبى القاهرة ط 2 1370 هـ- 1951 م. (¬5) انظر 35، 36. (¬6) أبو محمد الحسين بن سعود الفراء البغوي" ت 516" معالم التنزيل، المجلد الأول ص 414 إعداد وتحقيق خالد بن عبد الرحمن الحك، مرواف سواد دار المعرفة- لبنان.

خامسا: الخوارج:

وعن تحريم المتعة ذكر البغوى: «وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم أن نكاح المتعة حرام، والآية منسوخة، وكان ابن عباس رضى الله عنهما يذهب إلى أن الآية محكمة. وموضع ذكر ميراث الزوجة الثمن والرابع (¬1) كما فى قول ابن حزم، وما ذكره عن الشافعى رضى الله عنه، وما ذهب إليه ابن سلامة فى كتابه، والبغوى فى تفسيره، ومن الملحوظ أن النهى عن المتعة فى الصحيحين وعند أبى بكر الحازمى، وغير ذلك من كتب السنة جاء عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، والإمامية على خلاف ذلك، يقول محمد صادق الصدر: (ولو صح ذلك فى رأى الإمام، لعرف ذلك أهل بيته عليهم السلام الذين أجمعوا على حلية المتعة على مر الأيام) (¬2). خامسا: الخوارج: نظريتهم فى الخلافة أبرز ما ينادون به من آراء، وليس من شروطهم فيمن يصلح لها أن يكون عربيا قرشيا. وأشهر فرقهم: الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الذى كفّر كل المسلمين، وأصحاب نجدة بن عامر الذين عرفوا بالنجدية، والأباضية أتباع عبد الله بن أباضى التميمى، وهم مسالمون، لم يبالغوا فى الحكم على من خالفهم، كغيرهم من فرق الخوارج الأخرى. يقول الشيخ محمد أبو زهرة عن الخوارج: «كانت فيهم رغبة شديدة للمنافسة والمجادلة ومساجلة الآراء والمذاهب حتى أنهم فى القتال كانوا يتوقفون أحيانا كثيرة، ويتناقشون مع مقاتليهم فى الأمور والولاة، وينشدونهم بعض الأشعار» (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النساء من الآية 112. (¬2) محمد صادق الصدر، حياة أمير المؤمنين ص 334، مطبعة دار الكتب، بيروت- لبنان- ط 3. (¬3) تاريخ الجدل ص 163 دار الفكر العربى القاهرة ط 1 1934 م، وانظر الشهرستانى، الملل والنحل ج 1 ص 114.

ويقول عن رغبتهم فى العلم: «انظر إلى زعمائهم كيف يطلبون علم ابن عباس مع أنه كافر فى زعمهم، مبطل فى اعتقادهم، ولكنه علم الكتاب هو الذى دفعهم لأن يجلسوا مجلس التلميذ من حبر هذه الأمة، وإن زعموا فيه زيفا وخروجا، وكأنهم يعتقدون أنه ممن أضلهم الله على علم» (¬1). ومن الأقوال التى نادى بها الخوارج وتعرض لها ابن عاشور فى تفسيره ما ذكره فى قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (¬2). حيث ذكر بعض الآثار وقول جمهور المحققين من علماء الأمة على اختلاف مشاربهم وغيرهم من أصحاب الأقوال فى ماهية" الإيمان" ومما ساقه عن الخوارج والمعتزلة: " القول الرابع قول الخوارج والمعتزلة إن الإيمان اعتقاد ونطق وعمل كما جاء فى القول الثالث إلا أنهم أردوا من قولهم حقيقة ظاهرة من تركب الإيمان، من مجموع الثلاثة بحيث إذا اختل واحد منها بطل الإيمان، ولهم فى تقرير بطلانه بنقص الأعمال الواجبة مذاهب غير منتظمة ولا معضودة بأدلة سوى التعلق بظواهر بعض الآثار مع الإهمال لما يعارضها من مثلها. ¬

_ (¬1) محمد أبو زهرة، تاريخ الجدل ص 163. وانظر إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية ج 2 ص 140، 355. ج 6 ص 87، 175، 212، 224، 332. ج 7 ص 177، 182، 188، 197، 199. ج 8 ص 5، 13، 23، 25، 26. (¬2) سورة البقرة الآية 8.

سادسا: البهائية:

فأما الخوارج فقالوا: إن تارك الشيء من الأعمال كافر غير مؤمن وهو خالد فى النار، فالأعمال جزء من الإيمان، وأرادوا من الأعمال فعل الواجبات وترك الحرمات ولو صغائر، إذ جميع الذنوب عندهم كبائر- وأما غير ذلك من الأعمال كالمندوبات والمستحبات فلا يوجب تركها إذ لا يقول مسلم إن ترك السنن والندوبات يوجب الكفر والخلود فى النار، وكذلك فعل المكروهات قالت الإباضية من الخوارج أن تارك بعض الواجبات كافر لكن كفره كفر نعمة لا شرك، نقله إمام الحرمين عنهم وهو الذى سمعناه من طلبتهم، وأما المعتزلة فقد وافقوا الخوارج فى أن للأعمال حظا من الإيمان إلا أنهم خالفوهم فى مقاديرها ومذاهب المعتزلة فى هذا الموضوع غير منضبطة (¬1). وموقف ابن عاشور من الخوارج والمعتزلة فيما ذهبوا إليه فى" ماهية الإيمان" وتركبه من اعتقاد ونطق وعمل، وإبطال الإيمان إذا اختل واحد منها، فيما وجهه إلى أصحاب هذين المذهبين نقدا يتمثل فيما ذكره حول عدم انتظام تقديرهم واختلال دعواهم، ولا يؤيد هذه الدعاوى سوى تعلقهم بظواهر بعض الآثار وإهمال ما يعارضها من مثلها. وفى الفقرة الأخيرة نجد أن ابن عاشور يوجه نقدا آخر إلى الخوارج ولا تبدو موافقته على قولهم" تارك الشيء من الأعمال كافر غير مؤمن وهو خالد فى النار" ويختم الفقرة باتهام المعتزلة بما خالفوا فيه الخوارج فى تقدير الأعمال التى تستوجب هذا التكفير بعدم انضباط مذهبهم. سادسا: البهائية: رأينا ما كان عليه الاتفاق أو الاختلاف بين ابن عاشور والمذاهب السابقة، كان يأخذ من أقوال رجالها أو يترك، ولا تفارقه الرغبة الصادقة فى ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 1 ص 268.

الإقناع والإنصاف دون التحير لغير الحقيقة التى يؤمن بها، مهتديا بما استطاع جمعه من أقوال، وما قام به من تحليل، وما عقده من وجوه المقارنة، وما فرضته المناسبة من تاريخ لبعض هذه المذاهب، وهو فى اختلافه لم يبالغ، ولم يكفر أحدا من أصحابها طالما هذا الاختلاف فى دائرة الإسلام، ولا يمس أصلا من أصول العقيدة، والبهائية قد خرجت من هذه الدائرة، ومست أصلا من أصول الدين حين حاولت أن تثبت نبوءة بعد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. ذكر فى تفسير قوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (¬1). «وقد أجمع الصحابة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء وعرف ذلك وتواتر بينهم فى الأجيال من بعدهم، ولذلك لم يترددوا فى تكفير مسيلمة والأسود العنسى فصار معلوما من الدين بالضرورة فمن أنكره فهو كافر خارج عن الإسلام ولو كان معترفا بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله للناس كلهم. وهذا النوع من الإجماع موجب العلم الضرورى كما أشار إليه جميع علمائنا، ولا يدخل هذا النوع فى اختلاف بعضهم فى حجية الإجماع إذ المختلف فى حجيته هو الإجماع المستند لنظر وأدلة اجتهادية بخلاف المتواتر المعلوم بالضرورة، وفى كلام الغزالى فى خاتمة كتاب الاقتصاد فى الاعتقاد مخالفة لهذا على ما فيه من قلة تحرير، وقد حمل عليه ابن عطية حملة غير منصفة وألزمه إلزاما فاحشا ينزه عنه علمه ودينه فرحمة الله عليهما. ولذلك لا يتردد مسلم فى تكفير من يثبت نبوءة لأحد بعد محمد صلى ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: الآية 40.

