منهج الإمام أحمد في إعلال الأحاديث
بشير علي عمر
المجلد الأول
المجلد الأول مقدمة ... المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن أعظم نعم الله تعالى على البشرية نعمة النبوة والرسالة، بها أنقذهم من الضيق في هذه الحياة والدنيا والهلاك والخذلان في العقبى، وهداهم بها إلى الحياة الطيبة في الأولى، والسعادة الأبدية في الأخرى. قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123-124] .
وقد أتم الله هذه النعمة ببعثة خاتم النبيين وإمام المرسلين وخليله وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فأكمل به الدين وأتمّ به النعمة، وقضى جلّ في عُلاه بحكمته ولطفه وكرمه ألا ينقطع فضلُه ومنُّه على عباده، فتكفل سبحانه بحفظ ذلك النور الذي أرسله به، فببقائه تبقى النعمة وتزول النقمة، فحفظ الكتاب في الصدور والصحف {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] . وقيض للأمة من يحفظ السنة من الحملة الصادقين الموثوقين والعلماء الربانيين المؤيدين بالتأييد الرباني، الذين رزقهم من الحفظ والذكاء ما مكنهم به من حفظ السنة النبوية وتدوينها، ووضْعِ سياجٍ عليها يصونها من أن تكون فريسةً لأباطيل من رام الخلط على الأمة في سنة نبيها من الوضّاعين والملاحدة، أو لأوهامِ وأغلوطاتِ من لم يُحكم ضبطَ المرويات. وقد بذل هؤلاء الجهابذةُ من العلماء أقصى الجُهد في وضع علم هو من مبتكرات هذه الأمة وخاصيتها التي خصها الله بها، ألا وهو علم الحديث رواية ودراية، فرد الله بهؤلاء الفرسان وبسهام هذا العلم الذي ابتكروه أعنف غارة عرفها تاريخ البشرية، فردوا كيد الكائدين وحُفظتْ سنةُ سيد المرسلين. والغاية القُصوى من هذا العلم هي معرفة صحة الحديث وسقمه، وجميع فنونه ومباحثه مسخرة لتحصيل هذه الغاية، واستمداده من نقد العلماء الجهابذة للمرويات ولنقلة الأخبار بما خصهم الله به من فضيلة المعرفة والعدالة والورع، وهؤلاء العلماء لم يزالوا في كل دهر وزمان، من لدن عهد الصحابة إلى أن دونت السنن وتم وضع معالم علم السنة رواية ودراية. فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لهم قصب السبق في نقد المرويات والرواة، ومواقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في نقدها
لمنقول أقرانها من الصحابة معروفة، وكذلك طلبها لعرض مرويات الراوي عليه من حين إلى آخر لاختبار حفظه وضبطه وسلامة مرويه من زيادة أو نقصان1، وهذا ابن عباس رضي الله عنه لما فطن لوقوع الكذب على رسول الله يدع رواية أهل التهمة والريبة، وكذلك نقده للمروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من القضاء والعلم ورده للأباطيل المروية عنه في ذلك أيضاً معروف ومشهور2. وقد درج على هذا النهج أئمة التابعين، فتابعيهم، فتبع أتباعهم إلى أن شب هذا العلم وترعرع. ومن أهم مباحث هذا العلم وأشدها تعلقاً بتحصيل الغاية المنشودة من علم الحديث معرفة علل الأحاديث، وهو فن دقيق إذ به ينكشف مداخل الوهم والخطأ في مرويات الثقات الغالب على منقولهم السلامة والاستقامة، ولدقته لم يتحقق إلا لزمرة يسيرة من العلماء صاروا بذلك أئمة يقتدى بهم، وحجة يرجع إليهم. وإن استمداد هذا العلم الشريف من كلام هؤلاء الأئمة ومناهجهم، وبمطالعة ذلك وتدبّره يحصل لطالب علم الحديث أهلية الكلام في هذا الفن الدقيق. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "ولا بدّ في هذا العلم من طول ممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدمت المذاكرة به فليكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين، كيحيى القطان، ومن تلقى عنه كأحمد، وعلي بن المديني وغيرهما، فمن رزق مطالعة ذلك وفهمه، وفقُهتْ نفسُه فيه، وصارت له قوةُ نفسٍ وملَكةٌ، صلُح له أن يتكلّم فيه"3. وإن من جهابذة هذا العلم بلا نزاع ومحققيه بلا مِراء الإمام أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وكلامه في الإعلال ومسالك العلة مبثوث فيما نقل عنه في كتب شتى ككتابه العلل ومعرفة الرجال، وبعض كتب مسائله،
وكتب تلاميذه في العلل، ككتاب العلل عن الإمام أحمد للحافظ أبي بكر الخلال وغير ذلك من الكتب الكثيرة. ولما رأيت شخصية هذا الإمام العَلم في هذا العِلم، وموقع كلامه في باب إعلال الأحاديث، وما لمعرفة منهجه في هذا العلم من أهمية، اخترت أن يكون موضوع بحثي في أطروحة الدكتوراه دراسة الأحاديث التي تكلم عليها هذا الإمام بالإعلال، ودراسة كلامه في مسالك الإعلال لاستخلاص منهجه في العلل، وبالله تعالى أستعين وعليه التكلان. وجعلت عنوان البحث: منهج الإمام أحمد في إعلال الأحاديث. أهمية الموضوع والسبب في اختياره: فأهمية هذا الموضوع والسبب في اختياري له يرجع إلى أمور هي: 1- شخصية الإمام أحمد في علم الحديث عموماً وفي علم علل الحديث خصوصاً، فقد كان من أكثر الأئمة كلاماً في إعلال الأحايث. 2- أهمية معرفة مناهج الأئمة في باب العلل، ولقلة معرفة بعض المعاصرين لمنهاجهم اضطربوا في باب التصحيح والتضعيف، فيصححون ما قد أجمع الأئمة على إعلاله، أو يضعفون بعلة قد اطلع الأئمة عليها ولم يروها قادحة. 3- كون هذا الإمام الكبير مع شهرته وتقدمه في هذا العلم لم يفرد منهجه في باب إعلال الأحاديث بالدراسة حسب علمي. 4- إيجاد خدمة علمية بإبراز الأحاديث المعلّة عند هذا الإمام. 5- إن دراسة منهج هذا الإمام تبرز دقة هذا العلم وما يحتاج إليه دارسه من سعة المعرفة، فيكون في ذلك إسهام في تنبيه الباحثين المشتغلين بهذا العلم على أهمية التروي وطول النظر قبل إصدار الحكم على الأحاديث.
6- إن تتبع كلام الأئمة في علم العلل ودراسة مناهجهم هو أفضل طريق إلى اكتساب المعرفة بهذا العلم كما تقدم قول الحافظ ابن رجب رحمه الله في ذلك. خطة البحث: جعلت البحث في مقدمة، وأربعة أبواب، وخاتمة. المقدمة: وفيها بيان أهمية الموضوع، والسبب في اختياره، وذكر خطة البحث ومنهجه. الباب الأول: التعريف الموجز بالإمام أحمد وببعض الكتب التي اعتنت بتدوين كلامه في علل الحديث، وفيه فصلان: الفصل الأول: التعريف الموجز بالإمام أحمد، وفيه خمسة مباحث. المبحث الأول: اسمه، ونسبه، وأسرته، ومولده، ونشأته. المبحث الثاني: حياته العلمية ـ طلبه للعلم، أشهر شيوخه، وأشهر تلاميذه. المبحث الثالث: إمامته ومكانته عند علماء الحديث. المبحث الرابع: آثاره العلمية. المبحث الخامس: وفاته. الفصل الثاني: التعريف ببعض الكتب التي اعتنت بتدوين كلام الإمام أحمد في العلل، وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله. المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته. المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب. المبحث الثاني: كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي وغيره. المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته.
المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب. المبحث الثالث: كتاب مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله. المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته. المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب. المبحث الرابع: كتاب مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود السجستاني. المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته. المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب. المبحث الخامس: كتاب مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح. المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته. المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب. المبحث السادس: كتاب مسائل الإمام أحمد برواية ابن هانئ. المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته. المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب. المبحث السابع: سؤالات أبي داود للإمام أحمد بن حنبل في جرح الرواة وتعديلهم. المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته. المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب. المبحث الثامن: المنتخب من العلل للخلال. المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته. المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب.
الباب الثاني: إعلال الأحاديث بالطعن في رواتها، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: الإعلال بالطعن في الراوي بالجهالة، وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: ضابط الجهالة عند الإمام أحمد. المبحث الثاني: جهالة الصحابي لا تضر. المبحث الثالث: رواية الراوي المجهول حديثاً مخالفاً للثابت المعروف. المبحث الرابع: نماذج من إعلال الإمام أحمد للأحاديث بجهالة بعض رواتها. المبحث الخامس: إعلال حديث الراوي المكثر من الرواية عن المجهولين. الفصل الثاني: الإعلال بالطعن في الراوي بما يخل بعدالته، وفيه مبحثان: المبحث الأول: الإعلال بالطعن في الراوي بالكذب أو التهمة به، وفيه سبعة مطالب: المطلب الثاني: إثبات الوضع بقرائن تعود إلى حال المروي. المطلب الثالث: لا منافاة بين ثقة الراوي والحكم على حديثه بالوضع. المطلب الرابع: تعدد طرق الحديث المعل بكذب راويه. المطلب الخامس: بعض مصطلحات الإمام أحمد في الحكم على حديث الراوي المطعون بالكذب. المطلب السادس: موقف الإمام أحمد من الرواية عن الكذّابين والمتهمين بالكذب. المطلب السابع: مخالفة حكمِه حكمَ غيره في آحاد المسائل في هذا الباب. المبحث الثاني: الإعلال بالطعن في الراوي ببدعة فيه، وفيه مطلبان. المطلب الأول: التمييز بين البدعة التي ترد معها رواية الراوي المتصف بها من غيرها.
المطلب الثاني: موقف الإمام أحمد من الرواية عمن أجاب في محنة خلق القرآن. الفصل الثالث: الإعلال بالطعن في الراوي بما يخل بضبطه، وفيه ثمانية مباحث: المبحث الأول: الإعلال بسوء الحفظ الملازم للراوي، وفيه ستة مطالب: المطلب الأول: سوء الحفظ المطلق والإعلال به عند الإمام أحمد. المطلب الثاني: الحالات التي لا يعلّ بها حديث الراوي المتصف بسوء الحفظ. المطلب الثالث: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي عن بعض شيوخه والإعلال به عند الإمام أحمد. المطلب الرابع: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي عن أهل بعض البلدان والإعلال به عند الإمام أحمد. المطلب الخامس: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي إذا جمع الشيوخ في الإسناد والإعلال به عند الإمام أحمد. المطلب السادس: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي حين يروي بالمعنى. المبحث الثاني: الإعلال بسوء الحفظ الطارئ على الراوي، وفيه ثلاثة مطالب. المطلب الأول: الإعلال باختلاط الراوي لكبر سنه، فرعان لهذا المطلب: الفرع الأول: من كان صحيح السماع عن المختلط يحمل خطأ روايته على أمر آخر غير الاختلاط. الفرع الثاني: ما حدث به المختلط من كتاب لا يدخله الإعلال بالاختلاط. المطلب الثاني: الإعلال بما يلحق بالاختلاط بسبب ذهاب بصر الراوي. المطلب الثالث: الإعلال بما يلحق بالاختلاط بسب ذهاب كتب الراوي بسبب من الأسباب.
المبحث الثالث: الإعلال بالطعن في الراوي بشدة الغفلة وعدم التيقظ. المبحث الرابع: ما يخل بضبط الراوي بسبب طريقة التحمل. المبحث الخامس: الإعلال بالطعن في الراوي بما يخل بضبطه لكتابه، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: أهمية حفظ الكتاب وتقديمه على حفظ الصدر عند الإمام أحمد: المطلب الثاني: من كانت كتبه غير منقوطة ولا مشكولة: المطلب الثالث: من وقف على لَحَقٍ في كتابه: المبحث السادس: من لا يحدّث من كتابه فيهِم في حديثه: المبحث السابع: من حدّث في مكان لم تكن معه كتبه فوهِم، وحدّث في مكان آخر كانت معه كتبه فضبط: المبحث الثامن: من لم يضبط أهل إقليم حديثه: الباب الثالث: إعلال الأحاديث بما يخل باتصال أسانيدها، وفيه فصلان الفصل الأول: ما يثبت به الاتصال، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: اشتراط ثبوت السماع بين الرواة عند الإمام أحمد لثبوت الاتصال، وفيه مطلبان: المطلب الأول: الأدلة على أن الإمام أحمد يشترط ثبوت السماع للحكم باتصال الإسناد المعنعن. المطلب الثاني: ما يدل على اكتفاء الإمام أحمد بالمعاصرة وإمكان السماع والجواب عنه.
المبحث الثاني: وسيلة إثبات السماع وذكر شروطها وموانعها عند الإمام أحمد، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: طريق إثبات السماع بالتصريح به في السند. المطلب الثاني: شروط قبول التصريح بالسماع في السند. المطلب الثالث: قرائن تمنع من الحكم بثبوت السماع. المبحث الثالث: صيغ الأداء وعلاقتها بإثبات الاتصال. الفصل الثاني: الإعلال بما يخل باتصال الأسانيد، وفيه مبحثان: المبحث الأول: الإرسال والإعلال به، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: معنى الإرسال عند الإمام أحمد. المطلب الثاني: الإعلال بإسقاط الصحابي، وفيه أربع مسائل: المسألة الأولى: الصحبة وما تثبت به عند الإمام أحمد. المسألة الثانية: ما يقدح في ثبوت الصحبة. المسألة الثالثة: التفريق بين الصحبة المقترنة بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والمجردة منها. المسألة الرابعة: ما أعله بعدم ثبوت صحبة راويه عن النبي صلى الله عليه وسلم. المطلب الثالث: الإرسال الخفي والإعلال به عند الإمام أحمد. المطلب الرابع: المزيد في متصل الأسانيد والإعلال به عند الإمام أحمد. المبحث الثاني: التدليس والإعلال به عند الإمام أحمد، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: التعريف بالتدليس والمدلسين عند الإمام أحمد. المطلب الثاني: وجوه الإعلال بالتدليس عند الإمام أحمد. الوجه الأول: عدم تصريح المدلس بالسماع في السند.
الوجه الثاني: رواية الحديث عن الراوي المدلس من وجه آخر بالتصريح بالواسطة بينه وبين شيخه. الوجه الثالث: أن يذكر الراوي أنه لم يسمع الحديث من شيخه الذي روى عنه. الوجه الرابع: تنصيص الإمام على عدم سماع الراوي لحديث معين من شيخه. الوجه الخامس: تنصيص الإمام على عدم سماع المدلس من شيخه إلا أحاديث معينة. الوجه السادس: الإعلال بالنكارة التي سببها التدليس. المطلب الثالث: كشف من كان يدلس الأسماء تدليس الشيوخ. الباب الرابع: إعلال الأحاديث بالشذوذ وبالعلل الخفية، وفيه فصلان الفصل الأول: الإعلال بالتفرد والمخالفة، وفيه مبحثان: المبحث الأول: التفرد والإعلال به عند الإمام أحمد، وفيه سبعة مطالب: المطلب الأول: معنى التفرد والغرابة عند الإمام أحمد. المطلب الثاني: حد المنكر عند الإمام أحمد، وفيه أربع مسائل: المسألة الأولى: حد المنكر لغة. المسألة الثانية: إطلاقات المنكر عند الإمام أحمد. المسألة الثالثة: تفسير بعض أهل العلم لمعنى المنكر عند الإمام أحمد. المسألة الرابعة: التعريف الإصطلاحي للمنكر عند الإمام أحمد. المطلب الثالث: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي الثقة. المطلب الرابع: موقف الإمام أحمد من زيادات الثقات.
المطلب الخامس: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي الصدوق الذي خف ضبطه. المطلب السادس: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي الموصوف بسوء الحفظ. المطلب السابع: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي المجهول. المبحث الثاني: الإعلال بالمخالفة عند الإمام أحمد، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: مخالفة الراوي لرواية الأحفظ. المطلب الثاني: مخالفة الراوي لرواية الأكثر عدداً. المطلب الثالث: إعلال حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه. المطلب الرابع: نماذج من نقد الإمام أحمد للمتون لمخالفتها للثابت المعروف. الفصل الثاني: الإعلال بالعلل الخفية، وفيه مبحثان: المبحث الأول: نماذج من الأخطاء الواقعة في أحاديث الثقات، وفيه سبعة مطالب: المطلب الأول: أخطاء الحفاظ في الأسماء. المطلب الثاني: أخطاء الثقات في الألفاظ. المطلب الثالث: التصحيف. المطلب الرابع: القلب. المطلب الخامس: رفع الموقف ووصل المرسل. المطلب السادس: الإدراج. المطلب السابع: ذكر بعض القرائن يتوصل بها إلى معرفة أخطاء الثقات في الأحايث كما وردت عن الإمام أحمد. المبحث الثاني: طبقات الرواة عن الأعلام والترجيح بينهم عند الاختلاف.
الخاتمة: وفيها ذكر أبرز سمات منهج الإمام أحمد في إعلال الأحاديث والأصول التي بنى عليها كلامه في الإعلال، وهي خلاصة البحث. الفهارس العلمية، وتتضمن ما يلي: 1- فهرس الآيات القرآنية. 2- فهرس الأحاديث المرفوعة. 3- فهرس الآثار الموقوفة والمقطوعة. 4- فهرس الرجال المترجم لهم. 5- قائمة المصادر والمراجع. 6- فهرس الموضوعات.
منهج البحث: ويتلخص منهجي في هذا البحث في النقاط التالية: 1. جمع الأحاديث التي أعلها الإمام أحمد، وأقواله في الرجال مما لها صلة بالإعلال ووجوهه من خلال كتاب "العلل ومعرفة الرجال" ـ رواية عبد الله، ورواية المروذي وغيره ـ وكتب مسائله المطبوعة، وهي: رواية عبد الله، وأبي داود، وصالح، وابن هانئ، ومن كتاب "سؤالات أبي داود للإمام أحمد في جرح الرواة وتعديلهم"، وكتاب "المنتخب من العلل للخلال" ـ انتخاب ابن قدامة المقدسي ـ. وهذه المصادر هي التي اعتمدتها بالأصالة لجمع المادة العلمية للموضوع، وإنما اعتمدتها بالأصالة لكون موضوع كل واحد من هذه الكتب أقوال الإمام أحمد مجردة عن أقوال غيره من أئمة الحديث، وقد حوت على جملة كثيرة من كلام هذا الإمام في العلل وفي جرح الرواة وتعديلهم. 2. تتبعت كلام الإمام أحمد في الإعلال من مصادر ثانوية نقلت كلام الإمام أحمد مع كلام غيره، أو نقلت كلامه من مصادر أصلية هي الآن في حكم المفقود مثل مسائل الأثرم في العلل والجرح والتعديل، وكتاب العلل للخلال، ومن هذه المصادر الثانوية: "التاريخ" لأبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، فقد سمع من أحمد مسائل في الحديث وعلم الرجال وذكر بعضها في هذا الكتاب. ومنها ما رواه أبو بكر الأثرم عن الإمام أحمد، ومسائله في حكم المفقود إلا الجزء الصغير في مسائله للإمام أحمد في الفقه. وقد نقلت مما رواه عن الإمام أحمد في العلل وعلم الرجال من كتاب "تاريخ بغداد"، وكتاب "التمهيد" لابن عبد البر، ومن "تهذيب الكمال". ونقلت من كتاب "الكامل في ضعفاء الرجال" لابن عدي ما رواه أبو طالب أحمد بن حميد عن أحمد، ومن كتاب "المعرفة والتاريخ" للفسوي ما رواه الفضل بن زياد عن أحمد. ومن
المصادر الثانوية التي استفدت منها وأخذت منها مادة الموضوع: كتاب "تنقيح التحقيق" للحافظ ابن عبد الهادي، وكتاب "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن رجب ـ رحمة الله عليهم أجمعين، فقد تتبعت ما في الكتابين من كلام الإمام أحمد في الأحاديث. وأما مسند الإمام أحمد فلم أجد فيه إلا بضعة وعشرين نصاً يتعلق بموضوع الإعلال، ولم أقف على الرسالة التي ذكرها د. علي بن عبد الله الصباح في "الأحاديث التي أعلها الإمام أحمد في مسنده" في مقاله المنشور في مجلة "البيان" عدد 176 ربيع الآخر 1423هـ. 1. تخريج الأحاديث ودراستها بما يفي بمقصود البحث. 2. الاستعانة بأقوال الإمام أحمد في الرجال ذات الصلة بموضوع الإعلال. 3. مقارنة كلامه بكلام غيره من خلال دراسة الأحايث والأقوال. 4. استخلاص منهج الإمام أحمد من خلال دراسة الأحاديث التي أعلها وأقواله في الرجال. واستخلاص المنهج يتطلب الاستقراء التام لأقوال الإمام، وهو أمر لست أدّعيه، بل يقصر عن بلوغه من كان مثلي في قلة البضاعة وقصر الباع في هذا المجال بالرغم من المحاولة التي بذلتها في الاستقصاء في الجمع والدراسة لما جمعت، ولكن هذا لا يشكل خللاً في العمل الذي قمت به، فقد اعتمدت على كلام أهل الاستقراء التام في رسم أبرز معالم منهج الإمام أحمد، وعلى مقدمة هؤلاء العلماء الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي رحمة الله عليه، فقد كان من أهل الاستقراء التام حقاً لكلام الإمام أحمد في علم العلل وعلم الجرح والتعديل، ويشهد لذلك كتاباه "شرح علل الترمذي"، و"فتح الباري شرح صحيح البخاري". وقد أفدت من الكتابين كثيراً، كما أفدت من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "المسودة في أصول الفقة" في كثير من مسائل أصول الحديث وتحرير موقف الإمام أحمد منها،
وقد كان رحمه الله أيضاً من أهل الاستقراء التام لمنهج الإمام أحمد. وقد أفدت أيضاً من بعض الدراسات التي سبقت في بعض الجزئيات المتعلقة بهذا الموضوع، ومن أهمها رسالة: "موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن بين المتعاصرين"، للشيخ خالد منصور عبد الله الدريس، ورسالة: "منهج المتقدمين في التدليس" للشيخ ناصر بن حمد الفهد. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كلمة شكر وتقدير: الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد الذي أنقذنا به من الضلالة وأبصرنا به سبل النجاة والسعادة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. وبعد، فأحمد الله سبحانه وتعالى وأشكره على ما منّ عليّ من إتمام كتابة هذه الرسالة، وما كان ذلك ليتم لولا التيسير والتوفيق من المولى عزّ وجل، فله الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده وكما يحب ربُّنا ويرضا. ثم انطلاقاً من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناسَ"، يحق لي في هذا الموضع أن أتوجه بالشكر الجزيل والثناء الجميل لمن جعله الله سبباً في إنجاز عملي هذا، وذلك ابتداء بالجامعة الإسلامية على ما أتاحت لي من فرصة الدراسة فيها، والاستفادة من جهودها المبذولة في بث علوم الكتاب والسنة على نهج سلف الأمة، فجزى الله القائمين عليها خير الجزاء، وأجزل لهم المثوبة والعطاء. كما أتوجه بالشكر وخالص الامتنان إلى فضيلة شيخي ومشرفي على هذه الرسالة الأستاذ الدكتور محمد بن مطر الزهراني، الذي قد تتلمذت عليه من أول قدومي إلى هذا الصرخ العلمي، وأشرف علي في رسالة الماجستير. وقد تجشَّم عناءَ المتابعة الدؤوبة حتى تم عملي هذا في هذه المرحلة العلمية، ولم يأل جهداً في إرشادي وتوجيهي ومتابعتي في جميع خطوات عملي، ولقد استفدت من توجيهاته وآرائه القيمة مما كان له أثر كبير في مباحث هذه الرسالة، وتعلمت من أدبه وخلقه وكرمه قبل علمه وفهمه، وعاملني بصدر رحب وخُلُق كريم عال، ولم يقيدني بوقت ولا زمن، فأسأل الله العلي القدير أن يجزيه عني خير الخزاء وأن يبارك له في علمه وعمره وعقبه، وأن ينفع به المسلمين وينصر به الدين، إنه قريب مجيب.
كما أتوجه بالشكر إلى سائر المشايخ الذين تعلمت منهم، وبخاصة أساتذتي في كلية الحديث التي كانت هي المَورِد الذي عَللتُ منه عللاً بعد نهلٍ، وأشكرهم وجميع القائمين عليها وأسأل الله العظيم أن يجزيهم خير الجزاء ويجعل عملهم في ميزان حسناتهم. ولا يفوتني في هذا الموضع أن أتوجه إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتغمد برحمته الواسعة شيخنا الدكتور عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل عبد اللطيف رحمه الله، وأن يغفر له ويرفع في المهديين منزلته وأن يفسح له في قبره وينور له فيه، فقد استفدت منه في وضع أولى لبنات هذا العمل قبل أن ينزل به ما كتب الله عليه من عناء المرض ثم حالت المنية بيننا وبينه، فرحمة الله عليه رحمة واسعة. ثم أتوجّه بالشكر إلى صاحبي الفضيلة: شيخنا الدكتور وصي الله بن محمد عباس، وشيخنا الدكتور مرزوق بن هياس الزهراني حفظهما الله على ما حظيَت به رسالتي منهما من آراء قيمة وملحوظات علمية مسددة أثْرَت مادة البحث وقوّمت اعواجاجَه، فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجزيهما عني خير الجزاء، وأن يُبارك لهما في حياتهما وذرياتهما، وأن يجعل عملهما في ميزان حسانتهما. وختاماً أسأل الله العظيم أن يكتب القبول لعملي هذا، وأن ينفعني به وينفع به المسلمين، وقد بذلت فيه قصارى جهدي ـ وإن كان جُهدَ المُقلّ ـ وأتيت فيه بمبلغ علمي، فما أصبت فيه فبمحض الفضل والتوفيق من الله، وما أخطأت فيه، فأسأل الله أن يتجاوز عني ويغفر لي زلتي وهو أهل التقوى وأهل المغفرة. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الباب الأول: التعريف الموجز بالإمام أحمد وببعض الكتب التي اعتنت بتدوين كلامه في إعلال الأحاديث
الباب الأول: التعريف الموجز بالإمام أحمد وببعض الكتب التي اعتنت بتدوين كلامه في إعلال الأحاديث الفصل الأول: التعريف الموجز بالإمام أحمد المبحث الأول: اسمه ونسبه وأسرته ومولده ونشأته ... الباب الأول: التعريف الموجز بالإمام أحمد وببعض الكتب التي اعتنت بتدوين كلامه في إعلال الأحاديث وفيه فصلان: الفصل الأول: التعريف الموجز بالإمام أحمد. الفصل الثاني: التعريف الموجز ببعض الكتب التي اعتنت بتدوين كلام الإمام أحمد في العلل.
الفصل الأول: التعريف الموجز بالإمام أحمد
المبحث الأول: اسمه ونسبه وأسرته ومولده ونشأته. هو الإمام حقاًّ وشيخ الإسلام صدقاً1 أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل ابن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله ابن يروي بن عوف ابن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر وائل الذهلي الشيباني المروزي، ثم البغدادي، أحد الأئمة الأعلام. هكذا ساق نسبه ولده عبد الله، واعتمده أبو بكر الخطيب في تاريخه2 وغيره. ولادته: كانت ولادة الإمام أحمد رحمه الله على الصحيح المشهور في ربيع الأول سنة 164هـ، قدمت أمه بغداد وهي حامل، وولد بها3. قال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول: "ولدت في سنة أربع وستين ومائة، في أولها، في ربيع الأول، وجي به حمل من مرو"4. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: "ولدت في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة ... "5. كان أبوه من أجناد مرو، مات شابا له ثلاثون سنة، ونشأ الإمام أحمد تحت رعاية والدته وتربيتها6.
المبحث الثاني: حياته العلمية
المبحث الثاني: حياته العلمية. بداية طلبه للعلم: بَكَّر الإمام أحمد رحمه الله في الطّلب، وقد بدأ بالاختلاف إلى الكُتّاب، ثم إلى الدّيوان وهو لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره، وطلب الحديث وأكثر منه. قال المرّوذي: قال لي أبو عبد الله: "اختلفت إلى الكتّاب ثم اختلفت إلى الديوان، وأنا ابن أربع عشرة سنة"1. قال عبد الله بن أحمد رحمه الله: "وأول شيء طلب الحديث في سنة تسع وسبعين، في السنة التي مات فيها مالك وحماد بن زيد" 2. وقال المرّوذي: "طلبت الحديث سنة تسع وسبعين، فسمعت بموت حماد بن زيد وأنا في مجلس هشيم، وقال: سمعت من علي بن هاشم بن البريد3 سنة تسع وتسعين4 في أول سنة طلبت الحديث". وكذلك كتب في هذه السنة عن علي بن ثابت الجزري5، فقد قال عبد الله ابنه: سمعت أبي يقول في سنة تسع وعشرين ومائتين: "كتب عن علي بن ثابت منذ خمسين سنة" 6.
رحلاته العلمية: لقد كان من نشاط الإمام أحمد في طلب العلم رحلاتٌ علميةٌ إلى عديد من البلدان الإسلامية آنذاك، والتي عرفت بأنها ملتقى لكبار المحدثين وفطاحل الفقهاء، وأول رحلاته كانت داخل بلاده العراق؛ فقد رحل إلى الكوفة سنة ثلاث وثمانين، وعمره تسع عشرة سنة، بعد موت شيخه هشيم بن بشير الواسطي؛ وكان هدفه السماع من عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، لكنه لم يظفر ببغيته؛ إذ كان عيسى حاجاً في تلك السنة، وأصيب الإمام أحمد بمرض ألجأه للعودة إلى بغداد، قال رحمه الله: "حج عيسى بن يونس سنة ثلاث وثمانين في السنة التي مات فيها هشيم، ... وخرجت إلى الكوفة في تلك السنة، فمرضت ورجعت، وقدم عيسى الكوفة بعد ذلك بأيام ولم أسمع منه، ولم يحج عيسى بعد تلك السنة، وعاش بعد ذلك سنين"1. كما كانت أولى رحلاته إلى البصرة في رجب سنة ست وثمانين ومائتين، وهو في الثانية والعشرين من عمره، ثم خرج منها في رمضان من تلك السنة، وسمع من سهل بن يوسف الأنماطي بها2، ثم عاد إليها في ذي القعدة سنة أربع وتسعين ومائتين، وهو في الثلاثين من عمره، فأقام عند يحيى بن سعيد القطان ستة أشهر، وخرج منها سنة خمس وتسعين، ثم رجع إليها أيضا وهو في السادسة والثلاثين من عمره في سنة مائتين، وحضر عدة مجالس للحديث، سمع من كبار علمائها، وهي آخر مرة يدخل فيها البصرة، وفي هذا السياق يقول: "دخلت البصرة في أول رجب سنة ست وثمانين ومائة، ومات المعتمر في سنة سبع وثمانين في أولها، ودخلت الثانية سنة تسعين، ودخلت الثالثة في سنة
أربع وتسعين وخرجت في سنة خمس وتسعين، أقمت على يحيى بن سعيد ستة أشهر، ودخلت سنة مائتين ولم أدخلها بعد ذلك وقدمت البصرة سنة أربع وتسعين وقد مات غندر بلغني أن غندر مات سنة ثلاث وتسعين والثقفي عبد الوهاب وابن أبي عدي سنة أربع وتسعين"1. وكان يقول أيضا: "قدمت في السنة الثالثة في سنة أربع وتسعين في ذي القعدة فأقمت على يحيى بن سعيد إلى سنة خمس فأقمت بقية ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وخرجت في جمادى الأولى في آخرها ... وقد مات محمد بن جعفر غندر وابن أبي عدي والثقفي قبل أن أقدم، فأخبرت أن محمد بن جعفر مات سنة ثلاث وتسعين، ومات ابن أبي عدي وعبد الوهاب الثقفي سنة أربع وتسعين قبل أن أقدم ... وقدمت في السنة الرابعة سنة مائتين، فأقمنا على أبي داود2 وكان يحدث مجالس، ثم تحولنا إلى عبد الصمد، وكنا نختلف أيضا إلي البرساني، وقد سمعت منه قبل ذلك في سنة أربع وتسعين، ما أردت من حديث ابن جريج، وكنت أختلف إلى عبد الرحمن وبهز وأنا مقيم على يحيى بن سعيد وكنت أختلف إلى عثمان بن عمر سنة مائتين ... " 3. وأمّا رحلاته خارج العراق فقد كان منها: - رحلته إلى مكة شرفها الله تعالى لأداء شعائر حجته الأولى ولقاء العلماء بها، ثم توالت حججه بعدها، فحج خمس مرات ثلاث منها ماشيا على رجليه4،
يلتقي بسفيان بن عيينة في أربعة مواسم منها، وقد أقام عنده سنة في أول حجّته وكان ذلك في سنة 187هـ وعمره لم يتجاوز ثلاثا وعشرين سنة؛ وفاته السماع من فضيل بن عياض؛ إذ مات فضيل قبل وصوله مكة؛ قال عبد الله ابنه: سمعته يقول: "وافيت سفيان أربعة مواسم، كل ذلك أسمع منه، وأقمت بمكة سنة، وأول سنة حججت سنة سبع وثمانين سنة مات فضيل، قدمنا وقد مات فضيل، والثانية سنة إحدى وتسعين ومائة" 1. وكان في أمنيته أن يدخل المدينة في أول عام يحج فيه، ويسمع من علمائها، وقد جاء ومعه أطراف أحاديث أبي علقمة الفروي لعرضها عليه، وسماعها منه لكن لم يكتب الله له ذلك؛ وكان يقول: "أول سنة حججت سنة سبع وثمانين، كنت أمشي ولم يقدر لي دخول المدينة يعني تلك السنة، وكانت معي أطراف لأبي علقمة الفروي2، فلم يقدر أن أسمع منه شيئا" 3. كما رحل أيضا إلى اليمن للقاء عبد الرزاق بن همام الصنعاني سنة تسع وتسعين، وجاءهم نعي القطان وابن مهدي وهم عند عبد الرزاق الصنعاني، قال رحمه الله: " ... وجاءنا موت سفيان بن عيينة ونحن عند عبد الرزاق في سنة ثمان وتسعين ومات يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ونحن عند عبد الرزاق سنة ثمان وتسعين" 4. كما كانت له الرحلة إلى عديد من بلاد الشام سمع خلالها من محدثيها الكبار، قال ابن عساكر: "كان قد خرج إلى الشام قاصدا لمحمد بن يوسف
الفريابي، إلى قيسارية، فبلغته وفاته في الطريق، فعدل إلى حمص، فسمع بها أبا اليمان الحكم بن نافع، ويزيد بن عبد ربه، وبشر بن شعيب بن حمزة ... واجتاز بدمشق، وسمع من أهل دمشق؛ من الوليد بن مسلم، وزيد بن يحيى بن عبيد" 1. وقال الإمام أحمد: "كتبت عن مبشر الحلبي، خمسة أحاديث بمسجد حلب، كنا خرجنا إلى طَرسوس، على أرجلنا" 2. وكان خروجه إلى طَرَسوس3 ماشياً4 للرباط بثغورها، بصحبة خَلَف المخرّمي5؛ قال عبد الله بن محمود بن الفرج: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: "خرج أبي إلى طَرَسُوس، ورابط بها وغزا، ثم قال أبي: رأيت العلم بها يموت" 6. شيوخه وتلاميذه: كتب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن خلق كثير من الشيوخ، وتخرج على أيدي كبار المحدثين وأئمة أعلام، اعتنى غير واحد ممن ترجم له بذكرهم كابن الجوزي، والخطيب البغدادي، وقال هذا الأخير بعد ذكر جملة كبيرة منهم: "وخلق سواهم يطول ذكرهم ويشق إحصاء أسمائهم" 7، كما عدّ له المزي في "تهذيب الكمال" سبعة وعشرين ومائة شيخٍ8.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله: "فعدة شيوخه الذين روى عنهم في "المسند" مائتان وثمانون ونيف" 1. وقد كان الإمام أحمد ملازما لبعض شيوخه أكثر من غيرهم، وحافظاً لأحاديث بعضهم أكثر من حفظه لأحاديث غيره، كما أن له اختصاصا في كثرة الرواية عن بعضهم، فمن هؤلاء: 1) هشيم بن بشير الواسطي ت183هـ كان من شيوخه الأوائل الذين أخذ عنهم الحديث2، وقد لازمه نحوا من أربع سنين؛ وأكثر عنه وجوّد3. قال صالح بن أحمد، عن أبيه: "أول سماعي من هشيم، سنة تسع وسبعين ... إلا أني لم أعتمد بعض سماعي، ولزمناه سنة ثمانين، وإحدى وثمانين، وثنتين، وثلاث، ومات في سنة ثلاث ثمانين، فكتبنا عنه كتاب الحج، نحو من ألف حديث، وبعض التفسير، والقضاء، وكتباً صغاراً. قلت: يكون ثلاثة آلاف؟ قال: أكثر" 4. 2) عبد الرحمن بن مهدي ت198هـ، فقد أخذ عنه وأكثر، حتى قال هو بنفسه: "يكون ما كتبنا عن عبد الرحمن مع ما عرضت عليه من حديث مالك عشرة آلاف أو أكثر" 5. 3) وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ت197هـ، فقد كتب عنه وأكثر، بل كان يقول: "ما كتبت عن أحد أكثر من وكيع" 6.
وقال عبد الله بن أحمد: قال لي أبي: "خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك أنا بالكلام" 1. 1) إسماعيل بن إبراهيم بن علية البصريّ ت193هـ، كتب عنه الإمام أحمد في حياة هشيم ثم لزمه بعد موت هشيم عشر سنين؛ وكان يقول: "لزمنا ابن علية بعد موت هشيم عشر سنين، إلا أن تغيب إلى موضع، ومات هشيم سنة ثلاث وثمانين، ومات إسماعيل سنة ثلاث وتسعين، وكتبنا عنه أيضا في حياة هشيم" 2. 2) عفان بن مسلم الصفّار البصريّ ت220هـ، وقد لزمه أيضا عشر سنين؛ قال عبد الله: سمعت أبي يقول: "لزمنا عفان عشر سنين ـ يعني ببغداد" 3. 3) يحيى بن سعيد القطان البصري ت198هـ قال الحافظ الذهبي معدداً مَن سمع منهم من شيوخه: " ... ويحيى القطان، فبالغ" 4. وقد حزن يحيى القطان يوم خرج الإمام أحمد من البصرة، وتوجه إلى واسط للسماع من يزيد بن هارون، قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: "شق على يحيى ابن سعيد يوم خرجت من البصرة ـ يعني اغتم بخروجه من عنده ـ قال: وسأل يحيى بن سعيد عني وأنا بواسط مقيم على يزيد بن هارون، فقالوا: هو بواسط، فقال: أَيْشٍ يصنع بواسط؟ فقالوا: عند يزيد بن هارون، فقال: وَأَيْشٍ يصنع عند يزيد بن هارون؟ " أو كما قال أبي5.
1) سفيان بن عيينة أبو محمد الهلالي المكي ثم الكوفي ت198هـ، وافاه الإمام أحمد مكة في أربعة مواسم للسماع منه والأخذ عنه1. 2) محمد بن جعفر غندر البصري ت193هـ فقد كتب الكثير عنه على الوجه ونسخ عدة من نسخ كتبه2. وأما تلاميذه، فمن البَدهي في حق إمام مثل أحمد بن حنبل الذي سمع وأكثر وجوّد أن يتاكثر عليه القاصدون، وأن يسعى للسماع منه الداني والقاصي، فقد كتب وسمع عنه عدد لا يكاد يأتي عليه إحصاء أو يحويهم استقصاء، بل ذُكر أنه يجتمع في مجلس من مجالسه العلمية زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت3. وقد جمع الخلال جزءًا في تسمية الرواة عنه قال الحافظ الذهبي: "سمعناه من الحسن بن علي، عن جعفر، عن السلفي، عن السراج، عنه، فعد فيهم: وكيعَ ابن الجراح، ويحيى بن آدم" 4. وهذان من شيوخه، وقد سمع منه أيضا من شيوخه: عبد الرزاق والحسن بن موسى الأشيب، وأبو عبد الله الشافعي لكنه لم يسمه بل قال: حدثني الثقة5. كما سمع منه من أقرانه: علي بن المديني، ويحيى بن معين، وغيرهما.
ومن أصحاب الستة: حدّث عنه البخاريّ بحديث واحدٍ1، وعن أحمد ابن الحسن، عنه حديثاً آخر في المغازي2، وحدث عنه مسلم3، وأبو داود4 بجملة وافرة، وروى أبو داود5، والنسائي6، والترمذي7، وابن ماجة8 عنه بواسطة. وحدث عنه ولداه صالح وعبد الله، وابن عمه حنبل بن إسحاق9. وممن روى عنه غير من تقدم، واشتهر نقل كلامه في العلل والرجال من طريقه، وكذا مسائله الفقهية: أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الأثرم الإسكافي10، وأبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المرُّوذي11، وأبو طالب أحمد بن حميد12، وإسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري13،
وعبد الملك بن عبد المجيد أبو بكر الميموني1، والفضل بن زياد البغدادي2، ومهنّا بن يحيى السلمي الشامي3، وخلق سواهم.
المبحث الثالث: إمامته ومكانته عند علماء الحديث
المبحث الثالث: إمامته ومكانته عند علماء الحديث كان الإمام إمام الدنيا ـ كما نعته عبد الله بن محمد بن عبد العزيز1، وكان رحمه الله تعالى "عظيم الشأن، رأساً في الحديث، وفي الفقه، وفي التألُّه، أثنى عليه خلق من خصومه، فما الظن بإخوانه وأقرانه" 2. وثناء الأئمة النقاد عليه كثير موفور استفاضت كتب التراجم بنقله وروايته، بما يغني عن تكراره في هذا التعريف3، وفيما يلي نماذج دالة على حفظه ومعرفته بالعلل وصحيح الآثار من سقيمها واعتماد الحفاظ على قوله ورجوعه إلى رأيه: 1- صالح بن أحمد بن حنبل قال سمعت أبى يقول: "مات هشيم وأنا ابن عشرين سنة، وأنا أحفظ ما سمعت منه، ولقد جاء إنسان إلى باب ابن علية ومعه كتب هشيم، فجعل يلقيها عليّ وأنا أقول: إسناد هذا كذا ... فجاء المعيطي، وكان يحفظ، فقال له: أجبه فبقي، ولقد عرفت من حديثه ما لم أسمعه" 4. 2- قال ابن أبي حاتم: سمعت محمد بن مسلم بن وارة، وسئل عن على ابن المديني ويحيى بن معين أيهما كان أحفظ؟ قال: "على كان أسرد وأتقن،
1- ويحيى أفهم بصحيح الحديث وسقيمه، وأجمعهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل، كان صاحب فقه، وصاحب حفظ، وصاحب معرفة" 1. 2- وقال أبو حاتم: "كان أحمد بن حنبل بارع الفهم لمعرفة الحديث بصحيحه وسقيمه، وتعلم الشافعي أشياء من معرفة الحديث منه، وكان الشافعي يقول لأحمد: حديث كذا وكذا قوي الإسناد محفوظ؟ فإذا قال أحمد: نعم، جعله أصلا وبنى عليه" 2. 3- وقد كان الإمام أحمد أحد أولئك الأفذاذ الذين تكلموا في الرجال جرحا وتعديلا صيانة لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأداء لواجب أمانة العلم في إنصاف واعتدال وورع، قال عنه الحافظ الذهبي: "وكذلك أحمد بن حنبل، سأله جماعة من تلامذته عن الرجال، وجوابه بإنصاف واعتدال، وورع في المقال" 3. ومباحث هذه الرسالة شاهدة على تبحره في معرفة علل الحديث، وناطقة بتضلعه من دراية صحيح الحديث وسقيمه، وتنبهه إلى مواضع الخلل من طرقه، ووجوه اتصاله وانقطاعه، وتبحره في معرفة طرق الحديث.
المبحث الرابع: محنته
المبحث الرابع: محنته. للحافظ الذهبي رحمه الله استعراض بديع موجز لتاريخ الفتن التي نزلت بهذه الأمة وتفرقت بسببها كلمتُها وتمّ لأعداء الدين ما يريدون من تشويه عقول بعض المسلمين، يقول رحمه الله: "كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائما في خلافة أبي بكر وعمر. فلما استشهد قفل باب الفتنة عمر رضي الله عنه وانكسر الباب، قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذبح صبرا. وتفرقت الكلمة وتمت وقعة الجمل، ثم وقعة صفين، فظهرت الخوارج، وكفرت سادة الصحابة ثم ظهرت الروافض والنواصب. وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة والجهمية والمجسمة بخراسان في اثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها إلى بعد المائتين، فظهر المأمون الخليفة ـ وكان ذكيا متكلما، له نظر في المعقول ـ فاستجلب كتب الأوائل وعرّب حكمة اليونان، وقام في ذلك وقعد، وخبّ ووضع، ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها، بل والشيعة فإنه كان كذلك. وآل به الحال أن حمل الأمة على القول بخلق القران، وامتحن العلماء، فلم يمهل، وهلك لعامه وخلى بعده شرا وبلاء في الدين. فإن الأمة ما زالت على أن القران العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله، لا يعرفون غير ذلك، حتى نبغ لهم القول بأنه كلام الله مخلوق مجعول، وأنه إنما يضاف إلى الله تعالى إضافة تشريف، كبيت الله، وناقة الله. فأنكر ذلك العلماء ولم تكن الجمهية يظهرون في دولة المهدي والرشيد والأمين فلما ولي المأمون، كان منهم، وأظهر المقالة" 1.
لقد صمد الإمام أحمد أمام رياح هذه الفتنة العاتية ـ فتنة خلق القرآن ـ و"صار مثلاً سائراً، يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق، فإنه لم يكن تأخذه في الله لومة لائم، حتى صارت الإمامة مقرونه باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام أحمد، وهذا مذهب الإمام أحمد ... لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فإنه أعطي من الصبر واليقين ما نال به الإمامة في الدين، وقد تداوله ثلاثة خلفاء يسلطون عليه من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والأمراء والولاة ما لا يحصيه إلا الله، فبعضهم تسلط عليه بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد، وبعضهم يعده بالقتل وبغيره من الرعب، وبعضهم بالترغيب في الرياسة والمال، وبعضهم بالنفي والتشريد من وطنه، وقد خذله في ذلك أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون، وهو مع ذلك لا يجيبهم إلى كلمة واحدة مما طلبوا منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة، ولا كتم العلم، ولا استعمل التقية، بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ما دفع به البدع المخالفة لذلك ما لم يتأت مثله لعالم من نظرائه" 1. وقد ارتفع قدر الإمام أحمد رحمه الله، وعلت منزلته وصار كالنجم بسبب صموده أمام تلك العاصفة، وصبره على الفتنة والمحنة، فعرف العالم له ذلك كله، وأثنى عليه أئمة عصره ومن بعدهم من ذلك: 1- قال علي بن المديني: "إن الله أعز هذا الدين برجلين، ليس لهما ثالث، أبو بكر الصديق، يوم الردة، وأحمد بن حنبل، يوم المحنة" 2.
2- وقال قتيبة بن سعيد: "لولا أحمد بن حنبل لأحدثوا في الدين" 1. 3- وقال أبو زرعة الرازي: "لم أزل أسمع الناس يذكرون أحمد بن حنبل بخير، ويقدمونه على يحيى بن معين، وأبي خيثمة، غير أنه لم يكن من ذكره ما كان ... فلما امتحن ارتفع ذكره في الآفاق" 2. 4- وقيل لبشر بن الحارث حين ضرب الإمام أحمد بن حنبل: لو قمت فتكلمت كما تكلم أحمد بن حنبل، فقال: "لا أقوى عليه، إن أحمد قام مقام الأنبياء" 3. وقال عنه أبو عمير بن النحاس الرملي: "رحمه الله، عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عرضت له الدينا فأباها، والبدع فنفاها" 4.
المبحث الخامس: آثاره العلمية
المبحث الخامس: آثاره العلمية. على الرغم من أن الإمام أحمد كان يكره وضع الكتب وينهى عن كتابة كلامه، فإن دوره واضحاً في إثراء المكتبة الإسلامية وأسهم في الحركة العلمية بمؤلفاته الكثيرة، حفظها لنا تلاميذه من بعده. وقد أسهم كثير ممن أفردوا دراسات حول الإمام أحمد في بيان آثاره العلمية، وكذلك في الدراسات التي رافقت كثيرا من تحقيقات كتبه في الحديث وعلله والجرح والتعديل وغير ذلك، فلذلك سأقتصر هنا في سرد المطبوع من آثاره العلمية المتعلقة بالعلل والجرح والتعديل وهي كالتالي: 1- العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي. 2- العلل ومعرفة الرجال ـ رواية الميموني. 3- العلل ومعرفة الرجال ـ رواية صالح بن الإمام أحمد. 4- العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله بن أحمد. 5- المنتخب من العلل للخلال ـ انتخاب موفق الدين ابن قدامة. 6- سؤالا أبي داود السجستاني للإمام أحمد بن حنبل في جرح الرواة وتعديلهم. 7- مسائل الإمام أحمد ـ رواية ابنه عبد الله. 8- مسائل الإمام أحمد ـ رواية ابنه صالح. 9- مسائل الإمام أحمد ـ رواية أبي داود السجستاني. 10- مسائل الإمام أحمد ـ رواية ابن هانئ.
المبحث السادس: وفاته
المبحث السادس: وفاته. كانت وفاة الإمام أحمد رحمه الله في العاشر من شهر ربيع الآخر، سنة 241هـ، وله ثمان وسبعون سنة: قال ابنه عبد الله رحمه الله: سمعت أبي يقول: "استكملت سبعا وسبعين، ودخلت في ثمان وسبعين". فحم من ليلته ومات يوم العاشر يوم الجمعة رحمه الله 1. وقال عبد الله أيضا: "مات في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ومائتين وهو في ثمان وسبعين سنة" 2. وكانت جنازته مشهودة؛ فقد حرز من حضرها من الرجال بثمان مئة ألف، ومن النساء بستين ألف امرأة، ونظروا فيمن صلى العصر يومئذ في مسجد الرصافة فكانوا نيفا وعشرين ألفا3، وهذا مصداق لقوله رحمه الله: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز" 4.
الفصل الثاني: التعريف ببعض الكتب التي اعتنت بتدوين كلام الإمام أحمد في إعلال الأحاديث
الفصل الثاني: التعريف ببعض الكتب التي اعتنت بتدوين كلام الإمام أحمد في إعلال الأحاديث المبحث الأول: كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ برواية ابنه عبد الله المطلب الأول: موضوع الكتاب، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته ... الفصل الثاني: التعريف ببعض الكتب التي اعتنت بتدوين كلام الإمام أحمد في إعلال الأحاديث
المبحث الأول: كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ برواية ابنه عبد الله. المطلب الأول: موضوع الكتاب، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته. هذا الكتاب رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه، وقد ذكره من ترجم لعبد الله بن أحمد بن حنبل قال ابن أبي يعلى: "وقع لعبد الله عن أبيه مسائل جياد كثيرة، يغرب منها بأشياء كثيرة في الأحكام، فأما العلل فقد جود عنه، وجاء عنه بما لم يجئ به غيره" 1. وقال أيضاً: "فأما عبد الله فلم يكن في الدنيا أحد روى عن أبيه أكثر منه، لأنه سمع المسند ... وسمع الناسخ والمنسوخ، والتاريخ" 2. ويدل على أنه من تأليف الإمام أحمد ما ذكره العقيلي أنه قرأ على عبد الله بن أحمد "كتاب العلل" عن أبيه3. فأضاف الكتاب للإمام أحمد وأضاف روايته لعبد الله ابنه. والكتاب مشتمل على زيادات من عبد الله منها مسائل سألها أباه في العلل ومعرفة الرجال، ووجادات وما أخذه عن بعض مشايخه غير أبيه كتابة ووجادة.
موضوع الكتاب: أما موضوع الكتاب فيكاد يشمل جميع أبواب علوم الحديث، فأما من حيث علل الحديث، فإنه يذكر الأحاديث من كل باب من أبواب العلم، ويشير إلى نوع العلة، من نكارة، أو غرابة، أو إرسال، أو تدليس، أو تصحيف، أو إدراج، أو قلب، أو بطلان، أو وضع. وأما من حيث الكلام في الرجال فيتكلم عن الثقات، والضعفاء، ومن رمي بالابتداع، والمتروكين، والمتهمين، والوضاعين، يذكر ما يتعلق بجرحهم وتعديلهم، وذكر أسمائهم، وألقابهم وكناهم، وكنى المعروفين بالأسماء، وأسماء المعروفين بالكنى، وأنسابهم، والمؤتلف والمختلف، والمتشابه، والمبهمات، ومواليد الرواة ووفايتهم، ومواطنهم، وإثبات سماع بعضهم من بعض ونفيه حيث لم يثبت. وأما القسم الأكبر من الكتاب فهو في الكلام عن الأسانيد والمتون وما فيها من العلل. فذكر على سبيل المثال علل أحاديث هشيم فسردها1 مع ذكر علة كل حديث، وأغلبها مما لم يثبت سماعه فيها من شيخه. ومن أمثلة مادة الكتاب في هذا الموضوع أحاديث سئل عنها الإمام أحمد مما أخطأ فيها الفريابي على سفيان الثوري، وهي من كتاب ابن زنجويه عن الفريابي، وجُملتها 13 حديثاً2. وأما في الرجال، فأفرد على سبيل المثال من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء3، فسردهم أحياناً مع الإشارة إلى ما يثبت سماعهن من النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة في غير المشهورات منهن.
كما ذكر الرواة عن عمر، من أهل مكة، ثم من أهل المدينة، ثم من أهل البصرة، ثم من روى عن علي من أهل البصرة، ثم من روى عن عثمان من أهل المدينة1. وذكر من روى عن شعبة ولم يسمع منهم الثوري، ومن روى عنهم سفيان ولم يحدث عنهم شعبة2. خصائص الكتاب: من أهم خاصية الكتاب أنه أكثر الكتب الموجودة عن الإمام أحمد جمعاً للأحاديث التي أعلّها الإمام أحمد، وهو من أئمة هذا الشأن بلا نزاع، وكلامه يشكل جزء كبيراً من مادة هذا العلم، كما أنه من الأئمة الذين يعتمد قولهم في الجرح والتعديل. ويختص هذا الكتاب بأنه من رواية ابنه عبد الله، وهو ممن قد شهد له الإمام أحمد بأنه قد وعى علماً كثيراً3، مما يؤتي قيمة لنوعية الأسئلة التي يسألها الإمام أحمد سواء في علل الأحايث أو في الرجال. وقد خُصِّص الكتاب بمسائل في علوم الحديث جُرد من غيرها، فلا توجد فيه مسائل فقهية كما هو الحال في بعض كتب مسائله، وهذا مما يزيد من أهمية الكتاب لدى أهل الاختصاص. قيمة الكتاب عند العلماء: تظهر قيمة هذا الكتاب عند العلماء من استفادة الفحول الأجلاء منه من لدن عهد عبد الله بن الإمام أحمد، فالعقيلي اعتمد عليه كثيراً في مصنفه "كتاب
الضعفاء" في نقل كلام الإمام أحمد في الرجال وفي علل الأحاديث، وكان العقيلي من تلاميذ عبد الله، وقد تقدم أنه سمع الكتاب منه. وكذلك ابن أبي حاتم اعتمد عليه في نقل كثير من كلام الإمام أحمد في الرجال، وذكر أن عبد الله كتب إليه بمسائل أبيه وبعلل الحديث1، وهو كتابنا هذا، وكان ابن أبي حاتم من أقرانه. وهذان الكتابان من أكثر الكتب اعتماداً على كتاب العلل برواية عبد الله. وتتابع العلماء في الاستفاد من الكتاب، فنقل الخطيب منه في الرجال وفي العلل، فذكر على سبيل المثال في باب علل حديث: "تبنى مدينة بين دجلة ودُجيل" ما رواه عبد الله عن أحمد من علة هذا الحديث2. وكذلك له نقولات كثيرة عنه في الرجال. وكذلك نقل عنه البيهقي رواية حديث من كتاب العلل3. وقال ابن الصلاح: "ومن كتب علل الحديث ومن أجودها كتاب العلل عن أحمد بن حنبل، وكتاب العلل عن الدراقطني" 4. ومما يدل على أهمية الكتاب كثرة السماعات الموجودة على النسخة الخطية للكتاب5. روايات الكتاب: وقع في عنوان الجزء الأول من الكتاب: "الجزء الأول من كتاب العلل ومعرفة الرجال، عن أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله، رواية أبي علي محمد
ابن أحمد بن الحسن الصواف، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه أبي عبد الله، سماع عبيد الله بن أحمد" 1. وتوجد منه نسخة كاملة في مكتبة أيا صوفيا تحت رقم3380، وتشمل على 180 ورقة مجزأة في ثمانية أجزاء. وقد قام الدكتور طلعت فوج ييكيت، والدكتور إسماعيل جراح أوغلوا بتحقيق الجزء الأول من الكتاب2. ثم قام بتحقيق الكتاب كاملاً الدكتور وصي الله بن محمد عباس، فصدر في ثلاث مجلدات3. ثم صدر الكتاب أيضاً من مطبوعات مؤسسة الكتب الثقافية4. وليس فيها خدمة النص، لكن ضبطت الأصل ضبطاً جيداً. وذكر د. همام عبد الرحيم سعيد أنه وجد في خزانة المكتبة الظاهرية بدمشق الجزء الثاني عشر من العلل ومعرفة الرجال من رواية أبي بكر مكرم بن أحمد ابن مكرم عن عبد الله، وعليه سماع ابن أبي يعلى5.
المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب
المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب. في هذا الكتاب أسئلة وسماعات يقول فيها عبد الله: سألت أبي، وسمعت أبي، وحدثني أبي. وكذلك توجد وجادات يقول فيها عبد الله: وجدت في كتاب أبي بخط يده، وأغلبها تواريخ عن الأمم السالفة، والأنبياء وغير ذلك من الأخبار، وهو مما يرجح أنها من كتاب الإمام أحمد "التاريخ". ومادة الكتاب عرضت غير مرتبة ولا مصنفة على نسق واحد، وما ذلك إلا لأن معظم الكتاب إجابات عن أسئلة معروضة على الإمام أحمد في أوقات ومناسبات مختلفة، بعضها من عبد الله، وبعضها مما سئل الإمام أحمد بحضرة عبد الله. وكذلك ما يتعلق بمادة التاريخ من الكتاب لم ترتب على ترتيب معين، لا على أسماء الرواة ولا على طبقاتهم أو غير ذلك من الأنواع المختلفة المنقولة عن علماء الحديث في ترتيب مادتهم العلمية عند التصنيف. وكذلك يوجد في كثير من الأسئلة نوع من الخفاء في السؤال أو في الجواب أو في كليهما، وذلك لأن السائل إمام يسأل ما أشكل عليه في بعض الأسانيد والعلل الواقعة فيها، أو في حالة بعض الرواة ومنزلتهم، فيجيبه الإمام أحمد بإشارات يلزم من يروم فهمها بحث طويل في طرق الحديث حتى يفهم السؤال والجواب، إلا إذا كان له علم وإلمام بموضوع المسألة. وقد يسأل عن الحديث بذكر كلمة منه، أو بذكر بابه، وهو موضوعه العام، أو يسأل عن الرجل بذكر اسمه دون اسم أبيه، أو بذكر كنيته، أو لقبه، على ما كان في الأسماء والكنى والألقاب من الاشتباه والاشتراك، وقد يكون الجواب كذلك. وكل هذه الأمور كانت معروفة عند السائل والمجيب بخلاف الناظر في ذلك خصوصا في هذا العصر. وكان عرض السؤال والجواب بلغة النطق والتخاطب ولم يكن بلغة التصنيف، وبينهما فرق قليل تحتاج المواضع التي وقع ذلك فيها إلى نوع من التأمل.
المبحث الثاني: كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره
المبحث الثاني: كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المرُّوذي وغيره. المطلب الأول: موضوع الكتاب، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته. موضوعه: هذا الكتاب جمع مسائل في علل الحديث ومعرفة الرجال برواية ثلاثة من تلاميذ الإمام أحمد، وهم: أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المرُّوذي ت275هـ، وأبو الحسن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني ت274هـ، وأبو الفضل صالح بن أحمد بن حنبل رحمهم الله. وموضوعه شامل لمعظم أبواب علوم الحديث، كما يشمل أحاديث وحكايات من أمور التاريخ. وليس فيه أحاديث مسندة عن الإمام أحمد. ومعظم الكتاب برواية المرّوذي1، وهو من تلاميذ الإمام أحمد المذكورين برواية مسائل كثيرة عن الإمام أحمد2؛ ثم تأتي رواية الميموني في الدرجة الثانية3، وقد كان كثير السؤال للإمام أحمد، وذكر ابن أبي يعلى أن مسائله عن الإمام أحمد في ستة عشر جزءاً4، مما يدل على أن هذا جزء صغير من مسائله. ومما يدل على ذلك أن الخلال ذكر أن في مسائله شيئاً كثيراً يقول فيها: "قرأت على أبي عبد الله كذا وكذا، فأملى علي كذا، يعني الجواب" 5 وليس في هذا الكتاب من رواية الميموني شيء مما قرأه على الإمام أحمد.
والجزء الذي رواه صالح هو أقل الأجزاء الثلاثة1، والباقي من الكتاب هو ما رواه أبو عوانة الإسفراييني، الراوي عن تلاميذ أحمد الثلاثة، مما رواه عن شيوخه، وهي حكايات والجرح والتعديل. خصائصه: اختص الكتاب بإيراد كثير من أقوال الإمام أحمد في جرح الرواة وتعديلهم، وفي علل الحديث. ويختص هذا الكتاب بأنه من رواية المروذي الذي وصف بأنه المقدم من أصحاب الإمام أحمد2، والميموني الذي اختص برواية مسائل كثيرة عن الإمام أحمد كما تقدم، وصالح بن أحمد، وقد كانت له مسائل كثيرة عن الإمام أحمد أيضاً، وكان الناس يراسلونه من خراسان من مواضع نائية يسأل لهم أباه عن المسائل، فوقعت له مسائل جياد3. قيمته عند العلماء: اعتمد كثير من العلماء ممن صنف في الجرح والعديل على رواية هؤلاء التلاميذ الثلاثة في نقل كلام الإمام أحمد في جرح الرواة وتعديلهم، منهم ابن أبي حاتم4، والعقيلي5، والمزي6، وكذلك من اعتنى بعلل الحديث، كابن أبي حاتم في
"المراسيل"1، وابن دقيق العيد2، وابن رجب، وابن حجر في شرحهما على "صحيح البخاري"3. وكذلك من صنف في علوم الحديث كالخطيب4. رواياته: هذا الكتاب توجد منه نسخة من مخطوطات دار الكتب الظاهرية بدمشق ضمن مجموع رقم40، وهو من رواية الحافظ أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الاسفراييني. وطبع بتحقيق الدكتور وصي الله محمد عباس5، وصدر أيضاً في الطبعة التي نشرتها مؤسسة الكتب الثقافية مع كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله.
المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب
المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب. المادة العلمية في هذا الكتاب لم تكن مرتبة لا على الأبواب، ولا على الرواة، وإنما عرضت على شكل أسئلة يسألها التلميذ الإمام أحمد بدون ترتيب معين، وكذلك لا يوجد تفصيل بين ما سئل عنه في جرح الرواة وتعديلهم وما سئل في علل الحديث. فهو يشبه من هذه الناحية كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله.
المبحث الثالث: كتاب مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله
المبحث الثالث: كتاب مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله. المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته: موضوعه: أغلب مادة هذا الكتاب في المسائل الفقهية، وفي آخره تفسير الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وباب صغير في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. خصائصه: وكتاب المسائل لعبد الله عن أبيه يتميز بعدة خصائص منها1: 1) اهتمامه بالنقل عن الإمام أحمد لبعض الأحاديث التي استدل بها في المسائل التي سأل عنها. 2) كثرة زيادة مروياته هو عن غير أبيه، تكميلا للفائدة وبيانا لمستند المسألة. 3) أن أغلب المسائل المذكورة في كتابه عليها العمل في المذهب، وقدرها محقق الكتاب د. علي المهنا بنسبة التسعين في المائة من مجموع هذا الكتاب. 4) تتميز هذه المسائل بأنها أيضا عرضت لنا جانبا من أخلاق الإمام أحمد وأفعاله في عباداته ومعاملاته وما يفعله في خاصة نفسه، ويوجد شيء من هذا أيضا في مسائل ابن هانئ. 5) تجمع مسائل عبد الله عن أبيه مع ما سأله هو بنفسه أو سمعه منه بعض مسائل الآخرين ـ منها بعض مسائل الكوسج ـ ومسائل فاته سماعها عن أبيه فأخذها من مهنّا الشامي، ومسائل أعطاها إياه بعض أصحابه.
1) كما تتميز هذه المسائل أيضا بأنها أكثر وضوحا من كتب المسائل الأخرى التي وصلت إلينا. 2) ترتيبها ووضع النصوص في أبوابها أدق من كتب المسائل الأخرى. 3) امتازت بذكر احتجاج الإمام بالأحاديث في مسائل فقهية ـ وإن لم تكن كثيرة ـ فيستفاد من ذلك تصحيحه أو تحسينه للأحاديث والآثار، وربما ورد ذكر مراجعة بعض التلاميذ له فيذكر وجه حكمه على الحديث، وهذه فائدة جليلة يتسفيد الباحث من هذا الكتاب في مثل موضوع هذه الرسالة. قيمته العلمية: هذا الكتاب شأنه شأنه غيره من كتب المسائل التي تمت إلى الإمام أحمد بصلة علمية وثيقة فقد اهتم العلماء بروايته؛ لأن مكانة كتب كهذا إنما تبرز من مكانة هذا الإمام نفسه، والمنزلة العلمية التي يتبوأها بين أئمة الحديث والفقه والتفسير. ولذلك نجد اهتمام العلماء قديما بسماع هذه المسائل، ومن ذلك: أن ابن أبي حاتم يقول في ترجمة عبد الله بن الإمام أحمد: "كتب إلى بمسائل أبيه وبعلل الحديث" 1. ورواها عنه أبو بكر أحمد بن جعفر القطيعي كما في "تاريخ بغداد"2، ووصفها الخلال بأنها مسائل جياد، فقال: "وقع لعبد الله عن أبيه مسائل جياد كثيرة يغرب منها بأشياء كثيرة في الأحكام" 3.
كما يصور لنا قيمتها العلمية كذلك مدى اهتمام كتب المذهب الحنبلي بالنقل منها والتعويل عليها في مواضع كثيرة لا تكاد تحصى، يلاحظها القارئ في هوامش تحقيق الكتاب؛ حيث يشير المحقق إلى أن المسألة المذكورة نقلها فلان في كتابه، أو أشار إليها فلان. كل هذا وغيره يؤكد لنا المنزلة الرفيعة والقيمة العلمية العلية التي يتصف بها هذا السفر القيم، والمكانة التي بتبوأها بين كتب التراث الأصيلة. رواياته: يذكر محقق الكتاب د. علي سليمان بأن النسخ الثلاث للكتاب التي وقف عليها لم يذكر من هو الراوي للكتاب، ولم يجد بعد البحث في عديد الكتب ذات الصلة ما يرشده إلى ذلك. وصرح ابن أبي يعلى في كتابه "طبقات الحنابلة" عن أناس أنهم رووا المسائل عن عبد الله، ورجح د. علي بن سليمان أن الذي يمكن أن يكون راوي هذه النسخة المطبوعة هو أبو بكر القطيعي؛ وأن من رواة المسائل عنه أبو بكر الخلال، ومن المعروف أنه سمع منه المسائل، ثم فرقها في الأبواب المناسبة، لكتابه العظيم "الجامع لمسائل ـ أو علوم ـ الإمام أحمد رحمه الله" ونراها الآن متفرقة في الأبواب المختلفة لهذا الكتاب ... لكن لم يجد الباحث أن أحدا صرح بأنه روى مسائل عبد الله عن أبيه بشكل كتاب مستقل. ومن رواة المسائل عن عبد الله غلام الخلال عبد العزيز بن جعفر بن أحمد، لكن الراوي لهذا الكتاب عن عبد الله قد صرح في مواضع عديدة في الكتاب أنه سمع منه سنة خمس وثمانين ومائتين في شهر رجب1، بينما غلام الخلال قد ولد
سنة اثنتين أو خمس وثمانين ومائتين1، فلا يمكن أن يقال إنه روى هذا الكتاب عنه ولم ينقل عن أحد غيرهما ـ حسب ما توصل إليه الباحث ـ أنه روى المسائل عنه إلا القطيعي، وهو رواية لعبد الله بن أحمد، فقد روى عنه المسند، والزهد، وفضائل الصحابة. وعليه فقد رجح الباحث د. علي سليمان بأنه هو راوي هذه النسخة المحققة من قبله، ثم ذكر مؤيدات أخرى لترجيحه واختياره2.
المطلب الثاني: منهجه في عرض المادة العلمية في الكتاب
المطلب الثاني: منهجه في عرض المادة العلمية في الكتاب: يمكن تلخيص طريقة عرض عبد الله بن الإمام أحمد لمادة كتابه في النقاط التالية: 1) رتب المسائل ترتيبا فقهيا دقيقا يسهل للباحث فيه عملية الاستفادة والمراجعة. 2) استعمل عبارات السؤال والتحمل، مثل: سألت أبي، وسمعت أبي وسئل أبي وأنا أسمع1، وقرأت على أبي2، والعبارتان الأوليان أكثر استعمالا من غيرهما. وأحيانا يستعمل أسلوب الحوار مثل قال ـ قلت3. 3) يحرص على رواية ما فاته من مسائل أبيه، بواسطة غيره، كروايته عن أبي عبد الله مهنا السلمي4، وغيره5. 4) يزيد أحاديث من رواياته عن غير أبيه، لبيان مستند أبيه في المسالة المسؤولة عنها.
المبحث الرابع: مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود السجستاني
المبحث الرابع: مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود السجستاني. المطلب الأول: موضوع الكتاب، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته. موضوعه: هذا الكتاب يحتوي على أسئلة من الإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني مما سألها الإمام أحمد في جميع أبواب العلم، في الفقه، والآداب، ومسائل الاعتقاد، والإمامة، وفي الحديث، من تفسير لغريبه، وتأويل لمختلفه، وفي علل الحديث وجرح الرواة وتعديلهم، وأصول علم الرواية. وكذلك يورد جملة من الأحاديث المرفوعة والآثار عن الصحابة والتابعين في المسائل من أبواب الفقه، كلها مما رواها عن الإمام أحمد. خصائصه: هذا الكتاب يختص بكونه جامعاً لأسئلة سألها الإمام أبو داود للإمام أحمد في جميع أبواب العلم، فمنزلته ومنزلة الإمام أحمد تعطي الكتاب ميزة عالية، فالإمام أبو داود إضافة إلى إمامته في الحديث، كان من كبار الفقهاء، يشهد له على ذلك كتابه السنن، حيث ذكر أصول الأحاديث التي يُستدل بها في مسائل الفقه. والكتاب يمتاز بذكر آراء الإمام أحمد في شتى مسائل العلم، أما في باب علل الحديث وعلم الجرح والتعديل، فكلامه في إعلال الأحاديث كثير، لا يفوقه في الكثرة إلا ما حواه كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله. ومن خصائص الكتاب أيضاً أنه أفرد باباً سأل الإمام أحمد فيه عن مسائل في علم رواية الحديث وضبطه.
وكذلك يزيد من أهمية الكتاب كون النسخة الموجودة من الكتاب سمعت وكتبت في عصر المؤلف، وقد سمع النسخة المحفوظة من الكتاب في "الظاهرية" سنة 266هـ، ووفاة أبي داود سنة 275هـ. وقد أفرد المادة المتعلقة بعلل الحديث وشيء من الكلام في الجرح والتعديل في آخر الكتاب، مما يسهل من الاستفادة من الكتاب للمتخصص في علم الحديث. قيمته عند العلماء: قال الذهبي: "كان أبو داود من نُجباء أصحاب الإمام أحمد، لازم مجلسه مدة، وسأله عن دِقاق المسائل في الفروع والأصول" 1. وهذه المسائل هي المروية في هذا الكتاب. ومن قيمة الكتاب عند العلماء أن بعض العلماء قد قام باختصاره كما ذكره ابن رجب2. وكذلك استفاد من الكتاب الخطيب البغدادي فنقل عنه جملة من كلامه في جرح الرواة وتعديلهم3. رواياته: النسخة العتيقة من الكتاب محفوظة في المكتبة الظاهرية، وهناك نسختان أخريان، منها نسخة محفوظة في مكتبة "اسكوريال"، وأخرى من مخطوطات المكتبة "المحمودية" بالمدينة.
وروى الكتاب عن أبي داود أبو بكر ابن داسة راوية كتابه "السنن"، وهو محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق التمار البصري 340هـ. وقد اعتنى به الشيخ رشيد رضا، فطبع بتحقيق الشيخ محمد بهجة البيطار1 عن نسخة "المحمودية"، وقوبل على نسخة "الظاهرية". ثم صدَر الكتاب بتحقيق أبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد عن النسخ الثلاث2.
المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب
المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب. هذا الكتاب مرتب على أبواب الفقه في المسائل الفقهية، وخصص أبواباً أخرى للآداب، والإيمان، والسير، وعلم رواية الحديث، وتفسير الأحاديث، والجمع بين مختلف الأحاديث، وذكر المختلطين، وباباً للأحاديث أورد فيه أسئلته التي سألها الإمام أحمد في إعلال الأحاديث، وأردفه بباب آخر في الموضوع نفسه بعنوان: "بيان أحاديث فيها ضعف وخطأ ونكارة"، ثم بيان أحاديث يختلف فيها، وكلها أحاديث معلّة، ثم ذكر باباً في الأحاديث المرسلة، ويعني بها التي أعلت بالإرسال وبه ختم الكتاب. وقد يسأل عن علل بعض الأحاديث أثناء أسئلته في المسائل الفقهية، كأن يذكر الإمام أحمد مسئلة ويكون فيها حديث مخالف لما قاله فيسأله عن ذلك الحديث كما فعل معه في مسئلة الرمل في الطواف من الحَجر إلى الحجر، فذكر له رواية أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه مشى ما بين الركن والحجر فأجابه1. والعرض للمادة في الكتاب على شكل أسئلة سألها الإمام أحمد أو سئل بحضرته. وقد يورد بعض مسموعاته عن الإمام أحمد من الأحاديث والآثار. وقد تقدمت الإشارة إلى أن لغة المسائل والأجوبة في هذا الكتاب هي لغة النطق وليست لغة التصنيف، فوقع فيها عدم التزام حركات الإعراب في مواضع، كأن ذلك جاري على لغة ربيعة في بعضها من الوقوف على المنصوب بالسكون2.
المبحث الخامس: كتاب مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح
المبحث الخامس: كتاب مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح. المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته. موضوعه: تمتاز مسائل صالح بن الإمام أحمد رحمه الله بكونها شاملة لمختلف أنواع العلوم من عقيدة، وفقه، وحديث، وأثر، وتفسير، وتاريخ، وعلل، وبيان لأحوال الرواة جرحا وتعديلا، بل تتناول أيضاً شرحاً لبعض غرائب النّصوص ومصطلحات، فهي باختصار ديوان شامل لشتى العلوم والمباحث يلقي الضوء على موسوعية هذا الإمام وسعة معارفه وتنوع علومه رحمه الله تعالى. خصائصه: يتميز هذا الكتاب عن غيره من كتب المسائل عن الإمام الأحمد بما يلي: 1) من أهم أهذه الخصائص كونه كتاباً مشتملاً على عدة موضوعات متنوعة ومعارف متعددة يفوق بذلك مسائل إسحاق بن منصور الكوسج، ومسائل ابن هانئ ومسائل أبي داود؛ فمعظم موضوعات هذه المسائل دائرة في المسائل الفقهية، وقليل منها تطرق إلى شيء من باقي العلوم الإسلامية. 2) ومما تختص به مسائل صالح رحمه الله أنها غير مرتبة على الأبواب الفقهية، بخلاف باقي كتب المسائل التي وضعت عليها أبواب وعناوين تسهل عملية الاستفادة منها، وتقرب مادتها العلمية للباحثين. 3) ومن ناحية عدد المسائل المتضمنة فيها نجد أن مسائل الإمام صالح رحمه الله تحتل الدرجة الثانية ـ حسب تقدير الباحث د. فضل الرحمن المحقق للكتاب ـ
حيث حرز مسائلها وقدرها بحوالي ثلاثة آلاف مسألة، أي أنها تأتي بعد مسائل الكوسج في كثرة المسائل المطروقة1. قيمته العلمية: تبرز قيمة هذا الكتاب العلمية عند العلماء من المكانة التي يحتلها الإمام أحمد رحمه الله بين الأئمة؛ فقد كان أحد الأئمة الأربعة المتبوعين، وشهرته بينهم بكثرة الروايات، ومعرفته الواسعة بالآثار، والوقوف عند السنن والأخبار، وصبره على نشر السنة وتمسكه بها كل أولئك جعل لكلامه موقعاً كبيرا في نفوس العلماء المعاصرين له والذين جاءوا من بعده، واحتفلوا بسماع ما روي عنه، وهذا أبو الحسن علي بن محمد بن بشار العالم الزاهد يسمع هذه المسائل من صالح، ويحدث بها جماعة من العلماء، قال القاضي محمد بن أبي يعلى في ترجمته: "وكان قد سمع جميع مسائل صالح لأبيه من صالح، وحدث بها فسمعها منه جماعة، منهم: أبو حفص بن بدر المغازلي وأحمد البرمكي"، ثم نقل قول أحمد البرمكي: "كنت يوماً واقفاً بين يديه ـ يعني ابن بشار ـ بعد العصر، وكان يوم الثلاثاء، وبيدي جزء من مسائل صالح لأقرأه عليه ... " وذكر واقعة حصلت له2. وقال في ترجمة أبي بكر غلام الخلال: "وحدث عنه بمسائل الأثرم وصالح، وعبد الله وغير ذلك" 3. كما أن لابنه صالح نفسه مكانة بارزة عند العلماء، فهو الذي يكتب عنه اابن أبي حاتم الإمام المشهور في الجرح والتعديل ويوثقه قائلا: "وهو صدوق ثقة" 4.
وهذه الثقة هي التي جعلت العلماء يعتمدون عليه في علم أبيه حتى صاروا "يكتبون إليه من خراسان ومن مواضع أخرى؛ ليسأل لهم أباه عن المسائل ويرسل إليهم بالأجوبة التي يتلقاها عنه" 1. واعتبروه أحد النقلة عن الإمام في المذهب: قال ابن أبي يعلي الحنبلي رحمه الله: "أما نقلة الفقه عن إمامنا فهم أعيان البلدان، وأئمة الزمان، منهم ابناه: صالح وعبد الله" 2. وكل هذا وغيره مما حظي به هذا الابن العالم من الثناء الجميل والمدح الجليل جعل الاهتمام بمسائله والنقل منها والتعويل عليها موفورا في كتب علماء الحنابلة3. رواياته: طبع كتاب "مسائل الإمام أحمد ـ رواية ابنه أبي الفضل صالح" في طبعتين، الأولى: ط. الدار العلمية ـ بالهند، بتحقيق د. فضل الرحمن دين محمد، والثانية ط. دار الوطن، بإشراف طارق بن عوض الله بن محمد. وفي كلتا الطبعتين لم يظهر راوي الكتاب، ويعلق على هذا د. فضل الرحمن قائلا: "لم يرد إسناد الكتاب في بدايته، ولا في الصفحة الأولى حيث كتب عنوان الكتاب بخط جلي، لكن ذكر ابن أبي يعلى والشيرازي في ترجمة ابن بشار ... أنه كان سمع جميع مسائل صالح لأبيه من صالح، وحدث بها، فسمعها منه جماعة. ولم أجد عن أحد غيره أنه كان يروي مسائل صالح عنه، مع العلم أن ابن أبي حاتم
والخرائطي وغيرهما من تلامذته سمعوا منه المسائل، ونقلوا منها في كتبهم، لكن لم أجد صراحة أنهم كانوا يروون مسائل صالح، فأغلب الظن أن راوي هذا الكتاب عن صالح هو أبو الحسن علي بن محمد بن بشار الزاهد العارف1. والله أعلم ... " 2.
المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب
المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب. يمكن للناظر في كتاب مسائل صالح بن الإمام أحمد رحمهما الله أن يلخص منهجه فيما يلي1: 1) لم يعتن صالح بترتيب مسائله ترتيباً مبوباً، ولعل هذا عائد إلى كونه يحضر مجلس الإمام أحمد ويسمع منه مسائل متفرقة ـ سواء كان هو السائل أو غيره ـ ويسجلها كما سمعها. 2) المادة العلمية في الكتاب معروضة على شكل أسئلة سألها صالح أباه، وروايات رواها عن أبيه، فأحيانا يقول: سألت أبي عن كذا2 أو يقول: سألت: إلى أي شيء تذهب؟ فقال: كذا..3 أو: سألته عن كذا؟ 4 وأحيانا يقول: قال كذا وكذا دون صيغة السؤال5. وأحيانا يقول: كتب رجل إلى أبي يسأله عن كذا فأملى علي جوابه بكذا ... 6، وتارة: قرأت على أبي كذا وكذا7، وعبارات أمثال ذلك. 3) وأحيانا يذكر أقوال الإمام أحمد من غير ذكر شيء من ألفاظ التحمل والرواية، كأنه سجلها في مجلس الإمام أحمد على عجلة، فلخصها كيلا يفوته بعض النكات8.
1) أما الرواي عن صالح، فإنه عند رواية الأحاديث والآثار يقول: حدثنا صالح ملتزما بذلك. أما عند رواية المسائل الفقهية والمسائل المتعلقة بالرجال ونحوها أحيانا يقول: حدثنا صالح، وغالبا لا يذكر صيغة التحديث.
المبحث السادس: مسائل الإمام أحمد برواية إسحاق بن إبراهيم ابن هانئ
المبحث السادس: مسائل الإمام أحمد برواية إسحاق بن إبراهيم ابن هانئ. المطلب الأول: موضوع الكتاب، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته. موضوعه: موضوع الكتاب هو أسئلة سألها الإمامَ أحمد تلميذُه إسحاق بن إبراهيم ابن هانئ النيسابوري ت275هـ، وأجاب عنها. وتشمل الأسئلة جميع أبواب الفقه، وأضاف إلى ذلك أسئلة في باب الآداب، وباب السنة والرد على أهل الأهواء، وباب الإيمان، وباب الرأي والعلم، وباب التفضيل، وباب الأمر والنهي، وباب تفسير الأحاديث، وكتاب التاريخ، وكتاب العلل، وباب قراءة الحديث. خصائصه: امتاز هذا الكتاب بكون راوي المسائل كان مرافقاً للإمام أحمد خادماً له1، فاستفاد القرب منه والاطلاع على أمور قلّ أن يطلع عليها تلميذ. وقد أفرد المادة المتعلقة بعلل الحديث وشيء من الكلام في الجرح والتعديل في آخر الكتاب، مما يسهل للمتخصص في الحديث الاستفادة من الكتاب. كما امتاز الكتاب بذكر أحاديث احتج بها في مسائل الفقه، أو ترك القول بها في بعض المسائل فروجع فيها فذكر عللها2. ويمتاز الكتاب أيضاً بذكر مادة غريزة في جرح الرواة وتعديلهم.
قيمته عند العلماء: اعتمده العلماء مصدراً لنقل أقوال الإمام أحمد في الرواة جرحاً وتعديلاً، منهم الخطيب1، والحافظ المزي2. رواياته: طبع الكتاب بتحقيق زهير الشاويش، عن نسخة فريدة3.
المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب
المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب. الكتاب مرتب على الكتب والأبواب ابتداء بكتاب الطهارة، وشمل جميع أبواب الفقه. وهو كله مسائل سألها ابن هانئ الإمام أحمد أو سئل الإمام عنها بحضرته. وقد يذكر أثناء كلامه في المسائل الفقهية بعض الأحايث بالإعلال، كما قال في التسمية في الوضوء: لا يثبت حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وقال أيضاً: ليس إسناده بقوي1. وأما المادة الحديثيه وكلامه في الجرح والتعديل فخصص ذلك ابتداء بباب تفسير الأحايث، وأتبعه بكتاب التاريخ، ثم كتاب العلل، وأورد في الكتابين جل الكلام الذي رواه عن الإمام أحمد في الجرح والتعديل وإعلال الأحاديث.
المبحث السابع: سؤالات الإمام أبي داود السجستاني للإمام أحمد في جرح الرواة وتعدليهم
المبحث السابع: سؤالات الإمام أبي داود السجستاني للإمام أحمد في جرح الرواة وتعدليهم. المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته. موضوعه: حوى هذا الكتاب مادة غنية في جرح الرواة وتعديلهم، لا يكاد يخرج بمضمونه عن هذا الجانب النقدي من علم الرجال1. خصائصه: 1) يعتبر هذا الكتاب من أقدم المؤلفات التي وصلت إلينا في نقد الرجال، وحوت ألفاظا في بيان حال الرواة جرحا وتعديلا. 2) كون مادة الكتاب مما اجتمع على صياغتها إمامان جليلان في النقد والرواية، وهما الإمام أبو داود وشيخه الإمام أحمد، وخاصية الجلالة مثل هذه قل أن تتوافر في كتاب مطبوع. 3) غزارة المادة النقدية التي انفرد بها عن غيره من كتب الجرح والتعديل، حيث لم تتناقل تلك الكتب سوى أربعة وأربعين ومائة نص من نصوصه، وهي تمثل أقل من ربع الكتاب، ويعد الباقي من إضافاته إلى كتب الفن2. 4) ما يمتاز به من فوائد أخرى ندرت في غيره بل لا تكاد توجد في كتب متخصصة دونه3.
1) استقل هذا الكتاب بمادة نقدية من أقوال الإمام أحمد متمثلة في 262 قول في نقد الرجال، وهي على ضربين: الضرب الأول منها 167 لم تنقل من هذا المصدر، وإن جاءت نحوها في غيره. والضرب الثاني: أقوال له في بعض الرواة لم يُرو عنه في أولئك الرواة غيرها، ثم أقوال له في بعض الرواة لم تنقل في كتب التراجم الأخرى، وإنما انفرد بذكرها هذا السفر العظيم وتمثل 94 قولا. قيمته العلمية: يستمد هذا السفر العظيم قيمته العلمية من عظيم مكانة الإمامين: أبي داود التلميذ وأحمد بن حنبل الشيخ وتضلعهما في هذا الشأن، وتقدمها في معرفة الجرح والتعديل والسبر لأحوال رواة الأخبار ما يجعل المادة العلمية التي يعرضها هذا الكتاب غاية في الدقة والإتقان. كما تتضح هذه القيمة من اعتماد عديد من الأئمة النقاد على هذا الكتاب في مصنفاتهم في هذا الشأن، من هولاء: 1) الإمام أبو جعفر محمد بن عمر بن موسى العقيلي ت322هـ في كتابه "الضعفاء". 2) الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي ت463هـ في كتابه "تاريخ بغداد". 3) الحافظ عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني ت562هـ في كتابه "الأنساب". وكذا اعتمده كثير من النقاد المتأخرين كأمثال أبي الحجاج المزي ت742هـ في كتابه "تهذيب الكمال"، والحافظ شمس الذهبي ت748هـ في كتبه العديدة
كـ "سير أعلام النبلاء" و"ميزان الاعتدال" و"الكاشف" وغيرها، وغير هؤلاء، مما يدل بجلاء مدى قيمة هذا الكتاب عندهم ـ رحمهم الله تعالى1. رواياته: النسخة الخطية المطبوعة منها هذا السفر العظيم لم تحمل إسنادا في أولها؛ وذلك لحصول سقط من بدايتها، لكن ما وقف عليه محقق الكتاب د. زياد محمد منصور من نقولات في تاريخ بغداد للخطيب توافق معظمها ما في هذه النسخة من طريق الحسين بن إدريس بن المبارك بن الهيثم الهروي2، عن سليمان بن الأشعث أبي داود، عن الإمام أحمد ـ يرويها كلها الخطيب بإسناد واحد وهو: عن شيخه أبي بكر البرقاني3، عن أحمد بن محمد بن حسنويه4، عن الحسين به، كل ذلك جعله يقطع "بأنه إن لم تكن هذه النسخة برواية البرقاني إلى أحمد، من طريق الحسين؛ فإنها برواية أحمد بن محمد بن حسنويه عن الحسين به" 5.
المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب
المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب. يتلخص منهج المؤلف في عرض مادة كتابه فيما يلي1: 1) صنف المؤلف مادة كتابه وجعل المعلومات ذات الموضوع الواحد تحت باب متسقل، فجاء الكتاب ـ عدا القسم المفقود من أوله ـ مقسما إلى سبعة وعشرين باباً. 2) يوجد تكرار لبعض الرواة في أكثر من موضع من الكتاب؛ وهذا راجع إلى الأسلوب الذي بني عليه الكتاب، وهو أسلوب الأسئلة في تدوين المعلومات، وهو نهج يؤدي إلى اتساع المادة العلمية وتنوعها، كما أدت بعض الأسباب أيضا إلى وقوع التكرار في الكتاب مثل الاهتمام بذكر بعض شيوخ الراوي، أو العناية بنفي تحديث بعض الناس عنه، أو غير ذلك. 3) ليس كل ما دونه أبو داود في هذا الكتاب ورد على صيغة السؤال، بل أورد أكثره على غير ذلك؛ حيث كان يسأله تارة، ويصغي إلى سؤال غيره تارة أخرى، وكثيرا ما كان يجلس إليه، ويتلقى عنه من غير مسألة، وربما كتب عنه ذلك كله، وأغلب نصوصه بلفظ: سمعت أحمد. 4) قد يعلق الإمام أبو داود على بعض النصوص التي يرويها عن الإمام أحمد، وبعض التعليقات إنما هي من راوي الكتاب الحسين بن إدريس، لكن معظم مادة الكتاب فهي من إفادة الإمام أبي داود عن شيخه الإمام أحمد رحمه الله.
المبحث الثامن: المنتخب من العلل للخلال ـ لموفق الدين ابن قدامة
المبحث الثامن: المنتخب من العلل للخلال ـ لموفق الدين ابن قدامة. المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته. موضوعه: تتضمن مادة هذا المنتخب أحاديث تكلم عليها الإمام أحمد بالتعليل والتضعيف، وتضمن شيئا من كلامه على الجرح والتعديل، كما أن في آخره ملحقاً عرج فيه على طبقات أصحاب سفيان الثوري1، والأعمش2 وإبراهيم النخعي3. والكتاب المطبوع جزء من انتخاب الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي لعلل الخلال الكبير، وهو يشتمل على الجزءين العاشر والحادي عشر منه. وقد ذكر الحافظ الذهبي وأيضاً الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمة الله عليهما أن من مصنفات ابن قدامة "مختصر العلل للخلال"4. وزاد ابن رجب أنه مجلد ضخم. خصائصه: يمتاز الكتاب بما يلي: 1) أن أصل الكتاب قد اشتمل على مجموعة روايات عن الإمام أحمد نقلها تلاميذه عنه، وجمعها أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في كتابه: "العلل"،
وهو في ثلاث مجلدات1، وقد سرد ابن أبي يعلى أسماء أولئك التلاميذ ممن سمع منهم الخلال مسائلهم للإمام أحمد فبلغ عددهم ثلاثة وعشرين2، وذكر أنه رحل إلى أقصى البلاد في جمع مسائل أحمد. وذكر الخطيب البغدادي أنه لم يكن ممن ينتحل مذهب الإمام أحمد أحد أجمع لعلوم أحمد منه3. فهذه ميزة عظيمة لهذا السفر. 1) أن الكتاب يشتمل على أحاديث معللة تكلم إمام من أئمة العلل وناقد من نقاد الحديث وهو الإمام أحمد عليها بالتعليل مع بيان وجوه التعليل. 2) تنوع موضوعات الكتاب، فهي أشبه ما تكون بموضوعات ما يوسم بالكتاب الجامع، فإنه لم يتقصر على أبواب معينة أو موضوعات محددة، بل تناول جوانب علمية كثيرة، ففيه ما يتعلق بالزهد وذم الدنيا4، وما يتعلق بالشبع5 وفي البنات والأخوات6، وفي السباحة والمغزل7، وفي عدن والزنج والبربر8، وحول أحاديث الخلافة وفضائل الصحابة9، وغير ذلك من موضوعات شتى. قيمته العلمية: يستمد هذا المنتخب قيمته العلمية من قيمة أصله الذي هو العلل للخلال، والذي صنفه في ثلاث مجلدات10، وهو عمل جبار لم يدانيه فيه
أحد، حتى قال الحافظ الخطيب: "وكان ممن صرف عناية إلى الجمع لعلوم أحمد ابن حنبل، وطلبها وسافر لأجلها، وكتبها عالية ونازلة، وصنفها كتبا، ولم يكن فيمن ينتحل مذهب أحمد أجمع منه لذلك" 1. كما تظهر قيمة المنتخب العلمية من اهتمام العلماء بسماعه، كما يظهر من السماعات الموجودة على النسخة الخطية للكتاب، حيث اعتنى بعض العلماء بسماعه، ومنهم الحافظ يوسف بن عبد الهادي تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله 2. روايته: يظهر من طرة الجزء العاشر لهذا المنتخب ـ وهو الجزء المطبوع منه ـ أن راوي هذا الكتاب هو الفخر بن علي بن أحمد بن البخاري المقدسي، عن موفق الدين ابن قدامة المقدسي الحنبلي3.
المطلب الثاني: منهج عرض مادة العلمية للكتاب
المطلب الثاني: منهج عرض مادة العلمية للكتاب. يتلخص منهج المنتخِب فيما يلي: 1) لم يصنف المنتخِب كتابه على ترتيب معين، وإنما اختار من الأصل أحاديث مختلفة المواضيع، وأثبتها في الكتاب، دون أي تنظيم أو ترتيب محدد. 2) يوجد على كل حديث أو مجموعة أحاديث عنوانا يناسب فحواها، ولا يمكننا أن نعرف إن كانت هذه العناوين من وضع صاحب الأصل، أو من المنتخِب، وذلك لغياب الأصل عنا. 3) ينقل مادة الكتاب مسندة ـ ابتداء من شيخ الخلال إلى نهاية السند ـ محافظا على طريق الأصل في العرض.
الباب الثاني: إعلال الأحاديث بالطعن في رواتها
الباب الثاني: إعلال الأحاديث بالطعن في رواتها الفصل الأول: الإعلال بالطعن في الراوي بالجهالة المبحث الأول: ضابط الجهالة عند الإمام أحمد ... الباب الثاني: إعلال الأحاديث بالطعن في رواتها وفيه ثلاثة: الفصل الأول: الإعلال بالطعن في الراوي بالجهالة. الفصل الثاني: الإعلال بالطعن في الراوي بما يُخل بعدالته. الفصل الثالث: الإعلال بالطعن في الراوي بما يُخل بضبطه.
الفصل الأول: الإعلال بالطعن في الراوي بالجهالة
المبحث الأول: ضابط الجهالة عند الإمام أحمد. من الأمور التي تشترط لقبول الخبر أن يكون مَن حدّث به ثقة كما قال سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: "لا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الثقات" 1. وقال الشافعي: "لا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا ثم ذكر منها كون من حدث به معروفا بالصدق في حديثه ... " 2. فتقرر لدى المحدِّثين ردُّ حديث من لم يعرف بالثقة في روايته. وكان ممن درج على هذا المنوال من أئمة الحديث في رد رواية الراوي المجهول الثقة وإعلال حديثه بسبب تلك الجهالة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ومنهجه في ذلك واضح المعالم. وإذا كان الإمام أحمد كغيره من الأئمة يعتبر الجهالة علة توجب رد الحديث أو على أقل الأحوال التوقف في قبوله فما هو حد الجهالة عنده؟ وبما ترتفع؟. فأولاً، تقرّر لدى العلماء المتأخرين أنهم وضعوا حداً فاصلاً للجهالة وما ترتفع به مبنياً على رواية عدد من الرواة عن الرجل، فحددوا ذلك برواية رجلين عنه فصاعدا، واتبعوا في ذلك الإمام محمد بن يحيى الذُّهلي3. قال الخطيب: "أقل ما ترتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم كذلك"، ثم ذكر بإسناده عن أبي زكريا يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي أنه سمع أباه يقول: إذا روى عن المحدث رجلان ارتفع عنه اسم الجهالة4.
فجعلوا حد الجهالة رواية أقل من اثنين عن الراوي وارتفاعها برواية اثنين عنه فأكثر. وأما الإمام أحمد فمنهجه في ذلك يختلف، فالنظر في صنيعه في هذا المضمار يدل على أنه رحمه الله لا يعتبر رواية عدد معين من الرواة عن الراوي حداًّ فاصلاً لما ترتفع به جهالتُه عنده، ويدل على ذلك أمور، منها: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "قلت لأبي: سعيد بن جمهان1 هذا، هو رجل مجهول؟ قال: لا، روى عنه غير واحد: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والعوام بن حوشب، وحشرج بن نباتة" 2. فاعتل رحمه الله لعدم جهالته براوية جماعة من الرواة عنه ـ وعددهم أربعة ـ مما يدل على أن من روى عنه جماعة بهذا العدد لا يوصف بالجهالة. وسأله عبد الله أيضاً عن نافع مولى أبي قتادة 3 فقال: "معروف، روى عنه صالح بن كيسان وأظن الزهري" 4. فجعله معروفاً مع أنه لم يذكر له راوياً غير صالح بن كيسان والزهري.
وقال في عمار العبسي1: "رجل معروف روى عنه شعبة" 2. وهذا لم يذكر له راويا ًغير شعبة وإن كان لم ينص على تفرده بالرواية عنه، ولم أقف على من ذكر له راوياً آخر. في حين قال في حُصين بن عبد الرحمن الحارثي3: "ليس يُعرف، ما روى عنه غير حجاج بن أرطأة، وإسماعيل بن أبي خالد روى عنه حديثاً واحداً، أحاديثه أحاديث مناكير، كل شيء روى عنه حجاج منكر" 4. فهذا جعله مجهولاً مع رواية اثنين عنه. وقال في حصين بن عبد الرحمن5 آخر: "لا يعرف، روى عنه حفص ابن غِياث عن الشعبي، ما سمعت روى عنه غير حفص" 6. وقال في مروان بن عثمان7: "مجهول" 8. وقد روى عنه ثلاثة: سعيد
ابن أبي هلال، ومحمد بن عمرو بن علقمة، ويحيى بن سعيد الأنصاري. وقال في إبراهيم بن عبيد بن رفاعة: "ليس بمشهور" 1، وقد روى عنه جماعة2. وقال في عبد الرحمن بن وعلة3: إنه مجهول، مع أنه روى عنه جماعة4. وكذلك قال في رُبيح بن عبد الرحمن5: "رجل ليس بمعروف" 6. وقد روى عنه جماعة. والذي يستنتج من هذا هو أنه لا عبرة بتعدد الرواة عند الإمام أحمد في تحديد ما ترتفع به الجهالة، وإنما العبرة بشهرة الراوي وانتشار حديثه بين العلماء،
وعلى العكس من ذلك عدم شهرته بالعلم والرواية تقتضي الحكم عليه بالجهالة، وهذا ما أشار إليه الإمام أحمد عند ما سأله أبو داود عن حديث عاصم بن لقيط ابن صبرة1 عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولنا غنم مائة" قال: "أتثبته؟ فقال عاصم: لم نسمع عنه حديثاً كذا ـ يعني لم نسمع عنه بكثير رواية ـ أي ليس عاصم بن لقيط بمشهور في الروايات عنه" 2. فلم يثبت حديثه لأنه ليس مشهوراً بالرواية، وذلك أنه لم يرو عنه سوى إسماعيل بن كثير أبو هاشم المكي، وليس له عنه إلا حديث واحد. وأبو هاشم ثقة3، لكن لم يعتبر الإمام أحمد روايته عنه مرقِّية له إلى رتبة الشهرة رافعة عنه وسم الجهالة، لأنه لما لم يكن له إلا حديث واحد دل ذلك على عدم شهرته برواية العلم. وشهرة الراوي تعرف عند الإمام أحمد بأمور، وهذه الأمور هي الأوصاف المعتبرة عنده لرفع الجهالة، وهي كالتالي:
1. جلالة الراوي عن الرجل وإن لم يكن له راوٍ سواه. إذا لم يرو عن الرجل إلا راوٍ واحد وكان ذلك الراوي من أجلة أهل العلم اعتبرت روايته عنه رافعة لجهالته، يدل على ذلك ما يلي: أ. ماذكره الحافظ ابن رجب قال: "وقد صحح ـ يعني الإمام أحمد ـ حديث بعض من روى عنه واحد ولم يجعله مجهولا. قال في خالد بن سمير1: لا أعلم أحداً روى عنه سوى الأسود بن شيبان، ولكنه حسن الحديث. وقال مرة أخرى: حديثه عندي صحيح2. قال ابن رجب: وظاهر هذا أنه لا عبرة بتعدد الرواة وإنما العبرة بالشهرة ورواية الحفاظ الثقات". والأسود بن شيبان الذي تفرد بالرواية عن خالد هذا قال عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم: "ثقة ثقة" 3. وقال في رواية الميموني: "كان من خيار عباد الله" 4. وقال عبد الرحمن بن مهدي: "نظر سفيان ـ وهو الثوري ـ وهو مختف عندنا بالبصرة إلى رقعة فيها حديث الأسود بن شيبان فقال إذا ذهبتَ إلى هذا
الشيخ فأعلمني حتى أنطلق معك" 1. فهذا يدل على جلالة الأسود بن شيبان، حيث حرص الثوري على الأخذ عنه، وتجشم الخروج إليه بالرغم مما كان فيه من حالة الخوف والاختفاء. ب. قال الإمام أحمد في هشام بن عمرو الفزاري: "هو من الثقات" 2. وما روى عنه غير حماد بن سلمة، وإنما روى عنه حديثا ًواحداً وهو حديث علي بن أبي طالب في الدعاء بعد الوتر3. ج. قال الإمام أحمد في أشعث بن عبد الرحمن الجرمي: "ليس به بأس" 4.
وهو ممن ذكره الإمام مسلم في "المنفردات والوحدان"1 ضمن من تفرد عنهم حماد بن سلمة بالرواية. فتوثيقه لهذين الراوين مع أنه ليس لكل واحد منهما إلا راوٍ واحد، ومع قلة حديثهما مبني على جلالة الراوي عنهما، وهو حماد بن سلمة. قال الفضل بن زِياد: "وحدثنا أبو طالب عن أبي عبد الله قال: سألته عن حماد بن سلمة فقال: حماد بن سلمة من خيار عباد الله الصالحين، ومَن جمع من السنة ما جمع! وقال أيوب: هاتوا مثل فتانا حماد. وقال الفضل: سمعت أبا عبد الله يقول: قال رجل يوماً: العلم عند شعبة، وسفيان، وحماد، فأنكرت عليه حماد أن يكون مثل شعبة وسفيان، ولم أكن بحديثه عالماً، فلما كتبت حديثه علمت أنه قد صدَق، فإن حماداً عالم" 2، فهذا يدل على جلالة حماد بن سلمة عند الإمام أحمد. د. نقل مغلطاي من كتاب الساجي عن أحمد بن حميد ـ وهو أبو طالب ـ قال: "قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: فالحارث بن عبد الرحمن الذي يروي عنه ابن أبي ذئب؟ قال: لا أرى به بأساً" 3. وقد قال ابن سعد، وابن المديني، وأبو أحمد الحاكم: "لا نعلم أحداً روى عنه ـ أي الحارث بن عبد الرحمن ـ إلا ابن أخته محمد ابن عبد الرحمن ابن أبي ذئب" 4. وذكره الإمام مسلم في "المنفردات والوحدان" فيمن تفرد عنهم ابن أبي ذئب بالرواية5. ولعل من أجل هذا قال فيه ابن المديني: مجهول، نقله ابن حجر6.
روى عنه ابن أبي ذئب عدة أحاديث مما يدل على أنه لا يوصف بقلة الرواية1. هـ. وقال الإمام أحمد في عبد العزيز بن عياش فيما رواه عنه ابن شاهين2: "صالح، وهوشيخ لابن أبي ذئب" 3. فلم يجعلهما الإمام أحمد مجهولين مع تفرد محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب بالرواية عنهما، وذلك لجلالته، ويدل على ذلك ما ذكره أبو داود عن الإمام أحمد أنه قال: "كان ابن أبي ذئب يُشبّه بسعيد بن المسيب، قيل له: خلف مثله ببلاده؟ قال: لا، ولا بغير بلاده" 4. وقال يحيى بن معين: "كل من روى عنه ابن أبي ذئب ثقة إلا أبا جابر البياضي" 5، ونقل أبو داود عن أحمد بن صالح المصري مثل هذا6. لكن يعكر على هذا أن أبا داود روى عن أحمد أنه قال: "كان ابن أبي ذئب ثقة صدوقاً، أفضل من مالك بن أنس إلا أن مالكاً أشد تنقية للرجال منه، ابن أبي ذئب لا يُبالي عن من يحدث" 7. فهذا لا يمنع أن يقبل الإمام أحمد من تفرد
عنهم لجلالته، وإن كان لا يجعلهم في مرتبة الثقات كما يفعل بمن تفرد الإمام مالك بالرواية عنهم كما سيأتي، وهذا يوضحه قوله في كلٍّ من الراويين اللذين تقدم ذكرهما حيث قال في الأول ـ وهو الحارث بن عبد الرحمن: "لا أرى به بأساً". وقال في الثاني: "صالح". على أن هناك ما يدل على أن شهرة الأول، وهو كثرة حديثه بخلاف الثاني. ووجه اعتبار جلالة الراوي وصفا ًرافعا ًلجهالة من تفرد بالرواية عنه والحكم عليه بالشهرة هو أنه يبعد مع جلالة الحافظ المعتني بهذا الشأن أن يأخذ العلم عمن ليس بأهل أن يؤخذ عنه. قال ابن معين في عُمارة بن أكيمة الليثي1 الذي تفرد الزهري بالرواية عنه: "كفاك قول الزهري: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب. قال ابن عبد البر: إصغاء سعيد بن المسيب إلى حديثه دليل على جلالته عندهم" 2. وذكره ابن البرقي في "باب من لم تشتهر عنه الرواية واحتُملت روايته لرواية الثقات عنه" وقال: لم يغمز3. لكن يستثنى من هذا من كان مع جلالته معروفاً بالرواية عن كل ضرب من الرواة، ولا ينتقي شيوخه، فقد قال الإمام أحمد في جون بن قتادة: "شيخ لا يُعرف، لم يحدث عنه غير الحسن" 4. فلم يعتبره الإمام أحمد معروفاً برواية الحسن البصري عنه مع جلالته كما فعله علي بن المديني5. والذي يظهر لي أن
ذلك راجع إلى ما ذكر الإمام أحمد عن الحسن البصري أنه كان يروي عن كلٍّ، أي سواءٌ كان معروفاً بالعلم والرواية أم لا. قال أحمد في رواية الفضل بن زياد والميموني: "ليس في المرسلات أضعف من مراسيل الحسن وعطاء بن أبي رباح فإنهما يأخذان عن كل" 1. وقال أيضاً: "حدثنا أبو أسامة، عن وُهيب، عن خالد الحذاء قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: كان أربعة يُصدِّقون من حدثهم: أبو العالية، والحسن، وحُميد بن هلال، ورجل آخر سماه" 2. 2. أن يتفرد عن الرجل من كان معروفاً بأنه لا يروي إلا عن ثقة من الأمور التي تعرف بها شهرة الراوي عند الإمام أحمد وقبوله عنده مع كونه ممن لم يرو عنه إلا واحد كون الذي روى عنه ممن عرف عنه أنه لا يروي إلا عن ثقة. قال الحافظ ابن رجب: "المنصوص عن أحمد يدل على أنه من عُرف عنه أنه لا يروي إلا عن ثقة فروايته عن إنسان تعديل له ومن لم يعرف عنه ذلك فليس بتعديل" 3. وهناك طائفة نصّ الإمام أحمد على أن كل من رووا عنه فهو ثقة، منهم: أ- مالك بن أنس: قال في رواية ابن هانئ: "ما روى مالك عن أحد إلا وهو ثقة، كل من روى عنه مالك فهو ثقة" 4. وروى أبو زرعة الدمشقي عن أحمد أنه قال: "مالك بن أنس إذا روى عن رجل لا يعرف فهو حجة" 5.
وقال الميموني: "سمعت أحمد غير مرة يقول: كان مالك من أثبت الناس، ولا تبال أن لا تسأل عن رجل روى عنه مالك، ولاسيما مدني" 1. ب- يحيى بن سعيد القطان: قال أبو داود: قلت لأحمد: "إذا روى يحيى أو عبد الرحمن بن مهدي عن رجل مجهول يحتج بحديثه؟ قال يحتج بحديثه" 2. ج- عبد الرحمن بن مهدي: قال أحمد في رواية الأثرم: "إذا حدّث عبد الرحمن عن رجل فهو حجة" ثم قال: "كان عبد الرحمن أولاً يتساهل في الرواية عن غير واحد، ثم تشدد بعدُ وكان يروي عن جابر3 ثم تركه" 4. د- أيوب بن أبي تميمة السختياني: قال أبو داود: "قلت لأحمد: أبو زيد المدني؟ قال: أي شيء يُسأل عن رجل روى عنه أيوب" 5. وذكر ابن رجب في عباس بن عبيد الله بن عباس أنه روى عنه أيوب مع جلالته وانتقاده للرجال حتى قال أحمد فذكره6. 3. استقامة حديث الرجل وموافقته لروايات الثقات. من الأمور التي تعرف بها شهرة الراوي عند الإمام أحمد أيضاً استقامة أحاديثه وعدم مخالفتها لروايات الثقات، يدل على ذلك ما يلي: قال الإمام أحمد في عُمارة بن عبد: "مستقيم الحديث، لا يروي عنه غير
أبي إسحاق السبيعي" 1؛ فلم يجعله الإمام أحمد مجهولاً مع تفرد أبي إسحاق السبيعي بالرواية عنه، لأنه كان مستقيم الحديث. وعلى العكس من قول الإمام أحمد قال فيه أبو حاتم: "شيخ مجهول لا يحتج بحديثه" 2. وقال الإمام أحمد في هُبيرة بن يَريم كما في رواية عبد الله3: "هُبيرة رجل صالح، ما أعلم من حدث عنه غير أبي إسحاق". وقال في رواية الأثرم: "هُبيرة بن يَريم لا بأس بحديثه، هو أحسن استقامة من غيره ـ يعني الذين روى عنهم أبو إسحاق وتفرد بالرواية عنهم" 4. وقد قال عنه أبو حاتم حين سئل: "يحتج بحديثه؟ قال: هو شبيه بالمجهولين" 5. وقال عنه ابن معين: "مجهول" 6. وقد روى عنه أبو إسحاق أحاديث ذكرها ابن عدي ثم قال: "لهبيرة هذا غير ما ذكرت، ويحدث عنه أبو إسحاق بأحاديث، وهذه الأحاديث التي ذكرتها هي مستقيمة ورواها عن أبي إسحاق الثوري وشعبة ونظائرهما" 7. وهذا الذي أشار إليه الإمام أحمد ـ أعني استقامة حديثه. ومما يدل على اعتبار الإمام أحمد استقامة حديث الراوي لإثبات شهرته ونفي الجهالة عنه ما ذكره ابن هانئ قال: "سمعت أبا عبد الله يقول: ما أعلم أن
أحداً روى عن سَلْم بن أبي الذيال إلا المعتمر، وسلم ثقة" 1. وإنما وثقه مع تفرد معتمر بن سليمان بالرواية عنه لأن أحاديثه مستقيمة، فدل ذلك على أنه معروف بطلب العلم حيث روى ما يُقارب حديث الثقات. قال أبو داود: "سمعت أحمد ذكر سَلْم فقال: حديثه مقارب" 2. وقال عباس الدوري: "قال أحمد بن حنبل: سلم بن أبي الذيّال أحاديثه متقاربة، لم يرو عنه غير معتمر" 3. 4. تقدم طبقة الراوي إذا كان حديثه غير منكر. يدل على هذا موقف الإمام أحمد من عمرو بن راشد الأشجعي، فإنه روى حديث وابِصة بن معبَد أن رجلاً صلى خلف الصف وحده فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة4، فقال الإمام أحمد: حديث وابصة حديث حسن5، وقال: عمرو ابن راشد معروف6. وإنما روى عن عمرو بن راشد هذا هلال بن يَساف، ونسير ابن دغلوق7. وهلال بن يَساف من التابعين، وقد أدرك علي بن أبي طالب8، فدل على أن عمرو بن راشد متقدم في طبقته، ويكون من طبقة كبار التابعين، وقد روى عن عمر وعلي. وهذا الحديث الذي رواه قد قال فيه أحمد: "لا أعرف
لحديث وابصة مخالفاً" 1 قال ابن رجب: "يعني لا يعرف له حديثاً يخالفه، فإن حديث أبي بكرة يمكن الجمع بينه وبينه بما تقدم، والجمع بين الأحاديث والعمل بها أولى من معارضة بعضها ببعض، واطرادها واطراحها بعضها، إذا كان العمل بها كلها لا يؤدي إلى مخالفة ما عليه السلف الأول" 2 فدل على عدم نكارة حديثه عند الإمام أحمد. واحتج الإمام أحمد أيضاً بالأثر الذي رواه سفيان، عن نسير بن ذُعْلُوق، عن عمرو بن راشد، أن رجلاً اشترى ناقة وهي مريضة فاستثنى البائع جلدها فبرئت، فرغب فيها، فخاصمه إلى عمر، فأرسلهم إلى علي فقال: تقوَّمّ ثم يكون له شراؤه3. قال الإمام أحمد: "أنا أذهب إلى هذا، فقال له أبو ثور: يا أبا عبد الله، من عمرو بن راشد؟ فقال: سبحان الله، أما سمعت حديث شعبة، عن عمرو ابن مرة، عن هِلال بن يَساف، عن عمرو بن راشد، عن وابِصة، أن رجلاً صلى خلف الصف وحده؟ ثم قال أبي: هو رجل معروف أو مشهور" 4 وقال في موضع آخر: "عمرو بن راشد روى عنه هلال بن يساف" 5. فاعتبره الإمام أحمد معروفاً مع قلة عدد من روى عنه، واعتبر في ذلك قدم طبقته وعدم مخالفة حديثه لما هو أثبت منه، والله أعلم.
5. كونه معروفاً عند أهل العلم ببلده: ومن الأمور التي تعرف بها شهرة الراوي عند الإمام أحمد كونه معروفاً عند أهل العلم ببلده وإن لم يكن له إلا راوٍ واحد. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن عبد العزيز بن عبيد الله1 الذي روى عنه إسماعيل بن عياش فقال: كنت أظن أنه مجهول حتى سألت عنه بحمص فإذا هو عند هم معروف، ولا أعلم أحداً روى عنه غير إسماعيل بن عياش قال: وقالوا هو من ولد صهيب2. فأطلق عليه أنه معروف ونفى عنه الجهالة مما يدل على أنه يقصد أنه معروف في باب الرواية، واعتمد في ذلك على معرفته لدى أهل العلم بحمص، إذ لا يسوغ للإمام أحمد أن يسأل عن الراوي إلا أهل العلم والاختصاص، والعلم عند الله.
المبحث الثاني: جهالة الصحابي ليست بعلة
المبحث الثاني: جهالة الصحابي ليست بعلة. والذي تقدم من منهج الإمام أحمد من إعلال الحديث بالجهالة خاص بمن وصف بذلك ممن دون الصحابة، أما الصحابة فجهالة أي واحد منهم ليست بعلة. وقد جاء ذلك عن الإمام أحمد صريحاً، فذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر عن الأثرم قال: "قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل إذا قال رجل من التابعين حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمه فالحديث صحيح؟ قال: نعم" 1. ونقل عنه أيضاً رحمه الله أنه صحّح حديث رجل من الصحابة لم يُسمّ، فقيل له في الحديث الذي رواه إبراهيم بن أبي العباس، قال: حدثنا بقية، قال حدثنا يحيى بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء"2. قال الأثرم: قلت لأحمد هذا إسناد جيد؟ قال: نعم. نقله عنه ابن عبد الهادي وقال: وقد احتج به الإمام أحمد أيضاً في رواية غير واحد من أصحابه3. فقال الإمام أحمد إن إسناد الحديث جيد مع كون الصحابي في السند مجهولاً غير مسمى، مما يدل على أن ذلك ليست بعلة عنده. وقد اعتمد ابن التركماني هذا الصنيع من الإمام أحمد في الرد على البيهقي حيث قال إثر روايته للحديث: هو مرسل4، فقال ابن التركماني: تسمية هذا
مرسلاً ليس بجيد لأن خالداً هذا أدرك جماعة من الصحابة وهم عدول فلا يضرهم الجهالة ثم ذكر سؤال الأثرم المذكور سابقاً1.
المبحث الثالث: ما رواه المجهول مخالفا للثابت المعروف عند الإمام أحمد
المبحث الثالث: ما رواه المجهول مخالفا للثابت المعروف عند الإمام أحمد إذا روى الراوي المجهول حديثاً مخالفاً للثابت المعروف عند الإمام أحمد قوي عنده ردّ حديثه بسبب جهالته وما تضمنته روايته من المخالفة. ويدل على هذا صنيعه في أحاديث وهي: الحديث الأول: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "قلت لأبي: ما تقول في هذا الحديث، حديث مالك، عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أمِّه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص أن يُستمتع بجلود الميتة إذا دبغت؟ قلت لأبي: ما تقول في هذا الحديث؟ قال: فيه أمه، من أمه؟ كأنه أنكره من أجل أمه" 1. رواه أبو داود2، والنسائي3، وابن ماجه4، وأحمد5 وغيرهم من طرق عن مالك، عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أمه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عند مالك في "الموطأ"6. فهذا الحديث أعله الإمام أحمد بجهالة أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حيث قال: فيه أمه، ومن أمه؟
وتبع الإمام أحمد تلميذه الأثرم في إعلال الحديث بالعلة نفسها فقال: "أما حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أمه فإن أمه غير معروفة ولم نسمع أنه روى عن غيرها هذا الحديث" 1. وأم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان روت عن عائشة، وروى عنها ابنُها وعلى حسب ما قاله الأثرم ما روى عنها غير هذا الحديث. وابنها محمد بن عبد الرحمن من التابعين، لا يسأل عن مثله كما قال أبوحاتم2، ووثقه ابن سعد، وأبو زرعة، والنسائي، وابن حجر3. وذكر الحافظ ابن حجر4 أن ابن حبان ذكرها في "الثقات"، ولم أقف عليها في "كتاب الثقات". وهناك قرائن تؤيد جانب القبول لرواية أم محمد بن عبد الرحمن غير أن الإمام أحمد لم يعتبرها. وهذه القرائن هي: أولاً: كون أم محمد بن عبد الرحمن من طبقة التابعين إذ إن ابنها نفسه من طبقة التابعين، ونص البخاري5 على أنه سمع ابن عمر، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وزيد بن ثابت. وكون الراوي المجهول من طبقة كبار التابعين أو أوساطهم مما يجعل حديثه محتملاً ويتلقى لحسن الظن إذا سلم من مخالفة الأصول كما قال الحافظ الذهبي6 وقال نحوه ابن كثير7.
الثاني: كون الراوي عنها ثقة مشهوراً بالعلم والرواية. الثالث: أنها توبعت في رواية هذا الحديث عن عائشة، تابعها الأسود ابن يزيد، وعطاء بن يسار كلاهما عن عائشة بمعناه. أما حديث الأسود بن يزيد فأخرجه النسائي1 وأحمد2، والطحاوي3، وابن حبان4، والدارقطني5 من طريق شريك القاضي، عن الأعمش، عن عُمارة بن عُمير، عن الأسود، عن عائشة قالت: "سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن جلود الميتة، فقال: "دِباغها ذكاتها". وهذا لفظ النسائي. وشريك في إسناد الحديث هو ابن عبد الله النخعي القاضي، صدوق يخطئ، وقد تغير حفظه لما ولي القضاء6، وقد اختلف عليه الثقات في رواية هذا الحديث. رواه عنه على الوجه المذكور حجاج بن محمد المصيصي، وحسين بن محمد بن بهرام المروذي، أخرج الروايتين الامام أحمد، وأخرج الرواية الثانية النسائي، وابن حبان، والطحاوي. ورواه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن شريك، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة. أخرج هذه الرواية النسائي7، وكذلك قال أبو أيوب بن محمد الوزان8، وعبد الرحمن بن يونس
السرّاج1 كلاهما عن حجاج الأعور عن شريك عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة. وهذا الاختلاف سببه سوء حفظ شريك إذ الرواة عنه كلهم ثقات فاختلافهم يدل على سوء حفظ الراوي الذي رووا عنه. وقد روى الحديث إسرائيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة. أخرج الحديث النسائي2، والطحاوي3. قال الدارقطني بعد أن ساق الاختلاف: "وأشبهها بالصواب قول إسرائيل ومن تابعه عن الأعمش" 4. وتبقى علة أخرى في هذا الإسناد وهي عنعنة الأعمش، وهو معروف بالتدليس، وقد روى حفص بن غياث ما يدل على أنه دلس هذا الخبر. فروى عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه عن الأعمش قال: حدثنا أصحابنا عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم به. أخرجه الطحاوي5. وهذه العلة لا تمنع من اعتبار الرواية في المتابعات. والمتابعة الثانية هي رواية عطاء بن يسار، أخرجها الدارقطني6، والبيهقي7 من طريق إبراهيم بن الهيثم: حدثنا علي بن عيّاش، قال: حدثنا محمد بن مطرِّف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طهور كل أديم دباغه". قال الدارقطني: إسناد حسن، كلهم ثقات. وقال البيهقي: رواته كلهم ثقات.
قال ابن عبد الهادي1 في سنده: "إبراهيم بن الهيثم2 تُكلم فيه، والمحفوظ حديث زيد عن ابن وعلة". وتوجيه كلام ابن عبد الهادي أن الاختلاف وقع على زيد بن أسلم في رواية الحديث حيث رواه مالك3، وسفيان بن عيينة4، وسليمان بن بلال5، وعبد العزيز الدراوردي6، وفليح بن سليمان7، وسفيان الثوري8، وحماد بن سلمة9، وهشام بن سعد10، كلهم رووه عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس، فرواية محمد بن مطرف، وهو أبو غسان المدني11 عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عائشة مخالفة لرواية الجماعة عن زيد بن أسلم، وهي قطعاً خطأ، على أنه قد روي عن أبي غسان مثل رواية الجماعة. فروى الطحاوي12 من
طريق سعيد بن أبي مريم، عن أبي غسان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة، عن ابن عباس به. فالحافظ ابن عبد الهادي ما رآى الحمل في هذا الحديث على علي ابن عياش الراوي عن أبي غسان في الرواية الشاذة ـ لثقته1، فإنه ثقة حجة كما قال الدارقطني2، بل جعل الحمل على إبراهيم بن الهيثم لأنه متكلم فيه. فقد تبين أن كلا المتابعتين ـ أعنى رواية الأسود عن عائشة، ورواية عطاء بن سيار عن عائشة ـ لم تسلم من علة. ويبقى النظر فيما يشهد لحديث عائشة، وهو حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بشاة ميتة وفيه أنه قال: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ " ـ الحديث3، فهذا أيضاً أعلّه الامام أحمد بالاضطراب4. وشاهد ثان هو حديث سلمة بن المحبّق ـ وسيأتي في هذا المطلب، وهو معلول عنده أيضاً. فتبين من هذا كله أن حديث أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ليس له عند الامام أحمد شيء سالم من العلة يشهد له، وقد عارضه ما هو أثبت منه عنده، وهو حديث عبد الله بن عُكيم قال: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام شاب قبل موته بشهر أو شهرين: "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" أخرجه أبو داود5، وابن ماجه6، والترمذي7،
والنسائي1، وأحمد2 وغيرهم. قال الإمام أحمد: "أذهب إلى حديث ابن عُكيم" 3. وقال في رواية صالح ـ بعد أن ذكر اضطراب حديث ابن عباس ـ قال: "وليس عندي في دباغ الميتة حديث صحيح، وحديث ابن عُكيم هو أصحها"، ثم قال: "الله قد حرّم الميتة، فالجلد هو من الميتة، وأذهب إلى حديث ابن عُكيم، أرجو أن يكون صحيحاً" 4. وقال أيضاً: إسناد جيد يرويه يحي بن سعيد، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عُكيم. وقال مرة: ماأصلح إسناده5. فجهالة أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان علة توجب ردّ حديثها عند الامام أحمد، وكونها من طبقة التابعين مع رواية الراوي الثقة المشهور عنها لا يجدي شيئاً لمعارضة ذلك بما هو أقوى عند الامام أحمد، وهو مخالفته لحديث عبد الله بن عُكيم الذي هو معارِضٌ راجحٌ عند الإمام أحمد لكل ما عارضه من الأحاديث في هذا الباب، مع مايؤيده من ظاهر القرآن ـ وهو تحريم الميتة، وكون جلدها منها كما بينه رحمه الله في رواية ابنه صالح، والله أعلم.
الحديث الثاني: قال أبو طالب أحمد بن حميد: "سألت ـ يعني أحمد بن حنبل ـ عن جون ابن قتادة فقال: لا يُعرف قلت: روى غير هذا الحديث قال: لا" 1. والمقصود بالحديث هو حديث سلمة بن المحبِّق2: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ ببيت بفنائه قِربة معلَّقة فاستقى، فقيل: إنها ميتة، فقال: "ذكاة الأديم دباغه" أخرجه أبو داود3، والنسائي4، وأحمد5، والطحاوي6، وابن حبان7، والدارقطني8، والحاكم9، والبيهقي10 من طرق عن قتادة، عن الحسن، عن جَوْن بن قتادة، عن سلمة بن المحبق به، واللفظ لأحمد. وظاهر صنيع الامام أحمد في هذا الحديث أيضاً إعلاله بجهالة جون، ويزاد عليه معارضة الحديث لما هو أرجح منه عند الامام أحمد، وهو حديث عبد الله بن عُكيم. ووجه جهالة جون كونه ليس له راوٍ غير الحسن البصري، وهو وإن كان إماماً جليلاً إلا أنه معروف بكثرة الرواية عن المجهولين، فلعدم تحريه في
الرواية عن المشهورين لم يعدّ الامام أحمد مَن تفرّد بالرواية عنه في عِداد الرواة المعروفين. الحديث الثالث: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "قلت لأبي: فحديث الحارث بن بلال ابن الحارث المزني في فسخ الحج؟ قال: لا أقول به. قال أبي: لا نَعرف هذا الرجل، ولم يروه إلا الدراوردي، هذه الأحاديث أحب إليّ" 1. وحديث الحارث بن بلال بن الحارث المزني، عن أبيه قال: [قلت يا رسول الله! فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: "بل لنا خاصة" أخرجه أبو داود2، والنسائي3، وابن ماجه4، وأحمد5، والطحاوي6، والدارقطني7، والحاكم8، والبيهقي9 كلهم من طريق عبد العزيز الدراوردي، عن ربيعة الرأي عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني، عن أبيه به. قال ابن هانئ: "قيل له ـ يعني أحمد بن حنبل ـ في الفسخ، فقال: نعم، هذا عن عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قيل: فحديث بلال بن الحارث؟ قال: ومَن بلال بن الحارث؟ ومن روى عنه؟ أما أبوه فمِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأما هو فأنكره. فقيل له إنه روى حديثاً! فقال: من رواه؟ وأنكره. قلت: ترى فسخ
الحج؟ قال: نعم، إن شاء هو فسخ، أذهب إلى حديث جابر: [أنهم أهلوا بالحج فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحلّوا] 1. وقال أبو داود: "قلت لأحمد: حديث بلال بن الحارث في فسخ الحج؟ قال: ومن بلال بن الحارث؟ أو قال: الحارث بن بلال؟ ومن روى عنه؟ ليس يصِحّ حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة، وهذا أبو موسى يُفتي به في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر" 2. وقال البغوي: وحكي عن أحمد أنه كان يُجوِّز فسخ الحج لغيرهم من الناس، وضعّف حديث الحارث بن بلال، وقال: "ليس الحارث بن بلال بمعروف، وقد روى فسخ الحج جماعة منهم ابن عباس، وجابر، وعائشة وغيرهم" 3. وقال المجد ابن تيمية: قال أحمد بن حنبل: "حديث بلال بن الحارث عندي ليس يثب، ولا أقول به، ولا يُعرف هذا الرجل، وقال: أرأيت لو عُرف الحارث بن بلال إلا أن أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون ما يرون من الفسخ أين يقع الحارث بن بلال منهم؟ " 4. وهذه الروايات كلها متفقة على أن الإمام أحمد ضعّف حديث الحارث ابن بلال، عن أبيه لأجل جهالة الحارث بن بلال، ولمخالفته لما روي عن عدد كثير من الصحابة. والحارث بن بلال بن الحارث المزني المدني روى عن أبيه ولأبيه
صحبة1 وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد مزينة سنة خمس من الهجرة2، وروى عن الحارث بن بلال ربيعةُ الرأي وحده، قاله الذهبي3. وابنه يزيد بن الحارث بن بلال رأى علي بن أبي طالب4، فالظاهر أن الحارث بن بلال تابعي كبير، حيث إن ابنه رأى علي بن أبي طالب5، إلا أنه تفرد برواية هذا الحديث، ولا يعرف إلا به وقد خالف رواية جماعة من الصحابة. قال أحمد: عندي ثمانية عشر حديثاً صحيحاً في فسخ الحج6. فهذه المخالفة كافية في رد الحديث حتى لو كان الحارث بن بلال معروفاً كما قال الإمام أحمد، فكيف وهو غير معروف؟.
المبحث الرابع: نماذج من إعلال الإمام أحمد للأحاديث بجهالة بعض رواتها
المبحث الرابع: نماذج من إعلال الإمام أحمد للأحاديث بجهالة بعض رواتها. أعل الإمام أحمد أحاديث رواة تفردوا برواية أصل ليس لهم فيه متابع ولا شاهد، ردها لأن رواتها غير معروفين لديه، فدل على أن الراوي المجهول لا يحتج بما تفرد به، فمن نماذج الأحاديث التي أعلها الإمام أحمد بتفرد الراوي المجهول: الحديث الأول: قال أبو داود: "رأيت أحمد يتهيّب ويجبن أن يقول بحديث عَوْسَجة مولى ابن عباس: [أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الميراث المولى من أسفل] ، وقال: عوسجة لا أعرفه" 1. وقال أيضاً:"سمعت أحمد ذكر حديث عَوْسَجة عن ابن عباس، فقال: عوسجة لا أعرفه" 2. وهذا الحديث رواه أبو داود3، والترمذي4، والنسائي5، وابن ماجه6، وأبو داود الطيالسي7، وأحمد8، والطحاوي9، والحاكم10،
والبيهقي1 كلهم من طرق عن عمرو بن دينار، عن عوسجة مولى ابن عباس، عن ابن عباس [أن رجلاً مات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدَعْ وارثاً إلا عبداً هو أعتقه فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه] . وهذا لفظ الترمذي. فهذا الحديث تضمن إثبات أصل شرعي في ميراث الرجل إذا مات ولم يدع وارثاً إلا مولى من أسفل، وقد تفرد به2 عوسجة مولى ابن عباس3، ولم يوجد له متابع ولا شاهد يشهد له، فلم يقبله الإمام أحمد لحال عوسجة حيث وصفه بأنه غير معروف عنده، أي ليس له من الشهرة والرواية ما يحتمل منه مثل هذا التفرد. وعوسجة من طبقة التابعين4 ولم يرو عنه غير عمرو بن دينار5. وعمرو إمام ثقة ثبت6، وهذان الأمران ـ كونه من طبقة التابعين، ورواية إمام ثقة عنه ـ من القرائن التي تقوي جانب القبول لحديثه، والحكم عليه بالشهرة، لكنهما معارضان بقرينة أخرى هي أقوى منهما ـ وهي: عدم العمل بهذا الحديث عند العلماء. قال الإمام الترمذي رحمه الله ـ بعد تحسينه للحديث ـ "والعمل عند أهل العلم في هذا الباب إذا مات الرجل ولم يترك عصبة أن ميراثه يجعل في بيت مال المسلمين" 7.
وقال الإمام ابن قتيبة رحمه الله: "الفقهاء على خلاف حديث عوسجة هذا إما لاتهامهم عوسجة، فإنه ممن لا يثبت به فرض ولا سنة إما لتحريف في التأويل وإما النسخ" 1. وقال الموفق ابن قدامة رحمه الله: "لا يرث المولى من أسفل في قول عامة أهل العلم، وحكي عن شريج وطاووس أنهما ورثاه" 2. فإذا انضم إلى هذه القرينة قلة حديثه3 قوي جانب رد ما تفرد به بسبب عدم شهرته بالعلم. وممن سلك هذا المسلك من الائمة في هذا الحديث وردَّه بعلة عدم شهرة راويه أبو حاتم الرازي4، والنسائي5، وكذلك قال البخاري: لم يصح حديثه6. الحديث الثاني: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "سألت أبي قلت: يصح حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك الجمعة عليه دينار أونصف دينار يتصدق به؟ " فقال: قُدامة بن وبرة يرويه، لا يعرف" 7.
هذا الحديث أخرجه أبو داود1، والنسائي2، وأحمد3، وابن خزيمة4، وابن حبان5، والحاكم6، والبيهقي7 من طرق عن همام بن يحيى العوذي، عن قتادة، عن قدامة بن وبرة، عن سمرة به مرفوعاً. قال الإمام مسلم أيضاً: "قيل لأحمد بن حنبل: يصح حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك الجمعة عليه نصف دينار"؟ فقال: قدامة يرويه، لا نعرفه" 8. وهذا الراوي الذي أعلّ الإمام أحمد الحديث به لم يذكر له راوياً سوى قتادة بن دعامة السدوسي9 الإمام التابعي، ولم ترفع رواية قتادة عنه الجهالة عند الإمام أحمد، والحديث الذي رواه في كفارة من ترك الجمعة غريب ليس له أصل يشهد له10.
الحديث الثالث: قال أبو داود: "سمعت أحمد سُئل عن حديث سلمة بن المحبِّق: [أن رجلاً وطئ جارية امرأته] ، فقال: جون بن قتادة شيخ لا يعرف، لم يحدث عنه غير الحسن" 1. هذا الحديث أخرجه أبو داود2، والنسائي3، وابن ماجه4، وأحمد5 عن الحسن عن سلمة بن المحبق قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يواقع جارية امرأته قال: "إن أكرهها فهي حرة، ولها عليه مثلها وإن طاوعته فهي أمة ولها عليه مثلها" وهذا لفظ أحمد6.
فأعل الإمام أحمد هذا الحديث بجون بن قتادة1، وقال عنه: "شيخ لا يعرف، لم يحدث عنه غير الحسن". وكذلك روى أبو طالب أحمد بن حميد قال سألت أحمد بن حنبل عن جون ابن قتادة فقال: لا أعرفه2. فقد أعل الإمام أحمد الحديث بمطلق الجهالة والراوي الموصوف بها من طبقة كبار التابعين على ما صنفه الحافظ بن حجر، وقد تفرد عنه بالرواية راوٍ واحد، وهو ثقة إمام ولم ترفع رواية هذا الإمام عنه الجهالة، وذلك راجع إلى ما تقدمت الإشارة إليه أن الإمام الحسن البصري كان يأخذ عن كل أحد.
وقد روي عن أحمد أنه أفتى بمقتضى هذا الحديث1، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ليس ببعيد عن الأصول، وحسّن الحديث" 2. وهذا محمول على ما ذكر من منهج الإمام أحمد أنه يرى العمل بالحديث الضعيف وأنه أحب إليه من الرأي3. الحديث الرابع: قال مُهنَّا: "سألت أحمد ويحيى عن الحديث الذي رواه رفدة بن قضاعة، عن الأوزاعي، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن جده عمير بن حبيب قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة] فقالا جميعاً: ليس بصحيح. قال أحمد: لا يُعرف رفدة بن قضاعة" 4. هذا الحديث رواه ابن ماجه5، وابن أبي عاصم6، والطبراني7، والعقيلي8، وابن عدي9، والخطيب10، وأبو نعيم11 كلهم من طريق هشام
ابن عمّار، عن رفدة بن قضاعة به. ورواه ابن الجوزي1 من طريق ابن حبان، عن العباس، عن هشام بن عمار به بلفظ: [كان يرفع يديه في كل خفض ورفع] . والحديث قال فيه الإمام أحمد: ليس بصحيح، وعلته جهالة رفدة بن قضاعة فإنه لا يُعرف كما قال الإمام أحمد في هذا السؤال. ورِفدة بن قضاعة روى عنه هشام بن عمار، ومروان بن محمد الطاطري2، وليس له من الحديث إلا شيء يسير، فاعتبره الإمام أحمد غير معروف. قال ابن عدي: "رفدة بن قضاعة هذا لم أر له إلا حديثاً يسيراً، وعند هشام بن عمار عنه مقدار خمسة أو ستة أحاديث" 3. وقد وثقه هشام بن عمار4، وقال البخاري: في حديثه المناكير5. وقال أبو حاتم: منكر الحديث6. وقال النسائي: ليس بالقوي7. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه8. وقال الذهبي: واهٍ9. وقال ابن حجر: ضعيف10. وأما يحيى بن معين فضعف الحديث بناء على ضعف رفدة، فقد قال فيه: هو شيخ ضعيف11.
وأحاديث رفع اليدين في الصلاة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق صحاح، وليس فيها أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة، ولا يعرف إلا من حديث رِفدة هذا1. قال ابن حبان: "وأخبار الزهري، عن سالم، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل ذلك بين السجدتين" 2. وللحديث إسناد آخر عن رِفدة، ذكره الدارقطني3، فقال: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ورواه غيره عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنه كان يكبر في كل تكبيرة، ولم يذكر الرفع. قال الدارقطني: وهذا هو الصواب4. الحديث الخامس: قال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصري ـ بالنون ـ الدمشقي: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث أُبيّ بن عِمارة ليس بمعروف الإسناد. ثم قال أبو زرعة: فناظرت أبا عبد الله أحمد بن حنبل في حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح فلم يقنع به. قلت له: فحديث عطاء بن يسار، عن ميمونة ـ حدثت به أبا عبد الله ـ أعني في المسح أيضاً؟ قال: ذاك من كتاب. قلت لأبي عبد الله: أي شيء ذهب أهل المدينة في المسح أكثر من ثلاث ويوم وليلة؟ قال: لهم فيه أثر، وقال لي أبو عبد الله أحمد بن حنبل: حديث خُزيمة بن ثابت مما لعله أن يدل على ـ يعني حجة لهم، قوله: ولو استزدته لزادني" 5.
حديث أُبي بن عِمارة ـ بكسر العين ـ الذي ضعفه الإمام أحمد في هذه الرواية رواه أبو داود1 قال: "حدثنا يحيى بن معين، حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن أُبي بن عِمارة ـ قال يحيى بن أيوب: وكان قد صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين ـ أنه قال: يا رسول الله! أمسح على الخُفّين؟ قال: "نعم"، قال: يوماً؟ قال: "يوماً"، قال: ويومين؟ قال: "ويومين"، قال: وثلاثة؟ قال: "نعم وما شئت". ورواه ابن ماجه2، والفسوي3 وابن أبي عاصم4 والطحاوي5، والطبراني6، والدارقطني7 والحاكم8، والبيهقي9. وقد وقع اختلاف في إسناد الحديث أشار أبو داود إلى بعضه، وفصّله أبو الحسن بن القطان10. وقال أبو داود: ليس هو بالقوي. وأعلّ الإمام أحمد هذا لحديث بجهالة رجال الإسناد، فإن قوله: ليس بمعروف الإسناد، فسره ابن الجوزي بأن رجاله لا يعرفون11. وقد بين الدارقطني المجهولين في الإسناد، وهم: عبد الرحمن بن رزين، ومحمد بن يزيد ابن أبي زياد، وأيوب بن قطن12.
وأما حديث عطاء بن يسار، عن ميمونة فسيأتي إن شاء الله في الكلام على الوجادة. ومما حكم عليه الإمام أحمد بالنكارة لتفرد راويه المجهول ما ذكره المرُّوذي: قال المرّوذي: "وألقيت على أبي عبد الله حديثاً رواه الفضل بن موسى، عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: [عارض رسول الله صلى الله عليه جنازة أبي طالب] فقال: هذا منكر، هذا رجل مجهول" 1. والمقصود بالرجل المجهول هو إبراهيم بن عبد الرحمن الخوارزمي، وهو إبراهيم بن بيطار أبو إسحاق. قال ابن عدي: يروي عنه الفضل بن موسى الشيباني، وعيسى بن موسى الغنجار، ومحمد بن سلام البيكندي، وقال عنه: "ليس بمعروف، وأحاديثه عن كل من روى ليست بمستقيمة" 2. والحديث رواه ابن عدي3، وذكره الذهبي4 ومتنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عارض جنازة عمه أبي طالب فقال: "وصلتك رحم، وجزيت خيراً يا عمّ".
وإنما حكم عليه الإمام بالنكارة لأنه لا أصل له من حديث ابن عباس، ولا من حديث عطاء، ولا من حديث ابن جريج، وإنما جاء من طريق إبراهيم ابن بيطار هذا، فحري به أن يكون منكراً. وقد قال الذهبي أيضاً: هذا خبر منكر1. وقد روي من وجه آخر عن عطاء، رواه معاوية بن عبيد الله كاتب المهدي، عن المهدي الخليفة، عن أبيه أبي جعفر المنصور قال: حدثني عطاء، قال: سمعت ابن عباس فذكره، أخرجه الخطيب2. ومعاوية بن عبيد الله قد ذكر بالخير والعبادة3، ولم أر من ذكر فيه جرحاً أو تعديلاً من حيث الرواية، وكذلك المهدي والمنصور، فلا يثبت الحديث بروايتهم، ويبقى حكم الإمام أحمد على الحديث بالنكارة ثابتاً بدون معارض. ومما أنكره الإمام أحمد بالجهالة رفع حديث عائشة برواية عبد العزيز بن النعمان عنها: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى الختانان اغتسل] 4، فقال: عبد العزيز بن النعمان لا يعرف. ا. هـ5. وذلك أنه قد روي هذا الحديث عنها من وجوه كثيرة موقوفاً عليها6.
وقد ثبت عنها مرفوعاً عند مسلم1 وغيره من أوجه كثيرة أيضاً. ومعظم من روى عنها موقوفاً قد جاء عنهم الرواية بالرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طريقها. وقد قال ابن عبد البر عن رواية الوقف: "وهذا الحديث يدخل في المسند بالمعنى والنظر، لأنه محال أن ترى عائشة نفسها في رأيها حجة على غيرها من الصحابة في حين اختلافهم في هذه المسألة النازلة بينهم، ومحال أن يسلم أبو موسى لعائشة قولها من رأيها في مسألة قد خالفها فيها من الصحابة غيرها برأيه، لأن كل واحد ليس بحجة على صاحبه عند التنازع، وهذا يدلك على أن تسليم أبي موسى لعائشة في هذه المسألة إنما كان من أجل أن علم ذلك كان عندها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك سلم لها إذ هي أولى بعلم مثل ذلك من غيرها"، ثم ذكر من روى الحديث عنها مسنداً2. وبهذا يتبين أن رواية عبد العزيز بن النعمان ـ وإن كان في نفسه غير معروف ـ لها أصل من حديث عائشة رضي الله عنه مرفوعاً، مما يدل على أن في إنكار الإمام أحمد لروايته نظراً، والله أعلم. ومما رده الإمام أحمد من الآثار بعلة الجهالة أثر عثمان بن عفان أن الخلع تطليقة3،
ردّه بجهالة الراوي عن عثمان وهو جمُهان1، وذهب إلى قول ابن عباس أن الخلع تفريق وليس هو بطلاق. قال عبد الله: "قال أبي في حديث عثمان: إسناده ما أدري ما هو: جمهان عن أم بكرة! هو كأنه لم يرض إسناده. قلت لأبي: تذهب إلى قول ابن عباس؟ قال: فيه اختلاف، ورأيته كأنه يذهب إلى قول ابن عباس" 2. وقال أبو داود: "قلت لأحمد: حديث عثمان: [أن الخلع تطليقة] لا يصح؟ فقال: ما أدري، جُمهان لا أعرفه" 3. ومن الآثار أيضاً ما ذكره أبو داود قال: "سمعت أحمد ذكر أبا شيبة الذي روى عنه عبّاد ابن العوّام، عن عِكرمة [أن ابن عباس كان ينام بين جاريتين] ، قال: أبو شيبة هذا شيخ مجهول" 4، وقال في رواية عبد الله: "أبو شيبة الذي حدثنا عنه عباد بن العوام لا أدري من هو، ما روى عنه أعلم غير عباد" 5، ثم ذكر هذا الأثر. وهذا يدل على إنكاره لهذا الأثر لجهالة راويه.
وأبو شيبة لا يعرف اسمه، وروى عنه أيضاً زكريا بن أبي زائدة على ما ذكره أبو زرعة الرازي1. وكان الإمام أحمد رحمه الله ينكر حديث الراوي المجهول إذا تفرد به عن حافظ مكثر، فقد ورد في علل الخلال كما في "المنتخب من علله"2. قال مهنا: "سألت أحمد عن إبراهيم بن قعيس يحدث عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون أمراء من بعدي" قال لا أعرفه. ولكن العلاء بن المسيب يحدث عنه هذا الحديث ولا نعرف هذا، ولم يروه أصحاب نافع قال: ولا أعرف إبراهيم بن قعيس ولا أدري من هو". فهذا الحديث أنكره الامام أحمد لأنه غريب من حديث نافع إذ لم يحدث به أصحاب نافع كمالك وعبيد الله وأيوب وغيرهم، ونافع إمام حافظ مكثر وكان له أصحاب كُثًر، والذي تفرد بالحديث عن نافع وهو إبراهيم بن قُعيس3 ليس
بمعروف عند الامام أحمد ولا يدري من هو، فلا يحتمل منه مثل هذا التفرد. والظاهر أن رواية الثقة عنه ـ وهو العلاء بن المسيب1 ـ لم تكسبه تلك المعرفة التي يحتمل معها قبول خبر تفرد به عن مثل نافع. والله أعلم. هذا الحديث رواه أحمد2 قال: حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا أبو بكر ـ يعني ابن عياش، عن العلاء بن المسيب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا يفعلون، فمن صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولن يرد علي الحوض". وذكره البخاري في "التاريخ الكبير"3، وأخرج نحوه الطحاوي4. وقد أشار البخاري إلى وقوع اختلاف في رواية هذا الحديث فذكر أن محمد بن يوسف البيكندي روى عن سفيان، عن زُبيد، عن رجل يقال له: إبراهيم، عن كعب بن عجرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سيكون أمراء ... " 5. هكذا أخرجه الترمذي6، والنسائي7 كلاهما من طريق محمد بن يوسف، فذكراه عن إبراهيم وليس بالنخعي. وكان البخاري يشير إلى احتمال أن إبراهيم في هذا الإسناد هو قعيس، ونفى المعلمي أن يكون إبراهيم في هذا الإسناد هو قعيس8، والحديث
معروف لكعب بن عجرة من طرق أخرى عن عاصم العدوي، عن كعب بن عجرة صححه الترمذي، وابن حبان1.
المبحث الخامس: إعلال حديث الراوي المكثر من الرواية عن المجهولين
المبحث الخامس: إعلال حديث الراوي المكثر من الرواية عن المجهولين. من الأمور المنتقدة على بعض الرواة كثرة روايتهم عن المجهولين، لأن ذلك يدل على عدم عنايته بانتقاء الشيوخ، وعدم التمكن من الوقوف على حال المجهولين. ويظهر أثر ذلك في ترحيح مرسل من ينتقي شيوخه على مرسل من لا ينتقيهم1. وقد كان الإمام أحمد ينكر على الرواة عدم انتقاء الشيوخ. قال محمد بن عبد الله: "كنت عند أحمد بن حنبل فقال له إبراهيم بن خرزاذ: يا أبا عبد الله، إن ابن عرعرة يحدث، فقال: أف، لا يُبالون عمن كتبوا ـ يعني إبراهيم بن عرعرة" 2. ومن أمثلة ما أعله الإمام أحمد من أحاديث الثقات لكون شيخهم في الإسناد مجهولاً: قال أبو طالب: "سألت أحمد بن حنبل في السجن عن حديث يزيد بن هارون، عن بقية، عن أبي أحمد، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كتبت كتاباً فتربه، فإنه أنجح للحاجة والتراب مبارك" فقال: هذا حديث منكر، وما روى بقية عن بحير بن سعيد، وصفوان والثقات يكتب، وما روى عن المجهولين لا يكتب" 3. هذا الحديث أخرجه ابن ماجه4، وابن أبي شيبة5 بلفظ: [تربوا صحفكم أنجح لها، إن التراب مبارك] من طريق بقية به.
وقد رواه بقية من وجه آخر: عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. قال أبو حاتم: هذا حديث باطل1. وذُكر ليحيى بن معين قال: ذاك لا يساوي حديثه شيئاً2. قال الذهبي: هذه بواطيل3. قال أبو طالب: "سألت أبا عبد الله: قلت: شُريح حدثنا عن محمد بن إسماعيل ـ يعني ابن أبي فديك، عن عبد الملك بن زيد، عن مصعب بن مصعب، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ترفع زينة الدنيا بعد خمس وعشرين ومائة سنة". قال أبو عبد الله: لا تخرجه، هذا منكر جداً، كان ابن أبي فُديك لا يُبالي عمن روى"4. هذا الحديث أخرجه ابن عدي5، والبزار6 وقال البزار: "هذا الحديث لا نعرفه إلا عن عبد الرحمن بن عوف، ولا نعلم له طريقاً إلا هذا الطريق". قال ابن عدي: "هذا حديث منكر بهذا الإسناد، لم يروه غير عبد الملك بن زيد، وعن عبد الملك بن ابن أبي فُديك". وعبد الملك بن زيد، ضعفه ابن الجنيد، وقال النسائي: ليس به بأس7. وابن أبي فُديك هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك، أبو إسماعيل المدني. قال عنه الإمام أحمد في رواية أبي داود: ابن أبي فُديك لا يُبالي أي شيء
روى1. وقال في رواية الفضل بن زياد: لا بأس به، قيل له: أهو أحب إليك أو أبو ضمرة؟ قال: لا أدري2. وقال عنه الذهبي وابن حجر: صدوق3. وضعف الإمام أحمد حديث ابن عمر مرفوعاً: "من اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وفيه درهم حرام لم تقبل له صلاة ما دام عليه" 4 في رواية أبي طالب وقال: "هذا ليس بشيء، ليس له إسناد" 5. قال ابن رجب: "يشير إلى ضعف إسناده، فإنه من رواية بقية، عن يزيد ابن عبد الله الجهني، عن هاشم الأوقص، عن نافع. وقال أحمد في رواية مهنَّا: لا أعرف يزيد بن عبد الله، ولا هاشماً الأوقص" 6. فيزيد بن عبد الله الجهني من شيوخ بقية المجهولين، فضعف الحديث من أجله.
الفصل الثاني: الإعلال بالطعن في الراوي بما يخل بعدالته
الفصل الثاني: الإعلال بالطعن في الراوي بما يُخلُّ بعدالته المبحث الأول: الإعلال بالطعن في الراوي بالكذب أو التهمة به مدخل ... الفصل الثاني: الإعلال بالطعن في الراوي بما يُخلُّ بعدالته
المبحث الأول: الإعلال بالطعن في الراوي بالكذب أو التهمة به. من الأمور التي تعود إلى الإعلال بالطعن في عدالة الراوي الإعلالُ بالكذب، ولماّ كان عماد الرواية هو الصدق كان أشدَّ موجِبات ردّ رواية الراوي كذبُه في الحديث النبوي، ثم تهمته بذلك وفي درجتها كذبه في غير الحديث النبوي. فكذب الراوي في الحديث النبوي هو أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقلْه ولم يفعلْه ولم يُقرَّه متعمداً لذلك1. ويُسمّى الحديث الذي رواه "الموضوع". وبعض العلماء لم ير التقييد بقيد التعمّد، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فعرّف الموضوع بأنه ما يُعلم انتفاء خبره وإن كان صاحبه لم يتعمد الكذب بل أخطأ فيه2. والناظر في مناهج النّقّاد المتقدمين ومصطلحاتهم في هذا الباب يرى أنهم يطلقون الحكم بالوضع على حديث من وقع ذلك منه عمداً أو خطأً، كما يصفون الراوي بالكذب وإن كان لم يتعمد اختلاق المتون، وكذلك جامعوا كتب الموضوعات كما أفاده الشيخ المعلمي رحمه الله حيث قال: "إذا قام عند الناقد من الأدلة ما غلب على ظنه معه بطلان نسبة الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد يقول: باطل أو موضوع، وكلا اللفظين يقتضي أن الخبر مكذوب عمداً أو خطأ، إلا أن المتبادر من الثاني الكذب عمداً غير أن هذا المتبادر لم يَلتفِت إليه جامعو كتب الموضوعات، بل يوردون فيها ما يجدون قيام الدليل على بطلانه وإن كان الظاهر عدم التعمد" 3. وكذلك يُطلق المتقدمون الكذب على من يدّعي سماع حديث من شيخ لم
يسمع منه، أو من يتعمد قلب الإسناد، أو من يسرق الحديث، أو يقبل التلقين، أو يلزق أحاديث الضعفاء على الثقات، وحكموا على أحاديث هؤلاء وأمثالهم بالوضع، كما ستأتي أمثلة ذلك عند الإمام أحمد، بينما المتأخرون قد خصصوا لأحاديث هؤلاء أسماءً خاصة نظراً لكونهم لم يتعمدوا الكذب1، ولكن الشأن في الأئمة المتقدمين ـ كما سوف يظهر من منهج الإمام أحمد ـ أن استعمالهم للمصطلحات أشد شمولاً من استعمال المتأخرين لها، الذين عُرفوا بتحرّي التحديد في المصطلحات، على غِرار ما بين منهج الفريقين من الفرق في استعمال ألفاظ الجرح والتعديل2. وأما التهمة بالكذب فهو أن يتفرد الراوي برواية ما يخالف القواعد المعلومة إذا لم يكن في الإسناد من يُتّهم بذلك غيره، ومنه أيضاً أن يُعرف عنه الكذب في كلامه وإن كان لا يُتّهم أن يَكذِب على رسول الله صلى الله عليه وسلم3. ويدخل في هذا من يصرّح بالسماع من شيخ ثبت أنه لم يسمع منه4. وكل هذه الأقسام داخلة في الإعلال بكذب الراوي في هذه الدراسة. ومن خلال دراسة الأحاديث التي أعلّها الإمام أحمد بكذب رواتها أو حكم عليها بالوضع أو الكذب أو البطلان يظهر بعض معالم منهجه في هذا الباب، وذلك في سبعة مطالب:
1.إثبات الوضع بقرائن تعود إلى حال الراوي. 2.إثبات الوضع بقرائن تعود إلى حال المروي. 3.لا منافاة بين ثقة الراوي والحكم على حديثه بالوضع. 4.تعدد طرق الحديث المعلّ بكذب راويه. 5.مصطلحات الإمام أحمد في هذا الباب. 6.موقفه من الرواية عن الكذّابين والمتَّهمين بالكذب. 7.مخالفة حكمِه حكمَ غيره في آحاد المسائل في هذا الباب.
