منهج الأشاعرة في العقيدة - تعقيب على مقالات الصابوني

سفر الحوالي

مَنْهَج الأشاعرة فِي العقيدة تعقيب على مقالات الصَّابُونِي للشَّيْخ سفر بن عبد الرَّحْمَن الْوَالِي محَاضِر بكلية الدعْوَة وأصول الدّين

تعقيب على مقالات علي الصابوني

تعقيب على مقالات عَليّ الصَّابُونِي الْحَمد لله وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على من لَا نَبِي بعده. وَبعد: فقد اطَّلَعت على مَا نشرته مجلة (الْمُجْتَمع) فِي الْأَعْدَاد من رقم 627 - 632، والمقابلة السَّابِقَة لَهَا وَكَذَلِكَ المقالتان المتضادتان فِي الْعدَد 646 مِمَّا كتبه الشَّيْخَانِ الفوزان والصابوني عَن مَذْهَب الأشاعرة. وَإِذا كَانَ من حق أَي قَارِئ مُسلم أَن يهتم بالموضوع وَأَن يُدْلِي بِرَأْيهِ إِن كَانَ لَدَيْهِ جَدِيد، فَكيف بِمن هُوَ متخصص فِي هَذَا الْمَوْضُوع مثلي؟. فالأشاعرة جُزْء من مَوْضُوع رسالتي للدكتوراه "ظَاهِرَة الإرجاء فِي الْفِكر الإسلامي" إِذْ هِيَ أكبر فرق المرجئة الغلاة. وَلنْ أستعجل نتائج بحثي وَلَكِن حسبي أَن أدّعي

ولي على كلا الشيخين ملاحظات

دَعْوَى وأطرحها للمناقشة وَأَقْبل بِكُل سرُور من يُدْلِي بوجهة نظره فِيهَا. فَمن وَاقع إسلامي وتخصصي رَأَيْت أَن أَقُول كلمة عَسى الله أَن ينفع بهَا، - وَيعلم الله أنني لَو لم أشعر أَن قَوْلهَا وَاجِب ضَرُورِيّ لما سطرتها - وَلَكِن الْمَوْضُوع أكبر من أَن يسكت عَلَيْهِ أَو يجامل فِيهِ. ولي على كلا الشَّيْخَيْنِ ملاحظات: (1) أما الصَّابُونِي فَلَا يؤسفني أَن أَقُول: إِن مَا كتبه عَن عقيدة السّلف والأشاعرة يفْتَقر إِلَى أساسيات بدائية لكل باحث فِي العقيدة, كَمَا أَن أسلوبه بعيد كثيرا عَن الْمنْهَج العلمي الموثق, وَعَن الأسلوب المتعقل الرصين. وَقد استبشرت بِالْبَيَانِ الْأَخير خيرا وحسبته بَيَان رُجُوع وَبَرَاءَة فَإِذا هُوَ بَيَان إِصْرَار وتوكيد. ونظراً لكَونه لَيْسَ إِلَّا جُزْءا من تيار بدعيٍّ يُرَاد لَهُ اكتساح الْأمة. ونظراً لتعرضه لقضايا بَالِغَة الخطورة تحْتَاج إِلَى بحث مستفيض لَا تسعه المقالات الصحفية فَسَوف

أرجئ الْكَلَام عَنهُ إِلَى حِين يَتَيَسَّر لي بِإِذن الله إِخْرَاج الرَّد فِي الصُّورَة الَّتِي أَرَاهَا. وَليكن مَعْلُوما أَن هَذَا الرَّد الْمَوْعُود لَيْسَ مَقْصُودا بِهِ الصَّابُونِي وَلَا غَيره من الْأَشْخَاص, فَالْمَسْأَلَة أكبر من ذَلِك وأخطر، إِنَّهَا مَسْأَلَة مَذْهَب بدعي لَهُ وجوده الواقعي الضخم فِي الْفِكر الإسلامي حَيْثُ تمتلئ بِهِ كثير من كتب التَّفْسِير وشروح الحَدِيث وَكتب اللُّغَة والبلاغة وَالْأُصُول فضلا عَن كتب العقائد والفكر، كَمَا أَن لَهُ جامعاته الْكُبْرَى ومعاهده المنتشرة فِي أَكثر بِلَاد الْإِسْلَام من الفلبين إِلَى السنغال. وَقد ظَهرت فِي الآونة الْأَخِيرَة محاولات ضخمة متواصلة لترميمه وتحديثه تشرف عَلَيْهَا هيئات رسمية كبرى ويغذوها المستشرقون بِمَا ينبشونه من تراثه وَيخرجُونَ من مخطوطاته. وَلِهَذَا وَجب على كل قَادر أَن يبين لأمته الْحق وَينْصَح لَهَا مهما لَقِي, فإنّ مِمَّا كَانَ يُبَايع عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه النصح لكل مُسلم وَأَن يَقُولُوا الْحق لَا تأخذهم فِيهِ لومة لائم.

أما فَضِيلَة الشَّيْخ الفوزان فقد أحسن إِلَى (الْمُجْتَمع) وقرَّائها بِتِلْكَ الْمقَالة الْقيمَة، فقد عرض فِيهَا - على قصرهَا - حقائق أصولية مركزة فِي أسلوب علمي رصين. وَله الْعذر كل الْعذر؛ إِذا لم يسْتَوْف الرَّد على الصَّابُونِي وَبَيَان التناقضات الَّتِي هِيَ سمة من سمات الْمنْهَج الْأَشْعَرِيّ نَفسه؛ لِأَن الْمَوْضُوع أكبر من أَن تحيط بِهِ مقَالَة صحفية. وَلِهَذَا رَأَيْت من واجبي أَن أضيف إِلَى مَا كتبه فضيلته مستدركاً مَا لا يجوز تَأْجِيله إِلَى ظُهُور الرَّد المتكامل:- أَولا: فَاتَ فضيلته أَن يرد على الصَّابُونِي فِيمَا عزاهُ إِلَى شيخ الْإِسْلَام - مكرراً إِيَّاه - من قَوْله: "الأشعرية أنصار أصُول الدّين, وَالْعُلَمَاء أنصار فروع الدّين ". وَلَعَلَّ الشَّيْخ وثق فِي نقل الصَّابُونِي, مَعَ أَن الصَّابُونِي - على مَا أرجح - أول من يعلم بطلَان نِسْبَة هَذَا الْكَلَام لشيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية، ولغة الْعبارَة نَفسهَا لَيست من أسلوب شيخ الْإِسْلَام، والغريب حَقًا أَنه أعَاد هَذَا الْعزو فِي بَيَانه الْأَخير بِالْعدَدِ 646 مؤكداً إصراره على التمويه والتدليس.

وَأَنا أطلب من كل قَارِئ أَن يُرَاجع النَّص فِي ج4 ص 16 من مَجْمُوع الْفَتَاوَى ليجد بِنَفسِهِ قبل تِلْكَ الْعبارَة نَفسهَا كلمة (قَالَ) فَالْكَلَام محكي مَنْقُول وقائله هُوَ الْمَذْكُور فِي أول الْكَلَام - آخر سطر من ص 15 - حَيْثُ يَقُول شيخ الْإِسْلَام: "وَكَذَلِكَ رَأَيْت فِي فَتَاوَى الْفَقِيه أبي مُحَمَّد فَتْوَى طَوِيلَة ... قَالَ فِيهَا: " إِلَى أَن يَقُول: "قَالَ: وَأما لعن الْعلمَاء الْأَئِمَّة الأشعرية فَمن لعنهم عزّر وعادت اللَّعْنَة عَلَيْهِ ... وَالْعُلَمَاء أنصار فروع الدّين والأشعرية أنصار أصُول الدّين. "قَالَ: وَأما دُخُولهمْ النَّار ... " الخ وفى آخر هَذِه الْفَتْوَى نَفسهَا يَقُول شيخ الْإِسْلَام (ص 158 - (159)، وَانْظُر أَيْضا 156). "وَأَيْضًا فَيُقَال هَؤُلَاءِ الْجَهْمِية الكلامية كصاحب هَذَا الْكَلَام أبي مُحَمَّد وَأَمْثَاله كَيفَ تدعون طَريقَة السّلف وَغَايَة مَا عِنْد السّلف أَن يَكُونُوا متابعين لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟).

وبهذا يتضح قطعا

إِلَى أَن يَقُول "وَأَبُو مُحَمَّد وَأَمْثَاله قد سلكوا مَسْلَك الْمَلَاحِدَة الَّذين يَقُولُونَ إِن الرَّسُول لم يبيّن الْحق فِي بَاب التَّوْحِيد" (¬1). الخ. وَبِهَذَا يَتَّضِح قطعا: أ- أَن الْعبارَة الْمَذْكُورَة لَيست من قَول شيخ الْإِسْلَام بل قَائِلهَا أشعري يمدح مذْهبه (¬2). ب- أَن شيخ الْإِسْلَام نسب هَذَا الْقَائِل ومذهبه إِلَى الْجَهْمِية الْكلابِيَّة وَاتِّبَاع طَريقَة الْمَلَاحِدَة وَأنكر عَلَيْهِم ادِّعَاء طَريقَة السّلف وَهَذَا ينفى مَا حاول الصَّابُونِي تدليسه فِي مقالاته السِّت تَمامًا. وبالمناسبة أذكر بعض مَا يحضرني من الْكتب الَّتِي ألفها شيخ الْإِسْلَام فِي الرَّد على الأشاعرة نصا غير الَّتِي رد ¬

(¬1) وَانْظُر أَيْضا ص 156من الْجُزْء نَفسه. وَهَذَا الْكَلَام الْمَنْقُول من ص 158 لابد أَن الصَّابُونِي قَرَأَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتشْهد بِكَلَام بعده فِي ص 167 من الْفَتْوَى. (¬2) قَائِلهَا هُوَ أَبُو مُحَمَّد الجوينى وَالِد أَبُو الْمَعَالِي (توفى440) وَقد رَجَعَ فِي آخر عمره إِلَى عقيدة السّلف وَشهد لَهُ بذلك شيخ الْإِسْلَام فِي مَوَاضِع، وَكتب فِي تَوْبَته "النَّصِيحَة" المطبوعة مَعَ الْمَجْمُوعَة المنيرية وطبعها الْمكتب الإسلامي معزوة إِلَى ابْن شيخ الحزاميين وَهُوَ خطأ. ومناسبة فتواه هَذِه هِيَ صُدُور مراسيم سلطانية بلعن أَصْحَاب الْبدع - وَمِنْهُم االأشاعرة - على المنابر، انْظُر المنتظم لِابْنِ الْجَوْزِيّ حوادث سنة 433 وَمَا بعْدهَا.

عَلَيْهِم فِيهَا مَعَ غَيرهم:- 1 - دَرْء تعَارض الْعقل وَالنَّقْل وَهُوَ كُله رد عَلَيْهِم بِالْأَصَالَةِ كَمَا نَص فِي مقدمته, حَيْثُ استفتحه بِذكر قانونهم الْكُلِّي الْآتِي فِي ص (12). 2 - بَيَان تلبيس الْجَهْمِية الْمُسَمّى نقض التأسيس، رد فِيهِ على إمَامهمْ الثَّانِي "الْفَخر الرَّازِيّ", صَاحب تأسيس التَّقْدِيس أَو أساس التَّقْدِيس. 3 - التسعينية وَهِي الَّتِي كتبهَا فِي الْأَشْهر الْأَخِيرَة من حَيَاته - رَحمَه الله- جَوَابا عَن محاكمة الأشاعرة لَهُ (¬1). 4 - شرح العقيدة الأصفهانية وهى شرح لعقيدة الشَّمْس الْأَصْفَهَانِي الَّتِي جرى فِيهَا على أصُول الأشاعرة. 5 - الْفَتْوَى الحموية: مَعْرُوفَة. 6 - الرسَالَة المدنية: وهى فِي الْجُزْء (6) من مَجْمُوع الْفَتَاوَى. 7 - النبوات: وَهُوَ نقض لكَلَام الباقلاني خَاصَّة والأشاعرة عَامَّة فِي النبوات. ¬

(¬1) وَهِي أول رِسَالَة فِي المجلد الْخَامِس من الفتاوي الْكُبْرَى (الطبعة الطَّوِيلَة) وَهِي تَشْمَل الْجُزْء الْخَامِس كُله من الطبعة الَّتِي قدم لَهَا مخلوف، وَسمعت أَنَّهَا تحقق بجامعة الإِمَام عَام وهى جديرة بالعناية.

8 - الْإِيمَان: وَهُوَ نقد للأشاعرة فِي الْإِيمَان وَذكر بَقِيَّة المرجئة تبعا. 9 - الْقَاعِدَة المراكشية: وهى كالبيان لمَذْهَب الإِمَام مَالك وأئمة الْمَالِكِيَّة فِي العقيدة ضد الْمُتَأَخِّرين من مالكية المغاربة المائلين إِلَى مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ، وهى فِي الْجُزْء الْخَامِس من مَجْمُوع الْفَتَاوَى وطبعت مُحَققَة. 15 - المناظرة فِي العقيدة الواسطية: ألفها فِي محاكمة الأشاعرة لَهُ بِسَبَب الواسطية وَهِي فِي الْجُزْء الثَّالِث من مَجْمُوع الْفَتَاوَى. 11 - الاسْتقَامَة: كتبه نقضا لكتاب الْقشيرِي الصُّوفِي الْأَشْعَرِيّ وَبَين فِيهِ أَن عقيدة أَئِمَّة السلوك المعتبرين هِيَ مَذْهَب السّلف وَأَن بداية الانحراف فِي العقيدة عِنْد المنتسبين للتصوف فِي الْجُمْلَة إِنَّمَا جَاءَت مُتَأَخِّرَة فِي أَوَائِل الْقرن الْخَامِس حِين انْتَشَر مَذْهَب الأشعرى. ولتلميذه ابْن الْقيم- رَحمَه الله - فِي الرَّد على الأشاعرة كتب مِنْهَا:- 1_ مُخْتَصر الصَّوَاعِق الْمُرْسلَة ناقش فِيهِ أصولهم وَمِنْهَا موقفهم من النُّصُوص. 2_ شِفَاء العليل: معظمه عَنْهُم. 3_ العقيدة النونية: معظمها عَنْهُم.

4 - إجتماع الجيوش الإِسلامية: كُله رد على مَذْهَبهم خُصُوصا فِي نفي الْعُلُوّ. هَذَا وَلم يصدر من شيخ الْإِسْلَام مدح مُطلق للأشاعرة أبدا وَإِنَّمَا غَايَة مدحه لَهُم (كَمَا فِي ج (12) من الْفَتَاوَى) أَن يصفهم بِأَنَّهُم أقرب من غَيرهم وَأَن مَذْهَبهم مركب من الْوَحْي والفلسفة, أَو يمدح المشتغلين مِنْهُم بِالْحَدِيثِ لَا لكَوْنهم أشاعرة وَلَكِن لاشتغالهم بِالسنةِ مَعَ سُؤال الْمَغْفِرَة لَهُم فِيمَا وافقوا فِيهِ متكلمي مَذْهَبهم. لَكِن هَذَا أقل بِكَثِير من الْمَوَاضِع الَّتِي صرح فِيهَا بتبديعهم وتضليلبهم، وَفَسَاد منهجهم فَهِيَ أَكثر من أَن تحصر. كَمَا أَنه حدد- رَحمَه الله - مَتى يعد المنتسب إِلَى الْأَشْعَرِيّ من أهل السّنة فَقَالَ: "أما من قَالَ مِنْهُم بِكِتَاب الْإِبَانَة الَّذِي صنفه الْأَشْعَرِيّ فِي آخر عمره وَلم يظْهر مقَالَة تنَاقض ذَلِك فَهَذَا يعد من أهل السنَة، لَكِن مُجَرّد الانتساب إِلَى الْأَشْعَرِيّ بِدعَة لاسيما لِأَنَّهُ بذلك يُوهم حسنا لكل من انتسب هَذِه النِّسْبَة وينفتح بذلك أَبْوَاب شَرّ" (¬1) ... أَي أَن من كَانَ على عقيدة السّلف مِنْهُم لَا يَنْبَغِي لَهُ الانتساب للأشعري لِأَنَّهُ بِدعَة ومذمة. ¬

(¬1) مَجْمُوع الْفَتَاوَى: 6/ 359.

ثَانِيًا: أحسن الشَّيْخ فِي مُطَالبَة الصَّابُونِي بِأَيّ دَلِيل صَحِيح على مَسْأَلَة تَكْفِير الأشاعرة، ويضاف إِلَى كَلَام فضيلته: إِن الْحَاصِل فعلا هُوَ الْعَكْس فالأشاعرة هم الَّذين كفّروا وَلَا يزالون يكفّرون أَتبَاع السّلف بل كفّروا كل من قَالَ: "إِن الله تَعَالَى مَوْصُوف بالعلو"- كَمَا سَيَأْتِي هُنَا - وحسبك تكفيرهم واضطهادهم لشيخ الْإِسْلَام وَهُوَ مَا لم يَفْعَله أهل السّنة بعالم أشعري قطّ. وَقد سطر- رَحمَه الله- بعض جَوْرهمْ عَلَيْهِ فِي أول التسعينية وَصرح بِهِ كل من كتب عَن سيرته. وَلَوْلَا الإطالة لأوردت بعض مَا تصرح بِهِ كتب عقيدتهم من اتهامه بالزندقة وَالْكفْر والضلال. وَمن الْأَمْثِلَة المعاصرة كتب الكوثري ومقالاته وَكتاب "بَرَاءَة الْأَشْعَرِيين" وَكتاب "ابْن تَيْمِية لَيْسَ سلفياً" وَبَعض مَا فِي كتاب "أَرْكَان الْإِيمَان" (¬1) ¬

(¬1) وَانْظُر عَن القدامى: الرَّد الوافر على من زعم أَن ابْن تَيْمِية شيح الْإِسْلَام كَافِر، وَكتاب الحصني: دفع شُبْهَة من شبّه وتمرّد. وللعلم فبعض هَذِه الْكتب المعاصرة باسم مستعار، وَمِمَّنْ اعْترف بموقفهم من شيخ الْإِسْلَام الشَّيْخ مُحَمَّد أَبُو زهرَة فِي كِتَابه ابْن تَيْمِية (ص 56) , وَمن ذَلِك قَول صَاحب حَوَاشِي على شرح الْكُبْرَى للسنوسي قَوْله:" ابْن تَيْمِية … أَي الْحَنْبَلِيّ الْمَشْهُور زنديق وبغضه للدّين وَأَهله لَا يخفى" (ص 62) وَانْظُر فِي كتاب وهبى غاوجبى أَرْكَان الْإِيمَان (ص 297 ـ 299).

فيا عجبا لهَؤُلَاء الْقَوْم يكفّرونه ثمَّ يدّعون أَنهم وإياه على مَذْهَب وَاحِد ويشملهم جَمِيعًا اسْم "السّنة وَالْجَمَاعَة"!! , وَإِذا كَانَت كتب الأشاعرة تتبرأ من "الحشوية والمجسمة والنابتة" وَغير ذَلِك مِمَّا يلقبون بِهِ أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فَكيف يكونُونَ وهم سَوَاء!!. ثَالِثا: كَانَ بودي أَن يفصّل الشَّيْخ معنى مصطلح أهل السّنة وَدخُول الأشاعرة فِيهِ أَو عَدمه, وَهِي الَّتِي يدندن حولهَا الصَّابُونِي، وَأَنا أوجزه جدا فَأَقُول: إِن مصطلح أهل السّنة وَالْجَمَاعَة يُطلق وَيُرَاد بِهِ مَعْنيانِ: أ_ الْمَعْنى الْأَعَمّ: وَهُوَ مَا يُقَابل الشِّيعَة فَيُقَال: "المنتسبون لِلْإِسْلَامِ قِسْمَانِ: أهل السّنة والشيعة"، مِثْلَمَا عنون شيخ الْإِسْلَام كِتَابه فِي الرَّد على الرافضي "منهاج السّنة", وَفِيه بيّن هذَيْن الْمَعْنيين (¬1) وَصرح أَن مَا ذهبت إِلَيْهِ الطوائف المبتدعة من أهل السّنة بِالْمَعْنَى الْأَخَص. ¬

(¬1) ج 2 ص 163 تَحْقِيق مُحَمَّد رشاد سَالم.