الله عليه وسلم وفى إخراجه من حظيرة الإسلام، ولا تعرف طائفة من المسلمين أقدمت على ذلك إلا البابية والبهائية وهما نخلتان مشتقتان ثانيتهما من الأولى، وكان ظهور الفرقة الأولى فى بلاد فارس فى حدود سنة مائتين وألف وتسربت إلى العراق، وكان القائم بها رجل من أهل شيراز يدعوه أتباعه السيد على محمد، كذا اشتهر اسمه، كان فى أول أمره من غلاة الشيعة الإمامية، أخذ عن رجل من المتصوفين اسمه الشيخ أحمد زين الدين الإحسائى الذى كان ينتحل التصوف بالطريقة الباطنية وهى الطريقة المتلقاة عن الحلاج، وكانت طريقته تعرف بالشيخية، ولما أظهر نخلته على محمد هذا لقب نفسه باب العلم فغلب عليه اسم الباب، وعرفت نحلته بالبابية وادعى لنفسه النبوءة، وزعم أنه أوحى إليه بكتاب اسمه (البيان) وأن القرآن أشار إليه بقوله تعالى خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ (¬1). وكتاب البيان مؤلف بالعربية الضعيفة مخلوط بالفارسية وقد حكم عليه بالقتل فقتل سنة 1266 فى تبريز. وأما البهائية فهى مؤلف شعبة من البابية تنسب إلى مؤسسها الملقب ببهاء الله واسمه ميرزا حسين على من أهل طهران تتلمذ للباب بالمكاتبة وأخرجته حكومة شاه العجم إلى بغداد إلى أدرنة ثم عكا، وفيها ظهرت نحلته، وهم يعتقدون بنبوءة الباب، وقد التف حوله أصحاب نحلة البابية وجعلوه خليفة الباب فقام اسم البهائية مقام اسم البابية، فالبهائية هم البابية وكان البهاء قد بنى بناء فى جبل الرمل ليجعله مدفنا لزمان (الباب) وآل أمره إلى أن سجنته السلطنة العثمانية فى سجن عكا فلبث فى السجن سبع سنوات، ولم يطلق من ¬

_ (¬1) سورة الرحمن الآية 3، 4.

السجن إلا عند ما أعلن الدستور التركى، فكان فى عداد المساجين السياسيين الذين أطلقوا يومئذ فرحل متنقلا فى أوروبا وأميركا مدة عامين، ثم عاد إلى حيفا فاستقر بها إلى أن توفى سنة 1340 هـ وبعد موته نشأ شقاق بين أبنائه وإخوته فتفرقوا فى الزعامة وتضاءلت نحلتهم. فمن كان من المسلمين متبعا للبهائية أو البابية فهو خارج عن الإسلام مرتد عن دينه تجرى عليه أحكام المرتد. ولا يرث مسلما ويرثه جماعة المسلمين ولا ينفعهم قولهم: إنا مسلمون ولا نطقهم بكلمة الشهادة لأنهم يثبتون الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم قالوا بمجيء رسول من بعده. ونحن كفّرنا الغرابية من الشيعة لقولهم: بأن جبريل أرسل إلى على، ولكنه شبه له محمد بعلى إذ كان أحدهما أشبه بالآخر من الغراب بالغراب وكذبوا فبلغ الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم زعموه غير المعيّن من عند الله (¬1). ويذكر فى نهاية تفسيره لهذه الآية: «وتشبه طقوس البهائية طقوس الماسونية إلا أن البهائية تنتسب إلى التلقى من الوحى الإلهى، فبذلك فارقت الماسونية وعدت فى الأديان والملل ولم تعد فى الأحزاب» (¬2). ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير ج 22 ص 46 - 47. (¬2) التحرير والتنوير ج 22 ص 46 - 47. يقول د. محمد على أبو ريان:" تطور الخلاف حول الإمامة عبر تاريخ الإسلام، وتمخض هذا الصراع السياسى عن ظهور فرق ومذاهب أصولية، وقد انتشرت آراء هذه الفرق، التى نشأت أصلا من الاختلاف حول الإمامة- فى ربوع العالم الإسلامى وهى لا تزال قائمة بين ظهرانينا مثل الإسماعيلية والبهرة والقاونية والنصيرية ومذهب الدروز، وأخيرا البهائية التى اعلنت بخلاف الفرق السابقة خروجها السافر على الإسلام، ونسخت سائر الأديان واعتبر أصحابها أن الدين البهائى هو البوتقة التى انصهرت فيها سائر الأديان السابقة" تاريخ الفكر الفلسفى فى الإسلام ص 120.

وقد استعرض ابن عاشور فى تفسيره لهذه الآية تاريخ البابية والبهائية ومزاعمهما فى استمرار النبوة والوحى، والمسلمون مجمعون على أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، ومن ادّعى نبوة أو وحى بعده- صلوات الله عليه- خارج عن ملة الإسلام، وتجرى عليه أحكام المرتد ولا يرث مسلما، ويرثه جماعة المسلمين، وانتهى ابن عاشور إلى ان البهائية عدت فى الأديان والملل ولم تعد فى الأحزاب. وأمثال هؤلاء الغلاة من البابية والبهائية وغيرهما يستغلون أصحاب العقول الغائبة لتحقيق أغراض نفعية، أو أنهم يحاولون محاربة الإسلام بمثل هذه الدعاوى الباطلة، والملحوظ فى تاريخ المذاهب الاعتقادية التى تخلو من المغالاة أو التطرف أنها قد انتجت فكرا وعلما وعملا، فالتصوف السنى كانت ميادينه المهمة الإشارات والأخلاق والزهد والمحاولات المستمرة فى التوفيق بين الحقيقة والشريعة، والمعتزلة كانوا أرباب المعانى والبيان، والدفاع عن الدين بالأدلة العقلية، والمعتدلة من الشيعة الاثنى عشرية خصوصا بعد القرن الثالث الهجرى قد وجّهوا نقدا شديدا للنزعة الإخبارية فى تفسير القرآن الكريم، وهى نزعة تعتمد على أقوال مغالى فيها منسوبة لأئمة آل البيت النبوى الكريم، ومن ثم استعانوا بوسائل جديدة على المذهب الإمامى فى ميدان التفسير القرآنى من مثل الحديث النبوى سواء من طرقهم، أو من طرق كتب الصحاح عند أهل السنة بشروط ارتضوها، كما استعانوا بأقوال الصحابة والتابعين والقصص والإسرائيليات وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ فضلا عن اللغة والشعر والأعراب وغير ذلك من وسائل التفسير بالرواية، أو الدراية، كما أخرج علماء هذا المذهب إلى الساحة الفكرية فنونا متنوعة فى سائر العلوم الأخرى.