المطلب الأول: إثبات الوضع بقرائن تعود إلى حال الراوي
المطلب الأول: إثبات الوضع بقرائن تعود إلى حال الراوي. إن الحكم بالوضع على حديث من الأحاديث عمل مبني على غلبة الظن، وللأئمة في هذا طرق متعددة، وإدراك قوي تضيق عنه عباراتهم من جنس ما يؤتاه الصيرفي الجِهبِذ في نقد الذهب والفضة، أو الجوهري لنقد الجواهِر والفُصوص لتقويمها1. وهناك قرائن تظهر للباحث من مناهج الأئمة يستعين بها على إدراك الأحكام التي توصل إليها هؤلاء الأئمة في هذا الباب، بعضها تعود إلى حال الراوي، وبعضها تعود إلى حال المروي. وسأذكر في هذا المطلب ما وقفت عليه عند الإمام أحمد من القرائن التي تعود إلى حال الراوي، وذلك من خلال دراسة بعض الأحاديث التي حكم عليها بالوضع أو ما في معناه، وهذه القرائن كالتالي: 1. كون الراوي ممن وصف بأنه كذّاب أو يروي الموضوعات: فمن ذلك ما رواه ابنه عبد الله: قال عبد الله: "عرضتُ على أبي أحاديث سمعتها من إسماعيل بن عبد الله ابن زرارة السُّكَّري الرقّي عن شيخ يقال له عبد العزيز بن عبد الرحمن القرشي كان ينزل بالس2، منها: عن خصيف عن أبي صالح عن أسماء بنت يزيد الأنصارية عن خزيمة بن ثابت الأنصاري قال: [إني لقائم تحت جِران3 ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تَقصع عليّ بجِرَّتها4 ويذوب عليّ لعابُها] فذكر الحديث وفيه
"لا وصية لوارث، الولد للفراش، والعارية مردودة، والمِنحَة مردودة، والدَّيْن مقضي، والزَّعيم غارم ـ وهو الكفيل"، وله أيضا غير هذا بأسانيد مختلفة. فقال أبي: عبد العزيز وهو الذي يروي عن خُصيف، اضرب على أحاديثه هي كذب أو قال: موضوعة أو كما قال أبي. فضربت على أحاديث عبد العزيز بن عبد الرحمن"1. روى ابن عدي2 والعقيلي3 هذه الرواية من طريق عبد الله بن الإمام أحمد. وجه علة الحديث: أوضحه العقيلي حيث قال: "وإنما أنكر أبوعبد الله الإسناد لا المتن، أما المتن فمعروف بغير هذا الإسناد عن عمرو بن خارجة الجنبي، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الولد للفراش" وليس فيه: "وحسابهم على الله" 4. ومعنى هذا أن الحديث ليس له أصل من حديث خزيمة بن ثابت، والبلاء من عبد العزيز هذا ومن أجل ذلك أمر الإمام أحمد بالضرب على حديثه وسماه موضوعاً. وأيضاً قد انفرد بزيادة لفظة: "وحسابهم على الله". وعبد العزيز بن عبد الرحمن البالسي قال فيه النسائي: ليس بثقة5. وقال ابن عدي: وعبد العزيز هذا يروي عن خصيف أحاديث بواطيل يرويها عنه إسماعيل بن زرارة، وإسحاق بن خلدون البالسي، وفيها غير حديث خصيف عن أنس وسائر ذلك كله، ليس لها أصول ولا يتابعه الثقات
عليها. ا.هـ.1، ونصّ في موضع آخر على أن البلاء في رواية خصيف منه لا من خصيف، قال: وإذا حدّث عن خصيف ثقة فلا بأس بحديثه وبرواياته إلا أن يروى عنه عبد العزيز بن عبد الرحمن البالسي يكنى أبا الأصبغ، فإن رواياته عنه بواطيل، والبلاء من عبد العزيز لا من خصيف، ويروي عنه نسخة عن أنس بن مالك، وعن جماعة من التابعين. ا.هـ2. وقال ابن حبان: يأتي بالمقلوبات عن الثقات فيكثر والملزقات بالأثبات فيفحش، وقال: كتبنا عنه عن عمر بن سنان، عن إسحاق بن خالد البالسي عنه نسخة شبيهاً بمائة حديث مقلوبة منها ما لا أصل له، ومنها ما هو ملزق بإنسان لم يرو ذلك البتة، لا يحل الاحتجاج به بحال. ا. هـ3. وقال الحاكم أبو عبد الله: "روى عن خصيف بن عبد الرحمن وعبد الكريم بن مالك أحاديث موضوعة" 4. وقد رُويتْ هذه القصة التي وردت في هذا الحديث من حديث عمرو ابن خارجة الجنبي وأنه هو الذي وقعت له القصة المذكورة وليس لخزيمة بن ثابت كما في حديث البالسي هذا، فروى الإمام الترمذي في جامعه قال: حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها وهي تقصع بجرتها وإن لعابها يسيل بين كتفيّ فسمعته يقول: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ومن ادّعى إلى غير أبيه أو
انتمى إلى غير مواليه رغبة عنهم فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح1 ورواه النسائي2، وابن ماجه3، وأحمد4، والدارمي5، والدارقطني6. فاتضح أن رواية عبد العزيز البالسي مقلوبة، لا أصل لها من حديث خزيمة بن ثابت البتة، والله أعلم. وفي هذا أيضاً إطلاق الوضع على إلزاق متن معروف بإسناد مختلق. ومثال آخر لهذه القرينة: قال عبد الله: "ذكرتُ لأبي حديث عبد الصمد، عن أبيه عبد الوارث، عن أبيه، عن الحسن بن ذكوان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمشي الرجل في نعلٍ واحدةٍ أو خُفٍّ واحد. قال أبي: هذا حديث منكر. قيل له: إن غير عبد الصمد يقول: عن عبد الوارث، عن الحسن، عن عمرو بن خالد، عن حبيب. قال أبي: نُرى عمرو بن خالد ليس يسوى حديثه [شيئاً] ليس بشيء" 7. وقال عبد الله في وجاداته على المسند8: "وكان في كتاب أبي ـ فذكر الحديث بهذا الإسناد ـ ثم قال: فلم يُحدثّنا به، ضرب عليه في كتابه، فظننت أنه
ترك حديثه من أجل أنه روى عن عمرو بن خالد الذي يُحدّث عن زيد بن علي، وعمرو بن خالد لا يساوي شيئاً". وهذا الحديث رواه عبد الله في زياداته على المسند كما تقدم، ورواه ابن عدي1 من طريق عمر بن شبة عن عبد الصمد بن عبد الوارث بمثل إسناد عبد الله، ليس فيه: عمرو بن خالد. ورواه الطبراني2 من طريق الحسين بن علي الحلواني، عن عبد الصمد، عن أبيه، عن الحسن بن ذكوان، عن عمرو بن خالد، عن حبيب بن أبي ثابت به3. وجه علة الحديث: أعلّه الإمام أحمد بأنه حديث منكر، وآفته عمرو بن خالد، وهو القرشي مولاهم، أصله من الكوفة ثم انتقل إلى واسط، وهو المتَّهم بهذا الحديث، ومن أجله ضرب الإمام أبو عبد الله على الحديث ولم يحدث به كما قال عبد الله. وقال الإمام أحمد في رواية الأثرم: "عمرو بن خالد الواسطي كذّاب، قلت: الذي يروي عنه إسرائيل؟ قال: نعم، الذي يروي حديث الزَّنديْن4 ويروي عن زيد بن علي، عن آبائه أحاديث موضوعة، يكذب" 5.
وقال الأثرم أيضاً:"لم أسمع أبا عبد الله يصرّح في أحد ما صرّح في عمرو بن خالد من التكذيب" 1. وقال وكيع: "كان في جِوارنا، يضع الحديث فلما فُطن له تحوّل إلى واسط" 2. وقال عباس الدُّوري عن ابن معين: "كذاّب غير ثقة ولا مأمون، يروي عن زيد بن علي، عن آبائه" 3. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: "كان واسطياًّ، وكان يضع الحديث، ولم يقرأ علينا حديثه وقال: اضربوا عليه" 4. وقال الدارقطني: "كذاب" 5. وقال البيهقي: "كان معروفاً بوضع الحديث" 6. وقال الذهبي: "كذبوه" 7. وقال ابن حجر: "متروك، رماه وكيع بالكذب" 8، وحالته أشد من المتروك. وقد دلّس الحسن بن ذكوان في الإسناد الذي في زيادات المسند وعند ابن عدي، فلم يذكر عمرو بن خالد في الإسناد، وأشار عبد الله إلى أن بعض
تلاميذ عبد الوارث بن سعيد رووه بذكر عمرو بن خالد بين الحسن بن ذكوان وحبيب بن أبي ثابت. وقد جاء هذا مصرَّحاً عن الإمام أحمد، ذكره العقيلي في ترجمة الحسن بن ذكوان من طريق الأثرم أنه قال: "قلت لأبي عبد الله: الحسن بن ذكوان ما تقول فيه؟ فقال: أحاديثه أباطيل، يروي عن حبيب بن أبي ثابت ... وهو لم يسمع من حبيب بن أبي ثابت، إنما هذه أحاديث عمرو بن خالد الواسطي" 1. وإنكار الإمام أحمد موجه إلى إسناد الحديث لا المتن، ووجه ذلك أن الحديث لا يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه، وأما متنه ـ أي النهي عن الانتعال في نعل واحدةٍ2 ـ فصحيح من حديث أبي هريرة، وجابر بن عبد الله. فحديث أبي هريرة في الصحيحين3 بلفظ: "لا يشمي أحدكم في نعل واحدة، ليَنعلْهما جميعاً أو ليَخْلَعهما جميعاً"، وهذا لفظ مسلم. وحديث جابر في صحيح مسلم بلفظ: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأكل الرجل بشماله، أو يمشي في نعل واحدة، وأن يشتمل الصماء، وأن يحتبي في ثوب واحد كاشفاً عن فرجه] 4. وفي هذا إطلاق الوضع على تركيب الإسناد لا على اختلاق المتن، وهو مثل الذي قبله، فدل على أن إلزاق متن معروف بسند مختلق يعتبر وضعاً، والعلم عند الله. وفيه أيضاً إثبات الوضع بقرينة وجود راوٍ معروفٍ بالوضع في سند الحديث، وهو المطلوب من هذا المطلب. وفيه أيضاً إطلاق النكارة على ما هو وضع في الحقيقة، وسيأتي.
وقد أمر الإمام أحمد بالضرب على حديث آخر لعمرو بن خالد سيأتي في مطلب موقفه من الرواية عن الكذّابين والمتهمّين بالكذب، وأنكر له حديثاً آخر سيأتي في مطلب قرائن تعود إلى حال المروي إن شاء الله. ومثال ثالث لإثبات الوضع بقرينة وجود راوٍ وُصف بالكذب ما ذكره عبد الله: قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: يعقوب بن الوليد من أهل المدينة، وكان من الكذّابين الكبار، فحدّث عن أبي حازم، عن سهل بن سعد [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل البطيخ بالرطب] " 1. هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في السنن2 قال: حدثنا محمد بن الصباح، وعمرو بن رافع، ثنا يعقوب بن الوليد بن أبي هلال، عن أبي حازم، عن سهل ابن سعد به. وأخرجه الطبراني3 من طريق عبد الرحمن بن نافع عن يعقوب به. وجه علة الحديث: أعلّه الإمام أحمد بيعقوب بن الوليد الذي وصفه هنا بأنه كان من الكذّابين الكبار. وقال عنه أيضاً: "يعقوب بن الوليد المديني أبو يوسف كتبت عنه وخرقنا حديثه منذ دهر، وكان من الكذّابين وكان يضع الحديث، يحدث عن أبي حازم، وهشام بن عروة، وابن أبي ذئب. وقال عبد الله: سمعت أبي يقول غير مرّة: كان
كذّاباً يضع الحديث"1. وهكذا أطلق الجرح على يعقوب غير واحد من الأئمة، فقال ابن معين كما في رواية عباس الدوري: "لم يكن بشيء" 2 وقال الجوزجاني: "غير ثقة ولا مأمون، هو صاحب حديث سهل بن سعد في الرطب والقثّاء" 3 وقال أبو حاتم: "منكر الحديث ضعيف الحديث كان يكذب، والحديث الذي رواه موضوع، وهو متروك الحديث". وقال أبو زرعة: "ليس بشيء وترك حديثه" 4 واتهمه ابن عدي بسرقة الحديث5. وقال ابن حبان: "كان ممن يضع الحديث على الثقات، لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب" 6. ومتن الحديث صحيح من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه بلفظ: [رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب بالقثاء] . أخرجه الأئمة الستة إلا النسائي7. ومن حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع البطيخ بالرطب" أخرجه أبو داود8،
والترمذي1، والنسائي2، وابن حبان3. ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند الترمذي في "الشمائل"4، وأحمد5، والنسائي6، وابن حبان7، ولفظه: [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل البطيخ بالرطب] . ومن هذا يفهم أن كلام الإمام أحمد في الحديث هو من حيث إسناده إلى سهل بن سعد، فكأن يعقوب بن الوليد ركّب له هذا الإسناد: أبو حازم، عن سهل بن سعد، وهذا من سرقة الحديث، وهو نوع من الوضع في الحديث. وقد وافق الإمام أحمد على إعلال هذا الحديث الإمامان أبو حاتم، والجوزجاني؛ الأول صريحاً في قوله: "والحديث الذي رواه موضوع"، والثاني إيماءً في قوله: "وهو صاحب حديث سهل بن سعد في الرطب والقثّاء". وقد تقدم أقوالهما. وقال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عن أحاديث ثلاثة رواها أبو يوسف المديني، منها: حديث أبي يوسف، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: [رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل البطيخ بالرطب] ، قال أبي: أبو يوسف هذا اسمه يعقوب بن الوليد ضعيف الحديث، وحديث سهل هو باطل وهذه الاحاديث الثلاثه بواطيل" 8. وليعقوب هذا حديث آخر أعلّه الإمام أحمد بقوله: ليس يثبت، وهو حديث ابن عمر مرفوعاً: "الوقت الأول من الصلاة رضوان الله والوقت الآخر عفو الله"
رواه الترمذي1، والدارقطني2، والبيهقي3 كلهم من طريق أحمد بن منيع، حدثنا يعقوب بن الوليد المدني، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره. فقال الخلال: أخبرنا الميموني قال: سمعت أبا عبد الله يقول: "لا أعرف شيئاً يثبت في أوقات الصلوات: أولها كذا، وأوسطها كذا، وآخرها كذا ـ يعني مغفرة ورضواناً. وقال له رجل: ما ترى: أول الوقت كذا وأوسطها كذا رضوان ومغفرة؟ فقال له أبو عبد الله: من يروي هذا؟ ليس هذا يثبت" 4. وقال ابن عدي: "هذا الحديث بهذا الإسناد ـ أي إسناد يعقوب بن الوليد ـ باطل" 5. 2. ومن القرائن التي تعود إلى حال الراوي رميه بسرقة الحديث: وسرقة الحديث هو تعمّد تركيب متن على إسناد ليس له، وقد تقدمت بعض أمثلة ذلك، ومنه أيضاً أن يسرق حديثاً لم يسمعه فيدّعي سماعَه من رجل6، وحديث الموصوف بهذه الصفة يُطلق عليه الإمام أحمد الكذب والبطلان. ومن أمثلة ذلك: قال عبد الله: "قلت لأبي: بلغني أن ابن الحِمَّاني حدّث عن شريك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعجبه النظر إلى الحمام".
فأنكروه عليه فرجع عن رفعه وقال: عن عائشة مرسلاً. فقال أبي: هذا كذب، إنما كنا نعرف به حسين بن علوان، ويقولون إنما وضعه على هشام. قلت له: إن بعض أصحاب الحديث زعم أن أبا زكريا السَّيْلحيني رواه عن شريك، قال كَذِبٌ هذا على السَّيْلحيني، السيلحيني لا يحدث بمثل هذا، هذا حديث باطل"1. لم أقف على هذا الإسناد الذي ذكره عبد الله، ولا رواية حسين بن علوان التي أشار إليها الإمام أحمد رحمة الله عليهما جميعاً. وقد أخرج ابن الجوزي في الموضوعات2 من طريق الحاكم بإسناده عن أبي حفص عمرو بن شمر، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن عائشة قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب النظر إلى الخضرة، وإلى الأترج، وإلى الحمام الأحمر] . ثم قال: عمرو بن شمر متروك. وجه علة الحديث: أعل الإمام أحمد الإسناد الذي ذكره عبد الله بيحيى الحِمّاني بأنه سرقه من حسين بن علوان الذي قام بوضعه على هشام بن عروة. وقد ركّب له يحيى الحِمّاني إسناداً فجعله من حديث شريك؛ سرقه من حسين بن علوان هذا، وليس له أصل من حديث شريك، ولو ثبت أن السيْلحيني حدّث به عن شريك لكان له أصل، لأن السيْلحيني ـ وهو يحيى بن إسحاق البجلي السيْلحيني، ويقال: السيْلحوني والسالحيني ـ شيخ صدوق، ووثقه ابن سعد، والذهبي3. لكن ذلك لم يثبت، فقد ذكر عبد الله كما في رواية الخلال عنه للمسألة: "أن فضل
الأعرج قال: سمعت يحيى بن معين يقول: قد حدّث به السيْلحيني، فأنكره أبي وقال لي: اذهب إلى يحيى وقلْ: قال لك أبي: سمعتَه من السيْلحيني؟ قال: فلقيت يحيى فذكرتُ له إنكارَ أبي عبد الله فقال: قل له: لا، والله ما سمعتُهُ، ورفع عبدُ الله صوتَه كأنه يُحاكي كلامَ يحيى" 1. ويحيى الحِمّاني هو يحيى بن عبد الحميد الحِمّاني أبو زكريا الكوفي. ذكر الإمام البخاري أن الإمام أحمد رماه2، وروى غير واحدٍ من تلاميذ الإمام أحمد وجه هذا الرمي وأن ذلك راجعٌ إلى سرقة الحديث، وليس بمعنى اختلاق المتون، ومن أجمع ما رُوي في ذلك ما رواه ابنه عبد الله قال: "قلت لأبي: إن ابنيْ أبي شيبة ذكرا أنهما يقدمان بغداد فما ترى فيهم؟ فقال: قد جاء ابنُ الحِمّاني إلى ههنا فاجتمع عليه الناس وكان يَكذِب جِهاراً فاجتمع عليه الناس، ابنُ أبي شيبة على حال يصدق ... قلت لأبي: ابن الحماني حدّث عنك، عن إسحاق الأزرق، عن شريك، عن بيان، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أبردوا بالصلاة" فقال: كذَب، ما حدثتُه به. فقلت: إنهم حكوا عنه أنه قال: سمعتُه منه في المذاكرة على باب إسماعيل بن عُليّة. فقال: كذَب، إنما سمعتُه بعد ذلك من إسحاق الأزرق وأنالم أعلم تلك الأيام أن هذا الحديث غريب حتى سألوني عنه بعد ذلك هؤلاء الشباب أو قال: هؤلاء الأحداث. قال أبي: وقتَ التقيْنا على باب ابنِ عُليّة إنما كنا نتذاكر الفقه والأبواب، لم نكن تلك الأيام نتذاكر المسند، كنا نتذاكر الصغار وأحاديث الفقه والأبواب. وقال أبي: كان وقع إلينا كتاب الأزرق، عن شريك فانتخبت منه فوقع هذا الحديث فيها. قلت لأبي: أخبرني رجلٌ أنه سمع ابنَ الحِماني يحدث عن شريك، عن منصور، عن إبراهيم: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] قال: كانوا يكرهون أن يستدلوا، فقال رجل: هذا الحديث في كتب ابن المبارك عن
شريك، عن الحكم البصري، عن منصور. فقال ابن الحماني: حدثناه شريك عن الحكم البصري، عن منصور. فقال أبي: ما كان أجرأَه، هذه جرأةٌ شديدةٌ ولم يعُجبه ذلك، وقال: ما زِلنا نعرفه أنه يسرق الأحاديث أو يتلقَّطُها أو يتلقَّفُها" 1. قال: "وسمعت أبي مرة أخرى وذكر ابن الحِمّاني فقال: قد طلب وسمع، ولو اقتصر على ما سمع لكان له فيه كفاية. قال عبد الله بن أحمد: وهذا أحسن ما سمعت من أبي فيه" 2. وقد تواتر توثيق يحيى الحماني عن يحيى بن معين كما قال الذهبي، وكان له مسند كبير وكان يزعم أنه أول من جمع المسند من أهل الكوفة، قال الذهبي: "لا ريب أنه كان مبرزاً في الحفظ كما كان سليمان الشاذكوني، ولكنه أصون من الشاذكوني، ولم يقل أحدٌ قط إنه وضع حديثاً، بل ربما كان يتلقّط أحاديث ويدّعي روايتها، فيرويها على وجه التدليس ويُوهم أنه سمعها، وهذا قد دخل فيه طائفة، وهو أخف من افتراء المتون" 3. والحديث الذي في هذه المسألة مثال على تركيب متن على إسناد ليس له، الأمر الذي جعل الإمام أحمد يرمي يحيى الحماني بالكذب، وهذا أشد من ادعاء السماع، وإن كان كلا الأمرين داخلين في سرقة الحديث. والإمام أحمد لم يخرج ليحيى الحماني شيئاً في المسند4.
3. ومن قرائن إثباث الوضع والتي تعود إلى حال الراوي كون الراوي يروي عن شيخ ويصرح بالسماع منه مع كونه لم يسمع منه من أمثلة ذلك ما رواه الخلال عن حنبل: قال حنبل: "قلت لأبي عبد الله: حدثنا عاصم، عن محمد بن زياد الجزري، عن ميمون، عن يزيد بن الأصمّ قال: قال [إن هذا العلم دين فانظروا عن من تأخذونه] . قال أبو عبد الله: اضرب عليه، فضربت عليه وسمعت أبا عبد الله يقول: محمد بن زياد الجزري يقال: إنه يضع الحديث" 1. أنكر الإمام أحمد هذه الرواية وأمر بالضرب عليها لحال محمد بن زياد الجزري، وهو محمد بن زياد الطحان اليشكري الكوفي المعروف بالميموني ـ نسبة إلى ميمون بن مهران2. قال عنه هنا: "يضع الحديث". وقال عبد الله: "سألت أبي عن محمد بن زياد يقال له الميموني كان يحدث عن ميمون بن مهران، قال: كذاب خبيث أعور يضع الحديث" 3. وبين وجه هذا الكذب في رواية أبي دواد: قال: سمعت أحمد بن حنبل قال: "ما كان أجرأَه! يقول حدثنا ميمون بن مهران" 4. فالظاهر من هذه العبارة أنه يصرّح بالسماع من ميمون بن مهران مع كونه لم يسمع منه، وهذا من أوضح القرائن على كذب الراوي. ومما يدل على عدم سماعه من ميمون ما ذكره هارون بن مرّة ويحيى بن معين يسمع قال: "جاء كتاب البغداديين إلى أبي المليح وأنا حاضر يسألونه عن محمد بن زياد الطحان فقال:
جاءنا محمد بن زياد الطحان الأعور بعد ما مات ميمون بن مهران" 1 وأبو المليح هو الحسن بن عمر الرّقّي الفزاري مولاهم، وكان راوية لميمون بن مهران. قاله ابن سعد عن عبد الله بن جعفر الرقي2. وسائر الأئمة أيضاً على تكذيب محمد بن زياد. قال الحافظ ابن حجر: كذبوه3. 4. ومنها كون الراوي ممن يُوضع له الأحاديث فيحدث بها فمن ذلك من كان هذا وصفه لكونه ليس من أهل الحديث فلا يتفطنّ لما يوضع له من الأحاديث، مثال ذلك ما ذكره المرُّوذي: قال المرُّوذي: "وعرضت عليه ـ أي أبي عبد الله ـ حديثاً رووه عن محمد ابن الجرّاح، عن شعبة، عن سفيان الثوري، عن علي مرفوعاً: "من صلى كذا فله كذا، ومن قرأ كذا فله كذا"، فقال: هذا باطل موضوع، قد رأيت ابن الجراح فرأيت عنده أحاديث وضعت له، لم يكن يدري ما الحديث" 4. وذكر الحافظ ابن حجر عن علل الخلال: سئل أحمد عن حديث محمد ابن الجراح، عن شعبة مرفوعاً: "من عمل كذا فله كذا" فقال: "هذا باطل موضوع، وقد رأيت ابن الجراح فرأيت عنده أحاديث وضعت له ولم يكن يدري ما الحديث" 5.
ولم أقف على هذا الحديث، ومحمد بن الجراح قد بيّن الإمام أحمد حالَه، وقال أبو حاتم: مجهول1، ولم أر السيوطي أشار إلى هذا الحديث عند ما ذكر الباطل من أحاديث فضائل القرآن سورة سورة، فإنه أشار إلى حديث ابن عباس، وحديث أبي أمامة الباهلي فقط2. ومنهم من بُلي بمن يُوضع له الحديث في آخر عمره وهو لا يدري، ومثال ذلك ما رواه الخلال عن الأثرم قال: قال الأثرم: "قال أبو عبد الله في الحديث الذي رواه كاتب الليث، عن نافع بن يزيد، عن زَهرة بن مَعبد، عن سعيد بن المُسيب، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اختار لي أصحاباً" قال: ذاك عندي موضوع" 3. هذا الحديث أخرجه البزار4، وابن حبان في المجروحين5، والخطيب في تاريخه6. وتمام لفظ الحديث: "إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين إلا النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة ـ يعني أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ـ وفي كل أصحابي خير، واختار أمتي على جميع الأمم فبعثني في خير قرن، ثم الثاني، ثم الثالث تترى ثم الرابع فرادى". وجه علة الحديث: حكم الإمام أحمد على الحديث بالوضع، ولم يبين وجه علته، وبالنظر في كلامه في رواة الحديث يظهر أن علة الحديث راجعة إلى أبي صالح عبد الله بن صالح
كاتب الليث بن سعد. قال عنه الإمام أحمد: "كان أولَ أمره متماسكاً ثم فسد بأخرةٍ، وليس هو بشيء" 1 وبيّن الحفاظ أبو حاتم، وأبو زرعة وابن خزيمة كيف جاءه هذا الفساد في آخره. فقال أبو حاتم: "الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخر عمره التي أنكروا عليه نرى أن هذه مما افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه، وكان سليم الناحية، وكان خالد بن نجيح يفتعل الحديث ويضعه في كتب الناس، ولم يكن وزن أبي صالح وزن الكذب، وكان رجلاً صالحاً" 2. وقال أبو زرعة ـ في أثناء كلامه في عثمان بن صالح السُّهمي ـ "لم يكن عندي عثمان ممن يكذب، ولكنه كان يكتب حديث خالد بن نجيح، وكان خالد إذا سمعوا من الشيخ أملى عليهم مالم يسمعوا فبُلوا به، وقد بُلي به أبو صالح أيضا في حديث زهرة بن معبد، عن سعيد بن المسيب، عن جابر، ليس له أصل وإنما هو عن خالد بن نجيح" 3. والحديث الذي أشار إليه هو هذا الحديث الذي أعله الإمام أحمد بالوضع. وأما ابن خزيمة فقال: "كان له جار بينه وبينه عداوة فكان يضع الحديث على شيخ عبد الله بن صالح ويكتب في قرطاس بخط يُشبه خط عبد الله بن صالح ويطرح في داره في وسط كتبه، فيجده عبد الله فيحدث به فيتوهّم أنه خطه وسماعه، فمن ناحيته وقع المناكير في أخباره" 4. فتبين بهذا كيف جاءت العلة في هذا الحديث، وأنه من وضع خالد بن نجيح، وضعه على أبي صالح فحدّث به، وهذا يدل على غفلة وعدم التيقظ، وهي علة
جاءته في آخر عمره. قال الذهبي في أبي صالح: "كان صدوقاً في نفسه، من أوعية العلم، أصابه داء شيخه ابن لهيعة، وتهاون بنفسه حتى ضعُف حديثُه، ولم يُترَك بحمد الله، والأحاديث التي نقموها عليه معدودة في سعة ما روى" 1. لكن يشكل على هذا الحمل على أبي صالح ما رواه الخطيب في2 من طريق أبي العباس محمد بن أحمد بن الأثرم ـ قال الذهبي: صدوق ـ حدثنا علي ابن داود القنطري ـ قال الذهبي: ثقة ـ حدثنا ابن أبي مريم، وعبد الله بن صالح، قالا: حدثنا نافع بن يزيد، عن زهرة بن معبد فذكره بمثل الإسناد الأول. ورواه أيضاً محمد بن الحارث العسكري عن سعيد بن أبي مريم عن نافع به3. فهاتان المتابعتان تخلصان أبا صالح من التهمة بهذا الحديث فيما يظهر. فأما أبو زرعة فموقفه من متابعة ابن أبي مريم هو تكذيب راويها عن ابن مريم، وهو محمد بن الحارث العسكري. فروى الحاكم بإسناده إلى أحمد ابن محمد بن سليمان التستري قال: سألت أبا زُرعة الرازي ... فمن رواه عن ابن أبي مريم؟ قال هذا كذّاب. قال التستري: وقد كان محمد بن الحارث العسكري حدثني به عن كاتب الليث وابن أبي مريم4. وأما الذهبي فبرّأ ساحة أبي صالح من الحمل بسبب هذه المتابعة، وقال: فلعله مما أدخل على نافع مع أن نافع بن يزيد صدوق يقِظ5. فكأنه يبعد حصول ذلك.
وبالرجوع إلى ترجمة خالد بن نجيح ظهر أن سعيد ابن أبي مريم أيضاً لم يسلم من دسّه، فقال أبو حاتم: "خالد بن نجيح المصري كان يصحب عثمان بن صالح المصري، وأبا صالح كاتب الليث، وابن أبي مريم ... وهو كذاب، كان يفتعل الأحاديث ويضعها في كتب ابن أبي مريم، وأبي صالح، وهذه الأحاديث التي أنكرت على أبي صالح يتوهم أنه من فعله" 1. ومثل هذا بعينه قد وقع لقتيبة بن سعيد من خالد ـ وهو ابن نجيح ـ المدائني هذا كما ذكره الحاكم بإسناده عن البخاري في الحديث الذي أنكره البخاري على قتيبة بن سعيد في جمع التقديم بين الصلاتين في السفر قال: "قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ فقال: كتبته مع خالد المدائني، قال البخاري: وكان خالد المدائني يُدخل الأحاديث على الشيوخ" 2. فبناء على هذا يظهر لي أن خالد بن نجيح أدخل الأحاديث المفتعلة على ابن أبي مريم كما أدخلها على أبي صالح، لكن لكثرة ما حدّث أبو صالح بهذه المناكير بالنسبة لابن أبي مريم تبادر الحمل في هذا الحديث عليه دونه. وهذا يُمثّل القاعدة التي ذكرها المعلمي في مقدمة تحقيقه لكتاب "الفوائد المجموعة"، قال رحمه الله: "إذا استنكر الأئمة المحققون المتن وكان ظاهر السند الصحة فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقاً حيث وقعت أعلّوه بعلة ليست بقادحة مطلقاً، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر ـ ثم ذكر أمثلة على ذلك: منها قال: فمن ذلك إعلالهم بظن أن الحديث أدخل على الشيخ كما ترى في لسان الميزان في ترجمة الفضل بن الحُباب وغيرها، وحجتهم في هذا أن عدم القدح بتلك
العلة مطلقاً إنما بني على أن دخول الخلل من جهتها نادر، فإذا اتفق أن يكون المتن منكراً يغلب على ظن الناقد بطلانه فقد تحق وجود الخلل، وإذا لم يوجد سبب له إلا تلك العلة فالظاهر أنها هي السبب، وأن هذا من ذاك النادر الذي يجيء الخلل فيه من جهتها، وبهذا يتبين أن ما يقع ممن دونهم من التعقّب بأن تلك العلة غير قادحة وأنهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث مع وجودها فيها إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق، اللهم إلا أن يُثبت المتعقب أن الخبر غير منكر" 1. وممن حكم على هذا الحديث بالوضع الإمام النسائي، والظاهر أنه يرى الحمل في ذلك على أبي صالح فإنه شديد القول فيه. قال فيه: ليس بثقة2. هذا، وقرينة معرفة أن الراوي ممن أدخلت عليه الأحاديث المفتعلة ليست كافية في حد ذاتها لإثبات الوضع، ولا بد أن ينضمّ إلى ذلك قرينة كون الحديث منكراً سنداً أو متناً أو هما معاً، وهي من القرائن التي تعود إلى حال المروي، الآتية في المطلب القادم. وهذا بخلاف غيرها من القرائن التي تعود إلى حال الراوي المتقدمة مثل كونه وضاعاً أو متهماً بسرقة الحديث فهي كافية بوحدها في إثبات الوضع، والله أعلم.
المطلب الثاني: إثبات الوضع بقرائن تعود إلى حال المروي
المطلب الثاني: إثبات الوضع بقرائن تعود إلى حال المَروي حكم الإمام أحمد بناء على هذه القرائن على أحاديث بأنها باطلة أو موضوعة أو لا أصل لها، وحكمه في ذلك غير متوقف على حال رواتها، بل يتوقف على النظر في المرويات ومدى سلامتها واستقامتها متناً وسنداً، سواء بلغ رواتها إلى حد الترك أو لا، ونظره في ذلك منصب على نوع الخطأ في الرواية سنداً أو متناً أو هما معاً. فمن تلك القرائن: 1. كون الحديث لا يشبه ما خرج من مشكاة النبوة لركاكة ألفاظه ومعانيه، أو اشتماله على المجازفة في الترغيب والترهيب، أو الفضائل، وكان مناقضاً للأصول1، فلكثرة ممارسة الحفاظ للألفاظ النبوية يحكمون بأن هذا مختلق، وقد تقصر عباراتهم عن الإفصاح بوجه العلة. فمن أمثلة ذلك عند الإمام أحمد: قال الخلال: "أخبرني يوسف بن موسى2 أن أبا عبد الله سُئل عن محدّثٍ بنصبين يقال له: محمد بن نعيم روى عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "منْ لَذَّذ أخاه بما يَشتهي كتب الله له ألف ألف حسنة". فقال: هذا كذب، هذا باطل 3.
هذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات اعتماداً على هذه الرواية عن الإمام أحمد1. ونقل الشيخ الألباني عن السُّبكي أنه لم يجد له إسناداً2. ولم يذكر لهذا الراوي ـ محمد بن نعيم ـ غير هذا الحديث، كأنه لا يعرف إلا به3. فمثل هذا الوعد العظيم على فعل حقير راجع إلى الركة4، وإذا انضم إليه كون الحديث عن أبي الزبير عن جابر، وأحاديثه في نسخة معروفة ولا يعرف هذا الحديث فيها قوي الظن باختلاقه. ومن أمثلته أيضاً: قال مهنّا: "قلت لأحمد: حدثني الوليد بن الفضل العنزي، أخبرني إسماعيل بن عبيد بن نافع العجلي، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عمّار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل آنفاً فقلت له: يا جبريل حدِّثني بفضائل عمر في السماء. فقال: يا محمد، لو حدَّثتُك بفضائل عمر في السماء ما لبث نوحٌ في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ما نفدت فضائل عمر، وإن عمر حسنة من حسنات أبي بكر" فقال أحمد: لا أعرف إسماعيل بن نافع، هذا حديث موضوع" 5. هذا الحديث أخرجه الروياني6، والطبراني7، وابن عدي في ترجمة الوليد ابن الفضل8، وهو في جزء
ابن عرفة1 كلهم من طريق الوليد بن الفضل العنزي به. وهو من رواية الوليد بن الفضل العنزي، قال عنه ابن حبان: يروي الموضوعات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد2. وقد تفرد بهذا الحديث. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن حماد إلا إسماعيل، تفرد به الوليد3. وقال ابن عدي: ما أظن أن للوليد بن الفضل غير هذا الحديث، وإن كان اليسير من الحديث عنده4. فمن كان بهذه المثابة في قلة الحديث ثم روى عن مجهول خبراً لا يعرف إلا به قوي القول برده. وأما إسماعيل بن عبيد بن نافع فقال الإمام أحمد: لا أعرفه، وكذلك قال الأزدي5. والخبر مثال على المجازفة في ذكر الفضائل وهو أمر غير معهود في الأحاديث النبوية، فإذا انضم إلى هذا كون راويه ليس له من الحديث إلا قليل، وتفرد عن راوٍ مجهول بخبر لا يعرف إلا به، قويت الدلائل لإثبات الوضع فيه، والله أعلم. وممن حكم على الحديث بالوضع الإمام أبو حاتم الرازي فقال مجيباً على سؤال ابنه له عن الحديث: "هذا حديث باطل موضوع، اضرب عليه" 6.
2. ومن القرائن التي تعود إلى حال المروي أن لا يكون للحديث أصل من حديث أي راوٍ ممن ذكر في الإسناد، ولا يعرف الحديث إلا من طريق من لا يحتمل تفرده. فمن ذلك: قال المروذي: "وسئل عن حديث ابن المبارك، عن مالك بن أنس، عن ابن المنكدر، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من جلس إلى قَينة صُبَّ في أُذنه الآنُك1 يومَ القيامة" وقيل له: رواه رجل بحلَب وحسَّنوا الثناء عليه فقال: هذا باطل" 2. الحديث أخرجه ابن حزم3 من طريق أحمد بن الغمر بن أبي حماد بحمص، ويزيد بن عبد الصمد، نا عبيد بن هشام الحلبي ـ هو أبو نعيم ـ نا عبد الله بن المبارك، عن مالك بن أنس، عن محمد بن المنكدر، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس إلى قينة فسمع منها صَبَّ الله في أذنيْه الآنك يوم القيامة". وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق محمد بن إبراهيم أبي بكر الصوري عن أبي نعيم الحلبي به ولفظه: [من استمع إلى قينة ... ] ، ومن طريق سعيد بن عبد العزيز قال: حدثنا أبو نعيم به ولفظه: [من قعد إلى قينة ... ] 4 وأخرجه الدارقطني في غرائب مالك على ما ذكره الحافظ ابن حجر في اللسان وفي التهذيب5. وهذا الحديث آفته أنه غير معروف ولا أصل له من حديث ابن المبارك، ولا من حديث مالك، ولا من حديث ابن المنكدر. قال الحافظ ابن حجر نقلاً عن
الدارقطني أنه قال: "تفرد به أبو نعيم عن ابن المبارك، ولا يثبت هذا عن مالك ولا عن ابن المنكدر" 1. وقال ابن حزم: "هذا حديث موضوع مركب فضيحة ما عرف قط من طريق أنس ولا من رواية ابن المنكدر، ولا من حديث مالك، ولا من جهة ابن المبارك، وكل من دون ابن المبارك إلى ابن شعبان مجهولون ... " 2، وأبو نعيم هو عبيد بن هشام الحلبي ـ وهو الذي عناه عبد الله حين ذكره للإمام أحمد: "رواه رجل بحلَب وحسَّنوا الثناء عليه. قال عنه أبو زرعة: صدوق3، وكذا وثقه الخليلي في الإرشاد4. وقال أبو داود: ثقة تغير في آخر أمره لقِّن أحاديث ليس لها أصل. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو أحمد الحاكم: روى ما لا يتابع عليه5. وقال الحافظ ابن حجر: صدوق تغير في آخر عمره فلقِّن6. وذكره عبد القيوم في الملحق الأول لكتاب "الكواكب النيرات"7. وجه علة الحديث: نقد الإمام أحمد لهذا الحديث منصب على الرواية لا على حال الراوي، حيث لم يلتفت رحمه الله إلى كون راويه قد حسِّن الثناء عليه، وتوضيح ذلك أن كلاًّ من ابن المبارك، ومالك، وابن المنكدر، وأنس من أوعية الرواية وممن جُمع حديثُهم وانتشر، وسعة معرفة الإمام أحمد بمرويات من تدور عليهم الرواية وكثرة اطلاعه عليها جعلته ينفي أن يكون هذا الحديث من حديث أحد هؤلاء الأعلام، ولم يشر رحمه الله
إلى المتهم به ولا من الحمل فيه عليه كما فعل في غيره من الأحاديث, وبالنظر في كلام النقاد في أبي نعيم الحلبي يتبيّن للناظر أن الحمل في هذه الرواية على أبي نعيم، لا لأنه متهم بالكذب لكن لتغيره في آخر عمره وقبوله التلقين، وهو مظنة وقوع الكذب في المرويات، وقد قالوا: "إذا سرّك أن يكذبك الرجل فلقنه" 1. 3. ومن القرائن التي تعود إلى حال المروي كون الحديث منكرَ الإسناد، مما يدل على احتمال وقوع تركيب الإسناد في روايته، مثاله: قال عبد الله: "حدّثتُ أبي بحديث حدثنا خالد بن إبراهيم أبو محمد المؤذِّن، قال: حدثنا سلاّم ابن رُزيْن قاضي أنطاكية، قال: حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود قال: بينما أنا والنبي صلى الله عليه وسلم في بعض طُرُقات المدينة إذا أنا برجل قد صُرع فدَنوتُ منه فقرأتُ في أذنه اليسرى فاستوى جالساً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ماذا قرأت في أذنه يا بن أم عبد؟ " قلت: فِداك أبي وأمي قرأتُ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي بعثني بالحق لو قرأها موقن على جبل لزال". قال أبي هذا الحديث موضوع، هذا حديث الكذابين منكر الإسناد" 2. الحديث أخرجه العقيلي من طريق عبد الله3، وابن الجوزي4.
وجه علة الحديث: حكم الإمام أحمد على الحديث بالوضع وقال: هذا حديث الكذابين منكر الإسناد. ووجه الكذب فيه النكارة في إسناده، فإن الحديث ذُكر عن سلاّم بن رُزين عن الأعمش، وسلاّم مجهول لا يعرف وروى عن الأعمش _وهو من بحور الرواية ـ ما لم يرويه المعروفون عن الأعمش، ثم ساق إسناداً يسهل إلى الأذهان ذكره الأعمش، عن شقيق، عن ابن مسعود. قال الذهبي عن سلاّم أبي رزين: لا يعرف وحديثه باطل1. وقال في "تلخيص الموضوعات": فيه سلام بن رزين عن الأعمش ـ مجهول، ثم ذكر ما نقله عبد الله عن الإمام أحمد أن الحديث موضوع2. وفي موضع آخر من الكتاب نفسه3 قال: كأنه ـ أي سلام بن رزين ـ وضعه. وهذا أيضاً مما حكم عليه الإمام أحمد بالوضع لحال إسناده، وأما المتن فقد روي بإسناد آخر هو أمثل من هذا. فروى أبو يعلى4 قال: حدثنا داود بن رشيد، حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لهيعة، عن عبد الله بن هُبيرة، عن حَنَش الصنعاني، عن عبد الله أنه قرأ في أذن مبتلى فأفاق فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قرأتَ؟ ". قال: قرأت: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} حتى فرغ آخر السورة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن رجلاً موقناً قرأ بها على جبل لزال". ومن طريق أبي يعلى رواه أبو نعيم5.
ورواه ابن أبي حاتم1 من طريق ابن وهب، والخطيب في التاريخ2 من طريق عفيف بن سالم الموصلي، والبغوي3 من طريق بشر بن عمر، وذكر السيوطي4 أن ابن مردويه رواه من طريق أبي الأسود النضر بن عبد الجبار، والحكيم الترمذي من طريق القعنبي، كل هؤلاء الخمسة ـ وكلهم ثقات ـ عن ابن لهيعة به. قال الهيثمي: رواه أبو يعلى وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح5. وتعقب أبو الحسن الكناني6 والألباني7 الحكم على الحديث بالوضع بطريق أبي يعلى هذه، غير أن الألباني أعله بالإرسال، وذلك أن رواية ابن وهب، وعفيف بن سالم، وبشر بن عمر عن ابن لهيعة كلها بالإرسال ـ عن حنش أن رجلاً مصاباً مُرَّ به على عبد الله بن مسعود، وخالف الوليد بن مسلم فذكره عن حنش عن عبد الله أنه قرأ في أذن مبتلى ... وأما رواية أبي الأسود، والقعنبي فلم يسق السيوطي إسنادهما بل عطف على سائر الروايات بدون تمييز بين المسندة منها والمرسلة. ورواية ستة من الثقات تقتضي أن للحديث أصلاً من حديث ابن لهيعة، وإن حكمنا عليه بالضعف إذ العمل على تضعيف حديث عبد الله بن لهيعة كما قال الذهبي8.
وإذا تبين وجه إعلال الإمام أحمد للحديث فلا وجه للتعقّب عليه، لأنه حكم عليه بالوضع لنكارة إسناده، وأن هذا المتن بهذا الإسناد منكر، ولم يتكلم عن المتن، وهذا موجود في منهجه وقد تقدمت أمثلة ذلك. 4. ومن القرائن التي تعود إلى حال المروي أن يروي الراوي حديثاً بإسناد رُوي به أحاديث معروفة جمعت في نسخة ثم لا يكون حديث ذلك الراوي موجوداً في تلك النسخة، فيحكم عليه بالوضع. مثال ذلك: روى الخلال قال: "حدثنا مهنّا قال: قلت لأحمد: ثنا إبراهيم بن موسى المروزي، قال: عرضت على مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". قال أحمد: هذا كذب 1. وقد اختلفوا في تسمية هذا الراوي عن مالك، وكلهم يروونه من طريق مهنّا: فقيل: إبراهيم بن موسى كما في هذا النقل من طريق الخلال. وإبراهيم بن موسى لم أجد له ترجمة إلا عند الذهبي في "الميزان" وتبعه الحافظ ابن حجر في "اللسان"2، اعتماداً على هذا النقل عن الخلال. وقيل أحمد بن إبراهيم بن موسى: قاله ابن حبان، وابن عدي، والدارقطني كلهم عن مهناّ، ووهمّ الدارقطني مهناّ في هذه التسمية. قال ابن حبان: "أحمد بن إبراهيم بن موسى، شيخ يروي عن مالك ما لم يحدّث به قط، لا تحل الرواية عنه إلا على سبيل الاحتجاج به كذا!، روى
عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، ثم ذكره بإسناده وقال: وهذا حديث لا أصل له من حديث ابن عمر، ولا من حديث نافع، ولا من حديث مالك، إنما هو من حديث أنس بن مالك، وليس بصحيح" 1. وقال ابن عدي: "أحمد بن إبراهيم بن موسى منكر الحديث وليس بمعروف، وروى عن مالك وعن غيره بمناكير. ثم قال عن هذا الحديث: وهذا الحديث منكر بهذا الإسناد ولا يرويه إلا أحمد بن إبراهيم بن موسى وهو غير معروف" 2. وقيل: موسى بن إبراهيم المروزي. وهذا الذي صوبّه الدارقطني كما نقله الحافظ ابن حجر3 عنه، وساق الدارقطني هذا الحديث من طريق مهنّا ابن يحيى عنه ـ أي أحمد بن إبراهيم بن موسى ـ ثم قال: "أحسب مهنّا وهم فيه، وإنما روى هذا عن مالك موسى ابن إبراهيم المروزي"، ثم ساقه من طريق موسى به. وكذلك رواه الخطيب من طريق محمد بن بيان عن مهناّ فقال: عن موسى بن إبراهيم. وأعاد ابن عدي ذكر هذا الحديث في ترجمة موسى بن إبراهيم، لكن رواه من طريق موسى بن هارون الجمال: سمعت موسى بن إبراهيم: ثنا الليث بن سعد، وقرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر فذكره. وقال عنه ابن عدي: "شيخ مجهول، وله أحاديث عن ثقات الناس، وهو بيّن الضعف على رواياته وحديثه" 4.
والذي أراه راجحاً من هذه الأقرال أنه موسى بن إبراهيم لمتابعة موسى ابن هارون الجمال لمهناّ في اسمه، وأرى أن الاختلاف في اسمه عن مهنّا راجع إلى جهالته، والله أعلم. وموسى بن إبراهيم هذا له ترجمة في تاريخ بغداد، وقال يحيى بن معين عنه: ذاك كذاب. وقال الدارقطني: متروك1. ولم يذكر الخطيب مالكاً من الذين روى عنهم، لكن ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمته في "لسان الميزان"2. وذكر الخطيب عن إبراهيم الحربي أن موسى بن إبراهيم هذا كان صاحب شرطة، ثم ترك الشرطية فجاء إلى مسجد الجامع فقعد مع قوم يدعون، ثم جاء بكتاب معه يقرأ فيه في مسجد الجامع في أصحاب الحديث فقالوا له: أملِ علينا، فأملى عليهم عن ابن لهيعة وغيره شيئاً لم يسمعه قط ولم يسمع هو قط حديثاً، لا أدري أيش قصة ذاك الكتاب اشتراه أو استعاره أو وجده. ا.هـ.3. وأحاديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر معروفة في نسخة مشهورة، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه زاد جماعة عدة أحاديث ليست من هذه النسخة، منها القوي والسقيم، وأن الإمام الدارقطني ذكر جلَّها في غرائب مالك4. ويغلب على الظن من خلال حكم الإمام أحمد وكلام الحفاظ أن هذا الحديث الذي رواه موسى بن إبراهيم من تلك الأحاديث التي زِيدت على النسخة وليس منها. وإطلاق الإمام أحمد الكذب على هذا الحديث يعني به كذِب بهذا الإسناد، وإلا فالمتن له طرق ضعيفة، قاله الذهبي5، وهو كما قال. فوجود
حديث بهذا الإسناد ـ مالك، عن نافع، عن ابن عمر ـ وعدم وجود أصل له من أحاديث هذه النسخة قرينة دالة على أن ذلك الحديث ركّب له هذا الإسناد1. 5. من القرائن التي تعود إلى حال المروي كون الحديث المروي أصله يعود إلى نسخة موضوعة. ومثال ذلك: قال المرُّوذي: "سألته ـ أي الإمام أحمد ـ عن حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه مسح على الجبائر] فقال: باطل، ليس من هذا شيء، من حدّث بهذا؟ قلت: ذكروه عن صاحب الزهري، فتكلم فيه بكلام غليظ" 2. أطلق الإمام أحمد الحكم بالبطلان على هذا الحديث وأنكر على من حدّث به عن عبد الرزاق عن معمر، وذلك لأن الإمام أحمد أدرك أن أصل الحديث حديث عمرو بن خالد الواسطي عن زيد بن علي عن آبائه، وهذه نسخة موضوعة، فأصبح الحديث يعود إلى نسخة موضوعة، يدل على ذلك ما تقدم في ترجمة عمرو بن خالد الواسطي3 أن الأثرم ذكر عن الإمام أحمد أنه قال: "عمرو بن خالد الواسطي كذّاب، قلت: الذي يروي عنه إسرائيل؟ قال: نعم، الذي يروي حديث الزَّنديْن ويروي عن زيد بن علي، عن آبائه أحاديث موضوعة، يكذب" 4.
وحديث الزَّنديْن هو هذا الحديث، فقد رواه ابن ماجه1، والدارقطني2، والعقيلي3؛ الأول من طريق محمد بن أبان البلخي، والثاني والثالث من طريق الدبري، كلاهما عن عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل، عن عمرو بن خالد، عن زيد ابن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب قال: [انكسرتْ إحدى زنديَّ4 فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسح على الجبائر] . وهو في مصنف عبد الرزاق5. قال العقيلي: لا يعرف هذا الحديث إلا من طريق عمرو بن خالد هذا. ورواه الدارقطني6 أيضاً من طريق محمد بن أبان البلخي، عن سعيد بن سالم ـ وهو القداح ـ عن إسرائيل. ورواه من هذا الطريق ابن عدي7، ومن طريقه البيهقي8. فتبيّن أن أصل الحديث حديث عمرو بن خالد مما رواه عن زيد بن علي ابن الحسين، وهي نسخة موضوعة وهي التي أشار إليها الإمام أحمد بقوله: روى عن زيد بن علي، عن آبائه أحاديث موضوعة، ونصّ المزي على أنها نسخة9. ومن أجل هذا أنكر الإمام أحمد على من روى الحديث عن عبد الرزاق، عن
معمر، وتعين أن يكون الحمل فيه على ذلك الراوي عن عبد الرزاق، وبرئت ساحة عبد الرزاق لمعرفة الإمام أحمد بحديثه، فهو يعرف أنه لم يحدث بالحديث عن معمر فلم يبق إلا الراوي عنه. والشاهد من هذا أن الإمام أحمد أنكر الحديث قبل السؤال عن راويه المتهم به؛ توصل إلى معرفة هذا بقرينة في متن الحديث المروي من غير التفات إلى حال راويه. والمقصود بالبطلان في جواب الإمام أحمد عن هذا السؤال هو إسناد الحديث ـ أعني عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي ـ أما متنه فهو موضوع عنده بمقتضى حكمه على نسخة عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه. وممن أنكر أن يكون عبد الرزاق حدّث بهذا الحديث عن معمر يحيى بن معين. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "سمعت رجلاً يقول ليحيى: تحفظ عن عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الجبائر؟ فقال: باطل، ما حدّث به معمر قط. سمعت يحيى يقول: عليه بدنة مقلدة مجلّلة إن كان معمر حدّث بهذا قط، هذا باطل، ولو حدّث بهذا عبد الرزاق كان حلالَ الدم، من حدّث بهذا عن عبد الرزاق؟ قالوا له: فلان. فقال: لا والله، ما حدّث به معمر، وعليه حجة من ههنا ـ يعني المسجد ـ إلى مكة إن كان معمر حدث بهذا. ثم قال عبد الله: وهذا الحديث يروونه عن إسرائيل، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي فذكره وقال: وعمرو بن خالد لا يسوى حديثه شيئاً" 1. وفي رواية الخلال عن عبد الله لهذه القصة التصريح بالذي حدّث به عن
عبد الرزاق وأنه محمد بن يحيى ـ وهو الذهلي1. وهو صاحب الزهري الذي ورد في سؤال المرّوذي. وقال أبو حاتم في الحكم على هذا الحديث من رواية عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه: هذا حديث باطل لا أصل له2. 6. من القرائن التي تعود إلى حال المروي أن يكون المتن أصله كلامُ غير النبي صلى الله عليه وسلم ـ صحابيٍّ أو غيرِه ـ فيضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم عمداً أو خطأً، فتعلُّ بذلك الرواية المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما ثبت عن الصحابي أو غيره، وهذا بشرط أن لا يكون للحديث أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح، وذلك بأن ينفي الحديث حافظ جهبذ مثلاً، أو يكون الكلام معروفاً عند الحفاظ من كلام غير النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أمثلة ما روي عن الإمام أحمد من هذا النوع: قال مهنَّا: "سألتُ أبا عبد الله: أتعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قيلوا فإن الشياطين لا تقيل"؟ فقال: لا أعرفه، إنما هذا عن منصور، عن مجاهد، عن عمر" 3. قال الإمام أحمد في هذا الحديث: لا أعرفه، وهذا يعتمد في نفي الحديث كما قال الحافظ ابن حجر: "إذا قال الحافظ المطلع الناقد في حديث: لا أعرفه اعتمد ذلك في نفيه" 4. وقال الإمام أحمد: "كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث" 5. فالمعروف في متن هذا الحديث عند الإمام أحمد ما ذكره
عن عمر، وأما عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس بمعروف. وقد روي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس >. رواه أبو نعيم1، وأبو حيان2 من طرق عن أبي داود الطيالسي، عن عمران القطان، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره. وفي سنده عمران القطان، وهو عمران بن دوّار العمي. ضعفه ابن معين3، والنسائي4. وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث5. وقال البخاري، وابن حجر: صدوق يهم. وقال الدارقطني: كان كثير المخالفة والوهم. وأورد له العقيلي عن قتادة عن سعيد ابن أبي الحسن عن أبي هريرة حديث: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء"، قال: لا يتابع عليه ولا يعرف بهذا اللفظ إلا عن عمران6. ومثل هذا لا يحتمل التفرد بمثل هذا الحديث عن مثل قتادة. وقد روي من طريق آخر عن أنس. أخرجه الطبراني من طريق علي بن عياش، عن معاوية بن صالح الطرابلسي، عن كثير بن مروان، عن يزيد أبي خالد الدالاني، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك. وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي خالد الدالاني إلا كثير، ولا عن كثير إلا معاوية بن يحيى، تفرد به علي بن عياش7.
وكثير بن مروان هو المقدسي، ضعفه ابن معين، والدارقطني. وفي رواية قال ابن معين: كذّاب. وقال ابن عدي: له أحاديث ليست بكثيرة ومقدار ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه1. ومن أجل ذلك قال عنه الحافظ: متروك2. وخالفه إسماعيل بن عياش فرواه عن عباد بن كثير ـ وهو البصري كما قال ابن حبان3 ـ عن سيار الواسطي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة به. رواه الخطيب4 والقزويني في أخبار قزوين5. ونقل الخطيب عن الدارقطني أنه قال: تفرد به أبو الحكم سيار بن وردان، عن إسحاق، وتفرد به عنه عباد بن كثير، ولم يروه عنه غير إسماعيل بن عياش. وسيار بن وردان وثقه أحمد، وابن معين6. وأما عباد بن كثير فهو البصري. قال ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: تركوه. وقال النسائي: متروك7. فالطرق الثلاثة لا تسلم من ضعيف أو متروك تفرد عن راوٍ مشهور، ففي الأول عمران القطان عن قتادة، وعمران ضعيف؛ وفي الثاني: كثير بن مروان، عن أبي خالد الدالاني عن إسحاق بن أبي طلحة؛ وفي الثالث: عباد بن كثير، عن سيار الواسطي، عن إسحاق بن أبي طلحة، وكثير وعباد متروكان، ولا يعرف حديث إسحاق بن أبي طلحة هذا إلا من طريقهما.
أما الإمام أحمد فذكر أن المعروف من هذا المتن قول عمر. وقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف قال: حدثنا أبو أسامة، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد قال بلغ عمر أن عاملا له لم يَقِل فكتب إليه عمر: [قِلْ فإني حُدِّثت أن الشيطان لا يقيل] 1. فيفهم من صنيع الإمام أحمد إعلال الرواية المرفوعة بهذا المروي عن عمر، أي إن أصل الكلام لعمر فأضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم غلطاً، وهو من أسباب الوضع في الحديث2. واعتبر الشيخ الألباني أثر عمر شاهداً لحديث أنس فحسّن الحديث وقال: "وهو وإن كان موقوفاً فمثله لا يقال من قبل الرأي، بل فيه إشعار بأن هذا الحديث كان معروفاً عندهم، ولذلك لم يجد عمر رضي الله عنه ضرورة التصريح برفعه، والله أعلم" 3. وقول الإمام أحمد عن الحديث: لا أعرفه يقدح في قول الشيخ: إن هذا الحديث كان معروفاً عندهم، وهو وجه علته، إذ لو كان معروفاً لما كان قول عمر كاشفاً عن علته، والعلم عند الله. وقد أَعل الحديث ابن حجر، والسخاوي، والعجلوني، ورد المناوي على السيوطي في تحسينه له4. ومثال آخر لإضافة كلام غير النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم: قال مُهنَّا: سألتُ أحمد قلت: حدثني أبو خيثمة: ثنا محمد بن الحسن
المديني، ثنا مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فُتحت المدائن بالسيف، وفُتحتْ المدينة بالقرآن] . فقال: هذا منكر. قلت: لم تسمع هذا من حديث مالك، ولا من حديث هشام؟ قال: لا. وسألت يحيى بن معين عنه، فقال: ليس بصحيح، قد رأيت أنا هذا الشيخ ـ يعني محمد بن الحسن، وكان كذّاباً وكان رجلاً سخياً. قلت: يُروى عنه الحديث؟ قال: لا، هو كذّاب. وقال: إنما كان هذا قول مالك، ولم يكن يرويه عن أحد1. هذا الحديث رواه أبو يعلى في "معجمه"2، ومن طريقه ابن عدي3، والعقيلي4، والبيهقي في "شعب الإيمان"5 من طريق محمد بن الحسن المديني، حدثني مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: فذكره. وجه علة الحديث: حكم عليه الإمام أحمد بالنكارة، وأوضح مهنّا وجه تلك النكارة بسؤاله الآخر: لم تسمع هذا من حديث مالك ولا من حديث هشام؟ فقال: لا. أي ليس لمحمد بن الحسن هذا متابع عن مالك، ولا عن هشام، وحيث إنه لا يحمل منه هذا التفرد عن مالك عن هشام، ومالك إمام حافظ مكثر صاحب أصحاب اعتنوا بحديثه وجمعوه وضبطوه، فدل ذلك على نكارة الحديث واتهامه به.
ووجه آخر من علة هذا الحديث هو ما ذكره ابن معين أن هذا قول من قول مالك فجعله ابن زبالة من قول النبي صلى الله عليه وسلم. وقد نقل مثل هذا الوجه ابن الجوزي عن الإمام أحمد أنه قال في هذا الحديث: "هذا منكر، لم يُسمع من حديث مالك، ولا من حديث هشام، إنما هذا قول مالك، لم يروه عن أحد، قد رأيت هذا الشيخ ـ يعني محمد بن الحسن ـ كان كذّاباً" 1. ومحمد بن الحسن المديني هو المعروف بمحمد بن الحسن بن زبالة المخزومي. وقد قال يحيى بن معين كما في هذه الرواية إنه كذّاب. وعنه أيضاً: "ليس بثقة، كان يسرق الحديث" 2. وقال البخاري: "عنده مناكير" 3. وقال أحمد بن صالح المصري: "كتبتُ عنه مئة ألف حديث ثم تبين لي أنه كان يضع الحديث فتركت حديثه" 4. وأما أبو حاتم فقال: "واهي الحديث، ذاهب الحديث، ضعيف الحديث، منكر الحديث، عنده مناكير، وليس بمتروك الحديث" 5. وقال الحافظ ابن حجر: كذبوه6. وهذا الحديث قد تفرد به ابن زبالة. قال العقيلي: لا يتابعه إلا من هو مثله أو دونه7. وقد ذكر الخليلي8 هذا الحديث مثالاً لما تفرد به غير حافظ يُضعَّف من
أجله، وإن لم يُتَّهم بالكذب. قال: "لم يروه عن مالك إلا محمد بن الحسن بن زبالة، وليس بالقوي، لكن أئمة الحديث قد رووا عنه وقالوا: هذا من كلام مالك بن أنس نفسه، فعساه قُرئ على مالك حديث آخر عن هشام بن عروة فظن هذا أن ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فحمله على ذلك. ومثل هذا قد يقع لمن لا معرفة له بهذا الشأن ولا إتقان". وكلام الخليلي هذا يستقيم لو كانت حالة ابن زبالة على ما ذكر من أنه ليس بالقوي فحسب، أما وقد اتهم بالكذب وبسرقة الحديث فالذي يظهر هو ما قاله الحافظ ابن حجر: "إنما هذا قول مالك فجعله محمد بن الحسن مرفوعاً وأبرز له إسناداً" 1، وهذا الصنيع نوع من الوضع، ولو استقام ما قاله الخليلي لكان مثالاً للمدرج، والله أعلم. وقد أشار ابن رجب إلى هذين المسلكين حيث قال: "ومن الناس من اتهمه بوضعه، ومنهم من قال: وهم فيه، هذا من كلام مالك نفسه فجعله مرفوعاً لسوء حفظه وعدم ضبطه، ومثل ذلك وقع كثيراً لأهل الغفلة وسوء الحفظ غلطاً لا تعمداً" 2. تتمة: ويُلاحظ في هذين المطلبين أن الغالب في هذه القرائن ـ سواء التي تعود إلى حال الراوي أو إلى حال المروي ـ التوصل بها إلى معرفة صدق الراوي أو كذبه فيما رواه من الأخبار تحقيقاً أو على الظن الراجح، وهو أمر يحصل في الغالب بتتبع الروايات والنظر في حال رواتها، أي بنقد الأسانيد، وقلَّ أن تعود
تلك القرائن إلى نقد ما يرويه من وجه مخالفته المعقول أو معارضته ما هو أولى منه، أي نقد المتون، وما ذلك إلا للاكتفاء بذلك من دون الالتجاء إلى الوجه الثاني من النقد. وقد نبه الإمام الشافعي على هذا من منهج المحدثين حيث قال: "ولا يُستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المُخبِر وكذبِه، إلا في الخاص القليل من الحديث، وذلك أن يُستدلَّ على الصدق والكذب فيه بأن يُحدِّثَ ما لا يجوز أن يكون مثلُه1، أو ما يُخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالاتٍ بالصدق منه" 2.
المطلب الثالث: لا منافاة بين ثقة الراوي والحكم على حديثه بالوضع
المطلب الثالث: لا منافاة بين ثقة الراوي والحكم على حديثه بالوضع. وقد تقدم حديث الزَّنديْن وهو يصلح مثالا لهذا، وذلك أن محمد بن يحيى ثقة وقد روى حديثاً حكم عليه الإمام بأنه باطل بالإسناد الذي رواه. ومثال آخر: قال مهنّا: "وقلت: حدثنا يزيد بن هارون، أنا محمد بن عبد الرحمن بن مجبِّر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا الخير عند حسان الوجوه" فقال أحمد: محمد بن عبد الرحمن بن مجبِّر ثقة، وهذا الحديث كذب" 1. هذا الحديث رواه عبد بن حميد2، والخطيب3 كلاهما من طريق يزيد ابن هارون به. ورواه القضاعي في "مسند الشهاب"4، والجرجاني5 من طريق الحجاج بن المنهال، ثنا محمد بن عبد الرحمن بن مجبِّر به. فهذا الحديث حكم عليه الإمام أحمد بأنه كذب مع توثيقه لمحمد بن عبد الرحمن ابن مجبر راوي الحديث، ووجه ذلك أنه نظر إلى الرواية ورأى أنها باطلة، ولا منافاة بين توثيقه للراوي وحكمه على حديثه بأنه كذب، لأن ذلك محمول على أنه غلِط في الرواية إذ جائزٌ أن يكون قد وقع منه الغلط ثم رجع عنه. ومحمد بن عبد الرحمن بن مجبر قال عنه يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال أبو زرعة: واهي الحديث6. وقال الفلاّس:
ضعيف. وقال ابن عدي: هو مع ضعفه يكتب حديثه1. وقال ابن حبان: لا يحتج به2. وقال الحاكم أبو عبد الله: ثقة3. ومن أمثلة ذلك ما ذكره عبد الله: قال عبد الله: "وعرضتُ على أبي حديثاً حدثنا عثمان عن جرير عن شيبة بن نعامة عن فاطمة بنت حسين عن فاطمة الكبرى عن النبي صلى الله عليه وسلم في العُصبة4، وحديث جرير عن الثوري عن ابن عقيل عن جابر [أن النبي صلى الله عليه وسلم شهِد عيداً للمشركين] 5، فأنكرها جداً وعدة أحاديث من هذا النحو فأنكرها جداً وقال: هذه أحاديث موضوعة أو كأنها موضوعة، وقال: ما كان أخوه ـ يعني عبد الله بن أبي شيبة تطنَّف6 نفسه لشيء من هذه الأحاديث. ثم قال:
نسأل الله السلامة في الدين والدنيا، وقال: نراه يتوهّم هذه الأحاديث نسأل الله السلامة، اللهم سلِّمْ سلِّمْ" 1. وقال في موضع آخر: "سمعتُ أبي يقول ـ حين نعي له ـ عثمان بن أبي شيبة فقال: تلك الأحاديث التي حدّث بها وأنكرها جداً، وذكر منها حديثَ جرير عن شيبة بن نعامة عن فاطمة، وحديث جرير عن الثوري عن ابن عقيل عن جابر: شهد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً للمشركين، فقال ما كان أخوه تطنف نفسه لمثل هذه الأحاديث. والحديث حدثناه عثمان عن جرير عن سفيان، وإنما كان يحدث به جرير عن سفيان عن عبد الله بن جرير بن زياد القُمِّي مرسل" 2. فأنكر الإمام أحمد هذه الأحاديث ووصفها بأنها موضوعة أو شبه موضوعة، والذي رواها هو عثمان بن أبي شيبة وقد قال فيه: ما علمت إلا خيراً وأنثى عليه كما في رواية الأثرم3. فعثمان ليس بمتهم عنده ولا رماه بالكذب، لكن وصف أحاديثه هذه بأنها موضوعة لتحقق وقوع الخطأ فيها، ثم بيّن عذره في ذلك بأنه يتوهّم هذه الأحاديث أي يحدّث بها على التوهم والغلط. والشاهد أنه وصف أحاديث رواها راوٍ ثقة بالوضع. ومن هذا المنطلق أخذ الشيخ المعلمي رحمه الله القاعدة التي ذكرها حيث
قال: "قد تتوفّر الأدلة على البطلان مع أن الراوي الذي يصرح الناقد بإعلال الخبر به لم يتّهم بتعمد الكذب، بل قد يكون صدوقاً فاضلاً، ولكن يرى الناقد أنه غلط أو أُدخل عليه الحديث" 1.
المطلب الرابع: تعدد طرق الحديث المعل بكذب راويه
المطلب الرابع: تعدد طرق الحديث المعلّ بكذب راويه. ذكر المرُّوذي عن الإمام أحمد أنه ذُكر له الفوائد فقال: "الحديث عن الضعفاء قد يُحتاج إليه في وقتٍ، والمنكر أبداً منكر" 1. وقال ابن هانئ: "قيل له ـ أي أبي عبد الله ـ فهذه الفوائد التي فيها المناكير، ترى أن يكتب الحديث المنكر؟ قال: المنكر أبداً منكر. قيل له الضعفاء؟ قال: قد يُحتاج إليهم في وقتٍ، كأنه لم ير بالكتاب عنهم بأساً" 2. ومعنى هذا أن الحديث المنكر لا يزال منكراً مهما تعددت طرقه، وذلك لأن المنكر قد تحقق للناقد أو غلب على ظنه من وقوع الخطأ فيه، فتعدد الطرق لا يزيل خطأه، وإنما ينفع تعدد الطرق في أحاديث الضعفاء التي يتردد الناقد فيها بين إصابة الراوي وخطئه، فإذا رُويتْ من طرق أخرى ترجّح لديه جانب الإصابة. وإذا كان هذا في الحديث المنكر ففي حديث الكذاّب والمتَّهم بالكذب كان الأمر أشد وأعظم، وكثرة الطرق وتعددها لا تفيد معه إلا كشف ما وقع فيه من سرقة الحديث، فلا تزيده إلا وهناً. ومن أمثلة هذا ما ذكره عبد الله قال: "ذكر أبي حديث المُحاربي، عن عاصم، عن أبي عثمان، حديث جرير: [تبنى مدينة بين دِجلة ودُجَيل ... ] فقال: كان المُحاربي جليساً لسيف بن محمد بن أخت سفيان، وكان سيف كذّاباً، فأظن المحاربي سمع منه. قيل له: إن عبد العزيز بن أبان رواه عن سفيان، فقال: كل من حدّث به فهو كذاّب ـ يعنى عن سفيان.
قلت له: إن لويناً حدثناه عن محمد بن جابر فقال: كان محمد ربما ألحق في كتابه، أو يلحق في كتابه ـ يعني الحديث. وقال: هذا حديث ليس بصحيح أو قال: كذب1. وقال: وسُئل عن حديث جرير: [تبنى مدينة ... ] فقال: ما حدّث به إنسان ثقة. وذكر له أن عبد العزيز بن أبان رواه عن الثوري فقال: تركته لما حدّث بحديث المواقيت2. هذا الحديث روي من حديث جرير بن عبد الله البجلي ولفظه: [تُبنى مدينة بين دِجلَةَ ودُجيْل3 وقطربُّل4 والصَّراة5 تُجْبى إليها خزائنُ الأرضِ وجبابرتُها يُخسَف بأهلها، فلَهي أسرع هوياًّ بأهلها من الوَتَدِ الحديد في الأرض الرِّخوة] . والحديث روي من عدة طرق وقد توسع الخطيب البغدادي في تاريخه من سردها وذكر عللها6. وملخص هذه الطرق أربعة، سأذكرها مع عللها: الطريق الأول: المحاربي، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان، عن جرير.
وهو الطريق الذي ذكره الإمام أحمد، ولم أقف عليه مسنداً. وعلة هذا الطريق ما رواه العقيلي1، والخطيب2 ومن طريقه ابن الجوزي3 وذكره البخاري تعليقاً4 من طريق سيف بن محمد ـ وهو ابن أخت سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي قال كنت مع جرير بن عبد الله بقطربل فقال ... الحديث. قال الإمام أحمد كما في رواية عبد الله في هذه المسألة: "كان المُحاربي جليساً لسيف بن محمد بن أخت سفيان، وكان سيف كذّاباً، فأظن المحاربي سمع منه". فتبين أن أصل الحديث لسيف بن محمد فدلسه المحاربي. وسيف بن محمد رماه الإمام أحمد بالكذب كما في رواية عبد الله هذه. وقال عبد الله أيضاً: "سمعت أبي يقول: لا يكتب حديث سيف بن محمد بن أخت سفيان الثوري، ليس سيف بشيء، وكان سيف يضع الحديث" 5. ورماه أيضاً يحيى بن معين وأبو داود، ونسبه الساجي للوضع. أما غيرهم من الأئمة فلم يوصلوه إلى الكذب، إنما أطلقوا عليه أنه متروك6. وأما المُحاربي فهو عبد الرحمن بن محمد بن زياد الكوفي: وثقه ابن معين، والنسائي7. وقال أبو حاتم: "صدوق إذا حدث عن الثقات، ويروي عن
المجهولين أحاديث منكرة فيفسد حديثه بروايته عن المجهولين" 1. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: "بلغنا أن المحاربي كان يدلس. وقد روى حديثاً عن معمر وأنكره الإمام أحمد جداً وقال عبد الله: ولم نعلم أن المحاربي سمع من معمر شيئاً" 2. الطريق الثاني: عبد العزيز بن أبان، عن سفيان، عن عاصم به. ذكر هذا الطريق عبد الله في سؤاله للإمام أحمد، وأخرجه الخطيب مسنداً في التاريخ3 ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات4. وعلة هذا الطريق عبد العزيز بن أبان: قال أحمد كما في هذه الرواية: "تركته لما حدث بحديث المواقيت". وقال عبد الله في موضع آخر: "سألت أبي عن عبد العزيز بن أبان، قال: لم أخرج عنه في المسند شيئاً، وقد أخرجت عنه على غير وجه الحديث، لما حدّث بحديث المواقيت حديث سفيان عن علقمة بن مرثد تركته" 5. وقال ابن معين: "وضع أحاديث عن سفيان، لم يكن بشيء" 6. وقال في رواية أخرى: "عبد العزيز بن أبان كذاب يدعي ما لم يسمع وأحاديث لم يخلقها الله قطُّ" 7. وقيل له: "من أين جاء ضعفه؟ قال: كان يأخذ
حديث الناس فيرويه" 1. وقال عبد الله بن نمير: "ما رأيت أحداً أبين أمراً منه، وقال: هو كذاب" 2. وقال أيضاً: "ما مات حتى قرأ ما ليس من حديثه" 3. فهذا متهم بسرقة الحديث بنوعيها: ادعاء السماع واختلاق المتون. ويوضحه ما ذكره الخطيب عن يحيى بن معين: قال أبو زكريا ـ يعني يحيى ابن معين: "عبد العزيز بن أبان كذاب خبيث. قلت له: بأي شيء استدللت على كذبه؟ قال حدّث عن سفيان عن عاصم عن أبي عثمان عن جرير في دجلة ودجيل. فقلت له فقد حدّث به عمّار بن سيف عن سفيان. قال: عمار كان رجلا مغفلا لا يدري من سفيان سمعه أو من عاصم" 4. وقال الإمام أحمد في هذه المسألة: "كل من حدّث به عن الثوري فهو كذّاب"، وكان أعلم الناس بحديث سفيان الثوري كما قال عبد الرحمن بن مهدي5. وقد ذكر الخطيب الذين رووه عن الثوري، ورواياتُهم كلهم في تاريخه6 وهم: 1. عمار بن سيف: رواه عن سفيان عن عاصم، ورواه عن عاصم مباشرة وزعم أنه حضر الثوري يسأل عاصماً عنه7. وقد تقدم عن يحيى بن معين أن هذا من غفلته.
وعمار بن سيف كان عابداً صالحاً1. قال أبو حاتم: "وكان ضعيف الحديث منكر الحديث"2. وقال أبو داود: "كان مغفلاً"3. وقال ابن حبان: "كان ممن يروي المناكير عن المشاهير حتى ربما سبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها، فبطل الاحتجاج به لما أتى من المعضلات عن الثقات"4. وقال أبو نعيم: "روى عن إسماعيل بن أبي خالد والثوري المناكير لا شيء"5. وذكر الإمام البخاري رواية عمار بن سيف قال: "يروى عنه عن سفيان عن عاصم عن أبى عثمان في قطربل وصراة، قطربل موضع عند باب بغداد وصراة نهر: لا يتابع عليه منكر ذاهب"6. وقد روى الخلال عن المخرمي: سمعت يحيى بن معين يقول: سمعت يحيى بن آدم يقول: "إنما أصاب عمار هذا الحديث على ظهر كتاب فرواه"7. 2. إسماعيل بن أبان: هو أبو إسحاق الغنوي على ما قاله الخطيب8. قال عنه البخاري: متروك، تركه أحمد9. وعن أحمد أيضاً: "كتبتُ عنه ثم حدّثَ بأحايث موضوعة فتركناه"10. وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين:
"وضع أحاديث على سفيان لم تكن" 1. وقال أبو حاتم: "متروك الحديث وكان كذاباً" 2. فهذا حاله، فإما أن يكون وضع الحديث على سفيان أو سرقه من عمار ابن سيف، فقد ذكر المخرمي عن يحيى بن آدم أنه قال: ما رواه أحد إلا عمار بن سيف. 3. إسماعيل بن نجيح: ذكر الخطيب أنه صاحب غرائب ومناكير عن سفيان الثوري وعن غيره، وذكر عن ابن عقدة أنه قال فيه: ضعيف ذاهب3. 4. أبو سفيان عبيد الله بن سفيان الغداني ويقال له أبو سفيان الصوّاف: حديثه أيضاً عند الخطيب في التاريخ4. قال عباس عن ابن معين: أبو سفيان الصواّف كان كذاباً5. قال أبو حاتم: هو شيخ ليس بالقوي6. وقال البخاري: كان يحيى بن سعيد لا يرضاه7. وقال ابن عدي: وفي بعض حديثه بعض النكرة8. 5. عبد الرزاق بن همام الصنعاني: ذكر حديثه الخطيب بإسناده إلى أحمد ابن محمد ابن عمر بن يونس قال: قلت لعبد الرزاق أحدثك سفيان الثوري هذا الحديث؟ قال: نعم عن عاصم الأحول ... 9 الراوي عن عبد الرزاق هو أحمد ابن محمد بن عمر أبو سهل اليمامي. قال أبو حاتم: "قدم علينا وكان كذاباً،
وكتبت عنه ولا أحدث عنه" 1. قال ابن عدي: "حدث بأحاديث مناكير عن الثقات وجدته ينسخ عن الثقات العجائب. وذكر عن القاسم المطرز أنه كان يقول: كتبت عن اليمامي هذا خمسمائة حديث ... ليس عند الناس منها حرف" 2. وقال عنه الذهبي: هالك3. هؤلاء الذين ذكرهم الخطيب أنهم رووا الحديث عن الثوري، وبذكر أحوالهم من حيث الجرح والتعديل تبين صحة ما قاله الإمام أحمد أن كلَّ من حدّث به عن الثوري فهو كذّاب. الطريق الثالث: لُوين، عن محمد بن جابر الحنفي، عن عاصم الأحول به. هذا الطريق ذكره عبد الله في هذه المسألة أن لويناً حدثهم به، ورواه الخطيب بإسناده4. وعلته: ما ذكره الإمام أحمد أن محمد بن جابر ـ الراوي عن عاصم الأحول ـ ربما ألحق في كتابه أو يلحق في كتابه الحديث. ومحمد بن جابر هو السحيمي الحنفي أبو عبد الله اليمامي. ضعفه ابن معين، والنسائي. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: من كتب عنه كتب عنه باليمامة وبمكة وهو صدوق، إلا أن في حديثه تخاليط، وأما أصوله فهي صحاح. وقال أبو حاتم: "ذهبت كتبه في آخر عمره وساء حفظه، وكان يلقنّ وكان عبد الرحمن ابن مهدي يحدث عنه ثم تركه بعد، وكان يروي أحاديث مناكير وهو معروف بالسماع جيد اللقاء رأوا في كتبه لحقاً وحديثه عن حماد فيه اضطراب روى عنه
عشرة من الثقات" 1. وقال ابن حبان: "كان أعمى يُلحق في كتبه ما ليس من حديثه ويسرق ما ذُوكر به فيحدّث به. ثم روى عن إسحاق بن عيسى بن الطباع أنه قال: ذاكرتُ محمد بن جابر ذات يوم بحديث شرِيك عن أبي إسحاق فرأيته في كتابه قد ألحقه بين السَّطريْن كتاباً طرياًّ" 2. الطريق الرابع: أبو شهاب الحنّاط، عن عاصم الأحول به. ذكره الخطيب من طريق الحسن بن الربيع عنه به3. علته: لم يذكر الإمام أحمد علة هذا الطريق، وأما الخطيب فأعله بأبي شهاب الحناط، قال: وأما أبو شهاب الحناط فقد كان صدوقاً إلا أن يحيى بن سعيد القطان لم يكن يرضى أمره، وكان يقول: لم يكن بالحافظ، وأحسب أنه وقع إليه حديث عاصم من جهة عمار بن سيف، أو سيف بن محمد، أو محمد بن جابر فرواه عن عاصم مرسلاً، لأن الحسن بن الربيع لم يذكر عنه الخبر فيه، والله أعلم. وأبو شهاب الحناط هو عبد ربه بن نافع. قال يحيى القطان: لم يكن أبو شهاب الحناط بالحافظ ولم يرض أمره. قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبى عن أبى شهاب الحناط؟ فقال: ما بحديثه بأس. فقلت له: إن يحيى بن سعيد يقول ليس هو بالحافظ، فلم يرض بذلك ولم يقرَّبه. قال ابن أبى خيثمة عن يحيى بن معين: أبو شهاب الحناط ثقة. وقال أبو حام: أبو شهاب الحناط عبد ربه بن نافع صالح الحديث4 وقال الساجي صدوق يهم في حديثه5. قال الذهبي: احتج به
البخاري ومسلم وهو صدوق وغيره أقوى منه1. ذكره ابن حجر في طبقات المدلسين من أجل كلام الخطيب الذي أشار فيه إلى تدليسه2. فالحاصل أن الحديث لا أصل له. لما ذكر هذا الحديث لأحمد بن منيع ذهب إلى الإمام أحمد فسأله فقال له: يا أبا جعفر! ليس لهذا الحديث أصل3، وكذلك قال يحيى بن معين4. وهذا ما يقصده الإمام أحمد لما قال: ما حدث به إنسان ثقة، كما في سؤال عبد الله الثاني. فهذا الحديث على اختلاف طرقه ليس له أصل، لأن أصل الحديث حديث كذب، تلقَّطَتْه الرواةُ إما بالسرقة أو التدليس، وهو يوضّح أن تعدد الطرق لا تجعل الحديث الموضوع صحيحاً أبداً. ومثال آخر يدل على أن الحديث المعلّ بكذب راويه لا يرتقي بتعدد طرقه: قال عبد الله: "سألته عن قول الناس: [أول ما خلق اللهُ العقْل قال له: أَقبِل فأَقبلَ ... ] ، فقال: هذا موضوع ليس له أصل" 5. روي هذا الكلام في أحاديث منها: عن عائشة رضي الله عنها قالت: حدثني النبي صلى الله عليه وسلم أن "أول ما خلق الله العقل قال: أقبل فأقبل، ثم قال: أدبر فأدبر، ثم قال: ما خلقت شيئاً أحسن منك، بك آخذ، وبك أعطي". رواه أبو نعيم في الحلية6 من طريق سهل بن المرزبان بن محمد أبي الفضل، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن منصور، عن الزهري، عن
عروة، عن عائشة به. قال أبو نعيم: "غريب، لا أعلم له راوياً عن الحميدي إلا سهلاً وأراه واهماً فيه" ولم أقف على ترجمة له. ومنها عن أبي هريرة مرفوعاً: "لما خلق الله العقل قال له: قم فقام، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: اقعد فقعد. فقال: ما خلقت خلقاً هو خير منك ولا أفضل منك ولا أحسن منك ولا أكرم منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أُعرَف، وبك أعاقب، لك الثواب وعليك العقاب". رواه الطبراني في المعجم الأوسط1 وابن عدي2، والبيهقي في شعب الإيمان3 وابن الجوزي في الموضوعات4، من طريق حفص بن عمر حدثنا الفضل بن عيسى الرقاشي، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة به. قال ابن حبان في حفص بن عمر، وهو قاضي حلب: "يروي عن الثقات الموضوعات، لا يحل الاحتجاج به" 5 والفضل بن عيسى الرقاشي قال فيه الإمام أحمد: ضعيف6 وقال ابن معين: كان رجل سوء. وقال ابن حبان: "ممن يروي المناكير عن الشاهير" 7. وروي من وجه آخر عن سيف بن محمد ابن أخت سفيان الثوري، عن الثوري، عن الفضيل بن عثمان عن أبي هريرة به. رواه ابن الجوزي في الموضوعات8. وقد تقدم الكلام في سيف بن محمد.
ومنها عن أبي أمامة: رواه الطبراني1، والعقيلي2 بمثل لفظ حديث أبي هريرة. من طريق أبي همام الوليد بن شجاع، عن سعيد بن الفضل القرشي، عن عمر بن صالح العتكي، عن أبي غالب، عن أبي أمامة. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أبي أمامة إلا بهذا الإسناد، تفرد به أبو همام. وقال العقيلي: حديثه منكر، وعمر هذا وسعيد بن الفضل الراوي عنه مجهولين جميعاً ولا يتابع على حديثه ولا يثبت في هذا المتن شيء. ومنها ما روي عن الحسن ـ وهو البصري ـ مرفوعاً رواه عبد الله في زوائد الزهد3 ومن طريقه ابن أبي عاصم في كتاب الزهد4: حدثنا علي بن مسلم، حدثنا سيار، حدثنا جعفر، حدثنا مالك بن دينار عن الحسن يرفعه، فذكره بمثل لفظ حديث أبي هريرة. فيه سيار بن حاتم العنزي. قال أبو أحمد الحاكم: في حديثه بعض المناكير. وقال الأزدي: عنده مناكير5 وشيخه جعفر بن سليمان الضبعي: صدوق زاهد يتشيع6 وقال ابن عدي: "أحاديثه ليست بالمنكرة، وما كان منها منكر فلعل البلاء فيه من الراوي" 7 على أن هذا قد روي من قول الحسن. رواه البيهقي في شعب الإيمان8 وقال: "هذا من قول الحسن وغيره مشهور" فلعله انقلب على راويه فجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالجملة هذا الحديث وإن تعددت طرقه لا يصح، ولا أصل له كما قال الإمام أحمد. قال ابن الجوزي: "وقد رويت في العقل أحاديث كثيرة ليس فيها شيء يثبت ـ ثم ذكر بعض رواته ـ وكلهم متروكون، وقد كان بعضهم يضع الحديث ويسرقه الآخر يغير إسناده" 1. وروى الخطيب بإسناده إلى أبي الحسن الدارقطني قال: "كتاب العقل وضعه أربعة، أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه منه داود بن المحبر، فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة، وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء فركبه بأسانيد أخر، ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي فأتى بأسانيد أخر" 2 وهذا مثال آخر على أن الحديث الذي قال فيه إمام من أئمة هذا الشأن: لا أصل له، لا يرتقي بتعدد طرقه، والله أعلم.
المطلب الخامس: بعض مصطلحات الإمام أحمد في هذا الباب
المطلب الخامس: بعض مصطلحات الإمام أحمد في هذا الباب. تقدم أن استعمال الأئمة المتقدمين رحمهم الله للمصطلحات أشد شمولاً من استعمال المتأخرين، فيلاحظ عند المتقدمين وجود عدة إطلاقات للمصطلح الواحد، ومن أجل هذا يحسن الوقوف على ما عند الإمام أحمد من مصطلحات في هذا الباب وما وقع فيها من إطلاقات، فإن ذلك وثيق الصلة بمعرفة منهجه. والمصطلحات التي يدور عليها كلام الإمام أحمد في هذا الباب هي: موضوع، كذب، باطل، ليس له أصل، منكر. والظاهر من المصطلحات الثلاثة الأولى ـ موضوع، كذب، باطل ـ أنها بمعنى واحد، ويوضّح ذلك سؤال عبد الله الذي تقدم، قال عبد الله: قلت لأبي: بلغني أن ابن الحِمَّاني حدّث عن شريك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعجبه النظر إلى الحمام] . فأنكروه عليه فرجع عن رفعه وقال: عن عائشة مرسلاً. فقال أبي: هذا كذب، إنما كنا نعرف به حسين بن علوان، ويقولون إنما وضعه على هشام. قلت له: إن بعض أصحاب الحديث زعم أن أبا زكريا السَّيْلحيني رواه عن شريك، قال كَذِبٌ هذا على السَّيْلحيني، السيلحيني لا يحدث بمثل هذا، هذا حديث باطل1. فهنا حكم على الحديث أولاً بأنه كذب، ثم بيّن وجه ذلك بأن حسين ابن علوان وضعه، ثم حكم عليه آخراً بأنه باطل. فالحديث موضوع: وضعه حسين بن علوان، فسماه مرة: كذباً، ومرة: باطلاً، فهذا صريح في أن هذه الألفاظ الثلاثة عنده بمعنى واحد. ويطلق الإمام أحمد هذه الألفاظ على معان متشابهة، وبالتتبع جاءت كالتالي:
1. إطلاقها على الحديث المختلق المصنوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإطلاقها على هذا المعنى هو الغالب، فمن ذلك قوله في حديث علي: [من صلى كذا فله كذا، ومن قرأ كذا فله كذا] 1 قال: باطل موضوع، وقال في راويه محمد بن الجراح: "قد رأيت ابن الجراح، فرأيت عنده أحاديث وضعت له، لم يكن يدري مالحديث"؛ وكقوله في حديث العقل2 أيضاً: موضوع؛ وكقوله في حديث أبي صالح كاتب الليث بإسناده إلى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين إلا النبيّين والمرسلين ... "3: قال: ذاك عندي موضوع. وقال في حديث: "من لذّذ أخاه بما يشتهي كتب الله له ألف ألف حسنة"4: كذب، باطل. وقال في حديث: "اطلبوا الخير عند حسان الوجوه"5: هذا كذب. والوصف المشترك بين هذه الأحاديث أنها كلها متون مختلقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2. إطلاق هذه الألفاظ على تركيب الأسانيد، وهو أن يعمد الراوي إلى حديث معروف بإسناد واحد فيرويه بإسناد آخر ليس له، وهذا نوع من أنواع ما استقرّ تسميته في المصطلح بالمقلوب6 فمن ذلك قوله في حديث ابن مسعود في قراءته على المصروع7: "هذا الحديث موضوع، هذا حديث الكذابين منكر الإسناد". فأوضح أن وجه الوضع هو نكارة الإسناد، واستدل بذلك على وقوع إلزاق متن لإسناد ليس له. وقال في الحديث الذي رواه عبد العزيز بن عبد الرحمن
البالسي عن خزيمة بن ثابت مرفوعا: "لا وصبة لوارث إلخ"1 قال: أحاديثه كذب أو موضوعة، وتقدم قول العقيلي في إيضاح وجه إنكار الإمام أحمد للحديث أنه أنكر الإسناد لا المتن، لأن المتن معروف بغير الإسناد الذي ذكره هذا الراوي. وقال في حديث مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، قال فيه: هذا كذب2 وتقدم قول الذهبي أنه يعني كذب بهذا الإسناد، لأن المتن له طرق ضعيفة. وكذلك أطلق الكذب على سرقة الحديث كما في السؤال عن يحيى الحماني حيث أسند عن شريك عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه النظر إلى الحمام3 فجعل إلزاق هذا الحديث بشريك من الكذب، وهذا أيضاً مما استقرّ تسميته في المصطلح على نوع من المقلوب. 3. إطلاق الموضوع على حديث المتروك. فمن ذلك ما رواه مهناّ: قال مهنّا: "قلتُ لأحمد: حدّثوني عن محمد بن بكّار، عن حفص بن عمر، عن صالح بن حسان، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تأْخُذوا العلمَ إلا عن من تُجيزون شهادتَه". قال: ليس بصحيح، هذا حديث موضوع من قبل صالح بن حسان، هذا رجل مديني متروك الحديث" 4. فهذا الحديث أطلق عليه الوضع، واتّهَم به صالح بن حسان، وهو عنده متروك الحديث، ولم يرمِه بالكذب. وقال عنه مرة: ليس بشيء5. وقال ابن معين:
ليس حديثه بشيء1. وقال البخاري: منكر الحديث2. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث3. قال الخطيب عن هذا الحديث: "تفرد بروايته صالح بن حسان، وهو ممن اجتمع نقاد الحديث على ترك الاحتجاج به لسوء حفظه وقلة ضبطه ... " 4. وكذلك أطلق البطلان على حديث المتروك: قال ابن هانئ: "عرضتُ على أبي عبد الله: يحيى بن سعيد العطار، عن سعد ـ أبو حبيب ـ عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعاء الوالد لولده مثل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته". قال أبو عبد الله: حديث باطل منكر" 5. وزاد في رواية الخلال عن محمد بن أبي هارون، عن ابن هانئ قال: وسمعته يقول: سعد أبو حبيب ليس حديثه بشيء6. هذا الحديث رواه أبو نعيم في أخبار إصفهان7، ومن طريقه ابن عساكر في
تاريخ دمشق1 والديلمي في مسند الفردوس2، وابن الجوزي في الموضوعات3. وصف الحديث بالبطلان وجعل المتّهمَّ به سعداً أبا حبيب ووصفه بأنه ليس حديثه بشيء، وهذه العبارة، إذا لم توجد قرينة رمي الراوي بالكذب، فإن الإمام أحمد رحمه الله يطلقها على الراوي المتروك4. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "يقول أهل الحديث عن بعض المحدّثين: "ليس بشيء"، أو عن بعض الأحاديث: "ليس بشيء" إذا لم يكن ممن ينتفع به في الرواية لظهور كذبه عمداً أو خطأ" 5. وقد عرّف الحافظ ابن حجر حديث من فحُش غلطه، أو كثرت غفلتُه، أو
ظهر فسقُه بالمنكر على رأي من لا يشترط في المنكر المخالفة1، والراوي الذي فحُش غلطه أو كثرت غفلتُه هو المتروك. وعرفّه الذهبي بالمطروح وقال: هو ما انحط عن رتبة الضعيف ـ ثم مثّل له برواية بعض الرواة ـ وقال: وأشباههم من المتروكين والهلكى2 فهذا يدل على أن لحديث المتروك تسمية خاصة لدى الأئمة المتأخرين، فهو فوق الضعيف ودون الموضوع3. 4. إطلاق الكذب والبطلان على ما هو خلاف المعروف. جاء مثال لذلك في مسائل صالح: قال صالح: "قال أبي": حديث عائشة: [أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صلاتين] كذب، ليس بشيء4. ويقصد بذلك الحديث الذي أخرجه الطحاوي حدثنا فهد، قال: ثنا علي ابن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير، عن سعد بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وعن صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس5. قال الحافظ ابن رجب: قاعدة في تضعيف أحاديث رُويت عن بعض الصحابة، والصحيح عنهم رواية ما يخالفها، فمن ذلك حديث سعد بن سعيد، عن عمرة عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن صلاتين: صلاة بعد العصر ... الحديث. أنكره أحمد والدارقطني وغيرهما. وقال الدارقطني: المحفوظ عنها أنها
قالت: ما دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد العصر إلا صلى ركعتين. ا.هـ1. ومن إطلاق البطلان على هذا النوع ـ أعني خلاف المعروف ـ ما رواه أبو زرعة الدمشقي: قال أبو زرعة الدمشقي: "وسألت أحمد بن حنبل عن حديث أنس بن مالك: [دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعبد الله بن رواحة آخذ بغَرزِه؟] قال: لو قلت إنه باطل، وردّه رداًّ شديداً. قال أبو زرعة: فأما حديث أنس الأول الذي أنكره أحمد بن حنبل فحدّثني أحمد بن شبُّويه قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال: [دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وابن رواحة آخذ بغرزه وهو يقول: "خلوا بني الكفار عن سبيله"] 2. أنكره الإمام أحمد لأن المعروف أن عبد الله بن رواحة قُتل في مؤتة وكانت قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح، هذا إذا حُمل حديثُ أنس بن مالك على أن ذلك كان عامَ الفتح، ولم أر التصريح بذلك في شيء من طرق الحديث، بل الذي ورد أن ذلك كان في عمرة القضاء؛ جاء مصرحاً في رواية الترمذي، وابن حبان3 وغيرهما للحديث الذي ذكره أبو زرعة الدمشقي بإسناده، وإذا كان كذلك فلا اعتراض على الحديث، والله أعلم. اللهم إلا أن يقال وقع ذلك غلطاً كما وقع للإمام الترمذي حيث جعل المؤْتة قبل عمرة القضاء ذهولاً منه وغلطاً،
وقد ردّ عليه الحافظ ابن حجر رحمة الله على الجميع1. ففي هذين المثالين إطلاق الكذب والبطلان على الحديث المخالف للمعروف، وهو المسمى المنكر، وهو نوع من الضعيف. فإطلاق الإمام أحمد هذه الألفاظ المرادفة للحديث الموضوع على تركيب الإسناد، وسرقة الحديث، والحديث المقلوب، والمطروح أو المنكر على رأي، والمنكر يدل على ما أشير إليه من توسّع المتقدمين في استعمال المصطلحات. وإنما ساغ تسمية هذه الأنواع بالموضوع، والباطل، والكذب لأن بينها وبين الحديث المختلق المصنوع وصف مشترك، وهو بطلان نسبة الكلام إلى من أضيف إليه تحقيقاً أو في الظن الغالب، وإنما الفرق بينها كون ذلك وقع عمداً أو خطأً؟ وهل أُضيف الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره؟ ومن هذا الوجه لم ير بعض الأئمة التقييد بالتعمّد في تعريف الحديث الموضوع كما سبقت الإشارة إليه. وأما قوله: "ليس له أصل"، فهذا لغة يعني نفي وجود أي أصل للحديث على وجه العموم، لأن "أصل" نكرة في سياق النفي بـ"ليس" فتعمّ. والأصل هو ما انبنى عليه غيره. وذكر السيوطي أن شيخ الإسلام ابن تيميه يقول معنى قولهم: "ليس له أصل" أو "لا أصل له": ليس له إسناد2 فكأن الأصل المنفي في عبارتهم هو الإسناد الذي يتوصل به إلى إثبات المتن. ووَرَدَ عن الإمام أحمد إطلاق هذه العبارة على الحديث الموضوع المختلق
كما قال في حديث العقل: هذا موضوع، ليس له أصل1 وهو حديث رُوي بأسانيد وكلها واهية وموضوعة كما تقدم، فكأن تلك الأسانيد ليست بشيء، وهذا يعكس المعنى الذي ذكره شيخ الإسلام لعبارة: "ليس له أصل". وقد أطلقها الإمام أحمد على معانٍ أخرى منها: 1. ما لم يثبت متنه لمخالفته الثابت المعروف من هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما في المسألة التالية: قال عبد الله: "سألتُ أبي عن حديث ميمونة بنت الحارث أنها جعلتْ أمرَها بيد العباس فزوّجها من النبي صلى الله عليه وسلم صحيح هذا الحديث؟ قال أبي: هذا حديث ليس له أصل وقال: النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطب حفصةَ إلى عمر فزوَّجه، الزهري عن سالم عن ابن عمر عن عمر خطبها النبي صلى الله عليه وسلم يعني حفصة فزوّجه، والنبي صلى الله عليه وسلم خطب إلى أبي بكر فزوّجه قال أبي: وقال شعبة: ولم يسمع الحكم من مقسم إلا أربعة أحاديث ليس هذا فيها" 2. وقال في مسائله: "سألتُ أبي عن حديث ميمونة بنت الحارث: إنما جعلتْ أمرَها بيد العباس فزوَّجها من النبي صلى الله عليه وسلم، صحيح هذا الحديث؟ فقال أبي: قال شعبة: لم يسمع الحكم من مِقسَم إلا أربعة أحاديث ليس هذا فيها، قال أبي: هذا حديث ليس له أصل" 3. أنكر الإمام أحمد هذا الحديث وقال فيه: ليس له أصل، وعلته عنده مخالفته للثابت المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخطت المرأة إلى أهلها، وذكر خطبته حفصة إلى عمر، وعائشة إلى أبي بكر أجمعين، وأما العباس فإنما كان زوجَ أخت ميمونة،
وهي أم الفضل بنت الحارث، ولم يكن ولياًّ لها ولاية خاصة، ثم أبان وجه دخول العلة على الحديث المذكور وهو عدم سماع الحكم من مسقم لهذا الحديث. ففي هذا إطلاق لفظزة: "ليس له أصل" على الحديث المنكر متناً1.
2. أطلقها على ما لم يثبت لغرابة إسناده وعدم مجيئه من وجه صحيح ومحفوظ. قال عبد الله: "سئل عن حديث أبي الزبير عن جابر عن فاطمة بنت قيس في المستحاضة، قال: ليس بصحيح أو ليس له أصل يعني حديث جعفر بن سليمان عن ابن جريج" 1. وفي المسائل برواية صالح: قلتُ: "حديث فاطمة بنت أبي حبيش في المستحاضة رواه أبو الزبير، عن جابر، عن فاطمة بنت قيس في المستحاضة؟ قال أبي: ليس هذا بشيء" 2. أعلّه الإمام أحمد بقوله: ليس بصحيح أو ليس له أصل، وأوضحت رواية صالح وجه علة الحديث، وهو أن الحديث حديث فاطمة بنت أبي حبيش، فرواه جعفر بن سليمان الضبعي من حديث فاطمة بنت قيس3، وقال أحمد عن هذه
الرواية: ليس بشيء، يشير إلى خطأ جَعلِها من مسند فاطمة بنت قيس، لأن جعفر بن سليمان تفرد بذلك من بين أصحاب ابن جريج الكثيرين. ومثال آخر لإطلاقه هذه العبارة على ما أنكره لغرابته وعدم مجيئه من وجه صحيح: قال أبو زرعة الدمشقي: "وسألت أحمد بن حنبل عن حديث سعيد ابن المسيب، عن أبي ثعلبة: "كُلْ ما رَدَّتْ عليك قوسُك": رواه ضمرة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي ثعلبة؟ فقال: ما لسعيد بن المسيب وأبي ثعلبة؟ قلت له: أتخاف أن لا يكون له أصل؟ قال: نعم. قال أبو زرعة: وإنما رواه الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب؛ أخبرني به محمود بن خالد، عن عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي" 1. هذا الحديث أخرجه ابن ماجه من طريق ضمرة بن ربيعة عن الأوزاعي به2، وقد اختلف على الأوزاعي فيه: قال الدارقطني: وغير ضمرة بن ربيعة يرويه عن الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد، عن أبي ثعلبة مرسلاً قال: والمرسل
أصح1، وذكر أبو زرعة الدمشقي هنا أن أهل الشام إنما يروون الحديث عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب ـ يعني عن أبي ثعلبة2. وأما وجه إعلال الإمام أحمد للحديث فهو من حيث أنه ذكر لسعيد ابن المسيب رواية عن أبي ثعلبة، فإنه أنكره بقوله: وما لسعيد بن المسيب وأبي ثعلبة؟ فإن هذا استفهام إنكار، وأوضحه أبو زرعة باستفهام آخر: تخاف أن لا يكون له أصل؟ فقال: نعم. أي ما جاءت رواية لسعيد بن المسيب عن أبي ثعلبة من وجه صحيح سالم من العلة. وقد تبيّن أن هذه الرواية غير محفوظة حيث أن الصحيح من رواية الأوزاعي عن يحيى بن سعيد عن أبي ثعلبة ليس فيه سعيد بن المسيب كما قاله الدارقطني، ووجه آخر عنه: عن عمرو بن شعيب، عن أبي ثعلبة كما قال أبو زرعة أنه المحفوظ عن أهل الشام. وهناك قرينة أخرى تؤيد إنكار الإمام لرواية سعيد عن أبي ثعلبة، وهو أن أبا ثعلبة الخشني سكن الشام، والظاهر أن ذلك كان إثر فتحها ـ قبل أن يولد سعيد بن المسيب لأنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، بينما فتحُ الشام كان في السنة الأولى من خلافة عمر ـ فقد روى الإمام أحمد في المسند قال: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة الخشني قال [أَتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله اكتُب لي بأرض كذا وكذا ـ بأرض بالشام لم يظهر عليها
النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تسمعون إلى ما يقول هذا؟ " فقال أبو ثعلبة: والذي نفسي بيده لتظهرن عليها، قال: فكتب له بها] 1 فيبعد مع هذا لقاء سعيد، وهو مدني لأبي ثعلبة الخشني2. والشاهد من هذا إطلاق عبارة "ليس له أصل" على ما لم يثبت من وجه صحيح سالم من العلة. وأما قول الإمام أحمد: "منكر" فقد أفردتُ له مطلباً خاصاً سيأتي إن شاء الله، ويكفي أن أشير هنا إلى تفسير الأثرم لهذه العبارة عند الإمام أحمد: قال الأثرم: "سمعت أبا عبد الله ذكر حديث الفضل بن دَلْهم عن الحسن، عن قبيصة بن حُرَيْث، عن سَلَمة بن المُحبّق عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً" فقال: هذا حديث منكر، يعني خطأ" 3. فقد فسّر الأثرم معنى المنكر عند الإمام أحمد بأنه الخطأ، وهذا وجه إطلاقه المنكر على الحديث الموضوع في حديث: "فتحت المدائن بالسيف وفتحت المدينة بالقرآن"4، حيث تحقق من وقوع الخطأ في الحديث بإضافة قول غير النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
المطلب السادس: موقفه من الرواية عن الكذابين والمتهمين بالكذب
المطلب السادس: موقفه من الرواية عن الكذّابين والمتَّهمين بالكذب. تقدم أن الإمام أحمد أمر بالضرب على أحاديث عبد العزيز بن عبد الرحمن البالسي، لأنها كذب أو موضوعة1. وتقدم النقل عن عبد الله بن الإمام أحمد أن الإمام أبا عبد الله ضرب على حديث عمرو بن خالد ولم يحدث به2، وذلك لأن عمراً عنده كذّاب. وروى عبد الله حديثاً آخر في زياداته على المسند3، وهو حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل عليه السلام فلم يدخلْ عليّ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما منعك أن تدخل"؟ قال: إنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا بول"، وفي رواية أخرى "ولا كلب" 4، وقال عبد الله بعد رواية الحديث: وكان أبي لا يحدّث عن عمرو بن خالد، يعني كان حديثه لا يسوى عنده شيئاً. ا.هـ. وتقدم أيضاً أنه قال في يعقوب بن الوليد: كتبت عنه وخرقنا حديثه منذ دهر، وكان من الكذّابين وكان يضع الحديث5. وقال في إسماعيل بن أبان: كتبتُ عنه ثم حدّثَ بأحايث موضوعة فتركناه6. وتقدم أيضاً أنه ترك حديث عبد العزيز بن أبان كما نقله عبد الله: وقال عبد الله في موضع آخر: "سألت أبي عن عبد العزيز بن أبان، قال: لم أخرج عنه في المسند شيئاً، وقد أخرجت عنه على غير وجه الحديث، لما حدّث بحديث المواقيت
حديث سفيان عن علقمة بن مرثد تركته" 1 يشير بهذا إلى أنه المتَّهم به. وقال حنبل كما في المسألة التي رواها الخلال: أخبرني موسى بن حمدون، نا حنبل، حدثني أبو عبد الله، ثنا يزيد بن هارون، أخبرني أبو أمية بن يعلى، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى تواضع أبي ذر" قال لي أبو عبد الله: اضرب على حديث أبي ذر. قال: تركتُ حديثه لأنه منكر الحديث، فضربت عليه2. فذكر الإمام أحمد أنه ترك حديث أبي أمية بن يعلى لأنه منكر الحديث عنده. وأبو أمية بن يعلى هو إسماعيل بن يعلى أبو أمية الثقفي البصري. قال عنه يحيى بن معين: ليس بثقة3. وقال البخاري: سكتوا عنه4. وقال النسائي والدارقطني: متروك5. وروى ابن عدي بإسناده عن شعبة أنه قال: اكتبوا عن أبي أمية بن يعلى فإنه شريف لا يكذب6. ونقل الحافظ ابن حجر عن أبي داود أنه كذّب هذه الحكاية عن شعبة7، فهذا الراوي متروك، وبه يتبين أن وصف الإمام أحمد لهذا الراوي بأنه منكر الحديث وصف له بأن حديثه يستحق الترك.
فهؤلاء الرواة ما بين من رمي بالكذب والوضع، وبين المتّهم بالكذب، ومن تُرك حديثه لكثرة المناكير التي يرويها، ومن خلال ما نقلت عن الإمام أحمد يتبيّن أن موقفه من الرواية عنهم هو ترك الرواية عنهم وعدم الاعتداد بحديثهم. وقد ذكر بعض الحفاظ مثل هذا عن الإمام أحمد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما من عُرف منه أنه يتعمد الكذب فمنهم من لا يروي عن هذا شيئاً، وهذه طريقة أحمد بن حنبل وغيره، لم يرو في مسنده عمن يعرف أنه يتعمد الكذب، لكن يروي عمن عرف منه الغلط للاعتبار والاعتضاد. ومن العلماء من كان يسمع حديث من يكذب ويقول: إنه يميز بين ما يكذبه وبين ما لا يكذبه، ويذكر عن الثوري أنه كان يأخذ عن الكلبي وينهى عن الأخذ عنه ويذكر أنه يعرف ... " 1. وقال الحافظ ابن رجب: "وأحمد خرق حديث خلق ممن كتب حديثهم، ولم يحدث به، وأسقط من المسند حديث خلق من المتروكين لم يخرجه فيه مثل فائد أبي الورقاء، وكثير بن عبد الله المزني، وأبان بن أبي عياش وغيرهم، وكان يحدث عمن دونهم في الضعف ... والذي يتبين من عمل الإمام أحمد وكلامه أنه يترك الرواية عن المتهمين والذين كثر خطؤهم للغفلة وسوء الحفظ، ويحدث عمن دونهم في الضعف مثل من في حفظه شيء ويختلف الناس في تضعيفه وتوثيقه" 2. وقد استدل الإمام مسلم على عدم جواز الرواية عن أهل التهم بحديث الذي رواه المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حدَّث عني بحديثٍ يُرى أنه كذبٌ فهو أحد الكاذِبِين" 3، ويُرى مضبوطة بضم الياء بمعنى يظن4.
المطلب السابع: مخالفة حكمه حكم غيره في آحاد المسائل في هذا الباب
المطلب السابع: مخالفة حكمِه حكمَ غيره في آحاد المسائل في هذا الباب. إن مبنى هذا العلم كما قال الحافظ ابن حجر على غلبة الظن1، فقد يختلف الحفاظ في الحكم على حديث واحد بالوضع أو عدمه، لأن ذلك دائر مع القرائن التي تلوح لكل واحد منهم، وإن كان الغالب أن تتواطأ أحكامهم في هذا الباب2. وحيث وقع خلاف بينهم فالمرجع في ذلك إلى الترجيح بين أوجه الخلاف. وقد رأينا من خلال المطالب التي تقدمت أن الغالب أن يوافِق الإمامَ أحمد غيرُه من الأئمة في حكمه على الأحاديث بالوضع، ونادراً ما يخالفه غيره، ومن ذلك النادر ما رواه محمد بن أبي يحيى3 كما رواه الخلال حيث قال: أخبرنا محمد بن علي، ثنا محمد بن أبي يحيى قال: سألت أحمد عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم، وعليٌّ بابها". فقال أحمد: قبَّح الله أبا الصلت، ذاك ذكر عن عبد الرزاق حديثاً ليس له أصل. أخبرني منصور بن الوليد، ثنا إبراهيم بن الجنيد، قال: سئل يحيى بن معين عن عمر بن إسماعيل بن مجالد بن سعيد؟ فقال: كذاب يحدث أيضاً بحديث أبي معاوية، عن الأعمش بحديث: "أنا مدينة العلم وعلي بابها" وهذا حديث كذبٌ ليس له أصل. وسألته عن أبي الصلت الهروي؟ فقال: قد سمع وما أعرفه بالكذب. قلت: فحديث الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس؟ قال: ما سمعته قط، وما
بلغني إلا عنه. وقال محمد بن أبي يحيى عن يحيى بن معين أنه قال: حدثني به ثقة: محمد بن الطفيل عن أبي معاوية1. فالظاهر من هذه المسألة وقوع خلاف بين حكم الإمام أحمد على الحديث المذكور وحكم الإمام يحيى بن معين. حكم الإمام أحمد: أما الإمام أحمد فرواية المروذي عنه تزيد حكمه على الحديث وعلى راويه أبي الصلت إيضاحاً: قال المروذي: "وسُئل أبو عبد الله عن أبي الصلت2 فقال: روى أحاديث مناكير، قيل له: روى حديث مجاهد عن علي3: "أنا مدينة العلم وعلي بابها". قال: ما سمعنا بهذا، قيل له: هذا الذي تنكر عليه؟ قال: غير هذا، أما هذا فما سمعنا به، وروى عن عبد الرزاق أحاديث4 لا نعرفها ولم نسمعها. قيل لأبي عبد الله: قد كان عند عبد الرزاق من هذه الأحاديث الرديئة؟ قال: لم أسمع منها شيئاً" 5. وجه إعلاله للحديث: إعلال الإمام أحمد للحديث من وجهين: 1. استنكره من حديث أبي معاوية حيث قال: ما سمعنا به، وهذه العبارة تقرب من عبارة: لا أعرفه، وقد تقدم أن هذه العبارة الثانية من الحافظ المطلّع تُعتمد
في نفي الحديث1، فإذا كان يدّعي أن الحديث من حديث مجاهد، أو الأعمش، أو أبي معاوية ثم لا يعرفه الإمام أحمد وهو حافظ مطلع، دل على أن الحديث لا أصل له من حديث هؤلاء الأعلام، وأن هذا الراوي ـ أبو الصلت ـ هو المتفرد به. 2. اعتمد على قرينة رواية أبي الصلت عن عبد الرزاق أحاديث لا أصل لها في إنكار هذا الحديث، حيث كان البلاء في تلك الروايات عن عبد الرزاق من أبي الصلت فكذلك في هذه الرواية عن أبي معاوية البلاء منه، ومن أجل ذلك قال في أبي الصلت هذا القول الشديد. حكم الإمام يحيى بن معين: اختلفت الرويات عن يحيى بن معين في حكمه على هذا الحديث، فقال هنا في رواية ابن الجنيد: هذا حديث كذب ليس له أصل، لكنه أنكره من حديث عمر بن إسماعيل بن مجالد بن سعيد عن أبي معاوية، وقال عن عمر هذا: كذاب2. ولما ذكر أبو زرعة الرازي له رواية عمر بن إسماعيل لهذا الحديث قال له: "قل له: يا عدو الله متى كتبتَ أنت هذا عن أبي معاوية، إنما كتبتَ أنت عن أبي معاوية ببغداد، ولم يحدث أبو معاوية هذا الحديث ببغداد" 3. وقال عن أبي الصلت الهروي كما في رواية ابن الجنيد المذكورة آنفاً: "قد سمع وما أعرفه بالكذب"، فذكر له هذا الحديث من روايته فقال: "ما سمعته قط، وما بلغني إلا عنه"، وقال ابن الجنيد مرة أخرى: سمعت يحيى وذكر أبا الصلت الهروي فقال: "لم يكن عندنا من أهل الكذب، وهذه الأحاديث التي يرويها ما نعرفها" 4.
وكذلك أنكره في رواية ابن زياد: قال يحيى بن أحمد بن زياد1: سألت يحيى بن معين عن حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: "أنا مدينة العلم" فأنكره جداً2، وفي رواية محمد بن عبد الله بن خميرويه3 عن ابن زياد: سألته عن حديث أبي معاوية الذي رواه عبد السلام الهروي عنه عن الأعمش، فذكره4. وقال عبد الخالق بن منصور: "سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت فقال: ما أعرفه، قلت له: إنه يروي حديث الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: أنا مدينة العلم وعلي بابها فقال: ما هذا بشيء" 5. فهذه الروايات عن يحيى كلها تفيد إنكاره للحديث. وفي رواية القاسم بن عبد الرحمن الأنباري قال يحيى عن هذا الحديث: هو صحيح. قال الخطيب: أراد أنه صحيح من حديث أبي معاوية وليس بباطل، إذ قد رواه غير واحد عنه6. وقال عباس بن محمد الدوري: سمعت يحيى بن معين يوثق أبا الصلت عبد السلام بن صالح، فقلت ـ أو قيل له ـ: إنه حدّث عن أبي معاوية، عن الأعمش: "أنا مدينة العلم وعلي بابها" فقال: ما تريدون من هذا المسكين؟ أليس قد حدّث به محمد بن جعفر الفيدي عن أبي معاوية، هذا أو نحوه7،
وزاد الحاكم في روايته: قال يحيى: وهو ـ أي محمد بن جعفر الفيدي ـ ثقة مأمون1، ولم يذكر الخطيب هذا التوثيق وقد روى الكلام من طريق الحاكم، عن أبي العباس الأصم، عن الدوري. وفي رواية أبي علي صالح بن محمد جزرة أنه سئل عن أبي الصلت فقال: دخل يحيى بن معين ونحن معه على أبي الصلت فسلم عليه، فلما خرج تبعته فقلت له: ما تقول رحمك الله في أبي الصلت؟ فقال: هو صدوق، فقلت له إنه يروي حديث الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأتي بابه"! فقال: قد روى هذا ذاك الفيدي عن أبي معاوية عن الأعمش كما راه أبو الصلت2. وقال ابن محرز: سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي فقال: "ليس ممن يكذب، فقيل له في حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: "أنا مدينة العلم وعلي بابها" فقال: هو من حديث أبي معاوية، أخبرني ابن نمير قال: حدّث به أبو معاوية قديماً ثم كفّ عنه، وكان أبو الصلت رجلاً موسراً يطلب هذه الأحاديث ويكرم المشايخ وكانوا يحدثونه بها" 3. قال الخطيب محاوِلاً الجمع بين هذه الأقوال عن ابن معين: أحسب عبد الخالق سأل يحيى بن معين عن حال أبي الصلت ولم يكن يحيى إذ ذاك يعرفه، ثم عرفه بعدُ فأجاب إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد عن حاله، وأما حديث الأعمش فإن أبا الصلت كان يرويه عن أبي معاوية عنه، فأنكره أحمد بن حنبل ويحيى بن معين من حديث أبي معاوية، ثم بحث يحيى عنه فوجد غير أبي الصلت قد رواه عن
أبي معاوية. ا.هـ1. والملاحظ أن يحيى بن معين لم يصحح الحديث مطلقاً، إنما صححه من حديث أبي معاوية، وكذلك ما ذكره من المتابعة لأبي الصلت إنما ذكرها لينفي التهمة عن أبي الصلت. واعتبر ابن معين محمد بن جعفر الفيدي متابعاً لا سارقاً بقرينة الحكاية التي ذكرها عن ابن نمير أن أبا الصلت كان رجلاً موسراً فكان يتتبع هذه الأحاديث عند الشيوخ ويكرمهم فيحدثونه بها، والتي تدل على أن الحديث حديث أبي معاوية وقد كان حدّث أبا الصلت به. وعلى نفي التهمة بالكذب يحمل ما ورد عنه من توثيق أبي الصلت، فقد كان هذا منهجاً عنده. قال المعلمي: ابن معين ربما يطلق كلمة "ثقة" لا يريد بها أكثر من أن الراوي لا يتعمد الكذب. ا.هـ2. وقد يقال: إذا كان يحيى ينفي التهمة عن أبي الصلت بناء على وجود من تابعه في الحديث عن أبي معاوية مما يدل على أن أبا معاوية قد حدّث بالحديث لماذا اتهمّ عمر بن إسماعيل بن مجالد؟ والجواب أن عمر بن إسماعيل إنما سمع من أبي معاوية ببغداد حيث سمع منه يحيى بن معين، وأبو معاوية لم يحدث بهذا الحديث ببغداد، إنما حدّث به قبل ذلك ثم كفّ عنه كما أفادته رواية ابن معين عن ابن نمير، فهذا وجه اتهامه لعمر بن إسماعيل، بخلاف أبي الصلت الذي سمع الحديث من أبي معاوية قديماً. فهذا تحرير موقف ابن معين من هذا الحديث ومن أبي الصلت راويه. وبقي الآن النظر في موقف الإمامين أحمد وابن معين والموازنة بينهما. فالإمام أحمد حكم على الحديث بالنكارة بناء على أنه لا يُعرف عن أبي معاوية، والأمر الثاني
أن الذي تفرد به عن أبي معاوية معروف برواية أحاديث منكرة عن عبد الرزاق، فيحمل هذا الحديث على أنه من مناكيره. وقد وافق الإمامَ أحمد على جرح أبي الصلت غيرُ واحد من الأئمة: فأبو حاتم قال عنه: "لم يكن عندي بصدوق، وهو ضعيف ولم يحدث عنه" وأمر أبو زرعة أن يُضرب على حديث أبي الصلت وقال: "لا أحدّث عنه ولا أرضاه" 1. وقال أحمد بن سيار المروزي الحافظ: "كان يعرف بكلام الشيعة وناظرته في ذلك لأستخرج مما عنده فلم أره يُفرط، ورأيته يقدم أبا بكر وعمر ويترحم على علي وعثمان، ولا يذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالجميل، وسمعته يقول: هذا مذهبي الذي أدين الله به، إلا أن ثم أحاديث يرويها في المثالب" 2. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الساجي: يحدث بمناكير، هو عندهم ضعيف. وقال الدارقطني: "كان رافضياً خبيثاً. روى عن جعفر عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإيمان إقرار بالقلب وعمل بالجوارح ... " الحديث، وهو متهم بوضعه لم يحدث به إلا من سرقه منه فهو الابتداء في هذا الحديث" 3. وقال ابن حبان: "يروي عن حماد بن زيد وأهل العراق العجائب في فضائل علي وأهل بيته، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد" 4. وقال ابن عدي: "ولعبد السلام هذا عن عبد الرزاق أحاديث مناكير في فضائل علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وهو متهم في هذه الأحاديث" 5. وذكر ابن حبان أحاديث منكرة لعلي بن موسى الرِّضا فقال الحافظ ابن حجر: هي من رواية أبي الصلت هي وغيرها6.
وقد يقال إن المناكير التي رواها أبو الصلت عن عبد الرزاق كانت من الأحاديث الرديئة التي عند عبد الرزاق والتي أشار إليها المروزي في سؤاله، فتبرأ ساحة أبي الصلت منها، وقد كان الإمام أحمد ينكر ذلك ويقول: لم أسمع منها شيئاً. أما الإمام يحيى بن معين فكان يرى أن تلك الأحاديث قد كانت عند عبد الرزاق. فروى ابن أبي خيثمة قال: سمعت يحيى بن معين وقيل له: إن أحمد ابن حنبل قال: إن عبيد الله بن موسى يُردّ حديثُه للتشيع فقال: كان والله الذي لا إله إلا هو عبد الرزاق أغلى في ذلك منه مئة ضعف، ولقد سمعتُ من عبد الرزاق أضعاف أضعاف ما سمعتُ من عبيد الله1. فيرى يحيى أن آفة هذه الأحاديث الرديئة عن عبد الرزاق منه لا من غيره، فتبرأ ساحة أبي الصلت منها كما برئت عنده من عهدة هذا الحديث عن أبي معاوية بما أثبته من تحديث أبي معاوية به. فإن سلّمنا هذا من الإمام يحيى بن معين فالسؤال هو ما الجواب عن المناكير التي رواها عن علي بن موسى الرضا؟ ومن أجل هذا قال المعلمي: من يأبي أن يكذّب أبا الصلت يلزمه أن يكذّب علي بن موسى الرضا وحاشاه. ا.هـ2. وهناك إشكال في المتابعة التي ذكرها يحيى بن معين، وهو هل محمد بن جعفر الفيدي الذي تابع أبا الصلت روى هذا الحديث عن أبي معاوية مباشرة أو بواسطة؟ فقد ذكر ابن محرز عن يحيى بن معين أنه قال: حدثنا محمد بن جعفر العلاف الذي كان ينزل بفيد كوفي، قال: حدثنا محمد بن الطفيل، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره3. ويؤيد هذا ما رواه محمد بن أبي يحيى كما في المسألة التي ذكرها الخلال في صدر هذا المطلب أن
يحيى بن معين ذكر أنه حدثه به ثقة: محمد بن الطفيل عن أبي معاوية، وهذا ظاهره مغاير لهذا الإسناد الذي ذكره ابن محرز. ومحمد بن أبي يحيى لم أدر من هو، ويروي في هذه المسألة عن الإمام أحمد وابن معين، ولم يذكره أبو يعلى في طبقات الحنابلة. وروى الحاكم بإسناده عن محمد بن يحيى بن الضريس، ثنا محمد بن جعفر الفيدي، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره1. ويؤيد هذا رواية صالح جزرة عن ابن معين أنه قال: قد روى هذا ذاك الفيدي، عن أبي معاوية، عن الأعمش كما رواه أبو الصلت. لكن في إسناد الحاكم محمد بن يحيى بن الضريس، وهو فيدي أيضاً وكوفي، ويروي عن محمد بن الطفيل ولم يُذكر محمد بن جعفر من الذين روى عنهم2. ومع هذا الإشكال فالذي يعتمد في متابعة أبي الصلت هو الحكاية التي ذكرها ابن نمير أن أبا معاوية كان يحدّث بالحديث ثم كفّ عنه.
المبحث الثاني: الإعلال بالطعن في الراوي ببدعة فيه
المبحث الثاني: الإعلال بالطعن في الراوي ببدعة فيه. المطلب الأول: تعريف البدعة وأهلها. المعنى اللغوي: كل من أحدث شيئاً فقد ابتدعه، والاسم البِدْعة، والجمع البدع، ذكره في "جمهرة اللغة"1. وقال الجوهري: "ابدعْتُ الشيء، اخترعته لا على مثال، والله تعالى بديع السموات والأرض. والبديع: المبتدِع، والبديع: المبتدَع ... البدعة الحدث في الدين بعد الإكمال" 2. المعنى الشرعي: قال ابن رجب: "المراد بالبدعة ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه" 3. ويقال للمنتسبين والمنسوبين إلي شيء منها أهل البدع وأهل الأهواء. قال الجرجاني: "أهل الأهواء أهل القبلة الذين لا يكون معتقدُهم معتقدَ أهل السنة وهم الجبرية والقدرية والروافض والخوارج والمعطِّلة والمشبِّهة" 4. وقال اليماني: "أهل البدع والأهواء سموا بهذا الاسم لابتداعهم لأشياء ليست من الشريعة، وهوايتهم لأمور استحسنوها فدَعَوُا الناس إلى الدُّخول فيها وهي بعيدة من الحق الأنور والشرع الأظهر" ثم ذكر أصنافهم5.
ووجه ذكر هذا المبحث في فصل الطعن في الراوي بما يخل بعدالته، أن الراوي الموصوف ببدعة إما أن يكون ممن يكفر بها أو يفسق1، وكلا الأمرين منافٍ لصفة العدالة.
المطلب الثاني: التمييز بين البدعة التي ترد بها رواية الراوي المتصف بها من غيرها
المطلب الثاني: التمييز بين البدعة التي تردّ بها رواية الراوي المتصف بها من غيرها. اختلف أهل العلم قديماً وحديثاً في مسألة السماع من أهل البدع والأهواء والاحتجاج بمروياتهم، فمنعت طائفة من قبول روايتهم، وهو مروي عن ابن سيرين، وحكي نحوه عن الحسن البصري، ومالك، وابن عيينة، والحميدي وغيرهم1. ومأخذ هذا المذهب هو أن أهل الأهواء إما أن يكونوا ممن يكفرون أو يفسقون، وأيضاً في الرواية عنهم ترويج لمذهبهم، والمطلوب مع أهل الأهواء هجرانهم وإخماد ذكرهم؛ ثم إن الهوى والبدعة لا يؤمن معهما الكذب، لا سيما إذا كان ظاهر الرواية تعضد مذهب المبتدع2، وقد صرح بعض أهل الأهواء بعد التوبة بأنهم كانوا إذا هووا أمراً صيروه حديثاً3. والمذهب الثاني: قبول روايتهم إذا لم يتَّهموا بالكذب واستحلاله، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، ويحيى القطان، وعلي بن المديني. قال ابن المديني: "لو تركت أهل البصرة للقدر، وتركت أهل الكوفة للتشيع لخرِبتِ الكتب" 4. والمذهب الثالث: التفريق بين الداعية وغيره، فيقبل رواية غير الداعية إلى بدعته، وترد رواية الداعية، وقد نسب هذا القول إلى ابن المبارك، وابن مهدي،
وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين1. مذهب الإمام أحمد: اختلف العلماء في التخريج على النصوص الواردة عن الإمام الإمام في هذا الموضوع: فبعضهم يخرج كلامه على التفريق بين أنواع البدع، وعلى التفريق بين الحاجة إلى الرواية وعدمها، وعلى التفريق بين الداعي والساكت، وبعضهم يقصر على أمر واحد من هذه فقط. سأورد النصوص التي وقفت عليها عن الإمام أحمد ثم تخريجات أصحابه في هذه المسئلة. التجهم: ويدل على أنها من البدع المغلظة تكفير الإمام أحمد لمن يقول بقولهم. قال الميموني: "قال سألته ـ يعني أبا عبد الله ـ فيما بيني وبينه واستفهمته واستثبته فقلت: يا أبا عبد الله، قد بُلينا بهؤلاء الجهمية، ما تقول فيمن قال: إن الله ليس على العرش؟ قال: كلامهم كلهم يدور على الكفر. قلت: ما تقول فيمن قال إن الله لم يُكلِّمْ موسى؟ قال: كافر لا شكَّ فيه. قلت: من قال إن أسماء الله مُحدَثَة؟ قال: كافر. ثم قال لي: الله من أسمائه، فمن قال إنها محدثة فقد زعم أن الله مخلوق. وأقبل يُعظِّم أمرَهم ويُكفِّرهم وقرأ: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات:126] . وذكر آية أخرى. قلت: من قال: إن الله كان ولا علم؟ فتغيّر وجهُهُ في هذا كلُّه وكان في هذا أشدَّ تَغيراً وأكثر غَيْظاً ثم قال لي: كافر وقال في كل يوم أزداد في القوم بصيرة" 2. وأما كلامه فيمن يقول من الرواة بقول جهم: قال عبد الله: "سألت أبي عن الحكم بن عبد الله أبي مطيع البلخي فقال: لا
ينبغي أن يُروى عنه، حكوا عنه أنه كان يقول: الجنة والنار خلقتا، فستفنيان، هذا كلام جهم، لا يُروى عنه شيء" 1. وقال عبد الله أيضاً: "سألت أبي عن سليم بن مسلم؟ فقال: قد رأيته بمكة ليس يسوى حديثه شيئاً، ليس بشيء قال أبي: وكان يتهم برأي جهم" 2. فهذا جمع بين رأي جهم ونكارة الحديث، يدل عليه قوله: ليس يسوى حديثه شيئاً. فقد عمّم النهي عن الرواية عمن نسب إلى رأي جهم، ولم يقيّد بالداعية. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لم أقف له على تقييد بالداعية في الجهمي" 3. التشيّع: جاء عنه أنه ترك أحاديث قوم من المنتسبين إلى التشيع، منهم: أبو مريم عبد الغفار بن القاسم الأنصاري الكوفي4. قال محمد بن عوف الحمصي: "ذكر لأحمد بن حنبل أبو مريم فقال: ليس بثقة، كان يحدث ببلايا في عثمان >، وعامة حديثه بواطيل" 5. فتكلم فيه لهواه ومن أجل حديثه، فقال: عامة حديثه بواطيل. لكن ذكر الأثرم قال: "قلت لأبي عبد الله: أبو مريم من أين جاء ضعفه؟ من قِبل رأيه، أو من قبل حديثه؟ قال: من قِبل رأيه، ثم قال: وقد حدّث ببلايا في
عثمان، أحاديث سوء" 1. فجعل علة ضعفه سوء مذهبه. ومنهم: يونس بن خباب الأسيدي2. قال عبد الله: "سألته عن يونس بن خباب؟ فقال: كان خبيث الرأي. فقلت له: كيف هو في الحديث؟ فقال حدثنا عنه عباد" 3. قال المرُّوذي: "وذكر ـ يعني لأبي عبد الله ـ يُونُس بن خبّاب فتكلم فيه ولم يرضه وقال: هذا كان يقع في عثمان" 4. ومنهم عبيد الله بن موسى العبسي5: قال المروذي: "وسألته عن عبيد الله بن موسى، أخرجتَ عنه شيئاً؟ قال: ربما أخرجت عنه، وربما ضربت عليه، حدّث عن قوم غير ثقات، فإن كان من حديث الأعمش فعلى ذاك" 6. وقال الميموني: "ذكر عنده عبيد الله بن موسى فرأيته كالمنكر له، قال: كان صاحب تخليط، وحدث بأحاديث سوء، أخرج تلك البلايا فحدث بها. قيل له: فابن فُضيل؟ قال: لم يكن مثله، كان أستر منه، وأما هو فأخرج تلك الأحاديث الردية" 7.
فتكلم فيه الإمام أحمد في حديثه عن غير الأعمش، وأنه روى أحاديث ردية تدل على سوء مذهبه، وذكر أنه ربما أخرج حديثه وربما تركه، وهذا في خاصة نفسه، أما في غيره فقد روي عنه أنه كان ينهى عنه. قال العقيلي: "سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت أبي يقول: أردت الخروج إلى كوفة، فأتيت أحمد بن حنبل أودِّعه فقال لي: يا أبا محمد، لي إليك حاجة: لا تأت عبيد الله بن موسى، فإنه بلغني عنه غلوٌ. قال أبي: فلم آته" 1. فهؤلاء كلهم فيهم غلوٌ في التشيع، لأنهم تعرضوا لعثمان >، واعتبر الإمام أحمد هذا من الغلو في التشيع، وهكذا هو في عرف المتقدمين2. وقد جاء سبب آخر لتركه الرواية عن عبيد الله بن موسى، فروى ابن أبي يعلى من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: "قيل لأبي: لم كتبت عن عبيد الله بن موسى ثم تركت الرواية عنه، وكتبت عن عبد الرزاق ورويت عنه، وهما على مذهب واحد؟ فقال: أما عبد الرزق فما سمعنا منه مما قيل عنه شيئاً، ولم يبلغنا أنه كان يدعو إلى مذهبه. وأما عبيد الله فإنه كان يدعو إلى مذهبه ويُجاهر به، فتركت الرواية عنه لذلك" 3. فعلل بكونه داعية ومجاهراً بمذهبه.
وممن حسّن حاله ولم يتكلم فيه بجرحة في الرواية: تليد بن سليمان المحاربي1: قال المروذي: قال أبو عبد الله: "تليد بن سليمان كان مذهبه التشيّع، ولم ير به بأساً" 2. وقال الأثرم: "سمعت أبا عبد الله، وهو أحمد بن حنبل، ذكر تليد بن سليمان فقال: كتبت عنه حديثاً كثيراً عن أبي الجحاف". ومنهم علي بن بَذِيمة السُّوائي 3: قال عبد الله: "سألته ـ يعني أباه ـ عن علي بن بذيمة؟ فقال: صالح الحديث، ولكن كان رأساً في التشيُّع" 4، فذكر حسن حديثه مع تشيّعه. ولم يرد عنه ما يبين هل هو غالي أو لا؟ ومنهم فطر بن خليفة المخزومي مولاهم الكوفي 5: قال عبد الله: "سألت أبي عن فطر بن خليفة، فقال: ثقة صالح الحديث، حديثه حديث رجل كيِّس، إلا أنه يتشيّع" 6.
وقال عبد الله أيضاً: "قال أبي: كان فطر عند يحيى ثقة، ولكنه خشبي1 مفرط" 2. وقال أبو طالب: "وسئل أبو عبد الله عن فطر ومحل، فقال: فطر كان يغلو في التشيع، ومحل قليل الحديث، فطر أكثر حديثاً، ومحل كان مكفوفاً ثقة" 3. فهذا قد وثقه مع غلوه في التشيع وإفراطه فيه، وصنيعه يدل على أن توثيقه من أجل استقامة حديثه، فإنه كان له حديث كثير، فيمكن سبر مروياته واستبانة أمره في الرواية، فحكم بأن حديثه حديث رجل كيّس. ومنهم عبد الرحمن بن صالح الأزدي 4: روى الخلال عن يعقوب بن يوسف المطوعي قال: "كان عبد الرحمن ابن صالح الأزدي رافضياً، وكان يغشى أحمد بن حنبل فيقرِّبه ويُدنيه، فقيل له: يا أبا عبد الله، عبد الرحمن رافضي، فقال: سبحان الله! رجلٌ أحب قوماً من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم نقول له: لا تحبهم؟ هو ثقة" 5. ويقال في هذا لم يتبين للإمام أحمد حالته في الرفض، وإنما عرفه بصدق
حديثه، ومحبته لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فحكم بموجب ذلك. فهؤلاء وثقهم بناء على حسن حديثهم واستقامته، مع أن في بعضهم غلواً في التشيع، مثل فطر بن خليفة، وكذا تليد. أما تليد فلم يوافق الإمام أحمد على توثيقه، ولعله ممن لم يتبين له أمره، فقد اقتصر على وصفه بالتشيع، مما يدل على أنه لم يتبين له غلوه في ذلك، وقد عرف ذلك غيره. وأما فطر بن خليفة فقد وثقه غير الإمام أحمد كما تقدم، ولم يوصف لدى أحد منهم بالغلو في التشيع، إلا ما جاء عن الإمام أحمد. والذي يظهر أن العبرة فيه استقامة حديثه بغض النظر عن رأيه، فإن ذلك دليل على صدقه وتحريه، ومن أجل ذلك قبل الإمام أحمد حديثه ووثقه ووصف حديثه بأنه حديث رجل كيّس. القدر: أما القدرية فقد وثق ثور بن يزيد الكلاعي1 وقال: "كان يرى القدر وهو ثقة في الحديث" 2. وقيل له: إبراهيم بن نافع3؟ قال: "ثقة، وشبل4 ثقة ... أصحاب ابن أبي نجيح5، ولكن كان رأيهم القدر" 6.
وقال في بُرد بن سنان1: "ليس به بأس، ولكن كان يرى القدر، زعموا أنهم طلبوا القدرية بدمشق، ففرّ إلى البصرة فسمع البصريون منه" 2. وقال في أبي قطن عمرو بن الهيثم البصري3: "ما كان به بأس"، وحدث عنه يوماً فقال له رجل: إن هذا بعد ما رجع من عندكم بالبصرة تكلم بالقدر وناظر عليه، فقال أحمد: "نحن نحدث عن القدرية، لو فتشت أهل البصرة وجدت ثلثهم قدرية"4. وفي رواية أخرى: قيل لأحمد بن حنبل: سمعت من أبي قطن القدري؟ قال: "لم أره داعية، ولو كان داعية لم أسمع منه" 5. وقال أبو داود: "قلت لأحمد: يُكتب عن القدري؟ قال: إذا لم يكن داعية"6. فيؤخذ من هاتين الروايتين التفريق في القدرية بين الداعية وغيره. والجمع بين هاتين الروايتين وما تقدم عنه في أبي قطن من الإطلاق في
التحديث عن القدرية أن الحاجة إلى الرواية هي التي تقتضي التحديث عنهم في هذه الحالة، وأما ترك الرواية عن الداعية منهم فمن باب هجران المبتدع المعلن بالبدعة. الإرجاء: معنى الإرجاء هو التأخير، وهو على قسمين: تأخير القول في الحكم في تصويب إحدى الطائفتين اللذين تقاتلوا بعد عثمان، ومنهم من أراد تأخير القول في الحكم على من أتى الكبائر وترك الفرائض بالنار، لأن الإيمان عندهم الإقرار والاعتقاد، ولا يضر العمل مع ذلك1. وذكر شيخ الإسلام أن المرجئة ثلاثة أصناف: فالصنف الأول هم القائلون بأن الإيمان مجرد ما في القلب، ومنهم من يدخل فيه أعمال القلوب كأكثر فرق المرجئة، ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم بن صفوان وأتباعه. والصنف الثاني هم القائلون بأن الإيمان مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. والصنف الثالث: من يقول الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، وهو المشهور عن أهل الفقه والعبادة من المرجئة2. فمن المرجئة من ترك الإمام أحمد حديثه مثل محمد بن أبان الجُعفي. قال أحمد في رواية أبي طالب: "كان يقول بالإرجاء، وكان رئيساً من رؤسائهم، فترك الناس حديثه من أجل ذلك" 3. ومنهم من كان ينهى عنه، مثل معلّى بن منصور الرازي4. قال ابن هانئ:
"سمعت أبا عبد الله يقول: كان معلّى معانداً، كان مرجئاً، لا يحل لأحد أن يُحدِّث عن معلَّى" 1. وسئل: هل كتبت عنه شيئاً؟ فقال: "لا، ولا حرفاً" 2. وقال عنه: "كان يحدِّث بما يُوافق الرأي" 3، فأشار إلى جرحه في حديثه بالإضافة إلى رأيه. ووثق طائفة أخرى، منهم سالم الأفطس4، وعثمان بن غِياث الراسبي، قال فيه: "ثقة ثبت، ثبت الحديث، إلا أنه كان مرجئاً" 5. وقال في إبراهيم بن طهمان: "هو صحيح الحديث مقارب إلا أنه كان يرى الإرجاء" 6. وكتب عن طائفة أخرى، منهم محمد بن مُيسِّر الجعفي، قال فيه: "هو صدوق، ولكن كان مرجئاً، قيل له كتبت عنه؟ قال: نعم" 7. وظاهر هذه الرواية أنه لا يفرق في المرجئة بين الداعية وغير الداعية، لكن ترك حديث المعاندين منهم، والرؤساء منهم. قد روى أبو داود أنه سمع أحمد يقول: "احتملوا المرجئة في الحديث" 8. فهنا أطلق ولم يفرق بين الداعية وغيره، ولا بين الغالي وغيره. فيجمع بين هذا وما تقدم عنه من ترك حديث الغالي منهم بأن الترك من باب هجران المبتدع
وإخماد ذكره. لكن روى المرّوذي قال: "سألته عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد، كيف هو؟ قال: كان مرجئاً، قد كتبت عنه ... وكان أبو عبد الله يحدث عن المرجئ إذا لم يكن داعية أو مخاصماً" 1. قال شيخ الإسلام: "وهذا إذا كان رواية أخرى في المرجئة، وإلا فهو إخبار عن حاله نفسه، وليس كل من لم يأخذ عنه هو نهى غيره عنه، ولا منع كون روايته حجة" 2. ويؤيد كون ذلك رواية أخرى عن الإمام أحمد ما رواه الخطيب من طريق محمد بن عبد العزيز البيوردي قال: "سألت أحمد بن حنبل: أيكتب عن المرجئ والقدري؟ قال: نعم، يكتب عنه إذا لم يكن داعياً" 3. فخالف رواية أبي داود. وقد قال الخلال فيه: روى عن أبي عبد الله مسائل صالحة حِساناً أغرب فيها. ا.هـ4. فيحتمل أن تكون هذه من غرائبه، والله أعلم. أما تخريجات أصحاب الإمام أحمد فقال الحافظ ابن رجب: "البدع الغليظة كالتجهم يرد بها الرواية مطلقاً، والمتوسطة كالقدر إنما يرد رواية الداعي إليها، والخفيفة كالإرجاء هل تقبل معها الرواية مطلقاً أو ترد عن الداعية؟ على روايتين" 5. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكلام أحمد يفرّق بين أنواع البدع، ويفرق بين الحاجة إلى الرواية عنهم
وعدمها، كما يفرق بين الداعي والساكت، مع أن نهيه لا يتقضي كون روايتهم ليست بحجة، لما ذكرته من أن العلة الهجران، ولهذا نهى عن السماع من جماعة في زمنه ممن أجاب في المحنة، وأجمع المسلمون على الاحتجاج بهم، وهو في نفسه قد روى عن بعضهم؛ لأنه كان قد سمع منهم قبل الاتبداع، ولم يطعن في صدقهم وأمانتهم، ولا أنكر الاحتجاج بروايتهم، وكذلك الخلال ترك الرواية عن أقوام لنهي المرّوذي، وروى عنهم بعد موته، وذلك أن العلة استحقاق الهَجر عند التارك، واستحقاق الهجر يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من أمر أصحابه بالصلاة عليه، وكذلك لما قدم عليه أبو سفيان بن الحارث، وابن أبي أمية أعرض عنهما، ولم يأمر بقية أصحابه بالإعراض عنهما، بل كانوا يكلمونهما، والثلاثة الذين خُلِّفوا لما أمر المسلمين بهجرهم، لم يأمرهم بفراق أزواجهم إلا بعد ذلك، وهذا باب واسع ... وما علمت لأحمد كلاماً بالنهي عن جميع أنواع المبتدعة حتى المرجئة إذا لم يكونوا دُعاة، كما يقتضيه تعميم أبي الخطاب، كما أنه في الجهمي لم أقف له بعدُ على تقييد بالداعية" 1. وكلامه هذا في غاية الحسن، رحمة الله عليه. ومما يشهد لكون نهيه عن الرواية لا يقتضي كون روايتهم ليست بحجة، وأن ذلك من باب الهجران أن كثيراً ما يسأله تلاميذه إذا قال في الراوي إنه متروك الحديث: أتركته لهوى فيه؟ فيقول: لا، بل كان منكر الحديث، كما حصل ذلك في كلامه في أبان بن أبي عياش2، وفي الحسن بن عمارة3. وعليه فلا يحمل نهيه عن الرواية عن شخص لبدعة فيه على عدم الاحتجاج بروايته إلا إذا
وجدت قرينة تدل على ضعف حديثه. إعلاله لأحاديث الرواة الموصوفين ببدعة فيهم: فمنها: قال مهنا: "سألت أحمد عن حديث الأعمش، عن أبي وائل، أن معاوية لعب بالأصنام. فقال: ما أغلظ أهل الكوفة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصحح الحديث، وقال: تكلم به رجلٌ من الشيعة" 1. لم أقف على هذا الأثر، والشاهد فيه أن الإمام أحمد لم يصححه، لأنه يرجع أصله إلى رواية رجل من الشيعة، ولا يؤتمن على ما يرويه مما يقوي به مذهبه الخبيث. قال الأثرم: "وحدثنا أبو عبد الله بحديث جسر كذا، عن رباح كذا، عن أبي أيوب أنه جاء إلى عليّ ومعه رهط من الأنصار فقالوا: السلام عليك يا مولانا فلما فرغ منه قال: الكوفيون يجيئون بالعجائب" 2. وهذا الحديث أخرجه أحمد في المسند3 قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا حَنَش بن الحارث بن لقيط النخعي الأشجعي، عن رياح بن الحارث قال: جاء رهطٌ إلى علي بالرَّحبَة فقالوا: السلام عليك يا مولانا. قال: كيف أكون مولاكم وأنتم قومٌ عرب. قالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ غدير خُمٍّ يقول: "من كنتُ مولاه فإن هذا مولاه"، قال رياح: "فلما مضوا تبعتُهم فسألت: من هؤلاء؟ قالوا: نفرٌ من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري".
ورواه ابن أبي عاصم1، والطبراني2، من طريق شريك، عن حنش ابن الحارث به. ورواه الطبراني من وجه آخر عن شريك، عن الحسن بن الحكم، عن رياح بن الحارث به. قال الهيثمي: ورجاله ثقات3. وقال الألباني: هذا إسناد جيد رجاله ثقات4. وأشار الإمام أحمد إلى استنكاره، فإن قوله: يجيئون بالعجائب إشارة إلى أنه منكر. وأشار إلى أن علة النكارة كونه من رواية الكوفيين وهم معروفون بالتشيّع، وهذا الحديث مما يقوي مذهبهم. ورياح بن الحارث النخعي الكوفي تابعي، سمع علياً وابنه الحسن بن علي. ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه العجلي، والذهبي، وابن حجر5. ومنها: قال الأثرم: وحدثنا بحديث عبد الملك، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إني قد تركت فيكم الثقلين". فلما فرغ منه قال: أحاديث الكوفيين هذه مناكير 6. هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد7 من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من
السماء إلى الأرض، وعِترتي أهل بيتي، إلا أنهما لن يفترقا حتى يرِدا عليّ الحوض". وأخرجه ابن أبي عاصم1، وأبو يعلى2، والطبراني3. ورواه الإمام أحمد وغيره من طرق أخرى عن عطية العوفي به4. وربما استدل بوجود الراوي الموصوف بالبدعة في الإسناد لرد الحديث من وجه آخر، وهو أن يكون متن الحديث يناقض مذهب الراوي، فيستدل بذلك على استبعاد أن يكون قد روى ذلك الحديث، مثال ذلك: قال الخلال: "أخبرنا محمد بن ياسين بن بشير بن أبي طاهر المديني، قال: كتب إليّ إبراهيم بن يماني، أن سل لي أحمد بن حنبل عن حديث رواه عبيد الله ابن موسى، عن الثوري، عن الأجلح، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحب معاوية فقد أحبني، ومن أبغض معاوية فقد أبغضني" فكتب إلي أني سألت أحمد فقال: الأجلح يتشيع، كيف يروي مثل هذا؟ وقال: لو رواه شامي لكان، فأما أهل الكوفة فلا" 5. لم أقف على هذا الحديث، وفي إعلال الإمام أحمد له من هذا الوجه الذي ذكره إبراز لدقة نظره، حيث استدل على براءة ساحة الأجلح من رواية هذا الخبر بأنه حديث جاء في فضل معاوية، ويُستبعد أن يروي مثل هذا راوٍ شيعي مثل الأجلح، لأن المعروف أن الرواة الشيعة يروون ما فيه مدح وفضيلة لأهل البيت عادة، وما فيه ذم ونقيصة لمعاوية وأتباعه. فهو يرى بهذا أن الحديث ليس من
حديث الأجلح، وإنما أخطأ فيه أحد الرواة ممن فوقه فألصقه به خطأ ووهماً. ويبدو أن ذلك ممن دون عبيد الله بن موسى العبسي، لأن عبيد الله أيضاً شيعي، بل غالٍ في التشيع كما سلف، فيبعد أن يرويه للتعليل المذكور نفسه.
المطلب الثالث: موقف الإمام أحمد من الرواية عمن أجاب في محنة خلق القرآن
المطلب الثالث: موقف الإمام أحمد من الرواية عمن أجاب في محنة خلق القرآن. قال أبو زرعة الرازي: "كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمّار1، ولا أبي معمر2، ولا يحيى بن معين، ولا أحد ممن امتحن فأجاب" 3. وكان الإمام أحمد قد روى عن علي بن المديني، لكنه لم يحدث عنه بعد المحنة. قال عبد الله ـ إثر حديث رواه أحمد من طريق ابن المديني ـ: "وحدثناه أبي عن علي قبل أن يُمتحن بالقرآن" 4. وتبعه على ذلك تلميذه أبو زرعة الرازي، فذكر ابن أبي حاتم أنه ترك الرواية عن علي بن المديني بعد المحنة، وأما أبو حاتم، فكان يروي عنه لنزوعه عما كان منه. قال أبو زرعة في علي بن المديني: لا نرتاب من صدقه5. فهذا يدل على أن ترك الرواية عن هؤلاء ليس من باب عدم الاحتجاج بمروياتهم ولا باب الإنكار لحديثهم، وإنما هو من باب الهجران. وقد تقدم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أن نهي الإمام أحمد عن الرواية عن الذين أجابوا في محنة
خلق القرآن كان من باب الهجران، وليس من باب إنكار الاحتجاج بروايتهم، فقد أجمع المسلمون على الاحتجاج بهم، وهو في نفسه قد روى عن بعضهم؛ لأنه كان قد سمع منهم قبل الابتداع، ولم يطعن في صدقهم وأمانتهم1.
الفصل الثالث: الإعلال بالطعن في الراوي بما يخل بضبطه
الفصل الثالث: الإعلال بالطعن في الراوي بما يُخلُّ بضبطه المبحث الأول: الإعلال بسوء الحفظ الملازم للراوي مدخل ... الفصل الثالث: الإعلال بالطعن في الراوي بما يُخلُّ بضبطه
المبحث الأول: الإعلال بسوء الحفظ الملازم للراوي. إن أهل الاستقراء لمناهج أئمة هذا الشأن قد قسموا رواة الأخبار من حيث قبول مروياتهم وردها إلى أربعة أقسام1: القسم الأول: المتهمون بالكذب، الذين لا تجوز الرواية عنهم، والمحكوم على مروياتهم بالوضع والبطلان، وقد سبق الكلام في أحاديث هذا النوع من الرواة. القسم الثاني: من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط، وغلب على روايته مخالفة روايات أهل الحفظ والرضا، ولا تكاد توافقها، وذلك لغفلته وشدة سوء حفظه، وسيأتي الكلام على هذا القسم في مبحث خاص2. القسم الثالث: أهل الصدق والحفظ، والغالب عليهم الاستقامة في الحديث والإتقان لما نقلوا، ويندر الخطأ والوهم في حديثهم أو يقل، فهؤلاء هم الثقات المتفق على الاحتجاج بهم، وسيأتي الكلام على ما يقع في أحاديثهم من العلل الخفية في باب خاص. القسم الرابع: أهل صدق وحفظ أيضاً، ولكن يقع الوهم في حديثهم كثيراً، لكن ليس هو الغالب عليهم، فهذا القسم هو الذي سيكون الحديث فيهم بالأصالة في هذ المبحث.
وهذا القسم إنما جاء الضعف عليهم من قبل حفظهم، فهو أمر راجع إلى الإخلال بصفة الضبط المشترط توفرها لقبول الأحاديث، فقد كان يقع الاختلاف في حديثهم، فيحدثون مرة هكذا ومرة هكذا، فيضطربون في رواية الحديث الواحد، وما ذلك إلا لأن أهل العلم وحملته فيما مضى كانوا لا يكتبون، ومن كتب منهم إنما كان يكتب لهم بعد السماع، فمع كثرة المرويات وأسانيدها لا بد لمن لم يوصف بقوة الحفظ وشدة التيقظ أن تقع الأغلاط والأخطاء في مروياته، لكن العبرة بالغالب، فمن كان الغالب على حديثه السلامة والاستقامة فهو من أهل الاحتجاج المطلق، ومن كان الغالب على حديثه الغلط والخطأ كان من المتروكين، ومن كان دون ذلك فهو محل التردد. فهذه الصفة ـ أعني سوء الحفظ ـ وجودها في الراوي يعدُّ من أسباب إعلال الأحاديث. ثم هي إما لازمة للراوي أو طارئة عليه، واللازمة له إما مطلقاً، وإما مقيدة بروايته عن بعض شيوخه، أو عن أهل بعض البلدان، أو في رواية أهل بعض البلدان عنه، أو كان ذلك إذا جمع الشيوخ دون ما إذا أفردهم. والطارئ عليه هو الذي يأتي بسبب السنّ ـ وهو الاختلاط ـ أو العمى، أو ذهاب الكتب. وهذا المبحث سيتناول الإعلال بسوء الحفظ الملازم للراوي بأقسامه في مطالب، وأما سوء الحفظ الطارئ على الراوي فستكون دراسته في المبحث الثاني إن شاء الله.
المطلب الأول: سوء الحفظ المطلق والإعلال به عند الإمام أحمد
المطلب الأول: سوء الحفظ المطلق والإعلال به عند الإمام أحمد. منهج الإمام أحمد في الرواة الموصوفين بسوء الحفظ المطلق هو جواز الرواية عنهم وعدم تركهم لسوء حفظهم، لكن إذا انفرد واحد منهم بحديث ولم يتابع عليه لم يحتج به، فيكون حديثه ذلك معلولاً غير مقبول. قال الإمام أحمد في محمد بن أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى: لا يحتج بحديثه1. قال الترمذي: "وإنما عنى إذا تفرَّد بالشيء، وأشد ما يكون هذا إذا لم يحفظ الإسناد، فزاد في الإسناد، أو نقص، أو غير الإسناد، أو جاء بما يتغير فيه المعنى" 2. وكذلك قال في علي بن عاصم الواسطي وقد كان يخطئ ويغلط، وكان فيه لِجاج3 ـ أي لا يرجع عن الخطأ ـ، ولما ذُكر له خطؤه قال: "كان حماد بن سلمة يخطئ، وأومأ أحمد بيده: خطأ كثيراً، ولم ير بالرواية عنه بأساً" 4. فكان يقول فيه: "يُكتب حديثه، أخطأ؟ يترك خطؤه ويكتب صوابه، قد أخطأ غيرُه" 5. وكذلك حدث عن أبي سعيد مولى بني هاشم ولم يترك حديثه، وقد قال فيه: "كان كثير الخطأ" 6. وإنما يعرف خطأ الراوي بعدم موافقة الحفاظ له7، أو أن يأتي بشيء يخالفهم8، وهو الذي يقع في غالب ما تفرد به هذا الصنف من الرواة.
كتابة أحاديثهم للاعتبار: وربما كتب الإمام أحمد حديث هؤلاء للاعتبار، فيقوي بروايتهم رواية أهل الصدق والحفظ، ويستدل بها لإزالة التفرد عنهم. فقد أثبت الإمام أحمد رفع رواية معمر لحديث جابر في الشفعة الذي أوقفه مالك، واستدل لذلك برواية صالح بن أبي الأخضر الموافقة لرواية معمر فقيل له: "وصالحٌ يُحتج به؟ قال: يُستدل به ويُعتبر به"1. وقد نقل المرُّوذي عن الإمام أحمد أنه لم يرض صالح بن أبي الأخضر، لأنه حدث بأحاديث ثم قال: لم أسمعها2، وأكثر الأئمة على تضعيفه3. وقال الأثرم: "قلت لأبي عبد الله: أبو معشر المديني يكتب حديثه؟ فقال: عندي حديثه مضطرب، لا يقيم الإسناد، ولكن أكتب حديثه أعتبر به"4. فقد ضعف الإمام أحمد أبا معشر المديني ـ وهو نجيح بن عبد الرحمن السندي ـ لاضطرابه وكونه لا يقيم الإسناد، وهذه دلالة على سوء حفظه، وكتب حديثه للاعتبار. وقال أحمد في رواية ابن القاسم5 في عبد الله بن لهيعة: "ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، أنا قد أكتب حديث الرجل كأن أستدلُّ به مع حديث غيره يَشدُّه، لا أنه حجة إذا انفرد"6.