وَهَذَا الْمَعْنى يدْخل فِيهِ كل من سوى الشِّيعَة كالأشاعرة, لاسيما والأشاعرة فِيمَا يتَعَلَّق بموضوع الصَّحَابَة وَالْخُلَفَاء متفقون مَعَ أهل السّنة وهى نقطة الِاتِّفَاق المنهجية الوحيدة كَمَا سَيَأْتِي. ب_ الْمَعْنى الْأَخَص: وَهُوَ مَا يُقَابل المبتدعة وَأهل الْأَهْوَاء وَهُوَ الْأَكْثَر اسْتِعْمَالا وَعَلِيهِ كتب الْجرْح وَالتَّعْدِيل فَإِذا قَالُوا عَن الرجل أَنه صَاحب سنة أَو كَانَ سنياً أومن أهل السّنة وَنَحْوهَا فَالْمُرَاد أَنه لَيْسَ من إِحْدَى الطوائف البدعية كالخوارج والمعتزلة والشيعة وَلَيْسَ صَاحب كَلَام وَهوى. وَهَذَا الْمَعْنى لَا يدْخل فِيهِ الأشاعرة أبدا بل هم خارجون عَنهُ, وَقد نَص الإِمَام أَحْمد وَابْن الْمَدِينِيّ على أَن من خَاضَ فِي شَيْء من علم الْكَلَام لَا يعْتَبر من أهل السّنة وَإِن أصَاب بِكَلَامِهِ السّنة حَتَّى يدع الجدلي وَيسلم للنصوص، فَلم يشترطوا مُوَافقَة السّنة فَحسب بل التلقي والاستمداد مِنْهَا (¬1) فَمن تلقى من السّنة فَهُوَ من أَهلهَا وَإِن أَخطَأ, وَمن تلقى من غَيرهَا فقد أَخطَأ وَإِن وافقها فِي النتيجة. ¬

(¬1) انْظُر شرح أصُول اعْتِقَاد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، اللالكائي، تَحْقِيق الْأَخ أَحْمد بن سعد بن حمدَان 1/ 157 - 165.

والأشاعرة- كَمَا سترى - تلقوا وَاسْتَمَدُّوا من غير السّنة وَلم يوافقوها فِي النتائج فَكيف يكون من أَهلهَا. وسنأتي بحكمهم عِنْد أَئِمَّة الْمذَاهب الْأَرْبَعَة من الْفُقَهَاء فَمَا بالك بأئمة الْجرْح وَالتَّعْدِيل من أَصْحَاب الحَدِيث:- ا- عِنْد الْمَالِكِيَّة: روى حَافظ الْمغرب وَعلمهَا الْفَذ ابْن عبد الْبر بِسَنَدِهِ عَن فَقِيه الْمَالِكِيَّة بالمشرق ابْن خويز منداذ أَنه قَالَ فِي كتاب الشَّهَادَات شرحاً لقَوْل مَالك: "لَا تجوز شَهَادَة أهل الْبدع والأهواء"، وَقَالَ: "أهل الْأَهْوَاء عِنْد مَالك وَسَائِر أَصْحَابنَا هم أهل الْكَلَام, فَكل مُتَكَلم فَهُوَ من أهل الْأَهْوَاء والبدع أشعرياً كَانَ أَو غير أشعري, وَلَا تقبل لَهُ شَهَادَة فِي الْإِسْلَام أبدا ويهجر ويؤدب على بدعته فَإِن تَمَادى عَلَيْهَا استتيب مِنْهَا" (¬1). وروى ابْن عبد الْبر نَفسه فِي "الانتقاء" عَن الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة "مَالك وأبى حنيفَة وَالشَّافِعِيّ" نهيهم عَن الْكَلَام وزجر ¬

(¬1) جَامع بَيَان الْعلم وفضله 17/ 12 تَحْقِيق عُثْمَان مُحَمَّد عُثْمَان، وَهُوَ فِي 2/ 96 سنّ الطبعة المنيرية.

أَصْحَابه وتبديعهم وتعزيرهم, وَمثله ابْن الْقيم فِي اجْتِمَاع الجيوش الإسلامية فَمَاذَا يكون الأشاعرة إِن لم يَكُونُوا أَصْحَاب كَلَام؟. 2 - عِنْد الشَّافِعِيَّة: قَالَ الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس بن سُرَيج الملقب بالشافعي الثَّانِي وَقد كَانَ معاصرا للأشعري: "لَا نقُول بِتَأْوِيل الْمُعْتَزلَة والأشعرية والجهمية والملحدة والمجسمة والمشبهة والكرامية والمكيفة بل نقبلها بِلَا تَأْوِيل, ونؤمن بهَا بِلَا تَمْثِيل" (¬1). قَالَ الإِمَام أَبُو الْحسن الكرجى من عُلَمَاء الْقرن الْخَامِس الشَّافِعِيَّة مَا نَصه: "لم يزل الْأَئِمَّة الشَّافِعِيَّة يأنفون ويستنكفون أَن ينسبوا إِلَى الْأَشْعَرِيّ ويتبرَّءون مِمَّا بنى الْأَشْعَرِيّ مذْهبه عَلَيْهِ وَينْهَوْنَ أَصْحَابهم وأحبابهم عَن الحوم حواليه على مَا سَمِعت من عدَّة من الْمَشَايِخ وَالْأَئِمَّة، وَضرب مِثَالا بشيخ الشَّافِعِيَّة فِي عصره الإِمَام أَبُو حَامِد الاسفرائيني الملقب "الشَّافِعِي الثَّالِث" قَائِلا: ¬

(¬1) توفّي ابْن سُرَيج سنة 306, انْظُر تَارِيخ بَغْدَاد 4/ 290, وسير أَعْلَام النبلاء14/ 201, وَالظَّاهِر أَنه توفّي قبل رُجُوع الْأَشْعَرِيّ لمَذْهَب السّلف، والأشعري توفّي 324 أَو 330 على قَوْلَيْنِ. وَانْظُر عقيدة ابْن سُرَيج فِي اجْتِمَاع الجيوش الإسلامية 62.

"وَمَعْلُوم شدَّة الشَّيْخ على أَصْحَاب الْكَلَام حَتَّى ميز أصُول فقه الشَّافِعِي من أُصُوله الْأَشْعَرِيّ، وعلق عَنهُ أَبُو بكر الراذقاني وَهُوَ عِنْدِي، وَبِه اقْتدى الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي كِتَابيه اللمع والتبصرة حَتَّى لَو وَافق قَول الْأَشْعَرِيّ وَجها لِأَصْحَابِنَا ميزّه وَقَالَ: "هُوَ قَول بعض أَصْحَابنَا وَبِه قَالَت الأشعرية وَلم يعدهم من أَصْحَاب الشَّافِعِي، استنكفوا مِنْهُم وَمن مَذْهَبهم فِي أصُول الْفِقْه فضلا عَن أصُول الدّين" (¬1) اهـ. وَبِنَحْوِ قَوْله بل أَشد مِنْهُ قَالَ شيخ الْإِسْلَام الْهَرَوِيّ الْأنْصَارِيّ (¬2). 3 - الْحَنَفِيَّة: مَعْلُوم أَن وَاضع الطحاوية وشارحها كِلَاهُمَا حنفيان، وَكَانَ الإِمَام الطَّحَاوِيّ معاصراً للأشعري ¬

(¬1) التسعينية: 238 - 239 وَانْظُر شرح الأصفهانية: 31 من ج 5 من الْفَتَاوَى الْكُبْرَى نَفسهَا, وَانْظُر عَن الكرجي وعقيدته: إجتماع الجيوش الإسلامية ومختصر الْعُلُوّ, وَله تَرْجَمَة فِي طَبَقَات الشَّافِعِيَّة لِابْنِ السُّبْكِيّ وطبقات الشَّافِعِيَّة لِابْنِ كثير. (¬2) يُلَاحظ أَن كلا من الشَّافِعِيَّة والحنابلة يدّعى الْهَرَوِيّ لمذهبهم, ورجّح شيخ الْإِسْلَام أَنه يَأْخُذ من كليهمَا وَيتبع الْأَثر. انْظُر (شيخ الْإِسْلَام عبد الله الْهَرَوِيّ ص96) , وَقَوله فيهم نَقله فِي التسعينية: 277 عَن كتاب ذمّ الْكَلَام وَهُوَ يُحَقّق بجامعة الإِمَام كَمَا قَرَأت. وَانْظُر أَيْضا عَن موقف الشَّافِعِيَّة دَرْء التَّعَارُض 2/ 106.

وَكتب هَذِه العقيدة لبَيَان مُعْتَقد الإِمَام أبي حنيفَة وَأَصْحَابه, وَهِي مشابهة لما فِي الْفِقْه الْأَكْبَر عَنهُ, وَقد نقلوا عَن الإِمَام أَنه صرح بِكفْر من قَالَ: "إِن الله لَيْسَ على الْعَرْش" أَو توقف فِيهِ، وتلميذه أَبُو يُوسُف كفّر بِشراً المرِيسي، وَمَعْلُوم أَن الأشاعرة ينفون الْعُلُوّ وَيُنْكِرُونَ كَونه تَعَالَى على الْعَرْش, وَمَعْلُوم أَيْضا أَن أصولهم مستمدة من بشر المريسي!! (¬1). 4 - الْحَنَابِلَة: موقف الْحَنَابِلَة من الأشاعرة أشهر من أَن يذكر فمنذ بدّع الإِمَام أَحْمد (ابْن كلاب) وَأمر بهجره - وَهُوَ المؤسس الْحَقِيقِيّ للْمَذْهَب الْأَشْعَرِيّ- لم يزل الحناَبلة مَعَهم فِي معركة طَوِيلَة، وَحَتَّى فِي أَيَّام دولة نظام الْملك- الَّتِي استطالوا فِيهَا - وَبعدهَا كَانَ الْحَنَابِلَة يخرجُون من بَغْدَاد كل واعظ يخلِّط قصصه بِشَيْء من مَذْهَب الأشاعرة، وَلم يكن ابْن الْقشيرِي إِلَّا وَاحِدًا مِمَّن تعرض لذَلِك، وبسبب انتشار مَذْهَبهم وَإِجْمَاع عُلَمَاء الدولة سِيمَا الْحَنَابِلَة على محاربته أصدر الْخَلِيفَة الْقَادِر منشور (الِاعْتِقَاد القادري) أوضح فِيهِ العقيدة الْوَاجِب على الْأمة اعتقادها ¬

(¬1) انْظُر غير مَا ذكر سير أَعْلَام النبلاء تَرْجَمَة بشر 10/ 200 - 201، والحموية: 14 - 15 طبعة قصى الْخَطِيب.

سنة 433 هـ (¬1) وكذلك يفعل أتباعهم في عصرنا هذا بمليء خطبهم الحماسية أو مواعظهم وقصصهم وما يسمونه بالكتب الفكرية لثقة قرائهم- من الشباب المتحمس-العمياء بهم ولجهل أكثر هؤلاء الشباب بعقيدتهم الصحيحة التي كان عليها سلفهم الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان. هَذَا وَلَيْسَ ذمّ الأشاعرة وتبديعهم خَاص بأئمة الْمذَاهب المعتبرين بل هُوَ مَنْقُول أَيْضا عَن أَئِمَّة السلوك الَّذين كَانُوا أقرب إِلَى السّنة وَاتِّبَاع السّلف، فقد نقل شيخ الْإِسْلَام فِي الاسْتقَامَة كثيرا من أَقْوَالهم فِي ذَلِك وَأَنَّهُمْ يعتبرون مُوَافقَة عقيدة الأشعرية منافيا لسلوك طَرِيق الْولَايَة والاستقامة حَتَّى أَن عبد الْقَادِر الجيلاني، لما سُئِلَ "هَل كَانَ لله ولي على غير اعْتِقَاد أَحْمد بن حَنْبَل؟. قَالَ: مَا كَانَ وَلَا يكون" (¬2). فَهَذَا موجز مُخْتَصر جدا لحكم الأشاعرة فِي الْمذَاهب الْأَرْبَعَة, فَمَا ظَنك بِحكم رجال الْجرْح وَالتَّعْدِيل مِمَّن يعلم أَن ¬

(¬1) انْظُر المنتظم لِابْنِ الْجَوْزِيّ أَحْدَاث سنة: 433، 469، 475، وَغَيرهَا ج8 وَج9. (¬2) ص81 - 89 و105 ـ 109.

مَذْهَب الأشاعرة هُوَ رد خبر الْآحَاد جملَة وأنّ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَحَادِيث مَوْضُوعَة أدخلها الزَّنَادِقَة ... وَغَيرهَا من الْعَوام, وَانْظُر إِن شِئْت تَرْجَمَة إمَامهمْ الْمُتَأَخر الْفَخر الرَّازِيّ فِي الْمِيزَان ولسان الْمِيزَان. فَالْحكم الصَّحِيح فِي الأشاعرة أَنهم من أهل الْقبْلَة لاشك فِي ذَلِك, أما أَنهم من أهل السّنة فَلَا, وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِك فِي الموضوعات التالية: وَهَاهُنَا حَقِيقَة كبرى أثبتها عُلَمَاء الأشعرية الْكِبَار بِأَنْفسِهِم -كالجويني وَابْنه أبي الْمَعَالِي والرازي وَالْغَزالِيّ وَغَيرهم- وَهِي حَقِيقَة إعلان حيرتهم وتوبتهم ورجوعهم إِلَى مَذْهَب السّلف، وَكتب الأشعرية المتعصبة مثل طَبَقَات الشَّافِعِيَّة أوردت ذَلِك فِي تراجمهم أَو بعضه فِي دلَالَة ذَلِك؟. إِذا كَانُوا من أصلهم على عقيدة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فَعَن أَي شئ رجعُوا؟ ولماذا رجعُوا؟ وَإِلَى أيّ عقيدة رجعُوا؟. رَابِعا: دَعْوَى الأشاعرة أَن أَكثر أَئِمَّة الْمُسلمين على مَذْهَبهم دَعْوَى عَارِية عَن الدَّلِيل يكذبها الْوَاقِع التاريخي، وَكتب الأشاعرة نَفسهَا عِنْد تَعْرِيف مذهبي السّلف وَالْخلف

تَقول: "إِن مَذْهَب السّلف هُوَ مَذْهَب الْقُرُون الثَّلَاثَة", وَبَعضهَا يَقُول: "إِنَّه مَذْهَب الْقُرُون الْخَمْسَة" (¬1) , فَمَاذَا بَقِي بعد هَذِه الْقُرُون؟ وَصَدقُوا فالثابت تاريخيا أَن مَذْهَب الأشاعرة لم ينتشر إِلَّا فِي الْقرن الْخَامِس إِثْر انتشار كتب الباقلاني (¬2). وَلَوْلَا ضيق المجال لسردت قَائِمَة متوازنة أذكر فِيهَا كبار الأشاعرة وَمن عاصرهم من كبار أهل السّنة وَالْجَمَاعَة الَّذين يفوقون أُولَئِكَ عددا وعلماً وفضلاً، وحسبك مَا جمعه ابْن الْقيم فِي اجْتِمَاع الجيوش الإسلامية, والذهبي فِي الْعُلُوّ, وقبلهما اللالكائي. أما عوام الْمُسلمين فَالْأَصْل فيهم أَنهم على عقيدة السّلف؛ لِأَنَّهَا الْفطْرَة الَّتِي يُولد عَلَيْهَا الْإِنْسَان وينشأ عَلَيْهَا الْمُسلم بِلَا تلقين وَلَا تَعْلِيم (من حَيْثُ الأَصْل) , فَكل من لم يلقِّنْهُ المبتدعة بدعتَهم ويدرِّسوه كتبهمْ فَلَيْسَ من حق أيّ فرقة أَن تدَّعيه إِلَّا أهل السّنة وَالْجَمَاعَة. ¬

(¬1) وَمِنْهَا شرح الباجوري - أَو البيجوري - على الْجَوْهَرَة 1/ 82، طبعة مُحَمَّد عَليّ صبيح. (¬2) انْظُر الاسْتقَامَة:105 وَتبين كذب المفتري ابْن عَسَاكِر410 بتحقيق الكوثري.

وَمن الْأَدِلَّة على ذَلِك: الْإِنْسَان الَّذِي يدْخل فِي الْإِسْلَام حَدِيثا، فَهَل تَسْتَطِيع أيّ فرقة أَن تَقول إِنَّه معتزلي أَو أشعري؟ أمّا نَحن فبمجرَّد إِسْلَامه يصبح وَاحِدًا منا. وَإِن شِئْت الْمِثَال على عقيدة الْعَوام فاسأل الملايين من الْمُسلمين شرقا وغربا هَل فيهم من يعْتَقد أَن الله لَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا فَوْقه وَلَا تَحْتَهُ كَمَا تَقول الأشاعرة. أم أَنهم كلهم مفطورون على أَنه تَعَالَى فَوق الْمَخْلُوقَات، وَهَذِه الْفطْرَة تظل ثَابِتَة فِي قُلُوبهم حَتَّى وان وجدوا من يُلقِّنهم فِي أذهانهم تِلْكَ المقولة الموروثة عَن فلاسفة اليونان (¬1). وَقس على هَذَا نظرية الْكسْب وَالْكَلَام النَّفْسِيّ وَنفي التَّأْثِير وأشباهها مِمَّا سترى فِي عقائد الأشاعرة على أَن الْمَوْضُوع ¬

(¬1) بل إِن متكلِّمي الأشاعرة الَّذين ينفون الْعُلُوّ بِكُل جرْأَة ويستندون إِلَى شُبُهَات كَثِيرَة، تَجِد فِي خبايا كَلَامهم إِقْرَارا بِهِ دون أَن يشعروا؛ لِأَن مغالبة الْفطْرَة من أصعب الْأُمُور, فالرازي مثلا - مَعَ إِنْكَاره الشَّديد للعلو فِي (التأسيس وَالتَّفْسِير) قَالَ فِي التَّفْسِير: "إنّ الله خسف بقارون فَجعل الأَرْض فَوْقه وَرفع مُحَمَّدًا - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَجعله قاب قوسين تَحْتَهُ". 1/ 248. ط: بيروت.

الَّذِي يجب التَّنْبِيه إِلَيْهِ هُوَ التَّفْرِيق بَين متكلمي الأشاعرة كالرازى والآمدي والشهرستاني والبغدادي والإيجي وَنَحْوهم, وَبَين من تأثر بمذهبهم عَن حسن نِيَّة واجتهاد أَو مُتَابعَة خاطئة أَو جهل بِعلم الْكَلَام أَو لاعْتِقَاده أَنه لَا تعَارض بَين مَا أَخذ مِنْهُم وَبَين النُّصُوص, وَمن هَذَا الْقسم أَكثر الأفاضل الَّذين يحْتَج بذكرهم الصَّابُونِي وَغَيره وعَلى رَأْسهمْ الْحَافِظ ابْن حجر- رَحمَه الله -. وَلست أَشك أَن الْمَوْضُوع يحْتَاج لبسط وإيضاح وَمَعَ هَذَا فإنني أقدِّم للقراء لمحة موجزة عَن موقف ابْن حجر من الأشاعرة: ومن المعلوم أن إمام الأشعرية المتأخر الذي ضبط المذهب وقئَد أصوله هو الفخر الرازي (ت 606 هـ) ثم خلفه الأمدي (631 هـ) والآرموي (682 هـ) فننثرا فكره في الشام ومصر واستوفيا بعض القضايا في المذهب (وفكر هؤلاء الثلاثة هو الذي كان الموضوع الرئيسي في كتاب درء التعارضِ) وأعقبهم الأيجي صاحب المواقف (الذي كان معاصرا لشيخ الإسلام ابن تيمية) فألف "المواقف" الذي هو تقنين وتنظيم لفكر الرازي ومدرسته، وهذا الكتاب هو عمدة المذهب قديما، وحديثا.

