منطلقات طالب العلم

محمد حسين يعقوب

مقدمات

منطلقات طالب العلم جمع وترتيب فضيلة الشيخ/ محمد حسين يعقوب

منطلقات طالب العلم

الطبعة الأولى 1420 هـ - 2000 م الطبعة الثانية 1422 هـ - 2002 م كتابا قد حوى دررا ... بعين الحسن ملحوظة لهذا قلت تنبيها ... حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية الحمدُ لله الذي بنعمتِه تتم الصالحاتُ، بيدِه الخيرُ وهو على كل شيءٍ قديرٌ، والصلاةُ والسلامُ على معلِّمِ الناسِ الخيرَ، البشيرِ النذيرِ الهادي بإذنِ ربه إلى سواءِ السبيلِ. وبعد ... فهذه هي الطبعةُ الثانية من كتاب: "منطلقات طالب العلم"، أحمد الله الكريمَ أن يسَّرَ بمنِّهِ وفضلِهِ وجُودِهِ وكرمِهِ إخراجَهَا. وتأتيك أخي طالبَ العلم -أخي المتفقه- هذه الطبعةُ بها زياداتٌ مهمةٌ واستدراكاتٌ طيبةٌ، والأهمُّ من ذلك تأتيكَ هذه الطبعة موشَّحَةً بمقدماتٍ للمشايخِ والعلماءِ الأئمةِ الدعاةِ، وقد حرصتُ أشدَّ الحرصِ على أن يكتبَ المشايخُ هذه المقدماتِ لا لأزينَ بها الكتابَ فحسب، بل حرصتُ -والله يعلم مدى حرصي هذا- أن يقرأَ المشايخُ الكتابَ، ويكون تقديمهم نقدًا ونصحًا وتصويبًا، أعلمت كلًّا منهم بهذا وأوضحتُه، بل وأصررتُ عليه، لم أُرِدْهَا منهم مقدماتٍ تقليديَّةً، بل وأوضحتُ

مواضعَ الخلافِ الموجودة في الكتاب، لكي يُولُوها عنايتهم، فجاءت هذه المقدماتُ توثيقًا للكتاب وللمنهج، ولله الحمد والمنة أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وشكر الله لمشايخنا أن شرَّفوني بكتابة هذه المقدمات. ثم إن هذا الكتاب يأتيكَ في ثوبٍ جديد أُولي عنايةً خاصةً في الصَّفِّ والتنضيدِ والضبطِ، وقد تَّم ضبطُ أواخرِ الكلماتِ، وضبط الكلماتِ المشكلةِ جميعها، والحمد لله، ولذلك فإني أتوجَّهُ بخالصِ الشكرِ والتقدير والثناء والدعاء: أولًا: لمشايخنا الذين أكرموني وشرفوني بمطالعةِ الكتابِ وكتابةِ المقدماتِ. ثانيًا: لكلِّ مَنْ تعبَ وعانى في مراجعةِ بروفاتِ الكتابِ ومتابعتِهِ، حتى ظهرَ بهذه الصورةِ المشرفةِ التي تراهُ عليهَا. وهناك جنود مجهولونَ كثير خلف هذا العملِ، لا تَعْلمهم الله يَعْلمهم، أسأل الله أنْ يُثِيبهُمْ، ولعلَّ عدمَ ذكرهمْ أحرى لإخلاصهِمْ، وعندَ الله جزاؤهُمْ.

وأخيرًا ... أخي الحبيب؛ دونكَ الكتابُ، بذلتُ فيه قُصَارى جهدي وغايةَ طاقتي لأستوعبَ فيه النصحَ لك، فخذه هنيئًا مريئًا، سائلًا مولاي -وهو البر الرحيم- أن يجعلني أولَ المنتفعينَ به، وينفعك بالعملِ بما فيه، ولا أعدم منك دعوةً صالحةَ بظهرِ الغيبِ ونصيحةً صادقةً إن لزم النصحُ وكلِّي سعادة بالقبولِ منكَ. أسأل الله العلي القدير، وهو بالإجابة جدير، أن يجعل عَمَلنا كلَّه صالحًا وأن يجعلَهُ لوجهِهِ خالصًا، وألَّا يجعل فيه لأحد غيره شيئًا إنه ولي ذلكَ والقادرُ عليه، وأن يَنْفعنا بأعمالنا هذه يومَ نلقاهُ، ويجعلها مما يثقلُ موازينَ الحسناتِ. والحمد لله ربِّ العالمينَ، وصلى الله وسلم وباركَ على النبي محمدٍ وآله وصحبِهِ أجمعينَ. وكتبه محمد حسين يعقوب السابع من شوال 1422 هـ 22/ 12/ 2001 م

مقدمات السادة المشايخ فضيلة الشيخ/ محمد صفوت نور الدين فضيلة الشيخ/ محمد أحمد إسماعيل المقدم فضيلة الشيخ/ أبي إسحاق الحويني فضيلة الشيخ/ محمد بن حسان فضيلة الشيخ/ أحمد فريد فضيلة الشيخ/ ياسر برهامي فضيلة الشيخ/ عادل بن يوسف العزازي

مقدمة فضيلة الشيخ / محمد صفوت نور الدين

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة فضيلة الشيخ / محمد صفوت نور الدين الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والذي يفتح للناس أبواب العلم والحكمة والفهم، ويصرف عنهم أبواب الشبهات التي هي شراك الشيطان وشباكه. والصلاة والسلام على خير خلقه الذي بعث للناس معلمًا، فكان العلم في القرآن الذي نزل عليه، والسلوك والعمل الذي عمل به، والسمت والهيئة التي كان عليها صلى الله عليه وسلم، فكان العلم والإيمان قرينين، وكانت الخشية هي الثمر المستطاب للعلم النافع الصحيح، قال تعالى: " إنَّما يخشى الله من عباده العلماء " [فاطر/28]. ورضي الله عن الصحابة الكرام الذين ورثوا العلم من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا للناس أمنًا وأمانًا، كما قال صلى الله عليه وسلم: " وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى على أمتي ما يوعدون " وقال صلى الله عليه وسلم ـ مبينًا صفة الفرقة الناجية ـ: ما أنا عليه وأصحابي ". (¬1) ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (2641) ك الإيمان عن رسول الله، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، وقال: حسن غريب، وحسنه الألباني (5343) في صحيح الجامع.

وفي حديث البخاري ومسلم يقول صلى الله عليه وسلم: " من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله يعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ". " والفقه ": الفهم في العلم، " والله يعطي " يعني فهمًا في العلم الذي قسمه النبي صلى الله عليه وسلم، " وظاهرين على الحق " يعني عارفين للعلم عاملين به، مستقيمين عليه، فلا بقاء للأمة إلا بالعلم، فإذا ضاع العلم ضاعت الأمة، كما روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " (¬1) ولقد صنَّف العلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد كتاب " حلية طالب العلم " جمع فيه الوصايا الطيبة والمنهج الرصين لطالب العلم ليسير عليه، وكتب كثير من شيوخ العلم الكتب الضافية في ذلك، ومع ذلك لا يزال المسلم في حاجة إلى وصايا في طلب العلم، فترى القوم بين مستفت على ترتيب الطلب، وسائلٍ عن رؤوس العلم ومهامه، وسائل عن طرق تحصيل العلم وسبل تيسيره، وسائلٍ عن علاج عيوب الفهم وعن اجتناب النسيان. فجاء هذا الكتاب الطيب الذي نقدم له - نفع الله به - جامعا لشتات هذه المسائل. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخار ي (100) ك العلم، باب كيف يقبض العلم، ومسلم (2673) ك العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن.

وأحب أن ألفت النظر في هذا المقام إلى أنَّ شيوخنا السابقين من المؤسسين لدعوة السنة في مصر قاموا في مطلع القرن السابق ووسطه، فوجدوا من حولهم نار البدعة ودخن المعاصي قد أصابت الناس، فصار الدين غريبًا بين أهله في نصه ومنطقه، وفي عمله وتمثيله، وفي هيئته وسمته، فقاموا ـ كالذي يطفئ حريقًا ـ يتتبعون اللهب ثمَّ أثر الدخان حتى خمد الحريق، فظن كثير ممن عاصرهم وسار سيرتهم أن هذا هو طريق العلم الذي ربى شيوخنا عليه طلبتهم، والذي يريدونه من تلامذتهم، وأنَّ من خالف ذلك فقد خالف الشيوخ المعلمين، وهذا فهم غير صحيح؛ فإنَّ شيوخ السنة إنما يقربون العلم لأهل عصرهم بحسب حاجتهم إليه، ويراعون حال الناس فيعطونهم ما يحتاجون إليه، ولا يقدمون على التوحيد شيئًا، ولا يأخذون علوم الشرع من غير طريق الأئمة قبلهم، حيث فهم السلف للقرآن والسنة وهجران البدعة. واليوم وقد أثمر الله ثمارًا جليلة من وراء جهاد الشيوخ قبلنا وجب علينا الرجوع إلى المنهجية في العلم، وأن نجعل منطلقاتنا في ذلك منهج سلف الأمة في العلم والعمل، فالله نسأل أن يوفق المسلمين لتعلم دينهم ونشره في الناس في كافة أرجاء الأرض، وإنَّ ذلك يبدأ ـ ولابد ـ من المسلمين خاصة في البلاد الناطقة بلغة القرآن. وبعد فهذا الأخ الفاضل الشيخ / محمد حسين يعقوب ـ الذي جعل الله لكلماته القبول في الناس في مواعظه وأشرطته ـ يكتب كتابًا سماه (منطلقات طالب العلم) فصَّل فيه حول الإخلاص وصدق النية

ثمَّ علو الهمة في الطلب والتغلب على شتى الهموم، ثمَّ ماذا نتعلم؟ ثمَّ أفرد فصلاً لتزكية النفوس، وأوصى بالسلفية وفهم السلف، وبيَّن التقليد ومعناه وحكمه، ثمَّ مصدر العلم وطرق التلقي، فقسَّم كتابه إلى منطلقات عشرة، سهلة المنال، عذبة المقال، فنوصي أحبابنا بالتدبر في القراءة، والكتاب ليس لينتهي إليه القارئ بل لينطلق منه لطلب العلم والسعي لجمعه. والله من وراء القصد وكتبه محمد صفوت نور الدين

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم إنَّ الحمد لله نحمده تعالى، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ـ أما بعد ـ إخوتاه .. تجري دموع العين وفي الحشا زفرات حزن تلتطم، ويكتم المرء وجدا في جوانحه وكيف يُكتم ما ليس ينكتم، فهل للواجد المكروب من زفراته سكون عزاء أو تأوه ألم؟. فلعمر الله إنَّما نحن في رزء عظيم، وخطب أمره جلل جسيم، رزئنا في جبال كانوا على الأرض النجوم في ليل بهيم، مات ابن باز والألباني وابن عثيمين، عليهم رحمات ربنا الرحيم، وتقلب بصرك فلا تجد من يُدعى لخَطب أو يقال: عالمٌ كريم!! فمن ساعتها فتكت بأنفسنا الهموم، فما في هذه الدنيا مكان يُسَرُّ بأهله الجارُ المقيم، وسرطان الجهل في الأمة يسري فما تدري أعرضٌ حادث أم داء قديم، فلك الله يا أمة محمد عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم. فمن لنا غيرك يا ربنا، لا ملجأ منك إلا إليك فارحمنا.

كانوا بحور العلم فيا لحيرة العطشان في وقت الهجير!! كانوا على ثغور فيا لذلة المظلوم وهو معدوم النصير!! كانوا منارات فيا لحيرة الشيخ الأصم وحسرة الحدث الضرير!! كانوا مزن الرحمة فيا لفجأة المكروه في اليوم العبوس القمطرير!! اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على النَّاس يا أرحم ... الراحمين!! إلى من تكلنا؟! إلى عدو يتجهمنا أم إلى قريب ملكته أمرنا؟! إن لم يكن بك سخطٌ علينا فلا نبالي، غير أن عافيتك أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السموات والأرض، وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا ... والآخرة أن يحل علينا غضبك، أو ينزل علينا سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك. إخوتاه .. قال الله تعالى: " إنَّما يخشى الله من عباده العلماء " [فاطر/28] وقال تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " [المجادلة /11] قال الله تعالى: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " [الزمر/9] فالعلماء هم أكثر الناس خشية لله تعالى، فالعلم عبادة القلب إذا ابتغي به وجه الله تعالى، فتعلمه لله قربة، ومدراسته ذكر، والبحث

عنه جهاد، وتعليمه صدقة؛ لأنَّه معالم الحلال والحرام، وبيان سبيل الجنة، والمؤنس في الوحشة، والمحدث في الخلوة، والجليس في الوحدة، والصاحب في الغربة، والدليل على السراء، والمعين على الضراء، والزين عند الإخلاء، والسلاح على الأعداء. وبالعلم يبلغ العبد منازل الأخيار في الدرجات العلى، ومجالسة الأصفياء في الدنيا، ومرافقة الأبرار في الآخرة. وبالعلم توصل الأرحام، وتفصل الأحكام، وبه يعرف الحلال والحرام. وبالعلم يعرف الله ويوحد، وبالعلم يطاع الله ويعبد. فخير الدنيا والآخرة مع العلم، وشر الدنيا والآخرة مع الجهل. إخوتاه .. وإذا كان هذا شأن العلم، فإنَّ القلب ليتفطر كمدًا ويقطر حسرة على عمر الدعوة الذي لم يثمر إلا أعدادًا ضئيلة تنحصر على أصابع اليدين من طلبة العلم المجتهدين، وليس ثمَّ زمان أحرى من هذا الزمان لنعيد فتح " قضية التعلم " التي باتت من أكثر المزالق التي تزل فيها الأقدام، فقد غابت " المنهجية " ... و" كثرت الدعاوى " و" انتشرت الآراء الباطلة " وتلك علامة الساعة؛ فشرطها أنْ يزداد الجهل، ويقل العلم. ومما زاد الطين بلة أن كثيرا من حملة العلم إلا من رحم الله لم

يصونوا العلم وندر العمل به ففقدوا سيما أهل العلم والصلاح وفقدت الأمة الرجل القدوة، الذي يقود الأمة بعلمه وعمله، بهديه وسمته وسلوكه، وأقواله وأفعاله. قال الفضيل: لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم، وأعزوا هذا العلم وصانوه، وأنزلوه حيث أنزله الله إذًا لخضعت لهم رقاب الجبابرة، وانقاد لهم الناس، وكانوا لهم تبعًا، ولكنهم أذلوا أنفسهم، وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا، فهانوا وذلوا، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون فأعظم بها من مصيبة!! عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا " (¬1) ولقد كثر سواد علماء السوء، ووسد الأمر إلى غير أهله، فهان العلم، وازدادت الفتن، وتوالت المحن. قال صلى الله عليه وسلم: " سَيَاتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيْؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيَخُونُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ. قِيلَ: وَمَا الرَّوَيْبِضَةُ؟!! قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتكلَّم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ. (¬2) قال الثوري: كان يقال العالم الفاجر فتنة لكل مفتون. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (80) ك العلم، باب رفع العلم وظهور الجهل، ومسلم (2671) ك العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن. (¬2) أخرجه ابن ماجه (4036) ك الفتن، باب شدة الزمان، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3261).

إخوتاه .. وليت البلاء وقف عند حد علماء السوء إذاً لقلنا: لهم الجهابذة يذبون عن شرع الله تعالى، ولكنَّ البلية بليتان، فقد عاد أهل الصلاح والإيمان، من الندرة بمكان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " (¬1) وفي خلال السنتين الماضيتين فقدت الأمة من خيرة علمائها ما لم تفقده طوال عقود ماضية، ولم تعدْ تبصر من الأكابر إلا النادر القليل، وعاد الأمر برمته بأيدي الأصاغر، وتلك من علامات الساعة. عن أبي أمية الجمحي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر " (¬2) مات الأكابر: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ وفضيلة العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ناهيك عن فحول ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخار ي (100) ك العلم، باب كيف يقبض العلم، ومسلم (2673) ك العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن. (¬2) أخرجه ابن المبارك في الزهد (61) وصححه الألباني في الصحيحة (695)

أعلام كفضيلة الشيخ عطية سالم، وفضيلة الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر، وفضيلة الشيخ سيد سابق، وفضيلة الشيخ ابن غضون، وفضيلة الشيخ منَّاع القطان، وفضيلة الشيخ مصطفى الزرقا، وفضيلة الشيخ حماد الأنصاري، وفضيلة الشيخ محمد أمان الجامي، وفضيلة الشيخ عمر فلاتة، وفضيلة الشيخ على الطنطاوي وغيرهم، ولم نلبث كثيرًا حتى رزئت الأمة في العَلم الهمام فضيلة الشيخ ابن عثيمين عليه رحمات الرحمن، فاليوم تقلب بصرك فلا تجد من يقوم على ثغرات كان يسدها هؤلاء الرجال الجبال، فموت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار. قال أيوب: إني لأخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأنِّي أفقد بعض أعضائي. فاللهم إليك المشتكي. تعلَّم ما الرزية فقد مال ... ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد حر ... يموت بفقده بشر كثير إخوتاه .. يوم مات الشيخ الألباني قلت: إنَّ القلق على مستقبل الأمة أعظم من حزننا على موت علمائنا، فالمصاب الجلل أن تلتفت فلا تجد من يسد الثغرة التي كان عليها هؤلاء الفحول، وأنْ يصير جل عملنا النواح ونترك العمل الإيجابي الجاد.

ولذلك طرحت يومها " ورقة عمل " من ست نقاط: أولا: وجود منهج سلفي فعلي متكامل لطلبة العلم، منهج واقعي ذي مراحل وفق طريقة سلفنا الصالح، منهج محدد واضح يعرفه كل أحد، ويتقيد به. ثانيًا: أن يعكف فريق من الدعاة وطلبة العلم المجتهدين على شرح هذا المنهج على أشرطة وأسطوانات وكتب، وتباع بسعر التكلفة، وتتولى رعاية ذلك الجمعيات الرسمية؛ لبث وتدريس هذا المنهج. ثالثًا: تجييش الأمة بكل فئاتها وطبقاتها لطلب العلم. رابعًا: تجريد الإخلاص في طلب العلم. خامسًا: الشمولية قبل التخصص؛ كي لا تفرز الأمة أنصاف متعلمين، ليس لهم من العلم إلا شذرًا من هنا وهناك، أو متخصصًا لا يدري شيئًا عمَّا لم يتخصص فيه. سادسًا: عدم التعصب للآراء والمذاهب والمشايخ. (¬1) وإذا كان ذلك على وجه الإجمال، فلعلي في هذه الرسالة ـ أسأل الله أن يكتب الله لها القبول ـ أعيد ما أجملت ثمَّ بمزيد بيان، والله المستعان. ¬

(¬1) مجلة التوحيد عدد شعبان 1420هـ بعنوان " مرثية الحيارى "

إخوتاه .. إنني أحاول من خلال هذه الرسالة أنْ أنبهكم لخطورة " قضية التعلم " فقد بات نوع من الفصام العجيب بين العلم والعمل، ولم تعدْ تألف وجود العالم العامل، كما كان الأمر من قبل، فقد غيبت المفاهيم، وانطلقت شعارات كـ " العلم للعلم " و" العلم المدني والعلم الشرعي " ونحو ذلك مما يدندن به أعداء هذه الأمة لسلب هويتها، بمسخ أصولها وقواعدها الركينة، فالعلم والعمل عندنا وجهان لعملة واحدة، لا فصام بينهما البتة، فالعلم عندنا ليس ترفًا معرفيًا، ولا تطلعًا فلسفيًا، ولا ينفصل عن عقيدة التوحيد قيد أنملة، بل العلم وسيلة للقرب من الله تعالى وتحقيق خشيته في القلوب، ولا علم دون عمل يثمره، ولا عمل دون علم يبصره. قال الحسن: رأيت أقواما من أصحاب رسول الله يقولون: " من عمل بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه، والعامل بغير علم كالسائر على غير طريق، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم. وكان الرجل يطلب العلم فيهم حتى لا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه وزهده ولسانه وبصره (¬1) ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (4/ 583)

وقال الخطيب البغدادي: لا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشا من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصرا في العمل، ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما. (¬1) ـ وبعدُ ـ فإنَّ العلم الذي هو أول ما يعقد عليه الخنصر في الدين واليقين، ليفسده اضطراب التلقي؛ لذلك كانت هذه الوصايا لطالب العلم، نناقش من خلالها " قضية التعلم " في وقتنا الراهن، ونوضح السبل القويمة لتحصيله، وذلك من خلال منطلقات عشرة، هي بمثابة الركائز والأصول التي ينبني عليها صرح العلم الشامخ، ... وأرجو من الله العلي القدير أن تكون منارات على الطريق تهدى الشداة السائرين. وقد استقيتها من نهج سلفنا الأوائل في التلقي، وأردت بذلك أن أمدَّ يد العون لطلبة العلم كي يستضيئوا بها في دربهم، فإنَّ آمال الأمة معقودة على هذا الجيل كي ينتج لنا من العلماء والفقهاء ما يعوضنا خيرًا مما افتقدنا، فإنَّ قبض العلماء نذير الساعة، والساعة أدهى وأمر، والساعة لا تقوم إلا على أراذل النَّاس، نعوذ بالله أنْ نكون منهم. ¬

(¬1) اقتضاء العلم العمل للخطيب البغذادي بتحقيق الشيخ الألباني ص (14) ط المكتب الإسلامي.

أيها المتفقه .. وهذا ندائي معك منذ اللحظة، فلتكن كما يُراد منك، وتعال لنجوب معًا في رياض العلم نقتطف منها ما يبلغك سؤلك وسؤل أمتك. وأصدقُ ـ لا تواضعاً بل اعترافاً ـ أنني لم يكن لي أدنى فضل في كتابة أي كلمة من كل ما ستقرأه ـ أخي وحبيبي في الله ـ: وإنَّما أنا فقط أقرأ وأكتب ما قرأتُ، أجمع وأرتب، بعد أن طفت في بساتين الحكماء، وحلقت في آفاق العلماء، وأبحرت في بطون الكتب، فانتقيت لك زهوراً طالما استرعتْ انتباهي فأخذت بلبي. واخترت لك زاداً كان لي غذاءً يوماً، فآثرت وما استأثرت، فكل عملي قطف الزهور، وتعبئة الزاد، والتنسيق بين هذا وذاك، ثم هو لك معين، فخذها هنيئاً مريئاً، ولتحسن نيتك في الأخذ، عساك أن ينفعك بها ربك فيرفعك مقامًا عليًا، ولا أعدم منك دعوة صالحة بظهر الغيب تكون نعم المعين.

والله المستعان وعليه التكلان، هو حسبنا ونعم الوكيل، لا إله إلا هو نعم المولى ونعم النصير. وصلِّ اللَّهمَّ عَلى مُحَمدٍ، وعَلى أَهْلِ بَيْتِهِ، وعَلى أَزْواجِهِ وذُرِّيَّتِه، كما صلَّيْتَ عَلى آلِ إِبْراهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وبَاركْ عَلى مُحَمدٍ، وعَلى آلِ مُحَمدٍ، وعَلى أَزْوَاجِهِ وذُرِّيته، كما بَارَكْتَ عَلى آلِ إبراهيمَ، إِنَّكَ حَميدٌ مَجِيدٌ. وكتب محمد بن حسين آل يعقوب غفر الله له ولوالديه والمسلمين والمسلمات وكان ختامه في ليلة الحادي والعشرين من شهر شوال 1421 هـ والحمد لله رب العالمين أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ***

فضل العلم وبيان أهميته

فضل العلم وبيان أهميته اعلم ـ أخي المتفقه وفقني الله وإياك ـ: أن العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجدَّ فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب. قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ لكميل: " احفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة، فعالم رباني، وعالم متعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، والمال ينقصه النفقة، ومحبة العالم دين يدان بها باكتساب الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته وصنيعه، وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة ". فللعلم مقام عظيم في شريعتنا الغراء، فأهل العلم هم ورثة الأنبياء، وفضل العالم على العابد كما بين السماء والأرض. فعن قيس بن كثير قال: قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق فقال ما أقدمك يا أخي؟ فقال: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أما جئت لحاجة؟! قال: لا.

قال: أما قدمت لتجارة؟! قال: لا. قال: ما جئت إلا في طلب هذا الحديث. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر " (¬1) والعلماء هم أمناء الله على خلقه، وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين ... خطير؛ لحفظهم الشريعة من تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، والرجوع والتعويل في أمر الدين عليهم، فقد أوجب الحق سبحانه سؤالهم عند الجهل. قال تعالى: " فاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ " [النحل/ 43] وهم أطباء الناس على الحقيقة، إذ مرض القلوب أكثر من الأبدان، فالجهل داء، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإنما شفاء العي السؤال " (¬2) ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (2682) ك العلم عن رسول الله، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2159) (¬2) أخرجه أبو داود (336) ك الطهارة، باب في المجروح يتيمم، وابن ماجه (572) في المقدمة، باب في المجروح تصيبه الجنابة بلفظ " أولم يكن شفاء العي السؤال " وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (4362) وصحيح أبو داود (325)

ومرضى القلوب لا يعرفون مرضهم، كما أن من ظهر على وجهه برص ولا مرآة له لا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره، والدنيا دار مرض؛ فكما أنَّه ليس في بطن الأرض إلا ميت، فكذلك ليس على ظهرها إلا سقيم، والأسقام تتفاوت وتتنوع، والعلم هو ترياقهم فتدبر. قال صلى الله عليه وسلم: " تداووا فإِنَّ الله تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواءً غير داءٍ واحدٍ: الهرم" (¬1) أيها المتفقه .. إنَّ القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة تفيض بالحث على طلب العلم وبيان أهميته وخطورته فمن ذلك: 1) قال الله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم " [آل عمران / 18] فأهل العلم هم الثقات العدول الذين استشهد الله بهم على أعظم مشهود، وهو توحيده جل وعلا، وهذا هو العلم الحقيقي، العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته، وموجب ذلك ومقتضاه من الإيمان برسله وكتبه والإيمان بالغيب حتى كأنه مشاهد محسوس. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (3855) ك الطب، باب في الرجل يتداوى، وابن ماجه (3436) ك الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (2930)

فهذه المزية الكبرى للعلم وأهله، أنَّه يدل على صراط الله المستقيم، أنَّه الوسيلة العظمى للقرب من الله تعالى، وموجب لإحاطة محبته بالقلب، فمتى عرفت الله اجتمع قلبك على محبته وحده جل وعلا؛ لأنَّ له وحده الأسماء الحسنى والصفات العلا. فهذا هو العلم وهذه هي ثمرته. رزقنا الله وإياك الشجرة والثمرة إنه جواد ... كريم 2) وقد بوَّب الإمام البخارى بابًا فقال: " باب العلم قبل القول والعمل"؛ ... لقوله تعالى: " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " [محمد/19] سئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " [محمد/19] فأمر بالعمل بعد العلم. فالعلم مقدم على القول والعمل، فلا عمل دون علم، وأول ما ينبغي تعلمه ... " التوحيد " و "علم التربية " أو ما يُسمَّى بعلم " السلوك " فيعرف الله تعالى ويصحح عقيدته، ويعرف نفسه وكيف يهذبها، وأنت تلحظ هذا الارتباط بين العلم بالتوحيد " فاعلم أنَّه لا إله إلا الله " وبين التربية والتزكية التي من ثمارها المراقبة ودوام التوبة " واستغفر لذنبك " 3) والعلم نور يبصر به المرء حقائق الأمور، وليس البصر بصر العين، ولكن بصر القلوب، " فإنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى

القلوب التي في الصدور " ... [الحج/46]؛ ولذلك جعل الله الناس على قسمين: إمَّا عالم أو أعمى فقال الله تعالى: " أفمن يعلم أنَّما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى " [الرعد/19]. ولذلك عبَّر الله تعالى بفعل " رأى " دلالة على العلم في قوله تعالى: " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق " [سبأ /6] فلم يقل: " ويعلم " وهذا ـ والله أعلم ـ إشارة إلى العلم وأثره في القلوب، التي صارت به تبصر وترى الحق، ولا يلتبس عليها بالباطل. وهذا واضح في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودا عُودا، فَأَيّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْل الصّفَا، فَلاَ تَضُرّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالاَخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادا كَالْكُوزِ مُجَخّيا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرا، إِلاّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ " (¬1). 4) والعلم يورث الخشية قال الله تعالى: " إنَّما يخشى الله من عباده العلماء " [فاطر/28] ¬

(¬1) أخرجه مسلم (144) ك الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وإنه يأرز بين المسجدين.

وقال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا " [الإسراء /107 - 109] 5) وقد مدح الله أهل العلم وأثنى عليهم، فجعل كتابه آيات بينات في صدورهم، به تنشرح وتفرح وتسعد. قال الله تعالى: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون " [العنكبوت/49] 6) وقد أمرنا الله تعالى بالاستزادة من العلم وكفى بها من منقبة عظيمة للعلم. قال الله تعالى: " وقل رب زدني علمًا " [طه/ 114] قال القرطبي: فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم. 7) والعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم أهل الذكر، الذين أمر الناس بسؤالهم عن عدم العلم قال الله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " [النحل/43] 8) وأخبر الله عن رفعة درجة أهل العلم والإيمان خاصة. قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس

فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " [المجادلة /11] 9) والعلم أفضل الجهاد، إذ من الجهاد جهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الأئمة من ورثة الأنبياء، وهو أعظم منفعة من الجهاد باليد واللسان، لشدة مؤنته، وكثرة العدو فيه. قال تعالى: " ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا " [الفرقان / 51 - 52] يقول ابن القيم: " فهذا جهاد لهم بالقرآن، وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضًا، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومع هذا فقد قال تعالى: " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " ومعلوم أنَّ جهاد المنافقين بالحجة والقرآن. والمقصود أنَّ سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم، ودعوة الخلق به إلى الله " (¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو في منزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره " (¬2). ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة (1/ 70). (¬2) أخرجه ابن ماجه (227) في المقدمة، باب فضل العلماء، والحث على طلب العلم، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (186)

10) ولم يجعل الله التحاسد إلا في أمرين: بذل المال، وبذل العلم، وهذا لشرف الصنيعين، وحث النَّاس على التنافس في وجوه الخير. عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " (¬1) 11) ولا ينقطع عمل العالم بموته، بخلاف غيره ممن يعيش ويموت، وكأنَّه من سقط المتاع، أمَّا أهل العلم الربانيون الذين ينتفع بعلمهم من بعدهم فهؤلاء يضاعف لهم في الجزاء والأجر شريطة الإخلاص. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " (¬2) 12) وكل ما في الدنيا هالك وإلى زوال، تتنزل عليه اللعنات، والمرحوم من ذلك صنفان من النَّاس: أهل العلم وطلبته، والعابدون الذاكرون الله كثيرًا. عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم " (¬3) ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (73) ك العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، ومسلم (816) ك صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه. (¬2) أخرجه مسلم (1631) ك الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته. (¬3) أخرجه الترمذي (2322) ك الزهد عن رسول الله، وقال: حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1891)

13) وبالعلم يعظم أجر المؤمن، ويصحح نيته، فيحسن عمله، وإذا كان النَّاس لا يشغفون بالمال عن العلم، فإنَّ فضل العلم على المال أعظم، وقد فصل لنا الشرع في هذه القضية، فقد قسَّم رسول الله النَّاس على أصناف أربعة، جعل الناجين منهم صنفين، وهما من تلبث بالعلم. فعن أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه. قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر أو كلمة نحوها. وأحدثكم حديثا فاحفظوه قال: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علما، ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالا، ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل.

وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوزرهما سواء. (¬1) والشاهد هنا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلم الحقيقي هو العلم الذي يبصر المرء بحقائق الأمور، فصاحب المال إذا لم يتحلَ بالعلم فإنَّه سيسيء التصرف فيه، فتجده ينفقه على شهوات نفسه، ولا يعرف شكر هذه النعمة، ولذلك استحق أن يكون بأخبث المنازل، والعياذ بالله. وجعل العالم يعرف قدر المال الحقيقي، فيم ينفق؟ فبعلمه نوى نية صالحة فصار بأعلى المنازل، وإن لم ينفق. 14) ومن رزق فقهًا في الدين فذاك الموفق على الحقيقة، فالفقه في الدين من أعظم المنن. عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " (¬2) 15) والعلم مقدم على العبادة، فإنَّ فضلا في علم خير من فضل في عبادة، ومن سار في درب العلم سهل عليه طريق الجنة. أخرج البيهقي في سننه عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله أوحى إليَّ: أنه من سلك مسلكا في ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (2325) ك الزهد عن رسول الله، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1894) (¬2) أخرجه الترمذي (2645) ك العلم عن رسول الله، باب إذا أراد الله بعبد خيرًا فقهه في الدين، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2133)

طلب العلم سهلت له طريق الجنة ومن سلبت كريمتيه أثبته عليهما الجنة وفضل في علم خير من فضل في عبادة وملاك الدين الورع " (¬1) 16) ويكفي صاحب العلم فضلاً أنَّ الله يسخر له كل شيء ليستغفر له ويدعو له فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ... " صاحب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر " (¬2) 17) وطلبة العلم هم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيأتيكم أقوام يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم فقولوا لهم: مرحبًا بوصية رسول الله وأقنوهم " قلت للحكم: ما أقنوهم؟ قال: علموهم. (¬3) 18) وأهل العلم الذين يبلغون الناس شرع الله تعالى هم أنضر الناس وجوهًا، وأشرفهم مقامًا، بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. قال صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها، فرب حامل فقه غير فقيه، رب حامل فقه إلى من هو أفقه " (¬4) ¬

(¬1) أخرجه البيهقي وصححه الألباني في صحيح الجامع (1727) (¬2) أخرجه أبو يعلى وصححه الألباني في صحيح الجامع (3753) (¬3) أخرجه ابن ماجه (247) في المقدمة، باب الوصاة بطلبة العلم، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (201) (¬4) أخرجه ابن ماجه (230) في المقدمة، باب من بلغ علمًا، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (187)

19) ومن شرف العلم وفضله أنَّ الله امتن على أنبيائه ورسله بما آتاهم من العلم، دلالة على عظم المنَّة. فذكر نعمته على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى: " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك ... عظيمًا " [النساء/113] ووصف خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بأنَّه كان أمة، أي جامعًا لصفات الكمال من العلم والعمل. قال تعالى: " إنَّ إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين شاكرًا لأنعمه " [النحل/ 120 - 121] وقال جل وعلا عن نبيه يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: " ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين " [يوسف / 22] وقال في كليمه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: " ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين " [القصص/114] وقال في حق المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: " يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل " [المائدة / 110]

20) قال علي بن أبي طالب: ومن شرف العلم وفضله أنَّ كل من نسب إليه فرح بذلك، وإنْ لم يكن من أهله، وكل من دفع عنه ونسب إلى الجهل عزَّ عليه ونال ذلك من نفسه، وإنْ كان جاهلاً. 21) ومن فضل العلم أنَّ صاحبَه معتبرٌ قولُه في الشريعة، فهو الناطقُ بالحق في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد؛ لأنه أَبصرُ النَّاس بالخير والشر. قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [النحل: 27]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80]. وهذا في قصة قارون، فالعلماءُ هم أبصرُ الخلقِ بمداخلِ الشرِّ؛ ولذلك كان لزامًا عليهم بيانُ ذلك للنَّاس. قال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63]. 22) ومن فضل العلم: أنَّ صاحبَه يصيرُ بمنزلة الشَّارع من وجهٍ. - قال - صلى الله عليه وسلم -: "تسمعون ويُسمع منكم، ويُسمع مِمَّن يَسمع منكم" (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (1/ 321)، وأبو داود (3659) ك العلم، باب فضل نشر العلم، وابن حبان في صحيحه (77)، والحاكم (1/ 95) من حديث ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2947).

- قال الإمام الشاطبي: "إنَّ العالم شارعٌ، من وجهٍ، لأنَّ ما يبلغه من الشريعة، إمَّا منقول عن صاحبها، وإمَّا مستنبط من المنقول. فالأول: يكون فيه مبلغًا. والثاني: يكون فيه قائمًا مقامَه في إنشاءِ الأحْكَامِ، وإنشاءُ الأَحكامِ إنما هو للشارعِ، فإذا كان للمجتهدِ إنشاءُ الأحْكَامِ بحسب نَظَرِهِ واجتهادهِ، فهو من هذا الوجه شارعٌ، واجبٌ اتِّباعُه والعملُ على وفقِ ما قاله، وهذه هي الخلافة على التحقيق" (¬1). 23) ومن فضل العلم وأهله: أن عليه مدار النجاة. عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: كنَّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فشخص بصره إلى السماء ثمَّ قال: "هَذَا أوان يُخْتَلَسُ العلمُ مِنَ الناسِ حَتَّى لَا يَقدِرُوا منه عَلَى شيءٍ". فقال زياد بن لبيد الأنصاريُّ: كيف يختلس منَّا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنَّه ولنقرِئنه أبناءنا ونساءنا. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثكلتك أمُّكَ زيادُ، إن كنتُ لأعدَّكَ من فقهاءِ أهلِ المدينةِ، هذه التوراةُ والإنجيلُ عند اليهودِ والنصارى فماذا تغنى عنهم؟! (¬2). ¬

(¬1) الموافقات (4/ 245). (¬2) رواه الدارمي (294) في المقدمة، باب من قال: العلم خشية وتقوى الله، والترمذي في سننه (2791) ك العلم، باب ما جاء في ذهاب العلم، وقال: حسن غريب.

فذهاب العلم بذهاب العلماء، إذ ذهابهم هو الهلاك الحقيقي للأمم. قال ابن عباس: أتدرون ما ذهاب العلم؟ قالوا: لا. قال: ذهاب العلماء (¬1). وقال أيضًا-: "لا يزالُ عالمٌ يموتُ، وأثرٌ للحقِّ يَمْرُسُ، حتى يكثرَ أهلُ الجهلِ، وقد ذهب أهلُ العلمِ فيعملون بالجهلِ، ويدينون بغير الحقِّ، ويضلون عن سواءِ السَّبيلِ" (¬2). 24) ومن فضل العلم: أنَّه يُحتاج إليه في كل وقت وحين. - قال الإمام أحمد: "الناسُ أحوج إلى العلمِ منهم إلى الطعام والشراب؛ لأنَّ الطعامَ والشرابَ يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثًا، والعلمَ يحتاج إليه في كلِّ وقتٍ" (¬3). - فإنَ العلم نور الهداية، وبدونه لا يعلمُ كثيرٌ من الناس كيفية أداء الفرائضِ ولا اجتناب المحارم، ولا يعبدون الله على بصيرةٍ، فلولا العلم لفسد عملُ النَّاسِ، والعلماء في الأرضِ كالنجومِ يهتدى بها في الظلمات، وترجم الشياطين الذي يخلطون الحقَّ بالباطلِ، ويدخلون في الدين ما ليس فيه، وهم زينة الأرض، فإنهم النجوم على الحقيقة. ¬

(¬1) رواه الدارمي في "سننه" (249) في المقدمة، باب في ذهاب العلماء. (¬2) رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 155). (¬3) ذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين" (2/ 256)،

ماذا نعني بالعلم؟ وكيف يطلب؟

25) ومن فضل العلم: أنَّه لا يُحَدُّ نفعه. - قال ميمون بن مهران: إنَّ مثل العالمِ في البلد كمثل عين عذبة في البلد (¬1). - وقال بعضهم: مثل العلماء مثل الماء حيثما سقطوا نفعوا (¬2). - وقال الإمام أحمد في وصف الشافعي -رحمه الله-: كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للنَّاس، فهل لهذين من خلف، أو منهما عوضٌ (¬3). فهذا غيض من فيض في هذا الباب، وأنصحك بمطالعة كتاب " مفتاح دار السعادة " فقد عقد ابن القيم فيه فصلاً ماتعًا عن فضل العلم وشرفه، ناهيك عمَّا سطره ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " فاغتنمهما. ماذا نعني بالعلم؟ وكيف يطلب؟ أيها المتفقه .. حين نقول العلم، فإنما نريد أن تعلم الأمة، كل الأمة، جميع الأمة، صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، حكاماً ومحكومين، فكل أفراد الأمة على التعيين عليهم ¬

(¬1) "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 54). (¬2) المصدر نفسه (1/ 60). (¬3) "سير أعلام النبلاء" (10/ 45).