والخوارج على الرغم من تعنت الكثيرين منهم انتجوا أدبا- شعرا ونثرا- عبروا فيه عن تجاربهم وتطلعاتهم. وأهل السنة والأشاعرة (¬1) أصحاب جهود فى علوم الإسلام وغيرها من العلوم كالآداب والفلسفة والمنطق والتاريخ والطب والهندسة والسياسة والحكم والإدارة. أما البابية أو البهائية فقد اعتمدت على مزاعم باطلة وتعسف أبله لبعض آيات سورة الرحمن كما مر بنا فى عرض ابن عاشور لها، وأما المضحك حقا ففي زعم" باب العلم هذا" وكتابه" البيان" فإنه- كما يقرر ابن عاشور- عربيته ضعيفة مخلوط بالفارسية، والله أعلم كيف كان هذا الخلط. وعلى أى حال لم تنتج هذه الملة فكرا ولا عملا وإنما هى شعوذة وادعاءات كاذبة تضاءل تأثيرها بعد موت صاحبها. ¬

_ (¬1) انظر إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان. ج 2 ص 146، 150، 178، 185. ج 4 ص 208. ج 5 ص 7، 62. ج 6 ص 195، 311.

الخاتمة

الخاتمة يجدر بنا فى نهاية هذه الصفحات بعد هذا الحديث الطويل عن منهج الإمام ابن عاشور فى تفسير القرآن الكريم أن نختم الكلام بأهم النتائج التى توصلت إليها هذه الدراسة. وقد قام تحديد هذا المنهج على الوسائل التى استخدمها ابن عاشور فى خطته فى تفسير السورة أولا، ثم تفسير الآية ثانيا، سواء فى التفسير بالرواية أم الدراية، وكان ابن عاشور لا يفصل بينهما، وإنما فصلت هذه الدراسة بين هذين النوعين من التفسير من قبيل التصنيف لتحديد هذه الوسائل، حيث تمثل الآية عنده وحدة واحدة يستخدم فى تفسيرها ما يناسبها من وسائل. وكان تعدد المصادر وتنوعها وقبول ما جاء فيها أو رفضه بعيدا عن روح التقليد الركيزة الأولى التى اعتمد عليها هذا المنهج، وقام تفسيره بالرواية على ما يأتى: 1 - تفسير القرآن بالقرآن: وقد وجد هذا النوع من التفسير عناية كبيرة من صاحب التحرير والتنوير، ورأينا كثيرا من أمثلة هذا التفسير خلال صفحات الدراسة، وكان القرآن من الشواهد الأولى التى لجأ إليها فى أغلب مقومات التفسير بالرواية أو الدراية، على أن مفهوم تفسير القرآن بالقرآن عنده قائم على أن القرآن قد يحمل بعض آياته على بعض، وقد يستقل بعضها عن بعض، إذ ليس المعنى المقصود فى بعض الآيات يكون مقصودا فى جميع نظائرها، وكان أغلب استخدامه له فى توضيح معنى آية أو لفظة أو توضيح دلالة، أو المقصود من بعض الضمائر.

2 - التفسير بالحديث النبوى:

2 - التفسير بالحديث النبوى: شغل التفسير بالحديث النبوى عند ابن عاشور المرتبة التالية بعد تفسير القرآن بالقرآن، وكانت مصادره فى الحديث النبوى كتب السنة المعتبرة، وما خرج عن هذه الكتب لا يقبله أو يرفضه إلا بعد تمحيص للسند أو المتن، كما أنه رفض الأحاديث الضعيفة خصوصا أحاديث فضائل السور التى نبّه العلماء النقاد على وضعها وزيفها. وقد حرص أن يشير إلى مصدر الحديث فى أكثر المواطن التى يستعين فيها به، واتخذ ذكر المصدر عنده أشكالا مختلفة، فحينا يذكر اسم الكتاب، وحينا يذكر اسم الراوى الأول للحديث، أو يستخدم بعض العبارات من مثل: وجاء فى الحديث، أو وفى الحديث، وقد يذكر الحديث تاما، أو بعضه وفق ما يناسب تفسير الآية. فقد كان يسعى إلى عدم الإطالة، وأكثر المواطن التى احتج فيها بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى تفسير آيات الأحكام، وأقل هذه المواطن كان فى" اللغة" أو بيان معنى الألفاظ. 3 - التفسير بأقوال الصحابة: ظهر موقف ابن عاشور من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصا أبا بكر وعمر وعائشة رضى الله عنهم فى التفسير بأقوال الصحابة فيما ذكره عن هشام بن عمار «سمعت مالكا يقول: من سبّ أبا بكر وعمر أدّب، ومن سبّ عائشة قتل». ومن الصحابة الذين أورد ابن عاشور أقوالهم عبد الله بن عمر وابن عباس وعلى بن أبى طالب ومالك بن صعصعة وجابر بن عبد الله الأنصارى وأبو هريرة والسيدة عائشة رضى الله عنهم أجمعين، وقد أخذ ابن عباس نصيبا

4 - التفسير بأقوال التابعين:

وافرا فى هذا التفسير، وحرص ابن عاشور على ذكر مصادره عند عرضه لكل قول، وقد تناولت هذه الأقوال جوانب مختلفة من التفسير، ولم يلجأ مفسرنا فى عرضها إلى ذكر الروايات المتناقضة، أو الأقوال المختلفة اختلافا بينا، وإذا كان هناك اضطراب فى السند بيّنه، وإذا أمكن التوفيق بين الروايات المختلفة فى تفسير الآية الواحدة فعل، أو لجأ إلى التأويل مع وجود قرينة تدل عليه. 4 - التفسير بأقوال التابعين: من التابعين الذين أورد ابن عاشور رواياتهم أو أقوال عنهم مجاهد وقتادة وعكرمة ومحمد بن كعب القرظى وعطاء والزهرى وطاوس وابن زيد، وهم من الذين وثقهم النقاد، ومقاتل والسدى وهما من الذين اختلفت الأقوال فيهم، وكانت أقوال التابعين فى التحرير والتنوير تمثل جانب الاستئناس فيما تدرك بالعقول معانيه، أو ذكر بعض المرويات عن أسباب النزول، أو أول ما نزل من آيات، أو مكان نزولها. 5 - التفسير بأسباب النزول: كانت مصادر ابن عاشور فى استخدام أسباب النزول فى التفسير كتب الصحاح والتفسير مثل تفسير الطبرى وابن عطية والفخر الرازى والجصاص والقرطبى والزمخشرى، وكان ابن عاشور يذكر أكثر من رواية فى سبب نزول الآية الواحدة دون ترجيح أو توفيق بينها، وأحيانا يستبعد واحدة من هذه الروايات مع تعليل هذا الاستبعاد. 6 - التفسير بالقصص: لم ينفصل هذا النوع من التفسير فى التحرير والتنوير عن السياق، ولم يجعل ابن عاشور للقصة القرآنية قسما خاصا بها، كما يفعل كثير من المفسرين، وكانت تتآذر وسائل كثيرة أخرى عند ابن عاشور لتوضيح المقصود

7 - التفسير بالناسخ والمنسوخ:

