منهج الأشاعرة في العقيدة - الكبير

سفر الحوالي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وبعد: فإن العالم البشري كله يشهد في هذا العصر من الاضطراب والضياع والفوضى، وسواد المستقبل، وتجهم المصير ما يرعب القلوب، ويزلزل الأفكار، فهو أشبه ما يكون بسفينة مهترئة تتقاذفها أمواجٌ متلاطمةٌ في غمرات بحر لُجِّيٍّ لا تجد مِن اجتيازها مناصًا، ولا من سطوته خلاصًا. وقد أمسك بزمامها أمم كافرة عملاقة (تستعمل قوة العفاريت بعقول الأطفال) - كما قال (جود) -، ويحفزها التنافس الضاري إلى مزيد من الصراع والتهور والاندفاع، وتأتي أمم الكفر الأقل شأنًا، فتحاول أن تثِبَ وَثَبَاتٍ كبرى؛ لتصل إلى مستوى الصراع مع العمالقة المسيطرين، وتبحث لنفسها عن موضع قدم في هذه السفينة الهائجة، وأصبح التفكير في هذا الواقع الأسوَد والمصير الكالح هو الشغل الشاغل للمفكرين والمتعقِّلين في الغرب وغيره، بل أصبح بفعل التدفق الإعلامي الهائل من الهموم اليومية لرجل الشارع - كما يسمونه -، إذ ما?

من نشرة أخبار يسمعها، أو صحيفة يطالعها، إلا ويجد فيها النذر الصارخة بهذا المصير، فأخبار الحروب والفتن، والانفجارات والانهيارات، والزلازل والانقلابات، والجفاف والفيضانات، والكوارث والانتحارات ... إلخ، أصبحت من كثرة ما ترددت في ذهنه مثل أخبار الرياضة وأحوال الطقس!. ومع سباق التسلح الرهيب، والتنافس في نشر أسلحة الفتك المبيد، أحس الناس حقيقةً بالهلع الذي يقضّ المضاجع، وهرع الفلاسفة والمفكرون إلى التنقيب عن حلٍّ للمعضلة الإنسانية الكبرى، وتلمسوا أي مخرج للانعتاق من الظلمة الكثيفة التي غطت وجه الأرض وردمت الإنسان في المفاوز المهلكة، والأحراج الشائكة. ووصل الأمر بكثيرٍ منهم إلى الاقتناع المطلق بأن خلاص هذا العالم - إن قدر له الخلاص - لن يكون من داخله، وأن السفينة الهاوية إلى أعماق المحيط لن ينتشلها من هو قابعٌ في داخلها. ومع هذا لم يظهر - مع الأسف الشديد - ما يدل على أوبةٍ صادقةٍ إلى الله، واستجابةٍ لدينه الحق الوحيد الذي مازال غضًّا طريًّا في مسمع الدنيا ومرآها. بل دفعت عوامل أخرى - ولا مجال هنا لتفصيلها، ولبيان ذنبنا نحن المسلمين فيها - إلى أن قامت كل أمة من الأمم تشحذ همتها، وتقدح زناد فكرها، وتستلهم من عتيق حضارتها وماضي أسلافها، فمع إفلاس المذاهب الوضعية الحديثة ارتد الناس قرونًا إلى الوراء، وبدأوا يستعرضون الذاكرة البشرية على ما فيها من قَتَمٍ وغبشٍ وإسفاف، لعل?

في متاهات الماضي ما يقيهم شر غوائل المستقبل، ولعل في خبايا القرون الخوالي كوة صغيرة ينفذ منها اللاهثون العصريون إلى بر الأمان. لقد كانت أوروبا القرن التاسع عشر تدين بالعقلانية، والإطلاق بعقلانية لا تتردد في تفسير أي شيء، وإطلاق لا يستثني من قواعده الصارمة شيئًا، فلما صدمتها السنن الربانية الثابتة، وعصفت بها التحولات الخطيرة حتى أشرفت على الهاوية، عادت إلى مذاهب (اللامعقول) (¬1)، التي يرفض أن يضبطه شيء، والنسبية التي تأبى كل أحكام العموم والإطلاق، حتى أن مذهبًا إطلاقيًّا حتمًا - كالشيوعية - تراجع من الحلم بالسيطرة على معظم العالم في الستينيات يصبح في نهاية الثمانينيات رأسمالية حمراء. وبتبني اللامعقول، والنسبية؛ انتكست أوروبا من جديد، وأعلنت - وهي في قمة السيادة الحضارية - إفلاسها وانهيارها، واختبأ روائيوها وشعراؤها وعامة أبطال فكرها وفنّها في أقبية الجاهلية اليونانية الهالكة، يحتمون بظلامها وظلالها من لظى الأفكار المادية المهترئة، والشعارات المجدبة، وسعير التطبيقات الرعناء لآراء وضعها في القرن الماضي جهلاء ارْتَدُوا زِيّ الحكماء. ¬

(¬1) أو (اللاعقلي)، ومن مذاهبه: الروحية (برجسون)، والوجودية (سارتر)، والعبثية (ألبير كامو)، واتجاهات أخرى كالرمزية والسوريالية، وكثير من المدارس النفسية والاجتماعية.

ومع عودة سيدة الحضارة العجوز وانتكاستها عادت الأمم التابعة تلهث في الطريق نفسه. فانتفضت الصين على (ماو)، وحطمت تماثيله على يد الجماهير الكادحة التي كانت تصرخ منذ سنوات ليست بالكثيرة: (ماو ماو! رب الكادحين)، وعانت بلهفة وشوق إلى (كونفشيوس) الدفين منذ آلاف السنين في أعماق الذاكرة الصينية. وبدأت الهند في ترميم أصنامها العتيقة بعد أن أصبحت تستقبل من الغربيين اللاهثين بحثًا عن (بوذا)، و (كرشنا) أكثر مما تستقبل من الإرساليين الكنسيين الطامعين في إدخال الهنود إلى دين (بولس) (¬1) وبابواته. وتفوقت اليابان على أمريكا في كثير من مجالات التكنولوجيا - أو نافستها - في حين أنه ما يزال الإمبراطور منسوبًا إلى سلالة الآلهة، وكأن اليابانيين قد اقتنعوا - أمام عودة الغرب الحائرة - بأن التقدم التكنولوجي لا يزيد هذا النسب الإلهي إلا عراقةً ورسوخًا. وظهرت في أمريكا الجنوبية واستراليا دعاوى عريضة بأن لها حضارات ماضية، وأمجادًا وطنيةً غابرة. ومهما قيل عن عدم مطابقتها للحقيقة؛ فالغرض المهم هو: أنها ¬

(¬1) المؤسس للدين المعروف حاليًا باسم (المسيحية)، واسمه الأصلي (شاؤل) اليهودي، وهو النموذج الذي احتذا حذوه عبد الله بن سبأ اليهودي لإفساد الإسلام، فأسس دين التشيع وفروعه. انظر مقدمة منهاج السنة.

إعلانٌ للعودة وللتوقف عن السير وراء الضائعين في الغرب المفلس. لقد أخذت كل أمة من الأمم تبحث في مجاهل تاريخها عن فيلسوفٍ قديم، أو شاعرٍ غابر، أو مصلحٍ سالف؛ لتقدمه للبشرية على أنه منقذ جديد، وأن في (إلهاماته) ما ينير الطريق لإنسان القرن العشرين الحائر المضطرب، وأصبحت الميادين الكبرى في عواصم هذه الأمم معابد عصرية تتوسطها تماثيل أولئك الغابرين. وهكذا برزت ظاهرة إنسانية كبرى هي ظاهرة (العودة إلى الماضي)، التي هي تعبيرٌ صارخٌ عن عدم الثقة في الحاضر، والتي لا تعدو في مقاييسنا الإسلامية أن تكون عرضًا من أعراض الخسران الأكبر، والإفلاس الماحق لقوم كفروا بالله ورسله {ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل: (66)]. ومع بروز هذه الظاهرة - عالميًّا - بدأ التيار التغريبي العلماني في العالم الإسلامي يتردد، بل ينحسر ويندحر، وبدأت جَمْع جُمَّة من القطيع السائر خلفه تتوقف وترعوي، وانكسرت حدة الانبهار بالغرب الكافر لدى عددٍ لا يستهان به، وتنادوا - لا سيما الشباب منهم - بالعودة لماضينا الذي ليس ماضي سائر الأمم بأولى منه. وفي وسط طريق العودة التقى هذا الرافد العالمي العصري بالرافد الأصلي الذي ظل في غمرات القرون مستقيمًا، لم يشذّ مستعليًا، ولم ينبهر، أَلَا وهو بقايا الخير في هذه الأمة من رجال ما تزعزع يقينهم لحظةً واحدةً في أنه لا يَصلُح هذا العالم إلا بهذه الأمة، وأنه لا يصلح آخرُ

هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وبدأ هذان الرافدان في تشكيل نهرٍ لا بد أن يصبح في يوم من الأيام تيارًا، ومن ثم يجتاح ما على هذه الأرض من الشرور والأدران والأوثان، كما وعد الله وبشَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن الشيطان الذي تعهد بإضلال بني آدم إلى يوم يبعثون، وأعوانه بل أقرانه الذين ما فتئ الشيطان يتعلم منهم فنون المكر والتآمر، عمدوا إلى إحباط هذا الأمل العظيم من طريقين: الأولى: تضخيم هذه العودة الإسلامية البريئة - بل الساذجة في كثير من مظاهرها - وتسميتها (يقظة العملاق)، و (قوة الغد)، و (صحوة الإسلام)، ونحو ذلك مما هو إغراءٌ صارخٌ للقوى العالمية ووكلائها المحليين باستئصال هذه النبتات الغضة في مهدها، مع أن الحقيقة أنه حتى هذه اللحظة ما تزال ظاهرة العودة في العالم الإسلامي متأخرة عمليًّا عمَّا وصلت إليه في البلاد الأخرى، حيث وصلت هناك إلى دفة الحكم أو قاربت!!. إن الإعلام الغربي لا يستكثر على (الدالاي لاما) المطالبة بدولة بوذية مستقلة عن الصين، بل لم يستكثر على الهندوس المتعصبين أن يحكموا الهند، وإنما يستكثر على أمة الإسلام العظيمة الممتدة من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي أن يكون في بعض جامعاتها شباب متدينون، ويستغرب وجود جامعات غير مختلطة، أو جامعيات غير متبرجات، مع أن ذلك لا يمثل إلا نسبة ضئيلة من الانتشار السكاني الهائل للأمة.

يستكثرون ذلك ويستغربونه، ويتابعهم عليه في بلاد الإسلام من يتابعهم، مع أن الأصل في الأمة الإسلامية ألا تنحرف ولا تنبهر، مع أن الأصل في المسلم إذا انحرف وعصى أن يتوب ويستقيم. إن الأصنام العصرية الكبرى تعرضت لنسف تماثيل (لينين)، و (ستالين)، وتماثيل (ماو)، وتماثيل (شاوسكو) بمباركة الغرب إلا صنمًا واحدًا يحرسه الإعلام الغربي أكثر مما يحرس تماثيل المسيح عليه السلام، ذلك هو صنم (أتاتورك)!!. تمامًا مثلما ضاقت باريس (عاصمة النور والحرية عند كثير من المخدوعين) بغطاء رأس فتاة مسلمة من بين ألوف الأزياء والموضات!!. ومثلما ضاقت دولة الحياد والكرامة الإنسانية و .. (سويسرا)!!. في نظر الغرب لا ضير في عودة الملايين إلى أسفار (فيدا)، وتعاليم (بوذا)، أما عودة بعض أمة الإسلام إلى نور القرآن وهدي محمد صلى الله عليه وسلم فهي وحدها نذير الشؤم، وداعية الويل والثبور، وعظائم الأمور!!. وليس أعجب حالًا من هؤلاء إلا من يصدقهم ويجاريهم من أبناء جلدتنا المستغربين، أو من يأخذه الغرور بقولهم من التائبين العائدين. نعم إن إفلاس المذاهب الأرضية في العالم الإسلامي وسقوط ممثليها أصبح حقيقة ثابتة وقد جرى ذلك وفق سنة إلهية ثابتة. ولكن رجوع المسلمين إلى الإسلام ما يزال في أول بشائره، وأمامه عقبات كبرى ذاتية وخارجية، كما أن له سنته الإلهية الأخرى

التي ما لم نرعها ونسير بمقتضاها فلن نصل أبدًا. الثاني: استنفار أفاعي (الطابور الخامس) من قطاع الطريق إلى الله الذين عملوا منذ عهد عبد الله بن سبأ، والجعد بن درهم، وبِشر المريسي، والنظَّام (¬1) ... إلخ لنسف القلعة الإسلامية من داخلها، وإجهاض كل محاولة لرفع هذه الأمة إلى القمة التي أراد الله أن تكون عليها. فأما العدو الخارجي؛ فللحديث عنه مواضعه الأخرى، وما عداؤه لنا، واستعداؤه علينا بجديد، وما هو بالذي يحسب له كل هذا الحساب لو كنا في أنفسنا أمة تعيش وتسير كما أمر الله، فالله تعا لى يقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]. ونحن قد فقدنا الخصلتين كلتيهما إلا من رحم الله. وأما قطَّاع الطريق؛ فهم لَعَمْرُ الله آفة هذه الأمة قديمًا وحديثًا، وهم (حصان طروادة) الذي ما دخلت إلينا الأفكار الغربية قديمها وحديثها إلا من خلاله وبآثاره. ولن نستعرض تاريخهم القديم، وهل في الإمكان استعراض المحيط الزاخر؟ ولكننا نشير بإجمال إلى دورهم في ركوب موجة التوبة الجماعية التي نسميها - ولو على سبيل التفاؤل - (الصحوة الإسلامية)!!. ¬

(¬1) ذكر الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء ((10) / (542)) أنه كان برهميًّا، فأراد أن يبرهم الإسلام عن طريق الاعتزال، كم أراد عبد الله بن سبأ أن يهوِّده عن طريق التشيع!!.

لقد أراد كل كمين من هذه السبل المتفرقة التي نهى الله عن اتباعها أن يستغل بواكير هذه الصحوة، ويستغفل شبابها الغض، فيلقي عليهم ثوب بدعته، ويقنعهم بقناع مذهبه حتى تصبح الأمة العائدة - وهي التي أراد الله لها، ونريد لها أن تكون أمةً واحدةً على المنهج الأبلج النقي - - تصبح شيعًا وأحزابًا، كما كان حالها أيام الزحف التتري أو الصليبي. فأحدهم (صوفي) لا يعرف من التدين إلا الطبل والمزمار، والحضرة والتواجد ... يندس في الصفوف العائدة رافعًا راية التصوف - أو خرقته -، ساعيًا بأقصى جهده إلى تصويف المسيرة كلها. وذاك رافضيٌّ خبيثٌ يتقمَّص شخصية الدجال تحت عمامة المجدد، ويلوح للجموع الباحثة عن الطريق: أن تعالوا إلى الإسلام، وما غايته إلا ترفيض القافلة بأجمعها. وذلك مستشرق عربي! غذَّاه المستشرقون الغربيون بما استطاعت عقولهم الضحلة أن تلتقطه من فتات أفكار الفرق البائدة، وأظهروا أمامه التباكي على تراثها الإسلامي المفقود، وكنوزه الضائعة، واستحثوه أن يشتغل بالتنقيب عنها ونشرها (¬1)، فجاء المخدوع أو المتآمر ينبش رميم الباطنية والحلولية، وينفض الغبار عن هرطقة الفلاسفة والمعتزلة، ويحقق كتب البدع والفرقة، تحت ستار إحياء التراث والتحقيق العلمي ¬

(¬1) انظر على سبيل المثال تقديم المستشرق (ألفرد جيوم) لكتاب المعتزلة لزهدي جار الله، وكلام المستشرق (اربري) في مقدمة كتاب التوحيد لأبي منصور الماتريدي، تحقيق فتح الله خليفة. أما جهد (ماسينيون) و (نيكسون) لإحياء الفكر الصوفي، وما بذله تلامذتهم الشرقيون، فلا تحتاج إلى تمثيل.

النزيه ... وما الغرض إلا تمزيق طريق العودة، وتشتيته ذات اليمين وذات الشمال، وإذكاء القروح الميتة في كبد الأمة الجريحة، وأقلّ ما فيه صرف النظر عن الكنوز الحقيقية التي ليست مجرد تراث!! بل هي منبع الحياة الفكرية، ومعالم على طريق المنهج القويم. وجاءت سبل وطوائف أخرى ... وتكدست في المكتبة الإسلامية. وفي أخطر ركن فيها - وهو ركن العقيدة - صحائف سود، لا أعني سواد مدادها ولكن سواد فكرها، واستشرت ظلمات بدعتها حتى ظهرت على صفحات المجلات والجرائد، فأخرجوها من دوائر المتخصصين إلى متناول العوام المساكين. وهذه الكتب والمقالات قد تبدو للناظر أول وهلة وكأنها هي مجرد امتداد للفرق المنحرفة القديمة، ولا دافع لها إلا التعصب لتلك الفرق والمذاهب، والواقع أن وراء تلك الأكمة ما وراءها، وأن هذه النظرة إن صدقت على بعضهم لا تصدق على كلهم، فهي لا تهدف للتعصب للماضي بقدر ما هي تخطط وتبرمج للمستقبل، مستغلةً سذاجة غالب شباب الصحوة كما أسلفنا. ومن الأدلة على ذلك: ما يفتعله أصحاب هذا الاتجاه البدعي المقنع حين ينشرون أفكارهم وكتبهم على الملأ، ويحثون الشباب على قراءتها، ثم لا يفوتهم أن يقرنوا ذلك بالتباكي على ما تعيشه أمة الإسلام من تفرق وتمزق، وأنها ما تزال تبحث مسألة (أين الله)، ومسألة (القرآن مخلوق أم قديم)، و (قضايا الفلاسفة والمعتزلة والصوفية والأشاعرة ... إلخ).

في حين أن العدو يحتل أراضيها ويهدد كيانها، ولا يفرق بين أحدٍ منها، فهلا انصرف المسلمون لمحاربة الشيوعية، ومقاومة الخطط الصهيونية، وتركوا هذه الخلافات!!. يتباكون على هذا، وهم يقدمون للشباب مؤلفات كلها تفلسف وتجهم واعتزال وتصوف وتشعر ... الخ. وأشهد أن بعضهم - إن لم أقل كثيرًا منهم - قد كتب الكثير من المؤلفات في الطعن على السلف، والنيل من عقيدتهم، والدعوة الصريحة إلى البدعة التي هي أصل الانقسام والفُرقة، وما كتب حرفًا واحدًا قط عن الشيوعية والصهيونية، بل إن واقع حاله يدل على أن تضليل - أو تكفير - أئمة عقيدة السلف أولى عنده وأهم من محاربة الشيوعية أو الصهيونية. وأخطر من هؤلاء: طائفة من القطاع هالها كساد سوقها، وتكدس مصنفاتها البدعية، فعمدت إلى أسلوب أمكر وأخبث، وهو انتحال مذهب السلف الصالح ظاهرًا، وادعاء أنه ومذهبها سواء، وزعمت أنها بذلك تخدم مصلحة الإسلام، وتسعى لجمع المسلمين، فبعثروا المعالم والمعايير أمام الشباب الحائر، فلم يعد يدري كيف يسير. هذا الأسلوب بدأه الرافضة منذ مطلع القرن العشرين بما أسموه (التقريب بين المذاهب الإسلامية)، ثم تبعتهم الفرق البدعية الأخرى تحت شعار (توحيد الصفوف)، فقدموا للشباب الذهب مع البهرج والحجارة والنحاس، وقالوا: لا بد من صهر الجميع في بوتقة واحدة، ولا عليك إن اخترت منها ما شئت، فالكل يسمى معدنًا.

وإن مما يدمي القلب أن كثيرًا من شباب الصحوة خدعته هذه الدعاوى الزائفة، وعصبت عينيه عن رؤية الحق الصراح، فتطوعوا بخدمة قطاع الطريق الماكرين، حتى أن بعض المراكز الإسلامية في الغرب وغيره أصبحت أوكارًا للرافضة وغيرها، وانتعشت البدع والشركيات حتى صرح بعض سدنة الأضرحة أن إقبال الشباب عليهم في زيادة مستمرة، وأن المريدين أخذت أعدادهم في السنوات الأخيرة تتضاعف، وكلما سمعت أو رأيت شيئًا من هذه الظواهر المرعبة أسأل نفسي بحق: هذه الصحوة الإسلامية التي نبتهج ببشائرها، ونتطلع إلى بواكيرها، أهي صحوة فعلًا، أم هي - عياذًا بالله - انتكاسة جديدة إلى موروثات الوثنية الإغريقية، والصوفية الهندية؟. أم أن الخمرة المسكرة الوحيدة في نظر بعضنا، هي خمرة الافتتان بالغرب وأفكاره ونظمه، ومن صحا منها فلا عليه أن يسكر بخمرة الوجد والفناء، أو نبيذ البدع والأهواء، فلا يصحو إلى يوم يُبعَثون؟!. وأسأل نفسي أيضًا: لماذا يرفض شباب الإسلام الفكرة الواحدة نفسها إن كان سندها - مثلًا -: (ماركس) عن (هيجل) عن (أرسطو)، ويعدها كفرًا وإلحادًا، ويقبلها ويتعصب لها - بذاتها - إذا كان سندها: الرازي عن ابن سينا عن أرسطو؟!. أم أن عداوتنا أصبحت كعداوة الثور للون الأحمر فقط، فنعادي الباطل؛ لأنه منقولٌ عن الغرب وأذنابه، لا لأنه باطل يجب معاداته أينما وجد في واقع أنفسنا، أو في صفحات تاريخنا، أو موروثات مجتمعاتنا ومذاهبنا.

واسم (الإسلام) يطلق على: (1) - المنتحلون لمذهب السلف اسمًا، والمخالفون له سلوكًا وفهمًا. (2) - عموم الاسم لكل مسلم لم ينتسب لعقيدة بدعية، وظلَّ على الإيمان المجمل الصحيح، أو أيًّا كان تخصصه العلمي؛ فقيهًا، محدثًا، لغويًّا، مؤرخًا، شاعرًا، بل العامي من المسلمين يطلق عليه ذلك. وأما كلمة (أهل السنة والجماعة) فهو مصطلحٌ عزيز، وشعارٌ عظيم، وكيف لا وهو يعبر عن حقيقة الإسلام الصافية النقية التي لا شائبة فيها ولا زيغ، وهو منارٌ وعَلَمٌ على الفرقة الناجية من أمة الإجابة، تلك الفرقة التي تمسكت بما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصبرت عليه، وجاهدت في سبيله، فكانوا كما قال بعض السلف: (أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في سائر الملل). والتفرق والاختلاف من البلاء الذي لم يرفعه الله عن هذه الأمة منذ أن قتلت خليفتها الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلمًا وعدوانًا، كما أشار حديث حذيفة في الفتن التي تموج موج البحر (¬1). فهو في حقيقته عقوبة جرى بها القدر المحكم، تحقيقًا لقوله تعالى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَاسَ بَعْضٍ} [الأنعام: (65)]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم ((44) (1)).

على ما فسرتها به الأحاديث الصحيحة (¬1)، ولله في ذلك الحكمة البالغة، وما أصاب المسلمين عامة من مصيبة فبما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير، وليس بخارج عن سنة الله أن يبتليهم بما لم يبتل به أمم الكفر، أو يذيقهم من البأس ما لم يذقها. وليس عجيبًا في سنة الله أن يأتي عصر يقلّ فيه أهل السنة والجماعة ويستضعفون، ويعلو فيه أهل البدعة والفرقة ويسيطرون، فهذا أيضًا من الابتلاء - ابتلاء التمحيص والرفع - الذي هو سنة الله في الأنبياء من قبل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31]. {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]. ولكن العجب المستنكر أن تطغى البدع حتى يبلغ من جرأة أصحابها أن يدّعوا أنهم هم أهل السنة والجماعة، وأن أهل السنة والجماعة هم أهل الضلالة والفرقة!. أو يضيع الحق بين تفريط أهل السنة والجماعة وتلبيس أهل الضلالة والفرقة، فيقال: إن هؤلاء من هؤلاء، وأن الفرقتين سواء - دون نكير ولا اعتراض -. ¬

(¬1) وهي أحاديث كثيرة، جمعها الحافظ ابن كثير رحمه الله، انظر الطبعة المحققة من تفسيره (3/ 264 - 272).

فهذا - حسب التشبيه المأثور في حال أهل السنة بين أهل الإسلام - مثلما لو ادعى عدوٌ للإسلام أن أهل الإسلام بين أهل الأديان قليلٌ؛ كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ورتب على هذا أنهم شذَّاذ لا اعتداد بخلافهم، ولا اعتبار لدينهم الذي خالفوا به سائر أمم الأرض. فهذا ادعاءٌ لا يستحق كبير اهتمام، ولا يبعث كثير عجب، ولكن لو ادعى هذا العدو أن اليهود والنصارى هم المسلمون المتمسكون بما كان عليه الأنبياء جميعًا، وأنهم هم الأمة المصطفاة التي أورثها الله الكتاب، وأن المسلمين هم المخالفون لمنهج الأنبياء، وهم أولى أن يسموا بكل اسم سمي به أعداء الأنبياء ومخالفوهم، وسمَّاهم هذا العدو (المشركين أو الصابئين) (¬1)، أو نحو ذلك. فهذا ما لا يملك أي مسلم يعرف حقيقة دينه أن يسكت عليه؛ لأنه قَلْبٌ للحقائق، ومكابرةٌ للعقول، ولو شاع مثل هذا الادعاء وسكت عليه المسلمون أو أقروه - كلهم أو بعضهم - حتى أصبح مصطلح (المشركين) أو (الصابئين) يعنيهم عند الإطلاق، ومصطلح (المسلمين) يعني اليهود أو النصارى أو المشركين ... لكان هذا خرقًا فظيعًا عما استقرت عليه الأفهام، وأجمعت عليه العقول، وتعارف عليه التاريخ المتواتر. والمؤلم حقًّا أن هذا الذي لا يصدقه العقل بالنسبة للإسلام مع الملل قد أصبح - إلى حد ما - حقيقةً واقعةً بالنسبة لأهل السنة والجماعة مع الفرق!. ¬

(¬1) كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه (الصباة).

وقد يكون سبب ذلك أن بعض أهل السنة والجماعة لا يعرفون المضمون الكامل، والمنهج الشامل الذي يحويه مدلول (أهل السنة والجماعة)، ولا يدركون حقيقة مناهج الفرق البدعية وأصولها، ومن ثم كانت الخسارة الكبرى لأهل السنة والجماعة، لا أعني خسارة الأتباع، ولكن اضمحلال الشعار، وضياع الحقيقة في ركام الزيف، وفقدان المنهج المتميز في زحمة المناهج. وقد ركَّب الله تعالى في نفوس بني آدم كافة من معرفة العدل ما ينكرون به أن يتقمص اللص شخص الحارس، وأن ينتحل الفاجر شخصية التقي، وأن يدعي الشيطان حقيقة المَلَك. وعن هذا عبَّر شاعر المعرَّة بقوله: فوا عجبًا يدّعي الفضل ناقص ** ووا أسفا كم يُظهر النقص فاضل إذا وصف الطائيَّ بالبخل مادرٌ ** وعيّر قسًّا بالفهاهة باقل وقال السهى: يا شمسُ أنتِ خفية ** وقال الدجى: يا صبح لونك حائل وطاولت الأرضُ السماءَ سفاهة ** وفاخرت الشهبَ الحصى والجنادلُ فيا موت زر إن الحياة ذميمة ** ويا نفس جدّي إن دهرك هازل إن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن أصحاب جهنم أنهم يقولون: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: (1).]. فنفهم من هذا: أن الكفار لا سمع لهم ولا عقل، وأن المؤمنين أهل السنة والجماعة هم أصحاب السمع الصحيح، والعقل الكامل؛ من جهة أنهم يتلقون عن القرآن

والسنة الصحيحة، ويستخدمون قوة العقل، وملكة الفهم للتمييز بين الحق والباطل، وأن أصحاب البدع أصحاب فساد في السمع وخلل في العقل. ومن فساد السمع التلقي عن الدجالين والكهان والمشعوذين، أو الفلاسفة والملاحدة والصابئين، والاستشهاد بالروايات الموضوعة والواهية. ومن فساد العقل عندهم: تحريف معاني النصوص الصحيحة، والتأويلات الباطلة، وضرب الوحي بعضه ببعض من أجل تغيير البدعة التي لا أصل لها فيه. فللمعرفة إذن مصدران لا ثالث لهما: (1) - إما الوحي، والعقل السليم، والفطرة المستقيمة، كلٌّ منها يصدق الآخر، وهذا من نصيب أهل السنة والجماعة دون سائر الفرق والملل. (2) - وإما الأساطير والأوهام والتخرصات والخيالات والوساوس، وهذه تسميها كل ملة منحرفة باسم تزعمه: فالكفار أصحاب النظريات الكونية والنفسية المخالفة للوحي يسمونها (حقائق علمية)، وهؤلاء كذبهم الله تعالى وهدم منهجهم بآيةٍ واحدةٍ من كتابه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51]. والفلاسفة ومن حذا حذوهم من المتكلمين المنتسبين للإسلام

يسمونها (البراهين) أو (القواطع العقلية)، وهؤلاء ساروا على المنهج الإبليسي في معارضة الوحي بالرأي: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: (12)]. والمشعوذون والدجالون وغلاة الصوفية المنتسبون للإسلام يسمونها (كشفًا وفيضًا ووجدًا وذوقًا ...). وهؤلاء اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما ورثوه من تعاليم هاروت وماروت، وسحرة الفراعنة، وكهان الهندوس، وأصحاب البدود (¬1)، كما كانوا يسمونهم. هذا ونحن نقدم للقراء الكرام كتاب الأشعرية الكبير بعد نفاد الطبعة الأولى من الصغير، نرجو أن ينفع الله بها. ¬

(¬1) وهم البوذيون، فأصل الكلمة واحد (بوذا) أو (بذ) ومعناها: العارف.

أول واجب على المكلف

أول واجب على المكلف من البدهيات في التصور الإسلامي - وهو الذي عليه عقيدة السلف - أن أول ما بجب على المكلف: هو توحيد الله عز وجل وعبادته وحده، كما تضمنته كلمة التوحيد (شهادة أن لا إله إلا الله)، وهذه المعاني انتظمتها روايات حديث معاذ رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أهل الكتاب باليمن، وبيَّن له أول ما يدعوهم إليه؛ ففي رواية: (أن يوحدوا الله)، وفي أخرى: (عبادة الله)، وفي ثالثة: (أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) (¬1). على أن أولية هذه القضية لا تختص بالابتداء بها قبل كل قضية، بل تعني ما هو أهم، وهو أنها أهم وآكد القضايا. أما وجوده سبحانه وتعالى وأنه خالق الكون؛ فأمر فطري ضروري مركوز في النفوس البشرية جيعها، وإن كابر فيه من كابر. هذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة. أما الأشاعرة فإن مذهبهم هو عين مذهب المعتزلة المتابعين لأسلافهم من الفلاسفة المثبتين، الذين جعلوا غاية الإيمان ومحصِّله هو (العلم بحدوث العالم وقدم الصانع). ولما كانت وسيلة هذا العلم عندهم هي العقل وحده فقد دخلوا في متاهة فلسفية، من جهة أن أول ما يتوقف عليه حصول هذا العلم ¬

(¬1) الروايات جميعها صحيحة. انظر الفتح ((3) / (357)، 361) (13/ (347)).

بجب أن يكون هو أول واجب. فذهب بعضهم إلى أن أول واجب هو النظر. وذهب آخرون إلى أنه القصد إلى النظر. وقال بعضهم: إنه إرادة النظر. وقال بعضهم: إن أول واجب هو أول جزء من النظر. وقال بعضهم: أول واجب هو اعتقاد وجوب النظر. وقال بعضهم: بل الشك هو أول واجب؛ لأنه الذي يدفع للقصد إلى النظر. إلى آخر ما قالوا من التكلف والتعمق فيما لا طائل فيه!!. وأصل البلاء: هو إنكارهم للمعرفة الفطرية، بل تصريحهم بأن وجود الله تعالى غير معلوم بالاضطرار، وإنما يعلم بالنظر والاستدلال. وهذا ما قرره وصرح به القاضي المعتزلي عبد الجبار (¬1)، وتبعه القاضي الأشعري الباقلاني الذي قال ضمن ما يجب على كل أحدٍ اعتقاده، ولا يجوز الجهل به: «وأن يعلم أن أول ما فرض الله عز وجل على جميع العباد النظر في آياته ... لأنه سبحانه غير معلوم باضطرار، ¬

(¬1) قال في كتابه (شرح الأصول الخمسة) الذي حققه الدكتور عبد الكريم عثمان (ص (39)) وهي الأولى من متن الكتاب: «إن سأل سائل فقال: ما أول ما أوجب الله عليك؟ فقل: النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى؛ لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة، فيجب أن نعرفه بالتفكر والنظر» اهـ.

ولا مشاهد بالحواس، وإنما يعلم وجوده وكونه على ما تقتضيه أفعاله بالأدلة القاهرة، والبراهين الباهرة. والثاني من فرائض الله عز وجل على جميع العباد: الإيمان به، والإقرار بكتبه ورسله ...» (¬1) اهـ. ومعلومٌ من صريح القرآن أن هذا الثاني هو المطلوب الأول الذي دعت إليه رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، وأن وجوده تعالى مما أقرَّ به الكفار المكذبون للرسل، ولا جدال في حض القرآن على النظر والفكر والتدبر، ولكن الكلام هنا في أول واجب، وكونه طريق الإيمان والتوحيد. ويذهب الجويني إلى أبعد من ذلك، وهو أن أول واجب ليس النظر، بل القصد إلى النظر، قال: «أول ما يجب على العاقل البالغ باستكمال سن البلوغ أو الحُلُم شرعًا: القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم» (¬2) أي: حدوثه. ثم يدخل في مسائل محيرة ذكرها في (الشامل). مثل مسألة ما إذا بلغ إنسان ثم اخترمته المنية وهو في أثناء النظر، ¬

(¬1) الإنصاف (ص (22))، مع أن الجويني في الشامل (ص121) تحقيق النشار وتبعه المتأخرون: ذهب إلى أن مذهب القاضي هو أن أول واجب هو أول جزء من النظر. (¬2) الإرشاد (ص (3))، وانظر المواقف (ص (32)). على أن الجويني في الشامل (ص120) ذكر الأقوال، وانتهى إلى أن النزاع لفظي، ما عدا القول بالشك فهو باطل.

فهل يعد مؤمنًا أم لا؟ (¬1) ونحوها مما يجزم المطَّلع عليها بأنها تكلفات محدثة لا أصل هنا ولا دليل. وقد نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله كلام الجويني وغيره في شرحه لكتاب الإيمان من الفتح، ورد عليه قائلًا: «ومع ذلك فقول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: (30)]، وحديث: (كل مولود يولد على الفطرة) ظاهران في دفع هذه المسألة من أصلها». ثم قال: «وقد نقل القدوة أبو محمد بن أي جمرة عن أبي الوليد الباجي عن أبي جعفر السمناني - وهو من كبار الأشاعرة - أنه سمعه يقول: إن هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب. والله المستعان» (¬2). كما أورد الحافظ في أول كتاب التوحيد من الفتح كلامًا طويلًا جدًّا في هذه المسألة، ذكر فيه - ضمن ما ذكر - كلام أئمة الأشاعرة؛ ¬

(¬1) الشامل (ص122). ومثلها عن المعاصرين ما قاله سعيد حوى: «لقد نص فقهاء الحنفية على أن بنت المسلم إذا تزوجت قبل البلوغ من مسلم فإن الزواج صحيح، ويحكم بإسلامها تبعًا لأبويها، فإذا بلغت وسئلت عن الإسلام فلم تعرف أن تصفه، فإن العقد يعتبر لاغيًا بسبب تبين عدم إسلامها .. وعلى هذا فإن فقهاء الحنفية يعتبرون عدم معرفة الإسلام كفرًا ..» في آفاق التعاليم (ص (93)). (¬2) فتح الباري ((1) / (70) -71). على أنها ليست المسألة الوحيدة، بل صرَّح الدكتور النشار مع تعصبه الشديد للأشاعرة أنهم لم يخالفوا المعتزلة في الأصول، وإنما في فهم هذه الأصول. انظر مقدمة الشامل (ص (77)).

كالباقلاني، والجويني، وابن فورك، والإسفرائيني، ثم قال بعد ذكر كلامهم واختلافاتهم: «وقد ذكرت في كتاب الإيمان من أعرض عن هذا من أصله، وتمسك بقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}». ثم ذكر الآية والحديث السابقين، وأعاد نقل اعتراف السمناني قائلًا: «وقد وافق أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة على هذا، وقال: إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة» (¬1). أما مسألة أن (أول واجب هو الشك) فلم أجد من نص عليه من الأشاعرة نصًّا، بل نقلوه عن أبي هاشم الجبائي المعتزلي، ولكن القرطبي (¬2) - وهو أشعري - قال عن توبة الجويني التي فيها: «ركبت البحر الأعظم، وغُصت في كل شيء نهى عنه أهل العلم في طلب الحق، فرارًا من التقليد، والآن فقد رجعت واعتقدت مذهب السلف». قال: «إن قوله: (ركبت البحر الأعظم) إشارة إلى هذا المذهب، أي مذهب الشك» (¬3). ولكن واقع حال أئمة الأشاعرة يدل على أن أول طريق اليقين عندهم هو البدء من الشكِّ، وهذا ما ينطبق على كلام الجويني، وأصرح ¬

(¬1) المصدر نفسه (13/ 349). (¬2) هو أبو العباس صاحب (المفهم) وهو شيخ المفسر الأشعري أبي عبد الله صاحب (الجامع لأحكام القرآن) الذي وصفه شيخ الإسلام بأنه من أكابر علماء الأشعرية. انظر التسعينية (ص244). (¬3) انظر فتح الباري (13/ 350).

من ذلك ما فعله الغزالي الذي عاش تجربة الشك، ثم انتهى به الأمر إلى اختيار طريق الصوفية، وقد تحدث بنفسه عن هذه التجربة في كتابه الذي أسماه (المنقذ من الضلال) وغيره. وقريبٌ منه قول الرازي في توبته: «إني كنت رجلًا محبًّا للعلم، فكنت أكتب من كل شيءٍ شيئًا لأقف على كميته وكيفيته، سواء كان حقًّا أو باطلًا». إلى أن يقول: «ولقد اختيرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدةً تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن» (¬1). وهذا حال كثيرٍ منهم لما رفضوا ما أسموه (إيمان العوام)، أو (التقليد) تاهوا وتحيروا، وشكوا وترددوا، ونقبوا في كل سبيل، وبحثوا عن كل مصدر، وأخيرًا عاد من عاد منهم، وأخذ يضرع إلى الله أن يميته على دين العجائز. وذِكْرُ حَيرتهم وتوبة من تاب منهم يطول شرحه، وإنما المقصود بيان ما أوجبوه وألزموا به الأمة من واقع حالهم هم بأنفسهم. وأصل البلاء في هذه المسألة ونحوها: هو الإصابة بعدوى الفلسفة الوثنية الإغريقية، التي ترجمت زمن المأمون ومن بعده، والتي تنكر الوحي وتجعل العقل هو وحده الحكم والمعيار ومصدر التلقي في كل شيء، وكان مذهب فلاسفتها إخضاع المعتقدات والأديان كلها للنظر العقلي.? ¬

(¬1) طبقات الشافعية (8/ 85).

فلما وافقهم المصابون بدائها من المتكلمين المنتسبين للإسلام على هذا - بغض النظر عن حسن النية وسلامة الدافع لدى بعضهم - وأدخلوا الإسلام ضمن المعتقدات القابلة للنظر والنقد، وفتحوا باب المعارضة المفتعلة بين المعقول والمنقول، وجعلوا المعقول المزعوم هو الأصل (¬1)؛ حصل بذلك من الضلالات والانحرافات والنكبات في دين الأمة ودنياها ما يعجز التاريخ عن حصره. هكذا سلَّم الأشاعرة تبعًا للمعتزلة أن الإيمان بالله ورسوله بدون النظر العقلي - على الصفة التي اشترطوها - إنما هو تقليدٌ محضٌ، حتى صرح أبو حامد الغزالي - وهو من أخفِّهم في القضية - أن (جميع عقائد العوام مباديها التلقين المجرد، والتقليد المحض) (¬2). ثم قالوا: كيف يصح التقليد في العقيدة وهي أصل الدين؟. وقالوا: بماذا ندفع قول الفلاسفة المعطلين - القائلين بقدم العالم - في قولهم: إن المسلم لو ولد في دار النصرانية لكان نصرانيًّا، ولو ولد في دار المجوسية لكان مجوسيًّا، لكن لما ولد في دار الإسلام صار مسلمًا، وإنما آمن كل واحدٍ بما وجد عليه قومه، وإن المسلم إذا واجهته الأدلة العقلية ربما كفر أو شك؟. من هذا الموقف الانهزامي الدفاعي، ومن اعتبار قضية إثبات ¬

(¬1) انظر تقرير هذا الموضوع في فصل (مصدر التلقي) الآتي. (¬2) إحياء علوم الدين (1/ 162) طبعة الشعب، وكلامه في الحقيقة متناقض مع أنه مناقض لما ذكره في (ص148) من الكتاب نفسه.

حدوث العالم وقِدم الصانع أساس كل قضية كما سبق، جعلوا أول واجب على المكلف هو النظر أو مقدماته، إذ بواسطته - بزعمهم - يدفع الإنسان الشكوك ويقاوم الشبهات، فيؤمن عن اقتناعٍ لا عن تقليد. فلما تقرر هذا لديهم نظروا إلى عوام المسلمين الذين لم يعرفوا هذه المقدمات النظرية، فحاروا في حكمهم واختلفوا: فمنهم من كفّرهم. ومنهم من فسّقهم. ومنهم من فصّل بحسب أهلية النظر وغيرها. ومنهم من حكم بإيمانهم، لكن جعل النظر شرط كمال، لا شرط صحة. إلى آخر مذاهبهم وأقوالهم التي نشير الآن إلى شيءٍ منها للاختصار: ففي (شرح الكبرى) للسنوسي نقل الأقوال في إيمان المقلد، وأرجعها إلى ثلاثة: أنه كافر، وأنه عاصٍ، وأنه مؤمن. واختار السنوسي القول الأول (¬1). والعجيب أنه ذكر ضمن ذلك عدم الاعتداد بخلاف من أسماهم (الحشوية)!. وقال صاحب (الجوهرة): إذ كل من قلّد في التوحيد ... إيمانه لم يخل من ترديد? ¬

(¬1) شرح الكبرى مع الحواشي (ص39). وعدم تصحيح إيمان المقلّد هو وحده الذي نسبه الكوثري إلى مذهب الأشعري. مقدمة الإنصاف (ص12).