وضابطه في ذلك أن الحديث إذا لم يكن منكراً، فإنه يستفاد بروايته لأنه قد يحتاج إليه، يدل على ذلك مقولته المشهورة: قال ابن هانئ: "فهذه الفوائد التي فيها المناكير، ترى أن يكتب الحديث المنكر؟ قال: المنكر أبداً منكر. قيل له: فالضعفاء؟ قال: قد يُحتاج إليهم في وقت، كأنه لم ير بالكتابة عنهم بأساً" 1. قبول أحاديثهم في الرقائق: وجاء عن الإمام أحمد أيضاً ما يدل على أنه يقبل حديث هذا الصنف من الرواة الضعفاء بسوء الحفظ في الرقائق، حتى وإن كثر خطؤهم لسوء حفظهم وغفلتهم. فقد ضعّف الإمام أحمد رشدين بن سعد المصري، وقدّم ابن لهيعة عليه2، وقد كان موصوفاً بالغفلة3 فقال الإمام أحمد فيه: "ليس به بأس في الأحاديث الرقاق" 4. وفيما يلي نماذج من إعلال الإمام أحمد لأحاديث من وصفهم بسوء الحفظ لتفردهم بها: يزيد بن أبي زِياد: قال عبد الله: سألت أبي عن حديث البراء بن عازب في الرفع فقال: حدثنا محمد بن جعفر غندر قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، قال:
سمعت ابن أبي ليلى يقول: سمعت البراء يحدث قوماً فيهم كعب بن عجرة قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين فتح الصلاة رفع يديْه، قال أبي: وكان سفيان بن عيينة يقول: سمعناه من يزيد هكذا، قال سفيان: ثم قدِمتُ الكوفة قدمة فإذا هو يقول: ثم لم يَعُد. حدثني أبي عن محمد بن عبد الله بن نميْر قال: نظرت في كتاب ابن أبي ليلى فإذا هو يرويه عن يزيد بن أبي زياد قال أبي: وحدثناه وكيع سمعه من ابن أبي ليلى، عن الحكم وعيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكان أبي يذكر حديث الحكم وعيسى يقول: إنما هو حديث يزيد بن أبي زياد كما رآه ابن نمير في كتاب بن أبي ليلى قال أبي: ابن أبي ليلى كان سيء الحفظ ولم يكن يزيد بن أبي زياد بالحافظ1. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت أحمد بن حنل عن هذا الحديث فقال: لا يصح عنه هذا الحديث2. حديث البراء بن عازب يرويه يزيد بن أبي زياد، وقد اضطرب فيه كما أشار إليه الإمام أحمد، فرواه شعبة كما ذكره أحمد في هذه الرواية عنه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بلفظ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح الصلاة رفع يديه، ورواه من هذا الطريق الفسوي3، والدارقطني4، كلاهما من طريق شعبة بمثل هذا اللفظ. وكذلك رواه هشيم5، والثوري6، وأسباط
ابن محمد1، وخالد بن عبد الله2، وصالح بن عمر3، وحمزة الزيات4، وجرير الضبي5، وعبد الله بن إدريس6، والجراح والد وكيع7 كلهم بمثل لفظ حديث شعبة. وخالفهم شريك8، وإسماعيل بن زكريا9 كلاهما عن يزيد بن أبي زياد به وزادا: ثم لا يعود. ورواه سفيان بن عيينة عن يزيد بمثل اللفظ الأول ثم قال
ابن عيينة: فلما قدمت الكوفة سمعته يحدث به فزاد: ثم لا يعود، فظننت أنهم لقّنوه، وكان بمكة يومئذ أحفظ منه يوم رأيته بالكوفة، وقالوا لي: إنه قد تغير حفظه أو ساء حفظه. ا.هـ1. ورواه علي بن عاصم2 عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى بهذا الإسناد وقال: ثم لم يعد، قال علي: فلما قدمت الكوفة قيل لي إن يزيد حي، فأتيته فحدثني بهذا الحديث فقال: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قام إلى الصلاة فكبر ورفع يديه حتى ساوى بهما أُذنيه فقلت له: أخبرني ابن أبي ليلى أنك قلت: ثم لم يعد قال: لا أحفظ هذا، فعاوته فقال: ما أحفظه. رواه الدارقطني3. وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: أعله الإمام أحمد بيزيد بن أبي زياد وقال: يزيد ليس بالحافظ، يشير إلى سبب علة الحديث وهو سوء حفظ يزيد، وقلة ضبطه، وقد ظهر ذلك جلياً في روايته لهذا الحديث حيث اضطرب فيه، فكان يرويه قديماً ولا يقول: ثم لا يعود، ثم حدث به بعد وزاد: ثم لا يعود، ثم لما سئل عن الزيادة قال إنه لم يحفظها. ولم يحمل الإمام أحمد اضطرابه هذا على الاختلاط، إذ لم يرد عنه أنه نسب يزيد إلى الاختلاط كما فعله ابن عيينة4، بل يزيد بن أبي زياد كان عنده في الأصل ضعيفاً
من أجل سوء الحفظ. قال عبد الله: قال أبي: يزيد بن أبي زياد حديثه ليس بذاك1. وقال أبو داود: سمعت أحمد قيل له: يزيد بن أبي زياد أحب إليك أو ليث هو ابن أبي سُليم؟ قال أحمد: يزيد عنه اختلاف، مرة طاووس، مرة مِقسَم، مرة مجاهد2. وروى ابن حبان عن أحمد أنه سئل عن يزيد بن أبي زياد فضعفه وحرك رأسه3. ويوافق موقفَ الإمام أحمد من يزيد موقفُ غيرِ واحدٍ من الحفاظ منهم شعبة، ويحيى بن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة4. وذكر الإمام مسلم يزيد بن أبي زياد في القسم الثاني من الروة الذين لا يوصفون بالحفظ والإتقان وإن كان اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم5. وقد روى البيهقي عن الحاكم بإسناده عن يحيى بن محمد بن يحيى قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: هذا حديث واهي قد كان يزيد يحدث به برهة من دهره لا يذكر فيه: ثم لا يعود، فلما لُقن أخذه فكان يذكر فيه6. فأشار الإمام أحمد إلى أن يزيد لقّن هذا الحرف، وقبول التلقين لا يختص بالمختلطين.
ومما أنكره الإمام أحمد على يزيد بن أبي زياد حديثه في الرايات السود: قال العقيلي: حدثنا عبد الله، قال: سمعت أبي يقول: حديث إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله ليس بشيء يعني حديث يزيد بن أبي زياد، قلت لعبد الله: الرايات السود؟ قال: نعم1. قال العقيلي: وهذا الحديث حدثناه محمد بن إسماعيل حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا خلف عن يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن عبد الله قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه فتيةٌ من قريْش فتغيّر لونه فقلنا: يا رسول الله إنا لا نزال نرى في وجهك الشيء تكرهه، قال: "إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيَلقَون بعدي تطريداً وتشريداً حتى يجيء قوم من ها هنا ـ وأومأ بيده نحو المشرق ـ وأصحاب رايات سود يسألون الحق ولا يُعطَونه مرتين أو ثلاثاً فيُقاتلون فيُعطَون ما سألوا فلا يقبلون حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي يملأها عدلاً كما مُلِئتْ ظلماً وجوراً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتها ولو حبواً على الثلج" 2. وقد روى هذا الحديث ابن ماجه3، ونعيم بن حماد4، وأبو بكر بن أبي شيبة5، وأبو يعلى6، وابن أبي عاصم7 والشاشي8، والبزار9، والطبراني10،
وابن عدي1، والحاكم2، وأبو عمرو الداني3 كلهم من طرق عن يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم ـ وهو النخعي ـ عن علقمة بن قيس النخعى، عن ابن مسعود به. وجه إعلال الإمام أحمد للحديث أعل الإمام أحمد هذا الحديث فقال: ليس بشيء، وهذا منه رحمه الله رد للحديث من أصله، وعدم الاعتداد به، والذي يظهر أن ذلك منبي على تفرد يزيد بن أبي زياد به، ولا يحتج بما ينفرد به لسوء حفظه. وقد ذكر البزار بعد رواية الحديث من طريق الحكم عن إبراهيم، أن هذا الحديث إنما يعرف من حديث يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم4. وقد روي الحديث من طرق عن إبراهيم غير طريق يزيد بن أبي زياد، ذكرها الدارقطني في العلل5، وهذه الطرق هي طريق الحكم، عن إبرهيم، وطريق عمارة بن القعقاع عن إبراهيم. أما طريق الحكم فرواه عنه عمرو بن قيس الملائي6 من رواية يزيد بن محمد الثقفي، عن حنان ابن سدير7 فقال: عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس وعبيدة السلماني، عن عبد الله بن مسعود. أخرجه الحاكم8. وقال غيره عن حنان، عن عمرو بن قيس، عن الحكم، عن عبيدة، عن عبد الله. وقيل عن الحكم، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله. ذكرهما الدارقطني في العلل. وقيل عن حنان،
عن عمرو بن قيس، عن الحسن ـ وهو البصري ـ عن عبيدة، عن عبد الله1. ورواه داهر بن يحيى الرازي عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عبد الله. ذكره أيضاً الدارقطني. ورواه عبد الله بن داهر عن أبيه، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، أخرجه البزار2. وعبد الله بن داهر قال عنه ابن معين: ليس بشيء ما يكتب عنه إنسان فيه خير. وقال العقيلي: رافضي خبيث3. وأبوه قال فيه العقيلي: رافضي يغلو في الرفض ولا يتابع على حديثه4. وأما طريق عمارة بن القعقاع فرواه الطبراني5، والخطيب6 من طريقين عن محمد بن فضيل، عن المغيرة بن مقسم، عن عمارة بن القعقاع، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله به. قال الدارقطني بعد ذكره لهذا الطريق: هو أصحها ـ يعني حتى من طريق يزيد ابن أبي زياد7ـ. وهذا واضح، فإن عمارة بن القعقاع ثقة8، وأما طريق الحكم ففيه اختلاف واضح يشعر بضعفه، ثم لا يخلوا الطريق من شيعي أو رافضي، وأما طريق يزيد بن أبي زياد فمن أجله ردّ الإمام أحمد
الحديث. يبقى النظر في رواية عمارة بن القعقاع عن إبراهيم، وذلك أن عمارة ليس مشهوراً بالراوية عن إبراهيم حيث لم يذكره المزي من تلاميذه وإن ورد عن الترمذي ما يدل على سماعه منه1، وكذلك الراوي عن محمد بن فضيل ـ وهو عبد الرحمن بن عمرو الحراني ـ لا يحتمل تفرده بمثل هذا الحديث، وقد خالفه نعيم بن حماد الخزاعي2، وموسى بن داود3 فرويا الحديث عن محمد بن فضيل عن يزيد بن أبي زياد كما رواه الثقات عن يزيد، وهما أشهر بطلب العلم من عبد الرحمن الحراني، وكل هذا يدل على عدم الاعتداد برواية عمارة بن القعقاع، والله أعلم. فقد عاد الأمر إلى تفرد يزيد بن أبي زياد بهذا الحديث، وهو ممن لا يحتج أحمد بما تفرد به فاتضح أن الحديث غير معتدّ به عنده. وقد أبدى أبو أسامة ـ وهو من شيوخ الإمام أحمد ـ وجهاً آخر لرد الحديث فقال أبو قدامة كما رواه العقيلي: "سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله في الرايات السود فقال: لو حلف عندي خمسين يميناً قسامة ما صدقته، أهذا مذهب إبراهيم! أهذا مذهب علقمة! أهذا مذهب عبد الله! " 4. فنقد الحديث من جهة متنه، وهو مخالفته للمعروف من هدي إبراهيم، وعلقمة، وعبد الله بن مسعود إذ كانوا يمنعون
الخروج على من استبدّ بالأمر. قال الذهبي ـ معلقاً على كلام أبي أسامة ـ: "معذور والله أبو أسامة، وأنا قائل كذلك، فإن من قبله ومن بعده أئمة أثبات، فالآفة منه عمداً أو خطأ" 1. وقال في تلخيص المستدرك إنه حديث موضوع2. وقد ورد ما يشهد لبعض ألفاظ الحديث من حديث ثوبان رضي الله عنه، أخرجه الإمام أحمد عن وكيع، عن شريك، عن علي بن زيد ـ وهو ابن جدعان ـ عن أبي قلابة عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قِبل خُراسان فأتوها، فإن فيها خليفة الله المهدي" 3. وعدّه البيهقي والذهبي من منكرات علي بن زيد4. وقد خالفه خالد الحذاء عن أبي قلابة5، إلا أنه اختلف عليه بالرفع والوقف. وذكر الإمام أحمد أنه قيل لابن علية في هذا الحديث فقال: كان خالد يرويه فلم يلتفت إليه، ضعف ابن علية أمره، قال عبد الله: يعني حديث خالد عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرايات6. فالظاهر أن الإمام أحمد لم يعتد بهذا الشاهد أيضاً7.
وورد أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "يخرج من خراسان راياتٌ سودٌ لا يردُّها شيء حتى تُنصب بإيلياء" رواه الترمذي1، وأحمد2، والطبراني3، والبيهقي في "دلائل النبوة"4. تفرد به رشدين بن سعد، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، عن قبيصة، عن أبي هريرة به. ورشدين بن سعد قال فيه ابن معين: ليس بثقة، وقال البخاري: منكر الحديث، وضعفه غير واحد5. وقال الجوزجاني: عنده مناكير كثيرة6. فتفرد هذا بحديث من حديث الزهري لا يروى إلا من طريقه مما لا يحتمل. وقد رواه البيهقي عن كعب الأحبار قوله، وفي سنده جهالة ومع ذلك رجحه على المرفوع7. فهذا أيضاً لا يصلح شاهداً. وورد أيضاً من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي مرفوعاً: "يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي ـ يعني سلطانه" أخرجه ابن ماجه8، والطبراني9. وفي سنده عمرو بن جابر وهو الحضرمي، قال أحمد: بلغني أنه كان
يكذب1. وقال ابن حبان: كان سحابياً ـ يزعم أن علياً في السحاب2. وقال ابن عدي: كان الناس برمونه من وجهين جميعاً: من قوله في علي ومن ضعفه في رواياته3. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عمرو بن جابر وهو كذاب. ا.هـ4. فهذا أيضاً لا يصلح أن يستشهد به. هذا وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: سألت عبد الرحمن بن مهدي: أي حديث أصح في المهدي؟ قال: أصح شيء فيه عندي حديث أبي معبد عن ابن عباس5. وهذا يتضمن عدم تصحيحه لما سواه من الحديث. يحيى بن أيوب الغافقي: قال عبد الله: سئل أبي وأنا أسمع: عن حيوة بن شريح، وسعيد بن أبي أيوب، ويحيى بن أيوب فقال: حيوة أعلى القوم، ثقة ... وكان يحيى بن أيوب سيء الحفظ وهو دون هؤلاء6. ونقل الساجي عن أحمد أنه كان يخطئ خطأً كثيراً7. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن يحي بن أيوب المصري، فقال:
كان يحدث من حفظه، وكان لا بأس به، وكان كثير الوهم في حفظه، فذكرت له من حديثه عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر الحديث، فقال: ها، من يحتمل هذا، وقال مرة: كم قد روى هذا عن عائشة من الناس ليس فيه هذا، وأنكر حديث يحيى خاصة1. هذا الحديث رواه الطحاوي2، والعقيلي3، وابن حبان4، وابن عدي5، والدارقطني6، والحاكم7، والبيهقي8 من طرق عن يحيى بن أيوب المصري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة به، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين اللتين كان يوتر بعدهما بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، ويقرأ في التي في الوتر {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: أعله الإمام بتفرد يحيى بن أيوب المصري برواية هذا الحديث من حديث عائشة، وجعل هذا شاهداً على سوء حفظه، فقال: "ها، من يحتمل هذا" وتوضيح ذلك أن كل من فوقه من المكثرين في الرواية، فيبعد أن يكون الحديث عندهم ولا يعرفه ألصق الناس بهم وأعرفهم بمروياتهم، فتفرده عنهم وعدم
مشاركة بعض الرواة له في رواية الحديث يقضي بخطئه ويدل على خفة ضبطه لما تحمله عن شيوخه. ومما يؤيد ما ذهب إليه الإمام أحمد ما رواه الخلال في العلل بإسناده عن ابن أبي مريم قال: "أخبرني عثمان بن الحكم1 ـ وكان من أفضل من بمصر ـ قال: سألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث فقال: لا أعرفه ـ يعني حديث الوتر" 2. ورواه ابن عدي من طريق آخر عن ابن أبي مريم وفيه: "فلم يعرفه وأنكره" 3. فإنكار يحيى بن سعيد الأنصاري للحديث ـ وهو شيخ يحيى بن أيوب في إسناد الحديث ـ علة يعل بها روايته، ويستدل بها على سوء حفظه، وهو ما أشار إليه الإمام أحمد. وقد رُوي الحديث من وجهين آخرين عن عائشة: الأول: رواه محمد بن سلمة، عن خُصيف، عن عبد العزيز بن جُريج، قال: سألت عائشة أم المؤمنين: بأي شيء كان يُوتِر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان يقرأُ في الركعة الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمُعوِّذتين. رواه أبو داود4، والترمذي5، وابن ماجه6، والحاكم7، ومن طريقه البيهقي8. وفي الإسناد
خُصيف، هو ابن عبد الرحمن الجزري. قال عنه أحمد: ليس بحجة ولا قوي في الحديث. وعنه: ضعيف الحديث. ووثقه ابن سعد وأبو زرعة وغيره. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: يعتبر به يهم1. وعبد العزيز بن جريج هو والد ابن جريج. قال البخاري: لا يتابع في حديثه2. ولم يلق عائشة، قاله أحمد3، وقال ابن حبان: روى عن عائشة ولم يسمع منها4. وقد وقع التصريح في هذا الحديث بسماعه من عائشة، قال الترمذي: سماع عبد العزيز من عائشة خطأ5. وكذلك العلائي لم يعتمد هذا التصريح6. ولعل هذا ما جعل ابن جريج يرسل الحديث عن عائشة، فرواه عبد الرزاق عنه قال: أُخبرتُ عن عائشة فذكره7. وقد قال الدارقطني: يترك هذا الحديث8. الثاني: رواه حيوة بن شريح، عن يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة، ذكره العقيلي بإسناده في ترجمة سليمان بن حسان المصري وأعله به، وقال: لا يتابع على حديثه9. وذكر الحافظ ابن حجر أنه رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب قيام الليل10. وسليمان بن حسان قال عنه أبو حاتم: صحيح
الحديث1، وذكره ابن حبان في الثقات2. لكن يبقى النظر هل يحتمل تفرد هذا عن عروة بن الزبير، وهو الأمر الذي أشار إليه العقيلي بقوله: لا يتابع على حديثه. قال العقيلي: وقد روي عن ابن عباس، وأبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وبـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وإسناديهما كذا أصلح من هذين، على أن في حديث أبي بن كعب اختلاف كذا، وحديث ابن عباس صالح الإسناد. ا.هـ3. وممن أنكر زيادة المعوذتبين غير الإمام أحمد الإمام يحيى بن معين، قاله ابن الجوزي4. حديث آخر ليحيى بن أيوب: قال الخلال: أخبرنا زكريا بن يحيى: نا أبو طالب، أنه سأل أبا عبد الله عن حديث ابن المبارك، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شرى المُغنِّيَّات؟ قال: يحيى بن أيوب ضعيف، كان يخطئ كثيراً5. أخرج هذا الحديث الطبراني من طريق سعيد بن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب به مرفوعاً بلفظ: "لا يحل شِرى المُغَنيَّات ولا بيعُهن ولا تجارةٌ فيهن وثَمنُهن حرامٌ" وتلا هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ
عِلْمٍ} [لقمان: 6] الآية1. وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: أعله بيحيى بن أيوب لضعفه الراجع إلى سوء حفظه، أعله به مع أنه لم يتفرد بالحديث، وفي السند من هو أضعف منه. فأما من روى الحديث متابعاً ليحيى بن أيوب فهم جماعة: وهم: خلاد الصفار2، ومطرّح بن يزيد3، وبكر بن مضر4، وليث ابن أبي سليم5. ورواه فرج بن فضالة عن علي بن يزيد به6 فتابع عبيد الله بن زحر، وهي متابعة قاصرة ليحيى بن أيوب. وكذلك توبع عن القاسم أيضاً: حيث
رواه يحيى بن الحارث عن القاسم1، وهي رواية غير صالحة للاعتبار بها لعدم صحة الإسناد إلى يحيى بن الحارث2. أما وفي الإسناد من هو أضعف من يحيى فيظهر ذلك بالرجوع إلى من فوقه: وهو عبيد الله بن زحر3، عن علي بن يزيد4، عن القاسم بن عبد الرحمن5، وهذه سلسلة روي بها أحاديث مناكير تكلم عليها الإمام أحمد وجعل ذلك من قبل القاسم. قال أبو داود: "سمعت أحمد قال: القاسم أبو عبد الرحمن، هو ابن عبد الرحمن، هو مولى لعبد الرحمن بن يزيد بن معاوية. قال: يُروى له أحاديث مناكير، كان جعفر بن الزبير أولاً رواها بالبصرة، فترك الناس حديثه، ثم جاء بشر بن نُمير فروى بعض تلك الأحاديث، فترك أهل البصرة حديثه ... يجيئنا بعد من عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد" 6.
وقال عبد الله: "سمعت أبي يقول: وذكر القاسم أبا عبد الرحمن، فقال: قال بعض الناس: هذه الأحاديث المناكير التي يرويها عنه جعفر بن زبير، وبشر بن نمير، ومطرح قال أبي: علي بن يزيد من أهل دمشق حدّث عنه مطرح، ولكن يقولون هذه من قبل القاسم، في حديث القاسم مناكير مما يرويها الثقات يقولون من قبل القاسم" 1. وقال الأثرم: سمعت أحمد حمل على القاسم وقال: "يروي عنه علي بن يزيد أعاجيب، وتكلم فيها، وقال: ما أرى هذا إلا من قبل القاسم" 2. وقال جعفر بن أبان: سمعت أحمد بن حنبل وذُكر القاسم مولى يزيد بن معاوية فقال: منكر الحديث، ما أرى البلاء إلا من قبل القاسم. ا.هـ3. وتكلم ابن حبان على هذه السلسلة أيضاً، قال: "وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الخبر إلا مما عملت أيديهم، فلا يحل الاحتجاج بهذه الصحيفة، بل التنكب عن رواية عبيد الله بن زحر على الأحوال أوْلى" 4. وبعد هذا يتضح أن ما ذكره الإمام أحمد في هذه المسألة من إعلال الحديث بيحيى بن أيوب الغافقي مع وجود هذه السلسلة التي قد تكلم عليها وجعل الحمل فيها على القاسم بن عبد الرحمن يدل على أنه لم يستحضر كلامه عليه حين سئل عن الحديث، وأما الإمام البخاري فجعل الحمل على الراوي عن القاسم وهو علي ابن يزيد الألهاني، لأنه وثق كلاً من عبيد الله بن زحر، والقاسم بن عبد الرحمن،
وجرّح علي بن يزيد فتعين أن الحمل عليه، وكلام أبي حاتم يحتمل ذلك أيضاً1. محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: قال عبد الله: "سألته ـ أي أحمد ـ عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى؟ فقال: مضطرب الحديث. قال أبي: فقه ابن أبي ليلى أحب إلينا من حديثه، حديثه فيه اضطراب" 2. وقال عبد الله بن أحمد: "سمعت أبي يقول: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى مضطرب الحديث سيء الحفظ" 3. وعن أحمد بن أصرم المزني4: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: ابن أبي ليلى مضطرب الحديث جداً" 5. وقال أحمد بن حفص السعدي عن أحمد بن حنبل: "ابن أبي ليلى ضعيف، وعن عطاء أكثر خطأ" 6. قال العقيلي: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن علي، قال: سمعت أحمد بن حنبل احتج بحديث ابن أبي ليلى؟ فقال: لا، قال: وسألته عن حديث ابن أبي ليلى حديث البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم
لا يعود، فقال: ليس هذا بشيء، قد رواه وكيع عن ابن ليلى، فيكون مثل هذا عن الحكم ولا يرويه الناس عن الحكم! 1. هذا الحديث قد سبق وأن أشار إليه الإمام أحمد في كلامه على يزيد بن أبي زياد المتقدم، وقال: روى وكيع عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عيسى ابن أبي ليلى، والحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء فذكره، وقد رواه من هذا الوجه أبو داود2، وابن أبي شيبة3، وأبو يعلى4، والطحاوي5، وذكره البخاري تعليقاً في "جزء رفع اليدين"6. وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: أعله الإمام أحمد بسوء حفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال ابن أبي ليلى سيء الحفظ7. وبيّن خطأه من وجهين: الأول: ذكر الإمام أحمد أن محمد بن عبد الله بن نمير قد رأى كتاب محمد
ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى ورأى أنه يروي الحديث عن يزيد بن أبي زياد لا عن عيسى والحكم، يعنى أنه حدّث بالحديث من حفظه فحدّث به مخالفاً لما في أصل كتابه لسوء حفظه. قال البخاري: وإنما روى ابن أبي ليلى هذا من حفظه، فأما من حدّث عن ابن أبي ليلى من كتابه فإنه عن ابن أبي ليلى عن يزيد فرجع الحديث إلى تلقين يزيد1. وهذا الوجه هو الذي ورد ذكره في رواية عبد الله المتقدمة. الثاني: أن الحديث لو كان عند الحكم بن عتيبة لرواه الناس عنه، فلا يحتمل تفرد محمد بن أبي ليلى عنه لسوء حفظه. وذكر هذا الوجه العقيلي عن الحسن بن علي عن أحمد كما في هذه المسألة. وفائدة هذا الإعلال أن رواية ابن أبي ليلى هذه لا تصلح للاعتبار بها، فلا يقال إن عيسى بن أبي ليلى، والحكم بن عتيبة قد تابعا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى حتى يتقوى الحديث بذلك، لأن الخطأ فيها متحقق. عطاء بن مسلم الخفاف: قال المرُّوذي: قلت تعرف عن عطاء بن مسلم الخفاف عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يحشر المتكبرون في صور الذُّر يطأهم الناس"، فأنكره وقال: ما أعرفه، عطاء بن مسلم مضطرب الحديث2. هذا الحديث أخرجه البزار قال: حدثنا محمد بن عثمان العقيلي، حدثنا محمد بن راشد، عن محمد بن عمر كذا، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به. وقال البزار: لم أسمعه إلا من العقيلي عن محمد بن راشد3. قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه4.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد على ما ذكره المباركفوري1. وينظر في سنده. وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: أعله الإمام أحمد بالنكارة، لأنه من رواية عطاء بن مسلم الذي وصفه بأنه مضطرب الحديث، وهذا أمر ناشئ من سوء الحفظ، وفي قوله في الجواب: ما أعرفه، إشارة إلى تفرد عطاء بن مسلم بالحديث، لأنه نفى معرفته بالحديث من غير طريقه، وكونه مع سوء حفظه يتفرد بحديث من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة ولا يعرف إلا من طريقه، مع شهرة هذا الإسناد وكثرة دواعي الناس إلى روايته دليل على نكارة الحديث، فأنكره الإمام أحمد من أجل هذا، والله أعلم. وعطاء بن مسلم وثقه ابن معين في رواية الدارمي2، وقال في رواية معاوية بن صالح: ليس به بأس، وأحاديثه منكرات3. وقال أبو حاتم: كان شيخاً صالحاً، وكان دفن كتبه وليس بقوي فلا يثبت حديثه. وقال أبو زرعة: دفن كتبه ثم روى من حفظه فيهم فيه، وكان رجلاً صالحاً4. وقال أبو داود: ضعيف. وقال الطبراني: تفرد بأحاديث5. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا به6. وقال ابن حبان: كان شيخاً صالحاً، دفن كتبه ثم جعل يحدث، فكان يأتي بالشيء على التوهم فيخطيء، فكثر المناكير في أخباره وبطل
الاحتجاج به إلا فيما وافق الثقات1. من نهى عن الكتابة عنهم وأمر بالضرب على حديثهم: فمنهم: موسى بن عُبيدة الربذي: قال أحمد بن أبي يحيى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا يكتب حديث موسى بن عُبيدة، ولم أخرج عنه شيئاً، حديثه منكر2. وقال البخاري: قال أحمد بن حنيل: هو منكر الحديث3. وقال أبو داود: سمعت أحمد غير مرة يقول: موسى بن عُبيدة ليس بشيء4. وقال عباس الدوري سمعت أحمد يقول: أما موسى بن عُبيدة فلم يكن به بأس، ولكنه حدّث بأحاديث منكرة عن عبد الله بن دينار ... أما إذا جاء الحلال أردنا قوماً هكذا، فضمّ عباس على أصابع يديه الأربع من كل يدٍ ولم يضمّ الإبهام5. وقال صالح بن أحمد بن حنبل: قال أبي: موسى بن عبيدة لا يُشتغل به، وذلك أنه يروي عن عبد الله بن دينار شيئاً لا يرويه الناس6. وقال أبو طالب أحمد بن حميد: قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل لما مر حديث موسى بن عُبيدة عن محمد بن كعب عن ابن عباس، قال: هذا متاع موسى بن عُبيدة وضمَّ فمَه وعوَّجه ونفض يدَه وقال: كان لا يحفظ الحديث7.
قال الفضل بن زياد: وسمعت أبا عبد الله وسأله أبو جعفر: أيما أحب إليك موسى بن عبيدة، أو محمد بن إسحاق؟ قال: لا محمد بن إسحاق، قلت له: روى شعبة عن موسى بن عبيدة؟ قال: نعم، فقال أبو جعفر: يقول شعبة عن أبي عبد العزيز الربذي، قال: نعم، لم يرو عنه شعبة حديثاً منكراً. فقال أبو جعفر: روى عنه الثوري أيضاً؟ قال: نعم1. قال الجوزجاني: قلت لأحمد: إن موسى قد روى عنه سفيان وشعبة يقول: أبو عبد العزيز الرَّبذي، قال: لو بان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه2. فهذه الرواية تفيد أن الإمام أحمد ضعف موسى بن عبيدة وفسر هذا التضعيف بسوء الحفظ المنجلي في روايته عن الثقات الأعلام ما لا يرويه غيره، فمن ثَم وصفه بأنه منكر الحديث، وما ورد عنه أنه قال فيه: ليس به بأس فهو محمول على أنه ليس من أهل التهمة فلا يطرح حديثه، ولكن لا يروى عنه في الحلال والحرام. ومما يدل على شدة ضعفه عنده أنه لم يخرج له في المسند3. مما أعله من حديثه: قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله: تعرف عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الحلال بيّن والحرام بيّن"؟ فقال: لا، من رواه؟ فقلت موسى بن عُبيدة، فقبض يده ثم قال: موسى يُحتمل؟ وحمل عليه، وقال: ليس حديثه عندي بشيء، حديثه عن عبد الله بن دينار كأنه ليس عبد الله بن دينار ذلك، وعن أبي حازم. ا.هـ4.
حديث عمّار أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده: أنبأنا يحيى بن واضح الانصاري، ثنا موسى بن عبيدة الربذي، عن عبد الله بن عبيدة وغيره، عن عمار بن ياسر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات فمن توقاهن كان أتقى لدينه، ومن واقعهن أوشك أن يواقع الكبائر كالمرتع إلى جنب الحمى، أوشك أن يُواقعَه، ولكل ملِكٍ حِمى، وحِمى الله حدودُه" 1، ورواه الطبراني2، وأبو نعيم3 كلاهما من طريق إسحاق. وقال الطبراني: لا يروى عن عمار إلا بهذا الإسناد. وأخرجه أبو يعلى حدثنا محمد بن الفرج، حدثنا محمد بن الزبرقان، حدثنا موسى بن عبيدة قال: أخبرني سعد بن إبراهيم، عمّن أخبره، عن عمّار بن ياسر فذكره4. وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: أعل الإمام أحمد هذا الحديث بموسى بن عبيدة وقال: موسى يحتمل؟ وهذا استفهام إنكار لتفرد موسى بن عبيدة بهذا الحديث، إذ الحديث معروف لنعمان بن بشير5، فتفرده بالحديث عن عمّار بن ياسر يدل على عدم ضبطه إذ لا يتصور أن يكون الحديث عند عمّار ثم لا يرويه أحد في طبقة التابعين ولا طبقة أتباعهم إلا موسى بن عبيدة مع توفر الدواعي عندهم لرواية الأحاديث وجمعها
وتتبع طرقها، وأيضاً لا يجوز أن يقال إن حديث النعمان بن بشير يشهد له، لأن هذا مما تحقق خطؤه فلا ينجبر، ثم قد ظهر جلياً أثر سوء حفظه حيث اضطرب في رواية الحديث، ففي طريق إسحاق رواه عن عبد الله بن عبيدة وغيره عن عمار، وفي طريق أبي يعلى رواه عن سعد بن إبراهيم، عمن أخبره عن عمار. وعبد الله بن عبيدة هو الربذي أخو موسى بن عبيدة، قال أحمد في رواية صالح: موسى بن عبيدة وأخوه لا يشتغل بهما. وقال ابن معين: لم يرو أحد عنه إلا موسى بن عبيدة، وحديثهما ضعيف. ا.هـ1. وحديث آخر: قال عباس بن محمد الدوري: سمعت أحمد بن حنبل وسُئل على باب أبي النضر هاشم بن القاسم، فقيل له: يا أبا عبد الله، ما تقول في موسى بن عُبيدة الرَّبْذي ومحمد بن إسحاق؟ فقال: أما محمد بن إسحاق فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث ـ كأنه يعني المغازي ونحوها ـ وأما موسى بن عُبيدة فلم يكن به بأس، ولكنه حدّث بأحاديث منكرة عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكالي بالكالي وأشباه هذا، وأما إذا جاء الحلال أردنا قوماً هكذا ـ فضمّ عباس على أصابع يديه الأربع من كل يد ولم يضمَّ الإِبْهام2. هذا الحديث رواه البزار3، والطحاوي4، والدارقطني5، وابن عدي6،
والعقيلي1، والبيهقي2 من طرق عن موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر به. وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: ذكر أنه من الأحاديث المنكرة التي رواها موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار، ولسوء حفظه لا يقبل تفرده عن عبد الله بن دينار. وروى ابن الجوزي عن أحمد أنه قال: "ولا يحل الرواية عن موسى بن عبيدة ولا أعرف هذا الحديث موسى؟، وليس في هذا حديث صحيح وإنما إجماع الناس على أنه لا يجوز دين بدين" 3. ومن أجل هذا التفرد وعدم الاعتماد عليه كان الإمام أحمد يرى أن عبد الله بن دينار الذي روى عنه موسى بن عبيدة كأنه ليس عبد الله بن دينار ذلك المعروف كما سلف فيما رواه عباس الدوري عنه. ونقل ابن حجر عن الخلال في العلل أن أحمد سئل عن عبد الله بن دينار الذي روى عنه موسى بن عبيدة النهي عن بيع الكالئ بالكالئ فقال: ما هو الذي روى عنه الثوري، قيل فمن هو؟ قال: لا أدري. ا.هـ4. وهذا محمول على مثل ما ذكره عباس عن أحمد، وإلا فقد جزم العقيلي بأنه هو عبد الله بن دينار المعروف، وقال: روى عنه موسى بن عبيدة ونظراؤه أحاديث مناكير الحمل فيها عليهم5. ما حسنه من أحاديث هذا الصنف من الرواة: قد جاء عن الإمام أحمد إطلاق الحسن على بعض أحاديث هذا الصنف
من الرواة، وذلك أن هؤلاء الرواة قد يتردد الناقد في حديثهم أحياناً، هل هو محفوظ أو غير محفوظ، وذلك لأن الراوي الموصوف بسوء الحفظ قد يضبط ما يرويه أحياناً، فإذا جاءت ملامح ضبطه لما يرويه فقد يطلق الناقد ما يدل على قبوله لحديثه مع لين ما، وهو الذي يدل عليه مصطلح الحسن. ومصطلح الحسن مأثور عن الإمام أحمد، وإن كان هو كغيره من الأئمة المتقدمين أكثر ما كانوا يقولون في الحديث أنه صحيح، أو ضعيف، ويقولون: منكر، موضوع، وباطل1، وإطلاقهم الحسن على الأحاديث قليل نسبياً. وإطلاق الإمام أحمد الحسن في الأحاديث يدل على أن الحديث الحسن حديث مقبول محتج به عنده، لكن مع لينٍ ما فيه في الغالب. فقد سبق أنه قال في حديث وابصة بن معبد في الذي صلى خلف الصف وحده: إنه حسن، وقد احتج به، وإنما قال فيه: حسن لما فيه من رواية عمرو بن راشد الذي لم يشتهر بكثرة الحديث وبالثقة2. وكذلك قال في حديث علي بن شيبان مرفوعاً: "لا صلاة لفرد خلف الصف" 3 إنه حسن4، وهو من حديث ملازم بن عمرو، ومع توثيق الإمام أحمد له فقد قال فيه الإمام أحمد: حاله مقارب5، وقدم عليه عكرمة بن عمّار العجلي6،
وخالف شيخه القطان في تقديمه ملازماً عليه. وعكرمة عند الإمام أحمد مضطرب الحديث عن غير إياس بن سلمة1. وسئل الإمام أحمد في الرجل يأتي امرأته وهي حائض فقال: "ما أحسن حديث عبد الحميد فيه! قال له أبو داود: تذهب إليه؟ قال: نعم، إنما هو كفارة" 2. وحديث عبد الحميد بن عبد الرحمن، رواه شعبة عن الحكم، عنه، عن مِقسم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض: "يتصدق بدينار أو بنصف دينار" 3، وهو حديث اختلف في رفعه ووقفه. ورواه أحمد عن يحيى القطان، وعن غندر كلاهما عن شعبة مرفوعاً ثم قال: ولم يرفعه عبد الرحمن، ولا بهز4. فذهب الإمام أحمد إلى القول به لأنه في الكفارة، وليس فيه تحليل ولا تحريم. ومع ذلك في قبوله للحديث بعض اللين للعلة التي أشار إليها، فلذلك حسنه ولم يصححه. ومن إطلاق الحسن على ما هو صحيح ثابت قوله في حديث حنظلة، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذنت نساؤكم بالليل إلى المسجد فأدنوا لهن"، وهو حديث متفق عليه5، رجاله كلهم ثقات عند الإمام أحمد، وقال الإمام أحمد في الحديث: إسناده حسن6.
وقال في حديث أم حبيبة في مس الذكر1 هو حسن الإسناد، وذلك في رواية أبي زرعة الدمشقي2، وذكر ابن عبد الهادي أن الإمام أحمد قال: حديث أم حبيبة حديث صحيح3. وذكر ابن حجر عن الخلال أنه قال: صحح أحمد حديث أم حبيبة4. فأطلق الحسن والصحة على الحديث، مما يدل على أنه قد يطلق الحسن بمعنى الصحة، والله أعلم. ومما حسنه من أحاديث هذا الصنف من الرواة غير من تقدم: حديث عبد الله بن محمد بن عقيل الهاشمي: قال الإمام أحمد في رواية حنبل بن إسحاق: ابن عقيل منكر الحديث5. وقال أبو داود: قال أحمد: علي بن زيد، وجعفر بن محمد، وعاصم بن عبيد الله، وعبد الله بن محمد بن عقيل ما أقربهم من السواء6. وقال أبو داود أيضاً: سمعت أحمد وقيل له: حسين بن عبيد الله صاحب عكرمة، منكر الحديث؟ فقال برأسه أي نعم، فقيل له: هو أحب إليك أو عاصم ابن عبيد الله قال: ما أقربتهما وعبد الله بن محمد بن عقيل7. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت أحمد بن حنبل وذكر عاصماً ـ يعني ابن عبيد الله ـ فقال: حديثه وحديث ابن عقيل إلى الضعف ما هو8.
وقال أحمد في عاصم أيضاً: ليس بذاك1. فقد دلت هذه الروايات عن الإمام أحمد على ضعف ابن عقيل وأنه منكر الحديث، وأن حديثه قريب إلى الضعف، وقد قرنه بعدد من الرواة كلهم ممن تكلم فيهم من قبل حفظهم ـ وهم علي بن زيد، وجعفر بن محمد، وعاصم بن عبيد الله، فعلي بن زيد هو ابن جدعان، ضعيف الحديث عند الإمام أحمد، وقد سئل الإمام أحمد: هل سمع الحسن من سراقة؟ قال: لا، هذا علي بن زيد، يعني يرويه، كأنه لم يقنع به2. وكذلك جعفر بن محمد ضعفه بأنه مضطرب الحديث3، وقد تقدم قوله في عاصم. لكن روى الترمذي عن البخاري أنه قال: كان أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، والحميدي يحتجون بحديث عبد الله بن محمد بن عقيل4. فمن ثم اختلف قول الإمام أحمد في الاحتجاج بحديثه، وهو الحديث الذي رواه ابن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران بن طلحة، عن أمه حمنة بنت جَحْش قالت: كنت أُستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره ـ فذكرت الحديث إلى أن قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك من الشيطان، فتَحَيَّضي ستةَ أيامٍ أو سبعة أيامٍ في علم الله عز وجل ثم اغتسلي" ـ وذكر الحديث5.
فذكر أبو داود أنه سمع أحمد رحمه الله يقول: حديث ابن عقيل في نفسي منه شيء1. وعنه أيضاً: سمعت أحمد قال: يروى في الحيض حديث ثالث، حديث عبد الله ابن محمد بن عقيل، في نفسي منه شيء2. وقال ابن هانئ: قيل لأحمد: حديث حمنة عندك قوي؟ قال: ليس هو عندي بذلك، حديث فاطمة أقوى عندي وأصح إسناداً منه3. يشير إلى حديث فاطمة بنت أبي حبيش الذي رواه الشيخان وغيرهما4.
وقال ابن رجب: المعروف عن الإمام أحمد أنه ضعفه ولم يأخذ به1، وقال أيضاً: نقل عنه أكثر أصحابه أنه ضعفه2. وذكر الترمذي عن الإمام أحمد أنه قال: هو حديث حسن صحيح3. وذكر ابن رجب أن حرب بن إسماعيل الكرماني نقل عن الإمام أحمد أنه قال: نذهب إليه، ما أحسنه من حديث4. واحتج بالحديث كما في مسائله برواية ابنه عبد الله5. وقال في رواية ابن هانئ: "الحيض عندنا على ثلاثة أحاديث: حديث حمنة قالت: إني أثجّ ثجاًّ، وأنها استُحِيضتْ حيضةً منكرة قال: "تحيّضي في علم الله عز وجل ستاً أو سبعاً" 6. وقال ابن رجب: ذكر أبو بكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بحديث حمنة وتقويته والأخذ به، والله أعلم7. فهذه الرواية إن ثبتت فإنها تدل على القول الفصل عن الإمام أحمد وتقضي على الاختلاف الوارد عنه. والذي يظهر أن احتجاج الإمام أحمد بهذا الحديث عن ابن عقيل لا يدل على إطلاق الاحتجاج بحديثه عموماً، وذلك لأنه قد يكون هذا الحديث
احتف بقرائن ترجح لدى الإمام أحمد جانب القبول فيه وإن لم يفصح هو عن تلك القرائن، ومما يلوح للناظر في أسانيد الحديث من القرائن التي قد تدل على ترجيح جانب القبول على جانب الرد أن الرواة عن ابن عقيل ـ وأغلبهم ثقات كما تقدم ـ لم يختلفوا في الحديث، وهذا يدل على ضبط ابن عقيل للحديث، وما نقم عليه من سوء الحفظ كان يرجع إلى أن الرواة كانوا يختلفون عليه في الأسانيد1، اللهم إلا ما كان من ابن جريج ـ أحد الرواة عنه ـ حيث خالف بقية الرواة في اسم ابن عقيل واسم راوية الحديث. فروى عبد الله قال: "قال أبي في حديث حبيبة بنت جحش، قال: ابن جريج حدّث عن ابن عقيل محمد ابن عبد الله بن عقيل، وهو خطأ، وقال: إنما هو عبد الله بن محمد بن عقيل، وقال عن حبيبة بنت جحش، خالف الناس" 2. قال ابن رجب: يشير إلى أنها حمنة ليست حبيبة3. والشاهد من هذا أن الإمام أحمد حمّل ابن جريج الخطأ في هذا الحديث، ولو لم تكن عنده قرائن تدل على ضبط ابن عقيل لروايته لكان أولى الناس بأن يحمّل الخطأ هو ابن عقيل لسوء حفظه الذي يجعله يضطرب في الرواية، لكن لما رواه عنه عدد من الثقات على نسق واحد ولم يخالف إلا ابن جريج حمله الخطأ وقوي عنده ضبط ابن عقيل للحديث فاحتج به، والله أعلم. وقد يقال إن الإمام أحمد يرى الاحتجاج بالحديث الضعيف إذا لم يكن في
الباب غيره كما هو معروف من منهجه1، فقد يكون هذا من هذا النوع فلا يلزم منه أنه حسّن الحديث ولا احتج بعبد الله بن محمد بن عقيل، والجواب أن الرواية التي ذكرت الاحتجاج صريحة في أنه حسّن الحديث مثل رواية الترمذي وكذلك رواية حرب الكرماني، فلا يصح الاعتراض.
المطلب الثاني: الحالات التي لا يعل فيها حديث الراوي المتصف بسوء الحفظ
المطلب الثاني: الحالات التي لا يُعلّ فيها حديث الراوي المتصف بسوء الحفظ. سبق أن الأصل عند الإمام أحمد عدم الاحتجاج بحديث الراوي المتصف بسوء الحفظ إذا انفرد به، وهناك حالات لا يعلّ فيها حديثه بل يقبل ولا يردّ، وقد جاء عن الإمام أحمد إشارة إلى بعض تلك الحالات، وهي كالتالي: الحالة الأولى: أن يكون الراوي السيء الحفظ له كتاب صحيح. وذلك أن الضبط عند المحدثين ضبطان: ضبط صدر، وضبط كتاب1، فمن اختل ضبط صدره لسوء حفظ فيه، لكن كان له كتاب صحيح، لم يزل موصوفاً بمطلق الضبط، فيصحح له حديثه، ولا يعلّ إذا كان تحديثه به من كتابه، فلم يؤثر سوء حفظه إلا في ضبط صدره فقط. وقد اعتبر الإمام أحمد هذه الحالة من الحالات التي لا تعل معها حديث الراوي الموصوف بسوء الحفظ، فقد قال أحمد في رواية الأثرم في حاتم بن إسماعيل المدني: "حاتم بن إسماعيل أحب إلي من الدراوردي، زعموا أنه كان فيه غفلة، إلا أن كتابه صالح" 2. فحسن حاله لأن له كتاب صالح، حتى إنه قدمه على الدراوردي مع أنه وصفه بغفلة في نفسه، وهي تدل على خفة الضبط. ولعل من أجل هذا كان العمل عند بعض الأئمة على توثيق حاتم بن إسماعيل. فقال يحيى بن معين في رواية إسحاق بن منصور: ثقة3. وقال في رواية عباس الدوري: ثقة يحدث بالمناكير4.
وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً كثير الحديث1. ويحمل كلام من تكلم فيه على ما حدث به من حفظه. فتقدم أن ابن معين قال: يحدث بالمناكير. وكذلك قال ابن المديني: روى عن جعفر، عن أبيه أحاديث مراسيل أسندها2. وقال الإمام أحمد في الدراوردي، وقد كان ممن يحدث من حفظه فيقع في أوهام لأن في حفظه شيئاً، فقال فيه: "إذا حدث من كتابه فهو صحيح" 3. وقال في رواية الفضل بن زياد: "كان الدراوردي كتابه أصح من حفظه" 4. وقال الإمام أحمد في أبي عبيدة عبد الواحد بن واصل الحداد: "لم يكن صاحب حفظ، إلا أن أبا عبيدة كان كتابه صحيحاً" 5. وقد عبّر الإمام الشافعي عن هذا الأصل حيث قال: "ومن كثُر غلطُه من المحدثين ولم يكن له أصل كتاب صحيح لم يقبل حديثه، كما يكون من أكثر الغلط في الشهادة لم تقبل شهادته" 6. الحالة الثانية: أن تأتي الرواية عن طريق من عُرف بصحة روايته عنه. إذا كان الراوي موصوفاً بسوء الحفظ، فليس معنى ذلك أنه لا يصيب أبداً في الرواية، فقد يصيب ويخطئ، وإن كان الخطأ منه كثيراً فقد تكون له ولا بد حالات يصيب الوجه الصحيح في روايته، فمن سمع منه في تلك الحالة يكون
عنده شيء من صحيح حديثه، وقد استطاع الأئمة أن يتعرفوا على بعض التلاميذ عن شيوخ ضعفاء حديثهم عنهم صحيح، فإذا جاء الحديث من رواية أمثالهم قُبل ولم يعلّ بسوء حفظ الشيخ. فمن ذلك: موسى بن عُبيدة الرَّبذي ورواية شعبة عنه. قد تقدم كلام الإمام أحمد في موسى بن عُبيدة، وأنه ضعفه بكثرة المناكير التي يرويها عن شيوخه، لكن روى الفضل بن زِياد أنه قيل للإمام أحمد: إن شعبة روى عن موسى بن عبيدة الربذي فيقول عن أبي عبد العزيز الربذي فقال: "نعم، لم يرو عنه شعبة حديثاً منكراً" 1. فهذا يفيد أن حديث شعبة عن موسى بن عبيدة ليس فيه منكر، فهو من صحيح حديثه. ومن ذلك أيضاً: شهر بن حوشب ورواية عبد الحميد بن بهرام عنه وشهر بن حوشب ممن تُكلّم فيه، وإن كان كثير من الأئمة قد وثقوه2. فقال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: "عبد الحميد بن بَهرام حديثه عن شهر مقارِب، كان يحفظها كأنه سورة من القرآن، وهى سبعون حديثاً طوال" 3. وشاهد ذلك أن الإمام أحمد، والطبراني رويا من حديث قتادة، عن شهر ابن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري أنه صلى بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى الظهر فقرأ بفاتحة الكتاب يُسمع من يليه ـ وذكر الحديث4. ورواه عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب وذكر في حديثه: فقرأ
بفاتحة الكتاب وسورة يسرهما، وذكر حديثاً طويلاً. أخرجه الإمام أحمد من طريقه1. قال ابن رجب: وهو أصح، وعبد الحميد أحفظ لحديث شهر بن حوشب بخصوصه من غيره. ا.هـ2. الحالة الثالثة: أن يروي الراوي السيء الحفظ عن شيخ عُرف بضبطه لحديثه. وهذه الحالة الثالثة التي لا يعلّ فيها رواية الراوي الموصوف بسوء الحفظ، وذلك إذا روى عن شيخ عُرف بأنه ضابط لحديثه، فلا يؤثر حينئذ سوء حفظه في عدم صحة حديثه عن ذلك الشيخ. فمن ذلك: سلمة بن صالح الأحمر في حديثه عن أبي إسحاق السبيعي وسلمة بن الأحمر ممن أطلقوا الضعف عليه. قال الإمام أحمد في رواية عبد الله: ليس بشيء3. وكذلك قال فيه يحيى بن معين4. وقال في رواية أخرى: ليس بثقة5. وقال النسائي: متروك الحديث6. وقال ابن عدي: هو حسن الحديث، لم أر له متناً منكراً، إنما أرى ربما يهم في بعض الأسانيد7. وقال حنبل بن إسحاق: "سمعت أبا عبد الله يقول: سلمة الأحمر يحدث عن أبي إسحاق أحاديث صحاح، إلا أنه عن حماد مختلط الحديث" 8.
فذكر أن أحاديثه عن أبي إسحاق صحاح، وهذا مع ضعفه البين، وما ذلك إلا لأنه ضبط حديث أبي إسحاق، فضعفه لم يؤثر في روايته عنه، والله أعلم. ومن أمثلة ذلك أيضاً: يحيى بن سُليم الطائفي في روايته عن عبد الله بن عثمان بن خثيم. قال الإمام أحمد في يحيى بن سُليم: "كذا وكذا، والله إن حديثه يعني فيه شيء وكأنه لم يحمده" 1. وقوله في الراوي: كذا وكذا عبارة تليين2. وقال في رواية أبي داود: "يحيى بن سُليم مضطرب الحديث" 3. وقال في رواية المرُّوذي: "كان يُكثر الخطأ" 4. ومع ذلك فقد روى عبد الله عنه أنه قال: "كان قد أتقن حديث ابن خُثيم، كانت عنده في كتاب، فقلنا له أعطِنا كتابك، فقال: أعطوني مصحفاً رهناً. قلنا: مِن أَين لنا مصحفٌ ونحن غُرباء" 5. فهذا يفيد أنه في حالة رواية يحيى بن سليم عن عبد الله بن عثمان بن خثيم يخرج عن الأصل الذي هو إعلال ما تفرد به من حديثه لسوء حفظه وكثرة خطئه. الحالة الرابعة: أن يكون في الحديث قصة ويذكرها الراوي في سياقه لروايته. ذكر هذا الضابط الحافظ ابن حجر عن الإمام أحمد أنه قال: "إذا كان في
الحديث قصة دل على أن راويه حفظه" 1. والظاهر أنه لم يفصل بين أن يكون الراوي من الحفاظ أو لا، فتعمم الحالة حتى في الرواة الموصوفين بسوء الحفظ، ويدل على صحة هذا الضابط أن تذكُّر الراوي للقصة وسبب ورود الحديث يدل على ضبطه له، والله أعلم.
المطلب الثالث: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي عن بعض شيوخه والإعلال به عند الإمام أحمد
المطلب الثالث: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي عن بعض شيوخه والإعلال به عند الإمام أحمد. هناك صنف من الرواة هم في أنفسهم ثقات إلا أن أحاديثهم عن بعض شيوخهم ضُعِّفت لكونهم لم يضبطوها كما ضبطوا غيرها، وأخطؤوا فيها أخطاء بينة، فوصفوا بسوء الحفظ أو الضعف أو الاضطراب في أولئك الشيوخ، فإذا روى واحد من هؤلاء الرواة الثقات الموصوفين بهذا الوصف حديثاً فلا يحكم عليه بالصحة والاستقامة إلا بعد النظر في شيخه في الإسناد، فإن كان ممن ضعِّف فيه أو وصف بالاضطراب أو سوء الحفظ لحديثه فلا يصحح له، ومعرفة هذا من دقائق علم العلل الذي اختص به الأئمة النقاد، ولأهميته أشاد الإمام مسلم بدور أئمة الحديث1، حيث أدركوا هذا النوع من العلل الخفية، وأثبت أن كل من نابذهم وخالفهم في المذهب فلا سبيل له إلى معرفة الحديث ورجاله. ومما يدل على أهمية هذا النوع من العلل أن الجهل به أو الغفلة عنه أوقع كثيراً من الناس في الغلط حيث حكموا على أحاديث بعض الرواة بأنها على شرط الشيخين لمجرد كون الشيخين قد احتجا بكل واحد من رجال الإسناد، وفات إدراكهم أنه لا يستقيم الحكم على الإسناد بأنه على شرطهما إلا إذا احتجا بكل واحد من رجال الإسناد على صورة الاجتماع، بخلاف ما لو كان احتجاجهما بهم على صورة الانفراد كسفيان بن حسين، عن الزهري، فإنهما احتجا بكل منهما على الانفراد، ولم يحتجا برواية سفيان بن حسين عن الزهري لضعف سماعه من الزهري دون بقية مشايخه2.
وقد تكلم الإمام أحمد في أحاديث بعض الرواة الثقات عن بعض شيوخهم، وفيما يلي نماذج من ذلك: إسحاق بن يوسف الأزرق "ت195هـ": قال أبو داود: قيل لأحمد: إسحاق الأزرق ثقة؟ قال: إي والله، ثقة1. وكان إسحاق الأزرق من شيوخ الإما م أحمد. وتكلم في روايته عن سفيان الثوري. قال عبد الله: سمعت أبي يقول: ما كان بمحمد بن يزيد الواسطي بأس، كتبه صحاح، وأصله شامي، روى عن النعمان بن المنذر، وداود بن عمرو. ومحمد بن يزيد2 أثبت من إسحاق الأزرق، الأزرق كثير الخطأ عن سفيان، وكان الأزرق حافظاً، إلا أنه كان يخطىء3. ولم يرد عنه ما يوضح نسبة هذه الكثرة، وهل ألحقته بالضعفاء عن الثوري مثل أبي حذيفة أم لا؟ وقد روى الشيخان لإسحاق الأزرق حديثه عن الثوري4، مما يدل على أنهما انتقيا حديثه وتجنبا أخطاءه. ولذلك لما أخرج البخاري حديثه عن الثوري، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن أنس أنه سأله: أخبرني بشيء علِقتَه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى ... الحديث5، وهو حديث فرد تفرد
به إسحاق عن الثوري كما قال الترمذي1، فأردفه بطريق أبي بكر بن عياش، عن عبد العزيز، وهي متابعة قوية لطريق إسحاق كما قال الحافظ ابن حجر2. ما ذكره الإمام أحمد مما أخطأ فيه الأزرق في حديثه عن الثوري: 1. قال عبد الله: سألت أبي عن حديث إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: ما رأيت أحداً قط أشدَّ تعجيلاً لصلاة الظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الحديث حديث حكيم بن جبير، ليس هذا من حديث منصور، وحدثناه الأزرق عن سفيان، عن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن عائشة، أخطأ لنا فيه، وقال مرة: الأزرق، عن سفيان عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، وأنكر أبي أن يكون هذا من حديث منصور3. هذا الحديث رواه أصحاب الثوري، عنه عن حكيم بن جُبير، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة. هكذا رواه وكيع4، وعبد الرزاق5، والحسين بن حفص6، ويحيى القطان7، وأبو حذيفة، ومؤمل بن إسماعيل8.
فخالفهم إسحاق الأزرق فرواه عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم به كما ذكره عبد الله في هذا السؤال، ورواه البيهقي من هذا الطريق1، فوهم فيه ومن أجل ذلك أنكره الإمام أحمد، وأيضاً نفى أن يكون من حديث منصور، بمعنى أنه لم يرد من وجه معتبر عن منصور. وذكر أيضاً أن الأزرق اضطرب في رواية هذا الحديث، فمرة رواه مثل رواية الجماعة2، ومرة رواه من حديث منصور كما تقدم، ومرة رواه عن سفيان، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن عائشة، وتابعه الفريابي على هذا الوجه الأخير، وهو مما أخطأ فيه الفريابي عن الثوري3. فهذا المثال يوضح ما ذكره الإمام أحمد من خطأ الأزرق عن الثوري. وقد ذكر البخاري أن الحديث فيه اضطراب4، والظاهر أن الاضطراب منفي عن هذا الحديث، لأن الوجوه الأخرى التي رويت منها الحديث تبين خطؤها فانتفت علة الاضطراب، ولذلك لم يعلّه الإمام أحمد بهذه العلة. والحديث في سنده حكيم بن جبير، وقد قال فيه الإمام أحمد: ضعيف الحديث مضطرب5. 2. قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان وشعبة، عن منصور، عن هلال، عن وهب بن الأجدع، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تُصلُّوا بعد العصر إلا أن تصلُّوا والشمس مرتفعة" 6، ثم قال:
وحدثناه إسحاق بن يوسف، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تصلوا بعد العصر، إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة" قال سفيان: فما أدري بمكة يعني أو بغيرها؟ 1. والظاهر من هذا التصرف من الإمام أحمد الإشارة إلى خطأ الأزرق ـ وإن لم يصرح بذلك ـ حيث خالف عبد الرحمن بن مهدي، وخالف رواية شعبة فجعل الحديث من رواية أبي إسحاق. ولذلك قال الدارقطني لما ذكر الحديث في كتابه العلل2: "حدث بهذا الحديث إسحاق الأزرق، عن الثوري بإسناد آخر: عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، ولم يتابع عليه، والصحيح حديث منصور عن هلال بن يساف" 3. جرير بن حازم: عن قتادة: قال الفسوي: حدثني الفضل، سئل ـ يعني أبا عبد الله ـ عن جرير بن حازم وأبي هلال ... قال: إن جرير وهم في أحاديث عن قتادة4. وقال أحمد أيضاً: جرير كان يحدثهم بالتوهم أشياء عن قتادة يسندها بواطيل5. وقال أيضاً: كأن حديثه عن قتادة غير حديث الناس، يسند أشياء ويوقف الناس6.
وقال المروذي: سألته عن جرير بن حازم فقال: في بعض حديثه شيء وليس به بأس1. وقال أيضاً: وذكر جرير بن حازم فقال: كان حافظاً، وقال مرة: في حديثه شيء2. وقال ابن رجب: روايات جرير عن قتادةَ خاصة فيها منكراتٌ كثيرة، لا يُتابع عليها، ذكر ذلك أئمة الحفاظ منهم أحمد، وابن معين وغيرهما3. مثال لما أعله من حديث جرير عن قتادة: وقال عبد الله: سمعت أبي يقول قال عفان جاء أبو جُزيْ ـ واسمه نصر بن طريف ـ إلى جرير بن حازم يشفع لرجل يحدثه جرير، فقال جرير: حدثنا قتادة، عن أنس قال: كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة، قال: فقال أبو جُزي كذَب والله، ما حدثنا قتادة إلا عن سعيد بن أبي الحسن، قال: أبي وهو قول أبي جُزي ـ يعني أصاب ـ وأخطأ جرير4. هذا الحديث رواه أبو داود5، والترمذي6، والدارمي7، والبيهقي8 كلهم من حديث جرير، عن قتادة، عن أنس. ورواه النسائي9، وابن سعد10
من طريق عمرو بن عاصم، عن جرير وهمام، عن قتادة عن أنس به، فهذه متابعة لجرير من همام، لكن عمرو بن عاصم، وهو الكلابي، تكلم فيه من قبل حفظه1، وقال النسائي: ما رواه عن همام غير عمرو بن عاصم2.ا. هـ. فلا يحمل منه هذا التفرد عن همام. وقد خولف جرير في رواية هذا الحديث كما أشار الإمام أحمد، خالفه هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، فرواه عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً. أخرجه أبو داود3، والنسائي4، وابن أبي شيبة5، والبيهقي6. وذكر العقيلي أن شعبة رواه أيضاً هكذا مرسلاً عن سعيد7. وكذلك أبو جزي ـ واسمه نصر بن طريف الباهلي8 ـ كما في هذه الحكاية عن أحمد. وأبو جزي متكلم فيه، بل هو متهم بالوضع9. لكن صوّبه الإمام أحمد وخطّأ جريرَ بن حازم، لأنه
حفظ الوجه الصحيح في هذه الرواية عن قتادة، لأنه وافق هشاماً. وجه إعلال الإمام أحمد لهذا الحديث: أعل الإمام أحمد رواية جرير المسندة وحكم للرواية المرسلة التي ذكرها أبو جزي، وهذا الحديث يمثل ما ذكره الإمام أحمد من أن جرير بن حازم يروي عن قتادة أشياء مسندة، ويخالفه الناس ويوقفونها. والذين خالفوا جريراً في هذا الحديث هم: هشام الدستوائي، وشعبة، وأبو جزي، وهذا الأخير وإن كان ممن لا يكتب حديثه عند الإمام أحمد إلا أنه حفظ الوجه الصحيح، بدليل رواية هشام وشعبة، أما متابعة همام لجرير فلم يرد ما يدل على اعتداده بها، ولعل ذلك راجع إلى تفرد عمرو بن عاصم بها عن همام. وقد تابع جريراً أيضاً أبو عوانة فرواه الطحاوي1 من طريق هلال بن يحيى الرأي، عن أبي عوانة، عن قتادة، عن أنس. وذكره أيضاً ابن حبان في ترجمة هلال في المجروحين2، وقال في هلال بن يحيى: كان يخطئ كثيراً على قلة روايته، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. ا.هـ. فالذي يخطئ كثيراً على قلة روايته يكون متروكاً كما قال الذهبي3، فلا يعتد بهذه المتابعة. وقد وافق الإمام أحمد على إعلال حديث جرير هذا جمع من الحفاظ منهم: الدارمي، قال ـ بعد ذكر رواية جرير ـ هشام الدستوائي خالفه، فقال: قتادة عن سعيد بن أبي الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم الناس أنه هو المحفوظ. ا.هـ4. ووافقه النسائي أيضاً قال: هذا حديث منكر، والصواب
قتادة عن سعيد ابن أبي الحسن. ا.هـ1. ووافقه أيضاً أبو داود، فقال ـ بعد أن ساق حديث جرير، ثم رواية سعيد بن أبي الحسن، ورواية أخرى عن أنس ـ قال: "أقوى هذه الأحاديث حديث سعيد بن أبي الحسن، والباقية ضعاف" 2. وقد أخرج الشيخان لجرير بن حازم عن قتادة، لكن قال الحافظ ابن حجر: ما أخرج له البخاري إلا أحاديث يسيرة توبع عليها3. 2 -أيوب: قال ابن رجب: قال الأثرم: قال أحمد: جرير بن حازم يروي عن أيوب عجائب4. وهذا يفيد وجود ما يستنكر في حديثه عن أيوب. واعتمده الأثرم فأنكر حديثاً لجرير عن أيوب عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يسلمون تسليمة واحدة. قال الأثرم: هذا حديث مرسل5، وهو منكر، وسمعت أبا عبد الله يقول: جريرُ بن حازِم يروي عن أيوب عجائب. ا.هـ. ذكره ابن رجب عنه6. وهذا الحديث الذي ذكره أخرجه البزار في مسنده7.
ورواه ابن أبي شيبة1 عن يونس بن محمد، عن جرير، عن أيوب، عن أنس به، وليس فيه ذكر أبي بكر وعمر. جعفر بن بُرقان ت154هـ: ومن هؤلاء الرواة جعفر بن بُرقان الكلابي أبو عبد الله الرَّقِّي. قال عبد الله: "سألت أبي عن جعفر بن برقان، فقال: إذا حدّث عن غير الزهري فلا بأس، ثم قال: في حديثه عن الزهري يخطىء" 2. وقال الميموني: "قال أبو عبد الله: جعفر بن بُرقان ثقة ضابط لحديث ميمون، وحديث يزيد بن الأصمّ، وهو في حديث الزهري يضطرب ويختلف فيه" 3. قال البرقاني: "قلت لأبي الحسن الدارقطني وأبو الحسين بن المظفر حاضر: جعفر بن بُرقان؟ فقالا جميعاً: قال أحمد بن حنبل: يؤخذ من حديثه ما كان عن غير الزهري، فأما عنه فلا. قلت: لقد لقيه، فما بلاؤه؟ قال الدارقطني: ربما حدّث الثقة عن ابن بُرقان، عن الزهري، ويحدّث الآخر عن ابن بُرقان، عن رجل، عن الزهري، أو يقول: بلغني عن الزهري، فأما حديثه عن ميمون بن مهران، ويزيد بن الأصم فثابت صحيح" 4. وقد ضعفه عن الزهري غير واحد من الحفاظ، منهم يحيى بن معين5، وابن نمير6، ومسلم7، والنسائي8،.......................................
والعقيلي1، وابن عدي2. ولم أقف على حديث لجعفر بن برقان عن الزهري ضعفه الإمام أحمد به، وقد ذكر أبو داود، والنسائي، وابن أبي حاتم، والعقيلي، والدارقطني بعض ما أخطأ فيه من حديثه عن الزهري3. حماد بن سلمة ت167هـ: قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن حماد بن سلمة فقال: حماد بن سلمة من خيار عباد الله الصالحين، ومن جمع من السنة ما جمع! وقال أيوب: هاتوا مثل فتانا حماد4. وقال أيضاً: سمعت أبا عبد الله يقول: قال رجل يوماً: العلم عند شعبة، وسفيان، وحماد، فأنكرت عليه حماد أن يكون مثل شعبة وسفيان، ولم أكن بحديثه عالماً، فلما كتبت حديثه علمت أنه قد صدق، فإن حماداً عالم5. قال ابن عدي: ثنا أحمد بن حفص سئل أحمد بن حنبل يعني وهو حاضر عن حديث لأبي سعيد الخدري فقال: قد رواه حماد بن سلمة، وجعل يُثبته ويَقنع به6. فهذا يدل على أن حماداً عنده حجة.
وذكر ابن عدي أيضاً من طريق محمد بن مطهر المصيصي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حماد بن سلمة عندنا ثقة1. وأما ما رواه البرذعي من طريق محمد بن يحيى النيسابوري قال: قلت لأحمد بن حنبل في علي بن عاصم ـ وذكرت له خطؤه ـ فقال أحمد: كان حماد بن سلمة يخطئ ـ وأومأ بيده ـ خطأ كثيراً، ولم ير بالرواية عنه بأساً. ا.هـ2، فهذا ليس محمولاً على الكثرة المعروفة، بدليل ما تقدم من إطلاق التوثيق عليه والاحتجاج بما تفرد به، فتحمل على كثرة نسبية بالمقارنة بغيره من أهل طبقته من الحفاظ وبالمقارنة بكثرة حديثه. ومع أنه ثقة عنده إلا أنه تكلم في حديثه عن بعض الشيوخ. وقال ابن رجب: وفصل القول في رواياته أنه من أثبت الناس في بعض شيوخه الذين لزمهم كثابت البناني، وعلي بن زيد، ويضطرب في بعضهم الذين لم يكثر ملازمتهم كقتادة، وأيوب وغيرهما3. ومن الشيوخ الذين تكلم الإمام أحمد في حديثه عنهم: 1. أيوب بن أبي تميمة السختياني: ذكر ابن رجب أن الإمام أحمد قال في رواية حنيل: حماد بن سلمة يسند عن أيوب أحاديث لا يسندها الناس عنه4. وهذا أمر إذا كثر دلّ على اختلال في ضبط الراوي5.
وقد أنكر الإمام أحمد على حماد بن سلمة الحديث الذي رواه عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن بلالاً أذّن قبل طلوع الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: "ألا إن العبد قد نام، ألا إن العبد قد نام". ذكره ابن رجب1. والحديث رواه أبو داود2، وعبد بن حميد3، والبيهقي4، والدارقطني5، من طرق عن حماد بن سلمة به. وقال أبو داود: وهذا الحديث لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة6، وقال أبو حاتم مثل ذلك7. وقد بين غير واحد من الحفاظ وجه الخطأ، قال الحافظ ابن حجر: "اتفق أئمة الحديث: علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، والذهلي، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، والأثرم، والدارقطني على أن حمادا أخطأ في رفعه، وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب، وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه، وأن حماداً انفرد برفعه، ومع ذلك فقد وجد له متابع، أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن زَرْبِىّ ـ وهو بفتح الزاي وسكون الراء بعدها موحدة ثم ياء كياء النسب ـ فرواه عن أيوب موصولاً، لكن سعيد ضعيف، ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب أيضا لكنه أعضله فلم يذكر نافعاً ولا ابن عمر ... " 8.
والرواية الموقوفة التي أشاروا إليها هي ما رواه أبو داود من طريق شعيب بن حرب، عن عبد العزيز بن أبي رواد، أخبرنا نافع، عن مؤذن لعمر يقال له مسروح أذن قبل الفجر فأمره عمر فذكر نحوه1. ووجه آخر لإعلال حديث حماد هو ما ذكره الإمام أحمد قال: ثنا شعيب بن حرب، قال: قلت لمالك بن أنس: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يعيد الأذان فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا وشربوا" قلت: أليس قد أمره أن يعيد الأذان؟ قال: لا، لم يزل الأذان عندنا بليل. ذكره ابن الجوزي في التحقيق2. ومع ذلك فليس في هذا إشارة إلى تضعيف حماد بن سلمة في أيوب مطلقاً، وإنما هو تضعيف نسبي بالمقارنة بغيره من أهل الطبقة الأولى من أصحاب أيوب الذين كثرت ملازمتهم له ومعرفتهم لحديثه مثل حماد بن زيد، فقد روى الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله وقيل له: حماد بن سلمة وحماد بن زيد إذا اجتمعا في حديث أيوب أيهما أحب إليك؟ قال: ما فيهما إلا ثقة، إلا أن ابن سلمة أقدم سماعاً، كتب عن أيوب في أول أمره، وحماد بن زيد أشد له معرفة لأنه كان يكثر مجالسته، ومات أيوب وحماد بن زيد سنُّه أربع وثلاثون، وكان حماد كثير المجالسة لأيوب، وكان ألزم الناس له وأطولهم مجالسة. ا.هـ3. ولذلك لما روى حماد بن سلمة عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" 4، أنكروه
عليه، لأن حماد بن زيد، وإسماعيل بن علية روياه عن أيوب مرسلاً1. قال الترمذي: حديث حماد بن زيد أصح من حديث حماد بن سلمة. 2. قيس بن سعد ت119هـ2: قال عبد الله: سمعته ـ يعني أبا عبد الله ـ يقول: قال يحيى بن سعيد القطان: إن كان ما يروي حماد بن سلمة عن قيس بن سعد حقاً فهو ... قلت له: ماذا؟ قال: ذكر كلاماً، قلت: ما هو؟ قال: كذاب. قلت لأبي: لأي شيءٍ هذا؟ قال: لأنه روى عنه أحاديث رفعها إلى عطاء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبي: ضاع كتاب حماد بن سلمة عن قيس بن سعد فكان يحدثهم من حفظه فهذه قضيته3. قال أبو داود: قلت لأحمد: قيس بن سعد؟ قال: ثقة، ولكن زعموا أن كتابَ حماد بن سلمة عنه ضاع، فصار يروي عنه أحاديث يجعلها ... وذكر أحمد: قال يحيى: إن كان ما يروي حماد بن سلمة عن قيس بن سعد قال فتكلم بكلام كأنه ينكره على حماد4. وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو بكر محمد بن المؤمل
ثنا الفضل بن محمد ثنا أحمد بن حنبل ثنا عفان قال: قال حماد بن سلمة: استعار مني حجاج الأحول كتاب قيس فذهب إلى مكة فقال ضاع1. ولم أقف على حديث لحماد بن سلمة عن قيس بن سعد أعله الإمام أحمد به. وقد نسب حماد بن سلمة إلى الخطأ في روايته لحديث صحيفة عمرو بن حزم من طريق قيس بن سعد، واعتبر البيهقي هذا الخطأ شاهداً على ضعفه في حديث قيس بن سعد، وهذا الحديث هو ما أخرجه أبو داود في المراسيل من طريق حماد بن سلمة قال: [قلت لقيس بن سعد خُذ لي كتاب محمد بن عمرو ابن حزم، فأعطاني كتاباً أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لجده فقرأته، فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الأبل ـ فقص الحديث إلى أن يبلغ عشرين ومئة، فإذا كانت أكثر من ذلك فعُد في كل خمسين حقّة، وما فضل فإنه يُعاد إلى أول فريضة الأبل، وما كان أقل من خمسٍ وعشرين ففيه الغنم في كل خمس ذودٍ شاةٌ، ليس فيها ذكر ولا هرمةٌ ولا ذات عوار من الغنم] 2. فقوله: [وما فضُل يعاد إلى أول فريضة الإبل] مخالف لسائر روايات صحيفة عمرو بن حزم، فإن الذي ورد فيها أن الإبل إذا زادت على عشرين ومئة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقّة. هكذا رواه الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ولم يختلف عليه إلا بالوصل والإرسال3. وهذا الذي ورد في كتاب أبي بكر الصديق في فريضة صدقة
رسول الله صلى الله عليه وسلم 1، وكذلك في كتاب عمر2، وفي حديث أبي سعيد الخدري3. فذكر البيهقي من علل هذه الرواية كونها من طريق حماد بن سلمة عن قيس بن سعد، وأن الحفاظ يجتنبون ما ينفرد به عن قيس بن سعد خاصة وأمثاله. ا.هـ4. 3. حماد بن أبي سليمان ت120هـ5: قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: حماد بن سلمة عنده عنه تخليط ـ يعني حماد بن أبي سليمان6. لكنه لم يبلغ عنده إلى حد الساقط فيه. قال الخلال بإسناده عن الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله قيل له: حماد ابن أبي سليمان؟ قال: أما حماد فرواية القدماء عنه مقاربة: شعبةُ، والثوري، وهشام ـ يعني الدستوائي ـ قال: وأما غيرهم فقد جاءوا عنه بأعاجيب. قلت له: حجاج، وحماد بن سلمة؟ قال: حماد على ذاك لا بأس به. قال أبو عبد الله: وقد سقط فيه غير واحد مثل محمد بن جابر، وذاك ـ وأشار بيده، فظننت أنه عنى سلمة الأحمر7 ـ قال الأثرم: ولعله قد عنى غيره8.
ولعل ذلك من قبل حماد بن أبي سليمان، حيث كان بأخرة غلب عليه الفقه ولم يعد يحفظ الآثار كما ينبغي. فقد قال حماد بن سلمة: "كنت أسأل حماد بن أبي سليمان عن أحاديث مسندة، وكان الناس يسألونه عن رأيه، فكنت إذا جئت قال: لا جاء الله بك" 1. وذكر أبو حاتم أنه غلب عليه الفقه، وإذا جاء الآثار شوّش2. ويدل على ذلك أيضاً ما ذكره موسى بن إسماعيل ـ وهو التبوذكي ـ قال: حدثنا حماد بن سلمة أنه قال لابن حماد بن أبي سليمان: كلّم أباك يحدثني. قال: فكلمه قال: فقال حماد: ما يأتيني أحد أثقل علىّ منه. قال: فكنت أقول له: قل سمعت إبراهيم. فكان يقول: إن العهد قد طال بإبراهيم3. وأما الذهبي فعلق على تلك الرواية بقوله: إنما التخليط فيها من سوء حفظ الراوي عنه4. ومهما يكن من أمر فلم يبلغ حديث حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان مبلغ الساقط عند الإمام أحمد كما نص على ذلك، فيحمل ما ذكره من تخليطه عنه على أنه دون القدماء من أصحابه الذين حملوا عنه قديماً قبل أن يغلب عليه الفقه فيقدَّمون عليه عند الاختلاف، والله أعلم. ولم أر حديثاً لحماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان أعله الإمام أحمد من أجله. وقد أعل حديثاً لحماد بن أبي سليمان، رواه عنه حماد بن سلمة، لكن الخطأ فيه من حماد بن أبي سليمان وليس من حماد بن سلمة. قال عبد الله: "حدثني أبي قال: حدثنا عفّان قال: أخبرنا حماد بن سلمة
قال: أخبرنا عاصم بن بهدلة، وحماد بن أبي سليمان، عن أبي وائل، عن المغيرة ابن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سُباطة قوم فبال قائماً. قال حماد بن أبي سليمان: ففحج رجليه. قال أبي: منصور والأعمش أثبت من حماد وعاصم" 1. وحديث حماد بن سلمة أخرجه أحمد2، وعبد بن حميد3، وابن خزيمة4، والطبراني5. وقد تابعه أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان6. وحديث منصور والأعمش عند الشيخين، كلاهما عن أبي وائل عن حذيفة7. وفي قول الإمام أحمد: منصور والأعمش أثبت من حماد وعاصم، ترجيح لروايتهما وإسناد الخطأ إلى حماد وعاصم. وقد وافق الإمام أحمد على تخطئتهما كل من الترمذي8، والدارقطني9. فالخطأ في هذه الرواية إذاً من حماد بن أبي سليمان، وليس من حماد بن سلمة، ويؤيد ذلك متابعة أبي حنيفة له. الحسن بن بشر الهمداني الكوفي ت221هـ10: تكلم الإمام أحمد في حديثه عن زُهير بن معاوية الجعفي.
أما هو في نفسه فقد تردد فيه الإمام أحمد، ثم جزم بأنه لا بأس به1. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الحسن بن بشر بن سالم الكوفي فقال: ما أدري أخبرك، قد روى عن زهير، عن أبي الزبير، عن جابر في الجنين2. وقال الأثرم أيضاً: سمعت أبا عبد الله سُئل عن الحسن بن بشر بن سلم الكوفي فقال: ما أرى به بأساً في نفسه، روى عن زهير أشياء مناكير3. ما أعله من حديثه عن زهير: أشار إليه في رواية الأثرم المتقدمة، حيث قال: قد روى عن زهير، عن أبي الزبير، عن جابر في الجنين، وهذا استنكار منه للحديث. وحديث الجنين هو حديث: [ذكاة الجنين ذكاة أمه] ، أخرجه ابن الجعد4، وابن عدي5، وأبو الشيخ6، والحاكم7، والبيهقي8 من طرق عن الحسن ابن بشر، عن زهير بن معاوية، به. وقال ابن عدي: هذا حديث زهير عن أبي الزبير ليس يرويه غير الحسن. ا.هـ.
وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: ذكره الإمام أحمد كشاهد على المناكير التي يرويها الحسن بن بشر عن زهير، ووجه نكارته أن الحسن بن بشر تفرد به عن زهير، ولا يحتمل من مثله هذا التفرد عن حافظ مكثر مثل زهير. ورواية الراوي الذي لم يشتهر بالحفظ والإتقان عن حافظ مكثر ما لا يرويه غيره من أصحاب ذلك العَلم دليل على ضعفه. ووافق أبو داود الإمام أحمد على إنكار هذا الحديث على الحسن بن بشر1. والحديث رُوي عن أبي الزبير من وجوه أخرى: منها عن حماد بن شعيب2، أخرجه أبو يعلى3، وابن عدي4. ومنها عن عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي5، أخرجه أبو داود6، والدارمي7، والحاكم8. وذكر ابن حبان أن الحسن بن بشر سمع هذا الخبر عن حماد بن شعيب فرواه عن زهير بن معاوية، عن أبي الزبير ووهم فيه9. فإن ثبت هذا ظهر جلياً كيف جاءت النكارة في حديث الحسن بن بشر عن زهير بن معاوية.
ومتن الحديث معروف من وجوه أخرى منها عن أبي سعيد الخدري1، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن جابر، وأبي أمامة، وأبي الدرداء، وأبي هريرة. ا.هـ2، وصححه ابن حبان أيضاً. والحسن بن بشر من رجال البخاري، لكن لم يخرج له عن زهير بن معاوية، وقال الحافظ ابن حجر: لم يخرج عنه من أفراده شيئاً، ولا من أحاديثه عن زهير التي استنكرها أحمد3. عكرمة بن عماّر اليمامي: قال أحمد في رواية حرب: هو في غير يحيى ثبت. ذكره ابن رجب4. وذكر الساجي توثيقه عن الإمام أحمد5. وقد قدمه الإمام أحمد على ملازم بن عمرو، مع أن الأخير ثقة عنده6، واحتج لذلك بأن شعبة روى عنه أحاديث7. وأما أبو داود فذكر أن الإمام أحمد قدم ملازم بن عمرو عليه8، والظاهر أن المقصود أنه مقدم عليه في يحيى بن أبي كثير خاصة، والله أعلم.
وتكلم الإمام أحمد في حديثه عن يحيى بن أبي كثير، ووصفه بالاضطراب فيه1. قال عبد الله: قال أحمد: أحاديث عكرمة بن عمّار عن يحيى بن أبي كثير ضعاف ليس بصحاح. قلت له: من عكرمة أو مِن يحيى؟ قال: لا، إلا من عكرمة. وقال في موضع آخر: أتقن حديث إياس بن سلمة2 ـ يعني عكرمة3. وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أحمد بن حنبل يضعف رواية أيوب ابن عتبة وعكرمة بن عمّار عن يحيى بن أبي كثير، وقال: عكرمة أوثق الرجلين4. وقد ذكر يحيى القطان أيضاً تضعيف عكرمة بن عمار في حديثه عن يحيى بن أبي كثير، وكذلك علي بن المديني، والبخاري، وأبو حاتم، وأبو داود، والنسائي5. ما أعله الإمام أحمد من حديث عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير 6:
1. ذكر ابن رجب أن الإمام أحمد أنكر عليه حديثه عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله في استفتاح النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بالليل. ا.هـ1. والحديث لفظه: [قال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: سألت عائشة أم المؤمنين بأي شء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: "اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطرَ السموات والأرض عالمَ الغيب والشَّهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" 2. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. والظاهر أنه يشير إلى تفرد عكرمة بن عمار
به، وهو وجه علة الحديث، إذ لم يوجد لعكرمة متابع عن يحيى. قال الحافظ أبو الفضل ابن عمار الشهيد: "هو حديث تفرد به عكرمة بن عمار عن يحيى، وهو مضطرب في حديث يحيى بن أبي كثير، يقال: إنه ليس عنده كتاب، وحدثني أحمد بن أبي الفضل المكي: حدثنا صالح بن أحمد، ثنا علي، قال: سألت يحيى ـ يعنى القطان ـ عن أحاديث عكرمة بن عمار ـ يعني عن يحيى بن أبي كثير ـ فضعفها وقال: ليست بصحاح"، ثم ذكر ما رواه أبو زرعة الدمشقي عن أحمد في هذا المعنى1. وكلام ابن عمار في هذا الحديث موافق لإنكار الإمام أحمد للحديث، وفيه انتقاد للإمام مسلم في تخريجه للحديث في الأصول، ولعل وجه إخراج الإمام مسلم له اجتماع عدد من الرواة ـ وهم خمسة ثلاثة منهم ثقات ـ على رواية الحديث على وجه واحد، مما يدل على عدم اضطراب عكرمة في رواية هذا الحديث وضبطه له. وكونه يضطرب عن يحيى بن أبي كثير لا يدل على عدم إصابته مطلقاً فيما رواه عنه، إنما يدل على اجتناب ما ظهر خطؤه فيه، وأما ما ظهرت فيه ملامح الإصابة فإنه مقبول، ولا مطعن له فيه. ويؤيد ذلك أن الإمام النسائي أيضاً لما أخرج الحديث سكت عليه، مما يقتضي أنه لا علة له عنده كما ذكر ذلك ابن حجر من منهجه2. 2. وذكر ابن رجب أيضاً أن الإمام أحمد أنكر عليه حديثه عن يحبى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" 3.
هذا الحديث رواه أبو حذيفة1، وغسان بن عبيد2 كلاهما عن عكرمة ابن عمار، عن يحيى به. ولم يذكر ابن رجب هنا وجه إعلال الحديث عند الإمام أحمد، وإنما ذكره في أول شرحه على الترمذي. واختلف العقيلي وابن عدي في وجه إعلال الحديث، فقال العقيلي: لا يتابع عليه عكرمة، ثم أسند من طريق سليمان بن بلال، وعبد العزيز بن أبي حازم وغيرهما عن كثير بن زيد، عن وليد بن رباح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا أصلح من حديث عكرمة3. وحديث سليمان بن بلال وابن أبي حازم أخرجهما أبو عوانة4. وأما ابن عدي فأعل الحديث بأن غير اللذين رويا الحديث على هذا الوجه عن عكرمة أوقفوه على أبي هريرة5، فجعل العلة ممن دون عكرمة. ولم أقف على رواية الوقف التي أشار إليها. ومتن الحديث معروف من حديث ابن عمر عند مسلم6، ومن حديث أبي المليح عن أبيه عند أبي داود وغيره7، وصحح ابن حجر حديث أبي المليح8.
عمر بن إبراهيم العبدي، أبو حفص البصري: وثقه أحمد في رواية حرب بن إسماعيل، وقال: ثقة، لا أعلم إلا خيراً1. وكذلك وثقه ابن معين، وعبد الصمد بن عبد الوارث2. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به3. وقد تكلم الإمام أحمد في حديثه عن قتادة، قال العقيلي: قال أبو عبد الله: يروي عن قتادة أحاديث مناكير ويخالف4، ورواه عن أحمد يعقوب بن شيبة5. وكذلك قال ابن عدي6، وابن حبان7. أما يحيى بن معين فوثقه في قتادة. قال عثمان بن سعيد الدارمي: فعمر ابن إبراهيم في قتادة؟ قال: ثقة8. وذكر العقيلي عن الإمام أحمد أن عباد بن العوامّ روى عن عمر بن إبراهيم حديثاً منكراً. قال العقيلي: وهذا الحديث حدثناه محمد بن أيوب، وجعفر بن محمد الزعفراني، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى الفرّاء، قال: حدثنا عباد بن العوام، عن عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن العباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخِّروا المغربَ حتى تشتبك النُّجومُ" 9.
والحديث رواه من هذا الوجه ابن ماجه1، وابن خزيمة2، والطبراني3 والبيهقي4. ووجه نكارة الحديث أنه لا يرويه عن قتادة بهذا الإسناد إلا عمر بن إبراهيم. قال ابن عدي: "وهذا لا أعلم رواه عن قتادة بهذا الإسناد غير عمر ابن إبراهيم ... " 5. أما المتن فقد روي بأسانيد أصلح منه كما قال العقيلي. ومن تلك الأسانيد ما رواه أبو داود6، وأحمد7، وابن خزيمة8، والطبراني9، والحاكم10، والبيهقي11 من طرق عن ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن أبي أيوب الأنصاري بمثل هذا اللفظ. وصححه الحاكم12، والألباني13. إلا أنه معلول، فقد رواه حيوة ابن شريح، وابن لهيعة، وعبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران التجيبي، عن أبي أيوب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بادروا بصلاة المغرب طلوع النجوم". ذكره ابن أبي حاتم من طريق حيوة وابن لهيعة14. وأخرجه
أحمد1، والطبراني2، والدارقطني3 من طريق ابن لهيعة. وأخرجه الطبراني من طريق عبد الحميد بن جعفر، وحيوة بن شريح4، لكن لفظ حديث حيوة: كنا نصلي المغرب حين تجب الشمس. قال أبو زرعة الرازي: "حديث حيوة أصح" 5. وهذه العلة ليست قادحة، فإن غايتها إبدال راوٍ ثقة بآخر ثقة مثله، فإن كلاً من مرثد بن عبد الله اليزني الراوي عن أبي أيوب في إسناد ابن إسحاق، وأسلم أبي عمران الراوي في إسناد حيوة ومن معه، كل منهما ثقة6. وروي الحديث من حديث السائب بن يزيد أيضاً، أخرجه أحمد7، والطبراني8، والبيهقي9، ولفظه: "لا نزال أمتي على الفطرة ما صلوا المغرب قبل طلوع النجوم". وفي سنده عبد الله بن الأسود القرشي، قال أبو حاتم: لا أعلم روى عنه غير ابن وهب10، فهو في حكم المجهول. وكلا الإسنادين أصلح من إسناد عمر بن إبراهيم العبدي عن قتادة. وذكر ابن عدي والعقيلي أحاديث أخرى لعمر بن إبراهيم عن قتادة مما لم يوافقه عليها أحد11.
عمرو بن الحارث المصري 1: أثنى عليه الإمام أحمد في رواية أبي داود. قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: ليس فيهم ـ يعني أهل مصر ـ أصح حديثاً من الليث، وعمرو بن الحارث يقاربه" 2. وقال الأثرم: "سمعت أبا عبد الله يقول: ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث بن سعد، لا عمرو بن الحارث ولا أحد، وقد كان عمرو بن الحارث عندي، ثم رأيت له أشياء مناكير" 3. والمقصود بالمناكير هي في روايته عن قتادة. قال الأثرم: "عمرو بن الحارث حمل عليه ـ يعني الإمام أحمد ـ حملاً شديداً، قال: يروي عن قتادة أحاديث يضطرب فيها ويخطئ" 4. ونقل العيني عن الإسماعيلي أنه قال: "تكلم أحمد في حديث عمرو، عن قتادة، أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمُحَصَّب، ثم ركب إلى البيت فطاف به" 5. والحديث رواه البخاري6، من طريق عمرو بن الحارث، عن قتادة به، ثم قال البخاري: "تابعه الليث: حدثني خالد، عن سعيد، عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم"، فلم ينفرد عمرو بن الحارث به عن قتادة، فهو مما يدفع
الإنكار عنه في روايته له عن قتادة. قال الدكتور صالح الرفاعي: "وما تقدم عن الإمام أحمد في رواية عمرو بن الحارث عن قتادة إنما هو من قبيل التضعيف النسبي، وذلك أن الإمام أحمد كان يرى أن عمرو بن الحارث أثبت المصريين كما تقدم، ثم لما رأى له بعض الأخطاء قدّم الليث بن سعد عليه، فذكر ما تقدم في مجال تِعداد أخطاء عمرو التي جعلته يقدم الليث بن سعد عليه" 1. قبيصة بن عُقبة السُّوائي الكوفي ت215هـ: تلكم الإمام أحمد في حديثه عن سفيان الثوري. قال حنبل بن إسحاق: "قال أبو عبد الله: كان يحيى بن آدم أصغر من سمع من سفيان عندنا، قال: وقال يحيى: قبيصة أصغر مني بستنين. قلت له: فما قصة قبيصة في سفيان؟ فقال أبو عبد الله: كان كثير الغلط قلت له: فغير هذا؟ قال: كان صغيراً لا يضبط. قلت له: فغير سفيان؟ قال: كان قبيصة رجلاً صالحاً ثقة، لا بأس به في بدنه، وأي شيء لم يكن عنده في الحديث، يذكر أنه كثير الحديث" 2. فذكر وجهين لطعنه في حديثه عن الثوري: استصغاره حين سمع منه، وكثرة غلطه في حديثه عنه. والظاهر أن الإمام أحمد ذكر صغر سنه للتعليل به لكثرة غلطه في حديثه عن الثوري، وإلا فسماعه من الثوري كان بعد سن التمييز، فذكر هارون بن عبد الله الحمَّال أنه سمع قبيصة يقول: "جالست الثوري وأنا ابن ست عشرة سنة ثلاثَ سنين" 3.
وقد ردّ محمد بن عبد الله بن نمير على من استصغر قبيصة في الثوري، فقال أبو زرعة الدمشقي: "حدثني أحمد بن أبي الجواري قال: قلت للفريابي: رأيت قبيصة عند سفيان؟ قال: نعم، رأيته صغيراً. قال أبو زرعة: فذكرته لمحمد بن عبد الله بن نمير فقال: لو حدثنا قبيصة عن النخعي لقبلنا منه" 1. وممن تكلم في حديث قبيصة عن الثوري يحيى بن معين؛ قال في رواية ابن أبي خيثمة: "قبيصة ثقة في كل شيء إلا في حديث سفيان، ليس بذاك القوي" 2. وقال يعقوب بن شيبة: "كان ثقة صدوقاً فاضلاً، تكلموا في روايته عن سفيان خاصة، وكان ابن معين يضعف روايته عن سفيان" 3. وقال صالح بن محمد الحافظ: "كان رجلاً صالحاً إلا أنهم تكلموا في سماعه من سفيان" 4. وقد ذكر الإمام أحمد بعض ما غلط فيه قبيصة من حديثه عن الثوري، منها: قال عبد الله: "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال حدثنا قبيصة، قال أخبرنا سفيان، عن عمران بن مسلم، عن سُويْد بن علقمة، قال سمعت عمر يقول: لو استطعت الأذان مع الخِلِّيفِي5 لفعلتُ. فحدثت أبي هذا الحديث، فقال: ليس هذا من حديث عمران بن مسلم إنما هو من حديث إسماعيل أو بيان عن قيس، توهمَّه قبيصة" 6.
هذا الأثر رواه محمد بن فُضيل، عن بيان بن بشر، عن قيس، عن عمر؛ ورواه يزيد بن هارون، ووكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن عمر. أخرج الطريقين ابن أبي شيبة1. فخطّأ الإمام أحمد رواية قبيصة، حيث وهِم على الثوري فذكر الحديث من طريق عمران بن مسلم، وليس بصحيح. ومنها: قال أبو داود: "سمعت أحمد سئل عن حديث قبيصة، عن سفيان، عن سلمة بن كُهيل، عن مسلم البطّين، عن أبي العُبيدَين، عن عبد الله: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43] قال: السَّفّاكين الدماء. قال أحمد: ليس من هذا شيء، يُنكره على قبيصة" 2. أبو العبيدين هو معاوية بن ميسرة السوائي الكوفي، سمع ابن مسعود، روى عنه مسلم البطين، ويحيى بن الجزار3. والأثر أخرجه البخاري في ترجمته4. ولم يتبين لي وجه إنكار الإمام أحمد لهذه الرواية إلا أن يكون قبيصة تفرد بها عن الثوري، وليس ممن يقبل تفرده عن الثوري. وهذا التفسير قد روي من أوجه أخرى عن مجاهد بن جبر5.
وكثرة غلط قبيصة في روايته عن الثوري أمر نسبي، وليس تضعيفاً مطلقاً لروايته عن الثوري، فقد ذكر للإمام أحمد كما في رواية ابنه عبد الله قبيصة وأبا حذيفة فقال: "قبيصة أثبت منه جداًّ ـ يعني في حديث سفيان ـ أبو حذيفة شبه لا شيء، وقد كتبتُ عنهما جميعاً" 1. فكثرة غلطه لم يوصله إلى حد التضعيف في الثوري الذي يفهم من قول أحمد في أبي حذيفة: شبه لا شيء، فيحمل ذلك على كثرة الغلط بالنسبة للحفاظ من أصحاب الثوري مثل يحيى القطان، وابن مهدي، ووكيع، وقد سمع أحمد منهم جميعاً2. وقد كان قبيصة من الحفاظ، قال أبو حاتم: "لم أر من المحدثين من يحفظ ويأتي بالحديث على لفظ واحد لا يغيره سوى قبيصة، وأبي نعيم في حديث الثوري، ويحيى الحماني في حديث شريك، وعلي بن الجعد في حديثه" 3. وقال الفضل بن سهل الأعرج: "كان قبيصة يحدث بحديث الثوري على الولاء درساً درساً حفظاً" 4. فمن كان بهذه المثابة في تحديثه من حفظه، لا يستبعد أن يقع في بعض الأغلاط بالنسبة لغيره ممن هو أحفظ منه، لا سيما وقد كان كثير الحديث عن الثوري. فذكر الحافظ ابن حجر عن الحسن بن معاوية بن هشام أنه كان عند قبيصة عن الثوري سبعة آلاف حديث5.
وقد أخرج الشيخان لقبيصة عن الثوري، لكن قال الحافظ ابن حجر: "أخرج عنه البخاري أحاديث عن سفيان الثوري وافقه عليها غيره" 1. محمد بن عبد الله بن الزبير، أبو أحمد الزبيري ت203هـ: قال أحمد: "يأتي بما لا يرويه عامة الناس، وما به بأس" 2. وتكلم في حديثه عن الثوري: قال حنبل بن إسحاق: "قال أبو عبد الله: أبو أحمد الزبيري كان كثير الخطأ في حديث الثوري" 3. ومع ذلك فقد قدّمه الإمام أحمد في سفيان الثوري على معاوية بن هشام القصّار، وزيد بن الحُباب، وكل واحد منهما ثقة لكن موصوف بكثرة الخطأ4. وقد وثق أبا أحمد الزبيري ابن معين وقال فيه أبو زرعة وابن خراش: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس5، وقد أخرج له الشيخان عن الثوري، لكن قال ابن حجر: ما أظن البخاري أخرج له شيئاً من أفراده عن سفيان6. ولم أقف على ما أعله الإمام أحمد من حديثه عن الثوري.
أبو معاوية محمد بن خازم التميمي الضرير ت195هـ1: كان من شيوخ الإمام أحمد. وقال أحمد: أبو معاوية من أحفظ أصحاب الأعمش2. وتكلم الإمام أحمد في حديثه عن هشام بن عروة. قال أبو داود: "قلت لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام بن عروة؟ قال: فيها مضطربة، يرفع منها أحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم" 3. ومما أخطأ فيه من حديثه عن هشام بن عروة: قال عبد الله: "ذكرت لأبي حديث أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه يوم النحر صلاة الصبح بمكة. قال أبي: فذكرت ذلك ليحيى بن سعيد فقال: هشام قال: أخبرني أبي مرسلاً، وقال: تُوافي، لأن أبا معاوية قال: توافيه، وأخطأ فيه، فقال لي يحيى: سَل عبد الرحمن، فسألته، فحدثني، عن سفيان، عن هشام، عن أبيه مرسلاً، وقال: تُوافي مثل ما قال يحيى عن هشام، وابن عيينة مثل يحيى وعبد الرحمن، وأخطأ وكيع فيه: قال: توافي بمنى، أخطأ لأن الحديث قال: توافي يوم النحر، فقال وكيع: بمنى، وأخطأ فيه" 4. وروى الأثرم قريباً من هذا، قال: "قال لي أبو عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل رحمه الله ـ حدثنا أبو معاوية، عن هِشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه يوم النحر بمكة، ولم يُسند ذلك، وهو خطأ، قال أحمد: وقال وكيع، عن هشام، عن أبيه مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة1 أو نحو هذا، قال: وهذا أيضاً عجيب، ما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بمكة، قال: فجئت إلى يحيى بن سعيد القطان فسألته فقال: عن هشام، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي ليس فيه هاء. قال أحمد: وبين هذين فرق قال: وقال لي يحيى: سل عبد الرحمن، هو ابن مهدي، فسألته فقال: هكذا عن سفيان، عن هشام، عن أبيه: توافي. ثم قال لي أبو عبد الله: رحم الله يحيى، ما كان أضبطه، وأشدّه، كان محدثاً، وأثنى عليه فأحسن الثناء عليه" 2. رواية أبي معاوية أخرجها مسلم3، وإسحاق4، والطحاوي5، والطبراني6، والبيهقي7، وذكرها البخاري تعليقاً8، كلهم عن أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: [أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر أن توافي معه صلاة الصبح بمكة] . وذكر الإمام أحمد أن أبا معاوية أخطأ في روايته هذه عن هشام بن عروة في موضعين: الأول في وصلها، والثاني في لفظها حيث قال: [توافيه يوم النحر صلاة الصبح
بمكة] . وإنما حكم الإمام أحمد على روايته بالخطأ لأن غيره ممن هو أحفظ منه في هشام قد خالفه، فرواه يحيى القطان، عن هشام عن أبيه مرسلاً، وقال في لفظه: [توافي يوم النحر صلاة الصبح بمكة] . ذكر الإمام أحمد هذه الرواية، وذكرها مسلم أيضاً تعليقاً، وذكر أنها رواية عبدة بن سليمان عن هشام1. وكذلك روى الحديث عبد الرحمن بن مهدي، عن الثوري، عن هشام فيما ذكره الإمام أحمد. ورواه ابن عيينة، عن هشام. أخرج روايته مسلم2. ورواه حماد بن سلمة3، وعبد العزيز الدراوردي4، وعبد الله بن جعفر الزهري5 كلهم عن هشام، عن أبيه قال: [دار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة يوم النحر فأمرها أن تعجل الإفاضة من جمع حتى تأتي مكة فتصلي بها الصبح، وكان يومها فأحب أن توافقه] ، وفي لفظ حماد بن سلمة: [فرمت جمرة العقبة وصلت الفجر بمكة] . وهناك وجه من النظر قاض بخطأ رواية أبي معاوية، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح في حجته يوم النحر بالمزدلفة، وتلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يأمر أم سلمة أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة، وهو حينئذ يصلي بالمزدلفة؟ 6. فهذا مثال لما أخطأ فيه أبو معاوية في حديثه عن هشام بن عروة. وحديث أبي معاوية عن هشام مخرج عند الجماعة7، لكن قال ابن حجر: لأبي معاوية عند البخاري عن هشام بن عروة عدة أحاديث توبع عليها8.
والظاهر أن الإمام مسلماً أيضاً تجنب تلك الأحاديث التي أخطأ فيها عن هشام، بدليل ما ذكره في "كتاب التمييز" من خطئه في حديث هشام بن عروة، والعلم عند الله. وتكلم الإمام أحمد أيضاً في حديث أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر العمري. قال أحمد: "هو يضطرب في أحاديث عبيد الله ـ يعني ابن عمر" 1. قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: كان أبو معاوية يخطئ في غير شيء عن عبيد الله، ذكر منها في المطلقة والمتوفى عنها في العدة، قال أحمد: ليس أحد يقول المطلقة غيره" 2. وهذا الأثر الذي ذكره الإمام أحمد لم أهتد إليه، وقد روى أبو معاوية، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في المرأة يطلقها زوجها ثم يموت عنها قال: [عدتها من يوم طلقها، ومن يوم يموت عنها] . أخرجه ابن أبي شيبة3. فلعله يقصده. ولم أقف على مثال آخر عن الإمام أحمد لما أخطأ فيه أبو معاوية عن عبيد الله العمري4.
معمر بن راشد الأزدي ت154هـ: تكلم الإمام أحمد في حديثه عن الأعمش، قال: "أحاديث معمر عن الأعمش التي يغلط فيها، ليس هو من عبد الرزاق، إنما هو من معمر، يعني الغلط" 1. وأما غير الإمام أحمد كابن معين، والأثرم، الدارقطني، فذكروا أنه سيئ الحفظ جداًّ عن الأعمش2. وقد روى الفسوي ما يدل على سبب ذلك: قال: سمعت زيد بن المبارك، يذكر عن محمد بن ثور، عن معمر قال: سقطت مني صحيفة الأعمش، فإنما أتذكر حديثه، وأحدث من حفظي" 3. فمن هذا السبب وقعت الأخطاء في روايته عن الأعمش. ولم يخرج الأئمة الستة شيئاً من حديثه عن الأعمش4. قال ابن حجر: لم يخرج له البخاري من روايته عن الأعمش شيئاً5. مُغيرة بن مِقسَم ت136هـ: قال عبد الله: وسمعته ـ أبا عبد الله ـ وذكر مُغيرة بن مِقسَم الضبي، فقال: كان صاحب السنة ذَكِيًّا حافظاً، وعامة حديثه عن إبراهيم مدخول، عامة ما روى عن إبراهيم إنما سمعه من حماد ومن يزيد بن الوليد والحارث العكلي وعن عبيدة وعن غيره، وجعل يضعف حديث المغيرة عن إبراهيم وحده6.
كان أحمد يضعف حديث مغيرة بن مِقسَم عن إبراهيم النخعي وحده1. ونقل ابن حجر عن أحمد أنه قال: كان يدلسها كان سمعها من حماد2. أبو بكر بن عياش: قال أحمد: قد اختلفوا في اسمه وغلبت عليه كنيته3. وقد وثقه أحمد في رواية ابنه صالح فقال: صدوق ثقة صاحب قرآن وخير4. وقال في رواية عبد الله: ثقة ربما غلط5. يشير بهذا إلى أنه دون الحفاظ المتقنين، ومن أجل ذلك قال: ليس هو مثل زائدة، وزهير، وسفيان6 يعني من الحفاظ الكوفيين ممن هم في طبقته. وكذلك قدم عليه إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق. قال مهنا بن يحيى: سألت أحمد بن حنبل أيهما أحب إليك: إسرائيل أو أبو بكر ابن عياش؟ فقال: إسرائيل. قلت لم؟ قال: لأن أبا بكر كثير الخطأ جداً. قلت: كان في كتبه خطأ؟ قال: لا، كان إذا حدّث من حفظه7. وهذه الرواية تشير إلى أن أبا بكر بن عياش عند الإمام أحمد كان كثير الخطأ إذا حدّث من حفظه، وأما كتابه فهو صحيح، ومع ذلك فقد جعله مقارب الحديث عن بعض الشيوخ، وجعله عن البعض الآخر مضطرب الحديث،
فجعله مضطرب الحديث عن: 1. صغار الشيوخ دون كبارهم: قال الفسوي: حدثني الفضل ـ يعني ابن زياد ـ قال: سألت أبا عبد الله قلت: "الأسود بن عامر، عن أبي بكر بن عياش، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لم تُحبس ـ أو تردّ ـ الشمسُ على أحد إلا يوشع بن نون" قال: نعم هكذا أو نحو هذا. قلت: رواه غير الأسود عن أبي بكر؟ قال: لم أسمعه إلا من الأسود. ثم قال أبو عبد الله: أبو بكر يضطرب في حديث هؤلاء الصغار، فأما حديثه عن أولئك الكبار ما أقربه، عن أبي حصين، وعاصم، وإنه يضطرب عن أبي إسحاق أو نحو ذا" 1. فذكر أن من كبار شيوخه أبي حَصين ـ عثمان بن عاصم ـ وعاصم ابن أبي النجود، ومن صغارهم هشاماً وهو ابن حسّان القردوسي البصري. وأبو حصين وعاصم من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الكوفة عند خليفة بن خياط2، وفي هذه الطبقة من شيوخ أبي بكر بن عياش يوجد: حصين بن عبد الرحمن السلمي3، وأبو إسحاق السبيعي4، وعبد العزيز بن رُفيع5، وكذلك سفيان
ابن دينار التّمّار1، وغيرهم. وفي طبقة الصغار: حميد الطويل2، والأعمش3، وإسماعيل بن أبي خالد4، وأبو إسحاق الشيباني5 وغيرهم. وبناء على ما ذهب إليه الإمام أحمد من تضعيف حديث أبي بكر بن عياش عن صغار شيوخه فقد أنكر بعض ما تفرد به عن هؤلاء الشيوخ أو خالف فيه غيره ممن هو أولى منه. فمما أنكره مما تفرد به عن بعض صغار شيوخه ما تقدم ذكره في رواية الفضل بن زياد عن الإمام أحمد أنه أنكر الحديث الذي رواه بلفظ: "لم تُحبس ـ أو تردّ ـ الشمسُ على أحد إلا يوشع بن نون". وهذا الحديث أخرجه أحمد في المسند6، والطحاوي7، والخطيب8 كلهم من طريق الأسود بن عامر، عن أبي بكر بن عياش، عن هشام بن حسان،
عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليُوشع لياليَ سار إلى بيت المقدس". وقد أعله الإمام أحمد في هذه الرواية عن الفضل بن زياد بأنه من رواية أبي بكر بن عياش عن هشام بن حسان، وهو من صغار شيوخه وروايته عنهم فيها اضطراب. وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: والذي يظهر أن ذلك راجع إلى تفرد أبي بكر بن عياش برواية الحديث من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة بهذا اللفظ الذي تضمن ذكر يوشع بن نون، فالحديث قد روي من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة بغير هذا اللفظ. أخرجه الشيخان من هذا الوجه بلفظ: "غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعْني رجل ملك بُضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يَبنِ بها، ولا أحدٌ بنى بيوتاً لم يرفع سقوفها، ولا آخر اشترى غنماً أو خَلِفات وهو ينتظر وِلادَها، فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريباً من ذلك فقال للشمس: إنكِ مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحُبست حتى فتح الله عليهم ... " 1. وروي أيضاً من حديث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة؛ رواه النسائي2، وأبو عوانة3، وابن أبي عاصم4 وابن حبان5 كلهم من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه عن قتاة، عن سعيد به بمثل لفظ حديث همام بن منبه. فليس في الروايتين تسمية النبي الذي حبست له الشمس، وإنما ورد هذا من
رواية أبي بكر بن عياش، عن هشام، عن ابن سيرين، وكذلك ورد في حديث سعيد المقبري، عن أبي هريرة لكنه من قول كعب الأحبار وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه الطبراني1، والحاكم2 بمثل حديث همام وابن المسيب وفيه في آخر الحديث: [فقال كعب ـ وهو عند أبي هريرة ـ: صدق الله ورسوله، هكذا في كتاب الله يا أبا هريرة، هل حدثكم نبي الله صلى الله عليه وسلم أي نبي كان؟ قال: لا، قال كعب: يوشع بن نون، صاحب موسى، فأخبركم أي مدينة هي؟ قال: لا، قال: هي مدينة أَريحا] . فإضافة تسمية النبي صاحب القصة إلى كعب الأحبار أولى من إضافتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يرد ذلك من طريق سالم من العلة، فأبو بكر بن عياش وإن كان ثقة، فإنه يضطرب في حديثه عن صغار شيوخه مثل هشام بن حسان شيخه في هذا الحديث ولا يضطبه جيداً، فلا يقبل ما يتفرد به، وخاصة أن ما ذكره معروفٌ من وجه آخر أنه ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في نظري هو وجه إعلال الإمام أحمد لحديث أبي بكر بن عياش، حيث جعل ما كان أصله قولاً لكعب مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اعتمد الحافظ ابن حجر إسناد أبي بكر بن عياش هذا فقال: وقد ورد أصل تسمية هذا النبي من طريق مرفوعة صحيحة، وقال: رجال الإسناد محتج بهم في الصحيح3، ومن قبله قال ابن كثير عن الإسناد: هو على شرط البخاري4. والحديث ليس على شرط البخاري، لأن البخاري ما أخرج لأبي بكر بن عياش عن هشام بن حسان، وليس الإسناد من شرط الصحيح، لأن
رجاله وإن كانوا محتجاً بهم في الصحيح لكن ليس ذلك على صورة الاجتماع. وكذلك صحح الشيخ الألباني هذا الإسناد1، واعتمد على التفصيل الذي ذكره ابن حبان في حالة أبي بكر بن عياش حيث قال ابن حبان: "كان أبو بكر بن عياش من الحفاظ المتقنين، يروى عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وقد روى عنه ابن المبارك وأهل العراق، وكان يحيى القطان وعلى بن المديني يسيئان الرأي فيه، وذلك أنه لما كبر سنه ساء حفظه، فكان يهم إذا روى، والخطأ والوهم شيئان لا ينفك عنهما البشر فلو كثر خطؤه حتى كان الغالب على صوابه لا يستحق مجانبة رواياته، فأما عند الوهم يهم أو الخطأ يخطىء لا يستحق ترك حديثه بعد تقدم عدالته وصحة سماعه ... والصواب في أمره مجانبة ما علم أنه أخطأ فيه والاحتجاج بما يرويه سواء وافق الثقات أو خالفهم لأنه داخل في جملة أهل العدالة ومن صحت عدالته لم يستحق القدح ولا الجرح إلا بعد زوال العدالة عنه بالجرح وهكذا حكم كل محدث ثقة صحت عدالته وتبين خطاؤه" 2. فقوله: الاحتجاج بما يرويه سواء وافق الثقات أو خالفهم، يدل على قبول ما تفرد به، لكن الإمام أحمد بسبره لحديث أبي بكر بن عياش عن شيوخه قد ذكر جرحاً مفسراً، فيقدم على هذا التعديل المبهم. وكذلك لم يقبل الإمام أحمد حديثاً آخر لأبي بكر بن عياش عن بعض صغار شيوخه لتفرده به فذكر الخلال عن الفضل بن زياد: قال الفضل بن زياد: قلت: الحديث الذي رواه أبو بكر بن عيّاش، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: [أن رجلاً جاء إلى بيته، فرأى ما بهم من
الحاجة، فخرج إلى الصحراء، فلما رأتْ ذلك امرأتُه قامتْ إلى الرّحى فوضعتها، وإلى التَّنُّور فسجرتْه، ثم قالت: اللهم ارزقنا، فنظرت فإذا الجفنة قد امتلأت، وذهبت إلى التنور فوجدته مُمتلئاً، فلما جاء الزوج قال: أصبتُم بعدي شيئاً؟ قالت امرأتُه: نعم، من ربِّنا. قال: قام إلى الرحى فرفعها فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما إنه لو لم يرفعها لم تزل إلى يوم القيامة". قال: ما أدري أيش هذا، أبو بكر يضطرب عن هؤلاء1. هذا الحديث أخرجه أحمد2 عن الأسود بن عامر عن أبي بكر بن عياش به، وأخرجه البزار3، والطبراني4، والعقيلي5، والبيهقي6 كلهم من طرق عن أحمد ين يونس، عن أبي بكر بن عياش به. قال البزار: لا نعلم رواه عن هشام إلا أبو بكر بن عياش. وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن محمد بن سيرين إلا هشام بن حسّان، ولا عن هشام بن حسان إلا أبو بكر بن عياش، تفرد به: أحمد بن يونس. ا.هـ. وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: أعله الإمام أحمد بقوله: ما أدري أيش هذا، أبو بكر يضطرب عن هؤلاء. ا.هـ. هذا يدل على عدم قبوله للحديث لتفرد أبي بكر بروايته عن شيخ يضطرب في حديثه، وهو هشام بن حسّان. وقد وافق الإمام أحمد على إنكار هذا
الحديث العقيلي فقال بعد روايته للحديث: يروي أبو بكر عن البصريين، عن حميد وهشام، غير حديث منكر. ا.هـ1. وقد أوضح العقيلي وجه علة هذا الحديث فروى عن محمد بن إسماعيل ـ هو الصائغ ـ قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا خالد بن عبد الله، عن حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة [أن رجلاً مؤمناً كانت تحته امرأة مؤمنة، وذلك في بني إسرائيل، وأنهم أصبحوا يوماً وليس عندهم طعام، فغسلت الخواز وغسلت الجفنة، وسجرت التنور وجعلت تعلل زوجها حتى نام، فقامت إلى جفنتها فوجدتها ملآة تدفق عجيناً قد اختمر، فذهبت إلى التنور فإذا فيه حنب لحم، فقال زوجها: من تصدق علينا؟ فقالت: الرب تبارك وتعالى تصدق علينا] . قال العقيلي: وهذا أولى من حديث أبي بكر بن عياش2. أي ليس فيه شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فتبين بهذا أن أصل الحديث موقوف على أبي هريرة وأنه من الإسرائيليات، وليس فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم، فرواه أبو بكر بن عياش بزيادة قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث، وأُسند الخطأ إليه لأنه معروف بقلة ضبطه لحديث هشام بن حسان3.
وقال الذهبي: هذا حديث منكر1. ومن صغار شيوخ أبي بكر بن عياش الذين تكلم الإمام أحمد في أحاديثه عنهم: إسماعيل بن أبي خالد، فروى أبو داود في مسائله قال: سمعت أحمد حدّث عن أبي بكر بن عياش، عن ابن أبي خالد، عن الشعبي، عن علي في المفقود قال: ليس هذا من حديث إسماعيل ... 2. ولم أقف على هذه الرواية التي ذكرها الإمام أحمد، لكن روى سعيد بن منصور عن هشيم، نا إسماعيل بن أبي خالد، والشيباني، عن الشعبي أنه قال في امرأة المفقود: [إذا تزوجت فحملت من زوجها الآخر ثم بلغها أن زوجها الأول حي يفرق بينها وبين زوجها الآخر، فإن مات زوجها الأول فإنها تعتد من هذا الآخر بقية حملها فإذا وضعت اعتدتْ من الأول أربعة أشهر وعشراً وورثته] 3. فرواه من قول الشعبي وليس عن علي، فلعل هذا ما يقصده الإمام أحمد في كلامه على رواية أبي بكر بن عياش، حيث جعل الحديث من قول علي، ببينما هو من قول الشعبي، والمعروف عن علي في المفقود هو ما رواه سعيد بن منصور أيضاً، عن جرير الضبي، عن منصور، عن الحكم قال: قال علي: [إذا فقدت المرأة زوجها فلا تتزوج حتى تستبين أمره] 4. ورواه عبد الرزاق عن الثوري، عن منصور به
نحوه1. ورواه ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش، عن الحكم عن علي2 نحوه، وهذا منقطع، أبو بكر لم يلق الحكم. فالمعروف عن علي في المفقود هو رواية الحكم، وأما حديث إسماعيل بن أبي خالد فهو عن الشعبي قوله، وهذا وجه إنكار الإمام أحمد لرواية أبي بكر بن عياش، والعلم عند الله. وقد أخرج البخاري لأبي بكر بن عياش من حديثه عن صغار شيوخه حديثه عن حميد الطويل، فإنه من صغار شيوخه كما تقدم، وقد أخرج له البخاري حديثاً واحداً، وهو حديث أنس في الشفاعة مختصراً3، وهو معروف لأنس من وجوه أخرى مطولاً4. ولم أقف على غيره. وكذلك أخرج له من حديثه عن أبي إسحاق الشيباني، وهو حديثه عن عبد الله بن أبي أوفى: "إذا رأيت الليل قد أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم" 5، وهو متابع6. ولم أقف على غيره. 2. وممن ذكره الإمام أحمد أن أبا بكر بن عياش يضطرب في حديثه أبو إسحاق السبيعي، وهو في طبقة كبار شيوخه، فقال كما تقدم في رواية الفضل ابن زياد عنه: إنه يضطرب عن أبي إسحاق7. ومما أنكره الإمام أحمد من حديثه عن أبي إسحاق، ونسبه إلى الوهم فيه ما ذكره عبد الله:
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبي قال حدثنا أبو بكر بن عياش، قال حدثنا أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، قال ذكر عند عبد الله امرأة فقالوا إنها تغتسل يا أبا عبد الرحمن وتتوضأ. فقال: [أما إنها لو كانت عندي لم تفعل ذلك] . قال عبد الله: سمعت أبي يقول: كان يحيى بن سعيد ينكر هذا الحديث جداً. قال أبي: لم يروه عن أبي إسحاق غير أبي بكر بن عياش، نراه وهم إنما هذا يرويه الأعمش عن إبراهيم عن علقمة1. فأشار في هذه الرواية إلى وهم أبي بكر بن عياش في هذا الحديث لتفرده به عن أبي إسحاق ومخالفة الأعمش له، حيث رواه عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله. فلم يقبل الإمام أحمد هذا التفرد منه بل عدّه وهماً. ومما ذكره الإمام أحمد من أوهامه في روايته عن أبي إسحاق ما رواه عبد الله أيضاً: قال عبد الله: حدثني أبي قال: حدثنا أبو بكر بن عياش قال: حدثنا أبو إسحاق، عن سعد بن إياس البجلي قال: [رأيت عبد الله يُخرج النساء من المسجد يومَ الجمعة ويقول: أخرجن، فإن هذا ليس لكُنّ. سمعت أبي يقول: سعد بن إياس هو أبو عمرو الشيباني، ولكن أبا بكر قال: البجلي كأنه يرى أنه وهم2. فذكر الإمام أحمد أن أبا بكر وهم في نسبة سعد بن إياس، حيث ذكر أنه بجلي بينما هو شيباني. وقد وافق الإمام أحمد أبو حاتم في نسبة أبي بكر بن عياش إلى الاضطراب عن أبي إسحاق السبيعي، فأعل حديثاً لأبي بكر عن أبي إسحاق أخطأ فيه ثم
قال: وسماع أبي بكر من أبي إسحاق ليس بذاك القوي1. ولم يخرج الإمام البخاري لأبي بكر بن عياش شيئاً من حديثه عن أبي إسحاق. وهؤلاء الأعلام ذكروا على سبيل المثال لا الحصر للرواة الثقات الذين تكلم الإمام أحمد في حفظهم لحديث بعض شيوخهم واقتضى ذلك إعلال مروياتهم عن أولئك الشيوخ.
المطلب الرابع: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي عن أهل بعض البلدان، والإعلال به عند الإمام أحمد
المطلب الرابع: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي عن أهل بعض البلدان، والإعلال به عند الإمام أحمد. ومن مجال غوامض علل الحديث الذي كشفه النقاد ما يقع لبعض رواة الأخبار من أوهام واضطراب في رواياتهم عن أهل بعض البلدان مع كونهم في أنفسهم ثقات، لكنهم بسبب من الأسباب لم يضبطوا أحاديث شيوخ تلك البلدان ووصفوا بسوء الحفظ فيهم، فيكون ذلك من دواعي التمييز والتمحيص فيما رووا، فلا يصحح لهم بإطلاق، بل إضافة على حالهم من حيث الجرح والتعديل ينظر إلى بلد من رووا عنه من الشيوخ، فيصحح أحاديثهم عن أهل البلدان الذين هم فيهم ضابطون ويتوقف في مروياتهم عمن وصفوا بسوء الحفظ فيهم، فلا يقبل ما تفردوا به أو ما خالفوا فيه غيرهم، وبهذا يجتنب مواطن الوهم والغلط في مروياتهم. والإمام أحمد رحمه الله من النقاد الذين انبروا لكشف هذه العلة في أحاديث هذا الصنف من الرواة، فميّزهم وأعلّ بعض مروياتهم بهذه العلة، منهم: 1. إسماعيل بن عيّاش بن سُليم العنسي الحمصي: وصفه الإمام أحمد بأنه هو والوليد بن مسلم أروى الناس لحديث الشاميين1. ولما سأل عن حفظه فأُخبر بذلك عجب من حفظه وجعله مثل وكيع في سعة الحفظ، فروى الخطيب من طريق عبد الله بن الإمام أحمد قال: "قال أبي لداود بن عمرو الضبي وأنا أسمع: يا أبا سليمان، كان يحدثكم إسماعيل بن عياش
هذه الأحاديث بحفظه؟ قال: نعم! ما رأيت معه كتاباً قط. فقال له: لقد كان حافظاً، كم كان يحفظ؟ قال: شيئاً كثيراً. قال له: كان يحفظ عشرة آلاف؟ قال: عشرة آلاف، وعشرة آلاف، وعشرة آلاف، فقال له أبي: هذا كان مثل وكيع" 1. وقد صحح الإمام أحمد أحاديث إسماعيل بن عيّاش عن الشاميين خاصة، وضعّف حديثه عن غيرهم من أهل المدينة، وأهل العراق، لأنه يغلط فيهم وله عنهم مناكير. قال أحمد بن أبي يحيى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: "إسماعيل بن عياش، ما روى عن الشاميين فهو صحيح، وما روى عن أهل المدينة وأهل العراق ففيه ضعف يغلط" 2. وقال في رواية أبي طالب: "إسماعيل بن عيّاش، ما روى عن الشاميين صحيح، وما روى عن أهل الحجاز فليس بصحيح" 3. وقال أبو حاتم: "سألت أحمد بن حنبل عن إسماعيل بن عيّاش فقال: في روايته عن أهل العراق وأهل الحجاز بعض الشيء، وروايته عن أهل الشام كأنه أثبت وأصح" 4. وقال في رواية أبي داود: "ما حدّث عن مشايخهم، قلت: الشاميين؟ قال: نعم، فأما حديث غيرهم عنده مناكير" 5. وأما في رواية المروذي فحسّن حديثه عن أهل الشام، فكأن حديثه عنهم
متردد بين الصحيح والحسن عنده1. قال المروذي: "سألته يعني أبا عبد الله عن إسماعيل بن عيّاش، فحسّن روايته عن الشاميين وقال: هو فيهم أحسن حالاً مما روى عن المدنيين وغيرهم" 2. وقد أجمع على هذا القول في إسماعيل بن عياش جمعٌ من الأئمة الحفاظ، منهم يحيى بن معين، وعمرو بن علي الفلاس، والبخاري، وأبو زرعة، وابن عدي، وروي أيضاً عن علي بن المديني3. ما أعله من حديث إسماعيل بن عياش عن غير أهل الشام: 1. قال عبد الله: سألت أبي عن حديث حدّثناه الفضل بن زياد الذي يقال له: الطسّي قال: حدثنا إسماعيل بن عيّاش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقرأ الجُنْب والحائض شيئاً من القرآن" فقال أبي: هذا باطل أنكره على إسماعيل بن عيّاش، يعني أنه وهمٌ من إسماعيل بن عيّاش4. هذا الحديث رواه الترمذي5، وابن ماجه6، والطحاوي7، والدارقطني8، والبيهقي9، من طرق عن إسماعيل بن عياش به.
أنكره الإمام أحمد على إسماعيل بن عيّاش، مما يدل على أنه علة الحديث، وفسر عبد الله وجه النكارة بأن الحديث وهمٌ من إسماعيل، وشيخه في هذا الحديث هو موسى بن عقبة إمام المغازي، وهو حجازي من ثقات أهل المدينة. وهذا الوهم يحتمل أحد وجهين: الأول: أن يكون ذلك راجعاً إلى تفرد إسماعيل ابن عياش عن موسى بن عقبة بهذه الرواية، وهو ممن لا يحتمل تفرده لعدم ضبطه لحديث أهل الحجاز، وهذا وجه إعلال الإمام البخاري للحديث. قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: "إن إسماعيل بن عيّاش يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير، كأنه ضعف روايته عنهم فيما ينفرد به" 1. ونقل عنه أيضاً أنه قال: "لا أعرفه من حديث ابن عقبة، وإسماعيل منكر الحديث عن أهل الحجاز وأهل العراق" 2. وممن نص على تفرد إسماعيل عن موسى بن عقبة بهذه الرواية الترمذي3، والبزار4. الوجه الثاني: أن يكون ذلك راجعاً إلى ما ذكره أبو جاتم قال: "هذا خطأ، إنما هو عن ابن عمر قوله" 5، فيكون الوهم في رفعه للحديث. ولم أقف على رواية الوقف إلا ما ذكره أبو حاتم هنا. وقد يقال إن إسماعيل بن عياش لم ينفرد بهذا عن موسى بن عقبة بدليل ما رواه الدارقطني من ثلاث طرق أخرى عن موسى بن عقبة، وعليه فلا يستقيم
الإعلال بالوجه الذي ذكره الإمام البخاري من توهيم إسماعيل بن عياش من أجل التفرد، وهذه الطرق هي: 1. طريق عبد الملك بن مسلمة، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن موسى ابن عقبة به1. 2. طريق أبي معشر، عن موسى بن عقبة به. رواه الدارقطني أيضاً من طريق محمد بن إسماعيل الحساني، عن رجل عنه2. 3. طريق إبراهيم بن العلاء، وسعيد بن يعقوب الطالقاني كلاهماعن إسماعيل بن عياش، عن عبيد الله بن عمر، وموسى بن عقبة، عن نافع به3. أما الطريق الأول ففيه عبد الملك بن مسلمة، قال ابن حبان: شيخ يروي عن أهل المدينة المناكير الكثيرة. وقال ابن يونس: منكر الحديث4. وأما المغيرة ابن عبد الرحمن المخزومي فقيه أهل المدينة، فوثقه ابن معين، ويعقوب بن شيبة، وقال أبو زرعة: لا بأس به5. واغتر به ابن سيد الناس فصحح الحديث من أجله، وذهل عن وجود عبد الملك بن مسلمة في السند، فخطّأه ابن حجر6. وأما الطريق الثاني ففيه رجل مبهم في السند، وفيه أيضاً أبو معشر نجيح ابن عبد الرحمن المديني، قال أحمد: كان صدوقاً، لكنه لا يقيم الإسناد، ليس بذاك7
وقال ابن معين: ضعيف، يكتب من حديثه الرقاق، وكان رجلاً أميا، يتقى أن يروى من حديثه المسند1. وقال البخاري: منكر الحديث2. فمثل هذا لا يعتبر به في غير الرقاق من المسند، والأمر الآخر هو أن الرجل المبهم يحتمل أن يكون مجروحاً جرحاً شديداً. وبهذا ينتفي صحة متابعة إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة. وأما الطريق الثالث، ففيه إبراهيم بن العلاء أبو هارون الغنوي، لم يحدث عنه يحيى القطان وابن مهدي3، لكن قال عنه الذهبي: بصري صدوق4، إلا أن الراوي عنه، وهو محمد بن جعفر بن رزين لم أجد له ترجمة. وإبراهيم بن العلاء مقرون بسعيد بن يعقوب الطالقاني، وهو ثقة، وثقه أبو زرعة، والنسائي، والذهبي5. وهذا السند ظاهره الصحة، إلا أنه معلول، فإن الشيخ الثاني لإسماعيل ابن عيّاش، وهو عبيد الله بن عمر حجازي أيضاً فروايته عنه ضعيفة أيضاً، ولذلك قال ابن عدي: ليس لهذا الحديث أصل من حديث عبيد الله6، يشير إلى تفرد إسماعيل بن عيّاش به عن عبيد الله، وهو ممن لا يحتمل منه هذا التفرد. وقد ضعف الحافظ ابن حجر هذا الحديث من جميع طرقه7. 2. قال أبو طالب: سألت أحمد عن حديث ابن عياّش، عن ابن جُريج، عن ابن أبي مُليكة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قاء، أو رعَف، أو أَحدث
في صلاته فلْيذهب فلْيتوضأ، ثم ليَبْنِ على صلاته" فقال: هكذا رواه ابن عيّاش، إنما رواه ابن جريج فقال: عن أبي، إنما هو عن أبيه، ولم يُسنده عن أبيه، ليس فيه ذكر عائشة1. وفي رواية أبي داود: "سمعت أحمد قيل له: حديث ابن عيّاش ـ وهو إسماعيل ـ عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في البناء ـ يعنى من الحدث في الصلاة؟ قال: ليس هذا بشيء، إنما هو عن ابن جريج، عن أبيه، ولم يسمعه أيضاً من أبيه، قلت: يجمعهما ـ أعني إسماعيل بن عياش؟ قال: ليس هذا بشيء" 2. هذا الحديث أخرجه ابن ماجة3، وابن عدي4، والدارقطني5، والبيهقي6 من طرق عن ابن عياش، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة به مرفوعاً. وقد رواه ابن عيّاش بإسناد آخر فقال: عن ابن جريج، عن أبيه، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أبو الربيع موسى بن عامر، عن الوليد بن مسلم، عن إسماعيل به7،
وتابعه مروان بن محمد الطاطري عن إسماعيل به1. ورواه داود بن رُشيد، عن إسماعيل، عن ابن جريج، عن أبيه، وعن عبد الله ابن أبي مليكة، عن عائشة به2. وقد أعلّ الإمام أحمد الإسناد الأول كما في هذه الرواية من طريق أبي طالب عنه، ووجه ذلك أن الحفاظ من أصحاب ابن جريج رووا الحديث عنه، عن أبيه مرسلاً. رواه كذلك: عبد الرزاق3، وأبو عاصم النبيل، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وعبد الوهاب ابن عطاء الخفاف4. فهؤلاء مقدّمون على إسماعيل ابن عياش في ابن جريج وخاصة أن إسماعيل معروف بعدم ضبطه لحديث شيوخه الحجازيين، وابن جريج منهم. وقد وافق الإمام أحمد على إعلال الحديث من هذا الوجه محمد بن يحيى الذهلي ـ وقد روى الحديث بالوجهين مسنداً من طريق ابن عياش، ومرسلاً من طريق أبي عاصم النبيل ـ فقال: "هذا هو الصحيح عن ابن جريج، وهو مرسل، وأما حديث ابن جريج، عن ابن أبي ملكية، عن عائشة الذي يرويه إسماعيل بن عياش فليس بشيء" 5. وتبعهما البيهقي، قال: "وهذا الحديث أحد ما أنكر على إسماعيل بن عياش، والمحفوظ ما رواه الجماعة عن ابن جريج، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ... " 6.
وأما أبو حاتم وأبو زرعة فرجحا أيضاً رواية الإرسال لكن من وجه آخر فقالا: "الصحيح عن ابن جريج، عن أبيه، عن ابن أبي مليكة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل" 1. وهذه الرواية لم أقف عليها، والظاهر أنها غريبة، ومن أجل ذلك قال ابن دقيق العيد: "هذا لون آخر ينبغي أن يتتبع بالكشف" 2. وقد يعترض على هذا الإعلال بثلاثة أمور، سأوردها مع الجواب عليها. الأول: أن إسماعيل بن عياش توبع عن ابن جريج: تابعه سليمان بن أرقم قال: حدثني ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث3. قال الدارقطني: "تابعه سليمان بن أرقم، وهو متروك الحديث، وأصحاب ابن جريج الحفاظ عنه يروونه عن ابن جريج، عن أبيه مرسلاً، والله أعلم" 4، يشير إلى أنه مع هذه المتابعة، حتى ولو صلحت، فإنها لا تقارن برواية أصحاب ابن جريج الحفاظ. الثاني: أن بعض الرواة روى الحديث عن إسماعيل بن عيّاش، عن عباد ابن كثير، وعطاء بن عجلان، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة بمثله مرفوعاً. رواه الدارقطني، وقال: عباد بن كثير، وعطاء بن عجلان ضعيفان5. وعباد بن كثير الذي يروي عنه إسماعيل بن عياش هو الثقفي البصري6، وهو أسوأ حالا من الرملي، فقد قال فيه غير واحد: لا يكتب حديثه7، وقال الإمام أحمد: روى
أحاديث كاذبة لم يسمعها1. وأما عطاء بن عجلان فمتروك أيضاً، وأطلق عليه ابن معين والفلاس وغيرهما الكذب2. فروايته ساقطة أيضاً كالتي قبلها. الثالث: أن إسماعيل بن عياش قد روى الحديث من وجهين: مرسلاً كما رواه الجماعة، ومسنداً بذكر عائشة؛ رواه عنه بالإسنادين معاً: محمد بن المبارك، ومحمد بن الصباح، والربيع بن نافع3. وهذا يُشعر بأنه ضابط للحديث، فتقبل روايته المسندة ولا تعلّ، وهذا الذي مال إليه ابن دقيق العيد، وتبعه ابن التركماني. قال ابن دقيق العيد: "وهذه الروايات التي جمع فيها إسماعيل بن عيّاش بين الإسنادين جميعاً ـ أعني المرسل والمسند في حالة واحدة ـ مما يبعد الخطأ على إسماعيل، فإنه لو اقتصر على رفع ما وقفه الناس لتطرّق الوهم إلى خطئه تطرقاً قريباً، فأما وقد وافق الناس في روايتهم المرسل، وزاد عليهم بالمسند، فهذا يُشعر بتحفظ وتثبت فيما زاده عليهم، وإسماعيل قد وثقه يحيى بن معين، وقال يزيد بن هارون: ما رأيب شامياً ولا عراقياً أحفظ من إسماعيل بن عيّاش" 4. والجواب على هذا أن إسماعيل قد روى الحديث من وجه آخر عن ابن جريج غير الوجهيْن المذكوريْن، وهو: عن ابن جريج، عن أبيه، عن عائشة، ولم يتابع على هذا الوجه كما لم يتابع على الرواية المسندة من طريق ابن أبي مليكة من وجه معتبر. والذين رووا الحديث عنه من هذه الوجوه الثلاثة كلهم ثقات، واختلافهم عليه يدل على اضطرابه لا على مزيد تثبت، فالوجه الذي توبع عليه من قبل ثقات
أصحاب شيخه ابن جريج يكون هو المحفوظ والوجهان الآخران يكونان غير محفوظيْن، وهذا ما ذكره ابن عدي عن الوجهين المسندين1، والله أعلم. وقد ردّ الإمام أحمد على احتجاج أبي داود برواية إسماعيل للحديث من الوجهين ـ أعني مسنداً ومرسلاً ليدل على قبوله عنده ـ فقال: ليس هذا بشيء2. 2. سفيان بن عيينة: ذكر الإمام أحمد أن حديثه عن الكوفيين فيه غلط كثير، فقال كما جاء في رواية الفضل بن زياد: "كان سفيان بن عيينة حافظاً، إلا أنه كان إذا صار في حديث الكوفيين كان له غلط كثير، وقد غلط في حديث الحجازيين في أشياء" 3. ولا يدل هذا في الحقيقة على سوء حفظ سفيان لحديث الكوفيين، وذلك أن كلام الإمام أحمد ورد في معرض مقارنة حفظ الثوري بابن عيينة، فالرواية كما جاءت عن الفضل بن زياد هي: "سئل أحمد بن حنبل، قيل له: سفيان الثوري كان أحفظ أو ابن عيينة؟ فقال: كان الثوري أحفظ وأقل الناس غلطاً، وأما ابن عيينة فكان حافظاً، إلا أنه إذا صار في حديث الكوفيين كان له غلط كثير، وقد غلط في حديث الحجازيين في أشياء. قيل له: فإن فلاناً يزعم أن سفيان بن عيننة كان أحفظهما؟ فضحك ثم قال: فلان حسن الرأي في ابن عيينة فمن ثَمّ" 4. والأمر الآخر أن هذه الرواية أشارت إلى غلط ابن عيينة في حديث الحجازيين أيضاً، وهذا أيضاً ليس على إطلاقه بدليل أن شيخ الإمام أحمد وهو
عبد الرحمن بن مهدي قد قال في ابن عيينة: إنه من أعلم الناس بحديث أهل الحجاز1. فكثرة الغلط المشار إليها في رواية ابن عيينة عن الكوفيين هي بالمقارنة برواية الثوري عنهم، فالثوري أحفظ لحديث الكوفيين من ابن عيينة وأقل غلطاً، وأما بالنسبة لرواية ابن عيينة عن الحجازيين فإنما يقصد به الغلط الذي لا يسلم منه أحد حتى وإن كان ثقة، والله أعلم. ولم يجتنب أصحاب الصحاح رواية ابن عيينة عن الكوفيين كالأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وبيان بن بشر الأحمسي، وأبي إسحاق الشيباني وغيرهم2.
المطلب الخامس: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي إذا جمع الشيوخ في الإسناد، والإعلال به عند الإمام أحمد
المطلب الخامس: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي إذا جمع الشيوخ في الإسناد، والإعلال به عند الإمام أحمد. ومن العلل التي تعلّ بها الروايات في حالة دون أخرى أن يكون الراوي ليس له من الضبط ما يقبل منه أن يروي حديثاً واحداً عن عدد من الشيوخ ثم يسوقه سياقاً واحداً، وذلك أن الحديث الواحد إذا رواه عدد من الشيوخ فلا بد أن يقع بطبيعة الحال بعض الاختلافات في ألفاظهم بين شيخٍ وآخر لتصرفهم في لفظ الحديث، فإذا جاء راوٍ وروى الحديث عنهم ولم يميز لفظ هذا من ذاك، فإن ذلك مشعر بأنه قد حمل لفظ بعضهم على بعض، وبالتالي يقع في الخطأ والوهم لا محالة، ولكن هذا ليس في جميع الرواة، ولا هو في جميع الحالات، فبعض الرواة قد يكون له من الحفظ والإتقان ما يجعله يميز الألفاظ فيقبل من مثله جمع الشيوخ، كما أن في حالة الرواية بالمعنى ممن توفرت فيه شروطها، يسوغ له أن يروي عن عدد من الشيوخ ما اتحد فيه معنى حديثهم وإن اختلفت ألفاظهم. وقد بيّن الحافظ ابن رجب هذا الوجه من الإعلال فقال: "ومعنى هذا أن الرجل إذا جمع بين حديث جماعة، وساق الحديث سياقة واحدة، فالظاهر أن لفظهم لم يتفق، فلا يقبل هذا الجمع إلا من حافظ متقن لحديثه، يعرف اتفاق شيوخه واختلافهم، كما كان الزهري يجمع بين شيوخ له في حديث الإفك وغيره" 1. والمسئلة في الحقيقة ذات شقين: الشق الأول: أن يروي الراوي الحديث عن عدد من الشيوخ اختلفوا في
اللفظ لكن المعنى واحد، فيروي عنهم بلفظ واحد ولا يشير إلى اختلاف ألفاظهم اعتماداً على اتحاد المعنى، فهذا يرجع إلى مبحث الرواية بالمعنى، فيتقيد جواز هذا الصنيع بشروط الرواية بالمعنى. لكن الاتقان يقتضي من الراوي أن يبين صاحب اللفظ، وفي حالة عدم علمه بما يميز لفظ بعضهم عن البعض، يبين كذلك1. وقد كان الإمام أحمد حريصاً على تمييز الألفاظ في السند والمتن، ومنه أخذ الإمام مسلم هذا الصنيع كما قال السخاوي2. فإن قيل إن هذا يقتضي حمل حديث بعض الشيوخ على البعض، يجاب بأن المحذور في هذا حيث كان بين الأحاديث اختلاف في المعنى، أو بالزيادة والنقصان، وهو خارج عن صورة المسألة. الشق الثاني: أن يكون متن الحديث مجموعه من جماعة من الشيوخ ملفقاً بأن يكون عن كل شيخ قطعة منه، فيخلط ألفاظهم ويسوق الحديث سياقاً واحداً بلا تمييز لما عند كل واحد منهم3، فهذا لا يقبل إلا من حافظ متقن لحديثه عارف بمواضع الاتفاق والاختلاف بين شيوخه كما تقدمت إشارة ابن رجب لصنيع الإمام الزهري في روايته لحديث الإفك، فإنه رواه عن عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقّاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم عن عائشة رضي الله عنها، قال: "وكلهم حدثني طائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وأثبت له اقتصاصاً، وقد وعيْتُ عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدق بعضاً، وإن كان بعضهم
أوعى له من بعض" 1. فذكر أنهم اختلفوا في الحديث، وكل واحد حدثه بجزء منه، وأنه حافظ لرواية كل واحد منهم على حدة، فلم يؤثر ذلك في الجمع بين ألفاظهم. على أنه قد انتقد على الإمام الزهري هذا الصنيع منه، كما نقله القاضي عياض قال: "انتقدوا على الزهري ما صنعه من روايته لهذا الحديث ملفقاً عن هؤلاء الأربعة، وقالوا: كان ينبغي له أن يفرد حديث كل واحد منهم عن الاخر" 2. ويزاد على هذا شرط آخر، وهو أن يكون الشيوخ كلهم ثقات، وأما حيث كان بعضهم يُستضعف فإنه يقع احتمال اختصاص الضعيف بشيء من الحديث عن الآخرين، ولأجل هذا المحذور كان يكره الإمام أحمد أن يروي الراوي حديثاً عن رجلين أحدهم مجروح، فيسقط اسم المجروح من السند ويقتصر على حمل الحديث عن الثقة وحده، فقد روى الخطيب من طريق الخلال عن حرب الكرماني أن أبا عبد الله قيل له: "فإذا كان الحديث عن ثابت وأبان عن أنس، يجوز أن أسمي ثابتاً وأترك أباناً؟ قال: لا، لعل في حديث أبان شيئاً ليس في حديث ثابت، وقال: إن كان هكذا فأحب أن يسميهما" 3. وهناك صورة أخرى لهذا الشق، وهي ما إذا كان بين أولئك الشيوخ تباين في أوجه رواية الحديث، كأن يكون عند بعضهم مرفوعاً وعند الآخرين موقوفاً، أو يكون عند بعضهم بزيادة رجل في الإسناد، ولا يكون كذلك عند الآخرين، أو غير ذلك من أوجه الاختلاف في السند، فالجمع بينهم في هذه الحالة أيضاً لا يكون مقبولاً إلا من حافظ متقن. وقد ذكر ابن رجب عن يعقوب بن شيبة أنه قال: "كان سفيان بن عيينة ربما يحدث بالحديث عن اثنين، فيسند الكلام عن
أحدهما، فإذا حدث به عن الآخر على الانفراد أوقفه أو أرسله" 1. وحيث لم يكن لدى الراوي من الحفظ والاتقان ما يجعله يميز الألفاظ أو أوجه الرواية فجمعه للشيوخ في الإسناد يكون موضع الانتقاد لما يقع من حمل حديث بعضهم على بعض، وإدخال حديث في آخر. ومما تقدم تتلخص الصور المحذورة لجمع الشيوخ في الإسناد عند رواية الحديث الواحد في ثلاث صور: 1. أن لا يكون لدى الراوي من الحفظ والمعرفة ما يؤهله للرواية بالمعنى، في حالة روايته لحديث تتفاوت ألفاظ شيوخه فيه مع اتحاد معنى ما رووه. 2. أن لا يكون الراوي من الحفاظ المتقنين العارفين بمواضع الاتفاق والاختلاف في مرويات شيوخه. 3. أن يكون بعض الشيوخ ضعيفاً، فإنّ جمع الشيوخ في هذه الصورة يؤدي إلى حمل حديث الضعيف على حديث الثقة. وقد كان الإمام أحمد ينتقد على الرواة جمعهم بين الشيوخ في الأسانيد، وتكلم فيهم من أجل ذلك، والظاهر أن ذلك راجع إلى هذه المحاذير. وهذا أحد أوجه جرحه لمحمد بن عمر الواقدي وتركه لحديثه. قال إبراهيم الحربي: "سمعت أحمد ـ وذكر الواقدي ـ فقال: ليس أُنكر عليه شيئاً إلا جمعه الأسانيد ومجيئه بمتن واحد على سياقة واحدة عن جماعة، وربما اختلفوا. قال إبراهيم: ولم؟ وقد فعل هذا ابن إسحاق، كان يقول: حدثنا عاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر، وفلان، وفلان، والزهري أيضاً قد فعل هذا"، وفي رواية أخرى ذكر معهم حماد بن سلمة أيضاً2. وما ذكره الحربي من الاستدراك
بمحمد بن إسحاق وحماد بن سلمة، فقد ورد عن الإمام أحمد إنكاره عليهم بالعلة نفسها كما سيأتي، وأما الزهري فقد تقدم أنه بلغ من الحفظ والاتقان ما يسوغ له ذلك. ومن هؤلاء الرواة أيضاً محمد بن إسحاق إمام المغازي. قال المروذي: "سألته يعني الإمام أحمد عن محمد بن إسحاق، كيف هو؟ قال: هو حسن الحديث، ولكنه إذا جمع عن رجليْن. قلت: كيف؟ قال: يحدّث عن الزهري ورجل آخر، فيحمل حديث هذا على هذا "1. فإذا جمع بين الرجلين فقد يكون الرجل الآخر ضعيفاً، أو يكون في نفسه ثقة لكن بين حديثه وحديث الزهري مثلاً تفاوتاً فيحمل حديث أحدهما على الآخر بلا تمييز، ويقع بسبب ذلك في الوهم والغلط. وروى الخطيب من طريق أيوب بن إسحاق بن سافري قال: "سألت أحمد بن حنبل فقلت: يا أبا عبد الله! ابن إسحاق إذا انفرد بحديثه تقبله؟ قال: لا والله! إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث الواحد، ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا" 2. وقال ابن هانئ عن الإمام أحمد أنه سمعه يقول: "إبراهيم بن سعد من أحسن الناس حديثاً عن محمد بن إسحاق، فإذا جمع بين رجلين، يقول: حدثني فلان وفلان، لم يحكمه" 3. يقصد ابن إسحاق إذا جمع بين رجلين، ولا يقصد إبراهيم بن سعد، إذ لم يرد عن الإمام أحمد تضعيفه بحال. وقوله: "لم يحكمه" يدل بمفهومه على أن من يُحكم هذا الجمع لما له من مزيد الضبط والاتقان يكون ذلك منه مقبولاً. فهذه من الأمور التي اعتمدها الإمام أحمد لتقرير خفة ضبط ابن إسحاق
عنده، حيث لم يكن يحكم أن يميز بين ألفاظ الشيوخ إذا اشتركوا في رواية حديث واحد، فمن أجل ذلك لم يكن يحتج به إذا انفرد بالحديث، وإنما يحتج به في المغازي، ولم يكن يحتج به في السنن كما قال عبد الله1. ولم أقف على حديث لابن إسحاق أعله من أجل جمعه للشيوخ في الإسناد. وذكر منهم أيضاً أبا بكر بن عبد الله أبي مريم الحمصي الغساني: قال عبد الله: "سئل أبي عن حريز وأبي بكر بن أبي مريم، فقال: أبو بكر ضعيف، كان يجمع فلان وفلان" 2. قال ابن هانئ: "وسئل: أيما أحب إليك: صفوان أو أبو بكر بن أبي مريم؟ قال: صفوان أحب إليّ، وهو صالح الحديث، وأبو بكر ضعيف، كان يجمع الرجال فيقول: حدثني فلان، وفلان، وفلان" 3. فضعفه الإمام أحمد من أجل جمعه للشيوخ لأنه ليس له من الحفظ ما يضبط هذا. وكذلك قال في حماد بن سلمة، مع أنه ثقة عنده كما تقدم، فقال كما في رواية الأثرم: "في حديث حماد بن سلمة، عن أيوب، وقتادة، عن أبي أسماء، عن أبي ثعلبة الخشني، عن النبي صلى الله عليه وسلم في آنية المشركين: قال أحمد: هذا من قبل حماد، كان لا يقوم على مثل هذا يجمع الرجال، ثم يجعله إسناداً واحداً، وهم يختلفون" 4. وهذا الحديث عن حماد بن سلمة رواه الترمذي من طريق عبيد الله بن محمد القرشي، عن حماد، عن أيوب وقتادة به، ولفظه: "قال أبو ثعلبة الخشني:
[يا رسول الله إنا بأرض أهل الكتاب فنطبخ في قُدورهم ونشرب في آنيتهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجدوا غيرها فارحَضوها بالماء" ثم قال: يا رسول الله! إنا بأرض صيدٍ فكيف نصنع؟ قال: "إذا أرسلتَ كلبَك المُكلَّب وذكرت اسم الله فقتل فكُلْ، وإن كان غير مُكلّب فذُكِّي فكُلْ، وإذا رميت بسهمك وذكرتَ اسم الله فقتل فكُل"، وقال الترمذي: حسن صحيح1. ورواه الطبراني2، والدارقطني في العلل3. ورواه حماد بن سلمة عن أيوب وحده، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن أبي ثعلبة به. أخرجه أحمد4، وابن أبي عاصم5، والحاكم6. ولم أر من تابع حماداً عن قتادة إلا ما ذكره الدارقطني في العلل تعليقاً أن أبا حنيفة رواه عن قتادة، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة ـ ليس بينهما أبو أسماء7. وقد خولف حماد بن سلمة عن أيوب: خالفه شعبة8، ومعمر9، وحماد ابن زيد10، وسعيد بن أبي عروبة11، وابن جريج12، وعبد الوهاب الثقفي13،
وابن عيينة1، فكلهم رووه عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة، لم يذكروا فيه أبا أسماء. وتابع هشيمٌ حمادَ بن سلمة في ذكر أبي أسماء، فرواه عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن أبي ثعلبة. أخرج حديثه الحاكم، والبيهقي2. ولكن الثوري خالفه، فرواه عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة، كرواية الجماعة عن أيوب. أخرجه الطبراني3، والحاكم4. ورجح الدارقطني قول من أرسل الحديث عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة بدون ذكر أبي أسماء. ووجه إعلال الإمام أحمد للحديث هو من حيث جمع حماد بن سلمة للإسنادين، الأول عن أيوب، والثاني عن قتادة، فجعلهما إسنادا ًواحداً وحمل أحدهما على الآخر، والواقع أنهما مختلفان، فإسناد حديث أيوب وقع عنده بذكر أبي أسماء، وأما إسناد قتادة فتدل رواية أبي حنيفة أنه بدون ذكر أبي أسماء، فحيث جعل الإسنادين واحداً وقع في الغلط فحمل إسناد قتادة على إسناد أيوب والواقع أن بينهما اختلافاً، فلذلك قال أحمد: "كان لا يقوم على مثل هذا يجمع الرجال ثم يجعله إسناداً واحداً وهم يختلفون"، كما تقدم. وهذا يدل على أن الجمع بين الرواة في الأسانيد لا يقبله الإمام أحمد من كل أحد، حتى ولو كان ثقة. وقد ذكر الخليلي أن سبب تجنب البخاري لحديث حماد بن سلمة هو من
أجل هذه العلة ـ أعني جمعه للرجال في إسناد واحد. قال الخليلي: "ذاكرتُ يوماً بعضَ الحفاظ فقلت: البخاري لم يخرج حماد بن سلمة في الصحيح، وهو زاهد ثقة؟ فقال: لأنه جمع بين جماعة من أصحاب أنس، فيقول: حدثنا قتادة، وثابت، وعبد العزيز بن صهيب، وربما يخالف في بعض ذلك! فقلت: أليس ابنُ وهب اتفقوا عليه، وهو يجمع بين أسانيد فيقول: حدثنا مالك، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد، والأوزاعي بأحاديث، ويجمع بين جماعة غيرهم1؟ فقال: ابن وهب أتقن لما يرويه، وأحفظ له" 2. وحتى كبار الحفاظ البارزين في الحفظ والاتقان قد يقعون في الخطأ والغلط من جراء هذا الصنيع، ومن ذلك ما ذكره الترمذي عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان، وشعبة ـ غير مرة ـ عن علقمة بن مرثد، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلّمه" 3. فحكم الحفاظ على يحيى القطان بالوهم في هذا الحديث. قال ابن عدي: "وذِكرُ سعد بن عبيدة في هذا الإسناد عن الثوري غيرُ محفوظ، وإنما يُذكر هذا عن يحيى القطان، جمع بين الثوري وشعبة فذكر عنهما جميعاً في الإسناد في هذا الحديث: سعد بن عبيدة، وسعد إنما يذكره شعبة،
والثوري لا يذكره، فحمل يحيى حديث شعبة على حديث الثوري، فذكر عنهما جميعاً سعداً، ويقال: لا يُعرف ليحيى بن سعيد خطأ غيره" 1.