وَقد ترْجم الْحَافِظ الذَّهَبِيّ- رَحمَه الله - فِي الْمِيزَان وَغَيره للرازي والآمدي بِمَا هم أَهله، ثمَّ جَاءَ ابْن السُّبْكِيّ- ذَلِك الْأَشْعَرِيّ المتعصب - فتعقّبه وعنّف عَلَيْهِ ظلما. ثمَّ جَاءَ ابْن حجر- رَحمَه الله - فألف لِسَان الْمِيزَان فترجم لَهما بطبيعة الْحَال- نَاقِلا كَلَام ابْن السُّبْكِيّ ونقده للذهبي (¬1) - وَلم يكن يخفى عَلَيْهِ مكانتهما وإمامتهما فِي الْمَذْهَب كَمَا ذكر طرفا من شنائع الأرموي ضمن تَرْجَمَة الرَّازِيّ. فَإِذا كَانَ موقف ابْن حجر لِأَن موقفه هُوَ الَّذِي يحدد انتماءه لفكر هَؤُلَاءِ الْقَوْم أَو عَدمه؟ إِن الَّذِي يقْرَأ ترجمتيهما فِي اللِّسَان لَا يُمكن أَن يَقُول إِن ابْن حجر على مذهبهِما أبدا, كَيفَ وَقد أورد نقولاً كَثِيرَة موثقة عَن ضلالهما وشنائعهما الَّتِي لَا يقرها أيّ مُسلم فضلا عمّن هُوَ فِي علم الْحَافِظ وفضله؟. على أَنه قَالَ فِي آخر تَرْجَمَة الرَّازِيّ "أوصى بِوَصِيَّة تدل على أَنه حسّن اعْتِقَاده". وَهَذِه الْعبارَة الَّتِي قد يفهم مِنْهَا أَنَّهَا متعاطفة مَعَ الرَّازِيّ ضد مهاجميه هِيَ شَاهد لما نقُول نَحن هُنَا, فَإِن وَصِيَّة ¬

(¬1) تَرْجَمَة الرَّازِيّ: 4/ 426, والآمدي: 6/ 134.

الرَّازِيّ الَّتِي نقلهَا ابْن السُّبْكِيّ نَفسه صَرِيحَة فِي رُجُوعه إِلَى مَذْهَب السّلف. فَبعد هَذَا نسْأَل: أَكَانَ ابْن حجر يعْتَقد أَو يُؤَيّد عقيدة الرَّازِيّ الَّتِي فِي كتبه أم عقيدته الَّتِي فِي وَصيته؟ الْإِجَابَة وَاضِحَة من عِبَارَته نَفسهَا. هَذِه وَاحِدَة. وَالْأُخْرَى: أَن الْحَافِظ فِي الْفَتْح قد نقد الأشاعرة باسمهم الصَّرِيح وَخَالفهُم فِيمَا هُوَ من خَصَائِص مَذْهَبهم فمثلاً خالفهم فِي الْإِيمَان، وَإِن كَانَ تَقْرِيره لمَذْهَب السّلف فِيهِ يحْتَاج لتحرير. ونقدهم فِي مَسْأَلَة الْمعرفَة وَأول واجَب على الْمُكَلف فِي أول كِتَابه وَآخره (¬1). كَمَا أَنه نقد شيخهم فِي التَّأْوِيل (ابْن فورك) فِي تأويلاته الَّتِي نقلهَا عَنهُ فِي شرح كتاب التَّوْحِيد من الْفَتْح, وذم التَّأْوِيل والمنطق مرجحا مَنْهَج الثَّلَاثَة الْقُرُون الأولى, كَمَا أَنه يخالفهم فِي الِاحْتِجَاج بِحَدِيث الْآحَاد فِي العقيدة (¬2) , ¬

(¬1) انْظُر فتح الْبَارِي: 1/ 46، 3/ 357 - 361, 13/ 347 - 350. (¬2) انْظُر فتح الْبَارِي 1/ 46، 3/ 357 - 361، 13/ 347 - 350

وَغَيرهَا من الْأُمُور الَّتِي لَا مجَال لتفصيلها هُنَا. وَالَّذِي أرَاهُ أَن الْحَافِظ - رَحمَه الله - أقرب شَيْء إِلَى عقيدة مفوِّضة الْحَنَابِلَة كَأبي يعلى وَنَحْوه مِمَّن ذكرهم شيخ الْإِسْلَام فِي دَرْء تعَارض الْعقل وَالنَّقْل (¬1) ووصفهم بمحبة الْآثَار والتمسك بهَا لكِنهمْ وافقوا بَعض أصُول الْمُتَكَلِّمين وتابعوهم ظانِّين صِحَّتهَا عَن حسن نِيَّة. وَقد كَانَ من الْحَنَابِلَة من ذهب إِلَى أبعد من هَذَا كَابْن الْجَوْزِيّ وَابْن عقيل وَابْن الزَّاغُونِيّ. وَمَعَ ذَلِك فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَعدَاء ألدَّاء للأشاعرة، وَلَا يجوز بِحَال أَن يعتبروا أشاعرة فَمَا بالك بأولئك. وَالظَّاهِر أَن سَبَب هَذَا الِاشْتِبَاه فِي نِسْبَة بعض الْعلمَاء للأشاعرة أَو أهل السّنة وَالْجَمَاعَة هُوَ أَن الأشاعرة فرقة كلامية انشقت عَن أَصْلهَا (الْمُعْتَزلَة) ووافقت السّلف فِي بعض القضايا وتأثرت بمنهج الْوَحْي، فِي حِين أَن بعض من ¬

(¬1) الْمصدر السَّابِق: 13/ 253، 259، 407, وَغَيرهَا كثير.

هم على مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فِي الأَصْل تأثروا بِسَبَب من الْأَسْبَاب بِأَهْل الْكَلَام فِي بعض القضايا وخالفوا فِيهَا مَذْهَب السّلف. فَإِذا نظر النَّاظر إِلَى الْمَوَاضِع الَّتِي يتَّفق فِيهَا هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء ظن أَن الطائفين على مَذْهَب وَاحِد. فَهَذَا التَّدَاخُل بَينهمَا هُوَ مصدر اللّبْس. وَكَثِيرًا مَا تَجِد فِي كتب الْجرْح وَالتَّعْدِيل- وَمِنْهَا لِسَان الْمِيزَان لِلْحَافِظِ ابْن حجر- قَوْلهم عَن الرجل أَنه وَافق الْمُعْتَزلَة فِي أَشْيَاء من مصنفاته أَو وَافق الْخَوَارِج فِي بعض أَقْوَالهم وَهَكَذَا وَمَعَ هَذَا لَا يعتبرونه معتزليا أَو خارجيا، وَهَذَا الْمنْهَج إِذا طبقناه على الْحَافِظ وعَلى النَّوَوِيّ وأمثالهما لم يَصح اعتبارهم أشاعرة وَإِنَّمَا يُقَال: "وافقوا الأشاعرة فِي أَشْيَاء"، مَعَ ضَرُورَة بَيَان هَذِه الْأَشْيَاء واستدراكاتها عَلَيْهِم حَتَّى يُمكن الاستفادة من كتبهمْ بِلَا توجس نما مَوْضُوعَات العقيدة (¬1). ¬

(¬1) وَقد رَأينَا فِي واقعنا المعاصر عُلَمَاء فضلاء وافقوا الاشتراكيين أَو الديمقراطيين أَو القوميين فِي أَشْيَاء للأسباب نَفسهَا. وَلم يعدهم أحد اشتراكيين أَو قوميين.

خَامِسًا: قَالَ فَضِيلَة الشَّيْخ الفوزان عَن الأشاعرة: "نعم هم من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فِي بَقِيَّة أَبْوَاب الْإِيمَان والعقيدة وَلَيْسوا مِنْهُم فِي بَاب الصِّفَات". وَهَذَا سبق قلم من فضيلته وَمثل هَذِه الدَّعْوَى هِيَ الَّتِي يهش لَهَا الأشاعرة المعاصرون ويروِّجونها؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْفَارِق هُوَ الصِّفَات فَقَط قَالُوا: إِن الْخلاف فِيهَا أَصله الِاجْتِهَاد وَالْكل يتفقون على التَّنْزِيه فَكَأَنَّهُ لَا خلاف إِذن ... وَرُبمَا قَالُوا: نَحن مستعدون أَن نثبت لله يدا وعيناً وَسَائِر الصِّفَات فِي سَبِيل تَوْحِيد الصَّفّ ووحدة الْكَلِمَة!!! وَليكن مَعْلُوما أَن ابْتِدَاء أَمر الأشاعرة أَنهم توسلوا إِلَى أهل السّنة أَن يكفوا عَن هجرهم وتبديعهم وتضليلهم وَقَالُوا: "نَحن مَعكُمْ ندافع عَن الدّين وننازل الْمُلْحِدِينَ" (¬1)، فاغتر بِهَذَا بعض عُلَمَاء أهل السّنة وسكتوا عَنْهُم فتمكّن الأشاعرة فِي الْأمة ثمَّ فِي النِّهَايَة استطالوا على أُولَئِكَ واستأثروا بِهَذَا الِاسْم دون أَهله، وَأَصْبحُوا هم يضللون أهل السّنة ويضطهدونهم ويلقبونهم بأشنع الألقاب. فحتى لَا ¬

(¬1) انْظُر سير أَعْلَام النبلاء: 15/ 90، مُقَابلَة الْأَشْعَرِيّ لإِمَام السّنة فِي عصره "البربهارى" انْظُر تَرْجَمته فِي طَبَقَات الْحَنَابِلَة ورسالته الْقيمَة فِي السّنة الَّتِي سَاقهَا صَاحب الطَّبَقَات.

تَتَكَرَّر هَذِه المشكلة وإحقاقا للحق رَأَيْت الْأُصُول المنهجية فِي مَذْهَب الأشاعرة من واجبي أَن أسْهم بتفصيل مَذْهَب الأشاعرة فِي كل أَبْوَاب العقيدة ليتضح أَنهم على مَنْهَج فكري مُسْتَقل فِي كل الْأَبْوَاب وَالْأُصُول، ويختلفون مَعَ أهل السّنة وَالْجَمَاعَة من أول مصدر التلقِّي حَتَّى آخر السمعيات ماعدا قَضِيَّة وَاحِدَة فَقَط. وَإِلَيْك هَذِه الْأُصُول المنهجية فِي مَذْهَبهم موجزة ومُيَسَّرة مَا أمكن- عدا أَقْوَالهم فِي الصِّفَات وَعدا الفرعيات الَّتِي لَا تدخل تَحت حصر- مَعَ التَّنْبِيه, ومقدما إِلَى مَا بَينهَا من تنَاقض لَا يخفى على الْقَارئ الفطن: الأول: مصدر التلقِّي: أ _ مصدر التلقي عِنْد الأشاعرة هُوَ الْعقل وَقد صرح الْجُوَيْنِيّ والرازي والبغدادي وَالْغَزالِيّ والآمدي والإيجي وَابْن فورك والسنوسي وشُرَّاح الْجَوْهَرَة وَسَائِر أئمتهم بِتَقْدِيم الْعقل على النَّقْل عِنْد التَّعَارُض، وعَلى هَذَا يرى المعاصرون مِنْهُم، وَمن هَؤُلَاءِ السَّابِقين من صرح بِأَن الْأَخْذ بظواهر الْكتاب وَالسّنة أصل من أصُول الْكفْر, وَبَعْضهمْ خفّفها فَقَالَ: هُوَ أصل الضَّلَالَة!!.

ولضرورة الِاخْتِصَار أكتفي بمثالين مَعَ الإحالة إِلَى مَا فِي الْحَاشِيَة لمن أَرَادَ الْمَزِيد: الأول: وضع الرَّازِيّ فِي أساس التَّقْدِيس القانوني الْكُلِّي للْمَذْهَب فِي ذَلِك فَقَالَ: "الْفَصْل الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ فِي أنّ الْبَرَاهِين الْعَقْلِيَّة إِذا صَارَت مُعَارضَة بالظواهر النقلية فَكيف يكون الْحَال فِيهَا؟ اعْلَم أَن الدَّلَائِل القطعية الْعَقْلِيَّة إِذا قَامَت على ثُبُوت شَيْء ثمَّ وجدنَا أَدِلَّة نقلية يشْعر ظَاهرهَا بِخِلَاف ذَلِك فهناك لَا يَخْلُو الْحَال من أحد أُمُور أَرْبَعَة: 1 - إِمَّا أَن يصدق مُقْتَضى الْعقل وَالنَّقْل فَيلْزم تَصْدِيق النقيضين وَهُوَ محَال. 2 - وَإِمَّا أَن يبطلا فَيلْزم تَكْذِيب النقيضين وَهُوَ محَال. 3 - وَإِمَّا أَن يصدق الظَّوَاهِر النقلية ويكذب الظَّوَاهِر الْعَقْلِيَّة وَذَلِكَ بَاطِل. لِأَنَّهُ لَا يمكننا أَن نَعْرِف صِحَة الظَّوَاهِر النقلية إِلَّا إِذا عرفنَا بالدلائل الْعَقْلِيَّة إِثْبَات الصَّانِع وَصِفَاته وَكَيْفِيَّة دلَالَة المعجزة على صدق الرَّسُول - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَظُهُور المعجزات على - مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -.

وَلَو جوّزنا الْقدح فِي الدَّلَائِل الْعَقْلِيَّة القطعية صَار الْعقل مُتَّهمًا غير مَقْبُول القَوْل, وَلَو كَانَ كَذَلِك لخرج أَن يكون مَقْبُول القَوْل فِي هَذِه الْأُصُول, وَإِذا لم تثبت هَذِه الْأُصُول خرجت الدَّلَائِل النقلية عَن كَونهَا مفيدة. فَثَبت أَن الْقدح فِي الْعقل لتصحيح النَّقْل يُفْضِي إِلَى الْقدح فِي الْعقل وَالنَّقْل مَعًا, وَأَنه بَاطِل. وَلما بطلت الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة لم يبْق إِلَّا أَن يقطع بِمُقْتَضى الدَّلَائِل الْعَقْلِيَّة القاطعة بِأَن هَذِه الدَّلَائِل النقلية إِمَّا أَن يُقَال: إِنَّهَا غير صَحِيحَة (¬1) , أَو يُقَال: إِنَّهَا صَحِيحَة إِلَّا أَن المُرَاد مِنْهَا غير ظواهرها. ثمَّ إِن جوّزنا التَّأْوِيل اشتغلنا على سَبِيل التَّبَرُّع (¬2) بِذكر تِلْكَ التأويلات على التَّفْصِيل. وَإِن لم يجز التَّأْوِيل فوّضنا الْعلم بهَا إِلَى الله تَعَالَى. فَهَذَا هُوَ القانون الْكُلِّي المرجوع إِلَيْهِ فِي جَمِيع المتشابهات وبالله التَّوْفِيق". اهـ. ¬

(¬1) يُلَاحظ أَن الدَّلَائِل النقلية تَشْمَل نُصُوص الْكتاب وَالسّنة مَعًا فَكيف يُقَال إِنَّهَا غير صَحِيحَة دون تَفْرِيق بَينهمَا، مَعَ أَن مُجَرّد إِطْلَاقهَا على السّنة وَحدهَا فِي غَايَة الخطورة. (¬2) هَل وصلت قيمَة نُصُوص الْوَحْي إِلَى حد أَن الِاشْتِغَال بتأويلها - الَّذِي هُوَ تَحْرِيف لَهَا - يعْتَبر تَبَرعا وإحسانا؟!

الثَّانِي: يَقُول السنوسي (ت 885) فِي شرح الْكُبْرَى: "وَأما من زعم أَن الطَّرِيق بَدَأَ إِلَى معرفَة الْحق الْكتاب وَالسّنة وَيحرم مَا سواهُمَا فالرد عَلَيْهِ أَن حجتيهما لَا تعرف إِلَّا بِالنّظرِ الْعقلِيّ، وَأَيْضًا فقد وَقعت فيهمَا ظواهر من اعتقدها على ظَاهرهَا كفر عِنْد جمَاعَة وابتدع". وَيَقُول: "أصُول الْكفْر سِتَّة. . . " ذكر خَمْسَة ثمَّ قَالَ: "سادسا: التَّمَسُّك فِي أصُول العقائد بِمُجَرَّد ظواهر الْكتاب وَالسّنة من غير عرضهَا على الْبَرَاهِين الْعَقْلِيَّة والقواطع الشَّرْعِيَّة". ب _ صرح متكلّموهم- وَمِنْهُم من سبق فِي فقرة (أ) أَن نُصُوص الْكتاب وَالسّنة ظنية الدّلَالَة وَلَا تفِيد الْيَقِين إِلَّا إِذا سلمت من عشر عوارض مِنْهَا: الْإِضْمَار والتخصيص وَالنَّقْل والاشتراك وَالْمجَاز ... الخ. وسلمت بعد هَذَا من الْمعَارض الْعقلِيّ بل قَالُوا: من احْتِمَال الْمعَارض الْعقلِيّ!! ج _ موقفهم من السّنة خَاصَّة أَنه لَا يثبت بهَا عقيدة, بل الْمُتَوَاتر مِنْهَا يجب تَأْوِيله, وآحادها لَا يجب الِاشْتِغَال بهَا حَتَّى على سَبِيل التَّأْوِيل، حَتَّى إِن إمَامهمْ الرَّازِيّ قطع

بِأَن رِوَايَة الصَّحَابَة كلهم مظنونة بِالنِّسْبَةِ لعدالتهم وحفظهم سَوَاء، وَأَنه فِي الصَّحِيحَيْنِ أَحَادِيث وَضعهَا الزَّنَادِقَة… إِلَى آخر مَا لَا أستجيز نَقله لغير المختصين، وَهُوَ فِي كِتَابه أساس التَّقْدِيس وَالْأَرْبَعِينَ. د _ تقْرَأ فِي كتب عقيدتهم قديمها وحديثها الْمِائَة صفحة أَو أَكثر فَلَا تَجِد فِيهَا أَيَّة وَلَا حَدِيثا لكنك قد تَجِد فِي كل فقرة "قَالَ الْحُكَمَاء" أَو"قَالَ المعلّم الأول" أَو "قَالَت الفلاسفة" وَنَحْوهَا ... هـ _ مَذْهَب طَائِفَة مِنْهُم وهم صوفيتهم- كالغزالي والحامي- فِي مصدر التلقي هُوَ تَقْدِيم الْكَشْف والذوق على النَّص وَتَأْويل النَّص ليوافقه وَقد يصححون بعض الْأَحَادِيث ويضعفونها حسب هَذَا الذَّوْق كَحَدِيث إِسْلَام أَبَوي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودخولهما الْجنَّة بزعمهم. ويسمون هَذَا "الْعلم اللّدنّي جَريا على قَاعِدَة الصُّوفِيَّة "حَدثنِي قلبِي عَن رَبِّي" (¬1). ¬

(¬1) انْظُر عَن مصدر التلقي عِنْدهم: دَرْء تعَارض الْعقل وَالنَّقْل فَهُوَ كُله رد عَلَيْهِم, وَقد استفتحه بِذكر قانونهم الْكُلِّي فِي التَّعَارُض، أساس التَّقْدِيس للرازي: 168_ 173، الشَّامِل للجويني: 561، الْإِرْشَاد لَهُ: 359 _360، شرح الْكُبْرَى للسنوسي: 502, المواقف للإيجي: 39_40، مُخْتَصر الصَّوَاعِق 33_ 258, مُشكل الحَدِيث لِابْنِ فورك: مقدمته وخاتمته, أصُول الدّين للبغدادي: 12، كبرى اليقينيان: مُحَمَّد سعيد رَمَضَان البوطي الإهداء 32 _33، الرسَالَة اللدنية للغزالي: 1/ 114_ 118 من مَجْمُوعَة الفصور العوالي.