ففيه بعض القوم يحكي الخُلفا ... وبعضهم حقق فيه الكشفا فقال إن يجزم بقول الغير ... كفى وإلا لم يزل في الضير وفي (شرح الجوهرة) للباجوري أو (البيجوري) نقل الأقوال أيضًا، ومنها: القول بالتكفير، قال: «فيكون المقلد كافرًا، وعليه السنوسي في الكبرى» (¬1). أما الدسوقي في (شرح أم البراهين) فقد أطال جدًّا، واستغرق في ذكر أقوال أئمة المذهب بدءًا بأبي الحسن الأشعري الذي ينقل عنه أنه يرى عدم صحة إيمان المقلد، ومرورًا بالقاضي، وأبي المعالي، وابن العربي، وسائر أتباعهم ممن يطول ذِكرُه ونَقْلُ كلامه، ومن أراد الاستقصاء والتفصيل فليراجعها هنالك (¬2)، هذا مع النقول المستفيضة التي أوردها الحلافظ عنهم في كتاب التوحيد من الفتح وتقدمت الإشارة إليها. وقال صاحب (المواقف): «فرعٌ: إن قلنا الواجب النظر، فمن أمكنه زمان يسع النظر التام ولم ينظر فهو عاصٍ، ومن لم يمكنه أصلًا فهو كالصبي، ومن أمكنه ما يسع بعض النظر دون تمامه ففيه احتمال، والأظهر عصيانه، كالمرأة تصبح طاهرةً فتفطر ثم تحيض فإنها عاصية، وإن ظهر أنها لم يمكنها إتمام الصوم» (¬3).? ¬

(¬1) (ص32) فما بعدها، وقد ذكر عنهم ستة أقوال في حكم إيمان المقلد، واثني عشر قولًا في أول الواجبات. (¬2) انظر من (ص54 - 70) مع دقة الحروف وتقارب الأسطر. (¬3) (ص33).

قال البغدادي في (أصول الدين): «قال أصحابنا: كل من اعتقد أركان الدين تقليدًا من غير معرفةٍ بأدلتها ننظر فيه: فإن اعتقد مع ذلك جواز ورود شبهة عليها وقال: لا آمن أن يَرِدَ عليها من الشبه ما يفسدها (؟). فهذا غير مؤمنٍ بالله ولا مطيع، بل هو كافر، وإن اعتقد الحق ولم يعرف دليله، واعتقد مع ذلك أنه ليس في الشبه ما يفسد اعتقاده، فهو الذي اختلف فيه أصحابنا: فمنهم من قال: هو مؤمنٌ، وحكم الإسلام له لازمٌ، وهو مطيعٌ لله تعالى باعتقاده وسائر طاعاته، وإن كان عاصيًا بتركه النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة أدلة قواعد الدين. قال: وبه نقول. ومنهم من قال: إن معتقِد الحق قد خرج باعتقاده عن الكفر؛ لأن الكفر واعتقادَ الحق في التوحيد والنبوات ضدان لا يجتمعان، غير أنه لا يستحق اسم المؤمن إلا إذا عرف الحق - في حدوث العالم وتوحيد صانعه، وفي صحة النبوة - ببعض أدلته، سواءً أحسن صاحبها العبارة عن الدلالة، أو لم يحسنها. وهذا اختيار الأشعري، وليس المعتقد للحق بالتقليد عنده مشركًا، ولا كافرًا، وإن لم يسمّه الإطلاق مؤمنًا» (¬1). فالبغدادي كما ترى ينقل أن رأي الأشعري: هو أن العامي المقلد ليس كافرًا ولا مؤمنًا، فهي إذن المنزلة بين المنزلتين التي ذهب إليها? ¬

(¬1) أصول الدين (ص254 - 255)، طبعة استانبول (1346هـ).

المعتزلة، وفي هذا تصديق لما قاله أبو جعفر السمناني الذي نقلنا كلامه من قبل. على أن تكفير العوام ليس هو اللازم الوحيد لهذا القول، بل ذلك ليشمل السلف أيضًا من الصحابة والتابعين؛ إذ إن إيمانهم لم يكن قطعًا على الكيفية التي رتبوها وقرروها، وحسْبُك تكفير أكمل الخلق إيمانًا دليلًا على بطلان هذا المذهب، وعلى قول من لم يكفِّر المقلد منهم، أليس الحكم بفسقهم وأنهم عاصون - كما في (المواقف) - أمرًا خطيرًا؟. وهذا ما جعل بعض الأشاعرة - مثل السمناني السابق ذكره، وأبي المظفر ابن السمعاني، وأبي حامد الغزالي، ونحوهم - ينتقدون المذهب في هذه المسألة، وبعضهم - كالقرطبي - صرَّح بتكفير من جعل الشك أول واجب، ومن اعتقد كفر من لم يعرف الله على طريقته الكلامية (¬1). وقد سبقت الإشارة إلى أن أبا حامد من أخفِّهم في المسألة؛ إذ نسبوا إليه أنه لا يرى النظر شرط صحة، بل شرط كمال (¬2)، وقد اعترف في (الإحياء) بخطأ منهج أصحابه في القضية، ومما قاله: «فقس عقيدة ¬

(¬1) انظر الفتح كتاب التوحيد (13/ 349 - 352). ومن ذلك أن ابن تومرت - تلميذ الغزالي - ألف (المرشدة) على هذا الاعتقاد، وقال: «يجب على كل أحدٍ أن يعتقدها». وقال بعض أتباعه: من لم يقرأها فهو كافر!. انظر مجموعة الفتاوى. (¬2) أم البراهين بشرح الدسوقي (ص57).

أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين، فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا تحركه الدواهي والصواعق، وعقيدة المتكلم الحارس اعتقاده بتقسيمات الجدل كخيط مرسل في الهواء؛ تفيئه الريح مرة هكذا ومرة هكذا، إلا من سمع منهم دليل الاعتقاد فتلقفه تقليدًا، كما تلقف نفس الاعتقاد تقليدًا، إذ لا فرق في التقليد بين تعلم الدليل أو تعلم المدلول، فتلقين الدليل شيءٌ، والاستدلال بالنظر شيءٌ آخر بعيدٌ عنه» (¬1). ونحن مع موافقتنا لمن نقد المذهب من أصحابه وغيرهم على تفضيل عقيدة أهل الصلاح والتقى على عقيدة المتكلمين؛ لا نوافقهم على أن إيمان هؤلاء الصالحين المتقين - فضلًا عمن هو أعظم منهم إيمانًا من سلف الأمة - مجرد تقليد، كما قال أبو حامد. فمن أخذ الشيء بدليله ليس مقلدًا، واتباع نصوص الوحي ليس تقليدًا، بل هو الإيمان الذي يدل عليه العقل والنقل والفطرة!!. وعلماء الأشاعرة لما حصروا القضية في التقليد والنظر، ثم تبين لهم من تجاربهم الخاصة فساد النظر الكلامي، وهزاله؛ عادوا إلى تفضيل التقليد حتى أوصى كثير من أئمتهم في توباتهم المشهورة آخر أيامهم؛ كالجويني، والغزالي، والرازي، وغيرهم بالتمسك بدين العجائز، ووصفوه بأنه أفضل عقيدة وأسلمها (¬2).? ¬

(¬1) كتاب قواعد العقائد من الإحياء (1/ 162) طبعة الشعب. (¬2) حتى من لم يصرح بدين العجائز إنما طلب الرجوع إلى الإيمان المجمل الذي هو حقيقة عقيدة العجائز والعوام.

ونحن نقول: بل إن أفضل من دِينِ العجائز دِينُ الراسخين في العلم من سلف الأمة ومن اتبعهم، الذين لم يقفوا عند الإيمان المجمل، بل عرفوا من تفصيلات حقائق العقيدة ما تحترق به أعظم شبهات المبطلين، وهم الذين أظهر الله على أيديهم حجته على العالمين في كل زمان، وأورثهم ميراث النبوة والكتاب، ولكنكم - معشر الأشاعرة - لا تنفكون تصفونهم بأنهم حشوية، أو غثاء، أو نابتة، بل ترمونهم بالكفر والزندقة (¬1). أما قضية التقليد فمدفوعةٌ من أصلها، فإن الفطرة التي فطر الله عليها خلقه لا تسمى تقليدًا، ومن ادَّعى أن إيمان المسلمين كإيمان اليهود والنصارى والبراهمة في أنه محض تقليد، فقد افترى وبغى، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي الصحيح: (وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ...) (¬2). وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في رواية: (ما من مولود يولد إلا على هذه الملَّة). ولذلك لم يقل في أيٍّ من الروايات: (أو يسلمانه). بل ¬

(¬1) قال صاحب الحواشي على شرح الكبرى للسنوسي (ص62): (قوله: ابن تيمية، أي الحنبلي المشهور زنديق وبغضه للدين وأهله لا يخفى). وينقل وهبي غاوجي الألباني عن السبكي ما ظاهره تكفير شيخ الإسلام ابن تيمية ويؤيده، انظر كتابه أركان الإيمان (ص298 - 299)، الطبعة الثانية، وانظر مجلة المجتمع عدد (646 لعام 1404هـ). (¬2) أخرجه مسلم (2865).

قال: (فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه) (¬1). فكيف نجعل من اجتالته الشياطين وأفسدته تربية الأبوين، ومن بقي على الفطرة النقية سواء؟!.? ومع وضوح دلالة هذه المسألة من الكتاب والسنة الصحيحة؛ نجد الآمدي يقول: «إن العلم برسالة الرسول، والقول بتصديقه يتوقف على معرفة وجود المُرسِل وصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز بتوسط الحادثات والكائنات والممكنات، وذلك كله ليس هو مما يقع بديهةً، فإنه لو خلّي الإنسان ودواعي نفسه في مبدأ نشوئه من غير التفات إلى أمرٍ آخر لم يحصل له العلم بشيءٍ من ذلك أصلًا (¬2). وهذا الرد الصريح للنصوص الواردة في الفطرة وغيرها، ليس غريبًا إذا عرفنا قاعدة الأشاعرة العامة في موقفهم من العقل والنقل على النحو المبين في الفصل الخاص بذلك. ولهذا فكل من قال: (أفرغ ذهني من كل الاعتقادات ثم أبحث عن الحقيقة حتى أجدها) كما وقع من الغزالي، والرازي، والجويني، وأضرابهم، فلا شك في ضلال طريقته حتى وإن أوصله بحثه إلى الحق في النهاية. وقد يكون فلاسفة أوربا الذين سلكوا هذه الطريقة مثل (ديكارت) و (هيوم) معذورين في هذا التفريغ؛ لأنهم فرغوا أذهانهم من خرافات ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1359)، ومسلم (2658). (¬2) غاية المرام (ص323)، وكذا في (ص18).

الكنيسة ووثنية (بولس)، بل هذا هو الواجب على كل من دان بغير الإسلام، أما من ولد بين المسلمين والحق يسطع أمام عينيه وفطرته ناطقة وعقله شاهد، فما عذره إذا فرغ ذهنه من هذا الحق الأبلج وتنكر لشواهده البينات؟ (¬1). إنه لا واسطة بين الكفر والإيمان، فإذا فرغ نفسه من الإيمان فقد كفر قبل أن يفكر وينظر ويقدّر، وليتهم إذ ابتلاهم الله بهذا الداء ستروا على أنفسهم وسكتوا عن مطالبة الناس به وإيجابه عليهم، بل عن كونه أول واجب وأعظم فريضة، أو ليتهم طالبوا به أمم الكفر والضلال، لا أمة الحنيفية والفطرة. قال ابن القيم رحمه الله: «سمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: كيف يُطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟. وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت: وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ ومعلومٌ أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود ¬

(¬1) وهذه الطريقة الضالة هي ما يطالب به المنهج الاستشراقي الخبيث باسم (الموضوعية) فيطلبون من المسلم أن ينسلخ عن عقيدته ويتجرد من اعتقاد عصمة القرآن من التحريف واعتقاد صحة ثبوت السنة النبوية، ويدرس السيرة المطهرة، وتاريخ الخلفاء الراشدين، كما يدرس الأناجيل، وسيرة نابليون، وجورج واشنطن، وتاريخ القرون المظلمة الأوربية، ويزعمون أن هذا هو مقتضى البحث العلمي النزيه الموصل إلى الحقائق دون تعصب ولا تقليد.

النهار، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما» (¬1). ولهذا لم يرد في كتاب الله وسنة رسوله إطلاق التقليد على أتباع الأنبياء لا لفظًا ولا حقيقةً، وإنما ذمَّ الله سبحانه وتعالى الكفار الحائدين عن دعوة الرسل بأنهم مقلدون لأسلافهم متابعون لهم بالباطل، بل إن الله تعالى سمى إسلام المشركين توبةً فقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: (5)]. وأمر اليهود والنصارى بالتوبة التي هي الرجوع إلى الإسلام فقال بعد قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: (72)]. وقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: (73)]. قال: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: (74)]. وما ذلك إلا لأنهم خرجوا عن دين أنبيائهم (التوحيد) إلى هذا الكفر. ولولا ما التزمناه من الاختصار لأفضنا في هذه المسألة، غير أننا نرجو أن تكون قد اتضحت. فإن قيل: إن بعض الأشاعرة رجح أن أول واجب هو المعرفة، كما قال في الجوهرة: وَاعْلَمْ بِأَنَّ أَوَّلًا مِمَّا يَجِبْ ... مَعْرِفَةً وَفِيهِ خُلْفٌ مُنْتَصِبْ ¬

(¬1) مدارج السالكين (1/ 60) تحقيق حامد الفقي.

أفلا يكون هذا هو ما يريده السلف بتوحيد المعرفة والإثبات؟. فالجواب: أولًا: أن هذا ليس قول جميعهم، بل بعضهم، ولذلك قال ناظم الجوهرة: «وفيه خلفٌ منتصب»، والأغلب على ما سبق من اشتراط النظر أو مقدماته. ثانيًا: أن المراد بالمعرفة عند الأشاعرة ليس هو المراد عند السلف، فإن مراد الأشاعرة بها هو أن يعرف بالنظر العقلي ما يجب له، وما يستحيل عليه، وما يجوز في حقه على نحوٍ خاصٍّ رتبوه وقرروه، كما سبق في كلام الآمدي، حتى أن من قال: إن أول واجب هو النظر ونحوه خَرّجوا كلامه على أن النظر أساس المعرفة. قال في (الجوهرة): فكل من كُلِّف شرعا وجبا ... عليه أن يعرف ما قد وجبا لله والجائز والممتنعا ... ومثل ذا لرسله فاستمعا إذ كل من قلد في التوحيد ... إيمانه لم يخل من ترديد وقال الدردير في (الخريدة البهية) (¬1): وواجب شرعًا على المكلف ... معرفة الله العلي فاعرف أي يعرف الواجب والمحالا ... مع جائز في حقه تعالي ¬

(¬1) مجموع مهمات المتون (ص24).

فالواجب العقلي ما لم يقبل ... الانتفا في ذاته فابتهل والمستحيل كل ما لم يقبل ... في ذاته ضد ثبوت الأول وكل أمر قابلٌ للانتفا ... وللثبوت جائز بلا خفا ويدل على ذلك: أن شارح (الجوهرة) رد على من قال: إن أول واجب هو الإيمان. ومن قال: هو الإسلام بقوله: «وهذان القولان متقاربان مردودان باحتياج كل من الإيمان والإسلام للمعرفة» (¬1). فالنظر أو مقدماته أو متعلقاته عند من قال به منهم ما هو إلا بداية للمعرفة، فاتضح أنَّ الخلاف بينهم لفظي، وأن الكل بعيدٌ عن المفهوم السلفي للمعرفة. والعجب أن التزام الأشاعرة باعتبار النظر أو مقدماته أول واجب عيني على كل مكلف، وتسمية الإيمان الفطري تقليدًا أفضى بهم إلى عدم اعتبار التواتر في مسألة وجود الله كافيًا، بل أخرجوا هذه المسألة في إفادة العلم الضروري من مسمَّى التواتر كما سنوضحه. وذلك أنهم وافقوا ملاحدة الفلاسفة في عدم اعتبار اتفاق بني آدم - جميعهم من الملِّيين (أتباع الأديان) وغيرهم من المثبتين على وجود الله تعالى وحدوث العالم - مفيدًا للعلم الضروري؛ لأن المقلدين - بزعمهم - مهما كثروا لا يُعْتَدُّ بهم، والناظرون مهما تواتروا لا يُعْتَدُّ إلا بتواترهم على المحسوس. ¬

(¬1) (ص34).

والأشاعرة يحصرون حصول العلم اليقيني في طريقين: (1) - التواتر. (2) - خبر الصادق المؤيد بالمعجزة (¬1). والفلاسفة المعطلة ينكرون الثاني بإطلاق، ويقرُّون بالأول في المحسوسات، فأمكن إبطال قول الفلاسفة بطرائق كثيرة؛ منها: (1) - إبطال قولهم باشتراط المحسوسات في التواتر، وإدخال العقليات فيه. فيقال لهم: إذا نظر جمعٌ غفيرٌ من الناس فأوصلهم نظرهم إلى نتيجة عقلية نحو وجود الله، فلم لا يعد هذا تواترًا؟ (¬2). (2) - لو سلمنا لهم اشتراط الحسية نقول: إن أتباع الأنبياء وهم أكثر بني آدم ينقلون جيلًا بعد جيل أن رسل الله المتتابعين جاءوا بمعجزات باهرة، أوجبت صدقهم، فإيمان أتباعهم ليس تقليدًا، وإنما هو عملٌ بمقتضى ما ثبت نقله تواترًا، وهو محسوسٌ. أقول: كان يمكن للأشاعرة أن يردوا عليهم بهذا مع عدم مخالفتهم لأصولهم، ولكن الحاصل: أن الأشاعرة لم يُلزموا الفلاسفة بما أقروا به وهو التواتر؛ بل سلَّموا لهم فيه، وحاولوا إلزامهم بما? ¬

(¬1) العقائد النسفية (ص28) مجموع أمهات المتون، ومثله في الإرشاد وسيأتي بعضه. (¬2) وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم التواطؤ على ليلة القدر بالرؤى المنامية، فكيف بتواتر النظر والاستدلال الجلي!.

ينكرونه وهو مجرد المعجزة، ولما كان استدلالهم بهذا الثاني قاصرًا؛ ظهر عليهم الفلاسفة وألزموهم. وها هو ذا نص كلام الجويني في ذلك، قال: «إنما يثبت التواتر بشرائط: فمنها: أن يكون المخبرون عالمين بما أخبروا عنه على الضرورة، مثل أن يخبروا عن محسوسٍ أو معلومٍ بديهةً بجهةٍ أخرى سوى درك الحواس». قال: «ولو أخبروا عما علموه نظرًا واستدلالًا لم توجب أخبارهم علمًا، فإن المخبرين عن حدث العالم (أي حدوثه) زائدون عن عدد التواتر، وليسو يوجب خبرهم علمًا. والمخبرون تواترًا عن بلدةٍ لم نرها مصدقون على الضرورة» (¬1). فانظر كيف يعتبر العلم بحدوث العالم علمًا غير ضروري؛ لأنه ليس قائمًا على دليلٍ حسيٍّ أو بدهي، بل على دليلٍ نظريٍّ استدلالي، والإيمان ببلدة لم نرها ضروريًّا؛ لأنه حسي. وكيف يجوز أن نصدق - بالضرورة - أعدادًا من الناس عن بلدة لم نرها، ولا نصدق بالضرورة بني آدم كلهم في إجماعهم إلا من شذ علي حدوث العالم، والإنسان قد يجد في نفسه ضرورةً أعظم من كل نظرٍ بعينه، فكيف إذا كانت هذه الضرورة مشتركة بين بني آدم كلهم. ثم بعد هذا وقبله نسأل أنفسنا ونسأل الأشاعرة: ما قيمة الاعتراف? ¬

(¬1) الإرشاد (ص413). وتبعه الرازي في الأربعين (ص304).

بحدوث العالم في العقيدة الإسلامية إذا نظرنا للكتاب والسنة وألقينا كلام (الحكماء) (¬1) جملة؟. الجواب واضح مما سبق. ثم نقول من قبيل التنزل: ما هي الأدلة العقلية التي تثبتون بها معشر الأشاعرة وجود الله، والتي يجب على كل مكلف معرفتها حتى يكون إيمانه صحيحًا ولا يكون تقليدًا؟. إن غاية ما تستدلون به هو ذلك الدليل المكرر اليتيم: (دليل الحدوث) (¬2). فأما من تسمونهم (الحكماء) من المعطلة، فيجزمون ببطلانه من وجوه عقلية كثيرة، وقد جاء في ترجمة إمامكم الكبير صاحب (البراهين) المشهورة (الرازي) أنه (أو تلميذه الأرموي مختَصِرُ كُتُبِه) قال: «عندي كذا وكذا مائة شبهة على القول بحدوث العالم» (¬3). وأما علماء السنة فيقولون: إنه يقوم على مقدمات عقلية طويلة، منها ¬

(¬1) هكذا يسمي الأشاعرةُ الفلاسفةَ في معظم ما اطلعنا عليه من كتبهم حتى المعاصرين منهم. (¬2) انظر مثلًا المواقف (ص266). (¬3) لسان الميزان (4/ 428) ترجمة الفخر الرازي، وهذا يدل على أن حكايته مع العجوز لها أصل، وهي أن عجوزًا رأت موكبًا ضخمًا فتعجبت وقالت: من صاحب هذا الموكب، فقيل لها: هذا الإمام الرازي الذي جاء بألف دليل على وجود الله، قالت: لو لم يكن لديه ألف شك لما جاء بألف دليل. سبحانه ومتى غاب حتى يستدل عليه. اهـ.

الخطأ، ومنها الغامض المتكلف، ومنها المنازع فيه، وما في نتائجها من صواب تعرفه العامة فطرةً، ويمكن تقريره بأخصر مما تكلفتموه وأبيَن (¬1). ورحمة الله أوسع من أن يسد على عباده أبواب معرفته والإيمان به، إلا هذا من السبيل الوعر المتكلف. ¬

(¬1) انظر مقدمة شرح العقيدة الأصفهانية لشيخ الإسلام ابن تيمية، على سبيل المثال.

السمعيات

السمعيات مع أن هذا هو موضع مبحث السمعيات اللائق به؛ لأنه - بحسب الظاهر - كالاستدراك على موضوع مصدر التلقي عامة، فقد كنت أريد أن يكون هو أول مبحث من مباحث ذلك الموضوع، وهكذا كتبته في المسودة، وكان ذلك خشية أن تراود القارئ - وهو يقرأ المباحث السابقة - فكرة إثبات السمعيات عند الأشاعرة، فيظن أن النتائج التي وصل إليها هناك ليست نهائية مطلقة، بل مقيدة أو مخصصة بمسألة السمعيات، فأردت أن أقدمه لكي أستأصل هذه الشبهة سلفًا. ثم آثرت أن أؤخر بحث هذا الموضوع إلى محله اللائق - وهو هنا - تاركًا للقارئ أن يستخلص الحكم النهائي بنفسه بعد طول أناة. وتلك الفكرة التي خشيتها قد كانت في ذهني أنا من قبل، وهي - بحق - قائمةٌ في أذهان كثيرٍ من الباحثين، فقد كنت أحسب - كما هم يحسبون - أن إثبات الأشاعرة لما يسمونه السمعيات (أي العقائد الغيبية؛ كالجنة والنار، والميزان والصراط، وعذاب القبر، وكذلك رؤية المؤمنين لربهم تعالى ونحوها) هو خروجٌ عن أصولهم في مصدر التلقي، ورجوعٌ مطلقٌ إلى المصدر السمعي (الوحي)، وأن خطأهم فيها محصورٌ في التأصيل المنهجي لها، أعني قسمة الموارد إلى دائرة عقل ودائرة وحي. ولهذا كنت أقبل قول من يقول: «إن الأشاعرة موافقون لأهل السنة والجماعة في السمعيات، مع مخالفتهم لهم في سائر أبواب العقيدة».

ولكن الواقع الذي تنطق به كتبهم أنهم في هذا الموضوع أيضًا مخالفون لأهل السنة والجماعة في قضيتين منهجيتين: الأولى: أن أهل السنة والجماعة لم يقسموا هذا التقسيم، وليسوا بحاجة إليه أصلًا، وذلك لأن التقسيم مبني على مفهوم فاسد عن العقل وعلاقته بالسمع، يقول الجويني بعنوان: (باب القول في السمعيات): «اعلموا وفقكم الله أن أصول العقائد تنقسم إلى ما يدرك عقلًا ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعًا، وإلى ما يدرك سمعًا ولا يتقدر إدراكه عقلًا، وإلى ما يجوز إدراكه سمعًا وعقلًا» (¬1). فهذا أصل تقسيمهم الباطل، فأما هضمهم لدور النقل وتضخيم دور العقل إلى حد القول باستقلاله بإدراك أصول العقائد؛ فلن نبحثه الآن، بل نكتفي ببيان المفهوم السلفي للعقل، فالعقل عند أهل السنة والجماعة يشمل العقل الفطري الذي منحه الله لكل بنى آدم، والعقل الاستدلالي النظري الذي يكتسبه الإنسان ويستخدمه العلماء، وبمعنى أهم هو يشمل: البديهية والبصيرة، والحسّ والفهم والتفكير. فلهذا لم يكونوا بحاجة إلى أن يسموا شيئًا من العقائد (سمعيات) بمعناها عند الأشاعرة؛ لأنه بالمقابل ليس لديهم عقائد تسمى (عقليات) بمعناها عند أولئك. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (شرح الأصفهانية). «إن طرق الناس في إثبات العقائد نوعان: سمعية وعقلية». ثم يقرر أن «العقلية ¬

(¬1) الإرشاد (ص358).

هي أيضًا شرعية سمعية باعتبار أن السمع دل عليها وأرشد إليها، وأن الشرع أحبّها ودعا إليها» (¬1). وقال: «فالآيات التي يريها الناس حتى يعلموا أن القرآن حقٌّ هي آياتٌ عقليةٌ، يستدل بها العقل على أن القرآن حقٌّ، وهي شرعية دلّ الشرع عليها وأمر بها، والقرآن مملوءٌ من ذكر الآيات العقلية التي يستدل بها العقل، وهي شرعيةٌ لأن الشرع أرشد إليها، ولكن كثيرًا من الناس لا يسمي دليلًا شرعيًّا إلا ما دلّ بمجرد خبر الرسول، وهو اصطلاحٌ قاصرٌ» (¬2). فلو قال قائل: «إن كل ما يثبته أهل السنة والجماعة من العقائد ثابتٌ بالنص» لكان صادقًا، ولو قال آخر: «إن كل ما يثبته أهل السنة والجماعة من العقائد يثبته العقل» لكان صادقًا أيضًا، وليس هذا متحققًا في أي فرقة من الفرق الأخرى إطلاقًا. أما الشيء الممتنع في عقيدة السلف فهو أن يكون هنالك أصلٌ من أصول العقائد يستقل العقل بإدراكه وإثباته، وهذا من أهم وأبرز الفوارق المنهجية بينهم وبين الأشاعرة. وليس في إمكاننا تفصيل مهمة العقل ومجاله الذي أتاحه له المنهج القرآني في هذه العجالة، وحسبنا أن نشير إلى حقيقةٍ واحدةٍ فقط هي: أن هذا العقل قد فتح الله تعالى أمامه ثلاثة كتب متطابقة ¬

(¬1) (5/ 49) المطبوعة مع الفتاوى الكبرى، ومثله عن الاستدلال على صحة النبوة في تعارض العقل والنقل (7/ 302). (¬2) النبوات (ص145 - 148).

متضافرة، شاهدة على قضيةٍ واحدةٍ كبرى، هي توحيد الله تعالى، ووجوب اتباع منهجه، والتمسك بوحيه، وهي: (1) - الكتاب المسطور (القرآن). (2) - الكتاب المنظور (الكون). (3) - الكتاب المأثور (التاريخ) أي أخبار الأمم الغابرة وآثارها في الأرض. وسمَّى الله سبحانه وتعالى آحاد كل كتاب منها تسميةً واحدةً مشتركةً (آيات)، فالجزء المعروف من القرآن (آية)، والمشهد الكوني (آية)، والحدث التاريخي (آية)، وجعل الحديث عن هذه الآيات مبثوثًا في أكثر سور القرآن - لا سيما القرآن المكي - مما يصعب معه حصر مواضعها، ولكننا نشير إلى ما فيه من دلالات مشتركة متعلقة بموضوع (العقل): (1) - تأتي هذه الآيات في موضع واحد شامل كما في أول سورة الجاثية: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ 3 وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 4 وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 5 تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ 6} [الجاثية: (3) - (6)] (¬1). (2) - وتأتي مفصلة كل كتاب منها على حدة مع اتحاد الصيغة والأسلوب مثل: ¬

(¬1) فالآية الأولى تشمل ما في الأرض من آيات كونية وآثارية، والآية الأخيرة في الآيات القرآنية.

أ - صيغة التحضيض {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: فقال عن القرآن {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: (10)]. وقال عن الكون: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون: (80)]. ب - صيغة الوصف بالفعل المضارع {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: مثل قوله عن آيات القرآن: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: (28)]. وقوله عن آيات الكون: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]. وقوله عن آيات الآثار: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ 34 وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 35} [العنكبوت: 34 - 35]. (3) - وتأتي مواضع تذكر فيها هذه الآيات مقرونةً بتذكر وتدبر {أُولِي الْأَلْبَابِ}:

كما في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: (29)]. وعن آيات الكون يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]. وعن آيات التاريخ يقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]. مع قوله في أول السورة: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: (7)]. (4) - وتأتي مواضع يستعمل فيها صيغة مرادفة أخرى هي (التفكر): فيقول عن آيات القرآن: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: (24)]. ويقول عن آيات الكون: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: (3)]. ويقول عن آيات التاريخ وإن لم يصرح بتسميتها آية هنا: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]. (5) - وتأتي مواضع ينفي فيها العقل عن من أعرض عن شيء من هذه الآيات: فقال عن آيات القرآن: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ

كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: (42)]. وقال عن آيات الكون: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ 100 قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ 101} [يونس: 100 - 101]. وقال عن آيات التاريخ: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ 45 أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ 46} [الحج: 45 - 46]. (6) - وتأتي مواضع يستعمل فيها صيغة الأمر (انظر) مع هذه الآيات: فيقول عن آيات القرآن: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: (75)]. ويقول عن آيات الكون: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: (99)]. ويقول عن الآيات التاريخية: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ 51 فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 52} [النمل: 51 - 52]. فها هي ذي نصوص الوحي تمنح العقل هذه الآفاق الواسعة، والمجال الرحيب، وقد وسعت مفهومه قبل أن توسع دائرة عمله، وهي أيضًا التي حَدَّتْ له حدودًا لا يجوز له تجاوزها بحال، فلا هي رفعته عن

منزلته، ولا هي هضمته دوره، ولا هي ضخمت دوره في جانب، وأهدرته في جانب آخر. أما الأشاعرة؛ فلما كان العقل العاجز الكليل عندهم، لا يحسِّن شيئًا ولا يقبحه، وأفعال الله تعالى عندهم لا حكمة لها ولا غاية؛ جعلوا الإيمان بهذه الغيبيات من قبيل التفويض إلى النص، أي خبر الصادق كما يسمونه، فهي عندهم مثل وقوف غرابٍ الآن على منارة الإسكندرية، أو جبل قاف، كما عبَّر الرازي والإيجي. ثم لما كان العقل عندهم هو الحَكَم ومصدر التلقي - وهو مجرد زعم - قالوا: «إن العقل لا يحكم باستحالتها». وجعلوا هذه العبارة شرطًا في كل مسألةٍ من مسائل السمعيات، كما سيأتي في الأمثلة. فلما حصروا مفهوم العقل فيما ذكرنا مع تحكيمه في كل شيءٍ، أفضى بهم ذلك حتمًا إلى افتعال التعارض بين العقل والنقل، وتخصيص دائرة عمل لكل منهما، مع إطلاق يد العقل في الأصول الكلية، وإشرافه على كلتا الدائرتين. فظهر التناقض في أصولهم بين تحكيم العقل واستقلاله بإدراك بعض أصول العقائد من جهة، وبين وقوفه في هذه القضايا الاعتقادية موقفًا سلبيًّا هو مجرد عدم الحكم باستحالتها من جهة أخرى. أما أهل السنة والجماعة؛ فمن منطلق النظرة الشمولية التي يتميز بها منهجهم - لأنه منهج الوحي - كانت هذه المسألة المنهجية عندهم في غاية الاتزان والاتساق والوضوح، كما قررت الآيات السابقة. ومن أسباب هذا الاتزان باعتقادهم - حسب دلالة نصوص الوحي -

أن الإيمان بالغيب - في الجملة والأصل - فطريٌّ في النفوس البشرية كلها، وكل عاقلٍ مهما بلغت بدائيته يؤمن بالغيب، ويعلم ذلك في نفسه اضطرارًا، ولكن من البشر من يكابر بعد التلقين والتربية الضالة، مع أنه مهما بلغت به المكابرة إنما ينكر بعض مسائل الغيب لا كلها، وهذا هو المعروف عن الملحدين قاطبةً؛ قديمهم وحديثهم (¬1). فإذا ورد النص بأمورٍ غيبيةٍ، كان هذا بالنسبة للعقل من قبيل تفصيل ما أجمل، لا أكثر، فإذا انضم إلى ذلك شهادة العقل وتسليمه المطلق سلفًا بصدق النص وصحته، لم يبق هنالك أدنى شبهةٍ للتعارض، ومن ثَمَّ فلا حاجة للتقسيم بهذا الاعتبار، ولا لتضخيم شيءٍ من جانبٍ، وإهدار قيمته في الجانب الآخر. وعبارة: «إن العقل لا يحكم باستحالة شيءٍ من الغيبيات الثابتة بالنص» هي عند السلف قضيةٌ بديهيةٌ، ولهذا لم يحتاجوا أن يذكروها عند كل مسألة، فضلًا على أن يجعلوها شرطًا في إثبات ما أخبر به الله ورسوله، وإذا ذكروها فمن قبيل تعاضد الأدلة، وتزييف شبهات الملحدين. أما الأشاعرة؛ فإذا قالوا: «إن العقل لا يحكم باستحالة كذا وكذا ..» مما أخبر به الشرع. فهم لا يقولونه تقريرا لبداهة القضية؛ بل تأصيلًا لتحكيم العقل، واشتراطًا لوجوب التصديق، وهذا ما ينقلنا إلى القضية الثانية وهي: ¬

(¬1) وهذا ما نص عليه شيخ الإسلام في حديثه عن (السمنية)، وهم الطائفة التي تقول كتب الفرق: إنهم ينكرون ما عدا الحواس. انظر التسعينية (ص36).

(2) - أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالسمعيات؛ لأن النص أخبر بها، أما الأشاعرة فيؤمنون بها لتحقق شرطين: (1) - أن الصادق أخبر بها. (2) - أن العقل لم يحكم باستحالتها. ولو حكم عقلهم باستحالتها لردوا النص، أو فوضوه، أو أَوَّلُوه، كما فعلوا في الصفات وغيرها مما يسمونه (العقليات)، والأمثلة توضح ذلك، فلنأخذ مثالين للمقارنة، ثم نسرد أمثلة خاصة بالأشاعرة لبيان منهجهم من كلامهم. (1) - إثبات العلو: يثبت أهل السنة والجماعة علو الله تعالى على خلقه إثباتًا تتعاضد فيه نصوص الوحي بفطر النفوس بنظر العقول، حسب المنهج المتسق الذي سبقت الإشارة إليه آنفًا، وأي كتاب في العقيدة السلفية تجده يقرر ذلك بوضوح ويسر. أما الأشاعرة فينكرون العلو، وفي مقابل ذلك يؤمنون بالرؤية، بل بما هو دونها من جهة قوة الثبوت، وهو الصراط مثلًا. فهاهنا موضع اختلاف مع أهل السنة (العلو)، وموضع اتفاق (الرؤية)، فهل هذا اضطرابٌ عارضٌ، أم تناقضٌ منهجيٌّ؟. إن الإجابة على هذا السؤال تتضح من خلال الإجابة على سؤال وجهه أهل السنة، ويوجهونه إلى الأشاعرة، وهو: كيف تنكرون العلو مع ثبوت النصوص فيه بما يقدر بالمئات، بل الألوف، وإطباق كل من يُعتد بعقله من الملِّيِّين وغيرهم على إثباته؟.

وجوابهم: إن هذا من باب (العقليات) لا من باب (السمعيات) (¬1)، فإذا طلبنا منهم الإيضاح قالوا: إن العقل يحيل الجهة على الله تعالى - أي يحكم باستحالة ثبوت جهةٍ له سبحانه -؛ لأن إثبات الجهة من خصائص الأجسام، ونحن ننزه الله تعالى عن الجسمية (¬2). فإذا سئلوا: وبم أثبتم الرؤية؟. قالوا: أثبتناها بالعقل (¬3) لا بمجرد السمع؛ لأن العقل يجيز الرؤية دون اشتراط المقابلة والجهة وانطلاق شعاع من عين الرائي إلى المرئي ... إلخ. فانظر إلى عقلهم هذا الذي حكم باستحالة العلو، ولم يحكم باستحالة ذاتين منفصلتين يرى كل منهما الآخر بلا جهة ولا مقابلة!!. وبهذا سخر منهم المعتزلة قائلين: «من أثبت الرؤية وأنكر الجهة فقد أضحك الناس على عقله» (¬4). ثم نأتي لبيان وجه آخر من أوجه التناقض فنسألهم: قد علمنا بم أثبتم الرؤية وأنكرتم العلو، فبم أثبتم الصراط؟. وجوابهم: إن هذا من باب (السمعيات)، نؤمن به لأنه غير ¬

(¬1) وقد سبقت الإشارة (ص45) إلى أن كل ما يتقدم على إثبات الكلام حسب الأهمية عندهم فهو من باب العقليات. (¬2) وعلى هذا مدار كتاب (تأسيس التقديس). وقد سبق ذكر النصوص العشرة التي رآها صاحب (المواقف) في مسألة الفوقية. وقريبٌ منها في (الشامل). (¬3) الإرشاد (ص181)، وغاية المرام (ص159). (¬4) انظر بيان تلبيس الجهمية (ص (88)).

مستحيل في العقل، وقد أخبر به الصادق!. وهنا يقال لهم: فأين نصوص إثبات العلو التي تعد بما ذكرنا مع صراحة الفطرة والعقل في إثباته من نصوص (الصراط) التي هي أقل بدرجات، بل لم يرد صريحًا في القرآن، ولم يتواتر - على شرطكم - من السنة؟. فظهر تناقضهم في العقليات بين العلو والرؤية، وظهر تناقضهم في السمعيات بين الصراط والعلو، وهكذا شأن منهج الأشاعرة التوفيقي، وإن شئت فقل: التلفيقي في كل مسألة. (2) - إثبات المعاد (الآخرة): ينفي الأشاعرة أن يكون للعقل مجالٌ في إثبات الآخرة، مكتفين بالقول المكرر دائمًا: «إن العقل لا يحكم باستحالته، وقد أخبر به الصادق». وهذا ما يخالفهم فيه أهل السنة والجماعة، بل سائر الفرق الإسلامية حتى المتفلسفة منهم. يقول عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما أمر المعاد؛ فيجعلونه كله من باب السمعيات؛ لأنه ممكن في العقل، والصادق قد أخبر به، وأما المعتزلة والفلاسفة والكرامية وغيرهم وكثيرٌ من أهل الحديث والفقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم وكثير من الصوفية وسلف الأمة وأئمتها، فيجعلون المعاد أيضًا من العقليات، ويثبتونه بالعقل» (¬1). ¬

(¬1) شرح الأصفهانية (ص (7)).

والاستدلال على المعاد وثباته بالعقل - بمفهومه السلفي - هو طريقة القرآن، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله في مواضع كثيرة، وهو مما لا بحتاج فيه إلى النقل عن أحد لشهرته ووضوحه لكل قارئ للقرآن. ومن أشهر استدلالات القرآن: الاستدلال بالمنشأ على المعاد، والاستدلال بإحياء الأرض الميتة على إحياء الموتي، والاستدلال بخلق ما هو أكبر على إمكان إعادة ما هو أصغر. ونحو ذلك من المسلَّمات البديهية التي وردت في آيات تجل عن الحصر. وحسْبُ الأشاعرة - الذين يقولون: إن العقل أصلٌ للنقل؛ لأن النقل متوقفٌ على صحة النبوة، وهي إنما تثبت بالعقل، وإلا لزم الدور كما سبق -: أن الله سبحانه وتعالى خاطب الناس في المعاد بمثل ما خاطبهم به في النبوة، فقال عن النبوة: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: (46)]. وقال عن المعاد: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ 7 أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ 8} [الروم: 7 - 8]. فلو أن القوم تدبروا كتاب الله، واستمدوا منه؛ لفازوا بصحة

الإيمان وسلامة التفكير وقوة اليقين. ثم لنأخذ القضية من زاوية أخرى: إن ظاهرة الحكمة في الكون مما تقطع به البديهية الإنسانية، وتؤخذ به العقول السليمة، فكل ما حولنا من الكون شاهدٌ عليها، ناطقٌ بها، ومقتضى هذه الحكمة ولازمُها: أن يكون هناك جزاءٌ وحسابٌ بالعدل، وإلا انحرفت ظاهرة الحكمة في أعظم وأشرف مظاهر الكون وهو الوجود الإنساني، فكيف نفسر استواء مصير طاغوت مجرم قتل الملايين وخرب الحضارات وانتهك الحرمات، ومصير أي رجلٍ ممن تُجمِع الأمم على تعظيمهم وحُسن سيرتهم وما جلبوه للعالم من خير عظيم كالأنبياء؟. فهذا يموت وهذا يموت، وربما عاش الطاغية متمتعًا بأعظم الملذات، مغمورًا بأوسع الجاه، وعاش النبي مضطهدًا محاربًا ومات مقتولًا ... فكيف تفسّر العقول السليمة والفطر المستقيمة استواء مصير كل منهما إلى موت لا بعث بعده ولا نشور، إلا على القول بأن هذا الكون كله عبث لا حكمة فيه، وهو مما تحكم باستحالته!!. ومع وضوح هذه الآيات والعير يقول الأشاعرة: «إن أمر الآخرة مثل وقوف غراب الآن على جبل قاف، أومنارة الإسكندرية» (¬1)؟!. والآن لنأتِ بأمثلةٍ من كلامهم على ما ذكرنا. ¬

(¬1) أي خبر ذهني مجرد قابل للثبوت والانتفاء بذاته، لا دخل فيه لضرورة العقل والفطرة.