المطلب السادس: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي حين يروي بالمعنى
المطلب السادس: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي حين يروي بالمعنى. درج كثير من رواة الآثار من لدن عهد الصحابة على رواية الأحاديث بالمعنى، ولم يروا ضرورة الالتزام باللفظ المسموع في الرواية إذا كان المعنى المؤدّى صحيحاً، قال الإمام الشافعي: "وقد قال بعض التابعين: لقيت أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا في المعنى، واختلفوا عليّ في اللفظ، فقلت لبعضهم ذلك، فقال: لا بأس ما لم يُحيل المعنى" 1، أي يُعدله عن وجهه. وعن ابن سيرين بإسناد صحيح قال: "كنت أسمع الحديث من عشرة، المعنى واحد واللفظ مختلف" 2. وذهب معظم أهل العلم إلى جواز ذلك، لكن اشترطوا في الذي يروي بالمعنى أن يكون عالماً بمدلولات الألفاظ ومقاصدها، وما يحيل معناها3. قال الإمام الشافعي في بيان من تقوم بخبره الحجة: "إذا حدّث به أي الحديث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه، لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام" 4. وكان الإمام أحمد ممن ذهب إلى جواز الرواية بالمعنى، ويستدل لذلك بفعل السلف، قال: "ما زال الحفاظ يحدّثون بالمعنى، وإنما يجوز ذلك لمن هو عالم بلغات العرب، بصير بالمعاني، عالم بما يحيل المعنى وما لا يحيله" 5. ومما يدل على تقريره للرواية بالمعنى إذا لم تحصل الإحالة في المعنى ما ذكره أبو داود في مسائله قال: "سمعت أحمد بن محمد بن حنبل قال: قال عبد الرحمن: سألت سفيان عنه ـ يعني عن حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "للفارس
ثلاثة أسهم" فقال: خالفوني فيه. قال أحمد: وإنما قالوا: للفرس سهمان، أي بأنه ليس اختلاف، لأن للفرس سهمين، ولفارسه سهم فذلك ثلاثة أسهم" 1. فلم ير هناك اختلافاً بين من روى الحديث بلفظ: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهماً] 2، وباللفظ الذي رواه سفيان والذي وقع السؤال عليه، لأن المعنى واحد. وكذلك قال لما سأله الأثرم عن حديث ابن أبي زائدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم "بادروا الصبح بالوِتر" 3، قال: "هذا أُراه اختصره من حديث "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة" 4، وهو بمعناه. قال: فقلت له: رواه أحد غيره؟ قال: لا" 5. ومع تجويزه للرواية بالمعنى فقد كان يفضل اتباع اللفظ والتقيد به، ويقدم رواية من كان يلتزم اللفظ على رواية من كان يروي بالمعنى، لأن احتمال دخول الخطأ والغلط في الرواية بالمعنى أقوى منه من الرواية باللفظ إذا قورنت بها. وهذا الاعتبار كان أحد أوجه تقديم حفظ الكتاب على حفظ الصدر عند الإمام
أحمد كما سيأتي في موضعه إن شاء الله، فإن الاعتماد على الكتاب في التحمل والأداء من أفضل أسباب التزام الراوي باللفظ دون المعنى عند الرواية، ومن ثمّ يقل أوجه احتمال دخول الخلل عليه في مروياته. ومن أجل هذا أيضاً كان رحمه الله يقدّم عبد الرحمن بن مهدي على وكيع عند اختلافهما. قال صالح بن أحمد: "قلت لأبي: عبد الرحمن أثبت عندك أو وكيع؟ قال: عبد الرحمن أقل سقطاً من وكيع في سفيان، قد خالفه وكيع في ستين حديثاً من حديث سفيان، وكان عبد الرحمن يجيء بها على ألفاظها ... " 1. قال حنبل بن إسحاق: قال أبو عبد الله: "إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن فعبد الرحمن أثبت، لأنه أقرب عهدٍ بالكتاب" 2. وقال الأثرم: "قيل لأبي عبد لله: كان عبد الرحمن حافظاً؟ فقال: كان حافظاً، وكان يتوقى كثيراً، وكان يحب أن يحدث بالألفاظ" 3. وأما وكيع فلم يكن صاحب كتاب حتى قال الإمام أحمد: "ما رأيت مع وكيع كتاباً قط ولا رقعة" 4. وقال أيضاً: "من حدّث من كتاب لا يكاد يكون سقط كثير شيء، وكان وكيع يحدث من حفظه، ولم يكن ينظر في كتاب، وكان له سقط، كم يكون حفظ الرجل! " 5. وقد كان الإمام أحمد حريصاً على التزام باللفظ في خاصة نفسه عند الرواية حتى إنه ليميز اختلاف الرواة في حرف من متن الحديث وإن كان لا
يتغير به المعنى، وما ذكر عن الإمامين مسلم وأبي داود من عنايتهما باللفظ والتزامهما به فعن الإمام أحمد أخذا ذلك، فإنه كان شيخهما، ومن أمثلة ذلك ما ذكره السخاوي1 من صنيعه رحمه الله في المسند أنه قال: حدثنا يزيد، وعباد بن عباد، قالا: أخبرنا هشام بن أبي هشام ـ قال: عباد: ابن زياد ـ عن أمه، عن فاطمة ابنة الحسين، عن أبيها الحسين بن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم ولا مسلمة يُصاب بمصيبة، فيذكرها، وإن طال عهدُها ـ قال: عباد: قدُم عهدُها ـ فيُحدث لذلك استرجاعاً، إلا جدّد الله له عند ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها" 2. فلا فرق في المعنى بين: "طال عهدُها"، و "قدُم عهدُها"، لكنه رحمه الله اعتنى بذكر الاختلاف بين اللفظين اتباعاً للفظ، ولم يكتف بالإشارة بناءً على حصول التوافق في المعنى. والرواية بالمعنى أحد أسباب دخول الخلل في أحاديث الثقات، خاصة في متونها، ويكون ذلك من أحد وجهين: الأول: أن يقع الخطأ عند الرواية بالمعنى بسبب حمل ألفاظ الأحاديث على آراء فقهية للراوي، وهذا في الغالب يقع من الفقهاء المعتنين بالرأي، فإنهم يروون الأحاديث بالمعنى ويخالفون في ألفاظه حتى يغلب على الظن أنهم يحملون ألفاظ الأحاديث على الألفاظ الفقهية المتداولة بينهم. الثاني: أن يتصرف الراوي في اللفظ فيخطئ المعنى، وهذا غالباً ما يقع بسبب نوع من الخفاء في المعنى ولا يهتدي إليه الراوي ـ كما سيأتي من خلال
الأمثلة التي ذكرها الإمام أحمد ـ وكثيراً ما يقع من الرواة الذين لم يشتهروا بالفقه وإن كانوا حفاظاً عندما يتركون الرواية باللفظ إلى المعنى. فالوجه الأول: هو الذي أشار إليه الحافظ ابن رجب رحمه الله في القاعدة التي ذكرها ضمن قواعده في العلل حيث قال: "الفقهاء المعتنون بالرأي حتى يغلب عليهم الاشتغال به لا يكادون يحفظون الحديث كما ينبغي، ولا يقيمون أسانيده ولا متونه، ويخطئون في حفظ الأسانيد كثيراً، ويروون المتون بالمعنى، ويخالفون الحفاظ في ألفاظه، وربما يأتون بألفاظ تشبه ألفاظ الفقهاء المتداولة بينهم" 1. وأشار إليه ابن حبان من قبل في الجنس الخامس من أجناس أحاديث الثقات التي لا يجوز الاحتجاج بها، لكن قصر وجه رد الأحاديث في أخطائهم في الأسماء والأسانيد فقال: "الفقيه إذا حدث من حفظه وهو ثقة في روايته لا يجوز عندي الاحتجاج بخبره، لأنه إذا حدث من حفظه فالغالب عليه حفظ المتون دون الأسانيد ... فإذا حدث الفقيه من حفظه ربما صحّف الأسماء، وقلب الأسانيد، ورفع الموقوف، وأوقف المرسل، وهو لا يعلم لقلة عنايته به، وأتى بالمتن على وجهه، فلا يجوز الاحتجاج بروايته إلا من كتاب، أو يوافق الثقات في الأسانيد" 2. فاستدرك عليه ابن رجب فقال: "هذا إن كان الفقيه حافظاً للمتن، فأما من لا يحفظ متون الأحاديث بألفاظها من الفقهاء، وإنما يروي الحديث بالمعنى فلا ينبغي الاحتجاج بما يرويه من المتون، إلا بما يوافق الثقات في المتون، أو يحدث به من كتاب موثوق به" 3.
فهذه القاعدة التي ذكرها ابن رجب تقتضي أن الراوي الفقيه الذي لا يحفظ متون الأحاديث بألفاظها وإنما يروي بالمعنى فإنه يوصف بسوء الحفظ في حالة روايته بالمعنى، فيتوقف عن الاحتجاج بما يرويه من المتون حتى يوجد له موافق أو يثبت أنه حدّث من كتاب لا من حفظ. ولم أجد من كلام الإمام أحمد سواء في الرجال أو في الأحاديث ما يصلح أن يستنبط له منهجاً في هذا. وموقفه من معلى بن منصور أبي يعلى الرازي قد يصلح أن يكون من أدلة هذه القاعدة، فإنه قال عنه: "كان يحدث بما وافق الرأي، وكان كل يوم يخطئ في حديثين أو ثلاثة" 1. وكان معلى فقيهاً من أصحاب الرأي، وكان من كبار أصحاب أبي يوسف ومحمد بن الحسن2، فأشار الإمام أحمد إلى أنه كان يحمل الأحاديث على ما يوافق رأيه في الفقه، وهذا إنما يحصل بسبب الرواية بالمعنى. وموقف الإمام أحمد من سائر أصحاب الرأي من عدم الرواية عنهم، يحتمل أن يكون ناتجاً عن هذا السبب، فيكون دليلاً آخر على هذه القاعدة وبالتالي يعتبر مقتضى تلك القاعدة منهجاً للإمام أحمد، لكن ذكر ابن هاني عن أحمد أنه قال: "تركنا أصحاب الرأي، وكان عندهم حديث كثير، فلم نكتب عنهم، لأنهم معاندون للحديث ... " 3، فهذا يدل على أن تركه لأحاديث أهل الرأي هو من أجل معاندتهم للحديث عنده، أي مخالفتهم له. وحمله القاضي أبو يعلى على أهل الرأي من المتكلمين كالقدرية وغيرهم، ورده أبو المحاسن والد شيخ الإسلام
ابن تيمية فذكر أنه نوع من الهجر، بدليل أنه قد صرّح بتوثيق بعض من ترك الرواية عنه ـ يعني من أصحاب الرأي ـ كأبي يوسف ونحوه1، يعني إن ترك الإمام أحمد لأحاديث أهل الرأي كان من أجل هجرة المخالف للسنة، وليس من أجل ضعف حديثهم، وعليه فلا يؤخذ من موقفه هذا دليل على سوء حفظ أهل الاختصاص بالفقه والرأي2. وأما من حيث الأحاديث التي أعلها الإمام أحمد بهذا الوجه من وجهي دخول الخطأ من أجل الرواية بالمعنى، فلم أقف إلا على حديث واحد ذكره ابن رجب في شرحه على صحيح البخاري3 عند الكلام على حديث هشام ابن عروة، عن أبيه عن عائشة في حديثها عن حجها وفيه: قالت عائشة: وكنت أنا ممن أهلّ بعمرةٍ، فأدركني يومُ عرفةَ وأنا حائضٌ فشكوتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "دعي عمرتَك وانقُضي رأسَك وامتَشِطي وأهلِّي بحَجٍّ" 4 فقال أحمد: "من رواه [انقُضي عمرتَك] فقد أخطأ، ورواه بالمعنى الذي فهمه". ولم أقف على تلك الرواية التي أشار إليها الإمام أحمد، لكن الظاهر أنه من بعض من يرى رأي أهل الكوفة. قال ابن رجب: وذلك أن قول أبي حنيفة
والكوفيين أن المرأة الحائض إذا أهلت بعمرة وخافت فوات الحج فإنها ترفُض العمرة، ثم تُحرم بالحج، ثم تقضي العمرة بعد الحج، وتأولوا حديث عائشة على ذلك. ا.هـ1. ومثل ابن رجب لتلك الأحاديث برواية شريك القاضي لحديث أنس: [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ برطلين من ماء] . أخرجه أبو داود2 ـ واللفظ له ـ والترمذي3، وأحمد4، وابن أبي شيبة5. قال ابن رجب: رواه بالمعنى الذي فهمه، فإن لفظ الحديث: [أنه كان يتوضأ بالمد] والمد عند أهل الكوفة رطلان6. يشير إلى رواية الجماعة لحديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، أخرجاه من حديث عبد الله بن عبد الله بن جبر عن أنس7. الوجه الثاني: وهو الذي يقع بسبب تصرف الراوي في اللفظ وفيه نوع من الخفاء في المعنى فيروي الراوي بالمعنى الذي فهمه فيقلبه، فهذا لم يسلم منه حتى الرواة الثقات، حتى إن ابن حبان اعتبر هذا جنساً من أحاديث الثقات التي لا يجوز الاحتجاج بها، قال رحمه الله: "الثقة الحافظ إذا حدث من حفظه وليس بفقيه، لا يجوز عندي الاحتجاج بخبره، لأن الحفاظ الذين رأيناهم أكثرهم كانوا يحفظون الطرق والأسانيد دون المتون ... فإذا كان الثقة الحافظ لم يكن فقيهاً
وحدث من حفظه، فربما قلب المتن، وغيّر المعنى حتى يذهب الخبر عن معنى ما جاء فيه، ويقلب إلي شيء ليس منه وهو لا يعلم، فلا يجوز عندي الاحتجاج بخبر من هذا نعته إلا أن يحدث من كتاب، أو يوافق الثقات فيما يرويه من متون الأخبار" 1. وهذا لا يؤخذ على إطلاقه كما قال ابن رجب، وإنما يختص بمن عرف منه عدم حفظ المتون وضبطها، لأن الظاهر من حال الحافظ المتقن حفظ الإسناد والمتن، إلا أن يوقف منه على ذلك2، أي فلا يقبل منه إلا ما وافقه الثقات على لفظه أو كان تحديثه به من كتابه. والنماذج التي وقفت عليها من إعلال الإمام أحمد للأحاديث من أجل الرواية بالمعنى ترجع إلى هذا الوجه الثاني، وهي كما يلي: 1. قال عبد الله: حدثني أبي قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة قال: حدثني عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عَسال قال: قال رجل من اليهود: انطلق بنا إلى هذا النبي، قال: لا تقل النبي، فإنه لو سمعها كان له أربعة أعين ... وقصّ الحديث، فقالا: نشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم. سمعت أبي يقول: خالف يحيى بن سعيد غيرُ واحدٍ، قالوا: نشهد أنك نبي. قال أبي: لو قالوا: نشهد أنك رسول الله كانا قد أسلما، ولكن يحيى أخطأ فيه خطأً قبيحاً3. حديث يحيى بن سعيد هذا أخرجه أحمد في المسند4، والطحاوي5، عنه عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلِمة، عن صفوان بن عسَال، ولفظه
كما في المسند: [قال رجل من اليهود لآخر: انطلِق بنا إلى هذا النبي، قال: لا تقل هذا، فإنه لو سمعها كان له أربعة أعين، قال: فانطلقا إليه فسألاه عن هذه الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:101] قال: "لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، ولا تَسرِقوا، ولا تَزنوا، ولا تَفِرُّوا من الزَّحف، ولا تسحَروا، ولا تأكلوا الرِّبا، ولا تُدلُوا ببريءٍ إلى ذي سُلطان ليقتُلَه، وعليكم خاصة يهود أن لا تعتدوا في السَّبت"، فقال: نشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم] . وخالف يحيى بنَ سعيد غيرُ واحد من أصحاب شعبة، والذين وقفت عليهم هم: 1. غندر محمد بن جعفر، وحديثه عند أحمد1، ومن طريقه الحاكم2، والمقدسي3، ورواه الطبري أيضاً من طريق غندر4. 2. عبد الرحمن بن مهدي، وحديثه عند الطبري في التفسير5. 3. يزيد بن هارون، وحديثه عند أحمد6، والترمذي7. 4. أبو داود الطيالسي8، وأخرج الحديث من طريقه الترمذي9، والطبري10، والطحاوي11، والبيهقي12.
5. أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، وحديثه عند الترمذي1، وابن أبي عاصم2، وابن قانع3، والعقيلي4، والطبراني5، ومن طريقه المقدسي6. 6. عبد الله بن إدريس، وحديثه عند الترمذي7، والنسائي8. 7. أبو أسامة حماد بن أسامة، وحديثه عند الترمذي9. 8. وهب بن جرير، وحديثه عند الحاكم10. 9. آدم بن أبي إياس، وحديثه عند الحاكم أيضاً11. 10. عمرو بن مرزوق، وحديثه عند الطحاوي12. 11. حجاج بن محمد المصيصي، وحديثه عند الطحاوي أيضاً13. 12. سهل بن يوسف، وحديثه عند الطبري14. وكلهم قالوا: [نشهد أنك نبي] . وقال الطحاوي: هذا الحرف: [نشهد أنك رسول الله] لم يقله أحد من أصحاب شعبة إلا يحيى بن سعيد. ا.هـ15.
وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: أعله الإمام أحمد بأن يحيى القطان قد أخطأ في رواية الحديث حيث رواه بالمعنى، وذلك أنه قال مكان "نبي": "رسول الله"، واللفظان يختلف مدلولهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية "النبى هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أُنبأ به فإن أُرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليُبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسله هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول" 1. فأوضح الإمام أحمد بأنهم لو قالوا: [نشهد أنك رسول الله] كما قال يحيى كانا قد أسلما، لأن ذلك يتضمن شهادتهم بصدق بعثته وقبول رسالته، بخلاف ما لو قالوا: نشهد أنك نبي، فإن ذلك لا يدل إلا على شهادتهم بأنه منبَّأ ومُوحى إليه، ولا يقتضي إقرارهم برسالته، ولا يدخلون في الإسلام بمجرد ذلك. وفي الحديث أنهما لم يُسلما، لأنه ورد في رواية الجماعة: "فما يمنعكما أن تتبعاني؟ " قالا: إن داود عليه السلام دعا أن لا يزال من ذريته نبيٌّ، وإنا نخشى إن أسلمنا أن يقتلَنا يهود2، فدل على خطأ لفظة: [نشهد أنك رسول الله] التي ذكرها القطان، وهذا ما نص عليه الإمام أحمد. وفي هذا الإعلال من الإمام أحمد نكتة بديعة، وهي أن الشخص لا يحكم بدخوله في الإسلام بالإقرار بنبوته صلى الله عليه وسلم فحسب، بل لا بد أن ينضم إلى ذلك الإقرار برسالته عليه الصلاة والسلام، ولم أهتد إلى مزيد بيان حول هذه المسئلة في كتب العقيدة، وهي تحتاج إلى مزيد بحث في مسائل العقيدة. واستبدال النبي بالرسول في هذا الموضع ليس مثل ما وقع في حديث
البراء بن عازب في الصحيحين1: "وبرسولك الذي أرسلت"، فرده عليه الصلاة والسلام على البراء فقال: "لا، وبنبيك الذي أرسلت"، لأن الحكمة في رده عليه الصلاة والسلام استبدال أحد اللفظين بالآخر هنا هي كون ألفاظ الأذكار توقيفية2، وأما في حديث يحيى هذا فالرد كان من أجل اختلاف مدلول اللفظين وما يقتضي كل واحد منهما من الأحكام، فلا يسوغ معه الاستبدال والحالة هذه عند الرواية بالمعنى. وهذا الحديث قد صححه الترمذي، والحاكم، والضياء3. وقال النسائي: هذا حديث منكر، وذكر أنه حكي عن شعبة أنه قال: سألت عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة فقال: تعرف وتنكر. ا.هـ4. وقال أحمد عن عبد الله بن سلمة هذا رواية عن شعبة أنه قال: كان قد كبر، فكان يحدثنا فتعرف وتنكر5. وقال البخاري: عبد الله بن سلمة أبو العالية الهمداني، ولا يتابع في حديثه6، وذكر
العقيلي أنه يقصد هذا الحديث1. وقد وثقه العجلي ويعقوب بن شيبة2. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به3. فالحديث ضعيف لحالة عبد الله بن سلمة، فإنه وإن كان صدوقاً إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وقد تفرد بالحديث، والله أعلم. 2. في حديث عمران بن حصين: [دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال: اقبَلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: بشرتنا فأعطنا ـ مرتين ـ ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن أنْ لم يَقبلْها بنوا تميم"، قالوا: قد قبِلنا يا رسول الله. قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر. قال: "كان اللهُ ولم يكن شيءٌ غيرَه وكان عرشُه على الماءِ، وكَتب في الذِّكر كلَّ شيء، وخلق السماوات والأرضَ" 4، رواه الطبراني من طريق محمد ابن عبيد، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن عمران ابن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه: "وخلق الذكر". قال أبو القاسم: هذا الحرف كان محمد بن عبيد يخطىء فيه وينهاه أحمد بن حنبل أن يحدث به، والصواب ما روى أبو بكر بن عياش وغيره: "وكتب الذكر". ا. هـ5. هذا الحديث سيأتي في مطلب الإعلال باختلاط الراوي6، وكل من رواه من أصحاب الأعمش قال: "وكتب في الذكر كلَّ شيء"، وجاءت رواية محمد ابن عبيد ـ وهو الطنافسي ـ عن الأعمش فقال: "وخلق الذكر"، فأنكره عليه الإمام أحمد وكان ينهاه عنه كما نقل ذلك الطبراني، ووجه ذلك أنه رواه بالمعنى
وأخطأ فيه، فإن قوله: خلق الذكر، يختلف في المعنى عن: كتب الذكر، لأن الأول يقتضي أن القرآن مخلوق، لأن القرآن هو الذكر، وقد احتج بهذه الرواية على خلق القرآن بعضُ من ناظر الإمام أحمد أمام المعتصم زمن المحنة، فقال أحمد: هذا خطأ، حدثنا غير واحد: "إن الله كتب الذكر". ا. هـ1. 3. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن حُميد، عن أنس أن بني سلِمة أرادوا أن يتحولوا من ديارهم إلى قُرب المسجد، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعرى المسجدُ، فقال: "يا بني سلِمة، ألا تحتسبون آثاركم؟ " فأقاموا. قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: أخطأ فيه يحيى بن سعيد، وإنما هو: أن تُعرى المدينةُ، فقال يحيى: المسجد، وضرب عليه أبي هاهنا، وقد حدثنا به في كتاب يحيى بن سعيد2. هذا الحديث رواه الإمام أحمد من غير حديث يحيى بن سعيد القطان، فرواه من حديث محمد بن أبي عدي3، ومن حديث عبد الله بن بكر السهمي4، وهو عند البخاري5، وابن ماجه6، وابن أبي شيبة7، والبيهقي8، كلهم بلفظ: "فكره أن تُعرى المدينة". وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: أعلّ الإمام أحمد رواية شيخه يحيى بن سعيد القطان لهذا الحديث حيث
قال: "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعرى المسجد" مكان: "أن تعرى المدينة"، وهذا يحتمل أن يكون الخطأ يرجع إلى الرواية بالمعنى، فإن معنى كراهية أن تعرى المدينة هو أن تُترك خالية، لأن العراء هي الفضاء من الأرض1، فكأنه حرص أن تبقى جهات المدينة عامرة بساكنها2. وهذا المعنى لا يوجد في "أن يعرى المسجد". ويحتمل أن يكون هذا مجرد وهم من يحيى في لفظ الحديث حيث قال: المسجد مكان: المدينة، وليس من أجل الرواية بالمعنى، والله أعلم. اختصار الحديث: وهو رواية بعض الحديث الواحد دون بعض3، وهو من فروع الرواية بالمعنى، فمَن منعها أطلق المنع على الاختصار، ومن أجازها أجازه بالشرط الذي اشترطه في الرواية بالمعنى. قال الخطيب: "وإن كان النقصان من الحديث شيئاً لا يتغير به المعنى كحذف بعض الحروف والألفاظ، والراوي عالم واعٍ محصل لما يغير المعنى وما لا يغيره من الزيادة والنقصان، فإن ذلك سائغ له على قول من أجاز الرواية على المعنى دون من لم يجز ذلك" 4. ومن أجل الإخلال بهذا الشرط يقع بعض الرواة في الخطأ عند اختصار الحديث، فيكون ذلك سبباً لإعلال حديثهم، وقد أنكر إسماعيل بن علية على شعبة اختصاره للحديث الذي رواه عنه، قال إسماعيل بن علية: "روى عني شعبة حديثاً واحداً، فأوهم فيه، حدثتُه عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل5، فقال
شعبة: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التزعفر1" 2، فشعبة لماّ اختصر الحديث أوهم أن النهي فيه عام، والواقع أنه خاص بالرجال، ووقع في هذا الوهم من أجل الاختصار. وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى أن شعبة اختصر الحديث، لكنه جوز أن يكون ابن علية اختصره لما حدّثه به3، ولعله لم يستحضر إنكار ابن علية على شعبة، وهو ينفي هذا الاحتمال الذي ذكره الحافظ. ووجه دخول الخطأ على الاختصار هو عين وجه دخوله على الرواية بالمعنى، أي التصرف في اللفظ الذي يؤدي إلى تخطئة المعنى بسبب نوع من الخفاء فيه. قال إسحاق بن هانئٍ: وسئل عن حديث وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قصة الحيض؟ قال: هذا باطل4. وحديث عائشة الذي رواه وكيع أخرجه ابن ماجه في "باب الحائض كيف تغتسل" قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، قالا: ثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها، وكانت حائضاً: "انقضي شعرك واعتسلي" 5، وهو عند ابن أبي شيبة6.
وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: جاء توضيح ذلك في رواية المروذي كما نقلها ابن رجب، قال: "وقد ذُكر هذا الحديث للإمام أحمد، عن وكيع فأنكره، قيل له: كأنه اختصره من حديث الحج؟ قال: ويحل له أن يختصر؟ نقله عنه المروذي" 1. قال ابن رجب: هذا الحديث يوهم أنه ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال لها ذلك في غسلها من الحيض، وهذا مختصر من حديث عائشة الذي خرجه البخاري. ا.هـ2. وحديث عائشة في الحج أخرجه غير واحد عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بلفظ: [خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوافين لهلال ذي الحجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحبّ أن يُهلّ بعمرةٍ فليُهلّ، ومن أحبّ أن يُهلّ بحجةٍ فليُهلّ، فلولا أني أهديتُ أهللت بعمرة". قالت: فمنهم من أهلّ بعمرة، ومنهم من أهل بحجة، وكنت ممن أهلّ بعمرة، فحِضتُ قبل أن أدخل مكة، فأدركني يومُ عرفة وأنا حائضٌ، فشكوْتُ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "دعي عمرتَك وانقُضي رأسَك وامتشطي، وأهَلّي بالحج" ففعلتُ، فلما كانت ليلةُ الحَصبة أَرسلَ معي عبدَ الرحمن إلى التّنعِيم فأَردفها فأهلّت بعمرة مكانَ عمرتها فقضى الله عز وجل حجَّها وعمرتَها ولم يكن في شيء من ذلك هديٌ ولا صومٌ ولاصدقةٌ] . هكذا رواه يحيى القطان عن هشام، أملاه عليهم هشام إملاءً3. والحديث عند الشيخين وغيرهما من طرق عن هشام به4.
ولما اختصره وكيع أوهم أن يكون قال لها ذلك في غسلها من الحيض، بينما قال لها ذلك وهي في الحيض، ولماّ ينقطع عنها، ولكن أمرها أن تغتسل للإحرام في حال الحيض، فأخل الاختصار بمعنى أصل الحديث، واستدل به على حكم لا يدل عليه، وهو امتشاط المرأة ونقضها شعرها عند غسلها من الحيض. فالإمام أحمد أنكر مثل هذا الاختصار الذي يخل بالمعنى أويحيله، قال الخلال: "إنما أنكر أحمد مثل هذا الاختصار الذي يُخل بالمعنى، لا أصل الاختصار" 1. والدليل على أن وكيعاً هو الذي اختصر الحديث وليس أبو بكر بن أبي شيبة الراوي عنه كما ذهب إليه أبو بكر الخلال2، كون ابن أبي شيبة قد توبع عن وكيع بمثل هذا اللفظ المختصر، فتابعه علي بن محمد وهو الطنافسي عند ابن ماجه كما تقدم، وتابعه أيضاً إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في "كتاب الطهور" كما قال ابن رجب3. وقد رواه الإمام أحمد، وأبو كريب كلاهما عن وكيع بدون اختصار4. وكذلك نقل المروذي عن الإمام أحمد يدل على أن إنكاره هذا الاختصار كان موجهاً إلى وكيع. فهذا الاختصار المخل بالمعنى هو وجه بطلان الحديث عند الإمام أحمد وإنكاره على راويه، وإنما وقع فيه الراوي بتصرفه في اللفظ وحمله على المعنى الذي فهمه. فالإمام أحمد رحمه الله يعتبر مثل هذا الاختصار سببا من أسباب إعلال الأحاديث. فالخلاصة أن الرواية بالمعنى أحد أسباب وقوع العلل في الروايات، وإنما
يقع ذلك عند وجود الاختلاف في الألفاظ، فإن لم يؤد ذلك الاختلاف إلى اختلاف في المعنى، دل على أن بعض الرواة تصرف في الألفاظ فروى بالمعنى، وأنه قد أصاب فلا وجه لإعلال ما رواه، مثل ما وقع من الاختلاف بين الثوري ومن خالفه في حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر في سهم الفارس والراجل من الغنيمة كما تقدم. وإن أدى الاختلاف إلى اختلاف في المعنى كان ذلك مورداً من موارد الإعلال، فينظر في الذي ينفرد بلفظ مخالف لرواية أكثر أو أحفظ الرواة فيحكم عليه بالخطأ، ويُرجع سبب الخطأ إلى الرواية بالمعنى إن وجدت قرائن تدل عليها1، ثم إن كان المتفرد من الفقهاء المعتنين بالرأي فيقوى الظن بأنه حمل لفظ الحديث على رأيه الفقهي، أو كان ممن يحدث من حفظه لا سيما إذا لم يشتهر بالفقه، يقوى الظن بأنه تصرف في اللفظ فأخطأ وأحال المعنى. ولا شك أن الذي يكثر منه الوقوع في الخطأ من أجل الرواية بالمعنى تتأثر بذلك منزلته في الجرح والتعديل من حيث الضبط، وعليه يحمل ترك الإمام أحمد لمعلى بن منصور الذي كان يحدث بما يوافق الرأي ويقع في الأخطاء. وأما ما ورد عن أهل الإتقان من الخطأ بسبب الرواية بالمعنى كيحيى القطان، ووكيع فيحمل على الأوهام والأخطاء التي لا يسلم منها أحد مهما بلغ في الحفظ والإتقان إلا المعصوم، ولا يحكم عليهم بسوء الحفظ، والله أعلم.
المبحث الثاني: الإعلال بسوء الحفظ الطارئ على الراوي
المبحث الثاني: الإعلال بسوء الحفظ الطارئ على الراوي. المطلب الأول: الإعلال باختلاط الراوي لكبر سِنِّه. الاختلاط في اللغة فساد العقل. قال ابن المنظور: واختلط فلان أي فسد عقله، ورجل خِلْطٌ بيّن الخَلاطة: أحمق مخالِط العقل ... وقد خُولط في عقله خِلاطاً واختلط، ويقال: خُولط الرجل فهو مخالِط، واختلط عقله فهو مختلِط إذا تغير عقله1. وهو في عرف المحدثين سوء الحفظ الطارئ على الراوي إما لكبره، أو لذهاب بصره، أو لاحتراق كتبه، أو عدمها بأن كان يعتمدها فرجع إلى حفظه فساء2. فالاختلاط إذاً من أسباب الطعن في رواية الراوي الراجع إلى خلل في الضبط، وعليه فلا يعلّ من روايته إلا ما تُحقّق عدم ضبطه فيه أو اشتبه الأمر فيه، فحديث المختلط لا يخلو من ثلاث حالات: الحالة الأولى: ما ثبت أنه حدّث به قبل الاختلاط، وله صورتان: الأولى: ما جاء من طريق مَن تحمّل عنه قبل الاختلاط فقط كقدماء أصحابه والرواة الذين لم يدركوا زمن اختلاطه، أو أدركوه ولم يرووا عنه في تلك الحالة. الثانية: ما جاء من طريق من تحمّل عنه في الحالتين ـ قبل الاختلاط وبعده ـ لكنهم ميزوا هذا من ذاك.
الحالة الثانية: ما ثبت أنه حدّث به بعد الاختلاط. الحالة الثالثة: ما اشتبه الأمر فيه، وهو ما رواه من طريق من لم يُعرف زمنُ تحمّله عنه، أهو قبل الاختلاط أم بعده، وكذلك مَن تحمّل عنه في الحالتين ولم يتميز هذا من ذاك. وإنما تُردّ روايةُ المختلط في الحالتين الثانية والثالثة دون الأولى، وهذا أيضاً بشرط ألا يوجد له متابع أو شاهد معتبر. قال ابن حبان: "وأما المختلطون في أواخر أعمارهم مثل الجُريري، وسعيد بن أبي عروبة وأشباههما فإنا نروي عنهم في كتابنا هذا ونحتج بما رووا إلا أنا لا نعتمد من حديثهم إلا على ما روى عنهم الثقات من القدماء الذين نعلم أنهم سمعوا منهم قبل اختلاطهم، أو ما وافقوا الثقات في الروايات التي لا نشك في صحتها وثبوتها من جهة أخرى، لأن حكمهم ـ وإن اختلطوا في أواخر أعمارهم، وحُمل عنهم في اختلاطهم بعد تقدّم عدالتهم ـ حكمُ الثقة إذا أخطأ أن الواجب ترك أخطائه إذا علم والاحتجاج بما نعلم أنه لم يخطئ فيه، وكذلك حكم هؤلاء: الاحتجاج بهم فيما وافقوا الثقات وما انفردوا مما روى عنهم القدماء من الثقات الذين سماعهم منهم قبل الاختلاط سواء" 1. وأما في الحالة الأولى ـ بكلا صورتيها ـ فلا وجه لردها. وقد قال يحيى ابن معين لوكيع بن الجراح: "تحدّث عن سعيد بن أبي عروبة وإنما سمعت منه في الاختلاط؟ قال: رأيتَني حدّثت عنه إلا بحدث مستوٍ؟ " 2. وقال وكيع: كنا ندخل على سعيد بن أبي عروبة فنسمع، فما كان من صحيح حديثه أخذناه، وما لم يكن صحيحاً طرحناه3.
فهذا يوضّح أن حديث المختلط عندهم إذا كان معروفاً ومستوياً فهو مقبول وإن حدّث به في حال الاختلاط. ولذلك قال السخاوي ـ بعد أن ذكر قول وكيع المتقدم ـ إذا حدّث في حال اختلاطه بحديث واتفق أنه كان حدّث به في حال صحته فلم يخالفه أنه يقبل، فليحمَل أطلاقهم عليه1. ولتمييز هذه الحالات اهتمّ الأئمة الحفاظ بمعرفة زمن اختلاط المختلط بالتحديد لكي يجعلونه ضابطاً يميِّزون به بين التحمّل في الصحة والتحمّل بعد الاختلاط، فقسموا الرواة عن المختلط أقساماً: 1. من كان سماعه قبل الاختلاط. 2. من كان سماعه بعد الاختلاط. 3. من كان سماعه قبل الاختلاط وبعده وتميّز الأول من الثاني. 4. من كان سماعه قبل الاختلاط وبعده ولم يتميّز الأول من الثاني. 5. من لا يعرف زمن تحمله عنه. وكذلك اهتم الحفاظ في هذا الباب بأمور أخرى منها: 1. التفريق بين الاختلاط والتغيّر: قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبي قال: سألتُ ابن عليّة عن الجُريري فقلت له: يا أبا بِشر أكان الجُريري اختلط؟ قال: لا، كبر الشيخ فرقّ2. وجاء ما يدل على اعتماد الإمام أحمد هذا فقد ذكر له علة حديث بأن سماع راويه من الجريري بعد الاختلاط فلم يجب، وقال: لا أدري3. وهذا يدل على أن الاختلاط والتغير أمران متباينان، فالتغير
هو رقة في الحفظ كما يحصل من أجل الشَّيْخُوخة وكِبَر السِّن، ولازم هذا التفريق أن الذي أصابه التغير لا يعامل معاملة المختلط، ووجه ذلك أن التغير لا يؤثِّر على مرويات الرَّاوي لقلة ما يحصل بسببه من الأوهام والأغلاط، حاله حال الثقة الذي قد يهم، فيُتَجنَّب ما تُحُقِّق أنه وهِم فيه وأخطأ، ويقبل باقي حديثه ولا يتوقف في قبولها، بخلاف الاختلاط الذي يجعل المتصف به لا يعقل ما يحدّث به، فيُجيب فيما سُئل، ويحدِّث كيف شاء فيختلط حديثه الصحيح بحديثه السقيم1. وقال الذهبي في ترجمة هشام بن عروة: "أحد الأعلام، حجة إمام، لكن في الكِبَر تناقَص حفظُه، ولم يختلط أبداً، ولا عبرة بما قاله أبو الحسن بن القطّان من أنه وسُهيل بن أبي صالح اختلطا وتغيرا، نعم الرجلُ تغيّر قليلاً ولم يبق حفظُه كهو في حال الشَّبيبة فنسِيَ بعضَ محفوظِه أو وهم فكان ماذا؟ أهو معصوم من النسيان؟ ولما قدم العراق في آخر عمره حدّث بجملة كثيرة من العلم في غضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها، ومثل هذا يقع لمالك، ولشعبة، ولوكيع، ولكبار الثقات، فدعْ عنك الخَبْط وذَرْ خَلط الأئمة الأثبات بالضعفاء والمُخلِّطين" 2 وكأن الإمام أحمد لاحظ هذا الفرق واعتمده في الجريري فلم يهتمّ بتمييز الرواة عنه ولا بذكر ضابطٍ للسَّماع الصَّحيح من السماع المختلط كما فعل مع سائر المختلطين. 2. قد يختلط الراوي ولا يؤثر ذلك على مروياته، وذلك لأحد أمرين: الأول: أن يكون لم يحدّث بشيء حال اختلاطه، كما حصل لعبد الوهاب الثقفي، وجرير بن حازم. قال أبو داود: "جرير بن حازم وعبد الوهاب الثقفي تغيرا فحُجِب الناس عنهما" 3.
الثاني: أن لا يُؤْثَر عنه حديثٌ منكرٌ، كما قال ابن عدي في أبان بن صمعة أنه مع اختلاطه لم يجد له حديثاً منكراً1 وأشار الإمام أحمد إلى أن أبان بن صمعة وإن تغير بأخرة فهو صالح الحديث كما سيأتي في آخر المطلب. وسأذكر في هذا المطلب جمعاً من الرواة نص الإمام أحمد على أنهم اختلطوا، وحيث وجد أذكر ما أعلّه من حديثهم، وهم كأنموذج يتبين من خلاله أن الإمام أحمد يعتبر الاختلاط في الأحوال التي ترد بها الرواية علةً يُعتلّ بها ما يستنكر من رواية المختلطين، وأقتصر في هذا المطلب على من اختلط لكبر سنّه وذلك لكثرتهم، وأما من كان اختلاطه لأسباب أخرى كالعمى، واحتراق الكتب وغيرهما فسأفردهم بالذكر في مطلب خاص إن شاء الله. 1- صالح مولى التوأمة ت125هـ: هو صالح بن نبهان مولى التوأمة بنت أمية بن خلف أبو محمد المدني قال عنه الإمام أحمد: صالح الحديث2. وقد وردت عن الإمام أحمد روايات تشير إلى اختلاط صالح، منها: قال عبد الله: قلت لأبي إن بشر بن عمر زعم أنه سأل مالك بن أنس عن صالح مولى التوأمة فقال: ليس بثقة. قال أبي: مالك كان قد أدرك صالحاً وقد اختلط أو هو كبير، ما أعلم به بأساً من سمع قديماً وقد روى عنه أكابر أهل المدينة3. وقال عبد الله أيضاً: قال أبي: صالح مولى التوأمة ما أرى به بأساً من سمع
منه قديما1. وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن صالح مولى التوأمة فقال: قال مالك: قد رأيته مختلِطاً، ولم يحمل عنه. ثم قال: من سمع قبل الاختلاط فكأنه2. وقال البخاري: كان أحمد يقول: من سمع من صالح قديما فسماعه حسن ومن سمع منه أخيراً فكأنه يضعف سماعه3. وقال أبو داود: قلت لأحمد: صالح مولى التَّوْأَمة؟ قال: لقيه مالك ـ زعموا ـ بعد ما كبر. قلت لأحمد: هو مُقارِب الحديث؟ قال: أما أنا فأحتمله وأروي عنه، وأما أن يقوم موضع مجد فلا؟ 4. فهذه الرويات عن الإمام أحمد أثبتت أن صالح مولى التوأمة كان قد اختلط، وذكرت التمييز بين سماع من سمع منه قديماً ومن سمع منه بأخرة، وهذا التفصيل لا يكون إلا في راوٍ مختلطٍ. ولم تبين الروايات زمن الاختلاط ولم تنص على أعيان من سمع منه قبله، ولكن نصت على أن الإمام مالكاً ممن سمع منه بعد الاختلاط. ولا يمكن أن يؤخذ من هذا ضابطاً للسماع الصحيح من السماع في حالة الاختلاط. ما أعله الإمام أحمد من حديثه: وقد ورد عن الإمام أحمد إعلال حديث رواه صالح مولى التوأمة، إلا أنه لم يتبين تماماً هل أعله بإختلاط صالح فيكون شاهداً للباب، أو أعله بأمر آخر.
فروى ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلّى على جنازة في المسجد فليس له شيءٌ"1. قال عبد الله: سألت أبي عن حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له" فقال: حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد ثم قال: حتى يثبت حديث صالح مولى التوأمة، كان عنده ليس يثبت أو ليس صحيحاً2. وهذه الرواية ليست صريحة في إعلال الحديث باختلاط صالح، إذ غاية ما فيها التنصيص على عدم ثبوت الحديث، ويحتمل أن يكون الحديث قد رواه قبل الاختلاط لكنه تفرد به وهو ممن لا يحتمل تفرده خاصة مع مخالفته لحديث عائشة رضي الله عنها. ويؤيد هذا الوجه ما نقله الحافظ ابن عبد البر قال: وسئل أحمد بن حنبل ـ وهو إمام أهل الحديث والمتقدم في معرفة علل النقل فيه ـ عن الصلاة على الجنازة في المسجد فقال: لا بأس بذلك، وقال بجوازه، فقيل: فحديث أبي هريرة؟ فقال: لا يثبت أو قال: حتى يثبت. ثم قال: رواه صالح مولى التوأمة، وليس بشيء فيما انفرد به. ا.هـ3. وذكر النووي عن الإمام أحمد أنه قال: هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف4. واعتمد ابن عبد الهادي
هذا النقل عن النووي1، واعتماد ابن عبد الهادي هذا النقل عن النووي يدل على عدم وقوفه على رواية عن الإمام أحمد في المسئلة من طريق أصحابه. ويؤيد أن علة الحديث هو اختلاط صالح ما ذكره أبو الحسن ابن القطان قال: "حكى الترمذي عن البخاري عن أحمد بن حنبل قال: سمع ابن أبي ذئب من صالح أخيراً وروى عنه منكراً" 2. وهذا الحديث من رواية محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة، فحيث كان سماعه من صالح أخيراً تحمل نكارته على اختلاط صالح. لكن هذا النقل مخالف لما في نسخة "علل الترمذي الكبير" التي بأيدينا وما نقله البيهقي من الكتاب نفسه، وفيه: "قال قلت كيف صالح مولى التوأمة؟ قال ـ أي البخاري ـ قد اختلط في آخر أمره، من سمع منه قديماً سماعه مقارب وابن أبي ذئب ما أرى أنه سمع منه قديماً يروي عنه مناكير" 3. وفي موضع آخر: قال: "قال محمد: وابن أبي ذيب سماعه منه أخيراً، يروي عنه مناكير" 4. فالظاهر أن القائل بأن سماع ابن أبي ذيب في زمن الاختلاط هو البخاري ولم ينسبه إلى الإمام أحمد، ولذلك استغرب الحافظ ابن حجر نقل ابن القطان هذا5. وقد نص جمع من الأئمة على أن سماع ابن أبي ذيب من صالح مولى التوأمة قبل الاختلاط6، ولم يَرِد عن الإمام أحمد شيءٌ عن سماع ابن أبي ذيب من صالح إلا هذا النقل من ابن القطان، والله أعلم.
فإيراد هذا الحديث مما أعله الإمام أحمد بعلة اختلاط صالح مولى التوأمة هو على الاحتمال فقط. 2 - عطاء بن السائب ت126هـ: هو عطاء بن السائب بن مالك الثقفي أبو السائب الكوفي. قال عبد الله: سمعت أبي يقول: عطاء بن السائب ثقة ثقة رجل صالح1. وقال المروذي: قيل له ـ أي أحمد بن حنيل: عطاء بن السائب أحب إليك أو حصين؟ فقال: كلاهما ثبتان2. وقال عبد الله: سألته عن عطاء بن السائب فقال: صالح، من سمع منه يعني قديماً وقد تغير فإنه ليس بذاك إنه ليرفع إلى بن عباس3. وقال أبو طالب: سألت أحمد يعني ابن حنبل عن عطاء بن السائب قال: من سمع منه قديماً كان صحيحاً، ومن سمع منه حديثاً لم يكن بشيء، سمع منه قديماً شعبة، وسفيان، وسمع منه حديثاً جرير، وخالد بن عبد الله، وإسماعيل يعني ابن علية، وعلي بن عاصم، فكان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها، وقال وهيب: لما قدم عطاء البصرة قال: كتبتُ عن عَبيدة ثلاثين حديثاً ولم يسمع من عَبيدة شيئاً، فهذا اختلاط شديد4. وقال أبو داود: قلت لأحمد: عطاء بن السائب ـ أعني كيف حديثه؟ قال: من سمع منه بالبصرة فسماعه مضطرب، قلت: وُهيْب؟ قال: نعم5.
فهذه النصوص عن الإمام أحمد أثبتت الأمور التالية: 1. إن عطاء بن السائب قد تغيّر في الآخر، وأن هذا التغيّر ليس بتغيّر خفيف، بل هو اختلاط شديد، حيث إنه يزعم أنه سمع من عَبيدة ثلاثين حديثاً والواقع أنه لم يسمع منه شيئاً، وبالتالي اعتبر الإمام أحمد سماع من سمع منه في زمن التغيّر لا شيء. 2. إن عطاءَ بن السائب قبل التغيّر ثقةٌ صالحٌ صحيحُ الحديث عند الإمام أحمد. 3. ضابط التمييز بين السماع قبل الاختلاط وبعده: الظاهر من رواية أبي داود عن أحمد أن ذلك يرجع إلى مكان السماع، فمن سمع منه بالكوفة فهو قبل الاختلاط، ومن سمع منه بالبصرة فهو بعد الاختلاط1. فكأن قدومه البصرة كان في آخر حياته. 4. ذكرُ من سمع من عطاء قبل الاختلاط ومن سمع منه بعده، فذكر ممن سمع منه قبل الاختلاط: شعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري. ومما يدل على صحة سماعهما ما ذكره أبو داود قال: قلت لأحمد: يُشاكل أحدٌ سفيانَ وشعبةَ في عطاء؟ قال: لا، قلما يختلف عنه سفيان وشعبة2. وهذا يدل على ضبط عطاء لحديثه حال الصحة حيث قل أن يختلف عنه هذان الحافظان. ومنهم أيضاً سفيان بن عيينة: قال أبو داود: سمعتُ أحمد قال: سماعُ ابن عيينة عنه مقاربٌ ـ يعني من
عطاء بن السائب، سمع بالكوفة1. وذكر ممن سمع منه بعد الاختلاط: جرير بن عبد الحميد الضبي، وخالد ابن عبد الله الطحان، وإسماعيل بن عُليّة، وعلي بن عاصم، ووُهيْب بن خالد. وذكر أن أبا عوانة ممن سمع منه قبل وبعد الاختلاط، فقال أبو داود: سمعت أحمد قال: أبو عوانة سمع منه بالكوفة وبالبصرة جميعاً ـ يعني من عطاء2، والظاهر أنه لم تتميز أحدها عن الآخر كما قال هو في نفسه أن ذلك اختلط عليه3. 5. إن من مظاهر العلة في حديث عطاء بن السائب والناشئة من الاختلاط رفعه أشياء إلى ابن عباس وهي في الواقع موقوفة على سعيد بن جبير. قال أبو داود: قال أحمد: هذا الذي يروي خالد الطحّان، عن سعيد، عن ابن عباس في التفسير إنما هو عن سعيد ـ يعني خالد عن عطاء بن السائب4. وقال عبد الله: سئل أبي عن عطاء بن السائب وسماك قال: ما أقربَهما وسماك يرفعها عن عكرمة عن ابن عباس، وعطاء عن سعيد عن ابن عباس، ما أقربَهما5.
ما أعله الإمام أحمد من حديث عطاء بن السائب بالاختلاط: قال الخلال: أخبرني أحمد بن أصرَم الُمزني أن أبا عبد الله سُئل عن حديث شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضُّحى، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12] ، قال: [بينهن نبيٌّ كنبيكم، ونوحٌ كنوحكم، وآدمُ كآدمِكم] . قال أبو عبد الله: هذا رواه شعبة، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي الضحى، عن ابن عباس لا يذكر هذا، إنما يقول: [يتنزّل العلمُ والأمرُ بَيْنهنّ] وعطاء بن السائب اختلط، وأنكر أبو عبد الله الحديث. وعن قتادة قال: [في كل سماءٍ وكل أرضٍ خلقٌ من خلقه، وأمر من أمره، وقضاءٌ من قضائه] 1. هذا الأثر رواه الحاكم2، ومن طريقه البيهقي3، وقد أنكره الإمام أحمد وجعل علته اختلاط عطاء بن السائب، والراوي عنه شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، ولم ينص على زمن سماعه من عطاء، وإعلال الإمام أحمد الحديث باختلاط عطاء يدل على احتمال أن يكون شريك عنده ممن سمع من عطاء بعد الاختلاط، أو ممن لم يعرف وقت سماعه منه، أو ممن سمع منه قبل وبعد الاختلاط، إذ هذه هي حالات الإعلال بالاختلاط. وقد قوّى إعلاله للحديث بأن شعبة خالفه، فرواه عن عمرو بن مرة، عن أبي الضحى، عن ابن عباس بغير هذا اللفظ، وبما رُوي عن قتادة في تفسير الآية. وهذا التفسير عن قتادة رواه ابن جرير في التفسير4. ولم أقف على رواية شعبة هذه التي أعل بها الإمام أحمد رواية عطاء بن السائب،
وصحة الإعلال باختلاط عطاء متوقف على ثبوت تلك الرواية عن شعبة. وقد روى ابن جرير من طريق غندر، والحاكم من طريق آدم بن أبي إياس، كلاهما عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق:12] .قال: [في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق] . وقال ابن المثنى عن غندر: في كل سماء إبراهيم1. فهذا اللفظ ظاهره نحو لفظ عطاء بن السائب، مما يدل على أنه توبع من قبل شعبة، وقد صحح البيهقي الإسناد إلى ابن عباس وقال: إلا أنه شاذ بمرة ولا أعلم لأبي الضحى عليه متابعاً والله أعلم اه2 والظاهر من صنيع البيهقي أنه لا يرى أن العلة فيه اختلاط عطاء بن السائب لمتابعة شعبة له، كأنه لم يقف على رواية شعبة التي ذكرها الإمام أحمد المخالفة لروايةِ عطاء والمخالفة لروايةِ غندر وآدم بن أبي إياس عن شعبة التي ذكرت آنفاً. 3 - أبو إسحاق السَّبِيعي ت126هـ: وهو عمرو بن عبد الله بن عبيد الهمداني، أبو إسحاق السَّبِيعي. قال أحمد: أبو إسحق رجل ثقة صالح، لكن هؤلاء الذين حملوا عنه بأخرة3. فهذه إشارة إلى أن أبا إسحاق تغير بأخرة. وأصرح من ذلك ما رواه الميموني:
قال: قلت: لأبي عبد الله: وكان أبو إسحاق قد تأخّر؟ قال: إي والله، هؤلاء الصغار زهير وإسرائل يزيدون في الإسناد وفي الكلام1. فذكر من آثار هذا التغيرّ الزيادة في الإسناد، وذلك برفع الموقوف، ووصل المرسل، وزيادة رجل في الإسناد، وبمثل هذا ينحط الثقة عن رتبة الاحتجاج به كما قال الذهبي2. إلا أن هذا الصنيع ليس من قبل هؤلاء الرواة عن أبي إسحاق، بل كان من قبل أبي إسحاق نفسه، وهو دليل على اختلاطه. قال أبو داود: سمعت أحمد قال: زهير، وزكريا، وإسرائيل ما أقربهم في أبي إسحاق، في حديثهم عنه لين، ولا أراه إلا من أبي إسحاق، هو السَّبيعي. قال: قلت لأحمد: شريك منهم؟ قال: شريك سمع قديماً3. وقال صالح عن أحمد: زهير، وإسرائيل، وزكريا في حديثهم عن أبي إسحاق لين، سمعوا منه بأخرة، وشريك كان أثبت في أبي إسحاق منهم، سمع قديماً. وزهير فيما روى عن المشايخ ثبت بخ بخ4. وقال أبو داود أيضاً: قلت لأحمد: إسرائيل أحب إليك أو زهير في أبي إسحاق؟ قال: ما فيهما بحمد الله إلا يُخطئ، وما أراه إلا من أبي إسحاق5. وقال في رواية عبد الله: وفي حديث إسرائيل اختلاف عن أبي إسحاق، أحسب ذاك من أبي إسحاق6.
فنصّ رحمه الله في هذه الروايات على أن ما في حديث هؤلاء الحفاظ عن أبي إسحاق ـ وهم زهير بن معاوية الجعفي، وزكريا بن أبي زائدة، وإسرائيل ابن يونس بن أبي إسحاق ـ من الخطأ والاختلاف إنما هو من قبل أبي إسحاق وليس من قبلهم، وأن ذلك راجع إلى كونهم سمعوا منه بأخرة. وقدّم شريكاً عليهم في أبي إسحاق مع أنه دونهم في الحفظ والإتقان، لأنه أقدم سماعاً منهم. وقد أنكر الذهبي أن أبا إسحاق اختلط، وقال: كبر وتغيَّر حفظُه تغيُّرَّ السن، ولم يختلط1. ومما يدل على أن أبا إسحاق اختلط ما رواه أبو زرعة الدمشقي قال: حدثني عبد الله بن جعفر عن عبيد الله بن عمرو قال: جئت محمد بن سوقة معي شفيعاً عند أبي إسحاق فقلت لإسرائيل: استأذن لنا الشيخ، فقال لنا: صلى بنا الشيخ البارحةَ فاختلط قال: فدخلنا عليه، فسلمنا وخرجنا2. وقال الفسوي: قال سفيان بن عيينة: حدثنا أبو إسحاق في مسجده، ليس معنا ثالث. فقال بعض أهل العلم: كان قد اختلط فإنما تركوه مع ابن عيينة لاختلاطه3. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن زهير بن معاوية فقال: ثقة إلا أنه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط4. وقال الذهبي: ما اختلط أبو إسحاق أبداً، وحمل كلام أبي زرعة هذا على التغيُّر ونقص الحفظ5. وقد تقدم من كلام الإمام أحمد أن تغير أبي إسحاق كان
من آثاره أن وقعت أخطاء في مرويات من روى عنه بأخرة من زيادة في الأسانيد والمتون، والتغير إذا تضمن مثل هذا فلا يقال فيه إنه تغير يسير، بل الظاهر أنه من الاختلاط. وقد تقدم مثل هذا عن عطاء بن السائب أن من آثار اختلاطه أنه كان يرفع إلى ابن عباس ما كان موقوفاً على سعيد بن جبير1. وذكر ابن حبان عن عبد الله بن عبد العزيز الليثي أنه كان ممن اختلط بأخرة حتى كان يقلب الأسانيد وهو لا يعلم، ويرفع المراسيل من حيث لا يفهم2. وإذا ثبت أن أبا إسحاق اختلط، فقد سمع منه قبل الاختلاط على ما ذكره أحمد: سفيان، وشعبة، وشريك. قال الميموني: قلت لأبي عبد الله: من أكبر في أبي إسحاق؟ قال: ما أجد في نفسي أكبر من شعبة فيه، ثم الثوري، وشعبة أقدم سماعاً من سفيان3. وقال عبد الله: سمعت أبي يقول: قال شريك عن أبي إسحاق فقال: كان ثبتاً فيه4. وقد تقدم أنه قال إنه قديم السماع من أبي إسحاق. وذكر الإمام أحمد أربعة ممن سمع من أبي إسحاق بأخرة، وهم: زهير، وزكريا، وإسرائيل، وزائدة بن قدامة. قال في حديث زائدة عن أبي إسحاق: إذا سمعت الحديث عن زائدة وزهير فلا تبال أن لا تسمعه من غيرهما إلا حديث أبي إسحاق5. ولم يرد عن الإمام أحمد ضابط التمييز بين السماع القديم والسماع المتأخر.
ما أعله من حديث أبي إسحاق بالاختلاط: قال أبو داود: قلت لأحمد: كُدير الضبي له صحبة؟ فقال: لا، قلت: زهير يقول: إنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أو إن أعرابياًّ أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، أعني في حديث زهير، عن أبي إسحاق، عن كدير الضبي؟ فقال: زهير سمع من أبي إسحاق بأخرة1. هذا الحديث سيأتي في مسئلة ما يقدح في ثبوت الصحية، وسيأتي هناك أن رواية زهير عن أبي إسحاق، عن كُدير الضبي أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأتاه أعرابي فقال: [يا رسول الله، ألا تحدّثني عما يُقربّني من الجنة ويُباعدني من النار؟ قال: "تقول العدلَ، وتُعطي الفضلَ" ... ] الحديث. أخرجه أبو القاسم البغوي2، وعنه ابن قانع3. وظاهر هذه الرواية أن لكُدير الضبي وفادةً على النبي صلى الله عليه وسلم فتَثبُتُ له صحبة، وأنكر الإمام أحمد أن تكون له صحبة، لأن الرواية التي تفيد ذلك جاءت من طريق زهير بن معاوية الجعفي، عن أبي إسحاق، وسماعه من أبي إسحاق كان بأخرة، فرد الرواية من أجل هذا. وقد روى الحديث القدماء من أصحاب أبي إسحاق مخالفاً لرواية زهير، فروى شعبة عن أبي إسحاق، سمعت كدير الضبي منذ خمسين سنة قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعرابي فذكر الحديث. أخرجه أبو داود الطيالسي4. وهذه الرواية لا تقتضي أن لكدير الضبي صحبةً. وتابع شعبةَ الثوري، والأعمش، ومعمر، وفطر ابن خليفة، وإسرائيل، وزيد بن أبي أنيسة كلهم عن أبي إسحاق كما سيأتي. ومخالفة زهير لهؤلاء ليست من أجل عدم ضبطه لحديث أبي إسحاق فإنه كان ثقة ثبتاً متقناً،
بل ذلك راجع إلى اختلاط أبي إسحاق، فسمع هذا الحديث منه على الوجه الخطأ. فقد ظهر من هذا المثال أن لسماع زهير من أبي إسحاق أثراً في وقوع الخطأ في روايته عن أبي إسحاق، وذلك الخطأ تضمن وصل حديث مرسل، واقتضى ذلك اعتبارَ منْ ليس بصحابي صحابياًّ، وهذا مما يقوي أن إبا إسحاق كان قد اختلط، ولم يكن ما أصابه من قبل التغير اليسير، وأن الاختلاط من أسباب ردّ رواية الراوي. 4 - سعيد بن أبي عروبة ت156هـ: هو سعيد بن أبي عروبة ـ واسمه مهران ـ العدوي مولاهم البصري، يكنى أبا النضر. قال أحمد: لم يكن لسعيد بن أبي عروبة كتب1، إنما كان يحفظ ذلك كله2، وذكر عن سعيد أنه كان يقول: دقَّك بالمنحاز حبَّ الفُلْفُل، وذلك لما قدم الكوفة، قال أحمد: يعني بذلك شدة الحفظ3. وأثبت الإمام أحمد أن سعيد اختلط. قال عبد الله: قلت لأبي: كان سعيد اختلط؟ قال: نعم4 وكذلك روى المروذي عنه5.
وأما حالته قبل الاختلاط فعلى ما ذكر من قوة حفظه. ضابط التمييز بين السماع الجيد والسماع بعد الاختلاط: وأما ضابط التمييز بين السماع الجيد والسماع بعد الاختلاط فقد كان الإمام أحمد يحدد ذلك بالهزيمة، ويعني بها هزيمة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن الذي خرج على أبي جعفر، وكانت سنة خمس وأربعين ومائة. قال عبد الله: قال أبي: كانت الهزيمة في سنة خمس وأربعين ومائة، قال: ومن سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل الهزيمة فسماعه جيد، ومن سمع بعد الهزيمة كان أبي ضعّفهم1. وكان هذا مذهب يحيى بن سعيد القطان أيضاً قال عبد الله: سمعت أبي يقول: كان يحيى بن سعيد يوقِّت فيمن سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل الهزيمة فسماعه صالح، والهزيمة كانت سنة خمس وأربعين ومائة. قال: قال أبي: وهذه هزيمة إبراهيم بن عبد الله بن حسن الذي كان خرج على أبي جعفر2. وقال المروذي: قال أحمد: أما يحيى فكان يقول: من سمع قبل سنة خمس وأربعين3. ولعل الإمام أحمد أخذ هذا الضابط عن يحيى بن سعيد فإنه كان شيخَه وكان قد لقي ابن أبي عروبة. من سمع من ابن عروبة قبل الاختلاط: ذكر الإمام أحمد أن من سمع من سعيد بالكوفة فسماعه جيد.
قال المروذي: قلت: سعيد بن أبي عروبة حين قدم الكوفة سمعوا منه وهو مختلط؟ قال: لا، سماعهم جيد، لم يكن مختلطاً1. قال عبد الله: قال أبي: من سمع منه ـ يعني سعيد بن أبي عروبة ـ بالكوفة مثل محمد بن بشر وعبْدَة فهو جيد، ثم قال: قدم سعيد الكوفة مرتين قبل الهزيمة2. وقال المروذي: قد كان ابن بشر جيد الكتاب عن سعيد، سماعهم متقدم3. فذكر ممن سمع منه بالكوفة محمد بن بشر العبدي أبو عبد الله الكوفي4، وعبدة بن سليمان الكلابي أبو محمد الكوفي5. وذكر منهم أيضاً أسباط بن محمد القرشي مولاهم أبو محمد الكوفي6. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي: أسباط بن محمد أحب إليك في سعيد أو الخفاف7؟ فقال: أسباط أحب إليّ، لأنه سمع منه بالكوفة8. وذكر منهم أيضاً عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي9. قال أبو داود: قلت لأحمد: سماع عيسى من ابن أبي عروبة؟ قال: سماعه جيد بالكوفة10.
ومن أهل البصرة يحيى بن سعيد، وهذا ظاهر لاعتماد الإمام أحمد على ما ذكره من ضابط التمييز بين السماع الصحيح من السماع بعد الاختلاط، فلو لم يكن يحيى سمع منه قبل الاختلاط لما أدرك هذا الضابط. ومنهم يزيد بن زريع. قال أبو طالب عن أحمد بن حنيل: كل شيء رواه يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة فلا تُبال أن لا تسمعه من أحدٍ، سماعُه من سعيد قديم، وكان يأخذ الحديث بنية1. وقال ابن رجب عن الإمام أحمد: قد أكثر الأئمة السماع منه ـ يعني سعيد بن أبي عروبة ـ قبل الاختلاط منهم يزيد بن زريع2. ومنهم محمد بن بكر البرساني البصري3. قال عبد الله: قال أبي: قلت لمحمد بن بكر البرساني: متى سمعتَ من سعيد بن أبي عروبة؟ قال: قبل الهزيمة4. ومنهم إسماعيل بن عليّة. قال عبد الله: حدثني أبي قال: قلت لإسماعيل ابن علية: متى جالستَ سعيداً؟ أو سمعت من سعيد قبل الطاعون وبعده؟ قال: نعم. قلت: وقبل الهزيمة؟ قال: نعم، قلت: وبعد الهزيمة؟ ثم قال: لا أدري لا أدري، إلا أني كنت آتيه أنا وأصحاب لي فيُملي علينا أو عليّ، وكان لا يفعل ذلك بكل أحد. قال أبي: "والطاعون قبل الهزيمة بأربع عشرة سنة، فسماع ابن علية من سعيد قديم" 5.
ومنهم عبد الله بن بكر بن حبيب السَّهمي البصري1. قال عبد الله: حدثني أبي: قال: قلت للسَّهمي: متى جالستَ سعيد بن أبي عروبة؟ قال: قبل الهزيمة بسنتين أو ثلاث2. وذكر ابن رجب عن الإمام أحمد أنه قال: السهمي فوق هؤلاء، يعني فوق محمد بن بكر وغيره في سماعه من سعيد3. ومنهم روح بن عبادة. قال عبد الله: وجدتُ في كتاب أبي بخط يده قال: قلت لروح بن عبادة: متى سمعت التفسير من سعيد، قبل الهزيمة؟ قال: إي والله4. وقال ابن رجب عن الإمام أحمد قال: وروح حديثه عنه صالح5. ومنهم محمد بن سواء السدوسي، فقد سأل عبد الله الإمام أحمد عن محمد ابن سواء وروح بن عبادة في سعيد بن أبي عروبة فقال: ما أقربهما6، مما يدل على أن سماعه من ابن عروبة قريب من سماع روح بن عبادة عنه، أي كان ذلك قبل الهزيمة. فهؤلاء الذين وقفت على تنصيص الإمام أحمد على سماعهم من سعيد قبل الاختلاط. من سمع من ابن عروبة بعد الاختلاط: فمنهم شعيب بن إسحاق البصري ثم الدمشقي7. قال أبو داود:
ذكرت لأحمد عن شعيب بن إسحاق، عن ابن أبي عروبة، قال: شعيب سمع منه بآخر رمق1. ومنهم محمد بن أبي عدي وهو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي أبو عمرو البصري2. قال عبد الله: قال أبي: كان يحيى بن سعيد يقول: جاء ابن أبي عدي إلى سعيد بن أبي عروبة ـ يعني وهو مختلط3. من سمع من ابن عروبة في الحالتين أو توقف الإمام أحمد في زمن سماعه منه: فمنهم يزيد بن هارون الواسطي، قال عبد الله: قال أبي: سماع يزيد بن هارون من سعيد بن أبي عروبة في الصحة إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة4 وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله ذكر سماع يزيد بن هارون من سعيد بن أبي عروبة فضعفه وقال: كذا وكذا حديث خطأ5. والظاهر أن عبد الوهاب بن عطاء الخفّاف6 ممن سمع قبل الاختلاط عند
الإمام أحمد. سئل أبو داود عن السهمي والخفاف في حديث ابن أبي عروبة فقال: عبد الوهاب أقدم، فقيل له عبد الوهاب سمع في زمن الاختلاط فقال: من قال هذا؟ سمعت أحمد بن حنيل سئل عن عبد الوهاب في سعيد بن أبي عروبة فقال: عبد الوهاب أقدم1. فظاهر هذا أنه سمع قبل الاختلاط. وأما ما ورد عنه أنه سُئل عن الموازنة بين أسباط بن محمد والخفاف في سعيد بن أبي عروبة فقال: أسباط أحب إليّ، لأنه سمع منه بالكوفة2 حيث قدم أسباطاً لأن سماعه بالكوفة ينفي احتمال كونه سمع من سعيد في حال الاختلاط بخلاف الخفاف الذي كان سماعه بالبصرة، فإنه يحتمل أن يكون سمع في الصحة والاختلاط، فلو تمحض سماع الخفاف قبل الاختلاط لما قدّم الإمام أحمد أسباطاً عليه، وخاصة أنه كان يقول في الخفاف: كان من أعلم الناس بحديث سعيد بن أبي عروبة3، فهذا يقوّي احتمال كون الخفاف سمع من سعيد في الصحة والاختلاط عند الإمام أحمد، ويتعارض مع الرواية الصريحة المتقدمة والتي تنفي سماعه في الاختلاط. وهناك احتمال آخر للجمع بين القولين، وهو أقوى الاحتمالين، وهو أن تقديم الإمام أحمد لأسباط بن محمد في سعيد على الخفاف مبنى على مطلق قدم سماعه من سعيد، فإن قدم سماع الراوي من شيخه من عوامل تقديم الرواة بعضهم على بعض عند الأئمة، فهذا يجمع بين القولين وهو أولى من ترجيح الرواية الثانية على الرواية الأولى الصريحة في نفي الإمام أحمد لسماع الخفاف من ابن أبي عروبة في الاختلاط، والله أعلم. وتوقف الإمام أحمد في سماع خالد بن الحارث أبي عثمان البصري4. فروى
ابن رجب: قيل لأحمد: يقولون سماع خالد منه بعد الاختلاط قال: لا أدري1. وكذلك توقف في سماع عباد بن العوام الكلابي مولاهم أبو سهل الواسطي2. قال أبو داود عن أحمد قال: عند عباد عن سعيد غير حديث خطأ، فلا أدري سمعه منه بآخرة أم لا؟ 3. ما أعله الإمام أحمد من حديث سعيد بن أبي عروبة بالاختلاط: قال أبو داود: سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنّا نمسح ونحن مع نبينا؟ قال: أسأل الله العافية. فقلت: شعيب بن إسحاق؟ قال: شعيب سمع بآخر رمق. قال الحسين: يعني أن شعيب بن إسحاق سمع من سعيد بن أبي عروبة هذا الحديث بآخر رمق4. لم أقف على رواية شعيب بن إسحاق هذه، وقد روى ابن ماجه5، وابن خزيمة6، كلاهما من طريق محمد بن سواء، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه [رأى سعد بن مالك وهو يمسح على الخُفين فقال: إنكم لتفعلون ذلك؟ فاجتمعا عند عمر فقال سعدٌ لعمر: أفتِ ابن أخي في المسح على الخفيْن فقال عمر: كنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نمسح على خِفافنا لا نرى بذلك بأساً، فقال ابن عمر: وإن جاء من الغائط؟ قال نعم] . ورواه أحمد عن عبد الرزاق، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع به، وعنده:
[فقال ابن عمر: وإن جاء من الغائط والبول؟ قال عمر: نعم، وإن جاء من الغائط والبول. قال نافع: فكان ابن عمر بعد ذلك يمسح عليهما ما لم يَخلعْهما، وما يوقِّت لذلك وقتاً. قال عبد الرزاق: فحدثتُ به معمراً فقال: حدثنيه أيوب عن نافع مثله" 1. وهو في مصنف عبد الرزاق2. فهذه متابعة قاصرة لمحمد بن سواء. ورواه مالك عن نافع وعبد الله بن دينار أنهما أخبراه أن عبد الله بن عمر قدم الكوفة على سعد بن أبي وقاص وهو أميرها فرآه عبد الله بن عمر يمسح على الخفين فأنكر ذلك عليه، فقال له سعد: سل أباك إذا قدمت عليه، فقدم عبد الله فنسي أن يسأل عمرَ عن ذلك حتى قدم سعد، فقال: أسألت أباك؟ فقال: لا، فسأله عبد الله، فقال عمر: إذا أدخلت رجليك في الحفين وهما طاهرتان فامسح عليهما. قال عبد الله: وإن جاء أحدنا من الغائط؟ فقال عمر: نعم، وإن جاء أحدكم من الغائط3. هكذا رواه غير مرفوع عند عمر. وقول الإمام أحمد في سؤال أبي داود: "أسأل الله العافية" نوع إنكار منه للحديث، ووجه ذلك أن رواية شعيب بن إسحاق جعلت الحديث من مسند ابن عمر، فأنكر الإمام أحمد ذلك، إذ كيف يكون عند ابن عمر علم بأنهم كانوا يمسحون مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينكر المسح على سعد كما جاءت بذلك بقية الروايات؟ ثم علّل ذلك رحمه الله بأن شعيب بن إسحاق سمع من ابن عروبة في آخر حياته ـ يعني في حال اختلاطه، وهو مظان أن يروي الخطأ منْ تحمّل عن شيخه في تلك الحالة، ومما يؤكد أن شعيب بن إسحاق روى الخطأ أنه قد خولف عن شيخه سعيد بن أبي عروبة:
خالفه محمد بن سواء بن عنبر السدوسي. قال فيه الإمام أحمد: هو أحلى من الخفاف ـ يعني عبد الوهاب بن عطاء الخفاف ـ إلا أن الخفاف أقدم سماعاً1، وسأله عبد الله عن محمد بن سواء وروح بن عبادة في سعيد بن أبي عروبة، فقال: ما أقربهما2. وقد تقدم عن الإمام أحمد أن روح كتب التفسير عن ابن أبي عروبة قبل الهزيمة، أي قبل الاختلاط، وأن حديثه عن سعيد صالح، فهذا يدل على أن سماع محمد بن سواء أيضاً قبل الهزيمة، فروايته عن سعيد مقدمة على رواية شعيب ابن إسحاق. ثم إنه قد توبع محمد بن سواء متابعة قاصرة كما تقدم: تابعه عبد الرزاق، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، وعن معمر، عن نافع، كما تابعه مالك عن نافع. ففي هذه المسألة إعلال الإمام أحمد الحديث بسماع الراوي عن المختلط في حال اختلاطه. حديث آخر: قال أبو داود: ذكرتُ لأحمدَ حديثَ عباد بن العواّم، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس: [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه] فلم يعرفْه، وقال: عند عباد عن سعيد غير حديث خطأ، فلا أدري سمعه منه بآخرة أم لا؟ يعني عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قصة أم سليم، وإنما هي في كتب سعيد، عن عكرمة، يعني عن سعيد، عن قتادة، عن عكرمة. ويحدث عكرمة، عن الفضل بن عباس3، وذكر شيئاً، وإنما هو في كتب سعيد: عن رجل، عن الحكم4.
ذكر في هذه المسألة ثلاثة أحاديث: الحديث الأول: حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه. هذه رواية عباد بن العوام، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن أنس. رواه النسائي1، والترمذي في الشمائل2، وأبو يعلى3، وأبو الشيخ4 من طريق محمد بن عيسى بن الطباع، عن عباد به. ورواه ابن عبد البر5 من طريق موسى بن داود، عن عباد به، وزاد: [ونقشه: محمد رسول الله] . وقد رُوي عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن سعيد بن أبي عروبة به مثله. رواه عنه ابنه محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي، أخرجه ابن عدي6. وقال: هذا إنما يعرف من رواية عباد بن العوام، عن سعيد، ويرويه عن عباد موسى بن داود، وأما عن خالد، عن سعيد فمنكر، لا يرويه عن خالد غيرُ محمد ابنه هذا. ا.هـ7، ومحمد بن خالد بن عبد الله الواسطي قال عنه ابن معين: لا شيء، وأنكر روايته عن أبيه، عن ابن أبي عروبة، والأعمش8. وقال أبو حاتم: هو على يديْ عدلٍ، أي قريب من الهلاك9.
وجه علة الحديث: ذكر الإمام أحمد أنه لم يعرف الحديث، وهذه إشارة إلى تفرد عباد بن العوام بالحديث عن سعيد، ثم ذكر أن عند عباد عن سعيد غيرَ حديث خطأ، وهي إشارة منه إلى خطأ هذه الرواية، وهذا الخطأ يرجع عند الإمام إلى عدم معرفة هل كان سماع عباد بن العوام من سعيد بآخرة أم لا؟ وهذا أحد أوجه عدم قبول رواية الراوي عن المختلط. وبالرجوع إلى رواية سائر الرواة عن سعيد لهذا الحديث يتبين وجه الخطأ بوضوح. فقد روى الحديث جمعٌ من الرواة عن سعيد، منهم من سمع منه قديماً قبل الاختلاط، ومنهم من سمع في الحالتين. فممن رواه وكان سماعه من سعيد قبل الاختلاط: 1. يزيد بن زريع: أخرج روايته البخاري في الصحيح1. وقد نص الإمام أحمد كما تقدم2 على أن سماع يزيد بن زريع من سعيد قديم وقبل الاختلاط. 2. عيسى بن يونس بن أبي إسحاق: أخرج روايته أبو داود3، وابن حبان4. وقال الإمام أحمد: سماع عيسى بن يونس من سعيد جيد بالكوفة5. 3. محمد بن بشر العبدي: أخرج روايته أحمد6. وتقدم أن الإمام أحمد قال: سماع محمد بن بشر من سعيد متقدم7.
4. محمد بن بكر البرساني: أخرج روايته أحمد1. تقدم أيضاً عن الإمام أحمد أنه سمع من سعيد قبل الهزيمة2. ورواه ممن سمع من سعيد في الحالتين، أو لا يعرف وقت سماعه جمعٌ أيضاً، منهم: 1. عبد الوهاب بن عطاء الخفاف: أخرج روايته ابن سعد3، والطحاوي4، وابن عبد البر5. وسماع عبد الوهاب الخفاف من سعيد في الحالتين كما تقدم عن الإمام أحمد6. 2. خالد بن الحارث: أخرج روايته أبو يعلى7. وقد تقدم أن الإمام أحمد ذكر أنه لا يدري عن وقت سماعه من سعيد8. وذكر غيره أنه سمع منه في الصحة9. 3. محمد بن عبد الله الأنصاري: أخرج روايته ابن سعد10 لم أجد التنصيص على وقت سماعه من سعيد. 4. محمد بن جعفر غندر: أخرج روايته أحمد11. لم أجد عن الإمام أحمد التنصيص على وقت سماعه من سعيد. وقد ذكر ابن مهدي أن سماعه منه بعد
الاختلاط، وأنكر ذلك الفلاس1. 5. خالد بن عبد الله الطحان الواسطي: أخرج روايته أبو داود2. ولم أجد من نص على وقت سماعه. 6. عبد الرحمن بن حماد3: أخرج روايته ابن عبد البر4. فهؤلاء ـ وعددهم عشرة، منهم أربعة سمعوا من سعيد قبل الاختلاط ـ كلهم رووا الحديث بلفظ: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى ناس من الأعاجم فقيل: إنهم لا يقبلون كتاباً إلا بخاتم، فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتَماً من فضة ونقش فيه: محمد رسول الله. فكأني أنظر إلى بصيصه أو وبيصه في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم] . هكذا رووه بدون تعيين اليد التي فيها الخاتم. وتابعهم شعبة وهشام الدستوائي، عن قتادة به. رواه البخاري5 ومسلم6 من حديث شعبة، ومسلم7 من حديث هشام الدستوائي. ولفظ حديث شعبة كما رواه البخاري: [لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لن يقرءوا كتابك إذا لم يكن مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة ونقشه: محمد رسول الله. فكأنما أنظر إلى بياضه في يده] . ولفظ حديث هشام: [أن نبي الله صلى الله عليه وسلم
كان أراد أن يكتب إلى العجم، فقيل له: إن العجم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم، فاصطنع خاتماً من فضة. قال: كأني أنظر إلى بياضه في يده] . وهؤلاء الثلاثة ـ سعيد، وشعبة، وهشام ـ هم الحفاظ من أصحاب قتادة. قال البرديجي: إذا أردت أن تعلم صحيح حديث قتادة فانظر إلى رواية شعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائي، فإذا اتفقوا فهو صحيح، وإذا اختلفوا في حديث واحد فإن القول فيه قول رجلين من الثلاثة إلخ1. فرواية شعبة، وهشام، وكذلك رواية الجماعة عن سعيد بن أبي عروبة ليس فيها ذكر موضع الخاتم من يده، هل كان في يده اليسرى أو اليمني كما أفادت رواية عباد بن العوام عن سعيد بن أبي عروبة، وتفرده عنهم يقضي بخطئه، ولو جوزنا أن يكون ممن يحتمل منه التفرد عن الحافظيْن المكثريْن ـ أعني ابن عروبة، وقتادة ـ إلا أن عدم ثبوت كون سماعه من سعيد في حال الصحة يقضي بعدم صحة روايته. ولا يعترض على هذا بأنه روي عن شعبة أيضاً بتعيين اليد، فتكون متابعة قاصرة لعباد، لأن تلك الرواية خطأ. قال ابن عدي: "وقد روي عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، يرويه عن شعبة سلم بن قتيبة، وعن سلم الحسن بن عيسى البسطامي، وقد اختلف على الحسين بن عيسى، عن سلم بن قتيبة في هذا الحديث، فرواه عنه الجرجانيون فحدثناه عنه أبو زرعة محمد بن عبد الوهاب فقال فيه: [فكأني أنظر إلى بياض خاتمه في يده اليسرى] ، وثناه عبد الرحمن بن سليمان بن عدي
الجرجاني بمكة عن الحسين بن عيسى فلم يقل فيه يسار ولا يمين، وهو الصواب، وقال الجرجاني علي بن أحمد رواه عن الحسين بن عيسى فقال: [كان النبي صلى الله عليه وسلم بتختم في يمينه] 1 فنص ابن عدي على أن الصواب عدم تعيين اليد كما رواه غير واحد عن سعيد، وشعبة، وهشام، وغيرهم عن قتادة". الحديث الثاني: قصة أم سليم، وقد روى المروذي المسألة بأصرح من هذا: قال المروذي: وذكرتُ حديثَ عباد، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس أن صفية حاضت بعد ما طافت، فقال: أخطأ فيه عباد، إنما هو عن قتادة، عن عكرمة2. هذا الحديث رواه أبو يعلى3 من هذا الوجه، قال: حدثنا زهير، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أم سُليم أنها حاضت بعد ما أفاضتْ يومَ النحر، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنفر. رواه الطحاوي عن ابن أبي داود، عن سعيد بن سليمان به4. وجه علة الحديث: قال الإمام أحمد في رواية المروذي: أخطأ فيه عبّاد، إنما هو عن قتادة، عن عكرمة. وقال في رواية أبي داود: إنما هو في كتب سعيد، عن عكرمة، يعني عن سعيد، عن قتادة، عن عكرمة. أي إن الرواية الصحيحة عن سعيد كما هي في أحاديثه المحفوظة في كتب أصحابه: عن قتادة، عن عكرمة، وليس عن قتادة عن أنس. هكذا رواه روح بن عبادة ـ وهو ممن سمع من سعيد قبل الاختلاط كما
تقدم عن الإمام أحمد ـ وكذلك محمد بن جعفر غندر ـ وهو ممن سمع من سعيد قبل الاختلاط عند الفلاس. أخرج حديثهما الإمام أحمد قال: حدثنا محمد بن جعفر، وورح المعنى قالا: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة أنه كان بين ابن عباس وزيد بن ثابت في المرأة تحيض بعدما تطوف يومَ النحر مقاولةٌ في ذلك، فقال زيد: لا تنفر حتى يكون آخرُ عهدِها بالبيت، وقال ابن عباس: إذا طافت يوم النحر وحلّت لزوجها نفرَتْ إن شاءت، ولا تنتظر. فقالت الأنصار: يا ابنَ عباس إنك إذا خالفت زيداً لم نتابعك فقال ابن عباس: سلُوا أم سليم، فسألوها عن ذلك فأخبرت أن صفية بنت حُييّ ابن أخطب أصابها ذلك فقالت عائشة: الخيبة لك حبستنا، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تنفر، وأخبرت أم سليم أنها لقيت ذلك فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنفر1 ورواه البيهقي من حديث روح وحده2. وتابعهما عبدة بن سليمان عن سعيد عند إسحاق بن راهويه3. وسماع عبدة بن سليمان من سعيد كان جيداً، سمع منه بالكوفة4 وذكر الحافظ ابن حجر أن عبد الأعلى ـ وهو بن عبد الأعلى السامي ـ أيضاً رواه عن سعيد بن أبي عروبة هكذا، وهو في كتاب المناسك من طريق محمد بن يحيى القطعي5. وقد تابعهم هشام الدستوائي متابعة قاصرة عن قتادة، عن عكرمة بمثله. رواه أحمد6، والطحاوي7. كما تابعهم أيوب، وخالد الحذاء عن عكرمة به.
رواه البخاري1 وغيره. وقد نسب الإمام أحمد عباد بن العوام إلى الخطأ في روايته لهذا الحديث مخالفاً لما ثبت في كتب سعيد، وهذا من القرائن الدالة على قوة احتمال كون سماعه من سعيد بآخرة. وتردد الإمام أبو حاتم الرازي فقال لما سأله ابنه: الخطأ ممن هو؟ قال: لا أدري من عباد هو أو من سعيد2. وحكم على خطأ الرواية بناء على رواية هشام، ولعله لو استحضر رحمه الله رواية من رواه عن سعيد بمثل رواية هشام كما فعل الإمام أحمد لما تردد في نسبة الخطأ إلى عباد، والله أعلم. الحديث الثالث: حديث عكرمة عن الفضل بن عباس، وقال: وإنما هو في كتب سعيد: عن رجل، عن الحكم. لم أهتد إلى هذا الحديث، ولم أقف على رواية لسعيد عن عكرمة، عن الفضل بن العباس، ولعل سقطاً وقع هنا عند قوله: وذكر شيئاً. وقد اختلف على سعيد في حديث رواه عن رجل عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي: "أردتُ أن أفرّق بين امرأة وولدها ـ وفي لفظ: أن أبيع غلامين أخوين ـ فنهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك". أورده الدارقطني، إلا أنه لم يذكر لعباد بن العوام رواية لهذا الحديث عن سعيد3، لعل الإمام أحمد عنى هذا الحديث، وأن عباد بن العوام كان ممن رواه عن سعيد، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى بدون واسطة، وهو مخالف لما في كتب سعيد، لأن عبد الوهاب الخفاف ـ وكان راوية لكتب سعيد بن أبي عروبة ـ رواه عن سعيد، عن رجل، عن الحكم به. أخرجه أحمد في المسند4.
وهذه الأخطاء ـ وغيرها ـ من عباد بن العوام في حديثه عن سعيد ابن أبي عروبة هي التي جعلت الإمام أحمد يقول في رواية الأثرم: عباد بن العوام مضطرب الحديث عن سعيد بن أبي عروبة1. وهذا يوحي في ظاهره أن عباد كان ضعيفاً في سعيد بن أبي عروبة لعدم ضبطه لحديثه فيكون الاضطراب من قبله هو لا من قبل سعيد وهو أمر محتمل، لكن رواية أبي داود المتقدمة التي ذكر فيها الإمام أحمد عدم معرفة وقت سماع عباد من سعيد تقوي احتمال كون ذلك الضعف راجعاً إلى عدم معرفة هل كان سماعه من سعيد في الصحة أو في الاختلاط. ولم يخرج الشيخان شيئاً من رواية عباد بن العوام عن سعيد بن أبي عروبة2. 5 - عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي 160هـ: هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن أبي عُميس3 والمسعودي أيهما أحب إليك؟ قال: كلاهما ثقة، المسعودي عبد الرحمن أكثرهما حديثاً4. قال الميموني: قال أبو عبد الله: المسعودي صالح الحديث ومن أخذ عنه أولُ فصالح الأخذ5. وقال الميموني أيضاً عن أبي عبد الله أنه قال: والمسعودي من سمع منه بأخرة يُطعن في سماعهم منه6. فهذا إشارة منه رحمه الله إلى أن المسعودي اختلط.
وأما ضابط التمييز بين السماع الجيد والسماع بعد الاختلاط فعن الإمام أحمد كما رواه عبد الله قال: سمعت أبي يقول: كل من سمع المسعودي بالكوفة فهو جيد، مثل وكيع وأبي نعيم، وأما يزيد بن هارون وحجاج ومن سمع منه ببغداد وهو في الاختلاط إلا من سمع منه بالكوفة1. وقال عبد الله أيضاً: سمعت أبي يقول: سماع وكيع من المسعودي بالكوفة قديماً، وأبو نعيم أيضا، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالبصرة والكوفة فسماعه جيد2. فهذا يدل على أن سماع من سمع منه ببغداد كان بعد الاختلاط، وأما من سمع قبل ذلك بالكوفة أو بالبصرة فهو قبل الاختلاط. وقد قدِم المسعودي بغداد في آخر حياته وبها كانت وفاته3. ونصّ الإمام أحمد على أن وكيعاً وأبا نعيم سمعا منه قبل الاختلاط، وأن يزيد بن هارون، وحجاج بن محمد المصيصي سمعا منه بعد الاختلاط. وسمع منه بعد الاختلاط أيضاً عاصم بن علي، وأبو النضر هاشم بن القاسم البغدادي. قال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله يقول سماع أبي النضر وعاصم وهؤلاء من المسعودي بعد ما اختلط إلا أنهم احتملوا السماع منه فسمعوا4.
ما أعله من حديث المسعودي بالاختلاط: قال عبد الله: سألت أبي عن حديث عمرانَ بن حُصين أن قوماً قدِموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: [قد بشّرتنا فأعْطِنا ... ] فإن الأعمش، وسفيان جميعاً يقولان عن جامع بن شدّاد، عن صَفوان بن مُحرز، عن عمران بن حُصين، ورواه يزيد ابن هارون، عن المسعودي، عن جامع، عن ابن بُريدة بن حُصيب، عن أبيه. قلت: أيما الصواب؟ فقال: الصواب ما رواه الأعمش وسفيان، وسماع يزيد من المسعودي بأخرة. قال أبي: وقال يحيى بن معين: لم أسمعه من أبي معاوية. قال أبي: وإنما حدثناه أبو معاوية ببغداد، وكان يحيى ربما فاته الشيء1. هذا الحديث رواه البخاري من حديث سفيان الثوري من طريق محمد ابن كثير، وأبي نعيم الفضل بن دُكين كلاهما عن الثوري، عن جامع بن شداد، عن أبي ضمرة صفوان بن مُحرِز، عن عمران بن حُصين، ولفظه: [جاء نفرٌ من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا بني تميم أبشروا"، فقالوا: بشّرتَنا فأعطنا، فتغيّر وجهُه. فجاءه أهلُ اليمن، فقال: "يا أهلَ اليَمن اقبَلوا البُشرى إذْ لم يقبلْها بنو تميم". قالوا: قبِلنا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يحدِّث بدء الخلق والعرش، فجاء رجل فقال: يا عمران، راحلتك تفلّتتْ، ليتني لم أقم] 2. ورواه الترمذي3 وأحمد4، وابن حبان5 من طرق عن الثوري به. ورواه الإمام البخاري أيضاً من حديث الأعمش من طريق حفص بن غياث،
وأبي حمزة السكري كلاهما عن الأعمش، عن جامع بن شداد به1 ورواه أحمد2 عن أبي معاوية، وابنُ حبان3 من طريق شيبان النحوي، وأبو الشيخ في العظمة4 عن أبي كريب، عن أبي معاوية، والطبراني من طريق أبي بكر ابن عياش5، ومن طريق محمد بن عبيد6، ومن طريق أبي إسحاق الفزاري7، والطبري من طريق أبي معاوية8، والبيهقي من طريق شيبان النحوي9 كلهم عن الأعمش به. ولفظه كما هو في البخاري عن عمران بن حصين: [دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال: "اقبَلوا البشرى يا بني تميم"، قالوا: بشرتنا فأعطنا ـ مرتين ـ ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن أنْ لم يَقبلْها بنوا تميم"، قالوا: قد قبِلنا يا رسول الله. قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر. قال: "كان اللهُ ولم يكن شيءٌ غيرَه وكان عرشُه على الماءِ، وكَتب في الذِّكر كلَّ شيء، وخلق السماوات والأرضَ"، فنادى منادٍ: ذهبتْ ناقتُك يا ابن الحُصين، فانطلقتُ فإذا هي يقطع دونها السرابُ، فوالله لَوَدِدتُ أني كنتُ تركتُها] .
وجه علة الحديث: ذكر عبد الله بن الإمام أحمد في هذه المسألة أن يزيد بن هارون روى الحديث عن المسعودي، عن ابن بريدة بن حصيب، عن أبيه. رواه أبو الشيخ من هذا الوجه1. فأعل الإمام أحمد هذه الرواية بأنها خطأ، وأنها مما روى المسعودي بعد الاختلاط، وذلك أن راويها عنه ـ وهو يزيد بن هارون ـ كان سماعه منه بأخرة كما تقدم. ومما يؤيد أن علة هذا الإسناد هو اختلاط المسعودي أن القدماء من أصحاب المسعودي رووا الحديث عنه بمثل رواية سفيان والأعمش التي حكم عليها الإمام أحمد بأنها الصواب. وهذا يدل إلى أن المسعودي كان يُحدِّث بالحديث في الصحة على الصواب، وإنما حدّث بالخطأ لما أصابته علة الاختلاط. فروى خالد بن الحارث البصري، عن المسعودي، عن جامع بن شدّاد، عن صفوان بن محرز، عن عمران بن الحصين ـ بمثل رواية الثوري والأعمش. أخرج حديثه النسائي2 من طريق محمد بن عبد الأعلى عنه به. وكذلك رواه النضر بن شُميل البصري، عن المسعودي بمثل رواية خالد بن الحارث. أخرج حديثَه الطبري في التفسير3 عن خلاد بن أسلم عنه به. وقد نصّ الإمام أحمد فيما تقدم على أن من سمع من المسعودي بالبصرة والكوفة فسماعُه جيد، وكلٌّ من خالد بن الحارث، والنضر بن شميل بصري، ولم يُذكر لهما ترجمةٌ في تاريخ بغداد، مما يدل على عدم دخولهما مدينة السلام حيث طرأ الاختلاط على المسعودي، فيكون احتمال سماعهما منه بالبصرة قوياًّ جداً، وقد ذكرهما الأبناسي
من الذين سمعوا من المسعودي بالبصرة1. وقد روى الحديث بمثل رواية يزيد بن هارون ـ التي حُكم بخطئها ـ عبد الله بن يزيد المقرئ، عن المسعودي، عن جامع بن شداد، عن رجل، عن بريدة ابن الحصيب، فذكره، فقال في موضع "ابن بريدة الأسلمي": "رجل". أخرج روايته أبو الشيخ2. ورواه روح بن عبادة، عن المسعودي، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز عن بريدة الأسلمي. أخرج روايته ابن خزيمة3 والحاكم4. وكل من عبد الله بن يزيد المقرئ، وروح بن عبادة لم يتميز وقتُ سماعهما من المسعودي، ويغلب على الظن أن سماعهما بعد الاختلاط، أما روح بن عبادة فهو من أهل البصرة، وقدم بغداد وحدث بها مدة طويلة، ثم انصرف إلى البصرة ومات بها كما قال الخطيب5. وأما المقرئ فأصله بصري ثم انتقل إلى مكة. ولم يذكرهما ابن الكيال في الكواكب النيرات، وروايتهما لهذا الحديث على الوجه المعلول قرينة على احتمال كون تحملهما من المسعودي بعد الاختلاط، إذ لو كان الاضطراب من المسعودي في وقت الصحة لما رواه القدماء من أصحابه على الصواب كما تقدم في رواية خالد بن الحارث والنضر بن شميل، والله أعلم.
6 ـ أبان بن صمعة البصري ت153هــ: قال عبد الله: سألته ـ أي أبا عبد الله ـ عن أبان بن صمعة فقال: صالح، فقلت له: أليس تغير بأخرة؟ قال نعم1. فهذا يدل على أن الإمام أحمد يرى أن أبان بن صمعة كان قد تغيّر، ولم يرد عنه تحديد زمن اختلاطه2، ولا ضابط التمييز بين السماع الصحيح من السماع بعد الاختلاط، وقد أخرج حديثه في المسند من رواية وكيع، ويحيى بن سعيد القطان، وروح بن عبادة عنه3. ويحتمل أن يكون اختلاط أبان بن صمعة لم يؤثر في روايته، وهو وجه يحتمله سؤال عبد الله للإمام أحمد وردّه له، فكأنه يقول: أبان بن صمعة وإن تغيّر بآخره فهو مع ذلك صالح الحديث. ويؤيد هذا الوجه ما ذكره ابن عدي من أن أحاديث أبان، وهي قليلة، كلها مستقيمة غير منكرة4، وكذلك لم أقف على إعلال من الإمام أحمد لشيء من حديثه. وهذا الوجه إن ثبت يدل على أن الراوي قد يختلط ثم لا يؤثر ذلك في شيء من روايته. وهناك أمر متعلق بالإعلال بالاختلاط وهو فرع لهذا المطلب: فرع: إذا كان الراوي صحيحَ السماع من المختلط ووجد الخطأ في روايته عنه كان وجهُ الخطأ سبباً آخر غير الاختلاط. يدل على هذا الضابط ما رواه أبو بكر الأثرم عن الإمام أحمد: قال أبو بكر الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله أجد في حديث سعيد عن قتادة عن
أبي المليح عن أبيه أن رجلاً أعتق شِقصاً قال فيه أحد: عن أبيه فقال: قاله السهمي وما أُراه محفوظاً، روى عدةٌ منهم إسماعيل وغيره ليس فيه عن أبيه، وأظن هذا من حفظ سعيد، وأثنى أبو عبد الله على السهمي خيراً، قيل لأبي عبد الله: أين سماعُه عندك من سماع محمد بن بكر عن سعيد؟ فقال أبو عبد الله: هو عندي فوق هؤلاء كلِّهم، قلت لأبي عبد الله: السهمي فوق هؤلاء؟ فقال: نعم، قال أبو عبد الله: قال السهمي: سمعتُ من سعيد سنة اثنتين أو إحدى وأربعين1. هذا الحديث الذي وقع عليه سؤال الأثرم أخرجه الإمام أحمد2، ومن طريقه وأبو نعيم3، والمقدسي4 عن عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا سعيد، عن قتادة عن أبي المليح، عن أبيه أن رجلاً من قومه أعتَقَ شَقيصاً له من مملوكٍ فرُفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل خَلاصَه عليه في ماله وقال: [ليس لله شريكٌ] . وأعلّ الإمام أحمد هذه الروايةَ بأنها غيرُ محفوطة، واعتلّ برواية من روى الحديث مرسلاً، منهم إسماعيل بن عليّة وغيره، فرووه عن سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فيه: عن أبيه. ورواية إسماعيل بن عليّة أخرجها النسائي5، والطحاوي6. وتابعه عباد بن العوّام عن سعيد، أخرج روايته ابن أبي شيبة7، والبيهقي8.
وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: حكم الإمام أحمد على رواية السهمي عن سعيد الموصولة بأنها خطأ، وأن الصحيح رواية ابن علية وغيره عن سعيد المرسلة، وجعل هذا الخطأ من حفظ سعيد وليس من السهمي، بمعنى أن سعيداً لما كان يعتمد على حفظه ولم يكن له كتاب يسهل عليه أن يقع في الخطأ، ووجه ذلك أن كلاً من ابن علية وعبد الله بن بكر السهمي ممن سمع من سعيد في الصحة، فانتفى أن يكون الخطأ راجعاً إلى اختلاط سعيد، وكلاً منهما ثقة، فإذا اختلافا توجه أن يكون الخطأ من شيخهما إذ المترجّح أن كلاً منهما حافظٌ لما رواه لثقته فتعين أن يكون من حدّثهما هو المخطئ، وإن ترجّح أن الخطأ من سعيد فرواية السهمي ليست بأولى بالخطأ من رواية ابن علية، فما وجه ترجيح رواية ابن علية إذاً؟ أشار الإمام أحمد إلى ذلك بأن غير ابن علية روى الحديث بالإرسال وأنهم عدةٌ، والظاهر أنه لا يقصد عباد بن العوام الذي روى الحديث عن سعيد، فإن روايته لا تؤثر في الترجيح لكونها عن سعيد نفسه، وإنما عنا بذلك رواية هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أبي المليح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية بهز بن أسد، ومحمد بن كثير كلاهما عن همام، عن قتادة به مرسلاً أيضاً. فرواية هشام الدستوائي أخرجها النسائي من طريق أبي عامر العقدي عنه1، ورواية بهز بن أسد عن همام أخرجها الإمام أحمد في المسند2، وأخرج أبو داود3 رواية محمد بن كثير عن همام. فهتان الروايتان عن قتادة ترجحان رواية سعيد الموافقة لهما. وقد وافق الإمامَ أحمد على ترجيح رواية الإرسال الإمامُ النسائي4.
فالشاهد أن عبد الله بن بكر السهمي لو كان ممن سمع من سعيد بعد الاختلاط لكان المتبادر إلى الذهن أن الخطأ راجع إلى سماعه من سعيد بعد الاختلاط، وأما حيث إنه ممن سمع قبل الاختلاط توجه أن يكون الخطأ راجعاً إلى سبب آخر غير اختلاط شيخه، وذلك السبب هو حفظ شيخه، وقد قيل للإمام أحمد: روى الكوفيون عن سعيد غيرَ شيءٍ خلافِ ما روى عنه البصريون، فقال: هذا من حفظ سعيد، كان يحدّث من حفظه1. مثال آخر: قال عبد الله: حدثني أبي قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عَرفَجة قال كنا عند عُتبة بن فَرقَد فذكروا شهرَ رمضانَ فقال: ما سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تفتح فيه أبواب الجنة وتُغلق فيه أبوابُ النار وتُغلُّ فيه الشياطيُن ويُنادِي منادٍ: يا باغيَ الخير هلمَّ، ويا باغيَ الشر أَقصِر". سمعت أبي يقول: كان سفيان يخطىء في هذا الحديث لم يسمعه عُتبة من النبي صلى الله عليه وسلم، رجل حدّث عتبة عن النبي صلى الله عليه وسلم2. هذا الحديث الذي ذكره الإمام أحمد رواه النسائي3، وعبد الرزاق4، ومن طريقه الطبراني5. والرواية التي أشار أنها هي الصحيحة رواها النسائي أيضاً: أخبرنا محمد بن بشّار، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن عَرفَجة قال: كنتُ في بيتٍ فيه عُتبة بن فَرقَد فأردتُّ أن أحدّث بحديث وكان
رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كأنه أولى بالحديث مني، فحدّث الرجلُ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رمضان: تُفتح فيه أبوابُ السماء وتُغلق فيه أبوابُ النار ويُصفّد فيه كلُّ شيطانٍ مَريدٍ ويُنادي منادٍ كلَّ ليلة: يا طالبَ الخير هلمَّ، ويا طالبَ الشر أَمسك1. ورواه في الكبرى أيضاً2، ورواه أحمد3، وابن أبي شيبة4 وتابع شعبة على رواية الحديث من هذا الوجه: 1. إسماعيل بن علية فقال: أخبرنا عطاء، عن عرفجة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم5. 2. حماد بن سلمة، رواه عن عطاء بن السائب، عن عرفجة: كنا عند عتبة بن فرقد وهو يحدثنا عن رمضان إذ دخل علينا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان6. 3. محمد بن فضيل، أخرج حديثه ابن أبي شيبة7 وابن أبي عاصم8. 4. إبراهيم بن طهمان، أخرج حديثه الحارث في مسنده9. 5. عبيدة بن حُميد، عن عطاء بن السائب، عن عرفجة: كنت عند عتبة بن فرقد وهو يحدّثنا عن فضل رمضان فدخل علينا رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسكت
عتبة وكأنه هابه ... الحديث. أخرجه أحمد1. وتابع ابن عيينة على روايته عبد السلام بن حرب، وهو وإن وُثق إلا أنه له ما ينكر. قال أحمد: كنا ننكر من عبد السلام شيئاً2 أخرج حديثه الطبراني3. وجه علة الحديث: حكم الإمام أحمد على رواية سفيان بن عيينة عن عطاء بن السائب بأنها خطأ، حيث جعل الحديث من مسند عتبة بن فرقد، وإنما هو من رواية رجلٌ من الصحابة حدّث به في مجلس فيه عتبة بن فرقد، وقد خالف ابن عيينة جمعاً من الرواة عن عطاء بن السائب ومن بينهم من كان حديثه عن عطاء مقدماً على حديث غيره، وهما شعبة، وحماد بن سلمة4، والعدد أولى بالحفظ من واحد، ثم إن ابن عيينة بروايته الحديث على الوجه الذي رواه قد سلك الجادة ـ وهي رواية الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ وفي رواية غيره زيادة علم يدلّ على ضبطهم للحديث. ولما كان سماع ابن عيننة من عطاء في زمن الصحة5 لم يحمّل الإمام أحمد الخطأ على اختلاط عطاء وإنما حمّله ابنَ عيينة، وهو الأمر المطلوب الاستشهاد له في ذكر هذا المثال.
فرع آخر: ما حدث به المختلط من كتاب لا يدخله الإعلال بالاختلاط: إن الذي يعل من حديث المختلط هو ما حدّث به المختلط حفظاً من غير كتاب، أما ما ثبت أنه في كتبه فلا يدخله الإعلال بالاختلاط، مثل ما جاء من طريق من أجاز له رواية أصوله المضبوطة1 لأن الخلل الذي يأتي بسبب الاختلاط لا يؤثر إلا فيما حدث به المختلط حفظاً دون ما في كتابه. ويدل على ذلك أن الإمام أحمد يعتمد رواية الراوي المختلط الثابتة في كتبه، ويخطأ بها ما خالفها مما رواه عنه الراوي الثقة عنه وإن كان ممن سمع منه قبل الاختلاط، مما يدل على اعتمادها عنده. قال عبد الله: قرأت على أبي: عبدة بن سليمان الكلابي قال: حدثنا سعيد، عن مطر، عن عطاء، عن ابن عمر قال: [عدة الأمة إذا طُلّقت حيضتان، فإن كانت لا تحيض فشهر ونصف] ، قرأت على أبي: عبدة قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن علي مثله. سمعت أبي يقول: هذا خطأ، إنما هو سعيد، عن حبيب، عن عطاء، عن عمر، وحبيب، عن الحسن عن علي، في الكتب كذا هو يعني كتب سعيد بن أبي عروبة2. روى عبدة هذا الأثر عن ابن عمر، وعن علي، كلاهما من طريق سعيد ابن أبي عروبة، وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة3، عن عبدة، عن سعيد، عن مطر، عن عطاء، عن ابن عمر به. فحكم الإمام أحمد بخطأ عبدة لأن أثر ابن عمر هو في كتب سعيد بن أبي عروبة عن حبيب المعلم، عن عطاء عن عمر، وليس هو عن مطر، عن عطاء، عن ابن عمر؛ وأثر علي هو عن حبيب المعلم، عن الحسن، عن
علي، وليس هو عن قتادة، عن الحسن، عن علي كما رواه عبدة في الموضعين. وقد تابع سعيداً أبو إسحاق الشيباني في رواية أثر علي، فرواه الشيباني عن حبيب المعلم، عن الحسن، عن علي: رواه ابن أبي شيبة عن علي بن مسهر عنه1. وخطّأ الإمام أحمد رواية عبدة بن سليمان عن سعيد مع أن سماع عبدة من سعيد كان جيداً وقبل اختلاط سعيد2 لمخالفته لما في كتب سعيد بن أبي عروبة. وهذا يدل على أن حديث المختلط الثابت روايته في كتابه لا يدخله الإعلال بالاختلاط.
المطلب الثاني: ما يلحق بالاختلاط من أسباب سوء الحفظ الطارئ على الراوي ـ ذهاب بصر الراوي
المطلب الثاني: ما يلحق بالاختلاط من أسباب سوء الحفظ الطارئ على الراوي ـ ذهاب بصر الراوي هناك أمورٌ أخرى غيُر كبر السن تكون سبباً لطروءِ سوء الحفظ على الراوي الثقة فيقع تخليط في حديثه، فيلتحق من هذا الوجه بالمختلطين لكبر السن الذين طرأ عليهم سوء الحفظ. وهؤلاء الرواة صنفان: الصنف الأول: من عمي في آخر عمره. الصنف الثاني: من ذهبت كتبه باحتراق أو غيره. وفي هذا المطلب ستتناول الدراسة الصنف الأول، ويأتي الصنف الثاني في المطلب الذي بعده إن شاء الله. مما يطرأ على الراوي الثقة من أسباب سوء الحفظ ذهاب بصره، حيث كان قبل ذلك يعتمد على كتابه ولا يحفظ جيداً فيحدّث بعد تلك العلة من حفظه فيغلط، أو يُلقّن فيتلقّن، فمثل هذا يجري في حديثه الذي حدّث به بعد العلة مثل ما يجري في حديث المختلِط بكبر السن: يُقبل ما حدّث به قبل ذَهاب بصره، ويُتوقف عما حدّث به بعد ذلك أو أشكل أمره. فهو إذاً سبب يُعلّ به حديث المتصِّف به لاقتضائه وجود خللٍ في ضبطه. ولا يَدخل في هذا الصنف من ذهب بصرُه ولكنه كان قبل ذلك يحفظ مثل وُهيب بن خالد الباهلي مولاهم، أحد ثِقات البصريين. قال ابن سعد: كان وُهيب قد سُجن فذهب بصرُه، وكان ثقة كثير الحديث حجة، وكان يُملي حفظاً1. وكذلك من كان له شخص أمين يعتني بمسموعاته فيلقّنه إياها من كتابه مثل يزيد بن هارون، فقد قال أبو خيثمة: كان يُعاب على يزيد حيث ذهب
بصره أنه ربّما سُئل عن الحديث لا يعرفه فيأمرُ جاريةً له تُحفِّظه إياه من كتابه1. قال الذهبي: ما بهذا الفعل بأسٌ مع أمانة من يُلقِّنه، ويزيد حجّة بلا مثْنَويَّة2. ومن الرواة الذين تكلم الإمامُ أحمد فيهم ممن ذهب بصرُه وأعلّ حديثَهم بهذه العلة: عبد الرزاق بن همام الصنعاني: أحد أئمة الحديث المشهورين وعالم اليمن. قال إسحاق بن هاني: سألت أبا عبد الله: من سمع من عبد الرزاق سنةَ ثمانٍ؟ ـ يعني سنة ثمانٍ ومائتين ـ قال: لا يُعبأُ بحديث من سمِع منه وقد ذهب بصرُه، كان يُلقّن أحاديثَ باطلةً، وقد حدّث عن الزهري أحاديث كتبناها من أصل كتابه وهو يَنظُر جاءو بخلافها. ا.هـ3. وقال أبو زرعة الدمشقي: أخبرني أحمد بن حنبل قال: "أتينا عبدَ الرزاق قبل المائتين وهو صحيح البصر، ومن سمع منه بعد ما ذهب بصرُه فهو ضعيفُ السَّماع" 4. ونقل الحافظ ابن حجر عن الأثرم عن أحمد: "من سمع من عبد الرزاق بعد ما عمِي فليس بشيء، وما كان في كتبه فهو صحيح، وما ليس في كتبه فإنه كان يُلقّن فيَتلقَّن" 5. وقيل لأحمد إن معمراً روى عن ابن أخي عمرو بن دينار فسأل من رواه
فقيل له عبد الرزاق فقال: ليس بشيء كانوا يلقنونه بعد ما ذهب بصره1. فهذه الأقوال عن الإمام أحمد تدل على أمرين: 1. أن عبد الرزاق قد كفّ بصره وأصبح يقبل التَّلقين، وسماع من سمع منه بعد ذلك لا شيء. 2. يتميز حديثه الصحيح من الذي فيه علة بأحد أمرين: الأول: أن يكون من رواية من سمع منه قبل ذهاب بصره، وضابطه أن يكون سماعه منه قبل سنة مائتين. الثاني: أن يكون الحديث ثابتاً في أصل كتبه2. ما أعله الإمام أحمد من حديثه بكونه من رواية من سمع منه بعد ما عمي قال الأثرم: سمعت أبا بعد الله يُسال عن حديث: النار جبار، فقال: هذا باطل، ليس من هذا شيء، ثم قال: من يُحدِّث به عن عبد الرزاق؟ قلت: حدثني أحمد بن شبويه. قال: هؤلاء سمعوا بعد ما عمي، كان يُلقّن فلقِّنه، وليس هو في كتبه، وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه، كان يُلقَّنُها بعد ما عمي3.
وقال ابن هانئ: وسمعت أبا عبد الله يقول: حديث عبد الرزاق حديث أبي هريرة: [النار جُبار] إنما هو: [البئر جُبار] وإنما كتبنا كتبه على الوجه، وهؤلاء الذين كتبوا عنه سنة ست ومائتين، إنما ذهبوا إليه وهو أعمى فلقِّن فقبله ومرّ فيه1. وقال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول في حديث عبد الرزاق في حديث أبي هريرة: والنار جبار، ليس بشيء لم يكن في الكتب، باطل ليس هو بصحيح2. حديث [النار جبار] رُوي عن عبد الرزاق مِن حديث معمر، عن همام ابن مُنبِّه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر الأثرم أنه حدّث به عن عبد الرزاق على هذا الوجه أحمدُ بن شبُّوَيه، وهو أحمد بن محمد بن ثابت الخزاعي المروزي، وثقه النسائي وغيره3. ولم أقف على من أخرج الحديث من طريقه من أصحاب الكتب المصنفة. ورواه غير أحمد بن شبُّوَيه من هذا الوجه عن عبد الرزاق، منهم: الحسن بن أبي الربيع الجرجاني4، وأحمد بن يوسف السلمي5 كلاهما رواه بلفظ: "العَجْماء جُرحها جبار، والمَعْدِن جبار، والنَّار جبار، وفي الرِّكاز الُخمس". ورواه مختصراً عن عبد الرزاق أيضاً: محمد بن المتوكِّل العسقلاني6،
وأحمد بن منصور الرمادي1، وأحمد بن سعيد الرباطي أبو عبد الله المروزي2، وأبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري3، ومحمد بن إسحاق بن شبويه4، وزهير بن محمد بن قُمير المروزي5، محمد بن عبيد الله الماسوراباذي6، ولفظه عند هؤلاء كلهم: [النار جبار] ، إلا أحمد بن سعيد المروزي وأبا الأزهر ـ عند ابن ماجه ـ فزادا: [والبئر جبار] . وفيما يلي تراجم هؤلاء الرواة العشرة: أحمد بن محمد بن شبويه، وثقه النسائي وغيره كما تقدم، وتوفي سنة 229هـ7. ونص الإمام أحمد على أنه سمع من عبد الرزاق سنة 206هـ يعني بعد ما عمي. الحسن بن أبي الربيع الجرجاني، سكن بغداد، قال عنه أبو حاتم: شيخ، وقال ابنه: صدوق. وتوفي سنة 263هـ. وقد بلغ ثلاثاً وثمانين سنة8. أحمد بن يوسف السلمي أبو الحسن النيسابوري، وثقه مسلم، وأخرج حديثه عن عبد الرزاق، وكذلك وثقه الدارقطني، وقال عنه النسائي: ليس به بأس. وتوفي سنة 264هـ، وقيل 263هـ. وقد جاوز الثمانين9. وهو راوية
صحيفة همام بن منبه المطبوعة، والحديث في الصحيفة بهذا اللفظ1. محمد بن المتوكل العسقلاني، هو ابن أبي السري. وثقه ابن معين2. وقال عنه أبو حاتم: لين الحديث3. وقال ابن عدي: كثير الغلط4، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: مات سنة 238هـ5. وقال الذهبي: له أحاديث تستنكر6. أحمد بن منصور الرَّمادي، هو أحمد بن منصور بن سيار البغدادي، كان أبو حاتم يوثقه7، وكذلك وثقه الدارقطني. وقال ابن حبان: مستقيم الأمر في الحديث. وتوفي سنة 265هـ، وقد استكمل 83 سنة8. وذكر الرمادي في تاريخه أنه سمع من عبد الرزاق سنة 204هـ9. أحمد بن سعيد الرباطي أبو عبد الله المروزي: وثقه النسائي، وابن خراش، والخطيب. مات سنة 243هـ10. أبو الأزهر أحمد بن الأزهر بن منيع النيسابوري، قال عنه أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي والدارقطني: لا بأس به، وتوفي سنة 261هـ. وقيل بعد ذلك11. وفي ترجمة عبد الرزاق في "سير أعلام النبلاء"12حكاية تدلّ على أن أبا الأزهر 446 الإعلال بالطعن في الراوي بما يخل بضبطه
أدركه وهو بصير. محمد بن إسحاق بن شبويه السجزي. قال ابن أبي حاتم: صدوق من العُبَّاد1. قال ابن عدي: ضعيف، يُقلِّب الأحاديث ويَسرقها، وذكر له أحاديث عن عبد الرزاق، عن معمر والثوري وقال: كلها غير محفوظة2. وذكر ابن حجر أنه روى صحيفة همّام بن مُنبّه3. زهير بن محمد بن قُمير المروزي، وثقه السرّاج، والخطيب، وقال ابن أبي حاتم: كان صدوقاً، مات سنة 250هـ4. محمد بن عبيد الله الماسوراباذي، له ترجمة في تاريخ جرجان5 ولم أقف على حاله من حيث الجرحُ والتعديلُ. وقد خالف هؤلاء كلَّهم الإمامُ أحمدُ بن حنبل فرواه عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همَّام بن منبِّه، عن أبي هريرة ـ وهو آخر حديث في صحيفة همام بن منبه كما رواها الإمام أحمد عن عبد الرزاق ـ بلفظ: "العجماء جُرحها جُبار، والمعدن جُبار، والبئر جُبار، وفي الرِّكاز الخمس" 6، ليس فيه ذكر: [النار جبار] . وجه علة الحديث: أعل الإمام أحمد هذا الحديث من وجهين: الأول: أن الذين رووه عن عبد الرزاق إنما سمعوا منه سنة 206هـ بعد ما عمي فلقّنوه وقبل ومرّ في الحديث. وقد بيّن رحمه الله كيف وقع التلقين، فروى
الدارقطني عن محمد بن مخلد، عن إسحاق بن إبراهيم بن هانئ قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أهل اليمن يكتبون النار: النير، ويكتبون البير يعني مثل ذلك، وإنما لقن عبد الرزاق النار جبار1. قال البيهقي: يعني فهو تصحيف2. الثاني: أن الحديث ليس في أصل كتب عبد الرزاق، ودليل ذلك أن الإمام أحمد كتب كتب عبد الرزاق على الوجه وهو بصير، فحيث جاء شيءٌ مخالفٌ لما عنده فلا بد أن يكون مما أُدخل على عبد الرزاق وليس هو من حديثه. ويؤيد ذلك أن الحديث لا يوجد في مصنفه المطبوع، فالدبري ـ وهو راوية كتابه المصنف ـ روى الحديث من طريق آخر عن عبد الرزاق، عن معمر وابن جريج، عن الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العجماءُ جبار والبئر جبار، والمعدن جرحه جبار، وفي الرِّكاز الخمس" 3. وتابعه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي عن عبد الرزاق، عن معمر وحده، عن الزهري، به4 وليس فيه "النار جبار". وإسحاق بن إبراهيم ـ وهو ابن راهويه ـ ممن سمع من عبد الرزاق قبل الاختلاط5. وأولئك الرواة الذين رووا هذا الحديث عن عبد الرزاق منهم من لا يعتد بروايته لضعفه، كمحمد بن المتوكل الذي كان يغلط وله من الحديث ما يستنكر، وكمحمد بن إسحاق بن شبويه الذي وصفه ابن عدي بأنه يسرق الحديث وأن
أحاديثه عن عبد الرزاق غير محفوظة؛ ومنهم من ثبت أن سماعه من عبد الرزاق كان بعد ذهاب بصره كأحمد بن شبويه، وأحمد بن منصور الرمادي؛ والباقون لم يتبيّن زمنُ تحمّلهم من عبد الرزاق فيتوقف فيما رووه، إلا أن كون الحديث ليس في أصول عبد الرزاق مما يُرجِّح جانبَ الردّ، فردَّه الإمامُ أحمد وقال: هو باطل وليس بصحيح. وقد يُقال إن عبد الرزاق قد تُوبع عن معمر في رواية هذا اللفظ. قال الخطابي: "لم أزل أسمعُ أصحابَ الحديث يقولون غلِط فيه عبدُ الرزاق: إنما هو البئر جبار حتى وجدته لأبي داود عن عبد الملك الصنعاني عن معمر، فدل على أن الحديث لم ينفرد به عبد الرزاق"1، يشير إلى رواية أبي داود للحديث عن زيد ابن المبارك، حدثنا عبد الملك الصنعاني ـ مقروناً بعبد الرزاق ـ عن معمر به بلفظ: النار جبار2. وعبد الملك الصنعاني هو عبد الملك بن محمد الصنعاني الحميري من صنعاء الشام. قال عنه أبو حاتم: يُكتب حديثه3. وقال ابن حبان: كان يُجيب فيما يُسأل عنه ينفرد بالموضوعات لا يجوز الاحتجاج بروايته4. وقال الأزدي: ليس بالمرضي في حديثه5. وقال الذهبي: ليس بحجة6. وقال ابن حجر: ضعيف7. فهذا الراوي ممن يصح الاعتبارُ به، فيستفاد من ذلك أن الخطأ وقع ممن فوق عبد الرزاق. ولعل هذا مستند ابن معين حيث قال: إن الذي صحّف هذا الحرف
هو معمر. نقله ابن عبد البر عنه1. لكن قد بيّن معمر أن هذا الحرف وهم، فروى الدارقطني2 من طريق أحمد بن منصور الرمادي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همّام بن منبِّه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النار جبار". قال الرمادي: قال عبد الرزاق: قال معمر: لا أراه إلا وهماً. فهذا يدل على أمرين: 1. إن صح هذا فنسبة التصحيف إلى معمر ضعيف. 2. فيه تأييد لما قاله الإمام أحمد أن عبد الرزاق لُقَّن هذا الحرف، وإلا فكيف يرويه وعنده علم بأنه وهم! وهذا ما يبين وجه عدم وجود الحديث في أصول عبد الرزاق كما رواها الإمام أحمد. إذا ثبت هذا فيقال في الجواب على الاعتراض برواية عبد الملك بن محمد الذي تابع عبد الرزاق: إن معمراً قد حدث بالحديث لكنه نصّ على أنه يراه وهماً، وحفظ ذلك عبد الرزاق، فلم يذكر الحديث في كتبه كما رواها القدماء من أصحابه، ولم يحفظه عبد الملك بن محمد إما لضعفه أو لقلة ملازمته لمعمر. فمن روى الحديث عن عبد الرزاق على أنه من حديثه من دون بيان أنه وهم كما فعله الرمادي يتعين أنه أخطأ، والله أعلم. حديث آخر: جاء في حديث محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق: أنا ابنُ جُريْج، عن سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا طلعَ الفجرُ فقد ذهب كلُّ صلاةِ الليل والوِترُ، فأَوتِروا قبل طلوعِ الفجر" 3: فقال المرّوذي عن أحمد أنه قال: لم يسمعه ابن جريج من سليمانَ بن موسى
إنما قال: "قال سليمان" قيل له: إن عبد الرزاق قد قال: عن ابن جريج: أنا سلميان؟ فأنكره وقال: نحن كتبنا من كتب عبد الرزاق، ولم يكن بها، وهؤلاء كتبوا عنه بأخرة1. الحديث أخرجه الترمذي من هذا الوجه، وهو في المصنف لعبد الرزاق2، ورواه ابن حزم3 من طريق الدبري عن عبد الرزاق، ورواه أيضاً ابن عدي من طريق محمد بن مسعود العجمي عن عبد الرزاق به4. وجه علة الحديث: أنكر الإمام أحمد رواية من روى هذا الحديث بالتصريح بالخبر بين ابن جريج وشيخه سليمان بن موسى، واعتلّ لذلك بأن تلك الرواية لم تكن في كتب عبد الرزاق، والذين رووها عن عبد الرزاق من هذا الوجه إنما كتبوا عنه بأخرة، يعني في زمن الاختلاط بعد ذهاب بصره. ولم أقف على هؤلاء الرواة الذين أشار إليهم الإمام أحمد، فرواية الترمذي جاءت بالعنعنة، وكذلك الرواية التي في المطبوع من مصنف عبد الرزاق، وفي المحلى من طريق الدبري عن عبد الرزاق، وفي الكامل لابن عدي كما تقدم، فلعلّ الإمامَ أحمد يشير إلى غير هؤلاء ممن روى عن عبد الرزاق أيضاً بأخرة. وقد جاءت رواية عن عبد الرزاق فيها التصريح بالتحديث بين ابن جريج وسليمان بن موسى، لكنّ لفظها مغاير للفظ هذا الحديث. فروى الإمام أحمد عن عبد الرزاق وابن بكر ـ وهو محمد بن بكر البرساني ـ قالا: أخبرنا ابن جريج،
حدثني سليمان بن موسى، حدثنا نافع أن ابن عمر كان يقول: من صلى بالليل فليجعل آخرَ صلاته وِتراً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، فإذا كان الفجرُ فقد ذهبتْ كلُّ صلاة لليل والوترُ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَوْتِروا قبلَ الفجر" 1. وتابعه محمد بن رافع عن عبد الرزاق وحده عند ابن خزيمة2. ومحمد بن رافع هو النيسابوري، وثقه مسلم والنسائي وغيرهم،3 وقال أبو رزعة: كان رَحَلَ مع أحمد ابن حنيل. ا.هـ4. يعني إلى عبد الرزاق فقد كان هو وأحمد، وإسحاق بن راهويه عند عبد الرزاق في وقت واحد5. ورواه عن ابن جريج على هذا الوجه حجاج بن محمد المصيصي، وهو عند أبي عوانة في مسنده6، وابن الجارود في المنتقى7، والحاكم8، والبيهقي9 كلهم من طرق عن حجاج قال: قال ابن جريج: حدثني سليمان بن موسى: نا نافع به بمثل هذا اللفظ. فهذه الرواية تفيد أن قوله: "إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر" قول ابن عمر، وليس بمرفوع، وأما قوله: "أوتروا قبل الفجر" فمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فرواية ابن جريج عن سليمان بن موسى بالعنعنة أدخلت الموقوف في
المرفوع، بينما هذه الرواية التي فيها التصريح بالتحديث بينهما قد ميّزتْ بين اللفظيْن: الموقوف والمرفوع، فهي أولى لأمور: 1. من رواها عن عبد الرزاق كان من قدماء الرواة عنه. 2. تابع عبدَ الرزاق حجاجُ بن محمد المصيصي، وكان يقال إنه أثبت أصحاب ابن جريج1. 3. التمييز بين الموقوف والمرفوع يشعر بزيادة علم راويها وحفظه. فبالنظر في هاتين الروايتين وكلام الإمام أحمد يظهر أن الرواية التي جاءت بالعنعنة والتي فيها إدخال الموقوف في الموفوع مدلّسة ـ لأن ابن جريج معروف بالتّدليس عن المجهولين ـ ومن أجل ذلك أنكر الإمام أحمد على من روى الحديث من هذا الوجه بالتصريح بالخبر بين ابن جريج وسليمان بن موسى، فإن مقتضى ذلك أن يلتصق الخطأ بسليمان دون الواسطة ـ المُسقَطة بالتَّدليس ـ بينه وبين ابن جريج، والرواية التي ميّزت بين الموقوف والمرفوع، قد برّأت ساحة سليمان بن موسى من الخطأ2، لأن ابن جريج قد صرح بالتحديث من سليمان.
فالشاهد من هذا أن الإمام أحمد أنكر على من روى هذا الحديث ـ في الرواية التي جعلت قول ابن عمر مرفوعاً ـ بالتصريح بالخبر بين ابن جريج وشيخه سليمان بن موسى بناء على كون سماعهم من عبد الرزاق بأخرة بعد ما عمي، وبناء على عدم وجود تلك الرواية في كتب عبد الرزاق كما رواها من رواها عنه إذ كان بصيراً، وهذا مما يدل على أن الأخطاء وقعت في المرويات التي رُويت عن عبد الرزاق وهي ليست في كتبه كما رواها القدماء من أصحابه، بل جاءت من طريق من تحمّل عنه بعد ذهاب بصره. وقد تقدم في مطلب إثبات الوضع بقرائن تعود إلى حال المروي أن الإمام أحمد أنكر حديث علي الذي روي من طريق عبد الرزاق بلفظ: "إن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجبائر"، وقال: إنه باطل، وسأل عمّن حدّث به عن عبد الرزاق ـ منكِراً عليه ـ فقيل له: محمد بن يحيى الذهلي1، وقد قال الإمام أحمد في الذهلي: إنه قدم على عبد الرزاق مرتين: إحداهما بعدما عمي2. فلعل هذا مما سمعه في القدمة الثانية.
ومن الرواة الذين ذهب بصرهم فأثّر ذلك في ضبطهم لحديثهم: علي بن مسهر: وهو القرشي الكوفي أبو الحسن قاضي الموْصل. قال عنه الإمام أحمد: صالح الحديث صدوق1. وروى العقيلي بإسناده عن الأثرم أنه قال: سمعت أبا عبد الله يقول: أما علي بن مسهر فلا أدري كيف أقول، ثم قال: إن علي بن مسهر قد ذهب بصره وكان يحدثهم من حفظه2. وذكر الحافظ ابن رجب3 أن الإمام أحمد أنكر عليه حديثه عن هشام عن أبيه عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع المؤذن يتشهد قال: "وأنا وأنا". وقال: "إنما هو عن هشام، عن أبيه مرسل. وقال: علي بن مسهر له مفاريد". وهذا الحديث أخرجه أبو داود4، عن إبراهيم بن مهدي، عن علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. ومن طريقه أخرجه البيهقي5، وابن عبد البر6. ولم أقف على رواية الإرسال التي أعلّ بها الإمام أحمد روايةَ الوصل. ولم ينفرد علي بن مسهر برواية الحديث موصولاً، فقد تابعه حفص بن غياث عند ابن حبان7، والحاكم8، وأبي الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان9، والقزويني10. وتابعه أيضاً أبو معاوية ووكيع
كلاهما عند ابن أبي شيبة1. فهؤلاء الثلاثة ثقات أثبات، إلا أبا معاوية فقد تكلّم الإمامُ أحمدُ في حديثه عن غير الأعمش، وخاصةً في أحاديثه عن هشام بن عروة فقال ـ لما سئل عنها: فيها أحاديث مضطربة يرفع منها أحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ا.هـ2. وكلهم رووا الحديث عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة موصولاً كما رواه علي بن مسهر. ولم أقف على رواية الإرسال حتى يظهر وجه إعلال الإمام أحمد للحديث بعد الموازنة بين الروايتين ـ الموصولة والمرسلة. ومن هؤلاء الرواة الذين كُف بصرهم فتأثّر ضبُطهم: أبو حمزة السكري: وهو محمد بن ميمون المرزوي. قال ابن رجب: ثقة مشهور من أهل مرو3. قال أبو داود: سمعت أحمد قال: من سمع من أبي حمزة السكري ـ وهو مروزي ـ قبل أن يذهب بصره فهو صالح، سمع منه علي بن الحسن قبل أن يذهب بصره، وسمع عتاب بن زياد بعد ما ذهب بصره4. وقال في رواية ابن هانئ: كان قد ذهب بصرُه، وكان ابنُ شقيق قد كتب عنه وهو بصير، قال: وابن شقيق أصح حديثاً ممن كتب عنه مِن غيره5. ولم أر له حديثاً أنكره الإمام أحمد.
المطلب الثالث: ما يلحق بالاختلاط من أسباب سوء الحفظ الطارئ على الراوي ـ ذهاب كتب الراوي بسبب من الأسباب
المطلب الثالث: ما يلحق بالاختلاط من أسباب سوء الحفظ الطارئ على الراوي ـ ذهاب كتب الراوي بسبب من الأسباب هؤلاء قوم ثقات ذهبت أصولهم التي كانوا يحدثون منها، فحدثوا من حفظهم فوقعت الأخطاء في مروياتهم بسبب ذلك، أو تلقنوا ما لقّن لهم مما ليس من حديثهم، وهذا خلل طرأ عليهم في ضبطهم أُعلّ بسببه بعضُ مروياتهم. قال أبو حاتم ابن حبان تحت أنواع الجرح في الضعفاء: "ومنهم من كتب الحديث ورحَل فيه إلا أن كتبه قد ذهبت، فلما احتيج إليه صار يحدث من كتب الناس من غير أن يحفظها كلها أو يكون له سماع فيها كابن لهيعة وذويه" 1. فهؤلاء أمرهم يجري على تفصيل ما سبق في الصنف الذي قبل هذا: من سمع منهم قديماً قبل ذهاب كتبهم فحديثه صحيح، ومن سمع منهم بعد ذلك فحديثه ليس بذاك. ومن هذا الصنف من ذهبت كتبه عن جميع المشايخ، ومنهم من ذهبت كتبه عن بعض المشايخ، فذكر الإمام أحمد من الصنف الأول: عبد الله بن لهيعة، ومحمد ابن عبد الله ابن المثني الأنصاري، وعبد الله بن رجاء المكي. ومن الصنف الثاني: الإمام الأوزاعي. 1 - عبد الله بن لهيعة الغافقي المصري ت174هـ: أثنى عليه الإمام أحمد وقال: من كان بمصر يشبه ابن لهيعة في ضبط الحديث وكثرته وإتقانه2. ونقل الإمام أحمد خبر احتراق كتبه ومتى كان ذلك.
قال عبد الله: حدثني أبي قال: حدثنا إسحاق بن عيسى الطَّبَّاع قال: أُحرقتْ كتبُ ابن لهيعة سنةَ تسعٍ وستين، قال: ولقيتُه أنا سنةَ أربع وستين يعني ابن لهيعة. قال إسحاق: ومات ابن لهيعة في سنةِ أربعٍ وسبعين أو ثلاثٍ وسبعين1. قال أبو داود: سمعت أحمد قال: قال ابن المبارك سنةَ تسع وسبعين: من سمع ابن لهيعة منذ عشرين سنة فإن سماعه صالح. وسمعته قال: احترقتْ كتبُ ابن لهيعة ـ زعموا ـ في سنة أربع وستين2. فهذا اختلاف في تحديد زمن احتراق كتبه3. وقد اعتمد الإمام أحمد حادثة احتراق كتب ابن لهيعة4 فأصبح يُميّز بين حديثه القديم وحديثه بعد الاحتراق، فقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله وسئل عن ابن لهيعة فقال: من كتب عنه قديماً فسماعه صحيح5.
وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن ابن لهيعة فليّن أمرَه وقال: من سمع منه متقدماً1. وإنما ميّز الإمام أحمد بين حديث ابن لهيعة القديم من حديثه المتأخر لأنه كان بعد احتراق كتبه يقبل التلقين. قال أبو داود: سمعت أحمد قال: احترقت كتب ابن لهيعة ـ زعموا ـ كان رشدين بن سعد قد سمع منه كتبه، فكانوا يأخذون كتبه، فلا يأتونه بشيء إلا قرأ2. وقال الميموني: سمعت أحمد يقول: ابن لهيعة كانوا يقولون احترقت كتبه فكان يؤتى بكتب الناس فيقرأها3. وروي عن الإمام أحمد أنه قال: سماع العبادلة من ابن لهيعة عندي صالح، عبد الله بن وهب، وعبد الله بن يزيد المقرئ، وعبد الله بن المبارك4. وممن نصّ الإمام أحمد على صحة حديثه عن ابن لهيعة عبد الله بن يزيد المقرئ. قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يقول: ما أصحَّ حديثه ـ يعني المقرئ ـ عن ابن لهيعة5. ومنهم قتيبة بن سعيد. قال جعفر بن محمد الفريابي: سمعت بعض أصحابنا يذكر أنه سمع قتيبة يقول: قال لي أحمد بن حنبل: أحاديثك عن ابن لهيعة صحاح. قال: قلت: لأنَّا كنَّا نكتب من كتاب عبد الله بن وهب ثم نسمعه من ابن لهيعة6. وهذا الإسناد فيه جهالة الواسطة بين الفريابي وقتيبة. على أنه
قد ذكر الأثرم عن الإمام أحمد أن قتيبة هو آخر من سمع من ابن لهيعة1. فإن ثبت ما نقله الفريابي دل ذلك على أن صحة حديث قتيبة عن ابن لهيعة كان من أجل اعتماده على كتاب ابن وهب فلم يتأثر باختلاط ابن لهيعة. وقد قال حنبل بن إسحاق سمعت أبا عبد الله يقول: ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيراً مما أكتب أعتبر به، وهو يقوي بعضُه ببعض2. وقال حرب بن إسماعيل الكرماني: سألت أحمد بن حنبل عن ابن لهيعة فضعفه3. وهذا محمول على ما جاء من طريق من سمع منه بأخرة، بدليل أنه صحح حديث بعض تلاميذ ابن لهيعة كقتيبة بن سعيد. وأيضاً لما ليّن أمر ابن لهيعة كما في رواية المروذي استثنى من سمع منه متقدماً. ومما يدل على أن حديثه في الآخر قد دخله تخليط ما رواه عبد الله عن الإمام أحمد: قال عبد الله: حدثني أبي قال حدثنا خالد بن خداش قال: قال لي ابن وهب ـ ورآني لا أكتب حديث ابن لهيعة ـ إني لستُ كغيري في ابن لهيعة فأكتبَها، وقال لي: حديثه عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كان القرآن في إهاب ما مسَّتْه النَّارُ" ما رفعه لنا ابن لهيعة قط أوَّلَ عُمُرِهِ4. هذا الحديث أخرجه أحمد5، والدارمي6،
وأبو يعلى1، وجعفر الفريابي في فضائل القرآن2 كلهم من طريق عبد الله ابن يزيد المقرئ3؛ وأبو عبيد في "فضائل القرآن"4، ومن طريقه القزويني في أخبار قزوين5 عن أبي الأسود المصري6، وأحمد7 عن أبي سعيد8؛ والفريابي9، ومن طريقه ابن عدي10 عن قتيبة بن سعيد11؛ والطبراني12 من طريق يحيى بن كثير الناجي13، وسعيد بن عفير14؛
والروياني1 من طريق موسى بن داود2، وأبو الشيخ3 من طريق مجاشع ابن عمرو4، كلهم عن ابن لهيعة، عن مِشْرَح بن هاعان5، عن عقبة بن عامر الجهني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. فهؤلاء الرواة ـ وعددهم ثمانية ـ كلهم رووا الحديث عن ابن لهيعة على هذا الوجه مرفوعاً. وقال ابن وهب: ما رفع ابنُ لهيعة الحديثَ قط أول عمره. فهذه علة هذا الحديث، لأن كون ابن وهب حفظ أن ابن لهيعة كان لا يرفع الحديث في أول عمره دليل على قدم سماعه من ابن لهيعة، وقد قال أحمد: من سمع منه قديماً فسماعه صحيح. وقال أحمد عن ابن وهب: كان صحيح الكتب عن مشايخه الذين روى عنهم6، وكان هو وابن المبارك يتتبعان أصول ابن لهيعة
فيكتبان منه كما قال أبو زرعة الرازي1. فالصحيح في رواية الحديث أنه موقوف، وهذا يدل على اعتماد ما رواه ابن لهيعة في أول عمره وتقديمه على غيره. وإن قيل إن ممن رواه عن ابن لهيعة مرفوعاً عبد الله بن يزيد المقرئ، وقتيبة بن سعيد، وأبا الأسود المصري وقد قيل بصحة حديث كل واحد منهم عن ابن لهيعة، فالجواب أن ابن وهب حفظ وجه الحديث عند ابن لهيعة في أول عمره، وأما أولئك الرواة فيحتمل أن يكون سماعهم للحديث كان في أخر عمر ابن لهيعة خارج كتبه الأصول، فلا يترك حفظُ من حفِظ لأمر محتمل. 2- محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري2. ذكر الإمام أحمد أن كتبه ذهبت فكان بعدُ يحدِّث من كتب غلامه، وعدّ رحمه الله هذا سبباً للوهم الذي وقع فيه فأدخل إسناد حديث في حديث آخر. قال الأثرم: وسمعت أبا عبد الله ذكر الحديث الذي رواه الأنصاري ـ محمد ابن عبد الله بن المثنى بن أنس بن مالك ـ عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون، عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم" فضعفه وقال: كانت ذهبتْ للأنصاري كتبٌ فكان بعدُ يحدّث من كتب غلامه أبي حكيم، أُراه قال: فكان هذا من تلك3. هذا الحديث رواه الترمذي4، والنسائي5، وأحمد6، والطحاوي في
شرح معاني الآثار1، والطبراني2، والخطيب3 كلهم من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري بالإسناد الذي ذُكر في السؤال. وقال الخطيب: لم يروه عن حبيب هكذا غير الأنصاري. إنما روي بهذا الإسناد حديث آخر، فأخرج أبو داود4، وأحمد5، والدارمي6، وابن الجارود7، وأبو يعلى8، والطحاوي9، وابن حبان10، والطبراني11، والدارقطني12، والبيهقي13 كلهم من طرق عن حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة قالت: "تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلال بعد ما رجعنا من مكة". وهذا لفظ أحمد. وقد روى الأنصاري هذا الحديث أيضاً من هذا الوجه بهذا الإسناد، قاله الخطيب14، والذهبي15.
وتابعه سفيان بن حبيب1، عن حبيب بن الشهيد به، إلا أنه أرسله عن يزيد بن الأصم بدون ذكر ميمونة. أخرجه النسائي في الكبرى2. فالأنصاري أراد أن يحدث بحديث زواج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة فحدث بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احجم وهو صائم محرم، وركب إسناد الحديث الأول له، فدخل عليه هذا في ذاك، وبيّن الإمام أحمد السبب في ذلك، وهو كون الأنصاري قد ذهبت كتبه فصار يعتمد على كتب غلامه، وليس ذلك عن سوء الحفظ. ولم يرد عن الإمام أحمد ولا عن غيره من الأئمة ما يدل على اطّراح الأنصاري بهذا السبب، والظاهر أن ذلك راجع إلى قلة ما وقع له من الخطأ بسبب هذه الآفة، فيقتصر على ردّ ما تبين أنه أخطأ فيه من الأحاديث3. وقد وافق الإمامَ أحمدَ غيرُه من الأئمة على إعلال هذا الحديث وإنكاره على الأنصاري وبيان أنه دخل عليه حديث في حديث، منهم معاذ بن معاذ، ويحيى القطان، فروى عبد الله بن الإمام أحمد قال: قال أبي وقال أبو خيثمة أنكر معاذ ـ يعني ابن معاذ العنبري ـ ويحيى بن سعيد ـ يعني القطان ـ حديث الأنصاري ـ يعني محمد بن عبد الله ـ عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران،
عن بن عباس: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم وصائم1. وقال مهنّا: وسألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد، عن ميمون ابن مهران، عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم"، فقال: ليس بصحيح، قد أنكره يحيى بن سعيد الأنصاري2، إنما كانت أحاديث ميمون ابن مهران عن ابن عباس نحو خمسة عشر حديثاً3. وقال يعقوب الفسوي: سُئل علي بن المديني عن حديث الأنصاري عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، قال: ليس من ذاك شيء، إنما أراد حديث حبيب عن ميمون عن يزيد بن الأصم: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة محرماً. ا.هـ4. وقال النسائي ـ بعد روايته لحديث الأنصاري في الحجامة: هذا منكر، ولا أعلم رواه عن حبيب غير الأنصاري، ولعله أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة5. 3 - عبد الله بن رجاء المكي 6: قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: تحفظ عن عبد الله بن رجاء، عن عبيد الله،
عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحلال بيِّنٌ والحَراَم بيِّنٌ ... "؟ فقال: هذا حديث منكر، ما أرى هذا بشيء، وقال لي أبو عبد الله: ابن رجاء هذا زعم أن كتبه كانت ذهبت فجعل يكتب من حفظه، ولعله توهَّم هذا1. هذا الحديث أخرجه الطبراني2، والعقيلي3، والرامهرمزي4، كلهم من طريق إبراهيم بن محمد بن الشافعي5، عن عبد الله بن رجاء المكي، عن عبيد الله ابن عمر به. وأخرجه البيهقي6 من طريق أحمد بن شبيب بن سعيد7 عن عبد الله ابن رجاء به. قال الطبراني: لم يروه عن عبيد الله بن عمر إلا عبد الله بن رجاء، وقد رواه عبد الله بن رجاء عن عبد الله بن عمر. ورواية عبد الله بن رجاء عن عبد الله ابن عمر ـ وهو العمري ـ رواها أيضاً أحمد بن شبيب بن سعيد. قال ابن أبي حاتم: "سمعت أبي حدثنا عن أحمد بن شبيب بن سعيد، عن عبد الله بن رجاء المكي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحلال بين والحرام بين ... " الحديث. قال أبي: ثم كتب إلينا أحمد بن شبيب بن سعيد: اجعلوا هذا الحديث عن عبد الله بن عمر" 8. وقال أبو زرعة في هذا الحديث: هكذا حدثنا أحمد من حفظه، ثم رجع أحمد بن شبيب عنه فقال: عن عبد الله بن عمر،
وهو الصحيح. ا.هـ1. فعاد الحديث إلى حديث عبد الله بن عمر العمري وضعفه مشهور، وتفرده بالحديث عن حافظ مكثر مثل نافع مما يزيد الحديث ضعفاً. وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: أنكر الإمام أحمد هذا الحديث أن يكون من رواية عبيد الله بن عمر، وحمّل الخطأ على عبد الله بن رجاء لذهاب كتبه واعتماده على حفظه. ويؤيد هذا الإعلال رجوع أحمد بن شيبب عن ذكر عببيد الله بن عمر في الإسناد، واستبداله بعبد الله بن عمر العمري، وأن ذلك كان لأجل تحديثه بالحديث في أول الأمر من حفظه. وإنما لم يُحمَّل أحمدُ بن شيبب هذا الخطأَ لأن إبراهيم بن محمد الشافعي قد تابعه على ذكر عبيد الله بن عمر، فدل على أن عبد الله بن رجاء كان هو الذي حدث به هكذا، ثم رجع أحمد بن شيبب إلى الكتب فتبين له الخطأ فعاد إلى الصواب، وهذا يدل أيضاً على أن عبد الله بن رجاء قد حدث به سابقاً على الصواب ـ والظاهر أن الصواب كان هو المثبت في كتبه ـ ثم لما حدّث بالحديث من حفظه وقع في الخطأ، وهذا ما أشار إليه الإمام أحمد من أن كتبه قد ذهبت فصار يحدث من حفظه فتوهمّ. وممن ذهبت كتبه عن بعض مشائخه فتُكلِّم في حديثه عن أولئك المشايخ: 4. عبد الرحمن بن عمروالأوزاعي الإمام ت157هـ: ذهبت كتبُه عن يحيى بن أبي كثير فتكلم الإمام أحمد في حديثه عنه. قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: زعموا أن كتبه ـ يعني الأوزاعي ـ عن يحيى بن أبي كثير ضاعت" 2.
وقال مهنّا: "سألت أحمد عن حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال أحمد: كان كتاب الأزواعي عن يحيى بن أبي كثير قد ضاع منه، فكان يحدّث عن يحيى بن أبي كثير حفظاً" 1. وقال يعقوب بن شيبة: "قال أحمد بن حنبل: حديث الأوزاعي عن يحيى مضطرب" 2. وكلام الإمام أحمد في حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير لا يعني تضعيفه في يحيى، ولا يعني إلحاقه بسائر من ذهبت كتبه عن شيخه فضعِّف بسببه عن ذلك الشيخ، بل كلام الإمام أحمد كان لبيان أن له أحاديث عن يحيى ابن أبي كثير أخطأ فيها بسبب ذهاب كتبه، وهو أمر غير مستغرب، لأن الأوزاعي كان من المكثرين عن يحيى بن أبي كثير، فلا يستغرب أن تقع بعض الأخطأ في حديثه عنه3. والدليل على ما ذكرت أن الإمام الأوزاعي كان يحفظ، وذهاب كتب الراوي عن شيخ معين إنما يؤثر على حديثه عن ذلك الشيخ إذا كان ممن لا يحفظ وكان جلّ اعتماده عليها قبل ذهابها أو أصبح بعد ذهابها يقبل التلقين، وكلا الأمرين منفي عن الأوزاعي. قال ابن عدي عن الإمام أحمد ـ وذَكر أصحابَ يحيى بن أبي كثير ـ فقال: "هشام يرجع إلى كتاب، والأوزاعي حافظ" 4. وقد
قال الوليد بن مسلم: "احترقتْ كتبُ الأوزاعي فقيل له: يا أبا عمرو، نسختُها عند ابن الأسود؟ فقال: نتحدّث بما حفِظنا منها" 1. وإذا كان الأمر كذلك فكلام الإمام أحمد في حديث الأوزاعي عن يحيى ابن أبي كثير محمول على ما عرف من منهجه من تقديم حفظ الكتاب على حفظ الصدر كما سيأتي، ومن أجل ذلك جعل أثبت الناس في يحيى بن أبي كثير هشام الدستوائي وأخّر الأوزاعي، فقال كما روى أبو داود: "ليس أحدٌ أثبت في يحيى ابن أبي كثير من هشام الدَّستوائي" 2. وقال أبو زرعة الدمشقي: "سألت أحمد ابن حنبل عن أصحاب يحيى بن أبي كثير فقال: هشام، قلت: ثم من؟ قال: ثم أبان، قلت: ثم من؟ فذكر آخر، قلت: له فالأوزاعي؟ قال: الأوزاعي إمام" 3. وقال صالح: قال أحمد: "وحرب بن شداد، وأبان، وشيبان ثبت في كل المشايخ، وهمام. قلت: الأوزاعي؟ قال: هؤلاء أثبت من الأوزاعي" 4. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: "شيبان أحب إلي من الأوزاعي في يحيى بن أبي كثير وهو صاحب كتاب صحيح، حديثه صالح" 5. وعلى هذا فيجتنب تلك المواضع التي أخطأ فيها الأوزاعي في حديث يحيى بن أبي كثير، وإذا خالفه غيره ممن هو أثبت منه في يحيى فإنه يُقدم عليه6. وممن اتخذ مثل موقف الإمام أحمد في حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير
الإمام أبو زرعة الرازي فقال ابن أبي حاتم: "سألت أبا زرعة قلت: في حديث يحيى بن أبي كثير من أحب إليك، هشام أو الأوزاعي؟ قال: هشام أحب إليّ، لأن الأوزاعي ذهبت كتبه" 1. ولم يتميّز من سمع من الأوزاعي حديثه عن يحيى قبل احتراق كتبه من الذين سمعوا منه بعد ذلك حتى يعامل حديثه معاملة حديث مَنْ تقدم من الرواة من هذا الصنف فيقبل حديث من سمع قبل ذهاب الكتب ويتوقف في حديث من سمع بعد ذلك، ومقتضى عدم هذا التمييز أن ينزل جميع الرواة عن الأوزاعي منزلة واحدة من حيث زمن السماع منه، وهو الذي يظهر من صنيع الإمام أحمد في إعلاله لحديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، من دون تفصيل بين حالة الراوي عنه، والله أعلم. ما أعله الإمام أحمد من حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير. قال المرُّوذي: قلتُ له: فتعرف عن الوليد عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "متى كنتَ نبياًّ؟ "، قال: هذا منكر، هذا من خطأ الأوزاعي، هو كثيراً ما يخطئ عن يحيى بن أبي كثير، كان يقول: أبي المهاجر، وإنما هو أبو المهلّب2. حديث "متى كنتَ نبياًّ" أخرجه الترمذي3، وابن حبان في مقدمة كتابه الثقات4، والحاكم5، وأبو نعيم6، والخطيب البغدادي7 من طرق عن
الوليد بن مسلم به. ولفظه كما عند الترمذي: متى وجبت لك النبوة؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" 1. والحديث أنكره الإمام أحمد وجعله من خطأ الأوزاعي. والظاهر إنما أنكره من حديث يحيى بن أبي كثير، إذ لم يروه عنه غيره2، كأنه لم يعتدّ بتفرد الأوزاعي بالحديث عن يحيى بن أبي كثير للعلة التي تقدم ذكرها من احتراق كتبه عن يحيى واعتماده على حفظه. وأما ما ذكره الإمام أحمد من خطأ الأوزاعي في اسم أبي المهلب حيث يقول فيه: أبو المهاجر فقد وقع ذلك في عدة أحاديث. قال الإمام البخاري: "وروى الأوزاعي أيضاً أحاديث عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، ولا يصح من أبي قلابة عن أبي المهاجر شيء" 3. وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذه الأحاديث في ترجمة أبي المهاجر في تهذيب التهذيب4 فقال: "أبو المهاجر عن بريدة الأسلمي حديث: "بكّروا بالصلاة في الغيم" 5، وعن عمرو بن أمية الضمري حديث: "انتظروا
الغداء" 1، وعن عمران بن الحصين حديث الجهنية التي أقرت بالزنا2، وعنه أبو قلابة الجرمي، كذا يقول الأوزاعي في هذه الأحاديث الثلاثة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة، فأما حديث بُريدة فرواه هشام الدستوائي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، عن بريدة، وهو المحفوظ، وأما حديث أبي أمية فاختلف فيه على الأوزاعي3، وأما حديث عمران فرواه هشام وغير واحد عن يحيى بن أبي كثير،
عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران1، وهو المحفوظ". وممن ذكر أن الإمام الأوزاعي أخطأ على يحيى بن أبي كثير في قوله أبي المهاجر، يحيى بنُ معين، فقال: "الذي يروي الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر إنما هو أبو المهلب، ولكن الأوزاعي قلب كنيته، والذي يروي عن أبي المهلب أثبت من الأوزاعي" 2. وقال النسائي: "لا نعلم أحداً تابع الأوزاعي على قوله: عن أبي المهاجر، إنما هو أبو المهلب" 3. وقال أيضاً: "أبو المهاجر خطأ، والصواب أبو المهلب" 4. وقال ابن حبان: "وهم الأوزاعي في كنية عم أبي قلابة، إذ الجواد يعثر فقال: عن أبي قلابة، عن عمه أبي المهاجر، وإنما هو أبو المهلب، اسمه عمرو ابن معاوية بن زيد الجرمي من ثقات التابعين وسادات أهل البصرة" 5. وقد أعلّ الإمام أحمد الحديث الأول من تلك الأحاديث التي قال فيها الأوزاعي عن أبي المهاجر من وجه آخر في الإسناد والمتن، والحديث هو
حديث بريدة السالف الذكر، حيث رواه الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فقال: "بكّروا بالصلاة في اليوم الغيم، فإنه من فاتته صلاة العصر حبط عمله" ورواه هشام الدستوائي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المليح قال: كنا مع بُريدة في غزوة في يوم ذي غيمٍ فقال: بكّروا بصلاة العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك العصر فقد حبط عمله" 1. فقال الإمام أحمد في رواية مهنّا عن هذا الحديث ـ كما قال ابن رجب: "هو خطأ من الأوزاعي، والصحيح حديث هشام الدستوائي، وذكر أيضاً أن أبا المهاجر لا أصل له، إنما هو أبو المهلب عم أبي قلابة، كان الأوزاعي يسميه أبا المهاجر خطأً، وذِكرُه في هذا الإسناد من أصله خطأ، فإنه ليس من روايته، إنما هو من رواية أبي المليح، كذا قاله الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله" 2. ثم قال ابن رجب: "وقيل: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المليح كما رواه هشام عن يحيى. وخرجه من هذا الوجه الإسماعيلي في "صحيحه". وقيل عن الأوزاعي، عن يحيى، عن ابن بريدة. وقيل عن الثوري، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن بُريدة بغير واسطة بينهما. وهذا كله يدل على اضطراب الأوزاعي فيه، وعدم ضبطه للحديث. وأما متنه فقال الأوزاعي فيه: إن بريدة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فقال: "بكّروا بالصلاة في اليوم الغيم فإنه من فاتته صلاةُ العصر فقد حبط عملُه". كذلك خرجه الإمام أحمد وابن ماجه والإسماعيلي وغيرهم. فخالف هشاماً في ذلك، فإن هشاماً
قال في روايته: إن أبا المليح قال: كنا مع بريدة في غزوة في يوم غيم فقال: بكروا بصلاة العصر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عملُه". فلم يرفع منه غير هذا القدر، وجعل الذين كانوا معه في الغزوة في يوم الغيم، والذي أمر بالتبكير بصلاة العصر هو بُريدة، وهو الصحيح" 1. وقد تابع هشام الدستوائي على ذكر أبي المليح ورفع القدر المذكور من الحديث كل من شيْبان النحوي2، ومعمر3. وممن ذهبت كتبه يوسف بن أسباط بن واصل الشيباني الكوفي من خيار أهل زمانه من عباد أهل الشام وقرائهم4. قال شعيب بن حرب: ما أقدّم على يوسف بن أسباط أحداً5. قال أبو داود: "قلت لأحمد: يوسف بن أسباط؟ قال: ثقة. قلت: فدفن كتبه؟ قال: قد علمت يُقال، ثم قال: ومن مثل يوسف! " 6. وذكر غيرُ واحد خبرَ دفنِ كتبه7. وله أحاديث أخطأ فيها8، وحُمل سببُ وقوع تلك الأخطاء على ذهاب كتبه. ولم أقف على كلام الإمام أحمد في حديثه بل أطلق القول بتوثيقه وأثنى عليه ثناء حسناً، وهذا الثناء راجع إلى فضله في زهده وعبادته، والله أعلم.
المبحث الثالث: الإعلال بالطعن في الراوي بشدة الغفلة وعدم التيقظ
المبحث الثالث: الإعلال بالطعن في الراوي بشدة الغفلة وعدم التيقظ. هذا الصنف من الرواة هم الذين كان الغالب على حديثهم المنكر والغلط، وذلك لشدة غفلتهم، فليس لهم من التيقط ما يميزون به الصواب من الخطأ. وقد عرف الحميدي الغفلة التي ترد بها حديث الرضا الذي لا يعرف بكذب فقال: "هو أن يكون في كتابه غلط فيقال له في ذلك فيترك ما في كتابه ويحدث بما قالوا، أو يغيره في كتابه بقولهم، لا يعقل فرق ما بين ذلك، أو يصحف ذلك تصحيفاً فاحشاً يقلب المعنى لا يعقل ذلك، فيكف عنه" 1. وقد قال الإمام أحمد في أبي قتادة الحراني عبد الله بن واقد: "ما كان به بأس، رجل صالح يشبه أهل النسك والخير، إلا أنه ربما أخطأ"، فقيل له: إنهم يقولون: لم يكن يفصل بين سفيان ويحيى بن أبي أُنيسة. فقال: "باطل، لعله اختلط، أما هو فكان ذكياً" 2 فنفى الإمام أحمد الغفلة لفطنته، فدل على أن الغفلة سببها قلة الفطنة. وقد كان الإمام أحمد لا يرى الكتابة عمن هذا حاله. قال لأبي طالب أحمد بن حميد: "لا تكتب عن أبان بن أبي عياش شيئاً، فقال له: كان له هوى؟ قال: كان منكر الحديث" 3 وأبان بن عياش كما قال أحمد في موضع آخر: "متروك الحديث، ترك الناس حديثه مُذ دهر من الدهور" 4.