الثَّانِي: إِثْبَات وجود الله: مَعْلُوم أنّ مَذْهَب السّلف هُوَ أَن وجوده تَعَالَى أَمر فطري مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ, والأدلة عَلَيْهِ فِي الْكَوْن وَالنَّفس والْآثَار والآفاق وَالْوَحي أجلّ من الْحصْر، فَفِي كل شَيْء لَهُ آيَة وَعَلِيهِ دَلِيل. أما الأشاعرة فعندهم دَلِيل يَتِيم هُوَ دَلِيل "الْحُدُوث والقدم" وَهُوَ الِاسْتِدْلَال على وجود الله بِأَن الْكَوْن حَادث وكل حَادث فلابد من مُحدث قديم، وأخص صِفَات هَذَا الْقَدِيم مُخَالفَته للحوادث وَعدم حلولها فِيهِ, وَمن مُخَالفَته للحوادث إِثْبَات أَنه لَيْسَ جوهرا وَلَا عرضا وَلَا جسما وَلَا فِي جِهَة وَلَا مَكَان… الخ. ثمَّ أطالوا جدا فِي تَقْرِير هَذِه القضايا هَذَا وَقد رتبوا عَلَيْهِ من الْأُصُول الْفَاسِدَة مَالا يدْخل تَحت الْعد مثل إنكارهم لكثير من الصِّفَات كالرضا وَالْغَضَب والاستواء بِشُبْهَة نفي حُلُول الْحَوَادِث فِي الْقَدِيم

وَنفي الجوهرية والعرضية والجهة والجسمية ... إِلَى آخر المصطلحات البدعية الَّتِي جعلُوا نَفيهَا أصولاً وأنفقوا الْأَعْمَار والمداد فِي شرحها ونفيها. وَلَو أَنهم قَالُوا: الْكَوْن مَخْلُوق وكل مَخْلُوق لابد لَهُ من خَالق لَكَانَ أيسر وأخص, مَعَ أَنه لَيْسَ الدَّلِيل الوحيد, وَلَكنهُمْ تعمّدوا مُوَافقَة الفلاسفة حَتَّى فِي ألفاظهم (¬1). الثَّالِث: التَّوْحِيد: التَّوْحِيد عِنْد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة مَعْرُوف بأقسامه الثَّلَاثَة, وَهُوَ عِنْدهم أول وَاجِب على الْمُكَلف، أما الأشاعرة قدماؤهم ومعاصروهم, فالتوحيد عِنْدهم هُوَ نفي التَّثْنِيَة أَو التَّعَدُّد وَنفي التَّبْعِيض والتركيب والتجزئة أَي حسب تعبيرهم "نفي الكمية الْمُتَّصِلَة والكمية الْمُنْفَصِلَة", وَمن هَذَا الْمَعْنى فسروا الْإِلَه بِأَنَّهُ: الْخَالِق أَو الْقَادِر على الاختراع, ¬

(¬1) انْظُر الْأَبْوَاب الأولى من أَي كتاب فِي عقيدتهم, ومجموع الْفَتَاوَى:2/ 7_23 وَأول شرح الاصبهانية. ويلاحظ أَن تعمدهم اسْتِخْدَام كلمة (حَادث) سَببه أَنهم لَو قَالُوا: "مَخْلُوق" لألزمهم الفلاسفة بِأَن هَذَا هُوَ مَوضِع النزاع وَلَا يسْتَدلّ بِالدَّعْوَى على نَفسهَا فِي نظرهم، مَعَ هَذَا فالفلاسفة يَقُولُونَ: الْكَوْن قديم وَلَا نسلم أَنه حَادث، فالأشاعرة كَمَا قَالَ شيخ الْإِسْلَام: "لَا لِلْإِسْلَامِ نصروا وَلَا للفلاسفة كسروا".

وأنكروا بعض الصِّفَات كالوجه وَالْيَد وَالْعين؛ لِأَنَّهَا تدل على التَّرْكِيب والأجزاء عِنْدهم. أما التَّوْحِيد الْحَقِيقِيّ وَلَا يُقَابله من الشّرك ومعرفته والتحذير مِنْهُ فَلَا ذكر لَهَا فِي كتب عقيدتهم إطلاقا وَلَا أَدْرِي أَيْن يضعونه أَفِي كتب الْفُرُوع؟ فَلَيْسَ فِيهَا, أم يتركونه بالمرة؟ فَهَذَا الَّذِي أَجْزم بِهِ. أما أول وَاجِب عِنْد الأشاعرة فَهُوَ النّظر أَو الْقَصْد إِلَى النّظر أَو أول جُزْء من النّظر أَو ... إِلَى آخر فلسفتهم الْمُخْتَلف فِيهَا وَعِنْدهم أَن الْإِنْسَان إِذا بلغ سنّ التَّكْلِيف وَجب عَلَيْهِ النّظر ثمَّ الْإِيمَان, وَاخْتلفُوا فِيمَن مَاتَ قبل النّظر أَو فِي أَثْنَائِهِ, أيحكم لَهُ بِالْإِسْلَامِ أم بالْكفْر؟! وينكر الأشاعرة الْمعرفَة الفطرية وَيَقُولُونَ: إِن من آمن بِاللَّه بِغَيْر طَرِيق النّظر فَإِنَّمَا هُوَ مقلد, وَرجح بَعضهم كفره, وَاكْتفى بَعضهم بتعصيته، وَهَذَا مَا خالفهم فِيهِ الْحَافِظ ابْن حجر- رَحمَه الله - وَنقل أقوالا كَثِيرَة فِي الرَّد عَلَيْهِم, وإنّ لَازم قَوْلهم تَكْفِير الْعَوام بل تَكْفِير الصَّدْر الأول (¬1). ¬

(¬1) عَن هَذِه الْفَقْرَة انْظُر: نِهَايَة الْإِقْدَام للشهرستاني: 90، شرح الْكُبْرَى: 304، غَايَة المرام للآمدي: 149، كبرى اليقينيات: 92_93، الله جلّ جَلَاله: سعيد حوى: 131, أَرْكَان الْإِيمَان لوهبي غاوجي: 30. وبخصوص أول وَاجِب والمعرفة الفطرية انْظُر: دَرْء تعَارض الْعقل وَالنَّقْل ج 7، 8, 9 كلهَا, الْإِنْصَاف للباقلايى: 22، الْإِرْشَاد: 3, المواقف: 32 - 33, الشَّامِل: 120، أصُول الدّين للبغدادي: 254_255، فتح الْبَارِي 3/ 357_361, 13/ 347 ـ 358.

الرَّابِع: الْإِيمَان: الأشاعرة فِي الْإِيمَان مرجئة جهمية أَجمعت كتبهمْ قاطبة على أَن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق القلبي، وَاخْتلفُوا فِي النَطق بِالشَّهَادَتَيْنِ أيكفي عَنهُ تَصْدِيق الْقلب أم لابد مِنْهُ، قَالَ صَاحب الْجَوْهَرَة: وَفسّر الْإِيمَان بالتصديق ... والنطق فِيهِ الْخلف بالتحقيق وَقد رجح الشَّيْخ حسن أَيُّوب من المعاصرين أَن المصدّق بِقَلْبِه نَاجٍ عِنْد الله وَإِن لم ينْطق بهما وَمَال إِلَيْهِ البوطي. فعلى كَلَامهم لَا دَاعِي لحرص النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- أَن يَقُول عَمه أَبُو طَالب: "لَا إِلَه إِلَّا الله"؛ لِأَنَّهُ لاشك فِي تَصْدِيقه لَهُ بِقَلْبِه، وَهُوَ وَمن شابهه على مَذْهَبهم من أهل الْجنَّة!! هَذَا وَقد أوّلوا كل آيَة أَو حَدِيث ورد فِي زِيَادَة الْإِيمَان

ونقصانه أَو وصف بعض شعبه بِأَنَّهَا إِيمَان أَو من الْإِيمَان (¬1). وَلِهَذَا أَطَالَ شيخ الْإِسْلَام - رَحمَه الله - الرَّد عَلَيْهِم بِأَسْمَائِهِمْ كالأشعري والباقلاني والجويني وشراح كتبهمْ وَقرر أَنهم على مَذْهَب جهم بِعَيْنِه. وفى رسالتي فصل طَوِيل عَن هَذِه الْقَضِيَّة فَلَا أطيل بِهِ هُنَا. الْخَامِس: القرآن: وَقد أفردت مَوْضُوعه لأهميته القصوى، وَهُوَ نموذج بارز للمنهج الْأَشْعَرِيّ الْقَائِم على التلفيق الَّذِي يُسَمِّيه الأشاعرة المعاصرون "التوفيقية" حَيْثُ انتهج التَّوَسُّط بَين أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَبَين الْمُعْتَزلَة فِي كثير من الْأُصُول فتناقض واضطرب. فمذهب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق, وَأَنه تَعَالَى يتَكَلَّم بِكَلَام مسموع تسمعه الْمَلَائِكَة وسَمعه جِبْرِيل وسَمعه مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَام- ويسمعه الْخَلَائق يَوْم الْقِيَامَة. ¬

(¬1) انْظُر الْإِنْصَاف: 55، الْإِرْشَاد: 397، غَايَة المرام: 311، المواقف: 384, الْإِيمَان لشيخ الْإِسْلَام: أَكْثَره رد عَلَيْهِم فَلَا حَاجَة لتحديد الصفحات، تبسيط العقائد الإسلامية لحسن أَيُّوب: 29_33, كبرى اليقينيات: 196.

وَمذهب الْمُعْتَزلَة أَنه مَخْلُوق. أما مَذْهَب الأشاعرة فَمن منطلق التوفيقية - الَّتِي لم يحالفها التَّوْفِيق - فرّقوا بَين الْمَعْنى وَاللَّفْظ. فَالْكَلَام الَّذِي يثبتونه لله تَعَالَى هُوَ معنى أزلي أبدى قَائِم بِالنَّفسِ لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت وَلَا يُوصف بالْخبر وَلَا الْإِنْشَاء. وَاسْتَدَلُّوا بِالْبَيْتِ الْمَنْسُوب للأخطل النَّصْرَانِي: إنّ الْكَلَام لفي الْفُؤَاد وَإِنَّمَا ... جعل اللِّسَان على الْفُؤَاد دَلِيلا أما الْكتب الْمنزلَة ذَات التَّرْتِيب وَالنّظم والحروف - وَمِنْهَا الْقُرْآن - فَلَيْسَتْ هِيَ كَلَامه تَعَالَى على الْحَقِيقَة بل هِيَ "عبارَة" عَن كَلَام الله النَّفْسِيّ. وَالْكَلَام النَّفْسِيّ شَيْء وَاحِد فِي ذَاته لَكِن إِذا جَاءَ التَّعْبِير عَنهُ بالعبرانية فَهُوَ توراة, وَإِن جَاءَ بالسُّرْيَانيَّة فَهُوَ إنجيل, وَإِن جَاءَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ قُرْآن، فَهَذِهِ الْكتب كلهَا مخلوقة ووصفها بِأَنَّهَا كَلَام الله مجَاز لِأَنَّهَا تَعْبِير عَنهُ. وَاخْتلفُوا فِي الْقُرْآن خَاصَّة فَقَالَ بَعضهم: "إنّ الله خلقه أَولا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ ثمَّ أنزلهُ فِي صَحَائِف إِلَى سَمَاء

الدُّنْيَا " فَكَانَ جِبْرِيل يقْرَأ هَذَا الْكَلَام الْمَخْلُوق ويبلغه لمُحَمد - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -, وَقَالَ آخَرُونَ: "إِن الله أفهم جِبْرِيل كَلَامه النَّفْسِيّ وأفهمه جِبْرِيل لمُحَمد- صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-, فالنزول نزُول إِعْلَام وإفهام لَا نزُول حَرَكَة وانتقال " (لأَنهم يُنكرُونَ علو الله) ثمَّ اخْتلفُوا فِي الَّذِي عبر عَن الْكَلَام النَّفْسِيّ بِهَذَا اللَّفْظ وَالنّظم الْعَرَبِيّ من هُوَ؟ فَقَالَ بَعضهم: "هُوَ جِبْرِيل"، وَقَالَ بَعضهم: "بل هُوَ مُحَمَّد - صلى الله عَلَيْهِ وسلم -"!!. وَاسْتَدَلُّوا بِمثل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فِي سورتي الحاقة والانشقاق حَيْثُ أَضَافَهُ فِي الأولى إِلَى مُحَمَّد - صلى الله عَلَيْهِ وسلم -, وَفِي الْأُخْرَى إِلَى جِبْرِيل بِأَن اللَّفْظ لأحد الرسولين "جِبْرِيل أَو مُحَمَّد" وَقد صرح الباقلاني بِالْأولِ وَتَابعه الْجُوَيْنِيّ. قَالَ شيخ الْإِسْلَام: "وَفِي إِضَافَته تَعَالَى إِلَى هَذَا الرَّسُول تَارَة وَإِلَى هَذَا تَارَة دَلِيل على أَنه إِضَافَة بَلَاغ وَأَدَاء لَا إِضَافَة إِحْدَاث لشَيْء مِنْهُ وإنشاء كَمَا يَقُول بعض المبتدعة الأشعرية من أَن حُرُوفه ابْتِدَاء جِبْرِيل أَو مُحَمَّد مضاهاة مِنْهُم فِي نصف قَوْلهم لمن قَالَ انه قَول الْبشر من مُشْركي الْعَرَب" (¬1). ¬

(¬1) مَجْمُوع الْفَتَاوَى

وعَلى القَوْل أَن الْقُرْآن الَّذِي نقرؤه فِي الْمَصَاحِف مَخْلُوق سَار الأشاعرة المعاصرون وصرحوا، فكشفوا بذلك مَا أَرَادَ شَارِح الْجَوْهَرَة أَن يستره حِين قَالَ: "يمْتَنع أَن يُقَال إِن الْقُرْآن مَخْلُوق إِلَّا فِي مقَام التَّعْلِيم" (¬1). السَّادِس: الْقدر: أَرَادَ الأشاعرة هُنَا أَن يوفقوا بَين الجبرية والقدرية فَجَاءُوا بنظرية الْكسْب وَهِي فِي مآلها جبرية خَالِصَة؛ لِأَنَّهَا تَنْفِي أَي قدرَة للْعَبد أَو تَأْثِير, أما حَقِيقَتهَا النظرية الفلسفية فقد عجز الأشاعرة أنفسهم عَن فهمهما فضلا عَن إفهامها لغَيرهم وَلِهَذَا قيل: مِمَّا يُقَال وَلَا حَقِيقَة تَحْتَهُ ... معقولة تدنوا إِلَى الأفهام الْكسْب عِنْد الْأَشْعَرِيّ وَالْحَال ... عِنْد البهشمى وطفرة النظام ¬

(¬1) عَن الْقُرْآن عِنْدهم انْظُر: الْإِنْصَاف: 96_97 وَمَا بعْدهَا، الْإِرْشَاد: 128_137، أصُول الدّين: 107، الموافف: 293، شرح الباجوري على الْجَوْهَرَة 64_66_84, متن الدردير 25 من مَجْمُوع مهمات الْمُتُون، التسعينية وَقد استغرق مَوْضُوع الرَّد عَلَيْهِم فِي الْقُرْآن أَكثر مباحثها وَمن أعظمها وأنفسها مَا ذكره فِي الْوَجْه السَّابِع وَالسبْعين فَليُرَاجع.

وَلِهَذَا قَالَ الرَّازِيّ الَّذِي عجز هُوَ الآخر عَن فهمها: "إِن الْإِنْسَان مجبور فِي صُورَة مُخْتَار". أما الْبَغْدَادِيّ فَأَرَادَ أَن يوضحها فَذكر مِثَالا لأحد أَصْحَابه فِي تَفْسِيرهَا شبّه فِيهِ اقتران قدرَة الله بقدرة العَبْد مَعَ نِسْبَة الْكسْب إِلَى العَبْد "بِالْحجرِ الْكَبِير قد يعجز عَن حمله رجل وَيقدر آخر على حمله مُنْفَردا بِهِ فَإِذا اجْتمعَا جَمِيعًا على حمله كَانَ حُصُول الْحمل بأقواهما، وَلَا خرج أضعفهما بذلك عَن كَونه حَامِلا"!! وعَلى مثل هَذَا الْمِثَال الْفَاسِد يعْتَمد الجبرية وَبِه يتجرأ الْقَدَرِيَّة المنكرون؛ لِأَنَّهُ لَو أَن الْأَقْوَى من الرجلَيْن عذب الضَّعِيف وعاقبه على حمل الْحجر فانه يكون ظَالِما بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء، لِأَن الضَّعِيف لَا دور لَهُ فِي الْحمل، وَهَذِه الْمُشَاركَة الصورية لَا تَجْعَلهُ مسؤولا عَن حمل الْحجر. والإرادة عِنْد الأشاعرة مَعْنَاهَا "الْمحبَّة وَالرِّضَا" وأوّلوا قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} بِأَنَّهُ لَا يرضاه لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ! فَبَقيَ السُّؤَال واردا عَلَيْهِم: وَهل رضيه للْكفَّار أم فَعَلُوهُ وَهُوَ لم يردهُ؟. وفعلوا بِسَائِر الْآيَات مثل ذَلِك.

وَمن هَذَا الْقَبِيل كَلَامهم فِي الِاسْتِطَاعَة، وَالْحَاصِل أَنهم فِي هَذَا الْبَاب خَرجُوا عَن الْمَنْقُول والمعقول وَلم يعربوا عَن مَذْهَبهم فضلا عَن البرهنة عَلَيْهِ!! (¬1). السَّابِع: السَّبَبِيَّة وأفعال الْمَخْلُوقَات: يُنكر الأشاعرة الرَّبْط العادي بِإِطْلَاق وَأَن يكون شَيْء يُؤثر فِي شَيْء وأنكروا كل "بَاء سَبَبِيَّة" فِي الْقُرْآن، وكفّروا وبدّعوا من خالفهم ومأخذهم فِيهَا هُوَ مأخذهم فِي الْقدر، فمثلا عِنْدهم: من قَالَ: "إِن النَّار تحرق بطبعها أوهي عِلّة الإحراق فَهُوَ كَافِر مُشْرك؛ لِأَنَّهُ لَا فَاعل عِنْدهم إِلَّا الله مُطلقًا حَتَّى أَن أحد نحاة الأندلس من دولة الْمُوَحِّدين التومرتية الأشعرية هدم "نظرية الْعَامِل" عِنْد النُّحَاة مدَّعيا أَن الْفَاعِل هُوَ الله!! قالوا: إن الأسباب علاقات لا موجبات حتى أنهم يقولون: الرجل إذا كسر الزجاجة ما انكسرت بكسره وإنما انكسرت عند كسره، والنار إذا أحرقت ما تحرق ما احترق ¬

(¬1) الْإِنْصَاف: 45 ـ 46 بهوامش الكوثري، الْإِرْشَاد: 187_ 203، أصُول الدّين: 133، نِهَايَة الْإِقْدَام: 77، المواقف: 311، شِفَاء العليل: 259 - ا 26 وَغَيرهَا.