يقول الباقلاني: «ويجب أن يعلم كل ما ورد به الشرع من عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، ورد الروح إلى الميت عند السؤال، ونصب الصراط، والميزان، والحوض، والشفاعة للعصاة من المؤمنين، كل ذلك حقٌّ وصدقٌ، ويجب الإيمان به، والقطع به؛ لأن جميع ذلك غير مستحيل في العقل» (¬1). أما الجويني فيفصل القول في كل مسألة منها: قال عن سؤال القبر: «إن السؤال يقع على أجزاء يعلمها الله تعالى من القلب أو غيره، فيحييها الرب تعالى فيتوجه السؤال عليها، وذلك غير مستحيلٍ عقلًا، وقد شهدت قواطع السمع به» (¬2). وقال عن خلق الجنة والنار: «الجنة والنار مخلوقتان؛ إذ لا يحيل العقل خلقهما، وقد شهدت بذلك آيٌ من كتاب الله» (¬3). وقال عن الشفاعة: «... فإذا ثبت جواز التشفيع عقلًا، فقد شهدت له سننٌ بلغت الاستفاضة». ثم قال: «فإذا شهد العقل بالجواز، وعضدته شواهد السمع؛ فلا يبقى بعد ذلك للإنكار مضطرب» (¬4). وقال عن الجن والشياطين: «... نحن قائلون بثبوتهم ... فليس في إثباتهم مستحيلٌ عقليٌّ، وقد نصت نصوص الكتاب والسنة على ¬

(¬1) الإنصاف (ص51). (¬2) الإرشاد (ص (376)). (¬3) الإرشاد (ص (377)). (¬4) الإرشاد (ص (394) - (395)).

إثباتهم، وحق اللبيب والمعتصم بحبل الدين أن يثبت ما قضى العقل بجوازه ونص الشرع على ثبوته» (¬1). وقال عن إعادة المعدوم: «ودرجة تحرير الدليل أنا لا نقدِّر الإعادة مخالفة للنشأة الأولى على الضرورة، ولو قدرناها مثلًا لها لقضى العقل بتجويزها، فإن ما جاز وجوده جاز مثله» (¬2). ويقول الآمدي: «ومذهب أهل الحق من الإسلاميين أن إعادة كل ما عدم من الحادثات جائزٌ عقلًا، وواقعٌ سمعًا، ولا فرق في ذلك بين أن يكون جوهرًا أوعَرَضًا ...» إلخ. ثم قال: «هذا حكم الحشر والنشر، وعذاب القبر ومساءلته، ونصب الصراط والميزان، وخلق النيران والجنان، والحوض، والشفاعة للمؤمن والعاصي، والثواب والعقاب، فكل ذلك ممكنٌ في نفسه، وقد وردت به القواطع السمعية والأدلة الشرعية» (¬3). وقال في (المواقف): «إن جميع ما جاء في الشرع من الصراط والميزان، والحساب وقراءة الكتب، والحوض المورود، وشهادة الأعضاء حقٌّ، والعمدة في إثباتها: إمكانها في نفسها؛ إذ لا يلزم من فَرَض وقوعها محالٌ لذاته مع إخبار الصادق عنها ...» (¬4). فالقوم كما ترى ملتزمون بتقديم العقل وحكمه بالإمكان وعدم ¬

(¬1) الإرشاد (ص (323)). (¬2) الإرشاد (ص (372)). (¬3) غاية المرام (ص300 - 301). (¬4) المواقف (ص (383)).

الاستحالة، ثم يوردون الأدلة السمعية مؤيدةً وظهيرةً، ومع هذا فالباب عندهم هو باب (السمعيات)!!. ذلك الباب الذي يتبادر إلى الذهن أنهم سلَّموا فيه للنصوص هو من أكثر الأبواب عندهم تناقضًا واضطرابًا. أما اشتراط عدم حكم العقل بالاستحالة لإثبات ما ورد في النص؛ فحسْبُك فيه ما قاله شيخ الإسلام في مناقشته للأشاعرة في كتابه الفذ (موافقة صر يح المعقول لصحيح المنقول)، وهو كله ردٌّ على الأشاعرة خاصة، ولمن عداهم تبعًا، قال: «ومن قال: أنا أقرُّ من الصفات بما لم ينفهِ العقل. أو: أثبت من السمعيات ما لم يخالفه العقل. لم يكن لقوله ضابطٌ، فإنه تصديق بالسمع مشروطًا بعدم جنسٍ لا ضابط له ولا منتهى، وما كان مشروطًا بعدم ما لا ينضبط لم ينضبط، فلا يبقى مع هذا الأصل إيمان» (¬1). وقال رحمه الله في (شرح الأصفهانية): «إن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر الله به ورسوله من صفاته ليس موقوفًا على أن يقوم عليه دليلٌ عقليٌّ على تلك الصفة بعينها، فإنه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرنا بشيءٍ من صفات الله تعالى وجب علينا التصديق به وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا، ومن لم يقرّ بما جاء به ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل (1/ 177). ويقصد أن عدم مخالفة العقل أمرٌ غير منضبط، فالعقول تختلف، وأوجه المخالفة تختلف، فإذا علقنا التصديق بثبوت شيء عليها، فقد علقناه على أمرٍ غير منضبط.

الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمنًا بالرسول، ولا متلقيًّا عنه الأخبار بشأن الربوبية، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيءٍ من ذلك، أو لم يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يُؤَوِّله أو يفوضه، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به، وإلا فلا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود الرسول وإخباره، وبين عدم الرسول وعدم إخباره، وكان ما يذكره من القرآن والحديث والإجماع في هذا الباب عديم الأثر عنده، وهذا قد صرح به أئمة هذا الطريق» (¬1). ¬

(¬1) شرح الأصفهانية (ص10 - 11).

مصدر التلقي العقل مصدرا ومعارضا

مصدر التلقي العقل مصدرًا ومعارضًا إن موضوع مصدر التلقي لهو من أهم وأخطر القضايا الاعتقادية، بل هو بمنزلة الأساس الذي تقوم عليه سائر الاعتقادات، والأصل الذي تتفرع عنه سائر المناظرات. وأهل السنة والجماعة فى هذه القضية على المنهاج الواضح، والمحجة البيضاء، وهي أن مصدر العلم عن الله، وما يتفرع عنه من أنواع التعبدات جميعها إنما هو الوحي، ومن خلال الوحي نعلم قيمة العقل ومهمته ومجاله، ألا وهي الاجتهاد فى فهم النصوص وكيفية العمل بها، لا في قبولها أو ردها، فهو الآلة التي وهبنا الله إياها لنسير بها على هدى وحيه العصوم (¬1)، وما كان للآلة أن تتعارض مع المنهج ولا أن تعترض عليه؛ لأن التعارض اتهامٌ لمن أنزل الوحي وخلق الآلة، والاعتراض متردٌ على الربوبية، وإنكارٌ للعبودية. وقد سارت القرون المفضلة على هذه القاعدة البلجاء، فنالت قمة المجد والسعادة فى الدارين، فلما أطلّت الفتن والبدع برأسها، ثم تمكنت من التوغل فى عقول السلاطين فى عصر المأمون إلى المتوكل دارت أكبر معركة فكرية فى التاريخ الإسلامي، وكان موضوعها هو هذه القضية الكبرى (أيهما نقدم: النقل والاتباع، أم العقل والابتداع؟). وهو الموضوع الذي تمثل فى أعظم مظاهره فى مسألة (القول بخلق ¬

(¬1) ومن رحمة الله أن من سلبه الآلة لم يطالبه التكليف.

القرآن)، ووقف السلاطين والوزراء والجند والجلادون مع الرأي الثاني، ووقف أحمد بن حنبل والحق مع الأول. وكان موقف الإمام الثابت خلال المحنة كلها هو قوله: «أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله». فإن جاءوا بظواهر من القرآن قال: «أعطوني شيئًا من السنة، وأقوال الصحابة». فكانت السياط تلهب ظهره حتى يغمى عليه، فإذا أفاق امتحنوه فأعاد العبارة نفسها، فيجلدونه حتى يغمى عليه ثانيةً، وهكذا ... وصمد على هذا الموقف حتى اندحرت جيوش البدعة، وتكسرت راياتها، واستيقظت الأمة من جديد لتعرف أصل المعركة ودوافعها. إن الإمام أحمد رحمه الله كان على يقينٍ تامٍّ بأن القضية ليست كلمة اعتراف يقولها المرء معللًا في نفسه بدواعي الإكراه، وتحميل النفس ما لا يطاق من العذاب، وينتهي الأمر؛ ولكن المسألة أكبر من كل قضايا الخلاف الفكري في التاريخ، إنها مسألة: أيهما المتبع وأيهما مصدر التلقي، الوحي أم غيره؟ ولا بد للأمة أن تعلم أن أصل الخلاف هو هذا، وأن التسليم بقضيةٍ واحدةٍ لغير الوحي يؤذن بإقصاء هذا المصدر كله. وإزاء هذه المسألة هانت نفس أحمد بن حنبل عليه وتهون كل النفوس، وهذا النوع الفريد من المناظرة هو أحسن أنواع المناظرات وأفضلها (¬1)، ومن أراد إفحام أي زائغ أو مبتدع فليجعل هذا هو الأصل والقاعدة، ثم ليناظرهم بعد ذلك بما يشاء، كما فعل الإمام نفسه في مجلس الخليفة وفي كتبه. ¬

(¬1) انظر درء تعارض العقل والنقل ((1) / (288))، حيث علل شيخ الإسلام لأفضلية هذا النوع، وأنه ربطٌ بأصل المشكلة.

على أن الحقيقة الكبرى التي يجهلها هؤلاء المعارضون للوحي - وهي التي سطرها أحمد نفسه في رسالة الرد على الجهمية - أن الذي تعارض مع الوحي ليس العقل بذاته، ولكن استخدامهم المنكوس له، أما الثابت قطعًا بواقع الجيل الأول الذي هو أعظم الناس عقولًا، وأصفاها فكرًا، وبواقع الصراع الفكري في التاريخ الإسلامي كله، وبالاستقراء المستقصى؛ فهو أن العقل الصحيح لا يمكن أبدًا أن يتعارض مع النقل الصحيح. وهذا هو موضوع السِّفر العظيم الذي كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) (¬1). ولسنا في مقام الإفاضة في هذا الموضوع الجلل، وإنما غرضنا عرض مذهب الأشاعرة في القضية من خلال نصوص كتبهم تأصيلًا وتطبيقًا. إن منهج الأشاعرة في هذه القضية يقوم على (القانون الكلي) الذي وُضعت مبادئه وبذوره في كتابات الباقلاني (ت403هـ)، والجويني (ت (478) هـ)، وستأتي النقول عنهما عما قليل، ثم جاء أبو حامد الغزالي (ت505هـ) فألف كتابه (قانون التأويل)، وأعقبه الفخر الرازي (ت606هـ) الذي وضع هذا القانون في صورة مقدمات موجزة، وعليه عوَّل من بعده كصاحب (المواقف) وشراحه. وهذا القانون هو الذي صدر به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه المشار إليه (¬2). ¬

(¬1) هذه التسمية الفضلى في نظرنا، وإن كان الدكتور رشاد سالم اختار (درء تعارض العقل والنقل) لأن الموافقة إيجابٌ، والدرء سلبٌ. (¬2) انظر درء تعارض العقل والنقل (ص (4))، ولم ينقله شيخ الإسلام بنصه؛ لأنه ذكر موجز كلامهم، لا كلام الرازي وحده.

وإليك نصّ القانون من أصل كلام صاحبه. يقول الرازي في (أساس التقديس): «الفصل الثاني والثلاثون في أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر التقلية فكيف يكون الحال فيها؟. اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا (¬1) أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك، فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة (¬2): (1) - إما أن يُصَدِّقَ مقتضى العقل والنقل، فيلزم تصديق النقيضين وهو محال. (2) - إما أن يَبْطُل، فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال. (3) - وإما أن يصدق الظواهر النقلية، ويكذب الظواهر العقلية، وذلك باطل؛ لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته، وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزات على محمد صلى الله عليه وسلم (¬3). ولو جوَّزنا القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهمًا غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة. ¬

(¬1) انظر كيف قدم العقل وإثباته للشيء، ثم عقبه بقوله: «ثم وجدنا أدلة نقلية» فالعقل أساس البحث. (¬2) كتابة الأرقام من عندنا في هذا وما بعده. (¬3) وهذا هو طريق الإيمان الوحيد عند الأشاعرة.

فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معًا، وأنه باطلٌ، ولما بطلت الأقسام الأربعة (¬1) لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال: إنها غير صحيحة (¬2)، أو يقال: إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها. ثم إن جوَّزنا التأويل واشتغلنا (¬3) على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم يجز التأول فوّضنا العلم بها إلى الله تعالى. فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات. وبالله التوفيق» اهـ (¬4). ويقول الجويني في (الإرشاد): «واعلموا وفقكم الله تعالى أن أصول العقائد تنقسم إلى: 1 - ما يدرك عقلًا، ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعًا. (2) - وإلى ما يدرك سمعًا، ولا يتقدر إدراكه عقلًا. (3) - وإلى ما يجوز إدراكه سمعًا وعقلًا. (1) - فأما ما لا يدرك إلا عقلًا، فكل قاعدة في الدين تتقدم على العلم بكلام الله تعالى، ووجوب اتصافه بكونه صدقًا، إذ السمعيات تستند إلى كلام الله تعالى، وما يسبق ثبوته في الترتيب ثبوت ¬

(¬1) كذا! ولعل الصواب: الأقسام الثلاثة. (¬2) انظر كيف أطلق القول ولم يفرق على الأقل بين القرآن والسنة. (¬3) كذا بالأصل، ولعل الواو زائدة. (¬4) انظر أساس التقديس (ص172 - 173)، طبعة الحلبي 1354م. وهذا القانون ذكره أيضًا في الأربعين (ص115).

الكلام وجوبًا، فيستحيل أن يكون مدركه السمع (¬1). (2) - وأما ما لا يدرك إلاسمعًا، فهو القضاء بوقوع ما يجوز في العقل وقوعه، ولا يجب أن يتقرر الحكم بثبوت الجائز ثبوته فيما غاب عنا إلا بسمع. ويتصل بهذا القسم عندنا جملة أحكام التكليف، وقضاياها من التحسين والتقبيح، والإيجاب والحظر، والندب والإباحة. (3) - وأما ما يجوز إدراكه عقلًا وسمعًا، فهو الذي تدلّ عليه شواهد العقول، ويتصور ثبوت العلم بكلام الله تعالى متقدمًا عليه. فهذا القسم يتوصل إلى دركه بالسمع والعقل». «ونظير هذا القسم إثبات جواز الرؤية، وثبات استبداد الباري تعالى بالخلق والاختراع وما ضاهاهما .. فإذا ثبتت هذه المقدمة فيتعيّن بعدها على كل معتنٍ بالدين واثق بعقله أن ينظر فيما تعلقت به الأدلة السمعية: (1) - فإن صادفه غير مستحيل في العقل، وكانت الأدلة السمعية قاطعةً في طرقها لا مجال للاحتمال في ثبوت أصولها، ولا في ¬

(¬1) يسير منهج الأشاعرة في العقيدة على سلسلة عقلية طويلة، تبدأ بالعلم والنظر، وما يتعلق بهما، ثم تنتقل إلى حدوث العالم وإثباته، ثم إثبات الصانع ومخالفته للحوادث، وفيها بحوث طويلة عن الجواهر والأعراض والأحوال وما شابهها، ثم تأتي مباحث صفات القديم وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر، وأخيرًا صفة الكلام، وكل ما كان قبله صفة الكلام - وقد يصل في بعض الكتب إلى نحو ثلثي الكتاب - فهو مما لا مدخل للوحي فيه، ولا يجوز إدراكه عن طريقه؛ لأن الوحي مبني على ثبوت صفة الكلام عندهم!!.

تأويلها، فما هذا سبيله فلا وجه إلا القطع به. (2) - وإن لم تثبت الأدلة السمعية بطرق قاطعة، ولم يكن مضمونها مستحيلًا في العقل، وثبتت أصولها قطعًا، ولكن طريق التأويل يجول فيها، فلا سبيل إلى القطع، ولكن المتدين يغلب على ظنه ثبوت ما دلَّ الدليل السمعي على ثبوته وإن لم يكن قاطعًا (¬1). (3) - وإن كان مضمون الشرع المتصل بنا مخالفًا لقضية العقل، فهو مردودٌ قطعًا بأن الشرع لا يخالف العقل، ولا يتصور في هذا القسم ثبوت سمع قاطع، ولا خفاء به» (¬2). ويقول السنوسي في (شرح الكبرى): «ما أخبر الشرع به وكان ظاهره مستحيلًا عند العقل، فإنا نصرفه عن ظاهره المستحيل؛ لأنا نعلم قطعًا أن الشرع لا يخبر بوقوع ما لا يمكن وقوعه، ولو كذبنا العقل في هذا وعملنا بظاهر النقل المستحيل لأدى ذلك إلى انهدام النقل أيضًا؛ لأن العقل أصل لثبوت النبوات التي يتفرع عنها صحة النقل، فلزم إذن من تكذيب العقل تكذيب النقل» (¬3). ولست أرى ما يدعوني إلى التعليق على هذا الكلام بالرد والنقض؛ فإن الاطلاع عليه ومعرفته كافيان في إبطاله، وما على من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعظم آيات الله وكلام رسوله، ولا يقدم بين يدي الله ورسوله، ويؤمن أنه لا خيرة له إذا قضى الله ورسوله أمرًا، إلا أن يقرأ هذا الكلام، ¬

(¬1) إذا كان حال المتدين يغلب على ظنه صحة النص فما حال غيره، وبماذا نلزمه؟. (¬2) (ص358 - 360). (¬3) (ص205) مع حواشي الحامدي عليها.

فيرفضه دون نقاش ولا تردد. ورحم الله ابن القيم فقد جعل هذا القانون هو الطاغوت الثاني، وكسره بأكثر من أربعين وجهًا مقتبسًا من كلام شيخ الإسلام (¬1)، وبيَّن أن تأصيل هذا الأصل الطاغوتي هو مفرق الطريق بين أهل السنة والجماعة وبين الأشاعرة، وأن حال الأشاعرة في هذا يشبه تمامًا حال المنافقين الذين دعوا إلى حكم الله ورسوله فرفضوه، وأرادوا التحاكم إلى الطاغوت، فلما ضُبطوا أقسموا أنهم ما قصدوا إلا الإحسان والتوفيق، والأشاعرة يزعمون أن هذا منهم إحسانٌ وتوفيقٌ بين العقل والنقل. قال رحمه الله في نونيته المشهورة: (وقد آثرت نقلها لاشتمالها على موجز مذهب السلف أيضًا): يا قوم تدرون العداوة بيننا من أجل ماذا في قديم زمان إنا تحيزنا إلى القرآن والـ نقل الصحيح مفسر القرآن وكذا إلى العقل الصريح وفطرة الرحمن قبل تغير الإنسان هي أربع متلازمات بعضها قد صدقت بعضًا على ميزان والله ما اجتمعت لديكم هذه أبدًا كما أقررتمُ بلسان إذ قلتم العقل الصحيح يعارض الـ منقول من أثرٍ ومن قرآن فنقدم المعقول ثم نصرف الـ منقول بالتأويل ذي الألوان فإذا عجزنا عنه ألغينا ولم نعبأ به قصدًا إلى الإحسان ¬

(¬1) انظر (الطاغوت الثاني) وهو يثمل النصف الثاني تقريبا من الجزء الأول من الصواعق المرسلة.

ولكم بذا سلفٌ لهم تابعتمُ لما دعوا للأخذ بالقرآن صدوا فلما أن أصيبوا أقسموا لمرادنا توفيق ذي الإحسان (¬1) هذا وقد رتب الأشاعرة على هذا الطاغوت، وفرعوا عنه من الأصول المنهجية الباطلة ما لا يتسع المجال لذكره، وحسبنا الإشارة إلى بعض ذلك؛ فمنها: (1) - عدم إفادة النصوص لليقين. (2) - التأويل. (3) - إسقاط قيمة النصوص في مجال العقيدة. وهذه القضايا متلازمة، لكننا سنفصلها حسب ترتيبها. ¬

(¬1) شرح النونية (2/ 326 - 334).

اعتقادهم أن نصوص الوحي لا تفيد اليقين

اعتقادهم أن نصوص الوحي لا تفيد اليقين انطلاقًا من قانون تقديم - بل تحكيم - العقل، بحث الأشاعرة موضوع مجال الوحي واختصاصه حسب القسمة المنطقية الثلاثية لموارد الأدلة التي ننقلها عمَّا قليل. وليست محاولة تحديد مجالات الوفاق والخلاف بين العقل والنقل إلا مظهرًا من مظاهر (الوسطية)، أو (التوفيقية) التي يتبنَّاها الأشاعرة ويدعونها. ذلك أن المذهب الأشعري منذ تأسيسه (¬1) قام على فكرة (الوسطية) بين المعتزلة والسلف، تلك الفكرة التي تمثلت أوضح تمثل في القانون المذكور سابقًا. ولكن الواقع هو أن هذه (الوسطية) لم تكن سوى أسلوب توفيقي غير ناجح، وكما قيل: (من أراد التوفيق لم يحالفه التوفيق). ذلك أن تباعد ما بين المنهجين: السلفي والاعتزالي كفيلٌ بأن يحكم على أي محاولة توفيقية بالإخفاق. وكانت النتيجة هي ظهور مذهب - أو منهج - ثالث ملفَّق، يقوم نسيجه على قضايا متعارضة، بل متناقضة في كثير من الأحيان، وبذلك ¬

(¬1) جذور الفكر الأشعري تعود إلى الجهم بن صفوان وبشر المريسي، أما مؤسسه الحقيقي؛ فهو عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب الذي رجع الأشعري من الاعتزال إلى مذهبه قبل كتابة (الإبانة)، ثم انتشر على يد الباقلاني في مطع القرن الخامس.

أصبح محط النقد الشديد من أتباع السلف وأتباع التفلسف والاعتزال سواء. لقد أراد الأشاعرة التوفيق بين الأصول السلفية في التعامل مع نصوص الوحي، وبين الأسس الفكرية الاعتزالية القائمة على معايير ومنطلقات خاصة للتحكم في النصوص، وهذه المعايير الاعتزالية تعتمد على سلسلة من عمليات الفصل - أو البتر - الاعتباطية، تسندها قواعد اصطلاحية أحدثها المعتزلة أنفسهم في علوم اللغة والبيان والمنطق. وسوف نضطر إلى عرض موجز لذلك نظرًا لأهميته في المقارنة بالمنهج الأشعري: (1) - الفصل بين السنة والقرآن: وإن شئت فقل: فصل بعض الوحي (الشرح) عن البعض الآخر (المتن أو النص)، فالسنة كثيرًا ما تحدد معاني القرآن تحديدًا قاطعًا لا مجال معه للبحث في المعاني اللغوية المجردة لألفاظ القرآن، ولكن لما كان المعتزلة أبعد الناس عن السنة علمًا وعملًا أسقطوا دلالتها جملة. (2) - الفصل بين النص القرآني والمنهج الكلي: فالآية المعينة ليست سوى حلقة من حلقات متسقة تشكل منهجًا كليًّا في الاعتقاد أو السلوك، مثل منهج الإيمان بصفات الله، أو منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن المعتزلة يجتزئون هذه الآية دون النظر إلى روابطها ومكانها من المنهج المتكامل،

بل كثيرًا ما يجتزئون اللفظة الواحدة دون النظر لموقعها من مدلول الآية نفسها. (3) - بعد هذا يأتون بتلك الجملة أو اللفظة المفصولة المجردة، فيطبقون عليها قواعد أو قوالب اصطلاحية كان للمعتزلة أنفسهم اليد الطولى في تقريرها، كقواعد علوم البلاغة (¬1) مثلًا. فإذا وضعنا في الاعتبار سعة اللغة العربية؛ ظهر أنه يمكن بالنظر إلى الألفاظ وحدها دون اعتبارٍ لمقاصد المتكلم، أو القرائن الظاهرة أن تقبل الجملة أو اللفظة أكثر من احتمال. ومهما قيل: (إن بعض الاحتمالات أقوى من بعض)؛ فإن مجرد قبول الاحتمال - لا سيما عندما يكون التعسف والتشهي هو الأصل - يكفي وحده في الحكم على مدلول النص بأنه ظني!!. 4 - بعد تقرير الحكم بأن النص ظني، يحاكمونه - ون كان محكمًا في الأصل - إلى نصٍ متشابه، أي عكس المنهج السلفي، وليس مرادهم التحاكم إلى النصوص؛ ولكن لأن بعض احتمالات المتشابه تتفق مع مقرراتهم وأصولهم العقلية التي قررت وأصِّلت سلفًا وفق منهج بعيد كل البعد عن النصوص. (5) - فلمَّا دعموا دلالة المتشابه - بعد إخضاع المحكم لها - بالقاعدة العقلية، أوهموا الناس أنهم وفقوا بين العقل والنقل، وجعلوا من ¬

(¬1) المعتزلة أخطأوا في التأصيل، ثم أخطأوا أبعد من ذلك في التطبيق، أما القواعد الصحيحة المطبقة في موضعها الصحيح فلا اعتراض عليها.

هذا التوفيق قاعدة كلية منضبطة، وألزموا كل أحد بالرد إليها، والتحاكم إليها (¬1). ¬

(¬1) مثال ذلك صفة (اليد): فإن المعتزلة طبقوا ما أسلفنا أعلاه ابتداء من فصل القرآن عن السنة حيث ورد النص النبوي صريحًا في مثل حديث: (كتب التوراة بيده). انظر كتاب التوحيد لابن خزيمة ((1) /126)، ومرورًا بفصل الآية عن المنهج، فإن آية {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: (64)] جزءٌ من منهج الإيمان بصفات الله الكلي القطعي، وهم قطعوا النظر عن هذا المنهج بالكلية. ثم اجتزاء اللغة كما في قولهم: إن اليد في اللغة تأتي بمعنى النعمة والقدرة. ثم الرد إلى المعنى المتشابه أو قواعد البلاغة مثل قولهم: إن قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: (29)] مجازٌ؛ لأن المراد الإنفاق، فكذلك قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، وتجاهلوا أن الآية المتعلقة بالإنسان لا تتفي أن يكون للإنسان يد، بل لفظة (اليد) فيها حقيقية، وإن كان المعنى الكلي للآية يتعلق بالإنفاق. فكذلك اليدان في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} هي صفةٌ حقيقيةٌ لله، مع أن المعنى الكلي للآية في الإنفاق. ثم التسعف في تطبيق اللغة نفسها، فإن التثنية في قوله: {بَلْ يَدَاهُ}، وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: (75)] لا تحتمل المجاز - أي القول بأنها النعمة أو القدرة - لأن المصدر لا يثنى. ولهذا قال الإمام الدارمي: إن اليهود أثبتوا يدين مغلولتين، والله تعالى أثبت يدين مبسوطتين، فجاء المعطلة (من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة) فقالوا: ليس له يدان أصلًا. وقل مثل ذلك في قولهم: إن القرآن مخلوق، ثم استدلالهم بكلمة (جعل) في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: (3)]. ومثله نفيهم للاستواء، واستدلالهم بالبيت السائب: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق واستدلالهم على نفي الرؤية بأنهم وفّقوا بين القواطع العقلية وين قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] ونحوها. وهكذا في كل الصفات ..

وقد أدى هذا بطبيعة الحال إلى إسقاط قيمة النصوص جملة، وهي نتيجة يشترك فيها الأشاعرة معهم، لكن (الوسطية الأشعرية) لم تصل إلى هذه النتيجة مباشرة، بل بواسطة تقرير قاعدتين خطيرتين هما: (1) - عدم إفادة النصوص لليقين. (وهو موضوعنا هنا). (2) - التأويل. (وهذاالموضوع التالي لهذا). فأما عدم إفادة النصوص لليقين؛ فإنه يرجع في الأصل إلى تحديد مجال الوحي واختصاصه حسب القسمة المنطقية للمطالب - أي موارد الأدلة -، وهي كما قال صاحب (المواقف): «ثلاثة: أحدها: ما يمكن؛ أي لا ما لا يمتنع عقلًا إثباته ولا نفيه، نحو جلوس غراب الآن على منارة الإسكندرية (عبارة الرازي في الأساس: على جبل قاف) فهذا لا يمكن إثباته إلا بالنقل. الثاني: ما يتوقف عليه النقل، مثل وجود الصانع، ونبوة محمد، فهذا لا يثبت إلا بالعقل؛ إذ لو ثبت بالنقل لزم الدور (¬1). ¬

(¬1) مع مراجعة ما سبق تقريره في فصل (أول واجب على المكلف) لاحظ هنا كيف جعل مجال الوحي هو القضايا المجردة كالغراب، بينا جعل وجود الله وصحة النبوة متوقفة على العقل وجوبًا، وإلا لزم الدور، ولزوم الدور عند أساتذتهم الحكماء كفرٌ أكبر.

الثالث: ما عداهما (أي ما يمكن إثباته بالعقل، ولا يتوقف عليه النقل) نحو الحدوث ...». ومعنى هذا التقسيم بجلاء: هو أن نصيب الوحي لا يعدو القضايا المجردة التي يتخلى عنها العقل - لا تفضلًا منه، ولكن - لأنها مما لا يترتب على ثبوته وانتفائه شيءٌ، ويستحيل العلم عنها من طريقه كما في مثال الخراب، ولكنهم لا يقفون عند هذا الحد - من حصر دائرة الوحي -؛ بل يتعدونه إلى البحث في مدى إفادة نصوص الوحي، أهي توصل إلى اليقين في هذه الدائرة، كما توصل الأدلة العقلية إليه في مجالها، أم أن غاية ما تفيده هو الظن؟. يقول المؤلف نفسه بعد ذكر الأقسام الثلاثة المنقولة آنفًا: «الدلائل النقلية هل تفيد اليقين؟. قيل: لا؛ لتوقفه على العلم بالوضع والإرادة. والأول (العلم بالوضع) إنما يثبت بنقل اللغة والنحو والصرف، وأصولها تثبت برواية الآحاد، وفروعها بالأقيسة، وكلامها ظنيان (¬1). والثاني (الإرادة) يتوقف على عدم النقل والاشتراك، والمجاز والإضمار، والتخصيص والتقديم والتأخير، والكل لجوازه بانتفائه، بل غايته الظن» (¬2). ¬

(¬1) ما رأي أساتذة اللغة العربية الأفاضل في هذا الكلام؟!. (¬2) لأن المخبر عن الغراب - كما في مثاله - مع إيماننا بصدقه وسلامة بصره قد يكون في أصل وضع لغته تسمية الأسد غرابًا، وقد يكون هو أراد الأسد وعبَّر عنه بالغراب مجازًا، ولذلك فكلامه لا يفيد اليقين، وهكذا عندهم نصوص الوحي؛ لا سيما آيات وأحاديث الصفات.

ومن مفهوم كلامه قد يَرِد عليهم هذا السؤال: إذا استطعنا أن نصل إلى ما نقطع به في العلم بالوضع والإرادة - وهذا على سبيل الافتراض منا، أما بحسب كلامه فمن أين لنا بالقطع - فهل تفيدنا النصوص اليقين؟. فجوابهم: كلا. فإن القاضي (العقل) ما يزال ينتظر دوره، وما سبق إنما هو تحقيق مع المتهم. وإليك بقية كلامه: «ثم بعد الأمرين لا بد من العلم بعدم المعارض العقلي؛ إذ لو وجد لقدم على الدليل النقلي قطعًا؛ إذ لا يمكن العمل بهما ولا بنقيضهما، وتقديم النقل على العقل إبطالٌ للأصل بالفرع، وفيه إبطالٌ للفرع، وإذا أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كان مناقضًا لنفسه، فكان باطلًا». وهذا الكلام تلخيص للقانون الكلي السابق، فلا حاجة للتعليق عليه، فلنتابع كلامه: «لكن عدم المعارض العقلي غير يقيني؛ إذ الغاية عدم الوجدان، وهو لا يفيد القطع بعدم الوجود». أي حسب المثال السابق: إنه مع كون القاضي (العقل) لا يملك دليلًا على إدانة المتهم (النص)، فهو لا يحكم ببراءته؛ إذ ربما ظهر له ولو بعد سنين صدق التهمة. وعليه؛ فالنتيجة النهائية هي بنص قوله: «فقد تحقق أن دلالتها

(أي نصوص الوحي) تتوقف على أمورٍ ظنيةٍ، فتكون ظنيةً؛ لأن الفرع لا يزيد على الأصل في القوة». وعلى هذا الحكم إذن هو (السجن إلى أجل غير مسمى، إن لم نقل السجن المؤبد) أي إيقاف العمل بالنصوص في العقيدة إلى أجل غير مسمى، بل إلى الأبد؛ لأن العقيدة مبناها على اليقين والقطع، ودلالة النصوص ستبقى ظنيةً إلى الأبد؛ لأنه علق الأمر على العلم بعدم الوجود، لا على عدم الوجدان، والعلم بعدم الوجود مستحيلٌ، والتعليق على المستحيل إبطالٌ للقضية من أصلها. ولكن الرجل لم يستقر على هذا بل قال: «والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات، فإنا نعلم استعمال لفظ الأرض والسماء ونحوهما في زمن الرسول في معانيها التي تراد منها الآن، والتشكيك فيه سفسطة». فالحمد لله على أن القوم لا يزال لديهم خير، وأنهم إذا وجدوا في كلام الله ورسوله كلمة أرض أو سماء عرفوا أنها هي هذه الأرض والسماء!!. على أنه لم يدع فرحتنا بهذا تتم، بل استدرك قائلًا: «نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظرٌ؛ لأنه مبنيٌّ على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم العارض العقلي؟ وهل للقرينة مدخل في ذلك؟ وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه» (¬1). ¬

(¬1) المواقف (ص39 - 40). وقد ناقشه الشيخ المعلمي في التنكيل (2/ 329 - 333)، وللعلم فإن مؤلفه عضد الدين الإيجي (680 - 756هـ) كان معاصرًا لشيخ الإسلام وابن القيم، وكتابه هذا هو المقرر في كلية أصول الدين بالأزهر وغيرها.

وهكذا أعادنا مرةً أخرى إلى احتمال وجون معارض عقلي، وما علينا إلا التسليم!!. ولنأت بمثالٍ من كلامه تطبيقًا لما قرر وأصَّل. يقول في الموقف الخامس (الإلهيات): «المرصد الثاني في تنزهيه: وهي الصفات السلبية، وفيه مقاصد: المقصد الأول: أنه تعالى ليس في جهة، ولا في مكان. وخالف فيه المشبهة، وخصصوه بجهة الفوق ...». ثم قال: «واحتج الخصم بوجوه: (وذكر أربعة عقلية ثم قال): «الخامس: الاستدلال بالظواهر الموهمة للتجسيم من الآيات والأحاديث نحو: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: (22)]. {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [فصلت: (38)]. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]. {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: (4)]. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]. {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16]. {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى 8 فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى 9} [النجم: 8 - 9]. وحديث النزول، وقوله عليه السلام للجارية الخرساء (¬1): (أين الله؟) ¬

(¬1) ليس في الرواية الصحيحة الثابتة عند مسلم أنها خرساء، وهؤلاء يصرون على أنها خرساء؛ لأن دلالة الإشارة أضعف من دلالة اللفظ. انظر الشامل (ص 545).

فأشارت إلى السماء فقرر، فالسؤال والتقرير يشعران بالجهة. والجواب: أنها ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات. ومهما تعارض دليلان وجب العمل بهما ما أمكن، فتؤول الظواهر إما إجمالًا، ويفوض تفصيلها إلى الله، كما هو رأي من يقف على (إلا الله)، وعليه أكثر السلف (¬1) كما روي عن أحمد (كذا): الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والبحث عنها بدعة (كذا). وأما تفصيلًا كما هو رأي طائفة، فتقول: الاستواء: الاستيلاء، نحو: قد استوى عمرو (كذا! والمعروف: بشر) على العراق، والعندية بمعنى الاصطفاء والإكرام، كما يقال: فلان قريبٌ من الملك، {وَجَاءَ رَبُّكَ}: أتى أمره، و {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} أي: يرتضيه، فإن الكلم عَرَضٌ يمتنع عليه الانتقال، و {مَنْ فِي السَّمَاءِ} أي: حكمه، أو سلطانه، أو مَلَكٌ مُوكَلٌ بالعذاب. وعليه فقس ...» (¬2). ولن نقف الآن عند ما في هذا الكلام من جهل، وتحريف، وتأويل، ¬

(¬1) من الأخطاء الكبرى التي درج عليها الأشاعرة (من الجويني، وربما قبله إلى الصابوني وغاوجي): اعتبارهم مذهب السلف هو التفويض، ولمعرفة الحقيقة راجع رسالة (علاقة التفويض والإثبات) للزميل رضا نعسان معطي. (¬2) المواقف (ص (272) - (273)). وهو في الحقيفة منقول عن الرازي، انظر الأربعين (ص (423) - (426))، وأصول الدين للرازي أيضًا (ص (23) - (24)).

وتعطيل؛ بل نكتفي بالمقصد الأصلي، وهو دلالة النصوص وإفادتها اليقين: فهذه عشرة أدلة نصية - منها ثمان آيات، وحديثان صحيحان - يوردها جميعًا ثم ينسفها كلها بعبارةٍ واحدةٍ فقط: «أنها ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات»!!. نعوذ بالله من الجرأة على الله ورسوله (¬1). ¬

(¬1) ولا يقولن أحدٌ: إن هذا رأيٌ فرديٌّ، وصاحب المواقف غير معصوم. وهي كلمة مكررة، تقال دائمًا للتنصل من الحقائق، فقد صرح شارح المواقف الجرجاني في شرح هذا الكلام: «إن القول بأن الأدلة النقلية لا تفيد اليقين هو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة». فهذا مذهب الجمهور الذي استقر عليه المذهب، أما أبو الحسن نفسه وبعض المتقدمين منهم فلا يظن ذلك بهم. راجع التنكيل (2/ 329 - 333)، وقد نقلنا كلام الجويني والرازي، وستأتي الصورة مكتملة في المباحث الآتية. تنبيه: قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} الذي دنا هو جبريل عليه اسلام، كما هو ظاهر سياق الآية، وبدليل قوله: {وَلَقَدْ رَأَىهُ نَزْلَةً أُخْرَى}. وانظر تفسير ابن كثير (7/ 419).

التأويل

التأويل (¬1) على ضوء المبحث السابق نستطيع أن نبين لماذا انتهج الأشاعرة منهج التأويل حتى أصبح أصلًا كبيرًا من أصول مذهبهم، ليس في الصفات فحسب؛ بل في نصوص الإيمان، والوعد والوعيد، وعصمة الأنبياء، والقدر، وفي كل نصٍّ خالف ما قرروه من عقائدهم، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله عند تفصيل أصولهم الاعتقادية. ذلك أن إيمانهم بمسألة تعارض العقل والنقل - مع التزامهم بالتوفيقية المضطربة بين السلف والمعتزلة - كان لابد أن يفضي بهم إلى البحث عن مهرب عقلي يقيهم الوقوع في إحدى مصيبتين: (1) - إما التمسك بنصوص الوحي. وهذا يناقض أصولهم، وبجعلهم جزءًا من الحشوية (كما يسمون أهل السنة). وهذا عندهم بعيدٌ، بل محال. (2) - وإما أن يحكِّموا العقل مطلقًا، ويعودوا إلى أصلهم الاعتزالي الفلسفي. وفي هذا إلغاءٌ لأصل وجودهم؛ لأنهم إنما ظهروا على أنهم فرقة منشقة من المعتزلة، ثم هم يختلفون فعلًا مع المعتزلة في أصولٍ كثيرةٍ، بعضها يتعلق بتحديد دائرتي العقل والنقل. يضاف إلى ذلك أن بعض كبارهم لهم صلةٌ بالحديث النبوي، فمن ¬

(¬1) المقصود هنا بحث هذا الموضوع من جهة علاقته بمصدر التلقي فقط.

غير المعقول أن يردوا الأحاديث الصحيحة ردًّا مباشرًا كما يفعل المعتزلة، فضلًا عن نصوص القرآن. فما المخرج إذن؟!. لعل أبرز ما يوضح هذه المشكلة هو هذا المثال الذي نقتبسه من كلمة لابن القيم، وهو وجود خليفة عادل اختلفت الرعية فيه ثلاثة أقسام: - فقال قومٌ: لا بُدَّ من عزله والخروج عليه. - وقال قومٌ: بل تجب طاعته ومناصرته. - وجاء طائفةٌ ثالثةٌ أرادت التوفيق بين الفرقتين السابقتين فقالت: بل الحل أن يبقى له اسم الخلافة ورمزها، وتسحب منه شؤون الحكم وصلاحياته. وحسب هذا المثال التقريبي وقفت الطوائف الثلاث (المعتزلة، السلف، الأشاعرة) من النصوص، وكان موقف الأشاعرة هو الثالث، أي الإبقاء على النصوص إثباتها، لكن ليس على أنها أصول تستمدّ منها الحقائق، بل على أنها آثار متحفية مقدسة، وبعبارة موجزة (الاحتفاظ بالنصِّ شكلًا مع إلغاء مفهومه حقيقة!). وهذه هي حقيقة التأويل. فالتأويل إذن ما هو إلا مهربٌ عقليٌّ من الالتزام بالنصوص، ووسيلةٌ ملتويةٌ للتخلص من معارضتها للعقل، ونتيجةٌ طبيعيةٌ من نتائج التوفيق الخاطئة. والأشاعرة يفسرون جنوحهم للتأويل بالاضطرار، لا بالاختيار؛

ذلك أنهم رأوا أن الدفاع عن القرآن والإسلام في وجه الملاحدة الذين يتهمونه بالتناقض لا يمكن أن يتم إلا بتأويل بعضه ليوافق البعض الآخر المتفق مع القواطع العقلية. وهم من هذا المنطلق يجعلون التأويل واجبًا شرعيًّا على كل مسلم. يقول الدكتور البوطي - وتبعه عليه وهبي غاوجي وآخرون - عن وجوب تأويل آيات الصفات: «أما ترك هذه النصوص على ظاهرها دون أي تأويل لها - سواء كان إجماليًّا أو تفصيليًّا - فهو غير جائز، وهو شيءٌ لم يجنح إليه سلفٌ ولا خَلَفٌ (؟). كيف ولو فعلتَ ذلك لحمّلتَ عقلك معانٍ متناقضة في شأن كثيرٍ من هذه الصفات، فقد أسند الله إلى نفسه العين بالإفراد في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} {[طه: (39)]. وأسند مرةً أخرى إلى نفسه الأعين بالجمع فقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: (48)]. فلو ذهبت تفسر كلًّا من الآيتين على ظاهرها دون أي تأويل لألزمت القرآن بتناقض هو منه بريء (!!). وتقرأ قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]. فإن فسرت الآيتين على ظاهرهما دون أي تأويل إجمالي ألزمت كتاب الله تعالى بالتناقض الواضح (؟). إذ كيف يكون مستويًا على عرشه وبدون أي تأويل، ويكون في

الوقت نفسه أقرب إليّ من حبل الوريد بدون أي تأويل (؟). وتقرأ قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16]. وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: (84)]. فلئن فسرتها عزم ظاهرهما أقحمت التناقض في كتاب الله جل جلاله كما هو واضح» (¬1). وهذا الكلام إنما يوضّح حقيقة جهل الأشاعرة الجانحين إلى التأويل من ابن فورك حتى البوطي والصابوني، فإنه لا تناقض بين هذه الآيات على الإطلاق (¬2)، وحاشا كتاب الله الذي أنزله قولًا فصلًا وهدى ¬

(¬1) كبرى اليقينيات (ص144)، وانظر: أركان الإيمان لوهبي غاوجي (ص19). ومنشأ الخطأ: ظنهم أن الظاهر هو ما يتبادر من المعنى اللغوي للكلمة مطلقًا، كما إذا قرأه الأعجمي أو العامي في المعجم. فمن هنا قالوا: إن الظواهر تتناقض، أو إن الإيمان بالظاهر - كما هو مذهب السلف - تناقضٌ، وأن ترك النصوص عزم ظاهرها هو جمعٌ بين المتناقضات بلا عقل ولا تدبر. (¬2) أما قوله: {بِأَعْيُنِنَا} وقوله: {عَيْنِي} فليس بينها شائبة تناقض لكل ذي عقل، حتى أن العوام إذا طلبت من أحدهم شيئًا ما يقول تارة: من عيني، أو على عيني. وأخرى: من عيوني. وأما استواؤه على العرش؛ فبذاته تعالى، وقربه منَّا بعلمه، كما قال قبلها وبعدها: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق: 16 - 17] فهو قريبٌ بعلمه وملائكته. وأما قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: (84)] فمعناها أنه في السماء معبودٌ، وفي الأرض معبودٌ، ولا خفاء في هذا ولا إشكال.