من هذه القصة مثل الاستعانة بآيات من سور أخرى مناسبة، وأحاديث، وآثار عن الصحابة والتابعين وأقوال مفسرين ومؤرخين وعلماء فضلا عن أقوال من التوراة والإنجيل، وكان مفسرنا فى ذلك كله بعيدا عن المبالغات والحشو والإسرائيليات. وكان ابن عاشور فى تقديمه كل سورة تتحدث آياتها عن قصة أو أكثر مفصلة أو مجملة، يذكر أغراضها وما تحويه من مضمون، ثم يتناول تفسيرها لغة وإعرابا، ثم يسرد أحداثها وما تحويه من أخبار عن حوادث سابقة فى حدود المضمون القرآنى والفهم العربى للنصوص القرآنية. 7 - التفسير بالناسخ والمنسوخ: لم يسرف ابن عاشور فى استخدام هذا النوع من التفسير، ولم يكن من المكثرين فيه، وعند تفسيره لكثير من الآيات فى السور المختلفة لم يتعرض لكونها ناسخة أو منسوخة كما ذهب كثير من عوام المفسرين، ولم يكن يقبل الأقوال على علاتها، وإنما كان يقبل ما انتهى النقد أو التحليل إليه، أو ما سمح بالتوفيق بين أكثر من قول، أو ما يؤيده أعلى المصادر توثيقا. 8 - التفسير بالقراءات: القراءات عند ابن عاشور قسمان، القسم الأول لا تعلق له بالتفسير، وإنما هو يتصل باختلاف القراء فى وجوه النطق بالحروف والكلمات كمقادير المد والإمالة والتخفيف والتسهيل والتحقيق والجهر ... الخ. ومزية القراءات من هذه الجهة عائدة إلى أنها حفظت على أبناء العربية ما لم يحفظه غيرها، وهو تحديد كيفيات نطق العرب بالحروف فى مخارجها وصفاتها، وهذا القسم لا علاقة له بالتفسير، وقبول قراءاته على أنها صحيحة السند إلى النبى صلى الله عليه وسلم، ولكنها لم تبلغ حد التواتر فهى بمنزلة الحديث الصحيح.

9 - التفسير بأقوال من التوراة والإنجيل:

والقسم الثانى: القراءة المتواترة التى صح سندها ووافقت خط المصحف، ووافقت العربية ولو بوجه هى قراءة صحيحة لا يجوز ردها. والقراءة عند ابن عاشور شاهد لغوى سواء أكانت صحيحة السند ولكنها لم تبلغ صد التوافر، أم كانت من القراءات العشر المشهورة التى توافق خط المصحف. والقراءات العشر فضلا عن أنها شاهد لغوى فهى مما يمكن التفسير به على أنه توضيح لمعنى آية، أو استظهار له. 9 - التفسير بأقوال من التوراة والإنجيل: لم يقع ابن عاشور فى شرك الإسرائيليات وأكاذيبها، وكانت استعانته بأقوال من التوراة والإنجيل فى الحدود التى تلقى بعض الأضواء على أحداث تاريخية لم يدر حولها خلاف يذكر، أو تمس العقيدة الإسلامية أو التشريع الإسلامى، وكانت بعيدة عن الرغبة فى استهواء القراء وجمع الأقوال فحسب كما يفعل بعض المفسرين الذين استهوتهم الإسرائيليات وتقبلوها دون تحقيق. التفسير بالدراية: يقوم هذا التفسير على ضوابط استخلصها ابن عاشور من المراحل المتعاقبة لتاريخ التفسير والتى تنوعت فيها أدوات المفسرين، منها: - قول العلماء: إن القرآن لا تنقضى عجائبه إلا بازدياد المعانى باتساع التفسير. - لو كان التفسير مقصورا على بيان معانى مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرا. - إن النبى صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه من التفسير إلا تفسير آيات قليلة. - إن استنباط الأحكام التشريعية من القرآن فى خلال القرون الثلاثة الأولى من قرون الإسلام كان من قبيل التفسير لآيات لم يسبق تفسيرها قبل ذلك.

ومقومات التفسير بالدراية كانت عند ابن عاشور على النحو التالى:

- ألا يكون المراد بالرأى القول عن مجرد خاطر دون الاستناد إلى نظر فى أدلة العربية ومقاصد الشريعة، وألا يكون للمفسر نزعة طائفية أو حزبية. - القصد من التحذير بالرأى هو أخذ الحيطة الكاملة فى التدبر والتأويل. - تفسير الآية يقوم على أنها وحدة واحدة تتضافر فيه وسائل التفسير بالرواية مع وسائل التفسير بالدراية خصوصا فيما يتعلق باللغة والإعراب والإعجاز القرآنى. ومقومات التفسير بالدراية كانت عند ابن عاشور على النحو التالى: أولا: الشعر: كان شعر عصور الاحتجاج كاشفا عن معانى المفردات القرآنية، أو كيفية الاستعمالات اللغوية وأحوالها المختلفة كما عرفها الكلام العربى الفصيح. أما الشعر الذى تخطى عصور الاحتجاج فكان لشعراء قد رسخت أقدامهم فى العربية، وأخذوا ينشدون أشعارهم وفق معايير نقدية جديدة، وأعان هذا الشعر الجديد فى توضيح بعض الجوانب البلاغية للآية. ثانيا: اللغة: أ- التفسير اللفظى: قام هذا التفسير على حيوية دور اللغة وتداخله، فما ترك ابن عاشور من آية إلا واستوفى الجانب اللغوى حقه، يتناول كل كلمة منها ويفصل القول فيها لغويا وشرعيا، حقيقة أو مجازا، ليستعين بكل ما يمكن الاستعانة به من قرآن وحديث وشعر وقول مفسر وعالم لغة ومن وراء ذلك ثقافته الواسعة فى قول الميدان، وبعد حديثه عن الكلمة من حيث دلالتها اللغوية أو الشرعية يذكر موقع الجملة من الأعراب، ووجه العلاقة بينها وبين الجملة التالية لها.

ب - الاعراب:

- وفى تناوله للمصدر كان يميل إلى المذهب البصرى الذى يعتبر المصدر أصل المشتقات. - يمثل الاشتقاق عنده إحدى الوسائل التى تثرى تفسيره للألفاظ، ومن ثم يفصّل القول فيها من جهة الصياغة والأصل والمبنى والمعنى. - وكان التصريف عوضا له فى تعريف الحروف الزائدة على أصل الكلمة والمقصود منها، يستفيد بجهود العلماء السابقين واختلافهم، ويضيف إلى هذه الجهود ما يحمل كثيرا من أصالة الحس ورصانة التحليل. ب- الاعراب: لم تكن استعانة ابن عاشور بأقوال رجال المدارس النحوية المختلفة فحسب، وإنما ظهرت جهوده النحوية وآراؤه الشخصية بجوار هذه الأقوال، وما أتى به منها وجدت منه معارضة فى أحايين كثيرة مع تقديم الدليل على صحة ما يذهب إليه: - فى جهوده هذه كان القرآن الكريم أبرز الشواهد التى قدمها - لم يكن الحديث النبوى من شواهده فى الاعراب. - كان يعزو كل قول إلى صاحبه شعرا كان أو رواية، ولم يلجأ إلى قول مجهول، ولا روايات متناقضة. - دفاعه عن الرسم القرآنى- فى المشكلات الإعرابية- كان ردا للقراءات الشاذة التى خالفت هذا الرسم، ودفعا للروايات الموضوعة للتشكيك فيه. رابعا: إعجاز القرآن: يقوم الإعجاز القرآنى عند صاحب تفسير التحرير والتنوير على رفض مبدأ الصرفة وإن هذا الإعجاز كامن فى القرآن ذاته، وما جاء به من أساليب تجرى على سنن العرب فى كلامهم إلا أنها أعجزت الفصحاء منهم فى مجال