بسببها وانما احترق عندها لا بها فالِإنسان إذا أكل حتى شبع ما شبع بالأكل وإنما شبع عند الأكل. وَمن قَالَ عِنْدهم: إِن النَّار تحرق بِقُوَّة أودعها الله فِيهَا فَهُوَ مُبْتَدع ضال، قَالُوا: إنّ فَاعل الإحراق هُوَ الله وَلَكِن فعله يَقع مقترنا بِشَيْء ظاهري مَخْلُوق، فَلَا ارتباط عِنْدهم بَين سَبَب ومسبب أصلا, وَإِنَّمَا الْمَسْأَلَة اقتران كاقتران الزميلين من الأصدقاء فِي ذهابهما وإيابهما. وَمن متونهم فِي العقيدة: وَالْفِعْل فِي التَّأْثِير لَيْسَ إِلَّا ... للْوَاحِد القهار جلّ وَعلا وَمن يقل بالطبع أَو بِالْعِلَّةِ ... فَذَاك كفر عِنْد أهل الْملَّة وَمن يقل بِالْقُوَّةِ المودعة ... فَذَاك بدعي فَلَا تلْتَفت والغريب أَن هَذَا هُوَ مَذْهَب مَا يُسمى الْمدرسَة الوضعية من المفكرين الغربيين الْمُحدثين وَمن وافقهم من ملاحدة الْعَرَب، وَمَا ذَاك إِلَّا لِأَن الأشاعرة والوضعيين

كِلَاهُمَا ناقل عَن الْفِكر الفلسفي الإغريقي (¬1). الثَّامِن: الْحِكْمَة الغائبة: يَنْفِي الأشاعرة قطعا أَن يكون لشَيْء من أَفعَال الله تَعَالَى عِلّة مُشْتَمِلَة على حِكْمَة تقضي إِيجَاد ذَلِك الْفِعْل أَو عَدمه، وَهَذَا نَص كَلَامهم تَقْرِيبًا، وَهُوَ رد فعل لقَوْل الْمُعْتَزلَة بِالْوُجُوب على الله حَتَّى أنكر الأشاعرة كل لَام تَعْلِيل فِي الْقُرْآن وَقَالُوا إِن كَونه يفعل شَيْئا لعِلَّة يُنَافِي كَونه مُخْتَارًا مرِيدا. وَهَذَا الأَصْل تسميه بعض كتبهمْ "نفي الْغَرَض عَن الله" ويعتبرونه من لَوَازِم التَّنْزِيه، وَجعلُوا أَفعاله تَعَالَى كلهَا رَاجِعَة إِلَى مَحْض الْمَشِيئَة وَلَا تَعْلِيق لصفة أُخْرَى- كالحكمة مثلا- بهَا، ورتبوا على هَذَا أصولا فَاسِدَة كَقَوْلِهِم بِجَوَاز أَن يخلد الله فِي النَّار أخْلص أوليائه ويخلد فِي الْجنَّة أفجر الْكفَّار، وَجَوَاز التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق وَنَحْوهَا. وَسبب هَذَا التأصيل الْبَاطِل عدم فهمهم أَلا تعَارض ¬

(¬1) المصادر السَّابِقَة فِي الْقدر، وَشرح الْكُبْرَى: 184، شرح أم الْبَرَاهِين: 11،81,80 منظومة الدردير 240 وَقد أفردناها عَن الْقدر لأَنهم يفردونها وَقد يقدمونها باعتبارها من قضايا الْكفْر وَالْإِيمَان!!. وَعَن الْمدرسَة الوضعية انْظُر "الْمنطق الوضعي"، زكي نجيب مَحْمُود فَهُوَ أحدهم.

بَين الْمَشِيئَة وَالْحكمَة أَو الْمَشِيئَة وَالرَّحْمَة. وَلِهَذَا لم يثبت الأشاعرة الْحِكْمَة مَعَ الصِّفَات السَّبع واكتفوا بِإِثْبَات الْإِرَادَة مَعَ أَن الْحِكْمَة تَقْتَضِي الْإِرَادَة وَالْعلم وَزِيَادَة حَتَّى أَن من المعاصرين من أضافها مثل سعيد حوى (¬1). التَّاسِع: النبوات: يخْتَلف مَذْهَب الأشاعرة عَن مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فِي النبوات اخْتِلَافا بَعيدا، فهم يقرّرون أَن إرْسَال الرُّسُل رَاجع للمشيئة الْمَحْضَة - كَمَا فِي الْفَقْرَة السَّابِقَة - ثمَّ يقررون أَنه لَا دَلِيل على صدق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا المعجزة، ثمَّ يقرّرون أَن أَفعَال السَّحَرَة والكُهّان من جنس المعجزة لَكِنَّهَا لَا تكون مقرونة بادعاء النُّبُوَّة والتحدي، قَالُوا: وَلَو ادّعى السَّاحر أَو الكاهن النُّبُوَّة لسلبه الله معرفَة السحر رَأْسا وإِلَّا كَانَ هَذَا إضلالا من الله وَهُوَ يمْتَنع عَلَيْهِ الإضلال ... إِلَى آخر مَا يقررونه مِمَّا يُخَالف الْمَنْقُول ¬

(¬1) انْظُر المواقف: 331، شرح الْكُبْرَى: 322_ 423، شرح أم الْبَرَاهِين 36، النبوات 163 - .23، مَجْمُوع الْفَتَاوَى-: 16/ 299، وَقد أَطَالَ ابْن الْقيم فِي رد شبه الأشاعرة فِي شِفَاء العليل: انْظُر مثلا من 391 إِلَى 521، حَيْثُ رد عَلَيْهِم من 36 وَجها, ومنهاج السّنة: 1/ 128 الطبعة الْقَدِيمَة, الله جلّ جَلَاله: 90 قد ذكر الْحِكْمَة ضمن الظَّوَاهِر وَلم يذكرهَا ضمن الصِّفَات.

والمعقول، ولضعف مَذْهَبهم فِي النبوات مَعَ كَونهَا من أخطر أَبْوَاب العقيدة إِذْ كل أمورها متوقفة على ثُبُوت النُّبُوَّة أغروا أَعدَاء الْإِسْلَام بالنيل مِنْهُ واستطال عَلَيْهِم الفلاسفة والملاحدة. والصوفية مِنْهُم كالغزالي يفسرون الْوَحْي تَفْسِيرا قرمطياً فَيَقُولُونَ: "هُوَ انتقاش الْعلم الفائض من الْعقل الْكُلِّي فِي الْعقل الجزئي" (¬1). أما فِي مَوْضُوع الْعِصْمَة فينكرون صُدُور الذَّنب عَن الْأَنْبِيَاء ويؤوِّلون الْآيَات وَالْأَحَادِيث الْكَثِيرَة تَأْوِيلا متعسّفا متكلّفا كالحال فِي تأويلات الصِّفَات (¬2). الْعَاشِر: التحسين والتقبيح: يُنكر الأشاعرة أَن يكون لِلْعَقْلِ والفطرة أيّ دور فِي الحكم على الْأَشْيَاء بالْحسنِ والقبح وَيَقُولُونَ: مردّ ذَلِك إِلَى الشَّرْع وَحده، وَهَذَا رد فعل مغال لقَوْل البراهمة والمعتزلة: ¬

(¬1) انْظُر الْإِرْشَاد: 306، 356، نِهَايَة الْإِقْدَام: 461، أصُول الدّين: 176، المواقف: 359 - 361، غَايَة المرام: 318، الرسَالَة اللدنية: 1: 114،118 (من مَجْمُوعَة الْقُصُور العوالي). (¬2) نِهَايَة الْإِقْدَام: 370، شرح الْكبر ى: 429، غَايَة المرام: 234. المواقف 323، مَجْمُوع الْفَتَاوَى 8/ 432_ 436, التسعينية: 247.

إِن الْعقل يُوجب حسن الْحسن وقبح الْقَبِيح، وَهُوَ مَعَ منافاته للنصوص مُكَابَرَة للعقول، وَمِمَّا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الْأُصُول الْفَاسِدَة قَوْلهم: إِن الشَّرْع قد يَأْتِي بِمَا هُوَ قَبِيح فِي الْعقل فإلغاء دور الْعقل بالمرة أسلم من نِسْبَة الْقبْح إِلَى الشَّرْع مثلا, ومثلوا لذَلِك بِذبح الْحَيَوَان فَإِنَّهُ إيلام لَهُ بِلَا ذَنْب وَهُوَ قَبِيح فِي الْعقل وَمَعَ ذَلِك أَبَاحَهُ الشَّرْع، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة هُوَ قَول البراهمة الَّذين يحرمُونَ أكل الْحَيَوَان, فَلَمَّا عجز هَؤُلَاءِ عَن رد شبهتهم ووافقوهم عَلَيْهَا أَنْكَرُوا حكم الْعقل من أَصله وتوهموا أَنهم بِهَذَا يدافعون عَن الْإِسْلَام. كَمَا أَن من أَسبَاب ذَلِك مناقضة أصل من قَالَ بِوُجُوب الثَّوَاب وَالْعِقَاب على الله بِحكم الْعقل وَمُقْتَضَاهُ (¬1). الْحَادِي عشر: التَّأْوِيل: وَمَعْنَاهُ المبتدع: "صرف اللَّفْظ عَن ظَاهره الرَّاجِح إِلَى احْتِمَال مَرْجُوح لقَرِينَة", فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنى تَحْرِيف للْكَلَام عَن موَاضعه كَمَا قرَّر ذَلِك شيخ الْإِسْلَام. وَهُوَ أصل منهجي من أصُول الأشاعرة وَلَيْسَ هُوَ خَاصّا بمبحث الصِّفَات بل يَشْمَل أَكثر نُصُوص الْإِيمَان, ¬

(¬1) نِهَايَة الْإِقْدَام: 370، شرح الْكبر ى: 429، غَايَة المرام: 234. المواقف 323، مَجْمُوع الْفَتَاوَى 8/ 432_ 436, التسعينية: 247

خَاصَّة مَا يتَعَلَّق بِإِثْبَات زِيَادَته ونقصانه وَتَسْمِيَة بعض شعبه إِيمَانًا وَنَحْوهَا, وَكَذَا بَعض نُصُوص الْوَعْد والوعيد, وقصص الْأَنْبِيَاء, خُصُوصا مَوْضُوع الْعِصْمَة، وَبَعض الْأَوَامِر التكليفية أَيْضا. وضرورته لمنهج عقيدتهم أَصْلهَا أَنه لما تَعَارَضَت عِنْدهم الْأُصُول الْعَقْلِيَّة الَّتِي قرروها بَعيدا عَن الشَّرْع مَعَ النُّصُوص الشَّرْعِيَّة وَقَعُوا فِي مأزق رد الْكل أَو أَخذ الْكل فوجدوا فِي التَّأْوِيل مهربا عقليا ومخرجا من التَّعَارُض الَّذِي اختلقته أوهامهم وَلِهَذَا قَالُوا إننا مضطرون للتأويل وَإِلَّا أوقعنا الْقُرْآن فِي التَّنَاقُض. وإنّ الْخلف لم يؤوِّلوا عَن هوى ومكابرة وَإِنَّمَا عَن حَاجَة واضطرار؟ فَأَي تنَاقض فِي كتاب الله يَا مُسلمُونَ نضطر مَعَه إِلَى رد بعضه أَو الِاعْتِرَاف للأعداء بتناقضه؟. وَقد اعْترف الصَّابُونِي بِأَن فِي مَذْهَب الأشاعرة "تأويلات غَرِيبَة" فَمَا المعيار الَّذِي عرف بِهِ الْغَرِيب من غير الْغَرِيب؟ وَهنا لابد من زِيَادَة التَّأْكِيد على أَن مَذْهَب السّلف لَا تَأْوِيل فِيهِ لنَصّ من النُّصُوص الشَّرْعِيَّة إطلاقا وَلَا يُوجد

نَص وَاحِد - لَا فِي الصِّفَات وَلَا غَيرهَا - اضْطر السّلف إِلَى تَأْوِيله وَللَّه الْحَمد، وكل الْآيَات وَالْأَحَادِيث الَّتِي ذكرهَا الصَّابُونِي وَغَيره تحمل فِي نَفسهَا مَا يدل على الْمَعْنى الصَّحِيح الَّذِي فهمه السّلف مِنْهَا وَالَّذِي يدل على تَنْزِيه الله تَعَالَى دون أدنى حَاجَة إِلَى التَّأْوِيل. أما التَّأْوِيل فِي كَلَام السّلف فَلهُ مَعْنيانِ: 1ـ التَّفْسِير كَمَا تَجِد فِي تَفْسِير الطَّبَرِيّ وَنَحْوه "القَوْل فِي تَأْوِيل هَذِه الْآيَة" أَن تَفْسِيرهَا. 2ـ الْحَقِيقَة الَّتِي يصير إِلَيْهَا الشَّيْء كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} أَي تحقيقها, وَقَوله: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أَي تَحْقِيقه ووقوعه. أما التأوّل فَلهُ مَفْهُوم آخر: رَاجع الْحَاشِيَة. وَإِن تعجب فاعجب لهَذِهِ اللَّفْظَة النابية الَّتِي يستعملها الأشاعرة مَعَ النُّصُوص وَهِي أَنَّهَا "توهم" التَّشْبِيه وَلِهَذَا وَجب تَأْوِيلهَا, فَهَل فِي كتاب الله إِيهَام أم أَن الْعُقُول الكاسدة تتوهم والعقيدة لَيست مجَال توهم. فالعيب لَيْسَ فِي ظواهر النُّصُوص -عياذا بِاللَّه- وَلكنه فِي الأفهام بل الأوهام السقيمة. أما دَعْوَى أَن الإِمَام

أَحْمد اسْتثْنى ثَلَاثَة أَحَادِيث وَقَالَ لابد من تَأْوِيلهَا فَهِيَ فِرْيَة عَلَيْهِ افتراها الْغَزالِيّ فِي (الْإِحْيَاء وفيصل التَّفْرِقَة) ونفاها شيخ الْإِسْلَام سندا ومتنا. وَحسب الأشاعرة فِي بَاب التَّأْوِيل مَا فتحوه على الْإِسْلَام من شرور بِسَبَبِهِ فَإِنَّهُم لما أوَّلوا مَا أوّلوا تبعتهم الباطنية, واحتجت عَلَيْهِم فِي تَأْوِيل اَلحلال وَالْحرَام وَالصَّلَاة وَالصَّوْم وَالْحج والحشر والحساب، وَمَا من حجَّة يحْتَج بهَا الأشاعرة عَلَيْهِم فِي الْأَحْكَام وَالْآخِرَة إِلَّا احتجّ الباطنية عَلَيْهِم بِمِثْلِهَا أَو أقوى مِنْهَا من وَاقع تأويلهم للصفات. وَإِلَّا فلماذا يكون تَأْوِيل الأشاعرة لعلو الله الَّذِي تقطع بِهِ الْعُقُول وَالْفطر والشرائع تَنْزِيها وتوحيدا, وَتَأْويل الباطنية للبعث والحشر كفرا وردة؟ (¬1). ¬

(¬1) عَن التَّأْوِيل جملَة انْظُر كتاب ابْن فورك كَامِلا، والإنصاف: 56. 165، وَغَيرهَا, والإرشاد: فصل كَامِل لَهُ، أساس التَّقْدِيس: فصل كَامِل أَيْضا. وَعَن الثَّلَاثَة الْأَحَادِيث انْظُر: إحْيَاء عُلُوم الدّين طبعة الشعوب: 1/ 179 وَالرَّدّ عَلَيْهِ فِي مَجْمُوع الْفَتَاوَى 5/ 398, وَانْظُر كَذَلِك 6/ 397،580 تَنْبِيه حول التَّأْوِيل: التأوّل الَّذِي يذكرهُ الْفُقَهَاء فِي بَاب الْبُغَاة وَقد يرد فِي بعض كتب العقيدة لَا سِيمَا فِي مَوْضُوع التَّكْفِير والاستحلال هُوَ غير التَّأْوِيل الْمَذْكُور هُنَا وَإِن كَانَت أَكثر الْكتب تسمِّيه تَأْوِيلا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة تأوُّلاً لِأَن الْفِعْل الْمَاضِي مِنْهُ "تَأَول". فالتأوّل هُوَ: وضع الدَّلِيل فِي غير مَوْضِعه بِاجْتِهَاد أَو هُوَ شبه تنشأ من عدم فهم دلَالَة النَّص، وَقد يكون المتأول مُجْتَهدا مخطئا فيعذر, وَقد يكون متعسّفا متوّها فَلَا يعْذر, وعَلى كل حَال يجب الْكَشْف عَن حَاله وَتَصْحِيح فهمه قبل الحكم عَلَيْهِ, وَلِهَذَا كَانَ من مَذْهَب السّلف عدم تَكْفِير المتأول حَتَّى تُقَام عَلَيْهِ الْحجَّة مِثْلَمَا حصل مَعَ بعض الصَّحَابَة الَّذين شربوا الْخمر فِي عهد عمر متأولين قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} الْآيَة. وَمثل هَذَا من أوّل بعض الصِّفَات عَن حسن نِيَّة متأوِّلا قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ كمثله شئ} فَهُوَ مؤوِّل متأوّل وَلَا يكفر، وَلِهَذَا لم يُطلق السّلف تَكْفِير الْمُخَالفين فِي الصِّفَات أَو غَيرهَا؛ لِأَن بَعضهم أَو كثير مِنْهُم متأوِّلون، أما الباطنية فَلَا شكّ فِي كفرهم لِأَن تأويلهم لَيْسَ لَهُ أَي شُبْهَة بل أَرَادوا هدم الْإِسْلَام عمدا بِدَلِيل أَنهم لم يكتفوا بِتَأْوِيل الْأُمُور الاعتقادية بل أوَّلوا الْأَحْكَام العملية كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم وَالْحج. الخ ...

أَلَيْسَ كل مِنْهُمَا ردّاً لظواهر النُّصُوص مَعَ أَن نُصُوص الْعُلُوّ أَكثر وَأشهر من نُصُوص الْحَشْر الجسماني؟. ولماذا يكفّر الأشاعرة الباطنية ثمَّ يشاركونهم فِي أصل من أعظم أصولهم؟ الثَّانِي عشر: السمعيات: يقسم الأشاعرة أصُول العقيدة بِحَسب مصدر التلقي إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام: 1ـ قسم مصدره الْعقل وَحده وَهُوَ مُعظم الْأَبْوَاب, وَمِنْه بَاب الصِّفَات, وَلِهَذَا يسمون الصِّفَات السَّبع "عقلية" وَهَذَا الْقسم هُوَ"مَا يحكم الْعقل بِوُجُوبِهِ" دون توقف على

الْوَحْي عِنْدهم. 2ـ قسم مصدره الْعقل وَالنَّقْل مَعًا كالرؤية -على خلاف بَينهم فِيهَا-, وَهَذَا الْقسم هُوَ"مَا يحكم الْعقل بِجَوَازِهِ اسْتِقْلَالا أَو بمعاضدة الْوَحْي". 3ـ قسم مصدره النَّقْل وَحده وَهُوَ السمعيات أَي المغيبات من أُمُور الْآخِرَة كعذاب الْقَبْر والصراط وَالْمِيزَان, وَهُوَ عِنْدهم: مَالا يحكم الْعقل باستحالته لَكِن لَو لم يرد بِهِ الْوَحْي لم يسْتَطع الْعقل إِدْرَاكه مُنْفَردا, ويدخلون فِيهِ التحسن والتقبيح والتحليل وَالتَّحْرِيم. وَالْحَاصِل أَنهم فِي صِفَات الله جعلُوا الْعقل حَاكما, وفى إِثْبَات الْآخِرَة جعلُوا الْعقل عاطلا, وفى الرُّؤْيَة جَعَلُوهُ مُسَاوِيا. فَهَذِهِ الْأُمُور الغيبية نتفق مَعَهم على إِثْبَاتهَا لكننا نخالفهم فِي المأخذ والمصدر، فهم يَقُولُونَ عِنْد ذكر أيّ أَمر مِنْهَا نؤمن بِهِ لِأَن الْعقل لَا يحكم باستحالته وَلِأَن الشَّرْع جَاءَ بِهِ ويكرِّرون ذَلِك دَائِما، أما فِي مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فَلَا مُنَافَاة بَين الْعقل وَالنَّقْل أصلا, وَلَا تضخيم لِلْعَقْلِ فِي جَانب وإهدار فِي جَانب, وَلَيْسَ هُنَاكَ أصل من أصُول العقيدة يسْتَقلّ الْعقل بإثباته أبدا, كَمَا أَنه لَيْسَ هُنَاكَ أصل مِنْهَا لَا يَسْتَطِيع الْعقل إثْبَاته أبدا.