ونورًا أن يشتمل في أعظم الأصول وأوضحها على تناقض يضطر معه المؤمنون إلى نقض بعضه ببعض بتعسفات وتكلفات لم تأت في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا قول صحابي، ولا عالم من السلف المعتبرين. ولكنها الأوهام الكاسدة، والأصول الفاسدة تعارض بعضه ببعض، وتختلق التناقض بين آياته المحكمات، ثم تجنح في حلها إلى الأصل الفاسد (التأويل). هذا ولو نظرنا إلى التأويلات التي ذكرها الإيجي في المبحث السابق، لوجدنا أنها منقولة عن الجويني الذي نقلها بدوره عن ابن فورك. أما الجويني فقد عقد في (الشامل) بابًا خاصًّا عنوانه: «باب ذكر تأويل جمل من ظواهر الكتاب والسنة». أوَّلَ فيه ما شاء من نصوص الكتاب والسنة بعد أن قرَّرَ قبل ذلك في أكثر من (500) صفحة عقيدته القائمة كلها على كلام الفلاسفة، ولم يذكر فيها من كلام الله ورسوله - فيما حصرت - إلا بضع آيات مجزوءة، وَرَدَ معظمها ضمن اعتراضات الخصوم، فلما عقد هذا الباب أتى على أهم آيات وأحاديث الصفات فأوَّلَهَا تأويلًا يصل أحيانًا إلى ما لايقبله عاقل من العوام (¬1). ¬

(¬1) انظر: (ص543 - 570). ومما لا يقره عاقل في (ص567) عن حديث الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: اعتقها فإنها مؤمنة). رواه مسلم وغيره. وتأويله بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سألها لأنها من عبدة الأوثان الذين يقولون بالجهة، فاستنطقها لكي تعترف بشركها، كما في سؤال الله تعالى: أين شركاني؟!!.

وقال في مقدمة الباب: «اعلموا وفقكم الله أنا كنا على أن نجتزئ بما ذكره الأستاذ أبو بكر (يعني ابن فورك) في تصنيفه المذكور المشهور المشتمل على تأويل مشكلات الأخبار (¬1)، ولكن اقتضى الحال أن نذكر أصول التأويلات ومآخذها ونرشد إلى جميع مداركها .. وسبيلنا أن نبدأ بظواهر من كتاب الله تعالى، ونذكر وجوه التأويل فيها، ثم نذكر بعد تقدر الفراغ منها جملًا من السنة الواقعة من المساند المصححة عند الأثبات والثقات، ثم نشير إلى جمل من المتأكد (لعلها المآخذ) التي يتمسك بها الحشوية، ونوضح أنها لو صحت لم تضق مسالك التأويل منها» (¬2). وبالاطلاع على كتاب ابن فورك نفسه يدهش المرء لكثرة ما فيه من التأويلات، فإنه لم يدع - والله أعلم - حديثًا في الصفات إلا أوَّلَه بناءً على ما ذكره أول كتابه من أنه «كتاب نذكر فيه ما اشتهر من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يوهم ظاهره التشبيه» (¬3)، وكل أحاديث الصفات عنده من هذا الباب. وقد وضع ابن فورك في أول كتابه قانونًا كليًّا، لكنه سقط من ¬

(¬1) هو كتاب مشكل الحديث وبيانه، طبع في الهند سنة (1362هـ)، وهو حسب اطلاعي أوسع كتاب في التأويل، وفيه ما لا يقبله مسلم، وكثيرًا ما يورد الحافظ ابن حجر كلامه وينقضه في شرحه لكتاب التوحيد من الفتح، وفيه يظهر أثر بشر المريسي اليهودي فيها. (¬2) الشامل (ص543). (¬3) كتاب مشكل الحديث (ص3).

الأصل، كما أشار المحقق، ولم يبق منه إلا آخر فقرة، وهي: «وأما ما كان من نوع الآحاد مما صحت الحجة به من طريق وثاقة النقلة، وعدالة الرواة، واتصال نقلهم، فإن ذلك وإن لم يوجب العلم والقطع فإنه يقتضي غالب ظن وتجويز حكم حتى يصحَّ أن حكم أنه من باب الجائز الممكن دون المستحيل الممتنع ...» (¬1). وهذه الفقرة كافيةٌ في بيان فكرة الرجل، وهي أن الأحاديث الصحيحة لا تفيد اليقين، وأن غاية إفادتها في ميزان النظر العقلي هي الإمكان والتجويز، ومن أجل سدّ هذا الباب اشتغل بتأويلها. انظر إلى قوله بعد هذا مباشرة: «وإذا كانت ثمرة ما جرى هذا المجرى من الأخبار ما ذكرناه، فقد حصلت فائدةٌ عظيمةٌ لا يمكن التوصل إليها إلا به، وهذا يقتضي أن يكون الاشتغال بتأويله وإيضاح وجهه مرتبًا على ما يصحّ ويجوز في أوصافه جل ذكره، محمولًا على الوجه الذي نبينه ونرتبه من غير اقتضاء تشبيه، أو إضافة ما لا يليق بالله - جل ذِكره - إليه» (¬2). وإيضاح هذا: أن معرفة الله عند الأشاعرة هي معرفة ما يجب له، وما يستحيل عليه، وما يجوز عليه، كل ذلك بطريق العقل (¬3). ¬

(¬1) المصدر السابق (ص5). (¬2) المصدر السابق. (¬3) وهو من الأصول العقلية التي اتفقت عليها كتبهم قاطبة، وقد ترتبت على هذه القسمة الثلاثية أصول فاسدة؛ منها: نفي الحكمة عن أفعاله تعالى، واعتبارها جميعًا من قسم الجائز فقط.

وهذه الأحاديث الصحيحة في نظر ابن فورك مع عدم إفادتها اليقين - كما صرح في آخر فصل من الكتاب - تفيد أن مدلولها يقع ضمن الدائرة الثالثة، وهي دائرة التجويز والإمكان العقلي، وهذا مع كونه فائدةً عظيمةً في نظره، لكن يجب ألا يتعارض مع ما يستحيل على الله وهو التشبيه - كما يتصورونه هم -، فلهذا وجب تأويلها، وليس هذا إلا من قبيل إرجاع الآيات المتشابهات - ومنها عندهم آيات الصفات - إلى الآيات المحكمات، كما نصَّ في أول كلامه الذي نقلنا. وبهذا يظهر أن موقف الأشاعرة من النصوص أصلٌ من أصول المنهج، وأنه يشترك فيه متكلموهم المتأخرون مع المنتسبين للحديث من المتقدمين، وما سبب ذلك إلا ما قدمنا. بل إن أبا حامد الغزالي مع أنه رجح معيار الكشف والذوق على معيار العقل - كما سيأتي - قد وافقهم على ذلك فهو يقول: «كل خبرٍ مما يشير إلى إثبات صفةٍ للباري تعالى يشعر ظاهره بمستحيل في العقل نُظِرَ: إن تطرق إليه التأويل قُبِلَ وأُوِّلَ. وإن لم يندرج فيه احتمال تبين على القطع كذب الناقل (؟)، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسدد أرباب الألباب ومرشدهم، فلا يظن به أن يأتي بما يستحيل في العقل». ثم ذكر أمثلة لذلك من أحاديث الصفات؛ كالقدم والإصبع والصورة، وأوَّلَها جميعها وقال: «والقول الوجيز أن كل ما لا تأويل له فهو مردودٌ، وما صحَّ وتطرق إليه التأويل قبل» (¬1). ¬

(¬1) المنخول (ص286 - 287)، تحقيق محمد حسن هيتو.

فيا لها من قاعدة ما أفسدها، وأشد معاندتها للنصوص. أما في (الإحياء) فقد نصَّ على أن الأخذ من النصوص مدعاة للاضطراب قال: «فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع، فلا يستقرّ له فيها قدم، ولا يتعين له موقف» (¬1). وهناك بَيَّنَ أن معيار التأويل هو الذوق والكشف وسيأتي في بابه. وقال في (المستصفى): «القسم الثاني من الأخبار: ما يعلم كذبه؛ وهي أربعة: الأول: ما يعلم خلافه بضرورة العقل، أو نظره، أو الحس والمشاهدة، أو أخبار التواتر، وبالجملة ما خالف المعلوم بالمدارك الستة المذكورة: كمن أخبر عن الجمع بين الضدين، وإحياء الموتى في الحال، وأنا (لعله وأنه) على جناح نسر، أو في لجة بحر، وما يحسّ خلافه» (¬2). ثم جاء السنوسي فبين سبب الجنوح إلى التأويل فقال: «ما أخبر الشرع به وكان ظاهره مستحيلًا عند العقل، فإنا نصرفه عن ظاهره المستحيل ...» (¬3). وقد سبق نقله بتمامه. وقبلهم جميعًا قال عبد القاهر البغدادي: «إن روى الراوي ما ¬

(¬1) الإحياء (1/ 180). (¬2) المستصفى (2/ 142) طبعة بولاق. ولو طبقنا كلام الغزالي هذا على ما ورد في الإحياء من حكايات، فكم سيبقى منه؟ ولكنه لم يقصد ردَّ حكايات الصوفية، وإنما ردَّ الأحاديث. (¬3) شرح الكبرى مع الحواشي (ص502).

يُحِيله العقل ولم يحتمل تأويلًا صحيحًا فخبرٌ مردودٌ، وإن كان ما رواه الثقة يروق ظاهره في العقول، ولكن يحتمل تأويلًا يوافق قضايا العقل قبلنا روايته وتأوَّلناه على موافقته العقول». ومَثَّلَ لذلك بحديث: (إن الله خلق آدم على صورته) (¬1). فالكل متفقون على تحكيم العقل، وأن النصوص لا تفيد اليقين، وأن التأويل مخرجٌ سائغ، ومهربٌ سليم، وهذا ما يضعنا على أعتاب قضية لا ينبغي تجاوزها، وهي جناية التأويل على الإسلام. ¬

(¬1) أصول الدين (ص (23)).

جناية التأويل على الإسلام

جناية التأويل على الإسلام نموذج للانحراف المنهجي وآثاره لما كان منهج الوحي فذًّا في تكامله، فريدًا في تناسقه، جامعًا لكل صواب، خاليًا من كل خطأ، أمكن لأصحابه أن يقفوا في وجه كل فكر بشري دون أن يخسروا موقعًا واحدًا من مواقعهم، بل إنه كلما هجم الخصم على جانب منه أظهر الله سبحانه وتعالى على أيدي أتباعه من البراهين والحجج ما يظهر به من الحِكَم والمحاسن ما كان خافيًا قبل الهجوم، فالقادح فيه إنما يقدح في صخرة نورانية عاتية، لا يرتد عليه قدحه إلا نورًا يُعشِي بصره، وينير الطريق للمدافع. أما المناهج البدعية فإنها بتطبيقها لا تحاول تحقيق مصلحة للدين إلا وتجلب ما قد يكون أضعافها من المفاسد، وهي لفساد المنهج تفتح على دينها من الإلزامات ما يضطرها للتراجع والتمحل، فيحسب أعداء الإسلام أن الإسلام هو المتراجع المهزوم، وكفى ذلك شرًّا وشؤمًا. وهذا ما حصل بعينه من الأشاعرة والتأويل. ومن أراد التأكد من هذه الحقيقة فلينظر إلى ما تعرضت له الأمة في عصر ضعف الخلافة العباسية المركزية من تمزق ودمار، حيث سقطت هيبة المسلمين، واستشرت الأدواء الفكرية الخبيثة، والحركات السرية الهدامة، وتعرض سلاطين المسلمين للاغتيال وهم في أسرَّتهم ... إلى غير ذلك من الظواهر المفجعة التي تمتلئ بها كتب

التاريخ قاطبة ... والتي كانت أكبر عوامل نجاح الحملات الصليبية والمغولية. فإن قيل: وما علاقة ذلك بالأشاعرة والتأويل؟. فالجواب: إن هذه الفترة التي شهدت تلك الأحداث الفظيعة هي نفسها التي شهدت نشأة المذهب الأشعري وانتشاره واعتناق بعض السلاطين له. وليست القضية قضية اقتران تاريخي فحسب، ولكن في هذه الفترة نفسها - أعني فترة ظهور المذهب الأشعري وسيطرته على الساحة الكلامية - كانت الباطنية بفروعها المختلفة - فضلًا عن الرافضة الذين اجتمعت فيهم هذه الشرور جميعها - تصنع تلك الفظائع الإجرامية في الأمة الإسلامية، ليس في الأطراف والمقاطعات فحسب؛ بل كانت بغداد نفسها ميدانًا لهذه الفتن والفظائع على النحو الذي تشهد به كتب التاريخ كلها. وغني عن البيان أن (التأويل) هو العمود الفقري للفكر الباطني كله، فقد أوصلهم تخطيطهم التآمري الشيطاني، وتجاربهم المريرة في الأخذ بثأرات (مزدك) و (ماني) و (قريظة) و (النضير) إلى استحالة التصريح بتكذيب القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وإبطال الإسلام جملة علانية، فلجأوا إلى هذه الوسيلة الماكرة (التأويل). فأوَّلوا الأحكام - كالزكاة والصوم والحج وسائر الواجبات - بهدف إسقاط الفرائض كلها، وأولوا الغيبيات كالجنة والنار والملائكة والحشر ... فلم يبق من حقيقة الإسلام شيء، وأخذوا ينشرون هذه

السموم الفتاكة في صفوف الأمة. وكان في الإمكان التصدي بيسرٍ وسهولةٍ لهذا الفكر الخبيث لو أن الأمة مجتمعة على منهج الوحي - أي عقيدة السلف الصالح - تؤمن بكل ما جاء عن الله ورسوله، وترفض منهج التأويل بإطلاق، ولكن كثيرًا من تلك الدويلات كانت تعتنق رسميًّا المذهب الأشعري، وكان علماء هذا المذهب يمثلون زعامة الدفاع عن الإسلام. فلما واجهوا الباطنية بسلاح مفلول، وصفّ مخذول؛ استشرت الباطنية، وتفاقم خطرها حتى اقتنصت الملوك في أسرَّتِهم (¬1)، واقتحمت على العلماء بيوتهم وتلامذتهم. ذلك أن الباطنية حاربت الأشاعرة بالسلاح الذي حاربت به الأشاعرة مذهب السلف وهو (التأويل)، فألزموهم وهزموهم (¬2). بل لا يبعد أن يقال: إن الباطنية تعلمت كثيرًا من فنون التأويل من ¬

(¬1) منهم نظام المُلك نفسه الذي ساند الأشاعرة، ومكَّنهم من المدرسة النظامية. (¬2) من الثابت أن الغزالي في مرحلة الشك اعتنق مذهب الباطنية، كما صرح في (المنقذ من الضلال) وغيره، ومن الثابت أنه أدرك شؤم التأويل، كما صرح في الإحياء بأن التأويل منعته الحنابلة، وتوسعت فيه الباطنية، وتوسط فيه أصحابه، أما هو فقد أحال على الكشف النور الإلهي بزعمه كما سيأتي. على أن المواضع التي ذكر فيها أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا تفوق الحصر في الإحياء، وانظر كتابه الأربعين في أصول الدين (ص (48))، ط (2)، سنة (1344هـ). ولا تريد الباطنية أكثر من هذا، أما رده على الباطنية فكل توفيق أحرزه فيه فمرجعه إلى السير على منهج الوحي ونبذ منهج التأويل، وعلى كل حال فالأمة التي لم تعرف التأويل أصلًا ترفض الفكر الباطني بداهة دون حاجة لردود.

الأشاعرة، واستخدمته من منطلق الأولى والأحرى، إذْ رأت - أو أوهمت - أن ما أولته هي أحق وأولى بالتأويل مما أولته الأشاعرة. ولم يكن لضجيج الأشاعرة عليهم أي معنى!. إذ كيف يحق لابن فورك أن يأتي على أحاديث الصفات واحدًا واحدًا، ويحق للجويني والرازي الإتيان على آياتها آية آية، ويعتبرون ذلك تقديمًا للقواطع العقلية اليقينية على الظواهر النصية الظنية، ويتقربون به إلى الله تنزيهًا وتعظيمًا، ويكون هذا الفعل نفسه حرامًا، بل كفرًا من الباطنية؟. الباطنية تقول: إن قواطعنا العقلية قائمة على أن البعث لا يمكن أن يكون حسيًّا، وإنما هو روحاني، وأولوا نصوص الوحي وقالوا: «إنها ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات». فتصدى لهم الأشاعرة تكفيرًا وتشنيعًا، فدافعوا عن أنفسهم قائلين: على رِسْلِكم! فأنتم أولى منا بما قلتم، فإن ما يتعلق بالله أعظم شأنًا مما يتعلق بالمعاد، والنصوص في صفاته أظهر وأكثر، والدلائل عليها من المعقول والفطر أبين وأشهر، وقد حكمت قواطعكم العقلية بتأويلها، ولم تروا في ذلك كفرًا ولا ضلالًا، بل جعلتموه توحيدًا وتنزيهًا، فلماذا يا ترى تجعلون قواطعكم حقًّا وقواطعنا باطلًا، وعملنا كفرًا وعملكم توحيدًا؟!. نعم .. قد جاء ملاحدة الباطنية فذكروهم بقانونهم الكلي قائلين: قد اتفقنا نحن وأنتم على تقديم العقل على النقل، وعليه نقول: بيننا وبينكم حاكم العقل، فإن القرآن، بل الكتب المنزلة مملوءة بذكر

الفوقية، وعلو الله على عرشه (¬1) ... إلى غير ذلك من نصوص آيات الصفات وأخبارها، التي إذا قيس إليها نصوص حشر هذه الأجساد، وخراب هذا العالم وإعدامه، وإنشاء عالم آخر؛ وجدت نصوص الصفات أضعاف أضعافها، حتى قيل: إن الآيات والأخبار الدالة على علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه تقارب الألوف (¬2)، وقد أجمعت عليها الرسل من أولهم إلى آخرهم، فما الذي سوَّغ لكم تأويلها، وحرم علينا تأويل نصوص حشر الأجساد وخراب العالم؟!. فإن قلتم: الرسل أجمعوا على المجيء به (أي الحشر الجسدي) فلا يمكن تأويله!. قيل: وقد أجمعوا على علوه فوق خلقه ... فإن منع إجماعهم هناك من التأويل وجب أن يمنع هنا. فإن قلتم: العقل أوجب تأويل نصوص آيات الصفات، ولم يوجب تأويل نصوص المعاد؟. قلنا: هاتوا أدلة المعقول التي تأولتم بها الصفات، ونحضر أدلة المعقول التي تأولنا بها المعاد وحشر الأجساد، ونوازن بينها ليتبيّن أيها أقوى. فإن قلتم: إنكار المعاد تكذيبٌ لما عُلِمَ من الإسلام بالضرورة. ¬

(¬1) اقتصرنا على هذه الصفة من الأصل؛ لأنها أشهر الصفات التي تنكرها الأشاعرة، أما الكلام ونحوه فلهم فيه تفصيلات لم نرد إقحامها هنا. (¬2) انظر كتاب مختصر العلو للذهبي، تحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني.

قلنا: وأيضًا إنكار صفات الرب، وأنه فوق سماواته ... تكذيبٌ لما علم أنهم جاءوا به ضرورة. فإن قلتم: تأويلنا للنصوص التي جاءوا بها لا يستلزم تكذيبهم. قلنا: فمن أين صار تأويلنا للنصوص التي جاءوا بها في المعاد يستلزم تكذيبهم دون تأويلكم إلَّا مُجَرَّد التشهي؟. فقال الأشاعرة: إنكم لم تقتصروا على تأويل السمعيات، بل أولتم الأحكام من حلال وحرام؟. فصاحت القرامطة والملاحدة والباطنية، وقالوا: ما الذي سوَّغ لكم تأويل الأخبار، وحرَّم علينا تأويل الأمر والنهي، والتحريم والإيجاب، ومورد الجميع من مشكاة واحدة؟. قالوا: وأين تقع نصوص الأمر والنهي من نصوص الخبر؟. قالوا: وكثير منكم فتحوا باب التأويل في الأمر، فأولوا أوامر ونواهي كثيرة صريحة الدلالة، أو ظاهرة الدلالة في معناها بما يخرجها عن حقائقها، فَهلُمَّ نضعها في كفة، ونضع تأويلنا في كفة ونوازن بينها. ونحن لا ننكر أنا أكثر تأويلًا منهم، ولكنا وجدنا بابًا مفتوحًا فدخلناه (¬1). فهذا مثالٌ بارزٌ للنتائج المترتبة على الانحراف المنهجي الذي وقع فيه الأشاعرة بسبب موقفهم من النصوص، فإنهم فتحوا الباب لأعداء ¬

(¬1) مختصر الصواعق المرسلة (ص (42)) طبعة زكريا يوسف، وانظر: التسعينية (ص258).

الإسلام لينخروا بنيانه بمثل ما نخره به هؤلاء، وما كان للأشاعرة في ذلك غاية ولا تعمدوه، وإنما كان همهم الرد على المعطلة النفاة، ولكن التأويل مع كونه جرَّ إلى الوقوع في هذا البلاء ليس بأفضل من التعطيل، بل هو شرٌّ منه. يقول ابن القيم رحمه الله: «فصلٌ في بيان أن التأويل شرٌّ من التعطيل: فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل، والتلاعب بالنصوص، إساءة الظن بها، فإن المعطل والمؤول قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصفات، وامتاز المؤول بتلاعبه بالنصوص إساءة الظن بها، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهره الضلال والإضلال (¬1)، فجمعوا بين أربعة محاذير: (1) - اعتقادهم أن ظاهر كلام الله ورسوله محالٌ باطل، ففهموا التشبيه أولًا، ثم انتقلوا منه إلى: (2) - المحذور الثاني: وهو التعطيل، فعطلوا حقائقها بناءً منهم على ذلك الفهم الذي لا يليق بها (¬2)، ولا يليق بالرب سبحانه. (3) - المحذور الثالث: نسبة المتكلم الكامل العلم، الكامل البيان، التامّ النصح إلى ضد البيان، والهدى، والإرشاد، وأن المتحيرين ¬

(¬1) ستأتي النقول المصرحة بأن ظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر عندهم. نسأل الله العافية. (¬2) في الأصل: بهم.

المتهوكين أجادوا العبارة في هذا الباب، وعبّروا بعبارة لا توهم من الباطل ما أوهمته عبارة المتكلم بتلك النصوص (¬1)، ولا ريب عند كل عاقل أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلم منه، أو أنصح للناس. 4 - المحذور الرابع: تلاعبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها، فلو رأيتها وهم يلوكونها بأفواههم، وقد حلت بها المثلات، وتلاعبت بها أمواج التأويلات، ونادى عليها في سوق من يزيد، فبذل كل واحد في ثمنها من التأويل ما يريد، فلو رأيتها وقد عزلت عن سلطة اليقين، وجعلت تحت حكم تأويل الجاهلين. هذا وقد قعد النفاة على صراطها المستقيم بالدفع المصدور والأعجاز، وقالوا: لا طريق لك علينا، وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز، فنحن أهل المعقولات وأصحاب البراهين (¬2)، وأنتِ أدلة لفظية وظواهر سمعية لا تفيد العلم ولا اليقين، فَسَنَدُكِ آحادٌ، وهو عرضة للطعن في الناقلين، وإن صح وتواتر ففهم مراد المتكلم منها موقوفٌ على انتفاء عشرة أشياء (¬3) لا سبيل إلى العلم بانتفائها عند ¬

(¬1) انظر إلى قول صاحب الجوهرة المشهور: وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا ... أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهًا!! (¬2) يصرّ الأشاعرة دائمًا على أن كل قضاياهم مبرهنة. وقد سمى السنوسي عقيدته: أم البراهين!!. (¬3) راجع ما سبق نقله من المواقف، وهي: الاشتراك، والنقل، والمجاز، والعلم بالوضع، والتخصيص .. . إلخ.

الناظرين والباحثين (¬1). والحق أن جناية هذا الانحراف لم تقتصر على فتح الثغرات للباطنية وحدها، بل شاركهم غيرهم، فإن الرافضة - على سقم أدلتهم وسخف مذهبهم الذين قال فيهم الشعبي: «لو كانوا من الطير لكانوا رخمًا، ولو كانوا من الدواب لكانوا حُمُرًا» (¬2) - هم أيضًا قد أغراهم تهافت مذهب الأشاعرة في بعض القضايا، فتطاول شيخهم ابن المطهر الحلي صاحب (منهاج الكرامة)، فنقد أهل السنة والجماعة وعاب ¬

(¬1) مختصر الصواعق: (ص (33)). وله بعد هذا كلام نفيس أحببنا إيراده هنا. قال: «فلا إله إلا الله، والله أكبر، كم هدمت هذه المعاول من معاقل الإيمان، وتثلمت بها حصون حقائق السنة والقرآن. فَكَشْفُ عورات هؤلاء، وبيان فضائحهم من أفضل الجهاد في سبيل الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: (إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن الله ورسوله). واعلم أنه لا يستقر للعبد قدم في الإسلام حتى يعقد قلبه على أن الدين كله لله، وأن الهدى هدى الله، وأن الحق دائر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وجودًا وعدمًا، وأنه لا مطاع سواه، ولا متبوع غيره، وأن كلام غيره يعرض على كلامه، فإن وافقه قبلناه، لا لأنه قاله، بل لأنه أخبر به عن الله تعالى ورسوله، وإن خالفه رددناه، ولا يعرض كلامه صلى الله عليه وسلم على آراء القياسيين، ولا على عقول الفلاسفة والمتكلمين، ولا أذواق المتزهدين، بل تعرض هذه كلها على ما جاء به عرض الدراهم المجهولة على أخبر الناقدين، فما حكم بصحته فهو منها المقبول، وما حكم برده فهو المردود». (ص (33)). فانظر إلى هذا الأصل ما أجله وأعظمه، وقارنه بأقوال الأشاعرة المتقدمة. (¬2) السنة لعبد الله بن أحمد (2/ 549).

مذهبهم بما في مذهب الأشاعرة من أصولٍ لا يصدقها عاقل مثل (الكسب)، ونفي الحكمة والتعليل في أفعال الله، ونفي القوى المؤثرة، والحسن والقبح، واجتماع الضدين، ونحوها مما هو معروفٌ في مذهبهم، مما دفع شيخ الإسلام رحمه الله إلى بيان أن أقوال الأشاعرة في هذه القضايا لا يصح أن تحسب على مذهب السلف؛ لأنهم خالفوا فيها السلف وهم مخطئون منتَقدون فيها (¬1). فالعجب من قوم يُجَرِّئون على الإسلام من لا عقل له ولا نقل، وهم مع ذلك يحسبون أنهم يدافعون عن الإسلام ضد الباطنية والرافضة خير دفاع، ولا شك أن في مذاهب أولئك من الطوام ما هو أضعاف ما في مذهب الأشاعرة مما طعنوا به في الإسلام عامة، ولكن ليس العتب على العدو الماكر، بل على المدافع الجاهل (¬2). ¬

(¬1) انظر: منهاج السنة (1/ 126/127) (الطبعة القديمة المصورة). (¬2) ومن غرائب تأويلات الأشاعرة قول الفخر الرازي - وهو تطبيقٌ لمذهب الأشاعرة في عصمة الأنبياء -: «إن الله تعالى لما قال لآدم وحواء: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}، ونهاهما معًا، فظن آدم عليه السلام أنه يحوز لكل واحد منهما وحده أن يقرب من الشجرة، وأن يتناول منها؛ لأن قوله: {وَلَا تَقْرَبَا} نهيٌ لهما على الجمع، ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الانفراد». التفسير الكبير ((3) /15). فالرازي يحسب أن الأنبياء يعاملون النصوص كما يعاملها هو وأصحابه، وحاشا أنبياء الله تعالى من عجمة القلوب. انظر مختصر الصواعق (ص (44)).

إسقاط قيمة النصوص في مجال العقيدة

إسقاط قيمة النصوص في مجال العقيدة بناءً على ما تقرر تأصيله فيما سبق جعل منهج الأشاعرة رد النصوص جملة، والاكتفاء بالعقل المزعوم أصلًا منهجيًّا في الاعتقاد والتأليف، وأسقطوا قيمة النصوص لا من جهة عدم اعتقاد ما دلت عليه فحسب، بل من جهة عدم اعتبارها مجالًا للبحث والاستدلال والنظر، فما فائدة البحث والنظر عندهم فيما لا يفيد اليقين ولا يورث إلا الظن، وما يترتب على حصول العلم منه شروط دونها خرط القتاد، ودخول الجمل في سَمِّ الخِيَاط؟!. وما جدوى الخوض في تلك الظواهر الظنية من حيث إن الأصول العقلية المنضبطة قائمةٌ مقررةٌ، ودلالتها يقينية قاطعة؟!. على هذا المنهج ساروا في مصنفاتهم في العقيدة، فإنك تقرأ الواحد منها وتتصفحه عمدًا بحثًا عن آية، وتنقيبًا عن حديث، فلا تجد في المائتين من الصفحات لا آيةً ولا حديثًا، وإن وجدته فإنما جاء به في معرض سرد النصوص الظنية الواجبة التأويل، أو ذكره ضمن أقوال خصومهم (الحشوية!!)، أو أورده - وهذا أقلها - على سبيل التبعية والاستئناس!!. وإن شئت الأمثلة فانظر: (الشامل) و (الإرشاد) للجويني، و (غاية المرام) وأصله (أبكار الأفهام) للآمدي، و (أساس التقديس) وسائر مؤلفات الرازي الكلامية، و (المواقف) وشروحه وحواشيها، و (المقاصد) وشروحها وحواشيها، و (الذسفية) وشروحها وحواشيها، و (العضدية)

وشروحها وحواشيها، و (السنوسية) وشروحها وحواشيها. إلى آخر ما يعلمه المطلع دونما حاجة إلى ذكر مثال!. وليس هذا منهم خطأ في التطبيق، بل هو عين المنهج، كما صرَّح به الجويني والرازي وغيرهما، يقول الرازي ضمن القانون الكلي الذي سبق إيراده: «ثم إن جوَّزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل». فالاشتغال بالنصوص - أي بردِّها وصرفها عن حقيقتها، لا بإثباتها واعتقاد ما فيها - مسألة تبرعٍ وتنفّل، والتبرع أيضًا معلقٌ بالقول بجواز التأويل، والأصل عدم القول به؛ لأن القواطع العقلية كافيةٌ في الردِّ، كما قرر في نص قانونه. ويقول الجويني: «إن ما يصح في الصحاح من الآحاد لا يلزم تأويله إلا أن نخوض فيه مسامحين، فإنه إنما بجب تأويل ما لو كان نصًّا لأوجب العلم» (¬1). ويعقد ابن فورك فصلًا ختاميًّا لكتابه (مشكل الحديث) عنوانه: «فصل في الكلام على من قال: إن ما روينا من هذه الأخبار، وذكرنا في أمثال هذه السنة والآثار مما لا يجب الاشتغال بتأويله وتخريجه ..» (¬2). وأقرَّ هذا، لكن بَرَّرَ عمله وكأنه يعتذر عنه، فالاشتغال بالنصوص عندهم خاصٌّ بتأويل المتواتر، أما الصحيح من الآحاد فما لنا وله، ¬

(¬1) الشامل (ص561). (¬2) (ص267). وانظر أيضًا قوله: «إنها أخبار آحاد لا توجب العلم» (ص269).

فالأصل هو عدم إضاعة الوقت فيما لا جدوى من الخوض فيه، أما أخذها بدون تأويل سواء متواترةً أو آحادًا، فأمرٌ ما خطر بالبال!. ولقد ترتب على هذا ما ترتب؛ الجهل الفاضح المتعمّد بالسنة النبوية روايةً ودرايةً، والجهل كذلك بكتاب الله، فإن الجويني وهو الملقب عندهم بإمام الحرمين، وهو من أساطين الشافعية الأشاعرة قد ألف كتابًا كبيرًا في الفقه الشافعي هو (نهاية المطلب في دراسة المذهب) لم يذكر فيه حديثًا واحدًا معزوًّا إلى صحيح البخاري، إلا أنه ذكر حديثًا واحدًا في البسملة، وعزاه للبخاري وليس فيه (¬1). والغزالي يعترف لتلميذه أبي بكر بن العربي أن بضاعته في الحديث مزجاة على أن ما في كتابه (إحياء علوم الدين) من الموضوعات والأباطيل يغنينا عن كل اعتراف (¬2)، فما بالك بمن جاء بعدهم من أصحاب الحواشي الجافة الميتة؟. وتظهر المفارقة أعظم وأعظم حين تجد هؤلاء القوم يضيعون الأعمار ويؤلفون المجلدات الضخام في الاشتغال بمقالات الفلاسفة من وثنيي اليونان، ومشركي الصابئة ويسمونهم (الحكماء)، ويجهدون أنفسهم وقرَّاءهم في أقوالهم أخذًّا وردًّا وموافقةً ومناقشةً، ثم هم مع ¬

(¬1) انظر التسعينية (ص251). ولهذا لا يعتد الشافعية بآرائه الفقهية، فكيف يقلدونه في العقيدة؟!. (¬2) انظر الرد على المنطقيين (ص (482))، وأراء أبي بكر بن العربي الكلامية (1/ 113).

هذا كله يجعلون الاشتغال بما صح نقله عن المعصوم صلى الله عليه وسلم لا يعدو هذه المنزلة؟. أما عن قضية التفريق بين المتواتر والآحاد، فالحق الذي لا مرية فيه أنهم تحت هذا الستار طعنوا في السنة النبوية كلها، وطعنوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة عدالةً وضبطًا. وهنا عند الحديث عن هذه القضية الكبرى أجدني مرغمًا لنقل كلام الأشاعرة إرغامًا، وهو في الحقيقة مما يتألم المرء من قراءته، فضلًا عن نقله، ولقد كنا نصبّ جام غضبنا على المستشرقين بسبب موقفهم من هذا الموضوع، فلما ظهر أبو رَيَّة عرفنا أن في صفوفنا من هو أخطر منهم، ثم ظهر الدكتور حسن الترابي (¬1)، فاستعذنا بالله وقلنا رأيٌ شاذٌّ، فلما قرأنا هذا الكلام ونحوه لأشاعرة معاصرين (¬2)، ثم وجدناه في كلام الرازي والجويني؛ أيقنَّا أننا أمام مدرسة فكرية، واتجاه مرسوم، وليست شذوذات فردية. يقول صاحب (أساس التقديس) بعنوان: (كلام كلي في أخبار الآحاد): «أما التمسك بخبر الواحد في معرفة الله تعالى فغير جائزٍ، يدل عليه وجوه: ¬

(¬1) انظر مجلة المجتمع، العدد ((573)) سنة (1402هـ)، مقالة له بعنوان: الفكر الإسلامي بين القديم والجديد. تجد بعض كلام الرازي هنا بنصه، فمصدرهما واحد، أو هو نقل عن نقل، والله أعلم. ومثله ما كتبه محمد حسن هيتو في جملة المجتمع أكثر من مرة. (¬2) انظر كتاب: جولات في الفقهين الكبير والأكبر.

الأول: أن أخبار الآحاد مظنونة، فلم يجز التمسك بها في معرفة الله تعالى وصفاته. وإنما قلنا: إنها مظنونة، وذلك لأنا أجمعنا على أن الرواة ليسوا معصومين. وكيف والروافض لما اتفقوا على عصمة علي رضي الله عنه وحده، فهؤلاء المحدّثون كفَّروهم (؟!)، فإذا كان القول بعصمة علي - كرم الله وجهه - يوجب تكفير القائلين بعصمة علي، فكيف يمكنهم عصمة هؤلاء الرواة؟. وإذا لم يكونوا معصومين كان الخطأ عليهم جائزًا، فحينئذ لا يكون صدقهم معلومًا، بل مظنونًا، فثبت أن خبر الواحد مظنون، فوجب أن لا يجوز التمسك به؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: (36)]. ولقوله تعالى في صفة الكفار: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 116]. ولقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: (36)]. ولقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169]. فترك العمل بهذه العمومات في فروع الشريعة؛ لأن المطلوب فيها الظن، فوجب أن يبقى في مسائل الأصول على هذا الأصل. والعجب من الحشوية أنهم يقولون: الاشتغال بتأويل الآيات المتشابهة غير جائز؛ لأن تعيين ذلك التأويل مظنونٌ، والقول بالظن في القرآن لا يجوز، ثم إنهم يتكلمون في ذات الله تعالى وصفاته بأخبار الآحاد، مع أنها في غاية البعد من القطع واليقين، وإذا لم يجوّزوا تفسير

ألفاظ القرآن بالطريق المظنون، فلأن يمتنعوا عن الكلام في ذات الحق تعالى وفي صفاته بمجرد الروايات الضعيفة أولى (!!!!). الثاني: أن أجل طبقات الرواة قدرًا، وأعلاهم منصبًا الصحابة رضي الله عنهم، ثم إنا نعلم أن روايتهم لا تفيد القطع واليقين (؟!!!!). والدليل عليه أن هؤلاء المحدثين رووا عنهم أن كل واحد منهم طعن في الآخر، ونسبه إلى ما لا ينبغي (؟!!!!). أليس من المشهور أن عمر طعن في خالد بن الوليد، وأن ابن مسعود وأبا ذر كانا يبالغان في الطعن في عثمان، ونقل عن عائشة رضي الله عنها أنها بالغت في الطعن في عثمان. أليس أن عمر قال في عثمان: إنه يحلف بأقاربه (؟). وقال في طلحة والزبير أشياء أخر تجري هذا المجرى؟. أليس أن عليًّا - كرم الله وجهه - سمع أبا هريرة يومًا أنه كان يقول: أخبرني خليلي أبو القاسم .. فقال له علي: متى كان خليلك؟. أليس أن عمر رضي الله عنه نهى أبا هريرة عن كثرة الرواية؟. أليس أن ابن عباس رضي الله عنه طعن في خبر أبي سعيد في الهرق (¬1)، وطعن في خبر أبي هريرة في غسل اليدين، وقال كيف يصنع طهرًا منا (؟). أليس أن أبا هريرة رضي الله عنه لما روى: (من أصبح جنبًا فلا صوم له) طعنوا فيه؟. ¬

(¬1) كذا في الأصل!، ونحوها كثير، ولعلها: (الهرة) مما قد يعزى للنساخ، أو لجهل الرجل بالسنة، كما تبين لي من كثرة مطالعة كتبه.

أليس أن ابن عمر لما روى: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) طعنت عائشة فيه بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: (164)]؟. أليس أنهم طعنوا في خبر فاطمة بنت قيس وقالوا: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بخبر امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت. أليس أن عمر طالب أبا موسى الأشعري في خبر الاستئذان بالشاهد وغلظ الأمر عليه؟. أليس أن عليًّا كان يستحلف الرواة؟. أليس أن عليًّا قال لعمر في بعض الوقائع: إن قاربوك (؟) فقد غَشُّوك؟. واعلم أنك إذا طالعت كتب الحديث وجدت من هذا الباب ما لا يعد ولا يحصى (!!). إذا ثبت هذا فنقول: الطاعن إن صدق فقد توجه الطعن على المطعون، وإن كذب فقد توجه على الطاعن، فكيف كان فتوجه الطعن لازم (!!!). إلا أنا قلنا: إن الله تعالى أثنى على الصحابة رضي الله عنهم في القرآن على سبيل العموم، وذلك يفيد ظن الصدق (؟!!!)، فلهذا الترجُّح قبلنا روايتهم في فروع الشريعة، أما الكلام في ذات الله تعالى وصفاته فكيف يمكن بناؤه على هذه الرواية الضعيفة (؟!!!). الثالث: وهو أنه اشتهر فيما بين الأمة أن جماعة من الملاحدة وضعوا أخبارًا منكرة، واحتالوا في ترويجها على المحدثين،

والمحدثون لسلامة قلوبهم ما عرفوها، بل قبلوها (!!!). وأي منكرٍ فوق وصف الله تعالى بما يقدح في الإلهية، ويبطل الربوبية (¬1)؟. فوجب القطع في أمثال هذه الأخبار بأنها موضوعة. وأما البخاري والقشيري (مسلم) فهما ما كانا عالمين بالغيوب (؟!)، بل اجتهدا واحتاطا بمقدار طاقتهما، فأما اعتقاد أنهما علما جميع الأصول الواقعة في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زماننا (؟!) فذلك لا يقوله عاقل. غاية ما في الباب: أنا نحسن الظن بهما وبالذين رويا عنهم، إلا أنا إذا شاهدنا خبرًا مشتملًا على منكر لا يمكن إسناده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قطعنا بأنه من أوضاع الملاحدة، ومن ترويجاتهم على أولئك المحدثين (!!!!). الرابع: أن هؤلاء المحدثين يجرحون الروايات بأقل العلل (¬2): (أنه كان مائلًا إلى حب عليّ فكان رافضيًّا فلا تقبل روايته)، و (كان معبد الجهني يقول بالقدر فلا تقبل روايته)، فما كان فيهم عاقل يقول: إنه وصف الله تعالى بما يبطل إلهيته وربوبيته فلا تقبل روايته (؟!!!) (¬3)، إن هذا من العجائب. ¬

(¬1) يعني أحاديث علو الله ونزوله؛ لأنها هي موضوع كتابه وأبوابه السابقة. (¬2) هنا على ما يظهر سَقْطٌ في الأصل تسده كلمة (مثل). (¬3) مراده أن مجرد رواية حديث في العلو أو النزول كافٍ في رده؛ لتعارضه مع ألوهية الله، وإلا فالمحدثون ليس فيهم عاقل!!!.