طرق التعلم

أنْ يعرفوا الله: الله جل وعلا الذي يعبدونه، الله الذي استسلموا له بالإسلام، أن يعرفوا الله. من خلال عقيدة صحيحة صافية سليمة نقية واضحة. وأن يعرفوا رسوله: فيعرفوه معرفة حقيقية؛ ليتبعوه، وليحبوه، وليوالوه، وليقتدوا ويتأسوا به، ولا يتركوا شيئاً من سنته وعمله إلا عملوه. وأن يعرفوا ما تلزم معرفته من أمر الدنيا والدين إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وللوسائل حكم المقاصد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " طلب العلم فريضة على كل مسلم" ـ وفي رواية " على كل مؤمن " (¬1)، وتأتى هذه الأهمية بعد قضية الإيمان بالله عز وجل، فأول واجب على كل مسلم الإيمان بالله تعالى، ويليه العلم؛ لأنَّك بالتعلم تصحح إيمانك وعقيدتك، وتصحح عملك، فالتعلم هو الوسيلة التي يتمكن بها المكلف من تصحيح إيمانه، ومن تصحيح عمله. والتعلم له طريقان بحسب طاقة الناس: 1) فمن كان قادراً على تلقى العلم من شيوخه بالجلوس عند ركبهم، ودراسة العلوم عليهم، وجب عليه أن يتعلم الحد الواجب من العلوم بهذه الطريقة. ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (10/ 240)، والصغير (1/ 16)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (10/ 375، 11/ 424) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3913).

2) ومن لم يكن قادراً على ذلك فليتعلم بطريقة السؤال؛ يسأل أهل الذكر وأهل العلم عن المسائل الضرورية التي يصحح بها عمله، ويصحح بها إيمانه .. قال الله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إنْ كنتم لا تعلمون " [النحل /43] وقال صلى الله عليه وسلم " فإنَّما شفاء العي السؤال " (¬1) وقد سلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا المسلكين، كلٌ على قدر طاقته، وعلى قدر إمكاناته، فالمهاجرون والأنصار الذين كانوا معه في المدينة النبوية المباركة أكثرهم تلقوا العلم من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يسمعه من فمه صلى الله عليه وسلم يسمعه عمن سمعه منه صلى الله عليه وسلم،. وكانوا يتناوبون على سماع العلم منه صلى الله عليه وسلم. في الصحيحين عن عبد الله بن عباس عن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يومًا، وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك .. " (¬2) وكثير من المسلمين في عهده الذين لم يستطيعوا التعلم بهذه الطريقة تلقوه بطريق السؤال، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل حدب ¬

(¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري (89) ك العلم، باب التناوب في العلم، ومسلم (1479) ك الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء.

وصوب يسألون عن الضروري من أمور دينهم، فيجيبهم صلى الله عليه وسلم بأوجز وأبلغ عبارة، فيفهمون المراد، ويرجعون إلى بلادهم وأقوامهم، يبادرون إلى العمل. فهذا رجل من ثقيف يأتي بعد أن امتن الله على قبيلته فدخلت في الإسلام لكن ذلك كان في فترة متأخرة، فيرغب في الخير الذي حصَّله من سبقه، فيسأل النبي سؤالاً جامعًا، ويجيبه النبي بإجابة بليغة وجيزة. عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ـ وفي رواية "غيرك " ـ قال: قل آمنت بالله فاستقم " (¬1) وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفرحون بمجيء أحد من الأطراف، خاصة إذا كان من البادية؛ لأنهم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل كان الصحابة يتهيبون من سؤاله صلى الله عليه وسلم عنها. ولذلك قال أنس: كنا نهاب أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يأتيه الرجل من أهل البادية فيسأله، ونحن نستمع. (¬2) وذلك بعد أن أنزل الله تعالى قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" [المائدة/101] ¬

(¬1) أخرجه مسلم (38) ك الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام. (¬2) أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/ 80).

بل وحتى النساء كن يحرصن على سؤاله صلى الله عليه وسلم، وتعلم أمور الدين منه صلى الله عليه وسلم، فكانت المرأة من الصحابيات إذا استحيت أن تسأله مباشرة، سألته بواسطة بعض أمهات المؤمنين إذا كان الأمر يتعلق بشيء مما يستحي منه النساء، وأما في غير ذلك فيسألنه صلى الله عليه وسلم، ويحرصن على تلقي العلم منه. في صحيح مسلم عن عائشة أنَّ أسماء ـ رضي الله عنهما ـ سألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها فقالت أسماء: وكيف تطهر بها!! فقال: سبحان الله تطهرين بها. فقالت عائشة: كأنها تخفي ذلك تتَّبعين أثر الدم. وسألته عن غسل الجنابة فقال: تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها الماء. فقالت عائشة نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في ... الدين. (¬1) ¬

(¬1) أخرجه مسلم (332) ك الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيضة فرصة من مسك.

وانظر إلى حرص النساء على تعلم العلم منه صلى الله عليه وسلم، جاءته أسماء بنت يزيد بن السكن رضى الله عنها وهو بين أصحابه فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، واعلم ـ نفسي لك الفداء ـ أنه ما من امرأة كانت في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا أو لم تسمع إلا وهي على مثل رأيي، أنَّ الله بعثك إلى الرجال والنساء كافة، فآمنا بك وبإلهك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم، ومفضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمع، والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجًا أو معتمرًا أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفما نشارككم في هذا الخير يا رسول الله؟!! فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها عن أمر دينها من هذه!! قالوا: يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا. ... فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها، ثمَّ قال: انصرفي أيتها المرأة، واعلمي من ورائك من النساء أنَّ حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله. قال: فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارا. (¬1) ¬

(¬1) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (7/ 363 - 364)، (29/ 66).

فهذه طريقتهم في طلب العلم وحرصهم عليه وحسن سؤالهم عن شئونهم الحقيقية، وتوصيفهم الصحيح لواقعهم بعد فهمهم الدين، فلم يكونوا يفترضون الأمثلة، ولا يطرحون الأمثلة للترف العلمي والفكري، فتعلموا ونقلوا الدين بأمانة، فوصلنا الدين من خلال هؤلاء الصحابة العلماء الأجلاء كاملاً مكملاً، فلا تجد ثغرة في ديننا ولا مسألة إلا وعندك منها علمًا، فجزى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عنَّا وعن أمة الإسلام خير الجزاء، وجزى صحابته خير الجزاء، وإنما أعرضوا عمَّا لا ينفع، وهذا ما علمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما جاءه رجل يقول: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها. فأحاله على ما ينفع، ودله على أن يسأل عمَّا يفيده في دينه، وينفعه في آخرته، فأين اليوم أنت ـ أخي طالب العلم ـ من هؤلاء، وكيف تطلب؟ وعمَّ تسأل؟ وفيم تبحث؟!!! ـ إخوتاه أحبتي في الله ـ إنَّ قضية التعلم اليوم، قد دخلها دخن كثير، وشابتها شوائب كثيرة، ما بين خرافات موروثة من التاريخ، نقلها أهل الزيغ والعناد لا أهل العلم المتخصصون، وما بين انحرافات صنعتها أصابع معاصرة، أصابع مشبوهة، غير مخلصة، لها أغراض مريبة،

فما بين الخرافات الموروثة من ركام التاريخ، وما بين انحرافات المعاصرين وقع المتفقهون في تعب وحيرة، إذ بغيتهم وغايتهم معرفة الله عز وجل، وعبادته بما شرع على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذه يجب أن تكون غاية كل مسلم يريد التفقه.، ولكن الطريق فيه كثير من المكاره والعقبات، خاصة بعد أن دخلها هذا الدخن في عصرنا الحاضر. فهناك حاجة ماسة للمتفقهين إلى معرفة معالم الطريق الصحيح للتفقه في دين الله عز وجل. فهاك عشرة منطلقات على طريق التعلم عسى أن تكون ومضات تضئ طريق الطلب، أو علامات تصحح السير.

المنطلق الأول: الإخلاص وصدق النية

المنطلق الأول البواطن البواطن ... النيات النيات ... الإخلاص الإخلاص فإن عليكم من الله عيناً ناظرة.

المنطلق الأول (الإخلاص وصدق النية) قال تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء " [البينة /5]. وقال صلى الله عليه وسلم: "بشر هذه الأمة بالسناء والتمكين في البلاد، والنصر والرفعة في الدين، ومن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من ... نصيب " (¬1) فانظر ـ أخي في الله وحبيبي ـ إلى هذا الربط الخطير بين التمكين والإخلاص فبه تعلم ما سبب تأخر التمكين. إنَّ من أخطر الأسباب التي تحول بين الأمة وبين التمكين في هذا العصر الذي يعاني فيه المسلمون من الهوان: " فساد النية " يا أيها العامل لنصر الدين، الآمل حصول التمكين، أخلص النية لله تعالى، وإلا فالنار النار. أيها المتفقه ... لماذا نتعلم؟ لماذا نتفقه؟ لماذا نطلب العلم؟ ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 134)، وابن حبان (2/ 132) برقم (405)، والحاكم في المستدرك (4/ 346) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (2825).

قال صلى الله عليه وسلم:" من طلب العلم ليباهي به العلماء، ويمارى به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار " (¬1). فهذا الحديث الخطير قاضٍ بأنَّ على طالب العلم أن يصحح نيته في طلبه، فلا يكون إلا لله وحده، يبتغى عنده الرضوان، ويرجو لديه الثواب، لا ليرتفع به في أعين الناس، ويعلو به فوق أعناقهم، ويركب به أكتافهم، ولكن: كيف يصحح طالب العلم نيته؟ أو بمعنى آخر ماذا ينوي؟ قال ابن جماعة: حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى والعمل به، وتنوير قلبه، وتحلية باطنه، والقرب من الله تعالى يوم القيامة، والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه، وعظيم فضله. ... قال سفيان الثوري: ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نيتي. ... ولا يقصد به الأغراض الدنيوية؛ من تحصيل الرياسة والجاه والمال، ومباهاة الأقران، وتعظيم الناس له، وتصديره في المجالس ونحو ذلك، فيستبدل الأدنى بالذي هو خير. قال أبو يوسف رحمه الله: يا قوم أريدوا بعملكم الله تعالى، فإني لم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلساً قط أنوي ... فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجة (253) في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6158).

والعلم عبادة من العبادات، وقربة من القرب، فإنْ خلصت فيه النية قُبِل وزكَّا، ونمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله تعالى حبط وضاع، وخسرت صفقته، وربما تفوته تلك المقاصد، ولا ينالها فيخيب قصده، ويضيع سعيه " أهـ (¬1) فيا أيها المتفقه: أخلص نيتك، وطهر قلبك من الرياء، واقصد وجه الله بتوجهك تكسب خيري الدنيا والآخرة، وإلا فالخسار والدمار وخراب الديار. عن أبي أمامة قال: قال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته " (¬2) انتبه ـ أيها المتفقه ـ فإنَّك تطلب الخير من الله، وما عند الله لا ولن ينال إلا بطاعته. قال صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات ـ وفي رواية مسلم " بالنية " ـ وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬3) ¬

(¬1) تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم ص (69،70). (¬2) أخرجه أبو نعيم في الحلية وصححه الألباني في صحيح الجامع (2085). (¬3) متفق عليه. أخرجه البخاري (1) ك بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسلم (1907) كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنية "، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال.

فالنية هي الأصل، والله الحسيب والرقيب، مطلع على السرائر والضمائر، لا تخفي عليه خافية،. وكم من عمل يتصور بصورة أعمال الدنيا فيصير بحسن النية من أعمال الآخرة، وكم من عمل يتصور بصورة أعمال الآخرة فيصير بسوء النية من أعمال الدنيا فلتحذر. قال عبد الله الأنطاكي: من طلب الإخلاص في أعماله الظاهرة، وهو يلاحظ الخلق بقلبه، فقد رام المحال؛ لأنَّ الإخلاص ماء القلب الذي به حياته، والرياء يميته. فلا بد إذاً للنجاة في الآخرة، وللانتفاع بالعلم في الدنيا، والنفع به، من الإخلاص، رزقنا الله وإياكم إياه. ولكن الإخلاص عزيز. قال بعض السلف: أعز شئ في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر. وكان من دعائهم: اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه ثم عدت فيه، واستغفرك مما جعلته لك على نفسي ثم لم أف لك به، واستغفرك مما زعمت أنى أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمت. ومن أجل تلك العزة والندرة للإخلاص أحذر إخواني. فيا أيها المتفقه .. احذر أن تكون منافقاً، وأنت لا تشعر، مرائياً من حيث لا تعلم، احذر الشهوة الخفية، فإنَّ كثيراً من طلاب العلم سقطوا لمَّا

غفلوا عن تلك الشهوات الخفية، وهي عند الله من الكبائر، ولعلها أكبر من الزنى وشرب الخمر، وهذه الشهوات الخفية تهجم على قلب المتعلم صغيراً كان أو كبيراً، مشهوراً كان أو مغموراً، فتفسد عمله، وتخيِّب قصده، عافانا الله وإياكم منها. . إنها شهوة الترفع وحب الظهور، شهوة كسب الاحترام والتوقير.، شهوة طلب الشهرة وأن يشار إليه بالبنان.، إنها مصيبة اتخاذ العلم وسيلة لنيل غرض من أغراض الدنيا؛ لبناء الأمجاد الشخصية، والعلو على الناس، والاستعظام عليهم، واحتقار الآخرين وازدرائهم، وعيبهم والتشنيع عليهم، شهوة حب التصدر، وأن ينشغل الناس به، وينقادوا إليه، ثم تكون النتيجة: الكبر.، الغرور.، العجب.، الأنانية، وحب الذات،. وعبادة النفس، والانتصار لها، والغضب لها،. وعبادة الهوى. وهذه ـ والله ـ بليات نعوذ بالله منها، تسقط بسببها سماء إيمانك على أرضه، فلا تقوم للقلب قائمة، وواللهِ إنَّ القلب ليقشعر من مجرد تعديد هذه الأمراض، عافانا الله وإياكم منها. ولعمر الله إنَّ قضية الرياء والشهوة الخفية لهي الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى، فشوب النيات يورث الرياء والشرك، والرياء مدخل النفاق، والمعصية بريد الفسق، وهما دهليز الكفر. ولكن تُرى: كيف تدخل هذه الأمراض على القلوب؟

يقول أبو الحسن الماوردى: " وقلما تجد بالعلم معجباً، وبما أدرك مفتخراً، إلا من كان فيه مقلاً مقصراً؛ لأنه قد يجهل قدره، ويحسب أنه نال بالدخول فيه أكثره.، فأما من كان فيه متوجهاً، ومنه مستكثراً، فهو يعلم من بعد غايته والعجز عن إدراك نهايته ما يصده عن العجب به. (¬1) وقد قال الشعبي: العلم ثلاثة أشبار: فمن نال شبراً منه شمخ بأنفه، وظن أنَّه ناله، ومن نال منه الشبر الثاني صغرت إليه نفسه، وعلم أن لم ينله، وأما الشبر الثالث فهيهات لا يناله أحداً أبداً. هكذا بان لك ـ أخي في الله ـ السبب الحقيقي لهذا الداء العضال والمرض الخطير، ويرحم الله علماء السلف فقد كانوا أعلم الناس بأسباب النجاة، نعم ... ـ والله ـ أُتِىَ المعجب من جهله، ونعوذ بالله من الجهل وأهله. وأنا إذ أحذرك من تلك الشهوة الخفية فلا بد أن أذكر لك ـ حبيبي في الله ـ بعض مظاهرها؛ لأنها قد تخفي على الكثير إلا من وفقه الله. فمن مظاهر هذه الشهوة الخفية: 1. أن يشتغل المتفقه بفرض الكفاية عن فرض العين؛ وأن يشتغل بعلوم الاجتهاد قبل أن يتفقه في دين الله عز وجل. فتجد المسكين بلا عقيدة صحيحة، ولا معرفة صادقة بأسماء الله وصفاته، ولا إلمام بتصحيح العبادات الظاهرة والباطنة، ومع ذلك هو ¬

(¬1) أدب الدنيا والدين ص (81).

عاكف على علوم الآلات، ويهجم على النصوص ويستنبط ويرجح بين الأقوال، ويرد على العلماء ويتعصب، ويغضب لنفسه ورأيه، لا لدين الله عز وجل، فهذا هو الخذلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال في مختصر منهاج القاصدين: " وأنت تجد الفقيه يتكلم في الظهار واللعان والسبق والرمي، ويفرع التفريعات التي تمضي الدهور ولا يحتاج إلى مسألة منها، ولا يتكلم في الإخلاص، ولا يحذر من الرياء، وهذا عليه فرض عين؛ لأنَّ في إهماله هلاكه، والأول فرض كفاية، ولو أنَّه سئل عن علة ترك المناقشة للنفس في الإخلاص والرياء لم يكن له جواب " (¬1) 2) ومن المظاهر كذلك: الجرأة على الفتوى وتعجل التدريس. قال الله تعالى: " آلله أذن لكم أم على الله تفترون " [يونس/59] ومن تأمل سير السلف يعرف حقًا كيف كان هؤلاء الأكابر أكثر الناس علمًا وورعًا، فكانوا يهابون مما يقتحمه المتعالمون في هذه الأيام، ومما يقع فيه علماء السوء من شواذ المسائل. قال أبو داود في مسائله: ما أحصى ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول لا أدري. قال: وسمعته يقول ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه، كان أهون عليه أن يقول لا أدري. ¬

(¬1) مختصر منهاج القاصدين ص (27).

وقال عبد الله ابنه في مسائله سمعت أبي يقول وقال عبد الرحمن بن مهدي سأل رجل من أهل الغرب مالك ابن أنس عن مسألة فقال لا أدري فقال يا أبا عبد الله تقول لا أدري قال نعم فأبلغ من ورائك أني لا أدري. وقال عبد الله: كنت أسمع أبي كثيرًا يسأل عن المسائل فيقول: لا أدري، ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف، وكثيرا ما كان يقول: سل غيري فإن قيل له من نسأل قال سلوا العلماء ولا يكاد يسمي رجلا بعينه. يقول ابن القيم: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى. (¬1) قال عبد الرحمن ابن أبي ليلى: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراه قال: في المسجد، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا. وقال سحنون بن سعيد: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه ¬

(¬1) إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 33،34)، المدخل لابن بدران (1/ 120) ط مؤسسة الرسالة.

فأين هؤلاء الأصاغر المتعالمون من أدب سلفنا الصالح، ولكنها الشهوة الخفية، وأين هؤلاء من الشروط والأسس التي وضعها سلفنا لحفظ جناب الدين من المتفيقهين. قال الإمام أحمد: " لا ينبغي للرجل أن يعرض نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: إحداها:: أن تكون له نية، أي أنْ يخلص في ذلك لله تعالى، ولا يقصد رياسة ولا نحوها، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور، إذ الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى. الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة، وإلا لم يتمكن من فعل ما تصدى له من بيان الأحكام الشرعية. الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته، وإلا فقد عرض نفسه لعظيم. الرابعة:: الكفاية وإلا أبغضه الناس، فإنه إذا لم تكن له كفاية احتاج إلى الناس، وإلى الأخذ مما في أيديهم فيتضررون منه. الخامسة: معرفة الناس. (¬1) ولعلك إن فتشت فيمن حولك عمن تنطبق فيه تلك الأوصاف لا يسعفك عد عشرة على أصابع اليدين ولا حول ولا قوة إلا بالله. ¬

(¬1) كشاف القناع للبهوتي (6/ 299) ط دار الفكر.

فحذار حذار من فتنة التصدر، وطلب الشهرة والجاه، فإنها ـ لعمر الله ـ قتالة للقلب، مفسدة له، دالة على سوء النوايا، وإنما من ابتلي بذلك صبر، ومن استراح من هذا شكر لو تعلمون. 2. ومن العلامات أنه يشتهي المناظرة، ويبحث عن الجدل، ويكثر الكلام، ويهرف بما لا يعرف قال الله تعالى: " وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً " [الكهف /54] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ في رَبَضِ الْجَنّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقاّ، وَبِبَيْتٍ في وَسَطِ الْجَنّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كان مَازِحاً، وَبِبَيْتٍ في أعْلَى الْجَنّةِ لِمَنْ حَسّنَ خُلُقَهُ " (¬1) قال الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شرا فتح عليهم الجدل، ومنعهم العمل. قال معروف بن فيروز الكرخي: إذا أراد الله بعبد خيرًا فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرًا فتح له باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل. (¬2) وقال بعض السلف: إذا رأيت الرجل لجوجًا مماريًا معجبًا برأيه فقد تمَّت خسارته. وإنما يعطى الجدل الفتانون، فما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل، وما يشتهي المناظرة إلا الباحثون عن أعراض الدنيا الزائلة، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4800) ك الأدب، باب في حسن الخلق، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (4015). (¬2) اقتضاء العلم العمل ص (79).

وإنما كان الرجل من السلف لا يقع في المناظرة إلا اضطرارًا، وما زلَّ من زلَّ في هذا الباب إلا بسبب الرياء والسمعة، وإنما كان همُّ الأوائل الأعمال لا الأقوال، وصار قصارى همُّ بعضنا الآن الكلام طلبًا للظهور. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فان من ورائكم أياما الصبر فيهن القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم." (¬1) وهذه وصية نبوية غالية، تشير إلى أمراض خطيرة، وأوبئة دوية: شح مطاع، هوى متبع، دنيا مؤثرة، عجب وإعجاب بالرأي فيا لها من أمراض قتَّالة، وأوبئة فتَّاكة، تفتك بالدين، وتقتل الإخلاص، وإنَّما المرض العضال الحامل على كل هذا والمؤدي إليه: حب الظهور، وشهوة التصدر، والرغبة في الشهرة، والعلو على الأقران، فنسأل الله العافية من أمراض القلوب، ونسأله هو العلي القدير أنْ يرزقنا الإخلاص، وأنْ يجمعنا على الصالحين من عباده في الدنيا والآخرة. عن عبد الله بن المبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟!! ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (3058) ك التفسير، باب ومن سورة المائدة، وقال: حسن غريب.

قال: لأنَّهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق. قال أبو قلابة لأيوب السختياني: يا أيوب إذا أحدث الله لك علمًا فأحدث لله عبادة، ولا يكونن همك أن تحدث به الناس. قال الحسن البصري: همة العلماء الرعاية، وهمة السفهاء الرواية. فإذا لم تجد القول موافقًا للعمل فاعلم أنه نذير النفاق. قال عبد الله بن المعتز: علم المنافق في قوله، وعلم المؤمن في عمله. وحكى الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ عن أبى الحسن القطان ـ رحمه الله تعالى ـ قوله: أُصبت ببصري، وأظن أنى عوقبت بكثرة كلامي أيام الرحلة. قال الذهبي: " صدق والله، فقد كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالباً يخافون ... من الكلام، وإظهار المعرفة. واليوم يكثرون الكلام مع نقص العلم، ... وسوء القصد ثم إن الله يفضحهم، ويلوح جهلهم وهواهم واضطرابهم فيما علموه فنسأل الله التوفيق والإخلاص. أهـ وعن معمر بن راشد قال: إنَّ الرجل يطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم حتى يكون لله.

قال الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ: " نعم يطلبه أولاً، والحامل له حب العلم، وحب إزالة الجهل عنه وحب الوظائف، ونحو ذلك، ولم يكن عَلِم وجوب الإخلاص فيه، ... ولا صدق النية، فإذا علم حاسب نفسه، وخاف من وبال قصده، فتجيئه النية الصالحة كلها أو بعضها، وقد يتوب من نيته الفاسدة، ويندم، وعلامة ذلك أنه يُقْصِر من الدعاوى وحب المناظرة، ومن قَصْدِ التأثير بعلمه، ويُزْري على نفسه، فإن تَكَثَّر ... بعلمه، أو قال أنا أعلمُ من فلان فبعداً له ". قال الأصبهاني: اعمل بعلمك، تغنم أيها الرجل ... لا ينفع العلم إن لم يحسن العمل والعلم زين، وتقى الله زينته ... والمتقون لهم في علمهم شغل وحجة الله يا ذا العلم بالغة ... لا المكر ينفع فيها لا ولا الحيل تعلم العلم واعمل ما استطعت به ... لا يلهينك عنه اللهو والجدل 4) ومن العلامات الولع بالغرائب وتعمد البحث عن المهجور من الأقوال. فبمجرد أن يتصيد مسألة من هنا أو هناك، سمعها في مجلس، أو من شريط، أو قرأها في صحيفة، أو في كتاب، يوالي ويعادى على تلك

المسألة.، وأكثر الناس اليوم لا علم له إلا ببعض المسائل، وليتها بالنافعة، وإنما شواذ المسائل، وغريب الآراء، والمهجور من الأقوال، وكأن الشعار "خالف تُعرف" فالخلاف عنده أشهى من الاتفاق. كنت في صحبة شيخنا العلامة ابن عثيمين، وسألته عن مسألة يدندن حولها الكثيرون، فغضب الشيخ وأخذ يقول: من ذا الذي يحيي هذه المسائل بعد أن ماتت؟ وأخذ يردد ذلك. فالولع بالغريب والشاذ من الأقوال، وإحياء المسائل المهجورة والتي حسمها أهل العلم منذ زمن بعيد، كل ذلك ـ إن كان عن عمد ـ يدل على خلل واضح، وسوء قصد بين، لا سيما إذا كان الأمر زلَّ فيه عالم من العلماء، ومن هنا حذر أهل العلم من تتبع هذه المسائل التي أسموها بـ " الطبوليات " إذ قيل: " زلة العالم مضروب لها الطبل ". (¬1) 3. ومن المظاهر الشغب على المخالف والزهو بالمتبع. فإنك تراه يشغب على من خالفه، ويعاديه، وينفر منه، ويفرح بالمدح، ويزهو بكثرة الاتباع، وبالضد تتميز الأشياء، وتلك من نتاج العصبيات والحزبيات، لعدم تحقيق عقيدة الولاء والبراء فيصير الولاء للمتبع، والبراء للمخالف، وما كان هذا هدي السلف في الخلاف، لا سيما في الفروع، ومن أهم علامات الصادق استواء المدح والذم عنده، فإن لم يكن كذلك فليتهم نفسه. ¬

(¬1) حلية طالب العلم ص (7) للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد.

قال الإمام الذهبي ـ رحمه الله تعالى ورضى عنه ـ في سير أعلام النبلاء (¬1): عن عبد الرحمن بن مهدى عن طالوت: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: ما صدق الله عبد أحب الشهرة. قلت (أي الذهبي رحمه الله): علامة المخلص الذي قد يحب الشهرة، ولا يشعر بها، أنه إذا عوتب في ذلك لا يحرد، ولا يبرئ نفسه، بل يعترف ويقول: رحم الله من أهدى إلىَّ عيوبي، ولا يكن معجباً بنفسه، لا يشعر بعيوبها، بل يشعر أنه لا يشعر، فإن هذا داء مزمن " أهـ وما أغلاه من كلام، وصدق من قال: الذهبي ذهبي الكلام، حقاً إنه كلام أغلى من الذهب، فالمخلص إذا اتهم لم يكابر، لم يشمخ بأنفه، ولم تأخذه العزة بالإثم فيقول: أنا .. أنا .. أنا، وإنما يخضع ويذعن، ويخاف ويخشى، ويتهم نفسه، ويسيء الظن بها، ويقول: ويلى، وويل أمي، إنْ لم يرحمني ربى. وعن الفضيل بن عياض قال: يا مسكين، أنت مسيء وترى أنَّك محسن، وأنت جاهل وترى أنَّك عالم، وتبخل وترى أنَّك كريم، وأحمق وترى أنَّك عاقل، أجلك قصير، وأملك طويل. قال الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ: " قلت: إي والله صدق، وأنت ظالم وترى أنَّك مظلوم، وآكل للحرام وترى أنَّك متورع، وفاسق وتعتقد أنَّك عدل، وطالب العلم للدنيا وترى أنَّك تطلبه لله ". (¬2) ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (7/ 393) فائدة: وهذا الكتاب من أفضل كتب التربية بعد كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودائمًا ما ننصح طلبة العلم بالنظر فيه، وتتبع أخبار السلف، ومحاولة التأسي بهم , (¬2) سير أعلام النبلاء (8/ 440).

درر من أقوال السلف

نماذج من أقوال السلف كان الحسن البصري كثيرًا ما يعاتب نفسه ويوبخها فيقول: تتكلمين بكلام الصالحين القانتين العابدين، وتفعلين فعل الفاسقين المنافقين المرائين، والله ما هذه صفات المخلصين. وكان يوسف بن أسباط يقول: ما حاسبت نفسي قط إلا وظهر لي أنني مراءٍ خالص. كان سفيان الثوري يقول: كل شئ أظهرته من عملي فلا أعده شيئاً؛ لعجز أمثالنا عن الإخلاص إذا رآه الناس. وكان الفضيل بن عياض يقول: إذا كان يُسأل الصادقين عن صدقهم، مثل إسماعيل وعيسى عليهما السلام، فكيف بالكاذبين أمثالنا؟!! وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: من أراد أن يأكل الخبز بالعلم فلتبك عليه البواكي. وقال الذهبي ـ رحمه الله ـ: ينبغي للعالم أن يتكلم بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت، وإن أعجبه الصمت فلينطق، ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثناء.

وقال على بن بكار البصري الزاهد (ت 207 هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ: " لأن ألقى الشيطان أحب إليَّ من أن ألقى حذيفة المرعشي، أخاف أن أتصنع له، فأسقط من عين الله ". وفي ترجمة هشام الدستوائي قال عون بن عمارة: سمعت هشاما الدستوائي ... يقول: والله ما أستطيع أن أقول أنِّي ذهبت يومًا قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل. قلت ـ أي الذهبي ـ: والله ولا أنا، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولا لا لله، وحصلوه ثم استفاقوا، وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق. كما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم، وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعدُ. وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله. فهذا أيضًا حسن، ثم نشروه بنية صالحة. وقوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا، وليثنى عليهم، فلهم ما نووا. قال صلى الله عليه وسلم: من غزا ينوي عقالاً فله ما نوى. (¬1) ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (5/ 315) والنسائي (6/ 24) والحاكم في المستدرك (2/ 109)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6401).

وترى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله تعالى. وقوم نالوا العلم، وولوا به المناصب فظلموا، وتركوا التقيد بالعلم، وركبوا الكبائر والفواحش فتبًا لهم، فما هؤلاء بعلماء!! وبعضهم لم يتق الله في علمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار. وبعضهم اجترأ على الله، ووضع الأحاديث فهتكه الله، وذهب علمه، وصار زاده إلى النار. وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئًا كبيرًا، وتضلعوا منه في الجملة، فخلف من بعدهم خلف بان نقصهم في العلم والعمل، وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر، ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير، أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يدر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخًا يقتدى به في العلم، فصاروا همجًا رعاعًا، غاية المدرس منهم أنْ يحصل كتبا مثمنة يخزنها، وينظر فيها يوما ما، فيصحف ما يورده، ولا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو، كما قال بعضهم: ما أنا عالم، ولا رأيت عالمًا. (¬1) وفي ترجمة ابن جريج: قال الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وابن جريج: لمن طلبتم العلم؟!! كلهم يقول: لنفسي. غير أنَّ ابن جريج فإنَّه قال: طلبته للناس. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (7/ 152 - 153).

حقيقة الإخلاص

قال الذهبي ـ رحمه الله ـ تعليقًا على هذا الخبر: " قلت: ما أحسن الصدق، واليوم تسأل الفقيه الغبي لمن طلبت العلم؟!! ". فيبادر ويقول: طلبته لله، ويكذب إنَّما طلبه للدنيا، ويا قلة ما عرف منه " أهـ (¬1) رحمك الله أيها الذهبي، فماذا كنت تقول لو أدركت بعض ما نحن فيه؟!! وكأني به قد أبصر عيوبنا في هذا الزمان، من قلة العلماء، وعدم وجود المربي الأسوة، فصار فينا هؤلاء الهمج الرعاع، دينهم الكذب، فرحماك ربنا، وعافيتك أوسع لنا. وفي كتاب المحدث الملهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال: من خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله. حقيقة الإخلاص بعض الناس يسمع الأمر بالإخلاص، فيظن أنَّ الإخلاص أن يقول: نويت أتعلم لله، أو مثل ذلك، وما مثله إلا كمثل رجل جائع، وأمامه طعام، وهو يقول: نويت أن آكل. فهل بهذا يشبع؟!! الإخلاص شيء آخر، الإخلاص: انبعاث القلب إلى جهة المطلوب التماسًا. وقال بعضهم: الإخلاص تغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله تعالى. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (6/ 328).

وقيل: الإخلاص سر بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله فالإخلاص تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، فمتى أفردت ربك بالطاعة، ونسيت رؤية الخلق بدوام نظرك إلى الخالق، فقد تحقق لك الإخلاص. ولكن كيف؟ هذه هي القضية. كيف أخلص؟ إذا سألت كيف أنوي نية صالحة، وأخلص النية لله تعالى؟! فالجواب كما قال أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ: " اعلم أن النية والإرادة والقصد عباراتٌ متواردة على معنى واحد، وهو حال وصفة للقلب يكتنفها أمران: علمٌ وعمل، العلم يقدُمُهُ؛ لأنه أصله وشرطه، والعمل يتبعه؛ لأنه ثمرته وفرعه؛ وذلك لأن كل عمل ـ أعنى كل حركة وسكون اختياري ـ فإنه لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم، وإرادة، وقدرة؛ لأنه لا يريد الإنسان ما لا يعلمه، فلا بد أن يعلم، ولا يعلم ما لم يرد، فلا بد من إرادة.، ومعنى الإرادة انبعاث القلب إلى ما يراه موافقًا للغرض، إما في الحال، أو في المآل. فقد خلق الإنسان بحيث يوافقه بعض الأمور، ويلائم غرضه ويخالفه بعض الأمور، فيحتاج إلى جلب الموافق الملائم إلى نفسه، ودفع الضار المنافي عن نفسه، فاضطر بالضرورة إلى معرفة وإدراك للشيء المضر

والنافع حتى يجلب هذا، ويهرب من هذا، فإنَّ من لا يبصر الغذاء، ولا يعرفه لا يمكنه أن يتناوله، ومن لا يبصر النار لا يمكنه الهرب منها، فخلق الله الهداية والمعرفة، وجعل لها أسباباً، وهي الحواس الظاهرة والباطنة. فالنية عبارة عن الصفة المتوسطة، وهي الإرادة وانبعاث النفس بحكم الرغبة والميل إلى ما هو موافق للغرض، إما في الحال وإما في المآل، فالمحرك الأول هو الغرض والباعث، والغرض الباعث هو: القصد المنْوِىُّ، والانبعاث هو القصد ... والنية، وانتهاض القدرة لخدمة الإرادة بتحريك الأعضاء هو العمل " أهـ فالإخلاص تنقية القلب من الشوائب قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيه قصد التقرب، فلا يكون فيه باعث سواه، واحذر فإنَّ الشيطان قد يحاصر العبد، ويحبط له كل عمل، ولا يكاد يخلص له عمل واحد، وإذا خلص له عمل واحد فقد ينجو به العبد. قيل لسهل التستري ـ رحمه الله ـ: أي شيء أشد على النفس؟!! قال: الإخلاص إذ ليس لها فيه نصيب. . فالنفس تحب الظهور والمدح والرياسة، وتميل إلى البطالة والكسل، وزينت لها الشهوات ولذلك قيل: تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جميع الأعمال. وقال بعضهم: إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكن الإخلاص عزيز. وقال بعضهم لنفسه: اخلصي تتخلصي.

وقال: طوبى لمن صحت له خطوة لم يرد بها إلا وجه الله. كان سفيان الثوري يقول: قالت لي والدتي: يا بُني لا تتعلم العلم إلا إذا نويت العمل به، وإلا فهو وبال عليك يوم القيامة. وقد قيل لذي النون المصري ـ رحمه الله تعالى ـ: متى يعلم العبد أنه من المخلصين؟ فقال: إذا بذل المجهود في الطاعة، وأحب سقوط المنزلة عند الناس. وقيل ليحيى بن معاذ ـ رحمه الله تعالى ـ: متى يكون العبد مخلصاً؟ فقال: إذا صار خلقه كخلق الرضيع، لا يبالي من مدحه أو ذمه. وللعلامة ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ كلام نفيس في مسألتنا هذه فيقول: " لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حَدَّثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء، فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص. فإنْ قلت: وما الذي يسهل علىَّ ذبح الطمع، والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينًا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه، لا يملكها غيره، ولا يؤتى العبد منها شيئاً سواه، فاطلبه من الله. وأمَّا الزهد في الثناء والمدح، فيسهله

زبدة الكلام وخلاصة الختام

عليك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشين، إلا الله وحده، كما قال ذلك الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: إن مدحي زين، وذمي شين، فقال: " ذاك الله عز وجل ". (¬1) فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح مَن كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن يُقدَر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البر في غير مركب. قال تعالى: " فاصبر إنَّ وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون " [الروم / 60] وقال تعالى: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " ... [السجدة/24] زبدة الكلام وخلاصة الختام بان لنا أنَّ معوقات الإخلاص خمسة ـ عافاك الله منهاـ: 1) الطمع: وعلاجه اليأس مما في أيدي الناس، وتعلق القلب بالله والرغبة فيما عنده. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (3268) في أبواب فضائل القرآن، باب سورة الحجرات، وقال: حسن غريب، والإمام احمد في مسنده (3/ 488) وصححه الألاني في صحيح الترمذي (2605).

2) حب المدح: وعلاجه علمك أنَّ الممدوح حقًا من رضي الله عنه وأحبه، وإنْ ذمَّه الناس. قال بعض السلف: مذ عرفت الناس لم أفرح بمدحهم، ولم أحزن على ذمهم، فحامدهم مفرط، وذامهم مفرط. وقال آخر: لن يكون العبد من المتقين حتى يستوي عنده المادح والذام. 3) الرياء: وطريقة نفي الرياء أن يعلم أنَّ الخلق لا ينفعونه ولا يضرونه حقيقة، فلا يتشاغل بمراعاتهم، فيتعب نفسه، ويضر دينه، ويحبط عمله كله، ويرتكب سخط الله تعالى، ويفوت رضاه، واعلم أنَّ قلب من ترائيه بيد من تعصيه. 4) العجب: وطريقة نفي الإعجاب أن يعلم أنَّ العمل فضل من الله تعالى عليه، وأنه معه عارية، فإنَّ لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فينبغي ألا يعجب بشيء لم يخترعه، وليس ملكاً له، ولا هو على يقين من دوامه. 5) احتقار الآخرين واستصغارهم وازدرائهم: وطريقة نفي الاحتقار التأدب بما أدبنا الله تعالى به. قال تعالى: " فلا تزكوا أنفسكم " [النجم/ 32]. وقال تعالى: " إنَّ أكرمكم عند الله اتقاكم" [الحجرات/13]، فربما كان هذا الذي يراه دونه أتقى لله تعالى، وأطهر قلباً، وأخلص نية، وأزكى عملاً، ثم إنه لا يعمل ماذا يختم له به.

فائدة مهمة

فائدة مهمة لا يفوتنا هنا التنبيه على أنه لا ينبغي لطالب العلم أن ينقطع عن الطلب لعدم خلوص نيته، فإن حسن النية مرجو له ببركة العلم. قال كثير من السلف: طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله. وقال غيره: طلبنا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعد. أي فكان عاقبته أن صار لله. . قيل للإمام أحمد بن حنبل: إن قوماً يكتبون الحديث، ولا يُرى أثره عليهم، وليس لهم وقار. فقال: يؤولون في الحديث إلى خير. وقال حبيب بن أبى ثابت: طلبنا هذا العلم، وما لنا فيه نية، ثم جاءت النيةُ والعملُ بعد. فالعبد ينبغي عليه ألا يستسلم، بل يحاول معالجة نيته، وإن كانت المعالجة شديدة في أول الأمر. يقول سفيان الثورى: ما عالجت شيئاً أشد علىَّ من نيتي فجاهد ـ أيها المتفقه ـ، وحسِّن نيتك، وحرر الإخلاص، وجرد التوحيد، واصدق الله يصدقك، واحفظ الله يحفظك، والله معك، ولن يترك عملك. فمن أخلص في طلب العلم نيته، وجدد للصبر عليه عزيمته، كان جديراً أن ينال منه بُغيتَه.

المنطلق الثاني: علو الهمة

المنطلق الثاني علو الهمة شرط السلوك فالعلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلَّك.