فالإيمان بِالآخِرَة وَهُوَ أصل كل السمعيات لَيْسَ هُوَ فِي مَذْهَب أمل السّنة وَالْجَمَاعَة سمعيا فَقَط بل إِن الْأَدِلَّة عَلَيْهِ من الْقُرْآن هِيَ فِي نَفسهَا عقلية كَمَا أَن الْفطر السليمة تشهد بِهِ فَهُوَ حَقِيقَة مركوزة فِي أذهان الْبشر مَا لم يحرفهم عَنْهَا حارف. لَكِن لَو أَن الْعقل حكم باستحالة شَيْء من تفصيلاته -فرضا وجدلا- فَحكمه مَرْدُود وَلَيْسَ إيمَاننَا بِهِ متوقفا على حكم الْعقل. وَغَايَة الْأَمر أَن الْعقل قد يعجز عَن تصَوره أما أَن يحكم باستحالته فَغير وَارِد وَللَّه الْحَمد (¬1). الثَّالِث عشر: التَّكْفِير: التَّكْفِير عِنْد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة حق لله تَعَالَى لَا يُطلق إِلَّا على من يسْتَحقّهُ شرعا وَلَا تردد فِي إِطْلَاقه على من ثَبت كفره بِشُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّة. أما الأشاعرة فهم مضطربون اضطرابا كَبِيرا فَتَارَة يَقُولُونَ: "نَحن لَا نكفّر أحدا", وَتارَة يَقُولُونَ: "نَحن لَا نكفِّر إِلَّا من كفّرنا", وَتارَة يكفّرون بِأُمُور لَا تستوجب أَكثر من ¬

(¬1) انْظُر الْإِرْشَاد: 358، 340، الْإِنْصَاف: 55، المواقف: 23, شرح الأصفهانية: 49، النبوات: 48، وَانْظُر الْجُزْء الثَّانِي من مَجْمُوع الْفَتَاوَى 7 - 27.

التفسيق أَو التبديع, وَتارَة يكفّرون بِأُمُور لَا توجب مُجَرّد التفسيق, وَتارَة يكفّرون بِأُمُور هِيَ نَفسهَا شَرْعِيَّة وَيجب على كل مُسلم أَن يعتقدها. فَأَما قَوْلهم: "لَا نكفّر أحدا" فَبَاطِل قطعا؛ إِذْ فِي المنتسبين إِلَى الْإِسْلَام فضلا عَن غَيرهم كفّار لاشك فِي كفرهم, وَأما قَوْلهم: "لَا نكفّر إِلَّا من كفّرنا" فَبَاطِل كذلكَ؛ إِذْ لَيْسَ تَكْفِير أحد لنا بمسوِّغ أَن نكفِّره إِلَّا إِذا كَانَ يسْتَحق ذَلِك شرعا. وَأما تَكْفِير من لَا يسْتَحق سوى التبديع فَمثل تصريحهم فِي أغلب كتبهمْ بتكفير من قَالَ: "إِن الله جسم لَا كالأجسام" وَهَذَا لَيْسَ بِكَافِر بل هُوَ ضال مُبْتَدع؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِلَفْظ لم يرد بِهِ الشَّرْع, والأشاعرة تسْتَعْمل مَا هُوَ مثله وَشر مِنْهُ. وَأما تَكْفِير من لَا يسْتَحق حَتَّى مُجَرّد الْفسق أَو الْمعْصِيَة فَكَمَا مرّ فِي الْفَقْرَة السَّابِعَة من تكفيرهم من قَالَ: "إِن النَّار عِلّة الإحراق وَالطَّعَام عِلّة الشِّبَع". وَأما التَّكْفِير بِمَا هُوَ حق فِي نَفسه يجب اعْتِقَاده فنحو تكفيرهم لمن يثبت علو الله وَمن لم يُؤمن بِاللَّه على طَريقَة أهل الْكَلَام, وكقولهم: "إِن الْأَخْذ بظواهر النُّصُوص من أصُول الْكفْر" كَقَوْلِهِم: "إنّ عبَادَة الْأَصْنَام فرع من مَذْهَب المشبهة" ويعنون بهم أهل السّنة وَالْجَمَاعَة.

وَمن شَوَاهِد تَكْفِير بَعضهم قَدِيما وحديثا لشيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية وَابْن الْقيم حَسبك مَا فِي كتب الكوثري وتلميذه مؤلف بَرَاءَة الْأَشْعَرِيين (¬1). الرَّابِع عشر: الصَّحَابَة والإمامة: من خلال استعراض لأكْثر أُمَّهَات كتب الأشاعرة وجدت أَن مَوْضُوع الصَّحَابَة هُوَ الْمَوْضُوع الوحيد الَّذِي يتفقون فِيهِ مَعَ أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَقَرِيب مِنْهُ مَوْضُوع الْإِمَامَة. وَلَا يَعْنِي هَذَا الِاتِّفَاق التَّام بل هم مخالفون فِي تفصيلات كَثِيرَة, لَكِنَّهَا لَيست دَاخِلَة فِي بحثنا هُنَا؛ لِأَن غرضنا -كَمَا فِي سَائِر الفقرات- إِنَّمَا هُوَ الْمنْهَج وَالْأُصُول. الْخَامِس عشر: الصِّفَات: والْحَدِيث عَنْهَا يطول وتناقضهم وتحكمهم فِيهَا أشهر وَأكْثر، وكل مَذْهَبهم فِي الصِّفَات مركب من بدع سَابِقَة وأضافوا إِلَيْهِ بدعا أحدثوها فَأصْبح غَايَة فِي التلفيق المتنافر. وَلنْ أتحدث عَن هَذَا الْبَاب هُنَا لأنني التزمت بِبَيَان ¬

(¬1) انْظُر المواقف: 392، ومصادر المبحث " السَّابِع "، أساس التَّقْدِيس: 16، 196، شرح الْكُبْرَى 62, أَرْكَان الْإِيمَان: 298 - 299.

الْأُصُول الَّتِي خالفوا فِيهَا أهل السّنة وَالْجَمَاعَة عدا الصِّفَات. أما مخالفتهم فِي الصِّفَات فمعروفة, وَإِن كَانَ كثير من أسس نظرياتهم فِيهَا يحْتَاج لتجلية ونسف. وَلَعَلَّ هَذَا مَا يكون فِي الرَّد المتكامل بِإِذن الله. هَل بَقِي شكّ؟ بعد هَذِه المخالفات المنهجية فِي أَبْوَاب العقيدة كلهَا, وَبعد هَذَا التميّز الفكري الْوَاضِح لمَذْهَب الأشاعرة, إِضَافَة إِلَى التميّز التاريخي هَل بقى شكّ فِي خُرُوجهمْ عَن مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة الَّذِي هُوَ مَذْهَب السّلف الصَّالح؟. لَا أَظن أيّ عَارِف بالمذهبين وَلَو من خلال مَا سبق هُنَا يتَصَوَّر ذَلِك. وَمَعَ هَذَا فَسَوف أضيف فوارق منهجية أُخْرَى وضوابط فِي علم الْفرق والمقالات لَا يشك فِي صدقهَا مطَّلع بل سأكتفي بفارق وَاحِد وَضَابِط وَاحِد: فَارق منهجي نموذجي: التَّنَاقُض ومكابرة الْعقل: لَيْسَ هُنَاكَ مَذْهَب أَكثر تناقضا من مَذْهَب الأشاعرة اللَّهُمَّ إِلَّا مَذْهَب الرافضة, لَكِن الرافضة كَمَا قَالَ الإِمَام أَحْمد: "لَيست الرافضة من الْإِسْلَام فِي شَيْء", وكما قَالَ

شيخ الْإِسْلَام: "إِن الرافضة قوم لَا عقل لَهُم وَلَا نقل"، أما هَؤُلَاءِ فيدّعون الْعقل ويحكَّمونه فِي النَّقْل ثمَّ يتناقضون تناقضا يبرأ مِنْهُ الْعقل, ويخلو مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة من أدنى شَائِبَة مِنْهُ وَللَّه الْحَمد، وكما سيلاحظ الْقَارئ هُنَا يرجع مُعظم تناقضهم إِلَى كَونهم لم يسلّموا للوحي تَسْلِيمًا كَامِلا, ويعرفوا لِلْعَقْلِ مَنْزِلَته الْحَقِيقِيَّة وحدوده الشَّرْعِيَّة, وَلم يلتزموا بِالْعقلِ التزاما وَاضحا, ويرسموا منهجا عقليا متكاملا كالمعتزلة والفلاسفة بل خلطوا وركبوا فتناقضوا واضطربوا. وَإِلَيْك أَمْثِلَة سريعة للتناقض ومكابرة الْعقل: 1 - قَالُوا: "إِنَّه لَا يجوز أَن يرى الْأَعْمَى بالمشرق الْبقْعَة بالأندلس". 2 - قَالُوا: "إِن الْجِهَة مستحيلة فِي حق الله" ثمَّ قَالُوا بِإِثْبَات الرُّؤْيَة, وَلِهَذَا قيل فيهم: "من أنكر الْجِهَة وَأثبت الرُّؤْيَة فقد أضْحك النَّاس على عقله". 3 - قَالُوا: "إِن لله سبع صِفَات عقلية يسمونها (مَعَاني) هِيَ: "الْحَيَاة وَالْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة والسمع وَالْبَصَر وَالْكَلَام", وَلم يكتفوا بِهَذَا التحكّم الْمَحْض، بل قَالُوا: "إِن لَهُ سبع صِفَات أُخْرَى يسمونها (معنوية) وَهِي "كَونه حَيا, وَكَونه عَالما,

وَكَونه قَادِرًا, وَكَونه مرِيدا, وَكَونه سميعا, وَكَونه بَصيرًا, وَكَونه متكلما" ثمَّ لم يَأْتُوا فِي التَّفْرِيق بَين الْمعَانِي والمعنوية بِمَا يستسيغه عقل, بل غَايَة مَا قَالُوا: "إِن هَذِه الْأَخِيرَة أَحْوَال فَإِذا سَأَلتهمْ مَا الحالي؟ قَالُوا: "صفة لَا مَعْدُومَة وَلَا مَوْجُودَة…" 4 - قَالُوا: "إِنَّه لَا أثر لشَيْء من الْمَخْلُوقَات فِي شَيْء, وَلَا فعل مُطلقًا", ثمَّ قَالُوا: "إِن للْإنْسَان كسبا يجازى لأَجله، فَكيف يجازى على مَالا أثر لَهُ فِيهِ مُطلقًا" (رَاجع فقرتي: السَّادِس وَالسَّابِع). 5 - قَالُوا: بِنَفْي الْحِكْمَة وَالتَّعْلِيل فِي أَفعاله الله مُطلقًا, ثمَّ إنّ الله يَجْعَل لكل نَبِي معْجزَة لأجل إِثْبَات صدق النَّبِي فتناقضوا بَين مَا يسمُّونه (نفي الْحِكْمَة وَالْغَرَض) وَبَين إِثْبَات الله للرسول تفريقا بَينه وَبَين المتنبئ. 6 - قَالُوا: بِأَن أَحَادِيث الْآحَاد مهما صحَّت لَا يبْنى عَلَيْهَا عقيدة ثمَّ أسَّسوا مَذْهَبهم وَبَنوهُ فِي أخطر الْأُصُول والقضايا (الْإِيمَان، الْقُرْآن، الْعُلُوّ) على بَيْتَيْنِ غير ثابتين عَن شَاعِر نَصْرَانِيّ- الأخطل- هما: (1) إِن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد وَإِنَّمَا ... جعل اللِّسَان على الْفُؤَاد دَلِيلا

(2) قد اسْتَوَى بشر على الْعرَاق ... من غير سيف وَدم مهراق 7 - قَالُوا: بِأَن رفع النقيضين محَال -وَهُوَ كَذَلِك- محتجين بهَا فِي مسَائِل, ثمَّ قَالُوا فِي صفة من أعظم وأبيَنِ الصِّفَات (الْعُلُوّ): "إنّ الله لَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا فَوْقه وَلَا تَحْتَهُ وَلَا عَن يَمِينه وَلَا عَن شِمَاله…" وَقَالُوا عَن الْأَحْوَال: هِيَ صِفَات لَا مَعْدُومَة وَلَا مَوْجُودَة فَرفعُوا النقيضين مَعًا. 8 - قَالُوا: "إِن الْعقل يقدَّم على النَّقْل عِنْد التَّعَارُض, بل الْعقل هُوَ الأَصْل, وَالنَّقْل إِن وَافقه قُبِل وَإِن خَالفه رد أَو أوّل"، ثمَّ قَالُوا: "إِن الْعقل لَا يحسّن شَيْئا وَلَا يقبحه "، فَجعلُوا -مثلا- نُصُوص علو الله مُعَارضَة للقواطع الْعَقْلِيَّة فِي حِين جعلُوا قبح الزِّنَا وَالْكذب مَسْأَلَة سمعيه ... 9 - قَالُوا: "إنّ تَأْوِيل آيَات الصِّفَات وَاجِب يَقْتَضِيهِ التَّنْزِيه وَتَأْويل آيَات الْحَشْر وَالْأَحْكَام كفر يخرج من الْملَّة" ... أما من دَعَا غير الله أَو ذبح لَهُ واستغاث بِهِ أَو تحاكم إِلَى الطاغوت فَلم يتَعَرَّضُوا لذكره أصلا. 10 - قَالُوا: "إِن من قَالَ: إِن النَّار تحرق بطبعها كَافِر

مُشْرك, وَمن أنكر علو الله على خلقه موّحد منزّه". 11 - جزموا بِأَن من لم يبلغهُ الشَّرْع غير مؤاخذ بِإِطْلَاق, وردّوا أَو أوّلوا النُّصُوص فِي ذَلِك. ثمَّ قَالُوا: "إِن على كل مُكَلّف -وان كَانَ مولودا من أبوين مُسلمين فِي ديار الْإِسْلَام وَهُوَ يظْهر الْإِسْلَام- عَلَيْهِ إِذا بلغ سنّ التَّكْلِيف أَن ينظر فِي حُدُوث الْعَالم وَوُجُود الله", فَإِن مَاتَ قبل النّظر أَو فِي أَثْنَائِهِ اخْتلفُوا فِي الحكم بِإِسْلَامِهِ, وَجزم بَعضهم بِكُفْرِهِ (¬1). هَذَا غيض من فيض من تناقضهم مَعَ أصولهم ومكابرتهم لِلْعَقْلِ السَّلِيم, وَمن أَرَادَ الاستزادة وَالتَّفْصِيل فَليُرَاجع التسعينية لشيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية. وَهُنَاكَ قَضِيَّة بَالِغَة الخطورة لاسيما فِي هَذَا الْعَصْر وهى الأخطاء العلمية عَن الْكَوْن الَّتِي تمتلئ بهَا كتب الأشاعرة وَالَّتِي يتخذها الْمَلَاحِدَة، وَسِيلَة لِلطَّعْنِ فِي الْإِسْلَام وتشكيك الْمُسلمين فِي دينهم. من ذَلِك مَا حشده صَاحب المواقف فِي أول كِتَابه من فُصُول طَوِيلَة عَن الْفلك والحرارة والضوء والمعادن ¬

(¬1) شرح الباجوري: 31، شرح الْكُبْرَى: 39، 210، 213، حَاشِيَة الدسوقي: 54 - 70 - 97، مصَادر الموضوعات السَّابِقَة.

وَغَيرهَا مِمَّا قد يكون ذَا شَأْن فِي عصره لكنه الْيَوْم أشبه بأساطير اليونان أَو خرافات الْعَجَائِز. وَمن ذَلِك قَول الْبَغْدَادِيّ: "إِن أهل السّنة (¬1) أَجمعُوا على وقُوف الأَرْض وسكونها" (¬2). وَاسْتدلَّ على ذَلِك فِي كِتَابه أصُول الدّين "بِمَعْنى اسْم الله الباسط" قَالَ: "لِأَنَّهُ بسط الأَرْض وسماها بساطا خلاف زعم الفلاسفة والمنجمين أَنَّهَا كروية" (¬3) , وَمثله صَاحب المواقف الَّذِي أكد أَنَّهَا مبسوطة وَأَن القَوْل بِأَنَّهَا كرة من زعم الفلاسفة (¬4). ورحم الله شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية مَا كَانَ أعظمه حِين قَالَ: "وَالْخَطَأ فِيمَا تَقوله المتفلسفة فِي الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ الْمُتَكَلِّمين. وَأما فِيمَا يَقُولُونَهُ فِي الْعُلُوم الطبيعية والرياضية فقد يكون صَوَاب المتفلسفة أَكثر من صَوَاب من رد عَلَيْهِم من ¬

(¬1) يعْنى بهم الأشاعرة كعادته هُوَ وَبَعض أَصْحَابه, وَلِهَذَا يجب التفطن لمثل هَذَا عِنْد النَّقْل من كتبهمْ. (¬2) الْفرق بَين الْفرق: 318. (¬3) انْظُر ص 124. (¬4) انْظُر المواقف: 199، 217، 219.

أهل الْكَلَام، فَإِن أَكثر أهل الْكَلَام فِي هَذِه الْأُمُور بِلَا علم وَلَا عقل وَلَا شرع" (¬1). ضَابِط من ضوابط معرفَة الْفرق واختلافها: من الْمَعْلُوم لَدَى الباحثين فِي الْفرق واختلافها أَن لكل فرقة أساسا منهجيا تتفق عَلَيْهِ طوائفها وَترجع إِلَيْهِ أُصُولهَا وقواعدها, وَمن خَالف فِيهِ خرج عَن انتسابه لَهَا, وَمن لم ينطبق عَلَيْهِ لم يدْخل فِيهَا. فمثلا كل من قَالَ بالأصول الْخَمْسَة فَهُوَ معتزلي, وكل من قَالَ: "إِن الْإِنْسَان مجبور على أَفعاله فَهُوَ جبري", وكل من قَالَ: "إِن الْإِيمَان هُوَ الْمعرفَة أَو التَّصْدِيق فَهُوَ مرجئ", وكل من قَالَ بالْكلَام النَّفْسِيّ وَالْكَسْب فَهُوَ أشعري ... إِلَى آخر مَا هُوَ مَعْرُوف. وَهَذَا ضَابِط منهجي يحدّد بِهِ الباحث الْفرْقَة والانتماء إِلَيْهَا. وبتطبيق هَذَا الضَّابِط الَّذِي لَا خلاف فِي تحديده يتَبَيَّن قطعا أَن المرجئة والقدرية والمعتزلة لَيْسُوا من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَهَذَا مَا تَقوله الأشاعرة وَلَا تخَالف فِيهِ. ¬

(¬1) الرَّد على المنطقيين: 311.