وقال أبو طالب: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: "الحسن بن عمارة متروك الحديث، قلت: كان له هوى؟ قال: لا، ولكن كان منكر الحديث، أحاديثه موضوعة ولا يُكتب حديثه" 1 وقوله أحاديثه موضوعة ليس بمعنى أنه كذاب، بل هو من إطلاق الموضوع على حديث المتروك لثبوت الخطأ فيه كما تقدم توضيح ذلك في مصطلحات الإمام أحمد في مبحث الإعلال بكذب الراوي2، فالغالب على حديث الحسن بن عمارة مناكير، وقد قال شعبة: "أفادني الحسن بن عمارة عن الحكم ـ قال: أحسب ـ سبعين حديثاً فلم يكن لها أصل" 3. فأحاديث هؤلاء الرواة عند الإمام دوماً معلولة، لأن الغالب على حديثهم الخطأ والغلط، فمن أجل ذلك كان ينهى عن الرواية عنهم والتحديث بحديثهم. وقد ذكر الإمام أبو عيسى الترمذي قال: "سمعت أحمد بن الحسن يقول: كنا عند أحمد بن حنبل فذكروا من تجب عليه الجُمعة، فذكروا فيه عن بعض أهل العلم من التابعين وغيرهم، فقلت: فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث. فقال: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم. حدثنا أحمد بن الحسن، حدثنا حجاج بن نُصير، حدثنا المبارك بن عباد، عن عبد الله بن سعيد المقبُري، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجُمعة على من آواه الليل إلى أهله". قال: فغضب أحمد بن حنبل وقال: استغفر ربَّك، استغفر ربَّك، مرتين" 4. قال الترمذي: "وإنما فعل هذا أحمد بن حنبل لأنه لم يصدِّق هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لضعف إسناده، لأنه لم يعرفه عن النبي صلى الله عليه وسلم. والحجاج بن نُصير يضعّف في
الحديث، وعبد الله بن سعيد المقبري ضعفه يحيى بن سعيد القطان جداً" 1. وقول أحمد في عبد الله بن سعيد هو أنه منكر الحديث، متروك الحديث2. فلما كان الحديث مما تفرد به هذا الراوي، ولم يسمع به أحمد إلا بهذا الإسناد، عظُم ذلك عنده واشتد نكيره على الذي حدثه به، فدل على أن ما تفرد به الراوي الموصوف بشدة الغفلة لا يجوز الاحتجاج به ولا يجوز التحديث به. قال الترمذي معلِّقاً على هذا الموقف من الإمام أحمد: "فكل من رُوي عنه حديث ممن يتهم، أو يضعّف لغفلته وكثرة خطئه، ولا يُعرف ذلك الحديثُ إلا من حديثه فلا يُحتج به" 3.
المبحث الرابع: ما يخل بضبط الراوي بسبب طريقته في التحمل
المبحث الرابع: ما يُخل بضبط الراوي بسبب طريقته في التحمّل. أرفع أقسام طرق نقل الحديث السماع من لفظ الشيخ، وهو أن يملي الشيخ أو يحدث من غير إملاء سواء من حفظه أو من كتابه، وتليه القراءة على الشيخ وهو المسمى عرضاً، وهذا بناء على ما صححه ابن الصلاح من تقديم السماع على العرض1. وكل ما عدا هذين الطريقين من طرق التحمل ـ من إجازة، ومناولة، ومكاتبة، وإعلام، ووصية، ووِجادة ـ لا تخلو من دخول الخلل على مرويات من اعتمدها في الرواية، وكلام من تكلم من الأئمة في بعض الرواة بسبب طرق تحملهم عائد إلى ذلك الخلل. قال الذهبي: "ولا ريب أن الأخذ من الصحف وبالإجازة يقع فيه الخلل، ولا سيما في ذلك العصر حيثُ لم يكن بعدُ نقطٌ ولا شكلٌ فتتصحَّف الكلمة بما يُحيلُ المعنى، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال" 2. وقد تكلم الإمام أحمد في بعض الرواة بسبب طريقة نقلهم لأحاديث بعض شيوخهم أذكرهم على اختلاف طرق تحملهم: من روى عن شيخه بالإجازة: الإجازة إذن في الرواية لفظاً أو كتابة تفيد الإخبار الإجمالي في العرف3، وأرفعها أن يجيز لمعين في معين، كأن يقول: أجزت لك الكتاب الفلاني، وهذا في الإجازة المجردة عن المناولة، ومع كونها دون السماع والعرض لأنهما أبعد منها عن التصحيف والتحريف4، يتوقف الاحتجاج بها على ثقة المجيز وإتقانه
وتثبته، وضبط الكتاب المجاز وإتقانه، وثقة الراوي المجاز له1. وقد تكلم الإمام أحمد في بعض الرواة رووا عن شيوخهم بالإجازة واحتج بروايتهم لبعض الاعتبارات. فمن ذلك: من روى عن شيخه بالإجازة ولم يكن من أهل الحديث، ومنهم: بشر بن شعيب عن أبيه: تقدم أن الإمام أحمد روى عن بشر بن شعيب نحواً من سبعين حديثاً مع أنه لم يكن بصاحب حديث، ولا كان سماعه من أبيه أمراً محَقّقاً لدى الإمام أحمد، والمنقول عن الإمام أحمد أن روايته عن أبيه كانت بالإجازة. قال أبو حاتم الرازي: ذُكر لي أن أحمد بن حنبل سأله ـ يعني بشر ابن شعيب ـ سمعت من أبيك شيئاً؟ قال: لا، قال فقرئ عليه وأنت حاضر؟ قال: لا، قال: فقرأت عليه؟ قال: لا، قال: فأجاز لك؟ قال نعم. وكتب عنه على معنى الاعتبار ولم يحدث عنه" 2. هكذا ذكرها أبو حاتم بصيغة التمريض. فهذه الرواية تفيد أن بشر بن شعيب أخذ عن أبيه إجازة، وأن رواية الإمام أحمد عنه كان للاعتبار به ولم يكن يحدث عنه. لكن قال الذهبي: هذه القصة ليست بصحيحة، فإن أبا حاتم رواها بلا سماع من أحمد بل قال: ذُكر لي أن أحمد سأله. ا.هـ3. وتعقب الحافظ ابن حجر قول أبي حاتم أن الإمام أحمد لم يحدث عنه وإنما كتب عنه على معنى الاعتبار بأن حديثه عنه ثابت في المسند4.
وقال أبو زرعة الرازي: قال لي محمد بن عوف الحمصي1: "قال لي أحمد ابن حنبل عند ما قدم علينا: تأتي بشر بن شعيب فتسأله أن يخرج إلي كتب أبيه، فأتيته فعرفته مكان أحمد، وعظّمت مكانه عنده فقلت له: إنه يسألك أن تخرج إليه كتب أبيك للنظر فيها. فقال لي: أنا لم أسمع من أبي شيئاً، فأتيت أحمد فأخبرته فردّني إليه وقال: هؤلاء يرون الإجازة سماعاً ويروونه، فأنا أرى احتماله والسماع منه. فأتيت بشراً فسألته أن يخرج ذلك إليه وأعلمته أني قد أعلمته أنك لم تسمع من أبيك شيئاً. فقال لي بشر: فليس الرجل إذاً كما وصفت، ولو كان كما وصفت لم ير الكتابة عني لأني لم أسمع من أبي شيئاً، فأعلمته ما احتج به أحمد وذهبت إليه حتى نظر في كتبه وسمع منه" 2. فالإمام أحمد تبين عنده أن تحمل بشر من أبيه كان بالإجازة ومع ذلك اعتمدها، وذلك بناء على أمرين: الأول: ما ذكره في رواية أبي زرعة هذه من أن عادة أهل الشام أنهم يرون الإجازة سماعاً فلا يتهاونون بها. الثاني: ما ذكره الإمام أحمد في رواية أبي داود: "كتبت عنه قدر سبعين حديثاً، ولم يكن صاحب حديث ولكن كتب أبيه كانت عنده" 3، فذكر علة روايته عنه، وهي كون كتب أبيه كانت عنده، وما دام المقصود من الرواية العلم بصحة نسبة المروي إلى المروي عنه فبأي صفة من صفات الأداء حصل هذا العلم حصل المطلوب، وكتب شعيب كانت معروفة ومضبوطة وكانت عند بشر كما قال الإمام أحمد: نظرت في كتب شعيب، كان ابنه يخرجها إليّ....ا. هـ 4.
وموقف الإمام أحمد هذا من أن رواية بشر عن أبيه كانت بالإجازة موافق لما قاله يحيى بن معين1، وأبو زرعة الرازي. وقال أبو زرعة: سماع بشر بن شعيب بن أبي حمزة كسماع أبي اليمان إنما كان إجازة2. وأما ما ذكره أبو اليمان، من أن بشر بن شعيب قد سمع من أبيه كتبه، وذلك بشهادة أبيه كما رواه أبو زرعة الدمشقي: "أخبرني الحكم بن نافع قال: كان شعيب بن أبي حمزة عسراً في الحديث، فدخلنا عليه حين حضرته الوفاة قال: هذه كتبي قد صححتها فمن أراد أن يأخذها فليأخذها، ومن أراد أن يعرض فليعرض، ومن أراد أن يسمعها من ابني فليسمعها فقد سمعها مني" 3، وقريب منه ما رواه الفسوي عن أبي اليمان أيضاً4، فيمكن أن يجاب عنه بما ذكره الإمام أحمد من أن أهل الشام كانوا يرون الإجازة سماعاً، فتعبير شعيب عن تحمل ابنه بأنه سماع محمول على هذا جمعاً بينه وبين ما تقدم عن الإمام أحمد عن سماع بشر من أبيه. من روى عن شيخه بالإجازة مع عدم إحضار الكتاب المجاز، منهم: أبو اليمان الحكم بن نافع البهراني الحمصي وروايته عن شعيب بن أبي حمزة: قال أحمد عن أبي اليمان: صالح، وقد أكثر عنه5. واختلفت أقوال الإمام أحمد في طريقة تحمله عن شيخه شعيب بن أبي حمزة، وهي راجعة إلى ثلاث روايات:
الأولى: قال المروذي: "قال أبو عبد الله: شعيب بن أبي حمزة كان لا يكاد يحدث، فلما حضرته الوفاة قال: اجمعوا لي فلاناً وفلاناً، فاجتمع بقية، ويقولون أبو اليمان، وقد ذكروا علي بن عياش، فلا أدري كان أم لا؟ فقال: هذه كتبي ارووها عني، فكان أبو اليمان يقول: حدثني شعيب، ولا أدري كان معهم أم لا؟ " 1. ومثل هذا رواية ابنه عبد الله2. وفي رواية أخرى لعبد الله: "قلت كيف سماع أبي اليمان منه؟ قال: كان يقول: أخبرنا شعيب. قلت: فسماع ابنه؟ قال: كان يقول: حدثني أبي. قلت سماع بقية؟ قال شيء يسير ... " 3. فهتان الروايتان تفيدان أن شعيباً أجاز للجماعة الحاضرين رواية كتبه الحاضرة وقت الإجازة، وهذه أعلى أنواع الإجازة المجردة من المناولة ـ أي إجازة لمعين في معين4 ـ إلا أن الإمام أحمد نفى علمه بكون أبي اليمان مع هؤلاء الجماعة أم لا، كأنه لم يثبت عنده نقل الذين ذكروا أن أبا اليمان حضر ذلك المجلس. واختلف عنه في الصيغة التي يذكرها أبو اليمان عند الرواية عن شعيب: هل هي حدثنا أو أخبرنا؟ الثانية: قال أبو بكر الأثرم: "سمعت أبا عبد الله وسُئل عن أبي اليمان، وكان الذي سأله قد سمع منه، فقال له: أي شيء تنبش على نفسك؟ ثم قال أبو عبد الله: هو يقول أخبرنا شعيب، واستحل ذلك بشيء عجيب. قال أبو عبد الله: كان أمر شعيب في الحديث عسراً جداًّ، وكان علي بن عيّاش سمع منه، وذكر
قصة لأهل حمص أُراها أنهم سألوه أن يأذن لهم أن يرووا عنه، فقال لهم: لا ترووا هذه الأحاديث عني. قال أبو عبد الله: ثم كلموه وحضر ذلك أبو اليمان، فقال لهم: ارووا تلك الأحاديث عني. قلت لأبي عبد الله: مناولة؟ فقال: لو كان مناولة، لم يعطهم كتباً ولا شيئاً، إنما سمع هذا فقط، فكان ابن شعيب يقول: إن أبا اليمان جاءني فأخذ كتب شعيب مني بعد، وهو يقول: أخبرنا، فكأنه استحل ذلك بأن سمع شعيباً يقول لقوم ارووه عني" 1. فهذه الرواية تفيد أن أهل حمص كلموا شعيباً في أن يأذن لهم أن يرووا عنه كتبه في مجلسين، وحضور أبي اليمان كان في المجلس الثاني، حيث أذن لهم، وليس هناك مناولة للكتب وإنما أحال على كتبه التي سألوه في المجلس الأول الذي لم يحضره أبو اليمان، لكن لما كانت الكتب معروفة أخذها أبو اليمان من بشر بن شعيب فكان يرويها بالإجازة، وهذه الإجازة ظاهرها أنها في غير معين في حق أبي اليمان، وهذا وجه إنكار الإمام أحمد على أبي اليمان، فإن قوله: واستحل ذلك بشيء عجيب قاله على وجه الإنكار كما قال ابن رجب2. الثالثة: قال صالح بن أحمد بن حنبل قال: سمعت القاسم بن أبي صالح يقول: سمعت إبراهيم بن الحسين ـ وهو ابن ديزيل ـ يقول: "سمعت أبا اليمان الحكم بن نافع يقول: قال لي أحمد بن حنبل كيف سمعت الكتب من شعيب بن أبي حمزة؟ قلت: قرأت عليه بعضه، وبعضه قرأه عليّ، وبعضه أجازه لي، وبعضه مناولة، فقال: قل في كله: أخبرنا شعيب" 3.
فهذه الرواية تفيد أن الإمام أحمد شافه أبا اليمان بالسؤال عن كيفية سماعه لكتب شعيب، فذكر أنه سماع، وعرض، وإجازة، ومناولة. ويؤيدها ما رواه أبو زرعة الدمشقي قال: "أخبرني الحكم بن نافع قال: كان شعيب بن أبي حمزة عسراً في الحديث، فدخلنا عليه حين حضرته الوفاة قال: هذه كتبي قد صححتها فمن أراد أن يأخذها فليأخذها، ومن أراد أن يعرض فليعرض، ومن أراد أن يسمعها من ابني فليسمعها فقد سمعها مني" 1. وهذه الرواية تقضي على بقية الروايات لأنها من صاحب القصة، وغيرها أخذها الإمام أحمد بواسطة عن صاحب القصة، ثم إنها في الظاهر هي المتأخرة بدليل أنه لا يستقيم من الإمام أحمد سؤاله لأبي اليمان عن كيفية سماعه من شعيب إلا وقد تقدم منه عدم علمه بذلك، وقد كان يقول لا يدري هل كان أبو اليمان حاضراً في مجلس إجازة شعيب أم لا؟ كما في الرواية الأولى فناسب أن تتأخر هذه ـ أي الثالثة ـ عنها. وكذلك ما ورد عنه في الرواية الثانية من إنكاره لأبي اليمان قوله: أخبرنا فيما تحمله من شعيب بإجازة مع عدم حضور الكتب المجازة، وكونه ما أخذ الكتب إلا من بشر بن شعيب، إنما جاء ذلك قَبل مشافهته أبا اليمان بالسؤال عن كيفية سماعه من شعيب أيضاً. فاتضح أن إنكار الإمام أحمد حين أنكر على أبي اليمان موجه إلى روايته عن شعيب بالإجازة التي لم يصحبها إحضار الكتاب المجاز، ثم تبين له بعدُ أن أبا اليمان قد كان بعض تحمله من شعيب سماعاً، وبعضه عرضاً إلخ كما تقدم. وأما الحافظ ابن رجب فأجاب بأن حديث شعيب كان معروفاً عندهم، وأذن لهم في روايته عنه، فلا حاجة إلى إحضاره ومناولته، وحديث أبي اليمان عن
شعيب متفق على تخريجه في الصحيحين1، فظاهر ما ذهب إليه ابن رجب أن أبا اليمان لم يسمع من شعيب، كأنه لم يعتبر ما رواه ابن ديزيل عن أحمد من أن أبا اليمان قد سمع بعض حديث شعيب منه سماعاً وبعضه عرضاً، ويؤيد كونه سمع منه تصريح أبي اليمان بالتحديث في بعض ما يرويه عن شعيب2. من روى عن شيخه مكاتبة: والمكاتبة من أقسام التحمل، وهي أن يكتب الشيخ حديثه بخطه أو يأذن لمن يثق به بكتبه ويرسله بعد تحريره إلى الطالب أو يكتب له ذلك وهو حاضر، وقد تكون مقرونة بالإجازة وقد تكون مجردة عنها، وأما الأولى فتشبه المناولة المقرونة بالإجازة ـ أي لا يتقدمها من صفات التحمل إلا السماع والعرض، وأما الثانية فقد أجازها كثير من المتقدمين والمتأخرين والقول بالجواز هو المشهور عند أهل الحديث3. وهذه الصفة في التحمل يدخلها الخلل من الجهة التي يدخل على سائر صفات التحمل ما عدا السماع والعرض، وهو كثرة وقوع التصحيف بها، لأن الكتب كانت في الأولى غير منقوطة ولا مشكولة. ثم هي وإن قيل فيها إنها تشبة المناولة إلا أنها دونها في الحقيقة لأن اليقين غير حاصل في المكتابة بكون الكتاب كتاب المحدث، فقد يكون الخط غير خط المحدث ولا خط من كتبه بحضرته، لأن الخطوط تتشابه، فكلما قوي اليقين بكون الخط خطَ المحدث قوي اعتمادها، وكلما ضعُف هذا اليقين ضعُف الاعتماد. ومن ثم اشترط لصحة الرواية بها معرفة المكتوب إليه أن هذا كتاب فلان بمعرفة خط الكاتب تحقيقاً أو
على الظن الراجح1. وقد روى الإمام أحمد بالمكاتبة خارج المسند2، أما في المسند فلم أقف عليه واحتج أصحاب أحمد لصحة الرواية بها بأن أبا مسهر وأبا توبة كتبا إليه بأحاديث وحدث بها3. وقد أشار إلى بعض الرواة بأن سماعهم من شيوخهم بالمكاتبة من غير سماع، وجعل هذا سبب وقوع المنكرات في مرويات بعض هؤلاء. وممن ذكر الإمام أحمد أنه روى عن شيخه بالمكاتبة بلا سماع: 1. يزيد بن أبي حبيب عن الزهري: قال عبد الله: قال أبي: ولم يسمع يزيد بن أبي حبيب من الزهري، إنما كتب إليه بكتاب، وكان يقول: كَتَب إليّ الزهري4. وقال أحمد أيضاً: يزيد بن أبي حبيب عن الزهري كتاب، إلا ما سمى بينه وبين الزهري5 أي إلا ما رواه عنه بواسطة. وقد روى الإمام أحمد في المسند من حديث يزيد بن أبي حبيب عن الزهري، وهو حديث كعب بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يُسافر، لا يسافر إلا يوم الخميس"6، وقد تابعه يونس عن الزهري7. ولم أقف على غيره. وقد أخرج مسلم ليزيد بن أبي حبيب من حديثه عن الزهري، ولم يخرج له البخاري8.
ولم أقف عن الإمام أحمد أنه نسب يزيد بن أبي حبيب إلى رواية المناكير عن الزهري، فأثر تنصيص الإمام أحمد أنه روى عن الزهري مكاتبة يظهر عند الاختلاف بينه وبين سائر أصحاب الزهري، فرواية من روى عنه سماعاً أو عرضاً مقدمة على روايته1. 2. محمد بن كثير المصيصي 2 عن معمر: قال صالح بن أحمد بن حنبل: "قال أبي: محمد بن كثير لم يكن عندي ثقة، بلغنى أنه قيل له: كيف سمعت من معمر؟ قال: سمعت منه باليمن، بعث بها إلي إنسان من اليمن" 3. وقال عبد الله: ذكر أبي محمد بن كثير المصيصي، فضعّفه جداًّ وقال: سمع من معمر ثم بعث إلى اليمن فأخذها فرواها، وضعف حديثه عن معمر جداًّ، وقال: هو منكر الحديث أو قال: يروى أشياء منكرة" 4. وأنكر الإمام البخاري له حديثاً وقال: "وكان أحمد بن حنبل يحمل على
محمد بن كثير، ويقول: كتب إلى اليمن حتى حُمل إليه كتاب معمر فرواه" 1. وعن أحمد أيضاً: "ليس بشيء، يحدث بأحاديث مناكير ليس لها أصل" 2. فهذه الروايات عن أحمد تدل على أن المصيصي سمع من معمر، ثم اعتمد في الرواية عنه ما بعث إليه من حديث معمر مكاتبة، فالنظر فيمن كتب له كُتب معمر، وهل صُححت بعد نقلها، وهل الذي حملها إليه ثقة يعتمد عليه في عدم العبث بها بالزيادة أو التغيير؟ وحيث إنه ليس له من الحفظ ما يجعله يميز صحيح حديث معمر فقد وقعت له مناكير وروايات لا أصل لها من حديث معمر، وذلك بسبب اعتماده على المكاتبة في نقله لحديث معمر مع ضعف اعتمادها في مثل هذه الحالة بسبب عدم معرفة الناقل والواسطة، والله أعلم. ولم أقف عن الإمام أحمد على إعلال لحديث رواه المصيصي عن معمر. من روى عن شيخه بالوصية: والرواية بها غير جائزة لأنها ليست بتحديث لا إجمالاً ولا تفصيلاً، ولا تتضمن الإعلام لا صريحاً ولا كناية3، إلا أن يروي بها على سبيل الوِجادة ـ يقول وجدت بخط فلان ـ أو يكون تقدمت من العالم إجازة لمن صارت الكتب له بالوصية4. ومن الرواة الذين ذكر الإمام أحمد أنهم رووا عن بعض شيوخهم بالوصية:
عبد العزيز بن أبي حازم فيما رواه عن سليمان بن بلال: وصفه الإمام أحمد بالفقه وقال: لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه، ولم يكن يعرف بطلب الحديث إلا كتب أبيه فإنهم يقولون إنه سمعها1، وقال عنه: أرجو أنه لا بأس به، وقيل له: هو أحب إليك أو الدراوردي؟ فقال: لا، بل هو أحب إليّ، ولكن الدراوردي أعرف منه. ا.هـ2. أما ما يتعلق بروايته بالوصية فقال أبو داود: قال أحمد: "له بلية أخرى ـ يعني ابن أبي حازم ـ لم يكن بكثير الحديث، فلما مات سليمان بن بلال أوصى إليه فدفعت كتبه إليه، فأخرج أحاديث كثيرة للناس" 3. وقال في رواية أبي طالب: يقال إن كتب سليمان بن بلال وقعت إليه ولم يسمعها، وقد روى عن أقوام لم يكن يعرف أنه سمع منهم. ا.هـ4. وقال العقيلي عن الأثرم: "قال سمعت أبا عبد الله يُسأل عن عبد العزيز ابن أبي حازم فقيل: كيف هو؟ قال: أما روايته فيرون أنه سمع من أبيه، وأما هذه الكتب التي عن غير أبيه فيقولون: إن كتب سليمان بن بلال صارت إليه. قلت: وكان يُدلّسها؟ قال: ما أدري أخبرك" 5. فتلخص من هذه الروايات أن عبد العزيز بن أبي حازم إنما عرف بالسماع من أبيه، أما غير أبيه فلم يكن يعرف بالسماع منه لأنه لم يكن معروفاً بطلب الحديث، فلما أخذ يحدث عن شيوخ لم يكن معروفاً بالسماع منهم، وكان سليمان بن بلال قد
أوصى إليه كتبه دلّ ذلك على أنه روى عنهم من تلك الكتب الموصاة له، والرواية بالوصية غير صحيحة، فمن هذا الوجه وصف الإمام أحمد أمره بأنه بلية. لكن مستند الإمام فيما ذكره عن ابن أبي حازم هو بلاغ، ولذلك أجاب بلا أدري لسؤال الأثرم: هل كان ابن أبي حازم يروي تلك الأحاديث على سبيل التدليس؟ والسماع الذي نفاه الإمام أحمد قد أثبته غيره، والمثبت مقدّم على النافي. فروى ابن أبي خيثمة: "قيل لمصعب الزبيري: ابن أبي حازم ضعيف إلا في حديث أبيه؟ فقال: أو قد قالوها؟ أما هو فسمع مع سليمان بن بلال، فلما مات سليمان أوصى إليه بكتبه، فكانت عنده فقد بال عليها الفأر، فذهب بعضها فكان يقرأ ما استبان له ويدَع ما لا يعرف منها، أما حديث أبيه فكان يحفظه" 1. فهذا مصعب الزبيري وهو بلدي ابن أبي حازم يثبت أن ابن أبي حازم سمع مع سليمان بن بلال من المشايخ، فحديثه عنهم بعد موت سليمان بن بلال مما سمع معه من هؤلاء الشيوخ لكن حفظه من كتب سليمان، فروايته لهذه الكتب ليست رواية لما لم يسمع، وحالته كحالة أيوب مع كتب أبي قلابة، فإنه أوصى بها له فجيئ بها إليه فسأل ابن سيرين: هل يرويها؟ قال له نعم، ثم قال بعد ذلك: لا آمرك ولا أنهاك2 قال الخطيب: إن أيوب كان قد سمع تلك الكتب غير أنه لم يحفظها فلذلك استفتى محمد بن سيرين عن التحديث منها. ا.هـ 3. وقد احتج الجماعة برواية ابن أبي حازم عن غير أبيه كما قال ابن حجر4.
من روى عن شيخه بالوجادة: وهو رواية الراوي ما وجده من كتاب شخص فيه أحاديث يرويها بخطه ولم يلقه هو أو لقيه ولكن لم يسمع منه ذلك الذي وجده، ولا له منه إجازة ولا نحوها. قال ابن الصلاح: وهو من باب المنقطع والمرسل غير أنه أخذ شوباً من الاتصال بقوله وجدت بخط فلان. ا.هـ1. فالرواية بها يدخلها ما يدخل المنقطعات من الآفة، ثم قد يكون ما وجده في كتاب الشيخ بخطه ليس هو من حديثه، وإنما ذوكر به ولو أخذ منه سماعاً لتبين له هل هو من حديثه أم لا؟ وقد أنكر يحيى بن معين مرة على علي بن عاصم حديثاً، وقال: ليس هذا من حديثك، إنما ذوكرت به فوقع في قلبك فظننت أنك سمعته ولم تسمعه، وليس هو من حديثك2. وقال وكيع: لا ينظر الرجل في كتاب لم يسمعه، لا يأمن أن يعلق قلبه منه3، أي فيظنه من حديثه. وقد أعلّ الإمام أحمد حديثاً رواه راوٍ ثقة وعلته كونه أخذه الراوي من كتاب شيخه بلا سماع. قال الأثرم: "قلت لأبي عبد الله: تحفظ عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة؟ فقال: كتبوه من كتاب معاذ ولم يسمعوه منه. قلت: ههنا إنسان يزعم أنه قد سمعه من معاذ، فأنكر ذلك. قال: من هو؟ قلت: إبراهيم بن عرعرة، فتغير وجهُه ونفض يدَه، وقال: كذب وزور، سبحان الله ما سمعوه منه! إنما قال فلان: كتبناه من كتابه، ولم يسمعه، سبحان الله واستعظم ذلك منه" 4.
هذا الحديث رواه الطبراني1 من طريق المعمري، والرامهرمزي2 من طريق سليمان بن أيوب الكحال، كلاهما عن إبراهيم بن عرعرة ثنا معاذ بن هشام قال: وجدت في كتاب أبي عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى. وهو حديث غريب من حديث قتادة. وقد أعله الإمام أحمد بأن الذين رووا الحديث عن معاذ بن هشام رووه وجادة من كتاب معاذ بن هشام، ولم يسمعوه، ومن هذا الوجه دخلته النكارة، واعتُرض على هذا الإعلال بأن إبراهيم بن عرعرة قد رواه عن معاذ سماعاً، كما صرّح بالتحديث في رواية الطبراني والرامهرمزي، فلم يقبل الإمام أحمد هذا الاعتراض لأن غير ابن عرعرة قد خالفه وقال: كتبناه من كتاب معاذ أي من غير سماع، ولم يسم هذا الغير ولم أقف على من رواه عن معاذ على الوجه الذي ذكره الإمام أحمد. وقد مال علي بن المديني إلى نحو هذا الإعلال قال: "روى قتادة حديثاً غريباً لا يحفظ عن أحد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام، فنسخته من كتاب ابنه معاذ وهو حاضر، لم أسمعه منه عن قتادة. وقال لي معاذ: هاته حتى أقرأه، قلت: دعه اليوم، قال: حدثنا أبو حسان، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى. قال: وما رأيت أحداً واطأه عليه. قال علي بن المديني: هكذا هو في الكتاب" 3. فذكر أنه نسخه من كتاب معاذ وهو حاضر، ولم يسمعه، وأشار إلى غرابته، ولعل ابن المديني لم يحرص على سماعه من معاذ لأن معاذاً نفسه إنما رواه
عن أبيه وجادة، فإنه يقول: وجدت في كتاب أبي، ولم يذكر سماعاً. وقد اعترض الخطيب على إنكار عدم سماع ابن عرعرة لهذا الحديث من معاذ قال: وما الذي يمنع أن يكون إبراهيم بن محمد بن عرعرة سمع هذا الحديث من معاذ مع سماعه منه غيره؟ 1. ووافقه الذهبي وقال: صدق أبو بكر، وإبراهيم من كبار طلبة الحديث المعنيين به2. ويندفع هذا الاعتراض ويتأيد ما ذهب إليه الإمام أحمد بأن البيهقي قد روى عن المعمري ـ أحد من روى الحديث عن ابن عرعرة ـ من غير طريق الطبراني، فقال فيه: ثنا ابن عرعرة قال: دفع إلينا معاذ بن هشام كتاباً، وقال: سمعته من أبي ولم يقرأه قال: فكان فيه عن قتادة ... فذكره3. فظهر أن ابن عرعرة لم يسمع الحديث من معاذ، وإنما أخذه من كتابه كما قال الإمام أحمد، فاستقام وجه إعلاله للحديث، والله أعلم. وقد روي مثلُ متنِ الحديث من مرسل طاووس، رواه ابن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة4، وذكره البيهقي أنه في جامع الثوري عن ابن طاووس به مرسلاً أيضاً5. وقد رواه الطبراني من طريق عمر بن رياح، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور البيت كل ليلة من ليالي منى، ثم يطوف ويصلي ركعتين لطوافه، ويرجع إلى منى قبل أن يدركه الصبح] 6.
وعمر بن رياح قال فيه الفلاس دجال، وقال ابن عدي: يروي عن ابن طاووس بالبواطيل ما لا يتابعه أحد عليه1. فالصحيح أنه مرسل. ومثال آخر ما تقدم عن الإمام أحمد فيما رواه عنه أبو زرعة الدمشقي: قال أبو زرعة: قلت له ـ يعني أحمد بن حنبل ـ: فحديث عطاء بن يسار، عن ميمونة ـ حدثت به أبا عبد الله ـ أعني في المسح أيضاً؟ قال: ذاك من كتاب. قلت لأبي عبد الله: أي شيء ذهب أهل المدينة في المسح أكثر من ثلاث ويوم وليلة؟ قال: لهم فيه أثر، وقال لي أبو عبد الله أحمد بن حنبل: حديث خُزيمة بن ثابت مما لعله أن يدل على ـ يعني حجة لهم، قوله: ولو استزدته لزادني" 2. وحديث عطاء بن يسار رواه أبو بكر الحنفي، عن عمر بن إسحاق بن يسار ـ أخي محمد بن إسحاق بن يسار ـ قال: قرأت كتاباً لعطاء بن يسار مع عطاء بن يسار قال: سألت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن المسح، قالت: قلت: يا رسول الله! كل ساعة يمسح الإنسان على الخُفين ولا يخلعهما؟ قال: "نعم". أخرجه الدارقطني3. وهذا الحديث لم يقبله الإمام أحمد لأنه من كتاب، أي هو وجادة، وإن كان قرئ بحضرة صاحب الكتاب، لكن ليس فيه أنه أجازه له، فقد يكون أصل الحديث أخذه مذاكرة فلم ير أن يجيز للحاضرين روايته. ففي صنيع الإمام أحمد هذا رد لما رواه الراوي بطريق الوجادة، وهو الشاهد.
وممن تكلم في حديثه عن شيخه بأنه كتاب بلا سماع: 1. الحكم بن عُتيبة عن مِقسم: جعله الإمام أحمد أثبت الناس في إبراهيم1، وفي سماعه من مِقسم مولى ابن عباس كلام. قال عبد الله: سمعت أبي يقول: "الذي يصحح الحكم عن مقسم أربعة أحاديث ثم ذكرها. قال عبد الله: فما روى غير هذا؟ قال: الله أعلم، يقولون كتاب، أرى حجاجاً روي عنه عن مقسم عن ابن عباس نحواً من خمسين حديثاً" 2. وقال أبو داود: "ثنا أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: لم يسمع الحكمُ حديثَ مِقسم في الحجامة في الصيام ـ يعني حديث شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم"3. قلت لأحمد: رواية الحكم عن مِقسم عمّن أخذه؟ قال: يقولون عن كتاب" 4. وقال عبد الله: "حدثني أبي قال: سمعت يحيى قال: قال شعبة: لم يسمع
الحكم حديث مِقسم في الحجامة في الصيام عن مِقسم" 1. فهذا الحديث رواه الحكم عن مِقسم من كتاب، ولم يسمعه منه. وله عنه غير هذا الحديث كلها أخذها من كتاب ما عدا الأربعة التي ذكرها شعبة2، وقد تقدم عن الإمام أحمد أن حجاج بن أرطاة روى عن الحكم عن مقسم نحواً من خمسين حديثاً، وخرّج عدداً منها أحمد في المسند3 من طريق حجاج ومن طريق غيره عن الحكم. ومع رواية الحكم لها وجادة فقد قدمه الإمام أحمد على يزيد بن أبي زياد في مِقسم لثقته وإتقانه. قال أبو داود: "قلت لأحمد: يزيد ـ يعني ابن أبي زياد أحب إليك عن مِقسم أو الحكم؟ قال: الحكم في كل شيء. قلت لأحمد: ذكرتَ أن الحكم في
مقسم أحب إليك منه ـ يعني من يزيد، والحكم سمع من مِقسم أحاديث؟ قال: أربعةً سمع منه. قلت: فكيف تختار الحكم عليه؟ فقال: الحكم لا يُقاس إليه، يزيد يختلف عنه جداًّ" 1. ولعل وجه تقديم الإمام أحمد للحكم على يزيد بن أبي زياد في مقسم مع كون روايته عنه كتاب وليست بسماع أن معظم أحاديث الحكم عن مِقسم لها أصل عن ابن عباس أو غيره، وما ذلك إلا لثقته وإمامته. ولم يخرج الشيخان شيئاً من حديث الحكم بن عتيبة عن مقسم2. 2. أبو الأحوص سلاّم بن سُليم الحنفي عن أبي إسحاق السبيعي: وأبو الأحوص وثقه الإمام أحمد، قال عبد الله: كان أبي إذا رضي عن إنسان وكان عنده ثقة حدّث عنه وهو حي، فحدثنا عن أبي الأحوص وهو حي. ا.هـ3. وربما قال: هو أثبت من عبد الرحمن بن مهدي في حديث شعبة4. وذكر الأثرم: "قلت لأبي عبد الله: وروى ـ أي محمد بن معاوية المكي ـ عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً" فتبسّم كالمتعجب، ثم قال: إنما هذا زعموا أن حفصاً رواه عن الأعمش، عن أبي إسحاق، وأرى الأعمش أخطأ فيه، وأبو الأحوص إنما هو كتاب عن أبي إسحاق، من أين يحتمل مثل هذا؟ " 5. هذا الحديث رواه حفص بن غياث عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن
أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة الجشمي، عن عبد الله بن مسعود. أخرجه الترمذي1، وابن ماجه2، وأحمد3، وابن أبي شيبة4، والدارمي5، وأبو يعلى6، والبزار7، والطبراني8 وغيرهم من طرق عن حفص به، ولفظه: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء"، قيل ومن الغرباء؟ قال "النزاع من القبائل". وقال أحمد في رواية حنبل إن هذا الحديث منكر9، ولم يبين وجه النكارة. والرواية المسوقة هنا عن الأثرم وضحت ذلك حيث قال: "وأُرى الأعمش أخطأ فيه"، فجعل الخطأ من الأعمش، وذلك أنه تفرد به من بين أصحاب أبي إسحاق، وليس من المعروفين بكثرة الرواية عنه، وقد قال ابن المديني: الأعمش يضطرب في حديث أبي إسحاق10. وإنما جعل الإمام أحمد الخطأ من الأعمش ولم يجعله من حفص بن غياث، لأن حفصاً قد توبع عن الأعمش: تابعه أبو خالد الأحمر11، ويوسف بن خالد على ما ذكره البزار. قال البزار: هذا الحديث لا نعلم رواه عن أبي إسحاق، عن
أبي الأحوص مسنداً إلا الأعمش، ورواه عن الأعمش أبو خالد ويوسف بن خالد وغيرهما. ا.هـ1. وأما رواية أبي الأحوص سلام بن سليم عن أبي إسحاق فهي متابعة للأعمش، لكن أعلها الإمام أحمد بأن رواية أبي الأحوص عن أبي إسحاق إنما هي كتاب، فدل على أن التحمل من كتاب بدون سماع قد يعتبر علة عند الإمام أحمد. وهذا الإعلال إنما يستقيم على فرض صحة الرواية عن أبي الأحوص، فإن الراوي عنه ـ وهو محمد بن معاوية النيسابوري المكي سئل الإمام أحمد عنه فقال: "نعم الرجل يحيى بن يحيى"، يُورِّي ولا يريد التصريح بالطعن. وعن الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذُكر محمد بن معاوية النيسابوري فقال: رأيت أحاديثه أحاديث موضوعة. ا.هـ2. والشاهد أن الإمام أحمد نص على أن رواية أبي الأحوص عن أبي إسحاق إنما هي كتاب، وأن هذه قضية يمكن أن تعلّ بها الروايات التي جاءت من هذا الطريق. ولم أر هذا لغير الإمام أحمد، بل في صحيح البخاري تصريح أبي الأحوص بالتحديث من أبي إسحاق3. وقد أخرج الشيخان حديث أبي الأحوص عن أبي إسحاق كما رمز لذلك المزي4. 3. عمرو بن شعيب عن أبيه: وقال عبد الملك بن عبد الحميد: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: عمرو
ابن شعيب له أشياء مناكير، إنما نكتب من حديثه نعتبره، فأما أن يكون حجة فلا" 1. وقال البخاري: "رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن عبد الله، والحميدي، وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه" 2. وقال أبو داود: "سمعت أحمد قال: ما أعلم أحداً ترك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قلت لأحمد: يُحتج بحديث عمرو بن شعيب ما كان عن غير أبيه؟ قال: لا أدري" 3. فنفى الإمام أحمد الاحتجاج به، ثم نقل عنه ما يفيد الاحتجاج به، وهذا يدل على تردده فيه، وقد جاء هذا التردد صريحاً في رواية الأثرم: قال الأثرم: "سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن عمرو بن شعيب فقال: أنا أكتب حديثه، وربما احتججنا به، وربما وجس في القلب منه، ومالك يروي عن رجل عنه" 4. فالتردد في الاحتجاج به واضح، وفي هذه الرواية تقوية الإمام أحمد لعمرو بن شعيب بدليل رواية مالك عن رجل عنه، وهو من قرائن تقوية الرواة عنده5. وقال أبو داود: "سمعت أحمد ذكر له عمرو بن شعيب فقال: أصحاب الحديث إذا شاؤوا احتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وإذا شاؤوا تركوه" 6.
قال الذهبي معلقاً على هذه الرواية: هذا محمول على أنهم يترددون في الاحتجاج به، لا أنهم يفعلون ذلك على التشهي. ا.هـ 1. وأما ما يتعلق بسماعه من أبيه فروي عن الإمام أحمد روايتين: أولاهما: قال أبو داود: "قلت لأحمد: عمرو بن شعيب عن أبيه، يقال كتاب؟ قال: نعم" 2. فهذه تفيد أن روايته عن أبيه وجادة. الثانية: قال محمد بن علي الجوزجاني الورّاق: "قلت لأحمد بن حنبل: عمرو بن شعيب سمع من أبيه شيئاً؟ قال: يقول: حدثني أبي. قلت: فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو؟ قال: نعم، أُراه سمع منه" 3. فهذه تفيد أنه قد سمع من أبيه، ولكنها لا تنفي أن بعض حديثه عن أبيه وجادة. فيجمع بين الروايتين بأن حديثه عن أبيه بعضه سماع وبعضه وِجادة، فحيث صرّح بالتحديث فهو مما سمع، وحيث روى بـ "عن" احتمل أن يكون من الصحيفة4. وهذا الجمع هو ما ذهب إليه أبو زرعة الرازي حيث قال: "روى عنه الثقات مثل أيوب السخيتاني، وأبي حازم، والزهري، والحكم بن عتيبة، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جده وقال: إنما سمع أحاديث يسيرة وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها، وقال: ما أقل ما نصيب عنه مما روى عن غير أبيه عن جده من المنكر، وعامة هذه المناكير الذي كذا يروى عن عمرو بن شعيب إنما هي عن المثنى بن الصباح، وابن لهيعة والضعفاء" 5.
وقد ذهب جمع من الحفاظ إلى أن رواية عمرو بن شعيب عن أبيه وجادة، منهم: ابن معين في رواية عباس عنه قال: إذا حدّث ـ أي عمرو بن شعيب ـ عن أبيه عن جده فهو كتاب، ويقول أبي عن جدي فمن هنا جاء ضعفه أو نحو هذا القول فإذا حدث عن سعيد بن المسيب، أو عن سليمان بن يسار، أو عن عروة فهو ثقة عن هؤلاء أو قريب من هذا الكلام1. لكن روى عنه ابن أبي خيثمة أنه أثبت له السماع بدليل حديث رواه أيوب عنه2. ومنهم علي بن المديني: قال ابن أبي شيبة: وسألت علياً عن عمرو بن شعيب، فقال: ما روى عنه أيوب، وابن جريج فذلك كله صحيح، وما روى عمرو، عن أبيه، عن جده فذلك كتاب وجده، فهو ضعيف3. ومع كون روايته عن أبيه وجادة إلا أنهم ذكروا أن كتابه صحيح، وهو كتاب عبد الله بن عمرو بن العاص المسمي الصحيفة الصادقة4، فقد روى الساجي عن ابن معين: "عمرو بن شعيب ثقة في نفسه، وما روى عن أبيه، عن جده لا حجة فيه، وليس بمتصل، وهو ضعيف من قبيل أنه مرسل، وجَد شعيب كتب عبد الله بن عمرو فكان يرويها عن جده إرسالاً، وهي صحاح عن عبد الله بن عمرو غير أنه لم يسمعها" 5. وما نفاه من سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو قد أثبته الإمام أحمد في رواية محمد بن علي الجوزجاني حيث
قال: أُراه سمع منه. وقد جاءت أحاديث ووقائع صريحة في أن شعيب قد سمع جده عبد الله، ذكرها الذهبي1، وابن حجر2. لكن الخلاف قائم في هل سمع منه جميع ما روى عنه أم سمع بعضه والباقي صحيفة، والوجه الثاثي هو الذي أظهره ابن حجر3. وممن ذكر أن كتابه صحيح علي بن المديني. قال ابن حجر: فإذا ثبت أن كتبه صحاح غير أنه لم يسمعها، وصح سماعه لبعضها فغاية الباقي أن يكون وجادة صحيحة وهو أحد وجوه التحمل والله أعلم. ا.هـ4. ومع صحة كتبه واعتبار تحمله وجادة صحيحة فقد انحط حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده لدى الحفاظ عن ربتة مطلق الاحتجاج من أجل الوجادة، لأن الرواية بالوجادة بلا سماع يدخلها التصحيف فإن الصحف في ذلك العصر لم تكن مشكولة ولا منقوطة، بخلاف الأخذ من أفواه الرجال، وقد تكون المناكير التي أشار إليها الإمام أحمد في حديثه راجعة إلى هذا أيضاً، والله أعلم. ولم أقف على حديث لعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أعله الإمام أحمد من أجل الوجادة، كما لم أقف على شيء من مناكيره التي أشار إليها. مخرمة بن بكير عن أبيه: قال أبو طالب: "سألته ـ يعني أحمد بن حنبل ـ عن مخرمة بن بكير بن عبد الله ابن الأشج، قال: هو ثقة، لم يسمع من أبيه شيئاً، إنما روى من كتاب أبيه" 5.
فروايته عن أبيه وِجادة، أو على أرفع الأحوال وصية. ولم أقف على حديث له عن أبيه أعله الإمام أحمد بأن سماعه من أبيه وجادة1. إذا كان الشيخ يحدث من كتاب غيره وهو غير حافظ لحديثه: الأصل في المحدث إذا رام أداء شيء مما تحمله بالسماع أو القراءة أو غيرهما أن يروي من أصله الذي تحمل منه أو من الفرع المقابَل المقابَلَة المتقَنَة2، وأما إذا حدث من كتاب غيره وهو غير حافظ لحديثه فقد اختلفوا، فروي عن أيوب أن جرير بن حازم كان يقرأ عليه كتاباً لأبي قلابة، والنسخة ليست نسخة أيوب بل هي لجرير، وكان أيوب يقول: فيه ما أحفظه وفيه ما لا أحفظه؛ ولما أخذ اللصوص كتب محمد بن بكر البرساني نسخ كتب محمد بن عمرو بن جبلة، وكذلك روي عن ابن جريج والإسماعيلي جوازه3. وذكر الخطيب أن عامة أصحاب الحديث يمنعون من ذلك وإن كان كتاب الغير أصلاً لشيخه لكن ليس فيه سماعه، أو كان نسخة تسكن نفسه إلى صحتها. وذهب الخطيب إلى جوازه إذا
عرف الراوي أن الأحاديث التي تضمنتها النسخة هي التي سمعها من الشيخ وسكنت نفسه إلى صحة النقل بها وسلامتها من دخول الوهم فيها1. أما الإمام أحمد فقد رُوي عنه أنه قال: ينبغي للناس أن يتقوا هذا2. وقد أنكر على بعض الرواة تحديثهم من كتب غيرهم، من ذلك ما ذكره المروذي: "سمعت أبا عبد الله قال: ما بالكوفة مثل هنّاد بن السّري، وهو شيخهم، فقيل له: هو يحدث من كتب وراّقه. فحعل يسترجع ثم قال: إن كان هكذا لم يُكتب عن هنّاد شيء" 3. وكذلك أنكر على عبد العزيز الدراوردي تحديثه من كتب الناس: قال أبو طالب: "سُئل أحمد بن حنبل عن عبد العزيز الدراوردي فقال: كان معروفاً بالطلب، وإذا حدّث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدّث من كتب الناس وهِم، كان يقرأ من كتبهم فيخطئ، وربما قلَب حديث عبد الله العمري يرويه عن عبيد الله بن عمر" 4. ويظهر أن هذا الذي وقع منه من قلب حديث عبيد الله العمري منشأه تحديثَه من كتب غيره، فإن تصحيف عبد الله بعبيد الله سهل، فهذا من الآثار السيئة للتحديث من كتب الغير. وكذلك ترك حفص بن سليمان الأسدي المقرئ، لأنه كان يستعير كتب الناس فينسخها. قال عبد الله: سمعت أبي يقول: حفص بن سليمان ـ يعني أبا عمرو القارئ ـ متروك الحديث5. وروى حنبل مثل ذلك عنه6. ويظهر أن دليل تركه
لحديثه هو ما رواه عن يحيى بن سعيد أن شعبة أخبره قال: أخذ مني حفص ين سليمان كتاباً فلم يرده، قال: وكان يأخذ كتب الناس فينسخها1. تتمة: قد يكون الراوي موصوفاً بسوء الأخذ عن مشايخه لكن لعدم وجود المناكير في أحاديثه لا يؤثر ذلك في حديثه ولا في ضبطه فلا تعل مروياته بسبب طريقته في التحمل، وموقف الإمام أحمد من عبد الله بن وهب ومن حديثه يعتبر نموذجاً لهذا الأمر، فقد كان عبد الله بن وهب موصوفاً بسوء الأخذ، يدل على ذلك عدة أمور، منها: 1. أنه كان يعرض له على ابن عيينة وهو نائم، فمن أجل ذلك تركه الإمام أحمد ولم يكتب عنه. وهذا النوع من التساهل في التحمل يجعل رواية المتصف به غير مقبولة2. قال عبد الله: "قال أبي: ورأيت عبد الله بن وهب بمكة رأيته رجلاً خفيفَ اللحية، قال أبي: فذكرتُ أنه كان يعرض له على ابن عيينة وهو نائم فتركته. قال أبي: وبلغني أنه كان لا يدخل في مصنفه من ذاك العرض شيئاً قال أبي: ثم كتبت بعدُ عن رجل عنه" 3. وقد روى الحميدي مثل هذا في طريقة أخذ ابن وهب عن جرير بن حازم الرازي فقال الحميدي: "رأيت ابن وهب عند جرير الرازي وجرير يحتبي نائم مثقل، وابن وهب نائم مثقل، وكاتبه الأصبغ بن فرج يقرأ على جرير ويمر مر السهم في القراءة وجرير نائم وابن وهب نائم" 4.
2. أنه كان يروي بالإجازة بدون إحضار الكتاب المجاز وبدون اطلاع المجيز على المجاز. قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: بلغني أن ابن وهب جاء إلى ابن عيينة فقال: يا أبا محمد! ما عرض عليك ابن أختي أول من أمس هو لي سماع" 1. ومثله للمروذي: قال أحمد: "وأخبرني بعض أصحابنا أنه رأى ابن وهب عند ابن عيينة فقال له: الكتب التي عرضها عليك ابن أخي أرويها عنك؟ " 2. والذي أخبر الإمام أحمد هو يحيى بن معين، فقد ذكر أنه حضر القصة3، وذكر ابن أبي يحيى أنه سمع رجلاً يقول ليحيى بن معين: إن أحمد حدث عنك أنك رأيت ابن عيينة أتاه ابن وهب بكتب فقال: أحدث بها عنك؟ فقال برأسه أي نعم ولم يتكلم. وفي رواية: قال له: يا أبا محمد الذي عرض عليك أمس فلان أجزها لي قال: نعم. وفي رواية أخرى أن ابن معين قال: يا شيخ هذا والريح بمنزلة، ادفع إليه الجزء حتى ينظر في حديثه. ا.هـ4. 3. أنه كان يأخذ الكتاب مما لم يسمعه، قاله المروذي عن أحمد5. وهذه إذا كان هناك إذن بالرواية فهي إجازة وإلا فهي وجادة. فهذه الروايات عن أحمد وغيره تدل على نماذج من طريقة ابن وهب في التحمل والتي عيبت عليه، والتساهل واضح في مثل هذا التحمل، وهذا الذي أدّى الإمام أحمد إلى عدم الرواية عن ابن وهب، ثم لما تبين له أمره واستقامة حديثه، وأنه في هذا التساهل كان ماشياً على مذهب أهل بلده في تجويزهم قول:
ثنا من غير صحة السماع1 روى عن رجل عنه. وقال أحمد في رواية أبي طالب الفضل بن زياد: "عبد الله بن وهب صحيح الكتب عن مشايخه الذين روى عنهم، يفصل السماع من العرض، ما أصح حديثه وأثبته! قيل له: أليس كان يسيء الأخذ؟ قال: كان سيءَ الأخذ الحق، ولكن إذا نظرت في حديثه وما روى عن مشايخه وجدته صحيحاً" 2. فهذا يدل على أن طريقته في التحمل لم تؤثر في حديثه حيث لم توجد مناكير عنه، ولعل ذلك راجع إلى كونه لم يُدخل في مصنفه من العرض السيئ شيئاً كما ذكره أحمد بلاغاً، قال عبد الله: "قال أبي: وبلغني أنه كان لا يدخل في مصنفه من ذاك العرض شيئاً" 3. وأيضاً كان يقول فيما لم يسمعه: قال حيوة، قال فلان4، فيميزه من السماع. وفي هذا المعنى يقول الحافظ الذهبي في ترجمة ابن وهب: "وقد تمَعقَل بعضُ الأئمة على ابن وهب في أخذه للحديث، وأنه كان يترخص في الأخذ، وسواء ترخص ورأى ذلك سائغاً، أو تشدّد، فمن يروي مئة ألف حديث ويَندُر المنكرُ في سعة ما روى فإليه المتنهى في الإتقان" 5. وذلك أن أبا زرعة قال: نظرت في نحو ثمانين ألف حديث من حديث ابن وهب بمصر فلا أعلم أني رأيت حديثاً له لا أصل له6. وقال ابن عدي: لا أعلم له حديثاً منكراً إذا حدث عنه ثقة من الثقات7.
المبحث الخامس: الإعلال بالطعن في الراوي بما يخل بضبطه لكتابه
المبحث الخامس: الإعلال بالطعن في الراوي بما يخل بضبطه لكتابه. المطلب الأول: أهمية حفظ الكتاب وتقديمه على حفظ الصدر عند الإمام أحمد. حرص رواة الحديث على كتابة مروياتهم وعولوا على تدوينها في الصحف خشية ضياعها ونسيانها خاصة بعد أن انتشرت الروايات وطالت الأسانيد، وكثرت أسماء الرجال وكناهم وأنسابهم، واختلفت ألفاظ الروايات، فاشتدت حاجتهم إلى تقييد هذه الأمور لصعوبة حفظها على القلوب1، فشاعت لديهم الكتابة، وشجعوا تلاميذهم على تقييد المرويات وتدوينها، وحثوهم على ضبط ما دونوه وتحقيقه بما يُؤمَن معه اللبس وحثوها على صيانته من أن يدخله تغيير، كل هذا عناية بالسنن والآثار وحرصاً على حفظها من الضياع أو التبديل. ولحفظ المرويات في الكتاب أهمية أخرى، وهي أنه يتمكن معه صاحبه من معاهدة محفوظه بمطالعة الكتاب والنظر فيه، كما يمنعه من الوقوع في الوهم والغلط عند التحديث إذا كان يحدث منه ويعتمده وقت التحديث. ولهذا الاعتبار كان من منهج الإمام أحمد تقديم حفظ الكتاب على حفظ الصدر، سواء في حالة التحمل أو الأداء، فالرواة الذين يضبطون مسموعاتهم في الكتاب وقت التحمل مقدمون عنده على الذين يعتمدون على حفظ صدورهم. قال محمد بن مسلم بن وارة: "قلت لأحمد بن حنبل: أبو الوليد أحب إليك في شعبة أو أبو النضر؟ قال: إن كان أبو الوليد يكتب عند شعبة فأبو الوليد" 2. فلم يقدم الإمام أحمد أبا الوليد على أبي النضر إلا بشريطة أن يكون ممن يكتب عند شعبة
مع أنه قد قال في أبي الوليد: إنه أتقن حديث شعبة1، لأن أبا النضر كان قد كتب عن شعبة إملاءً كما قال الإمام أحمد2، فلا يتقدم عليه أبو الوليد مع مزيد إتقانه إلا إذا كان يضبط ما تحمله عن شعبة في كتاب كما كان يفعله أبو النضر، فحيث استويا في الوصفين يحق لأبي الوليد التقدم لما له من مزيد الإتقان، وأما حيث كانت المسئلة الإتقان في مقابل حفظ الكتاب فلا يحق في هذه الحالة تقديم الإتقان على حفظ الكتاب. وقال حنبل: قال أبو عبد الله: "إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن فعبد الرحمن أثبت، لأنه أقرب عهد بالكتاب" 3. فكلٌ من وكيع وعبد الرحمن من الحفاظ المتقنين، بل إن وكيعاً أحفظ من عبد الرحمن عند الإمام أحمد، فقد قال في وكيع: ما رأيت أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع4، لكنه قدم عليه عبد الرحمن بن مهدي لأنه كان يتعاهد كتابه، لأنه صاحب كتاب. ووجه تقديم الإمام أحمد لحفظ الكتاب على حفظ الصدر أن صاحب الكتاب أسلم من الوقوع في الغلط والوهم من الذي يعتمد على حفظه مهما بلغ في الحفظ. قال الأثرم: "سمعت أبا عبد الله يقول: كان شعبة يحفظ، لم يكتب إلا شيئاً قليلاً، وربما وهم في الشيء" 5، فكأنه يجعل علة وهمه اعتماده على الحفظ وكونه لم يكتب من حديثه إلا شيئاً قليلاً. وكان يرُجع سبب أوهام بعض الرواة إلى كونهم لم يكونون يكتبون عند
التحمل، وإنما كانوا يحفظون. قال الميموني: سئل أحمد عن الحكم بن عطية فقال: لا أعلم إلا خيراً، فقال له رجل: حدثني فلان عنه، عن ثابت، عن أنس قال: [كان مهر أم سلمة متاعاً قيمته عشرة دراهم] 1، فأقبل أبو عبد الله يتعجب، وقال: هؤلاء الشيوخ لم يكونوا يكتبون، إنما كانوا يحفظون، ونُسبوا إلى الوهم، أحدهم يسمع الشيء فيتوهمّ فيه2. وقد ذكر الأثرم هذا الحديث للإمام أحمد فقال: "هؤلاء الشيوخ يخطئون على ثابت، وإنما يريد الحديث الذي رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة، فقلت له: نعم، وسليمان أيضاً يرويه، فقال: نعم، ولكن حماد بن سلمة أحسن له حديثاً، قلت: وأسنده حماد ولم يسنده سليمان. قال: نعم" 3. ولم أقف على حديث ابن عمر بن أبي سلمة الذي أشار إليه أحمد. فهذا الراوي أخطأ في هذا الحديث، وروى حديثاً آخر عن ثابت أنكره الإمام
أحمد أيضاً1، وذكر أن سبب وقوع هذه المنكرات في رواياته كونه يعتمد على الحفظ ولم يكن يكتب. وهناك وجه آخر لتقديمه لحفظ الكتاب على حفظ الصدر، وهو كون صاحب الكتاب يأتي بالحديث أتم، ولا يقع منه الخلل الذي يقع ممن يكون تحمل من شيوخه حفظاً ويضطر آحياناً إلى حفظ المعنى دون اللفظ أو عدم ذكر الإخبار في موضعه، وإن كان صاحب الكتاب دونه في الحفظ. قال عبد الله: "كان أبي يتبع حديث قطبة بن عبد العزيز2، وسليمان بن قرم3، ويزيد بن عبد العزيز بن سياه4 وقال: هؤلاء قوم ثقات، وهم أتم حديثاً من سفيان وشعبة، هم أصحاب كتب، وإن كان سفيان وشعبة أحفظ منهم" 5. وكان الإمام أحمد يقدم من كان يعتمد على كتابه وقت التحديث على من كان يحدث حفظاً، ولم يكن يُحمد فعل من كان يحدث من غير كتاب، والأفضل أن يكون المحدث أصله بيده أو بيد ثقة ضابط وقت التحديث وإن كان حافظاً لما
يحدث به، وكان الإمام أحمد قد وصّى يحيى بن معين عندما طلب منه الوصية: "لا تحدّث المسند إلا من كتاب" 1. ومن النصوص المنقولة عنه في هذا المعنى ما رواه الفضل بن زياد قال: قال أحمد بن حنبل: "ما كان أقلَّ سقطاً من ابن المبارك، كان رجلاً يحدّث من كتابه، ومن حدّث من كتاب لا يكاد يكون له سقط كثير شيء، وكان وكيع يحدث من حفظه، ولم يكن ينظر في كتاب، وكان له سقط، كم يكون حفظ الرجل! " 2. وقال الميموني للإمام أحمد: قد كره قوم كتاب الحديث بالتأويل، قال: "إذاً يخطئون إذا تركوا كتاب الحديث، وقال: حدثونا قوم من حفظهم، وقوم من كتبهم، فكان الذين حدثونا من كتبهم أتقن" 3. ولم يُحمد الإمام أحمد على أمية بن خالد الأزدي تحديثه من غير كتاب. قال ابن هانئ: "سمعت أبا عبد الله يُسأل عن أمية بن خالد فلم يُحمده في الحديث، وقال: إنما كان يُحدث من حفظه، لا يخرج كتاباً" 4. وإذا روى الراوي الثقة عن شيخه ما يخالف ما في كتاب الشيخ فالمرجح عند الإمام أحمد هو ما ثبت في كتاب الشيخ، وهذا وجه آخر لتقديمه لحفظ الكتاب على حفظ الصدر. قال عبد الله: قرأت على أبي: عبدة بن سليمان الكلابي قال: حدثنا سعيد، عن مطر، عن عطاء، عن ابن عمر قال: [عدة الأمة إذا طُلّقت حيضتان، فإن كانت لا تحيض فشهر ونصف] ، قرأت على أبي: عبدة قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة، عن الحسن، عن علي مثله. سمعت أبي يقول: هذا خطأ، إنما هو سعيد، عن حبيب، عن عطاء، عن عمر، وحبيب، عن الحسن عن علي، في الكتب كذا هو يعني كتب سعيد بن أبي عروبة1. روى عبدة هذا الأثر عن ابن عمر، وعن علي، كلاهما من طريق سعيد ابن أبي عروبة، وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة2، عن عبدة، عن سعيد، عن مطر، عن عطاء، عن ابن عمر به. فحكم الإمام أحمد بخطأ عبدة لأن أثر ابن عمر هو في كتب سعيد بن أبي عروبة عن حبيب المعلم، عن عطاء، عن عمر، وليس هو عن مطر، عن عطاء، عن ابن عمر؛ وأثر علي هو عن حبيب المعلم، عن الحسن، عن علي، وليس هو عن قتادة، عن الحسن، عن علي كما رواه عبدة في الموضعين. وقد تابع سعيداً أبو إسحاق الشيباني في رواية أثر علي، فرواه الشيباني عن حبيب المعلم، عن الحسن، عن علي: رواه ابن أبي شيبة عن علي بن مسهر عنه3. وخطّأ الإمام أحمد رواية عبدة بن سليمان عن سعيد مع أن سماع عبدة من سعيد كان جيداً وقبل اختلاط سعيد4 لمخالفته لما في كتب سعيد بن أبي عروبة، مما يدل على ترجيحه لحفظ الكتاب على حفظ الصدر. وقد كان الإمام أحمد ينكر دفن الكتب وكان يرى عدم جدواها، قال رحمه الله: "لا أعلم لدفن الكتب معنى" 5. ومع تقديم الإمام أحمد لحفظ الكتاب على حفظ الصدر، فقد كان يعل بعض
أحاديث الرواة أصحاب الكتب إذا وجد ما يخل بضبطهم لكتابهم، فمن ذلك: 1. أن يكون الكتاب غير منقوط ولا مشكول. 2. أن يوقف على لحق في الكتاب. 3. أن يترك الراوي كتابه عند الأداء ويحدث من حفظه. 4. أن يسافر الراوي إلى بلد آخر ولا يصطحب معه كتبه فيحدث في ذلك البلد من حفظه. فهذه الأمور يأتي بحثها في المطالب الآتية.
المطلب الثاني: من كانت كتبه غير منقوطة ولا مشكولة
المطلب الثاني: من كانت كتبه غير منقوطة ولا مشكولة. إن من تمام ضبط الراوي لكتابه عنايته بضبط ما كتبه شكلاً ونقطاً وبخاصة في الملتبس من الألفاظ والأسماء، ويتأكد ذلك في الأسماء بالذات لأنها لا تستدرك بالقياس ولا بالسياق. قال ابن الصلاح: "ثم إن على كتبة الحديث وطلبته صرف الهمة إلى ضبط ما يكتبونه أو يحصلونه بخط الغير من مروياتهم على الوجه الذي رووه شكلاً ونقطاً، يؤمن معهما الالتباس، وكثيراً ما يتهاون بذلك الواثق بذهنه وتيُّقظه، وذلك وخيم العاقبة، فإن الإنسان مُعرَّض للنسيان، وأول ناسٍ أول الناس، وإعجام المكتوب يمنع من استعجامه، وشكله يمنع من إشكاله" 1. وصاحب الكتاب الذي لا يعتني بهذا الجانب من الضبط لا يسلم من الوقوع في الأخطاء، وأكثر الأخطاء التي تعقب مثل هذا التفريط هو التصحيف. وقد كان الإمام أحمد يقدّم الرواة أصحاب الشكل والتقييد لكتبهم على غيرهم، ويلحقهم بأهل الضبط والإتقان، كما تكلم في بعض الرواة الذين كانت كتبهم غير منقوطة ولا مشكولة، وكلامه فيهم وإن لم يقتض تضعيفاً لهم أو لمروياتهم إلا أنه جعلهم دون غيرهم من أهل الإتقان، وهذا يقتضي تأخيرهم عند الاختلاف والترجيح. فمن ذلك رفعه لأمر شعيب بن أبي حمزة كما روى أبو زرعة الدمشقي قال: "وأخبرني أحمد بن حنبل قال: رأيت كتب شعيب، فرأيت كتباً مضبوطة مقيّدة، ورفع من ذكره، فقلت: فأين هو من يونس بن يزيد؟ قال: فوقه، قلت، فأين هو من عقيل بن خالد؟ قال: فوقه. قلت: فأين هو من الزَّبيدي؟ قال: مثله" 2.
وقال الأثرم: "قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: نظرت في كتب شعيب، أخرجها إليّ ابنه، فإذا بها من الحسن والصحة والشكل ونحو هذا" 1. وقال أبو زرعة: "حدثني أحمد بن حنبل قال: رأيت كتب شعيب بن أبي حمزة كتباً مقيدة مضبوطة، ورفع من ذكره" 2. فقد جعل الإمام أحمد شعيب بن أبي حمزة مع أهل الإتقان من أصحاب الزهري، وهو محمد بن الوليد الزبيدي، وقدمه على يونس وعقيل، وكلاهما من أهل المعرفة بحديث الزهري، وما ذلك إلا لصحة كتبه وجودتها. ومن أجل صحة كتب شعيب وإتقانها صحح المحققون الرواية عنه بالإجازة. قال الذهبي: "ومن روى شيئاً من العلم بالإجازة عن مثل شعيب بن أبي حمزة في إتقان كتبه وضبطه فذلك حجة عند المحققين، مع اشتراط أن يكون الراوي بالإجازة ثقة ثبتاً أيضاً، فمتى فُقد ضبطُ الكتاب المُجاز وإتقانُه وتحريره، أو إتقان المجيز أو المجاز له، انحط المروي عن رتبة الاحتجاج به، ومتى فقدت الصفات كلُّها لم تصح الرواية عند الجمهور"3. بل قال الذهبي رواية كتب شعيب بالوجادة كافٍ في الحجة، لأنها بالغة في الحسن والإتقان والإعراب. وهذا وجه كتابة الإمام أحمد عن بشر بن شعيب بن أبي حمزة لأحاديث أبيه مع أنه لم يكن عنده بصاحب حديث، ولا كان سماعُه من أبيه بأمر متحقّق عنده، ولكنّه كتب عنه لأن كتُبَ أبيه كانت عنده، وحسن ضبطها وجودتها كافيان في جبر هذا النقص الواقع في صفة تحمّله لها. قال أبو داود: "سألت أحمد عن بشر مرة أخرى فقال: كتبت عنه قدر سبعين حديثاً، لم يكن صاحب حديث، ولكن
كتب أبيه كانت عنده، وسمعت أحمد سئل عن كتب شعيب، هل سمعها بشر من أبيه؟ قال: ما يدريني؟ " 1. وقد أكثر الأمام أحمد أيضاً عن أبي اليمان كما قال لأبي داود أيضاً2، وأبو اليمان اختلف في طريقة تحمّله عن شعيب هل هو بالإجازة أم مناولة. قال المروذي: "قال أبو عبد الله: شعيب بن أبي حمزة كان لا يكاد يحدث، فلما حضرته الوفاة قال: اجمعوا لي فلاناً وفلاناً، فاجتمع بقية، ويقولون أبو اليمان، وقد ذكروا علي بن عياش، فلا أدري كان أم لا؟ فقال: هذه كتبي ارووها عني، فكان أبو اليمان يقول: حدثني شعيب، ولا أدري كان معهم أم لا؟ " 3. فقد أجاز شعيب الجماعة الحاضرين له في هذه الحادثة، فروايتهم عنه مناولة مقرونة بالإجازة، والإمام أحمد يتوقف في كون أبي اليمان معهم أم لا، ومع ذلك يروي عنه ويكثر من حديثه عن شعيب، وما ذلك إلا لجودة الكتب وإتقانها. وكذلك اعتبر جماعة من محدثي أهل البصرة في درجة أهل التثبت لأن كتبهم كانت منقوطة ومشكولة. قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ يقول: "من يُفلت من التصحيف؟ كان يحيى بن سعيد يُشكل الحرف إذا كان شديداً، وغير ذاك لا، وكان هؤلاء أصحاب الشكل والتقييد: عفان، وبهز، وحبان" 4. وهؤلاء الثلاثة هم أهل التثبت عند الإمام أحمد. قال حنبل: "سألت أبا عبد الله عن عفان، فقال: عفان، وحبان، وبهز، هؤلاء المتثبِّتون ... قلت له:
فإذا اختلفوا في الحديث يرجع إلى من منهم؟ قال: إلى قول عفان، هو في نفسي أكبر، وبهز أيضاً، إلا أن عفان أضبط للأسامي، ثم حبان" 1. وقال في بهز: "بهز بن أسد إليه المنتهى في التثبت" 2. وقال في حبان أيضاً: "حبّان بن هلال إليه المنتهى في التثبت بالبصرة" 3. وجعلهم الإمام أحمد من أهل التثبت لصحة كتبهم وحسن تقييدهم لها. وعلى العكس من ذلك لما قيل لأبي عبد الله: "كان أبو الوليد ثبتاً؟ قال: لا، ما كان كتابه منقوطاً ولا مشكولاً، ولكنه في حديث شعبة متقن، وقال مرة: أتقن حديث شعبة" 4. وأبو الوليد هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، لم يجعله الإمام أحمد في طبقة أهل التثبت لأن كتبه لم تكن منقوطة ولا مشكولة، إلا في حديث شعبة الذي كان قد أتقنه لقدرته على الحفظ، ومع ذلك لم يقدمه الإمام أحمد في حديثه عن شعبة على أبي النضر الذي كان يكتب عن شعبة إملاء، إلا بشرط أن يكون ممن يكتب عند شعبة كما تقدم5، وقد ثبت أن أبا الوليد لم يكن يكتب عند شعبة؛ شهد بذلك ابن وارة للإمام أحمد قال: "سمعت أبا الوليد يقول: بينا أكتب عند شعبة إذ بصُر بي فقال: وتكتب؟ فوضعت الألواح من يدي وجعلت أنظر إليه". ولعدم تشكيل كتبه وتنقيطه أُثر عن أبي الوليد تصحيف في غير شيء وبخاصة في حديثه عن شيخه أبي عوانة. قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: هما كثيرا الكتاب عن أبي عوانة: يحيى بن حماد، وهشام بن عبد الملك، إلا أن يحيى بن حماد كان أروى منه. قلت له: هشام كان ثبتاً؟ قال: في حديث شعبة، وقال: هشام
صحّف في شيء من حديث أبي عوانة" 1. وقد حدث أبو الوليد لجماعة فيهم الإمام أحمد فأخطأ أو صحّف، قال أحمد: "فرددنا عليه فرجع إلى ما قلنا له" 2.
المطلب الثالث: من وقف على لحق في كتابه
المطلب الثالث: من وُقف على لحق في كتابه. اللَّحَق ـ بفتح الحاء ـ هو تخريج الساقط في الحواشي1. فإذا كان الإلحاق لما كان معلوماً جاز، كأن يكون في الأصل حديثٌ محفوظ معروف وقد سقط من إسناده رجل جاز أن يلحق بمكانه ويكتب في موضعه، لكن مع كلمة يعني ليشعر بالإلحاق، وعليه حُمل ما رواه الإمام أحمد عن وكيع: أنا أستعين على الحديث بـ "يعني" 2. وكذلك يجوز إلحاق ما درس من كتابه من بعض الإسناد أو المتن من كتاب غيره إذا عرف صحته وسكنت نفسه إلى أن ذلك هو الساقط من كتابه، لكن من المحدثين من لا يستجيز ذلك وإن كان ما درس معروفاً ومحفوظاً3. فيفهم من هذا أن المستنكر من اللحق هو إلحاق الراوي في أصله ما ليس منه مما لم يكن معروفاً ولا محفوظاً، فإن ذلك ينبئ عن إخلال الراوي بضبطه لكتابه، لأن معنى ضبط الكتاب صيانته لديه منذ سمع منه وصحّحهُ إلى أن يُؤدِّي منه4. والذي ورد عن الإمام أحمد من إنكاره اللحق على الراوي وتضعيفه لحديثه من أجله هو من قبيل هذا اللحق المستنكر. قال عبد الله: "سئل عن محمد بن جابر، وأيوب بن جابر فقال: محمد بن جابر يروي أحاديث مناكير، وهو معروف بالسماع، يقولون: رأو في كتُبهِ لحقاً، حديثه عن حماد فيه اضطراب" 5. وقال في رواية
ابن هانئ: "أحاديثه عن حماد مضطربة، في كتبه لحوق" 1. ويشهد لهذا ما رواه ابن حبان بإسناده عن محمد بن عيسى بن الطباع قال: قال لي أخي إسحاق بن عيسى: "ذاكرتُ محمد بن جابر ذات يوم بحديث شريك، عن أبي إسحاق فرأيتُه في كتابه قد ألحقه بين السطرين كتاباً طرياًّ" 2. فهذا يدل على أن إلحاقه كان لأحاديث ليست في أصوله ولا هي من حديثه. ولما أنكر الإمام أحمد حديث جرير بن عبد الله البجلي: "تبنى مدينة بين دجلة والدُّجَيل"3 قال له ابنه عبد الله: إن لُويناً حدثناه عن محمد بن جابر، فقال: "كان محمد بن جابر ربما ألحق في كتابه أو يلحق في كتابه ـ يعني الحديث وقال: هذا حديث ليس بصحيح، أو قال: كذب" 4. والظاهر أن هذا الصنيع يُسقط الراوي، ولعل هذا وجه ترك عبد الرحمن ابن مهدي لمحمد بن جابر، فقد قال الإمام أحمد: كان عبد الرحمن بن مهدي يُحدث عن محمد بن جابر ثم تركه بعدُ5. وفي هذا المعنى يقول الخطيب: إسحاق بن الحسن الحربي كتب الناس عنه ثم كرهوه لإلحاقات بين السطور في المراسيل ظاهرة الصنعة لطراوتها. ا.هـ6. ومثل هذا في الرد من غُير كتبه ولم يكن له علمٌ بذلك واستمر يحدث منها، فقد قال الإمام أحمد في الوليد بن محمد المُوقَّري7: ما أظنه، أي بثقة، ولم أره
يحمده1. وبليته أنه غُيّر له في كتبه ولم يكن يعلم بذلك فهو يحدث بأحايث مناكير وهو لا يعلم، قال أبو بكر الأثرم: "سمعت أبا عبد الله سئل عن الوليد بن محمد الموقري فقال: ما أُخبره، إلا أنهم زعموا أن العسكر لما دخل الشام أتاه قوم فأفسدوا حديثه، فهو يروي أحاديث، كأنه يريد مناكير. قلت لأبي عبد الله: المُوقّري يكتب حديثه؟ فقال: ما أدري أخبرك، إلا أنه له أحاديث مناكير وما أخبره" 2. وقال حنبل بن إسحاق: "سألت أبا عبد الله أحمد عن المُوقري قال: ما رأيت أحداً يحدث عنه، قلت له: كيف حديثه؟ قال: لا أدري. قلت: فهو في بدنه؟ قال: لا أدري، إلا أن رجلاً قدم عليه فغير كتبه وهو لا يعلم فمن ذلك" 3. وقال عبد الله: قلت لأبي: المُوقري يجيء عنه ـ يعني عن الزهري ـ بعجائب؟ قال: ليس ذاك بشيء. ا.هـ 4.
المبحث السادس: من لا يحدث من كتابه فيهم في حديثه
المبحث السادس: من لا يحدّث من كتابه فيَهِم في حديثه. مما يخل بضبط الراوي لكتابه أن يدع الكتاب عند الأداء ويحدث من حفظه، وتوضيح ذلك أن الراوي عند الأداء إما أن يملي أو يحدث من حفظ أو من كتاب، أو يقرأ عليه غيرُه من حفظ أو من كتاب وهو يسمع، سواء كان حافظاً أم لا إذا كان كتابه بيده أو بيد ثقة عنده، والأرجح أن يحدث من كتاب ولا يتكل على حفظه لأن الحفظ خوّان1، ولذلك قال الخطيب: "الاحتياط للمحدث والأولى به أن يروي من كتابه ليسلم من الوهم والغلط ويكون جديراً بالبعد من الزلل" 2. وقال علي بن المديني: "عهدي بأصحابنا وأحفظهم أحمد بن حنبل، فلما احتاج أن يحدث لا يكاد يحدث إلا من كتاب" وقال ابن المديني أيضاً: "قال لي سيدي أحمد: لا تحدثني إلا من كتاب" 3. وقد حدث بعض المحدثين وهم أصحاب كتب، واتكلوا على حفظهم ولم يراجعوا كتبهم فوقعوا في أوهام، ودخل الخلل في بعض مروياتهم وضُعفت بسبب ذلك تلك المرويات. وقد كشف الإمام أحمد عن هذا الجنس من الرواة وذكر بعض الأحاديث التي وهموا فيها بسبب روايتهم لها من حفظهم دون كتابهم، فمنهم: 1. إبراهيم بن سعد الزهري أبو إسحاق المدني: أحد الأعلام، وثقه أحمد في عدة روايات4، وأنكر على يحيى بن سعيد
القطان تضعيفه له1. لكن قال مهناّ عن أحمد: إبراهيم إنما كان يخطئ إذا حدّث من حفظه، فأما كتبه فكانت صحيحة2. وذكر ابن رجب عن أحمد أنه قال: كان يحدث من حفظه فيخطئ، وفي كتابه الصواب3. وقد أنكر عليه الإمام أحمد بعض الأحاديث وجعل سبب خطئه فيها روايته لها من حفظه دون كتابه. وفيما يلي ذكرها: ما أعله الإمام أحمد من حديثه: 1. قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يُسأل عن حديث إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأئمة من قُريش" قال: ليس هذا في كتب إبراهيم، لا ينبغي أن يكون له أصلٌ4. هذا الحديث رواه ثلاثة من الرواة عن إبراهيم بن سعد، وهم: 1. أبو داود الطيالسي، وهو في مسنده5، ومن طريقه البزار6، وأبو نعيم7. 2. الحسنُ بن إسماعيل، رواه من طريقه أبو يعلى8، وعنه الضياء المقدسي9. 3. عمرو بن مرزوق، رواه من طريقه البيهقي10.
وقد رواه البخاري تعليقاً1 عن إبراهيم بن سعد. وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: أعله الإمام أحمد من حديث إبراهيم بن سعد، ونفى أن يكون له أصل من حديثه، واستدل لذلك بعدم وجوده في كتب إبراهيم، مما يدل على أنه ما حدث به إلا من حفظه، ومن هذا الوجه دخل الخطأ عليه، لأنه كان يحدث من حفظه فيخطئ، فما حدث به ولم يوجد له أصل في كتابه يغلب على الظن أنه مما أخطأ فيه، خاصة مع التفرد. وقد أشار البزار إلى تفرد سعد به عن أنس، قال البزار: لا نعلم أسند سعد عن أنس إلا هذا. ا.هـ2، وقال أبو نعيم: لم يروه عن سعد إلا ابنه إبراهيم. ا.هـ3. وقد روي الحديث من وجوه أخرى عن أنس وغيره من الصحابة، وقد جمع الحافظ ابن حجر طرقه في مصنف خاص4، وإنما أنكر الإمام أحمد الحديث من طريق إبراهيم بن سعد، ومعنى هذا أن الطريق لا تصلح للاعتبار بها في المتابعات والشواهد. 2. قال صالح بن أحمد بن حنبل: حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن كان في الأمم محدّثون، فإن يكن في أمتي فعمر بن الخطاب، كان يُلهم الشيء من الحق". وقوله: "السكينة تنطق على لسان عمر"، إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي هريرة، وابن عجلان يقول: عن سعد، عن أبي سلمة، عن عائشة فقال: هو في كتابه عن أبيه مرسل، وإنما حدّث به من حفظه، وهو عن عائشة5.
هذا الحديث اختلف على إبراهيم بن سعد فيه على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة1، عن أبي هريرة: رواه من هذا الوجه البخاري عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي2، وعن يحيى ابن قزعة3 كلاهما عن إبراهيم بن سعد. وتابعهما: أبو داود الطيالسي4، وسليمان ابن داود الهاشمي عند النسائي5، وفزارة بن عمر عند أحمد6، ومحمد بن عثمان أبو مروان العثماني عند القطيعي في زياداته على فضائل الصحابة7، ويعقوب ابن حميد عند ابن أبي عاصم في السنة8، وأبو مصعب الزهري عند العقيلي في الضعفاء9، وإبراهيم بن حمزة عند البغوي10، وعباس بن الفضل البصري، ذكره الدارقطني في العلل11، وعبد الله بن وهب من طريق ابن أخيه أحمد ابن عبد الرحمن بن وهب عنه، وهو عند الطحاوي12، فكل هؤلاء ـ وعددهم أحد عشر ـ رووه عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ويؤيد هذا الوجه ما رواه زكريا بن أبي زائدة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، ذكره البخاري تعليقاً بصيغة الجزم13، ووصله
الحافظ ابن حجر من طريق أبي بكر الإسماعيلي، وأبي نعيم1. وقد اختلف على هذا الطريق بالوصل الإرسال أيضاً2. الوجه الثاني: إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن عائشة: رواه الإمام مسلم3 من هذا الوجه عن أبي الطاهر أحمد بن أبي سرح، عن عبد الله ابن وهب، عن إبراهيم بن سعد به. وتابعه: يزيد بن عبد الله بن الهاد برواية شعيب ابن الليث بن سعد عن أبيه عنه، عن إبراهيم بن سعد به، الطحاوي4، والحاكم5. وتابعه أيضاً الحكم بن أسلَم، ذكره الدراقطني في العلل6. ورواه من هذا الوجه أيضاً عبد الله بن زياد بن سمعان، عن إبراهيم بن سعد، وهو عند العقيلي7، لكن ابن سمعان متهم فلا يعتبر بروايته8. وفي هذه المتابعات استدراك لما قاله أبو مسعود: لا أعلم أحداً تابع ابن وهب في قوله: عن إبراهيم ابن سعد عن عائشة، والمشهور من رواية إبراهيم بن سعد، عن أبي هريرة. ا.هـ9. ويؤيد هذا الوجه ما رواه مسلم10 من طريق محمد بن عجلان، عن سعد بن إبرهيم، عن أبي سلمة عن عائشة. وللحديث أصل من حديث عائشة من
وجه آخر عن ابن أبي عتيق، عن أبيه، عن عائشة. أخرجه ابن أبي عاصم1، والقطيعي في زياداته على فضائل الصحابة2. وفي الإسناد عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو صدوق لكن تغير حفظه لما قدم بغداد3، ولا يضر هذا في الاعتبار به. الوجه الثالث: إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً: رواه الإمام أحمد4 من هذا الوجه عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد به. وذكر الدارقطني5 أن ابن الهاد، ويعقوب وسعد أبناء إبراهيم، وأبو صالح كاتب الليث وغيرهم رووه عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا.هـ. ولم أقف على هذه الطرق غير طريق يعقوب ابن إبراهيم بن سعد. وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: ذكر الإمام أحمد أن الحديث في كتاب إبراهيم بن سعد عن أبيه مرسل، وأن تحديثه للحديث عن أبيه، عن أبي سلمة، عن عائشة إنما كان ذلك من حفظه، وأما الوجه الأول من رواية الحديث ـ وهو إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ـ فلعله داخل أيضاً في الإعلال حيث إنه مخالف لما في كتاب إبراهيم بن سعد، فيكون قد أعل كلا الوجهين ـ الأول والثاني ـ بالإرسال، وصنيعه هذا مثل صنيع الدارقطني حيث استدرك على الشيخين اللذين رويا الحديث ـ البخاري من حديث أبي هريرة، وهو الوجه الأول، ومسلم من حديث عائشة، وهو الوجه الثاني ـ بالرواية المرسلة وقال: المشهور عن
إبراهيم، عن أبيه، عن أبي سلمة مرسلاً. والإمام أحمد تفرد بالإشارة إلى وجه هذه العلة حيث أوضح أن رواية الإرسال هي الثابتة في أصل إبراهيم، وأما رواية الوصل فهي مما حدث به من حفظه. وقد ثبت أن لرواية الوصل أصلاً من حديث أبي هريرة، ومن حديث عائشة، ولذلك لم يتردد كل واحد من صاحبا الصحيح من إخراج إحداهما. وكلام الإمام أحمد ليس صريحاً في الإعلال، وإن كان ذكر أن إبراهيم إذا حدث من حفظه فإنه كان يخطئ، أما كتبه فهي صحيحة، فقد يحدث من حفظه ويكون صحيحاً خاصة إذا لم يخالف، وهنا لم يخالف، فقد وافقه على ذكر أبي هريرة زكريا بن أبي زائدة، ووافقه على ذكر عائشة محمد بن عجلان، كما وافقه أيضاً على رواية الإرسال اثنان من أصحاب زكريا بن أبي زائدة كما تقدم، فلعل الحديث كان يحدث به سعد أو أبو سلمة على هذه الأوجه الثلاثة، والله أعلم. 3. قال أبو داود: سمعت أحمد قال: شهدتُ إبراهيم بن سعد وذَكر عن الزهري: {الْمَاعُونَ} : المال بلسان قريش، قيل له: إنك حدثتنا به عن الزهري، عن سعيد، قال: لا، وأنكره، إنما هو عن الزهري، قال أحمد: رواه عنه غير واحد عن سعيد، قال أحمد: ربما حدّث بالشي من حفظه1. هذه المسئلة روى عبد الله مثلها قال: "حدثني أبي قال: سمعت إبراهيم ابن سعد يُحدث عن ابن شهاب قال: الماعون بلسان قريش المالُ، فقال له ابنُه سعدٌ: كنتَ حدّثت عن سعيد ـ يعني ابن المسيّب، فأبى وقال: لا، كأنه مِن رأي ابن شهاب. قال أبي: وهو الصواب" 2. وهذا التفسير رواه ابن جرير الطبري في التفسير3 من طريق موسى
ابن إسماعيل، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب. وتقدم عن الإمام أحمد أنه قال: رواه عنه غير واحد على هذا الوجه، وأن الصواب في هذا التفسير أنه من رأي الزهري، وهي الرواية التي استقر عليها بأخرة وأنكر غيرها. وقد رواه ابن أبي ذئب عن الزهري، أخرجه ابن أبي شيبة1، والطبري2 كلاهما من طريق وكيع، عن ابن أبي ذئب عن الزهري. وفي قول الإمام أحمد: إن إبراهيم ربما حدث بالشيء من حفظه، إشارة إلى وجه دخول الخطأ في روايته لهذا التفسير عن سعيد بن المسيب، أي حينما رواه عن الزهري عن ابن المسيب ربما حدث به من حفظه فوقع في الخطأ، وهو وجه إيراد الأثر في هذا المطلب. ولم أر لغير الإمام أحمد الكلام في حفظ إبراهيم بن سعد إذا حدث من حفظه دون كتابه. 2. عبد الله بن يزيد القرشي، أبو عبد الرحمن المقرئ: أثنى الإمام أحمد على حديثه عن بعض شيوخه، فقال الفضل بن زياد: "سمعت أبا عبد الله يقول: كان حديث المقرئ حسناً عن سعيد بن أبي أيوب، وعن حيوة بن شُريح، ولكن كان يحدث من كتب الناس، وكان يحفظ حديث موسى ابن أيوب الغافقي، وحرملة بن عمران، وحبان، وما أصح حديثه عن ابن لهيعة" 3. لكنه تلكم في حفظه وقال: كان حفظ المقرئ رديئاً وكنت لا أسمع منه إلا من كتاب، رواه ابنه عبد الله عنه4.
وذكر الإمام أحمد أثراً رواه من طريقه وعقّب عليه بأنه حدث به من حفظه خلافاً لما في كتابه. قال عبد الله: وجدت في كتاب أبي بخط يده: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: حدثنا حيوة، قال: أخبرني الحجاج بن راشد الصنعاني، أن أبا صالح سعيد ابن عبد الرحمن الغفاري أخبره أن سُليم بن عتر التجيبي كان يقصُّ على الناس وهو قائم. فقال له صلة بن الحارث الغفاري: وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ... قال أبي: كان عندنا فيما قرأ علينا أبو عبد الرحمن من كتابه: سليمان بن عتر، فقال من حفظه: سُليم بن عتر1. هذا الأثر رواه البخاري في ترجمة صلة بن الحارث الغفاري2، والطبراني3، ومن طريقه الضياء المقدسي4، وفيه ذكر تكملة قول صلة بن الحارث: [ما تركنا عهد نبينا ولا قطعنا أرحامنا حتى قمتَ أنت وأصحابك بين أظهرنا] ، يشير رضي الله عنه إلى بني أمية، فإن سُليم بن عتر كان قاضياً لأهل مصر في ولاية عمرو بن العاص5. وذكر الحافظ ابن حجر أن البغوي، ومحمد بن الربيع الجيزي، وابن السكن رووه أيضاً من طريق سعيد بن عبد الرحمن الغفاري6. وسُليم بن عتر من تابعي أهل مصر وقضاتهم، وكان من النساك، وسمع أبا الدرداء، وقد ترجم له الإمام البخاري7، وابن أبي حاتم8،
والعجلي1، وابن حبان2، والأمير ابن ماكولا3، والحافظ الذهبي4، ولم يشر أحد منهم إلى أن اسمه سليمان كما ذكر الإمام أحمد أنه هو المثبت في كتاب المقرئ. وقد تابع المقرئ على تسميته سُليماً عددٌ من الرواة المصريين منهم عبد الله بن وهب، ورشدين بن سعد في أثر عند نعيم بن حماد الخزاعي في الفتن5، وكذلك عبد الله ابن المبارك في كتاب الزهد له6. فكأن ما حدث به المُقرئ من حفظه هنا أصح مما في كتابه، ولعل هذا وجه عدم تصريح الإمام أحمد بخطأ المقرئ في قوله: سُليم، واكتفى بالإشارة إلى الاختلاف بين ما كان في كتابه وما حدث به من حفظه، والله أعلم. ولم أر لغير الإمام أحمد إشارة إلى هذه العلة في أحاديث أبي عبد الرحمن المقرئ إلا ما ذكره الخليلي أنه ثقة مخرج في الصحيح، وحديثه عن الثقات يحتج به ويتفرد بأحاديث7، والتفرد إذا كثر فهو مظنة لوقوع العلل في حديث الراوي، والله أعلم. 3. عبد الرزاق بن همام الصنعاني: تقدم في مطلب الاختلاط بسبب ذهاب بصر الراوي أن عبد الرزاق، وكان أحد الثقات الأعلام، بعد ذهاب بصره كان يلقن فيتلقن، وأدى ذلك إلى وجود المناكير في مروياته عن طريق من سمع منه في تلك الفترة. وهناك وجه آخر لدخول المناكير في مروياته، وهو تحديثه من حفظه دون كتابه. وليس هناك عن الإمام أحمد التصريح بإطلاق التضعيف فيما حدث به عبد الرزاق من حفظه
دون كتابه، لكن أعل بعض أحاديثه بسبب هذه العلة، ومن تلك الأحاديث: 1. قال أبو داود: سمعتُ أحمد ذكر حديثَ عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عمر ثوباً جديداً قال: "لبست جديداً ... "؟ فقال: كان يحدث به عبد الرزاق من حفظه، فلا أدري هو في كتابه أم لا؟ وجعل أبو عبد الله ينكره. قال أبو عبد الله: وكان حديث أبي الأشهب عنده ـ يعني عبد الرزاق ـ عن سفيان، وكان يغلط فيه يقول: عن عاصم بن عبيد الله، عن أبي الأشهب1. هذا الحديث ذكر الإمام أحمد أن عبد الرزاق رواه بإسنادين، وكلاهما منكران: الأول: عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه؛ وهو في منصف عبد الرزاق2، ورواه النسائي3، وابن ماجه4، وأحمد5، وعبد ابن حميد6، والبخاري7، والترمذي8، والبزار9، وأبو يعلى10، وابن حبان11، والطبراني12، وابن عبد البر13، وابن حجر14 من طرق عن عبد الرزاق،
ولفظه كما عند أحمد: رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عمر ثوباً أبيض فقال: "أجديد ثوبك أم غسيل؟ " فقال: لا أدري ما رد عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْبَسْ جديداً، وعِشْ حميداً، ومُتْ شهيداً" أظنه قال: "ويرزقك الله قُرّة عينٍ في الدُّنيا والآخرة". وجه إعلال الإمام أحمد لهذا الطريق: أنكر الإمام أحمد الحديث من هذا الطريق، وعلّل ذلك بأن عبد الرزاق حدّث به من حفظه، وأنه لا يدري هل هو في كتابه أم لا؟ والذي يُجزم به أن عبد الرزاق قد حدّث به قبل ذهاب بصره بدليل رواية أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه1 للحديث عنه، وكلاهما ممن سمع منه قبل ذهاب بصره، فعلى هذا لا يكون سبب علة الحديث قبول عبد الرزاق للتّلقين والذي سبق بحثه في الاختلاط بسبب ذهاب بصر الراوي، وتعين السبب الذي ذكره الإمام أحمد وهو تحديث عبد الرزاق بالحديث من حفظه دون كتابه، بغض النظر عن كون الحديث في أصل كتابه أو لا2. الثاني: عبد الرزاق، عن الثوري، عن عاصم بن عبيد الله، عن أبي الأشهب. هكذا ذكره الإمام أحمد عن عبد الرزاق، ولم أره لغيره، ورواه حفص بن عمر المهرقاني3، وأبو مسعود الرازي4، وزهير بن محمد المروزي5 ثلاثتهم عن
عبد الرزاق، عن الثوري، عن عاصم بن عبيد الله، عن سالم، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم به. أخرجه الطبراني1، وذكره الإمام البخاري تعليقاً عن عبد الرزاق2. أما الطريق الذي ذكره الإمام أحمد عن عبد الرزاق، فذكر أنه كان يغلط فيه، ولم يبين وجه الغلط، وأما الطريق الذي رواه الطبراني فقال: وهم فيه عبد الرزاق، وحدث به بعد أن عمي، والصحيح عن معمر، عن الزهري، ولم يحدث به عن عبد الرزاق هكذا إلا هؤلاء الثلاثة. ا.هـ3. والصحيح عن الثوري هو ما رواه أبو نعيم، عن الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي الأشهب، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عمر ثوباً جديداً مرسل. قاله البخاري4، وقال: وهذا أصح بإرساله. ا.هـ5، فإن أبا نعيم مقدم على عبد الرزاق في الثوري6، وقد تابعه ابن سعد، عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد به7. وجه علة هذا الطريق عند الإمام أحمد: لم يبين الإمام أحمد وجه غلط عبد الرزاق في هذا الحديث ولا وجه دخول الغلط عليه، فأما وجه الغلط فظاهر في مخالفته لأبي نعيم عن الثوري وكذلك لرواية ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، وأما دخول الغلط عليه فذكر الطبراني أنه وهم فيه لأنه حدّث به بعد ما عمي، يعني حين كان يقبل التلقين، والذي يظهر لي أن هذا ليس وجه دخول الخطأ عليه، لأن الإمام أحمد أثبت أن
الحديث عنده عن سفيان، وسماع أحمد من عبد الرزاق كان قبل ذهاب بصره، فليست العلة من أجل قبوله التلقين، وإنما دخل الوهم عليه لأنه كان يضطرب في بعض أحاديثه عن الثوري، وهي التي سمعها بمكة، قال أحمد في رواية الأثرم: "سماع عبد الرزاق بمكة من سفيان مضطرب جداً" 1، فلذلك روي عنه هذا الحديث عن الثوري من ثلاثة أوجه: الأول: ما ذكره أحمد، عن الثوري، عن عاصم بن عبيد الله، عن أبي الأشهب؛ والثاني ما رواه الطبراني عنه عن الثوري، عن عاصم، عن سالم عن أبيه؛ والثالث: أشار إليه ابن حبان بعد روايته للحديث من طريق محمد بن أبي السري عن عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سالم عن أبيه، قال: قال عبد الرزاق: وزاد فيه الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد: "ويعطيك الله قرة العين في الدنيا والآخرة" 2. فهذا التلون في رواية الحديث الواحد يدل على الاضطراب مما يقوي الظن بأنه من سماع مكة، والله أعلم. وقد وافق الإمام أحمد على إنكار هذا الحديث على عبد الرزاق من كلا الطريقين عدد من الحفاظ، فيما يلي أقوالهم: قال الإمام البخاري: وكلا الحديثين لا شيء، ورجح أن حديث أبي الأشهب من رواية أبي نعيم عن الثوري هو أصح مع إرساله. قال الإمام أبو حاتم: هذا حديث ليس له أصل من حديث الزهري، ولم يرض عبد الرزاق حتى أتبع هذا بشيء أنكر من هذا فقال: حدثنا الثوري، عن عاصم بن عبيد الله، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، وليس لشيء من هذين أصل ... وإنما هو معمر عن الزهري مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم3.
وقال الإمام النسائي: هذا حديث منكر، أنكره يحيى بن سعيد القطان على عبد الرزاق، لم يروه عن معمر غير عبد الرزاق ... 1. وقال حمزة الكناني: لا أعلم أحداً رواه عن معمر، وما أحسبه بالصحيح2. 2. ومما ذكره الإمام أحمد من الأحاديث التي حدث بها عبد الرزاق من حفظه خارج كتابه فوهم فيها: قال أبو داود: سمعت أحمد قال: حديث عُكافٍ3: كان عند عبد الرزاق، عن محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، قال: قال عبد الرزاق ـ من حفظه ـ قال: ثنا مَكحول، يعني عن سليمان بن موسى قال: ثنا مكحول، فلما أخرج ـ يعني الكتاب ـ لم يكن فيه: "حدثنا" قال: عن مكحول، عن رجل، عن أبي ذر4. هذا الحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه، وهو من رواية الدبري عنه5، عن محمد بن راشد: قال سمعت مكحولاً يحدث عن رجل، عن أبي ذر قال: [دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ يقال له عكاف بن بشر التميمي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك من زوجة؟ " قال: لا، قال: "ولا جارية؟ " قال: ولا جارية، قال: "وأنت موسرٌ بخير؟ " قال: وأنا موسر بخير، قال: "أنت إذا من أخوان الشياطين، لو كنت من النصارى كنت من رهبانهم، إن سنتنا النكاح، وشراركم عزّابكم، وأراذل موتاكم
عزّابكم، بالشياطين تتمرسون؟ ما للشياطين من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء إلا المتزوجين، أوليك المطهّرون المبرّؤون من الخَنا، ويحك، ياعكاف! إنهن صواحب أيّوب، وداود، وكُرسف، ويوسف". فقال له بشر بن عطية: ومن كُرسف يا رسول الله؟ قال: "رجل كان يعبد الله من سواحل البحر ثلاث مئة عام، يصوم النهار ويقوم الليل، ثم إنه كفر بالله العظيم في سبب امرأة عشقها، وترك ما كان عليه من عبادة ربه، ثم استدركه الله ببعض ما كان منه فتاب عليه، ويحك يا عكاف، تزوج! وإلا أنت من المذبذبين،" قال: زوجني يا رسول الله، قال: "فزوجه كريمة ابنةَ كُلثوم الحميري"1. فوقع في الإسناد التصريح بالسماع بين محمد بن راشد ومكحول كما ذكر أبو داود في سؤاله هذا للإمام أحمد، وورواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق بالعنعنة بين محمد بن راشد ومكحول2. وذكر الحافظ ابن حجر أن ابن مندة رواه من طريق محمد بن أبي السري عن عبد الرزاق، لكن لم يسق الإسناد حتى تتبين صيغة التحمل فيه، وفيه التصريح بأن الرجل المبهم في الإسناد هو غضيف بن الحارث3. وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: أعله الإمام أحمد بأن ذكر السماع في الإسناد بين محمد بن راشد ومكحول لم يكن في كتاب عبد الرزاق، وإنما حدث به من حفظه فوهم، ولذلك لما روى الإمام
أحمد الحديث من طريق عبد الرزاق رواه على الوجه كما هو في أصل عبد الرزاق، لأنه كان لا يأخذ عنه إلا ما كان في أصل كتابه، فهذا يمثل ما كان عليه عبد الرزاق من الوقوع في الوهم إذا حدث من حفظه. وهذا الحديث رواه أهل الشام من طرق أخرى، وقال الحافظ ابن حجر عن طرق هذا الحديث: كلها لا تخلو من ضعف واضطراب1. 4. عبد العزيز بن محمد الدراوردي: قال أبو طالب: "سئل أحمد بن حنبل عن عبد العزيز الدراوردي؟ فقال: كان معروفاً بالحديث والطلب، وإذا حدّث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدث من كتب الناس أوهم، وكان يقرأ على الناس من كتبهم فكان يخطىء، وربما قلب حديث عبد الله العمرى يرويه عن عبيد الله بن عمر، قيل له: لعل قد رواها عبيد الله؟ قال: عبيد الله كان أثبت من ذلك، وإذا قرأ في كتبه كان صحيحاً" 2. ذكر الإمام أحمد في هذه الرواية صحة حديث الدراوردي إذا روى من كتابه، وأنه معروف بطلب الحديث، وذكر وجهين آخرين يدخل الضعف في حديثه منهما، وهما: تحديثه من كتب الناس، وأن أحاديثه عن عبيد الله بن عمر مقلوبة. وأما يتعلق بما حدّث به الدراوردي من حفظه فقال أبو داود: "سمعت أحمد ذكر الدراوردي فقال: كتابه أصح من حفظه" 3. وعن أحمد قال: "كان الدراوردي إذا حدّث من حفظه يهم، ليس هو
بشيء، وإذا حدث من كتابه فنعم" 1. ومما أعله الإمام أحمد من حديث الدراوردي لكونه حدّث به من حفظه وليس في كتابه: قال أبو داود: "سمعت أحمد ذكر حديث الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُستعذب له الماءَ من بيوت السُّقيا؟ فقال: هذا أُواه ريح، وسمعت أحمد ذكر هذا الحديث فقال: ليس هذا ـ يعني هذا الحديث ـ في كتاب الدراوردي، وكان يحدّثه حفظاً، فقال أحمد: كتابُه أصح من حفظه2. هذا الحديث رواه أبو داود3، وابن سعد4، وأحمد5، وإسحاق ابن راهويه6، وعمر بن شبة7، وابن حبان8، وأبو الشيخ9، والحاكم10، وأبو نعيم11، والبيهقي12، والخطيب13، والبغوي14 كلهم من طرق عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة به.
وزاد أبو داود في روايته تفسير قتيبة بن سعيد لبيوت السقيا بأنها عين بينها وبين المدينة يومان. وقال غيره إنها بئر بالمدينة1. وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: أعله الإمام أحمد بقوله: هذا أُراه ريح، وهو إشارة إلى إنكاره للحديث وأنه ليس بشيء عنده، وجعل علة ذلك كون الحديث ليس في كتاب الدراوردي وإنما كان يحدث به من حفظه، وإذا حدث من غير كتابه فإنه ليس بشيء عنده. وقد توبع الدراوردي عن هشام بن عروة: تابعه عامر بن صالح بن عبد الله ابن عروة بن الزبير عند أبي الشيخ2، وابن عدي3، والبيهقي4. وعامر بن صالح متروك الحديث5، وقال ابن عدي: هذا الحديث يعرف بعبد العزيز الدراوردي. ا.هـ. وخاصة وقد رماه ابن عدي بسرقة الحديث فلا يعتبر به. وتابعه أيضاً محمد بن المنذر6، عند
البغوي1، ومحمد بن المنذر أيضاً لا يصلح للاعتبار. قال عنه الحاكم: يروي عن هشام أحاديث موضوعة2، وقال أبو نعيم: روى عن هشام بن عروة أحاديث منكرة3. وقد روى هذا الحديث عن الدراوردي نحو أربعةَ عشرَ راوياً من غير اختلاف فيما بينهم، مما يقوي جانب حفظ الدراوردي للحديث وإن كان حدّث به من حفظه، ولعل هذا ما جعل الحافظ ابن حجر يجوّد إسناد الحديث4. أما الإمام أحمد فلم ير قبول تفرد الدراوردي بهذا الحديث لضعفه بسبب العلة التي ذكرها، وقد ذكر يعقوب الحموي بإسناده عن صالح جزرة عن أحمد أنه قال: "عبد العزيز بن محمد الدراوردي ضعيف الحديث، روى عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة ... " فذكر هذا الحديث5. وقد كان يحيى بن معين يذهب إلى مثل ما ذهب إليه الإمام أحمد في الدراوردي، فمع أنه كان يقول فيه: لا بأس به6، فقد قال في رواية أبي خالد الدقاق: الدراوردي ما روى من كتابه فهو أثبت من حفظه7، وأعل الحديث الذي رواه ـ أي الدراوردي ـ عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، "عن أبي هريرة" 8 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمّار: "تقتلك فئة باغية"، قال ابن معين: "لم يُوجد في كتاب
الدراوردي، وأخبرني من سمع كتاب العلاء ـ يعني من الدراوردي ـ إنما كانت صحيفة، ليس هذا فيها، وكانت قصة واحدة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ، والدراوردي حفظه ليس بشيء، كتابه أصح" 1. ومن الرواة الذين يجزم بأن سماعهم من الدراوردي كان من أصل كتابه الحميدي عبد الله بن الزبير، صاحب ابن عيينة، فقد روى الفضل بن زياد عن الحميدي قال: "قدمت المدينة فبدأت بعبد العزيز بن محمد الدراوردي فجاء في جماعة من أهل المدينة يلومنني يقولون: تركت شيخنا أن تبدأ به وتأتيه. قال: تلومونني فيما فعلت، إنما أتيت الدراوردي لأسلم عليه وأكتب عنه شيئاً، ويكون اعتمادي على ابن أبي حازم إن شاء الله، وبلغ الدراوردي اجتماع من اجتمع إليّ فلما رجعتُ إليه قال: يا قرشي، قد بلغني الذي كان، وقد عزمتُ أن أُخرج إليك كتبي وأصولي لتكتبها وأقرأها عليك. قال: فأخرج إليّ أصوله، وإذا هي كتبٌ صحاح وأحاديث مستقيمة. قال: وقد كان يُؤتى بالأحاديث فتُقرأ عليه، فإن كان في حديثه الذي حملوا عنه خللاً فإنما جاء مما أعلمتكم أنه كان يقرأ من كتبه الناس، وقد كان يذاكر بالحديث مما ليس عنده فيتهاونون به ويقولون: هذا مما لم يكن في كتبه، ويذاكر بالشيء المرفوع فيقولون: هذا في أصل كتابه منقطع" 2. فيؤخذ من هذا أن ما رواه الحيمدي عن الدراوردي فهو من صحيح حديثه. 5. عبد الأعلى بن عبد الأعلى السَّامي: قال أبو داود: "سمعت أحمد قيل له: عبد الأعلى السامي؟ قال: ما كان من حفظه ففيه تخليط، وما كان من كتابه فلا بأس به، وكان يحفظ حديث يونس
مثل سورة من القرآن" 1. ولم أقف على حديث أعلّه الإمام أحمد من هذا الوجه يصلح بأن يكون مثالاً لما ذكره رحمه الله. ولعل تضعيف من ضعف عبد الأعلى نسبياً هو من هذا الوجه الذي ذكره الإمام أحمد، والعلم عند الله. 6. محمد بن بشر العبدي: قال الإمام أحمد في رواية أبي داود: "محمد بن بشر كان صحيح الكتاب، وربما حدث من حفظه" 2. فصحح حديثه إذا حدث من كتابه، وقوله: وربما حدث من حفظه، إشارة أن أنه قد يترك التحديث من الكتاب ويحدث من حفظه، وعليه فيحمل ما وقع في حديثه من الأوهام على أنه كان بسبب اعتماده على الحفظ. وقريب من هذا قول عثمان بن أبي شيبة فيه: "محمد بن بشر ثقة ثبت إذا حدث من كتابه" 3، فإن مفهومه أنه إذا حدث من حفظه فليس بثقة ثبت. ولا يوجد في كلام الإمام أحمد ولا في كلام عثمان بن أبي شيبة ما يدل على تضعيفه مطلقاً إذا حدث من حفظه، بل الذي يفهم من كلامهما أن هذا الراوي أوثق وأثبت حين يحدث من كتابه. وقد أشار الإمام أحمد إلى حديث حدّث به محمد بن بشر من حفظه خلافاً لما في كتابه، وهو يدل على ما ذكره أحمد عنه: قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: محمد بن بشر كان صحيحَ الكتاب، وربما حدث من حفظه، فذكرت له: أنه حُدّث عنه بحديث علي بن صالح، عن أبي بكر، أعني حديث علي بن صالح، عن أبي إسحاق، عن أبي جُحيْفة: قال
أبو بكر: أراك قد شِبتَ يا رسول الله، فقال: " شيّبتْني هودٌ وأخواتُها"؟ فقال: قد كتبُه، يعني: عن ابن بشر، عن علي بن صالح، عن أبي جحيفة، وليس فيه: عن أبي بكر، وهو عندي وهمٌ، إنما هو أبو إسحاق، عن عكرمة1. هذا الحديث رواه محمد بن بشر من الطريق الذي ذكره أبو داود ـ علي ابن صالح، عن أبي إسحاق، عن أبي جحيفة، عن أبي بكر ـ واختلف عليه فيه: فرواه شهاب بن عباد2، ومحمد بن المهاجر القاضي3، عن محمد بن بشر، فذكرا فيه: أبا بكر الصديق، ذكر روايتهما الدارقطني بإسناده في العلل4. ورواه الإمام أحمد من كتابه كما قال في رواية أبي داود هذه، وكذلك حميد ابن الربيع عند الدارقطني في العلل5؛ ومحمد بن عبد الله بن نمير عند أبي يعلى6، والطبراني7، والدارقطني8، وأبي نعيم9، فلم يتجاوزا به أبا جحيفة ولم يذكروا أبا بكر الصديق. وذكر الإمام أحمد أنه كتب الحديث على هذا الوجه عن محمد بن بشر، فدل على أنه لما حدث به على الوجه الآخر حدّث به من حفظه
فأخطأ فزاد في الإسناد. وذكر الإمام أحمد أن الحديث من رواية أبي جحيفة وهم، وأن الصواب: عن أبي إسحاق، عن عكرمة مرسلاً. 7. همام بن يحيى العَوْذي: وثقه الإمام أحمد مطلقاً، فقال صالح بن أحمد بن حنبل: قال أبي: همام ثبت في كل المشايخ1. وسأله الأثرم: أي شيء تقول في همام؟ فقال: كان عبد الرحمن بن مهدي يرضاه2. وكان يحيى بن سعيد القطان يعترض على همام في كثير من حديثه، فلما قدم معاذ بن هشام نظروا في كتبه فوجدوه يوافق هماماً في كثير مما كان يحيى ينكره، فكف يحيى بعدُ عنه. قاله عمر بن شبة3. لكن أشار الإمام أحمد إلى أن هماماً كان يخطئ إذا حدّث من حفظه، وأما إذا كان قريبَ عهدٍ بكتابه فقلما كان يخطئ. وكان في آخر أمره يقرب عهده بالكتاب، فسماع من سمع منه بأخرة أجود من غيره. قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: قال عفان حدثنا يوماً همام، قال: فقلت له: إن يزيد بن زريع حدثنا عن سعيد عن قتادة ذكر خلاف ذلك الحديث، قال: فذهب فنظر في الكتاب، ثم جاء فقال: يا عفان، ألا تراني أخطىء وأنا لا أعلم. قال عفان: وكان همام إذا حدثنا بقرب عهده بالكتاب فقل ما كان يخطىء. قال أبي: ومن سمع من همام بآخره فهو أجود، لأن هماماً كان في آخر عمره أصابته
زمانة1 فكان يقرب عهده بالكتاب، فقل ما كان يخطىء" 2. وذكر في رواية أبي داود بعض من سمع منه بأخرة. قال أبو داود: "سمعت أحمد قال: همام يضبط ضبطاً جيداً. سمعت أحمد يقول سماع من سمع من همام بآخرة هو أصح، وذلك أنه أصابته مثل الزمانة فكان يحدثهم من كتابه، فسماع عفان، وحبان، وبهز أجود من سماع عبد الرحمن، لأنه كان يحدثهم يعني لعبد الرحمن ـ أي أيامهم ـ من حفظٍ. سمعت أحمد قال: قال عفان: ثنا همام يوماً بحديث، فقيل له فيه، فدخل فنظر في كتابه فقال: ألا أراني أخطىء وأنا لا أدري، فكان بعد يتعاهد كتابه" 3. وقد أخرج الجماعة لهمام من حديث عفان وحبان بن هلال عنه، وأخرج له مسلم فقط دون البخاري من حديث عبد الرحمن بن مهدي عنه4. وقد وافق الإمام أحمد على مثل هذا التفصيل في حديث همام بعض الحفاظ، فقال يزيد بن زريع: همام حفظه ردئ وكتابه صالح5. وسئل أبو حاتم عن همام وأبان العطار من يقدم منهما؟ قال: همام أحب إليّ ما حدث من كتابه، وإذا حدث من حفظه فهما متقاربان في الحفظ والغلط6. فأشارا إلى أنه إذا حدث من كتابه فهو أوثق منه إذا حدث من حفظه.
8. أبو عوانة وضاح بن عبد الله اليشكري الواسطي: قدّمه الإمام أحمد إذا حدّث من كتابه على جرير الرازي1. وقال الفضل بن زياد: "سئل ـ يعني أحمد بن حنبل ـ أبو عوانة أثبت أو شريك؟ فقال: إذا حدّث أبو عوانة من كتابه فهو أثبت، وإذا حدّث من غير كتابه ربما وهِم" 2. وقال أيضاً: "أبو عوانة كتابه صحيح ... وفي جميع حاله أصح حديثاً عندنا من هشيم، إلا أنه بأخرة كان يقرأ من كتب الناس فيقرأ الخطأ، فأما إذا كان من كتابه فهو ثبت" 3. وهذا أيضاً ليس فيه تضعيف لأبي عوانة فيما حدّث به من حفظه، إنما يدل على أن ما حدث به من كتابه أصح مما حدث به من حفظه. مثال لما حدث به أبو عوانة من حفظه فأخطأ فيه: قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: حديثُ أبي صادقٍ، عن ربيعة بن ناجِذ. رواه أبو عوانة ـ يعني عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادقٍ، عن ربيعة بن ناجذ، عن عليٍّ أنه قيل له: [بما ورِثت ابنَ عمِّك؟] قال أبو عبد الله: وهذا مما أخطأ فيه، وقال لنا موسى بن إسماعيل: هكذا حدثنا به أبو عوانة من حفظه، وأخطأ فيه، وحدثنا به من كتابه، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن ميسرة الكندي، عن علي4.
هذا الحديث رواه النسائي1، وأحمد2، وابن جرير3، والمقدسي4، والمزي5 كلاهما من طريق أحمد كلهم من طريق عفان بن مسلم قال: حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذ، أن رجلاً قال لعلي: يا أمير المؤمنين لم ورثتَ ابنَ عمك دون عمِّك، قال: [جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب فصنع لهم مداًّ من طعام، قال: فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو كأنه لم يُمسّ، ثم دعا بغُمَرٍ فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم يُمسّ أولم يُشرب، فقال: "يا بني عبد المطلب! إني بُعِثتُ إليكم بخاصة، وإلى الناس بعامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما قد رأيتم، فأيُّكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي"، فلم يَقُم إليه أحدٌ، فقمتُ إليه وكنتُ أصغرَ القومِ، فقال: "اجلِس"، ثم قال: ثلاثَ مراتٍ كلَّ ذلك أقوم إليه، فيقول: "اجلس" حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي، ثم قال: "أنت أخي وصاحبي ووارثي ووزيري"، فبذلك ورثت ابنَ عمي دون عمي] وهذا لفظ النسائي وابن جرير. وليس عند أحمد: ووارثي، ولا قوله: لم ورثت ابن عمك دون عمك، وانتهى الحديث عنده بقوله: ضرب بيده على يدي. وفي هذا الإسناد ربيعة بن ناجذ، قال عنه الذهبي: لا يكاد يعرف6، ووثقه العجلي، وابن حجر، وذكره ابن حبان7، وليس له راوٍ سوى
أبي صادق1، واسم أبي صادق مسلم بن يزيد الأزدي، وثقه يعقوب بن شيبة، وقال عنه أبو حاتم: مستقيم الحديث2. وأما الإسناد الذي ذكره الإمام أحمد أن موسى بن إسماعيل حدث به عن أبي عوانة من كتابه، فلم أقف عليه. وميسرة الكندي في هذا الإسناد هو ميسرة أبو صالح مولى كندة، روى عن علي وشهد معه قتل الخوارج بالنهروان3، وذكره ابن حبان في الثقات4. وقد قال الذهبي عن حديث ربيعة بن ناجذ هذا إنه منكر5، وقول علي بن المديني: روى عثمان بن المغيرة أحاديث نكرة من حديث أبي عوانة6 لعله يشير إلى هذا الحديث. والشاهد أن أبا عوانة حدث بالحديث من حفظه خلافاً لما في كتابه وأخطأ. 9. يونس بن يزيد الأيلي: وثقه الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد، وذكر كثرة حديثه عن الزهري. قال أحمد: يونس أكثر حديثاً عن الزهري من عُقيل، وهما ثقتان7. وقال أحمد في رواية أبي داود: عُقيل ويونس يُؤديان الألفاظ8. وهذا ثناء عليهما في حسن الأداء.
لكن ذكر ابن رجب عن أحمد أن يونس إذا حدث من حفظه يخطئ1، ومفهوم ذلك أنه إذا حدث من كتاب فهو أصح. وقد نص على ذلك اثنان من شيوخ الإمام أحمد، وهما ابن المبارك وابن مهدي. قال ابن المديني: سألت عبد الرحمن بن مهدي عن يونس بن يزيد الأيلي فقال: كان ابن المبارك يقول: كتابه صحيح، قال ابن مهدي: وأقول أنا: كتابه صحيح. ا.هـ2، وذكر ابن رجب عن ابن مهدي أنه قال: لم يكتب حديث يونس بن يزيد إلا عن ابن المبارك، فإنه أخبرني أنه كتبها عنه من كتابه3. وأعلّ الإمام أحمد حديثاً ليونس، وجعل سبب علته احتمال كونه حدّث به من حفظه. قال أبو داود: سمعت أحمد ذُكر له حديثُ محمد بن بكر البرساني، عن يونس، عن الزهري، عن أنس بن مالك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة"؟ فقال: هذا ـ يعني الوهم ـ من يونس، لعله حدثه حفظاً4. هذا الحديث رواه الترمذي5 من طريق محمد بن بكر البرساني، ورواه ابن ماجه6، وأبو يعلى7، والطحاوي8 كذلك. وأعله الإمام أحمد بأن يونس وهم فيه، وذلك حيث جعله من حديث أنس، وإنما هو من حديث الزهري
مرسلاً. رواه ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن سالم أن عبد الله بن عمر كان يمشي أمام الجنائز، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وأبو بكر وعمر وعثمان بن عفان. أخرجه الطحاوي1، وتابعه شبيب بن سعيد من طريق ابنه أحمد بن شبيب، عن يونس به عند الخطيب2. والقائل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ... هو الزهري، وقد بين ذلك الإمام أحمد في رواية عبد الله كما ذكره عنه الطبراني3 قال: هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو عن الزهري مرسل، وحديث سالم فعل ابن عمر....ا. هـ. وهكذا رواه الثقات من أصحاب الزهري ـ مالك، ومعمر، وعقيل، وغيرهم. وفيه اختلاف آخر على الزهري في الحديث سيأتي بحثه إن شاء الله في الكلام على الإدراج. فذِكر أنس في هذا الحديث وهم، وجعل الإمام أحمد الوهم من يونس، وأرجع السبب إلى احتمال كونه حدّث به من حفظه، بدليل أن ابن وهب، وشبيب رواياه عنه على الوجه الصحيح. أما الإمام البخاري فجعل الواهم في هذا الحديث محمد بن بكر البرساني الراوي عن يونس. قال الترمذي ـ بعد روايته للحديث ـ سألت محمداً عن هذا الحديث فقال: "هذا حديث خطأ، أخطأ فيه محمد بن بكر، وإنما يُروى هذا الحديث عن يونس، عن الزهري، أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة. قال الزهري: وأخبرني سالم: أن أباه كان يمشي أمام الجنازة. قال محمد: هذا أصح" 4.
والصواب ما ذهب إليه الإمام أحمد من أن الواهم هو يونس بن يزيد، بدليل أن البرساني قد توبع على هذه الرواية عن يونس: تابعه أبو رزعة وهب الله بن راشد المؤذن1، وبكر بن مضر2، وأيوب بن سويد3. فانتفى أن يكون الواهم هو البرساني لمتابعة غيره له عن يونس، وتعين أن يكون يونس هو الواهم. 10. عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج: كان الإمام أحمد يقول: كان ابن جريج من أوعية العلم4، لكن تكلم فيما حدث به من حفظه. قال محمد بن موسى بن مشيش: قال أحمد بن حنبل: "كان ابن جريج الذي يحدث من كتاب أصح، وكان في بعض حفظه إذا حدّث حفظاً شيء" 5. وقريب من هذا قول يحيى بن سعيد القطان: "لم يكن أحد أثبت في نافع من ابن جريج فيما كتب" 6. فجعله أثبت الناس في نافع لكن مقيداً بما تحمله كتابة لا حفظاً. وقال يحيى القطان أيضاً: "وإن لم يحدثك ابن جريج من كتابه لم ينتفع به" 7.
ووافق قول الإمام أحمد فيه ما نقله ابن أبي مريم عن ابن معين: "ابن جريج ثقة في كل ما روي عنه من الكتاب" 1. ولم أقف على حديث يصلح أن يكون مثالاً لما ذكره الإمام أحمد عن ابن جريج.
المبحث السابع: من حدث في مكان لم تكن معه كتبه فخلط، وحدث في مكان آخر من كتبه فضبط
المبحث السابع: من حدّث في مكان لم تكن معه كتبه فخلط، وحدث في مكان آخر من كتبه فضبط. من أسباب دخول الأوهام على أحاديث الرواة الذين ضبطوا مروياتهم في الكتب عدم اصطحابهم لكتبهم أو فقدانهم لها في بعض رحلاتهم، فيضطرون للتحديث اعتماداً على الذاكرة، فيقع الوهم بسبب ذلك في مرويات من سمع منهم في تلك الأماكن، والحفاظ لا يحتجون بهذا الضرب من الأحاديث إلا ما توبع رواتها عليها، والفرق بين هذا الصنف من الرواة والذين تقدموا في المطلب السابق ـ وهم من لا يحدث من كتابه فيَهم في حديثه ـ أن هذا الصنف يمكن تحديد الذين سمعوا منهم في الأماكن التي ضعِّف حديثهم فيها بضابط، بخلاف الصنف الآخر الذي لا يمكن الوقوف عليهم إلا بتنصيص من إمام مطلع على من أخذ عن الراوي من حفظه دون كتابه، أو بقرينة أخرى تدل على ذلك. وقد نبه الإمام أحمد على عدد من الرواة هم أهل حفظ وإتقان لكن حدثوا في بعض البلدان من حفظهم دون كتاب فوقعوا في أوهام، فمنهم: 1. معمر بن راشد الأزدي: وكان أصله بصرياً ونزل اليمن، وأقام بها عشرين سنة1. قال أحمد في رواية الميموني: "لا تضم إلى معمر أحداً إلا وجدته يتقدمه في الطلب، كان من أطلب أهل زمانه للعلم" 2. وسأله المروذي عن معمر، كيف هو في الحديث؟ فقال: "هو ثبت إلا أن
في بعض حديثه شيئاً" 1. ومن ذلك ما حدث به بالبصرة، فقد جاء في رواية أبي داود قال: "قلت لأحمد: ما حدّث معمرٌ بالبصرة؟ قال: أخطأ بالبصرة في أحاديث" 2. والسبب في ذلك أن كتبه لم تكن معه بالبصرة كما ذكر الأثرم عن الإمام أحمد: "حديث عبد الرزاق عن معمر أحبّ إليّ من حديث هؤلاء البصريين، كان يتعاهد كتبه وينظر، يعني باليمن، وكان يحدثهم بخطأ بالبصرة" 3. وذلك أنه كان يحدثهم بالبصرة من حفظه. قال عبد الله: حدثني أبي قال: "قلت لإسماعيل بن علية: كان معمر يحدثكم من حفظه؟ قال: كان يحدثنا بحفظه" 4. وكان إسماعيل بن علية بصرياً. وذكر الذهبي السبب في ذلك وهو أنه قدم البصرة لزيارة أمه بعد أن استقر باليمن، فلم تكن معه كتبه فحدث من حفظه فوقع للبصريين عنه أغاليط5. وقد ذكر الإمام أحمد أن البصريين الذين سمعوا من معمر بالبصرة هم الغرباء الذين استوطنوها. قال الفضل بن زياد: "سمعت أبا عبد الله قيل له: عبد الله ـ يعني ابن المبارك ـ سمع من معمر؟ قال: سمع منه بمكة. قيل له: فلم يسمع منه بالبصرة شيئاً؟ قال: لا، لم يكتب عن معمر بالبصرة إلا الغرباء، مثل إسماعيل بن علية، ويزيد بن زريع" 6.
فذكر إسماعيل بن علية وكان كوفي الأصل1، ويزيد بن زريع وكان أبوه والياً على الأبلة2، فلعله نشأ بها ثم استوطن البصرة. ووافق الإمام أحمد على إعلال حديث معمر بالبصرة عددٌ من الحفاظ: قال يعقوب بن شيبة: "سماع أهل البصرة من معمر حين قدم عليهم فيه اضطراب، لأن كتبه لم تكن معه" 3. وقال أبو حاتم: "ما حدث معمر بالبصرة فيه أغاليط" 4. قال الذهبي: "ومع كون معمر ثقة ثبتاً فله أوهام، لا سيما لما قدم البصرة لزيارة أمه، فإنه لم يكن معه كتبه، فحدّث من حفظه، فوقع للبصريين عنه أغاليط، وحديث هشام ـ يعني ابن يوسف ـ وعبد الرزاق عنه أصح، لأنهم أخذوا عنه من كتبه، والله أعلم" 5. مثال لما أعله الإمام أحمد من حديث معمر بالبصرة: قال صالح بن أحمد بن حنبل: حديث غيلان: أنه أسلم وله عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر منهن أربعاً"، معمر أخطأ فيه بالبصرة في هذا الإسناد، ورجع باليمن جعله منقطعاً6. هذا الحديث رواه معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن غيلان بن سلمة
الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر منهنّ أربعاً". هكذا حدث به معمر بالبصرة، ورواه عنه جماعة من أهل البصرة منهم: سعيد بن أبي عروبة1، وإسماعيل بن علية2، ومحمد بن جعفر غندر3، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي4، ويزيد بن زريع5. وكذلك رواه عنه جماعة من غير أهل البصرة منهم: سفيان الثوري6، وعيسى بن يونس7، وعبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي8، ومروان بن معاوية الفزاري9 وأربعتهم من أهل الكوفة؛ ويحيى ابن أبي كثير10، وهو يمامي، والفضل بن موسى11، وهو خراساني. وتابع معمراً على هذه الرواية عن الزهري: بحر السقاء12، وهو
ضعيف، وعامة ما يرويه أسانيدها ومتونها مما لا يتابعه عليها أحد1. وتابعه أيضاً يحيى بن سلام2، عن مالك، عن الزهري3. قال ابن عبد البر: "أخطأ فيه يحيى بن سلام على مالك، ولم يتابع عنه على ذلك" 4. وتابعه أيضاً سرار بن مجسّر العنزي5 عن أيوب، عن نافع وسالم، عن ابن عمر به6، رواه عنه سيف بن عبيد الله الجرمي7. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أيوب إلا سرار تفرد به سيف. ا.هـ. قال ابن القيم: ومعلوم أن تفرد سيف بهذا مانع من الحكم بصحته، بل لو تفرد به من هو أجل من سيف لكان تفرده علة8.ا. هـ. يشير ~ إلى أن التفرد عن علَم كثير الحديث مثل أيوب علة يعل الحديث بسببها. فيتلخص أن المتابعات لمعمر في هذا الحديث لا يصح منها شيء. ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً9. لكن رواه أحمد بن يوسف السلمي عن عبد الرزاق بمثل رواية أهل البصرة، أخرجه
ابن مندة في معرفة الصحابة1. قال الحافظ ابن حجر: استنكره أبو نعيم وقال: الأثبات رووه عن عبد الرزاق مرسلاً. ا.هـ. ويؤيده ما ذكره ابن عبد البر عن يعقوب بن شيبة عن أحمد بن شبويه، عن عبد الرزاق قال: لم يسند لنا معمر حديث غيلان بن سلمة أنه أسلم وعنده عشر نسوة. ا.هـ2. وسماع عبد الرزاق من معمر كان باليمن. وتابع عبدَ الرزاق ابنُ عيينة عن معمر به3. وهكذا رواه مالك عن الزهري4. ورواه يونس بن يزيد، وعقيل بن خالد، وشعيب بن أبي حمزة، كلهم عن الزهري: بلغني عن عثمان بن محمد بن أبي سويد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان ... الحديث5 وروايتهم وكذلك رواية مالك تؤيد الرواية المرسلة عن معمر. وجه إعلال الإمام أحمد لهذا الحديث: أعل الإمام أحمد الرواية الموصولة عن معمر بأنها مما أخطأ معمر فيها بالبصرة، وحكم للرواية المرسلة لأنها هي التي رجع إليها باليمن، بدليل أن عبد الرزاق ذكر أن معمراً لم يكن يسند لهم هذا الحديث، ومعلوم أن سماعه من معمر كان باليمن. وهذا مثال لما ذكره الإمام أحمد أن معمراً كان يحدث بخطأ بالبصرة،
وحديثه باليمن كان أحب إليه لأنه كان يتعاهد كتبه وينظر فيها. وقد وافق الإمام أحمد على إعلال هذا الحديث بهذه العلة عدد من الحفاظ، منهم: الإمام البخاري، قال: هذا حديث غير محفوظ، إنما روى هذا معمر بالعراق، وقد روي عن معمر، عن الزهري، هذا الحديث مرسلاً، ثم ذكر رواية شعيب بن أبي حمزة المرسلة عن الزهري وقال: وهذا أصح1. وكذلك رجح أبو زرعة وأبو حاتم الرواية المرسلة2. وقال الإمام مسلم فيما رواه البيهقي بإسناده عنه من كتابه "التمييز": "أهل اليمن أعرف بحديث معمر من غيرهم، فإنه حدث بهذا الحديث عن الزهري، عن سالم، عن أبيه بالبصرة، وقد تفرد بروايته عنه البصريون، فإن حدث به ثقة من غير أهل البصرة صار الحديث صحيحاً، وإلا فالإرسال أولى" 3. وذكر الحافظ ابن حجر أن ابن حبان، والحاكم، والبيهقي بنوا على قول الإمام مسلم فأخرجوا الحديث من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة، وأهل خراسان، وأهل اليمامة، ثم رده بقوله: "ولا يفيد ذلك شيئاً، فإن هؤلاء كلهم إنما سمعوا منه بالبصرة، وإن كانوا من غير أهلها، وعلى تقدير تسليم أنهم سمعوا منه بغيرها، فحديثه الذي حدّث به في غير بلده مضطرب، لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة، وأما إذا رحل فحدّث من حفظه بأشياء وهم فيها ... " 4.
مثال آخر: قال عبد الله: حدثني أبي: قال حدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "توضئوا مما غيرت النار". حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: قرأت في كتاب معمر، عن الزهري، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن خارجة، عن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء مما غيرت النار1. هذا الحديث لم يحكم فيه الإمام أحمد بشيء، وإنما أشار إلى الاختلاف على معمر بين عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي البصري، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني، حيث رواه عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن خارجة بدون واسطة، ورواه عبد الرزاق من أصل كتاب معمر، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن خارجة. وبعد تتبع طرق الحديث ظهر أن عبد الأعلى قد وافقه أهل البصرة عن معمر، فرواه يزيد بن زريع2، وإسماعيل بن علية3 كلاهما عن معمر بمثل رواية عبد الأعلى ليس فيه عبد الملك بن أبي بكر. وأما عبد الرزاق فنص الإمام أحمد على أن روايته للحديث من كتاب معمر، ومعلوم أن كتب معمر لم تكن معه في البصرة وإنما حدث بها من حظفه فرواية هي المرجحة على رواية أهل البصرة. ثم إن أصحاب الزهري رووا الحديث عن الزهري بمثل رواية عبد الرزاق عن معمر؛ فرواه عقيل بن خالد4،
والزبيدي1، وشعيب بن أبي حمزة2، ويونس بن يزيد الأيلي3، ومحمد ابن عبد الرحمن بن أبي ذئب4، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر5، والأوزاعي6 كلهم عن الزهري، قال: أخبرني عبد الملك بن أبي بكر أن خارجة بن زيد الأنصاري أخبره، أن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. واجتماع هؤلاء ـ وهم من أثبت أصحاب الزهري ـ على موافقة معمر في الوجه الذي رواه عبد الرزاق عنه يقضي بصوابه وخطأ ما يخالفه، وبخاصة أن الوجه المخالف جاء من الوجه الذي تدخل الأوهام على مرويات معمر، وهي رواية أهل البصرة عنه. وقد أخرج البخاري لمعمر من رواية جماعة من أهل البصرة منهم: عبد الأعلى ابن عبد الأعلى، ومحمد بن جعفر غندر، ويزيد بن زريع، ومسلم من رواية ابن علية، وعبد الأعلى، ويزيد بن زريع7. قال ابن حجر: لم يخرج له ـ يعني البخاري ـ من رواية أهل البصرة عنه إلا ما توبعوا عليه عنه8. 2. هشام بن عروة: وهو مدني ودخل العراق ومات ببغداد. قال وهيب: قدم علينا هشام ابن عروة، فكان فينا مثل الحسن وابن سيرين9.
قال أحمد في رواية الأثرم: كأن رواية أهل المدينة عنه أحسن، أو قال: أصح. ا.هـ1 يعني من رواية أهل العراق عنه. وحمل ذلك ابن رجب على أن كتبه لم تكن معه في العراق فيرجع إليها2. وذكر ابن خراش أنه بلغه عن مالك أنه نقم على هشام حديثه لأهل العراق3. ولم أقف على حديث أعله الإمام أحمد مما حدث به هشام بالعراق. ومما يصلح أن يكون مثالاً لما يقع في حديث العراقيين عن هشام ما رواه أهل العراق عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرِها" رواه مسلم4 من حديث عبد الله بن نمير، ووكيع، وعبدة بن سليمان، وأبي أسامة كلهم عن هشام. ورواه الدارمي5، وأبو عوانة6، والبيهقي7 من حديث جعفر بن عون؛ وأبو داود8 من حديث وهيب بن خالد؛ والطحاوي9 من حديث شعبة؛ وهؤلاء كلهم من أهل العراق. وخالفهم مالك، فرواه عن هشام، عن أبيه، عن عائشة بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ثم ينصرف، فإذا سمع النداء
بالصبح ركع ركعتين خفيفتين] أخرجه في الموطأ1، ومن طريق مالك أخرجه البخاري2، وأبو داود3، والنسائي4. فلم يذكر مالك الوتر بخمس ركعات لا يجلس في شيء إلا في آخرها. فذكر ابن رجب أنه قد تَكلم في حديث هشام هذا غيرُ واحد5. قال ابن عبد البر عن الرواية المخالفة لرواية مالك: "إنما حدث به عن هشام أهل العراق، وما حدث به هشام بالمدينة قبل خروجه إلى العراق أصح عندهم، ولقد حكى علي بن المديني عن يحيى بن سعيد القطان قال: رأيت مالك بن أنس في النوم فسألته عن هشام بن عروة، فقال: أما ما حدّث به عندنا ـ يعني بالمدينة قبل خروجه، فكأنه يصححه، وأما ما حدث به بعد خروجه من عندنا فكأنه يوهنه" 6. ولعل تخريج الإمام البخاري لحديث هشام من طريق مالك وإعراضه عما يخالفه من رواية أهل العراق عن هشام مبني على هذا الاعتبار. لكن قد روى الحديث جماعة ممن سمع من هشام بالمدينة بمثل رواية أهل العراق، منهم الليث بن سعد، وحديثه عند أحمد7، والطحاوي8؛ ويحيى بن سعيد القطان، وحديثه عند أحمد9، وابن خزيمة10، وكان سماعه من هشام
بالمدينة1؛ ومحمد بن إسحاق، وحديثه عند أحمد2، فهؤلاء منهم من كان من أهل المدينة ـ وهو ابن إسحاق ـ ومنهم من كان من غير أهلها لكن سماعه من هشام بها. فبناء على هذا تزول العلة التي أعل بها الحديث من أنه من رواية أهل العراق عن هشام، فلم يبق إلا الترجيح برواية الأحفظ على رواية الأكثر من حيث العدد، فترجح رواية مالك لمزيد حفظه وإتقانه، على رواية العدد الكثير وخاصة أن معظمهم ممن سمع من هشام بالعراق. وأيضاً لمعارضة روايتهم لحديث ابن عمر مرفوعاً: "صلاة الليل مثنى مثنى". قال ابن عبد البر: هذا من الأحاديث التي لم يختلف في إسنادها ومتنها، وهو حديث ثابت مجمتع على صحته، وهو قاض في الباب على ما كان ظاهره خلافه. ا.هـ3. وأما الأثرم فأنكر الحديث من وجه آخر، وهو مخالفة هشام لما روي عن عائشة، قال الأثرم: وقد روى هذا الحديث عن عائشة غيرُ واحد، لم يذكروا في حديثهم ما ذكره هشام عن أبيه من سرد الخمس. ا.هـ4. وقد يعترض عليه بمتابعة محمد بن جعفر بن الزبير5 كما رواه ابن إسحاق عنه، عن عروة عن عائشة: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتيه
قبل الصبح، يصلي ستاً مثنى مثنى، ويوتر بخمس لا يقعد بينهن إلا في آخرهن"1. لكن يحتمل أن ابن إسحاق دلسه عن شيخه، وهي على كل حال علة لا تمنع من الاعتبار بالحديث. وكذلك تابعه عمر بن مصعب بن الزبير، عن عروة، عن عائشة [كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بخمس، لا يقعد بينهن] 2. وعمر بن مصعب بن الزبير ذكره البخاري، وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً3، وذكره ابن حبان في الثقات4، وقال الذهبي: جاء في إسناد مظلم فيحرر أمره5. فمثل هذا لا بأس به في المتابعات، والله أعلم. 3. يزيد بن هارون: قال أحمد في رواية الفضل بن زياد: "ما كان أجمع أمر يزيد! صاحب صلاة، حافظ متقن للحديث، صرامة وحسن مذهب " 6. وقال أحمد في رواية صالح: "يزيد بن هارون من سمع منه بواسط هو أصح ممن سمع ببغداد، لأنه كان بواسط يلقن فيرجع إلى ما في الكتب" 7. وذلك أن يزيد بن هارون ساء حفظه لما كفّ بصره، فلذلك كان يأمر
جارية له فتُلقّنه من كتبه ويحفظ عنها1، ويفهم من كلام أحمد في رواية صالح أن كتبه لم تكن معه ببغداد حتى يحفظ منها، فمن أجل ذلك قدّم من سمع منه بواسط على من سمع منه ببغداد. ولم أقف على حديث يصلح أن يكون مثالاً لهذه العلة التي ذكرها الإمام أحمد في حديث شيخه يزيد بن هارون. 4. جزير بن حازم: من أجلة أهل البصرة، ووثقه الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله2، وقال في رواية ابن هانئ: كان يحفظ عن العلماء3. وقال في رواية المروذي: كان حافظاً، وقال مرة: كان في بعض حديثه شيء4. ونقل ابن حجر عن الساجي عن الأثرم عن أحمد أنه قال عن جرير: حدث بمصر أحاديث وهم فيها، ولم يكن يحفظ. ا.هـ5. وكان جرير قد ارتحل إلى مصر في الكهولة فسمع من المصريين وكتبوا عنه6، فأوهامه بمصر محمولة على أن كتبه لم تكن معه إذ أغلب أسباب دخول الأوهام على حديث الراوي إذا حدث في غير بلده ترجع إلى عدم وجود كتبه معه.
مثال لما أعله الإمام أحمد من حديث جرير بمصر: ذكر الحافظ ابن حجر عن الإسماعيلي أنه قال عن أحمد في حديث عبد الله ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن سلمان بن عامر الضبي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى" قال: حديث جرير بن حازم كأنه على التوهم. فهذا الحديث أخرجه البخاري1 من رواية جرير بن حازم تعليقاً بصيغة الجزم، ووصله الطحاوي2. ورواه البخاري3 مسنداً من طريق أبي النعمان، عن حماد بن زيد، عن أيوب به موقوفاً على سلمان بن عامر، ورواه أحمد4 عن يونس، عن حماد به موقوفاً أيضاً. فخالف جرير بن حازم حماد بن زيد في رفع الحديث عن أيوب، وهذا وجه توهيم الإمام أحمد لجرير، لأن الراوي عنه هو عبد الله بن وهب، وهو ممن سمع من جرير بمصر، قد خالف حماد بن زيد في رفع الحديث عن أيوب، وقد قال أحمد: ما عندي أحد أعلم بحديث أيوب من حماد بن زيد5. لكن قد وافق جرير غيرُه على رفع الحديث عن أيوب، فرواه حماد بن سلمة، عن أيوب، وقتادة، وهشام، وحبيب، عن ابن سيرين، عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم. علقه البخاري6، ووصله النسائي7، وأحمد8. لكن حماد بن سلمة إذا جمع الشيوخ فإنه يضغف كما
تقدم1. ورواه الدبري عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن حفصة بنت سيرين، عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم2، فخالف أصحاب أيوب في روايته عن حفصة بدل محمد، وهذا يحتمل أن يكون خطأ من الدبري، فإن سماعه من عبد الرزاق بأخرة، وهذه الرواية ليست عند أحمد، وهو ممن كتب عن عبد الرزاق على الوجه، وقد روى حديث سلمان من طريق عبد الرزاق من وجه آخر3. وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى أن جرير بن حازم تفرد بذكر التحديث بين محمد بن سيرين، وسلمان بن عامر، لأن الذين رووا الحديث رووه بالعنعنة بينهما، وهذا وجه آخر لوهم جرير بن حازم، ولم أقف على من روى الحديث عن جرير من غير أهل مصر حتى نتيقن وهم جرير في هذا الحديث. وقد ثبت رفع الحديث من طرق أخرى عن سلمان بن عامر. قال البخاري: وقال غير واحد: عن عاصم، وهشام، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب، عن سلمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم4. ثم إن الاختلاف على محمد بن سيرين بالرفع والوقف ليس يضر، لأن ابن سيرين كان يقف الأحاديث كثيراً ولا يرفعها والناس كلهم يخالفونه ويرفعونها5. مثال آخر: قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ تحفظه عن يحيى، عن
عمرة، عن عائشة: أصبحت أنا وحفصة صائمتين؟ فأنكره، وقال: من رواه؟ قلت جرير بن حازم، فقال: جرير كان يحدث بالتوهم1. هذا الحديث رواه النسائي2، والطحاوي3، وابن حبان4، والطبراني5 من طرق عن ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوِّعتين، فأُهديَتْ لنا هديةٌ، فأكلناها فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة: فبدرتني حفصة ـ وكانت بنتَ أبيها ـ فسألتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا عليكما، صُوما يوماً مكانَه" وهذا لفظ الطبراني، وهو عند الباقين بأخصر منه. وقال الطبراني: لم ير هذا الحديث عن يحيى ابن سعيد إلا جريرُ بن حازم، تفرد به ابن وهب. ا.هـ6. وأنكره الإمام أحمد على جرير بن حازم لتفرده به عن يحيى بن سعيد من هذا الوجه، وعلّل ذلك بأنه كان يحدث بالتوهم. وقد ذكر الذهبي هذه القصة عن الأثرم فزاد: قلت القائل الأثرم: أكان يحدثهم بالتوهم بمصر خاصة أو غيرها؟ قال: في غيرها وفيها. وقال أبو عبد الله: أشياء يسندها عن قتادة باطل. ا.هـ7. فظاهر هذه الرواية أن أوهام جرير عند أحمد تعم حديثه بمصر وبغيرها، فإن ثبتت هذه الزيادة في رواية الأثرم فلا اختصاص لرواية أهل مصر
عن جرير بوقوع الأوهام فيها، ويكون وجه علة هذا الحديث مطلق وهم جرير. ومما يدل على وهم جرير في هذا الحديث مخالفة حماد بن زيد له فيه، حيث رواه عن يحيى بن سعيد، عن الزهري، عن عائشة ليس فيه عمرة، وجعله منقطعاً بين الزهري وعائشة1. أخرجه من هذا الوجه الطحاوي2، والبيهقي3 من طريق الرمادي عن علي بن المديني، عن حماد بن زيد. وقد اعتمد علي بن المديني هذه الرواية في إنكار رواية جرير، قال الرمادي: "قلت لعلي بن المديني: يا أبا الحسن، تحفظ عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة: قلت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين؟ فقال لي: من روى هذا الحديث؟ قلت ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن يحيى بن سعيد، قال: فضحك، فقال: مثلك يقول مثل هذا! حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن الزهري، أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين" 4. وأما الإمام مسلم فأنكره على جرير من وجه آخر، وهو عدم ضبطه لحديث يحيى بن سعيد الأنصاري، قال الإمام مسلم: "وأما حديث يحيى ابن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، فلم يسنده عن يحيى إلا جرير بن حازم، وجرير لم يُعنَ في الرواية عن يحيى، إنما روى من حديثه نزر، ولا يكاد يأتي بها على التقويم والاستقامة، وقد يكون من ثقات المحدثين من يضعف روايته عن بعض رجاله الذي حمل عنهم للتثبت يكون له في وقت ... " 5. وممن وافق الإمام أحمد في توهيم رواية جرير بمصر الإمام النسائي، قال
الحافظ ابن حجر في الاختلاف على حديث علي بن أبي طالب: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستقيظ" بالرفع والوقف، بعد ذكر رواية الرفع من طريق جرير بن حازم، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: أعله النسائي بأن جرير بن حازم حدث بمصر بأحاديث غلط فيها. ا.هـ1. وذكر الذهبي أن أوهام جرير بن حازم اغتفرت له في سعة ما روى2، وقد روى له من كبار المصريين غير ابن وهب يزيد بن أبي حبيب، والليث بن سعد، ويحيى بن أيوب الغافقي، وعبد الله بن لهيعة، ولم يخرج الشيخان من حديث أهل مصر عنه إلا من طريق ابن وهب عنه3. 5. الوليد بن مسلم: قال أحمد: ليس أحد أروى لحديث الشامين من إسماعيل بن عياش، والوليد بن مسلم4. وقال ابن رجب: طاهر كلام الإمام أحمد أنه إذا حدث بغير دمشق ففي حديثه شيء5، ثم ذكر ما رواه أبو داود عن أحمد: سمعت أحمد سئل عن حديث الأوزاعي، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالباءة" قال: هذا من الوليد، نخاف أن يكون ليس بمحفوظ عن الأوزاعي، لأنه حدث به الوليد بحِمص، ليس هو عند أهل دمشق6.
ولم أقف على هذا الحديث. وذكر ابن رجب عن أحمد أيضاً أنه تكلم فيما حدث به الوليد من حفظه بمكة1.
المبحث الثامن: من لم يضبط أهل إقليم حديثه
المبحث الثامن: من لم يضبط أهل إقليم حديثه. المقصود بهم الرواة الذين روى عنهم أهل بلد أو إقليم فلم يقيموا حديثهم. وهؤلاء الرواة أمرهم قريب من أمر الرواة الذين حدّثوا في مكان لم تكن معهم كتبهم فوقعوا في الأوهام، والفرق بينهم أن أولئك عرف في أمرهم مصدر الخطأ، وهو كون كتبهم لم تكن معهم، وأما هؤلاء فقد يكون الخطأ غير راجع إليهم بل إلى تلاميذهم حيث لم يضبطوا عنهم. فمن هؤلاء الرواة زهير بن محمد الخراساني. وثقه الإمام أحمد ووصفه بأنه مستقيم الحديث1. وتكلم في رواية أهل الشام عنه. قال الأثرم: "سمعت أبا عبد الله وذكر رواية الشاميين عن زهير بن محمد قال: يروون عنه أحاديث مناكير هؤلاء، ثم قال لي: ترى هذا زهير بن محمد الذي يروون عنه أصحابنا؟ ثم قال: أما رواية أصحابنا عنه فمُستقيمة: عبد الرحمن بن مهدي، وأبو عامر، أحاديث مستقيمة صحاح، وأما أحاديث أبي حفص ذاك التِّنِّيسيّ فتلك بواطيل موضوعة أو نحو هذا، فأما بواطيل فقد قاله" 2. وهنا يستفهم الإمام أحمد استفهام تعجب: هل هذا الذي يروي عنه أهل الشام هو زهير بن محمد الذي روى عنه ابن مهدي وغيره؟ وقد روى البخاري مثل هذا عن أحمد، قال: قال أحمد: كأن الذي روى عنه أهل الشام زهير آخر فقُلب اسمُهُ. ا.هـ3. وقال الترمذي: قال ابن حنبل: "كأن زهير بن محمد الذي
وقع بالشام ليس هو الذي يُروى عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه، يعني لما يروون عنه من المناكير" 1. وهذا الذي قاله الإمام أحمد من أن زهير بن محمد قد يكون رجلاً آخر انقلب اسمه على أهل الشام له ما يشهد له، فروى ابن أبي حاتم قال: سألت أبي عن حديث رواه معاذ بن خالد العسقلاني، عن زهير بن محمد، عن شرحبيل بن سعد، عن جبار ابن صخر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنا نُهينا أن تُرى عوراتنا" قال أبي: هذا الحديث بعينه حدثنا معاذ بن حسّان قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، عن شرحبيل عن جبار بن صخر. ا.هـ2. ومعاذ بن خالد العسقلاني قال فيه أبو حاتم: شيخ تُشبه أحاديثه عن زهير بن محمد أحاديث إبراهيم بن أبي يحيى3. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: سمعت أبي وحدثنا عن محمد بن علي بن عمر العسقلاني، عن معاذ بن خالد، عن زهير بن محمد، عن صفوان بن سليم، عن خشيم بن جبير، عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تظلموا فتدعوا فلا يستجاب لكم، وتستسقوا فلا تُسقوا، وتستنصروا فلا تنصروا" قال أبي: أخاف أن يكون أراد إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى بدل زهير بن محمد. ا.هـ4. فهذا أحد الرواة الشاميين يرى أبو حاتم أنه ربما قلب عليه إبراهيم بن أبي يحيى فجعله زهير بن محمد، فلا يبعد أن ما يخافه الإمام أحمد من هذا القبيل. فهذا أحد الاحتمالات في سبب وقوع المناكير في حديث الشاميين عن زهير ـ أي أنه رجل آخر رووا عنه فقلبوا اسمه وجعلوه زهير بن محمد. والاحتمال الآخر
هو ما ذكره أبو حاتم أن العلة من زهير نفسه، فإنه وصفه بسوء الحفظ وجعله سبب نكارة حديث بالشام وقال: ما حدث من كتبه فهو صالح، وما حدث من حفظه ففيه أغاليط1. فهذا يلحقه بالنوع الذي تقدم وهو: من حدث في مكان لم تكن معه كتبه فوهم. وهناك احتمال ثالث ذكره ابن عدي، وهو أن أهل الشام لما رووا عنه أخطأوا عليه2، فجعل الخطأ من الرواة عنه، وهذا يحتمل أن يكون خطؤهم في قلبهم رجلاً آخر به كما قاله أحمد على الاحتمال، ويحتمل أن يكون خطؤهم أنهم لم يحفظوا حديثه، لكن يبعد أن يتطابق أهل إقليم أجمع على عدم الضبط لحديث راوٍ معين، والعلم عند الله. وممن ذهب إلى إنكار أحاديث أهل الشام عن زهير بن محمد وتصحيح أحاديث أهل العراق عنه الإمام البخاري. قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: "أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة" 3. وعن البخاري أيضاً: ما روى عنه أهل الشام فإنه مناكير، وما روى عنه أهل البصرة فإنه صحيح. ا.هـ4. ولما قال أحمد للأثرم: أحاديث التنيسي عن زهير بواطيل، ذكر له الحديث رواه في التسليمة الواحدة فقال: مثل هذا5، أي في كونه من بواطيل فهذا منه إنكار للحديث. والحديث هو ما أخرجه الترمذي6 من طريق عمرو بن أبي سلمة التِّنِّيسيّ، عن زُهير بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسلِّم في الصلاة تسليمة واحدة تِلقاءَ وجهه يَميل إلى الشق الأيمن شيئاً"1، وتابعه عبد الملك بن محمد الصنعاني، رواه ابن ماجه2، وابن عدي3. وخالفهما الوليد بن مسلم، فرواه عن زهير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة موقوفاً رواه العقيلي4، وقال الوليد: فقلت لزهير بن محمد: فهل بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء؟ قال: نعم، أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة. ا.هـ. وله أصل عن عائشة موقوفاً، رواه البيهقي من طريق عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسلّم في الصلاة تسليمة واحدة قِبَل وجهها: "السلام عليكم" 5. ورجح الحفاظ رواية الوقف منهم أبو حاتم، قال: "هذا حديث منكر، هو عن عائشة موقوف" 6. وقال العقيلي: رواية الوليد ـ أي الموقوفة ـ أولى7. وقال الدارقطني: الصحيح وقفه، ومن رفعه فقد وهم8. وقال الطحاوي: "هذا حديث أصله موقوف على عائشة رضي الله عنها، هكذا رواه الحفاظ، وزهير بن محمد وإن كان ثقة فإن رواية عمرو بن أبي سلمة عنه تضعّف جداً" 9.
وكون رواية الوليد بن مسلم لهذا الحديث عن زهير هي المحفوظة، والوليد شامي لا يدل على أن المناكير لا تقع إلا في رواية بعض أهل الشام عن زهير، بل المناكير تقع في رواية الوليد بن مسلم عنه كما تقع في رواية غيره من أهل الشام. قال البخاري: "روى عن زهير بن محمد الوليدُ بن مسلم، وعمرُو بن أبي سلمة مناكير عن ابن المنكدر، وهشام بن عروة، وأبي حازم" 1. ولزهير بن محمد غير هذا الحديث من رواية أهل الشام أنكره عليه الحفاظ2
المجلد الثاني
المجلد الثاني الباب الثالث: إعلال الأحاديث بما يخل باتصال أسانيدها الفصل الأول: ما يثبت به الاتصال تمهيد ... الباب الثالث: إعلال الأحاديث بما يخل باتصال أسانيدها الفصل الأول: ما يثبت به الاتصال الاتصال في اللغة مصدر اتّصل الشيءُ بالشيء بمعنى لم ينقطع1 وأما في الاصطلاح فقال الخطيب: "واتصال الإسناد في الحديث أن يكون كل واحد من رواته سمعه ممن فوقه حتى ينتهي إلى آخره، وإن لم يبين السماع بل اقتصر على العنعنة" 2، ويقال للحديث الموصوف به: متصلاً وكذا مؤتصلاً وموتصلاً كما عزاه السخاوي للشافعي3، وهذا الأخير لغة لقريش "حيث لا تدغم مثل هذه الواو وأشباهها في التاء، فتقول: موتصل، موتفق، وموتعد ونحو ذلك، وغيرهم يُدغم فيقول: متّصل، متّفق، متّعد" 4. قال ابن عبد البر: وإنما سمي متصلاً لأن بعضهم صحت مجالسته ولقاؤه لمن بعده في الإسناد وصح سماعه منه5. والاتصال من أخص خصائص الإسناد الذي هو خاصية هذه الأمة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه ابن عباس: "تسمعون ويُسمعُ منكم ويُسمع ممن يَسمع منكم" 6. فهذا الحديث وإن كان
ظاهره خبراً متضمناً معنى الأمر بطلب العلم وتبليغه فقد تضمنّ أيضاً إخباراً من النبي صلى الله عليه وسلم ظاهره خبراً معنى الأمر بطلب العلم وتبليغه فقد تضمن أيضاً إخباراً من النبي صلى الله عليه وسلم بما سيقع في أمته من اتباعهم لهذا الطريق في نقل العلم، وهو الرواية بالإسناد المتصل. والعلة في الإعلال بعدم الاتصال هو الجهل بعدالة الراوي الساقط من الإسناد لجواز أن لا يكون عدلاً1.