المنطلق الثاني (علو الهمة) أيها المتفقه .. لابد لكل سالك إلى الله من همَّة تسيِّره وترقيه، ومن علم يبصره ويهديه، والهمَّة في مدلولها ومعناها تعني توجه القلب وقصده، وأصحاب الهمم العالية من راموا بكليتهم سبيل الحق، فعكفت قلوبهم على الله، وجمعوا همتهم عليه، وفرَّغُوا القلب لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والاشتغال بمرضاته، دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له. يقول ابن القيم: " وعلو الهمة أن لا تقف دون الله، ولا تتعوَّض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلا منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه، والأنس به، والفرح والسرور والابتهاج به، بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور، لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم فإنَّ الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان، فإنَّ الآفات قواطع وجواذب، وهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه، وإنَّما تجتذب من المكان السافل، فعلو همة المرء عنوان فلاحه، وسفول همته عنوان حرمانه ". (¬1) ¬

(¬1) مدارج السالكين (3/ 171 - 172).

وأنت ـ أيها المتفقه ـ لابد لك من التعالي عن سفاسف الأمور، وأخذ الأهبة، والتحلي بإرادة لا يفلها الحديد، فأنت مقدم على أمر عظيم حاله، خطير شأنه، أنت مقدم لوراثة الأنبياء، والارتقاء لمراتب الأولياء الأصفياء، فلا يصلح لصاحب هذه المنزلة أنْ يحوم حول حطام الدنيا الزائف، ويجول قلبه في خيالات المحال والبهتان، فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة والخيالات الباطلة تتلاعب به كما تتلاعب الكلاب بالجيفة، فهذه بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية، ليست لها همَّة تنال بها الحقائق. فأصحاب الهمم السفلية تراهم يتكالبون على الحظوظ الفانية، من الجاه والسلطان، وحب الرياسة، والتطواف في البلدان لجمع الأموال والأثمان، أو الظفر بامرأة، ويظل مشغول القلب بأمانيه الزائفة، وتراه حائمًا في الأرض حيران يتمثل صورة مطلوبة في نفسه، وقد التذ بالظفر بها، فبينما هو على هذه الحال إذ استيقظ فإذا يده والحصير. أما أصحاب الهمم العالية فيخبرك ابن القيم بحالهم يقول: وصاحب الهمة العالية أمانيه حائمة حول العلم والإيمان، والعمل الذي يقربه إلى الله، ويدنيه من جواره، فأماني هذا إيمان ونور وحكمة، وأماني أولئك خدع وغرور. (¬1) ¬

(¬1) المدارج (1/ 457 - 458) بتصرف يسير.

علامات الهمة العالية

أيها المتفقه .. العلم صناعة القلب وشغلُه، فما لم تتفرغ لصناعته، وشغلهِ لم تنله، والقلب له وجهة واحدة، فإذا وُجِّهَتْ إلى اللذات والشهوات، انصرفت عن العلم، ومن لم يُغَلِّب لذة إدراك العلم وشهوته على لذة جسمه وشهوة نفسه: لم ينل درجة العلم أبداً، فإذا صارت شهوته في العلم ولذته في إدراكه فإنَّه يُرجى له أن يكون من جملة أهله. علامات الهمة العالية ولعلو الهمَّة علامات، فنقِّب عنها في نفسك، وتحلَّ بها تفز بمرادك، فأول ذلك: 1) طلب المعالي من الأمور. يقول ابن الجوزي: " غير أنَّ للطالب المرزوق علامة، وهو أن يكون مرزوقاً علو الهمة، وهذه الهمة تولد مع الطفل، فتراه من زمن طفولته يطلب معالي الأمور، كما يروى أنه كان لعبد المطلب مفرش في الحِجر، فكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يأتي وهو طفل فيجلس عليه، فيقول عبد المطلب: إن لابني هذا شأناً. فلابد لك من أنفة من كل خسيس تافه، تبرأ بنفسك أنْ تخوض فيه ككل ناعق، ترى الأمور على حقائقها، فكل ما كان لله يعلق قلبك به، فلا تنظر لأدنى بل اربط قلبك بسبب إلى السماء، لا ترضى بالدونية.

2) الحرص

قال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله تعالى جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها " (¬1) 2) ومن علامات الهمة العالية " الحرص " فاحرص على الطلب فإنَّه من أعظم القُرب. قال صلى الله عليه وسلم: " احرص على ما ينفعك " (¬2) وأعظم ما تحرص عليه وتجود بنفسك لأجله: " طلب العلم "، والحرص أمارة تعظيم القلب، ولذلك أنصحك باستفراغ الوسع في " طلب العلم ". قال الإمام النووي في وصيته لطالب العلم: " ينبغي أن يكون حريصًا على ... التعلم، مواظبًا عليه في جميع أوقاته، ليلاً ونهارًا، وسفرًا وحضرًا، ولا يذهب من أوقاته شيئًا في غير العلم إلا بقدر الضرورة لأكل ونوم قدرًا لابد له منه ونحوهما، كاستراحة يسيرة لإزالة الملل، وشبه ذلك من الضروريات، وليس بعاقل من أمكنه درجة ورثة الأنبياء ثمَّ فوتها " (¬3) وسأضرب لك الأمثال؛ لتستنفر همتك فتعلو من حضيض الدنايا الدنيوية، إلى قمم المنن الإلهية، فقد كان سلفنا ـ رحمهم الله ـ يحرصون على العلم وجمعه حرصاً ليس له نظير. ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط وصححه الألباني في صحيح الجامع (1743). (¬2) جزء من حديث أخرجه مسلم (2664) ك البر والصلة والآداب، باب في الأمر بالقوة وترك العجز. والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله. (¬3) المجموع شرح المهذب (1/ 37) ط دار الفكر.

قال ابن أبى حاتم: سمعت المزني يقول: قيل للشافعي كيف شهوتك للعلم؟ قال: أسمع بالحرف ـ أي بالكلمة ـ مما لم أسمعه، فتود أعضائي أن لها سمعًا تتنعم به، مثل ما تنعمت به الأذنان. فقيل له: كيف حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال. فقيل له: فكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدَها ليس لها غيره. وقد كان ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يأتي أبواب الصحابة في حرِّ الظهيرة يسألهم عن الحديث. فروى الخطيب البغدادى وابن عبد البر عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: " إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتى بابه، وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح علىَّ من التراب، فيخرج فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟!! ألا أرسلت إلىَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث ". وهذا ابن معين ـ رحمه الله تعالى ـ خلف له أبوه ألف ألف درهم، فأنفقها كلها على تحصيل الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه، وكان حريصاً على لقاء الشيوخ والسماع منهم خشية أن يفوتوه ..

قال عبد بن حميد: سألني يحيى بن معين عن حديث أوَّلَ ما جلس إليَّ، فقلت: حدثنا حماد بن سلمة. فقال لو كان من كتابك، فقمت لأخرج كتابي، فقبض على ثوبي، ثم قال: أمله عليَّ، فإنَّي أخاف أن لا ألقاك، فأمليته عليه، ثمَّ أخرجت كتابي فقرأته عليه. ومن أئمة التابعين مكحول الشامي (ت 112 هـ) ـ رحمه الله ـ يقول: أعتقت بمصر فلم أدع بها علمًا إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق، ثمَّ المدينة فلم أدع بهما علمًا إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها. يا سبحان الله، انظر إلى علو الهمة، والطواف بالبلاد والتجوال، وجمع العلم وإحرازه، ويا لعجبي من " فغربلتها " ‍‍‍!! وقد بلغ حرصهم على الطلب أنَّ أحدهم كان ينزل به الهم والحزن، ويصيبه المرض، إذا فاته شيء من العلم. فقد ذكروا حديثًا لشعبة لم يسمعه، فجعل يقول: " واحزناه!! " وكان يقول: إنِّي لأذكر الحديث يفوتني فأمرض. فما يحزن القلب إلا إذا فاته عظيم عنده، محبوب لديه، لمَّا جاء إخوة يوسف ليأخذوه ليلعب قال أبوهم: " إنِّي ليحزنني أن تذهبوا به " [يوسف / 13] فكذلك كل محبوب يحزن القلب لفراقه، فإذا فاتك من العلم شيء فلم تحزن لفواته فاتَّهم ... نيتك، واعلم أنَّ بالقلب من العلائق ما قد حال بينك وبين أبواب العلم.

3) بذل الغالي والنفيس

أيها المتفقه: أين حرصك على طلب العلم، وصبرك على تحصيله، وإن كلفك ذلك الغالي والنفيس، أين تبكيرك لمجالس العلم؟ تالله إنَّك ترى من يبكر لحضور درس قبل وقته بساعة أو ساعتين يظل يراشقك بنظراته ممتنًا عليك أنَّه أتى مبكرًا لحضور الدرس، وما كان هذا حال سلفنا. هذا جعفر بن درستويه يقول: كنا نأخذ المجلس في مجلس عليّ بن المديني وقت العصر، اليوم لمجلس غدٍ، فنقعد طول الليل، مخافة أن لا نلحق من الغد موضعًا نسمع فيه. 3) ومن علامات علو الهمة: بذل الغالي والنفيس. أيها المتفقه .. من خطب الحسناء لم يُغله المهر، وأنت ـ تالله ـ طالب لنعيم الدنيا والآخرة فلا تكلَّ ولا تملَّ فدونك رياحين الجنَّة، " من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنَّة " (¬1) يقول ابن الجوزى: " تأملت عجباً، وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله، فإنَّ العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار، وهجر اللذات ¬

(¬1) أخرجه مسلم (2699) ك الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.

والراحة، حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة ولا أقدر، لأنَّ وقت بيعها وقت سماع الدرس ... ".أهـ ولذلك قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: " وأما سعادة العلم فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع، وصدق الطلب، وصحة النية " (¬1) فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة، ولا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد. قال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن كثير: " لا ينال العلم براحة الجسم ". وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة. يقول الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: " حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار منه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراكه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه ". أيها المتفقه .. اعلم أنَّ علوم الإسلام العظيمة لم تُدَوَّن على ضفاف الأنهار، وتحت ظلال الأشجار والأثمار، وإنما دونت باللحم والدم، وظمأ الهواجر، وسهر الليالي على السراج الذي لا يكاد يضيء نفسه، وفي ظل العرى والجوع وبيع الثياب، وانقطاع النفقة في بلد الاغتراب، والرحلة المتواصلة الملاحقة، والمشاق الناصبة ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة (1/ 108) ط دار الكتب العلمية.

المتعانقة، والصبر على أهوال الأسفار، وملاقاة الخطوب والأخطار، والتيه في البيد، والغرق في البحار، ولفقد الكتب العزيزة الغالية والأسفار، وحلول الأمراض والأسقام، مع البعد عن الأهل والزوجة والأولاد والدار، ومع فرقة الأقارب والأحباب والأصحاب وفقد الاستقرار، فما أثر كل ذلك في أمانة علم أهلها، وما نقص من متانة دينهم، وما وهن من قوة شكيمتهم، وما خضعتهم الضائقة الخانقة مع قوتها إلى قبول الذل والهوان. علو همَّة السلف في الرحلة في طلب العلم (¬1) ومن تمثل سير سلفنا الصالح، ونظر في معاناتهم في طلب العلم هانت عليه كل شدة، واحتقر نفسه أمامهم، فقد كابدوا من الصعاب ما يفوق التخيل، وتركوا البلاد والأولاد وهجروا اللذات والشهوات، وجابوا مشارق الأرض ومغاربها سعيًا وراء حديث واحد، أو لقاء شيخ أو معرفة مسألة، وأنت ... ـ اليوم ـ تجزع من قراءة ساعة، وتتكاسل عن سبر صفحات قليلة، وتتوافر لك سبل المعرفة فما تمد لها يدًا، فحالك ـ تالله ـ حال عجيبة، فانظر إلى هؤلاء الأفذاذ كيف طلبوا العلم عساك تنتفع بذلك. ¬

(¬1) وقد صنَّف كثير من أهل العلم في أهمية الرحلة منها " كتاب الرحلة " للخطيب البغدادي، يقول الشيخ أبو غده عنه: وكتاب الرحلة للخطيب كتاب نافع مهماز للمتخلفين عن الرحلة، فاقرأه لعلك ترحل. [صفحات من صبر العلماء ص 44]

قيل للإمام أحمد: رجلٌ يطلب العلم يلزم رجلاً عنده علم كثير أو يرحل؟ قال: يرحلُ، يكتب عن علماء الأمصار، فيشامُّ النَّاس، ويتعلم منهم. وقيل له مرةً: أيرحلُ الرجل في طلب العلم؟ فقال: بلى والله شديدًا، لقد كان علقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي، ـ وهما من أهل الكوفة بالعراق ـ يبلغهما الحديث عن عمر فلا يقنعهما حتى يخرجا إليه ـ إلى المدينة المنورة ـ فيسمعانه منه " قال ابن خلدون في المقدمة: " إنَّ الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة: مزيد كمال في التعليم، والسبب في ذلك أنَّ البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما يتحلون به من المذاهب والفضائل، تارة: علمًا وتعليمًا ولقاءً. وتارةً: محاكاة وتلقينًا بالمباشرة. إلا أنَّ حصول الملكات عن المباشرة والتلقين، أشدُّ استحكامًا وأقوى رسوخًا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها ـ وتفتحها ـ والاصطلاحات أيضًا في تعليم العلوم مخلِّطة على المتعلم، حتى لقد يظنُّ كثير منهم أنَّها جزء من العلم، ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين. فلقاء أهل العلوم، وتعدد المشايخ: يُفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها، فيُجرِّد العلم عنها، ويعلم أنَّها أنحاء تعليم وطرق توصيل، وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات، ويصحح معارفه ويميزها عن سواها، مع تقوية ملكته بالمباشرة

والتلقين، وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم، وهذا لمن يسَّر الله عليه طرق العلم والهداية. فالرحلة لابد منها في طلب العلم، لاكتساب الفوائد والكمال، بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال، " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " [البقرة / 213] (¬1) أيها المتفقه .. شأن الرحلة قديم تليد، بداية من رحلة نبي الله موسى الكليم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، وقد قصَّ الله خبر رحلته في القرآن الكريم، مع عبده الخضر وما كان في رحلته من العوائق والغرائب، فبقيت الرحلة سنة نبوية وشعار طلبة العلم إلى يوم الدين. وهؤلاء صحابة الرسول منهم من قطع مئات الأميال ليلقاه ويتثبت من صدق نبوته، ومنهم من سافر إليه من البلاد البعيدة ليسأله عن مسألة وقعت له. فهذا عقبة بن الحارث سافر من مكة إلى المدينة ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن مسألة رضاع وقعت له. فعن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج. ¬

(¬1) المقدمة ص 542 ط دار القلم.

من نوادر الرحلات

فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف وقد قيل؟! " ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره. (¬1) وهذا جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد. روى البخاري في الأدب المفرد أن جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فابتعت بعيرًا، فشددت إليه رحلي شهرًا، حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه أنَّ جابرًا بالباب فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله!! فقلت: نعم. فخرج فاعتنقني، قلت: حديث بلغني لم أسمعه خشيت أن أموت أو تموت ... . فذكر الحديث " (¬2) ومن نوادر الرحلات ما صنعه هذا الإمام العظيم الحافظ أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد الأندلسي ـ رحمه الله ـ (ت 276 هـ) فقد نقل بعض العلماء من كتاب حفيده قوله: سمعت أبي يقول: رحل أبي من مكة إلى بغداد، وكان رجلا بغيته ملاقاة أحمد بن حنبل. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (88) ك العلم، باب الرحلة في المسألة النازلة. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (970) باب المعانقة، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (746)

قال: فلما قربت بلغتني المحنة، وأنه ممنوع، فاغتممت غمًا شديدًا، فاحتللت بغداد، واكتريت بيتًا في فندق، ثم أتيت الجامع، وأنا أريد أن أجلس إلى الناس، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يتكلم في الرجال، فقيل لي: هذا يحيى بن معين، ففرجت لي فرجة، فقمت إليه، فقلت: يا أبا زكريا ـ رحمك الله ـ رجل غريب، ناء عن وطنه، أردت السؤال فلا تستخفني. فقال: قل. فسألت عن بعض من لقيته فبعضًا زكى، وبعضًا جرح، فسألته عن هشام بن عمار، فقال لي أبو الوليد: صاحب صلاة دمشق ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر أو متقلدًا كبرًا ما ضره شيئًا لخيره وفضله. فصاح أصحاب الحلقة: يكفيك ـ رحمك الله ـ غيرك له سؤال. فقلت: ـ وأنا واقف على قدم اكشف عن رجل واحد ـ أحمد بن حنبل ‍‍‍‍‍‍‍. فنظر إليَّ كالمتعجب فقال لي: ومثلنا نحن نكشف عن أحمد، ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم. فخرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل، فدللت عليه، فقرعت بابه فخرج إليَّ فقلت: يا أبا عبد الله، رجل غريب، نائي الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث، ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك. فقال: ادخُل الأسطوان ـ يعني به الممر إلى داخل الدار ـ ولا يقع عليك عين. فدخلت فقال لي: وأين موضعك؟! قلت: المغرب الأقصى.

فقال لي: إفريقية؟ قلت: أبعد من إفريقية، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية بلدي الأندلس. قال: إن موضعك لبعيد، وما كان شيءٌ أحب إليَّ من أن أحسن عون مثلك على مطلبه، غير أنِّي في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك. فقلت: بلى قد بلغني، وأنا قريب من بلدك، مقبل نحوك. فقلت له: يا أبا عبد الله، هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم، فان أذنت لي أن آتي كل يوم زي السؤال، فأقول عند الباب ما يقولونه، فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان لي فيه كفاية. فقال لي: نعم على شرط أن لا تظهر في الحِلق، ولا عند المحدثين. فقلت: لك شرطك. فكنت آخذ عصا بيدي، وألف رأسي بخرقة مدنسة، وأجعل كاغدي ـ أي ... ورقي ـ ودواتي في كمي، ثمَّ آتي بابه، فأصيح: الأجر ـ رحمك الله ـ والسؤال هناك كذلك، فيخرج إلي ويُغلق باب الدار، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له، وولي بعده من كان على مذهب السنة، فظهر أحمد، وعلت إمامته، وكانت تضرب إليه آباط الإبل، فكان يعرف لي حق صبري، فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي، ويقص على أصحاب الحديث قصتي معه، فكان يناولني الحديث مناولة، ويقرؤه عليَّ، وأقرؤه ... عليه. (¬1) ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (13/ 292 - 294)، وانظر صفحات من صبر العلماء للشيخ أبي غدة ص (55 - 58).

ومن أخبار الرحالة المشائين للطلب

فهذا خبر من أعجب ما تقرأ، فهذا العالم الأندلسي رحل من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق على قدميه ليلقى الإمام أحمد، فلما وجده محبوسًا ممنوعًا عن الناس تلطف وتحيَّل حتى لقيه، فأخذ العلم عنه، وحفظ له الإمام أحمد صبره في الطلب وقربه منه. ومن أخبار الرحَّالة المشائين للطلب ما ذكره أصحاب التراجم والسير عن فحل ضرغام، إمام همام، أعني أبا حاتم محمد بن إدريس الرازي (ت 277 هـ) يقول: أحصيت ما مشيت على قدميَّ زيادة على ألف فرسخ (¬1)، لم أزل أحصي حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته، وأما ما سرت أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا أحصي كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحر من قرب مدينة سلا ـ وذلك في المغرب الأقصى ـ إلى مصر ماشيًا، ومن مصر إلى الرملة ماشيًا، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى إنطاكية، ومن إنطاكية إلى طرسوس، ثمَّ رجعت من طرسوس إلى حمص، وكان بَقِي عليَّ شيء من حديث أبي اليمان فسمعته، ثمَّ خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفي، كل ذلك ماشيًا، هذا ¬

(¬1) الفرسخ نحو خمسة كيلو مترات فانظر ـأعزك الله ـ كم قطع هذا الرجل من المسافات مشيًا على الأقدام.

سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة، أجول سبع سنين، وخرجت المرة الثانية ـ وكان سني في هذه الرحلة 47 سنة ـ. (¬1) فانظر لحال ذلك الرجل العجيب، كم قطع من المسافات مشيًا على الأقدام، وانظر لحال خروجه في سن السابعة والأربعين، لتعلم أنَّ العلم لا يتوقف على سن، بل العلم يطلب من المهد إلى اللحد. ومثيله هذا الحافظ الجوال ابن منده (ت 395هـ) بدأ الرحلة في طلب العلم وهو ابن عشرين سنة، ورجع وهو ابن خمس وستين سنة، ولما عاد إلى وطنه تزوج ـ وهو ابن 65 سنة!! ـ، ورزق الأولاد، وحدَّث بالكثير. وقد قال ـ رحمه الله ـ: طفت الشرق والغرب مرتين. (¬2) رحلة الأهوال. واسمع عن أبي حاتم الرازي هذا الخبر العجيب، وانظر إلى أشد ما لاقيت من نصب في تحصيل، وقارن بين حالك هذه وحال أولئك؛ لتعرف لماذا حازوا إلى الآن قصب السبق مع كثرة الإمكانيات التي أتيحت لنا دونهم. قال ـ رحمه الله ـ: " لما خرجنا من المدينة من عند داود الجعفري صرنا إلى الجار وركبنا البحر، وكنا ثلاثة أنفس: أبو زهير المروزى ¬

(¬1) مقدمة الجرح والتعديل ص (359) (¬2) المرجع السابق (3/ 1032)

شيخ، وآخر نيسابوري، فركبنا البحر، وكانت الريح في وجوهنا، فبقينا في البحر ثلاثة أشهر، وضاقت صدورنا، وفني ما كان معنا من الزاد، وبقيت بقية، فخرجنا إلى البر، فجعلنا نمشي أيامًا على البر، حتى فني ما كان معنا من الزاد والماء، فمشينا يوماً وليلة، لم يأكل أحد منا شيئاً، ولا شربنا، واليوم الثاني كَمِثْل، واليوم الثالث كمثل كل يوم، نمشى إلى الليل، فإذا جاء المساء صلينا، وألقينا بأنفسنا حيث كنا، وقد ضعفت أبداننا من الجوع والعطش والعياء، فلما أصبحنا اليوم الثالث جعلنا نمشى على قدر طاقتنا، فسقط الشيخ مغشياً عليه، فجئنا نحركه، وهو لا يعقل فتركناه، ومشينا أنا وصاحبي النيسابورى قدر فرسخ أو فرسخين فضعفت، وسقطت مغشياً علىَّ ومضى صاحبي، وتركني فلم يزل هو يمشي إذ أبصر من بعيد قومًا قد قربوا سفينتهم من البر، ونزلوا على بئر موسى صلى الله عليه وسلم، فلما عاينهم لَوَّح بثوبه إليهم، فجاؤا معهم الماء في إداوة ... فسقوه، وأخذوا بيده. فقال لهم: رفيقين لي قد ألقوا بأنفسهم مغشياً عليهم، فما شعرت إلا برجل يصب الماء على وجهي، ففتحت عيني فقلت: اسقني، فصب من الماء في ركوة أو مشربة شيئاً يسيراً، وأخذ بيدى، فقلت: ورائى الشيخ ملقى. قال: قد ذهب إلى ذاك جماعة. فأخذ بيدى، وأنا أمشى أجر رجلي، ويسقينا شيئاً بعد شيء، حتى إذا بلغتُ إلى عند سفينتهم، وأتوا برفيقي الثالث الشيخ، وأحسنوا إلينا أهلُ السفينة فبقينا أياماً حتى رجعت إلينا أنفسُنا، ثم كتبوا كتابًا إلى مدينة يقال لها راية إلى واليهم،

وزودونا من الكعك والسويق والماء، فلم نزل نمشى حتى نفد ما كان معنا من الماء والسويق والكعك، فجعلنا نمشى جياعاً عطاشاً على شط البحر، حتى وقعنا إلى سلحفاة، قد رمى بها البحر مثل التُّرس، فعمدنا إلى حجر كبير فضربنا على ظهر السلحفاة فانفلق، وإذا فيها مثل صفرة البيض،. فأخذنا من بعض الأصداف الملقى على شط البحر، فجعلنا نغترف من ذلك الأصفر فنتحساه، حتى سكن الجوع والعطش، ثم مررنا وتحملنا حتى دخلنا مدينة الراية، وأوصلنا الكتاب إلى عاملهم فأنزلنا في داره، وأحسن إلينا، وكان يقدم إلينا كل يوم القرع، ويقول لخادم:: هات لهم اليقطين المبارك، فيقدم إلينا ذلك اليقطين من الخبز أياماً. فقال واحد منا بالفارسية: " ألا تدعو باللحم المشئوم.، وجعل يُسمع صاحب الدار .. فقال: أنا أحسن الفارسية، فإن جدتي كانت هروية.، فأتانا بعد ذلك باللحم، ثم خرجنا من هناك، وزودنا إلى أن بلغنا مصر " أهـ أيها المتفقه .. يا لها من رحلة الأهوال!! فمتى تنفض عنك تنكب الأطفال؟! متى تُشهر سيفك وتنزل حلبة النِّزال؟ لماذا لا تلحق بركب هؤلاء الرجال؟ يا هذا أما ينفك عنك زمان الأحلام والآمال!! متى ترعوي بمشي الأيام في الآجال؟ تقول: من ذا؟! وأقول: الرجال. تقول: كيف ونحن في ... !! وأقول: بعون ذي الجلال.

إشارات من واقعنا وواقع سلفنا. ولابد وقد مرَّ الحديث بخبر " الرحلة " عند سلفنا من إشارات نقف عندها لتستفيد بها ـ أيها المتفقه ـ فمن ذلك: 1) أنْ تبصر كم من الأوقات والأعمار قضاها هؤلاء في طلب العلم، بعيدين عن الأهل والولد، والزوجة والبلد، متفرغين للطلب. وقارن هذا الحال وصنيع المتعالمين في هذا الزمان ممّن ينتسبون إلى العلم، وجلُّ اهتمامهم التصدر والعلو، فلا ينبت لهم زرع نافع. فمنْ لا يعاني ذلَّ التعلم، ويقضي الأعوام في رعاية بذره فلن يحصد، ومن هنا كره كثير من السلف التصنيف قبل الأربعين، بل لم يُفتوا إلا في سن متأخرة، حفظًا للعلم من أن ينتهك حرمته من ليس له بأهل. 2) مدى تحملهم للصعاب، من فقر وشظف العيش، وصعوبة وسائل السفر، وانظر لتقاعس أبناء عصرنا عن الارتحال ولو بالسيارات التي عادت الآن أسوأ سبل السفر في ظل وجود الطائرات بأنواعها المختلفة، لتدرك علو هممهم في الصبر والتّحمل، وتعلم غلاء العلم لديهم وعلى قلوبهم، إذ ركبوا في تحصيله الصعب والذلول، وقطعوا البراري والقفار، وامتطوا من أجله المخاطر والبحار، ولقوا ما لقوا من الشدائد والأهوال ما الله به عليم، وحسبك من ذلك قصة الإمام أبي حاتم التي مرَّ ذكرها عليك.

3) صقل تلك المعاناة لنفوسهم، فعزَّ العلم عندهم، ورعوه حق رعايته، ولذلك خرجوا أئمة أحبارًا في كل علم من العلوم، ولم يجدْ الزمان بأمثالهم، لمَّا لم يستنَّ النَّاس بسننهم. انظر لحال طلبة العلم في عصرنا ممَّن يدرسون دراسة أكاديمية أو من دونهم، يقول الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ـ رحمه الله ـ: " فوازن ـ رعاك الله ـ بين الدراسة التي أثمرتها هذه الرحلات التي عركت الطلاب الراحلين عركًا طويلاً، وبين دراسة طلاب جامعاتنا اليوم! يدرسون فيها أربع سنوات، وأغلبهم يدرسون دراسة صحفية فردية، لا حضور ولا سماع، ولا مناقشة ولا اقتناع، ولا تطاعم في الأخلاق ولا تأسي، ولا تصحيح لأخطائهم ولا تصويب ولا تشذيب لمسالكهم، ويتسقطون المباحث المظنونة السؤال من مقرراتهم (المختصرة) ثمَّ يسعون إلى تلخيص تلك المقررات، ثمَّ يسعون إلى إسقاط البحوث غير الهامَّة من المقروءات، بتلطفهم وتملقهم لبعض الأساتذة، فيجدون ما يسرهم وإنْ كان يضرهم، وبذلك يفرحون. وبعد ذلك يتعالون بضخامة الألقاب، مع فراغ الوطاب، ويوسعون الدعاوي العريضة، ويجهِّلون العلماء الأصلاء بآرائهم الهشة البتراء، وينصرون الأقوال الشاذة لتجانسها مع علمهم وفهمهم، ويناهضون القواعد المستقرة، والأصول الراسخة المتوارثة، ولم يقعدوا مقاعد العلم والعلماء، ولم يتذوَّقوا بصارة التحصيل عند القدماء! ولكنهم عند أنفسهم أعلم من السابقين!!

كيفية علو الهمة

ويشهد المراقب للحال العلمية اليوم: كثرة متزايدة في الجامعيين والجامعات، وفقرًا متزايدًا في العلم وأهله، وضحالة في الفهم والمعرفة، ونقصًا كبيرًا مشهودًا في العمل بالعلم! وهذه مصيبة من أدهى المصائب! والله المرجو أن يُلهم المنوط بهم أمور التعليم في البلاد الإسلامية أن يتبصروا بالأمر، ويتداركوا هذا الخطر قبل تأصُّله وإزمانه، واستفحال آثاره. يقول: ولا أتحدث طويلاً عن المبتعثين والراحلين اليوم من شبابنا، إلى بلاد الغرب والشرق من بلاد الكفار والأعداء للإسلام وأهله، فإنَّ الناجي من براثن مكايدهم الخفية والظاهرة في العقيدة والخلق والتفكير والسلوك قليل، وكم من أبنائنا وشبابنا من وقع في حبائلهم، وذهب في سبلهم، ورضيهم قادة وسادة، ونزع ـ بالتالي ـ من ديار الإسلام إليهم، وتوطن بلادهم مسكنًا ودارًا، واختارهم على أهله أهلاً وجارًا، وهو يظن بنفسه أنَّه يحسن صنعًا، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الكفر بعد الإيمان " (¬1) كيفية علو الهمة فإن قلت: كيف علو الهمة في عصرنا؟ والمعوِّقات قد أحاطت بنا فكيف لنا بعلو الهمة؟ وإذا وجدت الهمة ولم أُرزق فما الحيلة؟ قلت: جوابك حاضر والحمد لله، فلا تعجل، اصطبر وتدبر. ¬

(¬1) صفحات من صبر العلماء ص 109 - 110 ط مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب.

يقول ابن القيم: " قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إنِّي لا أحمل همَّ الإجابة ولكنْ همَّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإنَّ الإجابة معه، وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة من الله تنزل علي العباد علي قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك، فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به، والخذلان في مواضعه اللائقة به، هو العليم الحكيم. وما أُتي من أُتي إلا من قبل إضاعة الشكر، وإهمال الافتقار والدعاء، ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر، وصدق الافتقار والدعاء، وملاك ذلك الصبر، فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس فلا بقاء للجسد " أهـ (¬1) فهذه وصايا لتحصيل علو الهمة وحصول التوفيق: 1) اشكر نعمة ربك عليك. فكم من نعمة وهبها الله لك وأنت لا توافي شكرها، فلا تصرفها إلى ما خلقت له، فتمتنع عنك هذه المنن، كما هو حال الأذكياء وذوي ¬

(¬1) الفوائد ص (185).

الألباب من النَّاس ممن يُعملون عقولهم فيما لا طائل من ورائه، ومن النَّاس من وهبه الله نعمة " الحفظ " فتراه لا يصرفها فيما فيه فلاحها من حفظ القرآن والسنَّة ومتون العلم، ومنهم من وهبه الله ملكة الفهم والتدبر فلا تراه يستخدمها في تدبر آي الذكر الحكيم والنصوص الشرعية وفق منهج سلفنا، وهكذا تجد النَّاس لا يشكرون الله على نعمائه، فيمحق الله عنهم تلك النِّعم. 2) وصدق الافتقار والدعاء. كان الرجل من سلفنا الكرام إذا استشكلت عليه مسألة أو غمض عليه أمر من الأمور يسارع بصلاة ركعتين في جوف الليل المظلم يناجي ربه ويسأله أن يبصِّره بالحق، يقول: اللهم يا معلم إبراهيم علَّمني، ويا مفهم سليمان فهِّمني، ويظل هكذا حتى يفتح الله عليه، ولا مثيل للافتقار في استمطار رحمات الرب تبارك وتعالى، " إنَّما الصدقات للفقراء والمساكين .. " [التوبة/60] 3) وملاك الأمر في الصبر، فصبرًا على شدائد الطلب صبرًا أيها المتفقه .. فلابد لعلو همة من صبر فبدونه ينقطع بك السبيل، ولا ترجع حتى بخفي حنين، ولعمر الله إنَّ شدائد الطلب لهينة يسيرة، وهي أحلى على قلوب المخلصين من لذات الدنيا ومباهجها؛ ولذلك ابن الجوزى يقول: " ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لأجل ما أطلب وأرجو،

كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء.، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أنى عُرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول ... ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأحوالِه وآدابه، وأحوال الصحابة وتابعيهم. أهـ (¬1) أيها المتفقه ـ حبيبي في الله ـ لابد لك من خليل موافق لا يفارقك في زمان الطلب، ألا وهو " الصبر" فإنَّه ملاك ذلك الأمر كله، فيا أقدام الصبر احملي فقد بقى القليل. يقول ابن القيم: " فإن كان يأجوج الطبع ومأجوج الهوى، قد كانوا في أرض القلوب فأفسدوا فيها، فأعينوا الملك بقوة يجعل بينكم وبينهم ردمًا، أجمعوا له من العزائم ما يشابه زبر الحديد، ثم تفكروا فيما أسلفتم؛ ليثور صعد الأسف فلا يحتاج إلى أن يقول لكم: انفخوا، شدوا بنيان العزم بهجر المألوفات والعوائد، وقد استحكم البناء فحينئذ أفرغوا عليه قطر الصبر، وهكذا بنى الأولياء قبلكم فجاء العدو فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا " (¬2) فالصبر خِلٌ لطالب العلم إن فارقه استوحش في البوادي القفار، وإن لازمه أنس وأدلج، ولا تستقيم النفوس إلا به إذ طبعها الكسل ¬

(¬1) صيد الخاطر ص (276) ط مكتبة الكليات الأزهرية. (¬2) بدائع الفوائد (3/ 756)

والمهانة والإخلاد إلى الأرض، فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق، فإنَّ الله جعل الصبر جوادًا لا يكبو، وصارمًا لا ينبو، وجندًا لا يهزم، وحصنًا لا يهدم، ولا يثلم، فهو والنصر أخوان شقيقان، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد، ومحله من الظفر محل الرأس من الجسد. قال تعالى: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " [السجدة /24] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنَّما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين. والصبر خير لصاحبه ألم يقل الله تعالى: " ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " ... [النحل /126] والصابر ينال خيري الدنيا والآخرة فقد بشره الله تعالى فقال: " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنَّا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " [البقرة /155 - 157] قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟!! قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب.

وهذا خيثمة بن سليمان القرشي (ت 343هـ) خرج لسماع الحديث من بلدته فركب البحر، فإذا بقطاع للطريق يطاردونهم ويأخذون مركبهم. يقول خيثمة: ولمَّا ضُربت سكرت ـ يعني أصابته غشية من شدة ألم الضرب ـ ونمت، فرأيت كأني أنظر إلى الجنة، وعلى بابها جماعة من الحور العين. فقالت إحداهن: يا شقي، أيش فاتك؟ قال الأخرى: أيش فاته؟ قالت: لو قتل كان في الجنة مع الحور العين. قالت لها: لأن يرزقه الله الشهادة في عز من الإسلام وذل من الشرك خير له، ثمَّ انتبهت. قال: ورأيت كأنَّ من يقول لي: اقرأ " سورة براءة " فقرأت إلى قوله تعالى: ... " فسيحوا في الأرض أربعة أشهر " [التوبة / 2]. قال: فعددت من ليلة الرؤيا أربعة أشهر، ففكَّ الله أسري. (¬1) أيها المتفقه: أتراك مضيعًا عمرك سدى إنْ أنفقته في الطلب؟ أتراك تفوت من الدنيا ما تضن به لأجل العلم؟ فما تعدل لذات الدنيا ما ¬

(¬1) تذكرة الحفاظ (3/ 858)

يجده طالب العلم من النعيم؟ فالعلم يرفعك أقرب ما تكون إلى رب السماء، والدنيا تشدك إلى درك البلاء، فاغتنم وقتك في الطلب قبل حسرة الفوت. ورحم الله ابن الجوزي حين يقول: " ومن أنفق عصر الشباب في العلم، فإنَّه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئًا بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم، هذا مع وجود لذاته في الطلب الذي كان تأمَّل به إدراك المطلوب، وربما كانت تلك الأعمال أطيب مما نيل منها " ثمَّ قال: " ولقد تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصبوة والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت عليه، ثمَّ تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يقوَّم. فقال لي إبليس: ونسيت تعبك وسهرك؟! فقلت له: أيها الجاهل، تقطيع الأيدي لا وقْع له ـ أي لا يذكر وليس بشيء ـ عند رؤية " يوسف "، وما طالت طريق أدت إلى صديق " أهـ وهذا ـ لعمر الله ـ من الفوائد الجليات لطلب العلم، ومن صبر ظفر.

" ومن المعلوم أنَّه لابد لنيل كل مرغوب محبوب من تنازل عن مرغوب محبوب دونه، والعلم مرغوب سامٍ، ومحبوب غالٍ، وشرف رفيع، ومطلب صعب المسالك، كثير العقبات، لا يمكن بلوغه إلا بتنازلات كثيرة، وتضحيات كبيرة، في المال، والوقت، والراحة، وأنس الأهل والأصحاب، وسائر المتع المشروعة، ولهذا قيل: العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ". (¬1) فيا أيها المتفقه: صبرًا على هجر اللذات، صبرًا على ترك المألوفات والعادات، صبرًا على مكابدة الصعوبات، فإنَّ من وراء ذلك بلوغ الغايات. قال أسد بن الفرات ـ رحمه الله ـ: أجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، واصبروا على شدته، فإنكم تنالون به خيري الدنيا والآخرة. كان بعضهم لا ينام الليل في مذاكرة العلم، وإذا نام فعلى فراش القلق من اشتغال الذهن. قال محمد بن أبي حاتم ورَّاق الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ: كان أبو عبد الله ـ أي البخاري ـ إذا كنت معه في سفر، يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ أحيانًا، فكنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القدَّاحة، فيوري نارًا ويسرج، ¬

(¬1) صفحات من صبر العلماء ص (111).