وَمن الثَّابِت عَن كثير من السّلف وَعَلِيهِ جرى المصنفون فِي الْفرق والمقالات من أهل السّنة والأشاعرة أَن أصُول الْفرق الثِّنْتَيْنِ وَسبعين الْخَارِجَة عَن أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَربع "الْقَدَرِيَّة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة". فَنَقُول بعد ذَلِك: إِذا كَانَ المرجئ والقدري ليسَا من أهل السّنة فَمَا حكم من جمع بَين الإرجاء وَالْقدر أَو الإرجاء والجبر أَو جمع بَين أصُول الْمُعْتَزلَة وَقَول الرافضة؟. أَيكُون هَذَا من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة؟ أم أَكثر بعدا عَنْهُم؟. وَالْجَوَاب الطبيعي مَعْرُوف. وَعَلِيهِ نقُول: 1ـ إِذا كَانَت المرجئة الْخَالِصَة (أَي الَّتِي لم تخلط بالإرجاء شَيْئا من الْبدع فِي الصِّفَات أَو غَيرهَا) لَيست هِيَ أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَلَا مِنْهُم، فَكيف يكون حَال الأشاعرة الَّذين جَاءُوا بالإرجاء كَامِلا، وَزَادُوا عَلَيْهِ بدعاً أُخْرَى فِي أَبْوَاب العقيدة الْأُخْرَى كَمَا مر سَابِقًا. 2 - إِذا كَانَت الجبرية الْخَالِصَة لَيست هِيَ أهل السّنة

وَالْجَمَاعَة وَلَا مِنْهُم فَكيف يكون حَال الأشاعرة الَّذين جَاءُوا بِالْكَسْبِ (الَّذِي اعْترف كثير مِنْهُم بِأَنَّهُ جبر وَإِن لم يكن جبرا فَهُوَ بِدعَة على أَي حَال) وَزَادُوا عَلَيْهِ كَمَا سبق. أضف إِلَى هَذَا أَن كل ذمّ للصوفية فللأشاعرة مِنْهُ نصيب لِأَن أَكثر أَئِمَّة الصُّوفِيَّة المنحرفين كالغزالي وَابْن الْقشيرِي كَانُوا أشاعرة ... 3 - هَل يرضى الأشاعرة أَن يُقَال عَنْهُم معتزلة فَإِن قَالُوا: لَا وَهُوَ المتوقع قُلْنَا: وَأهل السّنة وَالْجَمَاعَة لَا يرضون أَن يُقَال عَنْهُم أشاعرة أبدا، فَإِن خالفونا قُلْنَا: تَعَالَوْا لنقيس نَحن وَأَنْتُم الْمسَافَة بَيْنكُم وبيننا, وَبَيْنكُم وَبَين الْمُعْتَزلَة, وَعِنْدهَا ترَوْنَ أَنكُمْ أقرب إِلَيْهِم مِنْكُم إِلَيْنَا وَإِن كُنْتُم أقرب إِلَيْنَا مِنْهُم. 4 - لَو أَن أيّ باحث فِي الْفرق يعرف أُصُولهَا وضوابط تحديدها اطلع على كتب فرقة من الْفرق أَو علم من الْأَعْلَام فَوَجَدَهَا مَمْلُوءَة شتما وتضليلا وتبديعا وتكفيراً لفرقة مُعينَة فَهَل يجوز لَهُ أَن يكْتب فِي بَحثه أَن هَذِه الْفرْقَة وَتلك سَوَاء أَو أَن هَذِه جُزْء من هَذِه, وَهل يقبل هَذَا مِنْهُ أَي أستاذ للْفرق والمذاهب؟.

بل لَو سَمِعت أحدا من الْعَامَّة يشْتم طَائِفَة من النَّاس فَقلت لَهُ: أَنْت مِنْهُم، أفيرضى بِهَذَا أم يعتبره شتما لَهُ؟. فَمَا القَوْل إِذن فِي الأشاعرة الَّذين تمتلئ كتبهمْ بشتم وتضليل وتبديع أهل السّنة وَالْجَمَاعَة, وَأَحْيَانا بتكفيرهم أيصح بعد هَذَا أَن نقُول إِنَّهُم مِنْهُم؟. وَإِن أردْت التأكد فاسأل أَي أشعري مَا المُرَاد بقول الرَّازِيّ أَو الْجُوَيْنِيّ أَو الإيجي… الخ. (الحشوية، المجسمة، النابتة، مثبتو الْجِهَة، الْقَائِلُونَ بِأَن الْحَوَادِث تحل فِي الله ... الخ) (¬1). إِن الْأَجْوِبَة كلهَا بديهية وَلَكِن مَاذَا نصْنَع وَقد ابتلينا بِمن يُنكر البديهيات. ¬

(¬1) وَمن العجيب أَن الماتريدية يخرجُون الأشاعرة من أهل السّنة ويدعونه لأَنْفُسِهِمْ وهم أَكثر فرْقَتَيْن فِي الْإِسْلَام تقاربا واشتراكا فِي الْأُصُول. انْظُر حَاشِيَة على شرح العضدية: 38 أما مَا يتَعَلَّق بِالْخِلَافِ بَين الأشاعرة والمعتزلة فَهُوَ برمتِهِ خلاف داخلي ضمن الْمدرسَة الْعَقْلِيَّة الَّتِي هِيَ مدرسة الْهوى والبدعة, وَلَا بَأْس أَن يَسْتَفِيد أهل السّنة من ردود الأشاعرة عَلَيْهِم إِذا كَانَت حَقًا.

أَيهمَا الْفرْقَة النَّاجِية؟ قد أوضحنا فِيمَا سبق أَن أهل السّنة وَالْجَمَاعَة والأشاعرة فرقتان مُخْتَلِفَتَانِ، وَهَذَا يسْتَلْزم تَحْدِيد أَيهمَا الْفرْقَة النَّاجِية؟. وَمَا أوضح هَذَا التَّحْدِيد وأسهله، لَكِن مُكَابَرَة بعض الأشاعرة بادّعاء أَن الأشاعرة وَأهل السّنة وَالْجَمَاعَة كِلَاهُمَا نَاجٍ يجعلنا نبدأ بإلقاء سُؤال عَن الْفرْقَة النَّاجِية: أَهِي فرقة وَاحِدَة أم فرقتان؟ وَالْجَوَاب:-مَعَ بداهته لكل ذِي عقل- مفروغ مِنْهُ نصا، فقد أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رِوَايَات كَثِيرَة لحَدِيث افْتِرَاق هَذِه الْأمة على ثَلَاث وسبعن فرقة: أَنَّهَا كلهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة. وَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أحد من أَصْحَابه وَلَا تابعيهم أَنَّهَا اثْنَتَانِ. وَعَلِيهِ جَاءَ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} أَن الطَّرِيق الْمُسْتَقيم: هُوَ السّنة, والسبل: هِيَ الْأَهْوَاء, وَمَا هُوَ إِلَّا طَرِيق وَاحِد كَمَا خطّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ.

وعَلى هَذَا سَارَتْ كتب الْفرق- السّني مِنْهَا والبدعي- فَهِيَ تقرران الْفرْقَة النَّاجِية وَاحِدَة ثمَّ تدّعي كل فرقة أَنَّهَا هِيَ هَذِه الْوَاحِدَة. بقى إِذن أَن يُقَال: مَا هِيَ صفة هَذِه الْفرْقَة وعلامتها؟ وَالْجَوَاب أَنه جَاءَ فِي بعض رِوَايَات الحَدِيث نَفسه - من طرق يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا- أَنَّهَا "مَا أَنا عَلَيْهِ وأصحابي" وَمَعْنَاهَا قطعا صَحِيح، وَلَا تخَالف فِيهِ الأشاعرة بل فِي الْجَوْهَرَة: وكل الْخَيْر اتِّبَاع من سلف ... وكل شَرّ فِي ابتداع من خلف فَنَقُول لَهُم إِذن: أَكَانَ مِمَّا عَلَيْهِ النَّبِي- صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وَأَصْحَابه وَسلف الْأمة: تَقْدِيم الْعقل على النَّقْل أَو نفى الصِّفَات مَا عدا المعنوية والمعاني، أَو الِاسْتِدْلَال بِدَلِيل الْحُدُوث والقدم، أَو الْكَلَام عَن الْجَوْهَر وَالْعرض والجسم وَالْحَال ... أَو نظرية الْكسْب، أَو أَن الْإِيمَان هُوَ مُجَرّد التَّصْدِيق القلبي، أَو القَوْل بِأَن الله لَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا فَوْقه وَلَا تَحْتَهُ، أَو

الْكَلَام النَّفْسِيّ الَّذِي لَا صِيغَة لَهُ، أَو نفي قدرَة العَبْد وتأثير الْمَخْلُوقَات، أَو إِنْكَار الْحِكْمَة وَالتَّعْلِيل ... إِلَى آخر مَا فِي عقيدتكم؟ إننا نربأ بِكُل مُسلم أَن يظنّ ذَلِك أَو يَقُوله. بل نَحن نَزِيدكُمْ إيضاحا فَنَقُول: إِن هَذِه العقائد الَّتِي أدخلتموها فِي الْإِسْلَام وجعلتموها عقيدة الْفرْقَة النَّاجِية بزعمكم, هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فلاسفة اليونان ومشركو الصابئة وزنادقة أهل الْكتاب. لَكِن ورثهَا عَنْهُم الجهم بن صَفْوَان وَبشر المريسي وَابْن كلاب, وَأَنْتُم ورثتموها عَن هَؤُلَاءِ، فَهِيَ من تَرِكَة الفلاسفة والابتداع وَلَيْسَت من مِيرَاث النُّبُوَّة وَالْكتاب. وَمن أوضح الْأَدِلَّة على ذَلِك أننا مَا نزال حَتَّى الْيَوْم نرد عَلَيْكُم بِمَا ألّفه أَئِمَّة السّنة الْأَولونَ من كتب فِي الردود على "الْجَهْمِية" كتبوها قبل ظُهُور مذهبكم بِزَمَان، وَمِنْهُم الإِمَام أَحْمد وَالْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد والدارمي وَابْن أبي حَاتِم… فَدلَّ هَذَا على أَن سلفكم أُولَئِكَ الثَّلَاثَة وأشباههم مَعَ مَا زدتم عَلَيْهِم وركبتم من كَلَامهم من بدع جَدِيدَة.

على أَن المراء حول الْفرْقَة النَّاجِية لَيْسَ جَدِيدا من الأشاعرة فقد عقدوا لشيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية محاكمة كبرى بِسَبَب تأليفه "العقيدة الواسطية" وَكَانَ من أهم التهم الموجهة إِلَيْهِ أَنه قَالَ فِي أَولهَا: "فَهَذَا اعْتِقَاد الْفرْقَة النَّاجِية ... ". إِذْ وجدوا هَذَا مُخَالفا لما تقرر لديهم من الْفرْقَة النَّاجِية هِيَ الأشاعرة والماتريدية (¬1) وَكَانَ من جَوَاب شيخ الْإِسْلَام لَهُم أَنه أحضر أَكثر من خمسين كتابا من كتب الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَأهل الحَدِيث والصوفية والمتكلمين كلهَا توَافق مَا فِي الواسطية وَبَعضهَا ينْقل إِجْمَاع السّلف على مَضْمُون تِلْكَ العقيدة. وتحدّاهم- رَحمَه الله- قَائِلا: "قد أمهلت كل لمن خالفني فِي شَيْء مِنْهَا ثَلَاث سِنِين فَإِن جَاءَ بِحرف وَاحِد عَن أحد من الْقُرُون الثَّلَاثَة ... يُخَالف مَا ذكرت فَأَنا أرجع عَن ذَلِك". قَالَ: "وَلم يسْتَطع المتنازعون مَعَ طول تفتيشهم كتب الْبَلَد وخزائنه أَن يخرجُوا مَا يُنَاقض ذَلِك عَن أحد من أَئِمَّة ¬

(¬1) انْظُر تَفْصِيل المناظرة فِي مَجْمُوع الْفَتَاوَى ج 3.

الْإِسْلَام وسلفه" (¬1). فَهَل يُرِيد الأشاعرة المعاصرون أَن نجدِّد التحدِّي ونمدد المهلة أم يكفى أَن نقُول لَهُم ناصحين: إِنَّه لَا نجاة لفرقة وَلَا لأحد فِي الابتداع, وَإِنَّمَا النجَاة كل النجَاة فِي التَّمَسُّك والاتباع ... ترجو النجَاة وَلم تسلك مسالكها ... إِن السَّفِينَة لَا تجْرِي على اليبس من أهل الْقبْلَة لَا من أهل السّنة: تبين مِمَّا تقدم أَن الأشاعرة فرقة من الثِّنْتَيْنِ وَسبعين فرقة وَأَن حكم هَذِه الْفرق الثِّنْتَيْنِ وَسبعين هُوَ: 1ـ الضلال والبدعة. 2ـ الْوَعيد بالنَّار وَعدم النجَاة. وَهَذَا مثار جدل كَبِير ولغط كثير مِمَّن يجهلون منصب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فِي الْوَعْد والوعيد إِذْ مَا يكادون يسمعُونَ هَذَا حَتَّى يرفعوا عقيرتهم بأننا ندخل الأشاعرة النَّار ونحكم عَلَيْهِم بِالْخرُوجِ من الْملَّة -عياذا بِاللَّه-. ¬

(¬1) انْظُر الْمصدر السَّابِق: 169، 217.

وَنحن نقُول إِنَّه لَا يَصح تَفْسِير أَلْفَاظ أَو إطلاقات مَذْهَب السّلف فِي الْوَعْد والوعيد إِلَّا من خلال أَقْوَالهم هم وعَلى الَّذين يجهلونه أَن يستفصلوا قبل أَن يتسرّعوا بادّعاء التَّكْفِير. وَهَذَا موجز لمَذْهَب السّلف فِي أَلْفَاظ الْوَعيد ونصوصه: 1ـ فَمن أَلْفَاظ الْوَعيد "الضلال" وَهُوَ لَيْسَ مرادفا للكفر بِإِطْلَاق إِلَّا عِنْد من يجهلون أوضح بدهيات العقيدة، فَإِذا أطلق على أحد من الْقبْلَة فَالْمُرَاد بِهِ الْمعْصِيَة فِي الاعتقادات كَمَا أَن لفظ "الْفسق" يُطلق على الْمعْصِيَة فِي الْأَعْمَال. مَعَ أَن الضلال وَالْفِسْق يطلقان على الْكفْر أَيْضا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} , وَقَوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ}. لَكِن إِذا كَانَت كلمة الْكفْر نَفسهَا تطلق فِي الْأَحَادِيث وَلَا يُرَاد بهَا الْكفْر الْأَكْبَر الْمخْرج من الْملَّة كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّحِيح: "سباب الْمُسلم فسوق وقتاله كفر"

فَكيف بلفظتي الْفسق والضلال اللَّتَيْنِ دون ذَلِك فِي الْوَعيد. وَالْقُرْآن- على الصَّحِيح- لم يَأْتِ فِيهِ إِطْلَاق الْكفْر إِلَّا على الْكفْر الْأَكْبَر الْمخْرج من الْملَّة، أما الضلال فورد فِيهِ بِمَعْنى الانحراف عَن الْحق وَالصَّوَاب مُطلقًا غير وُرُوده بِمَعْنى الْكفْر كَمَا سبق. وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}. وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ كل عَاص كَافِرًا. وَقَوله تَعَالَى عَن أَصْحَاب الْجنَّة الْمَذْكُورين فِي سُورَة

الْقَلَم: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} , وهم لم يشْهدُوا على أنفسهم بالْكفْر. وَقَوله تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} أَي تخطئ فتذكرها الْأُخْرَى. وَالْحَاصِل أَن قَوْلنَا إِن الأشاعرة فرقة ضَالَّة يَعْنِي أَنَّهَا منحرفة عَن طَرِيق الْحق ومنهج السّنة, وَلَا يَعْنِي مُطلقًا خُرُوجهَا عَن الْملَّة وَأهل الْقبْلَة, وَهَذَا يَتَّضِح بالفقرة التالية: 2ـ نُصُوص الْوَعيد وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "كلهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة" لَهَا منهجها المنضبط فِي مَذْهَب السّلف عِنْد الْإِطْلَاق وَعند التَّعْيِين. فَنحْن نعلم جَمِيعًا أَن الله توعد قَاتل النَّفس الَّتِي حرم الله وَالزَّانِي وآكل مَال الْيَتِيم بالنَّار بِصَرِيح الْقُرْآن لَكِن هَل يَعْنِي هَذَا أَن كل قَاتل وزان وآكل مَال يَتِيم يدْخل النَّار قطعا, وأننا لَو رَأينَا أحدا مِنْهُم بِعَيْنِه يجوز لنا أَن نعتقد دُخُوله النَّار؟ لَيْسَ هَذَا من مَذْهَب السّلف أبدا، وَإِنَّمَا مَذْهَب السّلف أَن هَذِه النُّصُوص تبيّن وتقرّر حكم من فعل هَذِه

الذُّنُوب أما تحقق هَذَا الحكم فِيهِ وتطبيق الْوَعيد وتنفيذه فِيهِ فَهُوَ مُتَوَقف على شُرُوط لابد من تحققها وموانع لابد من انتفائها (¬1). فقد يقتل الرجل نفسا مُؤمنَة متأوِّلاً مُجْتَهدا -كَمَا كَانَ من اقتتال الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم- وَيكون هَذَا الذَّنب فِي حَقه مثل النقطة السَّوْدَاء فِي بَحر من الْحَسَنَات وأعمال التَّقْوَى. وَقد يقْتله ظَالِما معتدياً وَلَيْسَ لَهُ رصيد من الْخَيْر يكفِّر عَنهُ هَذَا الجرم. فَلَيْسَ هَذَانِ عِنْد الْحَكِيم الْخَبِير سَوَاء, وَلَيْسَ حكمهمَا فِي مَذْهَب السّلف وَاحِدًا. وَكَذَلِكَ الْفرق بَين زانٍ وزانٍ، شَارِب خمر وَآخر، وسارق وسارق، وآكل مَال يَتِيم وَمثله… وَقد صَحَّ عَن النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- لعن شَارِب خمر, وَمَعَ هَذَا صَحَّ عَنهُ النَّهْي عَن لعن الصَّحَابِيّ الَّذِي شربهَا وَجلده الْحَد فلعنه بَعضهم فَنَهَاهُ وَشهد لَهُ بِأَنَّهُ يحب الله وَرَسُوله. ¬

(¬1) انْظُر تَفْصِيل ذَلِك فِي مَجْمُوع الْفَتَاوَى: 12/ 479 - 501.

فحب الله وَرَسُوله فِي هَذَا المعيَّن مَانع من تحقق الحكم الْمُطلق فِيهِ وَهُوَ الْوَعيد لشارب الْخمر فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَهَكَذَا مُعَاملَة أهل الْقبْلَة فِي مجَال العقيدة. فَإِن أَصْحَاب المناهج وَالْفرق البدعية مِنْهُم من هُوَ على الْحَد الْأَدْنَى مِنْهَا وَله مَعَ ذَلِك علم وَعبادَة وَجِهَاد وإخلاص فِي نصْرَة الدّين, وَمِنْهُم من يكون رَأْسا فِي الْبِدْعَة دَاعيا إِلَيْهَا بِقصد وَسُوء نِيَّة بل وَرُبمَا تكون هَذِه الْبِدْعَة مُجَرّد ستار لعقائد أَخبث يضمرها فِي نَفسه. فَمَعَ اشْتِرَاك هذَيْن فِي أصل الْمنْهَج وشمول الِاسْم لَهما مَعًا وَتَنَاول الْوَعيد الْمُطلق لكل مِنْهُمَا يظل الْفرق بَينهمَا حَقِيقَة قَائِمَة لاشك فِيهَا. فالمنهج لَهُ حكمه والأفراد كلٌ بِحَسب حَاله, وتقويم الفكرة فِي ذَاتهَا غير تَقْوِيم حامليها كل على حِدة. حَتَّى مَنْهَج السّلف نَفسه يتَفَاوَت أَصْحَابه فِيهِ جدا فَمنهمْ من هُوَ فِي غَايَة التَّمَسُّك بِهِ قولا وَعَملا واعتقادا ودعوة وَمِنْهُم من هُوَ على الْحَد الْأَدْنَى مِنْهُ.