المبحث الأول: اشتراط ثبوت السماع بين الرواة عند الإمام أحمد لثبوت الاتصال في الإسناد المعنعن
المبحث الأول: اشتراط ثبوت السماع بين الرواة عند الإمام أحمد لثبوت الاتصال في الإسناد المعنعن مدخل ... المبحث الأول: اشتراط ثبوت السماع بين الرواة عند الإمام أحمد لثبوت الاتصال في الإسناد المعنعن. لا خلاف أن ألفاظ الأداء الدالة على السماع في الأسانيد صريحاً أو ظاهراً قوياً يقرب من الصريح تدل على الاتصال، لكونها صريحة في إفادة تحمل الراوي من المروي عنه بلا واسطة، ومن أمثلة هذه الألفاظ: سمعت، وحدثنا، وأخبرنا، وقال لنا، وذكر لنا، وحضرت فلانا يقول كذا، وسألت فلانا عن كذا وما أشبه ذلك. وأرفعها كما قال الخطيب: سمعت فلاناً يقول كذا، لأنها لا تقبل التدليس، ولا تكاد تستعمل فيما كان بالإجازة أو المكاتبة، بخلاف أخبرنا وحدثنا فإن بعض أهل العلم جوزوا إطلاقها فيما كان بالإجازة1. وأما الأسانيد المعنعنة، وهي التي يقال فيها: "فلان عن فلان" من غير بيان للتحديث أو الإخبار أو السماع2، فجمهور أهل العلم على ثبوت الاتصال بها لكن بشروط وقع بينهم فيها خلاف. أما الإمام أحمد فمقتضى كلامه كما قال ابن رجب يدل على اشتراط ثبوت السماع بين الراويين للحكم بالاتصال3. وهناك شرط آخر يفهم من كلام الإمام أحمد، ألا وهو سلامة الراوي صاحب العنعنة من التدليس. يدل عليه ما رواه الأثرم قال: "سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل ذَكر معاوية بن عبد الكريم فقال: ثقة، ما أثبتَ حديثَه، ما أصحَّ حديثَه، قيل له: بعض ما روى عن عطاء لم يسمعه،
فأنكره وقال: هو يروي بعضَها عن قيس، وبعضها يقول: سمعتُ عطاء ـ أي فلا يُدلِّس ـ وهو أحب إليه من إسماعيل بن مسلم" 1 لما ذكر الإمام أحمد صحة حديث معاوية اعترضوا عليه بعدم سماعه لبعض ما يروي عن عطاء، ومقتضى ذلك ألا يصحح ما رواه عن عطاء بدون ذكر الإخبار، فأجاب الإمام أحمد بما حاصله أنه ليس ممن يدلس، فلا يتوقف في قبول ما رواه بغير سماع ـ أي بالعنعنة. فمفهوم هذا أنه لو كان ممن يدلس لم تقبل عنعنته، فعدم تدليس الراوي إذاً شرط لقبول عنعنته، والعلم عند الله.
المطلب الأول: الأدلة على أن الإمام أحمد يشترط ثبوت السماع للحكم باتصال الإسناد المعنعن
المطلب الأول: الأدلة على أن الإمام أحمد يشترط ثبوت السماع للحكم باتصال الإسناد المعنعن. من خلال تتبع النصوص المروية عن الإمام أحمد يظهر أنه يشترط ثبوت السماع في الحكم بالاتصال ولا يكتفي بإمكان اللقاء ولا حتى بحصوله، وفيما يلي أدلة ذلك: 1. نفيه للسماع بين الراويين مع وجود اللقاء بينهما: مما يدل على أن ثبوت السماع عند الإمام أحمد شرط للحكم بالاتصال أنه لم يحكم بالسماع بين راويين ثبت بينهما اللقاء بمجرد حصول اللقاء، فدل على أن هناك أمراً زائداً يشترطه فوق ثبوت اللقاء للحكم بالسماع، وهذه النصوص عنه توضح ذلك: أ- قوله في عبد الله بن عون وعدم سماعه من أنس: قال المروذي: "قلت: سمع ابن عون من أنس شيئاً؟ فقال: قد رآه، وأما سماع فلا أعلم، ثم قال: أيوب قد رآه، ولم يسمع، قلت: ويونس؟ قال: لا أدري" 1. فلم يحكم له بالسماع بمجرد الرؤية، وهي أبلغ من إمكان اللقاء، واستدل لذلك بأن أيوب السختياني قد رآى أنس بن مالك ولم يسمع منه، فكأنه يستدل بأن الرؤية لا تستلزم السماع. ب- قوله في سماع يحي بن أبي كثير من أنس بن مالك رضي الله عنه: قال الأثرم: "قلت لأبي عبد الله: يحيى بن أبي كثير سمع من أنس؟ قال: قد رآه، قال: رأيت أنساً، ولا أدري سمع منه أم لا؟ " 2. ونفى أبو حاتم سماعه
من أنس، وقال: روى عنه مرسلاً، وقد رآه رؤية يصلي في المسجد الحرام1. وحديثه عنه في سنن النسائي2. ج- عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر: قال حرب بن إسماعيل الكرماني: قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: "عطاء ـ يعني ابن أبي رباح ـ قد رأى ابن عمر ولم يسمع منه" 3. وكذلك قال ابن معين: لم يسمع من ابن عمر رآه رؤية4. وحديثه عنه في السنن الأربعة5. د- عطاء بن أبي مسلم الخراساني عن ابن عمر: قال أبو طالب أحمد بن حميد: قال أحمد بن حنبل: "عطاء الخراساني لم يسمع من ابن عباس شيئاً، وقد رأى عطاء ابنَ عمر ولم يسمع منه شيئاً" 6. فأثبت له الرؤية لابن عمر ونفى سماعه منه. هـ- ابن شهاب الزهري عن أبان بن عثمان بن عفان: قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: "الزهري سمع من أبان ابن عثمان؟ قال: ما أُراه سمع منه، وما أدري ـ أو نحو هذا ـ إلا أنه قد أدخل بينه وبينه: عبد الله بن أبي بكر" 7، لم يجزم له بالسماع منه مع أنه قد أدركه، بل
الزهري قد أدرك من هو أكبر من أبان بن عثمان: قال أبو حاتم: "الزهري لم يسمع من أبان بن عثمان شيئاً، لا أنه لم يُدركه، قد أدركه، وأدرك من هو أكبر منه، ولكن لا يثبت له السماع منه" 1. و حبيب بن أبي ثابت عن عروة بن الزبير: قال أحمد: "لم يسمع من عروة" 2 وحبيب قد أدرك من هو أكبر من عروة، أدرك ابن عمر، وابن عباس وسمع منهما3. قال أبو حاتم: "حبيب ابن أبي ثابت لا يثبت له السماع من عروة بن الزبير، وهو قد سمع ممن هو أكبر منه، غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاق أهل الحديث على شيء يكون حجة" 4. فكل هذه النصوص تدل على أن الإدراك لا يستلزم معه السماع بين المتداركيْن فإذا روى أحدهما عن الآخر فالظاهر أن تلك الرواية حصلت بواسطة آخرَ بينهما، وهذا هو واقع الإرسال. ونظير هذا من ثبتت له الصحبة بالرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم دون السماع منه، مثل عبد الرحمن بن غنم، قال عنه الإمام أحمد: قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه5، وكذلك طارق بن شهاب البجلي، فرواية مثلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة، وإنما لم يضرَّ الإرسال في هذه الصورة لأن الواسطة في الغالب صحابي، والجهل به لا يضر لعدالة الصحابة، بخلافه في الصورة الأولى. فإذا ثبت هذا فلا بد للحكم بالاتصال من ثبوت السماع، ولا
يُكتَفى بمجرد اللقاء فضلاً عن إمكانه. ولهذا الاعتبار حكم الإمام أحمد بالإرسال على رواية سعيد بن السيب عن عمر، مع أنه أثبت أن سعيداً قد رأى عمر وسمع منه لكنه ما سمع منه إلا شيئاً يسيراً، فرواياته عنه زيادة على ذلك مرسلة1؛ وكذلك جعل رواية مكحول عن واثلة بن الأسقع مرسلة مع أنه أثبت دخوله عليه ورؤيته له، لكن أنكر سماعه له2، وقال: لم يصح له منه سماع3. وقد يعترض على المثال الأول، وهو ابن المسيب عن عمر بما رواه أبو طالب أحمد بن حميد أنه قال لأحمد: "سعيد عن عمر حجة؟ قال: هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه، إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟ " 4، ويمكن أن يجاب عنه بأن اعتبار رواياته حجة لا يخرجها عن كونها مرسلة، لأن مراسيل ابن المسيب عند أحمد صحاح، وكان لا يرى أصح من مرسلاته5، وخاصة ما أرسله عن عمر، فإنه كان يسمى راويته لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته6، وهذا مما لا يخفى على الإمام أحمد. وهناك وجه آخر لعدم الحكم بالسماع والاتصال بمجرد اللقاء، وهو أنه قد يحصل اللقاء بين راوييْن مع الرواية لكن تكون الرواية من كتاب بلا سماع
ولا عرض، بل ولا مناولة ولا إجازة، فإذا جاز أن يقع هذا فلا يصح أن يحكم بالاتصال بدون ثبوت السماع إذ يلزمه ذلك الحكم بالاتصال على الرواية بالوجادة، وهو خلاف الواقع. يوضح هذا ما رواه عبد الله قال: "سمعت أبي ذكر جميل بن زيد1، قال: قال أبو بكر بن عياش قلتُ لجميل بن زيد: هذه الأحاديث أحاديث ابن عمر؟ قال: أَمَا ما سمعتُ من ابن عمر، إنما قالوا لي: إذا قدِمتَ المدينة فاكتُب أحاديث ابن عمر. قال: فقدمتُ فكتبتُها" 2، فقال هذا مع أنه جاء ما يدل على رؤيته لابن عمر كما في سنن سعيد بن منصور3. ومثال آخر هو خِلاس بن عمرو وروايته عن علي بن أبي طالب، قال أبو داود: "قلت لأحمد: خِلاس سمع من علي؟ قال: قد سمع من عمارٍ وكان في الشرط مع علي، فلا يكون سمع من عمار إلا وقد أدرك علياً" 4. فظاهر هذه الرواية أنه ليس هناك ما يمنع سماعه من علي لإدراكه له. لكن روى العقيلي عن الإمام أحمد أنه قال: "خِلاس عن علي كتاب" 5. وذكر عبد الله عن أحمد: "كان يحيى بن سعيد لا يحدث عن قتادة عن خلاس عن علي شيئاً، وكان يحدث عن قتادة، عن خلاس، عن غير علي، كأنه يتوقى حديث خلاس عن علي وحده
ـ يعني يقول: ليس هي صحاح، أو لم يسمع منه" 1. واعتمد الإمام أحمد نفسه مثل هذا الذي رواه عن شيخه يحيى القطان، فقال المروذي: سألته ـ أي أبا عبد الله ـ عن خلاس فقال: "ما روى عن غير علي فلم ير به بأساً، وأما ما روى عن علي فليس هي عندي" 2. فضعفه عن علي لأنه لم يثبت له السماع منه مع إدراكه له وروايته عنه، لأنه أخذ الرواية من كتاب، وقد كان خلاس يوصف بأنه صحفي3. وقال أبو حاتم: وقعت عنده صحف عن علي4. والجدير بالذكر أن معنى نفي السماع عدم وقوف الناقد على تصريح بالسماع يصح أن يحتج به لإثبات السماع، ومن أجل هذا ورد عن النقاد التفتيش والبحث عن السماع في الأسانيد، والعناية بمرويات الذين يعتنون بذكر الإخبار وغيره من ألفاظ الأداء في الأسانيد. قال أحمد في الموازنة بين شعبة وأبي معاوية في الأعمش: "أبو معاوية في الكثرة والعلم ـ يعني علمه بالأعمش ـ شعبة صاحب حديث يؤدي الألفاظ والأخبار، أبو معاوية: عن عن" 5. أي شعبة يعتني بذكر ألفاظ الأداء، بينما أبو معاوية يذكر الأسانيد بالعنعنة، وهذا ما سيأتي في الدليل الثاني من أدلة اشتراط ثبوت السماع للحكم بالاتصال. 2. البحث عن التصريح بالسماع بين الرواة: الدليل الثاني من أدلة اشتراط ثبوت السماع بين الرواة للحكم على عنعنتهم بالاتصال عند الإمام أحمد هو بحثه عما يُثبت سماع الرواة بعضهم من
بعض وعدم اكتفائه بالمعاصرة أو اللقاء بينهم، ولو لم يكن ذلك من أجل إثبات الاتصال لعدّ البحث عنه عبثاً أو عملاً لا طائل تحته. وفيما يلي أمثلة توضيحية: أ- قال الأثرم: "قلت لأبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ: أبان بن عثمان سمع من أبيه؟ قال: لا، من أين سمع منه! " 1. قال ابن رجب: مراده: من أين صحت الرواية بسماعه منه؟ وإلا فإن إمكان ذلك واحتماله غير مستبعد. ا.هـ2. ومعنى هذا: أنه حيث لم تأت رواية صحيحة فيها التصريح بسماعه من أبيه فلا يثبت له السماع. وقد ورد تصريحه بالسماع من عثمان في مسند أحمد في حديث: "أيكحل عينيه وهو محرم؟ أو بأي شيء يكحلها وهو محرم؟ فقال أبان: يضمدها بالصبر، فإني سمعت عثمان بن عفان يحدث ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "3، وفي حديث: "لا يَنكِح المحرم ولا يُنكَحُ ولا يَخطب" عند مسلم4، وهو عند أحمد أيضاً بالتصريح بالسماع5. ولذلك أثبت البخاري له السماع من أبيه6. فنفيُ الإمام أحمد هنا يُحمل على ذهول منه رحمه الله. ب- قال أبو داود: "قلت لأحمد: أَسمِع أبو إسحاق السبيعي من أبي موسى الأشعري؟ فقال: من أين سمع منه؟ ـ أو كلمة نحوها، فذكرت له حديث أُنيس، عن أبي إسحاق: بعثني أبي إلى أبي موسى الأشعري فسقاني نبيذاً، فأنكر الحديث جداًّ" 7.
أبو إسحاق السبيعي ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان ورأى علي بن أبي طالب يخطب1، فسماعه من أبي موسى الأشعري ت 42هـ ممكن، لكن الإمام أحمد أنكره لأنه لم تأت رواية صحيحة مصرِّحة بذلك، ولما ذكر له حديث أنيس أنكره. وسؤاله: "من أين سمع منه؟ " يدل على بحثه عن التصريح بالسماع. ولم أقف على الأثر الذي ذكره أبو داود. ج- قال عبد الله: "سئل عمّا روى سعيد بن جبير عن عائشة على السماع؟ قال: لا أُراه سمع منها، عن الثقة عن عائشة" 2. قوله: عن الثقة عن عائشة يشير إلى ما رواه مالك عن محمد بن المنكدر، عن سعيد بن جبير، عن رجل عنده رضى أخبره أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما مِن امرئٍ تكونُ له صلاةٌ بليل فغلبه عليها نومٌ إلا كتب الله له أجرُ صلاتِه، وكان نومُه صدقةً عليه" 3، مما يدل على أن روايته عنها بواسطة، فلم يحكم له بالسماع منه إذ لم تأت رواية مصرِّحة بذلك. د- قال أبو طالب أحمد بن حميد: "سألت أحمد بن حنبل عن محمد بن علي، سمع من أم سلمة شيئاً؟ قال: لا يصح أنه سمع. قلت: فسمع من عائشة؟ فقال: لا! ماتت عائشة قبل أم سلمة" 4. فقوله: لا يصح أنه سمع، إشارة إلى عدم وجود رواية صحيحة فيها ثبوت سماعه منها. هـ- قال حرب بن إسماعيل: "قال أحمد بن حنبل: ابن سيرين لم يجيء عنه
سماع من ابن عباس" 1. فهذا نفي منه لوجود الرواية بالسماع بينهما. و قال الأثرم: "قلت لأبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل: الزهري سمع من عبد الرحمن بن أزهر؟ قال: ما أُراه سمع من عبد الرحمن بن أزهر، ثم قال: إنما يقول الزهري: كان عبد الرحمن بن أزهر يحدث2، كذا يقول معمر وأسامة: سمعت عبد الرحمن بن أزهر، ولم يصنعا عندي شيئاً، ما أُراه حفظ، وقد أدخل بينه وبينه طلحة بن عبد الله بن عوف" 3. وأظن أن العبارة الصحيحة كالتالي: "إنما يقول الزهري كان عبد الرحمن بن أزهر يحدث، كذا يقول معمر، وأسامة: سمعت عبد الرحمن بن أزهر، ولم يصنع عندي شيئاً، ما أُراه حفظ" لأن معمراً يروي عن الزهري: كان عبد الرحمن ابن أزهر يحدث، بينما الذي يقول عن الزهري: أخبرنا عبد الرحمن بن أزهر هو أسامة بن زيد وحده4، وهو الذي عناه الإمام أحمد بقوله: ما أُراه حفظ. والشاهد أنه نفى وجود رواية صحيحة تصرح بسماع الزهري من عبد الرحمن بن أزهر، وجاءت رواية تفيد أنه يحدث عنه
بواسطة فدل على عدم سماعه منه. فكل هذه النصوص تدل على اهتمام الإمام أحمد بالوقوف على ما يثبت سماع الرواة بعضهم من بعض، والغرض من ذلك التوصل إلى الحكم على مروياتهم بالاتصال، مما يدل على أن ثبوت السماع هو المعتبر عنده للحكم بالاتصال في الأسانيد المعنعنة. 3. الاحتجاج بثبوت السماع لإثبات صحة الإسناد وعدم الاكتفاء بإمكان اللقاء: من الأدلة على اشتراط الإمام أحمد ثبوت السماع للحكم بالاتصال أن من يُعلّ الأسانيد بعدم السماع لا يحتج عليه بإمكان اللقاء أو حتى بإمكان السماع، بل يُحاجّه بما فيه التصريح بثبوت السماع، فمن ذلك: قال الخلال: أخبرنا المروذي قال: "قرئ على أبي عبد الله: عفان: ثنا عبد الصمد ابن كيسان، ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ ربيِّ". قلت: إنهم يقولون إن قتادة لم يسمع من عكرمة. قال: هذا لا يدري الذي قال! وغضِب، وأخرج إليّ كتابَه فيه أحاديث مما سمع قتادةُ من عكرمةَ، فإذا هي ستة أحاديث: "سمعت عكرمة"، وقال أبو عبد الله: قد ذهب من يُحسن هذا، وعجِب من قوم يتكلمون بغير علمٍ، وعجِب من قول من قال: لم يسمع! وقال: سبحان الله! فهو قدِم إلى البصرة فاجتَمع عليه الخلقُ. وقال يزيد بن حازم: هذا رواه حماد بن زيد: إن عكرمة سأل عن شيء من التفسير فأجابه قتادة" 1.
فردّ الإمامُ أحمد على من أعلّ حديث قتادة هذا بعلة عدم سماعه من عكرمة، رد عليه بتصريح قتادة بالسماع في عدة أحاديث غير هذا، وما ذكره من قدوم عكرمة البصرة واجتماع الخلق عليه، وكذا سؤاله قتادة عن شيء من التفسير إنما هي قرائن تؤيّد ما ذكره من ثبوت السماع، ولم يحتج أحمد بإمكان اللقاء، ولو كان يرى إمكان اللقاء كافياً لإثبات الاتصال لاحتج به عليه. 4. إعلاله الأحاديث بعدم سماع بعض رواتها ممن رووا عنهم: ومن الأدلة على أن الإمام أحمد يشترط ثبوت السماع للحكم على الأسانيد المعنعنة بالاتصال أنه يعتبر عدم سماع الرواة ممن رووا عنهم علة تُعَلّ بها أحاديث أولئك الرواة، فهذا يدل على أن نقيضه ـ وهو وجود السماع بين الرواة ـ شرط من شروط صحة الأسانيد عنده، ولما كان هذا الشرط ليس له علاقة بثقة الرواة أو تجريحهم تعين أن يعود إلى اتصال الإسناد. ولم يأت عنه الإعلال بعدم المعاصرة، وحتى ولو أعل بعدم الإدراك فمراده الاستدلال بعدم الإدراك على
عدم السماع1. فمن أمثلة ما أعلّه بعدم السماع: أ- قال عبد الله: سمعت أبي يقول حدثنا هشيم قال: أخبرنا منصور ـ يعني ابن زاذان2 ـ عن نافع أن امرأةً صحِبتْ قوماً في سفرٍ. سمعت أبي يقول: لم يسمع منصور من نافع شيئا3. لم أقف على هذا الأثر، والشاهد فيه أن الإمام أحمد أعله بعدم سماع منصور بن زاذان من نافع مولى ابن عمر. ب- قال عبد الله: قلت لأبي: إن سفيان بن عيينة حدث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر"، فأنكره وقال: من حدّث به؟ قلت: يحيى بن معين حدثنا عن سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة. قال يحيى: فقال رجل لسفيان: من ذكره؟ قال وائل. قال أبي: نرى وائل لم يسمع من الزهري، إنما روى وائل عن ابنه. وأنكره أبي أشدَّ الإنكار وقال: هذا خطأ، ثم قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث4.
حديث عائشة هذا ظاهره الصحة، لكن تبينت علته لما كشف ابن عيينة عن تدليسه عن الزهري، وأنه ما رواه إلا عن وائل1، عن الزهري. فأعلّ الإمام أحمد رواية وائل عن الزهري بعدم سماع وائل من الزهري، وأن روايته عنه بواسطة ابنه بكر بن وائل، فلعدم السماع وقعت النكارة في هذه الرواية وجاءت مخالفة للمحفوظ عن الزهري، والمحفوظ هي الرواية التي ذكرها أحمد: معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب مرسلاً. وقد تابع معمراً إسحاقُ ابن راشد2 كما سبقت الإشارة إليه.
فاتضح من هذا المثال أن عدم ثبوت السماع علة في الإسناد، فثبوته إذاً شرط من شروط صحته. ج- قال عبد الله: قال أبي: كنا عند سليمان بن حَرب فذكرْنا المسحَ على الخفّيْن، فذكرْنا أحاديثَ، فجعل سليمان بن حرب يقول: ذا لا يُحتمل، وذا ما أدري، قلنا: أيشٍ عندك؟ قال: خالد، عن أبي عثمان، عن عمر قال: يمسح حتى يأوي إلى فراشه1. قلنا: خالد لم يسمع من أبي عثمان شيئاً، يقول ذلك بعض الناس، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُوقِّت2، ويقول: خالد عن أبي عثمان! كأنه لم يرض منه بذلك3. في هذه المسئلة طعَن الإمامُ أحمد ومَن معه على الأثر الذي احتجّ به شيخُهم سليمانُ بن حرب في عدم التوقيت في المسح على الخفين، طعنوا فيه بعدم سماع خالد ـ وهو ابن مهران الحذاء ـ من أبي عثمان النهدي، فدل على أن عدم السماع
علة تجعل الأثر غيرَ صالح للاحتجاج به، وهو الشاهد في إيراد المسئلة. وقد روى الشيخان لخالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي1. ولم أقف على تصريحه بالسماع من أبي عثمان إلا في حديث واحد عند الحاكم وحده2. ولخالد الحذاء رواية عن أبي عثمان بواسطة عاصم الأحول3. وقال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: خالد ما أُرى سمع من أبي عثمان كبير شيء، إنما هي أحاديث عاصم" 4 فكأنه يشير في هذه الرواية إلى أنه مدلس5، سمع من أبي عثمان شيئاً يسيراً، ثم روى الأحاديث التي سمعها من عاصم عنه بإسقاط عاصم، وهذا هو التدليس. والشاهد أن الإمام أحمد أعلّ الحديث بعدم سماع خالد الحذاء له من أبي عثمان، فدل على أن عدم السماع علة، فثبوت السماع إذاً شرط في الصحة.
د- قال عبد الله: سئل ـ أي أحمد ـ عن حديث الفريابي، عن سفيان، عن القاسم بن عبد الرحمن، أن عمر صلّى بهم ـ يعني بالناس ـ وهو جُنب1. فقال أبي: سفيان لم يسمع من القاسم بن عبد الرحمن، إنما روى عن أشعث ـ يعني ابن سوّار ـ عنه2. ذكر الإمام أحمد هذا الحديث ضمن الأحاديث التي رواها الفريابي عن الثوري وأخطأ فيها3، فبيّن وجه الخطأ بأنه عدم سماع الثوري من القاسم ابن عبد الرحمن المسعودي، وأن روايته عنه بواسطة أشعث بن سواّر، وأما روايته لهذا الأثر فبواسطة جابر الجعفي كما رواه عبد الرزاق عنه. فهذا أيضاً يدل
على أن عدم ثبوت السماع علة يعل به الحديث. هـ- قال محمد بن يحيى الذهلي: سمعت أحمد بن حنبل ـ وذكر أحاديث سالم بن أبي الجعد عن ثوْبان ـ فقال: لم يسمع سالم من ثوبان، ولم يلقه، وبينهما معدان بن أبي طلحة، وليست هذه الأحاديث بصحاح1. نفى الإمام أحمد الصحة عن أحاديث سالم بن أبي الجعد عن ثوبان، وجعل العلة في ذلك عدم السماع بينهما، والشاهد عنده على عدم السماع هو عدم اللقاء، وأن سماعه منه كان بواسطة معدان بن أبي طلحة، وسالم وإن كان كوفياً إلا أنه ذهب إلى الشام وحدث عن معدان2، وعن أم الدرداء الصغرى3. وأما ثوبان وإن كان نزل الشام4 إلا أن رواية سالم عن ثوبان بواسطة معدان بن أبي طلحة قرينة على عدم سماعه منه. فهذه النصوص أمثلة على إعلال الإمام أحمد للأسانيد بعدم سماع بعض رواتها ممن رووا عنهم، فدل على أنه يشترط ثبوت السماع لصحة الأسانيد.
المطلب الثاني: ما يدل على اكتفاء الإمام أحمد بالمعاصرة وإمكان السماع والجواب عنه
المطلب الثاني: ما يدل على اكتفاء الإمام أحمد بالمعاصرة وإمكان السماع والجواب عنه. بعد تقرير أن الإمام أحمد يذهب إلى اشتراط ثبوت السماع للحكم بالاتصال قد يعترض ببعض النصوص ظواهرها تدل على اكتفائه بالمعاصرة وإمكان اللقاء، فينتقض ما سبق تقريرُه، سأُورد ما وقفت عليه من تلك النصوص مع الجواب عليها إن شاء الله. 1. قال الأثرم: "سألت أحمد قلت: محمد بن سُوقة سمع من سعيد بن جُبير؟ قال: نعم، قد سمع من الأسود غير شيء" 1 وهذا ظاهره استدلال بسماعه من الأسود بن يزيد على سماعه من سعيد ابن جبير، فإن الأسود أقدم من سعيد، مات سنة 74هـ، وقد أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان لم يره2، بينما مات سعيد بن جبير سنة 95هـ. فلا يكون محمد بن سوقة سمع من الأسود إلا وقد سمع من سعيد، لأن كلهم من أهل الكوفة. فهذا في الظاهر استدلال بإمكان السماع من غير الوقوف على التصريح به. لكن أجاب ابن رجب عن هذا الظاهر فقال: "كأنه يقول: إن الأسود أقدم، لكن قد يكون مستند أحمد أنه وجد التصريح لسماعه منه، وما ذكره من قِدم الأسود إنما ذكره ليستدل به على صحة قول من ذكر سماعه من سعيد بن جبير، فإنه كثيراً ما يرِدُ التصريح بالسماع ويكون خطأ" 3، وهذا تعليل واضح وصحيح، فإن التصريح بالسماع كثيراً ما يكون خطأ، ومن الأمور التي تكشف خطأه عدم إمكان السماع، ومن أمثلة ذلك إنكار
الإمام أحمد لسماع قتادة من خلاد الجهني الذي رواه هدبة بن خالد، عن حماد، عن قتادة فقال أحمد: "هو خطأ، خلاد قديم، ما رأى قتادة خلاداً" 1. ويؤيد ما ذكره ابن رجب أن محمد بن سُوقة قد ثبت لقاؤه بسعيد بن جبير كما في الأثر الذي رواه ابن أبي شيبة2 أنه قال: "رأى عليّ سعيد بن جُبير طيلساناً كان فيه أزرار ديباج نزعتها، فقال: لمَ نزعتَها؟ قلت له: قال لي أصحابي: أتلبس هذا وأنت محرِمٌ؟ قال: وما يضرّك! "، بل ثبت تصريحه بالسماع منه أيضاً، وذلك فيما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن محمد بن سُوقة قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: [من أمّ هذا البيت يريد دُنيا أو آخرة أُعطيتْهُ] 3. وكذلك فيما رواه ابن عبد البر من طريق روح بن عُبادة، حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة قال: سمعت سعيد بن جبير سئل: "ما تمام عمرة؟ فقال: أن تحرم بها من أهلك"4. فما ذكره الإمام أحمد من سماعه من الأسود بن يزيد ذكره قرينة يستدل بها على صحة ما ورد من تصريحه بالسماع، لا أنه اعتمد ذلك في إثبات السماع. 2. قال ابن هانئ: "قلت: ابن إسحاق سمع من عطاء؟ قال: نعم، ابن أبي ذئب أصغر من ابن إسحاق وقد سمع من عطاء بن أبي رباح" 5. وهذا المثال على عكس الذي قبله، ففيه استدلال بسماع الصغير على سماع الأكبر منه من باب أولى وأحرى، وظاهره أيضاً اعتماد إمكان السماع لا التصريح به. والجواب عنه كالجواب عن الذي قبله، وهو أنه ذكره قرينةً للاستدلال به على
صحة ما رود من تصريح ابن إسحاق بالسماع من عطاء، فقد ورد تصريحه بالسماع من عطاء عند الإمام أحمد في حديث يعلى وسلمة ابني أمية في الرجل الذي عضّ آخر فاجتبذ يده من فيه فطرح ثنيّته وأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ديته1. 3. قال عبد الله: "قلت لأبي: قتادة سمع من عبد الله بن سرجس؟ قال: ما أشبهه، قد روى عنه عاصم الأحول" 2. وهذا أيضاً استدلال بإمكان السماع، وذلك أن عاصم بن سليمان الأحول أصغر من قتادة3، فإذا كان قد سمع من عبد الله بن سرجس فلأن يسمع قتادة من عبد الله بن سرجس من باب أولى وأحرى، فإن الثلاثة كلهم من أهل البصرة4. وقد روى عبد الله هذه المسئلة في موضع آخر فقال: "قيل: سمع قتادة من عبد الله بن سرجِس؟ قال: نعم، قد حدّث عنه هشام، يعني عن قتادة، عن
عبد الله بن سرجِس حديثاً واحداً، وقد حدّث عنه عاصم الأحول" 1، فدل على أن الإمام أحمد احتج بسماع عاصم من ابن سرجس لإثبات أن ما رواه هشام الدستوائي، عن قتادة، عن عبد الله بن سرجس2 محمول على السماع. وهذا استدلال بقرينة ثبوت سماع الأصغر على سماع الأكبر منه، إذا لم يكن هناك ما يدفعه كبعد البلدان، أو وجود رواية بالواسطة أو غير ذلك من الأسباب، ومع ذلك يبدو أن اعتماده على هذه القرينة هنا ليس بقويّ، لأننا رأينا فيما تقدم أنه كان يستأنس بمثل هذه القرينة في إثبات صحة ما ورد من التصريح بالسماع، وأما في رواية قتادة عن ابن سرجس فليس ثَمّ رواية فيها هذا التصريح فيما أعلم، ولعلّ من أجل ذلك نفى الإمام أحمد سماعه منه في رواية حرب بن إسماعيل فإنه قال: قيل لأحمد في سماع قتادة من ابن سرجِس فكأنه لم يره سماعاً3، والله أعلم. وقد أثبت علي بن المديني سماع قتادة من ابن سرجس4. ولم يخرج الشيخان حديث قتادة عن عبد الله بن سرجس5. 4. قال عبد الله: "سئل: هل سمع عمرو بن دينار من سليمان اليشكري؟ قال قُتل سليمانُ في فتنة ابن الزبير، وعمرو رجل قديم، قد حدّث عنه شعبة، عن
عمرو، عن سليمان، وأُراه قد سمع منه" 1. احتج الإمام أحمد لسماع عمرو بن دينار من سليمان بن قيس اليشكري2 بإمكان السماع لأن عمرو بن دينار قديم، فقد أدرك من الصحابة عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله وسمع منهم3، وكلهم أكبر من عبد الله ابن الزبير، وقد حدث عنه4، وكان يقول: ما رأيت مصلياً قط أحسن صلاة من عبد الله بن الزبير5. فهذا يدل على أنه أدركه. ثم إن فتنة ابن الزبير وقعت سنة 73هـ6، وأما عمرو بن دينار فمات سنة 126هـ وهو ابن ثمانين سنة7، فيكون عمره زمن الفتنة 27 عاماً، وكان مكياً، فإذا كان سليمان اليشكري قتل في الفتنة فسماع عمرو بن دينار منه شبه أمر ثابت، فقد ثبت رؤيته له، يدل على ذلك ما رواه البخاري تعليقاً مجزوماً به عن ابن عيننة، عن عمرو: رأيت سليمان8.
فهذه القرائن ليست صريحة في إثبات السماع، ولم يحتج بها الإمام أحمد لإثباته، إنما ذكرها للاستدلال بها على إثبات صحة ما ورد من التصريح بالسماع في رواية شعبة عن عمرو، عن سليمان التي ذكرها الإمام أحمد1، فقد ورد التصريح بالسماع فيما رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم عن شعبة2. 5. قال أبو داود: "قيل لأحمد: سمع الحسن من عمران؟ قال: ما أُنكره، ابن سيرين أصغر منه بعشر سنين سمع منه" 3. فهذا مثل ما تقدم ذكره في بعض الأمثلة أنه استدلال بسماع الأصغر على إمكان سماع الأكبر، وليس فيه اعتماده لإثبات السماع، لكنه هنا احتج به لعدم إنكار السماع، وإن لم يثبته. وسئل أحمد عما يدل على لقاء الحسن بعمران بن حصين، فلم ينكره ولم يثبته: قال أبو داود: "سمعت أحمد قال: خثيمة بن أبي خيثمة4 كان من أهل البصرة، سكن الكوفة وحدّث عنه الأعمش ومنصور. قلت لأحمد كيف حديثه؟
قال: ما أعلم إلا خيراً. قلت: يقول عن الحسن: كنت أمشي مع عمران بن الحصين؟ قال: شريك كذا يقول1. قلت: وجرير قال هكذا؟ 2 قال: نعم" 3. لكن قد جاء عن الإمام أحمد إنكار ذكر سماع الحسن من عمران بن الحصين. قال صالح بن أحمد بن حنبل قال: "قال أبي: الحسن قال بعضهم: "حدثني" عمران بن الحصين! يعني إنكاراً عليه أنه لم يسمع من عمران بن حصين" 4. كأن الإمام أحمد يشير إلى رواية مبارك بن فضالة حيث قال فيها عن الحسن: أخبرني عمران بن حُصين5، فإنه أنكره عليه. ويؤيد ذلك أن رواية الحسن عن عمران بن حصين تأتي أحياناً بواسطة
هياج بن عمران البرجمي1 كما روى بعضها الإمام أحمد2، وذكر أبو داود عن أحمد أنه قال: وقتادة يدخل بينهما ـ يعني الحسن وعمران ـ هياج. ا.هـ3. فالذي يتضح بعد جمع هذه النصوص عن الإمام أحمد أنه لا ينكر سماع الحسن من عمران إذا جاء التصريح به من وجه صحيح، ويكون ما ذكره من سماع ابن سيرين من عمران شاهداً له ودليلاً لقبوله، وأما حيث لم يأت ذكر السماع من وجه صحيح فلم يثبته، وأنكر على من ذكره. فليس في هذه المسئلة إذاً احتجاج الإمام أحمد بإمكان السماع كدليل على إثباته، والله أعلم. 6. قال مهنّا: "قلت لأحمد ويحيى: فسمع زيد بن وهب من حذيفة؟ فقالا: نعم، زيد بن وهب قديم" 4. فهذا ظاهره استدلال بإمكان اللقاء على إثبات السماع، فإنهما قالا: زيد بن وهب قديم، فيمكن سماعه من حذيفة. وزيد بن وهب هو أبو سليمان الجهني الكوفي رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقُبض وهو في الطريق5، فلقاء مثله بحذيفة بن اليمان ممكن جداً. لكن ما ذكره أحمد ويحيى ليس من باب الاحتجاج بإمكان اللقاء على ثبوت السماع بل هو من جنس ما قبله، ذكراه قرينة لقبول ما ورد من التصريح بسماعه من حذيفة، فقد ورد ذلك في بعض حديثه عن حذيفة6، كما ورد تصريحه بلقائه فيما رواه البخاري7: كنا عند حذيفة فقال: "ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة ... "،
وفيما رواه مسلم1: "كنت جالساً مع حذيفة وأبي موسى ... ". 7. وذكر مغلطاي عن محمد بن موسى بن مشيش أنه قال للإمام أحمد: "أبو ريحانة سمع من سفينة؟ فقال: ينبغي، وهو قديم، سمع من ابن عمر" 2. وأبو ريحانة هو عبد الله بن مطر البصري، صحب عبد الله بن عمر3، واستدل الإمام أحمد بسماعه من ابن عمر على إمكان سماعه من سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس في كلامه إثبات السماع، قال ابن رجب: "وهذا تقريب لإمكان سماعه، وليس في كلامه أكثر من هذا" 4. وقد ورد تصريحه بالسماع في الحديث الذي رواه سفينة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع" عند أحمد5، وابن المنذر6، وابن عدي7، وهو عند مسلم وغيره بالعنعنة8. وأثبت كلٌ من البخاري ومسلم سماعه منه9. فاتضح أن الإمام أحمد إنما استدل بسماع أبي ريحانة من ابن عمر على صحة قول من روى التصريح بالسماع، كأنه يقول: الواقع لا يدفع صحة سماعه من سفينة. فهذه هي النصوص التي يمكن أن يستدل بظاهرها على أن الإمام أحمد يذهب إلى الاكتفاء بالمعاصرة وإمكان اللقاء لإثبات الاتصال، وقد احتج بعض
الباحثين1 ببعضها لتقرير هذه الدعوى وبالتالي إثبات أن ما ذكره الإمام مسلم من أنها إجماع صحيح. وقد ذكرت الجواب عنها بالتفصيل، والأمر المشترك فيها كلها هو ما ذكره ابن رجب في قضية سماع محمد بن سوقة من سعيد بن جبير، وأعيد كلامه، قال: "كأنه يقول: إن الأسود أقدم، لكن قد يكون مستند أحمد أنه وجد التصريح لسماعه منه، وما ذكره من قدم الأسود إنما ذكره ليستدل به على صحة قول من ذكر سماعه من سعيد بن جبير، فإنه كثيراً ما يرِدُ التصريح بالسماع ويكون خطأ"، فلله درّ الحافظ ابن رجب! ما أتم استقرائه لكلام أحمد! وما أعرفه بمنهجه! وممن ذهب إلى اشتراط ثبوت السماع الإمام الشافعي، فقد ذكر في الرسالة: "لم يعرف التدليس ببلدنا فيمن مضى، ولا من أدركنا من أصحابنا، إلا حديثاً، فإن منهم من قبله عمن لو تركه عليه كان خيراً له. وكان قول الرجل: سمعت فلاناً يقول: سمعت فلاناً وقوله: حدثني فلان عن فلان سواء عندهم، لا يحدث واحد منهم عمن لقي إلا ما سمع، فمن عرفناه بهذه الطريق قبلنا منه حدثني فلان عن فلان، ومن عرفناه دلّس مرة فقد أبان لنا عورتَه في روايته ... فقلنا: لا نقبل من مدلّسٍ حديثاً حتى يقول فيه: حدثني أو سمعت" 2. وكذلك أضاف الحافظ ابن رجب هذا القول إلى أبي حاتم وأبي زرعة3. وهذا المذهب أشد من مذهب البخاري وعلي بن المديني، وهو اشتراط إمكان السماع، وذلك بأحد أمرين: السماع أو اللقاء4.
والمذهب الثالث لدى المتقدمين هو مذهب الإمام مسلم الذي انتصر له وانبرى لرد ما خالفه، وهو الاكتفاء بالمعاصرة وإمكان اللقاء. قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: "القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والرويات قديماً وحديثاً أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثاً، وجائزٌ ممكنٌ له لقاؤُه والسماعُ منه لكونهما جميعاً كانا في عصرِ واحدِ، وإن لم يأتِ في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام، فالرواية ثابتةٌ، والحُجّة بها لازمة، إلا أن يكون هناك دلالة بينةٌ أن هذا الراوي لم يلقَ من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئاً" 1.
المبحث الثاني: وسيلة إثبات السماع وذكر شروطها وموانعها
المبحث الثاني: وسيلة إثبات السماع وذكر شروطها وموانعها. المطلب الأول: طريق إثبات السماع بالتصريح به في السند. والمقصود بوسيلة إثبات السماع الأمر الذي يحتج به الناقد لإثبات سماع الراوي ممن روى عنه، ولما كان مذهب الإمام أحمد اشتراط ثبوت السماع فلا يُعتبر شيءٌ لإثبات السماع عنده دون التصريح به في السند، وذلك أيضاً يتقيد ببعض الشروط وانتفاء بعض الموانع. المطلب الأول: طريق إثبات السماع بالتصريح به في السند. وذلك أن يرد في إسناد صالح للاحتجاج أن فلاناً قال: سمعت فلاناً، أو حدثني، أو قال لي، أو أخبرني، أو سألته عن كذا وما إلى ذلك، فكل هذه تدل على ثبوت السماع بين الراوي ومن روى عنه، ويحتج الإمام أحمد بذلك لحمل ما ورد بالعنعنة بين الراويين على الاتصال. فمن ذلك: 1. قال صالح: "قلت: ابن أبي ذئب سمع من الزهري؟ قال: نعم، سمع منه"، وقال صالح: "حدثني أبي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن أبي ذئب قال: حدثني الزهري. وغير يحيى يقول: سألت الزهري، وهذا يحيى بن سعيد يقول: حدثني" 1. فاحتج الإمام أحمد بتصريح ابن أبي ذئب بقوله في الإسناد: حدثني الزهري، وبقوله: سألت الزهري. فإن كلتا العبارتين صريح في إثبات السماع. 2. قال ابن هانئ: "سألت أبا عبد الله: قلت: عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود سمع من أبيه؟ قال: نعم، في حديث إسرائيل يقول: سمعت أبي عبد الله" 2.
ومثله في رواية محمد بن علي بن شعيب: "سمعت أحمد بن حنبل وقيل له: هل سمع عبد الرحمن بن عبد الله من أبيه؟ فقال: أما سفيان الثوري وشريك فإنهما لا يقولان سمع، وأما إسرائيل فإنه يقول في حديث الضب: سمعت" 1. فأثبت الإمام أحمد سماعه اعتماداً على تصريح إسرائيل بذكر سماعه من أبيه في إسناد حديث الضب، وإن خالفه الثوري وشريك في عدم ذكر السماع. 3. وقال عبد الله: "سمعت أبي يقول: محمد بن سُوقة قد سمع من نافع بن جُبير، حدثناه ابن عيينة" 2. أي ورد التصريح بسماعه من نافع بن جبير فيما حدثهم ابن عيينة3. ويبدو أن الإمام أحمد أخذ هذا المنهج عن شيخه يحيى بن سعيد القطان، فقد روى صالح ابنُه، عن علي بن المديني قال: قلت ليحيى: سمع زرارة بن أوفى من ابن عباس؟ قال: ليس فيها شيء: "سمعت" 4 فمفهومه عدم إثبات السماع إذا لم يرد التصريح به في إسناد ما.
المطلب الثاني: شروط قبول التصريح بالسماع في السند
المطلب الثاني: شروط قبول التصريح بالسماع في السند. ليس كل ما ورد من تصريح بسماع راوٍ من شيخه في السند يكون مقبولاً، بل يتقيد ذلك ببعض الشروط. الشرط الأول: صحة السند. مما يدل على أن الإمام أحمد يشترط صحة الإسناد لقبول ما ورد فيه من تصريح بالسماع أنه يردّ ما ورد من ذلك بأسانيد غير صحيحة عنده. فمن ذلك: 1. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "سئل أبي: هل سمع الحسن من سُراقة؟ قال: لا، هذا علي بن زيد يعني يرويه، كأنه لم يقنع به" 1، فلم يقبله الإمام أحمد ولم يقنع به لأن الذي يرويه علي بن زيد بن جُدعان، وهو ممن لا تقوم الحجة بخبر مثله، فقد قال عنه الإمام أحمد: ليس بشيء2. وقد وافق الإمام أحمد على رد هذا الإسناد علي بن المديني قال: "وروى الحسن بن أبي الحسن أن سراقة حدّثهم في رواية علي بن زيد بن جُدعان، وهو إسناد ينبو عنه القلب أن يكون الحسن سمع من سراقة، إلا أن يكون معنى حدثهم حدث الناس، فهذا أشبه" 3. 2. قال ابن هانئ: "سمعت أبا عبد الله يُسأل: لقِي الضحاكُ ابنَ عباس؟ فقال: ما علمت. فقيل: فممن سمع التفسير؟ قال: يقولون سمعه من سعيد بن جبير. قيل له: فلقِي ابنَ عمر؟ قال: أبو سنان يروي شيئاً، ما يصح عندي. قلت: فأبو نعيم كان يقول في حكيم بن الدّيلَم عن الضحاك: سمعت ابن عمر. فقال
أبو عبد الله: ليس بشيء" 1. وهذا النص أيضاً صريح في أن الإسناد الذي تضمن ذكر التصريح بالسماع لا يقبل إلا إذا كان صحيحاً، فلم يقبل الإمام أحمد سماع الضحاك بن مُزاحِم من ابن عمر لأن ذلك لا يصح عنده، مع أن الذي يرويه هو أبو سنان ضرار بن مرّة الشيباني، قال عنه: ثقة ثقة2. وكذلك قال في رواية حكيم بن الديلم التي صرح فيها بسماع الضحاك من ابن عمر: ليس بشيء، أي لا يعتد بها لعدم صحتها، مع أنه قال في حكيم بن الديلم: شيخ صدق3. وقد قال البخاري في إسناد حكيم ابن الديلم: لا أعلم أحداً قال: سمعت ابن عمر إلا أبو نعيم4. 3. قال أبو داود: سمعت أبا عبد الله قال: "قال عبد الرحمن بن مهدي: قال وُهيب لعطاء بن السائب: سمعتَ من عَبيدة؟ قال: نعم، أراد بذلك أن عطاء لقيه وُهيبٌ وقد تغيّر، لأن عطاء لا يُعرف له سماعٌ من عَبيدة ولا لقاءٌ" 5، فلم يقبل تصريح عطاء بالسماع لكون كلامه هذا صدر منه بعد تغيّره فلا يحكم بصحته، ولذلك لم يُقبل. الشرط الثاني: عدم معارضته بمعارض راجح. إن التصريح بالسماع في الإسناد يعتبر زيادة من الذي ذكره بالنسبة للذي روى الإسناد بدونها، فيخضع قبولها لشروط قبول زيادات الرواة ـ وهو ألا يعارض ذلك رواية من هو أولى منه، فإن عارضه فالزيادة تعتبر شاذة أو منكرة.
ومن أمثلة ما جاء عن الإمام أحمد من مراعاة هذا الشرط: 1. ما تقدم من عدم قبوله لسماع الزهري من عبد الرحمن بن أزهر، وقد رواه أسامة بن زيد الليثي، لكن عارضه صالح بن كيسان وكذلك معمر، فلم يذكرا السماع، فقال الإمام أحمد عن رواية أسامة: ما أُراه حفظه، وذلك لمخالفته لمن هو أوثق منه1. 2. قال أبو داود: "سمعت أحمد بن محمد بن حنبل يقول: قال حماد بن خالد: أخرج إليّ مخرمةُ كتبَ أبيه فقال هذه كتب أبي ولم أسمع منها شيئاً. قلت لأحمد: فقول ابن أبي أُويس؟ قال: ليس ذاك بشيء ـ يعني ما حدثنا أحمد بن صالح، عن ابن أبي أويس أنه قرأ في كتاب مالك: قلت لمخرمة: إن الناس يزعمون أنك لم تسمع من أبيك؟ فقال: ورب هذه البنية لقد سمعتها من أبي" 2. لم يصحح الإمام أحمد سماع مخرمة من أبيه مع ورود ما يفيد ذلك في رواية ابن أبي أويس لمعارضتها لرواية حماد بن خالد، وهو أوثق عنده من ابن أبي أويس3. الشرط الثالث: ألا يكون مَن ذكر السماع ممن لا يرجع إلى التحقيق في ذكره، أو يكون له اصطلاح خاص في إطلاق التحديث في غير السماع، فإذا ورد التصريح بالسماع عن طريق مَن هذا وصفُه، وإن صح الإسناد إليه، فإنه يتوقف في قبوله. فمثال ذلك: قال أبو داود: "سمعت أحمد عدّ من سمع منه الحسنُ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وعدّ منهم: أحمر. قيل لأحمد: عمرُو بن تغلِب؟ فجعل يجبُن أن يعدَّه فيمن سمع منه الحسن، وقال: ليس يقوله غيرُ جرير بن حازم ـ يعني ابن حازم عن الحسن قال: حدثني عمرو بن تغلب" 1. لم يعدّ الإمام أحمد عمرو بن تغلب فيمن سمع منه الحسن البصري لأن جرير بن حازم تفرد بذكره، وجرير له سجية في ذكر السماع من غير تحقيق. قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: كان سجيةً في جرير بن حازم يقول: حدثنا الحسن، قال حدثنا: عمرو بن تغلب، وأبو الأشهب يقول: عن الحسن قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن تغلب" 2. قال ابن رجب: "يريد أن قول جرير بن حازم: نا الحسن، نا عمرو بن تغلب كانت عادة له لا يرجع فيها إلى تحقيق" 3. ولم أقف على رواية أبي الأشهب ـ وهو جعفر بن حيان ـ التي أشار إليها الإمام أحمد. وقد جاء عن الإمام أحمد من طريق ابنه صالح أن الحسن سمع من عمرو بن تغلب أحاديث4. وهذا محمول على تردده لتفرد جرير بن حازم بذكر السماع. وممن ذكره الإمام أحمد أنه كان يتساهل في إطلاق السماع مبارك بن فضالة.
قال أحمد: "مبارك بن فضالة يرفع حديثاً كثيراً ويقول في غير حديث عن الحسن قال: نا عمران، قال: نا ابن مغفل، وأصحاب الحسن لا يقولون ذلك" 1. وقد ذكر ابن رجب أن من الروة الذين يصرحون بالتحديث من غير حصول السماع: أصحاب بقية بن الوليد كما ذكره أبو حاتم عنهم، وكذلك فطر بن خليفة فيما ذكر القطان عنه. وكان القطان يهتم بهذا ولعله منه أخذ الإمام أحمد. فقد روى يحيى بن معين أنه قال ليحيى بن سعيد القطان في فطر بن خليفة: "فتعمد على قوله: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان موصول؟ قال: لا، قلت: كانت منه سجية؟ قال: نعم" 2. وذكر ابن رجب عن الإسماعيلي أن أهل الشام ومصر يتسامحون في قولهم: ثنا من غير صحة السماع3. ويلحق بهم من كان يطلق لفظ السماع على ضرب من التأويل كقول الحسن البصري أن سراقة حدثهم، أي حدث الناس4.
المطلب الثالث: قرائن تمنع من الحكم بثبوت السماع
المطلب الثالث: قرائن تمنع من الحكم بثبوت السماع. قد يرد ذكر سماع راوٍ من آخر في سند إلا أنه قد تكون هناك بعض القرائن تمنع الناقد من الحكم بثبوت السماع بينهما، وتصرف الإمام أحمد في هذا الباب يدل على مراعاة ما يلي من القرائن: 1. تصريح الراوي بأنه لم يسمع ممن روى عنه: تقدم أن الإمام أحمد روى أن جميل بن زيد الطائي قال: ما سمعتُ من ابن عمر، إنما قالوا لي: إذا قدِمتَ المدينة فاكتُب أحاديث ابن عمر. قال: فقدمتُ فكتبتُها1، مع أنه قد روى عن ابن عمر مصرّحاً بالتحديث2. وقد تقدم قول مخرمة بن بكير أنه لم يسمع من أبيه شيئاً، واعتمده الإمام أحمد في نفي سماعه من أبيه. 2. الرواية بصيغة تدل على عدم السماع: وذلك كأن يقول: نُبئت، أو حُدّثتُ ـ بالبناء للمجهول ـ أو بلغني، فإن ذلك يدل على أنه لم يسمع ما رواه ممن روى عنه. ومثال ذلك ما رواه صالح بن أحمد بن حنبل قال: "قال أبي: محمد بن سيرين سمع من أبي هريرة، وابن عمر، وأنس، ولم يسمع من ابن عباس شيئاً، كلها يقول: نُبَّئت عن ابن عباس، وقد سمع من عمران بن حُصين" 3. ونقل عبد الله عنه مثل ذلك4.
وقال حرب بن إسماعيل: قال أحمد بن حنبل: "ابن سيرين لم يجيء عنه سماع من ابن عباس" 1. وقال أبو طالب: قال أحمد بن حنبل: "مكحول لم يسمع من زيد شيئاً، إنما هو بلغه" 2 ـ يعني زيد بن ثابت. وهذا قريب من تصريح الراوي بنفيه للسماع ممن روى عنه. وإنما يحكم بعدم السماع جملة بين الراويين في مثل هذه الحالة إذا كان لم يرد تصريح بالسماع بينهما، فإن ورد ذلك في بعض الحالات يحمل ما قال من البلاغ على أنه لم يسمع تلك الأحاديث بعينها منه، ولا يحكم بعدم سماعه منه جملة. ولذلك لما حكم الإمام أحمد على عدم سماع ابن سيرين من ابن عباس قال: "كلها يقول: نُبئت"، فمفهومه لو قال في بعضها: سمعتُ أو حدّثنا، يقصر عدم السماع على ما قال فيه: نُبئت، ولا يحكم عليه بعدم السماع جملة من ذلك الشيخ. 3. ذكر الوسائط بين راويين لم يثبت التقاؤهما: قال ابن رجب: "فإن كان الثقة يروي عمّن عاصره أحياناً ولم يثبت لقيه له، ثم يُدخل أحيانا بينه وبينه واسطة فهذا يستدل به هؤلاء الأئمة على عدم السماع منه" 3، والنصوص الواردة عن الإمام أحمد في هذا كثيرة جداً، منها: أ. قال الأثرم: "قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: عبد الله بن البَهِيّ4 سمع
عائشة! ما أرى في هذا شيئاً، إنما يروي عن عروة. وقال في حديث زائدة، عن السدي، عن البهي قال: حدثتني عائشة في حديث الخمرة1، وكان عبد الرحمن قد سمعه من زائدة، فكان يدع فيه: حدثتني عائشة، وينكره" 2، فلم يُثبت للبَهيّ السماع من عائشة لأنه يروي عنها بواسطة، وذكر أن شيخه عبد الرحمن ابن مهدي الذي روى تصريحه بالسماع كان ينكر ذلك. وقال أبو داود لأحمد: "سمع البهي من عائشة؟ قال: لا، وقد قال قوم ذاك، وما أدري فيه شيء، البهي إنما يحدّث عن عروة" 3. وقد أثبت البخاري التقاؤهما4، وصحح له حديثاً تفرد به5. ومن أجل ذلك نص على سماعه من عائشة6. وأما أبو حاتم فضعف حديث البهي هذا وقال: "البهي يدخل بينه وبين عائشة عروة، وربما قال: حدثتني عائشة، ونفس البهي لا يحتج بحديثه وهو
مضطرب الحديث" 1. وفيه إشارة إلى رده لقوله: حدثتني عائشة. ولهذا الدليل نفسه يقوى القول برد ما ورد مما يدل على لقيه بعائشة. ب. قال ابن هانئ: "سمعت أبا عبد الله وذكر حديث خالد بن الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حولوا مقعدي إلى القبلة"، فقال: مرسل. فقلت له: عراك بن مالك قال: سمعت عائشة رضي الله عنها! فأنكره، وقال: عراك بن مالك من أين سمع عائشة؟ ما له ولعائشة؟ إنما يروي عن عروة، هذا خطأ. قال لي: من روى هذا؟ قلت: حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء. فقال: رواه غير واحد عن خالد الحذاء، ليس فيه سمعت، وقال غير واحد أيضاً: عن حماد بن سلمة، ليس فيه "سمعت"" 2. وعراك بن مالك قد عاصر عائشة فقد سمع من أبي هريرة3، وكان بالمدينة حتى نفاه عنها يزيد بن عبد الملك المرواني بعد استخلافه في سنة إحدى ومئة4، وذلك بعد موت عائشة قطعاً، فلا يبعد التقاؤه بها وإن لم يرد شيءٌ يُثبته، ولكن الإمام أحمد نفى سماعه منها لأن المألوف عنه أنه يروي عنها بواسطة عروة. وقد أخرج له مسلم عن عائشة5، وذلك على قاعدته في حمل إمكان
اللقاء على الاتصال. ج. قال أبو داود: "سئل أحمد: سمع قتادة من أبي رافع1؟ قال: لا يشبه، لأنه يدخل ببينهما رجلين: الحسن وخلاس" 2. وجاءت هذه الرواية عند عبد الله، قال: "سمعت أبي يقول: قال شعبة: لم يسمع قتادة من أبي رافع شيئاً. قال أبي: أدخل بينه وبين أبي رافع خلاساً والحسن. قال أبي: وقد سمع قتادة من خلاس، قال شعبة عن قتادة: سمعت خِلاساً، وقال أبان عن قتادة: حدثنا خِلاس، وهمام عن قتادة قال: حدثني خِلاس" 3. فذكر أحمد أن رواية قتادة عن أبي رافع بواسطة تدل على صحة ما ذكره شعبة من أن قتادة لم يسمع من أبي رافع، بل روى الميموني عن أحمد أن شعبة قال: لم يلق قتادة أبا رافع، إنما كتب عن خِلاس عنه4. وما ورد من تصريحه بالسماع5 محمول على عدم صحته عند الإمام أحمد لهذا المانع الذي ذكر هنا.
د. قال ابن هانئ: "قلت لأحمد: فأبو البختري سمع من على؟ قال: لا بينهما عَبيدة" 1. فنفى سماعه من علي لوجود رواية عنه بالواسطة. وأبو البَختَري هو سعيد بن فيروز الطائي2، وذكر شعبة أنه لم يدرك علياً ولم يره3. روى أحمد حديثه من طريق الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأنا حديث السنّ ... "4، فرواه شعبة عن عمرو بن مرة، سمعت أبا البختري الطائي قال: أخبرني من سمع علياً فذكره5. هـ. وسُئل الإمام أحمد عن سماع حُميد بن هِلال6 من هشام بن عامر7 فقال:
"ما أُراه سمع منه، وذاك أنه يُدخَل بينهما رجلٌ، وبعضهم يقول: أبو الدّهماء1" 2. روى ابن سعد من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن حُميد بن هلال أن هشام بن عامر قال: "إنكم تجاوزوني إلى رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا بألزم لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني ولا أحفظ مني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بين خلق آدم والقيامة فتنة أعظم من الدجّال" 3. فرواه الإمام مسلم4 من طريق عبد العزيز بن المختار، حدثنا أيوب، عن حميد بن هلال، عن رهط منهم أبو الدهماء، وأبو قتادة قالوا: كنا نمرّ على هشام بن عامر نأتي عمرانَ بنَ حُصين فقال ذاتَ يوم: إنكم لتجاوزوني إلى رجال ما كانوا بأحضر لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني ولا أعلم بحديثه مني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال". وفي رواية: "أمرٌ أكبر من الدجال". واستدل الإمام أحمد بروايته عن هشام بالواسطة على عدم سماعه منه. والرويات عن الإمام أحمد في هذا المعنى كثيرة. وقد جاء عن الإمام أحمد التوقف في سماع قتادة من يحيى بن يعمر، فقال لما سئل عن سماعه منه: "لا أدري، قد روى عنه، وقد روى عن رجل عنه" 5. ومقتضى ما ذكر من الدليل هنا أن ينفي الإمام أحمد سماعه منه، لوجود الواسطة
في الرواية بينهما، وقد روى الفضل بن زياد عن أحمد عدم سماعه منه1، ويؤيد ذلك أن قتادة يدلس2، فروايته بواسطة عمن يروي عنه أحياناً بدون واسطة تدل على احتمال إرساله عنه احتمالاً قوياً. وأما توقفه عن نفي السماع، فقد يرجع إلى قوة احتمال اللقاء بينهما، الأمر الذي يُقوي احتمالَ السماع، وذلك أن يحيى بن يعمر بصري وإنما خرج منها لما نفاه الحجاج بن يوسف إلى خراسان3، وأغلب الظن أن يكون ذلك بعد سنة 78هـ وهي السنة التي أضاف عبد الملك بن مروان إمرة خراسان إلى الحجاج4، فأقل ما يكون عمر قتادة إذ ذاك 18 سنة5، فاحتمال لقائه بيحيى بن يعمر قبل خروجه إلى خراسان قوي. والشاهد من هذا النص أن العمل بهذه القرينة قد يضعف إذا ثبت اللقاء بين الراويين أو قوي احتمال وقوعه.
ومثله توقفه في أحاديث قتادة عن سعيد بن المسيب حيث قال: "ما أدري كيف هي؟ قد أدخل بينه وبين سعيد نحواً من عشرة رجال لا يُعرفون" 1، ولقاء قتادة بسعيد بن المسيب ثابت عند الإمام أحمد2، فلم يجزم بالحكم على هذه الروايات عن قتادة عن سعيد بالإرسال بمقتضى قرينة وجود الواسطة بينهما، والعلم عند الله. 4. عدم إمكان اللقاء بين الراويين: إذا ثبت أن الراوي لا يمكن أن يدرك شيخه الذي روى عنه ـ كأن يكون الشيخ مات قبل ولادته، أو كان الراوي صغير السن عند وفاة الشيخ ـ فإن ذلك دليل واضح على عدم سماعه منه. وقد استخدم الإمام أحمد هذا الدليل لنفي سماع بعض الرواة عمن رووا عنهم، فمن أمثلة ذلك مما يرجع إلى قدم طبقة الشيخ: أ- قال أحمد في رواية هدبة، عن حماد، عن قتادة ثنا خلاد الجهني: هو خطأ، خلاد قديم، ما رأى قتادة خلاداً3.
أنكر الإمام أحمد ذكر سماع قتادة من خلاد، ودليله أن خلاداً قديم، أي فلا يمكن لقتادة إدراكه، ولا يعارض هذا التعليل بأن الزهري قد روى عن خلاد1 وقتادة والزهري قرينان، لأن الزهري وخلاد الجهني كلاهما مدني فلا يستبعد لقاؤه بخلاد بخلاف قتادة، والله أعلم. ب- قال أبو بكر الأثرم: قال أحمد بن حنبل: "قتادة لم يسمع من عبد الله ابن الحارث الهاشمي شيئاً، لأنه قديم، سمع منه عوف" 2. نفى الإمام أحمد سماع قتادة من عبد الله بن الحارث الهاشمي الملقب: بَبّة، وعلل ذلك بأنه قديم، فلا يمكن له لقاؤه، وذلك أن عبد الله بن الحارث ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم تحول إلى البصرة، ولما خرج عنها عبيد الله بن زياد بايعه أهلها، وذلك في سنة أربع وستين، وأقره عبد الله بن الزبير عليها، ثم عزله بعد سنة، وذلك في سنة خمس وستين، فخرج إلى عمان فمات بها3، ومولد قتادة كان في
سنة ستين كما تقدم، فلا يمكن له إدراكه. وفي رواية أخرى لابن سعد أخرجها ابن عساكر في تاريخ دمشق1: خرج عبد الله بن الحارث إلى عمان هارباً من الحجاج ومات بها سنة 84 هـ2 عند انقضاء فتنة عبد الرحمن بن الأشعث. والرواية الأولى هي التي ذكرها ابن سعد في النسخة المطبوعة بأيدينا. وعلى الرواية الثانية يمكن لقتادة إدراك عبد الله بن الحارث والسماع منه، وذلك أن إمرة البصرة أضيفت إلى الحجاج سنة 78هـ تقريباً كما تقدم3، فأقدم ما يكون خروج عبد الله بن الحارث في تلك السنة، وكان عمر قتادة إذ ذاك 18 سنة. وقد ذكر أحمد أن قتادة يروي عن ابنه إسحاق بن عبد الله بن الحارث4، وكذلك كان قرينه الزهري، لم يسمع منه، وإنما سمع من بنيه5. وذكر أحمد أيضاً أن عوفاً الأعرابي قد سمع من عبد الله بن الحارث، أما ابن معين فقال سمع من عبد الله بن عبد الله بن الحارث ـ أي ابنه6، وقد يكون هذا أقرب، فإن عوف الأعرابي قرين قتادة، ولد سنة تسع وخمسين7، وكلاهما بصري فإذا كان قتادة لم يسمع من عبد الله بن الحارث لأن عبد الله قديم، فكذلك عوف الأعرابي، فلعله تصحف عبد بن عبد الله بن الحارث إلى عبد الله بن الحارث
عند أحمد، والله أعلم. ومما يدل على عدم سماع قتادة من عبد الله بن الحارث غير ما ذكر هنا روايته عنه بواسطة، فإن بعض حديثه عنه بواسطة صالح أبي الخليل1، ونص ابن معبن على أن روايته عنه بواسطة أبي الخليل2. د- قال أبو طالب: قلت لأحمد بن حنبل: "ميمون بن مهران عن حكيم ابن حِزام؟ قال: لا، من أين لقيَه؟ لم يرو إلا عن ابن عباس وابن عمر" 3. نفى الإمام أحمد سماع ميمون بن مهران من حكيم بن حزام لعدم إمكان اللقاء بينهما، فحكيم بن حزام توفي سنة 54 هـ بالمدينة4، وميمون بن مهران ولد سنة أربعين5، ونشأته بالكوفة ثم نزل الرقة بالجزيرة6، فلا يمكن له إدراك حيكم بن حزام، ثم هو معروف بالرواية عمن تأخرت وفاتهم عن حكيم بنحو عشرين سنة نحو ابن عباس وابن عمر7. هـ- قال أبو الحسن الميموني: "سمعت أبا عبد الله يُسأل: رأى خلف ابن خليفة عمرو بن حُريث؟ قال: لا، لكنه عندي شُبّه عليه حين قال: رأيت عمرو بن حُريث. قال أبو عبد الله: هذا ابن عيينة، وشعبة، والحجاج لم يروا عمرو بن حُريث، يراه خلف؟ ما هو عندي إلا شُبِّه عليه. وقال في موضع آخر: رأيت خلف بن خليفة وهو مفلوج سنة سبع وثمانين ومئة قد حُمل، وكان لا
يفهم، فمن كتب عنه قديماً فسماعه صحيح" 1. وكان خلف بن خليفة يقول: رأيت عمرو بن حريث وأنا يومئذ ابن ست سنين2. ومولد خلف بن خليفة على أبعد الاحتمالات سنة 91هـ، لأنه يقول فرض له عمر بن عبد العزيز وهو ابن ثمان سنين وعمر بن عبد العزيز ولي الأمر سنة 99هـ3. ووفاة عمرو بن حريث سنة 85 هـ4. فلا يمكن على هذا أن يكون قد رآه، لأنه مات قبل ولادته. وأما استدلال الإمام أحمد في نفي رؤيته له فهو مبني على أن قرناءه ـ وهم ابن عيينة5، وشعبة6، والحجاج7 ـ لم يروه، فكيف يراه هو؟ وقد روى الإمام أحمد إنكار رؤية خلف بن خليفة لعمرو بن حريث عن سفيان بن عيينة، قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: قال رجل لسفيان: يا أبا محمد عندنا رجلٌ يُقال له خلف بن خليفة يزعم أنه رأى عمرَو بنَ حُريث فقال: كذَب، لعله رأى جعفر بن عمرو بن حريث" 8. فهذا وجه كون الأمر شُبه عليه، أي رأي جعفر بن عمرو بن حريث فظنه عمرَو بن حريث، لا سيما وقد كان خلف ابن خليفة قد اختلط كما دلّت على ذلك آخر الرواية التي ذكرها الإمام أحمد.
ومما يرجع إلى استصغار طبقة الراوي بالنسبة للشيخ: قال أحمد: "العوام بن حوشب لم يلق ابن أبي أوفى، أكبر من لقيه سعيد ابن جبير إن كان لقيه، وهو يروي عنه وعن طاوس" 1. نفى الإمام أحمد لقاء العوام بن حوشب2 بعبد الله بن أبي أوفى، لأن من هو في طبقته لا يمكنه لقاء أحد من الصحابة، وذكر أن أكبر من لقيه من كان في الطبقة الثانية من التابعين، وهم دون كبار التابعين، مثل سعيد بن جبير على خلاف في لقائه به. وقد يكون عدم إمكان اللقاء ليس من أجل كبر سن الشيخ بالنسبة للراوي عنه، بل يكون ذلك راجعاً إلى وقائع تاريخية تستوجب عدم لقائهما، مثال ذلك: أ. قال حرب بن إسماعيل: قال أحمد: "لم يسمع الحسن من ابن عباس، إنما كان ابن عباس بالبصرة والياً أيام علي رضي الله عنه" 3 وكان الحسن بالمدينة أيام علي4، وكان ابن عباس بالبصرة والياً لعلي رضي الله عنه، فلم يلتقيا. فالحسن قد سمع ممن هو أكبر من ابن عباس مثل عبد الله بن عمر، لكن المانع من اللقاء هنا ليس السنّ، بل هو هذه الواقعة التاريخية حيث كان بالمدينة أيام ما كان ابن عباس
بالبصرة. قال علي بن المديني: الحسن لم يسمع من ابن عباس، ما رآه قط، كان الحسن بالمدينة أيام كان ابن عباس بالبصرة1. وأحياناً تكون قرينة عدم إمكان اللقاء راجعة إلى اختلاف البلدان بين الراوي ومن روى عنه. قال ابن رجب: "ومما يستدل به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع والاتصال أن يروي عن شيخ من غير أهل بلده، لم يعلم أنه دخل إلى بلده، ولا أن الشيخ قدم إلى بلد كان الراوي عنه فيه. نقل مهنّا عن أحمد قال: لم يسمع زُرارة بن أوفى من تميم الداري، تميم بالشام وزُرارة بصري" 2. وتميم الداري كان بالمدينة وتحول إلى الشام بعد قتل عثمان3، ولم يُعلم أن زرارة دخل الشام4، وهو بصري وحديثه عند أهل البصرة، ولم يذكر المزي من الرواة عنه من أهل المدينة أو الشام أو الكوفة أحداً5. وذكر البخاري إسناد الحديث الذي رواه زرارة عن تميم الداري6 بسماعه منه7. وأما الإمام أحمد فيرى عدم ثبوت ما ورد من التصريح بالسماع لهذا القرينة التي ذكرها.
المبحث الثالث: صيغ الأداء وعلاقتها بإثبات الاتصال
المبحث الثالث: صيغ الأداء وعلاقتها بإثبات الاتصال. تقدم أن الألفاظ الصريحة في الدلالة على السماع مثل سمعت وحدثنا نص في الاتصال والدلالة على رواية الراوي عن شيخه بلا واسطة، ويستثنى من ذلك إطلاقها ممن عرف منه عدم التحقيق في إطلاقها في غير السماع وكان ذلك سجية له، أو له اصطلاح خاص في إطلاقها في غير السماع كالإجازة مثلاً، وقد تقدم ذلك في شروط قبول التصريح بالسماع في السند. ومن ألفاظ الأداء أيضاً "عن"، وهي ظاهرة في الدلالة على الاتصال حتى يثبت الانقطاع، ولذلك عاب الإمام أحمد على الوليد بن مسلم قوله: "عن" في إسناد منقطع ليُدخله في الاتصال. حكى الأثرم عن أحمد بن حنبل أنه سئل عن حديث المغيرة بن شعبة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله" فقال: هذا الحديث ذكرته لعبد الرحمن بن مهدي فقال: عن ابن المبارك أنه قال عن ثور: حُدِّثت عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، وليس فيه المغيرة. قال أحمد: أما الوليد فزاد فيه: عن المغيرة، وجعله ثور عن رجاء، ولم يسمعه ثور من رجاء، لأن ابن المبارك قال فيه: عن ثور: حُدِّثت عن رجاء. ا.هـ1. وقد تقدم الكلام فيما يُشترط لدلالتها على الاتصال وأنه وقع الخلاف بين الأئمة في تلك الشروط، وتقدم ذكر مذهب الإمام أحمد في ذلك، وكذلك مذهب غيره من الأئمة بإيجاز. وأما لفظة "أن" أو ما يسمى بالإسناد المؤَنَّن، وهو الذي يقول فيه
الراوي: "أنّ فلاناً قال"، فالذي ورد عن الإمام أحمد يدل على أن هناك تفصيلاً في الحكم عليه بالاتصال. قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: كان مالكٌ ـ زعمهوا ـ يرى عن فلان وأنّ فلاناً سواء، ذكر أحمد مثل حديث جابر: "أن سُليكاً جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب"، أو عن جابر، عن سُليك: "أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب" سمعت أحمد قيل له إن رجلاً قال: [عروة أنّ عائشة قالت: يا رسول الله] ، وعن عروة عن عائشة سواء؟ فقال: كيف هو سواء؟ أي ليس هو بسواءٍ" 1 فهذه الرواية عن الإمام أحمد تدل على أن الإسناد المؤنن له صورتان، ولكل منهما حكم خاص، أوضحهما ابن رجب في شرح علل الترمذي2: الصورة الأولى: أن يكون القول المحكي عن الراوي عن شيخه، أو الفعل المحكي عنه بالقول مما يمكن للراوي سماعه أو مشاهدته منه، فالحكم في هذه الحالة هو الاتصال إلا أن يكون الراوي معروفاً بالتدليس فلا يحكم حينئذ بالاتصال حتى يصرح بالسماع. وهذا ما أشار إليه الإمام أحمد فيما ذكره من رواية جابر لقصة سُليك، فإنه يمكن أن يكون جابر شهد ذلك وحضره، فقال: أن سليكاً جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب؛ ويمكن أن يكون رواه عن سُليك، فقال: عن سُليك أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب. وهناك وجه آخر لقوله: عن سُليك، وهو أن يكون قصد حكاية قصته والتحديث عن شأنه، ولم يقصد الرواية عنه. وقد حكى الدارقطني عن موسى بن هارون الحافظ أن المتقدمين كانوا يفعلون ذلك.
وكذلك في طبقة ما بعد الصحابة، فالزهري، عن سعيد بن المسيب قال: كذا، أو الزهري أن سعيد بن المسيب قال: محمول على الاتصال دون الانقطاع، لأن سماع الزهري من ابن المسيب صحيح، وذكر ابن رجب أن مراد مالك في التسوية بين "عن" و "أنّ" لعله يعود إلى هذا الذي حكاه أحمد ولم يخالفه. ونسب ابن عبد البر هذا القول إلى جمهور أهل العلم فقال: "جمهور أهل العلم على أن عن وأنّ سواء، وأن الاعتبار ليس بالحروف، وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع والمشاهدة، فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحاً كان حديث بعضهم عن بعض أبداً بأي لفظ ورد محمولاً على الاتصال حتى يتبين فيه علة الانقطاع" 1. الصورة الثانية: أن يكون ذلك القول المحكي عن المروي عنه، أو الفعل مما لا يمكن أن يكون قد شهده الراوي مثل أن لا يكون قد أدرك زمانه، فهذه الصورة التي أنكر الإمام أحمد التسوية بين: "عن عروة أنّ عائشة:" و "عن عروة عن عائشة:" وذلك أن قوله: عن عروة أن عائشة:، ظاهره مرسل لعدم إتيانه بما يبين أنه رواه عن عائشة. ومنهم من يرى أنه متصل، لأن عروة قد عُرف بالرواية عن عائشة، وهو القول الذي حكاه أبو داود للإمام أحمد. وللحافظ ابن حجر تفصيل آخر قد يكون أقرب إلى مراد الإمام أحمد، وذلك أنه فصّل بين حكاية القول وحكاية الفعل، فذكر أن حكاية القول بـ "أنّ" إذا لم يتعد لمن لم يدركه ـ بأن يقول الراوي مثلاً أن فلاناً قال لي كذا ـ فحكمها حكم "عن" بلا خلاف. وإن كانت الحكاية عن فعل فحينئذ ينظر إن كان الراوي
أدرك ذلك التحقت بحكم "عن"، وإن كان لم يدركه لم تلتحق بحكمها1. فحين قال عروة: أن عائشة قالت: يا رسول الله، لم يسند ذلك عروة إلى عائشة، ولا أدرك القصة، فلو قال: أن عائشة قالت: قلت يا رسول الله، لكان ذلك متصلاً، لأنه أسند ذلك إليها. وأما في قول عروة: عن عائشة قالت: يا رسول الله، فهو متصل لأنه أسنده إلى عائشة2. وصنيع الحفاظ حين يذكرون الفرق بين الرواية بـ "أنّ" و "عن" في باب الاختلاف في إرسال الحديث واتصاله محمول على هذا التفصيل. فمن أمثلة ذلك ما رواه الأثرم قال: "قلت لأبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ حديث سفيان، عن أبي النضر، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن حُذافة في أيام التشريق، أسنده سفيان، وقال مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حُذافة، فقال: نعم هو مرسل، وسليمان بن يسار لم يُدرك عبد الله بن حُذافة، وهم كانوا يتساهلون بين عن عبد الله بن حذافة وبين أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة، وهو مرسل، قلت لأبي عبد الله: وحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه يخطب ميمونة، قاله مالك، وقال مطر: عن أبي رافع. فقال: نعم وذاك أيضا" 3. ففرّق بين رواية سفيان الثوري4، عن أبي النضر، عن سليمان بن يسار،
عن عبد الله بن حذافة، وبين رواية مالك1، عن أبي النضر، عن سليمان بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة؛ فجعل الأولى مسندة لأنه أسند القصة إلى عبد الله بن حُذافة، وجعل الثانية مرسلة لأنه لم يسندها ولم يشهدها قطعاً2. وكذلك وافق الإمامُ أحمد الأثرمَ على اعتباره للاختلاف الذي بين رواية مالك، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع مولاه ورجلاً من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن يخرج3؛ وبين رواية مطر الوراق، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال وكنت الرسول بينهما"4 أنه من هذا الجنس: حيث تكون الأولى بـ "أنّ" مرسلة،
والثانية بـ "عن" مسندة. وذكر الإمام أحمد أن المتقدمين كانوا يتساهلون في عدم التفرين بين العبارتين، مع أنهما عنده ليستا بسواء ولا حكمهما بواحد، فكأنهم يفعلون ذلك على وجه التسامح وعدم التحرير1. ومثل هذا الإعلال إعلال الدارقطني لما أخرجه البخاري عن عبد الله ابن يوسف، عن الليث، عن يزيد، عن عِراك، عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر2، قال الدارقطني: وهذا مرسل3. ووجه الإرسال واضح، حيث قال عروة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة"، لأنه لم يشاهد القصة ولا أسندها عن عائشة، بخلاف ما لو قال: عن عائشة4. ومثله أيضاً ما ذكره ابن أبي حاتم: "سمعت أبي يقول وذكر حديثا روى هشيم عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن سعيد بن العاص، أخبرنا سيابة السلمي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: أنا ابن العواتك". قال أبي: حدثنا بعض أصحاب هشيم، عن هشيم، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن سعيد بن العاص، قال
أخبرنا سيابة بن عاصم السلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبي: هذا أشبه، قال: وهذا الحديث دليل على أن سيابة ليس هو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " 1.
الفصل الثاني: الإعلال بما يخل باتصال الأسانيد
الفصل الثاني: الإعلال بما يُخل باتصال الأسانيد المبحث الأول: الإعلال بالإرسال. المطلب الأول: معنى الإرسال عند الإمام أحمد. ذُكر للإرسال في اللغة عدة إطلاقات، وكلها تصلح أصلاً لمعنى الإرسال الاصطلاحي1: فقيل إن أصله من قولهم: أرسلت كذا إذا أطلقته ولم تمنعه، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [مريم:83] ، فكأن المرسل أطلق الإسناد ولم يقيده براوٍ معروف. الثاني: أنه من قولهم: جاء القوم أرسالاً، أي قطعاً متفرقين، فإن الرسل معناه القطيع من كل شيء، والجمع أرسال2. فكأنه تصور من هذا اللفظ الاقتطاع، فقيل للحديث الذي قطع إسناده وبقي غير متصل مرسل، أي كل طائفة منهم لم تلق الأخرى ولا لحقتها. الثالث: أنه من الاسترسال إلى الإنسان3، وهو الاستئناس والطمأنينة إليه، ومنه حديث: "من استرسل إلى مؤمن فغبنه كان غبنه ربا"4، فكأن المرسِل للحديث اطمأنّ إلى من أرسل عنه ووثِق به لمن يوصله إليه. الرابع: أنه من قولهم ناقة مِرسال، أي سريعة السير5، فكأن المرسِل للحديث أسرع فيه عجلاً فحذف بعض إسناده.
وأما في الاصطلاح فالذي ورد عن الإمام أحمد أن الإرسال هو الرواية بإسقاط الواسطة بين الراوي ومن روى عنه، ويدل على ذلك أنه قال في صنيع ابن جريج في الأحاديث التي يرويها مصرِّحاً بإسقاط الواسطة إن ذلك إرسال. قال عبد الله: "قال أبي: رأيت سنيداً عند حجاج بن محمد وهو يسمع كتاب "الجامع" ـ يعني لابن جريج ـ فكان في الكتاب: ابنُ جُريج قال: أُخبرتُ عن يحيى بن سعيد، وأُخبرتُ عن الزهري، وأُخبرتُ عن صفوان بن سُليم. فجعل سُنيد يقول لحجاج: قل يا أبا محمد: ابن جريج، عن الزهري، وابن جُريج، عن يحيى بن سعيد، وابن جُريج، عن صفوان بن سُليم، فكان يقول له: هكذا ولم يَحمَدهُ أبي فيما رآه يصنع بحجاج وذمّه على ذلك. قال أبي: وبعض هذه الأحاديث التي كان يُرسلها ابنُ جُريج أحاديث موضوعة، كان ابنُ جُريج لا يُبالي من أين يأخذه ـ يعني قوله: أُخبرت، وحُدِّثتُ عن فلان" 1، فسمّى رواية ابن جُريج بقوله: أُخبرتُ، وحُدِّثتُ بأنه إرسال، والرواية بهذه الصورة صريحة في إسقاط الواسطة. وبالتتبع للنصوص التي وقفت عليها عن الإمام أحمد وجدت له عدة إطلاقات للإرسال، وهي ترجع إلى أربع معانٍ، تندرج كلها تحت معنى واحد، وهو الرواية بإسقاط الواسطة بين الراوي ومن روى عنه. الأول: ما رواه التابعي بإسقاط الصحابي، ومن ذلك: 1. قال الإمام أحمد: وحدثنا عفّان، حدثنا حمّاد، عن عمّار بن أبي عمّار، مرسل ليس فيه ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة ... فذكر عفان الحديث2.
وعمار بن أبي عمار تابعي قد رأى جابر بن عبد الله1، فسمى الإمام أحمد روايته بإسقاط ابن عباس مرسلة. 2. وقال أيضاً: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، مرسل ليس فيه ابن الزبير2، يشير إلى إسناد حديث عبد الله بن الزبير: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي حواريّ، والزبير حواري وابن عمّتي" رواه يونس، عن حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، ورواه سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه ليس فيه ابن الزبير، فسماه مرسلاً لإسقاط الصحابي من السند. 3. وقال عبد الله: "حدثنا بعض الكوفيين قال: حدثنا حفص بن غِياث، عن ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خمروا وجوه موتاكم، ولا تشبهوا بيهود"، فحدّثت به أبي فأنكره وقال: هذا أخطأ فيه حفص فرفعه، وحدثني عن حجاج الأعور، عن ابن جريج، عن عطاء مرسل" 3. فسمى رواية عطاء بإسقاط ابن عباس مرسلة، وفي هذا أيضاً إطلاق الرفع على الرواية الموصولة. الثاني: رواية الراوي عمّن لم يلقه سواء عاصره أو لم يُعاصره، ومن ذلك: 1. قال الأثرم: "قلت لأبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ روى يزيد ابن يزيد بن جابر عن عبد الملك بن أبي بكر، عن عمر في زكاة الدين. قال: نعم، عبد الملك بن أبي بكر، عن عمر مرسل" 4 عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام المخزومي لم يدرك عمر، لأن أباه أبو بكر بن عبد الرحمن
ابن الحارث بن هشام ـ أحد الفقهاء السبعة ـ ولد في خلافة عمر1، وجده عبد الرحمن بن الحارث تربى في حجر عمر2، فلم يعاصر عبد الملك عمر قطعاً، فسمى الإمام أحمد حديثه عنه مرسلاً. 2. تقدم أن الإمام أحمد قال في حديث عراك عن عائشة: إنه مرسل، وعراك أدرك عائشة لكن لم يثبت لقاؤه بها ولا سماعه منها، فقال في روايته عنها: مرسل. ورواية الراوي عمن لم يعاصره من الانقطاع الجلي، وروايته عمّن لم يلقه من الانقطاع الخفي، وهو صورة الإرسال الخفي عند ابن القطان3، والحافظ ابن حجر4، فإن الإرسال الخفي يظهر بعدم اللقاء وكذا بعدم السماع5، وهو عند غيرهما إحدى صورتي التدليس6. الثالث: رواية الراوي عمن لقيه ولم يسمع منه: ذكر الخلال في العلل عن حنبل: "ذكرت لأبي عبد الله ـ يعني أحمد ـ حديث الأعمش عن أنس فقال: لم يسمع الأعمش من أنس، لكن رآه، زعموا
أن غياثاً حدث الأعمش بهذا1 عن أنس" 2 وقال الخلال: حدثنا مهنّا قال: "سألت أحمد: لم كرهتَ مراسيل الأعمش؟ قال: كان لا يبالي عمّن حدّث. قلت له: كان رجلٌ ضعيف سوى يزيد الرقاشي، وإسماعيل بن مسلم؟ قال: نعم، كان يحدّث عن غياث بن إبراهيم، عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الحاجة أبعد] . سألته عن غياث بن إبراهيم فقال: كان كذوباً" 3. فسمى رواية الأعمش عن أنس مرسلة، مع رؤيته لأنس بن مالك، وأن العلة في ردها أنه يروي عنه بواسطة رواة ضعفاء ومتروكين مثل غياث بن إبراهيم، ويزيد الرقاشي، وإسماعيل بن مسلم. وهذه هي الصورة الثانية للإرسال الخفي. الرابع: رواية الراوي عن شيخ لقيه وسمع منه ما لم يسمع منه: قال عبد الله: "قال أبي: ما سمع سفيان الثوري من أبي عون غير هذا الحديث الواحد ـ يعني حديث الوضوء مما مسّت النارٌ ـ والباقي يرسلها عنه" 4. وهذه صورة التدليس، فأطلق الإمام أحمد الإرسال على التدليس لما تضمن كلٌ منهما من إسقاط الواسطة. وقد جاء ذلك صريحاً في رواية الفضل بن زياد، عن أحمد قال: "كان مبارك ـ أي ابن فضالة ـ يُرسل عن الحسن. قيل: يُدلِّس؟ قال: نعم. قال: وحدّث يوماً عن الحسن بحديث فوُقف عليه فقال: حدثنيه
بعض أصحاب الحديث عن أبي حرب، عن يونس" 1 وإنما أطلق الإرسال على التدليس لأن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً، فكل تدليس إرسال ولا ينعكس. وقد ذكر الخطيب أنه لا خلاف بين أهل العلم أن رواية الحديث بالصور الثلاث التي تقدم ذكرها بإدراج الصورة الثالثة في الصورة الثانية أنه إرسال2.
المطلب الثاني: الإعلال بإسقاط الصحابي
المطلب الثاني: الإعلال بإسقاط الصحابي. الإعلال بهذا من الإعلال بالإرسال الجلي، وتحته مسائل: المسألة الأولى: الصحبة وما تثبت به عند الإمام أحمد. ذكر الحافظ ابن حجر أن التعريف المبني على الأصح المختار عند المحققين كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل ومن تبعهما هو أن الصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على الإسلام1. وذكر عبدوس2 في مسائله عن أحمد: "كل من صحِبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعةً أو رآه فهو من أصحابه، له من الصُّحبة على قدر ما صحِبه ... ومن رآه بعينه وآمن به ولو ساعةً أفضل بصحبته من التابعين ولو عملوا كل أعمال الخير" 3. قال المجد أبو البركات ابن تيمية: وإليه ذهب أصحابنا4. ومما يدل على اعتباره الرؤية مقتضية للصحبة ما رواه ابن هاني قال: "سئل ـ يعني أبا عبد الله أحمد بن حنبل ـ هل سمع يحيى بن أبي كثير من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، قد سمع من السائب بن يزيد، والسائب قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم " 5 فاستدل لصحبة السائب بن يزيد برؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم.
وعبر باللقاء ليشمل فيمن لقيه من طالت مجالسته أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يعز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى1 ولمعرفة الصحبة ـ في حق ما عدا من ثبتت صحبتُه بالتواتر أو الشهرة أو الاستفاضة ـ طرق ترجع إلى ثلاثة أمور: الأول: مجيء ما يدل على لقائه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يدل عليه تصرف أئمة الحديث بما فيهم الإمام أحمد في تخريج أحاديث هذا الضرب في مسانيدهم على أنهم صحابة. فمن أمثلة ذلك عند الإمام أحمد إفراده لدُكين بن سعيد الخَثعَمي بمسند في كتابه المسند، وأورد حديثه الذي فيه دلالة على لقائه بالنبي صلى الله عليه وسلم من طريق وكيع، ومحمد ويعلى ابني عبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن دُكين بن سعيد الخَثْعَمي قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربعون وأربع مئة نسأله الطعام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "قُمْ فأعطهم" 2. وكذلك صدّر مسند معن بن يزيد السلمي بحديث يدل على لقائه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: حدثنا مصعب بن المِقدَام، ومحمد بن سابق قالا: حدثنا إسرائيل، عن أبي الجويرية أن معن بن يزيد حدّثه قال: [بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي وجدي، وخطب عليّ فأنكحني ... ] الحديث3.
وكذلك أفرد لنُمير الخزاعي مسنداً وذكر له حديثاً واحداً يدل على رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم، رواه عن وكيع: حدثنا عصامُ بن قُدامة البجلي، عن مالك بن نُمير الخُزاعي، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً يده اليُمنى على فخِذِهِ اليُمنى في الصلاة يشير بأصبعه"1. ولما ذُكر له حديث عَرْفجة2 بن شُريح الأشجعي ذكر اختلاف الرواة في اسم أبيه، ثم ذكر رواية شعبة التي تدل على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وأوردها في مسنده، وليس له غير تلك الرواية3. والحديث ذكره الخلال4 قال: "جعفر الصائغ، حدثنا حسين بن محمد المروذي، ثنا شيبان، عن زِياد بن عِلاقة، عن عرْفجة بن شريح الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون بعدي هَناتٌ5 وهَناتٌ ـ ممدودة ـ فمن رأيتموه يُفرِّق أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي جميع فاقتلوه كائناً من كان من الناس" 6. قال الأثرم: ذُكر هذا الحديث عند أبي عبد الله فقال: كان أبو نُعيم يرويه عن شيبان يقول:
ابن صُريح، وقال بعضهم: شُرَيح، وقال بعضهم: شُرْيح، وأما شعبة فلم ينسبه وقال فيه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ". وذكر عبد الله أنه وجد في كتاب أبيه1: من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء، فذكرهن على حسب أنسابهن وبلدانهن، واعتمد في إثبات صحبة بعضهن بما ورد في أحاديثهن مما يدل على لقائهن بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله: وامرأة من الأنصار قالت: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا آكل بشمالي"؛2 وجدة عبد الرحمن بن أبي عمرو ـ ويقال لها: كُبيشة، ويقال: كبشة ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها قِربة معلقة3؛ وأم ورقة بنت عبد الله بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزورها كل جمعة4. وأما من نفى عنه الصحبة ولم يرد ما يدل على لقائه بالنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان له رواية فإنه لا يذكر له مسنداً5، وذلك مثل دَغْفَل بن حَنْظَلَة، فإنه قد روى حرب بن إسماعيل أنه قال لأحمد بن حنبل: "دغفَل بن حنظَلة له صُحبة؟ قال: ما أعرفُهُ" قال ابن أبي حاتم: يعني ما يعرف له صحبة أم لا6. وقال الأثرم عن أحمد بن حنبل: "قد سمعتُ منه ـ يعني معاذ بن هِشام ـ حديث دَغفَل بن حنظَلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قُبِض وهو ابنُ خمسٍ وستين. قلت
لأبي عبد الله: دغفَل بن حنظَلة له صُحبة؟ فقال: لا، ومن أين له صُحبة، هذا كان صاحب نسب. قيل لأبي عبد الله: رُوي عنه غير هذا الحديث؟ فقال: نعم، حديث آخر يرويه أبان العطار: "كان على النصارى صوم" قال أبو عبد الله: لا أعلمه رُوي عنه غيرُهما" 1. وليس في الحديثين اللذين رواهما ما يدل على لقائه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يذكره الإمام أحمد في مسنده. ومثله أيضاً مطر بن عُكامِس، نقل إسحاق بن منصور عنه أنه قال: لا صحبة له2. وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه: هل له صحبة؟ فقال: لا يُعرف. قلت: فله رواية؟ قال: لا أدري3. ولم يخرج الإمام أحمد له في المسند، وأخرج عبد الله حديثه في زياداته على المسند4، وليس فيه ما يدل على لقائه بالنبي صلى الله عليه وسلم. وأما من نفى عنه الصحبة ثم ذكر حديثه في مسنده، فهو ممن قد ورد عنه ما يدل على رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم، ونفيه لصحبته محمول على الصحبة الخاصة بالسماع والرواية. مثال ذلك مسلمة بن مخلَّد، فقد روى أبو طالب عنه أنه قال: ليست له صحبة. وروى حديثه في المسند، وجاء في روايته ما يدل على أن له لقيًّا، وهو ما قرأه عبد الله على أبيه: حدثنا عباد بن عباد، وابن أبي عدي، عن ابن عون، عن مكحول أن عقبة أتى مسلمة بن مُخلَّد، وكان بينه وبين البَّواب شيء، فسمع صوته فأذن له فقال: إني لم آتك زائراً، ولكني جئتك لحاجة، أتذكر يوم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من علم من أخيه سيئة فسترها ستره الله عز وجل يوم القيامة؟ " فقال: نعم. قال: لهذا جئت. قال ابن أبي عدي في حديثه: ركب عقبة بن عامر إلى مسلمة بن مُخلَّد وهو أمير على مصر" 1. وهناك حديث آخر يدل على أن له رؤية، رواه ابن أبي عاصم2، والطبراني3 من طريق وكيع عن موسى بن علي عن أبيه عن مسلمة بن مخلَّد رضي الله عنه قال: "وُلِدتُ حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم ومات وأنا ابن عشر" وخالفه عبد الرحمن ابن مهدي عن موسى بن علي بالإسناد نفسه وقال في لفظه: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأنا
ابن أربع ومات وأنا ابن أربع عشرة" رواه أحمد1، والطبراني2. قال الطبراني: وحديث عبد الرحمن بن مهدي عندي الصواب والله أعلم. فنفيُ الإمام أحمد لصحبته مع روايته لهذا الحديث الذي يدل على أن له رؤية هو الذي جعل الحافظ ابن حجر يُؤوِّل النفي بأن المنفي هو الصحبة الخاصة3، وليس أصل الصحبة. وقد ينفي عن الرجل سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ثم يورده في مسنده ويذكر له أحاديث لمِا له من إدراك للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك مثل عبد الرحمن بن غنم الأشعري، أفرده الإمام أحمد بالذكر في مسنده4 وذكر له أحاديث ليس في واحد منها تصريحه بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم أو ما يدل على لقائه به، وقد نص على عدم سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ذكر أنه أدركه. قال حرب بن إسماعيل: "سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: عبد الرحمن بن غنم قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه" 5. ومثال آخر هو طارق بن شهاب، أدخله في مسنده وأورد له عدة أحاديث منها ما يدل على أن له اللقيا، وهو حديث شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: [رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت في خلافة أبي بكر
وعمر بضعاً وأربعين أو بضعاً وثلاثين من بين غزوة وسرية"1. وقد ذكر غير واحد عدم سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم 2، والأحاديث التي رواها عنه الإمام أحمد في مسنده ليس في واحد منها التصريح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: من طرق إثبات الصحبة تصريح أحد الصحابة أو أحد التابعين أن فلاناً له صحبة، وهذا كما قال ابن حجر بناء على قبول التزكية من واحد، وهو الراجح. ومن أمثلة ذلك سنان ين سِنّة، ذكره الإمام أحمد في مسنده، وروى حديثه حكيم بن أبي حرة3 فقال: عن سنان بن سنّة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الطاعم الشاكر له مثل أجر الصائم الصابر" 4. ومن ذلك أيضاً شرحبيل بن أوس5، أفرد له مسنداً، وذلك أن نمران ابن مخمر6 روى عنه وقال في حديثه: عن شرحبيل بن أوس وكان من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم 1. وكذلك أفرد لحابس بن سعد الطائي2 مسنداً، وروى من طريق عبد الله ابن غابر الألهاني3 قال: "دخل حابس بن سعد الطائي من السحر ـ وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ". ولم يورد له رواية4. ومما يدل على اعتبار الإمام أحمد هذا الطريق من طرق إثبات الصحبة احجاجه بقول رجل من التابعين: "حدثني رجل من الصحابة" قال الأثرم: "قلت لأبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ إذا قال رجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث صحيح؟ قال نعم" 5 فإذا صحح قوله مع عدم تعيين وتعريف بالصحابي، فلأن يصححه معهما من باب أولى وأحرى، والله أعلم. الثالث: إخبار الرجل عن نفسه بأنه صحابي. ومن أمثلة ذلك عبد الله ابن عمرو بن أم حرام6، ذكره الإمام أحمد في مسنده7، وجاء في حديثه الذي
ذكره في مسنده قال: إبراهيم بن أبي عبلة1: [رأيت أبا أُبيّ الأنصاري ـ وهو ابن أبي حرام الأنصاري ـ فأخبرني أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعاً، وعليه كساءٌ خزٍّ أغبر] . فإخباره عن نفسه بأنه صلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على صحبته، فاعتمد ذلك الإمام أحمد فذكره في مسنده فدل على أنه يعتبره صحابياً، ولم يذكر له حديثاً مسنداً غير هذا الذي يدل على صحبته. المسألة الثانية: ما يقدح في ثبوت الصحبة. قد يرِد ما يدل على ثبوت الصحبة للراوي، ومع ذلك يأتي عن الإمام أحمد التصريح بعدم ثبوت صحبته، مما يدل على أن هناك ما يقدح في ذلك الدليل. ومن الأمور التي يمكن أن تعتبر من القوادح لدى الإمام أحمد فيما يُثبت الصحبة ما يأتي: القادح الأول: ورود ما يُثبت الصحبة بطريق معلول. مثال ذلك ما رواه أبو داود قال: قلت لأحمدَ: كُديرٌ الضَّبي له صُحبة؟ فقال: لا، قلت: زُهير يقول: إنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو إن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ـ أعني في حديث زُهير، عن أبي إسحاق، عن كُدير الضَّبي؟ فقال: زُهير سمِع من أبي إسحاق بآخرَة2. الحديث الذي يدل على صحبة كُدير الضبي هو ما رواه زهير بن معاوية الجعفي3، عن أبي إسحاق السَّبِيعي، عن كُدير أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه أعرابي
فقال: يا رسول الله! دُلَّني على عملٍ يُدخلني الجنة. قال: "تقول العدلَ، وتُعطي الفضْلَ". قال: يا رسول الله! فإن لم أستطع؟ قال: "فهل لك من إبِل"؟ قال: نعم. قال: "فاعهَدْ إلى بعير من إبلك وسِقاء فانظر إلى أهل بيتٍ لا يَشربون الماء إلا غِباًّ فإنه لا يَعطُب بعيرُك ولا يَنحَر سِقاؤك حتى تجب لك الجنة" 1. ومع ذلك لم يُثبت الإمام أحمد صحبة كدير الضَّبي لوجود قادح يقدح في صحة هذه الرواية، وهذا القادح هو سماع زهير من أبي إسحاق بآخرة، وكان أبو إسحاق قد تغير. قال الميموني: "قلت لأبي عبد الله: من أكبر في أبي إسحاق؟ قال: ما أحد في نفسي أكبر من شعبة فيه، ثم الثوري. قال: وشعبة أقدم سماعاً من سفيان. قلت: وكان أبو إسحاق قد تأخر؟ قال: إي والله! هؤلاء الصغار، زهير وإسماعيل يزيدون في الإسناد وفي الكلام" 2. ويشهد لصحة هذه العلة أن شعبة والأعمش قد رويا الحديث عن أبي إسحاق، عن كُدير الضبي: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال ... فذكراه3 وتابعهما فطر بن خليفة4، ومعمر5، وإسرائيل بن يونس
ابن أبي إسحاق1، وزيد بن أبي أنيسة2، وسفيان الثوري3. ففي حديثهم أن الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم هو رجل آخر، وليس كُدير الضبي، فالصحبة لذالك الرجل وليست لكُدير. وقد يُعترض على هذه العلة بأن الشيخين رويا لزُهير بن معاوية من روايته عن أبي إسحاق4، فلماذا لا تُعتمد روايته هذه؟ فالجواب أن روايته جاءت مخالفة لرواية من ذُكر عن أبي إسحاق، ومنهم من كان سماعهم منه قبل الاختلاط كشعبة، وسفيان، وإخراج الشيخين له من روايته عن أبي إسحاق مما توبع عليها كلها5. وممن يعتبر هذا القادح من القوادح في ثبوت الصحبة الإمام أبو حاتم الرازي. روى عنه ابنه أنه قال: سلامة بن قيصر الحضرمي الشامي ليس حديثه من وجه يصح ذكر صحبته. قال ابن أبي حاتم: قلت: وذلك أنه روى ابن لهيعة، عن زبان بن فائد، عن لهيعة بن عُقبة، عن عمرو بن ربيعة، عن سلامة بن قيصر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من صام يوماً ابتغاء وجه الله ... " 6، فلم يثبت هذا الحديث لأنه من رواية ابن لهيعة، وبالتالي لم تثبت صحبته، لأن الطريق الذي يفيد ذلك معلول. القادح الثاني: وجود قرينة خارجية مرجحة لنفي الصحبة، وذلك حيث وقع الاختلاف في الدليل الموجب للصحبة بما يقتضي إثباتها أو نفيها. مثال ذلك
صحبة الحكم بن سفيان الثقفي، قال الإمام أحمد: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي الحَكَم أو الحَكَم بن سفيان الثقفي قال: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالَ ثم توضأ ونضح فرجه". حدثنا أسود بن عامر، قال: قال شرِيك: سألت أهل الحَكَم بن سفيان، فذكروا أنه لم يُدرِكِ النبي صلى الله عليه وسلم 1. هذا الحديث هو الذي استدل به من أثبت صحبة الحكم بن سفيان، ولكنه اختلف فيه، وأشار عبد الله بن أحمد بن حنبل إلى هذا الاختلاف في المسند حيث قال: ورواه شعبةُ ووُهيب، عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال غيرهما: عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم..ا. هـ2. فوقع اختلاف هل الصحبة له أو لأبيه؟ فمن أثبت صحبته رجح رواية الحكم بن سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم 3.
ومن نفى صحبته رجح رواية الحكم بن سفيان، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم 1.
وأشار الإمام أحمد إلى قرينة خارجية ترجح نفي الصحبة، وذلك فيما ذكره عن شريك القاضي عن أهل الحكم أنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم. ولم أقف عن أحمد على التصريح بنفي الصحبة عن الحكم، وإن كان الحافظ ابن حجر نسب إليه ذلك القول1، وصنيعه بذكر تلك القرينة مؤيدة لما ذكره الحافظ. والإمام البخاري أيضاً
استدل بالقرينة نفسها لنفي الصحبة عن الحكم بن سفيان1. وكذلك نقل الحافظ ابن حجر عن الخلال عن ابن عيينة أن الحكم ليست له صحبة2. وقال أبو حاتم الرازي: الصحيح مجاهد عن الحكم بن سفيان، عن أبيه، ولأبيه صحبة3. وأثبت صحبته أبو زرعة الرازي وقال: الصحيح: مجاهد، عن الحكم ابن سفيان وله صحبة4. وكذلك إبراهيم الحربي5، وابن حبان6، وابن عبد البر7. القادح الثالث: أن يكون الراوي معروفاً بالرواية عن الصحابة. الأصل في رواية الصحابي أن تكون عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية التابعي عن الصحابة، فمن عرف بالرواية عن الصحابة قوي الظن بأنه من التابعين، فيعتبر ذلك قرينة لنفي الصحبة عمن عُرف ذلك منه. وقد استعمل الإمام أحمد هذه القرينة لنفي الصحبة عن بعض الأعلام، فمن ذلك ما رواه أبو داود: قال أبو داود: قلت لأحمد: عمرو بن الحارث خَتْنُ النبي صلى الله عليه وسلم له صحبة؟ قال: لا، هو ابن المصطلق، يروي عن ابن مسعود8. في هذه الرواية ينفي الإمام أحمد صحبة عمرو بن الحارث، وعلل ذلك بأنه معروفٌ بالرواية عن ابن مسعود. وعمرو بن الحارث هو ابن أبي ضرار أخو
أم المؤمنين جُويرية بنت الحارث. ذكره الإمام أحمد في مسنده1، وأورد له حديثين ليس في واحد منهما ما يدل على لقائه بالنبي صلى الله عليه وسلم. وله رواية عن ابن مسعود، وعن زينب امرأة ابن مسعود، وهذه القرينة التي اعتمدها الإمام أحمد لنفي صحبته. ويحتمل أن تكون الصحبة المنفية هي الصحبة المقترنة بالسماع، لكن لا يمكن الجزم بذلك، حيث لم أقف على ما يدل على أن له الإدراك. وقد ذكر ابن سعد عمرو بن الحارث في الطبقة الأولى من أهل الكوفة بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن له رواية عن عبد الله بن مسعود2. وأثبت الإمام البخاري صحبته3، ولما سئل أبو حاتم: هل له صحبة؟ قال: يدخل في المسند4. وهذه العبارة يستعملها أبو حاتم أيضاً فيمن ثبتت له الرؤية دون السماع. وممن ورد عنه اعتبار هذه القرينة من الأئمة للقدح في ثبوت الصحبة أبو حاتم الرازي. قال ابن أبي حاتم: "سمعت أبي يقول: حجاج بن حجاج ليست له صحبة، ومما يدل على ذلك أنه يروي عن أبي هريرة، وعن أبيه" 5. وقال أيضاً: "سألت أبي عن خالد بن كثير، يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ليست له صحبة. قلت: إن أحمد بن سنان أدخله في "مسنده"! فقال أبي: خالد بن كثير يروي عن الضحاك، وعن أبي إسحاق الهمداني" 6.
المسألة الثالثة: التفريق بين الصحبة المقترنة بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم والمجردة منه. تقدم عن الإمام أحمد أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي عنده ثبوت صحبة الرائي، لكن ورد عنه نفيه للصحبة عن بعض من ثبتت لهم الرؤية، فأوجب ذلك طلب التوفيق بين الأمرين. ومن أمثلة من ورد عنه أنه أثبت صحبته ثم نفى سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم: 1. عبد الله بن يزيد الأنصاري الخطمي1. روى أبو داود قال: سمعت أحمد بن محمد بن حنبل يقول: كان عبد الله بن يزيد ـ يعني الخَطْمي والي الكوفة ـ فقيل لأحمد: سمع من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: رؤية يقولون2. وقال الأثرم: "قيل لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: ليست لعبد الله بن يزيد صحبة صحيحة؟ فقال: أما الصحيحة فلا، ثم قال: شيء يرويه أبو بكر بن عياّش، عن أبي حَصِين، عن أبي بردة، عن عبد الله بن يزيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم. وضعفه أبو عبد الله وقال: ما أرى ذاك بشيء" 3. دل سؤال أبي داود للإمام أحمد على أنه كان يثبت لعبد الله بن يزيد الإدراك للنبي صلى الله عليه وسلم دون السماع منه. ومما ورد عنه من تنصيص على أن له الإدراك ما رواه ابنه عبد الله4 عنه قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن يزيد الأنصاري وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أيضا: حدثنا
أبو كامل والحسن بن موسى، قالا: حدثنا زُهير، قال: حدثنا أبو إسحاق أن عبد الله بن يزيد الأنصاري قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم 1. وهذان الإسنادان صحيحان. وهذا يدل على أن مجرد الإدراك للنبي صلى الله عليه وسلم عند الإمام أحمد لا يقتضي ثبوت السماع منه وخاصة إذا وجدت قرائن تدل على أن ذلك الإدراك لا يمكن أن يكون معه سماع صحيح كالإدراك حال الصغر. ولعل القرينة في عبد الله بن يزيد الخطمي هي ما ذكره مصعب الزبيري أن عبد الله بن يزيد هو الذي قتل الأعمى أمَّه وهي التي كانت تسبُّ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الطفل الذي سقط بين رجليها2. وخالفه الواقدي، فذكر أن الأعمى هو عُمير بن عدي، وأنه قتل عصماء بنت مروان، وكانت تحت يزيد بن حِصن، وهو والد عبد الله بن يزيد الخطمي وكانت تحض على المسلمين وتؤذيهم فجعل عُمير بن عدي نذراً أنه لئن رد الله رسولَه صلى الله عليه وسلم سالماً من بدر ليقتلنّها، ثم ذكر قصة قتله ابنها3، وأنه كان لها من
ولدها من ترضعه فنحى الصبي عنها ثم قتلها. وقد اعتمد هذا ابن بشكوال1، فإن ثبت أن عبد الله بن يزيد هو الذي وقعت لأمه هذه القصة فلا شك من كونه صغيراً حين مات النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح سماعه منه. وأما النص الثاني الذي فيه سؤال الأثرم عن الإسناد الذي ورد فيه تصريح عبد الله بن يزيد بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يدل على أن الإمام أحمد لا يعتمد التصريح بالسماع فيمن ليس له إدراك بيّن يمكن معه السماع وإن ورد ذلك في إسناد إلا إذا كان الإسناد صحيحاً سالماً من العلة.وهذا الإسناد الذي سأل عنه الأثرم رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل2، والبخاري3، والبغوي4، والحاكم5 من طرق عن أبي بكر بن عيّاش، عن أبي حَصِين، عن أبي بُردة قال: كنتُ جالساً عند عبيد الله بن زِياد فأُتي برؤوس الخوارج فقلت: إلى النار. فقال عبد الله بن يزيد الأنصاري: أولا تعلم يابن أخي أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن عذاب هذه الأمة جُعل في دُنياها؟ ". وهذا الإسناد رجاله ثقات حفاظ أعلام، إلا أن أبا حصين عثمان بن عاصم الكوفي ربما دلس كما ذكر الحافظ ابن حجر6، ومن أجل هذا دخلت العلة في هذا الإسناد، فقد اختلف فيه على أبي بُردة اختلافاً كثيراً، ذكره البخاري في التاريخ7، ومن أوجه هذا الاختلاف ما رواه محمد بن فُضيل بن غزوان، حدثنا صدقة بن المثنى، عن رياح بن الحارث، عن أبي بردة قال: بينا أنا واقف في
السوق في إمارة زياد إذ ضربت بإحدى يدي على الأخرى، فقال رجل من الأنصار وقد كانت لوالده صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: فإني سمعت والدي أخبرني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أمتي أمة مرحومة ليس عليها في الآخرة حساب ولا عذاب، إنما عذابها في القتل والزلازل والفتن" 1. وروي عن بُريد، عن أبي بُردة، عن رجل من الأنصار، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا2. وعن محمد بن إسحاق بن طلحة التيمي، سمع أبا بُردة يحدث عمن سمع أباه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أمتي أمة مرحومة جُعل عذابُها بأيديها في الدنيا" 3. وعن علي بن مدرك، عن أبي بردة قال: حدثني رجل من الأنصار عن بعض أهله يرفعه: هذه أمة مرحومة4. وقال غيرهم: عن أبي بُردة، عن أبيه ـ وهو أبو موسى الأشعري ـ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم 5. وقال حرملة بن قيس، عن أبي بردة مرسلاً. ذكره ابن معين وقال: من لم يُسنده أكيس ممن أسنده6. فالخلاصة أن الطريق الذي فيه تصريح عبد الله بن يزيد بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم لم تسلم من علة، فلم يثبت له الإمام أحمد السماع، وظهر أن معنى الصحبة الصحيحة عنده هي الصحبة المقترنة بالسماع والرواية الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم،
وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل مرسل الصحابي. ولا يقتضي هذا حكمه على روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإرسال، فقد ذكر لعبد الله بن يزيد حديثين في المسند1، رواهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أن حديثه من قبيل المسند عنده غير مرسل. فيستفاد من هذا أن مرسل الصحابي من قبيل المسند عند الإمام أحمد. 2. محمود بن لبيد الأنصاري الأوسي الأشهلي: قال أبو داود: سمعت أحمد قيل له: محمودُ بن لَبيد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "ما أُرى من هذا شيء، محمودٌ يحدث عن رافع"2. نسب أبو نعيم إلى الإمام أحمد القول بأنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم 3، وفي هذا السؤال ينكر الإمام أحمد قول محمود بن لبيد: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: محمود يحدث عن رافع ـ وهو ابن خَدِيج، أي هو معروف بالرواية عنه لا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكره في مسنده وأورد له عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم 4. ولم أر في شيء من حديثه ما يدل على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا في ثلاثة أحاديث يمكن أن يعود إليها إنكار الإمام أحمد الوارد في هذا السؤال: الأول منها: ما رواه البخاري في التاريخ5 قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا ابن غسيل
ـ وهو عبد الرحمن ـ عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لَبِيد قال: "لما أُصيب أكحل سعد يوم الخندق فثقل حولوه عند امرأة يُقال لها رُفَيدة، حتى كانت الليلة التي نقله قومُه إلى بني عبد الأشهل دخل النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد انطلقوا به، وخرجنا معه فأسرع المشي حتى تقطعت شسوع نعالنا وسقطت أرديتنا عن أعناقنا، قالوا: يا رسول الله ما حملنا ميتاً أخفَّ من سعد. فقال: "ما يمنعكم وقد هبط الملائكة كذا وكذا عدة كثيرة حملوه معكم" 1. وهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات إلا ابن الغسيل، هو عبد الرحمن بن سليمان ابن عبد الله بن حنظلة الأنصاري. وثقه ابن معين في رواية الدوري، وأبو زرعة، والدارقطني، والنسائي2. وعن أحمد: صالح3. وقال ابن معين في رواية الدارمي: صويلح، وقال النسائي في رواية أخرى: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: هو ممن يعتبر بحديثه ويكتب4. وقال الذهبي: صدوق5. وقال ابن حجر: صدوق فيه لين6.
الحديث الثاني: ما رواه ابن عبد البر1 عن ابن أبي شيبة أنه قال: حدثنا يونس بن محمد، نا عبد الرحمن بن الغسيل، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لَبِيد الأنصاري قال: "كُسِفت الشمسُ لموت إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم فخرج وخرجنا معه حتى أمّنا في المسجد فأطال القيام" وذكر الحديث. وقد رواه ابن أبي شيبة وابن سعد كلاهما عن أبي نعيم، عن عبد الرحمن ابن الغسيل به، وليس فيه: وخرجنا معه2 ورواه الإمام أحمد3 عن يحيى بن آدم عن ابن الغسيل وليس فيه قوله: "فخرج وخرجنا معه" أيضا. ومدار الحديثين الأول والثاني على ابن الغسيل، وقد تقدم أن الإمام أحمد لينه، والظاهر أنه تفرد به، فلم أقف على متابع له، ثم إنه اختلف عليه في الحديث الثاني في ذكر موضع الشاهد وهو قوله: "فخرج وخرجنا معه" حيث ذكره يونس بن محمد المؤدب، ولم يذكره أبو نعيم ولا يحيى بن آدم، وهؤلاء الثلاثة كلهم ثقات أثبات، فاختلافهم على الراوي الذي لينه الأئمة يدل على أنه يضطرب في رواية الحديث. الحديث الثالث: ما أخرجه الإمام أحمد4 عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن محمود بن لَبِيد أخي بني عبد الأشهل قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا المغرب في مسجدنا، فلما
سلّم منها قال: "اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم، للسُّبحة بعد المغرب". فهذا يدل في الظاهر على أنه شهد القصة وسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في إسناد ابن ماجه1، والطبراني2 من طريق إسماعيل بن عيّاش، عن ابن إسحاق، عن عاصم ابن عمر، عن محمود، عن رافع بن خدِيج فذكره. وفي هذا الإسناد إسماعيل بن عياش، يروي عن محمد بن إسحاق، وروايته عن الحجازيين فيها تخليط كما تقدم3. فهذه الرواية إن كان إسماعيل بن عياش حفظها تدل على أن محمود بن لبيد أرسل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل" على أن معناه أتى قومَه بني عبد الأشهل، وكذلك قوله: "فصلى بنا المغرب"، أي صلى بقومنا المغرب4. على أن الإمام أحمد قد روى الحديث من طريق ابن أبي عدي، عن ابن إسحاق وفيه: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد الأشهل فصلى بهم المغرب"5، ورواه بمثل هذا اللفظ ابن أبي شيبة من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن ابن إسحاق به6. وهذه هي الأحاديث التي يمكن أن يستدل بها على سماع محمود بن لبيد من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر أنها لا تنتهض للاستدلال بها، فثبت ما ذهب إليه الإمام أحمد من إنكاره لقول محمود: [كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم] . وقد أيّد ذلك الإمام
أحمد بقرينة أخرى سبقت الإشارة إلى مثلها في قوادح ثبوت الصحبة، وهي قوله: محمود يحدث عن رافع، أي أن المعروف عن محمود بن لَبِيد أنه يروي عن رافع بن خدِيج، فمن كان معروفاً بالراوية عن الصحابة قوي الظن بكونه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم 1.
فقد أثبت الإمام أحمد الإدراك لمحمود بن لبيد دون السماع، وأورد أحاديثه في مسنده، وهي مرسلة في الحقيقة لكنها مسندة عنده بدليل إيراده لها في المسند، وهذا أيضاً يدل على أن مرسل الصحابي عند الإمام أحمد من قبيل المسند. ومما يدل على ذلك أيضاً أنه أقر احتجاج من احتج بحديث من أحاديث محمود بن لبيد الذي أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم، والاحتجاج فرع التصحيح، فذكر عبد الله بن أحمد1 قال: قلت لأبي: إن رجلاً قال: من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد لم تُجزه إلا أن يصليهما في بيته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذه صلوات البيوت". قال: من قال هذا؟ قلت: محمد بن عبد الرحمن. قال: ما أحسن ما قال، أو ما أحسن ما انتزع. ا.هـ. وقد تقدم أنه نفى عن عبد الرحمن بن غنم السماع من النبي صلى الله عليه وسلم مع إثبات الإدراك له، وهو شاهد آخر على التفريق بين الصحبة المقترنة بالرواية والمجردة عنها. فهذه بعض الأمثلة التي توضح أن الإمام أحمد يفرق بين الصحبة المقترنة بالرواية والمجردة منها، فقد ينفي الصحبة وإنما يعني بذلك نفي الصحبة المقترنة
بالسماع كما فعل في عبد الله بن يزيد الخطمي. ولم أقف على أن لهذه التفرقة أثراً في حديث من لم يَثبت له السماعُ، فحديثه وإن كان من قبيل مرسل الصحابي فإن الظاهر أن الإمام أحمد يرى أنه من قبيل المسند، ولم أقف على ما يدل على إعلاله لمثل هذا الحديث بالإرسال. وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن أحاديث صغار الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغوا أن يسمعوا منه مراسيل، وأنها من قبيل مراسيل كبار التابعين، وليست من قبيل مراسيل الصحابة، وذكر أن هذا مما يلغز به فيقال: صحابي حديثه مرسل لا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة1. وممن كان يفرق بين أصل الصحبة والصحبة المقترنة بالرواية أبو حاتم الرازي، فقد قال في طارق بن شهاب: له رؤية وليست له صحبة، وحكم على الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإرسال، وأنه ما أدخله في المسند إلا لما يحكى عنه من رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم 2. وكذلك قال في عبد الله بن عُكيم3: ليس له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كُتب إليه وقال: من شاء أدخله في مسنده على المجاز. ا.هـ4. وقال في يوسف بن عبد الله ابن سلام: له رؤية ولا صحبة له5. فالصحبة المنفية عنده هي المقترنة بثبوت السماع من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يرد نفيُ الصُّحبة ولا يكون المقصود بالنفي الصُّحبة بمعنى ثبوت السماع والرواية، ولكن الصحبة الخاصة العرفية مثل ما روى الإمام أحمد عن عاصم الأحول أنه قال: "عبد الله بن سَرجِس قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن له
صحبة" 1 مع كونه قد روى عنه عدة أحاديث من جملتها قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له، وأنه أكل معه وكلّمه2. وقد تقدم مثل ذلك عن الإمام أحمد أنه نفى الصحبة عن مسلمة بن مخلّد3، وقد روى أحمد من وجه آخر أن مسلمة هذا قدِم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان عمره عند موت النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة وذكر له أحاديث في المسند، فمن كان في مثل سنّه لا يستبعد سماعُه من النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحبة المنفية عنه ليست الصحبة المقترنة بالسماع بل هي صحبة خاصة عرفية، وهو تفسير الحافظ ابن حجر لكلام الإمام أحمد4. المسألة الرابعة: ما أعله بعدم ثبوت صحبة راويه عن النبي صلى الله عليه وسلم. مما أعله الإمام أحمد من الحديث بسبب عدم ثبوت صحبة راويه حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذُباب5 الذي رواه الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تضربوا إماء الله" فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئِرْنَ النساء على أزواجهن، فرخّص في ضربهن فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءٌ كثيرٌ يَشكون أزواجَهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد طاف بآل محمد نساءٌ كثيرٌ يَشكون أزواجَهن، ليس أولئك بخياركم" 6.
قال العلائي1: ذكر الأثرم عن أحمد بن حنبل أن الحديث مرسل، وأن إياس بن عبد الله ليست له صحبة. وعبارة الأثرم كما رواها ابن أبي حاتم2 قال: "قلت لأبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل: إِياس بن عبد الله هو إِياس بن عبد الله بن أبي ذُباب؟ قال: لا، وليست له صحبة، روى عنه أهل المدينة، وكذلك روى عنه أهل مكة". وقد استدل الحافظ ابن حجر بعدم إخراج الإمام أحمد لحديثه في المسند على عدم ثبوت صحبته3، وهذا يدل على أن الحديث مرسل عند الإمام أحمد فمن أجل ذلك لم يخرجه في المسند.
المطلب الثالث: الإرسال الخفي والإعلال به عند الإمام أحمد
المطلب الثالث: الإرسال الخفي والإعلال به عند الإمام أحمد. تقدم أن من صور الإرسال عند الإمام أحمد رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه، وكذلك روايته عمن لقيه ولم يسمع منه، واستقر تسمية كلتا الصورتين بالإرسال الخفي، ووجه تسميتهما بذلك أن الانقطاع فيهما ليس بجلي، لأنه لا ينجلي بمعرفة التاريخ، وإنما يدركه الأئمة الحذاق المطَّلِعون على طرق الحديث وعلل الأسانيد. وقد تقدم إيراد بعض الأحاديث التي أعلها الإمام أحمد بعدم سماع بعض رواتها ممن رووا عنهم في معرض الاحتجاج لمسألة اشتراط الإمام أحمد ثبوت السماع لثبوت الاتصال. وفيما يلي أمثلة أخرى لما أعله الإمام أحمد بالإرسال الخفي بكلا صورتيه: 1. قال الخلال: أخبرني عصمة، ثنا حنبل: حدثني أبو عبد الله: نا قراد1: ثنا شعبة، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجَعد، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقِيموا لقُريْشٍ ما استقاموا لكم فإن لم يَستقيموا لكم فاحمِلو سُيُوفَكم على عواتِقِكم فأبِيدوا خَضَراءَهُم، فإن لم تفعَلوا فكونوا زرَّاعين أشقياءَ وكُلُوا من كَدِّ أيديكُم". قال مهنّا: سألت أحمد عن هذا الحديث؟ فقال: ليس بصحيح، سالمُ بن أبي الجعد لم يلقَ ثَوْبانَ2. هذا الحديث أخرجه الخلال في السنة3 بالإسناد نفسه، وأخرجه الطبراني
في الصغير1، وفي الأوسط2، وابن عدي3، والخطيب4. وأخرجه أحمد5 مختصراً مقتصراً على الجملة الأولى من الحديث، والروياني6، وابن عدي7. وإسناد هذا الحديث رجاله ثقات، وقال الإمام أحمد: ليس بصحيح، وعلته عدم لقاء سالم بن أبي الجعد لثوبان مع معاصرته له8، وقد تقدم توضيح ذلك9. وهذا أحد صورتي الإرسال الخفي: رواية الراوي عمن لم يلقه مع معاصرته له، فدل على أن ذلك من وجوه الإعلال عند الإمام أحمد10. وذكر الخلال في مسائله11 عن حنبل قال: "سمعت أبا عبد الله قال: الأحاديث خلاف هذا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسمَع وأطِع، ولو لعبد مجدَّع" 12،
وقال: "السمع والطاعة في عُسرك ويُسرك وأَثَرةٍ عليك" 1، فالذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث خلاف حديث ثوبان، وما أدري ما وجهه؟ ". ومن هذا الاعتبار قال في حديث أم هانئ، ولفظه مثل لفظ حديث ثوبان، هو منكر2، أي لمخالفته الأحاديث الصحيحة. ففي هذا الحديث، الإرسال هو سبب النكارة، بمعنى أنه يحتمل أن الواسطة بين سالم بن أبي الجعد وثوبان منكر الحديث، وهو الذي روى هذا الحديث الذي أنكر لفظه، وإلا فالإرسال في ذاته ليس بعلة موجبة للحكم على الحديث بالنكارة. 2. قال الخلال: أخبرنا الميموني: ثنا ابن حنبل: ثنا أنس بن عِياض: أخبرني عمر بن عبد الله مولى غُفرَة، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل أمّةٍ مَجوساً، وإن مجوس أمتي الذين يقولون: لا قَدَر، فإن مرِضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تَشْهَدُوهم". قال أبو عبد الله: ما أُرى عمرَ بنَ عبد الله لقِي عبد الله بن عمر3. هذا الحديث أخرجه أحمد في المسند4 من هذا الطريق ومن طريقه ابنُه عبد الله5، وابن الجوزي6. ورواه ابن أبي عاصم7، وابن عدي8 كلاهما من طريق أنس بن عياض به.
ووجه إعلال الإمام أحمد لهذا الحديث هو عدم لقاء عمر مولى غُفرَة لعبد الله ابن عمر. ويدل على ذلك أن الإمام أحمد قد روى هذا الحديث من وجه آخر عن عمر مولى غُفرة عن نافع عن ابن عمر1. فذكره بواسطة، وهذا كما تقدم من القرائن التي تدل على عدم السماع، لأن الظاهر أنه لو كان عنده عن ابن عمر لم يدخل الواسطة إذ لا فائدة في ذلك، وتكون الرواية الأولى مرسلة إذا لم يعرف الراوي بالتدليس، وإلا فمدلسة خصوصاً إذا كان الراوي مكثراً عن الشيخ الذي روى عنه بالواسطة2. وعمر بن عبد الله مولى غفرة قال عنه الإمام أحمد: ليس به بأس، ولكن حديثه مراسيل3. وضعفه يحيى بن معين وقال: لم يسمع من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم 4. وقال عيسى بن يونس: قلت لعمر مولى غُفرة: سمعت من ابن عباس؟ فقال: أدركت زمانه. ا.هـ5 وهذا يدل على أنه قد عاصر ابن عمر لكنه لم يلقه، فروايته عنه من قبيل المرسل الخفي6. 3. قال أبو داود: قلت لأحمد: محمد بن خالد، عن أنس في تخليل اللحية، أعني عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما أُرى سمع من أنس شيئاً. قلت: هو الذي يحدث
عنه أبو معاوية؟ قال: يشبه، يحدث عن عطاء1. حديث أنس رواه البيهقي2 من طريق أبي حمزة السكري، عن إبراهيم الصائغ، عن أبي خالد، عن أنس بن مالك قال: "وضّأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلل لحيته وعنفقته بالأصابع وقال هكذا أمرني ربي عز وجل". أبو خالد هو محمد بن خالد الضبي الكوفي3، يقال له: سؤر الأسد. وثقه ابن معين وقال: لم يسمع من أنس4. وقال عنه أبو حاتم: ليس بحديثه بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال عنه الذهبي وابن حجر: صدوق5. وأعل الإمام أحمد هذا بعدم سماع محمد بن خالد من أنس، وهذا من الإرسال الخفي إن كان أدرك زمن أنس6، ونقل العلائي لعبارة الإمام أحمد تُوهم عدم إدراكه، فإنه نقل عن أحمد أنه قال: من أين أدرك محمد بن خالد أنساً أو رآه7، وهي مخالفة لما رواه أبو داود عنه.
4. قال أبو داود: سمعت أحمد قال: عبدُ الله بن سعيد بن أبي هندٍ، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من جُعل قاضياً فقد ذُبِح بغير سكّين". قال أحمد: ما أُرى سمعه من سعيد، هذا حديث عثمان الأخنَسي. حدثنا به محمد ابن عمر المقدّمي، عن صفوانَ، عن عبد الله بن سعيد، عن محمد بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو عثمان بن محمد الأخنَسي، وهِم فيه صفوان. وكان عند أبي عبد الله عن صفوان، عن عبد الله بن سعيد، عن المقبري، عن أبي هريرة؛ وهو حدثنا به1. رواية عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن سعيد بن أبي سعيد المقبُري أخرجها الإمام أحمد في المسند2، من طريق صفوان بن عيسى، وهي التي أشار إليها أبو داود في آخر السؤال، وكذلك أخرجها السُّهمي3 عن خارجة بن مصعب، عن عبد الله ابن سعيد به. وأعل الإمام أحمد هذه الرواية بأن عبد الله بن سعيد بن أبي هند لم يسمع الحديث من سعيد، وعلّل ذلك بأمرين: الأمر الأول: وجود الواسطة بينه وبين سعيد المقبري، وذلك فيما رواه محمد بن عمر المقدّمي4، ومحمد بن أبي بكر المقدمي5، وأحمد بن إبراهيم الدورقي6، كلهم عن صفوان بن عيسى، عن عثمان بن محمد الأخنسي7، عن
سعيد المقبري، عن أبي هريرة. فروايته للحديث بواسطة الأخنسي قرينة على عدم سماعه من المقبري. وسماع عبد الله بن سعيد من المقبري ممكن، فإن كلاً منهما مديني، وقد روى عبد الله عن أقران المقبري مثل نافع مولى ابن عمر، وأبيه سعيد بن أبي هند1، وكانت وفاته سنة ست أو سبع وأربعين ومئة2، ووفاة سعيد المقبري سنة ثلاث وعشرين ومائة3، فلقاؤه به ممكن جداً وكذلك السماع، ولم أر من ذكر عبد الله بن سعيد بالتدليس، ولو ذُكر به لكان هذا من التدليس إن ثبت أنه سمع منه في الجملة، أو كان معروفاً بكثرة الرواية عنه، والظاهر أن كلا الأمرين منتفيان هنا في رواية عبد الله بن سعيد عن المقبري، حتى إن المزي لم يذكر عبد الله بن سعيد فيمن روى عن المقبري، وإن كان ذكر المقبري في شيوخ عبد الله بن سعيد في ترجمته4. الأمر الثاني: أن هذا الحديث معروف بعثمان بن محمد الأخنسي، رواه عنه ابن أبي ذئب5، وعبد العزيز الدراوردي6، وكذلك عبد الله بن جعفر
المخرمي1 لكن قرن هذا الأخير الأعرج بسعيد المقبري في الإسناد. 5. قال أبو داود: قلت لأحمد: رجلٌ يقال له: صَبيح روى عن عبد العزيز ابن عبد الصَّمد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة وفاة النبي عليه السلام؟ فأنكره أحمد أن يكون عبد العزيز سمع من هشام شيئاً2. حديث هشام، عن أبيه، عن عائشة في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم رواه مسلم وحده3 من بين أصحاب الكتب الستة4 من طريق عباد بن عباد المهلّبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحدٌ من أهله نفث عليه بالمُعوِّذات، فلما مرض مرضَه الذي مات فيه جعلتُ أنفُثُ عليه وأمسحُهُ بيد نفسه لأنها كانت أعظمَ بركةً من يدي] . ولم أقف على رواية عبد العزيز بن عبد الصمد5 عن هشام التي أنكرها الإمام أحمد. والذي روى هذه الرواية عن عبد العزيز هو صَبيح بن عبد الله الفرغاني، ذكره الخطيب في التلخيص6، وذكر أنه روى عن عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّيّ. وقال عنه أبو حاتم: صدوق7، وذكره ابن حبان في الثقات8، وقال الخطيب: صاحب المناكير.
وإنكار الإمام أحمد للحديث مبني على عدم سماع عبد العزيز بن عبد الصمد من هشام شيئاً، وقد أدرك من هو في طبقته مثل داود بن أبي هند، ومنصور بن المعتمر، وحُصين بن عبد الرحمن السُّلمي، وكلهم وإن كانوا من أهل العراق إلا أن هشاماً في آخر عمره انتقل إلى العراق ومات ببغداد، فإدراكه له ممكن، لكنّ ذلك لم يثبت عند الإمام أحمد إلا من طريق صَبيح فلم يقبله، وأعلّ الحديث بالإرسال، وهو من النوع الخفي لأنه رواية الراوي عمن عاصره لكنه لم يسمع منه.
المطلب الرابع: المزيد في متصل الأسانيد والإعلال به عند الإمام أحمد
المطلب الرابع: المزيد في متصل الأسانيد والإعلال به عند الإمام أحمد. تقدم أن الراوي إذا روى عن شيخه، ثم جاءت رواية أخرى عنه بواسطة بينهما فإن ذلك من الأدلة للحكم على الرواية الأولى بالإرسال، لأنه لو كان سمعه منه لما رواه عنه بواسطة بينهما. لكن لا بد أن يكون موضع الإرسال قد جاء فيه الراوي بلفظ "عن" ونحوها مما ليس نصاً صريحاً في إفادة الاتصال، فأما متى كان بلفظ التحديث، أو الإخبار، أو السماع أو غير ذلك مما يقتضي الاتصال، ثم جاء الحديث في رواية أخرى عنه بزيادة واسطة بينهما فهذا هو المزيد في متصل الأسانيد، ويكون الحكم للأول، ويحكم على الزيادة بالوهم، لكن بشرط أن يكون راوي السند الناقص أتقن ممن زاد1. فالحكم على الإسناد بأنه من المزيد في متصل الأسانيد إذاً ينبنى على: وقوع التصريح بالسماع بين الراوي وشيخه في الإسناد الناقص. كون رواة الإسناد الناقص أكثر عدداً أو أحفظ من رواة الزيادة. وجود قرينة تقوي الرواية الناقصة. وفيما يلي أمثلة ذلك عند الإمام أحمد: 1. ما حكم فيه بأنه من المزيد بدليل وقوع التصريح بالسماع في الإسناد الناقص وراويها أحفظ من الذي زاد الواسطة. قال أبو داود: سمعت أحمد سُئل عن حديث ابن عجلان، عن محمد بن كَعب، عن معاوية، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من يُرد اللهُ به خيراً يُفقّهه في الدِّين"؟ فقال: كان يحيى ـ يعني ابن سعيد يقول فيه: ابن عجلان، قال ابن عجلان: حدثني محمد بن كعب؛
قال أحمد: وبعضهم يُدخِل بين ابن عجلان ومحمد بن كعب ييدَ بنَ زيادٍ1. هذا الحديث أخرجه أحمد2، والطبراني3، وابن عبد البر4 كلهم من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن ابن عجلان قال: حدثني محمد بن كعب يعني القَرَظي، قال سمعت معاوية يخطب على هذا المنبر فذكره. وأما الطريق الذي ذكره الإمام أحمد المشتمل على زيادة يزيد بن زِياد بين ابن عجلان ومحمد بن كعب، فلم أقف عليه، وتصريح ابن عجلان بالسماع من محمد بن كعب في رواية يحيى القطان يقضي على تلك الرواية بالوهم وأن الإسناد الذي وردت فيه من المزيد في متصل الأسانيد. 2. ما حكم فيه بأنه من المزيد لوجود قرينة ترجح الرواية الناقصة. قال أبو داود: قلت لأحمد: حديثُ بُسر بن عبيد الله: سمعت واثِلة ـ أعني حديثه عن أبي مَرثَد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَصُفُّوا على القبور ولا تُصلوا إليها"؟ قال: ليس واثلة بذاك القديم، ينبغي أن يكون هذا من ابن جابر، يعني رواية ابن المبارك، عن ابن جابر، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن واثِلَة ـ يعني إدخال أبي إدريس بين واثِلَة وبُسر5. هذا الحديث روي بإسنادين، أحدهما: بُسر بن عبيد الله، عن واثلة، عن أبي مرثد؛ والثاني: بُسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن واثلة ـ أي بزيادة أبي إدريس بين واثلة وبُسر، وحكم الإمام أحمد على الرواية الزائدة بأنها من
المزيد في متصل الأسانيد، وأن الصواب عدم ذكر الزيادة، وعلل ذلك بقرينة: وهي كون واثلة بن الأسقع1 ليس بذاك القديم2، فمعنى ذلك أنه لا يُستبعد سماعُ بُسر بن عبيد الله3 منه، فلا معنى إذا لذكر الواسطة. وأما جهة الوهم فذكر أنه من شيخ ابن المبارك، وهو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. وقد خُولف الإمام أحمد في تعليله للوهم وفي تعيين الواهم بعد الاتفاق على الحكم بأن الزيادة وهم. أما التعليل فقد عُلّل الوهم في ذكر الزيادة بأن بُسر بن عبيد الله قد سمع من واثلة بن الأسقع في الجملة، بل قد صرّح بسماع هذا الحديث بعنيه منه، وذلك في رواية الوليد بن مسلم4، وبِشر بن بكر5، وصَدَقَة بن خالد6، وعيسى بن يونس7. فالتعليل بهذا التصريح أولى من التعليل بقرينة إمكان اللقاء
التي استدل بها الإمام أحمد، والعجيب أن الإمام أحمد قد روى رواية التصريح بالسماع في المسند، فكأنه لم يستحضرها حين الإجابة عن سؤال أبي داود. أما الواهم في ذكر الزيادة فقد ذكر غير واحد أنه عبد الله بن المبارك وليس شيخه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر كما ذهب إليه الإمام أحمد. قال ذلك البخاري1، وأبو حاتم2، وابن خزيمة3، والدارقطني4، والحاكم5. وذلك أنه تفرد بذكر أبي إدريس الخولاني بين بسر بن عبيد الله وواثلة بن الأسقع، وخالف جمعاً من أهل الشام الذين هم أعرف الناس بحديث أهل بلدهم. ومما يدل على أن الغلط كان من ابن المبارك أنه قد رواه غير واحد6 عنه بذكر سماع بسر بن عبيد الله من أبي إدريس، وهو من واثلة، ولو كان ذلك محفوظاً لقيل بصحة ذكر الزيادة وعدمها، فيكون بُسر سمع الحديث من واثلة بواسطة أبي إدريس ثم سمعه منه مباشرة، ولم أر أحداً من الحفاظ يقول بذلك، مما يدل على ضعف هذا الجمع، وبالتالي يقوي أن الوهم من ابن المبارك لا كما ذكره الإمام أحمد أنه من ابن جابر.
وقد ذكر أبو حاتم كيف دخل الوهم على ابن المبارك، قال: "بُسر قد سمع من واثلة وكثيراً ما يُحدّث بُسر عن أبي إدريس، فغلط ابن المبارك فظن أن هذا مما روى عن أبي إدريس، عن واثلة وقد سمع هذا الحديث بسر من واثلة نفسه لأن أهل الشام أعرف بحديثهم" 1. وقد ترِدُ الزِّياد ويظهر كونُ الحديث بالوجهين، أي سمعه من شيخه الأدني، وشيخ شيخه أيضاً، وكيفما رواه كان متصلاً، وقد ذكر العلائي عدة أمثلة لذلك2. وذكر عبد الله عن الإمام أحمد حديث بسرة بنت صفوان مرفوعاً: "من مسّ ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة"، ذكره من وجهين كأنه يشير إلى صحة الوجهين، فيمكن أن يكون مثالاً لهذا الأمر عند الإمام أحمد. قال عبد الله: قرأت على أبي: عبد الله بن الوليد قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، عن مروان، عن بُسرة بنت صفوان قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مسّ ذكرَه فليتوضأ وضوءه للصلاة". وقال قرأت على أبي وسمعته منه قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، قال: أخبرني أبي أن بُسرة بنت صفوان أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مسّ ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ". وقال: قرأت على أبي وسمعته منه قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: قال شعبة: لم يسمع هشام حديث أبيه في مسّ الذّكر، قال يحيى: فسألت هشاماً فقال: أخبرني أبي3.ا. هـ. وإنما لم يُحكم بخطأ من ذكر الزيادة ـ وهو مروان بن الحكم ـ مع تصريح عروة بالسماع من بسرة، لأن في رواية هشام، عن أبيه، عن مروان، عن بُسرة،
قال عروة في آخره: سألت بُسرة فصدّقتْه1. فدل على صحة الوجهين. وقد يقتضي الموقف التوقف لكون كل واحد من الأمرين محتملاً2. وقد يكون المحفوظ ذكر الزيادة والخطأ في عدم ذكرها، حتى إنه ليوهم أن في الإسناد إرسالاً. ومثال ذلك عند الإمام أحمد: قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: ابن أبي زائدة ينقص من هذا الحديث ـ يعني حديث ابن أبي عرُوبَة، عن قتادة، عن سعد بن هشام، عن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يُسلم في الركعتين من الوِتْر من الثلاث". قال أبي: فترك منه زُرارة" 3. حديث عائشة رواه عدد من الرواة عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن سعد بن هِشام، أن عائشة حدثته: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يُسلِّم في ركعتبي الوتر". رواه بشر بن المفضل4، ويزيد بن زُريع5، وعبد الوهاب بن عطاء6، وأبو بدر شجاع بن الوليد بن قيس7، وعيسى بن يونس8 والمطعِم بن المِقدَام9 كلهم
عن سعيد بن أبي عروبة بذكر زُرارة بين قتادة وسعد بن هشام. وذكر الإمام أحمد أن ذكر زرارة هو المحفوظ، وأن زكريا بن أبي زائدة1 نقص من الإسناد فأخطأ حين رواه بدون ذكره، وظاهر الإسنادين يوهم أن الإسناد الذي فيه الزيادة من المزيد في متصل الأسانيد، لكن بيان الإمام أحمد أوضح أنه ليس منه، بل الإسناد الناقص معلول، حيث أوهم وقوع الإرسال في إسناد متصل. والحديث في الأصل مختصر من حديث سعد بن هشام الطويل في قدومه على عائشة وسؤاله إياها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل2، اختصره سعيد ابن أبي عروبة، قال ذلك المروزي3، وابن حجر4. وقد ذكر ابن عبد الهادي أن الإمام أحمد ضعف إسناد هذا الحديث المختصر5. واختصره أبان، عن قتادة بلفظ آخر، ونقل ابن رجب عن أحمد أنه قال: هذه الرواية خطأ6.
المبحث الثاني: التدليس والإعلال به عند الإمام أحمد
المبحث الثاني: التدليس والإعلال به عند الإمام أحمد. المطلب الأول: التعريف بالتدليس والمدلِّسين عند الإمام أحمد. التدليس لغة مأخوذ من الدَّلَس، بالتحريك، وهو الظلمة، ومنه أخذ: دلّس في البيع وفي كل شيء، إذا لم يبين عيبه. وقال الأزهري: من هذا أخذ التدليس في الإسناد1. وأما في الاصطلاح فلم يرد عن الإمام أحمد حد التدليس، لكن بتتبع إطلاقه لهذا اللفظ يظهر أنه يطلق التدليس على رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه، ووجه كونه سبباً لعدم صحة الحديث أنه ينافي شرط الاتصال، فإنه إذا روى عن شيخه ما لم يسمعه منه دل ذلك على أنه سمعه من غيره، وهذا الغير ساقط من الإسناد فصار الإسناد منقطعاً. وهذا أكثر ما وجد عن الإمام من إطلاقه للتدليس، وفيما يلي ما وقفت عليه من ذلك: أـ قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: هذان الحديثان سمعهما هُشيم من جابر الجُعفي، وكل شيء حدّث عن جابر مدلَّس إلا هذين ... "، فذكر الحديثين2. فسمّى رواية هُشيم عن جابر بغير ذينك الحديثين مدلَّسة. فهذا صريح في تسميته رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه تدليساً. ب ـ قال عبد الله: "حدثني أبي قال: حدثنا سفيان، قال حدثنا عمرو
ابن يحيى بن عُمارة بن أبي حسن المازني، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد [أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ] ، قال سفيان: حدثناه يحيى بن سعيد عن عمرو بن يحيى منذ أربع وسبعين سنة، فسألت بعد ذلك بقليل، فكان يحيى أكبر منه، قال أبي: قال سفيان: سمعت منه ثلاثة أحاديث. قال أبي: وسمعت أنا هذا الحديث من سفيان ثلاثَ مِرارٍ قال أبي: قال سفيان: لم أسمع منه حديث عمرو بن يحيى، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحمام والمقبرة. قال أبي: قد حدثنا به سفيان، دلسه". وهنا أيضاً سمى رواية سفيان بن عيينة، لحديث عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة" 1 تدليساً، وعمرو بن يحيى ممن قد سمع منه سفيان بعض الأحاديث. ج ـ وصَف مبارك بن فضالة بالتدليس عن الحسن البصري، وهو من شيوخه، جالسه عشر سنين، وكان الإمام أحمد يرى الاحتجاج بحديثه عن الحسن. قال المروذي: "سألته عن مبارك بن فَضَالة قال: ما روى عن الحسن يُحتج به" 2. قال عبد الله: "سُئل أبي عن مُبارك والربيع بن صَبِيح فقال: ما أقربهما، مبارك وهِشام3 جالسا الحسن جميعاً عشرَ سنين، وكان المبارك يُدلِّس" 4. وصرح بأنه كان يُدلِّس عن الحسن. قال في رواية أبي داود: "مبارك كان يُدلِّس عن الحسن" 5، وقد تقدمت رواية الفضل بن زِياد عن أحمد قال: "كان مبارك ـ أي ابن فضالة ـ يُرسل عن الحسن. قيل: يُدلِّس؟ قال: نعم. قال: وحدّث يوماً عن الحسن بحديث فوُقف عليه فقال: حدثنيه بعض أصحاب
الحديث عن أبي حرب، عن يونس" 1، فجعل بينه وبين الحسن واسطتين. د ـ قال أبو داود: "قال أحمد: أبو الأشهب2 كانوا يرون أنه يُدلِّس عن الحسن، قلت لأحمد وذكر أبا الأشهب فقال: زعموا كان يأخذ عن أصحاب الحسن ـ يعني عن الحسن" 3. وأبو الأشهب قد سمع من الحسن4. والإمام أحمد يشير إلى ما رواه شيخه عبد الرحمن بن مهدي قال: "كنا إذا وقَّفنا أبا الأشهب نقول له: قل: سمعتُ الحسن، يقول: سمعت الحسن أو غيره" 5. فأسند إلى شيوخه القول بأن رواية الراوي عمن سمعه ما لم يسمعه منه تدليس. هـ ـ قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: هشيم عن ابن أبي ليلى، عن الشعبي: ليس على من خلْف الإمام استعادةٌ. قال: دلّسه هشيم" 6، وقد أدرك هُشيم ابنَ أبي ليلى، وهو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وسمع منه7، فأطلق التدليس على روايته عن ابن أبي ليلى بما لم يسمعه منه، وهو من شيوخه الذين قد سمع منهم. وـ قال المروذي: "قال أحمد: كان أبو حُرّة8 صاحب تدليس عن
الحسن، إلا أن يحيى روى عنه ثلاثة أحاديث يقول في بعضها: حدثنا الحسن، منها حديث سعد بن هشام حديث عائشة في الركعتين" 1، فسمى روايته عن الحسن بما لم يسمعه منه تدليساً، وكان قد سمع منه في الجملة، بدليل أنه يقول في بعض حديثه عن الحسن: حدثنا. ز ـ قال عبد الله: "سمعت أبي يقول في حديث حفص عن الشيباني، عن عبد الله بن عُتبة: سئل عن امرأة تزوّجت ولها ولد رضِيع، قال: لا ترضَعه وإن مات. قال أبي: هذا مما لم يسمعه حفص من الشيباني، كان يدلسه، ليس فيه شكّ، والحديث حدثني به أبي، سمعه من حفص" 2، وأبو إسحاق الشيباني من شيوخ حفص بن غياث، وفي قول الإمام أحمد: لم يسمعه، نفي لسماعه ذلك الحديث منه، وليس فيه نفي للسماع في الجملة. ي ـ قال المروذي أيضاً: "قال أحمد: كان ابن إسحاق يدلِّس، إلا أن كتاب إبراهيم بن سعد يُبين إذا كان سماعاً قال: حدثني، وإذا لم يكن قال: قال. ثم قال: يقول: قال أبو الزناد، قال فلان، قال: وتنظر في كتاب يزيد بن هارون: عن أبي الزناد كلها" 3. وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: "عامة حديث ابن إسحاق عن أبي الزناد حديث الأعرج لم يسمعها، قال: هي في كتب يعقوب: ذكر أبو الزناد، ذكر أبو الزناد" 4. فذكر أن في رواية ابن إسحاق بدون ذكر السماع تدليساً، وأما إذا كانت الرواية بذكر السماع فلا يكون فيها تدليس، وهذا لا يتأتى إلا في روايته عن شيخ لقيه وسمع منه ثم روى عنه ما لم يسمعه منه،
وذلك مثل أبي الزناد عبد الله بن ذكوان. وأما رواية الراوي عمن لقيه ولم يسمع منه ـ وهي صورة الإرسال الخفي على ما اصطلح عليه بعض الأئمة المتأخرين كابن حجر ـ فالذي ورد عن الإمام أحمد هو إطلاق الإرسال عليها كما سلف1، وقد ورد عنه إطلاق التدليس على هذه الصورة، لكنه ليس كثيراً كما في الصورة المتقدمة، ولا هو بصريح كما في الصورة المتقدمة، ومن ذلك ما يلي: 1 ـ ما رواه عبد الله قال: "حدثني أبي قال: حدثنا هشيم قال: زعم مجالد، عن الشعبي قال: كان زِياد يَشتُو بالبصرة، ويحمل شُريحاً معه يَصيف بالكوفة، قال أبي: كان هُشيم أُرى هُشيماً تلقّه ـ يعني دلَّسه ـ من هيثم بن عدي" 2. وقد روى عبد الله عن أحمد أن هشيماً لم يسمع من مُجالد3، فظاهر هذا أن الإمام أحمد أطلق التدليس على رواية الراوي عمن لقيه ولم يسمع منه، لكنّ سماع هُشيم من مجالد ثابت في مسند أحمد في عدة مواضع4، فليست هذه إذا من رواية الراوي عمن لقيه ولم يسمع منه، بل هي مثال من الأمثلة المتقدمة ـ أعني رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه.
2 ـ قال صالح: "سمعته ـ يعني أباه أحمد بن حنبل ـ يقول: لم يسمع سعيد بن أبي عروبة من الحكم بن عتيبة، ولا من حماد، ولا من عمرو بن دينار، ولا من هشام بن عروة، ولا من إسماعيل بن أبي خالد، ولا من عبيد الله بن عمر، ولا من أبي بشر، ولا من زيد بن أسلم، ولا من أبي الزناد. قال أبي: وحدث سعيد عن هؤلاء كلهم ولم يسمع منهم، وربما قال رجل عنهم. وقال: قد سمع سعيد من عاصم بن أبي النجود" 1. روى الذهبي هذه الحكاية عن الإمام أحمد فتصرف في العبارة فقال: "وقد حدّث عن هؤلاء على التدليس، ولم يسمع منهم" 2، وقد اعتمد بعضُ الباحثين هذا النقل عن الذهبي فاستدل به على أن من صور التدليس عند الإمام أحمد رواية الراوي عمن لقيه ولم يسمع منه3، ووفيات هؤلاء الشيوخ تدل على إمكان لقاء سعيد بهم. وهذا الاستدلال لا يستقيم إلا على فهم الذهبي لعبارة الإمام أحمد، أما صريح عبارته فليس فيها ما يدل على ذلك. ثم هو أيضاً مبني على لقاء سعيد بن أبي عروبة بهم، وهو ظاهر من تواريخ وفاياتهم. 3 ـ قال عبد الله: "قلتُ لأبي: حدّث هُشيم عن سفيان الثوري؟ فقال: دلّس عنه، ثم قال: قال هُشيم: جئنا إلى إسماعيل بن أبي خالد فلما رآه سفيان قام فخرج. قال أبي: كره أن يسمع مسائل هُشيم" 4. فلقاء هُشيم بالثوري ثابت
بهذه القصة، وكان الثوري أكبر منه1، أما السماع فلم أقف عليه، ولم يذكر المزي أن لهشيم رواية عن الثوري2، وفي هذا السؤال ينفي الإمام أحمد سماعه منه إلا على وجه التدليس، فتضمن جوابه إطلاق التدليس على رواية الراوي عمّن لقيه ولم يسمع منه. 4 ـ قال مهنا: قلت لأحمد ويحيى: حدثوني عن عبد المجيد بن أبي رواد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل أمة فرعون، وفرعون هذه الأمة معاوية بن أبي سفيان". فقالا جميعاً: ليس بصحيح، وليس يُعرف هذا الحديث في أحاديث عبيد الله، ولم يسمع عبد المجيد بن أبي روّاد من عبيد الله شيئاً، ينبغي أن يكون عبد المجيد دلّسه، سمعه من إنسان فحدّث به3، وعبد المجيد بن أبي روّاد مكي توفي سنة ست ومئتين4، وقد سمع من مالك5، وابن جريج ومعمر6، وأما عبيد الله العمري فتوفي سنة سبع وأربعين ومئة7، ونص أحمد ويحيى على عدم سماع عبد المجيد من العمري، وقد أدركه، لأنه أدرك ابن جريج وبين وفاته ووفاة العمري نحو خمس سنين، وأما اللقاء فلم أقف على ما يدل عليه، إلا أنه ممكن لأنه لقي مالكاً وسمع منه. وهذا والذي قبله أقرب ما يستدل به على إطلاق الإمام أحمد للتدليس على رواية الراوي عمن لقيه ولم يسمع منه، أو عمن أدركه ولم يسمع منه، ويمكن توجيهه
بأن إطلاقه مبني على ما عرفُ به هشيم واشتهر به من التدليس عمن سمع منه ومن لم يسمع منه. قال المروذي: "وذكر ـ يعني أحمد بن حنبل ـ هُشيماً فقال: كان يدلِّس تدليساً وحشاً، وربما جاء بالحرف الذي لم يسمعه فيذكره في حديث آخر إذا انقطع الكلام يوصله" 1. وأما في عبد المجيد فقد اعتمد العلائي هذا النقل لجعله عبد المجيد بن أبي روّاد في المدلسين2، وتبعه عليه ابن حجر3. وهذا من أظهر ما يستدل به على إطلاق التدليس على ما صورته الإرسال الخفي عند الإمام أحمد. وقد جاء عن بعض المتقدمين غير الإمام أحمد إطلاق التدليس على هذه الصورة، من ذلك ما رواه الدُّوري عن ابن معين أنه قال: "دلّس هشيم عن زاذان ولم يسمع منه" 4. وقال البخاري: "لا أعلم لسعيد بن أبي عروبة سماعاً من الأعمش، وهو يدلس ويروي عنه" 5. وقال الفسوي: "قد روى سعيد بن أبي عروبة عن عبيد الله بن عمر، وعن هشام بن عروة، وعن أبي بشر ولم يسمع منهم، إنما دلس عنهم، ولعمري إن ما روى عنهم مناكير" 6. وقال الفسوي أيضاً: "ولم يسمع سالم من ثوبان، إنما هو تدليس" 7.