خامسا: آيات الأحكام:

التحدى والتوكيد لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأييد له، وقد تتضافر عوامل كثيرة فى بيان وجوه الإعجاز القرآنى التى تنكشف لكل عصر سابق ولاحق ولا تنتهى عند حد، ولكن اللغة هى أبرز هذه العوامل، فهى التى برع فيها القوم، وهى المجال الأول للتحدى، لذا لعبت اللغة الدور الأمثل عند ابن عاشور فى بيان الإعجاز حيث يقوم كل من الحرف واللفظة والجملة بدوره فى الأداء المعجز، ولا ينفصل أى منهم فى دلالته عن غيره من الدلالات، وكان الشعر الجاهلى عنده من المصادر الأصلية التى أعانته على ذلك، وابن عاشور من هذه الناحية يمثل بحق الاتجاه العربى فى بيان الإعجاز القرآنى الذى يقوم على أصول عربية خالصة بعيدا عن الإتجاه الواقع تحت تأثير المنطق أو الفلسفة. خامسا: آيات الأحكام: استعرض ابن عاشور فى تفسير هذه الآيات كثيرا من أقوال أئمة المذاهب الفقهية وأصحابهم فضلا عن الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين، وكان تفسيره للآية الواحدة زاخرا بكثير من أقوال العلماء والفقهاء حتى كأنه لم يترك قولا واحدا لما ذكروه فى الآية المطروحة أمامه، سواء ما أجمع عليه هؤلاء أو اختلفوا فيه. واتخذ هذا الاستعراض أشكالا مختلفة عند مناقشة الآراء الفقهية، فحينا يجمع بين ما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك والشافعى، أو أبو حنيفة وبعض فقهاء الأمصار كالليث بن سعد، وحينا بين ما ذهب إليه مالك والشافعى دون غيرهما، أو مالك والشافعى وبعض التابعين، أو ما روى أحمد بن حنبل فى مسنده وغيره من أصحاب الأئمة، وقد أخذ مالك فى هذا الاستعراض نصيبا أكثر من غيره من الفقهاء أصحاب المذاهب وأكثر مروياته عنه كان من الموطأ،

سادسا: أقوال الفلاسفة وعلماء الهيئة:

ثم يليه أبو حنيفة والشافعى، وأخذ الإمام أحمد بن حنبل نصيبا دون هؤلاء، وكان ابن عاشور غالبا ما يعزو كل قول إلى صاحبه، أو يذكر مصدره إذا كان حديثا أو كتابا من كتب الفقه أو التفسير. وكانت اللغة عونا له فى استنباط بعض الأحكام، وابن عاشور المالكى المذهب لم يقف تفسيره لآيات الأحكام على أقوال رجال هذا المذهب، وإنما كان يستعين بكل قول من المذاهب الفقهية الأخرى فيما يناسب الآية، ولا يمنع ذلك من نصرته للمذهب المالكى مع ذكر من قال بذلك الحكم من الصحابة والتابعين على طريقة مالك فى استنباط الأحكام وقواعده ومنها" عمل أهل المدينة". سادسا: أقوال الفلاسفة وعلماء الهيئة: 1 - أقوال الفلاسفة: كانت هذه الأقوال تلقى ضوءا على معنى اللفظة من الآية، ومعانى الألفاظ شغلت الحكماء طويلا، وذهب كل منهم مذاهب مختلفة فى تحديد مراميها أو دلالاتها، وحين ينقل ابن عاشور هذه الأقوال كان ذلك فى دائرة الاستفادة منها، تعينه فى تعميق معنى اللفظة لا معنى الآية، حيث يبقى هذا المعنى للمفسر، ويقترب منه بأدواته المختلفة، ويحيطه بما يستطيعه منها دون أن تنفرد أقوال الحكماء بمعنى الآية أو تطغى عليه. 2 - أقوال علماء الهيئة: لم يسلّم ابن عاشور بكل ما قاله علماء الهيئة، فأسرار الكون البعيد ما زال أغلبها غامضا عن العقول، بعيدا عن أدوات العلم أو مناهجه، والأبعاد التى أشارت إليها الآية أكثرها لم يقترب منها العقل الإنسانى، وما قرّبه الله إلى أفهامنا إنما هو حث على التدبر والتصديق.

المذاهب الاعتقادية:

المذاهب الاعتقادية: تعرض ابن عاشور فى تفسيره للمذاهب الاعتقادية كالتصوف والاعتزال والجبرية والشيعة الإمامية والخوارج والبهائية، وتناول فى هذا العرض أبرز قضايا كل مذهب من هذه المذاهب. وكان مسهبا فى إبراز هذه القضايا وأقوال أصحاب المذاهب فيعرض للقول والقول الآخر، ويذكر الأقوال مؤيدا سبب هذا التأييد، أو معارضا مظهرا سبب تلك المعارضة، وهو فى كل ذلك يستعين بأدوات مختلفة ووسائل متنوعة اكتملت فى يديه مع ما يتمتع به من عقلية تحليلية وثقافة موسوعية أمكنه بها إسقاط كثير من المبالغات. التصوف: نقل ابن عاشور عن رجال هذا المذهب بعض أقوالهم مثل الغزالى والحسن البصرى وغيرهما، وبدا ميله لبعض هذه الأقوال خصوصا ما تعلق بمعنى التدبر فى قراءة القرآن الكريم، أو معنى الإخلاص، أو الحكمة الإلهية كما جاءت عند الغزالى، وأنكر ابن عاشور بعض القراءات المنسوبة إلى الحسن البصرى وكون بعض السور مدنية أو مكية، وقد وجد الجانب الأخلاقى عند الصوفية تأييدا من صاحب التحرير والتنوير إلا أن معارضته كانت واضحة فى رفضه لمنهجهم فى تفسير القرآن الكريم القائم على الإشارات والكشف المرحلى، وانتهى إلى أن التشريع لا يقوم على أصول موهومة لا ضابط لها. الاعتزال: كانت نقول ابن عاشور من تفسير الزمخشرى كثيرة متنوعة خصوصا فيما يتصل بالتفسير وعلومه والبلاغة وفنونها والنحو ومسائله واللغة وبعض دلالات ألفاظها، وذلك مما برع فيه صاحب الكشاف ولفت أنظار العلماء إليه.