الخامس: أن الرواة الذين سمعوا هذه الأخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم ما كتبوها عن لفظ الرسول، بل سمعوا شيئًا في مجلس، ثم إنهم رووا تلك الأشياء بعد عشرين سنة أو أكثر، ومن سمع شيئًا في مجلس مرةً واحدةً، ثم رواه بعد العشرين والثلاثين لا يمكنه رواية تلك الألفاظ بأعبائها (¬1)، وهذا كالمعلوم بالضرورة، وإذا كان الأمر كذلك كان القطع حاصلًا بأن شيئًا من هذه الألفاظ ليس من ألفاظ الرسول عليه السلام، بل ليس ذلك إلا من ألفاظ الراوي (!!!!). وكيف يقطع أن هذا الراوي سمع ما جرى في ذلك المجلس؟ فإن من سمع كلامًا في مجلس واحد، ثم إنه ما كتبه وما كرر عليه كل يوم، بل ذكره بعد عشرين سنة أو ثلاثين، فالظاهر أنه في منه شيئًا كثيرًا، أو تشوش عليه نظم الكلام وترتيبه وتركيبه، ومع هذا الاحتمال فكيف يمكن التمسك به في معرفة ذات الله تعالى وصفاته؟. واعلم أن هذا الباب كثير الكلام، وأن القدر الذي أوردناه كافٍ في بيان أنه لا يجوز التمسك في أصل الدين بخبر الآحاد. والله أعلم» (¬2). ¬

(¬1) كذا! والصحيح (بأعيانها). ولعله من الناسخ أو الطابع. (¬2) أساس التقديس (ص82 - 168)، وانظر: الشامل للجويني (ص557 - 558). ونحن نحيل هذا الكلام إلى المشتغلين بالسنة والحديث من الأشاعرة المعاصرين، ونريد أن نسمع رأيهم فيه، أما أهل السنة والجماعة فقد عقد البخاري رحمه الله كتابًا من صحيحه بعنوان (كتاب أخبار الآحاد)، وأسهب ابن القيم في الصواعق المرسلة في إبطال هذا اللغو ونسفه، ومنه اختصر الشيخ الألباني رسالته المفيدة في ذلك، وكذا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله =

¬

= في مذكرة أصول الفقه. وبخصوص كلام الرازي هذا نقول بإيجاز شديد: إنه احتوى على مغالطات واضحة لا تخفى على من درس مبادئ علم المصطلح، وعرف طرفًا من فنون الرواية، وكلامه هذا أشبه بهذيان الرافضة والمستشرقين، على أننا ننبه إلى بعض أخطائه؛ فمنها: (1) - أخطاء اصطلاحية. فهو لم يدرك مفهوم كلمتي (الظن) و (الكذب) في الاصطلاح ويفرق بينهما وبين استعمالهما اللغوي ... (2) - لم يدرك الفرق بين عصمة الأمة في مجموعها أن تكذب على نبيها، وكون لا أحد بمفرده معصوم. (3) - لم يفرق بين تخطئة إنسان أو نقده على فعل عمله وبين نسبته إلى الكذب، بل هذا تدليس منه، فإن ما ذكره من طعن بعض الصحابة في بعض إن صح ليس هو في مقام التصديق والتكذيب في الرواية!!. (4) - لم يفرق بين زيادة التثبت من خبر الصادق وبين تكذيبه. (5) - أنه لو أخطأ أحدٌ في تكذيب أحد لا يلزم تكذيب المخطئ، وإلا سقط كلام رجال الجرح والتعديل جميعهم. (6) - أنه لم يفرق بين المتواتر والآحاد، فمع أن كلامه عن الأخير فقد نسب الصحابة كلهم إلى الضعف وعدم اليقين، وهذا ينطبق على نقلهم للمتواتر من القرآن. (7) - سؤال نوجهه للرازي ولسائر الأشاعرة: كيف وصلكم كلام أرسطو القطعي الدلالة والثبوت عندكم، وهو المنقول من وراء القرون المتطاولة والترجمات المتعاورة؟ وكيف وصلكم البيت الذي بنى الرازي عليه أساس تقديسه: قد استوى بشر على العراق؟. الحق أنه بعد هذا الكلام لم يعد غريبًا أن يعظم الفخر عند نصير الكفر الطوسي وسائر الروافض وعند التتار، فإن مثل هذا الكلام أحلى عند جنكيز خان =

ولقائلٍ أن يقول: حسبك! فليس بعد هذا الكلام من مقال، وماذا عسى أن يأتي أحدٌ في الإسلام بأشنع منه، وهو من المنتسبين له. ونقول: كلا، فالرازي - مع جرأته الفظة على الصحابة - من المعتدلين في المسألة، ولهذا تجد أكثر الأشاعرة المعاصرين يقولون بنحو كلامه لما فيه من الاعتدال، (حرصًا منهم على جمع الصف ووحدة الكلمة!). وإلا فلديهم من هو أصرح منه في بيان حقيقة منهج المذهب، وموقفه من النصوص. لقد جاء بعده من نص بصراحة على أنه لا يجوز التمسك بالأدلة النقلية في العقليات جميعها؛ كأبواب الصفات، والقدر، والحسن والقبح ... الخ، ولا يجوز التمسك بها في السمعيات؛ كالحوض، والجنة والنار إلا بشرط عدم معارضتها للعقل، سواءً أكانت متواترةً أم آحادًا. فالمسألة هنا لها منطلق واعتبار آخر. وعلى هذا نص أصحاب الحواشي على (العضدية) و (المواقف) و (المقاصد) (¬1)، وهو الذي عليه ظاهر صنيع العضد الإيجي في (المواقف)، وقد نقلناه من قبل. ¬

= وهولاكو والطوسي وابن العلقمي من الشهد، وربما لأجله قتلوا الملايين من المسلمين، إلا أولاد الرازي فقد حملوهم معززين مكرمين إلى جنكيز خان. (¬1) ننبه إلى أن صاحب (المقاصد) ماتريدي المنهج، ولكن الفوارق بن الأشعرية والماتريدية محدودة، ولا سيما أن أكثرها في قضايا عقلية بدعية لا تهم الباحث الذي لا شأن له بما خرج عن منهج السلف من خلافات بدعية.

ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل جاء إمامهم في القرن التاسع وما يليه السنوسي، فقال: في (شرح أم البراهين): «أصول الكفر ستة: (1) - الإيجاب الذاتي. (2) - والتحسين العقلي. (3) - والتقليد الرديء. 4 - والربط المعادي. (5) - والجهل المركب. (6) - والتمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية». ثم قال في الشرح: «والتمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب وسنة من غير بصيرة في العقل هو أصل ضلالة الحشوية، فقالوا بالتشبيه والتجسيم والجهة، عملًا بظاهر قوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: (5)]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: (16)]، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: (75)]، ونحو ذلك» (¬1). وتبعه الصاوي في تعليقه على الجلالين فقال: «... الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر» (¬2). ¬

(¬1) شرح أم البراهين (ص317 - 318)، مع حاشية الدسوقي عليها، وكذا شرح أم البراهين (ص81) طبعة سنة (1353هـ)، وسيأتي شرح بعض الستة عما قليل. (¬2) (3/ 9) طبعة الحلبي، وأوله كلامه: «ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر». وقارنه بما في (جولات في الفقهين الكبير والأكبر).

ويقول السنوسي في شرح الكبرى: «وأما من زعم أن الطريق بدءًا إلى معرفة الحق الكتاب والسنة، ويحرم ما سواهما. فالرد عليه أن حجتيهما لا تعرف إلا بالنظر العقلي، وأيضًا فقد وقعت فيهما ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كفر عند جماعة وابتدع». وقال شارحها: «قوله: (ظواهر) أي: قضايا دالة بحسب الظاهر على عقائد فاسدة، نحو: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] ...» (¬1). هذا الكلام نسوقه لطائفتين: الأولى: الذين يقولون من أهل السنة: إن الأشاعرة هم من أهل السنة والجماعة (¬2). الثانية: الأشاعرة الذين يقولون: إن أتباع منهج السلف يكفرونهم، ولم يأتوا بنصٍّ واحد عمن يعتبر قوله قديمًا أو حديثًا. وربما كان مصدر هذه التهمة إحساس الأشاعرة في أنفسهم بخطورة ما يقولون واستلزامه للكفر إذا قيس بمنهج الوحي، وبما يكفرون هم به مخالفيهم، فسارعوا إلى الاتهام الموهوم، وألصقوه بمن يمثل منهج السلف، ثم دافعوا في الخيال. أما نحن فنقول: هذه نصوصكم بين أيديكم .. وليتكم اكتفيتم ¬

(¬1) شرح الكبرى (ص (82)) من المطبوع مع حواشي الحامدي. (¬2) أي بالمعنى الأخص، لا بمعنى ما يقابل الشيعة.

بتكفير أشخاص أهل السنة، ولكنكم عمدتم إلى الأصل نفسه، فقلتم: «إن الأخذ من الكتاب والسنة أصل الكفر وسببه». وهذا أعظم وأطم. وهنا لا بد لنا من وقفة حول تكفير الأشاعرة لأهل السنة والجماعة في عقائدهم، على ألَّا يبعدنا ذلك عن أصل موضوعنا، وهو إسقاط قيمة النصوص عندهم، فإن الترابط بينهما واضحٌ؛ لأنهم لم يكفروا أحدًا بسبب التزامه بنص إلا وقد أهدروا قيمة النص، بل جعلوه علة الكفر!. إنه بمراجعة أصول الكفر الستة التي ذكرها السنوسي آنفًا لا يكون أهل السنة والجماعة كفارًا بالأخير منها - وهو التمسك بظواهر النصوص - فحسب، بل بمعظمها: فأهل السنة والجماعة يقولون بالتحسين العقلي (مع مخالفتهم للمعتزلة في أن العقل يوجب شيئًا أو يحرمه) وهم يقولون بما هو أظهر وأعظم لكل ذي عقل وهو الربط العادي، وموقف الأشاعرة في هذه القضية عجيب حقًّا، ولكن أعجب منه أن يكفروا من خالفهم فيه. فها هو ذا السنوسي ينقل عن ابن دهان في (شرح الإرشاد) ما يلي: «النوع الثاني من أنواع الشرك: ما أضيف من أفعال بعض إلى بعض، من أن النار تحرق، والطعام يشبع، والثوب يستر ... إلى غير ذلك من ربط المعتادات حتى ظنوها واجبة، وتلك ضلالة تبع الفيلسوفي فيها كثير من عامة المسلمين. قلتُ (أي السنوسي): بل وكثير من المتفقهين المشتغلين بما لا يعنيهم من العلوم، وعن مراشدهم عمين.

قال: وهم فيها على اعتقادات؛ فمن قال: بطبعها تفعل. فلا خلاف في كفره، ومن قال: بقوة جعلها الله فيها كان مبتدعًا، وقد اختلف الناس في كفره» (¬1). وقال عن ذلك في (شرح أم البراهين): إنه «بدعةٌ شنيعةٌ في أصول الدين، وشركٌ عظيمٌ) (¬2). وقال صاحب منظومة (الخريدة البهية): ومن يقل بالطبع أوبالعلةِ فذاك كفر عند أهل الملةِ ومن يقل بالقوة المودعةِ فذاك بدعي فلا تلتفتِ (¬3) فإذا كان الأشاعرة يطلقون الشرك أو البدعة على من قال: (إن النار تحرق، والطعام يشبع، والثوب يستر) مع قوله: إن الله أودع فيها، أو جعلها علةً لذلك، أو خلقها كذلك، وهو خالق الأسباب والمسببات. فلماذا يغضبون إذا قيل: إن عبادة القبور والتوسل بالأموات شركٌ. ويقولون: هذا من غلو الوهابية، ويلصقون بهم تهمة تكفير المسلمين. وأما التقليد الرديء الذي هو أصل من أصول الكفر عندهم، فإنهم يعممون مدلوله حتى يشمل كل من لم يؤمن بالله على الطريقة التي رتبوها وقرروها، فيعدّونه مقلدًا. وقد سبق بحثه (¬4). فعوام أهل السنة، ¬

(¬1) شرح الكبرى مع الحواشي (ص184). (¬2) شرح أم البراهين (ص81). (¬3) انظر مجموع أمهات المتون، والمنظومة للدردير. (¬4) في موضع (أول واجب على المكلف).

بل وعلماؤهم داخلون فيه (¬1). والحق أن مسألة التكفير عند الأشاعرة من المسائل المهمة والمحيرة معًا، وليست هذه الأصول الستة هي وحدها مصادر الحكم على المرء بالكفر عندهم، لكن ليس هذا هو العجيب وحده، إنما العجب الذي لا ينقضي: هو تساهلهم الشديد جدًّا فى قضيتي الإيمان والتوحيد، وغلوهم المفرط في التكفير بهذه القضايا!!. ونحن نختار - للتمثيل - صفةً واحدةً من الصفات، ونرى بِمَ حكم الأشاعرة على مثبتيها: وقد آثرت اختيار صفة (العلو)؛ لأنها من أعظم وأشهر الصفات التي يؤمن بها بنو آدم أجمعون - إلا من شذ - من المِلِّيِّين والوثنِّيين، حتى أعند الطواغيت مثل فرعون (¬2)، وستالين (¬3)، وفطرت عليها جميع النفوس حتى نفوس البهائم. أما النصوص من الوحي فهي - كما نقل ابن القيم - تقارب الألوف، وما هو ببعيد. فما حكم من يقول بإثباتها عند الأشاعرة؟ ¬

(¬1) السنة (1/ 128) الطبعة القديمة. (¬2) {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36 - 37]. (¬3) فإنه لما صعد أول رائد فضاء، وهو الروسي (جاجارين) أرغمه أن يقول: صعدت في السماء وبحثت عن الله فلم أجده!.

يقول إمامهم أبو بكر الباقلاني ضمن ما قال عنها: «قال أبو عثمان (المغربي): كنت أعتقد شيئًا من حديث الجهة، فلما قدمت بغداد وزال ذلك عن قلبي (¬1)، فكتبت إلى أصحابنا: إني قد أسلمت جديدًا. وقال جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: من زعم أن الله تعالى في شيءٍ، أو من شيءٍ، أو على شيءٍ، فقد أشرك؛ لأنه لو كان على شيءٍ لكان محمولًا، ولو كان في شيءٍ لكان محصورًا، ولو كان شيئًا لكان محدثًا، والله تعالى عن جميع ذلك» (¬2). ويقول الجويني ضمن كلام له طويل في نفي العلو: «ومن ينتمي إلى الحق من الأئمة ومخلصي الأمة يعترف بتقديس الرب عن الجهات والمقابلات، وليس هذا مما يسع جهله؛ إذ الترخيص في جهل ذلك يتداعى إلى جملة العقائد، ومن أبدى في ذلك ريبًا فليس منا ولسنا منهم .. والآيات المشتملة على إنزال القرآن تجري هذا المجرى (أي مجرى تأويل حديث النزول)، وليس المراد بإنزاله نقله من موضع إلى موضع، هذا ما صار إليه أهل التحصيل، ولا اكتراث بقول الجهلة الحشوية في اعتقادهم أن الكلام ينتقل من جهة إلى جهة ... ¬

(¬1) انظر كيف كان على الفطرة حتى علمه المبتدعة بدعتهم. اللهم إلا إذا كان على شيء من التشبيه، فتحول إلى بدعة أخرى. (¬2) الإنصاف (ص (42))، ومثل هذا لانحسبه يصح عن من في مثل منزلة جعفر، بل هو كلام متفلسف.

وأقرب الناس إلى التزام الكفر الصراح من جوَّز على الرب الانتقال» (¬1). أي من تمسك بظاهر حديث النزول (¬2). ويقول الرازي: «الفصل الثالث: في أن من يثبت كونه تعالى جسمًا (¬3) متحيزًا مختصًّا بجهة معينة، هل يحكم بكفره، أم لا؟ للعلماء فيه قولان: أحدهما: أنه كافر، وهو الأظهر، وهذا لأن من مذهبنا أن كل شيء يكون مختصًّا بجهة حيز فإنه مخلوقٌ محدَثٌ، وله إلهٌ أحدَثه وخَلَقه. وأما القائلون بالجسمية والجهة الذين أنكروا وجود موجود آخر سوى هذه الأشياء التي يمكن الإشارة إليها، فهم منكرون لذات الموجود الذي يعتقد أنه هو الإله، فإذا كانوا منكرين لذاته كانوا كفارًا لا محالة. وهذا بخلاف المعتزلة فإنهم يثبتون موجودًا وراء هذه الأشياء التي يشار إليها بالحسِّ، إلا أنهم يخالفوننا في صفات ذلك الوجود، والمجسمة يخالفوننا في إثبات ذات المعبود ووجوده، فكان هذا ¬

(¬1) الشامل (ص551، 558). (¬2) لأنهم من منطلق التشبيه يعطلون، فلما تصوروا أن النزول كنزول المخلوقين اعتبروه انتقالًا. (¬3) لفظ (الجسم) لم يرد في الكتاب والسنة، فليس هو من الألفاظ السلفية، ولكن الأشاعرة من أجهل الناس بمعتقد السلف ألفاظًا ومعاني، ومثله (التحيز)، أما الجهة فلا يريد بها السلف الحصر، بل هو تعالى عالٍ على كل شيء، وفوق كل خلوقاته، محيط بها جميعًا.

الخلاف أعظم، فيلزمهم الكفر لكونهم منكرين لذات المعبود الحق ولوجوده، والمعتزلة في صفته لا في ذاته (¬1). والقول الثاني: أنا لا نكفّرهم؛ لأن معرفة التنزيه لو كانت شرطًا لصحة الإيمان لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يتفحص أن ذلك الإنسان هل عرف الله بصفة التنزيه أو لا، وحيث حكم بإيمان الخلق من غير هذا التفحص (¬2)، علمنا أن ذلك ليس شرطًا للإيمان» (¬3). وقال شارح (الجوهرة): «واعلم أن معتقد الجهة لا يكفر، كما قاله العز بن عبد السلام، وقيده النووي بكونه من العامة، وابن أبي جمرة بعسر فهم نفيها، وفصَّل بعضهم فقال: إن اعتقد جهة العلو لم يكفر؛ لأن جهة العلو فيها شرفٌ ورفعةٌ في الجملة (¬4)، وإن اعتقد جهة السفل كفر» (¬5). ¬

(¬1) مع ما في هذا الكلام من مغالطة وجرأة على التكفير، انظر إلى تفضيله مذهب المعتزلة على مذهب السلف الذين يسميهم (المجسمة)، وتصريحه بأن الخلاف بين مذهبه هو وأصحابه الأشاعرة وبين مذهب السلف أعظم مما بينهم وبين المعتزلة. (¬2) بل قد تفحص النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن على عكس ما قرر الرازي، فقد فحص الجارية قايلًا: أين الله؟ فقالت: في السماء. فحكم بأنها مؤمنة؛ لإثباتها العلو، فلو أنكرته كالرازي وأصحابه لتغير الحكم. (¬3) أساس التقديس (ص196 - 197). (¬4) انظر إلى المكابرة، فهم يعترفون أن إنكار العلو عسير الفهم؛ لمصادمته للفطرة والعقل، ويعترفون أن إثبات العلو شرف ورفعة، ولا يؤمنون بذلك مع تواتر النصوص به. ثم أيها أعسر فهمًا، وأبعد عن الشرف، بل عن مجرد التصور: إثبات علو الله تعالى، أم القول بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا عن يمينه ولا شماله، ولا فوقه ولا تحته، ولا وراءه ولا أمامه؟!!. (¬5) شرح الباجوري على الجوهرة (ص86 - 87).

وأما الخمراوي فرجح قولًا واحدًا اختاره فقال: «واعتقاد الفوقية فسقٌ، وغيرها كفر» (¬1). فانظر إلى هذا الأخير الذي هو أخف أقوالهم في المسألة، وطبِّقه على الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا يعتقدون - قطعًا - أن الله في السماء، كما في حديث الجارية وغيره!!. فما بالك بكلام الباقلاني والرازي الذي لو طبَّقه أحدٌ عليهم لكانوا - عياذًا بالله - كفارًا مشركين، ودعك من مسألة اللوازم هذه، ومسألة الجرأة على التكفير، وانظر إلى أصل القضية كلها، وهو أن الالتزام بالنصوص أصلٌ للكفر، مستوجبٌ له، مفضٍ إليه، وتلك هي الطامة. وأخيرًا؛ قد يقال: إن هذا كلام الأشاعرة السالفين، أما في هذا العصر وقد تنورت العقول، وتلاقحت الأفكار، واحتاجت الأمة إلى وحدة الصف وجمع الشمل، فلا يظن بالأشاعرة - لا سيما المنتسبين منهم للعمل الإسلامي - أن يقولوا شيئًا من هذا!. وحتى لا نطيل بكلام المعاصرين ننقل نصًّا واحدًا عن أحد ¬

(¬1) حاشية الخمراوي على إرشاد المريد (ص83)، وهو في المتن والشرح.

شخصيات الدعوة، وهو بدوره ينقل عن أستاذين عصريين قال: «وما أحسن قول الشيخ الأستاذ محمد أديب الكيلاني (وزميله) حول المتشابه من الصفات، والخلاصة: أن من لم يصرف اللفظ المتشابه آيةً كان أو حديثًا عن ظاهره الموهم للتشبيه أو المحال، فقد ضلَّ، ومن فسره تفسيرًا بعيدًا عن الحجة والبرهان قائمًا على الزيغ والبهتان فقد ضل كالباطنية، وكل هؤلاء يقال فيهم: إنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة» (¬1). فهؤلاء ثلاثة: المؤلفان والناقل المادح يصنفون أتباع السلف مع أهل الضلال، واتباع المتشابه، وابتغاء الفتنة!!. ¬

(¬1) انظر أركان الإيان، لوهبي غاوجي (ص (33)).

الكشف والذوق والإلهام

الكشف والذوق والإلهام لم يكتف الأشاعرة بتحكيم العقل في النص، بل حكَّموا معيارًا آخر، كان لتحكيمه أسبابٌ خاصة، وهو معيار الكشف والذوق والإلهام والفيض. ذلك أن دعاة البدعة والضلال لما أعرضوا عن التمسك بالوحي، وجعلوا نصوصه غرضًا لسهامهم، وتناولوها على مشرحة النقد والأخذ والرد، كان لا بد أن يتلقوا عن غير الله ورسوله من مصادر التلقي الأخرى، فظهر تباين نزعاتهم بحسب تباين مشاربهم الفكرية، فالذين أخذوا عن اليونان والصابئة - وهم الأكثرون - حكموا العقل، وإن أردت الصحة فقل: حكموا التخرصات والظنون والآراء. والذين نقلوا عن البراهمة والمجوس والنصارى حكموا الكشف والذوق، وإن شئت فقل: أضغاث الأحلام، وهوس المخبولين (¬1). لقد كانت مصيبة كبرى تلك التي جاء بها المتصوفة حينما فتحوا مصدرا جديدًا للتلقي بقاعدة (حدثني قلبي عن ربي)، وهاجموا أشد ما هاجموا أهل الحديث والأثر - رمز التمسك بالوحي - قائلين: أخذتم علمكم ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، يقول أمثالنا: حدثني قلبي عن ربي. وأنتم تقولون: حدثني فلان (وأين هو؟ ¬

(¬1) ليس هذا مبالغة، فقد نسبها ابن الجوزي إلى (الماليخوليا) أي: هستريا الأعصاب بلغة عصرنا. انظر الفصل الخاص بهم من تلبيس إبليس.

قالوا: مات) عن فلان (وأين هو؟ قالوا: مات) (¬1). فإن قيل: إن موقف الصوفية من هذه القضية معروفٌ، ولكن ما علاقة ذلك بالأشاعرة؟. فالجواب: أن ارتباط الأشاعرة بالتصوف، وامتزاج كل من المنهجين بالآخر أمرٌ يشهد له واقع نشأة كلا المذهبين وأعلام رجاله، ولسنا في مقام الإفاضة هنا، ولكننا نشير إشارات سريعة فنقول: (1) - شيخ المذهب أبو الحسن الأشعري في مرحلة ما قبل توبته ورجوعه إلى مذهب السلف - وهي المرحلة التي لا يعترف الأشاعرة بسواها، ولا يقتدون به في غيرها - كان مريدًا للصوفية، متتلمذًا على الجنيد (توفي 297هـ، والأشعري توفي 324هـ على الراجح) وها هي ذي نونية الأشعري المتعصب ابن السبكي صاحب الطبقات، نسوق شواهد منها مع الاعتذار عن الإثقال بها: وأتى أبو الحسن الإمام الأشعري ... مبينًا للحق أي بيان ومناضلًا عمَّا عليه أولئك الـ ... أسلاف بالتحرير والإتقان يقفو طرائقهم ويتبع حارثًا ... أعني محاسب نفسه بوزان (¬2) ¬

(¬1) انظر مدارج السالكين (1/ 40)، والفتوحات المكية (1/ 365)، وفتح الباري (1/ 221 - 222). (¬2) الحارث المحاسبي أول من ابتدع التأليف في الوساوس والخطرات، وله بلايا ذكرها ابن الجوزي وغيره، أَمَرَ الإمام أحمد بهجره فمات مهجورًا. وقد غمز الشيخ أبو غدة في الإمام أحمد والمحدثين بسبب موقفهم منه. انظر مقدمة رسالة المسترشدين للمحاسبي، تحقيق أبي غدة (ص18 - 19).

فلقد تلقى حسن منهجه عن الـ ... أشياخ أهل الدين والعرفان فلذاك تلقاه لأهل الله ينـ ... صر قولهم بمهندٍ وسنان مثل ابن أدهم والفضيل وهكذا ... معروفٌ المعروف في الإخوان ذو النون أيضًا والسري وبشرٌ ... بن الحارث الحافي بلا فقدان وكذلك الطائي ثم شقيق الـ ... بلخي وطيفورٌ كذا الداراني والتستري وحاتم وأبو ترا ... ب عسكر فاعدد بغير تواني وكذاك منصور بن عمار كذا ... يحيى سليل معاذ الرباني فلديهم حسن اعتقاد مثل ما ... لهمُ به التأييد يوم رهان لم لا يتابع هؤلاء وشيخه الـ ... شيخ الجنيد السيد الصمداني عنه التصوف قد تلقى فاغتذى ... وله به وبعلمه نوران ويسرد آخرين ثم يقول: وكذاك أصحاب الطريقة بعده ... ضبطوا عقائده بكل عنان وتتلمذ الشبلي بين يديه وابـ ... ـن خفيف والثقفي والكتاني وخلائق كثروا فلا أحصيهم ... وربوا على الياقوت والمرجان الكل معتقدون أن إلهنا ... متوحد فرد قديم داني حيٌ عليمٌ قادرٌ متكلمٌ ... عالٍ ولا نعني علو مكان (؟!) ثم استمر في سرد عقيدة الأشاعرة على أساس أنها اعتقاد هؤلاء جميعا (¬1). ¬

(¬1) طبقات الشافعية (3/ 380 - 381).

ونحن نعلم أن الأشاعرة كثيرًا ما يدَّعون لمذهبهم من الأعلام من ليس عليه، كما هو الشأن في هؤلاء الذين نفى عنهم شيخ الإسلام في (الاستقامة) ما نُحِلَ لهم، مستشهدًا بكلام قدماء الصوفية أنفسهم، كالكلاباذي والسلمي. ولكن شاهدنا هنا هو ارتباط الأشعرية بالتصوف في الجملة، وتلمذة أبي الحسن عليهم، وتلمذتهم عليه. 2 - تلميذه الأكبر: أبو الحسن الباهلي - الذي كان له ولزميله: أبو عبد الله بن مجاهد اليد الطولى في نشر المذهب - كانت له من أحوال الصوفية غرائب، ننقل منها ما ذكره ابن عساكر في (تبيين كذب المفتري على الإمام الأشعري)، وتبعه ابن السبكي أيضًا: وهي أنه كان يتحجب عن الرجال، وحتى عن نساء بيته، وتظهر عليه خبالات الصوفية، يقول عنه تلميذه القاضي أبو بكر الباقلاني - كما نقلا -: «كنت أنا وأبو إسحاق الإسفرائيني وابن فورك معًا في درس الشيخ الباهلي، وكان يدرس لنا في كل جمعة مرةً واحدةً، وكان منا في حجاب يرخي الستر بيننا وبينه كي لا نراه، وكان من شدة اشتغاله بالله مثل والهٍ أو مجنون (!!)، لم يكن يعرف مبلغ درسنا حتى نذكره ذلك». وقال أبو الفضل محمد بن علي الصعلكي: «كان الباهلي يُسأل عن سبب النقاب، إرساله الحجاب بينه وبين هؤلاء الثلاثة، كاحتجابه عن الكل، فإنه كان يحتجب عن كل واحد؟. فأجاب: إنهم يرون السوقة وهم أهل الغفلة، فيروني بالعين التي يرون أولئك بها (!!)». قال: «وكانت له أيضًا جارية تخدمه، فكان حالها أيضًا معه كحال

غيرها؛ من الحجاب، إرخاء الستر بينه وبينها» (¬1). فهذا شيخ المذهب الثاني، وهؤلاء التلاميذ أساطين المذهب الذين نشروه وفلسفوه، وهذا حالهم!!. (3) - كان ممن أخذ عن الباهلي وابن مجاهد وطبقتهم المتصوف أبو علي الدقاق، وله تتلمذ الصوفي المشهور أبو القاسم القشيري صاحب المصنفات الصوفية المشهورة، وتلميذ أبي عبد الرحمن السلمي، الذي نقض شيخ الإسلام كتابه (الرسالة) بكتاب (الاستقامة). وبين فيه أنه مخالفٌ لطريقة أئمة السلوك من الصوفية، فضلًا عن أئمة السلف، والقشيري هذا لا يقل افتخار الأشاعرة وتعظيمهم له عن افتخار الصوفية وتعظيمهم، فهو من علماء المذهب المشار إليهم بالبنان، وهو صاحبٌ حميمٌ لأبي المعالي الجويني في السراء والضراء، وحينما تعرض الأشاعرة للعن من فوق المنابر أيام حكم السلاجقة أسوةً بسائر المبتدعة (¬2) كتب القشيري رسالة (شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من ¬

(¬1) المصدر السابق (3/ 369)، وابن عساكر (ص187). وانظر لحال هذا المسكين واعتذاره، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرون الكفار، بل والأصنام بأعينهم، ولكنها خلوة الدين الصوفي، فقد صرحوا بأن من لم يستطع الاحتجاب الكامل عن الناس فليلفف على وجهه ورأسه عمامة كبيرة حتى لا يراه أحد ولا يرى أحدًا سوى الحق. زعموا. (¬2) انظر حول هذه القضية: تبين كذب المفتري (ص (332))، والتسعينية (ص (278))، وطبقات الشافعية ((3) / (389)).

المحنة). وهي رسالة لها قدرها عند الأشاعرة الغابرين والمعاصرين (¬1)، وابنه أبو نصر ابن القشيري هو زعيم الأشاعرة في عصره، وصاحب الفتنة التاريخية المشهورة بفتنة ابن القشيري بين الأشاعرة وأهل السنة (¬2). (4) - وفي الطبقة الثالثة للقشيري من الأشاعرة والصوفية يبرز أبو حامد الغزالي، الذي لا يشك في انتمائه أشعريٌّ ولا صوفيٌّ، وتأثر به من بعده، حتى أن تفسير الرازي ينضح بما في (الإحياء) من شطحات الصوفية، مع غلو الرازي في الكلام والعقليات، وعلى يد الغزالي «انتشر المذهب الأشعري انتشارًا كبيرًا» على حد قول الكوثري (¬3). واستبطن الغزالي كتب من سبقه من الصوفية - لا سيما المحاسبي، وأبو طالب المكي، والسلمي، والقشيري، وغيرهم - ونثرها في (الإحياء)، ممزوجة بعلم الكلام، فأسس بذلك اتجاهًا بدعيًّا متميزًا فيه خليطٌ من التجهم والباطنية والتصوف والكلام، ولعل أبرز مثال له هو تلميذه ابن تومرت، مدعي المهدية، وناشر الأشعرية في المغرب. وفي الإحياء أيضًا كتب أبو حامد (قواعد العقائد) - على المنهج الأشعري طبعًا - ووقف عند قضية ما يؤوّل وما لا يؤوّل، وحقيقة ظواهر النصوص ¬

(¬1) ذكرها صاحب الطبقات كاملة (3/ 399)، وكذا جامع الرسائل القشيرية. (¬2) انظر المنتظم لابن الجوزي (8/ 305) (9/ 3، 220)، وتبيين كذب المفتري (ص310). (¬3) مقدمة الإنصاف (ص11).

وبواطنها، والمعيار الفاصل في هذه الأمور الشائكة، فحاص هنالك وحار، ثم رجح الكشف والنور الإلهي، وجعله هو المعيار. يقول الغزالي: «وفي هذا المقام لأرباب المقامات إسرافٌ واقتصاد، فمن مسرف في رفع الظواهر انتهى إلى تغيير جميع الظواهر والبراهين أو أكثرها .. [ثم ذكر أن هؤلاء يجعلون كل ما ورد في المغيبات بلسان المقال إنما هو بلسان الحال، كما في سؤال منكر ونكير، ومناظرات أهل الجنة والنار .. الخ] وغلا آخرون في حسم الباب، منهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه .. [إلى أن يقول]: والظن بأحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه علم أن الاستواء ليس هو الاستقرار (!!)، والنزول ليس هو الانتقال (؟)، ولكنه منع من التأويل حسمًا للباب. وذهبت طائفة إلى الاقتصاد، وفتحوا باب التأويل في كل ما يتعلق بصفات الله سبحانه، وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهرها، ومنعوا التأويل فيه، وهم الأشعرية (¬1). وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا من صفاته تعالى الرؤية، و ... وجملةً من أحكام الآخرة، ولكن أقروا بحشر الأجساد، وبالجنة، واشتمالها على الملاذّ المحسوسة، وبالنار واشتمالها على جسم محسوس محرق ... ومن ترقيهم إلى هذا الحد زاد الفلاسفة، فأوّلوا كل ما ورد في الآخرة، وردوه إلى آلام عقلية وروحانية ... وأنكروا حشر الأجساد». ثم فصل بين هذه الأقوال جميعها بقوله: «وحدّ الاقتصاد بين هذا ¬

(¬1) راجع مناظرة الباطنية لهم وإلزامهم بهذا، وقد سبق ذكرها (ص100 - 102).

الانحلال كله وبين جمود الحنابلة (!) دقيقٌ غامضٌ، لا يطلع عليه إلا الموفَّقُون، الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع [أي لا بالنصوص السمعية]، ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أوَّلوه، فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد فلا يستقر له فيها قدم، ولا يتعين له موقف، والأليق بالمقتصر على السمع المجرد مقام أحمد بن حنبل رحمه الله» (¬1). فالأخذ من النصوص عنده يؤدي إلى الاضطراب، وعدم الثبات على شيءٍ، والحل الصحيح، ومعيار ما يؤخذ من الوحي وما يرد هو الرجوع إلى الكشف والذوق والنور الإلهي، مع أن كل ذي عقل يدرك أن هناك إحالة على شيءٍ أكثر اضطرابًا، بل أبعد تصورًا من هذا. وعلى هذا اعتبر كثيرٌ من متصوفي الأشاعرة القدامى والمعاصرين علماء السلف - كأحمد بن حنبل، والبخاري، وأمثالهما - علماء شريعة، أما المحاسبي والغزالي ومن نهج نهجهم علماء حقيقة (¬2). وعلم الحقيقة عندهم هو كاسمه علم الحقائق، لا الظواهر الزائفة التي يقف عندها علماء الشريعة من المحدثين والفقهاء، وهو المسمَّى (العلم اللدنّي)، الذي يتلقونه بزعمهم عن الحي الذي لا يموت (¬3)، وإن ¬

(¬1) الإحياء (1/ 178 - 180). (¬2) انظر جولات في الفقهين الكبير والأكبر. (¬3) الصوفية صادقون في قولهم: إنهم لا يأخذون علمهم ميتًا عن ميت. لكنهم لا يأخذون عن الحي الذي لا يموت، بل عن الحي الذي أنظره الله تعالى إلى يوم يبعثون!.

شئت معرفة هذا المصدر والمعيار فاقرأ ما قاله الغزالي في (الرسالة اللدنية): «اعلم أن العلم الإنساني يحصل من طريقين: أحدهما: التعلم الإنساني. والثاني: التعليم الرباني ...». ثم قال: «الطريق الثاني - وهو التعليم الرباني - على وجهين: الأول: إلقاء الوحي، وهو أن النفس إذا كملت ذاتها يزول عنها دنس الطبيعة، ودرن الحرص والأمل، وينفصل نظرها عن شهوات الدنيا، وينقطع نسبها عن الأماني الفانية، وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها، وتتمسك بجود مبدعها، وتعتمد عزم إفادته، وفيض نوره. والله تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالًا كليًّا، وينظر إليها نظرًا إلهيًّا، ويتخذ منها لوحًا، ومن النفس الكلي (؟) قلمًا، وينقش فيها جميع علومه، ويصير العقل الكلي (؟) كالمعلم، والنفس القدسية (؟) كالمتعلم، فيحصّل جميع العلوم لتلك النفس، وينقش فيها جميع الصور من غير تعلم وتفكر ...». وبعد هذا التفسير القرمطي (¬1) للوحي. ينتقل للوجه الثاني فيقول: ¬

(¬1) في مثل هذه المسألة تلتقي الصوفية والنصرانية والباطنية في التلقي والاستمداد من (الأفلاطونية الحديثة)، وهي مدرسة وثنية فلسفية ظهرت قبل المسيح عليه السلام، من أساطيرها أن المنشئ الأزلي الأول تولد منه (العقل الكلي)، وعنه فاض (الروح الكلي)، أو (النفس الكلية)، ومنها تستمد جميع الأرواح والعقول. وعن هذا الثالوث الوثني الخرافي عبرت الطوائف المذكورة كلٌّ بحسب اصطلاحه. وكلام الغزالي هذا تجده بنصه، أو بمعناه في رسائل بولس (مؤسس النصرانية المنحرفة)، ورسائل إخوان الصفا الباطنية، وله أيضًا اقتباسات أخرى من مصطلحاتهم أدخلها في العقيدة معبرًا عنها بألفاظ قرآنية، مثل: الملكوت، والجبروت، والميزان. نبه إليها شيخ الإسلام في الرد على المنطقين (ص (488)) وغيره. ونبه رحمه الله أن من يسمون فلاسفة الإسلام استخدموا جمال الألفاظ القرآنية والتعبيرات العربية في تزويق وتمويه الفلسفة الوثنية، ولولا هذا ما قبلها من المسلمين ... أحد. وانظر إلى كلام الغزالي أعلاه حيث جعل للعلاقة الأفلاطونية بين العقل والنفس الكليين صبغة إسلامية؛ إذ شبهها بتولد حواء من آدم عليه السلام، تمامًا كما فعل بولس الذي عبر عنها بتولد الابن من الأب ... تعالى الله ودينه عن هذه الوثنيات ...

«الوجه الثاني: هو الإلهام، والإلهام: تنبيه النفس الكلية للنفس الجزئية الإنسانية على قدر صفائها وقبولها وقوة استعدادها. والإلهام أثر الوحي، فإن الوحي هو تصريح الأمر الغيبي، والإلهام هو تعريضه، والعلم الحاصل عن الوحي يسمَّى علمًا نبويًّا، والذي يحصل عن الإلهام يسمَّى علمًا لدنيًّا. والعلم اللدني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري (؟)، وإنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على قلبٍ صافٍ فارغ لطيف. وذلك أن العلوم كلها حاصلة معلومة في جوهر النفس الكلية الأولى الذي هو في الجواهر المفارقة الأولية المحضة بالنسبة إلى العقل الأول كنسبة حواء إلى آدم عليه السلام، وقد بين أن العقل الكلي أشرف

وأكمل وأقوى وأقرب إلى الباري تعالى من النفس الكلية (؟) والنفس الكلية أعز وألطف وأشرف من سائر المخلوقات (؟)، فمن إفاضة العقل الكلي يتولد الإلهام، ومن إشراق النفس الكلية يتولد الإلهام. فالوحي حلية الأنبياء، والإلهام زينة الأولياء. فأما علم الوحي فكما أن النفس دون العقل فالولي دون النبي، فكذلك الإلهام دون الوحي فهو ضعيف بنسبة الوحي، قوي بإضافة الرؤيا. والعلم علم الأنبياء والأولياء، فأما علم الوحي فخاصٌّ بالرسل، موقوف عليهم كما كان لآدم وموسى عليهما السلام وإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم وغيرهم من الرسل. وفرق بش الرسالة والنبوة: فالنبوة قبول النفس القدسية حقائق المعلومات والمعقولات عن جوهر العقل الأول. والرسالة تبليغ تلك المعلومات والمعقولات إلى المستفيدين والقابلين (¬1). وربا يأتي القبول لنفسٍ من النفوس، ولا يأتي لها التبليغ؛ لعذرٍ من الأعذار، وسببٍ من الأسباب (!!!!) (¬2). ¬

(¬1) عجبا لهذه القرمطة في موضوع الوحي، وعجبًا أكبر لمن يجعل كتب الغزالي منهجًا لتريية الشباب على الإسلام، ويقول: إنه أعظم مفكر عرفه العالم، كالشيخ سعيد حوى. انظر: جند الله تعالى ثقافة وأخلاقًا. (¬2) ومن هذه الأسباب الخوف، وقد صرح كثير من الصوفية أنه إنما يمنعه من التصريح بفيوضاته وإلهاماته خوفه من أن يقال: إنه زنديق. فَيُقْتَل، كما قتل الحلاج، والسهروردي. يقول ابن عربي: يا رب جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا فتأمل كلام الغزالي، وانظر أي باب فتحه لهم، وأي فرق - حسب كلامه - بين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة القادياني، ومحمد محمود طه؟!!.

والعلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية، كما كان للخضر عليه السلام حيث أخبر الله تعالى عنه فقال: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: (65)] (؟). وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (أدخلت لساني في فمي (؟؟)، فانفتح في قلبي ألف باب من العلم، مع كل باب ألف باب [فالمجموع مليون باب!!]. وقال: لو وُضعت في وسادة وجلست عليها لحكمت لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، ولأهل القرآن بقرآنهم» (¬1). ¬

(¬1) حاشا لله أن يقول علي رضي الله عنه هذا الإفك، الذي اختلقته الشيعة منذ عصر مؤسسها عبد الله بن سبأ اليهودي. وقد كذبهم بنفسه رضي الله عنه، كما روى البخاري ومسلم أنه سأله أكثر من واحد عن هذه الدعاوى السبئية قائلين: هل خصَّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم؟ فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهمًا يفهمه مسلم في كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، فأخرجها فإذا فيها الدية، وفكاك الأسير، وألا يقتل مؤمن بكافر. له روايات صحيحة متعددة، انظر فتح الباري (1/ 204). ثم انظر كيف وضع قدامى الماسونية هذا الكلام لثبتوا مذهبهم الخبيث في وحدة الأديان، وأنها كلها طرائق إلى مهندس الكون الأزلي، وهي دعوى يهودية لها ما وراءها، كقول الحلاج: تفكرت في الأديان جدًّا محققًا ... فألفيتها أصلًا له شُعَبٌ جَمَّا ... إلى آخر الأبيات. وإلا فكيف يحكم علي رضي الله عنه بالتوراة والإنجيل، وقد نسخهما القرآن، وحرفتهما أفاعي التلمود وتلامذة بولس.

وهذه مرتبةٌ لا تنال بمجرد التعلم الإنساني، بل يتحلى المرء بهذه المرتبة بقوة العلم اللدني». ثم ذكر حكاية أخرى موضوعة عن علي رضي الله عنه وقال: «فإذا أراد الله تعالى بعبده خيرًا رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس التي هي اللوح، فيظهر فيها أسرار بعض المكنونات، وانتقش فيها معاني ذلك المكنونات، فتعبر عنها كما تشاء لمن يشاء من عباده ...». ثم قال: «لأن الواصلين إلى مرتبة العلم اللدني مستغنون عن كثرة التحصيل وتعب التعليم، فيتعلمون قليلًا، ويعلمون كثيرًا، ويتعبون يسيرًا، ويسترحيون طويلًا» (¬1). أما وسيلة الحصول على هذا العلم فهي الخلوة الطويلة، والاحتجاب عن الخلق، مع عدم مشاغلة النفس بأي شيءٍ حتى قراءة القرآن وكتابة الحديث، كما صرح الغزالي وغيره (¬2)، وأرقى من ذلك عندهم أن يظل يكرر: (هو .. هو ..) وهو واقفٌ على رأسه أيامًا وليالي حتى يسمع أو يرى من يخاطبه، فيتلقى منه، وهذه طريقة الحلاج، وأبي ¬

(¬1) الرسالة اللدنية، ضمن: القصور العوالي من رسائل الغزالي (1/ 114 - 118)، تحقيق محمد مصطفى أبو العلا. (¬2) انظر: ولاية الله والطريق إليها، إبراهيم إبراهيم هلال (ص61 - 168).

سعيد الفارسي (¬1)!!. وأكثر الناس حبًّا للصوفية، ودفاعًا عنهم من القدامى والمعاصرين إنما يعتذر لهم عن هذا المسلك الوثني الشائن بأنهم سئموا تعقيدات علم الكلام وجفافه، فهربوا منه إلى نداوة الوجد والذوق والإلهام، فأما جفاف علم الكلام وتعقيده فلا نشك فيه، ولكن ما الذي ألجأهم للاصطلاء بناره أوَّلًا، ونور النبوة بأيديهم غضٌّ طريٌّ، ثم إذْ ذاقوا حرَّها لِمَ فروا إلى أشد منها، ولم يرجعوا إلى الوحي؟!. فليس لهم عذر، لا أوَّلًا ولا آخرًا. حقًّا: لقد نقد المتصوفة علماء الكلام، ولكن لماذا وبماذا؟. استمع إلى قول عبد الرحمن الجامي من صوفية وأشعرية القرن التاسع (¬2): «القول في وحدته: لما كان الواجب تعالى عند جمهور المتكلمين حقيقةً واحدةً موجودةً بوجودٍ خاص، وعند شيخهم [يعني: الأشعري] والحكماء [يعني الفلاسفة كما تكرر] وجودًا خاصًّا، احتاجوا في إثبات وحدانيته ونفي الشريك عنه إلى حجج وبراهين، كما أوردوها في كتبهم. وأما الصوفية القائلون بوحدة الوجود، فلما ظهر عندهم أن حقيقة الواجب تعالى هو الوجود المطلق (؟!) لم يحتاجوا إلى إقامة الدليل على توحيده، ونفي الشريك عنه، فإنه لا يمكن أن يتوهم فيه إثنينية ¬

(¬1) انظر: أسرار التوحيد، ترجمة إسعاد قنديل (ص52). (¬2) انظر ترجمته في الأعلام للزركلي (3/ 296).

وتعدد من غير أن يعتبر فيه تعين وتقيّد، فكل ما يشاهد أو يتخيل أو يتعقل من المقصود، فهو الموجود، أو الوجود الإضافي لا المطلق». فانظر إلى هذا الكفر الصراح الناشئ عن منهجهم الذي قال عنه: «ثم إن مستند الصوفية فيما ذهبوا إليه هو الكشف والعيان، لا النظر والبرهان» (¬1)؛ لتعلم أن المتكلمين أخف منهم شرًّا، وأن دفاع المدافعين عنهم أمرٌ له خبئٌ. والله المستعان. ولقد استخدمت الصوفية الكشف والذوق لا مصدرًا للتلقي الروحاني - كما يسمونه - فحسب، بل معيارًا للحكم على نصوص الشرع، فيقبلون ما وافقه، ويؤولون ما خالفه - كما تقدم في كلام الغزالي - بل اتخدوه حَكَمًا للحكم بتصحيح الأحاديث أو تضعيفها، وهو منهج خطر ردوا به الصحاح وأثبتوا الموضوعات. وإليك هذا المثال من كتب عقيدة الأشاعرة: يغلو المتصوفة في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ويرفعونه إلى درجة الألوهية، كما هو معلومٌ من كتبهم، مشهورٌ من أقوالهم، ومن ذلك زعمهم أنه كان نورًا قبل أن تخلق السماوات والأرض، في تسلسل نورًا في ظهور آبائه وأجداده حتى ولد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن جميع آبائه وأمهاته إلى آدم مؤمنون من أهل الجنة قطعًا، فلما صدمهم أهل السنة بما صحَّ في الأحاديث ¬

(¬1) الدرة الفاخرة (ص202 - 207) وهي مطبوعة بآخر أساس التقديس للرازي، والرابطة بينها وبين الأساس لا تخفى!!.

نحو: (إن أبي وأباك في النار) (¬1). اختلقوا حديثًا: (إن الله أحيا أبوي فآمنا). فلما بين أهل السنة درجة الحديث قالوا: حبا الله النبي مزيد فضل ... على فضل وكان به رؤوفا فأحيا أمه وكذا أباه ... لإيمانٍ به فضلًا منيفا فصدّق فالقديم بذا قدير ... وإن كان الحديث به ضعيفا فلما قيل له: إن هذا تناقضٌ! إذ كيف يصدق وهو ضعيف؟! قالوا: (إن هذا الحديث قد صح عند أهل الحقيقة بطريق الكشف). وأنشدوا: أيقنت أن أبا النبي وأمه ... أحياهما الرب الكريم الباري حتى له شهدا بصدق رسالة ... صدِّق فتلك كرامة المختار هذا الحديث ومن يقول بضعفه ... فهو الضعيف عن الحقيقة عاري (¬2) فإذا كان الكشف والذوق يحكم بما يجب تأويله وما يجوز، وما يجب اعتقاده وما لا يصح، وما يثبت من الأحاديث وما يرد، فماذا بقي للكتاب والسنة، وفِيمَ عناء علماء الحديث قديمًا وحديثًا، ولِمَ إفناء الأعمار في طلب العلم وتأسيس الجامعات، والعلم اللدني ما يزال يفيض على قلوب العارفين؟!. وهكذا يتردد المذهب الأشعري بين تحكيم العقل وتحكيم الذوق والكشف، واعتبارهما مصدر التلقي في أهم وأعظم القضايا، وهي قضايا العقيدة. ¬

(¬1) أخرجه مسلم ((347)). (¬2) انظر شرح الباجوري على الجوهرة (ص (28))، وحاشية الغمراوي (ص55).

ومع وضوح ذلك بالأدلة - كما سبق - لا نستبعد أن يسأل سائل فيقول: ولكن الأشاعرة لم يكفروا بالنصوص، ولم ينكروها؟. ونحن نقول: إن الكفر بالنصوص وإنكارها كفرٌ برأسه، دونما حاجة إلى لوازم وإلزامات، ونحن لا نكفّر الأشاعرة، ولا نقول: إن سبب الكفر الوحيد هو إنكار النصوص والتكذيب بها، ولكننا نسأل كل من يرد عليه السؤال: من خلال ما تقدم من كلام الأشاعرة، ماذا تتوقع أنهم تركوا للنصوص، وما هي منزلتها وقيمتها عندهم؟. عندما قال ابن القيم رحمه الله: «إنهم أنزلوا النصوص منزلة الخليفة في هذا الزمان، له السكة والخطبة، وما له حكم نافذ، ولا سلطان» (¬1). وعندما قال شيخ الإسلام رحمه الله: «إن هذا في الحقيقة عزلٌ للرسول، واستغناء عنه، وجعله بمنزلة شيخ من شيوخ المتكلمين، أو الصوفية. فإن المتكلم مع المتكلم، والمتصوف مع المتصوف يوافقه فيما علم بنظره وكشفه. بل ما ذكروه فيه تنقيصٌ للرسول عن درجة المتكلم والمتصوف، فإن المتكلم إذا قال نظيره شيئًا، ولم يعلم ثبوته، ولا انتفاءه، لا يثبته ولا ينفيه، وهؤلاء ينفون معاني النصوص ويتأولوها، وإن لم يعلموا انتفاء مقتضاها» (¬2). ¬

(¬1) انظر مدارج السالكين (1/ 40). (¬2) التسعينية (ص258). وقد سبق مصداق ذلك من قولهم: إن المعارض العقلي لا يعلم انتفاؤه بمجرد عدم الوجدان!!.

ألم يكونا - رحمهما الله - صادقين منصفين، إن لم نقل متساهلين!. بل نقول: إن من اقتصر على هذا القدر يكون متساهلًا في حق الأشاعرة المتأخرين الذين صرحوا بأن الأخذ من الكتاب والسنة أصلٌ من أصول الكفر، فهؤلاء أعظم مصيبةً وبلاءً ممَّن تحدث عنهم شيخا الإسلام. الحقيقة أن موقف الأشاعرة - في جملتهم - من النصوص يذكرنا بموقف ابن عبد ياليل الثقفي من النبي صلى الله عليه وسلم لما عرض عليه الدعوة فقال: (إن كنت رسولًا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، وف كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك) (¬1). بل - لعمر الله - إن هؤلاء مع إيمانهم بالرسول أشد موقفًا منه من وجه، فإنهم قالوا: إن كان ما جئتنا به وصلنا متواترًا أوَّلناه حسب قواطعنا العقلية، وأذواقنا الكشفية، وإن وصلنا آحادًا رددناه بالجملة، فهو أهون من أن نتشاغل به (¬2)!!. وقد أحسن شيخ الإسلام رحمه الله، وشفى في الإلزام القاطع الذي ألزم به الأشاعرة في (الفتوى الحموية)، وتعرض بسبب ذلك للبلاء العظيم منهم على ما هو معروف في سيرته. قال رحمه الله: «لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو ¬

(¬1) سيرة ابن هشام (2/ 33)، تحقيق الهراس. (¬2) انظر كلام الرازي والجويني المتقدم.

الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بمقتضى قياس عقولهم ما دلَّ عليه الكتاب والسنة نصًّا ظاهرًا، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقرير!!. بل كان وجود الكتاب والسنة ضررًا محضًا في أصل الدين!. فإن حقيقة الأمر - على ما يقوله هؤلاء -: إنكم يا معشر العباد، لا تطلبوا معرفة الله عز وجل، وما يستحقه من الصفات نفيًا وإثباتًا، لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم، فما وجدتموه مستحقًّا له من الصفات فصفوه به، سواءً كان موجودًا في الكتاب والسنة، أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقًّا له في عقولكم، فلا تصفوه به ... وما نفاه قياس عقولكم فانفوه، وإليه عند التناع فارجعوا، فإنه الحق الذي تعبدتكم به. وما كان مذكورًا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، ويثبت ما لم تدركه عقولكم، فاعلموا أني أمتحنكم، لا لتعلموا بتنزيله، ولا لتأخذوا الهدى منه، ولكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، أو (¬1) أن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيء من الصفات» (¬2)!!. ¬

(¬1) في الأصل: (و). ورجحت (أو)؛ لأنه ذكر أنهم فريقان: فريق يؤول الصفات، وفريق يفوضها، وهذه هي حقيقة مذهبهم التي قال عنها صاحب الجوهرة: وكل نص أوهم التشبيها ... فوضه أوْ أوَّل ورُمْ تنزيها (¬2) الفتوى الحموية (ص11).

وهنا - في ختام هذا الفصل - أجدني مضطرًّا للنقل عن الأشاعرة المعاصرين، وسوف أقتصر على مؤلف واحد، تبيّن لي أن معظم الأشاعرة في بلاده - مثل وهب غاوجي، وسعيد حوى، ومحمد علي الصابوني، وغيرهم - إنما اقتبسوا من كلامه، ألا وهو الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي. يستفتح الدكتور البوطي بإهداء كتابه بما يشبه الشعر الحر قائلا: «إلى كل حرٍّ يضع عقيدته من وراء عقله .. ويطلق عقله من أسر إرادته .. ويفكر ليختار الذي يريد .. ولا يريد ليفرض على عقله كيف يفكر .. أهدي هذا الكتاب ...». ويقول في مقدمة الطبعة الثانية عن المنهج المنطقي الكلامي: «يتحدث البعض عن منهج القرآن، وضرورة الاستعاضة عن هذا كله بمنهج القرآن، ونحن نقول لهؤلاء الإخوة: لا تنافي بين المنهجين، ولا تعطيل لأحدهما على حساب الآخر» (¬1)!!. ثم يمضي في تقرير ذلك بما لا نريد الإثقال به. ويقول في مقدمة الطبعة الأولى: «الحمد لله فاطر السماوات والأرض .. خلق الإنسان وشرفه بحمل أمانة العقل ... أرسل الرسل والأنبياء يتوالون مع الزمن في كل أمة وبقعة ومحيط: أن ذكّروا الناس ¬

(¬1) كبرى اليقينيات الكونية (ص17 - 19).

بما أوليته من أمانة العقل، وما رفعته إليه من شرف السيادة والرياسة في الكون (¬1) ... سبحانه جعل العلم بمكنونات خلقه هو السبيل إلى الإيمان بوجوده، وجعل مقاليد العلم بذلك كله إلى سلطان العقل وحده. .». وتستمر المقدمة كلها في تمجيد العقل، والدفاع عن علم الكلام، وأنه قائمٌ على موازين الفكر العقلي المطلق، وموازين الفلسفة اليونانية، ويختمها بكلام قال فيه: «وإنه لجديرٌ بمن كانت حياته قطارًا يمر به دون هدوءٍ إلى الموت، أن يبحث في تلك النهاية الغامضة وما وراءها، وما يتعلق بها بحثًا متجردًا، لا يقوم إلا على هدى العقل وحده. . .» (¬2). وقال: «إنه بقدر ما تكون الغاية صافية سليمة لا حكم فيها إلا للعقل وحده، يكون المنهج إلهيًّا صافيًا سليمًا أيضًا، لا يخطه إلا العقل وحده» (¬3). ولست بصدد نقد الكتاب، ولا عرض منهجه، ولكن أكتفي بإيراد قضيةٍ واحدةٍ، وهي كافيةٌ لمن أراد الاستشهاد، ألا وهي قضية العمل بأحاديث الآحاد الصحيحة في العقيدة. يقول في مقدمة الكتاب في بيان الأصول المنهجية التي التزم بها: ¬

(¬1) هذا من القول على الله بغير علم، فبأي كتاب أم بأي سنة علم أن الله بعث رسله بهذا؟!!. (¬2) (ص25). (¬3) (ص31).

«ثالثًا: عدم الإطناب في ذكر الأمور التي لم يثبت فيها دليلٌ قطعيٌّ، وبرهانٌ يقينيٌّ، بل لعلي لن أتعرض لكثيرٍ منها، إذ المجال هنا مختصٌّ بتلك الأمور التي قامت على القطع واليقين، فكانت بذلك من مقومات العقيدة التي لا يسع المسلم إنكارها أو تجاهلها، ومن المعلوم أن لليقينيات منهجًا مختصًّا بها، لا ينبغي أن يستبدل به غيره في سبيل الوصول إليها». وقد وفَّى الدكتور بما التزم، فلم يتعرض في كتابه إلا للصفات السبع التي يثبتها الأشاعرة بمقتضى العقل (¬1)، أما الصفات الواردة في السنة فلم يتعرض لها إطلاقًا، بل أعلن منهجه في السنة قائلًا: «إذا كانت السلسلة التي توفرت فيها مقومات الصحة مكونة من آحاد الرواة الذين ينتقل الخبر عنهم، فهو لا يعدو أن يكون خبرًا ظنيًّا في حكم العقل، وإذا كانت حلقات السلسلة مكونة من راويين أو ثلاثة رواة فهو لا يزال خبرًا ظنيًّا، ولكن ظنٌّ قويٌّ يداني اليقين. أما إذا غدت كل حلقة من الحلقات من الكثرة جموعًا يطمئن العقل إلى أنها لا تتواطأ على الكذب، فإن الخبر المروي عندئذ يكتسب صفة اليقين، وهو ما يسمى بالخبر المتواتر». ثم يأتي إلى بيت القصيد فيقول: «فأما الظني من الخبر الصحيح، فلا يعتدُّ به في الحكم الإسلامي في بناء العقيدة؛ لأنه إنما يفيد الظن، ولقد نهى القرآن الكريم في مجال البحث عن العقيدة عن اتباع الظن ¬

(¬1) انظر (ص100 - 107).

كما رأيت (¬1)، ولكن يعتدُّ به في نطاق الأحكام العملية ... غير أن اليقين من الخبر الصحيح - وهو ما يسمى بالخبر المتواتر - هو وحده الذي يعتدُّ به في بناء العقيدة والمدركات اليقينية، بمعنى أن الإنسان لا يجبر على الاعتقاد بشيءٍ خبري إلا إذا كان قائمًا على برهان التواتر، فإن كان دليله خبر آحاد كان اليقين به عائدًا إلى القناعة الشخصية التي يراها من نفسه» (¬2). فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لقد تعددت الظباء على خراش، فمن تحكيم العقل إلى تحكيم الذوق والكشف، إلى تحكيم القناعة الشخصية!!. إن مقتضى كلام الدكتور أنه إذا أتينا لأحدٍ بحديث مروي بالسلسلة الذهبية في الصحيحين، فقال لنا: إن قناعتي الشخصية ترفض الإيمان به. فإن هذا الرجل مفكرٌ حرٌّ، يضع عقيدته من وراء عقله (¬3)، ورجل ¬

(¬1) هذا عين كلام الرازي، وعين خطئه - الذي أشرنا إليه - في مفهوم كلمة (الظن) بين الاصطلاح الأصولي والمعنى اللغوي الذي جاء في القرآن. وإذا كان العقل الذي يمجده البوطي في كل مبحث من كتابه هو هذا الذي يرد ما ثبت في الصحيحين مستندًا إلى قوله تعالى عن الكفار: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}. فالجنون المحض - لعمر الله - خيرٌ منه؛ إذ صاحبه معافى من المؤاخذة، وهؤلاء يتجرأون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬2) (ص (32) - (33)). (¬3) والذي إليه أهدى الدكتور كتابه.

يقيني لا يتبع طريقة الكفار الذين قال الله فيهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 116]. والرثاء كل الرثاء للبخاري المسكين، فما كان أغناه أن يجهد نفسه فيختار صحيحه من مائة ألف حديث، ويغتسل ويصلي ركعتين، ويستخير عند كتابة كل حديث منه، وما هي إلا أحاديث آحاد، تردها القناعات الشخصية عند فحول المفكرين في القرن العشرين!!. اللهم إنا نشهدك أننا نفع عقولنا وراء وحيك، ولا نقدم بن يديك ويدي رسولك، فأحينا على ذلك، وتوفنا عليه.

مصادر ومعايير أخرى

مصادر ومعايير أخرى التلقي المباشر قد لا يصعب على العقل أن يتصور فرقة إسلامية - كالأشاعرة - تتخذ من العقل أو الذوق مصدرًا للتلقي، ومعيارًا للحكم. نعم إن الأمر جد صعب، ولكن ما العمل إذا كان هذا مبلغهم من العلم، وغاية وقارهم لله ورسوله!. أما الذي يصعب على العقل تصوره أو تصديقه، فهو أن يتخذ أحد من الناس كلام اليهود والمشركين مصدرًا للتلقي، ومعيارًا للحكم، يتلقى منه أخطر قضايا العقيدة، ويحكّم كلامه في كلام الله ورسوله. ولا يفعل ذلك بطريق العقل الباطن، أو لمجرد توافق الأدلة، ولكن يستدل به موثقًا نسبته لقائله، واعيًا ما يصنع، عارفًا لما يقول (¬1). والأشاعرة يأتون في هذا بما يعجب له المرء أيما عجب، ويثير تساؤلات شتى: أهذا انبهارٌ شديدٌ بما عند الكفار؟ أم أن القوم فيهم مغرضون منافقون أسسوا لهم ذلك، ثم تابعهم غيرهم بلا بصيرة؟ أم ماذا؟. ليس في الإمكان هنا الإجابة على هذه الأسئلة، ولا تفسير هذه الظاهرة، وحسبنا عرضها للقارئ! ولقد حاولت في بداية كتابتي عن ¬

(¬1) ولهذا لم نعقد مقارنات بين أصول الأشاعرة والأفكار الأصلية لها، لنرى مدى انحدارها وعلاقتها، وإنما اكتفينا بالنقل الصريح من كتبهم.

الأشاعرة ومصدر التلقي عندهم أن أحصر المواضع التي يستمد الأشاعرة فيها من الفلاسفة ونحوهم استمدادًا نصيًّا صريحًا، وأخذت في تجميعها، وما كدت أمضي قليلًا حتى تبينت أن عملي هذا شبيهٌ بحصر موج البحر، أو ذرات الرمل، فإن هذا مما تتكرر في كل مبحث، وفي كل كتاب، وعلى لسان كل مؤلف. ولهذا ضربت صفحًا عن الحصر والإحصاء، مكتفيًا بأمثلةٍ يسيرة، تاركًا لمن شاء الاستزادة أن يمد يده لأي مؤلَّفٍ أشعريٍّ في العقيدة، فيرى بأمِّ عينه النقول والاستمدادات عن مشركي اليونان، الذين أفسدوا أديان الأمم جميعها، وعن الصابئة عبدة الكواكب، بل عن اليهود، وما أدراك ما اليهود؟ على أنني أنبه من أراد ذلك إلى أنه لن يجدهم موصوفين بما ذكرت، بل بكونهم (الحكماء)، (الإلهيين)، (أساطين الفلسفة)، (الجهابذة)، (المعلم الأول). وأمثالها مما لا ذم فيه، بل فيه التقدير والتمجيد حتى في المواضع التي يخالفونهم فيها، بخلاف معاملتهم لعلماء أهل السنة، فإنهم غالبًا لا يذكرونهم بخير حتى في المواضع المتفق عليها بين الفريقين!!. ولنبدأ بمسألة (التوحيد) لأهميتها: يقول الآمدي: «فمما ذهب إليه (المعلم الأول)، ومن تابعه من الحكماء المتقدمين، وقفا آثره من فلاسفة الإسلاميين: أن الباري تعالى

واحدٌ من كل جهة، وأنه لا يلحقه الانقسام والكم بوجه ما» (¬1). وغني عن البيان أن هذا القدر من كلام معلّم الوثنية الأول، هو توحيد الأشاعرة المنصوص عليه في كتبهم قاطبة كما سترى. فعلى هذا المعنى للتوحيد سار أبو المعالي الجويني في (كتاب التوحيد)، وهو جزءٌ ضخمٌ من كتاب (الشامل) له (¬2). وقال في (الإرشاد): «باب العلم بالوحدانية: الباري سبحانه وتعالى واحدٌ، والواحد في اصطلاح الأصوليين: الشيء الذي لا ينقسم ... والرب سبحانه وتعالى موجودٌ فردٌ متقدسٌ عن قبول التبعيض والانقسام، وقد يراد بتسميته واحدًا أنه لا مثل له ولا نظير، ويرتب على اعتقاد حقيقة الوحدانية إيضاح الدليل على أن الإله ليس بمؤلّف؛ إذ لو كان كذلك - تعالى الله عنه وتقدس - لكان كل بعض قائمًا بنفسه، عالمًا حيًّا قادرًا، وذلك تصريحٌ بإثبات إلهين» (¬3). ثم سار الشهرستاني حيث يقول في الموضوع نفسه: «قال أصحابنا: الواحد هو الشيء الذي لا يصح انقسامه؛ إذ لا تقبل ذاته القسمة بوجهٍ من الوجوه، ولا تقبل الشركة بوجه، فالباري تعالى واحدٌ. في ذاته لا قسيم له، وواحدٌ في صفاته لا شبيه له، وواحدٌ في أفعاله لا شريك له» (¬4). ¬

(¬1) غاية المرام (ص233). (¬2) الشامل (ص345 - 486). (¬3) الإرشاد (ص52). (¬4) نهاية الإقدام (ص90).

ثم سار الآمدي حيث اقتصر على هذا المفهوم للتوحيد في الفصل الذي عقده بعنوان: «القانون الثالث في وحدانية الله تعالى» (¬1). وتبعهم السنوسي فقال: «اعلم أن المراد من كونه جل وعلا واحدًا، نفي قبوله الانقسام، ونفي نظيرٍ له تعالى في الإلوهية، وحاصله نفي الكمية المتصلة، والكمية المنفصلة، وفي معنى نفي نظير له تعالى في الألوهية نفي شريك معه في جيع الممكنات، فلا مؤثر في جميعها سواه، فهو الواحد في ذاته، أي غير مؤلف من جزأين فأكثر، والواحد في صفاته فلا مثل له ولا نظير، والواحد في أفعاله فلا شريك له فيها، ولا ضد، ولا وزير» (¬2). وبنحوه قال أيضًا في (أم البراهين) حيث شرحها الدسوقي قائلًا: «اعلم أن المولى منفيٌّ عنه الكم المتصل في الذات، وهو تركب ذاته من أجزاء، والكم المنفصل في الذات، وهو أن يكون هناك ذاتٌ مماثلةٌ لذاته تعالى، والكم المتصل في الصفات، وهو تعدد كل صفة من صفاته، كأن يكون له علمان وقدرتان ... إلخ، والكم المنفصل في الصفات، وهو أن يكون هناك لغيره من الحوادث صفات كصفاته، كأن يكون لغيره قدرة مثل قدرته تعالى ...» (¬3). وقال البيجوري في رسالته في علم التوحيد: «ويجب في حقه ¬

(¬1) غاية المرام (ص149 - 155). (¬2) السنوسية مع الحواشي (ص304). (¬3) حاشية الدسوقي على أم البراهين، طبع المكتبة التجارية (ص (89)).

تعالى الوحدانية في الذات، وفي الصفات، وفي الأفعال، ومعنى الوحدانية في الذات أنها ليست مركبة من أجزاء متعددة، ومعنى الوحدانية في الصفات أنه تعالى ليس صفتين فأكثر من جنس واحد كقدرتين ... وهكذا، وليس لغيره صفة تشابه صفته تعالى، ومعنى الوحدانية في الأفعال أنه ليس لغيره فعل من الأفعال». قال: «ووضدها (أي الوحدانية) المتعدد، والدليل على ذلك أنه لو كان متعددًا لم يوجد شيء من هذه المخلوقات» (¬1). ثم ننتقل للمعاصرين فنجدهم يقتصرون في معنى التوحيد على هذه المعاني نفسها، أو على بعضها، فالبوطي يقول ضمن الصفات السلبية (¬2): «الوحدانية: ومعناها سلب تصور الكمية في ذاته وصفاته سبحانه وتعالى، سواء الكمية المتصلة والكمية المنفصلة، أي فهو سبحانه وتعالى ليس مركبًا من أجزاء، ولا مكونًا من جزيئات، وكذلك صفاته». ثم استرسل في شرح الجزء والجزئي وقال: «فالمقصود بوحدانية الله أن تعلم بأنه سبحانه وتعالى ليس كلًّا مركبًا من أجزاء، ولا كليًّا مكونًا من جزئيات» (¬3). ويقول وهبي غاوجي: «الوحدانية: معناها سلب تصور الكمية فيه ¬

(¬1) مجموع مهمات المتون (ص40 - 41). (¬2) تقسيم الصفات إلى سلبية ووجودية هو أيضًا منقول عن الفلاسفة، ولا بد أن القارئ سيأخذه العجب من الذين يجعلون غاية التوحيد هي سلب التعدد الكمي والكيفي عن الله!!. (¬3) كبرى اليقينيات الكونية (ص92 - 93).

سبحانه، فهو ليس مركبًا من أجزاء،: بحيث لا يصدق اسم الذات عليه حتى تتكامل أجزاؤه، ولا من جزيئات حتى يندرج تحت الجنس الذي يصدق على كثيرين متفقين في الحقيقة مختلفين في النوع كالحيوان» (¬1). ثم استمر في كلام قريب من كلام البوطي والسنوسي. أما سعيد حوى فيعقد فصلًا خاصًّا بعنوان (التوحيد) يبحث كله في نفي التثنية كما قرر في أوله قائلًا: «القول بالتعدد يمكننا أن نختصره بالتثنية، فإن ثبتت التثنية صح التعدد من غير حصر، وإن بطلت بطل التعدد أصلًا ولزم التوحيد» (¬2). وفي مبحث الصفات وافق صاحبيه على أن الوحدانية صفة سلبية (¬3) قائلا: «اعمران بالصفة سلبية بالنسبة للذات الإلهية الصفات التي تدل على سلب ما لا يليق به سبحانه وتعالى؛ كالوحدانية» (¬4). فهذه نقولٌ متصلةٌ عن قدماء المذهب ومعاصريه، تتفق كلها في استمداد أعظم حقيقة من حقائق هذا الدين الرباني المحفوظ - وهي التوحيد - وتلقيّها من معلم الوثنية الأول أرسطو (¬5)!. ¬

(¬1) أركان الإيمان (ص30)، وتأثره بمنطق المعلم الأول واضح. (¬2) الله جل جلاله (ص131)، والفصل يمتد من (ص130 - 139). (¬3) هذا مع أنهم نقلوا عن بعض قدمائهم كالباقلاني والجويني أنها صفة نفسية. فانظر كيف يختارون المرذول ليس من كلام الفلاسفة فحسب، بل ومن كلام أئمتهم. انظر السنوسية (ص300). (¬4) المصدر السابق (ص142). (¬5) وبهذا اعترف الغزالي في مقاصد الفلاسفة، وتلميذه أبو بكر بن العربي. انظر آراء أبي بكر بن العربي الكلامية، عمار طالبي (1/ 266).

وليس الخوض الباطل الذي خاضته الأشاعرة في باب الصفات جميعها إلا نماذج وفروعًا لهذا الاستمداد والتلقي. فهذا الذي رأيناه هنا من تصريحهم بنفي الجزء والجزيئية، والتركيب والتبعيض، والانقسام والتَّأَلُّف ... إلى آخر هذه الألفاظ البدعية؛ هو أساس نفيهم للصفات التي توهم - بزعمهم - أن الله تعالى يشابه الحوادث في التركيب من أجزاء وأبعاض، نحو الوجه، واليد، والعين، والساق، ونحوها. فتوحيد الله تعالى عند هؤلاء القوم هو نفي هذه الصفات الثابتة بالكتاب والسنة، أي أنهم جعلوا التوحيد هو (التعطيل). أما التوحيد الحقيقي الذي يعلمه المؤمنون بالضرورة، والذي تطابقت عليه كتب الله ورسله، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة، والتوجه بأنواعها جميعًا له وحده دون سواه، وعدم صرف شيءٍ منها لغيره، فهذا لا تجده في كتب عقيدتهم إطلاقًا، لا في مبحث التوحيد، ولا في غيره (¬1). وإنما ذَكَر الألوهية منهم من ذكرها ليفسرها بأنها نفي تأثير غيره ¬

(¬1) وليتهم وقفوا عند هذا، لكنهم صنفوا الكتب في الرد على شيخي الإسلام: ابن تيمية، وابن عبد الوهاب في هذه المسائل، كمسألة الاستغائة، والتوسل، والزيارة الشركية للقبور، ونحوها في كتاب (براءة الأشعريين)، ومن سبقه كالبكري، والكوثري، والدحلان، بل إن بعضهم صنف في الشرك نفسه، مثل كتاب الرازي (السر المكتوم). انظر الميزان (3/ 340)، والاستقامة ((1) / (45)). وقد طبعوه في الهند كما ذكر المحقق، وقد أشار إليه شيخ الإسلام في معظم كتبه، على أن توبة الرازي آخر عمره ثابتة لا شك فيها.

تعالى في الممكنات، وهي ضلالة أخرى تابعوا فيها الفلاسفة القائلين بأنه تعالى علة تامة مؤثرة فيما سواها تمام التأثير، فلا إرادة له، ولا كلام، ولا غيرها من الأفعال الاختيارية، وعن هذا نشأ مذهبهم في أفعال العباد، حيث نفوا نسبتها إليهم، وجعلوها فعلًا لله، وكسبًا للعبد، وتلك نظرية الكسب التي هي جبر مغلف بالغموض. وأفضل تفسير لنفي التأثير عندهم ما فسره به بعضهم، وهو أن معناه أنه وحده الخالق المبدع، وهذا لا يعدو أن يكون توحيد الربوبية الذي لا خلاف فيه بن أتباع الملل، بل بين كل من يعتد بعقله من بني آدم، والآيات في إقرار مشركي العرب به أشهر من أن تذكر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (التسعينية) (¬1) بعد أن أورد هذه المعاني الثلاثة لاسم الواحد، أو صفة الوحدانية: «فهذه المعاني الثلاثة هي التي يقولون: إنها معنى اسم الله الواحد، وهي التوحيد، وفيها من البدع التي خولف بها الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ما قد نبهنا على بعضه» (¬2). ¬

(¬1) هو كتاب عظيم، نقض فيه شيخ الإسلام مذهب الأشاعرة في الكلام وغيره من تسعين وجهًا، وهي من آخر ما كتبه رحمه الله، وهي الرسالة الأولى من المجلد الخامس من الفتاوى الكبرى، الطبعة الطويلة، أما الطبعة القصيرة فهي تشمل الجزء الخامس منها كاملًا، على أن الوجوه الموجودة في المطبوعتين لم تصل إلى التسعين. (¬2) التسعينية (ص210)، وانظر (ص203 - 210) من الطبعة الطويلة.

ومن أراد تفصيل ذلك فليراجعها في كلامه رحمه الله (¬1). والحاصل أن توحيد الأشاعرة على ما فيه من خلل وابتداع هو كما رأينا آنفًا محصورٌ كله في قضايا التصور والاعتقاد مجردة، دون الأمور العملية التي هي توحيد الله تعالى بأفعال العباد الذي جاءت به رسل الله جميعًا، وهو يشمل أعمال القلوب؛ كالمحبة، والإنابة، والتعظيم، والرغبة، والرهبة، والخوف، والرجاء. وأعمال الجوارح؛ كالصلاة، والذبح، والنذر، والطواف، ونحوها. كما أن من أهم أنواع هذا التوحيد إفراده سبحانه بالتحاكم إليه وحده، أي رد الأمر كله إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكذلك الموالاة في الله والمعاداة فيه، وهاتان القضيتان الخطيرتان أعني (التحاكم والموالاة) لا ذكر لهما في كتب عقائد الأشاعرة على الإطلاق، لا ضمن أصول العقيدة، ولا ضمن لوازمها. وبهذا النقص الواضح في التوحيد عندهم كثر في المنتسبين لهذا المذهب من الخرافيين، والقبوريين، والطرقيين، والمتحاكمين إلى الطواغيت، والموالين للكفار والفجار ما لا يحصيه إلا الله. فترى الواحد منهم يرتكب هذه الشركيات، أو البدع دون أن يرى فيها أدنى معارضة للتوحيد؛ لأن التوحيد الذي تعلَّمه وتربى عليه هو - في أكمل صوره - تلك المعاني الثلاثة فقط. هذه الحقيقة التي نشاهدها اليوم في طول العالم الإسلامي ¬

(¬1) الموضع السابق، ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 224 - 228).

وعرضه، قد قررها شيخ الإسلام أوضح تقرير. فقال رحمه الله - بعد أن ذكر المعاني الثلاثة، وبين نقصها عن حقيقة التوحيد -: «إن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحدًا، بل ولا مؤمنًا حتى يشهد ألا إله إلا الله، فيقرَّ بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له. والإله بمعنى المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، ليس هو الإله بمعنى القادر على الخلق، فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن الأشعري، وأتباعه ممن لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله، فإن مشركي العرب كانوا مقرِّين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين. قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. ثم ذكر الآيات في ذلك ... وقال: فليس كل من أقرَّ أن الله ربّ كل شيء وخالقه، يكون عابدًا له دون ما سواه، داعيًا له دون سواه، راجيًا له، خائفًا منه دون سواه، يوالي فيه، ويعادي فيه، ويطيع رسله، ويأمر بما أمر به، وينهى عما نهى عنه، وقد قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] .... وذكر آيات في شرك المشركين ثم قال: ولهذا كان من أتباع هؤلاء

من يسجد للشمس والقمر والكواكب (¬1)، ويدعوها كما يدعو الله تعالى، ويصوم لها، وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سببًا وواسطة لم أكن مشركًا. ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شركٌ. فهذا ونحوه من التوحيد الذي بعث الله به رسله، وهم لا يدخلونه في مسمى التوحيد الذي اصطلحوا عليه، وأدخلوا في ذلك نفي صفاته ...» (¬2). ¬

(¬1) إن الفخر الرازي - وهو أعظم متكلمي الأشاعرة المتأخرين على الإطلاق - قد ألف كتابًا في عبادة النجوم سماه (السر المكتوم في مخاطبة النجوم). انظر الميزان للذهبي (3/ 340). وذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع لا تحصى، وقال: إنه قيل: إنه تاب منه. انظر نقض التأسيس (1/ 123). ودافع عنه السبكي الأشعري في طبقاته (1/ 81) بأنه كذبٌ مختلقٌ عليه، وعاب على شيخه الذهبي ذكره له، وقد ذكر ابن حجر بعض ما قيل في الرازي من المصائب. انظر: لسان الميزان (4/ 426). فهذا عالمهم الكبير، صاحب المصنفات الضخمة، والتبحر في العلوم. فما ظنك بمن سواه، لا سيما العوام. هذا في الشرك، أما في الموالاة؛ فإن زوج ابنة الرازي كان من خواص جنكيز خان الملعون، ولما دخلت جيوشه هراة قتلت المسلمين جميعًا فيها إلا أولاد الفخر الرازي، فقد نادوا لهم بالأمان، وحملوهم مكرمين إلى جنكيز خان بسمرقند!!. انظر ترجمة الرازي في مقدمة تفسيره الكبير، الذي طبعته المطبعة البهية المصرية. (¬2) درء تعارض العقل والنقل (1/ 226 - 228).

وبهذا ترى أن الأشاعرة أدخلوا التعطيل ضمن مسمَّى ومفهوم (التوحيد)، في حين أنهم لم يدخلوا فيه أي نوع من أنوع العبادة التي يعتبر صرفها لغير الله شركًا منافيًا للتوحيد، وما ذاك إلا نتيجة فساد منهجهم في التلقي والاستمداد، وتقليدهم منهج الفلاسفة في تناول العقيدة من الزاوية الفلسفية المجردة، واعتبارها تصورات ذهنية محضة، على ما في هذه التصورات من خلل وتناقض. وإذ لا يخفى على كل مسلم أن توحيد الله تعالى أصل الدين كله، وأن عليه مدار دعوة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وفيه وقع النزاع بينهم وبين أممهم، وهو مفرق الطريق بين المؤمنين والكافرين، لا يقبل الله ممن لم يأت به صرفًا ولا عدلًا، فإن أعظم مقاييس صحة عقيدة أي فرد أو طائفة هو موقفه من قضية التوحيد معرفةً وتحقيقًا. وهكذا ندع للقارئ الكريم الحكم على هذه الطائفة، ومنهجها العقلي المزعوم. ومن موضوع التوحيد ننتقل إلى موضع آخر له أهميته في التصور الإسلامي، وهو غاية الوجود الإنساني، وحكمة الخلق والكون. يقول الآمدي: «مذهب أهل الحق أن الباري تعالى خلق العالم وأبدعه لا لغاية يستند الإبداع إليها، ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها ... ووافقهم على ذلك طوائف الإلهيين، وجهابذة الحكماء المتقدمين» (¬1). ¬

(¬1) غاية المرام (ص203).

ولن نسأل الآمدي عن الآيات الكثيرة في بيان حكمة الخلق، وغاية الوجود؛ لأن جوابه المعروف هو وأصحابه عنها: أنها ظنيات لا تفيد اليقين، وظواهر نقلية بجب تأويلها لتوافق القطعيات العقلية .. ولكننا نسأله أيهما الذي وافق الآخر وتبعه، آلحكماء اتبعوا الأشاعرة، أم الأشاعرة اتبعوا الحكماء؟. ولن نطيل بذكر أمثلة لهذه المسألة، بل نكتفي بنموذج عصري واحد. يقول البوطي بعد أن قرر القاعدة الأشعرية في نفي الحكمة والغاية: «أما الآيات والأحاديث الموهمة لثبوت العلل والأغراض لله تعالى بسبب استعمال لام التعليل؛ كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: (56)] ... فليست على ظاهرها الذي نتصوره من التعليل الحقيقي؛ إذ لو كانت كذلك لاقتضى الأمر أن يكون الله جل جلاله مستكملًا ألوهيته بعبادة الناس له، ولذلك احتاج إليها، وخلق الناس من أجلها (؟!) ... فاللام في مثل هذه الآيات إنما هي تعبير عن العلة الجعلية (؟)، لا عن العلة الحقيقية. أي: تعلقت إرادة الله بإيجاد الإنسان وبتكليفه بمستلزمات العبودية له ... برابط من محض مشيئته وقدرته» (¬1). فانظر إلى هذه اللوازم المتخيَّلة، وهذا التأويل المتكلف لمسألة واضحة وضوح الشمس، وليس لهذا من داعٍ إلا متابعة أسلاف ¬

(¬1) كبرى اليقينيات (ص145 - 146).