وقال ابن عدي: "كان سعيد بن أبي عروبة ثبتاً عن كل من روى عنه إلا من دلّس عنهم، وهم الذين ذكرتهم ممن لم يسمع منهم" 1. ويلاحظ أن إطلاق هؤلاء الأئمة للتدليس على رواية الراوي عمن لم يسمع منه شيئاً كان في حق رواة عرفوا بالتدليس كما تقدم نحوه عن الإمام أحمد. وأما رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه، فلم أقف على إطلاق التدليس عليها لدى الإمام أحمد، وإن كان ذلك اشتهر لدى بعض المحدثين أنه من التدليس2، وقد يدل عليه ما رواه الدُّوري عن ابن معين قال: "لم يلق يحيى ابن أبي كثير زيد بن سلاّم، وقدِم معاويةُ بن سلاّم عليهم فلم يسمع يحيى بن أبي كثير، أخذ كتابه عن أخيه ولم يسمعه فدلسه عنه" 3 على أن أبا حاتم قد أثبت سماع يحيى بن أبي كثير من زيد بن سلاّم4، وعليه يكون من نوع ما تقدم ذكره، لكن الاستدلال قائم على ما عند ابن معين، وهو أن يحيى بن أبي كثير لم يلق زيد بن سلام عنده وروى عنه فسمى روايته عنه تدليساً. والحاصل أن الانقطاع يكون بواحد من أمور أربعة: عدم المعاصرة، أو
عدم اللقاء، أو عدم السماع، أو عدم سماع خبر بعينه. أما الصورة الأخيرة ـ وهي عدم سماع خبر بعينه ـ فهي التي كان أكثر إطلاق التدليس عليها لدى الإمام أحمد، ولا خلاف بين الأئمة المتقدمين منهم والمتأخرين أن هذه صورة للتدليس، لأن فيها إيهام السماع مع انتفائه في الواقع. وقد قصر بعض المحدثين التدليس على هذه الصورة منهم الإمام الشافعي1، والبزار2، وابن عبد البر3، وأبي الحسن بن القطان4، وابن حجر5، خلافاً لما ذكره ابن الصلاح ونسبه العراقي إلى أنه المشهور عن أهل الحديث6. أما الصورة الثالثة ـ وهي الرواية عمن لقيه ولم يسمع منه في الجملة ما لم يسمعه منه، وهي الأولى من صورتي الإرسال الخفي ـ فالذي ورد عن الإمام أحمد هو إطلاق الإرسال عليها وعدم السماع، وما ورد عنه من إطلاق التدليس عليها كان بالنسبة لراوٍ عُرِف واشتهر بالتدليس7، وهو شيخه هُشيم بن بشير،
أما ما عدا أمثال هشيم ممن روى عمن لقيه ما لم يسمع منه فلم يقل في روايته إنها تدليس أو وصفه بأنه مدلِّس، وذلك مثل أيوب وروايته عن أنس، وكذا ابن عون عن أنس، وعطاء بن أبي رباح عن ابن عمر1، وأبان بن عثمان عن أبيه2 وغيرهم كثير ممن أرسلوا عمن رووا عنهم وقد ثبت لقاؤهم بهم دون السماع. وأما ما ذكره في عبد المجيد بن أبي رواد أنه دلّس فيما صورته الإرسال الخفي فمحمول على التجوز في التسمية لما في صورة الإرسال الخفي من الإيهام لمن لم يكن له اطلاع على عدم لقاء الراوي لشيخه أو سماعه منه. وهذا الذي يجمع بين إطلاقه للتدليس في هذه الصورة أحياناً وعدم إطلاقه له في حين آخر. وأما الصورة الثانية ـ وهي رواية من له إدراك والمعاصرة دون اللقاء، وهي الصورة الأخرى للإرسال الخفي ـ فلم أقف على إطلاق التدليس عليها عند الإمام أحمد، وقد جاء ذلك عن ابن معين، فإنه قال في رواية يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلاّم ـ وليس بينهما لقاء عند ابن معين ـ إنها مدلسة. والذي ورد عن الإمام أحمد هو إطلاق الإرسال على هذه الصورة كما قال في رواية عراك بن مالك عن عائشة، وكان قد أدركها لكنه لم يلقها3. وقد صرّح الخطيب بأن هذه
الصورة من الإرسال الذي ليس بتدليس1، وكذلك أنكر ابن عبد البر على من اعتبر هذا تدليساً2. واحتج ابن حجر لكون هذه الصورة إرسالاً لا تدليساً بأن رواية المخضرمين مثل قيس بن أبي حازم، وأبي عثمان النهدي وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل المرسل لا من قبيل المدلَّس. ا.هـ3. ولو كانت هذه صورة التدليس لعُدّ كل من عُرِف عنه الرواية عمّن أدركه ولم يلقه مدلِّساً مثل محمد ابن سيرين وروايته عن ابن عباس4، وسعيد بن جبير عن عائشة5، والضحاك بن مُزاحم وروايته للتفسير عن ابن عباس6. وأما الصورة الأولى ـ وهي الرواية عمن لم يدركه ـ فهي مطلق الإرسال7، ولا قائل بأنها من التدليس في شيء. فالخلاصة أن إطلاق التدليس عند الإمام أحمد يكاد يكون مقصوراً على حالة وجود السماع، أي على رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه، أما روايته عمن لقيه ولم يسمع منه، أو عمن عاصره ولم يلقه فإنما يطلق الإمام أحمد الإرسال عليهما، وهذا يكاد يكون مطّرداً عنده، وبهذا يظهر الفرق بين التدليس والإرسال الخفي، وبين الرواة الذين عُرفوا بالتدليس ومن وُصف منهم بالإرسال. وممن فرق بينهما أبو الحسن ابن القطان، قال: "والفرق بين التدليس وبين الإرسال هو أن الإرسال روايته عمن لم يسمع منه، ولما كان في هذا ـ أي
التدليس ـ قد سمع منه جاءت روايته عنه بما لم يسمعه منه كأنها إيهام سماعه ذلك الشيء، فلذلك سمِّي تدليساً" 1، وفرق بينهما أيضاً الحافظ ابن حجر2، وهو ظاهر كلام الخطيب حيث قال: "لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بمدلَّس هو رواية الراوي عمن لم يعاصره أو لم يلقه" 3 فذكر الإرسال بنوعيه الجلي والخفي، وأنه يغاير التدليس. وأما ما ورد عن الإمام أحمد من إطلاق التدليس على رواية هشيم عن الثوري مع أنه لم يرد ما يدل على سماعه منه مع لقيّه إياه، فقد تقدم توجيه ذلك وأن الذي سوّغ ذلك الإطلاق كون هُشيم معروفاً بالتدليس، فيستنتج منه أن الراوي المعروف بالتدليس إذا روى عمن لقيه ولم يسمع منه ساغ تسمية ذلك بالتدليس، وأما إذا لم يكن معروفاً بالتدليس فهو إرسال، ولا يقال له تدليس إلا على سبيل التجوز لأنه ليس في روايته تلك إيهام بالسماع في الحقيقة، وإن كان فيها إيهام لمن ليس له معرفة باللقاء بينه وبين شيخه، وبهذا يتم توجيه ما ورد عن الإمام أحمد من إطلاق التدليس على رواية عبد المجيد بن أبي رواد عن عبيد الله العمري. وقد تقدم أيضاً أن الإمام أحمد يطلق الإرسال على ما صورته التدليس، وذلك فيما رواه عبد الله: "قال أبي: ما سمع سفيان الثوري من أبي عون غير هذا الحديث الواحد ـ يعني حديث الوضوء مما مسّت النارٌ ـ والباقي يرسلها عنه" 4، ولا يقتضي ذلك الترادف بين اللفظين، وإنما ساغ ذلك الإطلاق لأن بين التدليس والإرسال قدراً مشتركاً وهو إسقاط الواسطة، كما أن بينهما عموم
وخصوص مطلق كما تقدم، فكل تدليس إرسال، وليس كل إرسال تدليساً، فساغ إطلاق الإرسال على التدليس دون العكس. قال الخطيب: "التدليس متضمن للإرسال لا محالة من حيث كان المدلِّس ممسكاً عن ذكر مَن بينه وبين من دلَّس عنه، وإنما يفارق حاله حال المرسَل بإيهامه السماع ممن لم يسمع منه فقط، وهو المُوهن لأمره، فوجب كون هذا التدليس متضمناً للإرسال، والإرسال لا يتضمن التدليس، لأنه لا يقتضي إيهام السماع ممن لم يسمع منه، ولهذا المعنى لم يَذمّ العلماء من أرسل الحديث، وذمُّوا من دلَّسه" 1. وكل ما مضى من الكلام في التدليس هو في النوع الذي اصطُلح عليه بتدليس الإسناد2، ومنه أيضاً: تدليس العطف: وقد ورد عن الإمام أحمد الإشارة إليه ووصفه بأنه تدليس وحش. قال المروذي: "وذكر ـ يعني أحمد بن حنبل ـ هُشيماً فقال: كان يدلِّس تدليساً وحشاً، وربما جاء بالحرف الذي لم يسمعه فيذكره في حديث آخر إذا انقطع الكلام يوصله" 3، فهذا النوع من التدليس اصطُلح عليه بتدليس العطف، وهو أن يروي عن شيخين من شيوخه ما سمعاه من شيخ اشتركا فيه، ويكون قد سمع ذلك من أحدِهما دون الآخر، فيصرِّح عن الأول بالسماع ويعطف الثاني عليه، فيُوهِم أنه حدّث عنه بالسماع أيضاً، وإنما حدث بالسماع عن الأول ثم نوى القطع فقال: وفلان أي حدث فلان4.
ومثاله ما رواه عبد الله قال: "حدثني أبي قال: حدثنا هُشيم قال: أخبرنا الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يوم خيبر للفرس سهمين وللرجل سهماً. حدثني أبي قال: حدثنا هُشيم قال: وعبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. سمعت أبي يقول: لم يسمعه هُشيم من عبيد الله" 1، فذكر الإمام أحمد أن هُشيماً لم يسمعه من شيخه الثاني، وهو عبيد الله بن عمر، ولم يصرح بعدم السماع بل قطع الكلام ثم وصله في حديث آخر يُوهم أنه قد سمعه منه، وإنما عنى بذلك العطف: وحدّث عبيد الله بن عمر. الحكم على رواية المدلِّس: الذي ورد عن الإمام أحمد في الحكم على رواية من عرف بالتدليس إذا جاءت عنه بدون تصريح بالسماع هو التوقف. قال أبو داود: "سمعت أحمد سُئل عن الرجل يُعرف بالتدليس، يحتجّ فيما لم يَقُلْ فيه: سمعتُ؟ قال: لا أدري، فقلت: الأعمش متى تُصاد له الألفاظ؟ قال: يضيق هذا، أي أنك تحتجّ به" 2. واعتلّ لذلك بأن الأعمش ـ وهو ممن عُرف بالتدليس ـ يحتج بحديثه مع عدم الوقوف على تصريحه بألفاظ السماع، وأنه لو اشتُرط هذا لكان فيه تضييق. وهذا التعليل إن أُخذ على ظاهره فإنه يدل على الاحتجاج بما رواه المدلس بالعنعنة، لكن الإمام أحمد لم يقل بذلك، وإنما توقف في المسألة، والذي أوجب ذلك التوقف أن بعض المدلسين إذا لم يصرحوا بالسماع في مروياتهم جاءوا بالمناكير. قال الأثرم عن أحمد بن حنبل: "إذا قال ابن جريج: قال فلان، وقال فلان، وأُخبرتُ، جاء بمناكير، وإذا قال: أخبرني، وسمعت
فحسبك". وقال الميموني عن أحمد بن حنبل: "إذا قال ابن جُريج: قال فاحذره، وإذا قال: سمعت أو سألت جاء بشيء ليس في النفس منه شيء" 1. وقال أبو داود: "إذا قال ابن جريج: أخبرني في كل شيء فهو صحيح" 2. فهذا يدل على أن ما رواه المدلس بغير لفظ السماع يتوقف فيه، فإن مفهوم قوله: "وإذا قال: سمعت أو سألت جاء بشيء ليس في النفس منه شيء" أن ما لم يقل فيه ذلك ففي النفس منه شيء، لأنه مظان وجود المناكير. والأمر الآخر الذي يُوجب التوقف هو أن الرواة قد يتصرفون في ألفاظ الأداء عن شيوخهم، فيذكرون العنعنة مكان السماع، وقد تقدم أن في كتاب إبراهيم بن سعد بيان الألفاظ عن ابن إسحاق، بينما في كتاب يزيد بن هارون كلها بالعنعنة. قال المروذي أيضاً: "قال أحمد: كان ابن إسحاق يدلِّس، إلا أن كتاب إبراهيم بن سعد يُبين إذا كان سماعاً قال: حدثني، وإذا لم يكن قال: قال. ثم قال: يقول: قال أبو الزناد، قال فلان، قال: وتنظر في كتاب يزيد بن هارون: عن أبي الزناد كلها" 3. وقال عبد الله: "قال أبي: كنت أسأل يحيى بن سعيد عن أحاديث إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن شُريح وغيره، فكان في كتاب إسماعيل: قال: حدثنا عامر، عن شُريح؛ وحدثنا عامر عن شُريح، فجعل يحيى يقول: إسماعيل عن عامر. قلت: إن في كتابي: حدثنا عامر، حدثنا عامر! فقال يحيى: هي صِحاح، إذا كان شيء أخبرتُك ـ يعني مما لم يسمعه إسماعيل عن عامر" 4.
فإذا كان الأمر كذلك فلا يرتبط الحكم على رواية المدلس بمجرد عنعنته لأن صدورها قد لا يكون منه بل ممِن دونه. ولعل هذا ما عناه أبو داود عند ما سمع توقف الإمام أحمد في المسألة فقال كالمعلِّل له: "الأعمش متى تُصاد له الألفاظُ؟ ". وأما غير الإمام أحمد من الأئمة فجمهورهم على الاحتجاج بما رواه المدلس الثقة مما صرّح فيه بالسماع دون ما رواه بلفظ محتمل1، وطائفة منهم يفرق بين أن يُدلس عن الثقات فيُقبلُ حديثُه وإنْ عنعنَهُ، وبين أن يُدلس عن غير الثقات فلا يُقبل حديثُه حتى يصرِّحَ بالسَّماع، وعليه طائفة من فقهاء أصحاب الإمام أحمد كما قال ابن رجب2. وأما التدليس من ناحية الحكم عليه في نفسه كفعل يمارسه بعض الرواة فالذي ورد عن الإمام أحمد هو القول بكراهته، ولما قيل له: قال شعبة: هو كذب، قال أحمد: لا، قد دلّس قوم ونحن نروي عنهم. ا.هـ3. وقال ابن هانئ: "سُئل ـ يعني الإمام أحمد ـ عن داود بن الزِّبِرقان؟ قال: إنما كتبت عنه حديثاً، وقال: ما أُراه يكذب، ولكن كان يدلِّس" 4.
المطلب الثاني: وجوه الإعلال بالتدليس عند الإمام أحمد
المطلب الثاني: وجوه الإعلال بالتدليس عند الإمام أحمد. تقدمت الإشارة إلى أن التدليس علة قادحة في صحة الحديث لأنه سبب من أسباب وقوع الانقطاع المنافي للاتصال المشروط لصحة الحديث. وهناك جملة من الأحاديث انتقدها الإمام أحمد بسبب تدليس بعض رواتها المعروفين بالتدليس، وهذه الأحاديث المنتقدة تكشف لنا وجوه الإعلال بالتدليس عند الإمام أحمد، وهي كالتالي: الوجه الأول: عدم تصريح المدلّس بالسماع في السند. وذلك بأن يروي المدلّس حديثه بالعنعنة ولا يصرّح بالسماع، وهو أمر يرجح وقوع التدليس في روايته تلك، فيدل ذلك على وقوع التدليس في الإسناد فيعلّه الإمام أحمد لهذا السبب، ومن أمثلة ذلك: 1. قال أبو داود: "ذكرت لأحمد حديثَ بقية عن الزَّبِيدي، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن النبي عليه السلام كان يُسلِّم تسليمتيْن. قال: يقول فيه: حدثنا ـ يعني بقية؟ قلت: لا يُنكرون أن يكون سمعه! قال: هذا أبطل باطل" 1. هذا الحديث رواه الطحاوي2، والطبراني3 كلاهما من طريق حيوة ابن شريح، عن بقية عن الزَّبِيدي، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسلم في الصلاة تسليمتيْن، عن يمينه وعن شماله. وأعله الإمام أحمد لعدم تصريح بقية بالتحديث من شيخه، وأنكر على من يحمله على السماع المحتمل. فهذا صريح في أن رواية بقية بالعنعنة دالة على وقوع
التدليس منه، وبالتالي على عدم قبول الإمام أحمد لحديثه إذا لم يصرح بالسماع من شيخه. وبقية من الرواة المعروفين بالتدليس والمشهورين به. وممن أنكر هذا الحديث أبو حاتم الرازي لكنه لم يذكر وجه الإنكار1، وأنكره الهيثمي بسبب عنعنة بقية بن الوليد2. 2. قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: هشيم لم يسمع حديث أبي صالح: [الإمام ضامِنٌ] من الأعمش، وذاك أنه قيل لأحمد إن هشيماً قال فيه: عن الأعمش، قال: حدثنا أبو صالح. وسمعت أحمد مرة أخرى سئل عن هذا الحديث، فقال: حدث به سُهيل، عن الأعمش، ورواه ابن فُضيل، عن الأعمش، عن رجل. ما أُرى لهذا الحديث أصل. حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا ابن نُمير، عن الأعمش قال: نُبئت عن أبي صالح، ولا أُراني إلا قد سمعتُه منه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم ارشُدِ الأئمة واغفر للمؤذنين". حدثنا محمد بن مسلمة المصري، قال: حدثنا ابن وهب، عن جده، عن نافع بن سليمان أن محمد بن أبي صالح أخبره، عن أبيه أنه سمع عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثله" 3. هذا الحديث فيه إعلال بالتدليس من وجهين: الأول: إنكار الإمام أحمد رواية هُشيم عن الأعمش قوله: حدثنا أبو صالح4، لأن هشيماً رواه بالعنعنة وهو مدلس، فلم تصح روايته ولم يعتمد الإمام أحمد صحة
تصريح الأعمش بالتحديث. وهذا هو الشاهد من إيراد المثال تحت هذا الوجه. الثاني: تدليس الأعمش حيث لم يقل في رواية الحديث: أنا أبو صالح، ووُجدت قرينة تدل على أن سماعه منه بواسطة، كما أفاد ذلك الرواية التي ذكرها الإمام أحمد عن محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن رجل عن أبي صالح1، فدل على أن الأعمش كان يدلِّسه حيث يرويه عن أبي صالح. ففي هذا إثبات التدليس لقرينة وجود الواسطة بين المدلس وشيخه، بالإضافة إلى روايته بالعنعنة. وذكر ابن الجوزي عن أحمد أنه قال: ليس لهذا الحديث أصل، ليس يقول فيه أحد عن الأعمش أنه قال: أنا أبو صالح2. وقد ذكر أبو داود أن ابنُ نُمير تابع ابنَ فُضيل على ذكر الواسطة بين الأعمش وأبي صالح، حيث رواه عن الأعمش قال: نُبئتُ عن أبي صالح، لكن ذكر أن الأعمش كان يقول: ولا أُراني إلا قد سمعته من أبي صالح. وهذه الرواية أيضاً عند الإمام أحمد3، لكن يبدو أنه لم يلتفت إلى هذا الاحتمال للسماع الذي ذكره الأعمش، بل اعتمد عدم السماع، ومن أجل ذلك حكم على الحديث بأنه لا أصل له. وممن تابع ابن فضيل على ذكر الواسطة بين الأعمش وأبي صالح أبو بدر شُجاع بن الوليد؛ رواه عن الأعمش فقال: حُدِّثتُ عن أبي صالح4، وكذلك قال أسباط بن محمد5.
وجمهور الرواة عن الأعمش رووه عنه عن أبي صالح، عن أبي هريرة1. وذكر علي بن المديني، عن القطان، عن الثوري قال: ما أُراه سمعه من أبي صالح2، وكان الثوري ممن رواه عن الأعمش، عن أبي صالح3. وكذلك قال ابن معين عن الثوري: لم يسمع الأعمش هذا الحديث من أبي صالح4. وقال ابن المديني: لم يسمع الأعمش بيقين، لأنه يقول فيه نُبِّئتُ عن أبي صالح، نقله البيهقي عنه5. وممن ضعف هذا الحديث من المتقدمين لهذه العلة: علي بن المديني، قال: لا يصح حديث عائشة، ولا حديث أبي هريرة6. وأما ابن حبان فاعتمد قول الأعمش: ولا أُراني إلا سمعته منه، فحكم بصحة الوجهين عن الأعمش: سمعه عن رجل عن أبي صالح، ثم سمعه منه مباشرة، فصحح الحديث7، وهو أيضاً مسلك الشيخ الألباني8. وأما الإمام البخاري فقال: حديث أبي صالح عن عائشة أصح من
حديث أبي صالح عن أبي هريرة1 وهذا الذي رجحه المعلمي أيضاً2. ورجح أبو زرعة، وأبو حاتم3 رواية حديث أبي هريرة4. وأما الدارقطني فحكم على الحديث بالاضطراب عن أبي صالح5، وكذلك أشار البزّار إلى أن أصحاب الأعمش اضطرابوا فيه6. وفي إعلال الإمام أحمد لهذا الحديث بتدليس الأعمش عن أبي صالح دلالة على أن ما ذكره الحافظ الذهبي أن رواية الأعمش بالعنعنة عن شيوخه الذين أكثر عنهم كالنخعي، وأبي وائل، وأبي صالح السمان محمولة على الاتصال7، ليس ذلك على إطلاقه، وإنما يكون من حيث الغالب فقط، وإلا فقد يدلس عن هؤلاء كما اتضح في هذا المثال، وفيما سيأتي في روايته عن أبي وائل، والله أعلم. 3. قال أبو داود: "قلت لأحمد: هُشيم كان يقول في حديث المؤثر بن عفارة: حدثنا؟ قال: نعم، كان يقول أيضاً: حدثنا جبلة، حدثنا مؤثر بن عفارة، حدثنا عبد الله، وكان يرفعه ـ يعني حديث الشفاعة" 8.
لم أقف على ذكر الشفاعة في الحديث الذي رواه هُشيم بهذا الإسناد، وقد رواه الإمام أحمد1 قال حدثنا هُشيم، أخبرنا العوام، عن جَبَلَة بن سُحَيم، عن مُؤثِّر بن عَفازَة، عن ابن مسعود، وليس فيه ذكر الشفاعة، والظاهر أنه هو الحديث المقصود في السؤال. ورواه ابن جرير2 أيضاً من طريق أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا هُشيم بن بشير: قال: أخبرنا العوام، عن جَبلَة بن سُحَيْم عن مُؤثِّر وهو ابن عفارة العبدي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقيتُ ليلةَ الإسراء إبراهيم، وموسى، وعيسى، فتذاكروا أمر الساعة وردّوا الأمر إلى إبراهيم، فقال إبراهيم: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى موسى فقال موسى: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى عيسى قال عيسى: أما قيام الساعة لا يعلمه إلا الله، ولكنّ ربي قد عهِد إليّ بما هو كائنٌ دون وقتِها، عهِد إليّ أن الدَّجَّالَ خارجٌ، وأنه مُهبِطيَّ إليه، فذكر أن معه قصبتين فإذا رآني أَهلَكَهُ اللهُ قال: فيَذُوبُ كما يَذوب الرَّصاصُ حتى إن الحجر والشجر ليقول: يا مسلم، هذا كافرٌ فاقْتُلْه، فيُهلِكُهُمُ اللهُ ويَرجِع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فيستقبلُهُم يَأْجُوج ومَأْجُوج من كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلون، لا يأتون على شيءٍ إلا أكلوه، ولا يَمُرُّونَ على ماءٍ إلا شرِبوه، فيرجع الناسُ إليَّ فيَشكونَهم فأَدعوا اللهَ عليهم، فيُمِيتُهم حتى تجوَى الأرضُ من نَتْنِ رِيحِهِم فينْزِل المَطرُ فيجرُّ أجسادَهم فيُلقِيهم في البحر، ثم يَنسِف الجبالَ حتى تكونُ الأرضُ كالأدِيمِ، فعهِد إليّ ربي أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعةَ منهم كالحامل المتمّ التي لا يَدري أهلُها متى تَفجؤُهم بوِلادِها ليلاً أو نهاراً"3، وفي كلا الطريقين تصريح
هُشيم بالخبر من شيخه العوام بن حوشب. ويفهم من البحث عن التصريح بالسماع التحقق من نفي التدليس، فدل على أن الرواية بالعنعنة من المدلِّس من الأمور الدالة على وقوع التدليس، والله أعلم. 4. قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: حديث ابن شُبرُمة: قال رجلٌ للشعبي: نذرت أن أطلّق امرأتي، لم يقل فيه هشيمٌ: أخبرنا، فلا أدري سمعه أم لا" 1. وفي هذا الأثر توقف الإمام أحمد عن قبول ما رواه هُشيم بالعنعنة، وتوقف أيضاً عن الحكم بوقوع التدليس أو عدمه. وهذا موافق لما تقدم عنه أنه توقف عن الحكم بالاحتجاج برواية من عُرف بالتدليس إذا لم يقل: حدثني أو سمعت2. ولكن يستفاد من هذا أن العنعنة ممن عرف بالتدليس علةٌ تُعلّ بها مروياتهم لا سيما إذا وجدت النكارة فيها، فيرجع سبب النكارة إلى العنعنة التي تقوي من احتمال وقوع التدليس في السند. الوجه الثاني: رواية الحديث عن الراوي المدلِّس من وجه آخر بالتصريح بواسطة بينه وبين شيخه. من الأوجه التي ينكشف بها التدليس فيقع بسببها إعلال الحديث بالتدليس أن يروي الراوي المدلِّس حديثاً عن شيخه، ثم يروي الحديث من وجه
آخر بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ، فيدل على أنه لما رواه بدون واسطة فإنما رواه مدلَّساً، ومن أمثلة ذلك عند الإمام أحمد: 1. قال الإمام أحمد: "حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الحجاج بن أرطأة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ ابنته إلى أبي العاص بمهرٍ جديدٍ. قال عبد الله بن أحمد: قال أبي في حديث حجاج: [ردّ زينب ابنته] قال: هذا حديث ضعيف، أو قال: واهٍ، ولم يسمعه الحجاجُ من عمرو بن شعيب، إنما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي، والعرزمي لا يُساوي حديثه شيئاً، والحديث الصحيح الذي رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّهما على النكاح الأول1" 2. وقد روى عبد الله مثل هذا في العلل3: قال أبي: "روى حجاج عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها بنكاح جديد ـ يعني زينب ابنته صلى الله عليه وسلم على أبي العاص بن الربيع. وسمعته يقول: قرأت في بعض الكتب عن حجاج قال: حدثني محمد بن عبيد الله العرزمي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبي: ومحمد بن عبيد الله ترك الناس حديثه". فقد ضعف الإمام أحمد هذا الحديث بتدليس حجاج بن أرطأة، وكان من الرواة الذين ذكرهم الإمام أحمد بالتدليس. قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن حجاج بن أرطأة فقال: "كان يُدلس، كان إذا قيل له: من حدثك، من
أخبرك؟ قال: لا تقولوا: من أخبرك، من حدثك؟ قولوا: من ذكره؟ " 1. وانكشف التدليس بروايته للحديث من وجه آخر عن شيخه عمرو بن شعيب بواسطة العرزمي، وهو متروك، فدل على أنه لما رواه بدون واسطة فقد دلّسه. ثم هو معارض بما هو أصح منه إسناداً وهو حديث ابن عباس الذي ذكره الإمام أحمد. 2. قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: أفسدوا علينا حديث الزهري ـ يعني حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين". قالوا: عن سليمان بن أرقم، يعني قالوا: عن الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة. فقيل لأحمد: فيصح عندك إفساد الحديث، وإنما رواه ـ يعني ابنُ أبي أُويس؟ قال: أحمد: أيوب ـ أعني ابن سليمان كان أمثل منه. قال أبو داود: قد رواه أيوب بن سليمان بن بلال" 2. حديث الزهري عن أبي سلمة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" رواه يعقوب الفسوي3، والبخاري4، والبيهقي5 كلهم من طريق يونس بن يزيد الأيلي. وأعله الإمام أحمد بالتدليس، وكشف التدليس بدليل رواية من روى الحديث بذكر الواسطة بين الزهري وأبي سلمة. ولما قيل له إن تلك الرواية جاءت من طريق إسماعيل بن أبي أويس6، فهل تعتمد روايته في
إعلال رواية من روى الحديث بدون ذكر الواسطة؟ فذكر رواية أيوب بن سليمان ابن بلال1، وأنه كان أحسن حالاً من ابن أبي أويس. وكلاهما رويا الحديث بواسطة سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. فذكر أن هذه الرواية الكاشفة للتدليس قد أفسدت الحديث أي حيث أبانت علته. ومما يؤيد ذلك أن عبد الله بن عثمان قد روى الحديث أنه من أصل يونس بن يزيد، عن ابن المبارك قال: أخبرني يونس، عن الزهري، وبلغني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت فذكره2، ومثلها رواية عنبسة بن خالد عن يونس عن ابن شهاب قال: حدث أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت ... 3. وممن قال إن الزهري لم يسمع هذا الحديث من ابن أبي كثير الإمام الترمذي فيما نقله عنه العلائي4. 3. قال عبد الله: "حدثني أبي قال: حدثنا هُشيم، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: كنا لا نتوضأ من المَوطي. سمعت أبي يقول: هذا لم يسمعه هُشيم من الأعمش، ولا الأعمش سمعه من أبي وائل" 5. أعله الإمام بالتدليس في موضعين، الأول: هشيم عن الأعمش، والثاني:
الأعمش عن أبي وائل. أما في الموضع الأول فلم أقف على طريقة الإمام أحمد في كشف التدليس، إلا أن يحمل على مجرد عنعنة هُشيم. وأما في الموضع الثاني فقد نقل العلائي عن الإمام أحمد أنه قال: "كان الأعمش يدلس هذا الحديث، لم يسمعه من أبي وائل. قال مهنا: قلت له: وعمن هو؟ قال: كان الأعمش يرويه عن الحسن بن عمرو الفقيمي، وجعله عن أبي وائل، ولم يسمعه منه" 1. وقد أشار الدارقطني إلى القول بأن الأعمش أخذ هذا الحديث عن الحسن بن عمر الفقيمي عن أبي وائل، كما قال الإمام أحمد2. ويؤيد ما ذكره الإمام أحمد أن ابن خزيمة قال: هذا الخبر له علة، لم يسمعه الأعمش عن شقيق، لم أكن فهمته في الوقت، ثم ذكر بإسناده رواية زياد بن أيوب ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، حدثني شقيق أو حدِّثتُ عنه عن عبد الله بنحوه" 3. والحديث أخرجه أبو داود4، وابن ماجه5، وابن خزيمة6، وغيرهم7، ولفظه: "كنا لا نتوضأ من موْطئ، ولا نكف شعراً ولا ثوباً". وقد يقتصر الإمام أحمد على التنصيص بالواسطة من غير إسناد الرواية التي وردت بذكرها، ومثال ذلك: 4. قال عبد الله: "قلت لأبي: علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد طلقها زوجها! قال: لا
أُرى يحيى سمعه إلا من هلال بن أسامة، عن أبي ميمونة. قلت له: فأبو ميمونة هو الذي روى عنه قتادة؟ قال: أُراه" 1. حديث يحيى بن أبي كثير هذا رواه الإمام أحمد2، وابن أبي شيبة3، والطحاوي4، والبيهقي5 كلهم من طريق وكيع بن الجراح، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة: [جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد طلقها زوجُها فأرادت أن تأخذ ولدها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسْتَهِما فيه". فقال الرجل: من يحول بيني وبين ابني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للابن: "اختر أيَّهما شِئت". فاختار أمَّه فذهبت به". ونص الإمام أحمد على أن يحيى بن أبي كثير لم يسمعه من أبي ميمونة، ويرى أنه سمعه من هلال بن أُسامة، عن أبي ميمونة، ولم يسند رواية تصرح بذلك. والحديث معروف من رواية هلال بن أسامة عن أبي ميمونة من وجه آخر. أخرجه ابن جريج6، وابن عيننة7 كلاهما عن زِياد بن سعد، عن هلال بن أسامة، عن أبي ميمونة به وفيه قصة. وقد يكون مستند الإمام أحمد رواية معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير،
عن هلال بن أبي ميمونة، عن أبي هريرة، أخرج هذه الرواية الطحاوي1. وهلال بن أسامة هو هلال بن علي بن أسامة، وهو هلال بن أبي ميمونة، ومن قال هلال بن أسامة فإنما نسبه إلى جده، ومن قال ابن أبي ميمونة فإنما ذكر كنية أبيه، وقد روى عنه يحيى بن أبي كثير2، لكن معاوية بن سلام ذكر الحديث منقطعاً بين هلال وأبي هريرة. وقد يكون ذكر الواسطة لا دلالة فيها على وقوع التدليس كما يقع مثله في الإرسال الخفي، وذلك إذا ورد التصريح بالسماع في الطريق الناقصة، فيقوى احتمال صحة الوجهين: وهو أنه رواه بواسطة عن شيخه، ورواه أيضاً مباشرة عنه. وقوة الاحتمال بحسب قوة الرواية التي فيها التصريح. والأمثلة الآتية وإن كان الظاهر أن الإمام أحمد أشار بوقوع التدليس فيها إلا أن في التحقيق احتمال صحة الوجهين فيها قائم. 5. قال ابن هاني: سألته عن حديث جابر بن عبد الله: أكلت مع النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً ولحماً فقال أبو عبد الله: محمد بن المنكدر لم يسمعه من جابر، إنما هو حديث محمد بن عقيل، عن جابر، رواه ابن المنكدر، عن ابن عقيل، عن جابر3. هذه المسألة روى مثلها أبو داود عن الإمام أحمد، قال: "سمعت أحمد قال: قال سفيان ـ يعني ابن عيينة: سمعت ابنَ المنكدر يقول غير مرة: عن جابر قال: وكأني سمعته مرة يقول: أخبرني من سمع جابراً فظننت أنه سمعه من ابن عقيل حديث جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل ثم صلى ولم يتوضأ" 4.
روى عدد كثير من الرواة هذا الحديث عن محمد بن المنكدر، عن جابر ابن عبد الله بالعنعنة1، واعتمد الإمام أحمد ما ذكره ابن عيينة عن ابن المنكدر أنه قال مرة: أخبرني من سمع جابراً كما ذكر ذلك في رواية أبي داود، وكذلك رواية من روى الحديث عنه بواسطة عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر، ولم أقف على من رواه من هذا الوجه. وقد روى ابن عقيل هذا الحديث عن جابر، رواه عنه ابن عيينة2، وزائدة بن قدامة3، وعبيد الله بن عمرو الرقي4، ومحمد بن إسحاق5. فحمل ابن عيينة قول ابن المنكدر: أخبرني من سمع جابراً على أنه ابن عقيل، إذ الحديث كان معروفاً به من وجه آخر، والظاهر أن الإمام أحمد تبعه على ذلك، وهو أيضاً موقف الشافعي من هذه الرواية فقد روى البيهقي من طريق حرملة عنه أنه قال: "لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر، إنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر" 6. وذكر البيهقي أن ما قاله الشافعي محتمل، لأن صاحبي الصحيح لم يخرجا هذا الحديث من جهة ابن المنكدر عن جابر في الصحيح، مع كون إسناده على شرطهما، وذكر أنه قد روى حجاج بن محمد المصيصي، وعبد الرزاق، ومحمد بن بكر البرساني عن ابن جريج، عن ابن المنكدر قال: سمعت جابر
ابن عبد الله فذكروا الحديث1، ورواه أيضاً عبد الرزاق، عن ابن جريج، ومعمر قالا: أخبرنا محمد بن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد الله2. قال البيهقي: فإن لم يكن ذكر السماع فيه وهماً من ابن جريج فالحديث صحيح على شرط صاحبي الصحيح. ا.هـ3. وعليه يصح رواية الوجهين ولا يكون فيه تدليس، ولم أقف على من نسب ابن المنكدر إلى تدليس. 6. قال أبو بكر الأثرم: "سمعت أبا عبد الله ذكر حديث هُشيم عن ابن شُبرُمَة، عن الشعبي في الذي يصوم في كفارة ثم يُوسِر، فقال: ما أُراه سمعه من ابن شُبرُمة. قيل لأبي عبد الله عن أبي جعفر محمد بن عيسى إنه يقول فيه: قال أخبرنا ابن شُبرُمة، فكأنه تعجّب، ثم قال: هذا قال لي إنسان إنه لم يسمعه، وإنه عن رجل عن ابن شُبرُمة. قلت لأبي عبد الله: إنهم يغلطون عليه ويقولون في كثير من حديثه، إلا أن أبا جعفر عالم بهذا؟ فقال: نعم، أبو جعفر كيس فهم4. لم أقف على هذا الأثر عن الشعبي. وأشار الإمام أحمد إلى عدم سماع هُشيم هذا الأثر من شيخه عبد الله بن شُبرُمة الكوفي، مما يدل على أنه مدلَّس، واعتمد في إثبات ذلك على إخبار إنسان له بأن هشيماً رواه عن رجل عن ابن شُبرُمة، بالإضافة إلى عدم تصريح هُشيم بالسماع في سند الأثر، ولما أُخبر أن محمد بن عيسى بن الطباع رواه عن هُشيم بتصريحه بالخبر قبِل ذلك منه لثقته ومعرفته بحديث هُشيم، فقد كان يرجع إليه الحفاظ عند
اختلافهم في حديث هُشيم. قال أبو حاتم: سمعت محمد بن عيسى يقول: اختلف عبد الرحمن بن مهدي وأبو داود في حديث لهُشيم فقال أحدهما: كان يُدلِّسه، وقال الآخر: بل هو سماع، فتراضيا بي فأخبرتهما بما عندي فاقتصرا عليه1. 7. قال عبد الله: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال سهل بن سعد الأنصاري ـ وكان قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه وذكر أنه ابن خمس عشرة سنة يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: حدثني أُبيّ بن كعب أن الفُتيا التي يفتون بها أن الماء من الماء رُخصة كان النبي صلى الله عليه وسلم رخّص فيها أول الإسلام، ثم أمرنا بالاغتسال. حدثني أبي، قال: حدثنا يحيى بن غيْلان، قال: حدثنا رشدين بن سعد، قال: حدثني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، قال: حدثني بعض من أرضى، عن سهل بن سعد الساعدي، أن أُبيّ بن كعب حدثه [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها رُخصة للمؤمنين لقلة ثيابهم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ـ يعني قوله: "الماء من الماء" 2. بين الإمام أحمد أن الحديث لم يسمعه الزهري من سهل بن سعد، لأنه لم يذكر الخبر، ورواية رشدين بن سعد3 عن عمرو بن الحارث كشفت أن الحديث عند الزهري بواسطة رجل رِضى عنده عن سهل بن سعد، وقد تابع ابنُ وهب رشدين ابن سعد على هذه الرواية4. وقد سمع الزهري من سهل بن سعد جملة،
وروايته للحديث عن سهل بن سعد بواسطة تدل على أن الرواية الأولى مدلَّسة، والزهري، وإن لم يرد عن الإمام التصريح بأنه كان يدلس، إلا أن صنيعه هذا يدل على أنه تدليس. وقد وافق الإمام أحمد على عدم سماع الزهري لهذا الحديث من سهل بن سعد موسى بن هارون الحافظ قال: "كان الزهري إنما يقول في هذا الحديث: قال سهل ابن سعد، ولم يسمع الزهري هذا الحديث من سهل بن سعد، وقد سمع من سهل أحاديث إلا أنه لم يسمع هذا منه، رواه ابن وهب، عن عمرو بن الحرث، عن الزهري قال: حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد أخبره، قال موسى: ولعمري إن كان الزهري سمعه من أبي حازم، فإن أبا حازم رِضَى، فقد روى أبو حازم هذا الحديث عن سهل بن سعد" 1، وزاد على الإمام أحمد تعيين الواسطة2، وكذلك جزم الدارقطني بعدم سماع الزهري للحديث من سهل ابن سعد3. لكن ذكر الحافظ ابن حجر أن في رواية معمر عن الزهري قال: أخبرني سهل بن سعد، فيدفع القول بعدم سماع الزهري من سهل. أخرج هذه الرواية ابن خزيمة4 من طريق محمد بن جعفر غندر عن معمر. وقال ابن خزيمة: في
القلب من هذه اللفظة التي ذكرها محمد بن جعفر ـ أعني قوله: أخبرني سهل ابن سعد ـ وأهاب أن يكون هذا وهماً من محمد بن جعفر أو ممن دونه1.ا. هـ. ويؤيده أن عبد الرزاق رواه عن معمر عن الزهري بالعنعنة، وليس فيه التصريح بالخبر2، وكذلك رواه عبد الأعلى بن عبد الأعلى3، وعبد الواحد بن زياد4 كلاهما عن معمر. ومما قد يدل على سماع الزهري من سهل رواية ابن المبارك، عن يونس ابن يزيد، عن الزهري قال: حدثني سهل بن سعد. قال ذلك عن ابن المبارك معلى بن منصور5، وأبو كريب محمد بن العلاء6. وخالفهما علي بن إسحاق7، وأحمد بن منيع8، وحبان بن موسى9، ويحيى الحماني10، والحسن ابن عرفة11، كلهم رووه عن ابن المبارك بالعنعنة. والثلاثة الأولون كلهم ثقات12، وهم أكثر عدداً من اللذين رويا التصريح.
الوجه الثالث: أن يذكر الراوي المدلِّس أنه لم يسمع الحديث من شيخه الذي رواه عنه. ومما يكشف التدليس تصريح الراوي المدلِّس بأنه لم يسمع الحديث من شيخه الذي رواه عنه، سواء قال ذلك لما أُوقف عنده أو قاله من تلقاء نفسه. ومن أمثلة ذلك عند الإمام أحمد: 1. قال أبو داود: "ثنا أحمد، قال: ثنا سفيان بن عيينة، قال: كان ابنُ جُريج أخبرنا عنه ـ يعني عن كثير، قال: ثنا كثير، عن أبيه حديث الطواف والصَّلاة فسألته فقال: ليس من أبي سمعته ولكن من بعض أهلي، عن جدي". حديث ابن جريج رواه النسائي1، وابن ماجه2، وأحمد3 وغيرهم من طرق عن ابن جريج قال: حدثني كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، عن أبيه، عن المطلب بن أبي وَداعة قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من أسبوعه أتى حاشية الطواف فصلى ركعتين وليس بينه وبين الطُّوَّاف أحد". فسأل سفيان بن عيينة كثير ابن كثير عن الحديث فذكر الواسطة وانكشف تدليسه. ورواية ابن عيينة هذه في مسند الإمام أحمد4 أيضاً5.
2. قال أبو داود: سمعت أحمد قال: "قال يزيد لم يسمع سليمان التيمي حديث سجود النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر من أبي مِجلِز"1. وقال في موضع آخر: "سمعت أحمد سئل عن الإمام يقرأ في الظهر السجدة؟ قال: لا، فذُكر له حديثُ ابن عمر؟ فقال: لم يسمعه سليمان التيمي من أبي مِجلِز، بعضهم لا يقول فيه: عن ابن عمر" 2. وهذا الحديث رواه أحمد في مسنده3، عن يزيد بن هارون أخبرنا سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في الركعة الأولى من صلاة الظهر، فرأى أصحابُه أنه قد قرأ: "تنزيل السجدة". قال: ـ القائل سليمان التيمي ـ لم أسمعه من أبي مِجلِز. ا.هـ. قال ذلك سليمان من غير أن يوقفه أحد. فاحتج الإمام أحمد بذلك على وقوع التدليس في السند وأعلّ الحديث بذلك، حتى إنه روي عنه في موضع آخر أنه قال في الحديث: ليس له إسناد4. وقد رواه معتمر بن سليمان، عن أبيه فذكر الواسطة. رواه أبو داود5، والبيهقي6 من طريق معتمر، عن أبيه، عن أمية، عن أبي مجلز، عن ابن عمر. وذكر ابن حجر أن أبا داود ذكر في رواية الرملي عنه أن أمية هذا لا يعرف، ولم يذكره إلا المعتمر7، وذكر الدارقطني أنه روي عن سليمان، عن أبي أمية، عن أبي مجلز،
قال: ويشبه أن يكون عبد الكريم أبو أمية، وقال ابن رجب: كذا قاله إبراهيم ابن عرعرة1. وذكر ابن حجر عن الدارقطني أنه قال: إن كان ذكر الواسطة محفوظاً فالمراد به عبد الكريم بن أبي المخارق، فإنه يكنى أبا أمية، وهو بصري2. وأما قول الإمام أحمد أن بعضهم لا يقول فيه: عن ابن عمر، فإشارة إلى رواية معتمر بن سليمان، عن أبيه قال: بلغني عن أبي مجلز أن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. أخرجه ابن أبي شيبة3. الوجه الرابع: تنصيص الإمام على عدم سماع الراوي لحديث معينٍ من شيخه. وهو وجه يكشف تدليس الراوي المدلس ويتم به إعلال حديثه بالتدليس، وذلك بأن يذكر الإمام حديثاً من حديث الراوي المدلس فينص على أنه لم يسمعه من شيخه. ومن أمثلة ذلك عند الإمام أحمد: 1. قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: حدثنا هُشيم، عن يعلى بن عطاء، عن عبد الله بن سفيان الثقفي، عن أبيه أن رجلاً قال: يا رسول الله، وقد قال هُشيم: قلت: يا رسول الله، مُرني بأمر الإسلام أمراً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال أبي: لم يسمعه هشيم من يعلى بن عطاء" 4. وهذا الحديث أخرجه أحمد5 من طريق هشيم، وكذلك البيهقي6 من طريق النفيلي، والخطيب7 من طريق محمد بن أبي الدنيا، وعبيد الله بن عمر
الجشمي، كلهم عن هشيم عن يعلى بن عطاء، عن عبد الله بن سفيان الثقفي عن أبيه سفيان بن عبد الله بن ربيعة الثقفي "أن رجلاً قال: يا رسول الله ـ وقد قال هشيم: قلت: يا رسول الله ـ مرني في الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحداً بعدك قال: "قل آمنتُ بالله ثم استقِم". قال: قلت: فما أتقي؟ فأومأ إلى لسانه. وهذا لفظ أحمد، وكلهم رووه عن هشيم بالعنعنة عن يعلى بن عطاء. فنص الإمام أحمد على أن هُشيماً لم يسمعه من شيخه يعلى، وقد سمع منه أحاديث. قال عبد الله: قال أبي: قال هشيم: فارقنا يعلى بن عطاء سنة عشرين ومائة1. وقال يحيى بن معين: قد سمع هشيم من يعلى بن عطاء، وكان صغيراً جداً2. والحديث ثابت عن يعلى بن عطاء، حدث به شعبة عنه3 فتدليس هشيم هنا لا يضر، ولعله أخذه عن ثقة عن يعلى بن عطاء. 2. قال عبد الله: سمعت أبي يقول في حديث هُشيم عن أبي بِشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذراري المشركين. قال أبي: لم يسمعه هُشيم من أبي بشر4. حديث هُشيم عند أحمد5، والنسائي6، وأبي يعلى7، ولم يصرح هشيم بالتحديث. وأبو بِشر جعفر بن إياس بن أبي وحْشية من شيوخ هشيم، وأخرج
الجماعة حديثه عنه1، وتنصيص الإمام أحمد على عدم سماع هُشيم لهذا الحديث منه يدل على أن هشيماً قد دلّسه، ولم أقف على الواسطة بينهما. والحديث ثابت من طرق أخرى عن أبي بشر؛ رواه عنه شعبة2، وأبو عوانة3. 3. وقال أبو داود: وسمعت أحمد ذكر حديث هُشيم، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يوم خيْبر للفرس سهمين وللرجل سهماً. قال لم يسمعه يعني هشيم" 4. وتقدم أن الإمام أحمد أشار إلى أن هُشيماً دلّسه تدليس العطف عن عبيد الله ابن عمر العمري5، وقد سمعه من الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، ولما روى الإمام أحمد الحديث في المسند قرن هُشيماً في الإسناد بأبي معاوية عن عبيد الله العمري من أجل التدليس في رواية هشيم6. والأمثلة في هذا النوع كثيرة جداً في الأحاديث والآثار، وقد ذكر عبد الله ابن أحمد بن حنبل عن أحمد جملة من روايات هشيم عن بعض شيوخه هي من هذا القبيل7. وقد يكون نفي السماع خفياً جداً، وذلك بأن يكون الراوي المدلس قد سمع الحديث جملة من شيخه إلا جزءاً منه، فينص الإمام أحمد وينبه على الجزء الذي لم يسمعه المدلس. مثال ذلك:
قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: لم يسمع هشيم هذه الكلمة من يعلى ابن عطاء في حديث جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه [أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الغداة فانحرف] 1. روى حديث يزيد بن الأسود عدد من الرواة عن يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه قال: [صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر بمنى فانحرف فرأى رجلين من وراء الناس، فدعا بهما فجيء بهما تُرعد فرائصُهما فقال: "ما منعكما أن تُصلِّيا مع الناس؟ " فقالا: قد كنا صلينا في الرحال, قال: "فلا تفعلا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فليصلها معه، فإنها له نافلة"، ومن هؤلاء الرواة غير هشيم، شعبة2، والثوري3، وشريك4، وهشام بن حسان5، وأبي عوانة6، وحماد بن سلمة7 وغيرهم. ورواه الإمام أحمد من حديث هشيم، فلم يذكر قوله: فانحرف، وذكر في هذا السؤال أن قوله في الحديث: فانحرف، لم يسمعه هشيم من يعلى. قال أحمد في المسند8 بعد أن أورد الحديث: "وربما قيل لهشيم: فلما قضى صلاته يحرف، فيقول: يحرف
عن مكانه" وهذا اللفظ رواه الثوري في حديثه، وكذلك أبو عوانة، ووقع أيضاً عند بعض من رواه عن هشيم منهم أحمد بن منيع1، وأبو الربيع2، وأبو بكر ابن أبي شيبة3. ولم يذكر ذلك الإمام أحمد كما تقدم، وكذلك زياد بن أيوب4، ومحمد الدولابي5 كلهم عن هشيم. فنصّ الإمام أحمد على أن هذه الكلمة لم يسمعها هشيم من يعلى، ومن القرائن المؤيدة لذلك كون بعض من روى الحديث عن هشيم لم يذكرها، وكأنه أخذها عن الحاضرين الذين ذكرهم الإمام أحمد أنهم ربما قالوا له: [فلما قضى صلاته يحرف] ، وهذا من دقائق العلل نبه عليه الإمام أحمد رحمه الله. الوجه الخامس: تنصيص الإمام على عدم سماع المدلِّس من شيخه إلا أحاديث معينة. وذلك بأن ينص الإمام على أن أحاديث معينة هي المسموعة للراوي المدلِّس من شيخه، فيحكم على ما زاد عنها بأنها مدلَّسة. ومن ذلك: 1. أحاديث هشيم عن الزهري: قال أبو طالب: "قال أبو عبد الله: ما صحّ من سماع هشيم عن الزهري أربعة أحاديث يقول: حدثنا الزهري، الحديث الطويل حديث الرجم6، وحديث صفية، وحديث المجادلة7، وحديث ابن عمر: [ما استيسر من الهدي] 8، وما كان غير ذلك يقول: لا أدري من سفيان بن حسين
سمعته أو الزهري. قلت: يقولون إن شعبة رضي بكتابه؟ قال: لا، ليس هذا بشيء إنما سمع بالموسم فنسي" 1. فحكم الإمام أحمد على جملة من الأحاديث رواها هشيم عن الزهري بأنه لم يسمعها منه، وهذه الرواية تدل على أن الواسطة ببينه وبين الزهري هو سفيان ابن حُسين. قال عنه أحمد: ليس بذاك، في حديثه عن الزهري شيء2. وقال ابن معين: حديثه عن الزهري قط ليس بذاك، إنما سمع من الزهري بالموسم3. ومن تلك الأحاديث: أ. قال ابن هاني: سألته عن حديث هشيم، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم". قال لي أبو عبد الله: لم يسمعه هُشيم من الزهري، وكتبته" 4. ورواه عبد الله قال: "سمعت أبي يقول: لم يسمع هُشيم من الزهري حديث علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين شتَّى"، قال أبي: وقد حدثنا به هُشيم" 5. هذا الحديث أخرجه الترمذي6، والنسائي7 وغيرهما. وقد روى الحديث سفيان بن عيينة، عن الزهري8، وتابع ابنَ عيينة غيرُ واحدٍ من
أصحاب الزهري1، ولذلك حكم عليه الترمذي بأنه: حسن صحيح. لكن أشار ابن عبد البر إلى أن هشيماً تفرد برواية الحديث بلفظ: لا يتوارث أهل ملتين شتّى، وقال: هشيم ليس في ابن شهاب بحجة2. ب. قال عبد الله: سمعت أبي يقول: لم يسمع هُشيم من الزهري حديث سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يرفع يديه إذا كبّر". أخرج هذا الحديث ابن أبي شيبة3، ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح وإذا ركع وإذا رفع رأسه ولا يجاوز بهما أذنيه". والحديث مشهور للزهري، لكن قوله: ولا يجاوز بهما أذنيه لم أره لأحد من أصحاب الزهري، وإنما قالوا: يرفعهما حذوَ منكبيه4. وقد رواه هُشيم، عن الفضل بن عطية، عن سالم، عن أبيه به5، ولم أر لفضل بن عطية رواية عن الزهري، وقد يكون هشيم حمل حديث الزهري على حديث الفضل بن عطية لعدم ضبطه لحديث الزهري، والعلم عند الله. 2. أحاديث هُشيم عن جابر الجُعفي: قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: هذان الحديثان سمعهما هُشيم من جابر الجُعفي، وكل شيء حدّث عن جابر
مدلّس إلا هذين: حدثني أبي قال: حدثنا هُشيم، قال: أخبرنا جابر الجعفي، عن أبي جعفر، عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقِدرٍ يغلي فأخذ منها عرقاً أو كتفاً فأكله ثم صلى ولم يتوضأ". حدثني أبي، قال: حدثنا هُشيم، عن جابر ـ قال: أبي وهو مما سمعه منه ـ عن الحسن بن مسافر، عن أبي سبرة النخعي قال: "لما قدم عمر الشَّام أُتي بطعام فلما فرغ أُتي بثوب كتّان أو قال: سابري، فقالوا: امسح به يدك، فقال: إن كان ذلك ليكفي رجلاً من المسلمين، وأبى أن يمسح به يده، قال: فلما حضرت الصلاةُ صلى ولم يتوضأ"1. وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل قيل له: "هُشيم سمع من جابر الجعفي؟ قال: سمع منه حديثيْن فقط، ولكن كان يحدّث عنه مراسيل، أحد الحديثين حديث ابن عباس في الكتف" 2. وقال الخطيب: قد دلّس هُشيم عن جابر الجُعفي وعن غيره من شيوخه أحاديث كثيرة3. 3. أحاديث هُشيم عن أيوب السختياني: قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: لم يسمع هُشيم من أيوب إلا حديثاً واحداً" 4. وأما ابن معين فقال: قد سمع منه حديثاً أو حديثين5.
4. الحكم بن عُتيبة عن مِقسم: تقدم أن الإمام أحمد قال: لم يصحّ سماعُ الحكم من مِقسم إلا في أربعة أحاديث. قال عبد الله: "سمعت أبي يقول الذي يصحح الحكم عن مقسم أربعة أحاديث: حديث الوتر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُوتر، وحديث عزيمة الطلاق عن مقسم عن ابن عباس في عزيمة الطلاق، والفي الجماع1، وعن مقسم عن ابن عباس أن عمر قنت في الفجر، هو حديث القنوت، وأيضا عن مقسم رأيه في محرم أصاب صيداً قال: عليه جزاؤه، فإن لم يكن عنده قُوِّم الجزاء دراهم ثم تُقوَّم الدراهمُ طعاماً. قلت: فما روي غير هذا؟ قال: الله أعلم يقولون هي كتاب، أرى حجاجاً روي عنه عن مِقسم عن ابن عباس نحوا من خمسين حديثاً، وابن أبي ليلى يغلط في أحاديث من أحاديث الحكم، وسمعت أبي مرة يقول: قال شعبة هذه الأربعة التي يصححها الحكم سماع من مقسم" 2. وقد روي عن أحمد زيادة حديث آخر، وهو حديث الحجامة في الصيام3. فهذا قد عدّه بعض المحدثين نوعا من أنواع التدليس، وهو أن يروي عن شيخه ما لم يسمعه منه سماعاً وإنما أخذها من صحيفة وجادة، فقد اعتبر ابن حبان رواية الحكم بن عتيبة، وليث بن أبي سليم، وابن أبي نجيح، وابن جريج، وابن عيينة تفسير مجاهد عنه تدليساً، لأنهم لم يسمعوه وإنما نسخوه من كتاب القاسم بن أبي وبرة الذي سمعه من مجاهد4.
وقد نُسب الحكم بن عتيبة إلى التدليس1، ولم أقف عن الإمام أحمد على التصريح بشيء من ذلك في الحَكم، إلا ما ذكره هنا مما هو عند التحقيق صورة من صور التدليس. الوجه السادس: الإعلال بالنكارة وسببها التدليس. إذا وقعت النكارة في الحديث الذي ظاهر سنده الصحة فإن عادة النقاد أن يُرجعوا علة النكارة إلى علة قادحة إن وجدت، وإلا ذكروا علة محتملة لأن تكون قادحة وإن لم يكن وجودها محققاً، وقد سبق كلام المعلمي في هذا في الكلام حول الإعلال بكذب الراوي2. وهذا المسلك قد سلكه الأئمة في إعلال حديث المدلس حيث يروي الحديث بدون تصريح بالإخبار من شيخه في السند ووقعت النكارة في الحديث إما بالغرابة المستنكرة أو المخالفة أو غير ذلك فيعللون الحديث بالتدليس المحتمل من المدلس، ويرونه منشأ علة النكارة. ومن أمثلة ذلك عند الإمام أحمد: 1. قال مهنا: قلت لأحمد ويحيى: حدثوني عن عبد المجيد بن أبي رواد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل أمة فرعون، وفرعون هذه الأمة معاوية بن أبي سفيان". فقالا جميعاً: ليس بصحيح، وليس يُعرف هذا الحديث في أحاديث عبيد الله، ولم يسمع عبد المجيد بن أبي روّاد من عبيد الله شيئاً، ينبغي أن يكون عبد المجيد دلّسه، سمعه من إنسان فحدّث به3.
ذكره ابن الجوزي1، ونقل رواية مهنا هذه. ووجه النكارة كما ذكره أحمد وابن معين كون الحديث ليس معروفاً من أحاديث عبيد الله العمري، وهو حافظ مكثر قد جمع حديثه وعُرف، فيستغرب أن لا يرويه إلا عبد المجيد بن أبي رواد، والإسناد ظاهره الصحة وعبد المجيد لما كان ثقة عندهما2، لم يُلزقا النكارة به، بل ألزقاها بالرجل المجهول الذي هو الواسطة بينه وبين عبيد الله العمري. فالشاهد أنهما جعلا علة الحديث التدليس المحتمل من عبد المجيد لأنه لم يسمع من عبيد الله، فالمحتمل أن يكون سمعه من إنسان غير ثقة عن عبيد الله فدلّسه عنه. ولا شك أن عبد المجيد قد عاصر عبيد الله العمري، فقد روى عن أقرانه مثل ابن جريج، ومعمر3، لكن نص أحمد وابن معين على أنه لم يسمع من عبيد الله العمري شيئاً، فروايته عنه مرسلة، وأطلقا عليها اسم التدليس. وقد اعتمد العلائي هذه الرواية عن أحمد في عدّ عبد المجيد من المدلسين4، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك. ونكارة متن الحديث واضحة من وجه آخر، فإن المعروف في رواية هذا المتن: "لكل أمة فرعون، وفرعون هذه الأمة أبو جهل". هكذا رواه الشاشي5 من طريق الطيالسي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود به مرفوعاً. وأبو عبيدة وإن كان لم يسمع من أبيه لكن رواياته عنه صحيحة كما قال ابن رجب6.
2. قال عبد الله: حَدّثتُ أبي بحديث المُحاربي عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التَّشبيه في الصَّلاة، فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً". فأنكره أبي واستعظمه، ثم قال أبي: المحاربي، عن معمر؟ قلت: نعم، فأنكره جداً. والحديث حدثني به أبو الشعثاء، وأبو كريب قالا: حدثنا المحاربي. قال أبو عبد الرحمن عبد لله بن أحمد: ولم نعلم أن المُحاربي سمع من معمر شيئاً، وبلغنا أن المحاربي كان يدلّس1. هذا الحديث الذي ذكره عبد الله للإمام أحمد رواه ابن ماجة2 عن أبي كُريب، عن المُحاربي به. وهذا الإسناد ظاهره الصحة. قال ابن حجر: "رواته ثقات لكن سُئل أحمد عنه فقال: إنه منكر" 3. ووجه النكارة أنه جعله من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري، والمعروف أن هذا الحديث يرويه الزهري عن ابن المسيب مرسلاً، وعن عباد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد مسنداً، هكذا رواه الجماعة4 إلا الترمذي من طرق عن سفيان بن عيينة، عن الزهري به. وأرجع الإمام أحمد العلة إلى رواية المُحاربي عن معمر، وأوضح ذلك عبد الله بأن المحاربي لا يُعلم سماعُه من معمر، وكان يدلس، أي فربما أخذه عن إنسان غير ثقة فدلسه عن معمر. ويؤيد هذا التوجيه أن معمراً يروي الحديث عن يحيى بن أبي كثير، عن عياض بن هِلال، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شبَّه على أحدكم الشيطانُ وهو في صلاته فقال: أحْدثتَ، فليقل في نفسه: كَذَبتَ، حتى يسمعَ صوتاً بأذنيْه أو يجد ريحاً بأنفه، وإذا صلى
أحدكم فلم يَدرِ أزاد أم نقص فليسجد سجدتيْن وهو جالس" 1، فلعل هذا الذي حدّث المحاربي بالحديث لم يضبط حديث معمر فجعله عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي سعيد، فأخذه عنه المحاربي ورواه عن معمر بإسقاط الواسطة. فالشاهد أن النكارة في هذا الإسناد راجعة إلى تدليس محتمل من المحاربي في روايته عن معمر. 3. قال عبد الله: ذكَر أبي حديثَ المُحاربي، عن عاصم، عن أبي عثمان حديث جَرِير: تُبْنى مدينةٌ بين دِجْلَة ودُجَيْل، فقال: كان المُحاربي جليساً لسيف بن محمد ابن أخت سفيان، وكان سيف كذّاباً، فأظن المحاربي سمع منه. قيل له: إن عبد العزيز بن أبان رواه عن سفيان، فقال: كل من حدّث به فهو كذاب ـ يعني عن سفيان. قلت له: إن لوَيْنا حدثناه عن محمد بن جابر، فقال: كان محمد ربما أَلحَق في كتابه، أو يُلحِق في كتابه ـ يعني الحديث. وقال هذا حديث ليس بصحيح أو قال كذب" 2. هذه المسألة تقدم ذكرها في الكلام عن الإعلال بكذب الراوي، والشاهد منه هنا أن هذا الحديث الذي حكم عليه الإمام أحمد بأنه كذب ظاهر إسناده الصحة، وأرجع سبب نكارة المتن إلى احتمال تدليس المحاربي في روايته للحديث عن عاصم، وأنه يحتمل أن يكون سمع الحديث من سيف بن محمد ـ وكان كذاباً ـ فدلسه عن عاصم وأسقط سيف بن محمد. 4. قال ابن رجب في حديث رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يُسيء
في صلاته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسن صلاتَك"، وأمره أن يرفع يديه عند تكبيرة الاستفتاح للصلاة، وبالقراءة، وبرفع يديه إذا كبّر للركوع، وبرفع يديه عند تكبيرة السجدة التي بعد الركوع" قال: خرجه ابن جوصا في "مسند الأوزاعي"، وهو مرسل. قال ابن رجب: والوليد مدلس عن غير الثقات، وقد استنكر الإمام أحمد حديثه هذا. ا.هـ1. وهذا الإسناد الذي ذكره ابن رجب ظاهره الصحة، وإنما استنكره الإمام لما فيه من الأمر برفع اليدين في المواضع الثلاثة، وقد روي الحديث عن الأوزاعي، عن إسحاق، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعفل ذلك في صلاته، وقال ابن رجب هو أصح، أي من الحديث الذي فيه الأمر. ولا ترجع العلة إلا إلى تدليس الوليد بن مسلم، فقد رواه عن الأوزاعي بالعنعنة وهو مشهور بالتدليس عن غير الثقات، فأصبح احتمالُ التدليس هو علة وقوع النكارة في المتن.
المطلب الثالث: تدليس الشيوخ والإعلال به عند الإمام أحمد
المطلب الثالث: تدليس الشيوخ والإعلال به عند الإمام أحمد. وتدليس الشيوخ هو القسم الآخر من قسمي التدليس، وهو أن يروي المحدث عن شيخ سمع منه حديثاً، فغيّر اسمه، أو كنيته، أو حاله المشهورة من أمره لئلا يُعرف1. والإعلال بهذا النوع من التدليس ليس من باب الإعلال بالانقطاع، فإن السماع هنا ثابت، وإنما هو من باب تغطية الراوي المجروح، إذ وصف الراوي بما لم يعرف به يجعله في حيز المجهول المعدوم العدالة وقد تكون حالته أسوأ من حالة المجهول. وقد أشار الإمام أحمد إلى أن عطية بن سعد العوفي كان مشهوراً بهذا النوع من التدليس. روى الخطيب عن أحمد بن حنبل أنه قال: "بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير فكان يكنيه بأبي سعيد، فيقول: قال أبو سعيد، وكان هُشيم يضعّف حديث عطية" 2 وكنية الكلبي أبو النضر، فغير عطية كنيته ليوهم الناس أنه يروي عن أبي سعيد الخدري التفسير الذي كان يأخذه عنه. ومن الأمثلة على ما كشفه الإمام أحمد من هذا النوع من التدليس في الأسماء الواقع في بعض الأسانيد: 1. قال أبو داود قال: قلت لأحمد: "من الفزاري الذي يحدِّث عنه محمد ابن سلمة حديث البراء: "من كذب علي"؟ قال: هو محمد بن عبيد الله العَرزَمي، كان يقول في عرزم ـ وكان فزارياً ـ فكان يقول ـ يعني محمد بن سلمة ـ الفزاري" 3.
هذا الحديث رواه أبو نعيم1، والحاكم2، والخطيب3 من طرق عن محمد ابن سلمة، عن الفزاري محمد بن عبيد الله، عن طلحة بن مصرف، عن عبد الرحمن ابن عوسجة، عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليّ متعمداً ليضل به الناس فليتبوأ مقعدَه من النار". فمحمد بن سلمة وهو الحراني4، دلّس اسم شيخه محمد بن عبيد الله العرزمي فسماه الفزاري لكي لا يُعرف حتى إن ذلك خفي على أبي داود، والعرزمي متروك الحديث عند أئمة الحديث، لا يختلفون فيه كما قال الحاكم5. وهذا الفعل يجعل الإسناد أحسن حالاً منه لو أنه صرّح باسمه، فإن غايته أن يكون شيخ محمد بن سلمة مجهولاً، وحديث المجهول أحسن حالاً من حديث الراوي الموصوف بأنه متروك الحديث. وفي الحديث لفظة منكرة، وهي قوله: "ليُضلّ الناس بغير علم"، وقد أشار الحاكم إلى نكارتها. 2. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "حدثني أبي، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، شيخ كان في بجيلة، عن إبراهيم قال: [لا يصلي المتيمّم إلا صلاة واحدة] . قال أبي زعموا أنه الحسن بن عمارة، قال أبي: كان الحسن بن عمارة ينزل في بجيلة، أرى أن أبا معاوية غيّر اسمه" 6.
وهذه الرواية رواها العقيلي1 أيضاً والخطيب2. قال الخطيب في الحسن بن عمارة: وهو عبد الله بن عبد الرحمن الذي روى عنه أبو معاوية الضرير3. وإنما كشف ذلك الإمام أحمد. والحسن بن عمارة البَجَلي متروك4، فدلّس أبو معاوية اسمه لكي لا يعرف.
الباب الرابع: إعلال الأحاديث بالشذوذ وبالعلل الخفية
الباب الرابع: إعلال الأحاديث بالشذوذ وبالعلل الخفية الفصل الأول: الإعلال بالتفرد والمخالفة. المبحث الأول: التفرد والإعلال به عند الإمام أحمد. المطلب الأول: معنى التفرد والغرابة عند الإمام أحمد. التفرد لغة مأخوذ من الفرد. قال ابن فارس: "الفاء والراء والدال أصل صحيح يدل على وُحدة، ومن ذلك الفرْد وهو الوَتْر، والفارِد والفَرْد الثَّوْر المنفرِد، وظَبية فارِد انقطعت عن القَطِيع، وكذلك السِّدرة الفاردة انفردت عن سائر السِّدر" 1. وعرفّه الذهبي في الاصطلاح فقال: "والتفرد يكون لما انفرد به الراوي إسناداً ومتناً، ويكون لما تفرد به عن شيخ معين" 2. فذكر نوعين للتفرد: الأول منهما ـ وهو ما اصطُلِح عليه بالفرد المطلق ـ هو تفرد الراوي برواية الحديث إسناداً ومتناً، أي لم يُرو الحديث بإسناده ومتنه إلا من طريقه. والثاني ـ وهو ما اصطُلِح عليه بالفرد النسبي ويكثر إطلاق الغريب عليه ـ هو التفرد عن شيخ معين ولو كان أصلُ الحديث معروفاً من وجه آخر3. ولم أقف على استعمال الإمام أحمد للفظ التفرد، لكن ذكر أبو داود أنه سأله فقال: "إسرائيل إذا انفرد بحديث يُحتج به؟ قال إسرائيل ثبت الحديث" 4، وليس في هذا السؤال تمييز لنوع التفرد هل هو من قبيل المطلق أو النسبي. وقد يكون الاستعمال هنا على المعنى اللغوي، وهو قريب من المعنى الاصطلاحي في
كلا حالتيه، لأن الذي يروي حديثاً لا يرويه غيرُه قد انقطع عن سائر الرواة وانفرد عنهم، وكذلك الذي يروي حديثاً عن شيخه لا يرويه عنه غيرُه. والذي ورد عن الإمام أحمد هو استعمال لفظ الغرابة ومشتقاتها، وذكر الحافظ ابن حجر أنها والتفرد مترادفان لغة واصطلاحاً1. ويرجع استعمال هذا اللفظ عند الإمام أحمد إلى معنين: الأول: التفرد المطلق. قال الميموني: ذكر أبو عبد الله أن معمراً لقي هماماً ـ يعني ابن منبه ـ شيخاً كبيراً في أيام السودان، فقرأ على معمر، ثم ضعُف الشيخُ فقرأ معمر الباقي عليه، وهي أربعون ومئة حديث فيها غرائب، منها: "كان داود يأمر بدابته فتسرج فيقرأ القرآن"2. وقال الميموني في موضع آخر: قال لي أحمد بن حنبل: "همَّام بن منبِّه روى عنه أخوه وهب بن منبِّه، وكان رجلاً يغزو، وكان يشتري الكتب لأخيه وهب، فجالس أبا هريرة بالمدينة، فسمع أحاديث ـ وكان قد أدرك المسوِّدة3 وسقط حاجباه على عينيه ـ وهي نحو أربعين ومئة حديث بإسناد واحد، ولكنها مقطَّعة في الكتب، وفيها أشياء ليست في الأحاديث" 4. فقد فسّرت الروايةُ الثانية الغرائب بأنها أشياء ليست في الأحاديث، أي لا تروى إلا من ذلك الوجه، وهذا النوع من الأحاديث هو الفرد المطلق. والمثال
الذي ذكره الإمام أحمد ظاهره من ذلك، فقد رواه في مسنده1، وكذلك البخاري2 وغيرهما عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُفّف على داود عليه السلام القراءة، فكان يأمر بدابته تسرج، فكان يقرأ القرآن3 من قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه". فإن ظاهر هذه الرواية أنها من مفردات همام بن منبه من بين أصحاب أبي هريرة، ولعل من أجل هذا تجنب الإمام مسلم إخراجه، مع إخراجه عدداً من الأحاديث هي في صحيفة همام بن منبه. وكأن الإمام البخاري لاحظ هذا الظاهر فذكر ما يدفعه، فقال ـ بعد سياقه للحديث: رواه موسى بن عقبة، عن صفوان، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم 4. الثاني: إطلاق هذه اللظفة على الفرد النسبي، ومن ذلك: قال عبد الله: "حدثني أبي، قال: حدثنا يحيى، عن سفيان، عن هشام ابن أبي عبد الله، عن عامر الأحول، عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح الأمة على الحرّة. قال أبي: حديث سفيان، عن هشام بن أبي عبد الله غريب، إنما رواه عمرو بن عبيد، وهو غريب من حديث عامر الأحول. قال أبي: وحدثناه الفزاري ـ يعني مروان ـ عن هشام ابن أبي عبد الله" 5.
أطلق الإمام أحمد الغرابة على رواية هذا الحديث من طريق عامر الأحول، عن الحسن البصري، فقال: غريب من حديث عامر الأحول، فالمقصود بالغرابة هنا التفرد النسبي، وليس التفرد المطلق، لأن الحديث روي من وجه آخر عن رجل، عن الحسن، وبينت رواية ابن عيينة أن الرجل المبهم هو عمرو بن عبيد1، وإنما يستغرب من رواية عامر الأحول، عن الحسن2 حيث لم يرد ذلك إلا في رواية هشام الدستوائي. وقال عبد الله أيضاً: "حدثني أبي، قال: حدثنا هُشيم قال: أخبرنا يحيى ابن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة وهي تلعب بالبنات ومعها جوار فقال لها: "ما هذا يا عائشة؟ " فقالت: هذه خيل سليمان، قال: فجعل يضحك من قولها. سمعت أبي يقول: غريب، لم نسمعه من غير هُشيم، عن يحيى بن سعيد" 3.
هذا الحديث استغربه الإمام أحمد من حديث يحيى بن سعيد، عن محمد ابن إبراهيم التيمي، لأنه لم يسمعه من هذا الوجه إلا من هُشيم، فسماه غريباً، فهو من التفرد النسبي. والحديث يرويه سعيد بن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب الغافقي، عن عمارة ابن غزية، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن عائشة به1، وهو في الصحيح من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بدون ذكر خيل سليمان2. وقال الأثرم: "حدثنا أحمد، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا أدرك من الجمعة ركعة صلى إليها أخرى، وإذا أدركهم جلوساً صلى أربعاً. قال أبو عبد الله: ما أغربه ـ يعني أن هذا الحديث غريب عن ابن عمر" 3. وهذا التفسير يحتمل أنه من ابن عبد البر، وهو مشكل، فإن الرواية بهذا الأثر قد جاءت من طرق أخرى عن ابن عمر؛ رواه الثوري، عن الأشعث، عن نافع، عن ابن عمر4، وتابعه عبد الله بن عمر العمري، عن نافع5. ورواه أيضاً هشيم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع عن ابن عمر6. فلا وجه لاستغرابه من حديث ابن عمر. والذي يظهر لي أن الإمام أحمد استغرب الحديث من رواية أيوب، عن
نافع، عن ابن عمر، فقد رواه إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن نافع قوله1، فالمقصود بالغرابة كونه من رواية أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، والله أعلم. وقد كان من منهج السلف ذم الأحاديث الغريبة. قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الغريب من الحديث. وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد الضالة، فإذا عُرف، وإلا فدعه2. وقال أحمد: لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير، وعامتها عن الضعفاء3. والأصل في ذم الغرائب ما رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه4 من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في آخر الزمان دجَّالون كذَّابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم". وهذا وصف للأحاديث الغريبة. وليس كل حديث غريب منكراً، فقد روى الخلال عن المرُّوذي قال: "ذكرتُ لأبي عبد الله حديث محمد بن سلمة الحراني، عن أبي عبد الرحيم، حدثني زيد بن أبي أُنيسة، عن المِنهال، عن أبي عُبيدة، عن مسروق: ثنا عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] من العرش إلى الكُرسيّ". قال أبو عبد الله: هذا حديث غريب، لم يقع إلينا عن محمد بن سلمة، واستحسنه" 5.
وعن أبي طالب أنه سأل أبا عبد الله عن هذا الحديث، وجعل يقرأه عليه فقال: ما أحسنه، إنما سمعناه عن أبي عوانة، عن الأعمش مرسلاً. ا.هـ1. فوصف الحديث بالغرابة ثم استحسنه، فدل على أن لا تلازم بين الأمرين.
المطلب الثاني: حد المنكر عند الإمام أحمد
المطلب الثاني: حد المنكر عند الإمام أحمد. إن أكثر الألفاظ استعمالاً لدى الإمام أحمد في إعلال الأحاديث هو لفظ "المنكر"، وكذلك ما رواه تلاميذه عنه من الإعلال كان أغلبه بألفاظ ترجع إلى أصل هذا اللفظ مثل: "أنكره"، "وأنكره أشد الإنكار" ولما كانت المصطلحات لدى الأئمة المتقدمين قلَّما يرِد عنهم وضع لحدودها تعين على الباحث تتبع المعاني التي أطلق الإمام أحمد هذا اللفظ عليها للوصول إلى الصورة المقرِّبة لحد هذا المصطلح عند هذا الإمام. وقد تقدم ذكر مصطلح المنكر عند الإمام أحمد تحت الألفاظ التي يستعملها الإمام أحمد لأحاديث الكذّابين وإحالة بقية الكلام إلى هذا المطلب. والكلام فيه يحتوي على مسائل: المسألة الأولى: حد المنكر لغة. قال ابن فارس: "النون والكاف والراء أصل صحيح يدل على خلاف المعرفة التي يسكن إليها القلب، ونكِر الشيء وأَنكَره: لم يقبله قلبُه، ولم يعترف به لسانُهُ، والباب كله راجع إلى هذا ... والإنكار خلاف الاعتراف" 1. وقال ابن المنظور: "المُنكَر من الأمر خلاف المعروف، وقد تكرّر في الحديث الإنكار والمُنكَر، وهو ضد المعروف ... والجمع مناكير" 2. المسألة الثانية: إطلاق المنكر لدى الإمام أحمد. قد ورد عن الإمام أحمد في إطلاق لفظ "المنكر" عند إعلال الأحاديث عدة معاني يمكن إجمالها في الآتي:
1. إطلاق المنكر بمعنى خلاف المعروف، من ذلك: روى المرّوذي قال: "وذكرتُ له حديث زُهير بن محمد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان نصف شعبان فلا صوم"، فأنكره، وقال: سألت ابن مهدي عنه فلم يحدّثني به وكان يتوقّاه. ثم قال أبو عبد الله: هذا خلاف الأحاديث التي رُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم " 1. فهذا الحديث أنكره الإمام أحمد، وذكر أن السبب في ذلك مخالفته للأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الأحاديث حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح: [لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان، وكان يصوم شعبان كله] 2 وفي رواية أخرى لها: [لم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً] 3، وكذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها في السنن: [أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يصِله برمضان] 4، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتقدمنّ أحدُكم رمضانَ بصوم يومٍ أو يومين إلا أن يكون رجلٌ كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم"5. فلما كان هذا الحديث مخالفاً للمعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه الإمام أحمد بالنكارة، مع أن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الخُرقي ثقة عند الإمام أحمد6
فدل على أن من المعاني التي يطلق الإمام أحمد النكارة عليها ما كان مخالفاً للمعروف وإن كان راويه ثقة، وهذا المعنى جاري مع معنى اللفظ في اللغة1. ومثال آخر: قال الميموني: "سمعت أحمد بن حنبل وسُئل عن حديث أبي قيس الأودي، مما روى عن المغيرة بن شُعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على النعلين والجوربين، فقال لي: المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفَّين، ليس هذا إلا من أبي قيس، إن له أشياء مناكير" 2. وذكر عبد الله مثله أيضاً: قال عبد الله: "حدّثتُ أبي بحديث الأشجعي ووكيع، عن سفيان، عن أبي قيس، عن هُزيل، عن المغيرة بن شعبة قال: [مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الجوربين والنعلين] . قال أبي: ليس يُروى هذا إلا من حديث أبي قيس، قال أبي أبى عبد الرحمن ابن مهدي أن يحدث به، يقول: هو منكر ـ يعني حديث المغيرة هذا لا يرويه إلا من حديث أبي قيس" 3. ذكر الإمام أحمد هذا الحديث من مناكير أبي قيس، وهو عبد الرحمن بن ثروان الأودي الكوفي. قال عنه أحمد: هو كذا وكذا، روى عنه الأعمش، وشعبة، وسفيان، وهو يخالف في أحاديث4، وهذا كناية على تليينه، وبين وجه نكارته
بأنه مخالف للمعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه كان يمسح على الخفين. قال أبو داود: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدِّث بهذا الحديث، لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين1. وهكذا رواه غير واحد عن المغيرة بن شبعة2. قال علي بن المديني: "حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة؛ ورواه هُزيل بن شرحبيل عن المغيرة، إلا أنه قال: ومسح على الجوربين عدا الناس" 3.
ومثال آخر: قال ابن هاني: "سمعت أبا عبد الله يقول: حديث وكيع، عن شَريك، عن الحر بن صَيَّاح: رأيت ابن عمر يصوم عاشوراء، ورأيت ابن عمر يصوم العشر بمكة؛ حديث الحر بن صيَّاح حديث منكر، نافع أعلم بحديث ابن عمر منه" 1. فسمى حديث الحر بن صياح2 منكراً لمخالفته رواية نافع الذي كان أعلم بحديث ابن عمر منه، فقد روى عن ابن عمر أنه كان لا يصوم عاشوراء إلا أن يوافق صيامه3، فهذا أيضاً من إطلاق المنكر في مقابل المعروف. ومثال آخر: ذكر الأثرم أن أحمد سُئل عن حديث حنظلة، عن سالم، عن ابن عمر رفعه: [لا إحداد فوق ثلاث] ، فقال: هذا منكر، والمعروف عن ابن عمر رأيه. ا.هـ. نقله ابن حجر عنه4. فأطلق المنكر في مقابل المعروف. مثال آخر: قال مهنا بن يحيى: "سألت أبا عبد الله عن ابن أبي الصفيراء فقال: منكر الحديث. قلت: أي شيء من منكره؟ قال: يروي عن عطاء: [الشربة التي تسكر
حرام] . قلت: وهذا منكر؟ قال: نعم، عن عطاء خلاف هذا" 1. ففسر معنى المنكر بأنه ما روي مخالفاً للمعروف عن الراوي. 2. المنكر بمعنى الحديث الفرد الذي ليس له متابع، ومن ذلك: قال عبد الله: "سألت أبي ـ رحمه الله ـ ما الذي يعتمد عليه في مواقيت الصلاة من الأحاديث التي جاءت؟ وأي حديث عندك أقوى؟ والحديث الذي روى ابن المبارك، عن الحسين بن علي، عن وهب بن كيسان، عن جابر، ما ترى فيه، وكيف حال الحسين؟ فقال أبي: أما الحسين فهو أخو أبي جعفر محمد بن علي، وحديثه الذي روى في المواقيت حديث ليس بمنكر، لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيرُه" 2. حديث جابر الذي أشار إليه في المواقيت رواه النسائي3، والترمذي4، وأحمد5، وابن حبان6 كلهم من طريق عبد الله بن المبارك بهذا الإسناد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل فقال: قم فصله، فصلى الظهر حين زالت الشمسُ ... " وراويه الحسين بن علي هو ابن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي7. والشاهد فيه أن الإمام أحمد قال: حديثه هذا ليس بمنكر لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره8، ومفهوم هذا أن الحديث الذي لم يتابع عليه مثلُ هذا
الراوي منكر، فهذا من إطلاق المنكر على الحديث الفرد. ومثال آخر: قال المروذي: "قلت لأبي عبد الله: فعبد الرحمن بن إسحاق كيف هو؟ قال: أما ما كتبنا من حديثه فقد حدّث عن الزهري بأحاديث كأنه أراد تفرد بها، ثم ذكر حديث محمد بن جُبير في الحِلف ـ حِلف المطيِّبين ـ فأنكره أبو عبد الله وقال: ما رواه غيره" 1. هذا الحديث مما تفرد به عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، فأنكره الإمام أحمد لأنه كما قال: ما رواه غيره، وهذا من إطلاق المنكر على مفردات الرواة أمثال عبد الرحمن بن إسحاق2. وقد جاء عن أحمد ما يدل على عدم إنكاره لهذا الحديث وذلك في مذاكرته مع أحمد بن صالح المصري، فقد قال له الإمام أحمد: "عندك عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يسرني أن لي حمرَ النَّعم وأن لي حلف المطيبين"؟ فقال أحمد بن صالح:
أنت الأستاذ وتذكر مثل هذا؟ فجعل أحمد بن حنبل يبتسم ويقول: رواه عن الزهري رجل مقبول أو صالح، عبد الرحمن بن إسحاق. قال: من رواه عن عبد الرحمن ابن إسحاق؟ فقال: رجلان ثقتان: إسماعيل بن علية، وبشر بن المفضل، فقال أحمد ابن صالح لأحمد بن حنبل: سألتك بالله إلا أمليته علي ... " 1، وإنكار الإمام أحمد للحديث هو آخر الأمرين منه، لأن المروذي لقي الإمام أحمد بعد هذه القصة فإن أحمد بن صالح المصري وافى العراق ولقي بأحمد سنة 212هـ2. مثال آخر: قال عبد الله: "حدثني أبي، نا وكيع، نا أبو بكر النهشلي، عن عاصم بن كُليب، عن أبيه، عن علي أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود، قال: وكان قد شهِد صفِّين. قال أبي: ولم يره عن عاصم غيرُ أبي بكر النهشلي أعلمه، كأنه أنكره" 3. وفي هذه الرواية ينفي الإمام أحمد العلم بوجود متابع لأبي بكر النهشلي، وهذا دون مطلق النفي، ومع ذلك فهم ابنه عبد الله أنه ينكره، وهذا لمعرفته بأن من منهجه إطلاق الإنكار على الحديث الذي تفرد به راويه. وأبو بكر النهشلي هو أبو بكر بن عبد الله بن قطاف، وقد وثقه أحمد4، والصحيح
أن هذا الحديث لم ينفرد بروايته عن عاصم بن كُليب، فقد تابعه محمد بن أبان1، عن عاصم بمثله، أخرجه محمد بن الحسن الشيباني2، وذكره الدارقطني تعليقاً3، ولعل من أجل هذا لم يجزم الإمام أحمد بنفي وجود المتابع له، بل نفى علمه بذلك فحسب. وممن أنكر الحديث سفيان الثوري كما رواه ابن مهدي عنه4، وكذلك عثمان بن سعيد الدارمي، قال: وليس أبو بكر النهشلي ممن يحتج بروايته، أو تثبت به سنة لم يأت بها غيره. ا.هـ5. وعلاقة هذا المعنى بالمعنى اللغوي من حيث أن الحديث الذي تفرد به راويه لا يُعرف إلا من طريقه لعدم تعدد مخرجه، فمن ثمّ صار خلاف المعروف. 3. المنكر بمعنى ما ليس له أصل: ومن ذلك: قال المرُّوذي: "وذكر لُويْناً فقال: قد حدّث حديثاً منكراً عن ابن عيينة ماله أصل، قلت: إيش هو؟ قال: عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه قصة علي: ما أنا الذي أخرجتُكم، ولكن الله أخرجكم، فأنكره إنكاراً شديداً وقال: ما له أصل" 6.
ولُوين هو محمد بن سليمان بن حبيب أبو جعفر المصيصي، قال عنه الإمام أحمد: لا أعرفه1. ووثقه النسائي، وقال عنه أبو حاتم: صدوق صالح الحديث، قيل له: ثقة؟ قال: صالح الحديث2. وهذا الحديث رواه النسائي في "خصايص علي"3، والبزار4، وأبو نعيم5 من طريق لوين قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر، عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده قومٌ فدخل عليٌّ، فلما دخل خرجوا، فلما خرجوا تلاوموا فقال بعضهم لبعض: والله ما أخرجَنا، فارجعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أدخلتُه وأخرجتُكم، ولكن الله عز وجل أدخله وأخرجكم". قال الخطيب في وجه إعلال الإمام أحمد للحديث: "أظن أبا عبد الله أنكر على لُوين روايته متصلاً، فإن الحديث محفوظ عن سفيان بن عيينة، غير أنه مرسل، عن إبراهيم بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم ... "، ثم ساقه من طريق ابن وهب، والحميدي، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر، عن إبراهيم بن سعد مرسلاً 6. وقال البزار: "هكذا رواه محمد بن سليمان، عن سفيان، عن عمرو، عن محمد بن علي، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه؛ وغير محمد بن سليمان إنما يرويه
عن سفيان، عن عمرو، عن محمد بن علي مرسلاً" 1. وقال الدراقطني ـ بعد ذكره لرواية لوين ـ "قاله لوين عن ابن عيينة كذلك، وغيره يرويه عن ابن عيينة مرسلاً، وهو المحفوظ" 2. فالشاهد أن الإمام أحمد أطلق النكارة على هذا الحديث، وقال عنه: ما له أصل، وبيان الخطيب يدل على أن معنى ما له أصل هنا أي لم يصح متصلاً، ويحتمل أن يكون معنى هذا النفي عند أحمد أن الحديث لم يصح عن ابن عيينة إطلاقاً لا متصلاً ولا مرسلاً. وعلاقة هذا المعنى بالمعنى اللغوي للمنكر واضح، لأن ما لا أصل له غير معروف. 4. المنكر بمعنى الخطأ: ومن ذلك: قال المرُّوذي: "قلت لأحمد: تعرف عن الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: متى كُتبتَ نبيًّا؟ قال: هذا منكر، هذا من خطأ الأزواعي، هو كثيراً مما يخطئ عن يحيى بن أبي كثير، كان يقول: عن أبي المهاجر، وإنما هو أبو المهلب" 3. فوصف الإمام أحمد هذا الحديث بالنكارة، لأن راويه وهو الأوزاعي الإمام قد أخطأ فيه. وقد تقدم الكلام حول هذا الحديث ورواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير وكيف دخلت الأخطاء على رواياته عنه بسبب ذهاب كتبه4.
مثال آخر: قال عبد الله: "حدثنا بعض الكوفيين قال: حدثنا حفص بن غِياث، عن ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خمِّروا1 وجوه موتاكم، ولا تُشَبِّهوا بيهود" فحدثت به أبي فأنكره وقال: هذا أخطأ فيه حفص فرفعه، وحدثني عن حجاج الأعور، عن ابن جُريج، عن عطاء مرسل" 2. وفي هذا أيضاً وصفه للحديث الذي أخطأ فيه راويه بالنكارة، والراوي حفص بن غِياث أثنى عليه الإمام أحمد3، لكن قال فيه: كان مخلطاً، وضعف أمره4. وحديثه هذا رواه الطبراني5 من طريق عبد الله، والدارقطني6، والبيهقي7 كلهم من حديث حفص بن غياث به. وتابعه علي بن عاصم، عن ابن جريج8. ووجه خطأ حفص في رواية هذا الحديث أنه رواه موصولاً، والواقع أنه مرسل عن عطاء؛ وهي رواية حجاج بن محمد المصيصي، عن ابن جريج، وحجاج كان ثبتاً في الحديث عند الإمام أحمد9، فإذا خالفه حفص يكون القولُ قولَ حجاج، ولا يقال إن علي بن عاصم قد تابع حفصاً، لأن علي بن عاصم كان
يغلط ويخطئ، وإن كان لم يكن متهماً بالكذب1، وحجاج قد تابعه الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء مرسلاً، ورواية حجاج عن ابن جريج إذا انفرد أقوى من رواية حفص وعلي بن عاصم، فكيف وقد تابعه مثل الثوري؟ 2. قال البيهقي ـ بعد حكاية عبد الله لإنكار أحمد لهذا الحديث ـ وكذلك رواه الثوري وغيره عن ابن جريج مرسلاً، وروى علي بن عاصم، عن ابن جريج كما رواه حفص، وهو وهم، والله أعلم3. مثال آخر: قال أبو طالب: "سألت أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن أبي الموال، قال: عبد الرحمن لا بأس به، قال: كان محبوساً في المطبق حين هزم هؤلاء، يروي حديثاً لابن المنكدر عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستخارة، ليس يرويه أحد غيرُه، هو منكر. قلت: هو منكر؟ قال نعم، ليس يرويه غيره، لا بأس به، وأهل المدينة إذا كان حديث غلطٌ يقولون: ابن المنكدر، عن جابر، وأهل البصرة يقولون: ثابت، عن أنس، يحيلون عليهما" 4. فصرح الإمام أحمد بأن هذا الحديث "منكر"، وأن مقصوده بذلك أن الحديث خطأ، يوضّح ذلك قوله: "أهل المدينة إذا كان حديث غلطٌ ... "، فدل على أن هذا الحديث غلط عنده، والقرينة المرجحة لوقوع الخطأ هو تفرد راويه عبد الرحمن بن أبي الموال به، وقد وثقه، وإن كان لم يجعله في المرتبة الأولى من الثقة، بل قد أشار إلى أن فيه ليناً ما. فروى المرّوذي أنه قال فيه: "ما أرى بحديثه
بأس، هو ممن يحتمل" 1، فكأنه عند الإمام أحمد ليس له من الثقة ما يحتمل تفرده بهذا الأصل2. ووجه مطابقة هذا المعنى للمعنى اللغوي للمنكر أن الخطأ خلاف الواقع والثابت، وذلك يتضمن مخالفته للمعروف. وقد تقدم في مبحث الإعلال بكذب الراوي أنه أطلق "المنكر" على الحديث الموضوع، وأن وجه ذلك هو تحقق خطأ راويه وإن كان غير معروف بتعمد الكذب، مثل ما قال في بعض أحاديث عثمان بن أبي شيبة التي أنكرها عليه وقال إنها موضوعة، واعتذر له بأنه حدّث بتلك الأحاديث على سبيل التوهم والغلط3. فهذه المعاني التي وقفت على إطلاق الإمام أحمد المنكر عليها. وقبل استخلاص المعنى الاصطلاحي للمنكر عنده أذكر ما ورد عن بعض أهل هذا العلم من تفسير المنكر عند الإمام أحمد، وذلك في المسألة الثالثة.
المسألة الثالثة: تفسير بعض أهل العلم لمعنى "المنكر" عند الإمام أحمد. قد اعتنى العلماء العارفون بالإمام أحمد وبمنهجه بذكر معنى المنكر عند الإمام أحمد لكثرة استعماله له، ومن هؤلاء العلماء: الأثرم: وأول من وقفت له على تفسير مصطلح "المنكر" عند الإمام أحمد تلميذه أبو بكر أحمد بن محمد بن هاني الأثرم. قال الأثرم: "سمعت أبا عبد الله ذكر حديث الفضل بن دَلهم، عن الحسن، عن قبيصة بن حُريث، عن سلمة بن المحبِّق، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلاً" فقال: هذا حديثٌ منكر، يعني خطأ" 1. ثم بيّن الأثرم وجه الخطأ، فذكر الرواية الصحيحة للحديث: عن الحسن، عن حطّان، عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه قتادة، ومنصور بن زاذان2. والفضل بن دلهم وإن كان الإمام أحمد قال فيه: ليس به بأس كما في رواية الأثرم، إلا أنه خالف من هو أولى منه حفظاً وكثرة فتعين الحكم عليه بالخطأ. فقد فهم الأثرم أن هذا الاصطلاح يستعمله الإمام أحمد في وصف الحديث الذي وقع الخطأ في روايته سواء في الإسناد أو في المتن، مما يدل على أن اللفظ كان معروف المعنى عند أصحاب الإمام أحمد. ابن رجب: والحافظ ابن رجب أيضاً ممن عرّف بالمنكر عند الإمام أحمد، وكان من أعلم الناس بأقوال الإمام أحمد في الرجال وعلل الحديث. قال الحافظ ابن رجب معلقاً على قول الإمام أحمد المتقدم في حديث
حسين بن علي بن الحسين في مواقيت الصلاة: "حديثه الذي روى في المواقيت ليس بالمنكر، لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيرُه"، قال ابن رجب: "وإنما قال الإمام أحمد ليس بالمنكر، لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيرُه، لأن قاعدتَه أن ما انفرد به ثقةٌ، فإنه يتوقف فيه حتى يُتابع عليه، فإن توبع عليه زالت نكارته، خصوصاً إن كان الثقة ليس بمشتهر في الحفظ والاتقان، وهذه قاعدة يحيى القطان وابن المديني وغيرهما" 1. وذكر أيضاً أن كلام الإمام أحمد في النكارة قريب من كلام يحيى القطان، وهو أن كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة ولا يعرف المتن من غير ذلك الطريق فهو منكر، ولا تزول النكارة إلا بمعرفة الحديث من وجه آخر. فهنا أطلق النكارة عليه بينما قيده في الموضع الأول بأن ذلك في الثقة الذي لم يشتهر بالحفظ والإتقان. ثم ذكر ابن رجب جملة من الأحاديث وصفها الإمام أحمد بالنكارة وهي من هذا النوع منها: حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الولاء وهبته2. قال المرُّوذي: وسألته عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، فقال لي: "ثقة إلا حديث واحد يرويه عن ابن عمر قال: الولاء لا تُباع ولا توهب، ونافع قال في قصة بريرة: "الولاء لمن أعتق" 3 يشير إلى أن عبد الله بن دينار لم يتابع عليه، وأن الصحيح ما روى نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الولاء
لمن أعتق"، لم يذكر النهي عن بيع الولاء وهبته1. والصحيح أن هذا الحديث لم ينكره الإمام أحمد لمجرد تفرد عبد الله بن دينار به، بل لأنه إضافة إلى تفرده فقد خولف، وذلك من ثلاثة أوجه: الأول: أن نافعاً لم يذكره عن ابن عمر، ونافع وسالم أوثق الناس عن ابن عمر. الثاني: ما أشار إليه الإمام أحمد أن نافعاً روى عن ابن عمر مرفوعاً: "الولاء لمن أعتق"، فأضاف الولاء إلى المعتِق بلام التمليك والاختصاص، وهذا المعنى معارض لقوله: الولاء لا يُباع ولا يُوهب. الثالث: أن نافعاً قد روى عن ابن عمر النهي عن بيع الولاء وعن هبته من قوله هو غير مرفوع2. ومما ذكره الحافظ ابن رجب من الأدلة الدالة على اعتبار الإمام أحمد تفرد الثقات منكراً أنه وصف بعض الرواة الثقات بأنهم يروون أحاديث مناكير، منهم بُريد بن عبد الله ابن أبي بُردة3، ومحمد بن إبراهيم التيمي المنفرد برواية حديث الأعمال بالنيات4، وزيد بن أبي أنيسة5، وعمرو بن الحارث6،
والحسين بن واقد1، وخالد بن مخلد2. وهو مخالف لتصرف الشيخين والأكثرين، فإنهم يرون أن ما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه وليس له علة فليس بمنكر، ثم ذكر عن الإمام مسلم ما حكاه عن أهل العلم أن الثقة إذا أمعن في موافقة الثقات في حديثهم، ثم تفرد عنهم بحديث قبل ما تفرد به3. قال ابن رجب: فتلخص من هذا أن النكارة لا تزول عند يحيى القطان، والإمام أحمد، والبرديجي وغيرهم من المتقدمين إلا بالمتابعة4 لكن قيد هذا الإطلاق في موضع آخر بأنه خاص بحالة من لم يشتهر بالحفظ والإتقان كما تقدم. ابن حجر: قال الحافظ في ابن حجر في قول الإمام أحمد في بُريد بن عبد الله بن أبي بُردة: يروي أحاديث مناكير، قال ابن حجر: "أحمد وغيره يطلقون المناكير على الأفراد المطلقة" 5. وكذلك قال في الجواب عن قول الإمام أحمد في محمد بن إبراهيم أنه يروي أحاديث مناكير، قال ابن حجر: "المنكر أطلقه أحمد بن حنبل وجماعة على
الحديث الذي لا متابع له" 1. وقال أحمد في يزيد بن عبد الله بن خُصيف: منكر الحديث، قال ذلك في رواية الآجري، عن أبي داود2. وقد قال عنه في رواية الأثرم: ثقة ثقة3؛ وفي رواية عبد الله: لا أعلم إلا خيراً4. فقال ابن حجر في هذا القول: "هذه اللفظة يطلقها أحمد على من يغرب على أقرانه بالحديث، عرف ذلك بالاستقراء من حاله" 5. وهكذا أطلق الحافظ في هذه المواضع أن الإمام أحمد يطلق "المنكر" على الحديث الفرد المطلق. وقيد ذلك في موضع آخر: فقال "أطلق الإمام أحمد، والنسائي وغير واحد من النُّقاد لفظ "المنكر" على مجرد التفرد، لكن حيث لا يكون المتفرد في وزن من يُحكم لحديثه بالصحة بغير عاضد يعضده" 6. المسألة الرابعة: التعريف الاصطلاحي للمنكر عند الإمام أحمد. مما تقدم يترجح لدي أن التعريف المرضي للمنكر بحسب إطلاقات الإمام أحمد لهذا اللفظ هو: الحديث الذي ترجح خطأ راويه بتفرد من لا يحتمل تفرده
أو المخالفة للثابت المعروف. فهذا التعريف يصدق على المنكر بمعنى خلاف المعروف، وبمعنى الفرد الذي ليس له متابع وليس لراويه من الثقة ما يحتمل تفرده، وبمعنى ما ليس له أصل، وبمعنى الحديث الذي ترجح خطأ راويه.
المطلب الثالث: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي الثقة
المطلب الثالث: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي الثقة. الذي يدل عليه منهج الإمام أحمد في هذا الباب أن الأصل عنده قبول ما تفرد به الراوي الثقة البارز في علمه وإتقانه، ويدل على ذلك النصوص التالية: قال الحسن بن محمد الزعفراني1: "قلت لأحمد بن حنبل: من تابع عفاناً في حديث كذا وكذا؟ قال: وعفان يحتاج إلى أن يُتابعَه أحدٌ ـ أو كما قال" 2. فهذا يدل على أن مثل عفان بن مسلم الصفار إذا روى حديثاً ولم يتابعه عليه أحدٌ فإنه مقبول، ومثله ليس ممن يتوقف في قبول ما تفرد به. وقيل لأحمد في حديث تفرد به عبد الله بن إدريس: أحد يقول ذلك غيره؟ فقال: يكفيك بابن إدريس، وذلك فيما: قال صالح بن أحمد بن حنبل: "حدثنا أبي: قال: حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن عمارة، عن أبي بكر بن حزم، عن أبان بن عثمان، عن عثمان قال: "لا شُفعة في بئر ولا فحل"3 ولا الأُرَف4، إذا علم كل قوم حقهم تقطع كل شفعة. قلت له: أحد يقول: والأرف غير ابن إدريس؟ فقال: يكفيك بابن إدريس" 5.
هذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة1، والبيهقي2. والشاهد فيه أن صالحاً سأل عن ثبوت لفظة: والأُرَف في الأثر، فإنه لا يقولها غير عبد الله بن إدريس، فقد روى مالك الحديث عن محمد بن عمارة، عن أبي بكر بن حزم، عن عثمان بن عفان بلفظ: "إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شُفعة فيها، ولا شفعة في بئر ولا في فحل النخل"3، فلم يذكر الأُرَف. فأجاب أحمد بقوله: يكفيك بابن إدريس، أي تفرده مقبول لثقته ورفعته في العلم. قال أحمد في عبد الله بن إدريس: هو نسيج وحده4. وهذه مبالغة في مدحه وثنائه5. ومثال آخر: قال الميموني: وقال ابن حنبل: ليس نجد أحداً يرفع غيرُ زُهير ـ يعني في المحرم إذا لم يجد نعليْه ـ وكان زهير من معادن العلم6 فهذا الحديث تفرد به زهير من هذا الوجه ولفظه: "من لم يجد نعلين
فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل" 1. ولفظ الحديث معروف من حديث ابن عباس. أخرجاه من رواية عمرو ابن دينار، عن جابر بن زيد عنه2. وظاهر كلام أحمد يدل على قبوله هذا التفرد من زهير، لأنه قال: "كان زهير من معادن العلم"، وهذا مشعر بقبوله لما تفرد به. وقد قال في موضع آخر عن زهير: "حفاظ الحديث أو المتثبِّتين في الحديث أربعة: سفيان الثوري، وشعبة، وزُهير، وزَائدة" 3. وقال ابن هانئ: "سمعت أبا عبد الله يقول: علم الناس إنما هو عن شعبة، وسفيان، وزائدة، وزُهير، هؤلاء أثبت الناس، وأعلم بالحديث من غيرهم" 4. وسئل أحمد في رواية محمد بن يحيى الذهلي عن حديث زهير، عن أبي الزبير، عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ السجدة وتبارك"، قال: حسبك بزُهير إذا جاء بالشيء، زهير ثقة، وإنما ذلك ليث رواه. ا.هـ5.
فهذا يفيد أن زهير إذا جاء بالحديث فهو مقبول، وإن تفرد به. وكأن الإمام أحمد لم يقف على رواية حديث أبي الزبير هذا إلا من طريق ليث. ومما أخذ به وهو عنده مما تفرد الثقة بروايته: قال أبو طالب: "قال أحمد بن حنبل: لم يرو أحد: "لا يقرأ الجنب" غير شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن سلِمة، عن علي. قال سفيان بن عيينة: سمعت هذا الحديث من شعبة. قال سفيان: قال شعبة: لم يرو عمرو بن مرة أحسن من هذا الحديث، وقال شعبة: روى هذا الحديث عبد الله بن سلِمة بعد ما كبر" 1. هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الثلاث من طريق شعبة2، وهو عند أحمد من طرق عن شعبة3. وقد أخذ الإمام أحمد بظاهر هذا الحديث في رواية موسى بن عيسى الجصاص4، فقال: [لا يقرأ الجنب شيئاً من القرآن، والتسبيح رُخّص فيه، أما
أن يتعمد الآية أو السورة، لا يُعجبني] 1، مع قوله بأنه لم يروه أحد غير شعبة، فدل على أن تفرد الثقة مثل شعبة بالحديث مقبول عنده. وقول الإمام أحمد: لم يروه أحد غير شعبة مشكل، فقد رواه في مسنده عن أبي معاوية، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرّة به2. كما روي من طريق الأعمش، وابن أبي ليلى كلاهما عن عمرو بن مرة3، ورواه ابن عيينة، عن شعبة ومِسعَر4، فالله أعلم. وقد نُقل عن الخطابي أنه قال: إن الإمام أحمد كان يوهِّن هذا الحديث، ويضعّف أمر عبد الله بن سلِمة5، فهذا وجه آخر لإعلال الحديث لدى بعض الناس6. فإن صحت هذه الرواية فيحمل ما تقدم من أخذ الإمام أحمد بمقتضى
الحديث من باب أخذه بالحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب غيره. خروج الإمام أحمد عن أصله في هذا الباب: الأمثلة التي تقدم إيرادها تدل على الأصل الذي صدّرنا به هذا المطلب، وهو أن تفرد الراوي الثقة البارز في الحفظ والإتقان مقبول عند الإمام أحمد، وليس بمنكر. وقد جاء عن الإمام أحمد ما يدل على تركه لهذا الأصل في بعض المواضع، وذلك لاعتبارات تظهر لمن تتبع تلك المواضع بالنظر والدراسة. فمن تلك الاعتبارات أن يكون الراوي الثبت معروفاً باتكاله على حفظه حتى سجلت له أخطاء عن شيخه الذي تفرد عنه. مثال ذلك: روى عبد الله قال: "قال أبي في حديث وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في المسلم يقتل الذِّمِّي خطأً، قال: كفارتُهما سواء. قال أبي: ليس يرويه غيرُ وكيع، ما أُراه إلا خطأ" 1. فهذا الأثر رواه ابن أبي شيبة2 عن وكيع، ولم يقبله أحمد لأن راويَه وكيع قد تفرد به، ووكيع إمام حافظ، ومع ذلك لم يقبل ما تفرد به، ويبدو أن ذلك راجع إلى كون وكيع يعتمد على حفظه، فصار احتمال وقوع الأخطاء في رواياته قوياً. قال الفضل بن زياد: "قال أحمد بن حنبل: كان وكيع يحدث من حفظه، ولم يكن ينظر في كتاب، وكان له سقط، كم يكون حفظ الرجل! " 3، ومن أجل ذلك كان عبد الرحمن أكثر إصابة عند الإمام أحمد من وكيع في حديث
الثوري1، لأن عبد الرحمن كان صاحب كتاب. وتوقف أحمد عن تقديم وكيع على محمد بن يوسف الفريابي فيما تفرد به، قال أبو داود: "إذا اختلف الفِريابي ووكيع، أليس يُقضى لوكيع؟ قال: مثل ماذا؟ قلت: ما لم يروه غيره. قال: ما أدري، وكيع ربما خولف أيضاً" 2. فأشار إلى أن وكيعاً ربما تفرد بأشياء يخالَف فيها. وهذه الرواية لم ينفرد وكيع بها عن الثوري كما ذكر الإمام أحمد، بل تابعه عبد الرزاق، وتابعه أيضاً معمرٌ متابعة قاصرة عن منصور3. ولعل الإمام أحمد وقف على هذه الرواية فيما بعدُ فذكر صحة نسبة هذا القول إلى إبراهيم. قال ابن قُدامة: "قال أحمد: الشعبي والنخعي قالا: دية المجوسي، واليهودي، والنصراني مثل دية المسلم، وإن قتله يُقتل به، هذا عجب، يصير المجوسي مثل المسلم، سبحان الله، ما هذا القول! واستبشعه وقال: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يُقتل مسلم بكافر" وهو يقول: يُقتل بكافر، فأي شي أشد من هذا! " 4، وبهذا يجمع بين إنكاره لرواية وكيع وقبوله لمقتضاها في موضع آخر. وهذا الاعتبار نفسه ـ أعني كون الراوي المتفرد مع حفظه قد حُفظت له أخطاء وقع فيها ـ هو الذي يعود إليه إنكار الإمام أحمد لحديثين رواهما عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، وتفرد بهما عن عطاء: أحدهما حديث الشفعة بالجوار، والثاني حديث تنكح المرأة لثلاث. قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: حدثنا بحديث الشفعة، حديث
عبد الملك، عن عطاء، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: هذا حديث منكر" 1. وقال أبو زرعة الدمشقي: "وسمعت يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل يقولان في حديث عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر في الشُّفعة، قالا لي: قد كان هذا الحديث ينكر عليه. وسمعت أحمد ويحيى يقولان: كان عبد الملك بن أبي سليمان ثقة" 2. وحديث عبد الملك في الشفعة بالجوار أخرجه أبو داود3، والترمذي4، وابن ماجه5، وأبو داود الطيالسي6، وأحمد7، وابن أبي شيبة8، والطحاوي9، والبيهقي10. ولفظه: "الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً". وقد تفرد به عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء، ومن أجله تكلم فيه شعبة. وقال: لو روى حديثاً آخر مثل حديث الشفعة لطرحت حديثه، ومثله عن يحيى القطان11. ومما يدل على أن تفرده هو علة نكارته عند شعبة أن وكيعاً روى عن شعبة
أنه قال لهم: "لو كان شيئاً يُقوِّيه! " 1، أي لو وجد له متابعٌ أو شاهدٌ يقويه لكان مقبولاً. وكذلك أنكره الإمام أحمد، ويحيى بن معين على عبد الملك كما تقدم في السؤال. وقال البخاري: لا أعلم أحداً رواه عن عطاء غير عبد الملك بن أبي سليمان، وهو حديثه الذي تفرد به، ويروى عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف هذا2. وإنما أنكرا عليه هذا الحديث لتفرده به عن جابر، فلم يذكره أحد من أصحاب عطاء. قال الترمذي: إنما ترك شعبة عبد الملك لهذا الحديث، لم يجد أحداً رواه غيره3. وعبد الملك بن أبي سليمان قد وثقه الإمام أحمد كما تقدم، بل قال في رواية عبد الله: كان من الحفاظ4. لكن قال في رواية صالح: "عبد الملك بن أبي سليمان من الحفاظ، إلا أنه كان يُخالف ابن جريج في إسناد أحاديث، وابن جُريج أثبت منه عندنا" 5. وقال في رواية أبي داود: "هو ثقة، قلت: يخطئ؟ قال: نعم، وكان من حفاظ أهل الكوفة، إلا أنه رفع أحاديث عن عطاء" 6. وقد ذكر الإمام أحمد حديثاً آخر لعبد الملك خالف فيه ابنَ جريج فقضى الإمام أحمد لابن جريج7. وقال عبد الله: "قال أبي مرة أخرى، وذكر عطاء فقال: أثبت الناس في عطاء ابن جُريج، وعمرو بن دينار" 8.
فمن سجلت عليه مخالفات لمن هو أوثق منه عن شيخ معين تأثرت به روايته عنه، فيتوقف في قبول ما تفرد به عنه. وأشار الإمام مسلم إلى هذا الضابط في مقدمة صحيحه حيث قال: "وحكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث، أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وُجد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قُبلت زيادتُه" 1. ثم حديثه هذا مخالف لما رواه أبو سلمة وأبو الزبير عن جابر، وهذا ما أشار إليه البخاري من أنه يروى عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف هذا، وقد صرح به ابن عبد البر2.
والحديث الثاني الذي أنكره الإمام أحمد على عبد الملك بن أبي سليمان هو: قال أبو زرعة: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: وقد كان يُنكر من حديثه ـ أي عبد الملك بن أبي سليمان ـ عن عطاء، عن جابر: "تنكح المرأة على ثلاث" 1. وهذا الحديث رواه الترمذي2، من طريق إسحاق الأزرق، وابن أبي شيبة3 من طريق عبدة بن سليمان كلاهما عن عبد الملك به، ولفظه: "إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها، فعليك بذات الدِّين تربت يداك". ورواه الدارمي من طريق علي بن مسهر، عن عبد الملك بلفظ: "تنكح المرأة لأربع ... " 4، فذكره بمثل لفظ حديث أبي هريرة في هذا المعنى5. ورواه مسلم6، من طريق عبد الله بن نمير، والنسائي7 من طريق خالد بن الحارث، وأحمد8، والبيهقي9، وابن عبد البر10 من طريق إسحاق الأزرق، وأحمد11 من طريق يحيى القطان كلهم عن عبد الملك بلفظ: تزوجتُ امرأةً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا جابر تزوجتَ؟ " قال: نعم، قال: "أبكرٌ أم ثيّبٌ"؟ قال: بل ثيّب. قال: "أفلا بكراً تلاعبها"؟ قال: يا رسول الله، إن
لي أخواتٌ فخشيت أن تدخل بيني وبينهن، قال فقال: "فذاك إذن، إن المرأة تُنكح في دينها ومالها وجمالها فعليك بذات الدين تربت يداك". فتبين أن ما أنكره الإمام أحمد من حديث عبد الملك زيادة زادها في حديث جابر في قصة زواجه وبيعه بعيره للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم ترد هذه الزيادة إلا في حديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء. وقد رواه ابن جريج عن عبد الملك ولم يذكرها1. وكذلك لم يذكرها كل من روى الحديث عن جابر، وهم عمرو ابن دينار2، ومحمد بن المنكدر3، ومحارب بن دثار4، والشعبي5، ووهب ابن كيسان6، وأبي نضرة7، وسالم بن أبي الجعد8، ونُبيح العنزي9، وأبي سفيان طلحة بن نافع10. فإنكار الإمام أحمد لهذه الزيادة من باب إنكاره وغيره من الحفاظ للحديث الذي تفرد به في الشفعة. ومن الاعتبارات التي يعود إليها خروجُ الإمام أحمد عن أصله في هذا
الباب أن يكون الراوي المتفرد مع كونه حافظاً مبرّزاً ليس في الطبقة الأولى من أصحاب شيخه الذي تفرد بالرواية عنه، إذا كان شيخه من المكثرين في الرواية وله تلاميذ كثر يعتنون بجمع أحاديثه، مثال ذلك: قال أبو داود: "سمعت أحمد قال: عند عيسى حديث أنس، يعني عن سعيد، عن قتادة، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشُّفعة؛ قال أحمد: ليس بشيء. فقلتُ لأحمد: كلاهما عنده؟ أعني: عند عيسى، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، وعن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشُّفعة؟ فلم يَعْبأ إلى جَمعه الحديثين، وأنكر حديث أنس" 1. حديث عيسى بن يونس رواه ابن حبان2، والطحاوي3، والطبراني4، والضياء المقدسي5 كلهم من طريقه عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس. وقد تفرد عيسى بن يونس بهذه الرواية عن سعيد عن قتادة، عن أنس، قاله الطبراني6. وأنكر الإمام أحمد هذه الرواية على عيسى بن يونس7، وتتابع الحفاظ من بعده على إنكاره عليه؛ فقال الإمام البخاري: "الصحيح حديث الحسن عن سمرة، وحديث قتادة، عن أنس غير محفوظ، ولم يُعرف أن أحداً رواه عن ابن أبي عروبة،
عن قتادة، عن أنس غير عيسى بن يونس" 1. وقال الإمامان أبو حاتم وأبو زرعة عن الحديث: "هذا خطأ، روى هذا الحديث همام، وحماد بن سلمة، فقال حماد بن سلمة: عن قتادة، عن الشريد، وقال همام: عن قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن الشريد، وقالا ـ أي أبو حاتم وأبو زرعة: نظن أن عيسى وهم فيه، فشبّه الشريد بأنس" 2. وقال الدارقطني: "رواه عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، ووهم فيه، وغيره يرويه عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، وكذلك رواه شعبة وغيره عن قتادة، وهو الصواب" 3. ووجه عدم قبول الإمام أحمد لهذا التفرد من عيسى بن يونس، ومثله ممن يقبل منه تفرده على أصله في هذا الباب، هو أنه مع تثبت عيسى وثقته لكنه ليس من الطبقة الأولى من أصحاب سعيد بن أبي عروبة، فإنه بالرغم من منزلته في الثقة وصحة سماعه من ابن عروبة4، لم يكن من خاصة تلاميذه العارفين بحديثه والملازمين له من البصريين أهل بلده مثل يزيد بن زريع، وخالد بن الحارث، وابن علية، وعبد الوهاب الخفاف الذين جمعوا مع الثقة والتثبت طول الملازمة، فكيف تغيب عنهم هذه الرواية ولا يرويها إلا هو، ولم يسمع من سعيد إلا في قدمته إلى الكوفة، وروايات مختلفي الأمصار يعتريها ما يعتريها من الأوهام والأغلاط.
والرواية المحفوظة هي عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب. هكذا رواه أصحاب سعيد بن أبي عروبة، منهم إسماعيل بن عُلية1، وقد كان إليه المنتهى في التثبت بالبصرة2، وسماعه من سعيد قديم؛ أخذه عنه إملاء3 مما يدل على مزيد ضبطه لحديثه؛ ومنهم عبد الوهاب بن عطاء الخفاف4، وكان من أعلم الناس بحديث سعيد5؛ وعبدة بن سليمان6، والمحاربي عبد الرحمن بن محمد7، والحسن بن صالح بن حيّ8. وكذلك أصحاب قتادة رووه عنه عن الحسن، عن سمرة؛ هكذا رواه هشام الدستوائي9، وشعبة10، وهمام11، وحماد بن سلمة12. وهؤلاء ثقات أصحاب قتادة. وقد روى عيسى بن يونس، عن سعيد، عن الحسن، عن سمرة، مثل رواية
الجماعة1، وذكر أبو داود هذه الرواية لأحمد كقرينة يمكن الاستدلال بها على أن جمعه للحديثين معاً يفيد كون الطريق الذي تفرد بها عن سعيد عن قتادة عن أنس محفوظاً، واعتمد هذه القرينة ابن القطان فصحح الروايتين عن عيسى بن يونس2. وأما الإمام أحمد فلم يعبأ بهذه القرينة، ولم يقبل هذا التفرد من عيسى بن يونس عن سعيد بن أبي عروبة، مع أنه من الأثبات عنده. فقد سئل عنه أحمد فقال: عيسى يُسأل عنه؟ 3. وسئل عن عيسى بن يونس، وأبي إسحاق الفزاري، ومروان بن معاوية أيهم أثبت؟ قال: ما فيهم إلا ثبت. قيل له: فمن تقدم؟ قال: ما فيهم إلا ثقة ثبت ... 4. وكذلك أحمد بن جناب راوي الروايتين عن عيسى بن يونس نص على أن عيسى بن يونس أخطأ في حديث أنس، فقد رواه ابن أبي خيثمة، عن أحمد بن جناب، عن عيسى بن يونس، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس ثم قال: قال أحمد بن جناب: أخطأ فيه عيسى بن يونس5.
ومن ناحية أخرى، ما بال هذا الحديث لا يرويه أحدٌ من أصحاب قتادة عن أنس؟ وقتادة حافظ مكثر، صاحب تلاميذ معتنين بجمع حديثه وضبطه، فلماذا لم يرو الحديث أحد من هؤلاء التلاميذ، ولا يأتي إلا من طريق عيسى عن ابن أبي عروبة؟ ومن أجل هذه الاعتبارات خرج الإمام أحمد عن أصله فلم يقبل تفرد عيسى بن يونس وحكم على روايته بالخطأ. ومن أمثلته أيضاً رد الإمام أحمد لتفرد وهب بن جرير عن شعبة، لأنه لم يكن من أهل الطبقة الأولى من تلاميذ شعبة. قال أبو داود: "سمعت أحمد قيل له: وهب بن جرير، عن شعبة، عن إسماعيل ـ يعني ابن أبي خالد ـ عن الشعبي، عن ابن عباس، صلى ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ على قبر؟ فأنكره وقال: ليس هذا من حديث إسماعيل" 1. هذا الحديث رواه مسلم2، وابن حبان3، والبيهقي4 من طريق وهب ابن جرير، عن شعبة، عن إسماعيل بن خالد، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: "أَتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر منبوذ فصلى عليه وصلينا معه". ولم أقف على من تابعه على هذه الرواية عن شعبة أو عن غيره بذكر إسماعيل بن أبي خالد. قال ابن عدي: ولم يقل عن شعبة، عن ابن أبي خالد، عن الشعبي غير وهب بن جرير، والمعروف عن شعبة، عن الشيباني عن الشعبي5.
هكذا رواه أصحاب شعبة: عن الشيباني، عن الشعبي عن ابن عباس؛ منهم غندر1، وحجاج بن المنهال2، ومعاذ بن معاذ3، وسليمان بن حرب4، ومسلم ابن إبراهيم5، وخالد بن الحارث6، وأبو داود7، وأبو الوليد الطيالسيّان8. والحديث معروف لأبي إسحاق الشيباني، رواه عنه غير واحد9. وقد روي أيضاً من حديث أبي حصين عن الشعبي10. وتفرد به وهب بن جرير، عن شعبة من حديث إسماعيل بن أبي خالد، فأنكره الإمام أحمد، وقال: ليس هذا من حديث إسماعيل، فلم يعتبر بروايته لتكون أصلاً للحديث من رواية إسماعيل، بل ردها لأنه ليس ممن يقبل تفرده عن شعبة، فلم يكن من أهل الطبقة الأولى من أصحابه، بل كان عبد الرحمن بن مهدي يقول: هنا قوم يحدثون عن شعبة ما رأيناهم عند شعبة، قال أحمد: قلت له: من
تعني بهذا؟ قال: وهب بن جرير1 قال أحمد: "ما رئي وهب عند شعبة، ولكن كان صاحب سنة، حدث ـ زعموا ـ عن شعبة نحواً من أربعة آلاف حديث. قال عفان: هذه أحاديث الرُّصاصي. قال عبد الله: قلت لأبي: ما هذا الرصاصي؟ قال: كان إنسان بالبصرة يقال له الرصاصي، وكان قد سمع من شعبة حديثاً كثيراً واسمه عبد الرحمن بن زياد، وقع إلى مصر" 2. لكن روى الإمام أحمد عن وهب ما يثبت سماعه من شعبة، قال: "قال وهب بن جرير: كتب لي أبي إلى شعبة فكنت أجئ فأسأله" 3. والحاصل أن وهب بن جرير مع توثيق بعض الأئمة له4 لم يكن من تلاميذ شعبة الأثبات الملازمين له، فإذا روى حديثاً من حديث شعبة وليس عند واحد من أولئك التلاميذ، فلا يحتمل منه مثل ذلك التفرد، وإن جاء بما يخالف ما عندهم فذاك أشد، وهو الحال في هذا الحديث الذي أنكره عليه الإمام أحمد. ومن الاعتبارات التي يمكن أن يرجع إليها خروج الإمام أحمد عن أصله في هذا الباب كون تفرد الراوي الثقة الثبت تضمّن وجهاً أو أكثر من المخالفة لرواية من هو أولى منه عن ذلك الشيخ الذي تفرد عنه، وإلى هذا الاعتبار يرجع ردّ الإمام أحمد لتفرد عبد الله بن دينار بحديث النهي عن بيع الولاء وهبته عن عبد الله بن عمر،
فإن رد الإمام أحمد على عبد الله بن دينار لم يكن لمجرد تفرده به عن ابن عمر، بل لأنه إضافة إلى تفرده قد خُولف عن ابن عمر من قبل نافع مولاه كما تقدم. ومن أمثلته أيضاً: قال أبو بكر الأثرم: "قلت لأبي عبد الله: حديث السهو حديث ابن عمر يرويه أحد غير أبي أسامة؟ فقال: أبو أسامة وحده، وكأنه ضعفه. قال أبو عبد الله: زعموا أن يحيى بن سعيد قال: إنما هو عبيد الله، عن نافع مرسل" 1. والمقصود بحديث ابن عمر في السهو هو ما رواه أبو أسامة حماد بن أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فسلم في الركعتين، فقال له ذو اليدين: أقُصرت الصلاة أم نَسيت؟ فقال: "ما قُصرت الصلاةُ وما نَسيتُ"، فقال: "أكما يقول ذو اليدين"؟ فقام فصلى ثم سجد سجدتين. أخرجه أبو داود2، وابن ماجه3، وابن أبي شيبة4، وابن خزيمة5، والطحاوي6، والبيهقي7 من طرق عن أبي أسامة به. وقد نصّ الإمام أحمد في جوابه على هذا السؤال بأن أبا أسامة تفرد بهذا الحديث عن عبيد الله بن عمر، عن نافع. وأبو أسامة كان ثبتاً صحيح الكتاب عند الإمام أحمد8. وقال أيضاً: كان أبو أسامة ضابطاً للحديث كيّساً9 وقال
أيضاً: كان ثبتاً، ما كان أثبته، لا يكاد يخطئ1. فتفرد مثل أبي أسامة مقبول على أصل الإمام أحمد، وإنما مال إلى تضعيفه لما قيل أن يحيى القطان خالفه، فروى الحديث عن عبيد الله، عن نافع مرسلاً، فمن أجل هذه المخالفة ردّ تفرد الثقة الثبت أبي أسامة في روايته لهذا الحديث. وقد تابعه عبد الله العمري، فرواه بمثل روايته مختصراً. أخرجه ابن عدي من طريق عبد الله بن وهب عنه2، والعمري وإن تكلم فيه من ناحية حفظه، فهو ممن يعتبر به، فلا يبعد أن تكون رواية أبي أسامة محفوظة، والله أعلم3. لكن هناك قرينة أخرى جعلت الإمام أحمد ينكر رواية أبي أسامة، وهي كون رواية يحيى القطان للحديث عن عبيد الله مرسلا كانت نقلا من كتاب عبيد الله، وهذا أضبط وأتقن ما يكون في صحة الرواية. قال المرُّوذي في حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر في مثل قصة ذي اليدين، فقال: "كان يقول ـ يعني أبا أسامة ـ عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، ثم يقول: عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر مثله. وقال: قال يحيى بن سعيد: إنما هو في كتاب عبيد الله مرسل، وما ينبغي إلا كما قال يحيى، وأنكره" 4. ومن صوَر خروج الإمام أحمد عن أصله في هذا الباب قبوله لتفرد من لم يبلغ منزلة المبرّز المشتهر بالحفظ، وإن كان يشمله وصف الثقة، وذلك حيث كانت هناك قرينة دلت على مزيد الثقة بصحة ما روى، كأن تكون روايته
للحديث الذي تفرد به كانت منقولة من كتاب، مثال ذلك: قال أبو إسماعيل الترمذي1: "حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء الثقة الرضى، وقلت له: الحديث الذي حدثتنا: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ... أعِده عليّ، وكان قد حدثني به قبل هذه المدة بسنتين، قال: نعم: حدثنا عِكرمة بن عمّار اليمامي، عن ضمضم بن جَوْش، عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على ناقة، لا ضرْبَ ولا طرْدَ ولا إليك إليك". قال أبو إسماعيل: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: هذا الشيخ ثقة ثقة، والحديث غريب، ثم أطرق ساعة وقال: أكتبوه من كتاب؟ قلنا: نعم" 2. فالإمام أحمد لم ينكر هذا الحديث، وإنما وصفه بالغرابة، ووجه الغرابة أن الحديث بهذا اللفظ فيه تفرد مطلق، لا يروى إلا من حديث عبد الله بن حنظلة. قال ابن عدي: الحديث بهذا الإسناد لم يحدث به عن عكرمة بن عمار غير الحسن بن سوار3. وقال العقيلي: ولا يُتابع الحسن بن سوار على هذا الحديث4. وقد روى قُدامة بن عبد الله "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة جمرة العقبة من بطن الوادي يوم النحر، على ناقة له صهباء، لا ضرْبَ ولا طرْدَ ولا إليك
إليك] 1 رواه أكثر من خسمة عشر نفساً عن أيمن بن نابل، عن قدامة. هكذا رواه قُدامة بن عبد الله بذكر رمي جمرة العقبة، وليس الطواف. قال الذهبي عن حديث عبد الله بن حنظلة: المحفوظ حديث أيمن، عن قدامة ... فذكره2. وراوي هذا الحديث الحسن بن سوار قال فيه الإمام أحمد: ثقة ثقة، فهذا يجعله في درجة عالية من الثقة، لكن ليس بمبرَّز بالحفظ والإتقان. وقد روى حنبل بن إسحاق عن أحمد أنه قال فيه: كان شيخاً من أهل خراسان قدِم علينا ليس به بأس3. وقال صالح بن محمد: يقولون إنه صدوق، ولا أدري كيف هو4. فهذا كله يدل على أنه لم يكن مشهوراً بالحفظ، فلم تكن حالته حالة من يقبل الإمام أحمد مطلق تفرده. ومع هذا لم يصف الإمام أحمد حديثه هذا بالنكارة، بل ذكر ما يشعر بقبوله منه، وهو سؤاله: هل كتبوه من كتاب؟ فإن فائدة هذا السؤال أن الحديث إذا كان مع غرابته مأخوذاً من كتاب إنسان ثقة فإن ذلك يدل على مزيد الثقة بما حدث به، وأن الحديث محفوظ، لأن الرجل مهما بلغ في الحفظ فالكتاب أحفظ منه، ولو لم يكن هذا الاستدلال هو المقصود لما كان لسؤاله أية فائدة.
وأما العقيلي فذكر رواية أبي إسماعيل الترمذي هذه من طريق محمد بن موسى النهرتيري مختصراً فقال عن أحمد: أما الشيخ فثقة، وأما الحديث فمنكر1، واعتمده الذهبي فذكر أن هذا الحديث مما أُنكر على الحسن بن سوار2 تبعاً للعقيلي. ويؤيد ذلك ما ذكره الترمذي3: "سألت محمداً عن حديث الحسن بن سوار، عن عكرمة بن عمار، عن ضمضم بن جوس4، عن عبد الله بن حنظلة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على ناقة5، فقال محمد: رأيت أبا قدامة يعرض هذا الحديث على علي بن عبد الله فدفعه علي ـ يعني أنكره، وقال محمد: وقد كتب به الحسن بن سوار إلي، وكأن محمداً لم يعرف هذا الحديث". فذكر إنكار علي ابن المديني للحديث. وعندي أن رواية الخطيب أصح من رواية العقيلي، لأن الخطيب روى القصة كاملة وذكر ما يشعر بعدم إنكار الإمام أحمد لرواية الحسن بن سوار، بينما اختصرها العقيلي، وحمل الغرابة المذكورة على النكارة. وقد روى حديث عبد الله بن حنظلة بن الراهب ابن قانع6، والخطيب7.
ورواه البزار1 لكن قال: عن العلاء بن سنان، عن عكرمة بن عمار مكان أبي العلاء الحسن بن سوار، وأخاف أن يكون تصحيفاً من أبي العلاء بن سوار، والله أعلم. والشاهد أن الإمام أحمد اعتد بتفرد الثقة الذي لم يكن مبرّزاً بالحفظ لكون روايته للحديث الذي تفرد به كانت من كتاب، والعلم عند الله.
المطلب الرابع: موقف الإمام أحمد من زيادات الثقات
المطلب الرابع: موقف الإمام أحمد من زيادات الثقات. وهذا نوع آخر من التفرد، وهو أن يكون الحديث مشهوراً في نفسه، لكن يزيد بعض الرواة الثقات في متنه زيادة تستغرب، فهذا أيضاً حكمه مثل حكم تفرد الثقات بالحديث من أصله، فتُقبل من حافظ يعتمد على حفظه، وتُردّ إن كان ممن لا يعتمد على حفظه، ومن أمثلة ذلك عند الإمام أحمد: 1. قال أبو داود: "سمعت أحمد ذكر مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن الذين جمعوا الحج والعمرة طافوا طوافاً وحداً: لم يروه إلا مالك، ومالك ثقة" 1. رواية مالك تضمنت زيادة في حديث عائشة كما رواه الزهري، عن عروة، عن عائشة، وهي قولها: [فأما الذين جمعوا الحج والعمرة فطافوا طوافاً واحداً] 2، لم يذكرها غيره ممن روى الحديث عن الزهري3. وقد أشار الإمام أحمد في هذه الرواية إلى قبولها، حيث قال: ومالك ثقة، أي فيقبل منه مثل هذه الزيادة، لا سيما وهو من أثبت الناس عن شيخه الزهري4. ومما يدل على قبول الإمام أحمد لهذه الزيادة أن ظاهر مذهبه أن القارن
ليس عليه إلا سعي واحد1. 2. قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: روى مالك، عن نافع أشياء لم يروها غيرُه: ابن عمر ألحق ولد الملاعنة بأمه، يعني حديث نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه ألحق ولد الملاعَنة بأمه" 2. وردت هذه الزيادة في رواية مالك لحديث نافع، عن ابن عمر "أن رجلاً لاعَنَ امرأتَه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها، ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وألحق الولد بالمرأة"3. فذكر أحمد أن هذه الزيادة لم يروها عن نافع غيرُ مالك. وممن ذكر أن الإمام مالك تفرد بهذه الزيادة أبو داود4، والدارقطني5 وقال ابن عبد البر: وقد زعم قوم أن مالكاً انفرد في حديثه هذا بقوله فيه: "وألحق الولد بالمرأة، أو ألحق الولد بأمه"6. وتوضيح ذلك أن الحديث رواه عبيد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجل من الأنصار وامرأته وفرّق بينهما"7 فلم يذكر الزيادة التي ذكرها مالك. وكذلك رواه جويرية عن نافع،
عن ابن عمر بدون هذه الزيادة1. وقال ابن عبد البر: "هكذا رواه كل من رواه عن نافع، ذكروا فيه اللعان والفرقة، ولم يذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق الولد بالمرأة، وقاله مالك، عن نافع كما رأيت، وحسبك بمالك حفظاً وإتقاناً ... " 2. وليس في كلام الإمام أحمد إشارة إلى استنكار هذه الزيادة التي ذكرها مالك، ولم ينقل عنه القول بخلاف مقتضاها، بل ورد عنه ما يدل على القول بموجبها، فروى صالح3 عن أحمد أنه قال: "بين كل زوجين لعان، لأنه ينفي عنه الولد إذا لاعنها نفى عنه ولدها"، فذكر أن اللعان ينفي عنه الولد، وهو مفهوم قوله في حديث مالك: "وألحق الولد بأمه". ثم إن مالكاً لم ينفرد بها، فقد وردت مثلها في رواية القاسم بن يحيى الهلالي4، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر "أن رجلاً رمى امرأته فانتفى من ولدها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاعنا كما قال الله، ثم قضى بالولد للمرأة، وفرّق بين المتلاعنين"، أخرجها البخاري5. فذكر أنه قضى بالولد للمرأة، فهي متابعة قوية لمالك إن كان القاسم بن يحيى حفظه عن عبيد الله، فقد خالف أربعة من الحفاظ عن عبيد الله لم يذكروها ـ وهم يحيى القطان، وأبو أسامة، وعبد الله بن نمير، وأنس بن عِياض، وقد تقدم ذكر مواضع حديثهم.
ووقعت هذه الزايادة أيضاً في حديث فُليح عن نافع، أخرجه الإمام أحمد1 عن سريج بن يونس عن فليح به، ولفظه: "أن رجلاً لاعن امرأته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها، ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وألحق الولد بالمرأة". وفُليح هو ابن سليمان بن أبي المغيرة الأسلمي المدني، قال عنه ابن معين: ليس بقوي، ولا يحتج بحديثه، وهو دون الدراوردي والدراوردي أثبت منه. وكذلك قال أبو حاتم، والنسائي: ليس بالقوي2. وقال ابن عدي: " له أحاديث صالحة، يروي عن نافع، عن ابن عمر نسخة ... ويروي عن سائر الشيوخ من أهل المدينة أحاديث مستقيمة، وقد اعتمده البخاري في صحاحه، روى عنه الكثير ... وهو عندي لا بأس به" 3. وأما أبو داود فاحتج لصحة هذه الزيادة بورودها في حديث يونس، عن الزهري، عن سهل بن سعد في حديثه في اللعان، وفيه: "وأنكر حملها، فكان ابنها يدعى إليها"4 وذكر ابن عبد البر أن مثلها وقعت في رواية الأوزاعي، عن الزهري، عن سهل بن سعد فقال فيها: "فكان الولد لأمه"5. ولم يتردد أصحاب الكتب الستة من إخراج هذا الحديث بالزيادة التي رواها مالك، مما يدل على صحتها عندهم. 3. قال صالح بن أحمد بن حنبل: وقال أبي: الجُمحي روى حديثين عن عبيد الله بن عمر، حديث منهما في صدقة الفطر، وقد أنكر على مالك هذا
الحديث، ومالك إذا انفرد بحديث فهو ثقة، وما قال أحد ممن قال بالرأي أثبت منه في الحديث" 1. أشار الإمام أحمد في هذه المسألة إلى رواية مالك لحديث نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس، صاعاً من تمرٍ، أو صاعاً من شعير، على كل حرٍّ أو عبدٍ ذكرٍ أو أُنثى من المسلمين2. فقوله: "من المسلمين" زيادة انفرد مالك بذكرها في هذا الحديث، إذ لم يذكرها غير واحد ممن روى الحديث عن نافع، ومنهم أيوب السختياني3، وعبيد الله ابن عمر4، والليث بن سعد5، وسليمان بن موسى6، وعقيل بن أبي خالد7. وموقف الإمام أحمد من تفرد الإمام مالك بهذه الزيادة أن مالكاً يقبل تفرده، وعلل ذلك بزيادته في التثبت على غيره. وهناك رواية ثانية تدل على توقف الإمام أحمد في هذه الزيادة حتى توبع مالك فيها، فروى أبو داود قال: "سمعت أحمد يقول: كنتُ أتهيَّب حديث مالك ـ يعني حديث نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة رمضان على كلِّ حُرٍّ وعبدٍ وذكرٍ وأنثى من المسلمين، يعني أتهيب قوله: من المسلمين، فحدثنا
أبو النضر، عن سعيد الجُمحي، عن عبيد الله قال فيه: من المسلمين، والعُمري يقول: من المسلمين" 1. وقريب منها الرواية التي ذكرها ابن رجب2 عن أحمد أنه قال: "كنت أتهيب حديث مالك: "من المسلمين" يعني حتى وجده من حديث العمريين، قيل له: أمحفوظ هو عندك "من المسلمين"؟ قال: نعم". قال ابن رجب: وهذه الرواية تدل على توقفه في زيادة واحد من الثقات ولو كان مثل مالك حتى يتابع على تلك الزيادة، وتدل على أن متابعة مثل العمري لمالك مما يقوي رواية مالك ويزيل عن حديثه الشذوذ والإنكار. ا.هـ3. وذكر أحمد اثنين ممن تابع مالكاً على ذكر هذه الزيادة، وقد وردت من طريق عدد من الرواة عن نافع، منهم: عمر بن نافع العدوي مولاهم4، وحديثه عند البخاري5، وابن حبان6؛ والضحاك بن عثمان7، وحديثه عند مسلم8، وابن خزيمة9، وابن حبان10؛ وكثير بن فرقَد11، وحديثه عند
الدارقطني1، والبيهقي2؛ وعبد الله بن عمر العمري3، وقد ذكر أحمد متابعته لمالك، وحديثه عند الدارقطني4؛ ويونس بن يزيد الأيلي، وحديثه عند الطحاوي5، وابن عبد البر6؛ والمعلى بن إسماعيل7، وحديثه عند ابن حبان8، والدارقطني9؛ ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، وحديثه عند الدارقطني10. وقد رواها سعيد بن عبد الرحمن الجُمحي11، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع به. أخرجه أحمد12، والدارقطني13، والحاكم14، والبيهقي15، وخالف بقية الرواة عن عبيد الله. وقد روى الدارقطني16 من طريق الدبري، عن
عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن أبي ليلى، وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع به بذكر هذه الزيادة. قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون بعض رواته حمل لفظ ابن أبي ليلى على لفظ عبيد الله1. ووردت أيضاً في حديث أيوب السختياني من رواية عبد الله بن شوذب2 عنه؛ أخرجه ابن خزيمة3، وخالف جمعاً من الحفاظ عن أيوب، منهم ابن علية، وحماد بن زيد، ويزيد بن زريع، وعبد الوارث بن سعيد، وسفيان بن عيينة وغيرهم. قال ابن عبد البر: المحفوظ عن أيوب فيه ليس فيه: من المسلمين4. 4. قال ابن رجب: "قال أحمد في حديث ابن فُضيل، عن الأعمش، عن عُمارة بن عُمير، عن أبي عطيّة، عن عائشة في تلبية النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيها: "والملك لا شريك لك"، قال أحمد: وهِم ابن فضيل في هذه الزيادة، ولا تُعرف هذه عن عائشة، إنما تُعرف عن ابن عمر، وذكر أبا معاوية روى الحديث عن الأعمش بدونها" 5. وحديث محمد بن فضيل أخرجه أحمد6 عنه، ولفظه: [قالت عائشة: إني لأعلم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُلبِّي قال: ثم سمعتها تلبِّي تقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنِّعمة لك والمُلك لا شريك لك". ورواه أبو معاوية7، والثوري8، وعبد الله بن نُمير9، وأبو الأحوص
سلاّم ابن سُليم1، وأبو خالد الأحمر2 فكلهم ذكروا في حديثهم التلبية إلى قولها: "إن الحمد والنعمة لك". وكذلك رواه شعبة، عن الأعمش، لكن خالف في الإسناد، فقال: عن الأعمش، عن خيثمة، عن أبي عطية، عن عائشة3 وعلقه البخاري4، وصنيعه يدل على أن الطريقين محفوظان5. ورجح أبو حاتم رواية الثوري ومن تبعه، وأن شعبة غلط في الإسناد6. ولعل من أجل هذا الاختلاف أعرض بقية أصحاب الكتب الستة ما عدا البخاري عن إخراج حديث عائشة واكتفوا بإخراج حديث ابن عمر. وهذه الزيادة إنما وردت في حديث عبد الله بن عمر، وهو عند البخاري7، ومسلم8. وذكر ابن رجب عن الخلال أن أبا عبد الله لا يعبأ بمن خالف أبا معاوية في الأعمش إلا أن يكون الثوري، وذكر أن هذه الزيادة رواها ابن نمير وغيره أيضاً عن الأعمش. ا.هـ9.
وقوله: هذه الزيادة رواها ابن نمير ... الظاهر أن قائل ذلك هو الخلال، كأنه يشير إلى رواية ابن أبي شيبة، فقد رواه عن أبي خالد الأحمر، وابن نمير بزيادة: [والملك] فحسب1. وما زاد عن ذلك فإنما هو من تفرد محمد بن فضيل. وابن فضيل حسن الحديث عند الإمام أحمد، ووثقه ابن معين، وقال عنه أبو حاتم: شيخ. وقال أبو زرعة: صدوق من أهل العلم2. وقال الدارقطني: أرفع الرواة عن الأعمش الثوري، وأبو معاوية، ووكيع، ويحيى القطان، وابن فضيل، وقد غلط عليه في شيء. ا.هـ3. فأشار إلى أنه غلط على الأعمش بعض الشيء. وقد حكم الإمام أحمد على هذه الزيادة بأنها وهم من ابن فضيل، حيث لم يذكرها عن الأعمش غيره، وفيهم من هو أثبت الناس في الأعمش منهم الثوري، وأبو معاوية. ثم إنه ليس له من الحفظ ما يحتمل منه تفرده بهذه الزيادة. وهناك قرينة أخرى، وهي ورود هذه اللفظة في غير حديث عائشة، مما يقوي احتمال كونه دخل عليه لفظ حديث ابن عمر في لفظ حديث عائشة. فهنا حكم برد الزيادة لأمرين: راويها ليس له من الحفظ ما يحتمل منه تفرده برواية الزيادة، والثاني احتمال كون الراوي دخل عليه لفظ حديث آخر في حديثه. 5. قال ابن رجب: قال أحمد في رواية الميموني: "حديث أبي هريرة في الاستسعاء4 يرويه سعيد بن أبي عروبة، وأما شعبة وهمام فلم يذكراه، ولا أذهب إلى الاستسعاء" 5.
وقال أحمد في رواية أخرى: ليس في الاستسعاء حديث يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي هريرة يرويه ابن أبي عروبة، وأما شعبة، وهشام الدستوائي فلم يذكراه، وحدّث به معمر1 ولم يذكر فيه السعاية. ا.هـ2. وقال المرُّوذي: ضعف أبو عبد الله حديث سعيد3. وقال عبد الله: "قلت لأبي حديث قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير ابن نهيك، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن كان له مال عُتق في ماله، وإن لم يكن له ما استسعي العبد غير مشقوق عليه"؟ قال أبي: هذه رواية سعيد، ولم يذكر هشام الدستوائي السعاية. قال أبي: وأذهب إلى حديث ابن عمر، وهو أقوى من هذا وأصح في المعنى" 4. وقد اعتبر الإمام أحمد ذكر الاستسعاء زيادة زادها سعيد بن أبي عروبة في حديث قتادة، ولم يذكرها شعبة، وهشام الدستوائي، والظاهر أنه تفرد بها عند أحمد، فلم يقبلها لمخالفته من هم أكثر عدداً منه، وذلك أن أصحاب قتادة عند أحمد هم هؤلاء الثلاثة، قال عبد الله: "قال أبي: هؤلاء أصحاب قتادة الذين لا يُختلف فيهم: شعبة، وهشام، وسعيد ابن أبي عروبة" 5. وقال المرُّوذي: "سمعت أبا عبد الله يقول: أصحاب قتادة سعيد، وهشام، وشعبة، إلا أن شعبة لم يبلغ علم هؤلاء، وكان سعيد يكتب كل شيء" 6.
وهذه الرواية تفيد أن سعيداً كان أكثرهم حديثاً عن قتادة1، ومع ذلك لم يقبل الإمام أحمد زيادته لمخالفته بقية أصحاب قتادة، وفيهم هشام الدستوائي. وقد جاء عن أحمد ما يدل على تقديم هشام الدستوائي على سعيد. قال أبو زرعة الدمشقي: أخبرني أحمد بن حنبل وذكر سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي أن الاختلاف عن هشام في حديث قتادة أقل منه في حديث سعيد. قال أبو زرعة: ورأيت أحمد بن حنبل لهشام أكثر تقديماً في قتادة لضبطه وقلة الاختلاف عنه. ا.هـ2. فاجتماع هشام وشعبة على عدم ذكر الزيادة التي تفرد سعيد بذكرها قرينة قوية لردها. ومن القرائن لعدم قبول الإمام أحمد لهذه الزيادة أن ابن عمر روى حديث عتق الشخص نصيباً له في مملوك مشترك فلم يذكر السعاية. قال عبد الله عن أحمد: "أذهب إلى حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان له مال عُتق في ماله، وإن لم يكن له فقد عتق منه ما عُتق"، رواه مالك، وعبيد الله عن نافع، إلا أن أيوب قال: قوله: "عتق منه ما عُتق" لا أدري فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أم قول نافع" 3. فالظاهر أنه تفرد بذكرها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ومن القرائن أيضاً أن الرواة اختلفوا على سعيد بن أبي عروبة في ذكر السعاية، حيث لم يذكر ذلك روح عن سعيد، قاله أبو عوانة عن أحمد4. ومن الأدلة لردّ هذه الزيادة أن هماماً روى هذا الحديث عن قتادة فذكره
مرة بدون هذه الزيادة1، وذكره مرة بالزيادة لكن جعلها من قول قتادة لم يرفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم 2، فدلّ على أنها مدرجة. وهمام في قتادة مثل سعيد بن أبي عروبة كما قال ابن مهدي3. وعن ابن مهدي: أحاديث همام عن قتادة أصح من حديث غيره، لأنه كتبها إملاءً4. ويؤيد هذا أن الاستسعاء معروف من فُتيا قتادة، رواه الأوزاعي عن قتادة5 في عبد بين ثلاثة نفرٍ، كاتَب أحدُهم، ثم أعتق الآخر، وأمسك الثالثُ. قال ذكر عن قتادة أنه قال: لهذا الذي أمسك نصيبَه على المُعتِق إن كان ذا يسار عن حظه، وإن لم يكن له مال استسعى المملوك في الثلث من قيمته، والولاء بين المُعتِق والمكاتب: للمعتق الثلثان، وللمكاتب الثلث. وقد وافق الإمام أحمد على رد هذه الزيادة شيخه سليمان بن حرب فيما نقله عنه الأثرم قال: طعن سليمان بن حرب في هذا الحديث، وضعفه6 وردها الشافعي وانتصر البيهقي لقوله من عدة وجوه7. وقال الدارقطني: "وافق شعبةَ هشامُ الستوائي فلم يذكر الاستسعاء، وشعبة وهشام أحفظ من رواه عن قتادة، ورواه همام فجعل الاستسعاء من قول
قتادة، وفصله من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه ابن أبي عروبة، وجرير بن حازم، عن قتادة فجعل الاستسعاء من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسبهما وهِما فيه لمخالفة شعبة، وهشام، وهمّام إياهما" 1. وخالف الإمام أحمد في هذا الحكم جماعة من النقاد منهم صاحبا الصحيحين، فأخرجا هذه الزيادة، قال الترمذي: "سألت محمداً عن هذا الحديث ـ يعني حديث السعاية ـ فقلت: أي الروايتين أصح؟ فقال: الحديثان جميعاً صحيحان، والمعنى فيه قائم، وذكر فيه عامتهم عن قتادة السعاية، إلا شعبة، وكأنه قوّى حديث سعيد بن أبي عروبة في أمره بالسعاية" 2. وحجتهم في ذلك أن سعيد بن أبي عروبة لم ينفرد بذكر السعاية في هذا الحديث، فقد ذكر الإمام البخاري أربعة تابعوه عن قتادة، وهم: جرير بن حازم3، حجاج بن حجاج4، وأبان بن يزيد العطار5، وموسى بن خلف6. وكذلك تابعه يحيى بن صبيح الخراساني7، وحجاج بن أرطأة8. ومع كثرة عدد هؤلاء هناك قرينة أخرى أشار إليها البخاري، وهي قوله:
اختصره شعبة1، يشير إلى أنه لا منافاة بين رواية شعبة ورواية من ذكر الزيادة لأنه اقتصر من الحديث على بعضه، وكذلك يقال في رواية هشام. وانتصر لقول هؤلاء الأئمة ابن دقيق العيد2، وابن تيمية3، وابن القيم4، وابن حجر5، والعلم عند الله. ومن أمثلة ما قبِله من زيادة الثقات لورودها من طريق عدد من الرواة: قال ابن رجب في شرح حديث البخاري: "حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا همام، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظُّهر في الأولييْن بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأُخريين بأم الكتاب، ويُسمعنا الآية، ويطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الركعة الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح". قال: "قد خرّخ البخاري هذا الحديث فيما سبق من رواية شيبان، وهشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، وليس في حديثهما: ويقرأ في الركعتين الأخريين بأم الكتاب. وخرّجه ههنا من طريق همام عن يحيى بهذه الزيادة. وخرجها مسلم في "صحيحه" من رواية همام، وأبان العطار كلاهما عن يحيى بن أبي كثير. وقد سأل الأثرم الإمام أحمد عن هذه الزيادة: أثبتٌ هي؟ قال: رواه عِدةٌ، ورواها بعضهم عن الأوزاعي. فقال له الأثرم: هشام لا يقولها؟ قال: نعم، هشام لا يقولها" 6.
فاحتج الإمام أحمد لثبوت الزيادة برواية عدد من الرواة لها، وذكر منهم رواية بعض تلاميذ الأوزاعي لها. والذين ذكروا هذه الزيادة هم: همام كما تقدم في رواية البخاري، وكذلك أبان ابن يزيد العطار1، وذكرها أيضاً مخلد بن يزيد عن الأوزاعي2، ولم يذكرها بقية الرواة عن الأوزاعي منهم الوليد بن مسلم، وبشر بن بكر3، ومحمد بن يوسف4، وإسماعيل بن أبي سماعة5، وأبو المغيرة6، وأبو عاصم7. والذين لم يذكروا الزيادة عن يحيى بن أبي كثير هم: هشام الدستوائي8 كما أشار إليه الأثرم ووافقه أحمد، وهشام أثبت الناس حديثاً عن يحيى ابن أبي كثير9؛ وشيبان النحوي10، ومعمر11، وحجاج الصواف12،
وعلي ابن المبارك1، وحرب بن شدّاد2. ومع كون الذين لم يذكروها أكثر عدداً من الذين ذكروها، وفيهم أثبت الناس عن يحيى بن أبي كثير قبلها الإمام أحمد لرواية عدد من الرواة لها، مما يدل على أنها محفوظة. ولذلك لم يتردد صاحبا الصحيح وغيرُهما من إخراج هذه الزيادة. ما ردّه من الزيادة لقرينة تدل على أن من لم يذكرها كان أكثر ضبطاً لروايته: قال عبد الله: "قلت لأبي: حديث عاصم بن كُليب، حديث عبد الله؟ قال: حدثناه وكيع في الجماعة قال: حدثنا سفيان عن عاصم بن كُليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، قال: قال ابن مسعود: ألا أُصلّي بكم صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة. حدثني أبي قال: حدثناه وكيع مرة أخرى بإسناده سواء فقال: قال عبد الله: أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فرفع يديه في أول. حدثني أبي قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الضرير قال: كان وكيع ربما قال يعني ثم لا يعود. قال أبي: كان وكيع يقول هذا من قِبَل نفسه، يعني ثم لا يعود. قال أبي: وقال الأشجعي: فرفع يديه في أول شيء ... قال أبي: حديث عاصم بن كليب، رواه ابن إدريس فلم يقل: "ثم لا يعود". حدثني أبي: قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: أملاه علي عبد الله بن إدريس من كتابه عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود قال: حدثنا علقمة، عن عبد الله قال: علّمَناَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، فكبّر ورفع يديه ثم ركع، وطبّق يديه وجعلهما بين ركبتيه، فبلغ سعداً فقال: صدق أخي قد كنا نفعل ذلك ثم أُمرنا بهذا، وأخذ بركبتيه. حدثني عاصم بن كليب هكذا. قال أبي: هذا لفظ غير لفظ وكيع، وكيع يثبج3
الحديث، لأنه كان يحمل نفسه في حفظ الحديث" 1. أشار الإمام أحمد إلى أن بعض الرواة عن وكيع رووا حديثه في رفع اليدين حديث عبد الله بن مسعود بزيادة: "ثم لا يعود"، وهو أبو عبد الرحمن بن الضرير2، فذكر الإمام أحمد أن هذه اللفظة يقولها وكيع من قبل نفسه وليست في الحديث، واحتج لردها برواية عبد الله بن إدريس للحديث، فقد روى الحديث بغير لفظ وكيع، وأشار إلى أن روايته أضبط، لأن من رواها عنه أخذها عنه إملاء من كتاب، مما يدل على مزيد ضبط الراوي. وقد ذكر ابن المبارك هذه الزيادة عن الثوري أيضاً3، كما ذكرها أبو حذيفة4، فدل على أن الزيادة ليست من وكيع بل من شيخه الثوري. والألفاظ التي جاءت عن الثوري في رواية الحديث هي خمسة: "فرفع يديه أول مرة ثم لم يعد"، "فلم يرفع يديه إلا في أول مرة"5، "فلم يرفع يديه إلا مرة"6،
"فرفع يديه مرة واحدة"1، "فرفع يديه في أول"2. وهذه الألفظ مخالفة للفظ عبد الله بن إدريس، ومعظمها عن وكيع، وقد أشار الإمام أحمد إلى هذا، وإلى أن السبب في ذلك هو أن وكيعاً كان يحدث من حفظه، وأما رواية ابن إدريس فهي من كتاب فكانت أضبط. وهذا أيضاً مسلك البخاري في رد الحديث على الثوري. قال في "جزء رفع اليدين في الصلاة"3: "ويُروى عن سفيان، عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن ابن الأسود، عن علقمة قال: قال ابن مسعود: "ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فصلى ولم يرفع يديه إلا مرة". وقال أحمد بن حنبل، عن يحيى ابن آدم: نظرت في كتاب عبد الله ابن إدريس عن عاصم بن كليب ليس فيه: ثم لم يَعُد. فهذا أصح، لأن الكتاب أحفظ عند أهل العلم، لأن الرجل ربما حدّث بشيء ثم يرجع إلى الكتاب فيكون كما في الكتاب ـ ثم ساق حديث عبد الله بن إدريس بإسناده، ثم قال: وهذا المحفوظ عند أهل النظر من حديث عبد الله بن مسعود". وقال أبو حاتم: "هذا ـ رواية فرفع يديه ثم لم يَعُد ـ خطأ، يقال: وهم فيه الثوري وروى هذا الحديث عن عاصم جماعةٌ فقالوا كلهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح فرفع يديه ثم ركع فطبق وجعلها بين ركبتيه ولم يقل أحد ما رواه الثوري" 4. وقال أبو داود: "هذا حديث مختصر من حديث طويل، وليس هو بصحيح على هذا اللفظ" 5.