الجبرية:

وكانت هذه النقول من المواطن التى تمثل نقاط اتفاق أو تطابق فى الآراء بين المفسرين ابن عاشور والزمخشرى، فضلا عن بعض مسائل التأويل المتصلة بالتنزيه مثل" اليد والوجه". وتبرز معارضة ابن عاشور للمذهب الاعتزالى بعامة وللزمخشرى بخاصة إذا لم يكن هناك تطابق فى الآراء وتباعدت وجوه الاختلاف وخاصة فى مسألة." الرؤية" و" الإرادة الإلهية"، حيث انبرى ابن عاشور مدافعا عن المفهوم الأشعرى لهذه الإرادة. ومهما كانت وجوه الاتفاق أو الاختلاف بين ابن عاشور والزمخشرى، فقد كان لكل منهما وسائله وطريقته فى عدم الأخذ بظاهر القرآن فى آيات الصفات. الجبرية: عارض ابن عاشور هذا المذهب خصوصا ما اتصل بأفعال العباد حيث يدعى بعض عوام المسلمين أنهم مجبورون على فعل المعاصى، واتهمهم ابن عاشور بجهل حكمة الله تعالى فى وضع نظام هذا العالم التى اقتضت أن يجعل حجابا بين تصرفه تعالى فى أحوال المخلوقات وبين تصرفاتهم فى أحوالهم بمقتضى إرادتهم. الشيعة الإمامية: برزت معارضة ابن عاشور لهذا المذهب فيما ذكر رجاله عن عصمة الأئمة، وقد أجمع مفسروه على أن الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ الأحزاب: 33. المقصود بها على وفاطمة والحسن والحسين، ومن ثم يستوجب ذلك

الخوارج:

عصمة الأئمة من بعدهم، وقالوا: إن عصمة الإمام شرط لازم للاستقامة وحفظ النظام، ولكن ابن عاشور أدخل أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فى" أهل البيت" وذكر: إن نزول الآية كان فى شأنهن. كذلك عارضهم فيما خالفوا فيه السلف الأول حيث قصدوا من تفسير الآية: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ...... الأحزاب: 56. الغض من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يذكر الإمامية أن التسليم المقصود هنا هو التسليم على علىّ وفاطمة وآلهما وهو مخالف لما أجمع عليه المسلمون. أما عن زواج المتعة وذهاب علماء الجمهور إلى تحريمه، واعتقاد الشيعة بمشروعيته، فقد ذهب ابن عاشور إلى إباحته بحال الاضطرار مثل الغربة فى سفر، أو غزو، إذا لم تكن مع الرجل زوجة. الخوارج: عارض ابن عاشور الخوارج والمعتزلة فيما اتفقوا فيه وأن الإيمان اعتقاد ونطق وعمل، وإذا اختل واحد منها بطل الإيمان، واتهمهم بأن مذاهبهم فى ذلك الشأن غير منتظمة، ولا محصورة بأدلة سوى التعلق بظواهر بعض الآثار مع إهمال ما يعارضها، كما عارض مفسرنا المعتزلة فيما خالفوا فيه الخوارج فى مقادير الأعمال المنوط بها الإيمان، وأن مذاهبهم فى ذلك غير منضبطة. البهائية: اعتمدت البابية أو البهائية فى دعواها على مزاعم باطلة فى استمرار النبوة والوحى، وقد ادعى صاحبها أنه أوحى إليه بكتاب اسمه" البيان" وأن القرآن أشار إليه بقوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ الرحمن: 3، 4.

والبهائية شعبة من هذه الملة وورثت عنها هذه المزاعم، ووقف ابن عاشور من هذه الدعاوى الباطلة موقف غيره من المسلمين حيث لا يتردد واحد منهم فى تكفير من يدعى نبوة لأحد بعد خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.

جريدة أهم المراجع على حروف المعجم

جريدة أهم المراجع على حروف المعجم 1 - الإبانة عن معانى القراءات، مكى بن أبى طالب حموش القيسى، تحقيق وتعليق الدكتور عبد الفتاح شلبى، مكتبة نهضة مصر- القاهرة. 2 - الإتقان فى علوم القرآن، جلال الدين عبد الرحمن السيوطى دار المعرفة بيروت- لبنان ط 4، 1398 هـ 1978 م. 3 - الإحكام فى أصول الأحكام، سيف الدين على بن محمد الآمدى، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان 1400 هـ- 1980 م. 4 - إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد بن محمد الغزالى، كتاب الشعب، القاهرة. 5 - الإرادة عند المعتزلة والأشاعرة، الدكتور عبد البارى محمد داود، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 1996 م. 6 - الإسرائيليات فى التفسير والحديث، الدكتور محمد حسين الذهبى، مكتبة وهبة القاهرة، ط 3 1406 هـ- 1986 م. 7 - اصطلاحات الصوفية، كمال الدين عبد الرزاق القاشانى" من صوفية القرآن الثامن الهجرى"، تحقيق الدكتور محمد كمال إبراهيم جعفر، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1981 م. 8 - أصل الشبعة وأصولها، محمد حسين آل كاشف الغطاء، مؤسسة الأعلمى للمطبوعات بيروت- لبنان 1391 هـ. 9 - الأصول من الكافى، أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكلينى، صححه وعلق عليه على أكبر الغفارى، دار الكتب الإسلامية طهران بازار سلطانى ط 3 1388 هـ.

10 - أضواء البيان فى إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الجكنى الشنقيطى، طبع وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء الرياض المملكة العربية السعودية 1403 هـ- 1982 م. 11 - الاعتبار فى الناسخ والمنسوخ، أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن موسى الحازمى تحقيق محمد أحمد عبد العزيز، مكتبة عاطف الأزهر- القاهرة. 12 - الأعلام، خير الدين الزركلى، دار العلم للملايين ط 10، 1992 م. 13 - أعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، راجعه وقدم له طه عبد الرءوف سعد، دار الكتب العلمية- القاهرة. 14 - أعيان الشيعة، محسن الأمين العاملى، حققه حسن الأمين، مطبعة الإنصاف بيروت- لبنان. 15 - الإعجاز البيانى للقرآن ومسائل ابن الأزرق، دكتورة عائشة عبد الرحمن دار المعارف مصر ط 2، 1978 م. 16 - الأغانى، أبو الفرج الأصفهانى على بن الحسين، دار الثقافة بيروت- لبنان. 17 - الاقتراح فى أصول النحو، جلال الدين عبد الرحمن السيوطى، مطبعة دائرة المعارف النظامية حيدرآباد 1310 هـ. 18 - الإمام الطبرى دكتور فتحى الدرينى" دراسات وبحوث فى الفكر المعاصر" دار قتيبة للطباعة والنشر بيروت- لبنان 1408 هـ- 1988 م. 19 - إنباة الرواة على أنباء النحاة، على يوسف بن إبراهيم بن ربيعة المعروف بالقفطى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتب المصرية القاهرة 1955.

20 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل، أبو سعيد عبد الله الشيرازى البيضاوى، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان 1408 هـ- 1988 م. 21 - الباعث الحثيث فى شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير، أحمد محمود شاكر ط 3 دار التراث- القاهرة 1399 هـ- 1979 م. 22 - البحر المحيط، ابن حيان الأندلسى، مكتبة النصر الحديثة- الرياض 23 - البداية والنهاية فى التاريخ، إسماعيل بن عمر بن كثير، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان. 24 - البديع، عبد الله بن المعتز، تحقيق وتعليق كراتشوفسكى ط 4 مكتبة المثنى بغداد 1967 م. 25 - البرهان فى علوم القرآن، بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية صيدا- بيروت. 26 - البغوى الفراء وتفسيره للقرآن الكريم، الدكتور محمد إبراهيم الشريف مطبعة المدينة القاهرة 1406 هـ- 1986 م. 27 - بغية الوعاة فى طبقات اللغويين والنحاة، جلال الدين عبد الرحمن السيوطى تحقيق أبو الفضل إبراهيم المكتبة العصرية بيروت- لبنان. 28 - البيان فى تفسير القرآن، أبو القاسم الموسوى الخوئى، منشورات دار التوحيد للنشر والتوزيع، الكويت 1399 هـ- 1979 م. 29 - البيان فى مباحث علوم القرآن، عبد الوهاب عبد المجيد غزلان، مطبعة دار التأليف- القاهرة. 30 - البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر بن محجوب" الجاحظ" دار الكتب العلمية بيروت- لبنان.