ثمَّ يخرج أحاديث فيعلم عليها، ثمَّ يضع رأسه، وكان يصلي وقت السحر ثلاث عشرة ركعة، وكان لا يوقظني، في كل ما يقوم. فقلت له: إنَّك تحمل على نفسك، في كل هذا ولا توقظني. قال: أنت شاب، ولا أحب أن أفسد عليك نومك. أيها المتفقه: ما عذرك؟! بماذا تخادع نفسك؟ حتَّام تركن إلى الدعة والبطالة؟ تستثقل سويعات تقضيها في المذاكرة والطلب ـ وأنت منعم ـ!! توفرت لك الوسائل وسهِّلت عليك الصعاب وما زلت تخلد إلى الأرض، ثمَّ تقول: العلم .. العلم فهيهات هيهات. قال يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي: دخلت على أبي في الصيف الصائف وقت القائلة، وهو في بيت كتبه، وبين يديه السراج ـ لظلمة الحجرة التي هو فيها في وسط النهار!! ـ فقلت: يا أبة، هذا وقت الصيف، ودخان هذا السراج بالنهار ـ يضرك ـ! فلو نفست عن نفسك؟ فقال لي: يا بني تقول لي هذا؟! وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أصحابه والتابعين؟! "

أيها المتفقه: أين أنت ممن كان يبيت وأثر الحصير في جنبيه ـ صلى الله عليه ... وسلم ـ؟ أين أنت ممن كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع خوفًا ووجلاً؟ أين أنت ممن عمروا الليالي بطاعة الله، فمنعهم العلم من النوم، ولم يلتفتوا إلى زخرف الدنيا الزائل، فحفظ الله ذكرهم بين الناس إلى يوم يقوم الأشهاد؟!! هذا الإمام الطبراني الذي ملأ حديثه البلاد، وزادت مؤلفاته عن خمس وسبعين مؤلفًا، فسئل مرةً عن كثرة حديثه. فقال: كنت أنام على البواري ـ أي الحصر ـ ثلاثين سنة. (¬1) أيها المتفقه: اصبرْ على مضضِ الإِدلاجِ في السحرِ، وفي الرواحِ إِلى الحاجاتِ والبكرِ، فإنَّه قلَّ من جدَّ في أمرٍ يطلبُهُ فاستصحبَ الصبرَ إِلا فازَ بالظفرِ، فإنَّ للصبرِ عاقبةً محمودةَ الأثرِ. قال هارون بن موسى: كنَّا نختلف إلى أبي علي ـ القالي ـ البغدادي رحمه الله، وقت إملائه " النوادر " بجامه الزهراء ـ في قرطبة ـ، ونحن في فصل الربيع. فبينما أنا ذات يوم في بعض الطريق، إذ أخذتني سحابة، فما وصلت إلى مجلسه رحمه الله إلا وقد ابتلت ثيابي كلها! وحوالي أبي ¬

(¬1) تذكرة الحفاظ (3/ 912، 915)

علي أعلام أهل قرطبة، فأمرني بالدنو منه، وقال لي: مهلاً يا أبا نصر، لا تأسف على ما عرض لك، فذا شيء يضمحل عنك بسرعةٍ، بثياب غيرها تبدلها. وقال أبو علي: قد عرض لي ما أبقى بجسمي ندوبًا تدخل معي في قبري! ثمَّ قال: كنت أختلف إلى ابن مجاهد ـ رحمه الله ـ، فأدلجتُ إليه ـ أي ذهبت إليه من آخر الليل قبل الفجر ـ لأتقرب منه. فلما انتهيت إلى الدرب الذي كنت أخرج منه إلى مجلسه ن ألفيته مغلقًا وعسُر عليَّ فتحه. فقلت: سبحان الله! أبكر هذا البكور، وأغلب على القرب منه!! فنظرت إلى سرب ـ حفير تحت الأرض ـ بجنب الدار فاقتحمته، فلمَّا توسطته ضاق بي، ولم أقدر على الخروج، ولا على النهوض، فاقتحمته أشد اقتحام، حتى نفذت بعد أن تخرقت ثيابي واثَّر السرب في لحمي حتى انكشف عظمي، ومنَّ الله عليَّ بالخروج، فوافيت مجلس الشيخ على هذه الحال، فاين أنت مما عرض لي؟!! وأنشدنا: دببت للمجد والساعون قد بلغوا ... جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا وكابدوا المجد حتى ملَّ أكثرهم ... وعانق المجد من أوفى ومن صبرا لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

أيها المتفقه: وصيتي الجامعة لك قول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " [آل عمران /200] فما فلاح في دون تلك الأربع. " فاصبر " مع نفسك فألجمها، واعلم أنَّ هداها في مخالفتها، فاصب صبر الكرام لا صبر اللئام، ممن يرغمون على الصبر فيتجرعون مرارته في الآجل ... والعاجل. " وصابر" عدوك، وليس عدوك من قاتلك، بل من الأعداء ما يخفى، وشر أعدائك نفسك والشيطان والدنيا والهوى، وشر أعدائك من ضيَّع وقتك، وشغلك عن مطلبك، فاهجر خلان الدنيا فإنهم يقتلونك من حيث لا تدري. " ورابط " فالثبات حتى الممات شعارك، وتجهز دائمًا لموعودك، وأعدَّ عدتك، وكلما استزدت زودت، فلا تفتر. و" اتقِ الله " فالزم تقوى الله تعالى في السر والعلانية، فدونها تتهتك الآمال، وتضيع الأعمار، ويصبح عملك هباءًا منثورًا.

4) جمع الهم. أيها المتفقه .. الوصية الرابعة لعلو الهمَّة " جمع الهم "، ولا ريب أنَّ طاعة الله تعالى تفتقر إلى " جمع الهم "، وأنَّ شتات الهم من أكبر المعوقات عن طلب العلم. قال صلى الله عليه وسلم: " من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أيِّ أوديتها ... هلك " (¬1). قال ابن الجوزي: وقيل لأبى حنيفة: بمَ يستعان على حفظ الفقه؟ قال: بجمع الهم. وقال حماد بن سلمة: بِقلِة الغمِّ. وقال مكحول: من نَظَّف ثوبَه قَلَّ همُّه، ومن طابت ريحُهُ زاد عقلهُ، ومن جمع بينهما زادت مروءته. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه (257) في المقدمة، بَاب الانتفاع بالعلم والعمل بِه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6189).

طالب العلم والزواج فلابد لطالب العلم من جمع الهمَّ، ومن ذلك ألا يشغل ذهنه بالزواج، لاسيما مع ضيق ذات اليد، فإنَّه يستتبع من شتات الذهن ما يمنعه عن بلوغ القصد، وإلا فلا يُلجأ إليه إلا عند الضرورة، كأنْ يخشى على نفسه الفتنة، فيتزوج من باب أخف الضررين. قال ابن الجوزي: وأختار للمبتدئ في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن، فإن أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعون سنة، وهذا لأجل جمع الهم، فإن غلب عليه الأمر تزوج واجتهد في المدافعة بالفعل؛ لتتوفر القوة على إعادة العلم.، ثم لينظر ما يحفظ من العلم، فإن العمر عزيز، والعلم غزير " (¬1) يقول صاحب مختصر منهاج القاصدين قال: " ينبغي لطالب العلم قطع العلائق ... الشاغلة، فإن الفكرة متى توزعت قصرت عن إدراك الحقائق.، وقد كان السلف يؤثرون العلم على كل شيء. فروىَ عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أنه لم يتزوج إلا بعد الأربعين. . وأهديت إلى أبى بكر الأنباري جارية، فلما دخلت عليه تفكر في استخراج مسألة فعزبت عنه، فقال: أخرجوها إلى النخاس، فقالت: هل من ذنب؟ قال: لا، إلا أن قلبي اشتغل بك، وما قدر مثلك أن يمنعني علمي". (¬2) ¬

(¬1) صيد الخاطر ص (211) (¬2) مختصر منهاج القاصدين صـ 21.

يقول ابن الجوزي: " هيهات أن يجتمع الهم مع التلبس بأمور الدنيا، خصوصًا الشاب الفقير الذي قد أَلِفَ الفقر؛ فإنَّه إذا تزوج وليس له شيء من الدنيا، اهتم بالكسب، أو بالطلب من الناس فتشتت همته، وجاء هـ الأولاد فزاد الأمر عليه، ولا يزال يرخص لنفسه فيما يحصل إلى أن يتلبس بالحرام.، ومن يفكر أنَّه أسير ضرورات لا يجدها فهمته ما يأكل وما يأكله أهله، وما ترضى به الزوجة من النفقة والكسوة، وليس له ذلك، فأي قلب يحضر له؟ وأيُّ هم يجتمع؟ هيهات!! والله لا يجتمع الهم والعين تنظر إلى الناس، والسمع يسمع حديثهم، واللسان يخاطبهم، والقلب متوزع في تحصيل ما لا بد منه .. فإن قال قائل: فكيف أصنع؟! قلت: إن وجدت ما يكفيك من الدنيا، أو معيشة تكفك فاقنع بها، وانفرد في خلوة عن الخلق مهما قدرت، وإن تزوجت فبفقيرة تقنع باليسير، وتصبر أنت على صورتها وفقرها، ولا تترك نفسك تطمح إلى من تحتاج إلى فضل نفقته. فإن رزقت امرأة صالحة جمعت همك فذاك، وإن لم تقدر فمعالجة الصبر أصلح لك من المخاطرة. وإياك والمستحسنات، فإن صاحبنهن إذا سلم كعابد صنم، وإذا حصل بيده شيء فأنفق بعضه، فبحفظ الباقي تحفظ شتات قلبك ..

أسباب شتات الهم

واحذر كل الحذر من هذا الزمان وأهلِه، فما بقى مواسٍ ولا مؤثر، ولا من يهتم لسد خلة، ولا من لو سئل أعطى، إلا أن يعطى نذراً بتضجر ومنة يستعبد بها المعطى بقية العمر، ويستثقله كلما رآه، أو يستدعى بها خدمته له، والتردد إليه". (¬1) أسباب شتات الهمَّ أيها المتفقه .. قال صلى الله عليه وسلم: " من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له " (¬2) فإذا أردت جمع همِّك فيكون رضا الله تعالى هو همُّك، فلابد لك من انتفاء موانع ذلك، ممَّا يفسد قلبك، ويشتت همَّك، ومدار ذلك على اشتغال النَّفس بالدنيا، فإذا ألقيتها وصرفت صورتها عن نفسك خلا القلب فيتمكن منه الإخلاص، اللهم ارزقنا الإخلاص واجعلنا من أهله. ¬

(¬1) صيد الخاطر ص (437، 438). (¬2) أخرجه الترمذي (2583) في أبواب صفة القيامة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6510).

يبين لك ابن الجوزي هذا فيقول: " ما رأيت مشتتًا للهم، مبدداً للقلب مثل شيئين: أحدهما: أن تطاع النفس في طلب كل شيء تشتهيه، وذلك لا يوقف على حد فيه، فيُذْهِبَ الدينَ والدنيا، ولا ينال كل المراد. مثل أن تكون الهمة في المستحسنات، أو في جمع المال، أو في طلب الرياسة، وما يشبه هذه الأشياء. . فياله من شتات لا جامع له، يذهب العمر ولا ينال بعض المراد منه. والثاني: مخالطة الناس خصوصًا العوام والمشي في الأسواق، فإنَّ الطبع يتقاضى بالشهوات، وينسى الرحيل عن الدنيا، ويحب الكسل عن الطاعة، والبطالة والغفلة والراحة، فيثقل على من ألف مخالطة الناس التشاغل بالعلم أو العبادة، ولا يزال يخالطهم حتى تهون عليه الغيبة وتضيع الساعات في غير شيء. فمن أراد اجتماع همه فعليه بالعزلة بحيث لا يسمع صوت أحد، فحينئذ يخلو القلب بمعارفه، ولا تجد النفس رفيقاً مثل الهوى يذكرها ما تشتهي. فإذا اضطر إلى المخالطة كان على وفاق، كما تتهوى الضفدع لحظة ثمَّ تعود إلى الماء، فهذه طريق السلامة، فتأمل فوائدها تطِبْ لك ". (¬1) ¬

(¬1) صيد الخاطر ص (489، 490).

همَّة كالثريا وجَدٌ حضيض بعض النَّاس يقول لك: أمَّا عن الهمَّة فلا تسأل، أبيت الليالي لا أنام، أذاكر الساعات الطوال، ولكنِّي لا أرزق الثمرة. ولسان حاله كقول أبي تمام: همَّة تنطح الثريا وجدٌ ... آلف للحضيض فهو حضيض ويجيبك ابن الجوزي فيقول: فالجواب: أنه إذا امتنع الرزق من نوع، لم يمتنع من نوع آخر، ثمَّ من البعيد أن يرزقك همَّة ولا يعينك، فانظر في حالك فلعله أعطاك شيئًا ما شكرته، أو ابتلاك بشيء من الهوى ما صبرت عنه. واعلم أنه ربما زوى عنك من لذات الدنيا كثيراً؛ ليؤثرك بلذات العلم، فإنَّك ضعيف ربما لا تقوى على الجمع، فهو أعلم بما يصلحك " أهـ (¬1) فيا عبد الله فتِّش على أسباب الخلل فتدراكها، اتهم نيتك، انظر لنعم الله عليك وقصورك في شكرها، انظر لابتلاءات الله لك كيف كان صنيعك فيها، هل صبرت أو جزعت؟ فإذا حرمت الرزق فبذنبك، وتذكر دائمًا قول الله تعالى: ... " أليس الله بأعلم بالشاكرين " [الأنعام/53] فربَّما حرمت لأنَّك لن تستطيع شكر هذه النعمة، فإنَّ الله لا يظلم مثقال ذرة، والله لا يظلم النَّاس شيئًا ولكنَّ النَّاس أنفسهم يظلمون. ¬

(¬1) صيد الخاطر ص (208).

فعليك يا طالب العلم أن تُجِدَّ في التحصيل، واصدق الله يصدقك، فإنه كما قال الجنيد: " ما طلب أحدٌ شيئاً بصدقِ وجدِّ إلا ناله، فإن لم ينله كلَّه نال بعضه ". ولا تلتفت إلى وساوس الشيطان في تهويل كثرة العلم عليك، فتفتر عن الطلب. فقد قال الفضل بن سعيد بن سلم: " كان رجل يطلب العلم فلا يقدر عليه، فعزم على تركه، فمر بماء ينحدر من رأس جبل على صخرة، قد أثر الماء فيها، فقال: الماء على لطافته قد أثر في صخرة على كثافتها، ـ والله ـ لا أدع طلب العلم، فطلب فأدرك. فالعلم يجتمع مع الليالي والأيام، قيل: اليوم شيءٌ، وغداً مثله، من نُخب العلم التي تلتقط يحصل المرء بها حِكْمتَه، وإنَّما السيل اجتماع النقط. مجمل القول أيها المتفقه ـ حبيبي في الله ـ: تعال بعد التفصيل أحصي لك ما يعينك على علو الهمة والصبر: أولاً: شكر النعمة وإن قلَّت. ... ثانيًا: صدق اللجأ والافتقار إلى الله. .

ثالثًا: إدمان الدعاء. رابعًا: الصبر والاصطبار. خامسًا: مخالفة الهوى. سادسًا: الصبر عن الدنيا. سابعًا: جمع الهم. ثامنًا: تأخير الزواج ما أمكن. تاسعًا: لا تطع نفسك في كل ما تطلب. عاشرًا: خذ بحظك من العزلة.

المنطلق الثالث: ماذا نتعلم؟

المنطلق الثالث ماذا نتعلم؟

المنطلق الثالث (ماذا نتعلم؟) أيها المتفقه ـ حبيبي في الله ـ: ماذا تتعلم؟ هذا ـ لعمر الله ـ سؤال صحيح وارد على جميع المسلمين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم " طلب العلم فريضة على كل مسلم" ـ وفي رواية " على كل مؤمن " (¬1)، ولا شك أنَّ الجميع يعلم يقيناً أنَّ داء الأمة اليوم الجهل، ودواؤها العلم، ولكن: أي علم؟ وماذا نتعلم؟ وبماذا نبدأ؟ يقول ابن قدامة ـ رحمه الله تعالى ـ: " اختلف الناس في ذلك. ... قال الفقهاء: هوعلم الفقه؛ إذ به يعرف الحلال والحرام. ... وقال المفسرون والمحدثون: هو علم الكتاب والسنة، إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها. وقال الصوفية: هو علم الإخلاص وآفات النفوس. ... وقال المتكلمون: هو علم الكلام. ... إلى غير ذلك من الأقوال التي ليس فيها قول مرضي، والصحيح أنه علم معاملة العبد لربه، والمعاملة التي كُلِّفها العبد على ثلاثة أقسام: اعتقاد، وفعل، وترك. ¬

(¬1) 1 أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (10/ 240)، والصغير (1/ 16)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (10/ 375، 11/ 424) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3913).

فإذا بلغ الصبي، فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادة وفهم معناها، وإن لم يحصل ذلك بالنظر والدليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى من أجلاف العرب بالتصديق من غير تعلم دليل، فذلك فرض الوقت، ثمَّ يجب عليه النظر والاستدلال. فإذا جاء وقت الصلاة وجب عليه تعلم الطهارة والصلاة، فإذا عاش إلى رمضان وجب عليه تعلم الصوم، فإن كان مال وحال عليه الحول وجب عليه تعلم الزكاة، وإن جاء وقت الحج وهو مستطيع وجب عليه تعلم المناسك. وأما التروك فهو بحسب ما يتجدد عليه من الأحوال، إذ لا يجب على الأعمى تعلم ما يحرم النظر إليه، ولا على الأبكم تعلم ما يحرم من الكلام، فإن كان في بلد يُتعَاطى فيه شرب الخمر ولبس الحرير وجب عليه أن يعرف تحريم ذلك. وأما الاعتقادات فيجب علمها بحسب الخواطر، فإن خطر له شك في المعاني التي تدل عليها كلمتا الشهادة، وجب عليه تعلم ما يصل به إلى إزالة الشك. وإن كان في بلد قد كثرت فيه البدع، وجب عليه أن يتلقن الحق، كما لو كان تاجراً في بلد شاع فيه الربا وجب عليه أن يتعلم الحذر منه. وينبغي أن يتعلم الإيمان بالبعث والجنة والنار " ا. هـ (¬1) ¬

(¬1) مختصر منهاج القاصدين ص (15، 16)

وبناء على ما سبق، فإن من فروض الأعيان في عصرنا على الذكور والإناث سواءً تعلم أحكام النظر لكثرة الاختلاط وشيوع الفاحشة، ويجب أيضاً تعلم أحكام الاختلاط والحجاب والاستئذان ومعرفة المحارم، كذلك وجب الإلمام بمعرفة الربا وأنواعه وأحكامه، وكذلك أنواع البيوع والإجارات والوكالات؛ لأن المسلم في هذا العصر يتعامل بكافة أنواع التعاملات يوميًا لكثرة البشر وتنوع التعامل وحاجة الناس لبعضهم البعض. وكذلك يجب من أمور الاعتقادات أشياء كثيرة تخفي على الناس، مثل: حرمة التبرك بالقبور، وحرمة التوسل بالموتى، بل وأشياء من صميم العقيدة مثل: تحكيم شرع الله، والولاء والبراء، وأحكام أهل الذمة، وغير ذلك مما يلزم شرعاً. فهذه الأمور من فرائض الأعيان على كل مسلم بحيث إذا لم يتعلمها أثم على ذلك لاسيما والوسائل متاحة من كتب أو أشرطة، ويستطيع المرء أن يسأل أهل العلم في مشارق الأرض ومغاربها عبر الهاتف أو بالبريد، ولجان الفتوى موجودة في معظم بلاد الإسلام، ولا تزال طائفة من أهل الحق ظاهرين، والحمد لله رب العالمين. لكن من العلوم ما يكون فرضه على الكفاية، بحيث إذا تقاعست الأمة بأسرها عن تعلم هذا العلم أثموا جميعًا، وإن قامت به جماعة منهم سقط فرضه عن باقي الأمة وأثيبوا على ذلك.

يقول ابن قدامة: " فأما فرض الكفاية: فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا، كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان على الصحة، والحساب فإنه ضروري في قسمة المواريث والوصايا وغيرها. فهذه العلوم لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الباقين. ولا يتعجب من قولنا: " إنَّ الطب والحساب من فروض الكفاية، فإنَّ أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفاية كالفلاحة والحياكة بل الحجامة فإنه لو خلا البلد عن حجام لأسرع الهلاك إليه، فإنَّ الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وأرشد إلى استعماله، وأما التعميق في دقائق الحساب ودقائق الطب وغير ذلك فهذا يعد فضلة؛ لأنه يستغنى عنه. وقد يكون بعض العلوم مباحًا كالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار، وقد يكون بعضها مذمومًا كعلم السحر والطلسمات والتلبيسات. فأما العلوم الشرعية فكلها محمودة، وتنقسم إلى: أصول، وفروع، ومقدمات، ومتممات. فالأصول: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة، وآثار الصحابة. والفروع: ما فهم من هذه الأصول من معانٍ تنبهت لها العقول، حتى فهم من اللفظ الملفوظ وغيره، كما فهم من قوله: " لا يقضى

القاضي وهو غضبان " (¬1) أنَّه لا يقضي جائعًا. والمقدمات: هي التي تجرى مجرى الآلآت، كعلم النحو واللغة، فإنهما آلة لعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والمتممات: كعلم القراءات، ومخارج الحروف، وكالعلم بأسماء رجال الحديث وعدالتهم وأحوالهم، فهذه هي العلوم الشرعية وكلها محمودة ". (¬2) فاعلم ـ حبيبي في الله ـ أنَّ العلوم ليست على مرتبة واحدة، فمن العلوم ما ينبغي عليك الاستكثار منه دون حد، ومنها ما يلزمك التوقف فيه عند حد مخصوص، وأنَّه لا يشتغل بالفرض الكفائي قبل الفرض العيني، وأنَّك لا تسعى في تعلم علوم الأدوات والوسائل إلا بقدر ما تحقق به الغاية، كمن يتعلم علوم اللغة ليستقيم فهمه ويحسن تدبر النصوص الشرعية من كتاب وسنة فإذا به يجنح إلى تعلم الغرائب، ¬

(¬1) أصله في الصحيحين، أخرجه البخاري (7158) ك الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، ومسلم (1717) ك الاقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث أنه كتب إلى ابنه وكان بسجستان بأن لا تقضي بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان " (¬2) مختصر منهاج القاصدين (16، 17).

نصيحة غالية

ويغوص في بعض المسائل الفلسفية مما سطروه في بعض كتب المطولات في النحو وغيره. يقول ابن قدامة: " واعلم أنَّ العلوم المحمودة تنقسم إلى قسمين: الأول: محمود إلى أقصى غاياته، وكلما كان أكثر كان أحسن وأفضل، وهو العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا؛ فإن هذا علم مطلوب لذاته، والتوصل به إلى سعادة الآخرة، وهو البحر الذي لا يُدرك غورُه، وإنما يحوم المحوِّمون على سواحله وأطرافه بقدر ما تيسر لهم. القسم الثاني: العلوم التي لا يحمد منها إلا مقدار مخصوص، وهي التي ذكرناها من فروض الكفايات، فإن في كل منها افتقاراً واقتصاراً واستقصاءً " (¬1) نصيحة غالية وتبقى هنا نصيحة مهمة لكل سائر في طريق الطلب، فإنَّ الفائدة المرجوة من سلوكك هذا السبيل هو إصلاحك نفسك، فحذار أن تكون كالسراج تضيء لغيرك، وأنت تحرق نفسك. يقول ابن قدامة: " فكن أحد رجلين: إمَّا مشغولاً بنفسك، وإما متفرغًا لغيرك بعد الفراغ من نفسك، وإياك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل إصلاح نفسك. ¬

(¬1) مختصر منهاج القاصدين ص (20).

واشتغل بإصلاح باطنك، وتطهيره من الصفات الذميمة، كالحرص والحسد والرياء والعجب قبل إصلاح ظاهرك. فإن لم تتفرغ من ذلك فلا تشتغل بفروض الكفايات، فإنَّ في الخلق كثيرًا يقومون بذلك، فإنَّ مُهْلك نفسه في طلب صلاح غيره سفيه، ومثله: مثل من دخلت العقارب تحت ثيابه، وهو يذب الذباب عن غيره. فإن تفرغت من نفسك وتطهيرها ـ وما أبعد ذلك!! ـ فاشتغل بفروض الكفايات وراعِ التدرج في ذلك. فابتدئ بكتاب الله عز وجل، ثم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بعلوم القرآن من التفسير، ومن ناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، إلى غير ذلك. وكذلك في السنة. ثم اشتغل بالفروع، وأصول الفقه، وهكذا بقية العلوم على ما يتسع له العمر، ويساعد فيه الوقت.، ولا تستغرق عمرك في فن واحد منها طلباً للاستقصاء، فإنَّ العلم كثير، والعمر قصير، وهذه العلوم آلات يراد بها غيرها، وكل شيء يطلب لغيره فلا ينبغي أن ينسى فيه المطلوب ". (¬1) فيا أيها المتفقه ـ حبيبي في الله ـ: حصِّل أولاً ما يجب عليك عيناً، ثم تعال لنقول بعد ذلك: كيف تبدأ بعد تحصيل فرض العين في طلب العلم؟ ¬

(¬1) الموضع السابق.

أولا: التوحيد

وهاك الجواب وهاك بيانه: فأول ما يبدأ به التوحيد، والفقه، وأعمال القلوب. التوحيد أولاً: التوحيد أو ما نسميه بعلم العقيدة، وهو فقه الإيمان، فتصحح إيمانك الذي ستلقى ربك به، لتعد لأسئلة المصير جوابًا حين تسأل من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فتصحح إيمانك، إذ لا يقبل منك عمل إلا بعد سلامة هذا الإيمان وصحته. قال تعالى: " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون" [النحل /97]، وقال جل وعلا: " وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا " [النساء/124] التوحيد من فقه الإيمان سماه السلف التوحيد لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ " إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى " (¬1) فالتوحيد أول واجب في العلم والعمل والدعوة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (7372) ك التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى.

ثانيا: الفقه

ثانياً: الفقه وعلم الفقه به تصحح عملك، فيكون على المتابعة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أمر بأوامر عامة مجملة، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفسر هذه الأوامر، ويفصلها ويبينها ويوضحها. فيقول صلى الله عليه وسلم: " صلوا كما رأيتموني أصلى" (¬1) ويشدد في الاتباع حتى يقول لمن صلى لا كصلاته " ارجع فصلِّ فإنَّك لم تصل" (¬2)، ويقول صلى الله عليه وسلم " لتأخذوا مناسككم " (¬3) فالعبادة لا تصح بحال إلا كما فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ... " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " [الحشر/7] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة " (¬4) فالطهارة، والصلاة، والجنائز، والزكاة بأنواعها، والصيام، والاعتكاف، والحج والعمرة، والأيمان والنذور، والأطعمة والأشربة، والصيد والذبائح، والأضاحى والعقيقة، والبيوع، ¬

(¬1) أخرجه البخاري (631) ك الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري (757) ك الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، ومسلم (397) ك الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة. (¬3) أخرجه مسلم (1297) ك الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر. (¬4) العبودية ص (4) ط دار المدني.

ثالثا: أعمال القلوب

والإجارات والوكالات والحدود والمعاوضات المالية والمناكحات والمخاصمات والأمانات والتركات، كل هذه من أنواع التشريع التي لا بد من العلم بها عند مزاولتها أو الحاجة إليها فرض عين والعلم بها أيضاً من فروض الكفايات على عموم الأمة. لا بد من العلم بها لتقع على الوجه الذي يرضى الله بما فعله رسوله صلى الله عليه وسلم. فلا بد من الفقه وتعلمه لتصحيح العبادة وضبط حياة الناس بالتشريع الإلهي، والذي لا علم عنده في هذا الجانب، إمَّا أن يبتدع أو يخطئ فحذارِ. ثالثاً: أعمال القلوب: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " أما بعد: فهذه كلمات مختصرات في أعمال القلوب - التي قد تسمى " المقامات والأحوال " - وهي من أصول الإيمان وقواعد الدين، مثل: محبة الله ورسوله، والتوكل على الله، وإخلاص الدين له، والشكر له والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له، وما يتبع ذلك. فأقول: هذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق - المأمورين في الأصل - باتفاق أئمة الدين " أهـ (¬1) ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (10/ 5) بتصرف يسير.

فهذه الأعمال القلبية من الإخلاص واليقين والتوكل والرضا والإنابة واجبة على جميع المكلفين، وطالما وجبت فعلاً وجبت علماً.، فعلمها أيضًا فرض عين على كل من احتاج إليها، والكل في حاجة إليها، وفرض الكفاية لإيجاد العلماء بها في الأمة الذين يقومون بفروض الكفاية في العلوم المختلفة .. فعليك ـ أيها المتفقه ـ أنْ تبذل قصارى جهدك في تعلم هذه العلوم الثلاثة بعد تعلمك لفرائض الأعيان، ومن هنا بني المنهج السلفي على أصول ثلاثة: التوحيد، والاتباع، والتزكية.

المنطلق الرابع: التزكية

المنطلق الرابع التَّزكية مع التَّعلم [[لا بد من تزكية القلب وتطهيره في البداية؛ لتحصيل العلم النافع والعمل الصالح، أو مواكبة التزكية مع الطلب فهما من المهمات الخطيرة في عصرنا.]]

المنطلق الرابع (التزكية) من الشروط التي عرفها العلماء بالاستقراء في أحوال الرسل بلزوم توافرها في كل رسول من عند الله: الفطنة، ومن استقرأ أحوال الرسل عرف أهمية هذا الشرط وتوافره، فنجد الرسل أنفع الناس للناس، وهم أعلم الناس بما يصلح الناس وينفع الناس، وبالفعل علَّموه للناس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم " (¬1) أضف إلى ذلك حرصهم صلوات الله عليهم وسلامه على هداية الناس، انظر إلى خليل الله أبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام وهو يقول: " ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم " ... [البقرة/129]. إنه سؤال له مغزاه انظر إلى قوله " فيهم " وقوله " منهم "، ثمَّ الغرض من إرسال هذا الرسول فيهم: ¬

(¬1) جزء من حديث أخرجه مسلم (1844) ك الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول.

1) يتلو عليهم آياتك. 2) يعلمهم الكتاب والحكمة. 3) ويزكيهم. وسبحان الملك القدوس العليم الحكيم، يشاء الله جل وعلا أن يستجيب دعاء خليله إبراهيم قال تعالى: " كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون " [البقرة/129]. وقال جل وعلا: " لقد مَّن الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " ... [آل عمران/ 164]. ويقول تعالى: " هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " [الجمعة /2] فهذه ثلاث آيات من القرآن تفيد استجابة الله تعالى دعاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وامتنان الله بذلك على المؤمنين، ولكن لاحظ كيف رتب الله وظيفة الرسول المبعوث صلى الله عليه وسلم ترتيباً آخر على غير نسق طلب إبراهيم صلى الله ... عليه وسلم، والله أعلم بما يصلح عباده، فطلب إبراهيم لوظيفة الرسول: 1) يتلو عليهم آياتك.

2) يعلمهم الكتاب والحكمة. 3) ويزكيهم. أما امتنان الله ففي: 1) يتلو عليهم آياتنا. 2) يزكيهم. 3) يعلمهم الكتاب والحكمة. ولم يتخلف هذا الترتيب في آية واحدة من الثلاثة، ولا رابعة من جنس هذه الآيات في القرآن كله.، وهذا يدل ـ إنْ دل ـ على شيء واحد، وهو أهمية تزكية القلب قبل التعلم، وتوحي بشيء من هذا أوائل سورة المزمل: قال تعالى: " يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً " [المزمل/1 - 5] فقيام الليل نوع من أنواع التزكية؛ لأن التزكية عند أهل السنة والجماعة بكثرة العبادة؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، وما تزكية القلب إلا بزيادة الإيمان.، فقيام الليل تزكية للقلب استعدادًا لتلقى العلم (القول الثقيل).

حقيقة التزكية

حقيقة التزكية التزكية في اللغة: من الزكاة، وأصل الزكاة:" الطهارة والنماء والبركة والمدح " وهذا المعنى اللغوي هو المقصود من التزكية اصطلاحاً، فهذه المعاني الثلاثة مرتبة: التطهير، النماء، الصلاح. فالتخلية أو التطهير لازم أولاً؛ لأننا نعيش في عصر كثر فيه الخبث، وما من أحد يعيش في المجتمع إلا أصابه من هذا الخبث بقدر اختلاطه ومعاشرته لأهل ... مجتمعه، فإذا أذَّن مؤذن الفلاح، وسمع العبد داعي النجاح " حي على الفلاح " وأذن الله له بتوبة، وبدأ طريق الالتزام، وعرف طريق المسجد، ودله أهل الخير على طلب العلم، فلا بد من التطهير للتخلص من رواسب الجاهلية (¬1) التي مر بها في أوليات حياته، لا بد من تطهير قلبه أولاً. . ثم لا بد من تنمية جوانب الخير فيه، قال صلى الله عليه وسلم: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" (¬2) فبعد تطهير جوانب الإثم والضلال تتميم جوانب الخير والبر والأخلاق فتكون النتيجة الصلاح الدائم. ¬

(¬1) تكلمنا في غير ما موضع عن قضية " التخلص من رواسب الجاهلية " ولي في ذلك محاضرات مسجلة تحت هذا الاسم، وراجع في ذلك كتاب " كيف أتوب؟ " ص (116) في الحديث عن خلع العادات، و" إلى الهدى ائتنا " ص (116 - 126)، ولنا كتاب خاص في هذا الموضوع يسَّر الله إخراجه. (¬2) أخرجه الإمام أحمد (2/ 381) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2349).

التزكية لماذا؟ إذا أردنا أن نشرب ماءً صالحاً فلا بد من تطهير الإناء وجلي الوعاء، ووعاء العلم وإناؤه القلب. . ... قال تعالى: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أُتوا العلم " [العنكبوت/49] ... وقال تعالى: " أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبدٌ مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال " ... [الرعد / 17] قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ " فهذا هو المثل المائي، شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب بالماء الذي أنزله من السماء، وشبه القلوب الحاملة له بالأودية الحاملة للسيل، فقلب كبير يسع علمًا عظيمًا، كواد كبير يسع ماء كثيرًا، وقلب صغير كواد صغير يسع علمًا قليلاً، فحملت القلوب من هذا العلم بقدرها، كما سالت الأودية بقدرها، ولما كانت الأودية ومجاري السيول فيها الغثاء ونحوه مما يمر عليه السيل، فيحتمله السيل، فيطفو على وجه الماء زبدًا عاليًا يمر عليه متراكبًا، ولكن تحته الماء الفرات الذي به حياة الأرض، فيقذف الوادي ذلك الغثاء إلى جنبتيه، حتى لا يبقى منه شيء، ويبقى الماء الذي تحت الغثاء، يسقي الله تعالى به الأرض فيحيى به البلاد والعباد والشجر والدواب، والغثاء يذهب جفاء، يجفى ويطرح على شفير الوادي.

فكذلك العلم والإيمان الذي أنزله في القلوب، فاحتملته فأثار منها بسبب مخالطته لها ما فيها من غثاء الشهوات، وزبد الشبهات الباطلة يطفو في أعلاها واستقر العلم والإيمان والهدى في جذر القلب، فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاء، ويزول شيئًا فشيئًا حتى يزول كله، ويبقى العلم النافع والإيمان الخالص في جذر القلب، يرده الناس فيشربون ويسقون ويمرعون. وفي الصحيح من حديث أبى موسى عن النبي قال: " مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضًا فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه دين الله تعالى ونفعه ما بعثنى الله به، فعَلِم وعَّلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " (¬1). أهـ (¬2) فانظر ـ رحمك الله ـ إلى هذا الحديث فهو يصف لك الحال الذي نود شرحه، فقد شبه لك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم بالغيث، والقلب بالأرض " كمثل غيث أصاب أرضاً "، فكما ينزل الغيث على الأرض ينزل العلم على القلب، فلو أنَّ غيثاً أصاب أرضاً بها حنظل، إذاً لزاد الغيثُ الحنظلَ مرارةً، ولو أنَّ غيثاً أصاب أرضاً بها شوك إذاً لزاد الغيثُ الشوك توهجاً، وهكذا ¬

(¬1) أخرجه البخاري (79) ك العلم، باب فضل من علم وعلَّم، ومسلم (2282) ك الفضائل، باب بيان مثل ما بعث به النبي من الهدى والعلم. (¬2) الوابل الصيب ص (68، 69) ط دار الكتب العلمية.

ولو أنَّ العلم نزل على قلب به كِبر لزاد به القلب تكبراً، وكذلك لو كان في القلب عُجب أو غرور أو حب رياسة وظهور، فإنه يزيد بالعلم ما فيه، وتصديق هذا من كتاب الله عز وجل قوله تبارك اسمه: " وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون " [التوبة /124 - 125] فالآية الواحدة تكون للمؤمن شفاء وللظالم خسارًا، تزيد المؤمن إيماناً، وتزيد المنافق مرضًا في قلبه، وهذه من آيات الله، فإن نزل العلم على قلب فيه تواضع زاده تواضعاً، وإن دخل العلم على قلب فيه كبر زاده كبراً وغروراً. وقال تعالى: " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا " [الإسراء/82] ثمَّ قال جل وعلا: " قل كل يعمل على شاكلته " [الإسراء/84] فلا بد من تطهير القلب وإعداده، وإلا فستكون فتنة، وكم رأينا على الساحة وبين طلبة العلم من كان في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً، نسأل الله العافية، وتمام العافية، ودوام العافية لجميع المسلمين والمسلمات. ولذلك كان السلف ـ رضوان الله عليهم ـ لا يُعَلِّمون أحداً العلم حتى يروِّضُوا نفسه سنين كثيرة، ويظهر لهم صلاحُ نيته.

قال الإمام النووي في " مقدمة المجموع ": وقد كان عبد الرحمن بن القاسم المصري الفقيه المالكي المتوفى بمصر سنة 191 هـ يقول: " خدمت الإمام مالك عشرين سنة، كان منها ثمان عشرة سنة في تعليم الأدب، وأخذت منه العلم في سنتين " وقد كان الإمام مالك يقول: " ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم ما نفع، وعمل به صاحبه ". وكان الإمام الشافعي يقول: " قال لي الإمام مالك يا محمد اجعل عملك دقيقاً، وعلمك ملحاً ". فانظر ـ رحمك الله ـ ماذا يصلح الدقيق من الملح، إنها قطرات من الملح على أكوام من الدقيق فاعمل. وكان عبد الله بن المبارك يقول: " من حمل القرآن، ثم مال بقلبه إلى الدنيا، فقد اتخذ آيات الله هزوًا، وإذا عصى حامل القرآن ربَّه ناداه القرآن في جوفه: ـ والله ـ ما لهذا حُمِلت، أين مواعظي وزواجري؟ وكل حرف منى يناديك ويقول: لا تعص ربك. وكان الإمام أحمد بن حنبل إذا رأى طالب العلم لا يقوم من الليل يكف عن تعليمه، وقد بات عنده أبو عصمة ليلة من الليالي، فوضع له الإمام ماء للوضوء، ثم جاءه قبل أن يؤذن للصبح فوجده نائماً، والماء بحاله فأيقظه. وقال: لم جئت يا أبا عصمة؟ فقال: جئت أطلب الحديث.

قال: كيف تطلب الحديث، وليس لك تهجد في الليل، اذهب من حيث جئت. وكان الإمام الشافعي يقول: " ينبغي للعالم أن يكون له خبيئة من عمل صالح فيما بينه وبين الله تعالى، فإن كل ما ظهر للناس من علم أو عمل قليل النفع في الآخرة، وما رؤى أحدٌ في منامه فقال: غفر الله لي بعلمي إلا قليلٌ من الناس. فاقبل ـ أيها المتفقه ـ على تزكية نفسك وتطهير قلبك؛ لكى يزكو علمك وتنتفع. قال عز وجل: " قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى " [الأعلى/14 - 15] وقال تعالى: " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " [الشمس/9 - 10] فائدة مهمة قد يكون الأوجب في هذا الزمان أن يتواكب الأمران، التزكية مع التعلم؛ لأن غالب أهل الزمان يبدؤون الطلب متأخرين، والعمر قصير؛ فلذلك اطلب العلم، واحرص على التزكية معه، وليسيرا في خطين متوازيين. يقول ابن الجوزى ـ رحمه الله تعالى ـ:

فصل: التلطف بالنفس

فصل: لا يصلح العلم مع قلة العمل. رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين؛ لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها، وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق لأني وجدت جمهور المحدثين وطلاب الحديث همة أحدهم في الحديث العالي وتكثير الأجزاء. وجمهور الفقهاء في علوم الجدل وما يغالب به الخصم، وكيف يرق القلب مع هذه الأشياء؟ وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه لا لاقتباس علمه؛ وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته، فافهم هذا، وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا؛ ليكون سبباً لرقة قلبك. (¬1) وقال في موضع آخر: فصل: التلطف بالنفس " تأملت العلم والميل إليه والتشاغل به، فإذا هو يقوي القلب قوة تميل به إلى نوع قساوة.، ولولا قوة القلب، وطول الأمل لم يقع التشاغل به، فإني أكتب الحديث أرجو أن أرويه، وابتدئ بالتصنيف أرجو أن أتمه، فإذا تأملت باب المعاملات قلَّ الأمل، ورق القلب، وجاءت ¬

(¬1) صيد الخاطر ص (253).