بل نَحن نقُول إِن بعض المنتسبين أَو المنسوبين إِلَى مناهج بدعية لَيْسَ مِنْهُم أصلا وَلكنه متوهم يحْسب أَنهم على الْحق وَإِن الانتساب إِلَيْهِم لَا ضير فِيهِ مَعَ أَنه لَا يوافقهم فِي مَذْهَبهم لَو عرفه حق مَعْرفَته, أَو أَنهم مخطئون فِي نسبته لمذهبهم, وَلَو فتشنا لما وجدنَا فِيهِ مِمَّا يدعونَ شَيْئا. وَلِهَذَا كَانَت هَذِه الْأمة- وَللَّه الْحَمد- أَكثر أهل الْجنَّة مَعَ أَن الْفرْقَة النَّاجِية مِنْهَا وَاحِدَة فَقَط، وَمَا هَذَا إِلَّا لِأَن الْمَعْدُودين حَقًا من الْفرق الثِّنْتَيْنِ وَسبعين لَا يساوون بِالنِّسْبَةِ لسلف الْأمة وَخَلفهَا إِلَّا نزراً يَسِيرا, أما من اتبعهم عَن جهل أَو خطأ أَو حسن نِيَّة أَو تأثر بهم دون أَن يشْعر فَلهُ حكم آخر (¬1). وَالله تَعَالَى حكم قسط وَرَحمته أوسع وفضله أعظم. وَالْحَاصِل أَن أَحْكَام الْآخِرَة ومنازل النَّاس فِيهَا خاضعة لأمر أحكم الْحَاكِمين وأعدلهم، أما نَحن فِي الدُّنْيَا مأمورون أَن نحكم على كل مَنْهَج أَو فَرد بِمَا حكم الله بِهِ عَلَيْهِ من غير إفراط وَلَا تَفْرِيط ونتقيد بالضوابط الَّتِي جَاءَت فِي مَذْهَب السّلف. ¬

(¬1) انْظُر سلسلة الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْكَلَام عَن حَدِيث 204.

قَالَ شيخ الْإِسْلَام- رَحمَه الله- فِي مناظرته للأشاعرة والماتريدية أثْنَاء المحاكمة الَّتِي أَشَرنَا إِلَيْهَا: "فأجبتهم عَن الأسئلة: بِأَن قولي اعْتِقَاد الْفرْقَة النَّاجِية، هِيَ الْفرْقَة الَّتِي وصفهَا النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- بالنجاة حَيْثُ قَالَ: "تفترق أمتِي على ثَلَاث وَسبعين فرقة، اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّار وَوَاحِدَة فِي الْجنَّة وَهِي من كَانَ على مثل مَا أَنا عَلَيْهِ الْيَوْم وأصحابي". فَهَذَا الِاعْتِقَاد (يعْنى مَا فِي الواسطية) هُوَ الْمَأْثُور عَن النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وَأَصْحَابه- رَضِي الله عَنْهُم- وهم وَمن اتبعهم الْفرْقَة النَّاجِية؛ فَإِنَّهُ قد ثَبت عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة بِالْأَسَانِيدِ أَنه قَالَ: "الْإِيمَان يزِيد وَينْقص"، وكل مَا ذكرته فِي ذَلِك فَإِنَّهُ مأثور عَن الصَّحَابَة بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَة لَفظه وَمَعْنَاهُ, وَإِذا خالفهم من بعدهمْ لم يضر فِي ذَلِك. ثمَّ قلت لَهُم: وَلَيْسَ كل من خَالف فِي شَيْء من هَذَا الِاعْتِقَاد يجب أَن يكون هَالكا. فَإِن المنازع قد يكون مُجْتَهدا مخطئا يغْفر الله خطأه, وَقد لَا يكون بلغه فِي ذَلِك من الْعلم مَا تقوم بِهِ عَلَيْهِ الْحجَّة، وَقد يكون لَهُ من الْحَسَنَات مَا يمحو الله بِهِ سيئاته.

بل مُوجب هَذَا الْكَلَام أَن من اعْتقد ذَلِك نجا فِي هَذَا الِاعْتِقَاد، وَمن اعْتقد ضِدّه فقد يكون ناجيا، كَمَا يُقَال: "من صمت نجا"."ا. هـ (¬1). وَقَالَ فِي الْإِيمَان: "وَكَذَلِكَ سَائِر الثِّنْتَيْنِ وسبعن فرقة، من كَانَ مِنْهُم منافقا فَهُوَ كَافِر فِي الْبَاطِن، وَمن لم يكن منافقا بل كَانَ مُؤمنا بِاللَّه وَرَسُوله فِي الْبَاطِن لم يكن كَافِرًا فِي الْبَاطِن وَإِن أَخطَأ فِي التَّأْوِيل كَائِنا مَا كَانَ خَطؤُهُ, وَقد يكون فِي بَعضهم شُعْبَة من شعب النِّفَاق وَلَا يكون فِيهِ النِّفَاق الَّذِي يكون صَاحبه فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار. وَمن قَالَ: إِن الثِّنْتَيْنِ وَسبعين فرقة كل وَاحِد مِنْهُم يكفر كفرا ينْقل عَن الْملَّة فقد خَالف الْكتاب وَالسّنة وإِجْمَاع الصَّحَابَة -رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ- بل وَإِجْمَاع الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَغير الْأَرْبَعَة، فَلَيْسَ فيهم من كفّر كل وَاحِد من الثِّنْتَيْنِ وسبعن فرقة، وَإِنَّمَا يكفّر بَعضهم بَعْضًا (من تِلْكَ الْفرق) بِبَعْض المقالات، كَمَا قد بسط عَلَيْهِم فِي غير مَوضِع"ا. هـ (¬2). ¬

(¬1) مَجْمُوع الْفَتَاوَى: 3/ 179. (¬2) ص 206.

وَلِهَذَا نجد أَن من كفّر الْجَهْمِية من السّلف مثل ابْن الْمُبَارك ووكيع أخرجوهم من الثِّنْتَيْنِ وَسبعين فرقة وألحقوهم بالسبئية والغرابية وأمثالها. وَحَتَّى فِي المناهج الجامعية نجد أَن كليات أصُول الدّين مثل كليتي مَكَّة وَالْمَدينَة حاليا تفصِّل بَين الْفرق الْخَارِجَة عَن الْإِسْلَام وَبَين الْفرق الْأُخْرَى. فَالْأَمْر وَاضح لَا لبس فِيهِ إِلَّا عِنْد المعاندين أَو المعذورين من غير المتخصصين. وَكَيف يكون عِنْد الأشاعرة لبس فِي موقف أهل السّنة وَالْجَمَاعَة مِنْهُم وهم يقفون نفس الْموقف من الْمُعْتَزلَة فهم يصفونها بالضلال فِي كتبهمْ وَلَا يَقُولُونَ أَن هَذَا يعْنى إخراجهم من الْملَّة, فَمن حَقنا أَن نلزمهم من وَاقع كتبهمْ. وَإِذا تقرر هَذَا تبين أَنه لَا مبرر لمطالبة الأشاعرة بإدخالهم فِي أهل السّنة وَالْجَمَاعَة بِدَعْوَى أَن هَذَا يجنّبهم تُهْمَة الْخُرُوج من أهل الْقبْلَة؛ لِأَن ذَلِك يَعْنِي هدم هَذِه الْقَاعِدَة كلهَا إِذْ لَو أدخلناهم لأدخلنا غَيرهم حَتَّى لَا يبْقى من تِلْكَ الْفرق الثِّنْتَيْنِ وسبعن فرقة إِلَّا دخلت,

وَهَذَا لَيْسَ فِي أَيْدِينَا وَلَا فِي يَد بشر إِنَّمَا نَحن متبعون لَا مبتدعون. أما بَاب الدُّخُول الْحَقِيقِيّ فمفتوح على مصراعيه فَمن الَّذِي مَنعهم أَن يرجِعوا إِلَى عقيدة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة الَّتِي هِيَ عقيدة الْقُرُون الثَّلَاثَة وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَسَائِر أَئِمَّة الْهدى فِي هَذِه الْأمة المعصومة؟ وَهَذَا خير لَهُم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة من بقائهم على بدعتهم وتفاخرهم بِأَنَّهُم أقرب الْفرق لأهل السّنة وَالْجَمَاعَة, وَقد سَمِعت هَذَا التفاخر من بَعضهم, فعجبت لمن يعرف الْحق ويفتخر بِقُرْبِهِ مِنْهُ ثمَّ لَا يكون من أَهله ودعاته. وَلَكِن لله فِي خلقه شؤون ... وأخيرا: كلمة التَّوْحِيد أساس تَوْحِيد الْكَلِمَة: ونأتي أخيرا إِلَى الشعار الَّذِي اتَّخذهُ الْقَوْم ستارا لِلطَّعْنِ فِي عقيدة السّلف سرا وجهراً حَتَّى إِذا قَامَ أحد يردّ عَنْهَا السِّهَام صاحوا فِي وَجهه: "لَا تفرّق كلمة الْمُسلمين، إنّ وحدة الْكَلِمَة أهم من هَذِه القضايا، لماذا تثير خلافات عفى عَلَيْهَا الزَّمَان واندثرت؟ لماذا الاهتمام بالقشور والشكليات؟ ".

وَالْحق أَنه لَو سكت كل أَعدَاء الْحق عَن محاربته -وَلنْ يسكتوا أبدا- لما جَازَ لنا أَن نسكت عَن بَيَانه للنَّاس ودعوتهم إِلَيْهِ, فَكيف يجوز أَن نسكت وَهُوَ يُحَارب وَالَّذِي يطالبنا بِالسُّكُوتِ هُوَ المحارِب المهاجم. هَذِه الْأمة الممزّقة المقطّعة الأوصال يُرَاد منا أَن نسكت عَن بَيَان طَرِيق الْخَلَاص لَهَا وندعها تتخبط فِي ظلمات الْبدع حَتَّى لَا نفرِّقها بزعمهم, وَكَأن الْقَوْم لَا يعلمُونَ مَا الَّذِي فرّقها بعد أَن كَانَت مجتمعة. إِن دَعْوَى تَقْدِيم تَوْحِيد الْكَلِمَة على كلمة التَّوْحِيد مصادمة للحق من جِهَة ولسنن الله فِي الْحَيَاة من جِهَة أُخْرَى: وأمام الْقَائِلين بهَا خياران لَا ثَالِث لَهما: 1ـ إِمَّا أَن يلتزموا تَعْمِيم هَذَا الحكم على كل من انتسب لِلْإِسْلَامِ وَعَلِيهِ فَلَا يجوز أَن نثير أَو نبحث خلافًا أَو نكتب ردا على أيّ فرقة تدّعي الْإِسْلَام كالقَاديانية والبهائية والدروز والنصيرية وَالرَّوَافِض والبهرة والصوفية الحلولية وَسَائِر الطَوائف الْكَافِرَة بل ندعوها جَمِيعًا إِلَى جمع الصَّفّ ووحدة الْكَلِمَة لمحاربة الشيوعية والصهيونية وَمَا مِنْهَا إِلَّا من هُوَ مستعد لذَلِك إِن صدقا وَإِن كذبا.

وَمن لَوَازِم هَذَا -على كَلَامهم- حرق أَو إخفاء كتب عقيدة الأشاعرة لِأَنَّهَا تثير الْخلاف مَعَ الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم فَهِيَ إِذن تمزّق الصَّفّ وتشتّت الْكَلِمَة بل هِيَ كَمَا يعلم الصَّابُونِي وَأَمْثَاله تَشْتُم أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وهم أَكثر الْمُسلمين، وَمِمَّا يجب إعدامه أَيْضا مقالات الصَّابُونِي نَفسهَا لِأَنَّهُ كرّر فِيهَا حكمه بالتضليل للخوارج والرافضة وَهَذَا بِلَا شكّ يُغضِب الشِّيعَة والإباضية فَهُوَ-على كَلَامه- قد فرّق كلمة الْمُسلمين أيّما تَفْرِيق!! 2ـ وَإِمَّا أَن يَقُولُوا: كلا، لَا يعم هَذَا الحكم كل المنتسبين لِلْإِسْلَامِ بل لابد من بَيَان كفر وضلال تِلْكَ الْفرق وَلَيْسَ فِي ذَلِك تَفْرِيق وَلَا تمزيق، وَإِنَّمَا نُرِيد تَوْحِيد صف أهل السّنة والأشاعرة أَو الْفرق الَّتِي لَيست ضَالَّة وَلَا منحرفة!! فَنَقُول لَهُم حِينَئِذٍ: أَولا: قد نقضتم قاعدتكم بِأَنْفُسِكُمْ فَلَا تَرفعُوا هَذَا الشعار إِلَّا مقيَّداً مَشْرُوطًا إِن كُنْتُم صَادِقين، لَكِن أخبرونا بأيِّ معيار من معايير الْعدْل تُرِيدُونَ السُّكُوت عَن إثارة الْخلاف مَعَ هَذِه وتحكمون بِعَدَمِ ضلالها, وَوُجُوب إثارته مَعَ تِلْكَ وتحكمون بِعَدَمِ ضلالهما, وَوُجُوب إثارته مَعَ تِلْكَ وتحكمون بضلالها؟! أنهاجم الإباضية ونتآخى مَعَ

الرافضة مثلا أم الْعَكْس؟ أَو نشنّع على الرافضة ونصمت عَن الصُّوفِيَّة؟ أم مَاذَا؟ مَا هُوَ المعيار؟ وَهل هُنَاكَ حَقًا فرق ضَالَّة فَأَخْبرُونِي مَا هُوَ الضلال إِذن؟ … قد تَقولُونَ: "نتعاون جَمِيعًا فِيمَا اتفقنا عَلَيْهِ ويعذر بَعْضنَا بَعْضًا فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ ". فَنَقُول: إِنَّه مَا من فرقة ظَهرت على الأَرْض تدّعي الْإِسْلَام إِلَّا وَنحن متفقون مَعهَا على أَشْيَاء ومختلفون على أَشْيَاء، حَتَّى القاديانية نتفق معَها على الْإِيمَان بِاللَّه وَصِحَّة نبوة مُحَمَّد -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وَالْإِيمَان بِالآخِرَة وتعظيم الْقُرْآن، وهم يعلنون محاربة الشيوعية والصهيونية وَغير ذَلِك، فَإِذا عذر بَعْضنَا بَعْضًا فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مثل نبوة أَحْمد القادياني وَنسخ شَرِيعَة مُحَمَّد -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وَنَحْوهمَا، فَمَاذَا تكون النتيجة؟ وَهل ترْضونَ ذَلِك أم نعود من جَدِيد للمطالبة بالمعيار الَّذِي بِهِ نرد القاديانية ونقبل غَيرهَا مَعَ إشراك الْكل فِي أصل الضلال والانحراف. إِن سلمتم أنّ كل ضال لابد من بَيَان ضلاله وَأَن الْمُسلمين لن يجتمعوا إِلَّا على الْحق فقد بيّنا لكم- وَمَا نزال مستعدِّين لمزيد بَيَان- أَن الأشاعرة فرقة ضَالَّة عَن الْمنْهَج

الصَّحِيح، فهاهي ذِي إِذن الفرصة الذهبية لتوحيد الْمُسلمين، وَهِي أَن يعلن الأشاعرة فِي كل مَكَان رجوعهم إِلَى مَذْهَب السّلف ومنهج الْحق وَحِينَئِذٍ يتَحَقَّق هَذَا الْحلم الرائع الْجَمِيل. فَإِن لم تَفعلُوا فاعلموا أَن غَيْركُمْ أبعد عَن الْإِجَابَة؛ لأنكم أَنْتُم أقرب الْفرق إِلَيْنَا وترفضون فَمَا بالكم بالبعيدين، فَلَا تناقضوا أَنفسكُم إِذن وترفعوا شعار الْوحدَة وَأَنْتُم أول من يعاديه ويأباه، وتعلمون منافاته لسنة الله فِي المبتدعة والزائغين الَّذين أشربوا فِي قُلُوبهم الْبِدْعَة بضلالهم. وَاعْلَمُوا أَن هَذَا الشعار إِن صلح فِي موقف سياسي أَو حركي معيَّن فَهُوَ عَن المبادئ وَالْأُصُول أبعد شَيْء. ثَانِيًا: إِن دعوتمونا إِلَى أَن نتحد نَحن وَأَنْتُم فَقَط ضد سَائِر الْفرق كالخوارج والرافضة وَغَيرهَا, وضد الشيوعية وَمن شايعها, قُلْنَا: قد سهل الْخطب إِذن، لَكِن لابد لكم من بَيَان منطلق التَّوْحِيد وموقعه وَذَلِكَ بَان تلتزموا بوضوح بِأحد قَوْلَيْنِ: 1ـ إِمَّا أَنكُمْ أَنْتُم وحدكم أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَلَكِن تقبلون التوحد مَعنا تنازلا وتفضُّلا على مَا فِينَا بزعمكم من "تَشْبِيه وتجسيم وحشو وَكفر وضلال".

2ـ وإِمَّا أَنكُمْ لَسْتُم من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَلَكِن تُرِيدُونَ التوحد مَعَهم طَالِبين مِنْهُم التنازل والتفضّل بقبولكم على مَا فِيكُم من بِدعَة وضلالة. فَإِذا حدّدتم أحد الموقعين أمكن بعد ذَلِك عرض موضوعكم إِمَّا على أصُول العقيدة وقواعدها إِن اخترتم الأول وَإِمَّا على ضوابط الْمصلحَة وحدودها الشَّرْعِيَّة إِن أقررتم بِالْآخرِ, فأمامكم الْخِيَار وَإِنَّا لفي الِانْتِظَار. أما أَن نظلّ نَحن وَأَنْتُم مُخْتَلفين متصارعين مُنْذُ أَيَّام أَحْمد بن حَنْبَل وَابْن كلاب ثمَّ أَيَّام البربهاري والأشعري ثمَّ أَيَّام الشريف أَبى جَعْفَر وَابْن الْقشيرِي ثمَّ أَيَّام عبد الْقَادِر الجيلايى وَأبي الْفتُوح الاسفرائيني ثمَّ أَيَّام شيخ الْإِسْلَام والسبكي ثمَّ أَيَّام مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب ومعاصريه مِنْكُم، ثمَّ أَيَّام المعلمي والكوثري ثمَّ أَيَّام الألباني وَأبي غُدَّة وأخيرا إِلَى الفوزان والصابوني ... وَبعد هَذَا كُله وَمَعَهُ تَقولُونَ إننا وَإِيَّاكُم فرقة وَاحِدَة ومنهج وَاحِد فَهَذَا مَالا يعقله عقل وَلَا يصدِّقه تَارِيخ. غير أننا لابد أَن نذكِّر بِحَقِيقَة كبرى هِيَ أنّ النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- قد قَالَ: "سَتَفْتَرِقُ هَذِه الْأمة على ثَلَاث وَسبعين فرقة"

وَهَذَا الْخَبَر الصَّادِق لَا يُمكن مَعَه اخْتِصَار الْفرق إِلَى سبعين وَلَا إِلَى سبع فضلا عَن وَاحِدَة, فالخير إِذن كل الْخَيْر أَن يبْحَث الْإِنْسَان عَن الْحق ويعتقده وَيَدْعُو إِلَيْهِ وَإِن خالفته الدُّنْيَا كلهَا, وَأَن يجْتَنب الضلال وَيَدْعُو إِلَى نبذه وَلَو داهنه أَصْحَابه كلهم، هَذَا هُوَ الَّذِي سَار عَلَيْهِ رسل الله, وَأمر بِهِ الله فَلَا تصادموا سنة الله وتخالفوا مَنْهَج رسله. وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ...

§1/1