31 - تاريخ بغداد، أبو بكر أحمد بن على الخطيب البغدادى، مطبعة السعادة القاهرة 1931 م. 32 - تاريخ الجدل، الشيخ محمد أبو زهرة، دار الفكر العربى، القاهرة ط 1 1934 م. 33 - تاريخ الفكر الفلسفى فى الإسلام الدكتور محمد على أبو ريان دار النهضة العربية بيروت- لبنان 1976 م. 34 - التبيان فى تفسير القرآن أبو جعفر الطوسى تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملى، مكتبة الأمين النجف الأشرف. 35 - التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور الدار التونسية للنشر ونسخة أخرى مشتركة مع الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، الجماهيرية الليبية. 36 - تذكرة الحفاظ، أبو عبد الله شمس الدين الذهبى، دار إحياء التراث العربى بيروت- لبنان 1400 هـ- 1980 م. 37 - التصوف الثورة الروحية فى الإسلام- الدكتور أبو العلا عفيفى، دار المعارف مصر 1963 م. 38 - التفسير البيانى للقرآن الكريم، الدكتورة عائشة عبد الرحمن، دار المعارف- مصر ط 6. 39 - التفسير ورجاله، محمد الفاضل بن عاشور، دار الكتب الشرقية ط 2 تونس 1972 م. 40 - التفسير والمفسرون، الدكتور محمد حسين الذهنى، دار القلم، بيروت- لبنان.

41 - تقرير الإسناد فى تفسير الاجتهاد، جلال الدين عبد الرحمن السيوطى، تحقيق الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد، دار الدعوة الإسكندرية 1983 م. 42 - التسهيل لعلوم التنزيل، أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزى الكلبى الغرناطى، الدار العربية للكتاب. 43 - تهذيب اللغة، منصور محمد أحمد الأزهرى، تحقيق الدكتور عبد الحليم النجار. 44 - الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى مؤسسة التاريخ العربى بيروت- لبنان 1405 هـ- 1985. 45 - جامع البيان عن تأويل آى القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير بن كثير بن غالب الطبرى، دار المعرفة بيروت- لبنان 1409 هـ- 1989 م، ونسخة أخرى تحقيق محمود وأحمد محمد شاكر دار المعارف- مصر. 46 - جوامع الجامع، أبو على الفضل بن الحسن الطبرسى، دار الأضواء، بيروت- لبنان 1403 هـ- 1987 م. 47 - الحديث المرسل حجيته وأثره فى الفقه الإسلامى، محمد حسن هيتو، دار الفكر بيروت- لبنان. 48 - حسن المحاضرة فى أخبار مصر القاهرة، جلال الدين عبد الرحمن السيوطى، المطبعة الشرقية القاهرة 1327 هـ. 49 - حياة أمير المؤمنين، محمد صادق الصدر، مكتبة دار الكتب ط 2 بيروت- لبنان 1391 - 1972 م. 50 - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغدادى، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، دار الكتاب العربى القاهرة 1389 هـ- 1969 م.

51 - دائرة المعارف الإسلامية، نقلها إلى العربية أحمد الشنتاوى وغيره، مراجعة محمد أحمد جاد المولى، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1923 م. 52 - دراسات فى فقه اللغة، الدكتور صبحى الصالح، بيروت 1971 م. 53 - الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة، ابن حجر العسقلانى، طبع حيدرآباد 1349 هـ، ونسخة أخرى ط دار الجيل بيروت- لبنان 1411 هـ- 1993 م. 54 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آقابرزك الطهرانى، دار الأضواء بيروت- لبنان. 55 - الرسالة، الإمام محمد بن إدريس الشافعى تحقيق وشرح محمود محمد شاكر مطبعة الحلبى القاهرة 1358 هـ- 1940 م. 56 - الرمزية الصوفية فى القرآن الكريم، الدكتور سيد عبد التواب عبد الهادى دار المعارف مصر 1979 م. 57 - روح الإيمان فى الدين الإسلامى، عبد الصاحب الحسنى العاملى مؤسسة الأعلمى بيروت- لبنان 1395 هـ- 1975 م. 58 - السبعة فى القراءات، أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، تحقيق الدكتور شوقى ضيف، ط 3 دار المعارف- مصر 1980 م. 59 - شذرات الذهب فى أخبار من ذهب، ابن العماد الحنبلى. 60 - شرح القصائد التسع المشهورات، لأبى جعفر أحمد بن محمد النحاس تحقيق أحمد الخطاب، مديرية الثقافة العامة، سلسلة كتب التراث، وزارة الإعلام مطبعة دار الحرية بغداد. 61 - شرح شواهد المغنى، جلال الدين عبد الرحمن السيوطى، منشورات دار مكتبة الحياة بيروت- لبنان.

62 - شرح مسند أبى حنيفة شرح الملا على القارى، قدم له وضبطه الشيخ خليل محيى الدين الميسى، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان 1405 هـ- 1985 م. 63 - الشعر والشعراء، أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة، حققه وضبط نصه الدكتور مفيد قميحة، راجعه وضبط نصه نعيم زرزور، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان. 64 - الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، هاشم معروف الحسنى، دار القلم، بيروت- لبنان 1978 م. 65 - الشيعة فى التاريخ، محمد حسين الزين، دار الآثار للطباعة والنشر، بيروت- لبنان ط 2 1399 هـ- 1978 م. 66 - صحيح البخارى بشرح السندى، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة عيسى البابى الحلبى، ونسخة أخرى ط دار الشعب- القاهرة. 67 - صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن حجاج بن مسلم القشيرى، دار إحياء التراث العربى، بيروت- لبنان، وطبعة أخرى- عيسى البابى الحلبى. 68 - الصفوة لمناقب آل بيت النبوة، عبد الرءوف محمد بن تاج العارفين بن على زين العابدين المعروف بالمناوى الشافعى مخطوط تحت رقم 22 مكتبة الإسكندرية، الشاطبى. 69 - الصلة بين التصوف والتشيع، الدكتور كامل مصطفى الشيبى ط 2 دار المعارف مصر 1969 م. 70 - " الصناعتين" أبو الهلال العسكرى، تحقيق محمد على البجاوى ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية بيروت- لبنان 1406 هـ- 1986 م.

71 - طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين أبو النصر عبد الوهاب بن تقى الدين السبكى المطبعة الحسينية القاهرة 1324 م. 72 - طبقات الصوفية، أبو عبد الرحمن السلمى، تحقيق نور الدين شربية، مطابع دار الكتاب العربى القاهرة 1372 هـ- 1972 م. 73 - طبقات فحول الشعراء، محمد بن سلام الجمعى، قرأه وشرحه محمود محمد شاكر، دار المدنى بجدة. 74 - طبقات المفسرين، جلال الدين السيوطى، تحقيق على محمد عمر، مكتبة وهبة القاهرة. 75 - طبقات المفسرين، شمس الدين محمد بن على بن أحمد الداودى، تحقيق على محمد عمر، مكتبة وهبة القاهرة. 76 - الطواسين، الحسين بن الحلاج، تحقيق وتصحيح بولس نويا اليسوعى، دار النديم القاهرة. 77 - عقائد الإمامية، محمد رضا المظفر، دار الزهراء بيروت- لبنان ط 3 1400 هـ- 1980 م. 78 - علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى المعروف بابن الصلاح، مطبعة السعادة، القاهرة 1326 هـ. 79 - غاية النهاية فى طبقات القراء، شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد بن الجوزى، عنى بنشره ج برجستراسر، ط 3 دار الكتب العلمية بيروت- لبنان 1402 هـ- 1982 م. 80 - فتح البارى بشرح صحيح البخارى، أبو الفضل أحمد بن على بن حجر العسقلانى، المطبعة الخيرية القاهرة 1384 هـ