فصل العلم والعمل

الدموع، وطابت المناجاة، وغشيت السكينة، وصرت كأني في مقام المراقبة، إلا أن العلم أفضل وأقوى حجة، وأعلى مرتبة، وإن حدث منه ما شكوت منه. والمعاملة وإن كثرت الفوائد التي أشرت إليها منها، فإنها قريبة إلى أحوال الجبان الكسلان، الذي قد اقتنع بصلاح نفسه عن هداية غيره، وانفرد بعزلته عن اجتذاب الخلق إلى ربهم. فالصواب العكوف على العلم مع تلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعًا لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم " (¬1) وقال في موضع ثالث: فصل العلم والعمل لما رأيت رأي نفسي في العلم حسناً، فهي تقدمه على كل شيء، وتعتقد الدليل، وتفضل ساعة التشاغل به على ساعات النوافل، وتقول: أقوى دليل لي على فضله على النوافل: أنِّي رأيت كثيراً ممن شغلتهم نوافل الصلاة والصوم عن نوافل العلم، عاد ذلك عليهم بالقدح في الأصول، فرأيتها في هذا الاتجاه على الجادة السهلة والرأي الصحيح. إلا أنى رأيتها واقفة مع صورة التشاغل بالعلم فصحْت بها: فما الذي أفادك العلم؟ أين الخوف؟ أين القلق؟ أين الحذر؟ أو ما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم؟ ¬

(¬1) صيد الخاطر ص (170 - 171)

أما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيد الكل، ثم إنه قام حتى تورمت قدماه؟ أما كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ شجي النشيج، كثير البكاء؟ أما كان في خد عمر ـ رضي الله عنه ـ خطان من آثار الدموع؟ أما كان عثمان ـ رضي الله عنه ـ يختم القرآن في ركعة؟ أما كان على ـ رضي الله عنه ـ يبكى بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته ... بالدموع؟ ويقول: يا دنيا غُرى غيرى!! أما كان الحسن البصرى يحيا على قوة القلق؟ أما كان سعيد بن المسيب ملازماً المسجد فلم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة؟ أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر؟ أما قالت بنت الربيع بن خثيم له: ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟ فقال: إنَّ أباك يخاف عذاب البيات؟ أما كان أبو مسلم الخولاني يعلق سوطاً في المسجد يؤدب به نفسه إذا فتر؟ أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة وكان يقول: وا لهفاه!! سبقني العابدون، وقطع بى. أما صام منصور بن المعتمر أربعين سنة؟

أما كان سفيان الثوري يبكى الدم من الخوف؟ أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف؟ أما تعلمين أخبار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم؛ أبى حنيفة، ومالك، والشافعى، وأحمد؟ فاحذرى من الإخلاد إلى صورة العلم، مع ترك العمل به، فإنها حالة الكُسالى الزَّمْنَى. وخذْ لكَ مِنْك عَلَى مُهْلَةٍ ... وَمقبلُ عَيْشِكَ لمْ يدبر وَخِفْ هَجْمَةً لا تُقيلُ العَثارَ ... تَطْوى الوُرود عَلَى المُصْدِر ومثِّل لِنَفْسِكَ أيُّ الرَّعيل ... يَضمُّكَ فِي حلبَةِ المحشَر (¬1) بقي أمر مهم للغاية ألا وهو: كيف تزكو قلوبنا؟ (¬2) وهذا ـ لعمر الله، أمر خطير، ولكنَّه يسير على من يسَّره الله عليه. فأول ذلك: 1) الإخلاص وقد سبق الإشارة إليه في الانطلاقة الأولى. ¬

(¬1) صيد الخاطر (72، 73). (¬2) سيأتي في " المنطلق العاشر " منهجًا كاملاً في التربية فانظره هنالك.

2) إصلاح الفرائض. فما تقرَّب العبد لربه بأحبّ إليه مما افترض عليه، فأصلح الصلوات المكتوبات بالمواظبة عليها في جماعة، لا تفوتك تكبيرة الإحرام خلف الإمام، وأحضر قلبك في صلاتك، ولا تلتفت، وهكذا فأصلح ما افترض عليك. 3) مجموعة أعمال صالحة ثابتة بمنهجية في المداومة والتدرج، وشرط ذلك أنْ تكون هذه الأعمال على سنَّة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. 4) الإقلاع عن المعاصي فورًا فالمعاصي تميت القلوب، وتفسد العلم، فلابد من الإقلاع عن المعاصي ودوام التوبة وخصوصًا المعاصي القلبية من كبر وعجب وغرور، فإياك والمعاصي فإنَّها قتَّالة. 5) العمل بالعلم فكلَّما تعلمت شيئًا اعمل به، ولا تكتب أو تسمع حديثًا إلا وعملت به، ولو لمرة واحدة، واحذر التفريط في ذلك، فكل علم لم تعمل به حجة عليك، فليكن العمل همَّك، وانظر لأثر العلم فيك. 6) الاهتمام بأحوال القلب من الانكسار لله، وصدق اللجأ إليه، وإقبال القلب عليه في طلب محبته ورضاه، وعمومًا أطلْ النظر إلى قلبك، وتدبر حالك.

كيف حال قلبك مع الله؟! كيف حال قلبك بعد الطاعة وحال الطاعة؟ كيف حال قلبك عند المعصية وبعد المعصية؟ كيف حال قلبك عند سماع القرآن؟ كيف حال قلبك في الصلاة؟ كيف حال قلبك عند سماع أخبار من هو أفضل منك في أمور الآخرة؟ وكيف حاله عند سماع أخبار من هو دونك؟ كيف حال قلبك عند رؤية العصاة؟ كيف حال قلبك عند مشاهدة أهل البلاء؟ كيف حال قلبك في الخلوة مع القدرة على المعصية؟ كيف حال قلبك عندما تعرض عليه فعل طاعة؟ تأمل دومًا حال قلبك، أصلح الله قلبي وقلبك. 7) مطالعة سير الصالحين والعلماء العاملين، فإنَّ لها فضلاً في بعث الهمَّة على تزكية النفس. فلا تغفل عن تزكية النفس، فالنفوس تتفاوت، فلكلٍ منها ما يصلحها، فانظر إلى ما يُصلح قلبك فاعمل به، وسل الله العافية. قال صاحب مختصر منهاج القاصدين: فأمَّا علم المعاملة، وهو علم أحوال القلب كالخوف والرجاء والرضا والصدق والإخلاص

وغير ذلك فهذا العلم ارتفع به كبار العلماء وبتحقيقه اشتهرت أذكارهم كسفيان وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد. وإنَّما انحطت رتبة المسمين بالفقهاء والعلماء عن تلك المقامات لتشاغلهم يصور العلم من غير أخذ على النفس أنْ تبلغ إلى حقائقه وتعمل بخفاياه " أهـ (¬1) ¬

(¬1) مختصر منهاج القاصدين ص (27) ط دار عمَّار بتحقيق على حسن عبد الحميد.

المنطلق الخامس: السلفية

المنطلق الخامس كن سلفياً على الجادة

المنطلق الخامس (السلفية) أيها المتفقه ـ حبيبي في الله ـ: " إذا علمت بأهمية البداية بعلم العقيدة وعلم الفقه، فلا بد بعد الإخلاص من الصواب في الطلب، فكيف تطلب العلم؟! أما في العقيدة فلا بد من الطلب على منهج السلف الصالح ـ رضوان الله ... عليهم ـ، وهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وقد زكَّى الله فهمهم، وأمرنا أن نلقاه سبحانه بإيمان كإيمانهم. قال تعالى: " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنَّما هم في شقاق " [البقرة /137]. فهكذا إما إيمان الصحابة الذين رضى الله عنهم وتاب عليهم، وإما التفرق والاختلاف والتشرذم " فإنَّما هم في شقاق ". فلا بد من دراسة عقيدة السلف الصحيحة، وهي فهم نصوص الكتاب والسنة في أنواع التوحيد بفهمهم، والاستقاء من علومهم، والنهل من منابعهم، وإلا فالضلال الضلال.

قال صلى الله عليه وسلم: " إنَّه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " (¬1) والعودة للفهم الأصيل " فهم السلف الصالح " أصبح اليوم ضرورة ملحة؛ وذلك لجمع شتات الأمة، فتتوحد كلمتهم بتوحد الأصول، فيقل التنازع والتشاحن الذي ابتلي به المسلمون في هذه الأيام، وكل هذا لأنا لم نعِ الوصية النبوية. ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي ". (¬2) صلى الله عليه وسلم، فقد دلنا على الفرقة الناجية، فاحرص على النجاة، ... ـ أخي في الله ـ وانضم إلى هذه الفرقة، واحرص في بداية التعلم أن يكون التلقي على منهج السلف الصالح، فإنَّ لذلك أثرًا في استقامتك على الطريقة، فمن صحَّت بدايته صحَّت نهايته، فأصلح نيتك عسى الله أن يُصلح بك، فشتات الأمة اليوم يفجع كل قلب حي، فإن كان طلب العلم ضرورة، فطلبه على منهج السلف ضرورته أشد، وتأتى تلك الضرورة ¬

(¬1) جزء من حديث أخرجه أبو داود (4607) ك السنة، باب في لزوم السنة، وصححه الألباني (3851) في صحيح أبي داود. (¬2) أخرجه الترمذي (2641) ك الإيمان عن رسول الله، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، وقال: حسن غريب، وحسنه الألباني (5343) في صحيح الجامع.

ما هي العقيدة؟

في الوقت الحاضر بالذات؛ لأنه لا بد للأمة من معالم صحيحة في طريق عودتها إلى الله عز وجل، تبين لها المنهج الصحيح في فهم العقيدة التي هي القاعدة الأساسية لبناء المجتمع الإسلامي الصحيح. وما لم يكن المنهج الذي يُتبع صحيحاً فإنَّ اليقظة الإسلامية ستنحرف عن مجراها السليم، ونحن نعتقد اعتقاداً جازماً أنَّ منهج أهل السنة والجماعة في فهم العقيدة الإسلامية هو المنهج الصحيح الذي يجب تقديمه للأمة الإسلامية اليوم لكي تصبح بحق أمة مسلمة تستحق نصر الله ورضوانه. وفي هذا المنهج صيانة للعقل البشرى من التمزق والانحراف، وللمجتمع من الفرقة والضلال، ولم يحدث الانحراف في الأمة إلا عندما انحرفت عن هذا المنهج وأعرضت عن وحي الله عز وجل إلى مناهج بشرية،. بعضها من مخالفات الفلسفة اليونانية الوثنية، وبعضها من نتاج العقول المنحرفة الجاهلة بدين الله، فتفرقت الأمة إلى طوائف ومذاهب، لكل منها منهجه، وطريقته، وإمامه، وأتباعه. وقد قيض الله عز وجل في كل فترة من فترات الضعف والانحراف علماء مصلحين يحفظون عقيدة الأمة ويحرسونها، ويردون على من خالفها أو عارضها من صدر الإسلام إلى اليوم وإلى أن تقوم الساعة بمشيئة الله تعالى. أولاً: ما هي العقيدة؟ العقيدة لغة: من العقد، والتوثيق والإحكام والربط بقوة.

واصطلاحاً: الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه شك لدى معتقده. قيل: معنى العقيدة: هي مجموعة من قضايا الحق البديهية المسلمة بالعقل والسمع والفطرة، ويعقد عليها الإنسان قلبه، وثنى عليها صدره، جازماً بصحتها قاطعاً بوجوبها وثبوتها، لا يرى خلافها أنه يصح أو يكون أبداً. فالعقيدة الإسلامية تعني: الإيمان الجازم بالله تعالى، وما يجب له من التوحيد والطاعة، وبملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وسائر ما ثبت من أمور الغيب، والأخبار، والقطعيات، علميةً كانت أو عملية. وإذا كنت ـ أيها المتفقه ـ مطالبًا بعقيدة سلفية فهل يا ترى تعرف من السلف؟ من هم السلف؟ السلف: هم صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وأئمة الهدى في القرون الثلاثة المفضلة، ويُطلق على كل من اقتدى بهؤلاء وسار على نهجهم في سائر العصور، سلفي نسبة إليهم. وقد كان يطلق عليهم في البداية " أهل السنة "، لما كانوا هم المتبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المقتفين للأثر فسموا " أهل الأثر"، " أهل الحديث ".

أبرز قضايا العقيدة السلفية

ثمَّ لما انتشرت البدع صار يطلق عليهم " أهل السنة والجماعة ". وأهل السنة والجماعة: هم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسموا أهل السنة لاستمساكهم واتباعهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسموا " الجماعة " لأنهم الذين اجتمعوا على الحق، ولم يتفرقوا في الدين، واجتمعوا على أئمة الحق؛ ولم يخرجوا عليهم.، واتبعوا ما أجمع عليه سلف الأمة. ولما صار من المبتدعة من ينسب نفسه إلى هذا اللقب الشريف كان لزامًا أن يمتازوا عن غيرهم ومن هنا نشأ مصطلح " السلفية " نسبة إلى سلف هذه الأمة من أهل الصدر الأول ومن اتبعهم بإحسان. أبرز قضايا العقيدة السلفية ومن أهم قضايا العقيدة السلفية " مسألة الصفات " فإن أكثر الخلاف فيها، وخلاصة القول فيها: أنَّ أحاديث وآيات الصفات نمرها كما جاءت دون تعطيل، ... أو تأويل، أو تشبيه، أو تمثيل. فنثبت أن لله يداً، ولكن ليست كأيدينا، يداً تليق بجلاله وكماله " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" [الشورى/11]. ونثبت أن الله ينزل، لكن لا كنزولنا، وإنما نزولاً يليق بجلاله وكماله وكماله ... " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" [الشورى/11]. وهكذا.

قواعد وأصول أهل السنة والجماعة في منهج التلقي والاستدلال. ويقوم المنهج السلفي على قواعد وأصول تضبط منهج التلقي والاستدلال، فمن ذلك: أولاً: مصدر العقيدة هو كتاب الله، وسنة رسوله الصحيحة، وإجماع السلف الصالح. ثانيًا: كل ما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قبوله، وإن كان خبر آحاد. ثالثًا: المرجع في فهم الكتاب والسنة، هو النصوص المبينة لها، وفهم السلف الصالح، ومن سار على منهجهم من الأئمة، ثم ما صَحّ من لغة العرب، لكن لا يعارض ما ثبت من ذلك بمجرد احتمالات لغوية. رابعًا: أصول الدين كلها، قد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يُحدث شيئاً زاعماً أنه من الدين بعده. خامسًا: التسليم لله، ولرسوله ظاهراً وباطناً، فلا يُعارض شيء من الكتاب أو السنة الصحيحة بقياس، ولا ذوق، ولا كشف، ولا قول شيخ، ولا إمام ونحو ذلك .. سادسًا: العقل الصريح موافق للنقل الصحيح، ولا يتعارض قطعياً منهما، وعند توهم التعارض يقدم النقل.

سابعًا: يجب الالتزام بالألفاظ الشرعية في العقيدة، وتجنب الألفاظ البدعية، والألفاظ المجملة المحتملة للخطأ والصواب، يستفسر عن معناها، فما كان حقاً أثبت بلفظه الشرعي، وما كان باطلاً رُدّ. ثامنًا: العصمة ثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم، والأمة في مجموعها معصومة من الاجتماع على ضلالة.، وأما آحادها فلا عصمة لأحد منهم،. وما اختلف فيه الأئمة وغيرهم فمرجعه إلى الكتاب والسنة، مع الاعتذار للمخطئ من مجتهدي الأمة. تاسعًا: في الأئمة محدَّثون ملهمون، والرؤيا الصالحة حق، وهي جزء من النبوة، والفراسة الصادقة حق، وهذه كرامات ومبشرات، بشرط موافقتها للشرع، وليست مصدراً للعقيدة ولا للتشريع. عاشرًا: المراء في الدين مذموم، والمجادلة بالحسنى مشروعة، وما صح النهي عن الخوض فيه وجب امتثال ذلك، ويجب الإمساك بالحسنى عن الخوض فيما لا علم للمسلم به، وتفويض علم ذلك إلى عالمه سبحانه. حادي عشر: يجب الالتزام بمنهج الوحي في الرد، كما يجب في الاعتقاد والتقدير فلا تُردّ البدعة ببدعة، ولا يقابل التفريط بالغلو، ولا العكس.

خصائص أهل السنة والجماعة وسماتهم

ثاني عشر: كل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. خصائص أهل السنة والجماعة وسماتهم فإذا عرفت أصولهم وقواعدهم في النظر والاستدلال، وسمعت الأدعياء ينعتون أنفسهم بأنهم منهم، فاحرص على معرفة خصائصهم وصفاتهم، فإذا وجدتها فقد أبصرت طريق الهدى، وإلا فدعِي لا تلتفت إليه. أولا: الاهتمام بكتاب الله عز وجل حفظاً وتفسيراً وتلاوة، والاهتمام بالحديث معرفة وفهماً وتمييزاً لصحيحه من سقيمه لأنهما مصدر التلقي. ثانيًا: العمل بالعلم، فالعلم ليس غاية، وإنما هو وسيلة للعمل به، قال تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " [فاطر/28] قال ابن مسعود: إنما العلم الخشية، فمن أوتى شيئًا من العلم ولم يؤت مثله من الخشوع فهو مخدوع. ثالثًا: الدخول في الدين كله، والإيمان بالكتاب كله، فيؤمنون بنصوص الوعد ونصوص الوعيد، وبنصوص الإثبات ونصوص التنزيه، ويجمعون بين الإيمان بقدر الله، وإثبات

إرادة العبد ومشيئته وفعله، كما يجمعون بين العلم والعبادة، وبين القوة والرحمة، وبين الأخذ بالأسباب والزهد .. رابعًا: الاتباع، وترك الابتداع، ونبذ الفرقة والاختلاف في الدين. خامسًا: الاقتداء والاهتداء بأئمة الهدى العدول المقتدى بهم في العلم والعمل والدعوة، وهم الصحابة ومن سار على نهجهم، ومجانبة من خالف سبيلهم. سادسًا: الحرص على جمع كلمة المسلمين على الحق، وتوحيد صفوفهم على التوحيد والاتباع، وإبعاد كل أسباب النزاع والخلاف بينهم. ومن هنا لا يتميزون على الأمة في أصول الدين والاعتقاد باسم سوى "السنة والجماعة " ولا يوالون ولا يعادون على رابطة سوى الإسلام والسنة. سابعًا: التوسط. فهم في الاعتقاد وسط بين فرق الغلو وفرق التفريط، وهم في الأعمال والسلوك وسط بين المفْرطين والمفَرِّطين. ثامنًا: الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير منكر، والجهاد بمفهومه الواسع الشامل وضوابطه الشرعية،

وإحياء السنة بنشر العلم، وإيجاد القدوة والدعوة إلى ذلك، والعمل لتجديد الدين، وإقامة شرع الله وحكمه في كل صغيرة وكبيرة .. تاسعًا: الإنصاف والعدل: فهم يراعون حق الله تعالى لا حق النفس أو الطائفة؛ ولهذا لا يغالون في مُوالٍ، ولا يجورون على معادٍ، ولا يغمطون ذا فضل فضله أيًّا كان. عاشرًا: التوافق في الأفهام والتشابه في المواقف رغم تباعد الأقطار والأعصار، وهذا من ثمرات وحدة المصدر والتلقي. حادي عشر: الإحسان والرحمة وحسن الخُلق مع الخَلق كافة. ثاني عشر: النصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم. ثالث عشر: الاهتمام بأمور المسلمين ونصرتهم، وموالاتهم وأداء حقوقهم، وكف الأذى عنهم مع دوام الدعاء لهم.

المنطلق السادس: فهم السلف

المنطلق السادس الفقه = الفهم وفهم السلف أعلم وأسلم وأحكم.

المنطلق السادس فهم السلف قال الله عز وجل: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " [الحجر/9] وقال صلى الله عليه وسلم: " نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ " (¬1) بالآية والحديث نفهم، وباستقراء الأحوال والنظر في التاريخ نعلم تصديق كلام ربنا عز وجل وحديث نبينا صلى الله عليه وسلم، فنشهد أن الله قيض لحفظ كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فحولاً جهابذة من أئمة المسلمين، وورثة سيد المرسلين عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم، جعلهم الله وسائط ووسائل بين الناس وبين رسوله صلى الله عليه وسلم، يبلغون الناس ما قال، ويفهمون مراد رسول الله، ويقولون: هذا عهد رسول الله إلينا، ونحن عهدناه إليكم. هكذا يتلقاه كل خالف عن سالف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين " (¬2) ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (2656) ك العلم عن رسول الله، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، وقال: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2139). (¬2) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (7/ 38)، قال في كنز العمال: قال الخطيب سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث وقيل له كأنه كلام موضوع قال لا هو صحيح سمعته من غير واحد.

وفي الصحيح من حديث أبى موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضًا فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به، فعَلِم وعَّلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " (¬1) يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم النَّاس بالنسبة إلى الهدى والعلم ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وهم الذين قاموا بالدين علمًا وعملاً، ودعوة إلى الله عز وجل ورسوله. فهؤلاء أتباع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه حقًا، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت، فقبلت الماء، فانبتت الكلأ والعشب الكثير، فزكت في نفسها، وزكا النَّاس بها، وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين، والقوة على الدعوة؛ ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم: " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار" [ص /45] أي البصائر في دين الله ¬

(¬1) أخرجه البخاري (79) ك العلم، باب فضل من علم وعلَّم، ومسلم (2282) ك الفضائل، باب بيان مثل ما بعث به النبي من الهدى والعلم.

عز وجل، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوى يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه. فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم في الدين، والبصر بالتأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهمًا خاصًا. كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا ـ والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ـ إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه. فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الكثير الذي أنبتته الأرض، وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية، فإنَّها حفظت النصوص، وكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس، وتلقوها منهم، فاستنبطوا منها، واستخرجوا كنوزها، واتجروا فيها، وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات، ووردها كل بحسبه " قد علم كل أناس مشربهم " [البقرة /60] وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبي: " نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ ... بِفَقِيهٍ " (¬1) ¬

(¬1) تقدم تخريجه قريبًا.

وهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القران، مقدار ما سمع من النبي لم يبلغ نحو العشرين حديثًا، الذي يقول فيه " سمعت " و" رأيت "، وسمع الكثير من الصحابة، وبورك في فهمه، والاستنباط منه حتى ملأ الدنيا علمًا وفقهًا. قال أبو محمد بن حزم: وجمعت فتاويه في سبعه أسفار كبار، وهي بحسب ما بلغ جامعها، وإلا فعلم ابن عباس كالبحر، وفقهه واستنباطه وفهمه في القران بالموضع الذي فاق به الناس، وقد سمع كما سمعوا، وحفظ القران كما حفظوه، ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي، وأقبلها للزرع، فبذر فيها النصوص، فانبتت من كل زوج كريم، " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " [الحديد /21] وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره، وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق، يؤدي الحديث كما سمعه، ويدرسه بالليل درسًا، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ، وبلغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط، وتفجير النصوص وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها. وهكذا الناس بعده قسمان: قسم الحفاظ معتنون بالضبط والحفظ، والأداء كما سمعوا، ولا يستنبطون، ولا يستخرجون كنوز ما حفظوه.

وقسم معتنون بالاستنباط، واستخراج الأحكام من النصوص، والتفقه فيها. فالأول: كأبي زرعة، وأبى حاتم، وابن وارة، وقبلهم كبندار محمد بن بشار، وعمرو الناقد، وعبد الرزاق، وقبلهم كمحمد بن جعفر غندر، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم من أهل الحفظ والإتقان، والضبط لما سمعوه، من غير استنباط وتصرف واستخراج الأحكام من ألفاظ النصوص. والقسم الثاني: كمالك، والشافعي، والأوزاعي، وإسحق، والإمام أحمد بن حنبل، والبخاري، وأبي داود، ومحمد بن نصر المروزي، وأمثالهم ممن جمع الاستنباط والفقه إلى الرواية. فهاتان الطائفتان هما أسعد الخلق بما بعث الله تعالى به رسوله، وهم الذين قبلوه، ورفعوا به رأسًا. وأما الطائفة الثالثة: وهم أشقى الخلق، الذين لم يقبلوا هدي الله، ولم يرفعوا به رأسًا، فلا حفظ، ولا فهم، ولا رواية، ولا دراية، ولا رعاية. فالطبقة الأولى: أهل رواية ودراية. والطبقة الثانية: أهل رواية ورعاية، ولهم نصيب من الدراية، بل حفظهم من الرواية أوفر.

والطبقة الثالثة: الأشقياء، لا رواية، ولا دراية، ولا رعاية، " إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا " [الفرقان /44] فهم الذين يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، إنْ همة أحدهم إلا بطنه وفرجه، فإن ترقت همته كان همه ـ مع ذلك ـ لباسه وزينته، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همه في الرياسة والانتصار للنفس الغضبية، فإن ارتفعت همته عن نصرة النفس الغضبية كان همه في نصرة النفس الكلبية، فإن لم يعطها انتقل إلى نصرة النفس السبعية، فلا يعطيها إلا واحد من هؤلاء فإنَّ النفوس: كلبية، وسبعية، وملكية. فالكلبية تقنع بالعظم والكسرة والجيفة والقذرة. والسبعية لا تقنع بذلك، بل بقهر النفوس، تريد الاستعلاء عليها بالحق والباطل. وأما الملكية فقد ارتفعت عن ذلك، وشمرت إلى الرفيق الأعلى، فهمتها العلم والإيمان ومحبة الله تعالى، والإنابة إليه، وإيثار محبته ومرضاته، وانما تأخذ من الدنيا ما تأخذ؛ لتستعين به على الوصول إلى فاطرها وربها ووليها لا لتنقطع به عنه " (¬1) أهـ بعد هذا الكلام المتين لابن القيم ـ رحمه الله تعالى وملأ قبره نوراً ـ، علمنا أنَّ النَّاس في العلم صنفان بتصنيف رسول الله صلى الله عليه وسلم: حفاظ نقلة. ... فقهاء مجتهدون. ¬

(¬1) الوابل الصيب (55، 56).

وقد يجمع الوصفين رجال ـ رضي الله عن الجميع. ـ فهؤلاء حملوا الدين، حملوا العلم من الصحابة فمن بعدهم، حملوه كاملاً مكملاً، وبلغوه كما حملوه، لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة فعلها أو قالها أو أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ونقلوها كما قال، وفهم بعضهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله فاستنبطوا الأحكام من النصوص، فهموا معاني الكتاب والسنة تارة من نفس القول، وتارة من معناه، وتارة من علة الحكم، حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك. وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف عليه فهم الشريعة بعدهم، واحتيج في إيضاحها إليه، ومن تمام العصمة أن جعل الله العلماء أعداداً غفيرة، فإذا أخطأ الواحد في شيء رده الآخر، وأصاب الثالث.، ثم قيض الله من بعدهم تلاميذهم، فتعقبوا أقوالهم، وبينوا ما كان من خطأ، وأثبتوا ما كان من صواب، كل ذلك من حفظ الله لذلك الدين، حتى يكون أهله كما وصفهم الله: " يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" [التوبة/71] ومن تمام العصمة أن تجد مع هذه الكثرة، منهم الحافظ الضابط العدل، ومنهم الحكيم الفقيه المتقن، ومنهم أهل اللغة، ومنهم أهل القراءات، ومنهم أهل الأصول، ومنهم العلماء بالرجال الخبراء بمراتبهم، والكل يكمل بعضهم بعضاً، ويحيلون أصحاب كل سؤال عن علم إلى عالمه، واقرأ معي هذا الأثر البديع وتأمل ـ لا حرمك الله فقهه ـ آمين.

روى الدارمي في سننه قال: أخبرنا الحكم بن المبارك أخبرنا عمرو بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا. فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا. فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفا أمرًا أنكرته، ولم أر ـ والحمد لله ـ إلا خيرًا. قال: فما هو؟ فقال: إنْ عشت فستراه. قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة. فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة. فيهللون مائة، ويقول سبحوا مائة. فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك وانتظار أمرك. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم. ثم مضى، ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم. فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح.

كيف نطلب علم الفقه؟

قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم!! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أنَّ قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم. فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج " (¬1). إنَّ هذا الحديث يمثل درساً تربوياً واقعياً، وهو ـ أيضاً ـ مقصود لنصل إلى بيت القصيد. كيف نطلب علم الفقه؟ يقول الشيخ عبد العزيز القارئ ـ حفظه الله ـ في كتابه " برنامج عملي للمتفقهين ": وقد وجدنا لمن يطلب الفقه بالجلوس في حلقات أهل العلم أنَّ أحكم طريقة وأسرع وأحسن وسيلة توصله إلى غايته أن يتخذ واحداً من المذاهب الأربعة وسيلة للتفقه في الشريعة أي أن يتمذهب. ولماذا أخص هذه المذاهب الفقهية الأربعة بالذكر؟ ¬

(¬1) أخرجه الدارمي (204) في المقدمة، باب في كراهية الأخذ بالرأي.

لأن باقي المذهب الفقهية إما قد اندرس أكثرها، مثل: الأوزاعية، السفيانية، وإما هو غير معتبر كالظاهرية، فلذلك أحسن وسيلة للتفقه في الشريعة أن تتمذهب بواحد من المذاهب الأربعة، تختار أحدهم فكلها طرق للتفقه في الشريعة. وهذه المذاهب الأربعة نقلتها الأمة بعناية فائقة، وتضافرت على ذلك، حتى وصلتنا مخدومة متبوعة، لها أتباع كثيرون، وتسابق العلماء على خدمتها بالشرح والتأليف، والتأصيل والتفريغ، والاستدلال والاستنباط، وتخريج الأدلة والنصوص، والترجمة لفقهاء المذاهب، وبيان أحوالهم، فشكلت هذه المذاهب مدارس فقهية زاخرة، غنية بالثروة الفقهية اليافعة المرموقة.، ولذلك ـ يا متفقه ـ إذا اخترت مذهباً منها فاتخذته وسيلة للتفقه في أحكام الشريعة، فإنك ترتع في دوحات تلك المدرسة، وتروى غليلك وظمأك من أنهارها وثمارها، فكل مذهب منها مدرسة فقهية قائمة، تضافر العلماء على خدمتها، فتجد في ظلال هذه المدارس الأربعة الفقهية من وسائل الفقه ما لا تجده في غيرها من المذاهب. لماذا أقول هذا؟ رداً على بعض العلماء المتأخرين، وهو ـ الشوكاني رحمه الله ـ فإنه دعا المتفقهين إلى التفقه بعيداً عن هذه المذاهب الأربعة، ولما درست كلام الشوكاني من خلال ما كتب في كتابيه " أدب الطلب " ... و" القول المفيد في الاجتهاد والتقليد "، وجدت أنَّ دعوته هذه كانت رد فعل وقتي

للجمود الذي سيطر، والتعصب الذي استفحل في عصره ... ـ رحمه الله ـ وهو من أهل القرن الثالث عشر، خاصة في بلده اليمن، فأراد الشوكاني أن يكسر من حدة هذين الداءين بهذه الدعوة، ولكنه لا يعنى هذا أن هذا المنهج الذي يدعو إليه قابل للتطبيق، أو أنه عند التطبيق نتائجه محمودة، إنه ليس حلاً معقولاً، ولا حلاً عملياً أن يتفقه المتفقهون بعيداً عن هذه المدارس الفقهية الكبرى الزاخرة الغنية، ولذلك فإن الذين حاولوا من المتفقهين أن ينفذوا رأى الشوكاني ـ رحمه الله ـ فروا من كتب المذاهب الأربعة إلى كتب الشوكاني نفسه، فاقتربوا من التمذهب، ولكن بمذهب الشوكاني. وأما الذين حاولوا أن يتفقهوا في الشريعة بواسطة كتب المحدثين ـ رحمهم الله ـ فالغالب أنهم يتشتتون، ويضيعون. فعليك ـ يا متفقه ـ أن تتخذ التمذهب وسيلة إلى التفقه في أحكام الشريعة، وسيلة وليس غاية، أما إذا وقعت في داء التعصب والجمود، انقلب التمذهب حينئذ غاية، وحينئذ لا تصل إلى الغاية التي هي معرفة حكم الله، تحجبها سحب الجمود، ويحجبها غبار التعصب؛ لذلك ليس معنى اقتراحنا عليك ـ أيها المتفقه ـ أن تتخذ التمذهب بأحد المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة وسيلة للتفقه، أننا نبيح لك التعصب " ثم قال: " فالمبتدئ في أول طريق التفقه لا يستغني أبداً عن تلقى الفقه بواسطة هذه المتون الفقهية، حتى إذا درب بالفقه واعتاده، وبدأت

ملكته تنشأ عنده، وبدأت لغته تطبعها بطابعها، وتكتسب الدربة أيضاً على فهم ما في النصوص من أحكام ظاهرة أو خفية، وأدرك أنواع الدلالات وطرق الاستنباط، حينئذٍ يرتقى درجات السلم شيئاً فشيئاً، حتى يقدر على الترجيح، ثم الاجتهاد في حدود المذهب، فالمجتهدون درجات: مجتهد مسألة، ومجتهد مذهب، ومجتهد مقارن بين المذاهب، ومجتهد إمام مطلق. فأمور الفقه وشئونه مضبوطة مرتبة، وسلم التلقي فيه منتظم، فلا يُعقل ـ مع هذا ـ أن نقول للمتفقه المبتدئ لا تعبأ بكل ذلك، وأزح عن طريقك ذلك السلم، واختصر المسافة بالقفز إلى الاجتهاد.، كن حراً في تفكيرك، مستقلاً في فقهك؛ فإذا كنا نريد بهذه النصيحة معالجة داء الجمود والتعصب، فقد داوينا الداء بداء آخر هو الفوضى" انتهى كلامه ـ رحمه الله تعالى ونفع به ـ أيا طالب العلم: أولاً: أقول وقل معي: اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنَّك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، اللهم إنَّا نعوذ بك أن نضلَّ أو نُضل، اللهم آمين.

أظن ـ والله أعلم ـ أن هذه القضية خصوصاً في هذا العصر قد تثير زوبعة، ولكن نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن لا يخاف في الله لومة لائم. أقول ـ وبالله التوفيق ومنه الإعانة ـ: أننا إذا أردنا أن نستخرج جيلاً من العلماء، ونعيد ابتعاث أحد من الفقهاء، فلا سبيل إلى ذلك إلا بسلوك طريق السلف، واقتفاء آثارهم في الطلب، فها نحن ننظر في علماء سلفنا ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ فلا نرى إلا أتباع المذاهب، فنقرأ مثلاً في العقيدة الطحاوية للإمام الطحاوي ... الحنفي، وللبيهقي الشافعي، ولابن عبد البر المالكي، ولابن قدامة الحنبلي. هل تعرف النسفي والزيلعى والعيني الأحناف؟ وابن العربي وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم والقرطبي وابن رشد المالكيين؟ والنووي والذهبي والسبكي وابن كثير الشافعية؟ وابن الجوزى وابن رجب وابن تيمية وابن القيم الحنابلة؟ هؤلاء علماؤنا وأئمتنا الذين رضينا علمهم، وتتلمذنا على كتبهم، فلِم لا نرضى طريقتهم وسيرتهم في الطلب؟!! كان أحدهم يبدأ في أحد هذه المذاهب بدراسة متن مختصر أولاً، ثم يتدرج في المذهب كتاباً كتاباً، وشيخاً شيخاً حتى يصل إلى درجة الاجتهاد على التفصيل الذي ذكره الشيخ القارئ ـ حفظه الله. ـ إنك لا تجد ما يحدث اليوم في طريقة التلقي عن السلف، إنك تجد اليوم الشاب يبدأ بالفقه المقارن فيتشتت وينقطع ولا يتعلم.

سنجد اليوم من يقول: إنَّك تقضى بذلك على جهاد السلفيين في القضاء على التمذهب، تريد أن نعود إلى الوراء، وإلى التعصب وإلى الظلام و ... و ... الخ. وهذه ـ لعمر الله ـ اتهامات جائرة وادعاءات باطلة، إنَّ كلامنا واضح ومحدد وصريح، نريد أن نعود بالتعلم إلى طريقة السلف، فهي التي أنتجت الأئمة، وأفرزت القادة، وأفرزت الدعاة، وجعلتهم قادة وسادة، حكماء وفقهاء، علماء وأمراء، عاملون زهاد، فلا نقول: التمذهب الممقوت المصحوب بالتعصب والجمود، لا. .. لا، إننا نقول: تعلم في البداية عن طريق المذهب الذي ترتضى أصوله وشيوخه بشروط ثلاثة: 1) أن هذا التمذهب والترقي في طلبه ليس فرضاً ولا شرطاً. 2) عدم التعصب للمذهب. 3) إذا ظهر الدليل الصحيح الصريح خلاف المذهب وجب الأخذ به. فأنا أطالب صراحة بالتمذهب للتعلم، أمَّا عند العمل فعلى الدليل، وليست هذه طريقة جديدة، بل هي دعوة الأئمة أنفسهم " إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي" كلمة تواترت على ألسنتهم جميعاً باتفاق، وعمل الأئمة عليها من بعدهم، ولكن للأسف صارت المذاهب سوءة، وصار الانتساب إليها عورة، وصارت الدعوة المقبولة اليوم عند أكثر الشباب التحرر من كل شيء، والتخلص من كل قيد، فنشأ الشاب الزئبقي

المطاط، الذي لا تجد له منهجاً يضبطه، ولا شيخاً يربطه، ولا مذهباً يحكمه، ولا شيء بل هو حر في عصر الحرية، يفعل ما يشاء، ويأتي ما يريد، فكان الضياع الذي تراه اليوم. ماذا أخرجت لنا الصحوة على مدار السنين الطويلة الماضية؟ كم فقيهاً ترى؟ كم مجتهداً تجد؟ كم عالماً جهبذاً تشهد؟ أبداً، إنما وجدنا فقط ادعاءات ومزايدات، دعاوى العلم والاجتهاد أكثر من الوجود الحقيقي للعلم النافع.، شاهدنا ـ وللأسف الشديد ـ 1) الجرأة على العلماء بالتخطئة والرد والقذف. 2) التسرع في الفتوى بغير علم .. 3) الظاهرية المتفشية حتى صارت هي المذهب المحبوب. 4) الانقطاع وعدم التمام أبداً. 5) شباب صغير مبتدئ لا يُحسن التهجي في الفقه يحكم بين أقوال أهل العلم الفحول ويصوِّب ويخطئ ويرجح. فلا تجد ـ ولا تكاد تجد أبداً ـ أحداً منهم أتم كتاباً من كتب الفقه أو العقيدة، وإنما هو باب الطهارة، وإن زاد فالصلاة، والصيام كل رمضان، والزكاة نادراً، والأقل من انتهى من المجلد الأول من فقه السنة، أما أكثر من ذلك فلا. 5) أصبح المشهور فقط فقه المسائل المشهورة ..