المطلب الخامس: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي الصدوق
المطلب الخامس: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي الصدوق. الراوي الصدوق، وهو الذي خف ضبطه عن الراوي الثقة الحافظ، إذا تفرد عن شيخ حافظ كثير الحديث والتلاميذ، فتفرده في هذه الحالة يعدُ منكراً، لأن مثله ليس له من الحفظ والتثبت ما يحتمل منه مثل هذا التفرد. ومثال ذلك ما تقدم من إنكار الإمام أحمد لحديث عبد الرحمن بن إسحاق، الذي تفرد به عن الزهري في حِلف المطيّبين1، وكذلك حديث عبد الرحمن بن أبي الموال عن ابن المنكدر في الاستخارة2. فكلٌ من عباد بن إسحاق، وابن أبي الموال في مرتبة الصدوق عند الإمام أحمد كما تقدم، وكل واحد منهما قد تفرد عن حافظ كثير الحديث والتلاميذ، فوصف ما تفردا به بالنكارة. ومثال آخر لما وصفه بالنكارة وهو من تفرد الراوي الصدوق: قال حنبل: حدثني أبو عبد الله، ثنا عبد الله بن أبي شيبة، ثنا حفص بن غِياث، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطبوبى للغرباء". قيل من الغرباء؟ قال: "النزاع من القبائل". قال أبو عبد الله: هذا حديث منكر3. هذا الحديث أخرجه الترمذي4، وابن ماجه5، وابن أبي شيبة6،
وأحمد1، والدارمي2، وأبو يعلى3، والشاشي4، والبزار5، والدورقي6، والطبراني7، والبيهقي8 من طرق عن حفص بن غياث به. وهذا الحديث لا يُروى من حديث عبد الله بن مسعود إلا من حديث الأعمش، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، وتفرد به حفص بن غِياث عن الأعمش، نص على ذلك البخاري9، والترمذي10. وقال البزار: رواه عن الأعمش أبو خالد الأحمر، ويوسف بن خالد وغيرهما11. ورواية أبي خالد الأحمر أخرجها الطحاوي12، وابن عدي13. قال ابن عدي: "لا يعرف هذا الحديث إلا بحفص وبه يعرف، وحكم الناسُ بأنه حديثه عن الأعمش، حتى حدثناه الخضر بن أمية وغيره، عن مخلد بن مالك14 عن أبي خالد عن الأعمش، ولا أعلم يرويه عن أبي خالد غير مخلد بن مالك" 15، ورواه عن
أبي خالد محمد بن عبد العزيز الواسطي1 عند الطحاوي2. ومقتضى كلام ابن عدي وغيره أن رواية الحديث من غير طريق حفص بن غياث غير محفوظة. وقد وصف الإمام أحمد هذا الحديث بالنكارة لتفرد حفص بن غياث به عن الأعمش من بين سائر أصحابه، وليس هو ممن يحتمل منه مثل هذا التفرد عن مثل الأعمش، فلم يكن من الثقات البارزين كما تقدم عن الإمام أحمد3، فإنه كان في حفظه شيء4، ولا كان من كبار أصحاب الأعمش كالثوري، وأبي معاوية، وشعبة. وأما الإمام البخاري فحسن الحديث، قال: "لا أعلم أحداً روى هذا الحديث غير حفص بن غياث، وهو حديث حسن" 5، وكذلك صححه الترمذي6، والبغوي7 مع تنصيصهما على غرابته. فكلهم لم يروا في تفرد حفص به عن الأعمش أية علة. ومتن الحديث ثابت من طرق آخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم 8.
وقد أنكر الإمام أحمد حديثاً آخر لحفص بن غياث تفرد به: قال الأثرم: "قلت له ـ يعني أبا عبد الله ـ الحديث الذي يرويه حفص، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "كنا نأكل ونحن نسعى، ونشرب ونحن قِيام" فقال: ما أدري ما ذاك كالمنكر له، ما سمعت هذا إلا من ابن أبي شيبة عن حفص. قال لي أبو عبد الله: ما سمعتَه من غير ابن أبي شيبة؟ قال: قلت له: ما أعلم أني سمعته من غيره، وما أدري رواه غيره أم لا؟ ثم سمعته أنا بعدُ من غير واحد عن حفص. قال أبو عبد الله: أما أنا فلم أسمعه إلا منه، ثم قال: إنما هو حديث يزيد بن عطارد" 1. هذا الحديث رواه أحمد في المسند2 بالإسناد الذي ذكره هنا، ورواه أيضاً الترمذي3، وابن ماجه4، وابن حبان5 كلهم من طريق سلم بن جُنادة، عن حفص بن غياث، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. ورواه الطحاوي6 من طريق يوسف بن عدي، عن حفص به. وهذا الحديث تفرد به حفص عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، وقد صرح بذلك أحمد في سؤال الأثرم المروية. وقال ابن معين: لم يحدث به أحد إلا حفص7. وقال أبو زرعة: رواه حفص وحده8. وقال الترمذي: لا يُعرف عن
عبيد الله إلا من وجه رواية حفص1. وأنكره الإمام أحمد على حفص بن غياث لتفرده به عن عبيد الله، فهو ممن لا يحتمل منه مثل هذا التفرد عن عبيد الله. وذكر أن الصحيح حديث يزيد بن عطارد أبي البزري، عن ابن عمر2، أي هذا المتن يعرف بالإسناد المذكور. وقد أشار ابن معين، وابن المديني إلى أن حفصاً سمع حديث عمران ابن حُدير، عن يزيد بن عطارد فغلط وذكر الإسناد الذي ذكره للمتن المذكور3. وكذلك ما تقدم عن الإمام أحمد أنه وصف عدداً من الرواة أُخرج لهم في الصحيح بأنهم يروون المناكير، راجع إلى أن كل واحد منهم في مرتبة الصدوق عند الإمام أحمد، لأنه لا يخلو كل واحد منهم أن يكون في حفظه ما يجعله قاصراً عن الثقة الحافظ، فما تفرد به يكون منكراً على أصل الإمام أحمد، ومن هؤلاء الرواة بُريد بن عبد الله بن أبي بُردة4، ومحمد بن إبراهيم التيمي المنفرد برواية حديث الأعمال بالنيات5، وزيد بن أبي أنيسة6، وعمرو
ابن الحارث1، والحسين بن واقد2، وخالد بن مخلد3، إلا محمد بن إبراهيم التيمي، فإنه ليس في كلام الأئمة ما يشعر بقصور ضبطه، فلا يبعد أن يكون الإمام أحمد شذّ بهذا القول. قال ابن عدي: "إن كان ابن حنبل أراد به محمد بن إبراهيم ابن الحارث التيمي مديني يحدث عن أبي سلمة، فهو عندي لا بأس به، ولا أعلم له شيئاً منكراً إذا حدث عنه ثقة" 4.
فإذا كانت هذه حالة حديث الصدوق إذا تفرد به من غير مخالفة لرواية غيره فحيث جاء تفرده مع المخالفة فحديثه أولى بالنكارة، ومثال ذلك: قال ابن هانئ: "عرضت على أبي عبد الله حديث لُوين محمد بن سليمان، عن محمد بن ثابت العصري، قال: ثنا نافع، قال: انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس، فقضى حاجته وكان من حديثه يومئذ أن قال: مرّ رجل بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد خرج من الغائط فسلّم عليه، فلم يردّ حتى كاد الرجل أن يتوارى ضرب يديه إلى الجدار، ثم مسح وجهَهُ ثم ضرب بيده على الجِدار مرة أخرى فمسح ذراعيه، ثم ردّ عليه السلام ثم قال: "إنه لم يمنعني أن أردّ عليك السلام إلا أني لم أكن طاهراً". قال لي أبو عبد الله: هذا حديث منكر، ليس هو مرفوعاً" 1. وقال أبو داود: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: روى محمد بن ثابت حديثاً منكراً في التيّمم" 2. حديث محمد بن ثابت العبدي رواه أبو داود3، والطحاوي4، وابن المنذر5، والدارقطني6، والطبراني7. وتفرد بذكره من هذا الوجه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وخالف بذلك الأثبات من أصحاب نافع، منهم مالك8، وأيوب9،
وعبيد الله ابن عمر1، فكلهم رووه عن نافع عن ابن عمر موقوفاً عليه، وكذلك رواه معمر، عن الزهري، عن سالم عن ابن عمر2. قال أبو داود: "لم يُتابع محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن النبي صلى الله عليه وسلم، رووه من فعل ابن عمر" 3. ومحمد بن ثابت لا يحتمل منه مثل هذا التفرد، أولاً لمخالفته من هو أثبت منه، وهم عدد، وثانياً لقصور منزلته في الحفظ عن الثقات الأثبات. قال أحمد في رواية أبي داود: "محمد بن ثابت العبدي ليس به بأس، لكن روى حديثاً منكراً في التيمم، لا يتابعه أحدٌ" 4، وقال في رواية المهنا: "يخطئ في حديثه" 5. وأما سائر الأئمة فكلهم متفقون على تليينه6. فوصف هذه الرواية التي تفرد به عن مثل نافع وخالف الأثبات من أصحابه بالنكارة أمرٌ واضح خصوصاً على منهج الإمام أحمد. وقد ورد عن الإمام أحمد قبوله لبعض الأحاديث تفرد بها الصدوق الذي لم يبلغ منزلة الحافظ المبرز، من ذلك: قال الخلال: "أخبرنا المرُّوذي: قال: ذكرتُ لأبي عبد الله حديثَ محمد ابن سلمة الحراني، عن أبي عبد الرحيم: حدثني زيد بن أبي أُنيسة، عن المنهال، عن أبي عبيدة، عن مسروق: ثنا عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى:
{فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] من العرش إلى الكرسيّ". قال أبو عبد الله: هذا حديث غريب، لم يقع إلينا عن محمد بن سلمة، واستحسنه. وقال: قد رواه الأعمش موقوفاً، ورواه أبو يزيد الدالاني مرفوعاً. قال الخلال: وأخبرني زكريا بن يحيى: ثنا أبو طالب، أنه سأل أبا عبد الله عن هذا الحديث فجعلتُ أقرأهُ عليه فقال: ما أحسنَهُ، إنما سمعناه عن أبي عوانة، عن الأعمش مرسلاً" 1. هذا الحديث رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل2، ومحمد بن نصر المروزي3، والطبراني4 من طريق محمد بن سلمة الحراني به مرفوعاً. ورواه المروزي5، والحاكم6 من حديث أبي يزيد الدالاني، عن المنهال بن عمرو به موقوفاً على عبد الله بن مسعود. ورواه المروزي7 من طريق الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن قيس وأبي عبيدة، عن عبد الله. وهذا مرسل، بين أبي عبيدة وأبيه، وهو حديث طويل أوله: يجمع الله الناس يوم القيامة ... وقد استحسنه الإمام أحمد مع قوله إنه غريب، وذلك أن المنهال بن عمرو قد تفرد به، وهو في مرتبة الصدوق. قال عبد الله: " سمعت أبي يقول: أبو بشر أحب إلي من المنهال بن عمرو، قلت له: أحب إليك من المنهال بن عمرو؟ قال: نعم، شديداً، أبو بشر أوثق، إلا أن المنهال أسنّ" 8.
وقال أحمد في أبي بشر، وهو جعفر بن إياس بن أبي وحشية: ليس به بأس1. وأما غيره من الأئمة فقد وثقوه، منهم ابن معين، والنسائي، والعجلي. وقال فيه الدارقطني: صدوق2، وأخرج له البخاري3. ولعل وجه قبول الإمام أحمد له أن الحديث تشهد لأجزائه نصوص أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أن له أصلاً، والله أعلم. ومن أمثلة ما قبله من تفرد الراوي الصدوق، ما ذكره ابن رجب أن الإمام أحمد يقول في رواية عنه: إن نجاسة المذي نجاسة مخففة، يجزئ نضحُه بالماء كبَول الغلام الذي لم يأكل الطعام، لعموم البلوى به، ومشقة الاحتراز منه، وفيه حديث سهل بن حنيف، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما أصاب الثوب من المذي؟ فقال: "تأخذ كفاً من ماء فتنضحُ به حيث ترى أنه أصابك" 4. قال أحمد في رواية الأثرم: لا أعلم شيئاً يخالفه. ا.هـ5. وكذلك ذكر الترمذي عن الإمام أحمد أنه قال: أرجو أن يجزئه النضح بالماء6. فهذا يدل على أنه أخذ بهذا الحديث، وقد تفرد به ابن إسحاق. قال
الترمذي: حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث ابن إسحاق. ا.هـ1. وقال الذهبي: هذا حكم تفرد به محمد بن إسحاق2. ومحمد بن إسحاق حسن الحديث عند الإمام أحمد3، ولم يُبلغه درجة الثقة، لأنه يخالف الناس في حديثه لقصور ضبطه. قال الأثرم: "قلت لأبي عبد الله: ما تقول في محمد بن إسحاق؟ قال: هو كثير التدليس جداً، قلت له: فإذا قال: حدثني وأخبرني فهو ثقة؟ قال: هو يقول أخبرني فيُخالِف" 4. وقبول الإمام أحمد لهذا التفرد عن ابن إسحاق لا يهدم أصله، فإن المعروف من منهجه أنه إذا لم يكن في المسألة حديث صحيح، وكان فيها حديث ضعيف، وليس في الباب شيء يرده عمل به، قال الأثرم: "رأيت أبا عبد الله إن كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في إسناده شيء أخذ به إذا لم يجئ خلافُه أثبتُ منه ... وربما أخذ بالمرسل إذا لم يجئ خلافُه" 5، وقال أبو طالب: "سمعت أبا عبد الله يقول: وربما كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في إسناده شيء فنأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه، وربما أخدنا بالحديث المرسل إذا لم يجئ خلافه أثبت منه" 6. على أنه قد جاءت رواية أخرى عن أحمد في الحكم الذي ورد في حديث ابن إسحاق المتقدم، ذكرها ابن رجب أن أحمد قال: "لم يروه إلا ابنُ إسحاق، وأنا أتهيَّبه" 7.
وقال الإمام أحمد في حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في كل إبل سائمة، في كل أربعين ابنة لبون، لا تُفرَّق إبلٌ على حسابها، من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها منه وشطر إبله، عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شيء" 1: ما أدري ما وجهه، وسئل عن إسناده فقال: هو عندي صالح الإسناد2. فهذا الحديث تفرد به بهز بن حكيم، ولم يرد عن الإمام أحمد أنه رفعه إلى منزلة الثقة الحافظ، بل غاية ما فيه عن أحمد أن ابن حبان نقل عنه أنه كان يحتج به3.ونقل عنه ابن القيم أنه قال: بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده صحيح4. وأما ابن معين، وابن المديني، والنسائي فوثقوا بهز بن حكيم، وقال فيه أبو زرعة: صالح، ليس بالمشهور. وقال أبو حاتم: شيخ، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال الحاكم: كان من الثقات، ممن يجمع حديثه، وإنما أُسقط من الصحيح روايته عن أبيه، عن جده لأنها شاذة، لا متابع له فيها. وقال ابن عدي: لم أر له حديثاً منكراً5. وقال فيه ابن حجر: صدوق6. فتفرد مثل هذا الراوي بأصل ليس له فيه متابع يعدّ منكراً على أصل الإمام أحمد في هذا الباب. لكن ذكر أن إسناد هذا الحديث صالح، وقال بموجبه في رواية
عنه1. وتوجيه ذلك عندي أن جد بهز بن حكيم، وهو معاوية بن حيدة لم يشتهر بالرواية عنه إلا ابنه حكيم بن معاوية والد بهز، وهو لم يشتهر بالرواية عنه إلا ابنه بهز، فلا يستغرب من هذا حاله أن يتفرد بأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فحاله مثل حال الوحدان من الصحابة، وهم الذين ليس لهم إلا راوٍ واحد، ومع ذلك قبلت رواياتهم التي تفردوا بها، مثل حزن بن أبي وهب المخزومي جد سعيد بن المسيب، ما روى عنه إلا ابنه المسيب، ومع ذلك أخرج حديثه في الصحيح ولم يعلّ2. فحالة بهز بن حكيم وأمثاله تخالف حالة تلاميذ من اشتهر حديثه وتلاميذه فأمكن الوقوف على ما يستغرب من حديثه مما لا يرويه غيره من أقرانه، وأما وقد تفرد في الأصل بالرواية عن شيخه فلا يستغرب منه التفرد، لا سيما إذا لم يختلف عليه الرواة عنه كما هو حال بهز بن حكيم، فإن ذلك يدل على ضبطه لما يرويه، والعلم عند الله. تفرد الصدوق بزيادة: وأما الحديث الذي رواه عدد من الرواة فيشاركهم الراوي الصدوق في رواية أصل الحديث وينفرد عنهم بزيادة لم يذكرها سائر الرواة في الحديث، فهذا حكمه مثل حكم الحديث الذي تفرد به من أصله، وهو أنه لا تقبل منه هذه الزيادة لقصور حفظه عما يشترط في الراوي الذي يحتمل منه التفرد، وهو الثقة الحافظ. ومثال ذلك:
قال أبو داود: "قلت لأحمد: أفلح بن حُميد؟ قال: هذا شيخ قد احتملوه، وجعل كأنه يستضعفه، قال: يكثر من الرأي، قلت: رأي القاسم؟ قال: نعم، قال: روى حديثاً منكراً، حديث المواقيت. قلت: وصح ذلك عندك، رواه غير المعافى؟ قال: المعافى ثقة" 1. المقصود بحديث المواقيت الذي رواه أفلح بن حُميد هو ما رواه المعافى ابن عمران، عنه، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، عن عائشة [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحُليْفَة، ولأهل الشَّام ومِصر الجُحْفَة، ولأهل العِراق ذاتَ عِرْق، ولأهل اليمن يَلَمْلَم] . أخرجه أبو داود2، والنسائي3، وابن عدي4، والبيهقي5 كلهم من طريق هشام بن بهرام عن المعافى. وأخرجه النسائي6، والدارقطني7 من طريق أبي هاشم محمد بن علي عن المعافى. وأخرجه الطحاوي8 من طريق هشام بن بهرام وخالد ين يزيد القطربلي كلاهما عن المعافى. وهذا الحديث قد انفرد به أفلح بن حُميد عن القاسم، قال ابن عدي: هذا الحديث ينفرد به معافى عن أفلح9. وقال الذهبي: هذا الحديث ينفرد به المعافى
ابن عمران، عن أفلح عن القاسم، عن عائشة، هو صحيح غريب. ا.هـ1. وأما الإمام أحمد فأنكره على أفلح، لأنه ليس ممن يحتمل منه مثل هذا التفرد. قال عبد الله: سألته عن أفلح؟ فقال: صالح2. وقال الميموني: سألت أبا عبد الله عن أفلح بن حُميد؟ فقال: صالح، يحتمل3. وقال عنه الذهبي: صدوق4. وقال ابن حجر: ثقة5. وإنما أنكر قوله: "ولأهل العراق ذات عرق"، ولم ينكر الباقي من إسناده ومتنه شيئاً، قاله ابن عدي6، ووجهه أن الباقي من متنه معروف من وجوه كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس فيه ما يُستنكر، وأما الإسناد فلا يعرف عن عائشة إلا من طريقه، فحقه على أصل الإمام أحمد أن يكون منكراً أيضاً، والله أعلم. فهذا يدل على أن إنكار الإمام أحمد موجه إلى الزيادة التي تفرد بها أفلح ابن حُميد، ويدل على أن الزيادة من الصدوق الذي لم يبلغ ضبطه ضبط الثقة الحافظ منكرة عند الإمام أحمد غير مقبولة، مثلها مثل حديثه الذي تفرد به من أصله، والله أعلم.
المطلب السادس: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي الموصوف بسوء الحفظ
المطلب السادس: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي الموصوف بسوء الحفظ. تقدم في مبحث إعلال الحديث بسوء الحفظ الملازم للراوي أن منهج الإمام أحمد في الرواة الموصوفين بسوء الحفظ أنه إذا انفرد واحد منهم بحديث ولم يتابع عليه لم يحتج به، وأن الحال في ترك الاحتجاج قد تختلف من راوٍ إلى آخر، وأشد ما يكون إذا زاد في الإسناد أو نقص أو غير الإسناد، أو جاء بما يتغير فيه المعنى1. ومن أمثلة إعلاله الأحاديث بتفرد بعض رواتها الموصوفين بسوء الحفظ ما يلي: الحديث الأول: قال أبو داود: "سمعت أحمد سُئل عن يحيى بن يمان، فقال: كان يغلط، ثم ذكر حديث سفيان، عن منصور، عن خالد بن سعد، عن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى في الطواف فاُتي بنبيذ. فقال: هذا منكر". هذا الحديث أخرجه النسائي2، وابن أبي شيبة3، والطحاوي4، والدارقطني5، والطبراني6، البيهقي7 كلهم من طرق عن يحيى بن يمان، عن الثوري به. ولفظه كما ورد عند النسائي: عطش النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة، فاستسقى فأُتي بنبيذ من السِّقاية فشمّه فقطّب فقال: "عليّ بذَنوب من زمزم" فصب
عليه ثم شرب، فقال رجلٌ: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا". وأعله الإمام أحمد بالنكارة لتفرد يحيى بن يمان به عن الثوري، وقد قال فيه: كان يغلط، وهو قول مشعر بسوء حفظه. وقيل له: فرواه غيره؟ قال: لا، إلا من هو أضعف منه1. وقال أحمد في موضع آخر: ليس يحيى بن يمان بحجة في الحديث2 وقال في رواية أبي داود: عنده تخليط3. وذكر الساجي عن أحمد أنه ضعفه، وقال: حدّث عن الثوري بعجائب، لا أدري لم يزل هكذا، أو تغير حين لقيناه، أو لم يزل الخطأ في كتبه4. وبمثل هذا أعله النسائي، قال: "هذا خبر ضعيف، لأن يحيى بن يمان انفرد به دون أصحاب الثوري، ويحيى بن يمان لا يحتج بحديثه لسوء حفظه وكثرة خطئه" 5. وقد توبع يحيى بن يمان عن الثوري: تابعه عبد العزيز بن أبان عند الدارقطني6. قال الدراقطني: عبد العزيز بن أبان متروك الحديث. وتابعه أيضاً الواقدي كما ذكر ابن عدي7، كما تابعه اليسع بن إسماعيل، عن زيد بن الحباب، عن الثوري عند الدارقطني أيضاً، وقال: لا يصح هذا عن يزيد بن الحُباب عن الثوري، ولم يره غير اليسع بن إسماعيل، وهو ضعيف، وهذا الحديث معروف بيحيى ابن يمان. ا.هـ8.
وقد قيل إن هذا الحديث انقلب إسناده على يحيى بن يمان واختلط عليه بحديث الذي رواه عن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب بن أبي وداعة: [طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار فاستسقى فأتي بإناء من نبيذ فلما رفعه إلى فيه قطب فتركه فقال الرجل: يا رسول الله هذا شراب أهل مكة أحرام هو؟ فسكت ثم أتاه الثانية فقطب فنحاه فقال له الرجل مثل ذلك فدعا بذنوب أو دلو من ماء فصبه عليه ثم سقى الذي يليه والذي عن يمينه ثم قال: "هكذا اصنعوا به إذا غلبكم". هكذا رواه أبو حذيفة عن الثوري1. وقال ابن عدي: وقال الأشجعي وغيره، عن سفيان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب: "أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بنبيذ"2، هكذا قال البخاري أيضاً3. فعاد الحديث إلى حديث الكلبي، وهو مشهور بأنه متروك الحديث. وأما حديث الثوري، عن منصور، عن خالد بن سعد، عن أبي مسعود الذي انقلب على ابن يمان فلفظه أن أبا مسعود كان يمسح على الجوربين4، هذا ما ذهب إليه الدارقطني5، أي فانقلب على يحيى بن يمان، ودخل عليه إسناد هذا الحديث في حديث الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب. أما أبو جاتم فذكر أن الحديث الذي سقط على ابن يمان هو ما رواه الثوري،
عن منصور، عن خالد بن سعد مولى أبي مسعود [أنه كان يشرب نبيذ الجر] ، يعني من فعل أبي مسعود غير مرفوع، فجعل إسناده لمتن حديث الثوري، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب1. وقد سبق إلى التنبيه بهذه العلة عبد الله بن نمير، قال: أخطأ ابن يمان على الثوري فقال: عن منصور، عن خالد بن سعد، عن أبي مسعود، وإنما هو الثوري، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب قال: "عطش النبي صلى الله عليه وسلم " فذكره. وقال: ابن يمان سريع الحفظ سريع النسيان. ا.هـ2. وقال أبو موسى: سألت عبد الرحمن بن مهدي عن حديث سفيان عن منصور في النبيذ فقال: لا تحدث بهذا3. والشاهد أن تفرد يحيى بن يمان عن الثوري هو الذي دل إلى كشف خطئه هذا، لأنه ليس ممن يحتمل منه مثل هذا التفرد عن الثوري لسوء حفظه، والله أعلم. الحديث الثاني: قال عبد الله: "ذكرت لأبي حديث محمد بن جابر، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله في الرفع، فقال: هذا ابن جابر، إيش حديثه؟ هذا حديث منكر، أنكره جداً" 4.
هذا الحديث رواه أبو يعلى1، والدارقطني2، والإسماعيلي3، والبيهقي4، والخطيب5 من طريق عن محمد بن جابر، عن حماد وهو ابن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود ولفظه: "صليتُ خلفَ النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند افتتاح الصلاة". وقد أنكره الإمام أحمد لتفرد محمد بن جابر به، وقال: ابن جابر إيش حديثه؟ هذا حديث منكر. وقد نص الدراقطني أيضاً على تفرد ابن جابر به. وقال العقيلي بعد أن ساق الحديث: لا يتابع عليه6. ومحمد بن جابر هو اليمامي لا يحتج بما ينفرد به، وقد تقدمت ترجمته وأنه ممن جرحه الإمام أحمد لأنه ربما ألحق في كتابه7. وقال في رواية ابن هانئ: ليس بالقوي، روى عن حماد أحاديث8، وعنه أيضاً: أحاديثه عن حماد مضطربة، في كتبه لحوق9. فحديثه الذي تفرد به خصوصاً عن حماد بن أبي سليمان يعد منكراً ولو لم يخالف، فكيف وقد خالف. فقد رواه حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان،
عن إبراهيم، عن ابن مسعود من فعله غير مرفوع. ذكره الدارقطني وقال: هو الصواب1. فخالفه حماد بن سلمة في موضعين: رواه مرسلاً بين إبراهيم النخعي وابن مسعود، بينما ذكره محمد بن جابر موصولاً بذكر علقمة بينهما. والثاني وقف الحديث على ابن مسعود، بينما رفعه ابن جابر. فهذا مما يزيد روايته نكارة. الحديث الرابع: قال أبو داود: "ذكرت لأحمد حديث قيس بن الرَّبيع، عن شبعة، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فاته الأربع قبل الظهر صلاّها بعد الظهر] . فقال أحمد: يرويه غير واحد ليس يذكرون هذا فيه، يعني يروون حديث خالد، عن عبد الله بن شقيق: [سألت عائشة عن تطوع رسول الله صلى الله عليه وسلم] ، أي فليس هذا فيه" 2. حديث قيس بن الربيع أخرجه ابن ماجه3، وابن عدي4. قال ابن ماجه: لم يروه إلا قيس عن شبعة. وقال الترمذي: ولا نعلم رواه عن شعبة غير قيس بن الربيع5. وذكر الإمام أحمد أن غير واحد من الرواة رواه عن خالد الحذاء بغير اللفظ الذي رواه قيس. ومن هؤلاء هشيم بن بشير6، ويزيد
ابن زريع1، وإسماعيل بن علية2، ويزيد بن هارون3، وخالد الطحان4، وبشر بن المفضل5، كلهم رووه بلفظ: "سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت كان يصلي أربعاً قبل الظهر وثنتين بعدها، وثِنتين قبل العصر وثِنتين بعد المغرب، وثِنتين بعد العشاء، ثم يصلي من الليل تسعاً. قلت: أقائماً أو قاعداً؟ قالت: يصلي ليلاً طويلاً قائماً وليلاً طويلاً قاعداً. قلت: كيف يصنع إذا كان قائماً، وكيف يصنع إذا كان قاعداً؟ قالت: إذا قرأ قائماً ركع قائماً، وإذا قرأ قاعداً ركع قاعداً، وركعتين قبل صلاة الصبح". وهذا لفظ حديث ابن علية. وقد تابع قيس بن الربيع على اللفظ الذي رواه عن شعبة، عبد الوارث ابن عبيد الله، عن ابن المبارك، عن خالد الحذاء. أخرجه الترمذي6 وقال: إنما نعرفه من حديث ابن المبارك من هذا الوجه. ا.هـ. وعبد الوارث بن عبيد الله هو العتكي روى عن ابن المبارك الكثير حتى مسائل سأله وسئل عنه وهو حاضر، قاله ابن أبي حاتم7، وذكره ابن حبان في الثقات8، ووثقه الذهبي9، وقال عنه ابن حجر: صدوق10.
ومع متابعة ابن المبارك لقيس بن الربيع عن خالد الحذاء، فلا يحتمل منه التفرد عن مثل شعبة، وهو وجه لإنكار الإمام أحمد لحديثه هذا. زيادة الراوي السيء الحفظ في الحديث: وأما ما يتفرد به الراوي الموصوف بسوء الحفظ من زيادة فحكمها أيضاً الرد مثل تفرده بأصل الحديث. وقد تقدم أن الإمام أحمد رد على يحيى بن أيوب الغافقي زيادته لقراءة المعوذتين في ركعة الوتر في حديث عائشة رضي الله عنها: قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن يحي بن أيوب المصري، فقال: كان يحدث من حفظه، وكان لا بأس به، وكان كثير الوهم في حفظه، فذكرت له من حديثه عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر الحديث، فقال: ها، من يحتمل هذا"، وقال مرة: كم قد روى هذا عن عائشة من الناس ليس فيه هذا، وأنكر حديث يحيى خاصة1. وتقدم أن الإمام أحمد أنكر زيادة المعوذتين. وقال العقيلي: أما المعوذتين فلا يصح2.
المطلب السابع: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي المجهول
المطلب السابع: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي المجهول. من أسباب وقوع النكارة في الأحاديث أن تكون رواتها غير معروفين عند أهل الحديث، ومن كان بهذه المثابة لا تعرف عدالته بله ضبطه. فإذا استغرب الحفاظ حديثاً في سنده رجال ثقات معروفون وينفرد من بينهم آخر مجهول التزقت التهمة في غرابة الحديث بذلك المجهول، وأنكروا الحديث من أجله. من أمثلة ذلك عند الإمام أحمد: قال مهنّا: "حدثنا خالد بن خِداش، ثنا عبد الله بن وهب، ثنا السري بن يحيى أن شُجاعاً حدثه، عن أبي طيبة، عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من قرأ سورة الواقعة في ليلة لم تصبه فاقةٌ". قال أحمد: هذا حديث منكر. وقال: السرِّي بن يحيى ثبت ثقة ثقة، وشجاع الذي روى عنه السرِّي لا أعرفه، وأبو طيبة هذا لا أعرفه، والحديث منكر" 1. هذا الحديث أخرجه البيهقي2 من طريق خالد بن خِداش. وأخرجه الحارث بن أبي أسامة3، والبيهقي أيضاً4 من طريق العباس بن الفضل، عن السري به. وأخرجه الإمام أحمد5، وابن عساكر6 من طرق آخرى عن السري به. والحديث مداره على السري بن يحيى، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أوجه الاختلاف عليه في اسم شيخه، هل هو شجاع، أو أبو شجاع، وكذلك في الراوي
عن ابن مسعود هل هو أبو طيبة، أو أبو فاطمة، وإن كان أبا طيبة هل هو بالطاء المهملة أو بالظاء المعجمة1. وقد أنكر الإمام أحمد هذا الحديث عن ابن مسعود، لأنه لا يعرف إلا من هذا الطريق، وراويه السري بن يحيى قال فيه: ثبت ثقة ثقة، لكن شيخه وشيخ شيخه نص الإمام أحمد على أنهما مجهولان، فلا يحتمل منهما التفرد بهذا الأصل عن ابن مسعود. وكذلك وهّن حديث أبي العُشَراء في الذكاة؛ رواه حماد بن سلمة، عن أبي العُشَراء، عن أبيه قال: قلت يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا في الحلق أو اللبّة؟ قال: "لو طعنت في فخذها لأجزأك"2. قال الميموني: سألت أبا عبد الله عن حديث أبي العُشراء، قال: "هو عندي غلط، قلت: فما تقول؟ قال: أما أنا فلا يعجبني ولا أذهب إليه إلا في موضع ضرورة كيف ما أمكنتك الذكاةُ ولا تكون إلا في الحلق أو اللبّة، فينبغي للذي يذبح أن يقطع الحلق أو اللبّة" 3. وعلة الحديث عند أحمد أنه لا يروى عنه غير هذا الحديث، قاله الميموني عن أحمد4، فهو في حكم المجهول. قال مهنّا: "سليمان بن أبي سليمان، يحدث عنه العوام بن حَوشَب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بالمدينة والملك بالشام"، قال أحمد:
أصحاب أبي هريرة المعروفون ليس هذا عندهم" 1. الحديث رواه البخاري في "التاريخ الكبير"2، والحاكم3، وابن عساكر4 من طرق عن هشيم بن بشير، عن العوام بن حوْشَب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أبيه، عن أبي هريرة. وهذا الراوي لم أقف على كلام الإمام أحمد فيه. وقال فيه ابن معين في رواية مهنّا هذه: لا نعرف هذا ـ يعني سليمان بن أبي سليمان5. وقال في رواية إسحاق بن منصور: لا أعرفه6. وأورده البخاري في "التاريخ الكبير"7، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكر له هذا الحديث. وقال الذهبي: لا يكاد يعرف8. وقول الإمام أحمد في هذا الحديث: أصحاب أبي هريرة المعروفون ليس هذا عندهم استنكار منه لهذه الرواية لتفرد راويها بها، وهو في حكم المجهول. وقد تقدمت أمثلة أخرى فيما مضى في مبحث الإعلال بالجهالة.
المبحث الثاني: الإعلال بالمخالفة عند الإمام أحمد
المبحث الثاني: الإعلال بالمخالفة عند الإمام أحمد مدخل ... المبحث الثاني: الإعلال بالمخالفة عند الإمام أحمد. من الطرق التي تكشف أخطاء الرواة في رواية الأحاديث مخالفة بعضهم لبعض، ولذلك اشتهرت مقولة أهل هذا الشأن أن الباب إذا لم يجمع طرقه لم يتبين خطؤه1، فإذا روى الراوي حديثاً وشاركه غيره في رواية ثم خالف من هو أولى منه ثقة أو كثرة حكم على روايته بالخطأ، وعلى رواية الأَوْلى بأنها المحفوظة، ووجه ذلك أن تطرق الوهم والغلط في مروي الراوي الأقل حفظاً أولى من تطرقهما إلى الأحفظ، وكذلك تطرقهما إلى عدد قليل أولى من تطرقهما إلى جماعة أكثر عدداً، وقد ذكر الإمام مسلم في مقدمة "كتاب التمييز"2 أن الذي يدور عليه معرفة الخطأ في روايات نقلة الحديث راجع إلى جهتين: الأولى: ما كان واضحاً غير خفي على أهل العلم من الأخطاء في نسبة الرواة بخلاف ما عرفوا به، أو بتصحيف في المتون يعرفه السامع الفهِم، والجهة الأخرى ـ وهي موضوع هذا المطلب ـ أن يروي نفر من حفاظ الناس حديثاً عن إمام من الأئمة بإسناد واحد ومتن واحد، فيرويه آخر سواهم عن ذلك الإمام فيخالفهم في الإسناد أو يقلب المتن، فيعلم أن الصحيح ما حدث به الجماعة من الحفاظ دون الواحد المنفرد وإن كان حافظاً. ا.هـ. وفي هذا المبحث سأورد نماذج من أحاديث أعلها الإمام أحمد لمخالفة بعض رواتها لمن هو أولى منه، وذلك في مطلبين: الأول: المخالفة لرواية الأحفظ.
الثاني: المخالفة لرواية الأكثر عدداً. ثم أتبع ذلك بدراسة موقف الإمام أحمد من حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه، وبذكر نماذج من نقد الإمام أحمد لمتون الأحاديث بسبب نوع من المخالفة في مطلبين آخرين.
المطلب الأول: مخالفة الراوي لرواية الأحفظ
المطلب الأول: مخالفة الراوي لرواية الأحفظ. ومن أمثلة ذلك: 1. روى يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، قال: سمعت جابر بن زيد يحدث عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقطع الصلاة المرأةُ الحائضُ، والكلبُ" 1. قال الإمام أحمد: "ثناه يحيى قال: شعبة رفعه. قال: وهشام لم يرفعه. قال أحمد: كان هشام حافظاً" 2. قال ابن رجب: هذا ترجيح من أحمد لوقفه. ا.هـ. وفي قول أحمد: كان هشام حافظاً ترجيح لرواية الأحفظ. قال عبد الله: "سألته ـ أي أباه ـ عن هشام وهمام. قال: سبحان الله، هشام أثبت، وقال شعبة: هشام أحفظ مني عن قتادة. شعبة يستعين بهشام يقول: "قال هشام" 3. وقال أبو زرعة الدمشقي: "رأيت أحمد بن حنبل لهشام أكثر تقديماً في قتادة لضبطه وقلة الاختلاف عنه" 4.
2. وقال أبو داود: "سمعت أحمد قيل له: اختلف أيوبُ أبو العلاء وهمامٌ في حديثه: [من فاتتهُ الجمعةُ فليتصدق] . قال أحمد: همام عندي أحفظ" 1. حديث همام رواه أبو داود2، والنسائي3، والطيالسي4، وأحمد5، وابن أبي شيبة6، وابن خزيمة7، وابن حبان8، والطبراني9، والحاكم10، والبيهقي11 من طرق عن همام بن يحيى العوذي، عن قتادة، عن قدامة بن وبرة، عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك جمعة في غير عُذرٍ فليتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصفَ دينارٍ". وأما حديث أيوب أبي العلاء فرواه أبو داود أيضاً12، والحاكم13، والبيهقي14 من طريقه، عن قتادة، عن قدامة بن وبرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فاته الجمعة بغير عذر فليتصقد بدرهم أو نصف درهم، أو صاع حنطة، أو نصف صاع". قال الإمام أحمد: خالفه في الحكم وقصر في الإسناد15.
فقدم الإمام أحمد رواية همام لأنه أحفظ من أيوب أبي العلاء. وقد سبق قول الإمام أحمد في همام أنه ثقة، وأنه ثبت في كل المشايخ1. وأما أيوب أبي العلاء وهو أيوب بن مسكين التميمي القصاب الواسطي، فقال فيه أحمد: ليس به بأس2، وقال في موضع آخر: رجل، صالح ثقة3، وقال أيضاً: كان لا يحفظ الإسناد4. ويشهد لصحة حكم الإمام أحمد أن خالد بن قيس رواه عن قتادة فوافق هماماً في متن الحديث، وخالفه في الإسناد. قال في الإسناد: عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال في متنه: "من ترك جمعة متعمداً فليتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار". رواه أبو داود5، والبيهقي6، وقال: ولا أظنه إلا واهما في إسناده لاتفاق ما مضى على خلافه، فأما المتن فإنه يشهد بصحة رواية همام. ويشهد له أيضاً رواية سعيد بن بشير، فقد وافق هماماً في الإسناد وخالفه في المتن، فقال: [فليتصدق بدرهم أو نصف درهم، أو صاع، أو مد] . أخرج روايته أبو داود، والبيهقي7. وقد سبق ما يتعلق بإعلال الإمام أحمد للحديث من وجه آخر، وهو جهالة قدامة بن وبرة في مباحث الجهالة8. ومن تقديم الإمام أحمد لرواية الأحفظ اختلاف رواية سعيد بن عبيد عن
بشير بن يسار في حديث سهل بن أبي حثمة في القسامة لرواية يحيى بن سعيد الأنصاري، فقدم الإمام أحمد رواية يحيى بن سعيد. 3. قال الأثرم: ضعف أحمد حديث سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار، وقال: الصحيح عن بشير بن يسار ما رواه عنه يحيى بن سعيد، قال أحمد: وإليه أذهب1. حديث سعيد بن عبيد رواه عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثْمة أن نفراً من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلاً، فذكر الحديث وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تأتون بالبيّنة على من قتله"؟ قالوا: ما لنا بينةٌ. قال: "فيحلفون". قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُطلَّ دمه فوداه مائة من إبل الصدقة. أخرجه البخاري2، ومسلم3 وأبو داود4، والنسائي5، والطحاوي6، والدارقطني7، والطبراني8، والبيهقي9. وأما حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، فرواه عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة فذكر قصة القتيل وقال فيه: "فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل فقال لهم: "أتحلفون خمسين يميناً فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم؟ " قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يميناً؟ " قالوا: وكيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده" أخرجه
البخاري1، ومسلم2، وأبو داود3، والنسائي4، والترمذي5، وأحمد6 من طرق عن يحيى بن سعيد الأنصاري به. والشاهد من الاختلاف الذي من أجله أنكر الإمام أحمد رواية سعيد ابن عبيد هو أن في روايته طلب النبي صلى الله عليه وسلم البينة من أولياء المقتول ـ وهم المدّعون ـ ولما لم تكن لهم بينة طلب اليهود ـ وهم المدعى عليهم ـ أن يحلفوا، وليس في روايته طلب اليمين من أولياء المقتول، ولا ذكر للقسامة. أما في رواية يحيى بن سعيد فلم يكن هناك طلب للبينة، بل عرض اليمين على أولياء المقتول، فلما أبوا أن يحلفوا قال: تبرئكم يهود بخمسين يميناً، فذكر أصل القسامة. قال ابن رجب: "وقد ذكر الأئمة الحفاظ أن رواية يحيى بن سعيد أصح من رواية سعيد بن عُبيد الطائي فإنه أجل وأحفظ وأعلم، وهو من أهل المدينة، وهو أعلم بحديثهم من الكوفيين. وقد ذُكر للإمام أحمد مخالفة سعيد بن عبيد ليحيى بن سعيد في هذا الحديث فنفض يده وقال: ذاك ليس بشيء، رواه على ما يقول الكوفيون، وقال: أذهب إلى حديث المدنيين يحيى بن سعيد" 7. ومقصود الإمام أحمد بأنه رواه على ما يقول الكوفيون، هو أنهم يقولون لا يحلف إلا المدَّعَى عليه، ولا يقضى بشاهد ويمين، لأن اليمين لا تكون على المدَّعِي، ولا ترد عليه، لأنها لا تكون إلا في جانت المنكِر المدّعَى عليه حتى في القسامة.
ويحيى بن سعيد الأنصاري قال فيه أحمد: أثبت الناس1. وقال أيضاً: "محدثوا الحجاز ابن شهاب، ويحيى بن سعيد، وابن جريج، يجيئون بالحديث على وجهه" 2، وأما سعيد بن عبيد الطائي فقال في رواية عبد الله: صالح الحديث3، ووثقه في رواية أبي طالب4، ولا شك في تقديم يحيى بن سعيد الأنصاري عليه في الحفظ والضبط والعلم. قال الإمام مسلم: "وغير مشكل على من عقل التمييز من الحفاظ من نقلة الأخبار ومن ليس كمثلهم أن يحيى بن سعيد أحفظ من سعيد بن عبيد، وأرفع منه شأناً في طريق العلم وأسبابه، فلو لم يكن إلا خلاف يحيى إياه حين اجتمعا في الرواية عن بشير بن يسار لكان الأمر واضحاً في أن أولاهما بالحفظ يحيى بن سعيد، ودافع لما خالفه ... " 5. ومن أجل هذا لم يخرج الإمام أحمد رواية سعيد بن عبيد في مسنده، واكتفى يرواية يحيى بن سعيد الأنصاري. وقد وافق الإمام أحمد على إنكار رواية سعيد بن عبيد الإمام مسلم كما تقدم، والبيهقي6، وابن عبد البر7، وابن القيم8. وانتهج الحافظان ابن رجب، وابن حجر إلى الجمع بين الروايتين بناء على صحتهما عندهما9.
وربما أشار الإمام أحمد إلى الاختلاف ولا يبين أي الروايتين أرجح، وتلك الإشارة كافية للقدح فيما ظاهره الصحة، وقد يلتمس الترجيح بقرائن أخرى. ومن أمثلة ذلك: قال أبو داود: "سمعت أحمد ذكر له حديث ابن أبي العشرين الذي يرويه عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة في سوق الجنة فقال: حدثنا به أبو المغيرة، عن الأوزاعي مرسل"1. هذا الحديث رواه الترمذي2، وابن ماجه3، وابن أبي عاصم4، وابن أبي حاتم5، وابن حبان6، وابن عساكر7 من طرق عن هشام بن عمّار، عن عبد الحميد ابن أبي العشرين، عن الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبا هريرة فقال: أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة، فقال سعيد: أفيها سوق؟ قال: نعم، أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ... وذكر الحديث بطوله. وذكر الإمام أحمد أن ابن أبي العشرين قد خولف في رواية هذا الحديث عن الأوزاعي؛ خالفه أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الخولاني الشامي، فرواه عن الأوزاعي مرسل. ولم أقف على هذه الرواية، وقد بين الدارقطني وجه الإرسال فقال: رواه أبو المغيرة عن الأوزاعي قال: نُبئت أن أبا هريرة لقي سعيد بن المسيب8.
وأبو المغيرة قد وثقه أحمد1. وكذلك وثقه العجلي، والدارقطني. وقال أبو حاتم: كان صدوقاً. وقال النسائي: ليس به بأس2. وأما عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين، كاتب الأوزاعي فقد وثقه أحمد أيضاً في رواية عبد الله3، وكذلك وثقه أبو زرعة الرازي4، لكن تكلم فيه غير واحد: قال أبو حاتم: كان كاتب ديوان، لم يكن صاحب حديث5. وكذلك قال دحيم: إنه لم يكن صاحب حديث6. وقال البخاري: ربما يخالف في حديثه7. وقال النسائي: ليس بالقوي8. وقال أبو أحمد الحاكم: "ليس بالمتين عندهم، وقد حدث عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة بحديث منكر، وهو حديث سوق الجنة، لا أعرف له أصلاً في حديث أبي هريرة، ولا في حديث سعيد بن المسيب، ولا في حديث حسان بن عطية، ولا في حديث الأوزاعي، وقد تابعه سويد بن عبد العزيز، لكن متابعته كلا متابعة، ويحتمل أن يكون أخذه منه، والله أعلم" 9. ومتابعة سويد بن عبد العزيز التي ذكرها أبو أحمد الحاكم رواها ابن أبي عاصم10، وابن عساكر11. وقد اضطرب في هذه الرواية، فمرة رواها
هكذا، ومرة أخرى رواها عن الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد، عن أبي هريرة1. وقال مرة أخرى: عن الأوزاعي، حدثت عن سعيد2. وقال أيضا: عن الأوزاعي، عن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة3. وسويد بن عبد العزيز متروك الحديث، قاله أحمد4. واضطرابه شاهد على ضعف حديثه. وروى الحديث الوليد بن مزيد، عن الأوزاعي، قال: نبئت عن سعيد5 وتابعه هقل بن زياد عن الأوزاعي6. وخالف الإمام أحمد أحمدُ بن عبد الرحيم الحوطي فرواه عن أبي المغيرة، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة. وأحمد بن عبد الرحيم الحوطي من شيوخ الطبراني7. ما وقفت له على ترجمة إلا ما ذكره ابن القطان أنه لا يعرف حاله8. وتابعه محمد بن مصعب القرفساني عن الأوزاعي. قال ابن عساكر: لم يصنعا شيئاً9. وقول الإمام أحمد ليس صريحاً في ترجيح رواية أبي المغيرة، وإنما اقتصر على الإشارة إلى مخالفته لرواية ابن أبي العشرين فقط، ولا يقتضي ذلك ترجيحاً،
وإن كان يتضمن إعلال ما ظاهره الصحة. وأما الإمام الدراقطني فصرح بأن رواية أبي المغيرة أشبه الطرق عن الأوزاعي بالصواب1. وكذلك قال الخليلي: رواه أصحاب الأوزاعي: الوليد ابن مزيد وغيره مرسلاً، يقول: نبئت أن أبا هريرة، ولا يتابع ابن أبي العشرين، عن الأوزاعي بالاتصال إلى النبي صلى الله عليه وسلم 2. ومنه أيضاً: قال أبو داود: "سألت أحمد عن حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة"؟ فقال: هذا حدثنا به عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، ليس فيه عمر" 3. الحديث الذي ذكره أبو داود للإمام أحمد رواه يحيى بن موسى4، وعبد بن حميد5، والحسين بن مهدي6، ومحمد بن سهل بن عسكر7، وإسحاق ابن إبراهيم الحنظلي8 كلهم عن عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن
أبيه، عن عمر به مرفوعاً. ورواه أحمد بن منصور الرمادي1 فقال: أحسبه قال: عن عمر2. وذكر الإمام أحمد أن عبد الرزاق حدثهم به عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه مرسلاً، ليس فيه عمر، وهكذا هو في "مصنف عبد الرزاق" المطبوع3، وذكر الترمذي أن سليمان بن معبد رواه كذلك4. وهنا أيضاً لم يصرح الإمام أحمد بالترجيح، وإنما اكتفى بالإشارة إلى الاختلاف، وقد يقوى القول بالترجيح هنا لما عُلم من أن عبد الرزاق كان بآخرة يقبل التلقين، وذلك بعد ذهاب بصره، وسماع أحمد منه كان قبل ذلك وهو في الصحة، فروايته مرجحة على ما خالفها عند الاختلاف، كما هو الحال هنا. وقد صرح بترجيح الإرسال ابن معين5، والبخاري6. وذكر أبو حاتم ما يدل على أن الرواية الموصولة كان من عبد الرزاق بآخرة، مما يدل على ترجيحه للإرسال. قال: "روى عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كلوا الزيت وائتدموا به"، حدث به مرة عن زيد بن أسلم، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا رواه دهراً، ثم قال بعد: زيد بن أسلم، عن أبيه، أحسبه عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لم يمت حتى جعله عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك" 7.
المطلب الثاني: مخالفة الراوي لرواية الأكثر عددا
المطلب الثاني: مخالفة الراوي لرواية الأكثر عدداً. والمخالفة بين الرواة تأخذ عدة أشكال، ورواية الراوي لمن هم أولى منه كثرة تأتي في صور: منها: أن يكون الراوي ثقة حافظاً فيخالف رواية مثله في الحفظ والثقة، ويكون مع المخالف غيره من الرواة يوافقه، فحينئذ رواية الأكثر عدداً هي المرجحة وتكون رواية المنفرد خطأ، مثال ذلك: قال أبو داود: "سمعت أحمد ذكر له حديث جرير، عن منصور، عن ربعي، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العِدّة، ثم صوموا حتى تروا الهِلال أو تُكملوا العِدّة". قال: هذا سفيان وغيره عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني يرويه سفيان وغيره، عن منصور، عن ربعي، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ليس من ذا شيء، يعني: ليس قوله: "عن حذيفة"، يعني: يريد ليس حذيفة بمحفوظ بهذا الحديث" 1. هذا الحديث خالف فيه جريرُ بن عبد الحميد الضبي سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر، وكل من جرير الضبي والثوري ثقة2، فحكم الإمام أحمد بخطأ رواية جرير لمخالفته عدداً من الرواة، فقدم رواية الأكثر عدداً. ورواية جرير الضبي أخرجها أبو داود3، والنسائي4، وابن خزيمة5،
وابن حبان1، والدارقطني2، والبيهقي3. وأخرج رواية الثوري النسائي4، وعبد الرزاق5، وأحمد6، والدارقطني7. وتابع الثوري: زهير بن معاوية الجعفي8، وأبو الأحوص سلاّم ابن سُليم9، وعَبيدة بن حميد10. ففي ترجيح الإمام أحمد لرواية الثوري ترجيح بكثرة العدد بين الراويين المتساوييْن في الحفظ والإتقان. وقد لا يحكم على رواية المخالف بالخطأ، لكن يرد صلاحيتها للقدح في الرواية الأخرى، ومثال ذلك: قال أبو زرعة الدمشقي: "سألت يحيى بن معين عن حديث أبي سلمة، عن جابر في الشفعة، قلت له: ما تقول فيه؟ قال: منكر، ورأيته يُنكر رفعه عن جابر، ويعجبه وقوفه عن سعيد، وأبي سلمة. قال أبو زرعة: قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول فيه؟ قال: هو ثبت، ورفع منه، واعتد برواية معمر له، واحتج له برواية مالك وإن كانت موقوفة. قلت لأحمد: ومن أي شيء ثبت؟ قال: رواه صالح بن أبي الأخضر
ـ يعني مثل رواية معمر ـ قلت: وصالح يحتج به؟ قال: يُستدل به، يعتبر به. قلت لأحمد ويحيى فقالا لي: أُخِذ عن مالك أنه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ذكرا جميعاً رفعه عن مالك، قالا ذلك لي. وقال لي أحمد: سمعه يحيى بن سعيد من مالك موقوفاً" 1. هذا الحديث اختلف فيه مالك ومعمر على الزهري، وكلاهما ثقة حافظ، وهم من أهل الطبقة الأولى من أصحاب الزهري2، وإن كان الإمام أحمد في عدة روايات عنه يقدم مالك في الزهري على معمر، مع قلة رواية مالك عنه بالنسبة لمعمر3. فأما مالك فروى الحديث عن الزهري، عن ابن المسيب، وأبي سلمة مرسلاً4. وأما معمر، فرواه عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر مرفوعاً5.
فاختلف الحفاظ في الترجيح، فنقل أبو زرعة الدمشقي عن ابن معين كما في السؤال أنه يقول في حديث معمر: إنه منكر، وأن الصواب رواية مالك؛ وكذلك قال البخاري1. وأما الإمام أحمد فأثبت رواية معمر، ولم ير رواية مالك علة تعل بها روايته، واحتج في ذلك برواية صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري بمثل رواية معمر2. وصالح بن أبي الأخضر ممن لا يحتج به على الانفراد، لكن يعتبر به ويستدل به كما قال أحمد في هذا الموضع، فصنيع الإمام أحمد هذا يدل على أن رواية الحافظين المتقاربين في الحفظ إذا تعارضتا وجاءت رواية أخرى بموافقة إحدى الروايتين ـ وإن جاءت من جهة راوٍ متكلم فيه ما دام لم يبلغ حد الترك ـ حكم لها، تغليباً لجانب الكثرة، وهذا من أبرز الأمثلة على ذلك. ولم يحكم على الرواية المخالفة بأنها خطأ، إنما ردّ صلاحيتها للقدح في الرواية المحفوظة. ومن صور المخالفة لرواية الأكثرين، مخالفة الراوي الثقة الحافظ لجمع من الرواة، وإن كان أحفظ من كل واحد منهم على الانفرد، فهنا أيضاً يرجح الإمام أحمد رواية الجماعة على الواحد، أو رواية الأكثر على الأقل، ويحكم على رواية المنفرد أو الأقلين بالخطأ. ومن أمثلة ذلك: 1. قال عبد الله: "سألت أبي عن حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن زائدة،
عن موسى بن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله قال: دخلت على عائشة فقلت: أخبريني بمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصفت له حتى بلغت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خِفة، فخرج يُهادى بين رجليْن وأبو بكر يصلّي بالنَّاس، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر قاعداً، وأبو بكر يصلي بالنَّاس وهو قائم يصلِّي فقال أبي: أخطأ عبد الرحمن في هذا الموضع، أو يكون زائدة أخطأ لعبد الرحمن. حدثني أبي قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ومعاوية بن عمرو، وخالفا عبد الرحمن، وهو الصواب: ما قال عبد الصمد، ومعاوية" 1. وفي موضع آخر قال: "فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه ألا يتأخر وأمرهما فأجلساه إلى جنبه، فجعل أبو بكر يصلي قائماً والنبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلُّون بصلاة أبي بكر"2. وحديث عبد الرحمن بن مهدي أخرجه أحمد عنه3، وأخرجه النسائي4 عن العباس بن عبد العظيم عنه. ولفظ موضع الشاهد منه: "فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه أن لا تتأخر، وأمرهما فأجلساه إلى جنبه، فجعل أبو بكر يصلي قائماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعداً". ولفظ رواية النسائي: "فجعل أبو بكر يصلي قائماً والناس يصلون بصلاة أبي بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعداً". وأما رواية عبد الصمد بن عبد الوارث5، ومعاوية بن عمرو6
فأخرجها أيضاً الإمام أحمد1، ولفظ هذه الرواية في موضع الشاهد: "فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تأخر وقال لهما: "أجلساني إلى جنبه"، فأجلساه إلى جنبه، قالت: فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد] . فالاختلاف بين الروايتين كما وضّحه الإمام أحمد هو أن ابن مهدي جعل النبي صلى الله عليه وسلم مأموماً يصلي بصلاة أبي بكر وهو قاعد، والقوم قيام، بينما رواية عبد الصمد ومعاوية جعلت النبي صلى الله عليه وسلم إماماً وهو يصلي قاعداً وأبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وهكذا ذكر ابن رجب هذا الاختلاف عن الإمام أحمد قال: "ورواه زائدة، واختلف عنه، فقال الأكثرون عنه: إن أبا بكر كان يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد، والناس يأتمون بأبي بكر. ورواه عبد الرحمن بن مهدي عن زائدة، وقال في حديثه: فصلى النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر قاعداً، وأبو بكر يصلي بالناس وهو قائم يصلي. وقد رجح الإمام أحمد رواية الأكثرين عن زائدة على رواية ابن مهدي" 2. وهذا الذي ذكر عن رواية عبد الصمد ومعاوية وغيرهما3 هو واضح من
ألفاظ روايتهم، وأما رواية ابن مهدي فليس ذلك بواضح، لأنه ليس منصوصاً فيها على حسب ما جاء في رواية الإمام أحمد في مسنده والنسائي كلاهما لحديث ابن مهدي. ولا شك أن الخلاف واقع بين الروايتين، لكنّ غايته أن ابن مهدي لم يصرح بأن أبا بكر صلى بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما صرّح بذلك عبد الصمد ومعاوية ابن عمرو وغيرهما. وأما على ما ذكره الإمام أحمد في العلل وكذلك ابن رجب، من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بصلاة أبي بكر فلم أقف عليه في لفظ رواية ابن مهدي. وقد عدّ الإمام أحمد مخالفة ابن مهدي لرواية عبد الصمد ومعاوية خطأ إما من ابن مهدي نفسه، أو من زائدة حينما حدثه به، وصوّب رواية عبد الصمد ومعاوية، مع أنه ليس واحد منهما بمنزلة ابن مهدي في الحفظ، لكن قدّم روايتهما
على روايته لاجتماعهما، فقدم رواية الأكثر عدداً على رواية الأحفظ. ومن أمثلة مخالفة الراوي الحافظ لرواية الأكثرين، وتقديم الإمام أحمد لرواية الأكثرين: 2. قال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن حديث أبي سعيد في السهو، أتذهب إليه؟ قال: نعم، أذهب إليه. قلت: إنهم يختلفون في إسناده. قال: إنما قصر به مالك، وقد أسنده عدة، منهم ابن عجلان، وعبد العزيز بن أبي سلمة1. حديث أبي سعيد الخدري في السهو رواه الإمام مسلم2 من طريق سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فلْيطرحِ الشَّكَّ ولْيَبْنِ على ما استَيْقَن، ثم يسجد سجدتيْن قبلَ أن يُسلّم، فإن كان صلّى خمساً شفعْنَ له صلاتَه، وإن كان صلى إتماماً لأربعٍ كانتا ترغيماً للشيطان". فهنا أجاب الإمام أحمد على الاعتراض عليه من احتجاجه برواية قد دخلها الإعلال بالإرسال، بأن عدداً من الرواة قد رووا الحديث موصولاً، فلم تكن لعلة الإرسال أي أثر، ففيه تقديم الإمام أحمد لرواية العدد على رواية الأحفظ مع قصور آحادهم في الحفظ دونه. ولم يذكر جميع من روى الحديث موصولاً بل اقتصر على ذكر اثنين منهم. والذين رووا الحديث موصولاً: سليمان بن بلال كما تقدم في رواية مسلم، ومحمد ابن عجلان3، وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون4،
وفليح بن سليمان1، وأبو غسان محمد بن مطرف2، ويحيى بن محمد بن قيس3، وهشام بن سعد4. ورواه مرسلاً مالك5، ويعقوب بن عبد الرحمن القارئ6، وحفص ابن ميسرة7، وداود بن قيس على الصحيح8، والثوري9. ولا شك أن عدد الذين وصلوه أكثر من الذين أرسلوه. ومن صور مخالفة الراوي الأحفظ لرواية من هم أكثر منه عدداً ويكون الحكم لرواية الأكثر: 3. روى يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان، عن منصور، عن ربعي ابن خراش، عن طارق بن عبد الله المُحاربي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كنت في الصلاة، فلا تبزقْ عن يمنيك ولا من بين يديك، ولكن خلفَك أو تلقاءَ شمالك أو تحت قدمك اليُسرى". قال ابن رجب: وقد أنكر الإمام أحمد هذه اللفظة في هذا الحديث، وهي
قوله: "خلفك"، وقال: لم يقل ذلك وكيع، ولا عبد الرزاق1 حديث يحيى بن سعيد القطان أخرجه الترمذي2، والنسائي3، وأحمد4، وابن خزيمة5، والمقدسي6 من طرق عنه عن سفيان به بهذا اللفظ، وبعضهم قال: "تلقاء شمالك إن كان فارغاً"، وكلهم ذكروا لفظة: "خلفك". وأنكرها الإمام أحمد لأن وكيعاً وعبد الرزاق لم يذكراها؛ أما حديث وكيع فأخرجه ابن ماجه7، وابن أبي شيبة8 أما حديث عبد الرزاق فأخرجه في "مصنفه"9، ومن طريقه الضياء المقدسي10. وجعل الإمام أحمد اجتماعهما مرجحاً على رواية يحيى وإن كان أحفظ منهما. قال عبد الله عن أحمد: ليس من أصحاب سفيان أعلى من يحيى11، وكان يقدم يحيى وعبد الرحمن في سفيان12. فرجح بالكثرة على رواية الأحفظ. وممن رواه عن سفيان موافقاً لوكيع وعبد الرزاق، عبيد الله الأشجعي13،
والحسين بن حفص1. قال الدارقطني: هي وهم من يحيى بن سعيد، ولم يذكرها جماعة من الحفاظ من أصحاب سفيان، وكذلك رواه أصحاب منصور2 عنه، لم يقل أحد منهم: [ابزق خلفك] . ومنها أيضاً: 4. روى الخطيب من طريق محمد بن صالح البغدادي3 قال: "رأيت أبا زرعة الرازي دخل على أحمد بن حنبل وحدثه، ورأيته قد مجمج4 على حديث كان حدّثه عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى بين جنبيه. وقد مجمج عليه أحمد فقال له أبو زرعة: أي شيء خبر
هذا الحديث؟ فقال: أخاف أن يكون غلطاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن سفيان قد حدّث عن منصور، عن إبراهيم أنه كان إذا سجد جافى بين جنبيه. فقال له أبو زرعة: يا أبا عبد الله الحديث صحيح، فنظر إليه، فقال أبو زرعة: حدثنا أبو عبد الله البخاري محمد بن إسماعيل، حدثنا رضوان البخاري، قال: حدثنا فضيل بن عِياض، عن منصور، عن سالم، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى بين جنبيه. وحدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف الصنعاني، أخبرنا معمر، عن منصور، عن سالم، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى بين جنبيه. فقال أحمد: هات القلم إلي، فكتب: صح، صح، صح ثلاث مرات" 1. ففي هذه المذاكرة بين الإمام أحمد والإمام أبي زرعة الرازي كان الإمام أحمد ينكر حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى حتى يُرى بياضُ إبطيْه"2، لمخالفة الثوري له، حيث رواه عن منصور، عن إبراهيم فعله3. وذلك أن الثوري أحفظ من معمر في منصور، فقد قيل في معمر: كأنه ليس بالقوي في منصور4. ثم رجع الإمام أحمد عن إنكاره لهذا الحديث لما ذكر له متابعة فُضيل بن عياض له عن منصور، وصحح الحديث، وكلٌ من معمر، وفضيل بن عياض لا يقارن بسفيان الثوري في الحفظ، لكن لما اجتمعا قدم قولهما على قول الثوري. ففي هذا
تقديم لرواية الأكثر عدداً على الأحفظ. ومن الأمثلة على هذه الصورة أيضاً: 5. قال أبو زرعة الرازي: "سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: حديث أبي الأحوص، عن سِماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بردة خطأ الإسناد والكلام، فأما الإسناد فإن شريكاً، وأيوب، ومحمد ابني جابر رووه عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن بُريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الناس فانتبذوا في كل وِعاء، ولا تشربوا مسكراً. قال أبو زرعة: كذا أقول، هذا خطأ، أما الصحيح حديث ابن بريدة، عن أبيه" 1. وقال النسائي: قال أحمد بن حنبل: كان أبو الأحوص يخطئ في هذا الحديث، خالفه شريك في إسناده وفي لفظه2. حديث أبي الأحوص أخرجه النسائي3، عن هناد بن السري، عن أبي الأحوص، عن سماك بن حرب، عن القاسم بن عبد الرحمن المسعودي، عن أبيه، عن أبي بُردة بن نيار البلوي4 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشربوا في الظروف، ولا تَسكَروا". وأخرجه ابن أبي شيبة5، والطبراني6 بمثل هذا اللفظ. وأخرجه أبو داود الطيالسي7 بلفظ: "اشربوا، ولا تسكروا". وأخرجه الدارقطني8 بلفظ:
"اشربوا في المرفّت، ولا تسكروا" وأخرجه الطحاوي1 بلفظ: "إني كنت نهيتكم عن الشرب في الأوعية، فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا". ولم يختلفوا في الإسناد. وذكر الإمام أحمد أن أبا الأحوص سلاّم بن سُليم أخطأ في الإسناد والمتن في هذه الرواية، وخالف عدداً من الرواة عن سماك، وذكر منهم: شريك بن عبد الله القاضي، ومحمد وأيوب ابني جابر اليماميان. أما رواية شريك فأخرجها النسائي2 من طريق يزيد بن هارون، عن شريك، عن سماك بن حرب، عن ابن بريدة، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن الدُّبَّاء، والحَنتَم، والنَّقِير، والمُزَفَّت" ثم قال: "إني كنت نهيتكم عن الظروف فانتبذوا فيما بدا لكم، واجتنوا كل مسكر". وهكذا رواه ابن عبد البر من وجه آخر عن يزيد بن هارون3. فأسقط القاسم بن عبد الرحمن، وجعله من مسند بريدة بن الحُصيب. ورواه إسحاق الأزرق عن شريك، فقال: عن سماك، عن القاسم بن مخيمرة، عن ابن بريدة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نهيتكم عن الأوعية فانتبذوا فيه واجتنبوا كل مسكر"، أخرجه ابن ماجه4. وأما الرواية التي ذكرها الإمام أحمد عن شريك، عن سماك، عن القاسم ابن عبد الرحمن، عن ابن بُريدة، عن أبيه، فلم أقف عليها. والاختلاف في الروايتين السابقتين محمول على سوء حفظ شريك.
وحديث محمد بن جابر رواه الطبراني1، والدارقطني2 من طريقه عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن بريدة، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنا نهيناكم عن الشرب في الأوعية، فاشربوا في أي سِقاء شئتم ولا تشربوا مسكراً". هذه رواية أحمد بن إبراهيم القوهستاني عن يحيى بن يحيى النيسابوري، عن محمد بن جابر. وقال الدارقطني: هذا هو الصواب. وقال إسحاق السراج عن يحيى النيساري3، ولوين4، كلاهما عن ابن جابر: "ولا تسكروا". وأما حديث أيوب بن جابر، فرواه أحمد5، والعقيلي6 من طريقه، عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بوَدَّان قال: "مكانكم حتى آتيكم"، ثم جاءنا وهو ثقيل، فقال: "إني أتيتُ قبر أم محمد فسألت ربي الشفاعة فمنعنيها، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونيهيتكم عن لُحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام، فكلوا وأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن هذه الأشربة في هذه الأوعية فاشربوا فيما بدا لكم". ولفظ العقيلي: "اشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا". وكأن الإمام أحمد أسقط اللفظة الأخيرة من روايته لنكارتها، فإنها هي سبب إنكاره لمتن حديث أبي الأحوص. وهي تدل على أن الخطأ في المتن كان من سماك، وليس من أبي الأحوص7. ووجه المخالفة في الإسناد أن أبا الأحوص رواه عن سماك فجعله من حديث
أبي بردة بن نيار؛ ورواه من طريق القاسم بن عبد الرحمن المسعودي، عن أبيه عن أبي بردة. والباقون رووه عنه، عن القاسم، عن ابن بريدة، عن بريدة بن الحُصيب. وأما في المتن فقال أبو الأحوص: "ولا تسكروا"، وأما الباقون ـ على اختلاف بينهم ـ فقالوا: "ولا تشربوا مسكراً"، أو "واجتنبوا كل مسكر"، وهما بمعنى. فرواية أبي الأحوص لا تدل على النهي من شرب المسكر، إنما تدل على النهي عن الإسكار، بخلاف رواية الباقين. ولذلك جاء في رواية أبي داود عن أحمد: "ومرَّ فيه، فاحتج به أصحاب الأشربة، وإنما الحديث حديث ابن بريدة" 1. فقد اعتمد الإمام أحمد رواية هؤلاء لرد وتخطئة رواية أبي الأحوص، مع أن كل واحد منهم على الانفراد دونه في الحفظ. قال الإمام أحمد في أبي الأحوص: ليس به بأس2. وقال في موضع آخر: هو وجرير الضبي متقاربان في الحديث وهما ثقتان3. وقال عبد الله: كان أبي إذا رضي عن إنسان، وكان عنده ثقة حدث عنه وهو حي، فحدثنا عن ... وأبي الأحوص وهو حي4 وقال ابن مهدي: أبو الأحوص أثبت من شريك5. وقال في شريك القاضي: كان صدوقاً عاقلاً محدثاً عندي، فقيل له: يحتج به؟ قال: لا تسألني عن رأي في هذا6. وقال أيضاً: ليس على شريك قياس، كان يحدث الحديث بالتوهم 7.
وقد تقدم قوله في محمد بن جابر وأنه ليس بالقوي، وأنه ربما ألحق في كتابه1. وأما أخوه أيوب بن جابر، فقال فيه الإمام أحمد: ليس به بأس، وقال: ضعُف أمره في آخر أمره، كان ذهب بصرُه2. وقال أيضاً: حديثه يشبه حديث أهل الصدق3. وتابع الإمامَ أحمد على إنكار هذا الحديث الإمام أبو زرعة الرازي كما تقدم، وكذلك الإمام النسائي، قال: "هذا حديث منكر، غلط فيه أبو الأحوص سلام ابن سُليم، لا نعلم أحداً تابعه عليه من أصحاب سماك، وسماك ليس بالقوي وكان يقبل التلقين" 4. وأما أبو داود فجعل الخطأ في الإسناد من أبي الأحوص، وفي المتن من سماك5. وحديث بريدة مشهور من طرق صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً". أخرجه مسلم6 وغيره. وكذلك إذا كانت المخالفة من جماعة من الرواة لمن هم أكثر منهم عدداً، وكان كلا الجانبين موصوفاً بالحفظ، فالإمام أحمد أيضاً يقدم جانب الكثرة، ولا يعتبر مخالفة الأقلين علة في رواية الأكثرين، ومن أمثلة ذلك: قال أبو بكر الأثرم: "قلت لأبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل رحمه الله ـ الذي يصح في هذا الحديث، حديث كُريب، مرسل؟ أو عن ابن عباس؟ فقال: هو عن
ابن عباس صحيح. قيل لأبي عبد الله: إن الثوري ومالكاً يرسلانه، فقال: معمر، وابن عيينة، وغيرهما قد أسندوه" 1. والمقصود بحديث كُريب هو حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقِي ركْباً بالرَّوْحاء، فقال: "من القومُ"؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله، فرفعتْ إليه امرأةٌ صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أجر". والاختلاف في وصله وإرساله وقع على إبراهيم بن عقبة راويه عن كريب. فرواه مرسلاً: مالك2، والثوري3، وزهير ابن معاوية4، وموسى ابن عقبة5.
ورواه مسنداً: معمر1، وابن عيينة2، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون3، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة4، وعبد الله بن المبارك5. ورواه بعض الرواة عن مالك، والثوري، وموسى بن عقبة6. فرجح الإمام أحمد رواية الوصل لكثرة عدد رواتها حيث قال: معمر، وابن عيينة وغيرهما قد أسندوه. قال ابن عبد البر: والحديث صحيح مسند ثابت الاتصال، لا يضره تقصير من قصر به، لأن الذين أسندوه حفاظ ثقات7. وأما الإمام يحيى بن معين فرجح الرواية المرسلة؛ قال: إنما يرويه الناس مرسلاً عن كريب8. وقال الإمام البخاري: "أخشى أن يكون هذا الحديث مرسلاً في الأصل، قال أبو ظبيان، وأبو السفر عن ابن عباس: "أيما صبي حج ثم أدرك فعليه الحج"، وهذا المعروف عن ابن عباس" 9، فكأنه يرى أن قول ابن عباس هذا معارض
لحديثه الذي رواه، فلو أن الحديث عنده لما قال هذا القول، وهو قول ثابت عنه. والذي يؤيد ما ذهب إليه الإمام أحمد أن من روى الحديث مرسلاً، قد روي عنه مسنداً أيضاً1، مما يدل على أنهم لما أرسلوه قصّروا به وهو عندهم مسند ثابت الاتصال، والعلم عند الله. والشاهد أن الإمام أحمد رجح بالكثرة في مسألة كلا الجانبين فيها موصوف بالحفظ، ففي الجانب الأول: مالك، والثوري، وفي الجانب الثاني: معمر، وابن عيينة وغيرهما. ومن ترجيح الإمام أحمد لرواية الجماعة على الواحد بإطلاق: قال ابن هانئ: "وحديث سليمان بن بلال حديث أبي وجزة، عن رجل من بني مزينة، عن عمر بن أبي سلمة: دعاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كل مما يليك"، ليس هو عن رجل، إنما هو عن أبي وجزة، عن عمر، حدثني به ثلاثة لا يقولون فيه: عن رجل" 2. رد الإمام أحمد على رواية من قال: عن سليمان بن بلال، عن أبي وجزة، عن رجل من بني مزينة، عن عمر بن أبي سلمة، ردها بأن جماعة رووه عن سليمان بن بلال، عن أبي وجزة، عن عمر بن أبي سلمة، ليس فيه: عن رجل. وهؤلاء الثلاثة هم: أبو سعيد مولى بني هاشم3، وموسى بن داود4، ومنصور بن سلمة الخزاعي5.
ولم أقف على من رواه عن سليمان بن بلال بذكر رجل من مزينة. وإنما رواه من هذا الوجه هشام بن عروة، وإبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، روياه عن أبي وجزة يزيد بن عبيد1، عن رجل من مزينة، عن عمر بن أبي سلمة. أخرجه أحمد عن وكيع، عنهما به2. وأخرجه الطبراني من حديث كل واحد منها على حدة3. ورواه أبو معاوية عن هشام، فقال: عن أبي وجزة، عن رجل من بني سعد، عن رجل من مزينة، عن عمر بن أبي سلمة4. وأبو معاوية في أحاديثه عن هشام بن عروة اضطراب5. وفي هذا الإعلال تقديم رواية الجماعة على الواحد. فيكاد الأمر عند الإمام أحمد يطرد أنه لا يعتد برواية من خالف جمعاً من الرواة وإن كان حافظاً، مما يدل على أنه كان يعطي اعتباراً كبيراً لتعدد الرواة في الرواية، ووجه ذلك أن الجماعة أولى بالحفظ من واحد. وهذا أيضاً يعكس منهجه من رد أفراد الرواة حتى الثقات منهم إذا لم يكونوا من الحفاظ المتقنين، وحتى إنه في بعض الأحيان يتهيب من قبول أفراد الحفاظ المتقنين كما تقدم. وإذا وقعت المخالفة من الراوي لجماعة من الروة، وكانوا مع تعددهم أكثر حفظاً منه، فحديثه أولى بالإنكار من غيره، خاصة إذا كان سيء الحفظ، ومثال ذلك: قال المرُّوذي: "ونظر ـ أي الإمام أحمد ـ في حديث عِسل بن سفيان، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قال: النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن"، فقال:
ليس من هذا شيء، من قال: عن عائشة فقد أخطأ، وضعف عِسل بن سفيان. وسألته عن حديث إسماعيل بن رافع قال: حدثني ابن أبي مليكة، عن عبد الرحمن ابن السائب، فنفض يده، وقال: ليس من هذا شيء وضعفه" 1. حديث عائشة رواه أبو يعلى2، والحاكم3، من طريق الحارث بن مرّة4، والبخاري5، وابن عدي6 من طريق شعبة كلاهما عن عسل بن سفيان به. وأما رواية إسماعيل بن رافع، فرواه ابن ماجه7، وأبو يعلى8، والشاشي9، والبيهقي10 من طرق عنه، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الرحمن ابن السائب، عن سعد بن أبي وقاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا القرآن نزل بحُزن فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا وتغنوا به، فمن لم يتغن به فليس منا". وقد جزم الإمام أحمد بأن الرواية بذكر عائشة خطأ، وأن عسل بن سفيان الذي قال ذلك في روايته ضعيف، ويشير رحمه الله إلى أن غيره قد رواه ولم يذكر عائشة، وأن تلك الرواية هي المرجَّحة، وهو كذلك، فقد رواه ابن جريج، وعمرو ابن دنيار عن ابن أبي مليكة، عن عبيد الله بن أبي نهيك، عن سعد بن أبي وقاص.
أما رواية ابن جريج فأخرجها الحميدي1، والحاكم2؛ ورواية عمرو ابن دينار أخرجها أبو داود3، وعبد الرزاق4، والحميدي5، وأحمد6، وابن أبي شيبة7، والدارمي8، والبزار9، والحاكم10، والبيهقي11، وذكر البخاري الروايتين تعليقاً12. وتابعهما غير واحد منهم: سعيد بن حسان المخزومي المكي13، وحسام ابن مِصَكّ14، والليث بن سعد، لكن اختلف عليه فيه: هل هو عن عبيد الله ابن أبي نهيك، أو عن عبد الله بن أبي نهيك، وهل هو عن سعيد بن أبي سعيد،
أو عن سعد. أشار إلى هذا الاختلاف أبو داود1، والدراقطني2، والقضاعي3. وذكر الدارقطني أن رواية الغرباء عن الليث، جاءت على الصواب، أي بموافقة رواية ابن جريج، وعمرو. فاجتماع هؤلاء على رواية الحديث على هذا الوجه عن ابن أبي مليكة، عن ابن أبي نهيك، عن سعد، يقضي بخطأ رواية عِسل بن سفيان، لما لدى رواته من مزيد الضبط والكثرة. فعِسل بن سفيان قد ذكر الإمام أحمد ضعفه. وقال في رواية عبد الله: ليس هو عندي بقوي في الحديث4، وهو متفق على ضعفه عند بقية الأئمة5. فلا يقارن بواحد من الذين خالفوه لو انفرد، فكيف وقد اجتمعوا. ومثل هذا يقال في رواية إسماعيل بن رافع التي ضعفها الإمام أحمد أيضاً، فقد ضعفه إسماعيل بن رافع أيضاً، وقال في رواية حنبل: منكر الحديث6، وهو أيضاً متفق على ضعفه عند بقية الأئمة7. وقد وافق الإمامَ أحمدَ الإمامُ البخاري على تخطئة الرواية التي ذكرت عائشة8، وقال رواية عمرو وابن جريج هي الأصح.
ومثال آخر: قال أبو داود: "قلت لأحمد: عامر الأحول؟ قال: شيخ قد احتمله الناس، وليس حديثه بذاك، روى حديث عطاء، عن أبي هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأَ ثلاثاً ثلاثاً"، وإنما يرويه عطاء، عن عثمان" 1. حديث عامر الأحول أخرجه أحمد2، والطحاوي3، والطبراني4 كلهم من طريق همام، عن عامر الأحول، عن عطاء، عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه ثلاثاً، ومسح برأسه ووضّأ قدميه". فخالفه ابن جريج، وحجاج بن أرطأة، فروياه عن عطاء، عن عثمان. أخرجه أحمد5 من حديث ابن جُريج عقب حديث عامر الأحول إشارة إلى أنه معلول. وأخرجه ابن أبي شيبة6، والبخاري7، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائده على المسند8 من حديث حجاج بن أرطأة؛ وأخرجه ابن ماجه9 مقتصراً على ذكر مسح الرأس. ورواه عبد الرزاق10، عن ابن جريج: أخبرني عطاء أنه بلغه عن عثمان
ابن عفان. قال أبو زرعة عن هذه الرواية، وهو الصحيح عندنا1 وهو كذلك لأن عطاء عن عثمان مرسل، قاله أبو زرعة وأبو حاتم2. فقد خالف عامر الأحول اثنين من أصحاب عطاء، فأشار الإمام أحمد إلى أنه أخطأ لمخالفة المعروف عن عطاء، وهو متكلم فيه وخالف من هم أحفظ منه وأكثر عدداً. قال الإمام أحمد عنه: ليس بالقوي، ضعيف الحديث3. متى يحكم بصحة الوجهين المختلفين؟ وقد تأتي روايتان على وجهين مختلفين ثم يحكم الإمام أحمد بصحة الوجهين لقرينة مرجحة لذلك، كأن تأتي رواية أخرى بذكر الوجهين معاً. ومثال ذلك: قال أبو داود: "قلت لأحمد: حديث أبي السائب مولى هشام بن زُهرة؟ قال: قد جمعهما بعضُهم، فأرجو أن يكون كلا الحديثين صحيحاً ـ يعني حديث مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي السائب مولى هشام بن زُهرة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما صلاة لم يُقرأْ فيها بفاتحة الكتاب فهي خِداج"، ومن قال: عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة. قال أبو داود: رواه أبو أُويس، وسليمان بن بلال من رواية شيخ من أهل البصرة عنه، وابن ثوبان، عن ابن عجلان كلهم قالوا: عن العلاء، عن أبيه، وأبي السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة" 4. حديث أبي هريرة المذكور في هذا السؤال اختلف فيه على العلاء بن عبد الرحمن ابن يعقوب مولى الحرقة:
فقال مالك1، ومحمد بن عجلان2، ومحمد بن إسحاق3، وورقاء ابن عمر4، والوليد بن كثير5، وكذلك يحيى بن سعيد الأنصاري، وعُمارة ابن غَزيّة6: كلهم قالوا: عن العلاء، عن أبي السائب مولى هشام بن زُهرة7، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآن فهي خِدَاجٌ، هي خِدَاجٌ غيرُ تمام". قال: فقلت: يا أبا هريرة إني أحياناً أكون وراءَ الإِمامِ. قال: فغَمَزَ ذِراعي ثم قال: اقرأْ بها في نفسك يا فارسيّ، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تبارك وتعالى: قَسَمتُ الصَّلاةَ بيني وبين عبدي نصفيْن فنصفُها لي ونصفُها لعبدي، ولعبدي ما سأل". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤا، يقول العبد: الحمدُ لله ربِّ العالمين، يقول الله تبارك وتعالى: حَمَدني عبدي، ويقول العبد: الرَّحمنِ الرَّحيم، يقول الله: أثني عليّ عبدي. ويقول العبد: مالكِ يومِ الدِّين، يقول الله: مَجَّدني عبدي، يقول العبد: إيّاك نعبدُ وإيّاك نستعين، فهذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، يقول العبد: اهدنا الصِّراطَ المستقيمَ صراطَ الَّذين أنعمتَ
عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالّين، فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل". وقال سفيان بن عيينة1، وسعد بن سعيد الأنصاري2، وشعبة3، وإسماعيل بن جعفر4، وروح بن القاسم5، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي6، وعبد العزيز بن أبي حازم7، وأبو غسان محمد بن مطرف8، وإبراهيم بن طهمان9، وزهير بن محمد العنبري10، وعبد الله بن جعفر بن نجيح11، وعبد الحميد
ابن جعفر1، وجهضم بن عبد الله2، ومحمد بن يزيد البصري3، وآخرون سواهم4، كلهم قالوا: عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة به، وبعضهم ذكره مختصراً، وبعضهم مطولاً. واختلف عن ابن جريج؛ فروي عنه بمثل رواية مالك، قال ذلك: عبد الرزاق5، ومحمد بن بكر البرساني، ومحمد بن عبد الله الأنصاري6، وهي رواية الإمام أحمد7، وأبي بكر بن أبي شيبة8، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي9، والترجماني10 كلهم عن ابن علية، عنه. وقال سريج بن يونس، عن ابن علية، عن ابن جريج بمثل رواية سفيان ابن عيننة11. وموقف الإمام أحمد من الروايتين المختلفين في الإسناد هو تصحيح كلا الوجهين، وحجته في ذلك أن بعض الرواة قد جمع كلا الوجهين معاً في روايته، وذكر أبو داود ثلاثة رواة جمعوا بينهما في روايتهم، وهم: أبو أُويس عبد الله
ابن عبد الله بن أويس1، وسليمان بن بلال من رواية شيخ من أهل البصرة عنه2، وابن ثوبان3. وممن روى الوجهين غير من ذكرهم الإمام أبو داود محمد بن عجلان برواية حاتم بن إسماعيل عنه4. وهذا مسلك الإمام أبي زرعة أيضاً في الترجيح بين الروايتين. قال الترمذي: "سمعت أبا زرعة يقول: كلاهما صحيح، واحتج برواية إسماعيل بن أبي أُويس" 5. وأما الدارقطني فقال بعد ذكر رواية ابن عيننة ومن تابعه: وهو الصواب، وهو مشعر بترجيحه لروايتهم لأن عددهم أكثر. والترجيح بالكثرة في مثل هذه الصورة ضعيف، لأن الرواية المرجَّحَة جاءت عن جماعة أيضاً، وفيهم أئمة كبار مثل مالك، وابن جريج، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وإن كان مجموع عددهم أقل من رواة الوجه الآخر، ويبعد جداً أن يجتموا كلهم على الخطأ. وغاية ما يقال في مثل هذه الصورة هو التوقف أو نسبة شيخهم الذي اختلفوا عليه إلى الاضطراب، فالترجيح بمطلق الكثرة يكون ترجيحاً بلا مرجح. ثم وجود قرينة خارجة عن رواية كلا الطرفين أقوى من حيث الاعتماد عليها للحكم في مثل هذه الصورة، وهذه القرينة موجودة، وهي رواية من روى
الحديث على الوجهين. وهناك قرينة أخرى، وهي وجود أصل لرواية أبي السائب، عن أبي هريرة من غير طريق العلاء، فيتقوى وجه رواية الأقلين؛ فقد رواه الزهري، وصفوان ابن سليم، عنه، عن أبي هريرة. أخرج روايتهما البيهقي1. وكذلك إذا روى الراوي الحديث الذي خالف به غيره على الوجهين: مرة بموافقة من خالفه ومرة أخرى بالوجه آخر الذي تفرد به. ومثال ذلك ما ذكره ابن رجب أن الإمام أحمد وغيره من الأئمة صحح الوجهين الواردين في رواية حديث ميمونة في الفأرة إذا وقعت في السمن2. فرواه سفيان بن عيننة3، ومالك4 كلاهما عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فماتت فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: "ألقوها وما حولها وكُلوه"، وتابعهما الأوزاعي5، وعبد الرحمن بن إسحاق المدني6. ورواه معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: سئل
النبي صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن قال: "إذا كان جامداً فألقوه وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه" 1. فاختلف النقاد في هذا الموضع، فمنهم من حكم بغلط معمر لانفراده بهذا الحديث، ومخالفته من هم أكثر منه عدداً. قال البخاري: هذا خطأ، أخطأ فيه معمر، والصحيح حديث الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة2. وقال الترمذي عن رواية معمر: غير محفوظ3. وقال أبو حاتم: الصحيح حديث الزهري عن عبيد الله4. وأما الإمام أحمد فذكر الحافظ ابن رجب أنه صحح الوجهين5، وكذلك قال محمد بن يحيى الذهلي: الطريقان عندنا محفوظان6. وإليه يميل موقف الدارقطني7. والذي يدل على ذلك أن معمراً روى الحديث بالإسنادين كليهما، فقال عبد الرزاق بعد أن أورد حديث معمر من طريق الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة: وقد كان معمر أيضاً يذكره عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، عن ابن عباس، عن ميمونة8. وأخرجه أبو داود9، والنسائي10 عن عبد الرزاق، عن
عبد الرحمن بن بوذويه1، أن معمراً ذكره عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة بمثل حديث ابن المسيب، عن الزهري. ويدل على ذلك أيضاً أن الحديث وجد له أصل عن سعيد بن المسيب، فقد رواه سعيد بن أبي هلال عن الزهري، عن ابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً2. قال محمد بن يحيى الذهلي: فقد وجدنا ذكر سعيد بن المسيب في هذا الحديث من غير رواية معمر، فالحديثان محفوظان3 وأما حيث لم تأت رواية تجمع الوجهين فالقول باحتمال أن يكون الحديث عند الراوي المختلف عليه على الوجهين، فحدث به كل مرة على أحدهما احتمال بعيد عن التحقيق، ومدار الأمر عند أئمة هذا الفن كما قال السخاوي على ما يقوى في الظن4.
المطلب الثالث: إعلال حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه
المطلب الثالث: إعلال حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه. إذا روى الراوي حديثاً يخالف رأيه فقد جاء عن الإمام أحمد أنه يضعف ذلك الحديث الذي روى، ويرى أن مخالفة رأيه لروايته دليل على عدم صحتها، ووجه ذلك أن المفترض وكذلك المعهود في الراوي أن يعمل بموجب ما بلغه من العلم الذي يرويه، فإذا خالفه صح الاستدلال بتلك المخالفة على عدم صحة نسبة تلك الرواية إليه. وقد ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله قواعد كلية في باب العلل، ومنها: تضعيف حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه، وذكر أن الإمام أحمد وأكثر الحفاظ ضعفوا أحاديث كثيرة بمثل هذا الاعتبار1، وذكر عدة أمثلة على ذلك عن الإمام أحمد وغيره من الحفاظ2. ومن الأمثلة على ذلك عن الإمام أحمد عدا التي ذكرها ابن رجب: قال أبو داود: سمعت أحمد قال: كان شعبة يتهيّب حديث ابن عمر: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، يعني: يتهيبه للزيادة التي فيها: [والنهار] ، لأنه مشهور عن ابن عمر من وجوه: [صلاة الليل] ، ليس فيه: [والنهار] ، وروى نافع: أن ابن عمر كان لا يرى بأساً أن يصلّي بالنهار أربعاً، وبعضهم قال: عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يصلّي بالنهار أربعاً، فنخاف فلو كان حفظ ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة النهار مثنى مثنى" لم يكن يرى أن يصلي بالنهار أربعاً، وقد رُوي عن عبد الله بن عمر قوله: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، والله أعلم" 3.
الشاهد في رواية أبي داود هذه أن الإمام أحمد أبدى وجهاً لكون زيادة ذكر النهار في حديث: "صلاة الليل مثنى مثنى" غير محفوظة، وهذا الوجه هو مخالفة هذه الرواية لرأي ابن عمر، فقد جاء عنه أنه كان يصلي بالنهار أربعاً. رواه عبيد الله العمري، عن نافع عنه "أنه كان يصلي بالنهار أربعاً أربعاً"1، ورواه عبد الله العمري، عن نافع، عنه "أنه كان يصلي بالليل مثنى مثنى، وبالنهار أربعاً، ثم يسلم"2، ورواه معمر، عن أيوب؛ والثوري، عن عبيد الله، كلاهما عن نافع عن ابن عمر بمثله3. فلو كان حفظ ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، لم يكن ليصلي أربعاً بالنهار4.
...................................................................
ومنها: قال أبو داود: "سمعت أحمد سئل عن حديث سمُرة: "من قتل عبده قتلناه"، قال: فُتيا الحسن على غيره. قال أحمد: ولكن يضرب" 1. وقال عبد الله: "سألت أبي عن الرجل يقتل عبده، يقتله الإمام أم لا؟ فقال: يروى عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل عبده قتلناه". وأخشى أن يكون هذا الحديث لا يثبت. قلت لأبي: فإيش تقول أنت؟ قال: إذا كنت أخشى أن لا يكون يثبت، لا أُثبته، ولا يُقتل حرٌّ بعبد، ولا بذمِّيّ، ويقتل بالمرأة ... قال أبي: فكان الحسن يقول في حديث سمرة: "من قتل عبده قتلناه" يحدث به عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحدّث به قتادة عنه، ورواه خالد، عن الحسن موقوفاً. وقال قتادة: نسي الحسن هذا الحديث بعد، وكان الحسن لا يفتي به بعدُ" 2.
حديث الحسن عن سمرة أخرجه أصحاب السنن1 من طرق عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قتل عبده قتلناه ومن جَدَعَ عبدَه جدعناه". ورواه الإمام أحمد، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: ولم يسمعه منه2. ولم يُثبت الإمام أحمد هذا الحديث لأن فُتيا الحسن على خلافه. روى أبو داود3 عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام، عن قتادة، عن الحسن قال: "لا يقاد الحر بالعبد". ولم يعلّ الإمام أحمد الحديث بعدم سماع الحسن له من سمرة كما رواه في مسنده. ويعكر على هذا الاستدلال من الإمام أحمد ما ذكره قتادة أن الحسن نسي هذا الحديث فكان يفتي بخلافه، لكن رد البيهقي كلام قتادة هذا فقال: "يشبه أن يكون الحسن لم ينس الحديث، لكن رغب عنه لضعفه، وأكثر أهل العلم رغبوا عن رواية الحسن عن سمرة"4. وقد قال أحمد أيضاً ـ كما في رواية ابن هانئ: "لا يُقتل الحر بالعبد، وقال: حديث سمرة تركه الحسن"5. فتبين أن فتيا الحسن بخلاف ما رواه لم يكن صدور ذلك عنه عن نسيان،
بل من أجل ضعف الحديث، وخاصة وقد ظهر أنه لم يسمعه من سمرة. ومنها: قال أبو زرعة الدمشقي: "حدثنا عبيد الله بن عمر، قال: حدثنا يزيد بن زُريع قال: حدثنا خالد الحذاء، عن أنس بن سيرين قال: كانت أم ولد لآل أنس بن مالك قد استُحيضت، فأمروني أن أسأل ابن عباس فسألته، فقال: "إذا رأت الدّم البحراني أمسكت عن الصلاة". قال أبو زرعة: فسمعت أحمد بن حنبل يحتج بهذه القصة ويرد بها ما رُوي عن أنس بن مالك أن الحيض عشر، كما رواه الجلد بن أيوب، وقال: لو كان هذا عن أنس بن مالك لم يؤمر أنس بن سيرين أن يسأل ابن عباس. قال أبو زرعة: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: فحديث معاوية بن قرّة، عن أنس في الحيض صحيح؟ فلم يره صحيحاً، إذ ردّوا المسألة إلى ابن سيرين يسألهم ابن عباس، كذلك قال لي، ولم يدفع لقاء ابن سيرين ابن عباس ومسألته" 1. ما رُوي عن أنس أن الحيض عشر، رواه جَلد بن أيوب2، عن معاوية ابن قرّة عن أنس، ورواه الأكابر عن جلد كما قال ابن دقيق العيد3، منهم
الثوري بلفظ: "أجَل الحيض عشر ثم هي مستحاضة"1، وكذلك أجلة أهل البصرة: حماد بن زيد2، ويزيد بن زريع3، وإسماعيل بن إبراهيم بن علية4، وعبد السلام ابن حرب5، وهشام بن حسان، وسعيد6 كلهم عن جلد، عن معاوية بن قرة، عن أنس: "الحائض تنتظر ثلاثة أيام، أو أربعة أيام، أو خمسة إلى عشرة أيام، فإذا جاوزت عشرة أيام فهي مستحاضة، تغتسل وتصلي". واحتج الإمام أحمد لرد هذا الحديث بأنه لو كان هذا صحيحاً عن أنس لم يأمر أهلُه أنسَ بنَ سيرين أن يسأل ابن عباس عن الاستحاضة. ومثل هذا الاستدلال سُبق إليه الإمام أحمد، فقد ذكره الشافعي عن ابن علية، قال:"أخبرني ابن علية عن الجلد بن أيوب، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك أنه قال: قرء المرأة أو قرء حيض المرأة ثلاث، أو أربع، حتى انتهى إلى عشر، فقال لي ابن علية: الجلد بن أيوب أعرابي لا يعرف الحديث، وقال لي: قد استحيضت امرأة من آل أنس فسُئِل ابن عباس عنها، فأفتى فيها وأنس حي، فكيف يكون عند أنس ما قلت من علم الحيض ويحتاجون إلى مسألة غيره فيما عنده فيه علم؟ ونحن وأنت لا نثبت حديثاً عن الجلد، ويستدل على غلط من هو أحفظ منه بأقل من هذا" 7.
لكن تعقب ابن دقيق العيد هذا الاستدلال بما حاصله أنه لو كان ما رواه الجلد من حديث أنس بن مالك مرفوعاً لقوي هذا الاستدلال بعض القوة، بأنه كيف يسأل غيره وقد سبق علمه بالحكم عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولما كان ما رواه موقوفاً على أنس لا يستقيم هذا الاستدلال حتى يثبت أن أنساً قال ذلك وأفتى به قبل سؤالهم لابن عباس، فيمكن أن يقال حينئذ: كيف سأل وعنده علم؟ وأيضاً ليس هناك ما يدل على أن الذي أرسل يسأل ابن عباس هو أنس1. وما ذكره ابن دقيق العيد وارد جداً، لكن قد تقدم من منهج الإمام أحمد وغيره من الأئمة وذكره المعلمي عنهم، حيث قال: "إذا استنكر الأئمة المحققون المتن وكان ظاهر السند الصحة فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقاً حيث وقعت أعلّوه بعلة ليست بقادحة مطلقاً، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر" 2، فكيف والإسناد هنا ليس بظاهر الصحة! ومنها: "ما ذكره الميموني أن أحمد ذُكر له أن الحوضي روى من طريق الأسود، عن عائشة مرفوعاً: "يقطع الصلاةَ المرأةُ، والحِمارُ، والكلب الأسودُ"، فقال أحمد: غلط الشيخ عندنا، هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: عدلتمونا بالكلب والحِمار؟ " 3. ولم أقف على رواية الحوضي هذه، وأوضح الحافظ ابن رجب وجه إنكار الإمام أحمد للحديث فقال: يعني: "لو كان هذا عندها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالت ما قالت" 4.
ومنها: قال الأثرم: "قلت لأحمد بن حنبل: حديث حسين المعلّم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد قال: [سألت خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وأُبي بن كعب ـ فقالوا: "الماء من الماء"، فيه علة تدفعه بها؟ قال: نعم، بما يروى عنهم خلافه. قلت: عن عثمان، وعلي، وأبي بن كعب؟ قال: نعم. وقال أحمد بن حنبل: الذي أرى إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل، قيل له: قد كنت تقول غير هذا. فقال: ما أعلمني قلت غير هذا قط. قيل له: قد بلغنا ذلك عنك، قال: الله المُستعان" 1. حديث زيد بن خالد الجهني أخرجه البخاري2. وقد ذكر الحافظ ابن حجر عن يعقوب بن شيبة عن علي بن المديني أنه شاذ3. والظاهر أنه يعله بمثل العلة التي أعله بها الإمام أحمد. فقد ذكر ابن رجب عنه أنه قال: قد روي عن علي، وعثمان، وأبي بن كعب بأسانيد جياد أنهم أفتوا بخلاف ما في هذا الحديث4. وأجاب الحافظ عن هذا الإعلال بأن الحديث ثابت من جهة اتصال إسناده وحفظ رواته، وأنه ليس بفرد، فقد رواه ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار نحو رواية أبي سلمة، وكونهم أفتوا بخلافه لا يقدح في صحته لاحتمال أنه ثبت عنده ناسخه فذهبوا إليه. وإعلال الإمام أحمد يحمل على إطلاق العلة على النسخ، والله أعلم. ومن الأحاديث التي أعلها الإمام أحمد بمثل هذا الاستدلال، وهو مما ذكره
ابن رجب: أن أحاديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين، أنكرها أحمد وقال: ابن عمر أنكر على سعد المسح على الخفين، فكيف يكون عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه رواية؟ 1 وهذه الرواية لم أقف عليها عن أحمد، لكن تقدم في مطلب الاختلاط2 أن الإمام أحمد أنكر الحديث الذي رواه سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: "كنّا نمسح ونحن مع نبينا"، أنكره هناك لأنه من رواية شعيب بن إسحاق، عن ابن أبي عروبة، وكان سماعه منه بآخرة. وفي هذه الرواية ذكر وجهاً آخر لإنكاره للرواية، وهو كونها مخالفة للمعروف عن ابن عمر أنه كان ينكر المسح على الخفين، فدل على أنه لم يكن له فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءت رواية عنه بذلك استدل بهذا على خطئها. وقد رُوي عن ابن عمر أنه كان يمسح على الخفين، ويأمر بالمسح على الخفين، ويقول: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك"3 وهذا محمول على ما رواه ابن عمر عن عمر قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين"4، أي فهو من رواية الصحابي عن الصحابي، وذلك أن سعداً احتكم إلى عمر لما أنكر عليه ابن عمر المسح على الخفين، فأخبر عمر بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذلك كله. ومنها ـ وهو مما ذكره الحافظ ابن رجب ـ أن الإمام أحمد ضعف أحاديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين، لأن أبا هريرة كان ينكر المسح على الخفين، فلا تصح له فيه رواية5.
ولم أقف على إنكار الإمام أحمد لهذه الأحاديث. وقد جاء عن أبي هريرة عدة أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين1: منها: حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: قالوا يا رسول الله، ما الطهور على الخفين؟ قال: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة" 2. وفي سنده عمر بن عبد الله بن أبي خُثعم. قال عنه البخاري: منكر الحديث ذاهب الحديث3. وتابعه معلى بن عبد الرحمن، عن عبد الحميد بن جعفر الواسطي، وزاد المسح على الخمار، ولم يذكر التوقيت. أخرجه الطبراني4. قال الدارقطني: معلى بن عبد الرحمن الواسطي كذاب5. وضعف البخاري هذا الحديث عن أبي هريرة6. ومن حديث أبي هريرة في المسح على الخفين ما رواه ابن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع قال نا جرير عن أيوب عن أبي زرعة بن عمرو قال رأيت جريرا مسح على خفيه، قال: وقال أبو زرعة: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أدخل أحدكم رجله في خفيه وهما طاهرتان فليمسح عليهما ثلاثاً للمسافر ويوماً للمقيم" 7. وجرير في هذا الإسناد هو ابن أيوب البجلي. قال الدارقطني عن أبي نعيم: كان
يضع الحديث. وقال الدارقطني عن هذا الحديث: باطل عن أبي هريرة. ومن حديثه في ذلك أيضاً: ما رواه أبان بن عبد الله عن مولى لأبي هريرة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: "توضأ ومسح على خفيه"، فقلت: يا رسول الله: رجلاك، لم تغسلهما! قال: "إني أدخلتهما وهما طاهرتان" أخرجه أحمد1، وابن أبي شيبة2، والدارمي3، وأبو يعلى4. وأبان بن عبد الله البجلي ضعفه الدارقطني5، ووثقه ابن معين، وقال أحمد: صدوق صالح الحديث6. لكن اختلف عليه في الحديث، في ذكر المسح على الخفين، وفي الإسناد؛ فرواه النسائي7 من طريقه، عن إبراهيم بن جرير، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة؛ وراه عنه أيضاً8 هو وابن ماجه9 من طريقه، عن إبراهيم بن جرير، عن جرير بن عبد الله البجلي به، وليس في رواياتهم ذكر المسح على الخفين. ومنه أيضاً: ما رواه عبد الحكم بن ميسرة عن قيس بن الربيع عن هشام ابن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على عمامته ومسح على خفيه"10. وقيس بن الربيع صدوق تغير لما كبر وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به11، والراوي عنه عبد الحكم
ابن ميسرة لا يعرف بجرح ولا تعديل كما قال أبو موسى المديني1. ومنه ما رواه إسحاق قال: قلت لأبي أسامة أحدثكم عبد الرحمن بن يزيد ابن جابر عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "امسحوا على الخفين والخمار فإنه حق"، فأقر به أبو أسامة وقال نعم2. ومكحول لم يلق أبا هريرة، قاله أبو زرعة والدارقطني3. وقد ذكر الدارقطني عن الإمام أحمد قال: وكلها باطلة، ولا يصح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح4. وأما ما جاء من إنكار أبي هريرة للمسح على الخفين، فمنه ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق عبد الواحد بن زياد قال حدثنا إسماعيل بن سميع5، قال: حدثني أبو رُزين قال: قال أبو هريرة: "ما أُبالي على ظهر خفي مسحت أو على ظهر خمار"6. ومنه ما رواه مسلم7 من طريق شعبة، عن يزيد بن زاذان قال: سمعت أبا زرعة قال: سألت أبا هريرة عن المسح على الخفين قال: فدخل أبو هريرة دار مروان بن الحكم، فبال ثم دعا بماء فتوضأ وخلع خفيه وقال: "ما أَمرنا اللهُ أن نمسح على جلود البقر والغنم".
وقد صحح الإمام مسلم هذين الإسنادين1. وأنكر الإمام أحمد الروايات عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين، واستدل لذلك بإنكار أبي هريرة المسح على الخفين، وقد أوضح هذا الاستدلال الإمام مسلم، قال: "الرواية في المسح عن أبي هريرة ليست بمحفوظة، وذلك أن أبا هريرة لم يحفظ المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم لثبوت الرواية عنه بإنكاره المسح على الخفين ... ولو كان قد حفظ المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجدر الناس وأولاهم للزومه والتديّن به، فلما أنكره ... بان ذلك أنه غير حافظ المسح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّ مَن أسند ذلك عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم واهي الرواية، أخطأ فيه إما سهواً أو تعمداً". فقد اتفق الإمامان أحمد وتلميذه مسلم على الأخذ بهذا المسلك في إعلال الحديث. وفي هذه الأمثلة ما يكفي لإبراز منهج الإمام أحمد في هذا الموضوع2. وسلوك هذا المسلك في إنكار الأحاديث قد لا يخلو من نظر في بعض الأحيان كما سبق وأن رأينا في تعقب ابن دقيق العيد على بعض صوره، وأيضاً قد يكون الراوي حين جاء عنه ما يخالف روايته فعَل ذلك لمعارض راجح بلغه، فترك موجِبَ روايته وعمل أو أفتى بالراجح، أو يكون لناسخٍ بلغه؛ وقد يكون نسي ما روى كما قال قتادة في فُتيا الحسن بخلاف روايته في قتل الحر بالعبد3.
لكن الصحيح أن هذه الاعتبارات لا تُضعّف اعتماد هذا المسلك، لأن النقاد لما اعتمدوه في نقد المتون لم يكن اعتمادهم عليه اعتماداً كلياً، بل نقدهم عندما يحتجون به لا يخلو مع ذلك من النظر في الأسانيد، بل من ذلك ينطلقون في الغالب لنقد المتون. ففي الأمثلة التي مضت في هذا المطلب، لم يخل إسناد لمتن منتقد بهذه العلة من وجود علة توجب ضعفه، من إرسال، أو سماع من مختلط بعد الاختلاط، أو تفرد ممن لا يحتمل تفرده، وهذا هو الصحيح في منهج أئمة هذا الفن: إن نقدهم للمتون في أغلب الأحيان ينطلق من نقدهم للأسانيد، وقد تقدم قول الشافعي في ذلك حيث قال: "ولا يُستدلّ على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المُخبِر وكذبِه1، إلا في الخاص القليل من الحديث، وذلك أن يُستدلَّ على الصدق والكذب فيه بأن يُحدِّثَ ما لا يجوز أن يكون مثلُه2، أو ما يُخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالاتٍ بالصدق منه" 3. والعلم عند الله.
المطلب الرابع: نماذج من نقد الإمام أحمد للمتون لمخالفتها للثابت المعروف
المطلب الرابع: نماذج من نقد الإمام أحمد للمتون لمخالفتها للثابت المعروف. ومما يرده الإمام أحمد من الأحاديث ما كان مخالفاً للأحاديث الصحيحة الثابتة، أو أجمعت أئمة العلماء على القول بخلافها، وهي من جملة الأحاديث المنكرة التي يعتبرها الإمام أحمد من الشاذ المطرح1، وفيما يلي نماذج من تلك الأحاديث ووجه ردها عند الإمام أحمد. فمنها: ما كان ردّه له بمعنى نفي الثبوت والصحة عنه بسبب مخالفته لحديثٍ أو أكثرَ أصحّ منه، ومن أمثلته: قول الإمام أحمد في حديث أسماء بنت عُميس: "تسلَّبِي ثلاثاً، ثم اصنعي ما بدا لك"، إنه من الشاذ المطرح2. وحديث أسماء بنت عُميس أخرجه أحمد3، وابن سعد4، وابن الجعد5، وابن حبان6، والطحاوي7، والطبراني8، والبيهقي9 من طرق عن محمد ابن طلحة بن مصرِّف، عن الحكم بن عُتيبة، عن عبد الله بن شدّاد، عن أسماء بنت عُميس قالت: لما أُصيب جعفر أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "تسلَّبي 10 ثلاثاً ثم
اصنعي ما شِئتِ". وفي رواية لأحمد1: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر، فقال: "لا تُحدِّي بعد يومك هذا". ورواه شعبة عن الحكم بن عُتبية، عن عبد الله بن شداد مرسلاً ليس فيه أسماء بنت عميس. أخرجه ابن حزم2، وذكره الدراقطني3. فهذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في الإحداد، منها: حديث أم حبيبة وزينب بنت جحش، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تُؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدّ على ميّت فوق ثلاث ليالٍ، إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشراً" أخرجاه4. وفي حديث زينب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر. ومنها: حديث أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُحدّ امرأةٌ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر عشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوبَ عصْبٍ، ولا تكتحل، ولا تمسّ طيباً إلا إذا طهرت، نُبذةً من قُسْطٍ أو أظفارٍ 5". أخرجاه أيضاً6. وفي لفظ: "كنا ننهى أن نُحِدّ على ميت فوق ثلاث إلا على
زوج، أربعةَ أشهُرٍ وعشراً ... ". ومنها: حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "لا تحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدّ على ميّت فوق ثلاث إلا على زوجها" أخرجه مسلم1. ومثله عن حفصة أم المؤمنين2. فردّ الإمام أحمد هذا الحديث بالشذوذ، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه صحح إسناد الحديث3، ولم أره في شيء من الروايات التي وقفت عليها. وهذا يدل على أن العلة الإسنادية، وهي رواية شعبة للحديث مرسلاً، لم تقدح عنده في صحة الحديث. أما الدارقطني فقال: المرسل أصح. وقول الدارقطني وجيه، فإن محمد بن طلحة بن مصرف، وإن روى الحديث عنه الأكابر، فقد قال فيه النسائي: ليس بالقوي4. وكذلك قال البيهقي5. وقال أبو داود6، وابن حبان7: يخطئ. واختلف قول ابن معين فيه: فعنه قال: صالح، وعنه: ضعيف8. فمثل هذا إذا خالفه شعبة فالمحفوظ ما قاله شعبة. وممن ردّ هذا الحديث من أجل المخالفة المذكورة الإمام أبو حاتم الرازي، قال لما سئل عنه: "فسّروه على معنييْن: أحدُهما أن الحديث ليس هو عن أسماء،
وغلِط محمد بن طلحة، وانما كانت امرأة سواها، وقال آخرون: هذا قبل أن يَنْزِل العِدَد. قال ابن أبي حاتم: قال أبي: أشبه عندى ـ والله أعلم ـ أن هذه كانت امرأة سِوى أسماءَ، وكانت من جعفر بسبيل قرابة، ولم تكن امرأته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُحِدُّ امرأةٌ على أحد فوقَ ثلاث الا على زوج" 1. فكأنه يضيف الوهم إلى راويه حيث ذكر أن الأمر بترك الإحداد موجه إلى أسماء زوج جعفر. ومن الآثار: قال ابن هانئ: "سألت أبا عبد الله عن رجل صلّى بقومٍ فتقدّمه بعضُهم فصلّى قُدّامه، قال: من صلّى قُدّام الإمام يعيد الصلاةَ، قلت له: إن هماماً حدّث عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك أنه صلّى بهم في سفينة، وصلّى قومٌ قداّمَه، فلم ير بذلك بأساً. قال أبو عبد الله: ليس يقول هذا غير هماّم. قال أبو عبد الله: أُخبرتُ أن هماّماً رجع عن هذا الحديث بعدُ. ورواه شعبة، عن أنس بن سيرين، والثوري، عن أيوب، عن أنس بن سيرين لم يقولا كما قال هماّم. وقال: أذهب إلى أن من صلّى هذه الصلاة يُعيدها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعل الإمامُ ليؤتمّ به، فإذا كبّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا"، فكيف يمكن هذا أن يسجد إذا سجد الإمام، والإمامُ خلفَه؟ ليس هذا بشيء يعيدها 2. لم أقف على رواية همام التي ذكرها الإمام أحمد ولا رواية شعبة، والثوري. وأخرج ابن حزم3 معلقاً، من طريق وكيع ثنا حماد بن زيد ثنا أنس بن سيرين قال:
"خرجتُ مع أنس بن مالك إلى أرضه ببذق سيرين ـ وهي على رأس خمسة فراسخ ـ فصلّى بنا العصر في سفينة، وهي تجري بنا في دجلة قاعدا على بُساطٍ ركعتيْن ثم سلم، ثم صلّى بنا ركعتين ثم سلم". وأخرج مثله ابن أبي شيبة، عن يونس، عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك1. وليس في الروايتين أنهم صلوا قدّام الإمام، كما ذكر الإمام أحمد أن ذلك ليس في روايتي شعبة، والثوري. وخطّأ الإمام أحمد رواية همام لمخالفتها للحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعل الإمامُ ليؤتمّ به، فإذا كبّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا" أخرجه البخاري2، ومسلم3 من حديث أنس بن مالك، وأخرجاه أيضاً من حديث أبي هريرة4. فكيف يخالف أنس هذا الحديث ويدع قوماً يصلّون أمامه حيث لا يمكنهم الائتمام بالإمام؟. ومن الآثار أيضاً: قال ابن هانئ: "قرأت على أبي عبد الله: إسماعيل بن إبراهيم، عن منصور ابن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن علقمة قال: [أتيت ابن مسعود فيما بين رمضان إلى رمضان، فما رأيته في يوم صائماً إلا يوم عاشوراء] . قال لي أبو عبد الله: وهمٌ من منصور إن شاء الله، جميع من روى عن ابن مسعود أنه لم يكن يصوم يوم عاشوراء" 5. حديث منصور بن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن علقمة رواه النسائي6.
وذكر الإمام أحمد أن هذا وهمٌ من منصور بن عبد الرحمن الغدّاني1، لأن جميع من روى عن ابن مسعود يقولون إنه لم يكن يصوم يوم عاشوراء. من ذلك ما رواه الشيخان2، من طريق منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: [دخل الأشعث بن قيس على ابن مسعود وهو يأكل يوم عاشوراء فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن اليوم يوم عاشوراء. فقال: قد كان يُصام قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان تُرك، فإن كنت مفطراً فاطعم] . ولعل هذا مما أشار إليه الإمام أحمد أن منصور يخالف في أحاديث. ومن الآثار أيضاً: قال عبد الله: "حدثني أبي قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين: "لا بأس بشرب الترياق"3. سمعت أبي يقول: هذا خطأ، كان محمد يكرهه، المعروف عن خالد، عن محمد أنه كرهه، أخطأ فيه وكيع" 4. خطّأ الإمام أحمد وكيعاً في هذه الرواية لأن المعروف عن خالد الحذاء عن محمد بن سيرين خلاف ما ذكره وكيع، فقد روى ابن علية عن خالد، عن ابن سيرين ـ قال: وذكرته له ـ فقال: "أوليس قد نهي عن كل ذي ناب، فهي ذات أنياب وحمة"5.
وعن ابن علية، عن ابن عون، عن ابن سيرين قال: "أمر ابن عمر بالترياق فسُقي، ولو علم فيه ما فيه ما أمر به"1. وعن أبي أسامة، عن هشام، عن محمد "أنه كرهه يعني الترياق"2. مخالفة الرواية للإجماع: ومما أنكره الإمام أحمد لمخالفته للإجماع: قال الخلال: أخبرنا الميموني أنهم ذاكروا أبا عبد الله أطفال المؤمنين فذكروا له حديث عائشة في قصة ابن الأنصاري وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فمسعت أبا عبد الله غير مرّة يقول: هذا حديث! وذكر فيه رجلاً ضعفه: طلحة. وسمعته يقول: وأحد يشكّ أنهم في الجنة، هو يُرجى لأبيه، كيف يُشك فيه؟ إنما اختلفوا في أطفال المشركين" 3. حديث عائشة الذي ذكر في هذا السؤال هو ما رواه طلحة بن يحيى القرشي، عن عمته عائشة بنت طلحة، عن أم المؤمنين عائشة قالت: دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جَنازَة صبيٍّ من الأنصار فقلت: يا رسول الله، طُوبى لهذا، عُصفورٌ من عصافير الجنة، لم يعمل السوءَ ولم يُدركْه. قال: "أوَ غيرَ ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنَّار أهلاً، خلقهم لها وهُم في أصلاب آبائهم" رواه مسلم4، من حديث وكيع ـ وهذا لفظه ـ وأبو داود5، والنسائي6، واللالكائي7، ثلاثتهم من حديث الثوري،
وابن ماجه1 من حديث وكيع أيضاً، وأحمد2، والحميدي3، والطحاوي4 ثلاثتهم من حديث ابن عيينة؛ كلهم عن طلحة بن يحيى بمثله. وأنكر الإمام أحمد هذا الحديث بقوله: "هذا حديث! "، ومحل الإنكار منه في الحديث ما ذُكر من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أوَ غيرَ ذلك يا عائشة! "، فإن فيه إستدراكاً لما قالته عائشة في الصبي الذي توفي وهو من أولاد الأنصار: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فهذا الاستدراك يقتضي أن أولاد المسلمين ليسوا جميعاً من أهل الجنة، فأنكره الإمام أحمد لمخالفته الإجماع، ويفهم الإجماع من قول الإمام أحمد: "إنما اختلفوا في أولاد المشركين"، فمفهومه أنهم لم يختلفوا في أولاد المسلمين. وقد نقل ابن قُدامة عن أحمد التصريح بذلك، قال: "سئل أبو عبد الله عن أطفال المسلمين فقال: ليس فيه اختلاف أنهم في الجنة" 5. وهذا الإجماع دلت عليه نصوص، منها ما أشار إليه أحمد: أنه يرجى لأبيه، كيف يشك فيه؟ يشير إلى حديث أبي هريرة: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم" 6، وروي في هذا المعنى عن غيره من الصحابة. وذلك أن من كان سبباً في حجب النار عن أبويه أولى بأن يُحجب هو لأنه أصل الرحمة وسببها7. وجاء في حديث أبي هريرة من وجه آخر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من
مسلميْن يموت لهما ثلاثة من أولادٍ لم يبلغوا الحِنث إلا أدخلهما الله وإياهم بفضل رحمته الجنة". قال: "يُقال لهم: ادخلوا الحنة، قال: فيقولون: حتى يجيء أبوانا"، قال: ثلاث مرات. فيقولون مثل ذلك. قال: فيقال لهم: "ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم". أخرجه النسائي1، وأحمد2، والبيهقي3 من طرق عن عوف الأعرابي، عن محمد ابن سيرين، عن أبي هريرة به.. وروى البخاري4 من حديث أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحِنث أدخله وإياهم بفضل رحمته الجنة". وذكر الميموني في هذا السؤال أن أحمد ضعّف راوي الحديث طلحة، وهو طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي. قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: طلحة بن يحيى أحب إلي من بُريد بن أبي بُردة، بُريد يروى أحاديث مناكير، وطلحة يحدث بحديث: "عصفور من عصافير الجنة" " 5. قال الذهبي عن حديث طلحة هذا: هو مما ينكر من حديثه، لكن أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه6. وإنما ينكر عليه صدر الحديث الذي تقدمت الإشارة إلى أنه محل إنكار الإمام أحمد، وهو استدراك النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في قولها، أما آخره فليس بمنكر، لأنه قد تابعه عليه غيره. فروى مسلم7 من طريق جرير بن عبد الحميد الضبي، عن العلاء بن المسيب، عن فضيل بن عمرو، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة
أم المؤمنين قالت: توفي صبيٌّ فقلت: طوبى له، عصفور من عصافير الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار، فخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلاً". وأخرجه إسحاق1، وابن حبان2 من هذا الوجه. وتابعه أيضاً يحيى بن إسحاق، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة بمثله. أخرجه الطيالسي، عن قيس بن الربيع، عن يحيى بن إسحاق3. فقد توبع طلحة بن يحيى على آخر الحديث دون قوله في أوله: "أو غير ذلك". وقد أشار العقيلي إلى هذا التفصيل قال: "آخر الحديث فيه رواية من حديث الناس بأسانيد جياد، وأوله لا يحفظ إلا من هذا الوجه" 4. ولعل هذا وجه تقديم الإمام مسلم لرواية فضيل بن عمرو التي ليس فيها اللفظة المنكرة مع نزوله فيها على رواية طلحة بن يحيى، على عادته في تأخير الأحاديث المعلّة. وممن أنكر الحديث من الوجه الذي أنكره الإمام أحمد الحافظ ابن عبد البر؛ قال: "وفي ذلك أيضاً دليل واضح على سقوط حديث طلحة بن يحيى ـ يعني هذا الحديث ـ وهذا حديث ساقط ضعيف، مردود بما ذكرناه من الآثار والإجماع، وطلحة بن يحيى ساقط ضعيف لا يحتج به، وهذا الحديث مما انفرد به فلا يعرّج عليه" 5.
مخالفة الراوية للواقع: ومما أنكره لمخالفته للواقع: قال صالح بن أحمد بن حنبل: "وسألته عن حديث رواه نصير بن حمد البرازي، صاحب ابن المبارك، عن عثمان بن زائدة، عن الزبير بن عدي، عن أنس ابن مالك رفعه، قال: [من أقرّ بالخراج وهو قادرٌ على أن لا يُقِرّ به فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً] فقال: ما سمعنا بهذا، هذا حديث منكر، وقد رُوي عن ابن عمر أنه كان يَكره الدخول في الخراج، وقال: إنما كان الخراج على عهد عمر" 1. لم أجد حديث أنس هذا، وروى يحيى بن آدم، عن عبيد الله الأشجعي، عن سفيان بن سعيد، عن الزبير بن عدي، عن رجل من جُهينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أقرّ بالخراج بعد أن أنقذه الله عز وجل منه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"2 قال ابن رجب: وهذا أشبه، والجهني مجهول3 رجحه لأن عثمان بن زائدة وإن كان ثقة4 إلا أن الثوري أوثق منه، فقوله أشبه بالصواب. والإمام أحمد أنكره لمخالفته للواقع، وذلك أن الخراج لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان في زمن عمر5، فكيف يأتي الوعيد على المقرّ به وهو لم يكن بعدُ؟
وقد جاء عن الإمام أحمد استنكار لبعض الأحاديث للمخالفة والظاهر أن ذلك ليس بمعنى التضعيف لها، أو يكون بمعنى التضعيف ويكون قوله في ذلك متعقَّب. فمثال الأول: قال عبد الله: "حدثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي التياح، قال: سمعت أبا زرعة يحدّث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُهلك أمتي هذا الحيُّ من قُريش"، قالوا: فما تأمرُنا يا رسول الله؟ قال: "لو أن الناس اعتزلوهم". قال عبد الله بن أحمد: وقال أبي في مرضه الذي مات فيه: اضرب على هذا الحديث، فإنه خلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني قوله: "اسمعوا وأَطيعوا واصبِروا "1. قال المرّوذي: "وقد كنت سمعته يقول: هو حديث رديء، يحتج به المعتزلة في ترك الجمعة" 2. حديث أبي هريرة أخرجه أيضاً البخاري3، ومسلم4 كلاهما من طريق شعبة به. والذي أنكره الإمام أحمد هو قوله: "لو أن الناس اعتزلوهم"، فقد وقع السؤال في موضع آخر على هذه اللفظة كما في "كتاب الورع"5، فأجاب بما ذكره المرّوذي، وهو راوي "كتاب الورع" عن الإمام أحمد.
وقد رُوي الحديث عن أبي هريرة من وجوه أخرى بدون هذه الزيادة التي أنكرها الإمام أحمد، وقد ذكر أنه من غرائب حديث شعبة1. فأخرجه البخاري من حديث عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي، عن جده سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: [كنت مع مروان وأبي هريرة فسمعت أبا هريرة يقول: سمعت الصادق المصدوق يقول: "هلاك 2 أمتي على يدي غِلَمةٍ من قُريش". فقال مروان: غلمة؟ قال أبو هريرة: لو شيت أن أسمِّيهم، بني فلان، وبني فلان] 3. وروي من حديث شعبة، وسفيان، وابن أبي زائدة عن سماك، عن مالك ابن ظالم، عن أبي هريرة بمثله4؛ ومن حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة5؛ ومن حديث عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة6. لكن شعبة روى الحديثين، فذكر حديث مالك بن ظالم بدون الزيادة، وذكرها في حديث أبي التياح، عن أبي زرعة، ولذلك لم يتردد صاحبا الصحيح من إخراج روايته. وأنكره الإمام أحمد لأن ظاهره مخالف للأحاديث التي وردت بالأمر بعدم الخروج عن طاعة ولي الأمر وإن كان ظالماً، وهي كثيرة ومن أصول أهل السنة،
وقد أساء فهم هذا الحديث طائفة المعتزلة فتركوا حضور الجمعة. والأقرب أن أمر الإمام أحمد بالضرب على هذا الحديث ليس تضعيفاً له، ولكن للنهي عن التحديث به خوفاً من أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في مخالفات أشدّ. وقد ذُكر عنه أنه كان يكره التحديث بالأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان1، فالظاهر أن هذا منه، والله أعلم. ومثال ما استنكره من أجل المخالفة وتعقّب قوله فيه: قال أبو داود: "سمعت أحمد ذكر حديث صالح بن كيسان، عن الحارث ابن فُضيل الخطمي، عن جعفر بن عبد الله بن الحكم، عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن الحكم، عن عبد الرحمن بن المِسوَر بن مخرمَة، عن أبي رافع، عن عبد الله ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يكون أمراء يقولون ما لا يفعلون، فمن جاهدهم بيده". قال أحمد: جعفر هذا هو أبو عبد الحميد بن جعفر، والحارث بن فُضيل ليس بمحمود الحديث، وهذا الكلام لا يشبه كلام ابن مسعود، ابن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصبروا حتى تلقَوني" 2. حديث ابن مسعود رواه مسلم3 من طريق صالح بن كيسان بهذا الإسناد، ومتنه: "ما من نبيٍ بعثه اللهُ في أُمّة قبلي إلا كان له من أمتِهِ حَواريُّونَ وأصحابٌ يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلُفُ من بعدهم خُلوفٌ، يقولون مالا يَفعلون، ويَفعلون ما لا يُؤمَرون، فمن جاهَدَهم بيده فهو مُؤمن، ومن جاهَدَهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهَدَهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراءَ
ذلك من الإيمان حبّةُ خَردَل". قال أبو رافع فحدثت عبدَ الله بن عمر فأنكره عليّ، فقدِم ابنُ مسعود، فنزل بقناة فاستتبعني إليه عبدُ الله بن عمر يعوده، فانطلقتُ معه، فلما جلسنا سألت ابنَ مسعود عن هذا الحديث فحدثنيه كما حدثته ابنَ عمر. قال صالح وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع] . وقد رواه من هذا الوجه أيضاً أحمد1، وابن مندة2، والبيهقي3. ورواه من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن الحارث بن فضيل أبو عوانة4 وابن حبان5، والطبراني6 وأبو نعيم7. ورواه أحمد8 من طريق عبد الله بن جعفر المخرمي، عن الحارث بن فضيل به. ولم ينفرد به الحارث بن فضيل، فقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود، فروى الإمام أحمد9 من طرق عن عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن عامر بن السِّمط، عن معاوية بن إسحاق، عن عطاء بن يسار، عن ابن مسعود فذكره مختصراً. وهكذا رواه البزار10 أيضاً. ورواه بطوله ابن حبان11. وصرح عطاء بن يسار في روايته بالسماع من ابن مسعود12، وخطّأ
ذلك أبو حاتم1. وقال البخاري: يقال سمع منه2. وذكر ابن سعد أنه سمع منه3، ونقل الذهبي مثل ذلك عن أبي داود4. واستنكر الإمام أحمد هذا الحديث في هذه الرواية بأنه خلاف الأحاديث التي رواها ابن مسعود والتي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بالصبر على جور الأئمة، ولولا كلامه في الحارث بن فضيل راوي الحديث لقلنا في هذا مثل ما سبق في الذي قبله، أن استنكاره من باب كراهية التحديث بالأحاديث التي ظاهرها الخروج على الوُلاة. لكن لما قال في الحارث بن فُضيل إنه ليس بمحمود الحديث في معرض استنكاره للحديث الذي رواه، دلّ ذلك على طعنه في صحته. والحارث بن فضيل وثقه ابن معين، والنسائي5، وقال ابن حبان: كان من خيار أهل المدينة6، ولم يلتفت النقاد المتأخرون إلى قول الإمام أحمد في الحارث فوثقه كلٌ من الذهبي، وابن حجر7، وقال ابن الصلاح: روى عنه جماعة من الثقات، ولم نجد له ذكراً في كتب الضعفاء8. ثم أنه لم ينفرد به كما تقدم.
وتولى ابن رجب الإجابة عن هذا الاستنكار فقال: "التغيير باليد لا يستلزم القتال، وقد نص على ذلك أحمد أيضاً في رواية صالح، فقال: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح ... وليس هو من باب قتالهم، ولا من الخروج عليهم الذي ورد النهي عنه، فإن هذا أكثر ما يُخشى منه أن يقتل الآمر وحده، وأما الخروج عليهم بالسيف فيخشى منه الفتن التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين" 1. فقد عاد الأمر إلى عدم تحقيق المخالفة لأن الجمع بين ما ظاهره التعارض ممكن، والجمع بين الأحاديث بحيث يحمل كل حديث على المعنى اللائق به فلا تتضارب معانيها منهج ثابت عند الإمام أحمد2، وقد يكون ما ذكره ابن رجب من تفسيره للتغيير رجوعاً منه عن استنكار الحديث وجمعاً بين الحديثين المتعارضين في الظاهر، والله أعلم.
الفصل الثاني: الإعلال بالعلل الخفية
الفصل الثاني: الإعلال بالعلل الخفية المبحث الأول: نماذج من الأخطاء الواقعة في أحاديث الثقات مدخل ... الفصل الثاني: الإعلال بالعلل الخفية المبحث الأول: نماذج من الأخطاء الواقعة في أحاديث الثقات. والأخطاء الواقعة في أحاديث الثقات تأتي على أنواع، بعضها تقع في الإسناد وبعضهما في المتن، وبعضها فيمها معاً، وقد تقدح في صحة الحديث وقد لا تقدح. وقد اعتنى الأئمة النقاد بما فيهم الإمام أحمد بذكر هذه الأخطاء في مصنفاتهم في العلل، وسألهم تلاميذهم عنها في كتب سؤالاتهم فكشفوها، ويُلتمس من خلال ذلك الوسائل التي سلكوها للكشف عن تلك الأخطاء. ولما كانت الأخطاء التي تقع في أحاديث الثقات مَردُّها إلى الوهم والغلط النادر الذي لا يسلم منه بشر، والأوهام والأخطاء لا حصر لأنواعها، إلا أن العلماء درجوا على تسمية بعض الأوهام والأخطاء بأسماء خاصة يندرج تحت كل جنس جملة كثيرة من الأفراد، فسلكت في هذا المبحث إيراد الأخطاء على أنواع يندرج تحت كل نوع عدد من النماذج كما وردت عن الإمام أحمد.
المطلب الأول: أخطاء الحفاظ في الأسماء
المطلب الأول: أخطاء الحفاظ في الأسماء. وهذا من أنواع الأخطاء الواقعة في الأسانيد، ولأهمية السلامة من الوقوع فيها اعتنى الأئمة النقاد بمعرفة المتشابه من الأسماء والألقاب والكنى، والتمييز بين الأسماء المتفقة لفظاً وخطاً والمفترقة في المسميات. وقد ذكر الإمام أحمد عن هشيم قال: "زعم لي بعضهم قال: كتب الحجاج أن يؤخذ إبراهيم بن يزيد إلى عامله، فلما أتاه الكتابُ قال: فكتب إليه: أن قِبَلَنا إبراهيم بن يزيد التيمي، وإبراهيم بن يزيد النخعي، فأيهما يُنفذ؟ قال: فكتب أن: خُذهما جميعاً. قال هشيم: أما إبراهيم النخعي، فلم يُوجد حتى مات، وأما إبراهيم التيمي فأُخذ
فمات في السجن" 1، فلعدم التمييز بينهما لتشابههما في الأسماء وقع الخلط، فكذلك يقع في أسانيد الأحاديث، وإذا كان أحدهما ثقة والآخر ضعيفاً فالذي يترتب على الخلط يكون أشد. مثال ذلك ما ذكره أبو طالب عن الإمام أحمد: "كل شيء روى ابنُ جُريج عن عمر بن عطاء، عن عِكرمة فهو: عمر بن عطاء بن وَزار، وكل شيء روى ابن جُريج عن عمر بن عطاء عن ابن عباس فهو عمر بن عطاء بن أبي الخُوار، كان كبيراً. قيل له: أيروي ابن أبي الخُوار عن عِكرمة؟ قال: لا، من قال: عمر ابن عطاء بن أبي الخُوار، عن عِكرمة فقد أخطأ، إنما روى عن عِكرمة عمر بن عطاء ابن وَزار، ولم يرو ابن أبي الخُوار عن عكرمة شيئاً" 2، وعمر بن عطاء بن وَزار ليس بقوي في الحديث3، وعمر بن عطاء بن أبي الخوار ثقة4. والأخطاء من هذا النوع من أشد أنواع الأخطاء في الأسماء، لأنها تؤدي إلى تصحيح ما هو ضعيف، وأو تضعيف ما صحيح. ودونها الأخطاء في تسمية الراوي بما ليس اسمه فيؤدي إلى تجهيله، وهذا يقع كثيراً من الثقات، بل حتى من الحفاظ البارزين. وقد قال أحمد: ما أكثر ما يخطئ شعبة في أسامي الرجال5. وقال أيضاً: كان غلط شعبة في أسماء الرجال6. وقد قال أبو داود: وشعبة يخطئ فيما لا يضره ولا يُعاب عليه، يعني في الأسماء7.
ومن نماذج الأخطاء التي ذكرها الإمام أحمد لبعض الثقات من هذا النوع: 1. قال عبد الله: حدثني أبي قال: حدثنا يحيى بن حماد، قال: أخبرنا أبو عوانة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حُدس أبي مصعب العقيلي، عن عمّه أبي رزين وهو لقيط بن عامر المُنتَفِق أنه قال: يا رسول الله، إن كنا نذبح في رجب ذبائح فنأكل منها، ونطعِم من جاءنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس بذلك". فقال وكيع: فلا أدعُها أبداً. حدثني أبي: قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد، وبَهز، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حُدْس، عن عمِّه أبي رُزَيْن العُقيلي قلت: يا رسول الله، كيف نرى ربَّنا، فذكر الحديث. وأظن أبي قال: في كتاب الأشجعي، عن سفيان، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حُدس. حدثني أبي قال: حدثنا هُشيم قال: أخبرنا يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عُدس، عن عمِّه أبي رُزيْن. حدثني أبي قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عُدس، عن عمّه أبي رُزيْن. قال أبي الصواب ما قال حماد بن سلمة، وأبو عوانة، وسُفيان قالوا: وكيع بن حُدس، وكان الخطأ عنده ما قال شعبة، وهُشيم. وأظنه قال: هُشيم كان يُتابِع شُعبة" 1. ففي هذا النص التنصيص على خطأ شعبة في اسم وكيع بن حُدس، حيث يقول فيه: وكيع بن عُدس بالعين المهملة، وإنما هو بالحاء المهملة كما قال ذلك حماد بن سلمة، وأبو عوانة، وسفيان الثوري من كتاب عبيد الله الأشجعي، والمسمى واحد. ومتابعة هشيم لشعبة ليس فيها تقوية لرواية شعبة، لأنه أخذ ذلك عن شعبة كما قال الإمام أحمد. وقال أبو داود: قال أحمد: وهم هُشيم، أخذه عن شعبة2. وأما الترمذي فرجح قول شعبة3.
ووكيع بن حُدس لم يوثقه إلا ابن حبان1. وقال عنه الذهبي: لا يعرف، تفرد عنه يعلى بن عطاء2. فهو آفة الأحاديث التي وردت في السؤال، وقد أخرجها أحمد3. 2. قال ابن هانئ: "سمعت أبا عبد الله يقول: ما أكثر ما يخطئ شعبة في أسامي الرجال، وذكر له حديث عبد ربه عن عمران بن أبي أنس: حديث [الصلاة مثنى مثنى، تشهّدُ في كل ركعتين وتخشعُ وتضرّعُ وتمسكَنُ] فقال هو: أنس بن أبي أنس، وإنما هو الصحيح: عِمران بن أبي أنس" 4. حديث شعبة أخرجه أبو داود5، والنسائي6، وابن ماجه7، وأحمد8، وابن خزيمة9 من طرق عنه، عن عبد ربه بن سعيد، عن أنس بن أبي أنس، عن عبد الله بن نافع بن العمياء، عن عبد الله بن الحارث، عن المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة مثنى مثنى، وتشَّهدُ قي كل ركعتين، وتباءسُ، وتمسكنُ، وتُقنِعُ يديك وتقول: اللهم اللهم، فمن لم يفعل ذلك فهي خِداج". فذكر أحمد أن شعبة أخطأ في قوله: أنس بن أبي أنس، وأن الصحيح إنما هو عِمران بن أبي أنس؛ هكذا رواه الليث بن سعد، عن عبد ربه بن سعيد، عن
عمران بن أبي أنس1. وقال الفضل بن زياد: "سمعت أبا عبد الله وذكر له أبو جعفر حديث عمران بن أبي أنس، فقال أبو عبد الله: الحديث حديث الليث بن سعد، أنس بن أبي أنس من هذا؟ معروف عمران بن أبي أنس" 2. وذكر البخاري أن الليث قد توبع3. وقال أبو حاتم: "ما يقول الليث أصح، لأنه قد تابع الليث عمرو بن الحارث، وابن لهيعة، وعمرو والليث كانا يكتبان، وشعبة صاحب حفظ" 4. وقد خولف شعبة في مواضع أخرى في روايته لهذا الحديث غير ما ذكره، لم يذكرها الإمام أحمد، وذكرها البخاري5، وأبو حاتم6. والحديث ضعفه البخاري7، وحسنه أبو حاتم8، والقول ما قال البخاري. وفي هذا إشارة إلى ما سبق ذكره من أنه يترتب على خطأ الرواة في الأسماء تجهيل رواة معروفين، وذلك حيث قال الإمام أحمد: "أنس بن أبي أنس! من هذا؟ معروف عمران بن أبي أنس". فكأنه يشير إلى أن رواية شعبة جاءت براوٍ مجهول بينما الراوي في واقع الأمر شخص آخر معروف.
3. قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: كذا قال عندر، وأظن شعبة أخطأ في اسمه، في حديث شعبة، عن محمد بن إسحاق، عن عمر بن عاصم بن قتادة، عن محمود، عن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أسفِروا بالصُّبح"، قال أبي: وإنما هو عاصم ابن عمر بن قتادة" 1. روى حديث شعبة الحجاج بن المنهال2، وأبو داود الطيالسي3، وعمر ابن حفص الحوضي4، وبقية بن الوليد5 كلهم عن شعبة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج على الصواب في تسمية شيخ ابن إسحاق. وكذلك رواه غير واحد عن ابن إسحاق، منهم: عبدة بن سليمان6، ويعلى بن عبيد7، وزائدة بن قدامة8، ويزيد بن هارون، ومحمد بن يزيد9، فكلهم قالوا في اسم شيخ محمد بن إسحاق: عاصم بن عمر بن قتادة. ولم أقف على من تابع غندر عن شعبة في قوله: عمر بن عاصم بن قتادة، فالظاهر أن الخطأ منه لا من شعبة كما ظن الإمام أحمد، بدليل من ذكره عن شعبة على الصواب، وهم عدد.
قال عبد الله: "حدثني أبي قال: حدثنا وكيع، عن مالك بن أنس، عن عبيد الله بن أبي بكر الثقفي عن أنس: "غدونا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم، فكان يُهلّ المُهِلُ ويُكبّر المُكبّر فلا يَعيب أحدُهما على صاحبِه". حدثني أبي قال: حدثنا ابن مهدي، عن مالك، عن محمد بن أبي بكر الثقفي، قال أبي: وهذا أخطأ فيه وكيع، إنما هو محمد بن أبي بكر الثقفي" 1. حديث مالك رواه عدد كثير من الرواة عنه، عن محمد بن أبي بكر الثقفي2، أنه سأل أنس بن مالك وهما غاديان من مِنىً إلى عرفة: "كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان يُهِلّ منا المُهِلّ فلا يُنكر عليه، ويُكبّر منا المُكبّر فلا يُنكر عليه" فرواه عبد الرحمن بن مهدي كما ذكره أحمد3، ويحيى بن يحيى الليثي4، وأبو مصعب الزهري5، وأبو نعيم6، وعبد الله بن يوسف التنيسي7، ويحيى بن يحيى النيسابوري8، وأبو سلمة الخزاعي9. وتابعهم موسى بن عقبة10، وعبد العزيز الماجشون11، فروياه عن محمد بن أبي بكر الثقفي به.
ورواه وكيع عن مالك فقال: عن عبيد الله بن أبي بكر الثقفي، فذكر الإمام أحمد أنه وهم في ذلك. قال عبد الله في موضع آخر1: "سمعت أبي يقول: وكيعٌ يهِم في أحاديث عن مالك بن أنس منها: حديث محمد بن أبي بكر الثقفي: غدونا مع أنس، لم يقل وكيع محمد بن أبي بكر الثقفي، قال شيئاً غير محمد، خالفه ابن مهدي". وقال الباجي: وهو وهم من وكيع، والصواب ما قال جميع الرواة عن مالك: محمد بن أبي بكر الثقفي. ا.هـ2. 5. قال عبد الله: "حدثني أبي قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال حدثنا أبو الزعراء عمرو بن عمرو، عن عمه أبي الأحوص، وقال الثوري: عمرو بن عامر أبو الزعراء، أخطأ، هو عمرو بن عمرو كما قال ابن عيينة" 3. وهذا خلاف في اسم أبي الزعراء الصغير، وقد تابع ابن عيينة على قوله: عمرو بن عمرو أبو العميس عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، فقال: عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو4. وقال البخاري أيضاً: عمرو بن عمرو أصح5 وعكس يحيى بن معين فرجح عمرو بن عامر6. فالحكم على الثوري بالخطأ إنما هو على قول الإمام أحمد لثبوب الخلاف في اسم هذا الراوي.
وقد يترتب على الخطأ في التسمية ظن من ليس بصحابي صحابياً. مثال ذلك: قال الإمام أحمد: "حدثنا محمد بن أبي عدي، عن سُليمان ـ يعني التيمي ـ عن أبي عثمان ـ يعني النهدي ـ عن قبيصة بن مُخارق قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رضْمةٍ من جبَلٍ فعلا أعلاها ثم نادى أو قال: "يا آل عبد منافاه، إني نذيرٌ، إن مَثلي ومَثَلَكم كمَثَلِ رجلٍ رأى العدُوَّ فانطلق يَرْبَأُ أهلَه يُنادي" أو قال: "يهتِف: يا صباحاه". قال عبد الله: قال أبي: قال ابن أبي عدي في هذا الحديث: عن قبيصة بن مُخارق أو وهب بن عمرو، وهو خطأ، إنما هو زهير بن عمرو، فلما أخطأ تركت وهب بن عمرو" 1. هذا الحديث رواه محمد بن أبي عدي عن قبيصة بن مخارق أو وهب بن عمرو كما قال الإمام أحمد. وأخطأ فيه، وذلك أن الحديث رواه غير واحد عن سليمان ابن طرخان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن قبيصة بن مُخارق وزهير بن عمرو به. منهم يحيى القطان2، وإسماعيل بن علية3، ويزيد بن زريع4، ومعتمر ابن سليمان5، وعبيد الله بن معاذ6 وغيرهم. ورواية ابن أبي عدي هذه لو ثبتت تقتضي ثبوت الصحبة لوهب بن عمرو، فيظن من ليس بصحابي صحابياً، ولجسامة هذا الخطأ ترك الإمام أحمد ذكره في السند، فهو من باب سكوته على موضع العلة على ما عُرف منه في غير ما موضع7.
وهناك نوع من الخطأ في التسمية يعود في حقيقته إلىنوع من القلب، لأنه يؤدي إلى إبدال من يعرف بالرواية بغيره، فيستلزم في بعض صوره وصل ما هو مرسل أو العكس، ومثال الصورة الأولى ـ هو ما يستلزم الاتصال فيما هو مرسل في الحقيقة: قال عبد الله: "حدثني أبي قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا قُريش بن حيّان العجلي، عن أبي واصل، قال: لقيت أبا أيوب الأنصاري، ولم يقُل وكيع مرة: الأنصاري. قال أبي: أخطأ فيه وكيع، وإنما هو أبو أيوب العتكي الذي حدث عنه قتادة" 1. وذكر الإمام أحمد رواية وكيع في المسند2 "قال: حدثنا وكيع، حدثنا قُريش ابن حيّان، عن أبي واصل قال: لقيت أبا أيوب الأنصاري فصافحني فرأى في أظفاري طولاً فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَسأل أحدُكم عن خبر السماء وهو يدَع أظفارَه كأظافير الطَّير يجتمع فيها الجنابة والخبثُ والتَّفَث". ولم يقل وكيع مرة: الأنصاري. قال غيره: أبو أيوب العتكي. قال أبو عبد الرحمن: قال أبي: يسبقه لسانُه ـ يعني وكيعاً ـ فقال: لقيت أبا أيوب الأنصاري، وإنما هو أبو أيوب العتكي". رواه أبو داود الطيالسي، حدثنا قريش بن حيان، عن واصل بن سليم قال: أتيت أبا أيوب الأزدي فذكره3. وقوله: واصل بن سليم خطأ نبه عليه أبو حاتم، قال: إنما هو سليمان بن فروخ4. ورواه أبو الوليد الطيالسي حدثنا قريش، حدثني سليمان بن فروخ لقيت أبا أيوب5، فلم ينسبه.
ورواه عبد الرحمن بن المبارك1 فقال: أبو أيوب الأنصاري2. وذكر الإمام أحمد أن ما قاله وكيع خطأ، سبقه لسانُه، فنسب أبا أيوب في الإسناد بالأنصاري، وإنما هو العتكي الذي حدث عنه قتادة، وأبو أيوب العَتكي هو الأزدي الذي ورد مصرحاً في رواية أبي داود الطيالسي. قال أحمد: "أبو أيوب صاحب قتادة من العَتيك، اسمه يحيى" 3. وقال أيضاً: "واسم أبي أيوب صاحب قتادة: يحيى بن مالك المراغي من الأزد" 4. وهذا الخطأ جعل الحديث برواية وكيع متصلاً بينما هو مرسل، لأن أبا أيوب الأزدي تابعي، ومن أجله أدخله من أدخله في مسند أبي أيوب الأنصاري منهم محمد بن سلام كما ذكره البخاري5، ويونس بن حبيب6. وقد وافق الإمام أحمد على هذا الإمام أبو حاتم الرازي فإنه سئل عن هذا الحديث برواية أبي داود الطيالسي فقال: "هذا خطأ، ليس هو واصل بن سليم، إنما هو أبو واصل سليمان بن فروخ، عن أبي أيوب، وليس هو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هو أبو أيوب يحيى بن مالك العتكي من التابعين. قال ابن أبي حاتم: ولم يفهم يونس ابن حبيب أن أبا أيوب الأزدي هو العتكي فأدخله في مسند أبي أيوب الأنصاري" 7.
وكل هذه الأخطاء وما شابهها ناشئة عن الوهم الذي لا يسلم منه بشر، وغالباً ما يكون ذلك ممن يَعتمد على حفظه، ولا يرجع إلى الكتاب، وقد قال أحمد: "كان شعبة يحفظ، لم يكتب إلا شيئاً قليلاً، ربما وهم في الشي" 1، ولذلك قدّم القطان الثوري على شعبة عند الاختلاف. قال القطان: "سفيان أقل خطأ، لأنه يرجع إلى كتاب" 2. وقال أحمد: "سفيان أحفظ للإسناد وأسماء الرجال من شعبة" 3. وقد يكون منشأ الخطأ التصحيف كما وقع لمعاذ بن معاذ: قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: أخطأ معاذ بن معاذ في حديث عكرمة ابن عمّار، عن ضمضم بن جَوس الهِزّاني، كذا قال معاذ، قال أبي: أخطأ معاذ، إنما هو الهِفّاني" 4. يشير الإمام أحمد إلى رواية معاذ بن معاذ العنبري قال: "حدثنا عكرمة ابن عمّار، عن ضَمْضَم بن جَوْس، عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب قال: [صلّى بنا عمر صلاةَ المغرِب فلم يقرأ في الركعة الأُولى شيئاً، فلما كان في الثانية قرأ بفاتحة القرآن وسورةً، ثم عاد فقرأ بفاتحة القرآن وسورة، ثم صلى حتى فرغ ثم سجد سجدتين ثم سلم] ". أخرجه ابن سعد5. ولم يذكر نسبة ضمضم. والخطأ في هذه النسبة ناشئ من التصحيف، فإن الهِفاني يسهل تصحيفه بالهِزّاني.
وقد يكون منشأ الخطأ الأخذ عن راوٍ ضعيف مثل ما وقع لابن جريج. قال عبد الله: "قال أبي في حديث حمنَة بنت جحش قال ابن جريج: حُدِّثت عن ابن عقيل محمد بن عبد الله بن عقيل، وهو خطأ، وقال: إنما هو عبد الله بن محمد ابن عقيل، وقال: عن حبيبة بنت جحش، خالف الناس" 1. وقال عبد الله في موضع آخر: "قال أبي: ابن جريج يرويه ـ يعني حديث حمنة ـ يقول: حُدِّثتُ عن ابن عقيل، لم يسمعه، ويقول: عن محمد بن عبد الله بن عقيل قلَّب اسمَه قال: يقولون: وافقه النُّعمان بن راشِدٍ، قال: ابن جريج يَروي عن النُّعمان بنِ راشِدٍ وما أُراه إلا سمعه منه، والنُّعمان بن راشِدٍ ليس بقويٍّ في الحديث تَعرِف فيه الضَّعفَ" 2. فجعل الإمام سبب خطأ ابن جريج في اسم ابن عقيل احتمال كونه سمعه من النعمان بن راشد أحد الضعفاء، فإنه رواه وأخطأ في التسمية3، وكان ابن جريج يروي عنه، وكان معروفاً بالتدليس، فكأنه أخذه عنه ثم أبهمه في الإسناد، فتبعه على الخطأ. ولم أقف على هذه الرواية التي أشار الإمام أحمد إلى أن ابن جريج أخطأ في اسم ابن عقيل في حديث ابنة جحش، بل الذي وقفت عليه أنه سماه عبد الله بن محمد بن عقيل على الصواب، وذلك في رواية عبد الرزاق4 عنه، ومن طريقه ابن ماجه5،
وابن أبي عاصم1، وابن المنذر2؛ وقد أشار الإمام البخاري3 إلى أن في رواية غير عبد الرزاق يقول ابن جريج: حُدثت، فلعلها هي التي أشار إليها الإمام أحمد. وقال سائر الرواة ممن شارك ابن جريج في رواية الحديث عن ابن عقيل؛ وهم زهير بن محمد المروزي4، وعبيد الله بن عمرو الرقي5، وشريك بن عبد الله النخعي6، وعمر بن ثابت7، وإبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي8 كلهم رووا الحديث عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران بن طلحة، عن أمه حمنة بنت جحش قالت: [كنت أستحاض حيضة كثير شديد فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختى زينب بنت جحش ... ] فذكرت الحديث بطوله. وإنما خالف ابن جريج حسب الراويات التي أشرت إليها في موضعين: الأول: قال بدل عمران بن طلحة: عمر بن طلحة9.
الثاني: قال بدل حمنة بنت جحش: أم حبيبة بنت جحش. وقد ذكر غير واحد أنها حمنة تكنى أم حبيبة فلا خلاف بينهما على ذلك1.
المطلب الثاني: أخطاء الثقات في الألفاظ
المطلب الثاني: أخطاء الثقات في الألفاظ. وهذا النوع من الأخطاء الواقعة في المتون، وهو أيضاً مما لا يسلم منه بشر، فقد جاء عن رواة ثقات أخطاء من هذا النوع ولكن لم يقع الحمل عليهم بسببها لقلة ورودها عنهم، بل اجتنب النقاد تلك الأخطاء ولم يزحزحوهم عن منزلتهم في العلم والثقة. وقد ذكر الأثرم أن ابن المديني كان يحمل على عمرو بن يحيى وذكر له هذا الحديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمار"، وقال: إنما هو على بعير، فقال أحمد: هذا سهل1. وحديث عمرو بن يحيى المازني رواه مالك وغيره، عنه، عن سعيد بن يسار، عن عبد الله بن عمر أنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو موجّه إلى خيبر"2. ورواه أبو بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، عن سعيد بن يسار، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير3.
قال النسائي: "لم يتابع عمرو بن يحيى على قوله: يصلي على حمارٍ، إنما يقولون: صلى على راحلته" 1، وكذلك قال ابن عبد البر2. فمثل هذا سهل كما قال أحمد. وقال الدارقطني: مثل هذا في الصحابة3. ومن أخطاء الرواة الثقات في الألفاظ ما تقدم عن يحيى القطان أنه قال في حديث أنس في طلب بني سلمة التحول من ديارهم: "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعرى المسجد"، وقال غيره: "فكره أن تُعرى المدينة"، وهو الصواب، ورواية يحيى القطان خطأ نبه عليه الإمام أحمد، وكان قد روى الحديث من طريق يحيى ثم أمر بأن يضرب عليه4. ومنها: قال عبد الله: "حدثني أبي قال: حدثنا غُندر قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل معنا الترابَ ولقد وَارى الترابُ بياضَ بَطنِه". وقال عفان: إِبْطِه، وهو خطأ أخطأ فيه إنما هو: بياض بطنه" 5. وحديث البراء أخرجه البخاري6، ومسلم7، والنسائي8، وأحمد9،
وأبو داود الطيالسي1، وأبو عوانة2، وابن حبان3 كلهم من طرق عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء به. وكلهم قالوا: وارى التراب بياض بطنه. وحديث عفان أخرجه أحمد4، عنه، عن شعبة به، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معنا التراب يوم الأحزاب ويقول: فذكر رجز ابن رواحة. فلم يذكر الإمام أحمد موضع ما واراه التراب من جسده صلى الله عليه وسلم. فكأنه ترك ذكره لثبوت خطئه عنده على ما هو معهود من منهجه5. ومن هذه الأخطاء ما يرجع إلى الخطأ بسبب الرواية بالمعنى، وقد سبق بعض الأمثلة على ذلك في مطلب سوء الحفظ المقيد برواية الراوي إذا روى بالمعنى، ومنها: حديث صفوان بن سليم في نقل قول اليهودي، فقال يحيى القطان في روايته: نشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أحمد: خالف يحيى بن سعيد غيرُ واحدٍ، قالوا: نشهد أنك نبي. قال أبي: لو قالوا: نشهد أنك رسول الله كانا قد أسلما، ولكن يحيى أخطأ فيه خطأً قبيحاً6. ومنها: قول محمد بن عبيد في حديث عمران بن حصين: "وخلق الذكر". قال أبو القاسم: هذا الحرف كان محمد بن عُبيد يخطىء فيه وينهاه أحمد بن حنبل أن يحدّث به، والصواب ما روى أبو بكر بن عياش وغيره: "وكتب الذكر" اهـ7.
وقد تقدم ما ذكره أحمد من خطأ أبي الأحوص في حديث الأوعية حيث قال: "اشربوا في الأوعية ولا تسكروا"، والصواب: "ولا تشربوا مسكراً" 1. فهذه كلها روايات بالمعنى قام بها هؤلاء الرواة الثقات الأفاضل فوقعوا في الخطأ عند تصرفهم في اللفظ ونقلهم النص بالمعنى. ومن أخطاء الثقات في اللفظ ما كان راجعاً إلى التصحيف، الكلام عليه في المطلب الآتي إن شاء الله تعالى.