المذهب، الذين تابعوا قدماء جهابذة الوثنيين - إن صح التعبير -. على أن الأشاعرة ناقضوا أنفسهم - كالعادة في كثير من أصولهم - عندما جاءوا في مبحث النبوات، وأثبتوا أن الله تعالى يعطي الأنبياء معجزات لكي تكون دلالة على تصديق الله لهم، وموجبًا لتصديق الناس لهم. فعللوا أوضح تعليل. أما افتعال التعارض بين المشيئة والحكمة، فلا نظير له إلا ما افتعلوه من التعارض بين العقل والنقل. ولو سألهم سائل: لماذا يكون قولنا: (إن الله خلق الإنسان بمحض المشيئة، وكلفه بعبادته) تنزيهًا لله تعالى وكمالًا. وقولنا: (إن الله خلق الإنسان لحكمة عظيمة) نقصًا في حقه تعالى، فماذا سيكون جوابهم. نحن لا نقول: إن سبب هذه الأصول الفاسدة هو اللبس، أو سوء الفهم فحسب، بل المشكلة أنهم - باعترافهم هم - استمدوها من الفلاسفة، وهذا هو مصدر الضلال، فهي محكومٌ عليها بالبطلان، حتى لو وافقت الصواب عَرَضًا ومصادفة. ثم ننتقل إلى مبحث الصفات: حيث نجد الرازي - الذي طعن في أحاديث الصفات - بل في السنة كلها جملةً، وأوَّل آياتها قاطبةً إلا ما شاء في قانونه الكلي، يستدل على مذهبه، بل على فساد مذهب السلف، وأنه أصل لعبادة الأوثان، بكلام المتخرصين المشركين من منجمي الصابئة. يقول في أساسه، أو تأسيسه: «وذكر أبو معشر المنّجم أن سبب إقدام الناس على اتخاذ عبادة الأوثان دينًا لأنفسهم، هو أن القوم في

الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة، وكانوا يعتقدون أن إله العالم نورٌ عظيمٌ، فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنًا هو أكبر الأوثان على صورة الإله، وأوثانًا أخرى أصغر من ذلك الوثن على صورة الملائكة، واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة. قال الرازي: فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع عن مذهب المشبهة» (¬1). ولن نقول للرازي: إن الثابت في السنة في أصل الشرك ينافي هذا (¬2)؛ لأنه سيقول: تلك ظواهر ظنية لا تفيد اليقين، ورواية آحاد لا يثبت بها علم. ولكننا نقول: لو فرضنا أن بينك وبين هذا المنجم المشرك سندًا صحيحًا (¬3)، فما سنده هو إلى أجداده المشركين القدامى الذي أسسوا التشبيه والشرك؟ أم أن كلامه - عندك - قطعي الدلالة والثبوت، ولو كان رجمًا بالغيب من مكان بعيد؟. وأين عقلكم الذي حكمتموه في النصوص، لِمَ لا تحكمونه في قول هذا الأفاك، إنهم صوروا النور؟!. ويأتي صاحب (المواقف) فيستفتح موضوع الإلهيات من كتابه بما ¬

(¬1) التأسيس (ص15 - 16). (¬2) روى البخاري في كتاب التفسير (4920) أن ودًّا وسواع ويغوث ويعوق ونسرًا أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن يصوروهم تعظيمًا لهم، ثم جاءت الأجيال التالية فعبدتهم، فهذا هو أصل شرك البشرية، وكذب أبو معشر. (¬3) توفي أبو معشر سنة ((272) هـ) والرازي (606هـ)!! أم أنه روى عنه وجادة؟!.

يتعلق بالذات، أي: ذات الله تعالى الذي يسمونه غالبًا (القديم). فيقول: «وفيه مقاصد: المقصد الأول: في إثبات الصانع، وفيه مسالك: المسلك الأول للمتكلمين: [وتحدث فيه عن حدوث الجواهر والأعراض]. المسلك الثاني للحكماء: [تحدث فيه عن دليل فلاسفة اليونان، ومن تبعهم وهو الوجوب والإمكان]» (¬1). ويقول في مبحث العلة والمعلول: «القصد الثالث: يجوز عندنا استناد آثار متعددة إلى مؤثر واحد بسيط [غير مركب]، وكيف لا ونحن نقول بأن جميع الممكنات مستندة إلى الله تعالى. ومنعه الحكماء إلا بتعدد آلة، أو شرط، أو قابل، وأما التبسيط الحقيقي الواحد من جميع الجهات فلا». ثم قال: «المقصد الرابع: قال الحكماء: البسيط لا يكون قابلًا وفاعلًا، وإلا فهو مصدر للقبول والفعل ...» (¬2). والمواضع أكثر من أن تحصر، والمقصود أنهم يستمدون من كلام هؤلاء الوثنيين، وينقلونه في أهم القضايا، وهي وجود الله تعالى ¬

(¬1) (ص266). (¬2) (ص86).

وصدور الأفعال عنه. فإن قيل: ولكنهم يخالفونهم في بعضها؟. فالجواب: أن المهم ليس هو الموافقة بإطلاق، ولكنه في أصل النقل واعتبار الخلاف، فأي مسلم حقيقي لا يمكن أن يعتد بخلاف هؤلاء، حتى ولو خالفهم في كل شيء؟. وهل على ظهر الأرض مؤمن حقًّا يعتد بخلاف اليهود والنصارى - الذين هم أفضل حالًا من هؤلاء - في صفات الله تعالى، فيقول مثلًا: إن الله واحدٌ .. وخالف النصارى فقالوا: ثلاثة. ثم يعرض القضية وكأنها خلاف في مسألة فرعية؟. وهل يعتد المسلم بخلاف الرافضة في عدالة الصحابة، أو خلاف الباطنية في تفسير القرآن؟. فكيف يعتد بخلاف مشركي اليونان في توحيد الله وصفاته، حتى وإن خالفهم أحيانًا! وهل هذا إلا أثر من آثار العمى الفكري الناشئ عن فساد منهج التلقي. إن كتب الأشاعرة من حيث المنهج والأصل تبجل (الحكماء) وتعظّمهم، ثم قد توافقهم وقد تخالفهم، وهذا أمرٌ طبيعي مع كل باحث، لكن ليس في المخالفة الجزئية لذاتها، أي غض من قيمة المخالف. وإنما دلالة الإيمان هو إنزالهم منزلتهم التي أنزلهم الله إياها، فهم وثنيون ضالّون مضلون متبعون لمشركي الصابئة. وحسبهم أنهم يجعلون كلام الله ورسوله على قدم المساواة مع

كلام المعلّم الأول وتلامذته، أما إذا كانوا - كما هو الواقع - يجعلون كلام الله ورسوله دلائل ظنية لا تفيد اليقين كما سبق، ويجعلون كلام معلم الوثنية الأول قطعي الدلالة والثبوت، فما أدري ما وجه دفاع من قد يدافع عنهم بأنهم يخالفون المعلم الأول أحيانًا!!. ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال عن هؤلاء الوثنيين - وكلامه ينطبق على كل عصر ومصر -: «هؤلاء المتفلسفة إنما راجوا على أبعد الناس عن العقل والدين؛ كالقرامطة والباطنية الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس، وأظهروا الرفض، وكجهال المتصوفة وأهل الكلام، وإنما ينفقون في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والإيمان، إما كفارًا، وإما منافقين، كما نفق منهم من نفق على المنافقين والملاحدة، ثم نفق على المشركين الترك. وكذلك إنما ينفقون دائمًا على أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين» (¬1). ولم يزل متكلمو الأشاعرة مع تسترهم بالاحتكام إلى العقل وحده، يتسولون على أبواب المذاهب حتى وقفوا على باب اليهود!!. وهذا أمر عجيب، وليس بعجيب!. عجيب حين نعلم من هم اليهود! وما مبلغ عداوتهم للإسلام ¬

(¬1) الرد على المنطقيين (ص187). ورحم الله شيخ الإسلام كيف لو رأى الجاهلين في عصرنا هذا، وهم لا ينقلون ويستمدون في أفكارهم وكتاباتهم إلا من فرويد وماركس وسارتر وأمثالهم، أو من المستشرقين الذين هم أخبث وأحقد!!.

والمسلمين، وما هي قيمتهم المعنوية - لا سيما في الماضي - عند أمم الكفر فضلًا عن خير أمة أخرجت للناس!!. وليس بعجيب حين نعلم أن شهوة التعصب والانتصار للرأي مع شهوة الابتداع الذي أشربته قلوب المبتدعة كثيرًا ما حفزت على ركوب المخاطر والاستنصار على المخالف القريب بالعدو اللدود! على أن أصل المسألة أعمق من هذا. إنه ببساطة: اتفاق المنهج في مصدر التلقي. فعندما يتفق المنتسب لليهودية مع المنتسب للإسلام في أصل التلقي من مشركي اليونان، والتدين بالدين الوثني العالمي دين الفلسفة اليونانية، فإنه لا غرابة في وقوفهما - ومن شاركهما في هذا الدين من أي نحلة وجنس - صفًّا واحدًا ضد جبهة الإيمان والتوحيد!. وإلا فكيف يعيش الرازي، وموسى بن ميمون في عصر واحد (¬1)، والأول بأقصى المشرق، والآخر بأقصى المغرب، فيؤلف الأول (أساس - أو تأسيس - التقديس)، ويؤلف الآخر (دلالة الحائرين)، وتقرأ هذين الكتابين فتجدهما يخرجان من مشكاة واحدة - بل من بؤرة واحدة - لا أثر فيها لإسلام هذا، ولا يهودية ذاك من حيث المنهج والاستمداد. فالإسلام - الذي تنتسب إليه الرازي - أجلى من الشمس في رابعة النهار بلا غيم ولا قتر فيما يتعلق بإثبات الصفات. ¬

(¬1) توفي الرازي (606هـ)، وابن ميمون (605هـ)، وكان الأول في سمرقند، والآخر في الأندلس!!

واليهودية التي ينتسب إليها موسى بن ميمون - في توراتها المحرفة - من الغلو المسرف في الإثبات ما يصل إلى تشبيه يترفع عنه كثير من الوثنيين. ومع هذا يتفق الاثنان في نفي الصفات، وفي الهجوم على (المجسّمة المشبهة الحشوية) أي أهل السنة والجماعة. فأما كتاب الرازي فقد تقدمت بعض النقول منه، ولا هجرة بعد الفتح، ولا كلام في التأسيس بعد (بيان التلبيس) (¬1)!. وأما كتاب (دلالة الحائرين) الذي استمد منه الأشاعرة، فإليك طرفًا من حكايته: ألَّفَ موسى بن ميمون اليهودي هذا الكتاب باللغة العربية نطقًا، أما كتابة حروفه فقد جعلها بالخط العبري؛ لأنه خشي أن يثير عليه المسلمين واليهود على السواء، فكانت لغته العربية حائلة دون فهم اليهود له، وخطه العبري مانعًا من قراءة المسلمين له. وهذا بالطبع بعض آثار المكر اليهودي المتأصل، لكن ما علينا من هذا، فليته بقي كذلك وأراحنا الله منه. غير أن أحد أعيان الطبقة الثانية من تلاميذ الرازي، وهو أبو عبد الله محمد بن أبي بكر التبريزي، لمس - على ما يبدو - حيرة أصحابه ¬

(¬1) أي: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي زيف به التأسيس وما بني عليه.

الأشاعرة، ورأى أنه أعظم كتبهم (التأسيس) قائم حقًّا على التلبيس (¬1)، فما صدَّق أن عثر على كتاب (دلالة الحائرين)، ليجعله دليلًا لحيرة أصحابه، وظهيرًا للتأسيس على الحشوية!!. فأتى منه على الجزء، أو المقدمات المطابقة لموضوع التأسيس، فشرحها، وعرَّب خطها (¬2). ثم طمرت السنون الشرح والكتاب، ودار الزمان دورات حتى قام اليهود في القرن العشرين - ومنهم (إسرائيل ولفنستون) الذي كان مقيمًا بمصر، ومدرسًا في جامعتها - بإحياء تراث أجدادهم، واحتفلوا بذكرى موسى بن ميمون ومؤلفاته. وعاصرهم أكبر أشاعرة عصره محمد زاهد الكوثري، فرأى وجوب الانتصار للمذهب، والتشفي من أعدائه (الحشوية)، فنشر شرح شيخِه الأشعري (التبريزي) للكتاب اليهودي، ولا ندري عمَّا إذا كان هذا العمل باتفاقٍ مع اليهود، أو إشارة منهم، إلا أن الكوثري قال: «لو كان القائمون بالاحتفاء بموسى بن ميمون قبل سنين ظفروا بهذا الشرح القيم، لقاموا بنشره إذ ذاك بكل اغتباط» (¬3). ¬

(¬1) وحسبك مثالًا لذلك أنه يستدل بقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]. (¬2) وهي المقدمات الخمس والعشرون التي حققها الكوثري، وعنوان الكتاب المحقق كاملًا (المقدمات الخمس والعشرون في إثبات وجود الله ووحدانيته، وتنزيهه أن يكون جسمًا، أو قوةً في جسم، من دلالة الحائرين). (¬3) المقدمات الخمس والعشرون (ص (23)).

يريد أن يقول: أن المسألة توافق، وليست عن اتفاق. والله أعلم. والمهم أن الكوثري أخرج الكتاب في سنة (1369هـ-1948م) وهي السنة التي قامت فيها دولة إسرائيل بفلسطين، ولسان حاله يقول: إذا لم تكن هذه الدولة على مذهب الحشوية، فلتكن ما تكون!. وحتى لا يحسب أحدٌ أننا نَتَجَنَّى عليه - فضلًا عن شيخه التبريزي صاحب الفضل الأول - ننقل من مقدمته ما أنطق الله به لسانه، فهو يقول ضمن كلامه عن ابن ملكا (¬1) اليهودي الذي أفسد الإسلام في نظره: «وقد أوتي ذكاءً وحُسن بيان، مع مكرٍ بالغ، وشغب ملبّس، يدس بهما في غضون كلامه ما ورثه من عقيدة التشبيه من نحلته الأصلية، فيروج تلبيسه على من لم يؤت بصيرةً نافذةً تجلو الحقائق، يتظاهر بالرد على الفلاسفة في بعض مباحث المنطق والرياضيات والإلهيات، فيكون بذلك سببًا لرواج شغبه عند بعض محدِّثي الحشوية في تجويز حلول ¬

(¬1) هو أبو البركات هبة الله بن ملكا، فيلسوف، كان يهوديًّا ثم أسلم، وألف كتبًا، أشهرها (المعتبر) مطبوع. ذكره شيخ الإسلام كثيرًا - لا سيما في درء التعارض، ومنهاج السنة - ناقدًا إياه بالعدل، كعادته، ووصفه بأنه من أمثل الفلاسفة طريقةً، وعلل ذلك بسلوكه طريقة النظر بلا تقليد، وكونه نشأ ببغداد بين علماء السنة والحديث، فاستنار بأنوار النبوات أكثر من صاحبيه: ابن سينا، وابن رشد. (منهاج السنة 1/ 348، 354). فمقياس الشيخ دائمًا هو الاستمداد من نور النبوة، أو عدمه، وصحة النظر العقلي أو فساده، دون النظر لمعايير الجاهلية، توفي ابن ملكا سنة ((547) هـ). انظر عنه الأعلام للزركلي ((8) / (74)).

الحوادث (¬1) في الله سبحانه ... مع أن حلول الحوادث في ذات الله محالٌ عند المتكلمين والفلاسفة في آنٍ واحد (¬2)؛ بل بحلول الحوادث في العالم استدلوا على حدوث العالم! (¬3) فكيف يستجاز ذلك في مبدع العالم جل جلاله؟. وإن انخدع بكلام ابن ملكا ابن تيمية في تلبيسه، وتسعينيته، وسبعينيته، ومنهاجه، ومعقوله (¬4) ...». ثم قال في مقام مقارنة كتاب ابن ملكا (المعتبر) بكتاب ابن ميمون (دلالة الحائرين): «فيستغرب من الشيخ الحراني - يعني شيخ الإسلام - إهماله لتلك البراهين المسرودة في (دلالة الحائرين) في تنزيه الباري عن الجسمية، مع اطلاعه عليها، وأخذه بتلك المحاولة الساقطة في معقوله عند رده على السيف الآمدي قوله باستحالة تحديد الله بجهة؛ لاحتياج ذلك إلى مخصص كما هنا، على طِبْقِ ما صنع في أخذه عن ابن ملكا ما انفرد به عن النظار من تجويز حلول الحوادث في الله. تعالى ¬

(¬1) حلول الحوادث هو الستار الوثني الذي يتخفى به منكرو صفات الله تعالى، كالرضا، والغضب، ونحوها، فينفونها زاعمين أن إثباتها إحلالٌ للحوادث بذاته تعالى. (¬2) لاحظ اتفاق المنهج بين الطائفتين، ثم انظر أيهما الذي نقل عن الآخر؟. (¬3) صدق الكوثري في هذا، وهذا هو أساس البلاء، فإنهم لم يستطيعوا إثبات وجود الله إلا بنفي صفاته؛ لأن هذا هو منهج المعلم الأول!!. (¬4) (ص10)، والكوثري يقصد كتب شيخ الإسلام الخمسة: بيان تلبيس الجهمية، التسعينية، السبعينية، منهاج السنة، موافقة صريح المعقول.

الله عما يقول المجسّمة والمشبهة علوًّا كبيرًا» (¬1). فالكوثري يتهم شيخ الإسلام - صراحة - بأن تلك الأسفار التي لم يكتب في بابها مثلها قط - لا في قديم الدهر ولا حديثه - ما هي إلا اقتباسات من فكر رجل يهودي مغمور يدعى ابن ملكا!. فماذا يريد الكوثري بذلك؟ أهو كما قال المثل العربي (رمتني بدائها وانسلت)؟. الحقيقة أن الأمر أعظم من ذلك!. فإن الكوثري من أعظم الناس تدليسًا وتلبيسًا، ومكرًا ودهاءً، يعرف ذلك من تتبع شيئًا من كلامه ونقولاته، وإليك البيان: (1) - أن ابن ملكا اعتنق الإسلام كما نص المترجمون لحياته، ونقل الكوثري نفسه قول الظهير البيهقي عنه أنه (حَسُن إسلامُه)، فلا مقارنة بينه وبين اليهودي الميت على كفره، بل الزنديق الذي ليس بمسلم ولا كتابي (موسى بن ميمون)، وغاية ما في الأمر أن الرجل لما أسلم اعتنق بعض الحق الذي عليه مذهب السلف، فشغب عليه الكوثري لاعتناقه مذهب الحشوية، لا لكونه يهوديًّا، وإلا فلماذا لم يشغب على صاحبه ابن ميمون، وهو الكافر الصريح؟. (2) - لم يكتفِ الكوثري بالشغب على ابن ملكا واتهامه في دينه؛ بل اتهم شيخ الإسلام بالأخذ عنه والتلقي منه، فهو إنما طعن في ¬

(¬1) (ص21).

الرجل توصلًا إلى الطعن في شيخ الإسلام، وافتعل لذلك مناسبة كون ابن ملكا يهودي الأصل، وأقحم ذلك كله في مقدمة كتاب ابن ميمون؛ لأنه كتابُ يهودي أصلًا، أشعري مضمونًا ونصًّا، فبهذا جعل القدر المشترك بين ابن ملكا الذي أسلم ووافق عقيدة السلف، وبين ابن ميمون الموافق للأشاعرة مع بقائه على يهوديته شيئًا واحدًا، فانظر إلى هذا التلبيس والمكر والدهاء. (3) - أن الكوثري - على ما ظهر لي - يسرُّه أن يقال عنه: (رمتني بدائها وانسلت)، وتبقى المسألة في هذا الحد، وذلك لكي خفي ما هو أعظم من ذلك، وهي صلته بـ (إسرائيل) و (لفنستون) و (جولدزيهر) وغيرهما من يهود المستشرقين (¬1)، وكذلك إخراجه لهذا الكتاب في أحرج موقف مر بين المسلمين واليهود، وهو (قيام دولة إسرائيل). 4 - على كلام الكوثري يكون المسلمون جميعًا مقلدين في دينهم لفلاسفة اليهود! فأتبع السلف عنده - وعلى رأسهم ابن تيمية - هم من مقلدة ابن ملكا، والأشاعرة هم من مقلدة ابن ميمون. فالأمة الإسلامية إذن - مهتديها وضالُّهَا - سائرة على خطى يهود!!. وربما يثار سؤالٌ هنا، وهو: إذا كان اليهود بهذه المنزلة عند الكوثري وأساتذته، فمن هو الخطير على الإسلام إذن؟. ¬

(¬1) انظر مقدمة كتاب العقيدة والشريعة، جولدزهير (ص: ك)، حيث أسهم الكوثري أيضًا هناك.

والجواب: نأخذه من كلام الكوثري نفسه: إنهم أهل السنة والجماعة!! فهو يقول عن أهل الحديث في الهند: «وبعض طوائف الهنود أصبحوا أضر على الإسلام من اليهود» (¬1). وهناك مصدر يهودي له أثره البالغ في تأسيس جذور المذهب الأشعري، ولم نشأ أن نجعله رأس موضوع؛ لأنه يحتمل الجدال، وهو فِكر (بشر المريسي)!. وقد هدم الإمام الدارمي هذا الفكر، وأورد ما يدل على أن صاحبه تعمد الهدم والإفساد، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في بِشر (¬2)، وتعمُّد الإفساد أمرٌ متواترٌ في التاريخ اليهودي كله، ونماذجه قبل بِشر - مثل (بولس)، و (عبد الله بن سبأ)، وبعده مثل (القداح)، و (ابن كلس) - لا تخفى على ذوي الشأن. وتوفي الدارمي رحمه الله ثم ظهرت بعده العقيدة الكُلَّابية الأشعرية، وكأنما هي نسخة من عقيدة بشر في كثير من الأصول؛ في الصفات، والإيمان، وخلق القرآن، وغيرها، خصوصًا في (التأويلات). والتأويل عند اليهود - منذ القدم - أصلٌ من أصول تعاملهم مع نصوص ¬

(¬1) في تعليق على تبيين كذب المفتري (ص395)، وهو إن كان أدخل معهم غيرهم في هذا الحكم، لكنهم هم المقصودون من السياق، وحسبه أنه أدخلهم مع الطوائف المجمع على كفرها!!. (¬2) انظر كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة في ترجمة بشر في الميزان، واللسان، وتاريخ بغداد. وانظر خلق أفعال العباد للإمام البخاري (ص32 - 34).

كتب الله ووحيه، ولونٌ من ألوان المكر اليهودي معها (¬1). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب (التأويلات) (¬2)، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر [الفخر] الرازي في كتابه الذي سماه (تأسيس التقديس) ... هي عين تأويلات المريسي، ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري، صنف كتابًا وسماه: (نقض عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله من التوحيد)، حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي، بكلام يقتضي أن المريسي أقعدُ بها، وأعلمُ بالمنقول والمعقول من المتأخرين الذين اتصلت إليهم جهته وجهة غيره، ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم، وضعف حجة من خالفهم. ¬

(¬1) ولهذا استحدثته الماسونية العالمية منهم، ولتفسد به عقائد البشر. انظر الماسونية في العراء (ص250 - 252) محمد علي الزعبي، وانظر همجية التعاليم الصهيونية، رضا بولس، حيث ذكر تأويلات اليهود لكل ما ورد من النهي عن السرقة والزنا والقتل، بأن جعلوه على تقدير مفعول أو موصوف محذوف، أي: لا تقتل أخاك اليهودي، ولا تسرق مال أخيك اليهودي .. إلخ. ولهذا جاء تلاميذهم من المعطلة المؤولة فجعلوا مثل هذه التقديرات في آيات صفات الله، والإيمان، والقدر، ونحوها. (¬2) هو كتاب (مشكل الحديث وبيانه) الذي سبق الحديث عنه.

ثم إذا رأى الأئمة - أئمة الهدى - قد أجمعوا على ذم المريسية، وأكثرهم كفَّروهم أو ضلَّلوهم، وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسي، تبين الهدى لمن يريد الله هدايته، ولا حول ولا قوة إلا بالله» (¬1). والجدال الذي سبقت الإشارة إليه هو ادعاء بعض الأشاعرة المعاصرين أن يهودية بشر لا أثر لها في عقيدته، ونحن نستطيع إثبات هذا الأثر بالمقارنة، لولا أن هذا خارجٌ عما التزمناه هنا، وحسبك أن تعلم أن أمَّ بشرٍ أحدُ من شهد عليه بالزندقة، وقالت ذلك للإمام الشافعي (¬2)، وليست الزندقة إلا إظهار الإسلام وإبطان غيره، وما نحسب بشرًا يبطن شيئًا سوى عقيدة الآباء والأجداد. ¬

(¬1) الحموية (ص14 - 15) نشر قصي الخطيب. (¬2) انظر تاريخ بغداد (7/ 59)، وخلق أفعال العباد (الموضع السابق).

النبوات

النبوات تطبيقًا لمنهج التلقي عند الأشاعرة؛ جاءوا في النبوات بمثل ما جاءوا به في غيرها مما يخالف النقل والعقل. وغير خافٍ على أحد ما لموضوع إثبات النبوة من أهمية قصوى؛ لأن كل العقائد مترتبة عليه، فكان لزامًا لأي فرقة تدعي أنها تمثل حقيقة الإسلام أن يكون إثبات هذا الأصل أقوى وأظهر أصولها .. لا سيما التي تدعي منهج العقل، لا منهج التقليد، ولكن الأشاعرة التزموا بمنهج ضيق محصور، كله ردود فعل دفاعية لكلام منكري النبوات، أو منكري بعض قضاياها وآثارها .. فتجدهم في كل مرحلة من مراحل هذا المنهج التوفيقي الدفاعي ينتقلون من دائرة ضيقة إلى ما هو أضيق، حتى حصرَهم خصومهم وحشروهم في آخر دائرة منها، ولم يكن للأشاعرة منها من مستمسك إلا القولُ بأن هذا نعلم صحته بالاضطرار في نفوسنا!!. ولا يمكن للأشاعرة دفع أي هجوم للخصوم إلا بنقض شيءٍ من أصول منهجهم، وإنكار شيء مما صحَّ في الشرع، فأمرهم في النبوات دائر بين البطلان والتناقض .. وسيتضح لك ذلك من خلال العرض الموجز عن النبوة عندهم؛ حُكْمها، ثبوتها، القول في عصمة الأنبياء!. فأما حكم النبوة عندهم؛ فانطلاقًا من القسمة الأشعرية الثلاثية (الواجب العقلي، المستحيل العقلي، الجائز العقلي)، جعلوا حكم

النبوة من القسم الأخير، أي (الجواز). وقد ضيق الأشاعرة على أنفسهم بهذا التأصيل فرارًا من القول بوجوب شيء على الله، كما تقول المعتزلة، الذين جعلوا النبوة من القسم الأول، وفرارًا من القول باستحالة إرسال الرسل - كما يدعي منكرو النبوات من ملاحدة الفلاسفة ونحوهم - الذين يجعلونها من القسم الثاني. ومن لوازم هذا التقسيم عند الأشاعرة: أن كل ما هو داخلٌ في دائرة الجواز والإمكان، فهو راجعٌ إلى محض المشيئة مجردةٌ عن أي حكمة أو تعليل، حتى التزموا القول بأنه ليس في القرآن كله (لام تعليل)، ويسمون أصلهم هذا (تنزيه الإله عن الغرض في أفعاله). فأنكروا أن يكون لأفعاله تعالى - ومنها إرسال الرسل - حكمةٌ أو غرضٌ أراد الله تعالى تحقيقه بهذا الفعل، بل الأمر كله راجعٌ إلى المشيئة المحضة، فهو تعالى - حسب تعبيرهم - (يفعل لا لشيء). ولا شك أن كل أفعاله تعالى راجعةٌ إلى مشيئته، ولكن تعلُّق المشيئة بأي أمرٍ لا ينفي تعلق غيرها من صفاته به؛ كالحكمة والرحمة. والمهم: أن القضية من أصلها ليست قضية عقلية تجريدية تخضع لهذا التقسيم البدعي، فما المانع - عقلًا - أن تكون القسمة رباعية، أو خماسية، أو أكثر؟!. هذا الأصل الفاسد المركب أضعَفَ قضية إثبات النبوة عند

الأشاعرة كثيرًا، فاستطال عليهم المعتزلة والفلاسفة، كلٌّ من جهته! (¬1). والقول بأن حكم النبوة مجرد الجواز صرح به الأشاعرة في كتبهم كافة؛ كالباقلاني، والجويني، والشهرستاني، والغزالي، والبغدادي، والآمدي، وغيرهم. وهذا نص الآمدي: «مذهب أهل الحق: أن النبوات ليست واجبة أن تكون، ولا ممتنعة أن تكون، بل الكون وأن لا يكون بالنسبة إلى ذاتها وإلى مرجعها سيان، وهما بالنظر إليه سيان» (¬2). ويستدل الجويني على الجواز بأنه: ليس من قسم المستحيل: «والدليل على جواز إرسال الله الرسل وشرْعِ الملل: أن ذلك ليس من المستحيلات التي يمتنع وقوعها لأعيانها؛ كاجتماع الضدين، وانقلاب الأجناس، ونحوها» (¬3). وبهذا التقرير والاستدلال - على ضعفه وهزاله - أسقطوا حقيقة عظمى من الحقائق التي اقتضتها الحكمة الربانية في إرسال الرسل؛ إذ جعلوا قضية النبوة بمنزلة خلْق إنسان أو إماتته، وإيجاد شجرة أو عدمها .. فكلها من الأمور الممكنة المتعلقة بمحض المشيئة - حسب كلامهم -. ¬

(¬1) انظر الشبهات التي أوردها الشهرستاني عن منكري النبوة، وردوده الضعيفة عليها. (¬2) غاية المرام (ص318). (¬3) الإرشاد (ص306).

على أن من البديهيات المسلَّمة لدى كل مؤمن صادق أن الله تعالى لا يفعل شيئًا مجردًا عن الحكمة مطلقًا، وأن من أعظم ما تتجلى فيه هذه الحكمة إرسال الرسل، وهذا ما صرح به قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]. وثبت في تفسيرها عند الشيخين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال. (ليس أحدٌ أحبّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب، وأرسل الرسل) (¬1). ومن أجلى الاستدلالات على أن الأمر زائدٌ على مجرد المشيئة أن الكفار لما استدلوا على شركهم بالمشيئة فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ...} [النحل: (3) 5]. رد الله تعالى عليهم بقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. فجعل حكمة إرسال الرسل دافعة لشبهة الاحتجاج بالمشيئة الكونية. وعلى كلام الأشاعرة يستوي إشراك المشركين، وإرسال الرسل في تعلق كل منهما بالمشيئة، فيتوجه احتجاج الكافرين بها عياذًا بالله!. وكما أن قول الأشاعرة هذا يخالف مقتضى الحكمة؛ فإنه يخالف مقتضى الرحمة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ¬

(¬1) أخرجه البخاري (5220)، ومسلم (2760).

[الأنبياء: 107]. فها هو ذا أمر عظيم زائد عن مجرد المشيئة. على أن الأشاعرة سرعان ما نقضوا كلامهم هذا عند حديثهم عن المعجزة حيث قالوا: إن الله تعالى يعطي الأنبياء معجزات لتدل على صدقهم وتصديق الله لهم، فعللوا فعل الله وأظهروا حكمته، وبهذا ناقضوا أصلهم الكلي، وهو أنه (يفعل لا لشيء)، ومنزهٌ عن الغرض!!. ولا نريد الإفاضة في بيان بطلان هذا الحكم، وإنما المراد إظهار تناقضهم وفساد أصولهم، فإن إنكارهم لبعض الصفات، ونفيهم للحكمة في أفعال الله، وإخضاع ما يتعلق بالله للتقسيمات العقلية المبتدعة، كلها أصولٌ فاسدةٌ اجتمعت في هذه القضية فأفسدتها!. وأما ثبوت النبوة فاستدل عليه الأشاعرة بدليلين: (1) - عدم الاستحالة. (2) - المعجزة. وهما في الحقيقة دليلٌ واحدٌ؛ لأن عدم الاستحالة إنما هو جزءٌ من حكمها في العقل، ولو لم يكن للمسلمين، بل ولسائر أتباع الملل من الحجة على إثبات جنس النبوة إلا هذا الدليل الأشعري (عدم الاستحالة)، لكان من حق منكري النبوات أن يظهروا عليهم كل الظهور!. ومن حقّ كل مسلم أن يسأل هؤلاء القوم: يا من تطرحون النصوص جانبًا، وتقدِّمون - بل تحكِّمون - العقل، أين الدليل العقلي القاطع على إمكان النبوة؟ وهي أساس كل اعتقاد؟. أهو قولكم: «إن ذلك ليس من المستحيلات التي يمتنع وقوعها لأعيانها؛ كاجتماع الضدين، وانقلاب الأجناس»؟.

أهذا يكفي لتثبيت إيمان المؤمن، فضلًا عن إقناع المنكر الجاحد؟. ثم إن هذا الدليل - في عمومه - يستطيع مسيلمة والعنسي وكل متنبئ إلى يوم القيامة أن يستدل به؛ إذ لا يترتب على كون أيٍّ من هؤلاء نبيًّا لذاته أي مستحيل عقلي مما ذكرتم؟!. ولم تقفوا عند هذا؛ بل حصرتم الدليل كله في المعجزة كما فعل الجويني الذي عقَّب على كلامه السابق قائلًا: «فصل: لا دليل على صدق النبي غير المعجزة» (¬1). مع حصركم للمعجزة نفسها في الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي .. إلى آخر ما رتبتموه بالعقل المجرد. وهذه هي الدائرة الأضيق التي حصرتم أنفسكم فيها، فتناوشتكم السهام من كل ناحية، ذلك أن المعجزة المجردة في ذاتها تتوارد عليها الطعون والاعتراضات العقلية التي لا يمكن - حسب منهجكم - دفعها إلا بإبطال أصل من أصولكم. مثال ذلك أن يقال: إنه لا دليل على صدق موسى عليه السلام - حسب كلامكم - إلا انقلاب العصا حيَّةً ونحوها، فماذا تقولون للسامريين من اليهود إذا قالوا: دلالة صدق السامري أعظم من دلالة صدق موسى، أو مساوية لها؛ لأن انقلاب الزينة عجلًا جسدًا له خوار أعظم عندنا - نحن السامرة - من انقلاب العصا حيَّة؟!. عندئذ ستضطرون إما إلى تصديقهم في ذلك، وإما إلى مناقضة ¬

(¬1) الإرشاد (ص331)، وانظر حول هذا الحصر عندهم درء تعارض العقل والنقل (7/ 309، 5/ 287).

أصلكم هذا، وهذا ما قررناه آنفًا من أن دعواكم مترددة بين البطلان والتناقض. ولكن الواقع أن الأشاعرة لم يتراجعوا عن هذا الأصل - على فساده - بل استمروا عليه، مع ارتكاب صنوف من التمحل والتعسف .. من أمثلة ذلك: أنهم اضطروا أن يتكلفوا لكل نبيٍّ ما ينطبق عليه مفهومهم الضيق للمعجزة، فأدى بهم هذا إلى هدم أصل من أصولهم في باب آخر؛ وذلك أنهم قالوا: إن معجزة نوح عليه السلام هي (الطوفان)، ومعجزة هود عليه السلام هي (الريح العقيم) (¬1). فعلى مذهبهم هذا (وهو أنه لا يثبت صدق النبوة إلا بالمعجزة، ولا يجب على المكلف الإيمان إلا بعد ثبوتها) لا يكون قوم نوح وهود ملزمين بالإيمان إلا عند وقوع الطوفان وهبوب الريح، وإلى أن يتأكد قوم نوح أن هذا معجزة رسولهم، وليس حادثًا كونيًّا عاديًّا، يمكن الاعتصام منه برؤوس الجبال ... إلى أن يتأكد قوم هود أن هذا ليس عارضًا ممطرهم ... إلى أن يحصل هذا التأكد لا يجب على أي منهما أن يؤمن، إذ كيف يؤمن ودليل صدق النبي لم يثبت بعد؟! وبعد استيقانهم من صدق المعجزة يكونون قد ماتوا أو أشرفوا على الموت يقينًا، وحينئذٍ فيلزم أحد أمرين: (1) - إما أنهم آمنوا وأدخلهم الله الجنة، وهذا باطلٌ قطعًا، قال تعالى: ¬

(¬1) أصول الدين (ص176).

{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا} [غافر: (85)]. بل هذا هو عين ما وقع لفرعون حين قال: (آمنت) لما أدركه الغرق. (2) - وإما أنهم لم يؤمنوا بعد، وهو ما نقوله نحن وأنتم، ويكون مصيرهم بلا ريب هو النار، فلا جدوى للمعجزة ولا حكمة فيها، بل أنتم تقرون أن الإنسان لا يؤاخذ قبل قيام المعجزة. فظهر تناقضكم، ولزمكم نسبة الظلم إلى الله تعالى؛ لأنه أهلك قومًا وأدخلهم النار قبل قيام ما يدل على صدق النبي عندهم. وإن كان هذا على أصولكم جائزًا عقلًا - تعالى الله عن ذلك -، كما أنه يتنافى مع ما أصلتموه في باب (المعرفة) و (أول واجب على المكلف) من أن من لا يستطيع النظر، أو لم يتمكن منه لا يؤاخذ (¬1)، فهؤلاء قد اخترمتهم المنية في أثناء النظر فكيف يؤاخذون؟. وهكذا يصبح تناقض القوم واضطرابهم مركَّبًا. ومن الإلزامات والإشكالات التي عجز عنها الأشاعرة؛ لأنهم تقيدوا بهذه الأصول الفاسدة والمنهج الضيق: منها: ما أورده الآمدي نفسه على لسان منكري النبوة، وهو قولهم: إن إثبات صِدق النبي متوقف على ثبوت استحالة الكذب من الله تعالى؛ لأن إعطاء الله لنبيه معجزةً تصديقٌ له من الله، ولكن كما قال لهم الملاحدة الجاحدون: كيف نعلم أن الله لا يكذب على عباده، ولا يضلهم بإظهار المعجزة على يد الكذاب، وأنتم تقولون: إنه هو الذي ¬

(¬1) الشامل للجويني (ص129).

يخلق الكفر في قلب الكافر؟ وألزموا الأشاعرة قائلين: «لا سبيل إلى القول باستحالته [أي الكذب من الله] عقلًا، إذ قد منعتم [معشر الأشاعرة] أن يكون الحُسن والقبح ذاتيًّا، ولا سبيل إلى إدراكه بالسمع، إذ السمع متوقفٌ على صحة النبوة، والنبوة متوقفةٌ على استحالة الكذب في حكم الله، فلو توقف ذلك على السمع كان دورًا ممتنعًا» (¬1). ثم اعترف الآمدي باضطراب الأشاعرة في الجواب عن هذه الشبهة (¬2) التي لا مناص لهم حيالها من التزامٍ للباطل، أو اعترافٍ بالتناقض؛ فإما أن يبطلوا دعواهم، أو يبطلوا أصلهم في التحسين والتقبيح ولا بد. وحاول هو أن يأتي بجواب مقنع فقال: «والذي يخُمد ثائرةَ هذا الإشكال ... وإن كان عند الإنصاف في التحقيق عويصًا هو أن يقال: إن ¬

(¬1) غاية العرام (ص (329)). (¬2) انظر الجواب الركيك الذي أجاب به الجويني عن هذه الشبهة، الإرشاد (ص326، 332 - 337)، وقد ذكر جواب أبي إسحاق الإسفرائيني وعقب عليه قائلًا: «ولسنا نرى ذلك مقنعًا في الحجاج». أما الشهرستاني فقد اضطر أن يجيب بقوله: «نحن نجوز الإضلال على الله تعالى، ولكن بشرط أن لا يقع خلاف المعلوم، وبشرط ألا يتناقض الدليل والمدلول، ولا يلتبس الدليل والشبهة ..». نهاية الإقدام (ص440). فانظر إلى تهافت أجوبتهم، ونقد بعضهم بعضًا في مسألة لا يشك فيها أجهل العوام، ولكنها الأصول الفاسدة!!.

القول باستحالة الكذب في حق الله تعالى مما لا يستند إلى سمع (¬1)، ولا إلى التحسين والتقبيح، وأن حَصْر مدرك ذلك في هذين باطل. بل المدرك في ذلك يقال: قد ثبت كون الباري تعالى عالمًا متكلمًا، وأن كلامه في نفسه واحد، وذلك لا يقبل الصدق والكذب، وإنما يقبل ذلك من جهة كونه خبرًا، والخبرية له من جهة متعلقه لا غير» (¬2). أي ليست له لذاته. وذكر كلامًا فلسفيًّا مملولًا، مؤداه امتناع قيام الخبر الكاذب بنفس الباري ... وهكذا فر الآمدي من الالتزام بفساد أصلٍ ليقع في الالتزام بأصلٍ آخر أكثر فسادًا، وهو أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس، وهذا لا يوصف بالصدق والكذب لذاته، بل بمتعلقاته .. إلى آخر ما وصفه هو بأنه عويص، والواقع أنه تمحل ساقط القيمة. على أن بعض الأشاعرة قد استرسلوا مع المنكرين في سلسلة من التنازلات فقالوا: إن الكذب ممتنعٌ على الله؛ لأن الله غنيٌّ عنه، فإن قيل فما دليل غناه؟ قالوا: إن الافتقار من خصائص الأجسام. قالوا: فما الدليل على أنه ليس بجسم؟ قالوا: إنه ليس بمتحيز، وليس في جهة، ولا تقوم به الحوادث. قالوا: فما الدليل على عدم قيام الحوادث به؟ ¬

(¬1) أي: أن الكتاب والسنة عنده لا يستدل بها على انتفاء الكذب على الله، وإلا لزمه الدور. (¬2) المصدر السابق (330 - 331).