6) وأيضاً ـ ويا للأسف ـ التعصب الممقوت للمشايخ، وللآراء الموافقة للأهواء، والموالاة والمعادة عليها. إن الذين نبذوا المذاهب فراراً من التعصب، وقعوا في التعصب ضد المذاهب، ولذلك لا تكاد تذكر المذاهب إلا بالعيب والنقص .. وما سبق أن ذكرناه من الاحترازات عند التمذهب للتعلم ليس غريب على سلفنا. خذ مثالاً واحداً فقط: في مسألة الوضوء من لحوم الإبل أنقل قول أحد علماء المالكية وأحد علماء الشافعية ومذهبيهما بخلاف الحديث: قال الإمام النووي: وهذا المذهب أقوى دليلاً، (يعني وجوب الوضوء من لحوم الإبل) وإن كان الجمهور على خلافه.، وقد أجاب الجمهور عن هذا الحديث بحديث جابر: " كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء ممَّا مست النار" (¬1) ولكن هذا الحديث عام، وحديث الوضوء من لحوم الإبل خاص، والخاص مقدم على العام. (¬2) ¬

(¬1) أخرجه النسائي (185) ك الطهارة، باب ترك الوضوء مما غيرت النار، وأبو داود (192) ك الطهارة، باب في ترك الوضوء مما مست النار، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (177). (¬2) شرح صحيح مسلم (4/ 49) ط دار إحياء التراث العربي.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وحديث لحم الإبل صحيح مشهور، وليس يقوى عندي ترك الوضوء منه، وحاول بعضهم أن يتلمس حكمة لوجوب الوضوء من لحوم الإبل، ولسنا نذهب هذا المذهب، ولكن نقول كما قال الشافعي في الأم " إنما الوضوء والغسل تعبد". (¬1) هكذا كان العلماء يدورون مع الدليل حيث دار، وليس بحسن أن تُزَهَّد الأمة في المذاهب، وتشوه صورتها عند الخاصة والعامة، ويتعمد نشر أخطاء المذاهب، ونقل صورة المتأخرين من متعصبي المذاهب، فلا تكاد تسمع إلا أنه كان يصلى في المسجد الواحد أربع جماعات، كل مذهب يصلى أصحابه وحدهم مرة، أو مسائل الزواج بين الشافعية والحنفية، أو افتراضات المسائل التي لم تقع والجواب عنها. كل هذه الأخطاء ـ وإن وقعت ـ لا تعني أن نهدم تراث هذه الأمة بجرة ... قلم، وإنما الإنصاف واجب وإن كان عزيزًا، فالتعصب نمقته ونجاهده ولا نقر به، ومعاذ الله أن نقول عن الخطأ صواباً، ولا عن الصواب خطأ.، فالتعصب حرام، ولكن سواء كان للمذهب أو للأشخاص. وأما في افتراض المسائل التي لم تقع فهذه رياضات عقلية نافعة لمن تفرغ من العلماء، ولا عليك أن تشغل نفسك بهاـ إن شئت ـ وإن شئت فتعلمها فهي مما يفخر به الفقهاء، ولكن بعد الانتهاء من فروض ¬

(¬1) شرح الترمذي (1/ 112)

الأعيان والاكتفاء من فروض الكفايات، وهذه المسائل نافعة في عصور ركود الفقه، وغياب الفقهاء من عصرنا. فمثلاً: افترض فقهاء الحنفية مسائل كـ: من صلى وعلى ظهره قربة فساء، هل تصح صلاته.؟ قد يضحك بعضنا ويقول: ولا يتصور أن تملأ قربة فساء. . قلنا: وجدنا الصورة في عصرنا طبيب يحمل في جيبه عينة بول أو براز، ثمَّ ينسى ويصلى، وزجاجة العينة في جيبه هل تصح صلاته.؟ ورد الافتراض. وكذلك مسألة الصلاة على الأرجوحة. من المسائل المفترضة قديماً، وهي أيضاً مضحكة للصغار فهل يتخيل مجنون يصلى على الأرجوحة.؟ وكان الافتراض منشؤه عدم السجود على الأرض، وكان جواب المسألة جواب من يسأل عن الصلاة في الطائرة في عصرنا. أرأيت سعة أفق الفقهاء كيف نفع المتأخرين من أمثالنا!!، فهذا شيء لا يعاب، ولا يستحيا منه، إلا إذا تشوغل به عن مهمات هي أولى، وأقيمت عليه معارك. ولذلك نقول: إنه لا داعي لتجريح أصحاب المذاهب، فإن شئت فتعلم عن طريق أحد المذاهب، وهو الأولى والأحرى والأصح، والطريق الموصل للعلم النافع الصحيح، والسبيل لتخريج الفقهاء والعلماء، وإلا فالسبيل واسعة ولا عليك ولكن احفظ لسانك، وكن كيفما شئت، وانتفع معي بهذه الضوابط الآتية ولا تتعجل في الحكم ولا في الرد:

قواعد وتنبيهات على أصول الأحكام

قواعد وتنبيهات على أصول الأحكام قد ذكر العلامة عبد الرحمن بن قاسم النجدي صاحب حاشية الروض المربع في بداية حاشيته أصول وقواعد وتنبيهات على أصول الأحكام ننقلها هنا لأهميتها. قال ـ رحمه الله تعالى ـ: قال شيخ الإسلام وغيره: 1) وقول بعض الأئمة كالأربعة وغيرهم ليس حجة لازمة، ولا إجماعاً باتفاق المسلمين، إذا خرج من خلافهم متوخياً مواطن الاتفاق مهما أمكنه كان آخذاً بالحزم.، وعاملاً بالأولى.، وكذلك إذا قصد في مواطن، وتوخي ما عليه الأكثر منهم، والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد، فإنه قد أخذ بالحزم والأحوط والأولى، ما لم يخالف كتاباً ولا سنة. 2) وكل مسألة دائرة بين نفي وإثبات لا بد فيها من حق ثابت في نفس الأمر أو تفصيل، وإن كان لا يمكن أن يعمل فيها بقول يجمع عليه، لكن ـ ولله الحمد ـ القول الصحيح عليه دلائل شرعية، تبين الحق. 3) وأجمع المسلمون على أن الله أعطى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم.، فتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية، وقاعدة عامة، تتناول أنواعاً كثيرة.، وتلك الأنواع تتناول أعياناً لا تحصى، وبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد، ولا ينكر ذلك إلا من لم يفهم معاني النصوص

العامة وشمولها.، وقال تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم " [المائدة /3]، وقال صلى الله عليه وسلم: "وتركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك (¬1) ". 4) ولما كان كثير من المسائل لا يعرفها كثير من الناس، أمروا بسؤال أهل العلم بالأحكام، قال تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " [النحل /43]، وقال صلى الله عليه وسلم "ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال" (¬2)، فالواجب على المكلف إذ لم تكن فيه أهلية لمعرفة الدليل من الكتاب والسنة سؤال أهل العلم.، وليس المراد التقليد المذموم.، وهو أن يقلد الرجل شخصاً بعينه في التحريم والتحليل بغير دليل، بل المراد الاقتداء الذي لا يعرف الحق إلا به، وهو الاقتداء بمن يحتج لقوله بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وليس في الحقيقة بمقلد، بل متبع لتلك الأدلة الشرعية، مجتهد فيما اختاره. داخل تحت قوله " واجعلنا للمتقين إماما " [الفرقان /74] ... أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا .. 5) وكل قول صحيح فهو يخرج على قواعد الأئمة الأربعة بلا ريب، فقد اتفقوا على أصول الأحكام،. فإذا تبين رجحان قول وصحة ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه (43) في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (41). (¬2) أخرجه أبو داود (336) ك الطهارة، باب في المجروح يتيمم، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (325)

مأخذه خرجه على قواعد إمامه. فهو مذهبه، وقد صرحوا بأن النصوص الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها ولا ناسخ. وكذا مسائل الإجماع لا مذاهب فيها.، وإنما المذاهب فيما فهموا من النصوص،. أو علمه أحد دون أحد، أو في مسائل الاجتهاد ونحو ذلك.، واتفقوا على أنه لا يجوز أن يقال: قول هذا صواب دون قول هذا إلا بحجة. 6) أقوال أهل العلم يحتج لها بالأدلة الشرعية. لا يحتج بها على الأدلة الشرعية، وتذكر وتورد في المعارضات والالتباس.، والعلم بها من أسباب الفهم عن الله ورسوله. فإنهم قصدوا تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، والوقوف مع سنته، ولم يلتفتوا إلى خلاف أحد، بل أنكروا على من خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كائناً من كان، ولا يجوز تعليل الأحكام بالخلاف، فإن تعليلها بذلك علة باطلة في نفس الأمر،.فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر، وإنما ذلك وصف حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يسلكه إلا من لم يكن عالماً بالأدلة الشرعية في نفس الأمر؛ لطلب الاحتياط. 7) فضل الأئمة الأربعة وكذا غيرهم من أئمة الدين، ووجوب توقيرهم واحترامهم، والتحذير من بغضهم وازدرائهم قد تظاهرت به الآيات وصحيح الأخبار والآثار، وتواترت به الدلائل العقلية والنقلية وتوافقت.

وهم أهل الفضل علينا، ونقلوا الدين إلينا، وعول جمهور المسلمين على العمل بمذاهبهم، من صدر الإسلام إلى يومنا هذا،.بل لا يعرف العلم إلا من كتبهم، ولم يحفظ الدين إلا من طريقهم.، فيجب احترامهم وتوقيرهم، والاعتراف بقدرهم، وتحسين الظن بهم،. فهم من خيار الأمة، وخلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفة أقوالهم سبب للإصابة ومعرفة الحق، لا سيما أهل الحديث فإنهم أعظم الناس بحثاً عن أقواله صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقريراته، وطلباً لعلمها، وأرغب الناس في اتباعها، وأبعد الناس عن اتباع ما يخالفها. ومقدمهم الإمام أحمد بن حنبل الذي قال فيه شيخ الإسلام وغيره: أحمد أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين، ولا يكاد يوجد له قول يخالف نصاً، كما يوجد لغيره، لكن لا ندعي فيه ولا في أحد منهم العصمة، ولا نتخذهم أرباباً من دون الله، وما وجد في بعض كتبهم من خطأ فمردود على قائله، مع إحسان الظن به. والفقهاء المنتسبون إليهم لم يختاروا مذاهبهم عند عدم الدليل إلا عن اجتهاد لا عن مجرد تقليد، كما ظنه من لم يحقق النظر في مصنفاتهم، ومع ذلك فليسوا بمعصومين. " (¬1). ثمَّ أشار إلى مسألتنا هذه ـ أعني التمذهب ـ وبين القول الفصل فيها، وأنَّ التمذهب غير واجب، كما أنَّ اتباع الهوى غير مشروع، وإنما ندور مع الدليل حيث دار، وليس معنى هذا أنْ تهجر المذاهب كما ¬

(¬1) حاشية الروض المربع ص 11.

يظن بعضنا، إذ فرق بين كونه غير واجب وبين القول بحرمته، وإنما نقول: إنَّ التمذهب للناشئ في الطلب أمر جيد يضبط له العلم، ثمَّ عندما ترسخ قدمه، ويعرف الحق بأدلته، فإنما يلزمه الدليل، لاسيما والأمر قد يشتبه على الكثيرين، مع الاختلاف الأصولي حول بعض الأدلة، ناهيك عن الاختلاف في الدلالات وتعيين بعضها دون الآخر. يقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم النجدي: " ولا يجب التزام مذهب معين إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن التزام مذهباً معيناً ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه، ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له فعله،. فإنما يكون متبعاً لهواه، فإنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجباً أو محرماً، ثم يعتقد الواجب حراماً والمحرم واجباً بمجرد هواه، كمسألة الجد، وشرب النبيذ، وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول بالدليل، أو رجحان مفت فيجوز بل يجب، والعاجز إذا اتبع من هو من أهل العلم والدين، ولم يتبين له أن قول غيره أرجح، فهو محمود مثاب، والله الموفق للصواب." إخوتاه .. لقد كان من الإيجابيات التي تذكر للعمل الإسلامي المعاصر أنه كسر حاجز التقليد، وحمل على عاتقه تجديد العمل بالأدلة الشرعية، وأزال الغبار عن كتب السنة بعد أن أوشكت أن

تكون نسياً منسياً، وقد يكون من بين الآثار الجانبية لهذا العمل بعض الغلو الذي تتسم به غالباً ردود الأفعال، فإذا كان بعض الناس يوجبون التقليد، حتى على المتخصصين من أهل العلم، جاء من أبناء العمل الإسلامي من يحرمه حتى على العامة. وإذا كان الناس لا يعرفون أدلة على الفقه إلا مقالات الأئمة، فقد جاء من أهل العمل الإسلامي من يرد مقالات الأئمة كافة ويقول: " هم رجال ونحن رجال ".، ويشترط لصحة الفتوى أن تكون مصحوبة بالدليل، وإلا فهي رد، مهما كانت مرتبة السائل ومرتبة المسئول. والذي عليه سلف الأمة ـ وهو قول الجمهور ـ أنَّ التقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد، قال تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر " [النحل /43 - 44] فهذه الآية نص وجوب رجوع الجاهل إلى أهل الذكر، وسؤالهم عما لا يعلمه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والذي عليه جماهير الأمة أنَّ الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد، ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد، وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد ". (¬1) قال ابن قدامة: " وأما التقليد في الفروع فهو جائز إجماعًا، فكانت الحجة فيه الإجماع؛ ولأن المجتهد في الفروع إما مصيب وإما مخطئ ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (20/ 202).

مثاب غير مأثوم، .. فلهذا جاز التقليد فيها بل وجب على العامي ذلك " (¬1) وقال أيضًا: " وذهب بعض القدرية إلى أنَّ العامة يلزمهم النظر في الدليل في الفروع أيضًا، وهو باطل بإجماع الصحابة، فإنهم كانوا يفتون العامة ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد، وذلك معلوم بالضرورة والتواتر من علمائهم وعوامهم. ولأن الإجماع منعقد على تكليف العامي الأحكام، وتكليفه رتبة الاجتهاد يؤدي إلى انقطاع الحرث والنسل، وتعطيل الحرف والصنائع، فيؤدي إلى خراب الدنيا. ثم ماذا يصنع العامي إذا نزلت به حادثة، إن لم يثبت لها حكم إلى أن يبلغ رتبة الاجتهاد فإلى متى يصير مجتهدًا، ولعله لا يبلغ ذلك أبدا، فتضيع الأحكام، فلم يبق إلا سؤال العلماء، وقد أمر الله تعالى بسؤال العلماء في قوله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " [النحل /43] (¬2) ويقول الرازي في المحصول: " يجوز للعامي أن يقلد المجتهد في فروع الشرع خلافًا لمعتزلة بغداد " ثم استدل على ذلك بقوله: " لنا وجهان: الأول: إجماع الأمة قبل حدوث المخالف؛ لأن العلماء في كل عصر لا ينكرون على العامة الاقتصار على مجرد أقاويلهم، ولا يلزمونهم أن يسألوهم عن وجه اجتهادهم " (¬3) ¬

(¬1) روضة الناظر ص382 ط جامعة الإمام محمد بن سعود. (¬2) روضة الناظر ص (383). (¬3) المحصول (6/ 101) ط جامعة الإمام محمد بن سعود.

حكم التقليد

يقول محمد الأمين الشنقيطي: " ولم يخالف في جواز التقليد للعامي إلا بعض القدرية، والأصل في التقليد قوله تعالى: " ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " ... [التوبة/122]، وقوله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " [النحل /43] وإجماع الصحابة عليه " (¬1) فلابد للعامي الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد أن يتبع قول إمام من الأئمة حتى لا يتفرد بفهم ليس له سلف في مسألة من المسائل، وإلا كان مبتدعاً في الدين، ومتبعاً لغير سبيل المؤمنين في هذه المسألة، قال تعالى: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً " [النساء/115] حكم التقليد إن التقليد منه ما هو مشروع، ومنه ما هو ممنوع. فالتقليد المشروع: هو عمل العامي بمذهب المجتهد دون معرفة دليله معرفة تامة.، وقد قال بمشروعية هذا النوع من التقليد جمهور العلماء .. أما التقليد الممنوع: فهو التقليد فيما قامت عليه الأدلة على خلافه، أو تقليد إمام بعينه دون سواه، بحيث تقبل جميع أقواله، وإن خالف بعضها الحق، وترد جميع أقوال غيره، وإن شهدت لها النصوص، وقامت على صوابها البينة، أو تقليد القادر على الاستنباط والنظر.، وإلى هذه ¬

(¬1) مذكرة أصول الفقه ص (315) ط المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.

هل يستحسن ذكر الدليل للمستفتي؟

الأنواع تنصرف جميع الأدلة التي استشهد بها جمهور العلماء على بطلان التقليد. ويقول الشيخ الدهلوي ـ رحمه الله ـ: إنَّ المذاهب الأربعة المحررة قد اجتمعت الأمة، أو من يعتد به منها على جواز تقليدها إلى يومنا هذا، وفي ذلك من المصالح ما لا يخفي، لا سيما هذه الأيام التي قصرت فيها الهمم جداً، وأشربت النفوس الهوى، وأعجب كل ذي رأى برأيه. ويقول الشيخ حسن البنا ـ رحمه الله ـ: ولكل مسلم ما لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفروعية، أن يتبع إمامًا من أئمة الدين، ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف ... أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل، متى صح عنده صلاح من أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي ـ وإن كان من أهل العلم ـ حتى يبلغ درجة النظر" هل يستحسن ذكر الدليل للمستفتي؟ نعم يستحسن ذكر الأدلة للمستفتى إذا كان أهلاً لفهمها، وإن كان ذلك ليس بشرط: يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه من ذلك ولا يلقيه إلى المستفتى ساذجًا مجردًا عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عطنه وقلة بضاعته من العلم " (¬1) ¬

(¬1) إعلام الموقعين (4/ 161) ط دار الجيل ـ بيروت

وقال في موضع آخر: " ينبغي للمفتي أن يفتى بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرون ذلك غاية التحري ". (¬1) وأما أن ذلك ليس بشرط فمن أدلته ما يلي: 1) الإجماع الذي نقله غير واحد من الأصوليين: على أنَّه لم يزل أهل العلم يستفتون فيفتون ويُتَّبَعُون من غير إبداء المستند، وأن ذلك قد شاع وذاع، ولم ينكر، فكان إجماعاً. قال الآمدي في الإحكام: " وأما الإجماع فهو أنه لم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين، ويتبعونهم في الأحكام الشرعية، والعلماء منهم يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل، ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير، فكان إجماعا على جواز اتباع العامي للمجتهد مطلقا " (¬2) وفي المعتمد لأبى الحسين البصري: " والدليل على ذلك إجماع الأمة قبل حدوث المخالف فان الصحابة ومن بعدهم كانوا يفتون العامة في غامض الفقه، ولا يعرفونهم أدلتهم، ولا ينبهونهم على ذلك، ¬

(¬1) المرجع السابق (4/ 170). (¬2) الإحكام للآمدي (4/ 235) ط دار الكتاب العربي.

ويلزمونهم سؤالهم إياهم، ولا ينكرون عليهم اقتصارهم على مجرد أقاويلهم " (¬1) بل يذهب الإمام الشاطبي في الموافقات إلى أبعد من هذا فيقول: " فتاوي المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين، والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء، إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئاً، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولا يجوز ذلك لهم البتة، وقد قال تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " [النحل /43]، والمقلد غير عالم، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فهم إذن القائمون له مقام الشارع، وأقوالهم قائمة مقام الشارع " (¬2) أيها الأحبة في الله .. إنَّ المتتبع لكتب الحديث يرى استدلال التابعين بأقوال من قبلهم من التابعين، واستدلال هؤلاء بأقوال وأعمال من قبلهم من الصحابة، وهو استدلال بأقوال وأعمال لم تذكر مع أدلتها، فدل ذلك على عدم اشتراط ذكر الأدلة لصحة الفتوى، أو جواز العمل بها، بل إننا لو تتبعنا آثار أئمة السلف، وأشد الناس إنكاراً على التقليد، لوقفنا على ما لا يحصى من الفتاوى العارية عن الأدلة. ¬

(¬1) المعتمد لأبي الحسين البصري (2/ 361) ط دار الكتب العلمية. (¬2) الموافقات (4/ 293) ط دار المعرفة ـ بيروت

إن إيراد الأدلة للعامي لا يخرجه عن دائرة التقليد من الناحية الفقهية البحتة.؛ لأن المفتى يورد الدليل مورداً يجعله منتجاً للحكم الذي قال به، وذهب إليه، ولا يملك المستفتى إلا تقليده في هذا الفهم، فالتقليد كما يكون في الحكم يكون في فهم دليل الحكم، ومجرد المعرفة بالدليل لا تخرج عن ربقة ... التقليد، ذلك أن المعرفة المعتبرة بالدليل، والتي تخرج عن نطاق التقليد، هي التي يغلب معها الظن بحصول المقتضي وعدم المانع .. أما ما ورد من عبارات الأئمة في النهي عن تقليدهم ـ حتى يحتاط المرء لدينه ـ فهي حق، ويجب أن تنزل على منازلها الصحيحة.، فهي تنهى الناس عن اتباعهم فيما قامت الأدلة على خلافه، وهي تنهى أمثالهم من المجتهدين عن تقليدهم، لأن عليهم أن يأخذوا من حيث أخذوا، وتنهي أكابر أصحابهم وتلاميذهم من العلماء عن تقليدهم كذلك، حثاً لهم على دوام النظر في مدارك أقوالهم، ليعلموا ـ بما تبين لهم ـ أنه حق، حسبما يقتضيه اجتهادهم، وضماناً لحيوية الفقه الإسلامي، وعدم إصابته بالجمود، أو تخلفه عن الوفاء بالمصالح المتجددة. ومما يدل على هذا التخصيص، وعلى أن العامة غير مخاطبين بهذه المقالات، ما نقل عن هؤلاء الأئمة أنفسهم، وغيرهم من أهل العلم، من ذلك: ما قاله الإمام مالك رحمه الله: " يجب على العوام تقليد المجتهدين في الأحكام، كما يجب على المجتهدين الاجتهاد في أعيان الأدلة "

وما قاله ابن عبد البر ـ بعد ذكره لبطلان التقليد ـ: " وهذا كله في غير العامة، فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة بها، لأنها تبين موقع الحجة، ولا تصل كذلك بعدم الفهم إلى علم ... " ثم قال: " ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقوله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " [النحل /43]، وأجمعوا على أنَّ الأعمى لا بد له من تقليد قائده، وكذلك لم يختلف العلماء في أن العامة لا يجوز لها الفتيا، وذلك ـ والله أعلم ـ لجهلها بالمعاني التي فيها يجوز التحليل والتحريم، والقول في العلم ". وما قاله العز بن عبد السلام ـ بعد إنكاره التقليد وبيان بطلانه ـ: " ويستثنى من ذلك العامة، فإنَّ وظيفتهم التقليد؛ لعجزهم عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد، بخلاف المجتهد فإنه قادر على النظر المؤدى إلى الحكم" (¬1). وما قاله ابن القيم بعد أن ساق في إبطال التقليد نحواً من ثمانين دليلاً: " أما من قلد فيما ينزل به من أحكام شريعته عالما يتفق له على علمه فيصدر في ذلك عما يخبره فمعذور؛ لأنه قد أدى ما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله لإجماع ¬

(¬1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 135) ط دار الكتب العلمية.

دعوة سلفية محضة

المسلمين أنَّ المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة؛ لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك " (¬1) وقال في موضع آخر: " ولا ندعي أن الله فرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله في كل مسألة من مسائل الدين، دقه وجليه، وإنما أنكرنا ما أنكره الأئمة ومن تقدمهم من الصحابة والتابعين، وما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصب رجل واحد وجعل فتاويه بمنزلة نصوص الشارع، بل تقديمها عليه، وتقديم قوله على أقوال من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع علماء أمته، والاكتفاء بتقليده عن تلقي الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة، وأن يضم إلى ذلك أنه لا يقول إلا بما في كتاب الله وسنة رسوله " (¬2). ... دعوة سلفية محضة وهذا الرأي الذي ذهبنا إليه ـ من دراسة الفقه على أحد المذاهب ـ ليس بدعاً من القول، ولا محدثاً من الرأي، وشاذاً بين الاجتهادات، فمعظم العلماء على الساحة اليوم فضلاً عما ذي قبل ينصحون بهذا، إن لم أقل كلهم، فهذه الطريقة كما ذكرت أسلم وأعلم وأحكم. . ¬

(¬1) إعلام الموقعين (2/ 199) (¬2) إعلام الموقعين (2/ 263).

فهذا الشيخ الألبانى شيخ الصحوة ـ رحمه الله ـ يذهب هذا المذهب، ويتبنى هذا الرأي، فيقول ـ رحمه الله ـ فيما نقله عنه محمد عيد عباسي، في كتاب " بدعة التعصب المذهبي ": " ومن الجدير بالذكر أن هذا هو رأى أستاذنا حفظه الله نفسه، فقد ذكر أكثر من مرة، أن الواجب على الناس في زماننا هذه، أن يبدءوا بتعلم الفقه عن طريق أحد المذاهب الأربعة، ويدرسوا الدين من كتبها، ثم يتدرجوا في طريق العلم الصحيح، بأن يختاروا كتاباً من كتب مذهبهم، ككتاب المجموع للنووي عند الشافعية، وكتاب فتح القدير لابن الهمام عند الحنفية، وغيرها من الكتب التي تبين الأدلة، وتشرح طريق الاستنباط، ثم يتركوا كل قول ظهر لهم ضعف دليله وخطأ استنباطه، ثم يتدرجوا خطوة ثالثة بأن ينظروا في كتب المذاهب الأخرى، التي تناقش الأدلة أيضاً، وتبين طريق الاحتجاج بها، ويأخذوا من هذه الكتب ما ظهر لهم صحته وصوابه، وهكذا. فيرى شيخنا أنَّ هذا هو السبيل الصحيح الممكن سلوكه في هذا الزمان، لأن سلوك السبيل الواجبة التي كان عليها السلف الصالح طفرة، غير ممكن اليوم، لأنه لا يوجد في الناس علماء مجتهدون، يعلمونهم فقه الكتاب والسنة، ولذلك فليس أمام الناس إلا أحد سبيلين: فإما أن يتركوا دون تعليم ولا تفقيه ويخبطوا في دينهم خبط عشواء، وإما أن يتعلموا دينهم ويتفقهوا في أحكامه عن طريق أحد المذاهب الأربعة، ولا شك أن هذا الطريق هو أخف ضرراً، وأقل شراً من الطريق الأول، ولذلك ننصح به ونؤيده "

خلاصة الكلام

يقول الشيخ العباسي في موضع آخر: " والخلاصة أننا لا نمانع في الوقت الحاضر من دراسة الفقه على الطريقة المذهبية، ولكن بشرط واحد وهو عدم التعصب، فالتعصب المذهبي هو الذي نحاربه ونكرهه " خلاصة الكلام بمنتهى الوضوح ولا يلتبس الكلام على أحد من الناس نقول بعون الله وتوفيقه: التمذهب للتعلم أمر ضروري في بداية الطريق، مع الأخذ بأنّه لا يُقدَّم على النص الجلي شيء، فطلب العلم بالتدرج للوصول إلى فقيه مجتهد ينفع الله به الأمة لا سبيل إليه إلا بطريقة تلقي العلم عند علماء السلف، وهي على مذهب من المذاهب الأربعة. في المرحلة الأولى: يبدأ بحفظ متن مجرد عن الدليل. وفي المرحلة الثانية: ينتقل إلى كتاب أكبر يذكر أكثر من رأي في المذهب، والترجيح بينها. ثمَّ المرحلة الثالثة: اقتران الأقوال بالأدلة، ومعرفة طريقة الاستنباط ومناقشة الأدلة. ثمَّ المرحلة الرابعة ـ وهي الأخيرة ـ: ذكر أقوال أهل العلم في المسألة والترجيح بينها، هذه هي طريقة السلف في التَّعلم. والله أعلم. ولسنا نرى غير هذا في طريقة تعلم الفقه لإخراج جيل من المجتهدين؛ فهذا ما ندين الله به، والله المستعان.

المنطلق السابع: ممن نطلب العلم؟

المنطلق السابع مِمَّن نطلبُ العلم؟

المنطلق السابع: ممَّن نطلب العلم؟ - قال اللهُ تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]. فأرشدنا -جَلَّ وعلا- إلى سؤالِ العلماءِ عندَ الجهلِ، وسمَّاهم أهلَ الذكرِ، فشأنُ هؤلاءِ العلماءِ أن يكونوا أعلمَ النَّاسِ بنصوصِ الكتابِ والسُّنةِ. فالعلماءُ هم العارفون بشرعِ اللهِ، المتفقهون في دينِه، العاملون بعلمِهم على هدًى وبصيرةٍ، أولو الحكمةِ، قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. فهؤلاء هم أئمةُ الدينِ، ورثةُ النبوةِ الذين وَرِثوا العلمَ عن الأنبياءِ، فحملوه في صدورِهم، وانطبعت أعمالُهم بما قَرَّ في جَنانِهم. وهم الفرقةُ التي نفرتْ لبيانِ دينِ اللهِ للناسِ، وقاموا بواجبِ الدعوةِ ومهمةِ الإنذارِ. قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

وهؤلاءِ لا يخلو منهم زمان، فإنَّهم رأسُ الطائفةِ المنصورةِ القائمةِ بأمرِ اللهِ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ولن تزال طائفةٌ من هَذه الأمةِ قائمةً على أمرِ الله، لا يضرُّهُمْ مَنْ خالفهُمْ حَتَّى يأتيَ أمرُ اللهِ" (¬1). قال الإمامُ البخاريُّ: هم أهلُ العلمِ. ونحن -وإن كُنَّا في زمانٍ قلَّ علماؤُه- نُذَكِّرُ بهذا قطعًا لريبةِ مرتابٍ، وأملًا نَبُثُّه في قلبِ يؤوسٍ قانطٍ، قد ذَهَب مع كلِّ ناعقٍ يقول: لم يَعُدْ عالمٌ، وما أَمامنا إلا هذه الرؤوسُ الجُهَّالُ. فإنَّا نَدْحَضُ شبهتَه بهذا الحديثِ الأَغَرَّ، فإذا هو زاهقٌ، واللهُ المستعانُ. فالعلماءُ هم رأسُ الجماعةِ التي أُمِرْنا بلزومِها وحُذِّرْنا من مفارقتِها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ فارق الجماعةَ قِيدَ شِبْرٍ، فقد خَلَع ربقةَ الإسلامِ من عنقِه" (¬2). والمحصلُ من أقوالِ أهلِ العلمِ في معنى الجماعةِ قولانِ: الأولُ: هم جماعةُ المسلمين إذا اجتمعوا على الإمامِ الشرعيِّ. الثاني: الجماعةُ هي المنهجُ والطريقةُ، فمن كان على هدي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وصحبِه والسلفِ الصالحِ فهو مع الجماعةِ. وعلى القولين، فإنَّ رأسَ كيانِ هذه الجماعةِ هم العلماءُ، فهم أهلُ الحَلِّ والعَقْدِ، وهم الأَدِلَّاءُ على المنهجِ الصحيحِ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (71) ك العلم، باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين. (¬2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 117) وصححه، وقال الذهبي: على شرطهما.

علامة أولي العلم ممن يشتبه بهم

لكنَّ السؤالَ الذي يترددُ كثيرًا ويُساءُ فَهْمُ جوابِه في واقعِ الناسِ هو: ما هي علامةُ أولي العلمِ ممن يَشْتَبِه بهم؟ فكيف لطالبِ العلمِ أنْ يعرفَ أنَّ شيخَه هذا من هذه الطائفةِ المباركةِ أو هو دونهم؟ والجوابُ عن ذلك يحتاج إلى وقفةِ تدبرٍ مهمةٍ في الشقِّ العِلْميِّ النظريِّ وتطبيقِ ذلك في الشِقِّ العمليِّ، فإنَّ من أكبرِ آفاتِ طلبةِ العلمِ في وقتِنا الحالي بليةَ التصنيفِ، لا عن هُدًى ورشدٍ، بل وَفْقَ هوًى وتراشقٍ لأسهمِ المتنازعين، فتعالَ -أيها المتفقه- نقلبُ صفحاتِ علمائِنا من السلفِ الصالحِ ليرشدونا لحقيقةِ هذه المسألةِ. قالوا: علامةُ العالمِ: 1 - رسوخُ القَلَمِ فى مواطنِ الشُّبَهِ. قال ابنُ القيمِ: إنَ الراسخَ في العلمِ لو وَرَدَتْ عليه مِن الشُّبهِ بعددِ أمواجِ البحرِ ما أزالت يقينَه، ولا قَدَحَتْ فيه شَكًّا؛ لأنه قد رَسَخ في العلمِ فلا تستفزه الشبهاتُ، بل إذا وَرَدَتْ عليه رَدَّها حرسُ العلمِ وجيشُه مغلولة مغلوبةً. (¬1) ولذلك ترى صورَ العلماءِ مشرقةً عبر التاريخِ إبان نشوبِ الفتن، أما ترى إمامَ أهلِ السنةِ الإمامَ أحمدَ وكيف تصدى لبدعةِ خلقِ القرآنِ مع شدةِ الضغوطِ التي قام بها المعتزلةُ وقتَها مؤيدين بسيفِ الخلافةِ العباسيةِ. ¬

_ (¬1) "مفتاح دار السعادة" (1/ 140).

وانظرْ لصورةٍ مضيئةٍ أخرى ممثلةٍ في شيخِ الإسلامِ ابن تيميةَ، وتأملْ مناظراتِه مع أهلِ الفرقِ المبتدعةِ. وعلى سبيلِ المثالِ انظرْ لموقفِه من الطريقةِ الرفاعيةِ الصوفيةِ التي زعمتْ أنَّ اللهَ أَلَانَ لأصحابِها الحديدَ، وأزال لهم فاعليةَ السمومِ والنيرانِ، وأخضع لهم طغاةَ الجانِّ، فطلب منهم شيخُ الإسلامِ أن يُلْقوا بأنفسِهم في النارِ شريطةَ أن يغتسلوا بالخلِّ والماءِ الحارِّ -فإنهم كانوا يدهنون بموادٍ تَقِيهم من الحرقِ بالنارِ- فأبوا وكانت قاصمةَ ظهرٍ لهم (¬1). وفي العصرِ الحديثِ يذكرُ شيخُنا المفضالُ/ محمدُ بنُ إسماعيلَ المقدَّمُ أنَّه كان في الحجِّ عندما ظهرتْ حركةُ المهدي القحطاني، يقول وكان الذُّعْرُ قد تسلل إلى نفوسِ الناسِ، وكنتُ أترددُ إلى الخيمةِ التي كان بها فضيلة الشيخ محدث العصر ناصر الدين الألباني، وإذا بالشيخِ كالطَّوْدِ ثبوتًا، وكان يَرُدُّ على شبهاتِ ذلك المتمهدي وهو قريرُ العين ثابتُ الجَنَانِ. (¬2) وهكذا يُعرفُ العلماءُ ممن دونَهم ممن ينتحلون العلمَ ولا بضاعةَ لهم فيه. ¬

_ (¬1) انظر مناظرة شيخ الإسلام للبطائحية الرفاعية "مجموع الفتاوى"، وراجع الفكر الصوفي د/ عبد الرحمن عبدالخالق (ص 597 - 626). (¬2) انظر كتاب "المهدي حقيقة لا خرافة" للشيخ محمد إسماعيل المقدم.

2 - أنهم يعرفون بنسكهم وخشيتهم لله تعالى.

من علاماتهم كذلك: 2 - أنَّهم يُعرفون بنُسُكهم وخشيتهم لله تعالى. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. قال الإمامُ ابنُ رجبٍ -رحمه الله تعالى- في بيانِ أن العلمَ النافعَ طريقُ خشيةِ اللهِ تعالى: "وسببُ ذلك أنَّ هذا العلمَ النافعَ يَدُلُّ على أمرين: أَحدِهما: على معرفة اللهِ وما يستحقه من الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العُلّى، والأفعالِ الباهرةِ، وذلك يستلزمُ إجلاله، وإعظامَه، وخشيتَه، ومهابتَه، ومحبته، ورجاءه والتوكلَ عليه، والرضا بقضائِه، والصبرَ على بلائِه. والأمر الثاني: المعرفةِ بما يحبُّه ويرضاه، وما يكرهُه وَيسْخَطُه من الاعتقاداتِ والأعمال الظاهرةِ والباطنة والأقوال، فيوجب ذلك لمن عَلِمَه المسارعةَ إلى ما فيه محبةُ اللهِ ورضاه، والتباعدَ عمْا يكرهُه وَيسْخَطُه، فإذا أثمر العلمُ لصاحبِ هذا فهو علمٌ نافعٌ" (¬1). فهم أكثرُ النَّاسِ خوفًا من اللهِ، ولذلك تراهم لا يتجرؤون على الفتوى دونَ عِلمٍ، إذ هم الموقِّعون عن اللهِ تعالى، قد عَلِموا عن اللهِ ما زادهم وَجَلًا وخشيةً، فلا يشترون بعلمِهم ثمنًا قليلًا من حُطَامِ الدنيا الفاني. ¬

_ (¬1) أوصيك -طالب العلم- بقراءة هذا الكتاب المهم "فضل علم السلف على علم الخلف" لابن رجب -رحمه الله-.

والخشية أخصُّ من الخوف، فهي خوفٌ مقرونٌ بمعرفةٍ، ولذلك تواترت أخبارُ علماءِ سلف هذه الأمه في شدةِ خشيتهم لله ورقة قلوبِهم. قال سويد بن سعيد: كنتُ عندَ سفيانَ، فجاء الشافعيُّ فسَلَّم وجَلَس، فروى ابن عيينةَ حديثًا رقيقًا، فغُشيَ على الشافعيِّ، فقيل: يا أبا محمد، مات محمدُ بن إدريس. فقال ابن عيينةَ: إن كان مات فقد مات أفضلُ أهلِ زمانِه. وهذا الأوزاعيُّ كانت أمُّه تتفقدُ موضع مصلاه فتجدُه رطبًا من دموعِه طوالَ الليلِ. وهذا إمامُ أهلِ السنة الإمامُ أحمدُ كان إذا ذكر الموت خنقته العَبْرَةُ، وكان يقول: الخوفُ يمنعني أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموتَ هان عَلَيَّ كلُّ أمرِ الدنيا، إنما هو طعامٌ دون طعامٍ، ولباسٌ دون لباسٍ، وإنها أيامٌ قلائلُ .. فانظرْ لحالِ هؤلاءِ الأكابرِ، وقارنه بحالِ المتعالمين من عصرنا، ممَّن جَعَلوا العلمَ هو شحن الذهنِ بكمٍّ من المعارفِ والمعلوماتِ، لا أثرَ لها في القلب، وإنما يُعرفُ العلمُ بثمرته، لذا قال السَّلَف: إنَّما العلم الخشية، أمَّا نحن فصار الألحن بالقولِ المجادلُ بالكلامياتِ هو مَن يُشارُ إليه بالبنان، وصار هذا هو العالم فينا، والعلم إن لم يَظهرُ أثره على عَمل المرءِ فليس بذاك الذي تأمل، فتدبر هذه المسألةَ ملِيًّا، فقد تعثرت أقدامُ كثيرٍ من الإخوةِ في هذا الزمانِ بسبب ذلك.

3 - أنهم أكثر الناس استعلاء على الدنيا وحظوظها.

من علاماتهم أيضًا: 3 - أنهم أكثرُ النَّاس استعلاءً على الدنيا وحظوظِها. وسِير علماءِ السلف مليئةٌ بالأخبارِ عن رَدِّهم عطايا الملوك والأمراءِ، وحفظِهم لجنابِ العلمِ، الدنيا تحتَ أقدامِهم لا يَسْعَوْن إليها، قد أَضَرَّ ببعضِهم الفقرُ فلم يَمُدَّ يدَه، ولا ابتاع بعلمِه شيئًا. فهذا سَيِّدُ التابعين سعيدُ بن المسيب -رحمه الله- كان له في بيتِ المالِ بضعة وثلاثون ألفًا عطاءً، فكان يُدعى إليها فيأبى، وكان يتَّجرُ في الزيت، ويحمل إهابَ الشاةِ على ظهرِه، ويقول: لا خيرَ فيمن لا يريدُ جمعَ المالِ من حِلِّه، يُعطي منه حقَّه، ويكُفُّ به وجههُ عن النَّاس (¬1). وهذا الخليلُ بنُ أحمدَ الفراهيديُّ إمامُ العَربيةِ ومبتكرُ عِلمِ العروضِ، كان وَرِعًا متقشفًا متعبدًا، أقام في خُصٍّ له بالبصرةِ لا يقدرُ على فلسينِ، وتلامذته يكسبون بعلمِه الأموالَ، وكان كثيرًا ما يُنشد: وإذا افتقَرتَ إَلى الذَّخَائر لَمْ تَجدْ ... ذُخرًا يكونُ كَصَالحِ الأعمالِ (¬2) وهذا الإمام أحمد الحبيبُ إلى قلوب المؤمنين، ربَّما يحتاجُ، ولو أشار ببنانِه لأتته العَطَايا من كُلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ، ولكنَّه كان يقول: عزيزٌ عليَّ أن تُذيبَ الدنيا أَكبَادَ رجالٍ وَعَت صدورُهم القرآنَ .. ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" (2/ 173)، "سيرة السلف ومناقبهم" (ص 129)، وانظر سيرة هذا الإمام العَلَم في مقدمة كتاب "فقه الإمام سعيد بن المسيب" (1/ 5 - 150) د/ هاشم جميل عبد الله. ط رئاسة ديوان الأوقاف بالعراق. (¬2) "سير أعلام النبلاء" (7/ 430 - 431).

4 - ثناء جماهير الناس عليهم، وشهرتهم في الآفاق.