81 - الفتوحات المكية، محيى الدين بن عربى، تحقيق الدكتور عثمان يحيى، تصدير ومراجعة الدكتور إبراهيم مذكور، الهيئة العامة للكتاب- القاهرة 1401 هـ 1989 م. 82 - الفرق بين الفرق، عبد القاهر بن طاهر البغدادى، تقديم وتعليق عبد الرءوف سعد، مؤسسة الحلبى القاهرة. 83 - الفصل فى الملل والأهواء والنحل، أبو محمد على بن أحمد بن حزم الظاهرى المطبعة، الأدبية القاهرة 1317 هـ. 84 - فصول فى فقه اللغة، الدكتور رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجى، القاهرة ط 3 1408 هـ- 1997 م. 85 - الفهرست، ابن النديم دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان. 86 - قوت القلوب، أبو طالب مكى، المكتبة الحسينية، الأزهر، القاهرة 1351 هـ- 1933 م. 87 - الكامل فى اللغة والأدب، أبو العباس محمد بن يزيد المعروف بالمبرد، مكتبة المعارف بيروت- مكتبة النصر الرياض 1386 هـ. 88 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، جاد الله محمود بن عمر الزمخشرى، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان. 89 - كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون، ملا كاتب شلبى، طبع فى مكتبة العالم، نظارة المعارف، الناشر حسن حلمى 1310 هـ. 90 - لباب النقول فى أسباب النزول، جلال الدين عبد الرحمن السيوطى، هامش تفسير الجلالين، دار المعارف القاهرة. 91 - مباحث فى علوم القرآن، الدكتور صبحى الصالح، دار العلم للملايين ط 14، 1982 م.

92 - مباحث فى علوم القرآن، منّاع القطان، مؤسسة الرسالة بيروت- لبنان ط 22. 93 - مجمع البيان فى تفسير القرآن، أبو على الفضل بن الحسن الطبرسى منشورات مكتبة الحياة بيروت- لبنان 1380 هـ- 1961 م. 94 - مشكل إعراب القرآن، أبو طالب مكى، تحقيق ياسين محمد السواس، دار المأمون للتراث، دمشق. 95 - المدهش فى علوم القرآن والحديث واللغة وعيون التاريخ والوعظ، عبد الرحمن بن على محمد بن على الجوزى، مطبعة الآداب بغداد 1348 هـ. 96 - المدارس النحوية، الدكتور شوقى ضيف، دار المعارف مصر ط 4، 1979 م. 97 - مدرسة البصرة النحوية نشأتها وتطورها، الدكتور عبد الحميد السيد، دار المعارف مصر، مطابع سجل العرب 1388 هـ- 1968. 98 - مذاهب آل البيت، محمد مرعى الأمين الأنطاكى، مكتبة قم إيران 1382 هـ 1962 م. 99 - مذاهب التفسير الإسلامى، اجنتس جولد تسهير، دار اقرأ بيروت- لبنان 1405 - 1985 م. 100 - مراتب النحويين، أبو الطيب اللغوى، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. 101 - المزهر فى علوم اللغة، جلال الدين عبد الرحمن السيوطى، شرحه وضبطه محمد أحمد جاد المولى، وعلى محمد البجاوى، محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابى الحلبى القاهرة.

102 - المصفى بأكف أهل الرسوخ فى علم الناسخ والمنسوخ، أبو الفرح عبد الرحمن بن على بن محمد بن على الجوزى، تحقيق الدكتور حاتم صالح الضامن مؤسسة الرسالة بيروت- لبنان ط 2 1406 هـ- 1986 م. 103 - معالم التنزيل، أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوى، إعداد وتحقيق خالد عبد الرحمن العك، مروان سوار، دار المعرفة، بيروت- لبنان 1406 هـ- 1986 م. 104 - المعجزة الكبرى" القرآن"، الشيخ محمد أبو زهرة، دار الفكر العربى القاهرة. 105 - معجم الشعراء، المرزبانى، تحقيق عبد الستار أحمد فراج. 106 - معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، الدكتور أحمد المطلوب ط المجمع العلمى العراقى 1403 هـ 1983 م. 107 - معجم الأدباء، ياقوت الحموى، مكتبة عيسى البابي الحلبى- القاهرة. 108 - معرفة الناسخ والمنسوخ، محمد بن حزم الظاهرى، من هامش تنوير المقباس فى تفسير ابن عباس، الفيروزآبادى" أبو الطاهر محمد بن يعقوب" مطبعة الحلبى القاهرة. 109 - مقدمة فى أصول التفسير، تقى الدين أحمد بن تيمية، منشورات مكتبة الحياة بيروت- لبنان 1980 م. 110 - المغنى فى أبواب التوحيد والعدل، القاضى أبو الحسين عبد الجبار، القسم الأول الجزء المتمم للعشرين" فى الإمامة" تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود، الدار المصرية للتأليف والترجمة 1960 م. 111 - المنقذ من الضلال، أبو حامد محمد بن محمد الغزالى، تحقيق الدكتور جميل صليبا، الدكتور كامل عياد، ط 8، 1393 هـ- 1973 م.

112 - الملل والنحل، عمر بن عبد الكريم بن أحمد أبو الفتح الشهرستانى، تحقيق محمد سعيد كيلانى، مطبعة البابى الحلبى 1396 هـ- 1976 م. 113 - منهج الزمخشرى فى التفسير، الدكتور مصطفى الصاوى الجوينى، دار المعارف مصر 1962 م. 114 - الموافقات فى أصول الفقه، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطى المالكى" الشاطبى". 115 - الناسخ والمنسوخ، أبو القاسم هبة الله بن سلامة، مكتبة ومطبعة البابى الحلبى ط 2 1387 هـ- 1967 م. 116 - النحو وكتب التفسير، الدكتور إبراهيم عبد الله رفيدة، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان طرابلس الجماهيرية الليبية، ط 2، 1984 م. 117 - نشأة التفسير فى الكتب المقدسة والقرآن، الدكتور سيد أحمد خليل الوكالة الشرقية للثقافة الإسكندرية 1954 م. 118 - نقد الشعر، أبو الفرج قدامة بن جعفر، تحقيق جمال مصطفى مكتبة الخانجى القاهرة ط 3. 119 - نهاية الإيجاز فى دراسة الإعجاز، فخر الدين محمد بن عمر الرازى نسخة مخطوطة تحقيق الدكتور محمد مصطفى هدارة .... مكتبة كلية الآداب جامعة الإسكندرية. 120 - ولاية أهل البيت، عبد اللطيف برى، دار التعارف للمطبوعات، بيروت- لبنان.

كتب أخرى للمؤلف

كتب أخرى للمؤلف" قريبا" 1 - 100 س ج فى علوم القرآن. 2 - 100 س ج فى علوم الحديث النبوى. 3 - أقوال فى الإنسان. 4 - أقوال ساخرة. 5 - أقوال فى الحياة والناس.

رقم الإيداع فى دار الكتب 14997/ 2000

§1/1