قالوا: قيامها بالممكنات، وهي الأجسام الحادثة. فقال لهم المنكرون: لقد عاد القول إذن إلى قضية حدوث العالم، وهي قضية خلافية بيننا، فباعترافكم علمنا أن تصديق الرسول متوقفٌ على إثبات حدوث الأجسام، والثابت عندنا أن العالم قديمٌ لا صانع له، وأدلتكم على حدوثه غير موصلة إلى القطع!!. فحقٌّ أن الأشاعرة لا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا!!. وبغض النظر عن إفحام المنكرين - لأن هذا ليس من شأننا هنا - نقول: إن الأشاعرة لزمهم لزومًا بيِّنًا أنه لا يمكن إثبات صدق النبي إلا بنفي صفات الله عز وجل، بل ونفي القدر أيضًا (¬1). ومنها: أن الأشاعرة لما حصروا دليل صدق النبي في المعجزة، وحصروا المعجزة في الأمر الخارق للعادة، طالبهم منكرو النبوات بإثبات الفرق بين الخارق الذي يأتي على يد النبي، وبين الخارق الذي يأتي به الساحر والكاهن ونحوهمها، فلم يكن للأشاعرة من فرق إلا القول بأن فارق النبي مقرون بالتحدي ودعوى النبوة، أما غيره فلا يدعيها ولا يتحدى بخارقة. قالوا لهم: فماذا لو أنه ادعى وتحدى؟. قالت الأشاعرة: ولو فعل ذلك لسلبه الله القدرة على الإثبات بالخارق حالًا، أي أن الساحر لو ادعى النبوة محتجًّا بخارقة سحرية لسلب الله منه المعرفة بالسحر حالًا، أو خلق في غيره القدرة على ¬

(¬1) انظر درء تعارض العقل والنقل (5/ 286 - 287).

معارضته والإتيان بمثله ليبطل دعواه، ولو لم يفعل الله ذلك لكان هذا تصديقًا للكاذب، وإضلالًا لعباده، والله منزهٌ عنه. وهذا الفارق المزعوم المكابر للعقول والواقع، هو الذي اعتمد عليه القاضي الباقلاني في كتابه الذي ألَّفه في الفَرق بين المعجزات والكرامات، والحيل والكهانات، والسحر ... (¬1). وعليه سار من بعده كالجويني وصاحب (المواقف) (¬2). ويَرِدُ عليه اعترضاتٌ كثيرةٌ قاطعةٌ ببطلانه؛ منها: أ - استلزامه التسوية بين آيات الأنبياء وأفعال السحرة، وهو واضح البطلان في كل عقلٍ وفطرة. ب - أن كون الدليل نفسه واحدًا - وهو الخارق - ثم إن اقرنت به الدعوى صار معجزة نبوية، وإن لم تقترن لم يكن كذلك، تحكُّمٌ معلوم البطلان لكل عاقل. ج - أن سلب الله تعالى القدرة أو المعرفة من الكاذب، أمرٌ قدَّروه من عند أنفسهم، لم يقله الله تعالى عن نفسه، والواقع يكذِّبه، فكم من أدعياء ومتنبئين لم يسلبهم الله ذلك، لكنه أظهر كذبهم ببراهين أخرى (¬3) ... د - أن هذا رجوع إلى مسألة إثبات أن الله لا يُضل العباد، وقد سبق ¬

(¬1) ذكره شيخ الإسلام ونقده في النبوات. انظر الفصل من (ص27 - 38)، والفصل من (100 - 127)، ولم أعثر عليه، لكن غير الشيخ ذكره، ونقل عنه. (¬2) انظر الإرشاد (ص331)، المواقف (ص346). (¬3) انظر النبوات (ص (37)، 127).

القول فيها قريبًا. والقصد هنا ليس الرد على منكري النبوة، ولا مناقشة الأشاعرة تفصيلًا، وإنما هو بيان تناقض أصولهم وفسادها، وأن هذه الأصول لا تستطيع النهوض أمام حجج المخاصمين، وإن كانوا مبطلين، فكيف يزعم أحدٌ أن هذه العقيدة هي التي تمثل حقيقة الإسلام، وهي التي يجب على المسلمين الالتفاف حولها، والاتحاد عليها!! (¬1). هذا ومن الغريب في موضوع المعجزة عند الأشاعرة: ما ذكره الرازي عند قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. قال: «لا شك أن الأمة كما يحتاجون في العلم بأن الرسول صادقٌ في ادعاء الرسالة إلى معجِز يَظهر على يده، فكذلك الرسول عند وصول المَلَك إليه وإخباره إياه بأن الله بعثه رسولًا، يحتاج إلى معجز يظهر على يد ذلك الملك؛ ليعلم الرسول أن ذلك الواصل مَلَكٌ كَرِيم، لا شيطانٌ رجيم، وكذا إذا سمع الملك كلام الله احتاج إلى معجز يدل ¬

(¬1) أما بيان أدلة صدق الرسل بالأدلة العقلية والقاطعة، فقد زخرت بها - ولله الحمد - كتب العقيدة السلفية. وانظر مثلًا شرح الأصفهانية (ص128 - 146)، والنبوات (ص27، 100 - 128)، وبمقارنتها بكلام الأشاعرة الذي لخصناه أعلاه، يظهر لك الفرق الواضح بين العقيدتين، مع أنه في إمكان كل من سار على المنهج السلفي أن يزيد على ما ذكره علماء السلف السابقين، لأن منهجهم هو الأخذ من المعين الذي لا ينضب (الوحي)، أما الأشاعرة فهم محصورون في تلك القوالب العقلية الضيقة.

على أن ذلك الكلام كلام الله تعالى، لا كلام غيره، إذا كان كذلك؛ فلا يَبعُد أن يقال: إنه لما جاء المَلَك إلى إبراهيم وأخبره بأن الله تعالى بعثك رسولًا إلى الخلق طلب المعجز، فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم» (¬1)!!. فالرسول في نظر الرازي يحتاج إلى معجز، بل جبريل يحتاج إلى معجز، والأصول العقلية الأشعرية لا يكفي أن تطبق على منكري النبوات، بل تطبق حتى على الأنبياء، بل على واسطة النبوة والروح الأمين نفسه!!. فقل لي بربك: أمنكرو النبوات هم الذين تفوقوا على الأشاعرة؟ أم هؤلاء هم الذين يفتحون لهم الثغرات، وينبهونهم إلى ما لا يعلمون من الشبهات!!. وصدَق من قال: إن الرازي يأتي بالشبهة نقدًا، ويجعل رَدَّها نسيئةً، واسمع إلى ما قاله الجويني أيضًا: «ومهما ظهرت معجزة في شرعنا على يد متنبئ تنبأ؛ تبين إذ ذاك كذبنا في تأبيد شريعتنا» (¬2). فانظر إلى هذا التنازل الرخيص، مع ما سبق من تهافت شروطهم في المعجزة، وإمكان تحقق تلك الشروط في بعض الكاذبين؟!!. ¬

(¬1) التفسير الكبير (1/ 39)، مع ما في هذا الكلام من تناقض أصلي الأشاعرة في العصمة والمعجزة!!. (¬2) الإرشاد (ص (343)).

وأغرب من هذين: تشبيه الآمدي حالة تلقي الوحي بحالة تلقي بعض المرضى والمصروعين والمتكهنين، والفرق عنده أن هذا صفة كمال، وذاك صفة نقص (¬1)، وما كنت أحسب أحدًا سبق المستشرقين إلى هذا اللغو المتهافت. أما الكلام الباطني الباطل الذي وصف به الغزالي الوحي: بأنه انتقاش العلم فى العقل الثاني من العقل الكلي الذي هو عنده (اللوح المحفوظ)، فقد سبق الحديث عنه في مبحث (الكشف والذوق). نسأل الله الإيمان والعافية. أما كان للأشاعرة غُنْيةٌ في حقائق السيرة، إن لم يكن لهم في دلائل النصوص يقين؟. ها هي ذي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: وهو أكثر الأنبياء تابعًا، وسيرته أقرب وأوضح السير، فهل فيها ما يدل على المنهج الأشعري أو يؤيده؟. إن قومه صلى الله عليه وسلم - بشهادة الله لهم أو عليهم - قومٌ خصِمون جدِلون، وهو صلى الله عليه وسلم قد جاء بأعظم البراهين والآيات التي يسميها الأشاعرة (معجزات)، فأمامنا إذن أرقى صورة من صور الإعجاز، وأشد صورة من صور العناد تقابلتا في دعوته صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فلا استدلاله صلى الله عليه وسلم، ولا ردود قومه كانا على المنهج الأشعري، فهو إذن محض خيال وتومهات ضلال!!. وعلى الأشاعرة إن أنكروا هذا أن يأتونا بما يدل على أن الإيمان ¬

(¬1) انظر غاية المرام (ص (325)).

بالنبي صلى الله عليه وسلم جرى على طريقتهم، وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ادعى النبوة، وطلب من الناس تصديقه، فطلبوا منه معجزة، فقال: هذه معجزتي فيؤمنون عقب رؤيتها!!. وأنا لا أقصد القول بأن شيئًا من هذا لم يقع بإطلاق، فقد ترويه بعض السير، وقد يكون ثبوته - على قلته - موضع جدل، لكني أجزم - يقينًا أنه لو وقع نادرٌ لا حكم له، وليس كلامنا هنا في حادثة أو أكثر، بل في الأصل والمنهج مع المأثورات للعرب وسائر الأمم. فكيف يكون هذا إذن هو الطريق الصحيح الوحيد الذي يجزم الأشاعرة أن لا دليل سواه أبدًا؟!. أما الشواهد المتواترة على إيمان من آمن به بمجرد سماع قوله، أو رؤيته، ومعاشرته، أو سماع بعض ما جاء به من الحق، فلا أحسب أني بحاجة إلى التطويل بذكرها. على أن المسألة أعظم وأعمق من هذا .. فإن الله تعالى يقول في حق المنكرين الجاحدين: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ 14 لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ 15} [الحجر: 14 - 15]. وقال: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور: (44)]. فالمسألة ليست مسألة معجزات .. كما أن المسألة ليست مسألة تصديق مجرد، فإنَّ كُفر الأمم لم يكن بسبب عدم تصديقها العقلي بأن الرسول مرسَل من الله فعلًا؛ بل بعدم

الانقياد والإذعان لما جاء به بالقلب والجوارح، وهذا هو الذي سماه الله تكذيبًا مع إثبات استيقانهم للحق، ومعرفتهم بصدق الرسول، كما قال تعالى عن فرعون: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان: (36)]. وقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. وقال له موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]. وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: (33)]. والآيات التي تحدّت العرب أن يأتوا مثل القرآن أو بعضه، لم تكن في معرض إجابة طلب الكفار للمعجزة، أو الاستدلال عليهم لإثبات دعوى النبوة؛ بل كانت ردًّا على دعوى أنه صلى الله عليه وسلم افتراه أو اكتتبه أو علّمه إياه بَشَرٌ، ونحو هذا مما يستلزم عندهم بطلان النبوة، وذلك شيء، وما نحن بصدده شيء آخر!!. وما كانت قريش قط تشك أن القرآن من عند الله، أو أن محمدًا صادق، كيف وقد كانوا يتكالبون سرًّا للاستماع إليه، أو إلى أبي بكر، وهو يتلو هذا الكلام المفصّل الحكيم، كيف والجن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يتلوه، فآمنوا وولّوا إلى قومهم منذرين، بلا معجزة ولا تحد ولا شيء من هذه الترتيبات العقلية المجنحة في فضاء الخيال. إن الأساس - كما قلنا وكررنا -: أن مصدر التلقي عند الأشاعرة

باطل، والمنهج باطل كذلك، وإلا لو استبعدوا هذا المنهج، واستمدوا من المصدر المعصوم (الوحي)، لوجدوا أنفسهم على نور من الله وبرهان، واستعلوا على كل خصم ومُناظر وجاحد. أما موضوع العصمة فهو أهون شأنًا مما سبق، لكن دلالته على فساد المنهج لا تقل عن ذاك (¬1). يقول الجويني: «تجب عصمتهم عما يناقض مدلول المعجزة، وهذا مما نعلمه عقلًا. . أما الفواحش المؤذنة بالسقوط وقلة الديانة، فتجب عصمة الأنبياء عنها إجماعًا، ولا يشهد لذلك العقل، وإنما يشهد العقل لوجوب العصمة عما يناقض مدلول المعجزة» (¬2). فمع ربطه بموضوع المعجزة - وقد سبق فساد كلامهم فيها - لست أدري أي عقل هذا الذي لا يشهد للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بالعصمة من الفواحش؟ ومن أين جاءكم البلاء إلا من تعظيم العقل وتحكيمه مرة، وطرده ورفضه مرة أخرى. فالجويني يثبت بهذا أن المسألة سمعية خاصة لا شأن للعقل - على مفهومهم له - بها، وبحسب أن هذا يقيه شر الطعون والانتقادات، وهو منازع في الدعوى ودليلها. أما صاحب (الواقف) فهو ينقل أن رأي الجمهور هو عصمتهم ¬

(¬1) لمعرفة أن مذهب الأشاعرة في العصمة هو مذهب المعتزلة في الأصل. انظر مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 296 - 297). (¬2) الإرشاد (ص356).

من الكبائر عمدًا، وأنهم تنازعوا في وقوعها سهوًا، ووقوع الصغائر عمدًا، ولهذا آثر أن يستعمل كلمة (ذنب) بإجمالها، يوضّحه أنه قال في حقيقة العصمة: «وهي عندنا ألا يخلق الله فيهم ذنبا» (¬1). ثم ذكر أدلة مذهبهم فقال: «لنا وجوه: الأول: لو صدر منهم الذنب لحرم اتباعهم .. الثاني: لو أذنبوا لردت شهادتهم .. الثالث: إن صدر عنهم وجب زجرهم .. الرابع: ولكانوا أسوأ حالًا من عصاة الأمة؛ إذ يضاعَف لهم العذاب .. الخامس: ولم ينالوا عهده .. السادس: ولكانوا غير مخلصين .. السابع: قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20]. فالذين لم يتبعوه إن كانوا هم الأنبياء فذاك، وإلا فالأنبياء بالطريق الأولى .. الثامن: أنه تعالى قسم المكلفين إلى حزب الله وحزب الشيطان، فلو أذنبوا لكانوا من حزب الشيطان. التاسع: قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90]، وقوله: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: (47)]. قال: فهذه حجج العصمة، وأنت تعلم أن دلالتها في محل النزاع ¬

(¬1) المواقف (ص366).

- وهي عصمتهم عن الكبيرة سهوًا، وعن الصغيرة عمدًا - ليست بالقوية» (¬1). أي: أن دلالتها إنما هي على عصمتهم عن الكبيرة عمدًا. ثم قال عقب ذلك: «واحتج المخالف بقصص الأنبياء (التي) توهم صدور الذنب عنهم. والجواب إجمالًا: أن ما كان منها منقولًا بأخبار الآحاد وجب ردها؛ لأن نسبة الخطأ إلى الرواة أهون من نسبة المعاصي إلى الأنبياء (¬2). وما ثبت منها تواترًا فما دام له محمَل آخر حملناه عليه، ونصرفه عن ظاهره لدلائل العصمة. وما لم نجد له محيصًا حملناه على أنه كان قبل البعثة (؟) أو من قبيل ترك الأولى، أو صغائر صدرت عنهم سهوًا، ولا ينفيه تسميته ذنبًا، ولا الاستغفار منه، ولا الاعتراف بكونه ظلمًا منهم، إذ لعل ذلك لعظمته عندهم، أو قصدوا به هضمًا من أنفسهم. قال: ومن جوز الصغائر عمدًا فله زيادة فسحة» (¬3). فنحن إذن أمام المنهج نفسه الذي حاكموا إليه نصوص الصفات، ¬

(¬1) المواقف (359 - 361)، وقد حذفنا الأدلة على وقوع الذنوب من الأنبياء للاختصار، وهي معلومة. (¬2) هذه العبارة - على ما فيها - أكثر أدبًا من عبارة الرازي: (لأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء). التفسير الكبير ((22) / (285)). (¬3) المواقف (ص361).

وسائر نصوص الوحي، والذي سبق الحديث عنه في فصل (مصدر التلقي)، فالآحاد يرد وجوبًا، والتواتر يؤول، أو يتعسف له أي مخرج .. ونحن نختصر بإيراد ما قالوه عن معصية آدم عليه السلام التي لا يشك فيها أحدٌ من أبنائه إلا الأشاعرة ومن حاذاهم، وقد صرح الله تعالى بها فقال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]. فقد أجاب الأشاعرة عنها بأجوبة كثيرة مختلفة، معظمها متفرعٌ عن ظنهم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يتعاملون مع النصوص كما يتعامل الأشاعرة!!. قال بعضهم: إن آدم لم يكن نبيًّا عند أكله من الشجرة (¬1). وقال بعضهم: بل قول الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} مجاز، وإنما أراد: وعصى أولادُ آدمَ ربهَّم. كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، أي أهلها (¬2)؟!!. وقال بعضهم: بل إن آدم فهم أن النهي للتنزيه، لا للتحريم (¬3). ¬

(¬1) فمتى أصبح نبيًّا؟ ا. (¬2) فالأولاد إذًا هم الذين أكلوا من الشجرة، أم أن الله غفر للأولاد وتحمل آدم العقوبة؟!. (¬3) من أين له بأصول فقه الأشاعرة؟. وقريبٌ من هذا تأويل الدكتور البوطي، إذ أوَّله بأن الأمر إرشادي، لا تكليفي، وأن المعصية لغوية لا شرعية، لكن كلامه لم يكن في مبحث العصمة، بل في القدر، إذ يرى أن أكل آدم من الشجرة ليس اختياريًّا، بل هو كحركة الارتعاش. انظر كتابه: الإنسان مسير أم مخير (ص131 - 135).

وقال بعضهم - وهو شارح الجوهرة -: «ما وقع من آدم فهو معصية لا كالمعاصي؛ لأنه تأول الأمر لسرٍّ بينه وبين سيده، وإن لم نعلمه، حتى نقل في (اليواقيت): لو كنت بدل آدم لأكلت الشجرة بتمامها!!. فهو وإن كاف منهيًّا ظاهرًا مأمورٌ باطنًا» (¬1). وقال بعضهم - وهو الرازي - بعد تأويلات طويلة: «واعلم أنه يمكن أن يقال في المسألة وجه آخر، وهو: أنه تعالى كما قال: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}، ونهاهما معًا، فظن آدم عليه السلام أنه يجوز لكل واحد منهما وحده أن يقرب من الشجرة، وأن يتناول منها؛ لأن قوله: {وَلَا تَقْرَبَا} نهيٌ لهما على الجمع، ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الانفراد ...» (¬2). وذهبوا إلى تكلفات لا تستقيم مع سياق الآيات بأي وجه من ¬

(¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإن قيل: إن آدم شهد الأمر الكوني القدري، وكان مطيعًا لله بامتثاله له، فهذا مع أنه معلوم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام، فهو كفر باتفاق المسلمين». مجموع الفتاوى (2/ 321)، وواضحٌ أن هذا قول أصحاب الكشف والذوق الذين سبق الحديث عنهم. (¬2) التفسير الكبير (3/ 15). قال ابن القيم: «ونحن نقطع أن هذا التأويل لم يخطر بقلب آدم وحواء البتة، وهما كانا أعلم بالله من ذلك وأصح أفهامًا، أفترى فهم أحد من قول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ}، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}، ونظائره أي: إنما نهيتكم عن اجتماعكم على ذلك دون انفراد كل واحد منكم به؟ فيا للعجب من أوراق وقلوب تسود على هذه الهذيانات». مختصر الصواعق المرسلة (ص (44)).

الوجوه، بل هم يتهمون السياق نفسه؛ كقولهم عن قصة داود: «والقصة مختلقة للحشوية؛ إذ لا يليق إدخال الذم الشنيع في أثناء المدائح العظام، بل تسوّر قومٌ قصْرَه للإيقاع به، فلما رأوه مستيقظًا اخترع أحدهم الخصومة، ونسبة الكذب إلى اللصوص أولى من نسبته إلى الملائكة» (¬1)!!. ومن هذا ما ذكره وكرره (متولي الشعراوي) في أحاديثه الإذاعية، وهو أن نسبة الذنب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح: (2)]. إنما هو باعتبار نظر قريش، أي: ذنبك عندهم، على أن الآية نزلت بعد الفتح حيث لم تعد قريش تعتبر النبي صلى الله عليه وسلم مذنبًا في حقها!!. والحق: أنه ينبغي الترفع عن مناقشة مثل هذه الترهات والتكلفات. وأصل الخطأ المنهجي في هذه المسألة وغيرها: هو حكيم القوانين العقلية في الأمور الاعتقادية، وصوغ القضايا الاعتقادية في القوالب العقلية الجامدة، فإنه لم يرِد في الكتاب والسنة نصًّا قاعدة عقلية كلية تقول: (إن كل نبي معصوم من كل ذنب). وإنما هي قاعدة وضعها الكلاميون للرد على قاعدة عقلية أخرى وضعها منكرو النبوات، وهي (إذا جاز الذنب الواحد على النبي جاز ¬

(¬1) المواقف (ص (363)). يقال له: وإذا كان الحشوية اختلقوا شيئًا، فمن أين جئت أنت بحكاية اللصوص؟!.

عليه كل ذنب). فلما تقابلت هاتان القاعدتان في العقل المجرد كان طبيعيًّا أن يختار مثبتو النبوات - ومنهم الأشاعرة - القاعدة الأولى. لكننا لو ابتعدنا عن هذا المنهج العقلي التجريدي وقوالبه الجامدة، ونظرنا إلى القضية من زاوية العقل بمفهومه الفطري الصحيح الذي أوضحناه في (السمعيات)، فلن نجد أي تعارض مطلقًا بين المنزلة العظيمة للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وبين وقوعهم في ذنوب أو أخطاء تتعلق بها حِكَم عظيمة، مع الإيمان بأنهم لا يُقَرُّون عليها من الله. ولو لم يكن من هذه الحِكَم إلا إثبات بشريتهم، وإثبات تلقِّيهم عن الله عز وجل لا عن أنفسهم، وإظهار عبوديتهم لله في مقام الإنابة والتوبة، كما أظهروها في مقام الانقياد والتسليم، فضلًا عن الحكم التشريعية والتربوية، لكفى!!. يتضح لك هذا إذا علمت أن القواعد الشرعية تقبل الاستثناء والتخصيص دون أن يقدح ذلك فيها، بخلاف القواعد العقلية - كقوانين الرياضيات، والقضايا المنطقية الكلية - فإنه يكفي لإبطالها وجود جزئيةٍ واحدةٍ لا تنطبق عليها. والعقول الفطرية شاهدة بهذا، وليك هذا المثال للتقريب فقط: لو اشتهر عن رجل من الناس أنه غاية في الكرم، لا يرد سائلًا، ولا يبخل على أحدٍ قط، ثم ثبت بالخبر الصادق أنه رد سائلًا، ولم يعطه شيئًا، فهل يعني هذا بطلان اتصافه بالكرم، أو يقدح في أصل الصفة؟ أم الأقرب للعقول تخصيص ذلك بتلك الواقعة لسبب ما؟ لأنه إنما استحق

هذا الوصف من وقائع كثيرة متوالية تقطع برسوخ هذه الصفة في نفسه، فتخلُّف هذه الصفة في موقف من المواقف لسبب من الأسباب غير مؤثر. فمع الفارق في التشبيه؛ كيف يتوهم الأشاعرة إذن أن النبي لو أذنب لأصبح من حزب الشيطان، وممن صدّق عليهم إبليسُ ظنَّه، ولكان غير مخلص، ولا مجتبى، ولرُدّت شهادته، وحرم اتباعه، ووجب زجره .. إلى آخر ما سبق إيراده عنهم؟!!. المهم: أن المسألة إذ حُررت من القوالب الكلامية الجامدة؛ تقبلها العقل السليم بلا اعتراض، ولا استغراب. أما أن نضع قاعدة من عند أنفسنا، ثم نستقرئ النصوص، فنجد كثيرًا منها يخالفها، فنتعسف في تأويلها تعسفًا لا يقره دينٌ ولا عقل، ونحسب هذا دفاعًا عن مقام النبوة، ودفعًا لشبهات المنكرين، فهذا هو عين الخطأ والضلال. فالله هو الذي عصمهم، وهو الذي شاء لهم أحيانًا أن يفعلوا ما يوجب عتابهم، أو توبتهم؛ لحِكَمٍ عظيمة أرادها هو، وليس لنا نحن البشر أن نعقِّب على حُكمه، أو نردّ بعض أمره ببعض. وإذا علمت أن آدم، ونوحًا، وإبراهيم، ويوسف، وموسى، وداود، وسليمان، وذا النون، ومحمدًا صلى الله عليهم وسلم أجمعين، قد ثبت عنهم بصريح القرآن والسنة شيءٌ من ذلك، وبعضهم وقع له أكثرَ مِن مرة، عرفت مقدار الشطط الحاصل في إطلاق نفي ذلك عنهم، وكثرة ما يحتاج إلى تأويل من الآيات والأحاديث.

هذا الشطط وقع فيه من قال من المعاصرين: «والصحيح الذي عليه المعوّل من أقوال العلماء: هو أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون عن المعاصي الصغائر والكبائر بعد النبوة باتفاق، وأما قبل النبوة؛ فيحتمل أن تقع منهم بعض المخالفات اليسيرة التي لا تخلّ ولا تقدح بالكرامة والشرف» (¬1). وهذا كلام يهدم بعضه بعضًا، حيث يزعم الترجيح بين الأقوال، ثم يقول: (باتفاق)؟!!. فهو ناقلٌ خابطٌ، ونحن نسأله أو نسأل المنقول عنه: هل يريد منا أن نحمل كل ما وقع منهم مما جاء في القرآن والسنة على أنه قبل النبوة بإطلاق، أم نردّه بإطلاق؟. إن هؤلاء يشطح بهم الخيال، وينسون النصوص القطعية، بل لا يعتدّون بدلالتها، وعلينا - أولًا - أن نُقنع هؤلاء الناس بقيمة النصوص، وحجية دلالتها!!. ¬

(¬1) النبوة والأنبياء، لمحمد بن علي الصابوني، وهو أشعري المنهج والمصادر، طبع على نفقة الشربتلي، ووزعته رئاسة البحوث والدعوة والإفتاء سنوات كثيرة، وما علمنا أن كتاب النبوات لشيخ الإسلام قد حصل له مثل هذا.

الإيمان

الإيمان هذا مثال آخر لتوسعهم في العقل المزعوم، وإلا فلَيْتَهم تركوا حقيقة الإيمان من (السمعيات)، فهي ليست قضية عقلية؛ لأن موضوعها نقلي بحت. ألا ترى أن الشرع لو علق الكفر بارتكاب الزنا، لكان ذلك كفرًا، ولو تعبّد الناس بالسجود لغير الله لكان ذلك إيمانًا، ومع هذا فقد أقحموها في مجال البحث العقلي، وخاضوا فيها خوضًا فلسفيًّا، مع أن الفلاسفة أنفسهم لا يبحثونها. يحسب بعض الخاصة - فضلًا عن العامة - أن الأشاعرة موافقون لأهل السنة والجماعة في الإيمان والعقائد، ولكن الذي يطّلع على أي كتاب من كتب الأشاعرة، أو كتب أهل السنة والجماعة؛ يتبين له حقيقة مذهبهم بجلاء. فالأشاعرة في الإيمان مرجئة جهمية (¬1)، هذا هو صريح مذهبهم في مصنفاتهم، وعليه نصَّ شيخ الإسلام ابن تيمية في معظم كتبه، لا سيما كتاب (الإيمان) الذي أطال فيه في الرد عليهم، حتى أن حوالي ¬

(¬1) مذهب جهم أن الإيمان هو المعرفة بالقلب، ومذهب الأشاعرة أن الإيمان هو التصديق المجرد بالقلب، فحقيقة المذهبين واحدة، وهي الاكتفاء بقول القلب دون عمله، ولا فرق بين أن يسمى معرفة أو تصديقًا. والكرامية جعلوه قول اللسان وحده، أما السلف فهو عندهم قول القلب وقول اللسان، وعمل القلب وعمل الجوارح، لكنه يزيد وينقص، ويتفاضل أهله فيه.

ثلثي الكتاب إنما هو مناقشة لهم وحْدَهم. وكونهم على رأي جهم في أن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، يجعلهم في مرتبة أشد بدعة من مرجئة الحنفية الذين يطلق عليهم (مرجئة أهل السنة)، أو (مرجئة الفقهاء). بل نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أنهم أبعدُ قولًا من الكرامية الذين يقولون: إن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط (¬1). فهم في هذه المسألة على أسوأ الأقوال، وأكثرها بدعة وضلالًا، وهو قول جهم (¬2). يقول القاضي الباقلاني فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به: «واعلم أن حقيقة الإيمان هو التصديق، واعلم أن محل التصديق هو القلب» (¬3). وقال أبو المعالي الجويني بعد أن نكر مذاهب الناس في الإيمان، ومنها مذهب السلف: «والمَرضيُّ عندنا: أن حقيقته التصديق بالله تعالى، فالمؤمن بالله مَن صدّقه، ثم التصديق على التحقيق كلام النفس» (¬4). فهم لا يُدخِلون الأعمال في الإيمان، لا أعمال القلوب، ولا أعمال الجوارح. ¬

(¬1) انظر الإيمان (ص134 - 135). (¬2) انظر المصدر السابق (ص138). (¬3) الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، تحقيق الكوثري (ص (55))، وهو المعروف بـ (رسالة الحرة). (¬4) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في الاعتقاد (ص (397)).

بل إن الآمدي الأصولي المعروف، وزعيم الأشاعرة في جيل ما بعد الرازي يقول: «... وبهذا أيضًا يتبين فساد قول الحشوية: إن الإيمان هو التصديق بالجَنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان» (¬1). وبعد إجماعهم على هذا، اختلفوا في النطق باللسان، أهو واجبٌ، أم يكفي مجرد حصول التصديق القلبي الذي هو مجرد كلام النفس!!. قال في (الجوهرة): وفسِّر الإيمان بالتصديق والنطق فيه الخلف بالتحقيق وبناءً على هذا؛ أنكروا مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، ولهم في النصوص الواردة في ذلك مسلكان: الأول: ردها، والتصريح بنقيضها، وعليه كلام الجويني (¬2). الثاني: تأويلها، ولهم في التأويل وجهان، نص عليها الباقلاني: (1) - قال: «إما أن يكون ذلك راجعًا إلى القول والعمل دون التصديق؛ لأن ذلك يتصور فيهما مع بقاء الإيمان». أي: أن حقيقة الإيمان التي هي التصديق لا يعتريها شيءٌ من ذلك، وإنما يكون في المكملات الزائدة عن الحقيقة. (2) - قال: «أو يتصور ذلك من حيث الحكم، لا من حيث الصورة، ويكون المراد بذلك في الزيادة والنقصان راجعًا إلى الجزاء ¬

(¬1) غاية المرام في علم الكلام (ص311). (¬2) المصدر السابق (ص (399)).

والثواب، والمدح والثناء، دون نقص وزيادة في التصديق» (¬1). أي: أن الذي يزيد ويَنقُص هو الجزاء والثواب، والمدح والثناء. وهذا أحد الآثار التعسفية لقولهم: إن الإيمان هو التصديق فقط، والكفر هو التكذيب فقط. بل بلغ الأمر بالجويني إلى أن يتحدث عن إيمان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بكلام غريب هذا نصه: «فإن قيل: أصْلُكم يُلزِمكم أن يكون إيمان منهمكٍ في فسقه كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم؟. قلنا: النبي صلى الله عليه وسلم يَفضًل من عداه باستمرار تصديقه، وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك، واختلاج الريب». إلى أن يقول: «فيثبت للنبي صلى الله عليه وسلم أعدادٌ من التصديق، لا يثبت لغيره إلا بعضها، فيكون إيمانه بذلك أكثر» (¬2). ويقول الآمدي: «يصح القول بزيادة إيمان النبي المعصوم على إيمان غيره، أي من جهة تطرُّق الشك إلى غير المعصوم دون المعصوم، أما أن يكون من جهة تطرق الزيادة والنقصان إليه من حيث هو تصديق، فلا» (¬3). وهكذا يؤدي التأصيل الفاسد إلى التعسف في تفسير أعظم الحقائق، وليِّ أعناقها؛ لتوافق ما تقررّ مِن أصول، ولذلك لم يثبت لديهم من ¬

(¬1) الإنصاف (ص57)، وانظر رد الحافظ ابن حجر على ابن العربي الأشعري، وأصحابه في ذلك: فتح الباري ((1) / (46)، (48))، مع أنه رحمه الله أخطأ في قوله: إن الأعمال شرط كمال عند السلف. فهذا مما لم يرد عن أحد منهم قط. (¬2) الإرشاد (ص400). (¬3) غاية المرام (ص313).

الفرق بين مقام النبوة في الإيمان، ومقام المنهمك في الفسق إلا هذا. ومن الإلزامات التي لا محيد للأشاعرة عنها في هذا الباب: أن قولهم هذا يلزم منه الحكم بإيمان إبليس وفرعون، واليهود والنصارى، الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فضلًا عمن ناصر الدين وأيده كأبي طالب، ونحوه من المشركين؛ لأن هؤلاء جميعًا مصدقون بقلوبهم. وأمام هذا الإلزام القاطع اضطرت الأشاعرة إلى القول بأن من نفى الشارع عنه الإيمان كهؤلاء، علمنا أنه ليس في قلبه تصديقٌ مطلقًا، وهذا ما حكم عليه شيخ الإسلام وغيره بأنه مكابرة وسفسطة. قال رحمه الله: «والحذاق في هذا المذهب - كأبي الحسن، والقاضي، ومن قبلهم من أتباع جهم - عرفوا أن هذا تناقضٌ يفسد الأصل، فقالوا: لا يكون واحدًا كافرًا إلا إذا ذهب ما في قلبه من التصديق، والتزموا أن كل من حكم الشرع بكفره فإنه ليس في قلبه شيءٌ من معرفة الله، ولا معرفة رسوله، ولهذا أنكر هذا عليهم جماهير العقلاء، وقالوا: هذا مكابرة وسفسطة» (¬1). ومما بناه الأشاعرة على هذا الأصل الفاسد قولهم: إن السجود للصنم، ولبس الصليب، والزنّار، وقتل النبي، وإهانة المصحف الشريف، أو الكعبة، ونحو ذلك، ليس كفرًا، إنما هو دليلٌ على الكفر الذي هو انتفاء التصديق من قلب فاعله (¬2). ¬

(¬1) الإيمان (ص141)، ومثله في (ص142) وما بعدها. (¬2) انظر المصدر السابق (ص143)، وتفسير الفخر الرازي (2/ 42).

يقول الرازي بعد أن ذكر أن حقيقة الإيمان هى التصديق، وحقيقة الكفر هي التكذيب: «فإن قيل: يَبطُل ما ذكرتم من جهة العكس بلبس الغيار، وشد الزنار، وأمثالهما فإنه كفرٌ، مع أن ذلك شيءٌ آخر سوى ترك تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما علم بالضرورة مجيئه به؟. قلنا: هذه الأشياء في الحقيقة ليست كفرًا؛ لأن التصديق وعدمه أمرٌ باطنٌ لا اطلاع للخلق عليه، ومن عادة الشرع أنه لا يبني الحكم في أمثال هذه الأمور على نفس المعنى؛ لأنه لا سبيل إلى الاطلاع، بل يجعل لها معرِّفات وعلامات ظاهرة، ويجعل تلك المظان الظاهرة مدارًا للأحكام الشرعية، ولبس الغيار وشد الزنار من هذا الباب. فإن الظاهر أن من يصدّق الرسول عليه السلام فإنه لا يأتي بهذه الأفعال، فحيث أتى بها دلّ على عدم التصديق، فلا جَرَم أن الشرع يفرع الأحكام عليها، لا أنها في أنفسها كفر» (¬1). وواضحٌ من كلامه أنه ليس هناك فعلٌ مكفِّرٌ أصلًا، وهو كما ترى خلط بين حقيقة الكفر الباطنية التي لا يعلمها إلا الله، وبين جريان أحكام الدنيا، فإن موضوع تقرير حقيقة الكفر والإيمان مسألة عقائدية، أما جريان الأحكام الدنيوية فمسألة فقهية، وإن كان موضوعها عقائديًّا. فلا يصح أن نستدل على أن هذه الأعمال ليست كفرًا بأننا لا نعرف ما في ضمير فاعلها؛ لأن الكفر قد يوجد في الباطن بدون هذه الأعمال، فكيف مع ارتكابها الذي لا يمكن أن يصدر إلا عن كفر راسخ؛ قد يكون ¬

(¬1) التفسير الكبير (2/ 42 - 43).

تكذيبًا، وقد يكون جحودًا، وقد يكون عنادًا. . إلى آخر أنوع الكفر التي ليس التكذيب إلا واحدًا منها. وعلى كلامهم لا يمكن اعتبار أي كافرٍ كافرًا على الحقيقة - أي باطنًا وظاهرًا - إلا إذا صرَّح بلسانه بأنه ليس في قلبه تصديق، وما لم يصرح فمهما عمل من أعمال الكفر لا نعتبرها إلا علامات على التكذيب، نجري بها أحكام الكفر في الدنيا عليه، في حين أنه قد يكون مؤمنًا في الحقيقة، معدودًا عند الله من أصحاب الجنة. والمطّلع على الكتاب والسنة وأحداث السيرة الصحيحة يعلم أنه ما كان فرعون، ولا أبو لهب، ولا أبو جهل، ولا حُييّ بن أخطب، فضلًا عن أبي طالب وأمثاله، يعتقدون في أنفسهم أن موسى أو محمدًا صلى الله عليه وسلم كاذب، ولا كان كفرهم هو التكذيب بمعناه الذي يقرره هؤلاء المرجئة، بل كان الرد والجحود، وعدم الإذعان والانقياد. قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: (33)]. والموضوع يحتاج لمزيد بسط، فراجع كتاب (الإرجاء) تجد فيه ذلك، ولعل في هذه الإشارة ما ينير الطريق إن شاء الله. ومن فروع ذلك: مسألة الاستثناء في الإيمان. فأما أبو الحسن الأشعري نفسه فقد تناقض؛ فمع أنه على قول جهم في الإيمان، إلا أنه لم يخالف المشهور عن أهل السنة من جواز

الاستثناء، وقد فسّر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا التناقض (¬1). وأما أصحابه؛ فقد خالفه أكثرهم في ذلك، والذي عليه رأي المتأخرين: عدم جواز الاستثناء. قال النسفي في العقائد المعروفة بالنسفية: «فإذا وجد من العبد التصديق والإقرار صحَّ له أن يقول: أنا مؤمن حقًّا، ولا ينبغي أن يقول: أنا مؤمنٌ إن شاء الله» (¬2). وبنحوه قال الجويني والباقلاني. فظهر مما سبق: أن مذهب الأشاعرة مباينٌ لمذهب السلف في أصل هذه المسألة، ولوازمها وفروعها. أما الآثار العميقة التي تركها هذا الاعتقاد الفاسد في أعمال المنتسبين لهذا المذهب من آثار مذهبهم في الإيمان الخاصة والعامة، فهي مما لا يتسع المجال لعرضه، وحسبنا أن نعلم أن المؤمن الذي يعتقد جزمًا أن عمل القلب والجوارح جزءٌ من الإيمان، وأن إيمانه يزيد وينقص بحسب الطاعة والمعصية، يجد في نفسه من دواعي الغفلة والتفريط الشيء الكثير، فما بالك بمن لا يعتقد هذا من أصله؟! كيف تكون نظرته لنفسه أولًا، ثم كيف يكون منهجه في التعيير والإنكار على ¬

(¬1) وهو أن أبا الحسن آمن بمذهب السلف إجمالًا - أي آخر عمره - لكنه لم يكن خبيرًا بتفصيلاته ومآخذه، على عكس معرفته بمذهب من عداهم، فقد كانت تفصيلية، كما في كتاب المقالات، فإنه فصَّل مذاهب سائر الفرق، وأجمل مذهب السلف في صفحتين تقريبًا. انظر الإيمان (ص115). (¬2) مجموع مهمات المتون (ص31)، وانظر الإرشاد (ص400)، الإنصاف (ص60).

من خالف أمر الله ثانيًا؟ وما أثر هذا على الحياة الإسلامية كلها؟. إنها أسئلة ضخمةٌ، والأجوبة عليها ينطق بها واقع تاريخ الأمة الاسلامية منذ فشو هذه الأقوال البدعية إلى يومنا هذا. وليت الأمر وقف عند تدهور الحياة الواقعية، وانطفاء جذرة الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولكنه تعداها إلى تغيير الحقائق الشرعية نفسها، وانتشار الأصول البدعية المغيِّرة في الطبقة العامة من الناس، حتى أصبحت عقائد راسخة، وأصبح المنادي بحقيقة التوحيد والإيمان شاذًّا منبوذًا، لا يتورعون عن نبزه بألقاب التكفير والخروج، كما جرى للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من أكثر معاصريه في الأمة، ثم للعلماء المعاصرين، ولا يزالون.

الخاتمة

الخاتمة بعد أن أوضحنا أن دعوى: (أن الأشعرية هي عقيدة عامة المسلمين) هي دعوى بلا دليل؛ ننصح علماء الأشعرية بسؤال العامَّة في أي بلدٍ عن الفطرة التي هم عليها، وخاصةً في (العلو)، وكيف يثبته العوام. كما ننصحهم بالتجرد لله تعالى، والابتعاد عن التقليد، وعادة استعمال عقولهم هم، لا عقول الأوَّلين، والنظر في النصوص من جديد، ففيها الغني الكامل عن كل ما كتبه الناس، وفيها العقيدة الصحيحة التي لا يقبل الله سواها. فالعقيدة الصحيحة التي تنزّه الله تعالى عن مماثلة المخلوقين موجودةٌ في النصوص - من الكتاب والسنة - لا غيرها، وليحذروا الهوى؛ فإنه يُعمي عن الحقّ ويُصم. ونسأل الله تعالى بتوفيقه أن يوفقنا والمسلمين جميعًا إلى سبيل الرشاد والاعتقاد الحق، آمين.

هذا الكتاب يبين المؤلف في هذا الكتاب الأصول المنهجية التي خالف الأشاعرة فيها أهل السنة والجماعة، وأوضح عدم وجود دليل على دعوى الأشاعرة أن عقيدة عامة المسلمين هي عقيدتهم، ثم ذكر بعض الأمثلة على التناقض والمكابرة في منهجهم، وبناء على ذلك تمَّ تحديد المراد بالفرقة الناجية في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت خاتمة هذا الكتاب لبيان الحكم الصحيح على فرقة الأشاعرة، متضمنًا نصحا لهم بالتجرد لله تعالى واستعمال عقولهم لا عقول الأولين، وتحذيرًا لهم من اتباع الهوى، فهو يُعمي ويُصم. هذا وللمؤلف بحث آخر صغير يحمل نفس الاسم.

§1/1