وكان ينسخُ بأُجرةٍ، ويلتقط السنبلَ الذي تُخطِئُه المناجل، ويرهن نعلَه عند الخباز على طعام أخذه منه، ويبيع غزلًا تغزله له زوجه، ولربما أراد أن يرقع ثوبَه فلا يجد رقعةً، وربما يأخذ الكِسَرَ، ينفضُ الغبارَ عنها ويصيرها في قصعةٍ ويصبُّ عليها الماءَ، ثم يأكلها بالملحِ، فهذا طعامُه. وأرك -أيها المتفقه- ربَّما تهمسُ أو تحدثك نفسُك تقولُ: هؤلاء سَلفُ الأمةِ، وقد تبدَّلَ الزمانُ، فإني آتيك بشهداء من عَصْرك يقيمون عليَّ وعليك الحُجة. فقد رأيتُ بعيني رأسي شيخَنا العلامةَ ابنَ عثيمين وهو يمشي حافيًا، وهو من هو، وفي أي بلدة كان، وكان يأكل الخبزَ الجافَّ بالماءِ، ويُطعمُ إخوانه اللحمَ. ومن علاماتهم أيضًا: 4 - ثناء جماهير النَّاسِ عليهم، وشهرتُهم في الآفاقِ. يقول شيخ الإسلام ابن تيميةّ -رحمه الله-: "ومن له في الأمةِ لسانُ صدقٍ بحيث يُثنى عليه ويحمد في جماهير أجناسِ الأمة، فهؤلاء أئمةَ الهدى ومصابيحُ الدُّجى" (¬1). فالمسلمون هم شهداءُ اللهِ في أرضه، وفي الحديث أنَّ صحابةَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَروا بجنازةٍ فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وَجَبَتْ". ثمَّ مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًا فقال: "وَجَبَتْ". ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (11/ 43).

فقال عُمر -رضي الله عنه-: ما وَجَبَتْ؟!! قال: "هذا أَثنيتُم عليهِ خيرًا فَوَجبَتْ له الجنةُ، وهذا أَثنْيتُم علية شرًّا فوجبتْ له النارُ، أنتم شهداء الله في الأرض". وفي رواية: "المؤمنون شهداءُ اللهِ في الأرضِ" (¬1). ولا شك أنَ المرادَ هنا من ثناءِ النَّاسِ الإشارةُ إلى أهلِ الفضلِ والثقاتِ منهم، إذ قد يُشْكِل على بعضِ القومِ شهرةُ مَن ليس من أهلِ هذا الشأنِ، فالشُّهرةُ مسألةٌ نسبيةٌ، وكم من العلماءِ مَن آثر الخمولَ فلم يَشْتَهِرْ أمرُه، ولكن يأبى اللهُ إلا أن يقيمَ الحجةَ على خلقِه بإظهارِ أولي العلمِ بينهم. وقد دَأَب علماءُ المسلمين من سَلَفِ هذه الأمةِ ومن تبعهم بإحسانٍ على عدمِ السماحِ بتصدرِ التلاميذِ حتى يَرَوْا أنَّهم جديرون بذلك، ولذلك ما اشتهر بينهم إلا من يستحقُّ!! قال الإمامُ مالكٌ: لا ينبغي لرجل يَرَى نفسَه أهلًا لشيءٍ حتى يسألَ مَنْ كان أعلمَ منه، وما أفتيتُ حتى سألتُ ربيعةَ ويحيى بنَ سعيدٍ فأمراني بذلك، ولو نَهَيَاني لانتهيتُ. ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (2499) ك: الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، ومسلم (949) ك: الجنائز، باب فيمن يثنى عليه خيرًا أو شرًّا من الموتى.

5 - أن يكون ممن تربى على أيدي الشيوخ.

ومن علاماتهم أيضًا: 5 - أن يكون ممن تربى على أيدي الشيوخِ. فقد نَصُّوا على ضرورةِ الأخذِ عَمَّن تربى في كَنَفِ العلماءِ، وأمَّا من تَشَيَّخ عن الصُّحفِ فلم يأمنوا زَلَلَ قدمِه. عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ .. " (¬1) وفي هذا دليل على أنَّ العلماء هم مفاتح العلم بلا ريب. (¬2) قال الحافظ ابن حجر في الفتح: " وفي حديث أبي أمامة من الفائدة الزائدة " أن بقاء الكتب بعد رفع العلم بموت العلماء لا يغني من ليس بعالم شيئا " فإنَّ في بقيته ... " فسأله أعرابي فقال: يا نبي الله كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف، وقد تعلمنا ما فيها وعلمناها أبناءنا ونساءنا وخدمنا، فرفع إليه رأسه وهو مغضب فقال: وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف، لم يتعلقوا منها بحرف فيما جاءهم به أنبياؤهم " ولهذه الزيادة شواهد " (¬3) ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (100) ك العلم، باب كيف يقبض العلم، ومسلم (2673) ك العلم، باب رفع العلم وقبضه. (¬2) وأيم الله هل من بلية أعظم من فقد العلماء في عصرنا؟! بعض النَّاس إلى الآن لم يشعر بحجم البلاء بعد أنْ مات الفحول الأعلام، ولو تدبر لعلم أنَّ مشكلتنا الأولى غياب العالم الرباني من الساحة، فلو وجد لحلَّت كثير من مشاكلنا، ولكن قلَّ فندر ثمَّ لم يوجد، فاللهم إليك المشتكى. (¬3) فتح الباري (13/ 299 - 300) ط دار الريان.

أيها المتفقه

قال الإمام الشاطبي: " وإنْ كان النَّاس قد اختلفوا هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا؟ فالإمكان ُمَسلَّم، ولكن الواقع في مجارى العادات أن لابد من المعلم، وهو متفق عليه في الجملة .. " ثم قال: " وقد قالوا إنَّ العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال، وهذا الكلام يقضى بأن لا بد في تحصيله من الرجال " (¬1) أيها المتفقه: لابد من معلم، قال الإمام الشافعي: شر البلية تشيخ الصحيفة " يعني الذين تلقوا علمهم من الصحف ـ أي الكتب ـ. وقال بعض السلف: من كان الشيخ كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه. وقال أبو زرعة ـ رحمه الله ـ: لا يفتي الناس صحفي، ولا يقرئهم مصحفي. وكان ثور بن يزيد يقول: لا يفتي الناس الصحفيون. (¬2) فلابد لك من شيخ متقن، ومرب حاذق، وصاحب ناصح، فهذه ثلاثة لو اجتمعت في واحد لكان خيرًا لك، وإن كانا اثنين، وإلا فلزوم الثلاثة هو المحتم. ¬

(¬1) الموافقات (1/ 92). (¬2) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 97).

وذهبوا إلى شرط العالم أن يكون ممن لازم أهل العلم، وتربى على أيديهم، وعُرف باقتدائِه بهم، وتأدبِه بأدبِهم. قال الإمام الشاطبي في صفة العالمِ المتحققِ بالعلمِ: أن يكون ممَّن رباه الشيوخ في ذلك العلم (¬1)؛ لأخذه عنهم، وملازمته ... لهم، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح، فأول ذلك ملازمة الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنا ما كان، وعلى أي وجه صدر. فهم فهموا مغزى ما أراد به أولاً، حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذي لا يُعارض، والحكمة التي لا ينكسر قانونها، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها، وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدة المثابرة. وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية حيث قال: يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار. قال: بلى. قال: ففيم نعطى الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولم يضيعني الله أبدا. فانطلق عمر، ولم يصبر متغيظا، فأتى أبا بكر فقال له مثل ذلك. ¬

(¬1) وإنِّي لأقف مليًا أمام عبارة الشاطبي " ربَّاه الشيوخ " وأتأسف على حال شباب الصحوة، فيا عبد الله اتقِ الله وخذ العلم كما أخذه السلف، وإلا فهيهات أنْ تجني لبذرك ثمرة حقيقية.

فقال أبو بكر: إنه رسول الله، لم يضيعه الله أبدا. قال: فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه. فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟! قال: نعم فطابت نفسه ورجع. (¬1) فهذا من فوائد الملازمة، والانقياد للعلماء، والصبر عليهم في مواطن الإشكال، حتى لاح البرهان للعيان. وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين: " أيها الناس!! اتهموا رأيكم؛ والله لقد رأيتني يوم أبى جندل ولو أنِّي أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته " (¬2) وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال، وإنما نزلت سورة الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر، ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن، فزال الإشكال والالتباس. وصار مثل ذلك أصلاً لمن بعدهم، فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى فقهوا، ونالوا ذروة الكمال في العلوم ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (3182) ك الجزية، باب إثم من عاهد ثم غدر، ومسلم (1785) ك الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري (3181) ك الجزية، باب إثم من عاهد ثم غدر، ومسلم في الموضع السابق.

الشرعية، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك. وقلما وجدت فرقًة زائغًة، ولا أحدًا مخالفًا للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف. ... وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم " أهـ والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم، واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرن، وبهذا الوصف امتاز مالك عن إضرابه، أعنى بشدة الاتصاف به، وإلا فالجميع ممن يهتدي به في الدين، كذلك كانوا، ولكن مالكًا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى ". فلما تُرك هذا الوصف (أي اقتداء كل تلميذ بشيخه تمامًا في نعته ووصفه وطريقته وسمته) رفعت البدع رؤوسها؛ لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك أصله اتباع الهوى ... " وتأمل معي ـ أخي في الله ـ هذه الفقرة للإمام مالك رضي الله عنه في الاتباع فإنَّها نافعة: " كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه فقيل له يومًا في ذلك: فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم

علَّي ما ترون ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدًا إلا يبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زمانًا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال إما مصليًا، وإما صامتًا، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله عز وجل، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبًة منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنت آتي عمر بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع؛ ولقد رأيت الزهري وكان من أهنأ الناس وأقربهم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته؛ ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه " (¬1). اهـ هذا تأسيهم بمن قبلهم وإنما استفادوا ذلك من طول الملازمة وحسن التأسي. ¬

(¬1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 42).

6 - يقول الإمام الشاطبي: " وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات

وبطبيعة الحال لا يشترط السلامة من الخطأ البتة؛ لأنَّ فروع كل علم إذا انتشرت، وانبنى بعضها على بعض اشتبهت، فلا يقدح في كونه عالمًا، ولا يضر في كونه إمامًا مقتدى به أن يخطئ، أو أن تذهب عنه بعض المسائل، ولكن كلما قصر عن استيفاء الشروط نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك ... النقصان، فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل النقص. قال الإمام الذهبي: " ثمَّ إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له الله ولا نضلله ولا نطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ونرجو له التوبة من ذلك " (¬1). ومن علاماتهم أيضا: 6 - يقول الإمام الشاطبي: " وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات .. إحداها: العمل بما علم، حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإنْ كان مخالفا له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، ولا أن يقتدى به في علم " أهـ وهذا مما يثير الحزن والأسف، فقد صار هؤلاء من الندرة بمكان، نعوذ بالله أنْ نذكِّر به وننساه، ونعوذ به من النفاق وأهله، ونعوذ به من فتنة علماء السوء. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (5/ 271)

7 - ظهور أثر علمهم من خلال دروسهم وفتاويهم ومؤلفاتهم

قال علي رضي الله عنه: تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنَّه سيأتي بعد هذا زمان لا يعرف فيه تسعة عشرائهم المعروف، ولا ينجو منه إلا كل نُوَّمة، فأولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم، ليسوا بالمساييح، ولا المذاييع البذر. (¬1). ومن علاماتهم أيضًا: 7 - ظهورُ أثرِ علمِهم من خلالِ دروسِهم وفتاويهم ومؤلفاتِهم: قال الإمامُ أبو طاهرٍ السِّلفي عن الإمامِ الخطابيِّ: وأمَّا أبو سليمانَ الشَّارحُ لكتابِ أبي داودَ، فإذا وَقَف منصفٌ على مصنفاتِه، واطَّلَع على بديعِ تصرفاتِه في مؤلفاتِه، تَحقَّقَ إمامتَه وديانتَه فيما يورده وأمانتَه، وكان قد رَحَل في الحديثِ وقراءةِ العلومِ، وطَوَّف، ثمَ أَلَف في فنونٍ من العلمِ وصَنَّف. ¬

(¬1) النومة: الغافل عن الشر، المذاييع البذر: كثير الكلام، المساييح: الساعي بالنميمة.

فصل في التفريق بين العلماء ومن دونهم

فصل في التفريقِ بين العلماءِ ومَنْ دونَهم يشتبه على طلبةِ العلمِ في هذا الزمانِ نماذجُ من "المثقفين" أو "المفكرين" أو "الخطباء" أو "الوعاظ" ويحسبون أنَّهم من العلماءِ، وعادة ما يكونُ الأمر خلافَ ظنِّهم، وقد تقدم الحديثُ عن علاماتِ "العالمِ" التي قَلَّ في زمانِنا هذا وجودُها، لذا لَزِم بيانُ شأنِ مَن اشتبه بأهلِ العلمِ ليكونَ طالبُ العلمِ على درايةٍ، فينزل النَّاسَ منازلَهم. ففرقٌ بين عالمٍ وقارئٍ، فليس كلُّ من قرأ نُتَفًا من العلومِ، وأمعن في تشقيقِ المسائلِ، وجارى وناظر في المسألةِ والمسألتينِ صار بذلك عالمًا. فأين هذا مِمَّن تقدم لك نعتُهم، وعرفتَ سِماتِهم وعلاماتِهم؟!! وللأسف الأدعياء الآن أكثرُ من أن تحصيَهم. اغترَّ قومٌ بسهولةِ تخريجِ الأحاديثِ في عصرِنا، مع وجودِ الفهارسِ العلميةِ بدايةً وظهورِ الحاسوبِ في نهايةِ الأمرِ، وصار كلٌّ يَدَّعى وصلًا بليلى، ولكنْ ليلى لا تُقِرُّ لهم بذاك، ولذلك كانت حِدَّةُ الشيخِ الألبانيِّ على هؤلاءِ في أُخرياتِ عُمُرِه، ولك أن تطالع مقدماتِ كتبِه الأخيرةِ، لترى شدةَ تعنيفِه لكلِّ من صار يتحلَّى ويزينُ اسمه بـ "الأثري". واغترَّ آخرون بأهلِ الكلامِ من عصرِنا، مِمَّن احترفوا صناعةَ الجدلِ والمناظرةِ، وضلعوا في "المنطق" و "الكلام"، وافتتن بمعسولِ قولِهم

وحدةِ ذكاءِ بعضِهم: كثيرٌ من الإخوةِ مِمّن آلم القلبَ أن تزلَّ أقدامُهم، وكانوا من كانوا. ناهيك عن أصحابِ الألقابِ العلميةِ المرموقةِ الذين ما إن تَحلَّوا بها ظَنُّوا أنَّهم في رِكابِ العلماءِ، ولا يُعرف العلماءُ بالمناصبِ ولا الدرجاتِ العلميةِ، وكلٌّ يعرفُ ماذا يحدثُ في التعليمِ الجامعيِّ، وكيف تُسَطَّرُ الأبحاثُ العلميةُ في كثيرٍ من الجامعاتِ، وإنها لثالثةُ الأَثَافي. وقومٌ افتتنوا بكُتَّابٍ مهرةٍ، فعَدُّوهم من أهل العِلْمِ، وآخرون تمَلَّكَهم داءُ "الغلو في الأفاضل" فنعتوا "الداعيةَ الربانيَّ" أو "العابدَ الناسِكَ" بأنَّه من "العلماءِ الأكابرِ"، والأمرُ يقتضي الإنصافَ لا الإجحافَ، وإن كُنَّا في زمانٍ قلَّ فيه من يَعْرِفُ ولم يَعُدْ فيه مَنْ يُنصِفُ. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "سيأتي على النَّاس زمانٌ يكثرُ فيه القراءُ، ويَقِلُّ فيه الفقهاءُ، ويُقبضُ العلمُ، ويكثرُ الهرجُ" (¬1). يقول الشيخ حمود التويجري -رحمه الله-: "وقد ظهر مصداقُ هذا الحديثِ في زمانِنا، فقلَّ الفقهاءُ العارفون بما جاء عن اللهِ ورسولِه - صلى الله عليه وسلم - وكَثُرَ القراءُ في الكبارِ والصغارِ والرجالِ والنساءِ، بسببِ كثرةِ المدارسِ وانتشارِها". ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 457) وصححه، وأقره عليه الذهبي، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (3295).

وقال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: قدم على عُمَر رجلٌ فجعل عمرُ يسألُه عن الناسِ، فقال: يا أميرَ المؤمنين، قد قَرَأ القرآنَ منهم كذا وكذا، فقلتُ: واللهِ ما أحبُّ أن يسارعوا يومَهم هذا في القرآنِ هذه المسارعةَ. قال: فزبرني عُمر، ثم قال: مه! فانطلقتُ إلى منزلي مكتئبًا حزينًا، فقلتُ: قد كنتُ نزلتُ من هذا بمنزلةٍ، ولا أراني إلا قد سقطتُ من نفسِه، فاضطجعتُ على فراشي حتى عادني نسوةُ أهلي وما بي وَجَع، فبينا أنا على ذلك قيل لي: أَجِبْ أميرَ المؤمنين. فخرجتُ، فإذا هو قائم على البابِ ينتظرُني، فأخذ بيدي، ثم خلا بي، فقال: ما الذي كرهتَ مما قال الرجلُ آنفًا؟! قلتُ: يا أميرَ المؤمنينَ، إن كنتُ أسأتُ فإني أستغفرُ اللهَ، وأتوبُ إليه، وأنزلُ حيثُ أحببت. قال: لتخبرنِّي. قلت: متى ما يُسارعوا هذه المسارعةَ يَحْتَقَّوا (¬1)، ومتى ما يَحْتَقُّوا يَخْتَصِموا، ومتى ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا. قال: للهِ أبوك، لقد كنتُ أكتمُها النَاسَ حتى جئتَ بها" (¬2). ¬

_ (¬1) يحتقون: أي يختصمون فيقول كل واحد منهم: الحق بيدي. انظر "لسان العرب" مادة: (ح. ق. ق). (¬2) رواه عبدالرزاق في "المصنف" (11/ 217، ح 20368)، من طريق يزيد بن الأصم عن ابن عباس، والفسوي في التاريخ (1/ 516 - 517)، والذهبي في السير (3/ 349) وقال محققه:- رجاله ثقات.

فابنُ عباسٍ خاف على الناسِ المسارعةَ في القراءةِ دونَ فقهٍ وفهمٍ، وهذا قد يؤدي إلى انحرافٍ عن الجادةِ، أما ترى الخوارجَ كانوا من قُرَّاءِ القرآنِ، لكنْ لم يجاوزْ حناجرَهم، فلم يَصِلْ إلى قلوبِهم، والمَعْنيُّ هو التدبرُ. أيها المتفقه، الأمرُ ليس بمدارسةِ جزئياتٍ وتركِ أمورٍ أخرى قد تكونُ أولى، ولا تبلغُ منازلَ أهلِ العلمِ بقراءةِ نتفٍ من العلومِ، إنَّ طلبَ العلمِ جهاد في سبيلِ اللهِ؛ لذلك وصفه اللهُ جَلَّ وَعَلَا بالنُّفْرةِ، شأنُه شأنُ الجهادِ، فحذارِ من أن تُخدعَ، بل أنزل النَّاسَ منازلَهم، ولكلٍّ حقه من التوقيرِ والتعظيمِ، كلٌّ بحسبِ قدرِه ورتبتِه. يقول الخطيبُ البغداديُّ: "وقد رأيتُ خلقًا من أهلِ هذا الزمانِ ينتسبون إلى الحديثِ، ويَعُدُّون أنفسَهم من أهلِه المتخصصين بسماعِه ونقلِه، وهم أبعدُ الناسِ مما يدَّعون، وأقلُّهم معرفةً بما إليه ينتسبون، يرى الواحدُ منهم إذا كتب عددًا قليلًا من الأجزاءِ واشتغل بالسماعِ بُرهةً يسيرةً من الدَّهرِ أنه صاحبُ حديثٍ على الإطلاقِ، ولمَّا يُجْهِدْ نفسَه ويُتْعِبْها في طِلَابِه، ولا لحقتُه مشقةُ الحفظِ لصنوفِه وأبوابِه، ... وهم مع قلةِ كَتْبِهم له وعدمِ معرفتِهم به أعظمُ النَاسِ كِبْرًا، وأشدُّ الخَلْقِ تيهًا وعُجبًا، لا يراعون لشيخٍ حُرمةً، ولا يوجبون لطالبٍ ذِمَّةً، يَخْرِقون بالراوين، ويُعَنِّفون على المتعلمين، خِلافَ ما يقتضيه العلمُ الذي سَمِعوه، وضدَّ الواجبِ مما يلزمُهم أن يفعلوه" (¬1). ¬

_ (¬1) "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1/ 75 - 77).

فيا أيها المتفقه .. قد علمتَ طريقَك ومَنْ تقصدُ، فلا تجنحْ لمن هو أدنى، وإياك أن تُعجبَ بنفسِك ولمَّا تبلغْ بعدُ، فحذارِ من أن تتشبعَ بما لا تعلمُ. قال - صلى الله عليه وسلم -: "المتشبعُ بما لم يُعْطَ كلابسِ ثَوْبَي زورٍ" (¬1). وقد تسألُ: فإنْ لم أجدْ ذلك العالمَ الذي تقدم سَمْتُه ووصفُه فماذا أفعلُ؟! لا سيما في هذه الآونةِ التي قلَّما تجدُ فيها العالمَ الربانيَّ، الذي يوافقُ علمَه عملُه. والجوابُ من وجوهٍ: أولًا: مع الاعترافِ المسبقِ -والذي تكرر ذكره- بندرةِ العلماءِ في هذا العصرِ، فلا نريدُ أن يكونَ ذلك مَطِيَّةً للانصرافِ عن طلبِ العلمِ أو أخذِ العلمِ من غيرِ وجهِه. ثانيًا: قد أبدلنا اللهُ في هذا العصرِ بدائلَ قد تفي ببعضِ الغرضِ، مثل الأشرطةِ والأسطواناتِ وما شابهها من ناقلاتٍ للصوتِ، وأشرطةُ العلماءِ بدأتْ تتوافرُ بصفةٍ كبيرةٍ لا سيما على أسطواناتِ الليزر التي تسع أعدادًا كبيرةً من الساعاتِ الصوتيةِ، ونحن دائمًا ما نرددُ: اعملْ في المتاحِ، فلا ¬

_ (¬1) متفق عليه. أخرجه البخاري (5218) ك النكاح، باب المتشبع بما لم ينل وما ينهي من افتخار الضرة، ومسلم (2129) ك اللباس والزينة، باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره والتشبع بما لم يُعط.

طرق التعلم

يكلفُ اللهُ نفسًا إلا وسعَها، لكن أن يكونَ في وسعِك ثُمَّ لا تعملُ فهذا من تلبيسِ وتثبيطِ الشيطانِ. ثالثًا: علينا أن نضعَ ثقتَنا في النابغين من طلبةِ العلمِ، لا أن نجعلَهم بمنزلةِ العلماءِ، فقد حذرناك من ذلك آنفًا، لكن على سبيلِ التبليغِ ومذاكرةِ العلمِ فكلُّ مَنْ له فضلُ علمٍ في شيءٍ أَخَذ بيدِ مَن دونَه شيئًا فشيئًا، حتى تجدَ العالمَ فتتشبث به. فابدأ مع من تقدم عنك ولو بخطوةٍ، خُذْ عنه، نافسه، ولكن حذارِ من أن تقرأَ وحدَك دونَ أخذِ الوسائلِ. إذًا: ما هي طرق التعلم؟!! طرق التعلم قال الإمام الشاطبي: " وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله فلذلك طريقان: أحدهما: المشافهة. وهى أنفع الطريقين وأسلمهما؛ لوجهين: الأول: خاصية جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم، يشهدها كل من زاول العلم والعلماء؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضرة، وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال، وإيضاح موضع إشكال، لم يخطر للمتعلم ببال، وقد

يحصل بأمر غير معتاد، ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم، ظاهر الفقر، بادي الحاجة، إلى ما يلقى إليه. وهذا ليس ينكر، فقد نبه عليه الحديث الذي جاء " أن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم " (¬1) وحديث حنظلة الأسيدى: حين شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم إذا كانوا عنده وفى مجلسه كانوا على حالة يرضونها، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أنكم تكونون كما تكونون عندى لأظلتكم الملائكة بأجنحتها " (¬2) وقد قال عمر بن الخطاب: " وافقت ربى في ثلاث " (¬3) وهى من فوائد مجالسة العلماء، إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم مالا يفتح له دونهم، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم، وتأدبهم معه، وإقتدائهم به. فهذا الطريق نافع على كل تقدير، وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل، وكانوا يكرهون ذلك؛ وقد كرهه مالك فقيل له فما نصنع؟ قال: تحفظون وتفهمون، حتى تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتابة. ¬

(¬1) انظر حديث أنس عند الترمذي (3618) ك المناقب عن رسول الله، باب في فضل النبي، وقال: غريب صحيح. (¬2) أخرجه الترمذي (2452) ك صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله، باب ما جاء في صفة أواني الحوض، وقال: حسن غريب. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري (402) ك الصلاة، باب ما جاء في القبلة، ومسلم (2399) ك فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر.

الطريق الثاني

وحكى عن عمر بن الخطاب كراهية الكتابة، وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان، وخيف على الشريعة الاندراس " (¬1). قلت: أما الوجه الثاني فلعله: أنَّ المشافهة تفيد التلاقي بين طالب العلم والعالم، وفيها استفادة المتعلم من سمت المعلم، وهديه ودله وحاله، وهذا أهم ما في قضية التعلم، وذلك كما قيل: ينفعك لحظه قبل لفظه. الطريق الثاني: مطالعة كتب المصنفين، ومدوني الدواوين، وهو ـ أيضًا ـ نافع في بابه بشرطين: الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله ما يتم له به النظر في الكتب؛ وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال: " كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب ومفاتحه بأيدي الرجال ". والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئًا دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد. ... والشرط الثاني: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد، فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين. وأصل ذلك التجربة والخبر: أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان؛ فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدم، وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي ¬

(¬1) سكت المصنف رحمه الله عن بيان الوجه الثاني، ولعله ما أثبتناه لاحقًا، ولعل فيما بين أيدينا من نسخ الموافقات سقط يرشدنا له أحد المحققين عن نسخة أخرى غير التي اعتمد عليها محقق الكتاب والله أعلم.

أو نظري، فأعمال المتقدمين ـ في إصلاح دنياهم ودينهم ـ على خلاف أعمال المتأخرين؛ وعلومهم في التحقيق أقعد. فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم وأقوالهم وحكاياتهم أبصر العجب في هذا المعنى. وأما الخبر ففي الحديث: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " (¬1). وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض " (¬2) ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير، وتكاثر الشر شيئًا بعد شيء. أخي الحبيب .. هكذا فاطلب العلم من أهله المتحققين به، واصبر على ذلك، ولا تتعجل، ابحث عن العلماء، واجلس بين أيديهم، وخذ من هديهم وسمتهم وأدبهم، والزمهم السنين الطوال، فطول الملازمة مهم ونافع، ¬

(¬1) أخرجه البخاري (2651) (2625) ك الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور بلفظ " خيركم قرني "، والرواية الثانية بلفظ " خير الناس "، ومسلم (2533) ك فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. (¬2) أخرجه إبراهيم الحربي عن أبي ثعلبة، وقد ذكره الشاطبي في الاعتصام ولم يذكر منزلته من الصحة، وبنحوه أخرجه الدارمي في سننه (2101) ك الأشربة، باب ما قيل في السكر.

وارحل إلى العلماء، ولا تقنع بسماع شريط، أو قراءة كتاب، وخذ هذه الآثار تستثيرك إن كنت من الرجال. أولئك الناس إنْ عُدّوا وإنْ ذُكِروا ... ومن سواهم فلغو غير معدود أيها المتفقه: الطريق وعرة، والمسافة طويلة، والوحدة موحشة، وقطاع الطريق كثير، فلابد لك في طريقك إلى الله من دليل وصاحب، فإنَّ " الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب " (¬1). ولكن ـ إياك أن تصحب في طريقك الجهال، فتضيع أو الذئاب فتأكلك. قال بعض السلف: لا تأمنن فاسقًا، فإنَّه خان أول منعم عليه. قال الإمام الشاطبي: " من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام ... ... " ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (1674) ك الجهاد، باب ما جاء في كراهية أن يسافر الرجل وحده، وقال: حسن صحيح، وأبو داود (2607) ك الجهاد، باب في الرجل يسافر وحده.، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3524) ومعني الحديث: أن الشيطان يطمع في الواحد والاثنين كما يطمع فيه اللص والسبع، فإذا خرج وحده فقد تعرض للشيطان والسبع واللص، فكأنه شيطان، فضلاً عن مخالفته النهي عن التوحد في السفر لما فيه من التعرض للآفات التي لا تندفع إلا بالكثرة، وفوات الجماعة، وعسر التعيش، ولعل الموت يدركه فلا يجد من يوصي إليه بإيفاء ديون الناس وأماناتهم وسائر ما يجب.

ذكر طائفة من سلفنا ممن كثرت شيوخه

ذكر طائفة من سلفنا ممَّن كثرت شيوخه قال الحافظ العراقي في شرح الألفية: وقد وصف بالإكثار من الشيوخ: سفيان الثوري، وأبو داود الطيالسي، ويونس بن محمد المؤدِّب، ومحمد بن يونس الكُديمي، وأبو عبد الله بن منده، والقاسم بن داود البغدادي روينا عنه قال: كتبتُ عن ستة آلاف شيخ (¬1). قال الحافظ الذهبي في ترجمة الحافظ الجوال صاحب التصانيف أبي عبد الله بن منده: وعدَّة شيوخه الذين سمع منهم وأخذ عنهم: ألفٌ وسبعُ مئة شيخ (¬2). وقال أيضًا: "ولم أعلم أحدًا أوسع رحلة من ابن منده، ولا أكثر حديثًا منه مع الحفظ والثقة، فبلغنا أن عدد شيوخه " ألف وسبعمائة شيخ ". يقول ابن حبان: لعلنا كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ. قال الذهبي: هكذا فلتكن الهمم. وقال في الحاكم النيسابوري: " سمع من أكثر من ألفي شيخ فإنه سمع بنيسابور وحدها من ألف نفس. قال ابن النجار عن الإمام السمعاني: سمعتُ من يذكر أنَّ عدد شيوخه سبعة آلاف شيخ، وهذا شيء لم يبلغه أحد. ¬

(¬1) "شرح ألفية العراقي" (2/ 233)، وانظر "صفحات من صبر العلماء" ص (64) لأبي غدة. (¬2) "تذكرة الحفاظ" (3/ 1032).

وكثيرًا ما تجد هذه العبارة في تراجم سلفنا العظام، فيقال: " وسمع ما لا يوصف كثرة ". (¬1) أمّا الإمام ابن النجار (ت 643 هـ) نفسه، فكانت رحلته سبعًا وعشرين سنة، واشتملت مشيخته على ثلاثة آلاف شيخ. (¬2) وهذا الإمام الحافظ الكبير فخر الأئمة ابن عساكر بلغ عدد شيوخه ألف وثلاث مئة شيخ. (¬3) ¬

(¬1) شرح ألفية العراقي (2/ 233)، وانظر صفحات من صبر العلماء ص (64) لأبي غده. (¬2) تذكرة الحفاظ (3/ 1032). (¬3) انظر على سبيل المثال ترجمة الحافظ أبي طاهر السِّلفي (ت 576 هـ) في تذكرة الحفاظ (4/ 1298 - 1304) وطبقات الشافعية الكبرى (6/ 32 - 41).

المنطلق الثامن: الأدب

المنطلق الثامن: الأدب قال عمر: تأدبوا ثمَّ تعلموا

المنطلق الثامن الأدب أيها المتفقه ـ حبيبي في الله ـ: اعلم ـ أعزك الله ـ أنَّ تعلم الآداب وحسن السمت مطلب شرعي قلَّ في الناس الآن من يلتفت إليه، بل البلايا العظام لم تتوالَ علينا إلا يوم هجر الناس السمت الحسن، وأقبلوا على العلم ولم يزينوه بحليته الواجبة، فظهرت الأقوال الشاذة، وكثرت الصراعات والخلافات، فلم نجنِ للعلم ثمرة، وندر في الناس أهل العلم والفضل. وقال ابن المبارك ـ رحمه الله ـ: طلبت العلم فأصبت منه شيئًا، وطلبت الأدب فإذا أهله قد بادوا. وهذا في زمانه ـ رحمه الله ـ زمان " خير القرون "، فكيف به إذا رأى زماننا هذا؟ ‍‍‍‍‍‍ ولما تغافل الناس عن الاهتمام بالآداب الشرعية ظهر الالتزام الهش، وصار الإقبال على المفضول، وتُرك الفاضل، وظهرت الانحرافات الفكرية والسلوكية والأخلاقية؛ لأنَّ تلك الآداب ـ في حقيقة الأمر ـ حصن الالتزام والإيمان الأول فإذا تركت ترك السنن والفرائض ونقضت عرى الإيمان الواحدة تلو الأخرى.

قال الحجاوي: مثل الإيمان كمثل بلدة لها خمس حصون: الأول من ذهب، والثاني من فضة، والثالث من حديد، والرابع من آجر، والخامس من لبن. فما زال أهل الحصن متعاهدين حصن اللبن لا يطمع العدو في الثاني، فإذا أهملوا ذلك طمعوا في الحصن الثاني ثم الثالث حتى تخرب الحصون كلها. فكذلك الإيمان في خمس حصون: اليقين، ثمَّ الإخلاص، ثمَّ أداء الفرائض، ثمَّ السنن، ثمَّ حفظ الآداب، فما دام يحفظ الآداب ويتعاهدها فالشيطان لا يطمع ... فيه، وإذا ترك الآداب طمع الشيطان في السنن، ثمَّ في الفرائض، ثمَّ في الإخلاص، ثمَّ في اليقين. (¬1) فالأدب دليل على الالتزام الحقيقي، ولذا جُعل جزءًا من أجزاء النبوة. عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الهدي الصالح والسمت والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة. (¬2) وكان الأدب هو المقياس الذي يقاس به الناس عند سلفنا الصالح، فإذا لم يوافق هدي الرجل علمه تركوه ونبذوه، فليس العلم عن كثرة المعارف وشحن الذهن بالفنون واللطائف، وإنما العلم ما توصل به لخشية الله تعالى. ¬

(¬1) غذاء الألباب للسفاريني (1/ 37) ط مؤسسة قرطبة. (¬2) أخرجه أبو داود (4776) ك الأدب، باب الوقار وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3996).

قال إبراهيم النخعي ـ رحمه الله ـ: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وصلاته وإلى حاله، ثمَّ يأخذون عنه. قال الإمام النووي: قالوا: ولا يأخذ العلم إلا ممن كملت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت معرفته واشتهرت صيانته وسيادته. (¬1) قال عبد الله بن المبارك: لا ينبل الرجل بنوع من العلم ما لم يزين علمه ... بالأدب. (¬2) ولذلك كانت وصية سلفنا الصالح بتعاهد الأدب أكثر مما يتعاهد به العلم. قال أبو عبد الله البلخي: أدب العلم أكثر من العلم. والأدب شرط لحصول العلم، يلزم من وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم، فلا علم لمن لا أدب له. قيل: العون لمن لا عون له الأدب. وقال الأحنف بن قيس: الأدب نور العقل كما أنَّ النار نور البصر. ومن ثمَّ فإنك لا تتعجب أن يفرد أهل العلم مصنفات مستقلة في بيان الآداب الشرعية، " مثل: الآداب الحميدة والأخلاق النفيسة لابن جرير الطبري ... (ت 311هـ)، " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر (ت 463هـ)، ... و" الآداب الشرعية والمصالح المرعية " لابن مفلح الحنبلي (ت 763هـ) وغيرها من الكتب النافعة الماتعة. ¬

(¬1) المجموع (1/ 36) ط دار الفكر. (¬2) ذكره الحاكم في تاريخه.

آداب طالب العلم

آداب طالب العلم فيا أيها المتفقه: تأدب قبل أن تتعلم، فإنك لن تنال من العلم طرفًا إذا لم تنل من الأدب أطرافه. واعلم ـ أعزك الله ـ أنَّ تهذيب النفس، وإصلاح خللها ليس بالأمر اليسير إلا من وفقه الله تعالى، فاصلح ما بينك وبين الله يستقم حالك، وهذه بعض الآداب عليك أن تسعى لتتحلى بها فهي زادك الحقيقي في طريق الطلب. أولا: طهارة القلب من الأدناس؛ ليصلح لقبول العلم واستثماره ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " (¬1) قالوا: تطييب القلب للعلم كتطييب الأرض للزراعة. وعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: وعد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جبريلُ أن يأتيه، فراث عليه حتى اشتد على رسول الله صلى اله عليه وسلم فخرج فلقيه جبريل، ¬

(¬1) فضل العلم وآداب طلبته وطرق تحصيله وجمعه للشيخ/محمد سعيد رسلان ص 119 ط مؤسسة الزهراء.

فشكا إليه فقال: " إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة " (¬1) فإذا كانت الملائكة لا يدخلون بيتًا فيه كلب فكيف ينزلون قلبًا مليئًا بالأنجاس والخبائث ومذموم الصفات مثل: الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب ونحوها، وهذه الصفات كالكلاب النابحات في الباطن فكيف يمكن أن تتفق هذه مع ملائكة الرحمة؟ (¬2) قال ابن جماعة: " القلب المظلم المشحون بالذنوب لا يستطيع استقبال الملائكة، ولا يبقى فيه مكان للعلم الذي هو نور يقذفه الله في قلوب من أراد. قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يُهدى لعاصٍ فعلى طالب العلم أن يطهر ظاهره بمجانبة البدعة والتحلي بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحواله كلها، والمحافظة على الوضوء ونظافة الجسم من غير تكلف وعلى قدر المستطاع. ¬

(¬1) (¬2)

ثانيا: الرضا باليسير

وعليه أن يطهر قلبه من كل غش ودنس وغل وحسد وسوء عقيدة وخلق ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه والاطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه، فإنه العلم. كما قال بعضهم: صلاة السر وعبادة القلب وقربة الباطن وكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة غلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث فكذلك لا يصح العلم الذي هو عبادة القلب غلا بطهارته عن خبث الصفات وحدث مساويء الأخلاق ورديئها " (¬1) قال سهل: حرام على قلب ان يدخله النور زفيه شيء مما يكره الله عز وجل. ثانيُا: الرضا باليسير من القوت، والصبر على ضيق العيش. قال الإمام أبو حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ: يستعان على الفقه بجمع الهم، ويستعان على حذف العلائق بأخذ اليسير عند الحاجة ولا يزد. قال الإمام مالك ـ رحمه الله تعالى ـ: لا يبلغ أحد من هذا العلم ما يريد حتى يضربه الفقر، ويؤثره على كل شيء. قال الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح. ¬

(¬1) تذكرة السامع والمتكلم ص 67

ثالثا: التواضع للعلم والعلماء

وقال أيضًا: لا يدرك العلم إلا بالصبر على الذل. وقال ـ رحمه الله ـ: لا يصلح طلب العلم لمفلس. فقيل: ولا الغني المكفي!! فقال: ولا الغني المكفي. قال إبراهيم الآجري: من طلب العلم بالفاقة ورث الفهم. قال ابن جماعة: من أعظم الأسباب المعينة على الاشتغال والفهم وعدم الملال أكل اليسير من الحلال ن ذلك أنَّ كثرة الأكل جالبة لكثرة الشرب وكثرته جالبة للنوم والبلادة وقصور الذهن وفتور الحواس وكسل الجسم، هذا مع ما فيه من الكراهية الشرعية والتعرض لخطر الأسقام البدنية " ثم قال: " ومن رام الفلاح في العلم وتحصيل البغية منه مع كثرة الأكل والشرب والنوم فقد رام مستحيلاً في العادة " (¬1) ثالثًا: التواضع للعلم والعلماء. قالوا: العلم حرب للمتعالي، كالسيل حرب للمكان العالي. فينبغي لطالب العلم أن ينقاد لمعلمه، ويشاوره في أموره، كما ينقاد المريض لطبيب حاذق ناصح. ¬

(¬1) المرجع السابق ص 73 - 74

قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: أهين لهم نفسي فهم يكرمونها ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها وينبغي أن ينظر معلمه بعين الاحترام ويعتقد كمال أهليته ورجحانه على أكثر طبقته، فهو أقرب إلى انتفاعه به ورسوخ ما سمعه منه في ذهنه. وقد كان بعض السلف إذا ذهب إلى معلمه تصدق بشيء وقال: اللهم استر عيب معلمي عني ولا تذهب بركة علمه مني. قال الشافعي: كنت أصفح الورقة بين يدي مالك ـ رحمه الله ـ صفحًا رفيقًا هيبة له لئلا يسمع وقعها. وقال أحمد بن حنبل لخلف الأحمر: لا أقعد إلا بين يديك أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه. وقال الربيع: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبة له. وفي وصية جامعة للإمام علي ـ رضي الله عنه ـ قال: من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرنَّ عنده بيدك، ولا تعمدنَّ بعينك غيره، ولا تقولن: قال فلان خلاف قوله، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا تسار في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليها منها شيء.

رابعا: أداء حقوق معلمك عليك

رابعًا: أداء حقوق معلمك عليك. على طالب العلم أن يتحرى رضا المعلم وإن خالف رأي نفسه، فإنما هو يرضي ربه برضا معلمه. وعليه ألا يفشي سر معلمه، وألا يغتاب عنده أحدًا، وأن يرد غيبته إذا سمعها، فإن عجز فارق ذلك المجلس. وآهٍ ممن ينقل السوء ويسعى بالنميمة بين أهل العلم، فيقطع رحمهم الموصولة، وقد ابتلينا في هذا الزمان بأمثال هؤلاء، فكم من خلافات شبت بسبب هؤلاء النمامين، وليته صمت فنجا، وليته أمسك لسانه، ولكن ذهب الأدب. ومن الأدب كذلك ألا يدخل عليه بغير إذن، وإذا دخلوا عليه جماعة قدموا أفضلهم وأسنهم. وينبغي أن لا يخاطب شيخه بتاء الخطاب وكافه ن ولا يناديه من بعد، ولا يسميه في غيبة باسمه إلا مقرونًا بما يشعر بتعظيمه كأن يقول: قال الشيخ أو الأستاذ. وعليه أن يصبر، فلن ينال العلم إلا بذل النفس، فيصبر على شدة شيخه به، فإنما يريد به الخير من حيث لا يدري. قال ابن جريج ـ رحمه الله ـ: لم أستخرج الذي استخرجت من عطاء ـ رحمه الله ـ إلا برفقي به.

خامسا: التحلي بآداب مجلس العلم

خامسًا: التحلي بآداب مجلس العلم. ينبغي لطالب العلم أن يدخل على معلمه وهو كامل الهيئة، فارغ القلب من الشواغل، متطهرًا متنظفًا بسواك وقص شارب وظفر، وإزالة كريه رائحة. ولا يتخطى رقاب الناس، بل يجلس حيث انتهى به المجلس، إلا أن يصرح له الشيخ بالتقدم والتخطي، أو يعلم من حالهم إيثار ذلك. ويسلم على الحاضرين كلهم بصوت يسمعهم إسماعًا محققًا، ويخص الشيخ بزيادة إكرام، وكذلك يسلم إذا انصرف. ولا يقيم أحدًا من مجلسه، فإن آثره غيره بمجلسه لم يأخذه إلا أن يكون في ذلك مصلحة للحاضرين، بأن يقرب من الشيخ، ويذاكره مذاكرة ينتفع بها الحاضرون بها. ولا يجلس وسط الحلقة إلا لضرورة، ولا بين صاحبين إلا برضاهما، وإذا فسح له قعد وضم نفسه. وينبغي أن يبكر للمجلس، ويحرص على القرب من الشيخ ليفهم كلامه فهمًا كاملاً بلا مشقة، وهذا بشرط أن لا يرتفع في المجلس على أفضل منه. ويتأدب مع رفقته وحاضري المجلس فإنَّ تأدبه معهم تأدب مع الشيخ واحترام لمجلسه.

سادسا: أدب سؤال العالم

وإذا قعد قعد قعدة المتعلمين لا قعدة المعلمين. ولا يرفع صوته رفعًا بليغًا من غير حاجة، ولا يضحك، ولا يكثر الكلام بلا حاجة ن ولا يعبث بيده ولا غيرها، ولا يلتفت بلا حاجة، بل يقبل على الشيخ مصغيًا إليه. وإذا سمع الشيخ يقول مسألة أو يحكي حكاية وهو يحفظها فعليه أن يصغي لها إصغاء من لم يحفظها. وإذا جاء مجلس الشيخ فلم يجده انتظره، ولا يفوت درسه إلا أن يخاف كراهة الشيخ لذلك بأن يعلم من حاله الإقراء في وقت بعينه فلا يشق عليه بطلب الإقراء في غيره. سادسًا: أدب سؤال العالم. ينبغي لطالب العلم أن يغتنم سؤال معلمه عند طيب نفسه وفراغه. وعليه أن يتلطف في سؤاله، ويحسن خطابه. ولا يستحي من السؤال عما أشكل عليه، بل يستوضحه أكمل استيضاح، فمن رقَّ وجهه رق علمه، ومن رقَّ وجهه عند السؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرجال. وإذا قال له الشيخ: أفهمت؟! فلا يقل: نعم حتى يتضح له المقصود إيضاحًا جليًا لئلا يكذب ويفوته الفهم.

سابعا: عدم التسويف واغتنام الأوقات

وعليه ألا يستحي من قول: لم أفهم؛ لأن استثباته واستيثاقه يحصل له مصالح عاجلة وآجلة، فمن العاجلة حفظه المسألة وسلامته من كذب ونفاق بإظهاره فهم ما لم يكن فهمه. ومنها اعتقاد الشيخ اعتناءه ورغبته وكمال عقله وورعه وملكه لنفسه وعدم نفاقه. ومن الآجلة: ثبوت الصواب في قلبه دائمًا واعتياده هذه الطريقة المرضية والأخلاق الرضية. قال الخليل بن أحمد ـ رحمه الله ـ: منزلة الجهل بين الحياء والأنفة. سابعًا: عدم التسويف واغتنام الأوقات. فلا يسوف في اشتغاله ولا يؤخر تحصيل فائدة، فللتأخير آفات، وكفى أنه يضيع عليه من الفوائد ما كان يمكنه الإلمام بها لولا تقصيره وكسله.

قال الربيع: لم أرَ الشافعي آكلاً بنهار ولا نائمًا بليل لاهتمامه بالتصنيف. فينبغي أن يغتنم التحصيل في وقت الفراغ والنشاط وحال الشباب وقوة البدن ونباهة الخاطر وقلة الشواغل قبل عوارض البطالة وارتفاع المنزلة. قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: تفقهوا قبل أن تسودوا. قال الشافعي: تفقه قبل أن ترأس، فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه. ولعلَّ الباعثَ على توقيرِ مُعَلِّمِك واحترامِه وأداءِ حَقِّه ينبعُ من معرفةِ شأنِ العلماءِ ومنزلتِهم في شريعةِ الإسلامِ، وكثيرٌ يخلطُ بينَ التوقيرِ والتعصبِ، وهذه آفةُ الجهلِ وسوءِ النيةِ، فأنت حين توقرُ مُعَلِّمَك فإنَّما تطيعُ اللهَ ورسولَه، وتلتزمُ بشريعةِ الإسلامِ التي أوجبتْ عليك ذلك، فطاعتُهم ليستْ مقصودةً لذاتِها، بل هي تبَعٌ لطاعةِ اللهِ ورسولهِ - صلى الله عليه وسلم -. قال اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. قال ابنُ عباسٍ رَضي اللهُ عنهما: يعني أهلَ الفقهِ والدينِ، وأهلَ طاعةِ اللهِ الذين يُعَلِّمَون الناسَ معاني دينِهم، ويأمرونهم بالمعروفِ، وينهونهم عن المنكرِ، فأوجب اللهُ سبحانَه طاعتَهم على عبادِه" (¬1). ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (5/ 149).

ورجَّح شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ أنَ "أولي الأمرِ" هم العلماءُ والأمراءُ جميعًا، وكذا الحافظُ ابنُ كثيرٍ، وابنُ القيمِ -رحمهما الله- وغيرُهما. فطاعةُ العلماء تبَعٌ لطاعةِ اللهِ تعالى، فالعلماءُ بمثابةِ الأَدِلَّاءِ، بهم يُعْرَفُ حكمُ اللهِ، ويستعانُ بفهمِهم لفهم مرادِ اللهِ تعالى ومرادِ رسولهِ - صلى الله عليه وسلم -، لا أنَّ طاعتَهم مقصودةٌ لذاتِها. ومن هنا يتبينُ الفرقُ بينَ التَعصُّبِ للآراءِ والأشخاصِ وبينَ الاستعانةِ بفهمِ هؤلاءِ العلماءِ للدلالةِ على الطريقِ، لأنهم الثقاتُ، ورثةُ الأنبياءِ، المشهودُ لهم بالعدالةِ، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]. قال ابنُ القيمِ -رحمه الله-: وفي ضمنِ هذه الشهادةِ الإلهيةِ الثناءُ على أهلِ العلمِ الشاهدين بها وتعديلُهم (¬1). ثمَ إنَّ الله اخْتَصَّهم دونَ سواهم بفهمِ آياتهِ، فخَوَاصُّ الأدلةِ -وهي الأمثالُ- تُضربُ للناسِ كلِّهم، ولكنَّ تعقلَها وفهمَها خاصٌّ بأهلِ العلمِ، قال تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (3/ 473).

فإذا تقرر هذا الأمرُ، فينبغي أن نعلمَ: أولًا: أنَّ النَّاس في شأنِ توقيرِ العلمِ والعلماءِ بينَ طَرَفينِ وَوَسطٍ: فقومٌ غُلاةٌ قد جَعَلوا للعلماءِ قَدَاسةً بحيث لا يُسألون عمَّا يفعلون، فمثلُ هؤلاءِ كاليهودِ الذين اتخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أربابًا مِن دونِ اللهِ، أو كالرافضة الذين جعلوا لأئمتِهم منزلةً لا يَصِلُها مَلَكٌ مقربٌ ولا نبيٌّ مرسَلٌ. وقومٌ أَهْدَروا مكانة العلماءِ، فاسْتَخَفُّوا بأقدارِهم، وسَمَّموا العقولَ تحتَ شعاراتٍ بَرَّاقَةٍ مثل (لا كهنوتَ في الإسلامِ)، (لا قداسةَ لأحدٍ في الإسلامِ)، ومثلُ هؤلاءِ كالخوارجِ الذين لم يرفعوا بساداتِ علماءِ الصحابةِ رأسًا. وأهلُ الحقِّ بينَ هذينِ الطرفينِ، فحفظوا لأهلِ العلمِ أقدارَهم، وعَرَفوا أنهم أَدِلَّاءُ على حكمِ اللهِ، فلا قداسةَ لهم في ذواتِهم، ولا عصمةَ لأحدٍ سوى لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فعرفوا الرجالَ بالحقِّ، لا الحقَّ بالرجالِ. قال الإمامُ أحمدُ: رأيُ الأوزاعيِّ، ورأيُ مالكٍ، ورأيُ أبي حنيفةَ، كُلُّه رأيٌ، وهو عندي سواءٌ، وإنَّما الحجةُ في الآثارِ (¬1). ¬

_ (¬1) "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 149).

قال الإمامُ الشاطبيُّ:- وهذا لسانُ حالِ الجميعِ، ومعناه أنَّ كل ما يتكلمون به على تحري أنه طَابَقَ الشَّريعةَ الحاكِمةَ، فإنْ كان كذلك فبها ونعمت، وما لا فليس بمنسوبٍ إلى الشريعةِ، ولا هُمْ أيضًا مِمَّن يَرْضَى أن تُنسبَ إليهم مخالفتُها. ثانيًا: أنَّ الأخذَ عن العلماءِ لا يقتصرُ على مجردِ العلمِ ومسائلهِ، بل يُؤخذُ عنهم الهديُ الظاهرُ والسَّمْتُ، وهذا لا يتأتى دونَ ملازمتِهم والجلوسِ إليهم. قال ابنُ سيرين: كانوا يتعلمون الهديَ كما يتعلمون العلمَ (¬1). ثالثًا: أنَّ هذا القدرَ الواجبَ من التوقيرِ والتقديرِ والاحترامِ والطاعةِ للعالمِ لا يكونُ إلا بالشرعِ، فمتى ما خالف العالمُ الشريعةَ، أو قام بخارمٍ لدينهِ، فإنه لا طاعةَ له، وحَذَارِ هنا مِن أقوالِ الأقرانِ مِن أهلِ العلمِ؛ فإنها تُطْوَى ولا تُرْوَى، بل على طالبِ العلمِ توقيرُ الجميعِ دونَ حطِّ من قدرِ أحدِهم بسببِ خصوماتٍ تحدث بينَ الأقرانِ في كل زمانٍ، أو تحدثُ بسببِ التَّحاسدِ أو الضغائنِ، فإياك وهذه؛ فإنها حالقةُ الدِّينِ. ¬

_ (¬1) "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب البغدادي (ص 79).

قواعد في التعامل مع العلماء

قواعد في التعامل مع العلماء وإنِّي مُتْحِفُك بخَمْسَ عشرةَ قاعدةً تضبطُ من خلالِها تعاملَك مع العلماءِ، قد اختصرتُها لك من كتابِ "قواعد في التعامل مع العلماء" (¬1)، نسألُ اللهَ تعالى أنْ يُعَلِّمَنا ما ينفعُنا، وأنْ ينفعَنا بما يعلُمنا، وأنْ يُزَيِّنَّا بالأدبِ، وأن يَزِيدنا علمًا، وقد وَفَّقَنا اللهُ تعالى لزيادةِ بعضِ القواعدِ والحواشي فللَّه الحمدُ والمنَّةُ. القاعدةُ الأولى: موالاةُ العلماءِ ومحبتُهم: فإن أولى الناس بالموالاةِ، وأحقهُم بالمحبةِ في اللهِ بعدَ الأنبياءِ هم العلماءُ. قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: فيجبُ على المسلمين بعدَ موالاةِ اللهِ تعالى ورسولِه - صلى الله عليه وسلم - موالاةُ المؤمنين كما نَطَق به القرآنُ، خصوصًا العلماءَ الذين هم ورثةُ الأنبياءِ، الذين جَعَلَهم اللهُ بمنزلةِ النجومِ يُهتدى بهم في ظلماتِ البرِّ والبحرِ، وقد أجمع المسلمون على هدايتهِم ودرايتِهم (¬2). فيلزمُك -أيها المتفقه- أن تُحِبَّ شيخَك، فهذا كان معيارَ الخيرِ الذي يقاس به النَّاسُ عند السَّلَف - رضوان الله عليهم. ¬

_ (¬1) راجع الفصل الثاني (ص 75 - 184). (¬2) "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" (ص 11).

القاعدة الثانية: احترام العلماء وتقديرهم

قال الإمامُ الطحاويُّ -رحمه الله-: وعلماءُ السلفِ من السابقين ومَنْ بعدَهم من التابعين أهلُ الخبرِ والأثرِ، وأهلُ الفقهِ والنظرِ، لا يُذكرون إلا بالجميلِ، ومَن ذكَرهم بسوءٍ فهو على غيرِ السبيلِ (¬1). وموالاةُ العلماءِ لا تعني التعصبَ لذواتِهم أو آرائِهم -كما تقدم بيانه- فالمسلمُ الحق مَنْ لا يجعلُ الموالاةَ والمعاداةَ على أساسٍ غيرِ الكتابِ والسُّنةِ، أمَّا الغلو فإنه شِيمَةُ أهلِ الأهواءِ والجُهَّالِ. حَجَّ بشرٌ المريسيُّ المبتدعُ، فلما قَدِم قال: رأيتُ بالحجازِ رجلًا ما رأيتُ مثلَه سائلًا ولا مجيبًا -يعني الشافعي- قال: فقدم علينا، فاجتمع إليه النَّاسُ وخَفُّوا عن بشرٍ، فلمَّا قدم النَّاسُ لبشرٍ يخبرونه بشأنِ الشافعيِّ وشدتِه عليه قال: قد تغير عمَّا كان عليه. فهكذا أحبَّ لهواه وأَبْغَضَ لهواه (¬2). القاعدةُ الثانيةُ: احترامُ العلماءِ وتقديرُهم: قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ مِنْ أمَّتي من لمْ يُجِلَّ كبيرَنا، ويرحمْ صغَيرنَا، ويعرفْ لعالمنِا حَقَّه" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ من إجلالِ الله إكرامَ ذي الشَّيبةِ المسلمِ، وحاملِ القرآنِ غير الغَالي فيه والجافي عَنْه، وإكرامَ ذي السُّلطانِ المُقْسِطِ" (¬4) ¬

_ (¬1) "شرح العقيدة الطحاوية" (2/ 740). (¬2) انظر هذه القصة في "تاريخ بغداد" (2/ 65). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (5/ 323)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 211)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (5319). (¬4) أخرجه أبو داود (4843)، ك: الأدب، باب: في تنزيل الناس منازلهم.

القاعدة الثالثة: السعي إلى العلماء والرحلة إليهم طلبا لعلمهم

قال طاووسٌ: من السُّنةِ أن يُوَقَّرَ أربعةٌ: العالمُ، وذو الشيبةِ، والسلطانُ، والوالدُ. أما ترى ابنَ عباسٍ - رضي الله عنهما - يأخذُ بركابِ زيدِ بنِ ثابتٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - ويقولُ: هكذا أُمِرْنا أنْ نفعلَ بعلمائِنا وكبرائِنا. بل كان - رضي الله عنه - يأتي الصحابيَّ يخبره بحديثٍ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فينتظرُه حتى يخرجَ من بيتهِ حتى تُسفي الريحُ على وجهِه طلبًا للعلم (¬1). وهذا الإمامُ مسلمٌ يَهُمُّ بتقبيلِ رِجْلِ البخاريِّ ويقولُ: دَعْنِي حتى أقبلَ رجليك يا أستاذَ الأستاذينَ، وسيدَ المحدثينَ، وطبيبَ الحديثِ في عللِه (¬2) .. القاعدةُ الثالثةُ: السَّعيُ إلى العلماءِ والرحلةُ إليهم طلبًا لعلمِهم: فلا يفوتنَّك لقاءُ العالمِ، وكيف بطالبِ العلمِ أن يسمعَ بعالمٍ على الأرضِ ولا تتوقَ نفسُه إلى لُقْياه، بل إنَّه ليتحسَّرُ ويَشْتدُّ أسفُه إذا سَمِع بعالمٍ معاصرٍ له ولم يَرَه، فأين نحن من السَّلفِ الذين جعلوا المعاصرةَ كحكم اللُّقيا، إذ كان من المتعذرِ عندَهم أن يعاصرَ طالبُ العلمِ عالمًا -لا سيما في بلدتِه- ولا يأخذ عنه. ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (3/ 423) وصححه ووافقه الذهبي. (¬2) "البداية والنهاية" (11/ 340).

القاعدة الرابعة: الصبر على العلماء وشدتهم أحيانا

قال ابنُ مهديٍّ -رحمه الله-: كان الرجلُ من أهلِ العلمِ إذا لَقِي مَن هو فوقَه في العلمِ فهو يومُ غنيمتِه؛ سأله وتَعَلَّم منه، وإذا لَقِي مَن هو دونَه في العلمِ عَلَّمه وتواضع له، وإذا لَقِي مَن هو مثلُه في العلمِ ذاكره ودارسه (¬1). قال ميمونُ بنُ مهران -رحمه الله-: العلماءُ هم ضالتي في كل بلدٍ، وهم بغيتي إذا لم أجدْهم، وجدتُ صلاحَ قلبي في مجالسةِ العلماءِ. وقال أبو الدرداءِ: مِن فِقْهِ الرجلِ ممشاه ومدخلُه ومخرجُه مع أهلِ العلمِ (¬2). القاعدةُ الرابعةُ: الصبرُ على العلماءِ وشدتِهم أحيانًا: قال لقمانُ لابنهِ: اصبرْ نفسك لمن هو فوقَك في العلمِ ولمن هو دونَك، فإنَّما يَلْحَقُ بالعلماءِ مَن صَبَر لهم ولازمهم واقتبس مِن علمِهم في رفقٍ (¬3). قال ابنُ ماجه -رحمه الله-: جاء يحيى بنُ معينٍ إلى أحمدَ بنِ حنبلٍ، فبَيْنَا هو عندَه إذ مَرَّ الشافعيُّ على بغلتِه، فوثَب أحمدُ يُسَلِّمُ عليه وتَبِعَه فأبطأ، ويحيى جالسٌ، فلمَّا جاء قال يحيى: يا أبا عبدِ اللهِ، لِمَ هذا؟ فقال: دَعْ عنك هذا، إنْ أردتَ الفقهَ فالزمْ ذَنَبَ البغلةِ (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص 206). (¬2) "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 127). (¬3) المصدر نفسه (1/ 107). (¬4) "سير أعلام النبلاء" (10/ 86 - 87).

القاعدة الخامسة: رعاية مراتب العلماء

وهذا يحيى بن معين -رحمه الله- يَرْفِسُه أبو نعيمٍ الفضلُ بنُ دكينٍ -رحمه الله- ويرمي به؛ لأنه أراد أن يختبرَه، فيقول يحيى -رحمه الله-: واللهِ لرفستُه لي أحبُّ إليَّ مِن سَفْرتي (¬1). وقال الشافعيُّ -رحمه الله-: قيل لسفيانَ بنِ عيينةَ: إنَّ قومًا يأتونك من أقطارِ الأرضِ تغضبُ عليهم، يوشكُ أن يذهبوا أو يتركوك. فقال للقائل: هم إذًا حمقى مثلُك، إن تركوا ما ينفعُهم لسوءِ خُلُقي. -أيها المتفقه-، قد علمتَ أنَّ العلمَ لا يُنالُ إلا بذلِّ النَّفْسِ، فلابُدَّ لك من صبرٍ، فبدونه لن تنالَ غايتَك، ومن ذلك أن تصبرَ على شدةِ العلماءِ، فإنَّ من النَّاسِ مَن لا يحسنُ تزكيتُه إلا بالشديدِ من الأقوالِ والأفعالِ، وقد يَرَى شيخُك فيك ما لا تراه من نفسِك من الآفاتِ المهلكاتِ، فيشتدُّ عليك رأفةً بك وحرصًا عليك، فَتَدَبَّرْ! القاعدةُ الخامسةُ: رعايةُ مراتبِ العلماءِ: فالعلمُ مراتبُ، ولكلِّ عالمٍ منزلةٌ، وقد أُمِرنَا بأن نُنْزِلَ النَّاسَ منازلَهم، وتقديرُ هذه المنازلِ ينبغي أن يكونَ لمن أُوتي قدرًا من العلمِ، لا إلى الجُهَّالِ. قال الإمام الذهبي: الجاهلُ لا يعلمُ رُتبةَ نفسِه، فكيف يعرفُ رتبةَ غيرِه (¬2). ¬

_ (¬1) المصدر نفسه. (¬2) "السير" (11/ 221).

ومن مراعاة مراتب العلماء

ومن مراعاةِ مراتبِ العلماءِ: 1 - أن تراعيَ تخصصَه: حيث يغلبُ على العالم فن من فنونِ العلمِ، فيكونُ لقولِه في هذا الفن من الاعتبارِ ما ليس لقولِ غيرِه. قال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: خَطَب عُمر بنُ الخطابِ -رضي الله عنه- النَّاسَ بالجابيةِ، وقال: يا أيها الناسُ، مَن أراد أن يَسألَ عن القرآنِ فليأت أُبيَّ بنَ كعبٍ -رضي الله عنه- ومَن أراد أن يَسألَ عن الفرائضِ فليأت زيدَ بنَ ثابتٍ -رضي الله عنه- ومَن أراد أن يَسألَ عن الفقهِ فليأت معاذَ بنَ جبل -رضي الله عنه-. 2 - أن تراعيَ عُمُرَهُ وسِنَّه. فكلما كان العالم أقدمَ كان في العادةِ أكثرَ رسوخًا، إذ العلمُ تراكميٌّ، فيزدادُ بمرورِ الوقتِ، ويصيرُ للعالم الأَسَنِّ من التجاربِ والمعرفةِ ما ليس لغيرِه. لذلك ذَمَّ السَّلفُ الأخذَ عن الصغارِ، إذ ذلك من أشراطِ الساعةِ. قال عُمر -رضي الله عنه-: فسادُ الدينِ إذا جاء العلمُ من قِبَلِ الصغيرِ استعصى عليه الكبيرُ، وصلاحُ الناسِ إذا جاء العلمُ من قِبَلِ الكبيرِ تابعه عليه الصغيرُ (¬1). ¬

_ (¬1) رواه القاسم بن أصبغ في "مصنفه" بسند صحيح صححه الحافظ في "الفتح" (13/ 301).

القاعدة السادسة: حذار من القدح في العلماء

وقال -رضي الله عنه-: ألا وإنَّ الناس بخيرٍ ما أخذوا العلمَ عن أكابرِهم، ولم يَقُم الصغيرُ على الكبيرِ، فإذا قام الصغيرُ على الكبيرِ فقد (¬1) - أي هلكوا. ويَصْدُقُ في ذلك قولُ القائلِ: متى يصلُ العطاشُ إلى ارتواءٍ ... إذا اسْتَقَت البحارُ مِن الرَّكايا (¬2) والشريعةُ جاءت بالمحافظةِ على قدرِ الكبيرِ، فهو المُقدَّمُ للإمامةِ في الصلاةِ عند التَّساوي في القراءةِ والعلمِ، فواجبُ الأحداثِ أن يتفرغوا للطلبِ والتَّلقي، فهذا زمانُ الأخذِ فانْهَلْ، أمَّا الكبيرُ فزمانُه زمانُ الإنفاقِ، فَلْيَجُد ولا يَبْخَلْ. ومِن أَسَفٍ أنْ تَرَى بعضَ الناسِ يأخذُ عن بعضِ طلبةِ العلمِ الصغارِ ما يتعارضُ مع ما يَرَاه الأَجِلَّةُ من العلماءِ، وأن يحفظَ لطالبِ العلمِ من الحقوقِ ما لا يحفظُ لغيرِه من أكابرِ العلماءِ، فاحفظْ -أيها المتفقه- للعلماءِ مراتبَهم. القاعدةُ السَّادسةُ: حَذَارِ من القدحِ في العلماءِ: فطالبُ العلم عفيفُ اللسانِ، ذليلُ النفْسِ، بغيتُه رضا رَبِّه، ووسيلتُه إلى ذلك الأخذُ عن أهلِ العلمِ والفضلِ، فكلُّهم ذوو شأنٍ عندَه ومكانةٍ، لا يَحُطُّ من قَدْرِ أحدِهم، لا يُنْصِتُ لفاحشِ القولِ فيهم، بل ¬

_ (¬1) "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 158). (¬2) "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 304).

يَرُدُّ غيبتَهم، وإن لم يستطعْ فارق تلك المجالسَ التي تعقدُ في "تصنيفِ العلماءِ" و "النيلِ منهم" و "القدحِ في ذواتِهم أو آرائِهم"، وهي مجالسُ لا تبوءُ بصاحبِها إلى خيرٍ البتةَ. فالقدحُ في العلماءِ مُحَرَّمٌ؛ لأنهم من المسلمين، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحرمةِ يومِكم هذا في شهرِكم هذا في بلدِكم هذا" (¬1). ولمَّا كان القدحُ في العلماءِ مَطِيَّةً للقدحِ في الدينِ ازدادتْ حُرمةُ ذلك الصنيعِ شرعًا، إذ قاعدةُ الشريعةِ الأصيلةُ أنَّ للوسائلِ حكمَ المقاصدِ، فمتى ما أَفْضَتِ الوسيلةُ لمحرمٍ فإنها تُحَرَّمُ تبَعًا لأثرِها وما ينتجُ عنها. لذلك كان سَابُّ الصحابةِ زنديقًا؛ لأنَّ انتقاصَ الصحابةِ انتقاصٌ للرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، إذ ما أقبحَ بالرجلِ أن يصحبَه صحابةُ السُّوءِ (¬2). وتواترت الآثارُ عن السَّلفِ في رميهم القادحَ في أهلِ العلمِ من التابعين فمن بعدَهم بالزندقةِ، وهذا محمولٌ على الكلامِ في العالمِ بظلمٍ وهوى. وكان السَّلفُ يعظمون قدرَ العلماءِ، وَيرَوْن مَن اسْتَخَفَّ بهم على سبيلِ الهَلَكَةِ. ¬

_ (¬1) متفق عليه. أخرجه البخاري (67) ك العلم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رب مبلغ أوعى من سامع"، ومسلم (1679) ك القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال. (¬2) انظر "تاريخ بغداد" (10/ 174).

قال ابنُ المباركِ -رحمه الله-: فإنَّه من اسْتَخَفَّ بالعلماءِ ذَهَبَت آخرتُه. (¬1) فالاستخفافُ بالعلماءِ إيذاءٌ لهم، وهم أولياءُ اللهِ تعالى، ومَن آذى أولياءَ اللهِ تعالى أَوْشَكَ أن تتنزلَ عليه لعناتُ اللهِ تعالى ومقتُه. - وفي الحديث القدسي: "مَنْ عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحربِ" (¬2). - ولقد قال رجل من المنافقين: ما رأيتُ مثلَ قُرَّائِنا هؤلاءِ أرغبَ بطونًا، ولا أكذبَ لسانًا، ولا أجبنَ عندَ اللقاءِ. فأنزل الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)} [التوبة: 65، 66]. فرَدَّ اللهُ على اعتذارِهم غيرِ المقبولِ، وجَعَل استهزاءَهم بالرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وصحبِه استهزاءً به سبحانَه، وهذا يدلُّ على خطورةِ الأمرِ. ثمَّ إنَّ القدحَ في العلماءِ والاستخفافَ بهم من جملةِ الغِيبةِ المنهيِّ عنها، وغِيبةُ العالمِ أعظمُ من غِيبةِ غيرِه لِعِظَمِ قدرِه، ولعلَّ من أفضلِ ما قيل في هذا الأمرِ كلمةَ الإمامِ الحافظِ ابنِ عساكرَ الدمشقيِّ -رحمه الله-. قال: اعلم يا أخي -وفقني اللهُ وإياك لمرضاتِه، وجَعَلَنا ممن يخشاه ويتقيه حَقَّ تقاتِه- أنَّ لحومَ العلماءِ مسمومةٌ، وعادةُ اللهِ في هَتْكِ أستارِ ¬

_ (¬1) "السير" (17/ 251). (¬2) أخرجه البخاري (6502) ك الرقاق. باب التواضع.

القاعدة السابعة: احذر من تخطئة العلماء بدون علم

منتقصيهم معلومة، لأنَّ الوقيعةَ فيهم بما هم منه بَراءٌ أمرُه عظيمٌ، والتناولُ لأعراضِهم بالزورِ والافتراءِ مَرْتَعٌ وخيمٌ، والاختلافُ على ما اختاره اللهُ منهم لنشرِ العلمِ خلق ذميم، وما وقع فيهم أحد بالثَّلْبِ إلا ابتلاه الله قبل موته بموت القلبِ (¬1). وكم أورث القدحُ في العلماء من بلايا!! ألم تَرَ إلى تسلطِ الأصاغرِ وإعجابِهم بآرائِهم دونَ مَن سواهم؟! ألم تَرَ الجرأةَ على التَّعدي على أهلِ العلمِ سلفًا وخلفًا؟ ألم تَرَ آفاتٍ كالعُجبِ والكِبرِ والخيلاءِ تَسْرِي كسريانِ الدمِ في العروقِ بين طلبةِ علمٍ في بدايةِ الأمرِ، ألم تَرَ مَن يقولُ: فلانٌ لا يُعتدُّ بتصحيحِه وتضعيفِه، وفلان لا يؤبه بقولِه، والحافظُ فلان كان على بدعةِ ضلالةٍ، والإمامُ فلان أخطأ في كيت وكيت، يا هذا مَالَك أنت بمثلِ ذلك؟ إنما شأنُك أن تتلقى وتتعلمَ، واتركْ شأنَ الأكابرِ لمن يماثلونهم، أمَّا أنت فعليك بخاصَّةِ نفسِك، فإنَّك مشمولٌ بسترِ اللهِ، ولو هَتَك السترَ لَبَانَ عَوَارُك، فلا تأمَن عاقبة مكرِ اللهِ تعالى. القاعدةُ السابعة: احذرْ من تخطئةِ العلماء بدونِ علمٍ: نَعَمْ؛ العلماءُ بَشرٌ يُخطئون وُيصيبون، وأَبَى اللهُ تعالى أن تكونَ العصمةُ إلا لرسولِه - صلى الله عليه وسلم -. وقد يُبْصِرُ طالبُ العلمِ خطأَ شيخِه، وقد تخرجُ فتوى لأحدِ العلماءِ فيعارضُها جماهيرُ العلماء فيتبينُ لطالبِ العلمِ عن طريقِ نَصْبِ الأدلةِ أنَّ هذا العالمَ أخطأ في هذا الأمرِ، فَتُرى كيف يتعاملُ مع هذا الواقعِ حينئذٍ. ¬

_ (¬1) "تبيين كذب المفترى" (ص 28).

أكبرُ المزالقِ التي تَزِل فيها أقدامُ بعضِ طلبةِ العلمِ أنه إذا تبين له خطأ شيخِه انحطَّ قدرُه في قلبِه، ويبدأ في الجرأةِ عليه، ولربَّما نال منه في غيبتِه، لا سيمَّا في المسائلِ التي تُسَمَّى بالطبوليات، لأن زلةَ العالمِ مضروبٌ لها الطَّبلُ. وهدي السَّلفِ على خلافِ ذلك، فالشأنُ حينئذٍ أن تلتمسَ للعالمِ العُذْرَ، واضربْ لخطئه ألفَ "لَعَلَّ"، فإنها المأمنُ من الوقيعةِ في أهلِ العلمِ. ولله دَرُّ الإمامِ الذهبي عليه رحَمات اللهِ وبركاته؛ فقد ضربَ لنا مئاتِ الأمثلةِ على حسنِ الخلق وكيفية التعاملِ مع أخطاءِ العلماءِ والردِّ عليها في كتابهِ القيم "سيرُ أعلام النبلاءِ" ومن ذلك هذا الموقفُ الطيبُ حين ساقَ خبرًا: أَنَّ وكيعًا -رحمه الله- كان يصومُ في الحضرِ والسفرِ ويختمُ القرآنَ كلَّ ليلةٍ فقال معلقًا: "قلتُ: هذه عبادة يخضعُ لها، ولكنها من مثلِ إمامٍ من الأئمةِ الأثَرية مفضولَة، فقد صحَّ نهيُه عليه السلام عن صومِ الدَّهر، وصحَّ أنه نهى أن يُقرأَ القرآنُ في أقلَّ من ثلاث، والدِّين يُسْرٌ، ومتابعةُ السُّنَّةِ أولى، فرضيَ الله عن وكيع، وأينَ مثلُ وكيع؟ ومعَ هذا فكان مُلازِمًا لشُربِ نبيذِ الكوفة الذي يُسْكِرُ الإكثارُ منه فكان مُتأَوِّلًا في شُربه، ولو تركه تورُّعًا، لكان أولى به، فإنَّ مَنْ تَوَقَى الشُبهات، فقد استبرأَ لدِينِهِ وعِرْضِه". أمَّا إذا كان الخطأ لم يحدثْ، وتناقل الأحداثُ مثلَ هذه الأباطيلِ، فهذا يدلُّ على سوءِ الطَّوِيَّةِ، وجَهْلٍ بقدرِ العلماءِ، إذ التثبتُ أولُ خصالِ أولي العلمِ.

ذكر الإمامُ الذهبي -رحمه الله- أنَّ أبا كاملٍ البصريَّ قال: سمعتُ بعضَ مشايخي يقولُ: كنَّا في مجلسِ ابنِ خَنْب فأملى في فضائل عليٍّ -رضي الله عنه- بعدَ أنْ كانَ أمْلىَ فَضَائلَ الثَّلاثةِ، إذْ قالَ أبو الفَضْلِ السُّلَيمانيُّ وصاح، أيها النَّاسُ، هذا دَجَّالٌ فلا تكتبوا، وخرج من المجلسِ؛ لأنه ما سَمِع بفضائلِ الثلاثةِ. قال الذهبي -رحمه الله-: وهذا يدلُّ على زَعَارَّةِ السُّليمانيِّ وغلظتِه، اللهُ يسامحُه (¬1). ومن البلايا الشائعةِ رَمْيُ أهلِ العلمِ بالابتداعِ بدونِ علمٍ، وعادةً لا يكونُ للقائلِ بهذا مِن دليلٍ أو بُرهانٍ، والعِبرةُ في ذلك لقولِ الأئمةِ لا إلى رأي آحادِ النَّاسِ. وقد رُمِي الإمامُ الشافعيُّ والإمامُ أحمدُ ببدعةِ التَّشَيُّعِ، وحاشاهما، وإنَّما يُشاعُ حَسَدًا أو جَهْلًا أو افتراءً للوقيعةِ، ولم يَخْلُ للأسفِ من هؤلاءِ زمانٌ. أو يُرمى العالمُ بعدمِ المعرفةِ بالواقعِ، كما يدندنُ بذلك العلمانيون الخبثاءُ للنيلِ من أهلِ الدينِ. يقول شيخنا الكريم سماحةُ الشيخِ -عبدُ العزيزِ بنُ بازٍ - رحمه الله-: الواجبُ على المسلمِ أن يحفط لسانَه عمَّا لا ينبغي، وألا يتكلمَ إلا عن بصيرةٍ، فالقولُ أن فلانًا لم يَفْقَه الواقعَ، هذا يحتاجُ إلى علمٍ، ولا يقولُه إلا مَنْ عندَه علم حتى يستطيعَ الحكمَ بأنَّ فلانًا يَفْقَه الواقعَ، أمَّا أَنْ يقولَ هذا جُزافًا، ويحكمَ برأيِه على غيرِ دليلٍ، فهذا منكرٌ عظيم لا يجوزُ (¬2). ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (15/ 524). (¬2) مجلة رابطة العالم الإسلامي عدد (313).

القاعدة الثامنة: التمس للعالم العذر

فإياك وهذا السبيلَ -أيها المتفقه- لا تجمعُ الزَّلاتِ، ولا تقلُ إلا خيرًا، وإلا فاصمتْ فإنها الوصيةُ النبويةُ الذَّهبيةُ. القاعدةُ الثامنةُ: التمس للعالمِ العُذْرَ: الأصل في تعاملِ المسلمين بعضِهم البعض يقومُ على أساسِ حسنِ الظنِّ المتبادلِ، قال تعالى في حادثةِ الإفكِ: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]. فالواجب على أهلِ الإيمانِ أن يظنوا الخيرَ في إخوانِهم، فإنْ بَلَغَك عن أخيك خلافُ ذلك فالتمسْ له عذرًا، فإنْ لم تَجِدْ فَقُلْ: لَعَلَّ له عذرًا. قال عُمر -رضي الله عنه-: لا تظن بكلمةٍ خرجتْ من أخيك المسلمِ سوءًا وأنت تَجِدُ لها في الخيرِ مَحْمَلًا (¬1). فإذا كان هذا شأنَ الإخوةِ بعضِهم مع بعضٍ، فما بالُك بحالِ التلميذِ مع شيخِه. لذلك يقول الإمامُ السُّبكيُّ: فإذا كان الرجلُ ثقةً مشهودًا له بالإيمانِ والاستقامةِ، فلا ينبغي أن يُحملَ كلامُه وألفاظُ كتاباتِه على غيرِ ما تُعُوِّد منه ومِن أمثالِه، بل ينبغي التأويلُ الصالحُ، وحسنُ الظنِّ الواجبُ به وبأمثالِه (¬2). وهذا -للأسفِ- قَلَّ وجودُه في زمانِنا، إذِ النَّفْسُ الطيبةُ لا تقعُ إلا على الطيبِ، والنَّفْسُ الخبيثةُ لا تقعُ إلا على الخبيثِ، فما إن يَزِل العالمُ، ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (4/ 213). (¬2) قاعدة في الجرح والتعديل (ص 93).

أو يُشاع عنه أمرُ سوءٍ، حتى ترى كُلًّا يطعنُ فيه، ويرميه بما ليس فيه، ولو بحث له عن عُذْر لوجد وايم الله، ولكنَّ النوايا ساءتْ، والطوايا خَبُثَتْ، فلم تَجِدْ إلا ما تَرَى وما تسمعُ. 1 - ومِن أكثرِ ما يهمزُ به العلماءُ السُّكوتُ في وقتِ المِحَنِ خوفًا، والأخذُ بالرُّخصةِ في ذلك، فيُلامُ على تركِ العزيمةِ بإشهارِ كلمةِ الحقِّ، وهذا -ولا شك- أولى في حقِّ العلماءِ الذين يُقتدى بهم، ولكنَّ العالمَ بَشَرٌ يَخافُ ويَخْشَى، لا سيمَّا مع كبرِ السِّنِّ وضعفِ البدنِ. فهذا عليُّ بنُ المدينيِّ -رحمه الله- يُجاري القومَ أثناءَ محنةِ خلقِ القرآنِ، فيُسألُ عن ذلك فيقولُ: قَوِيَ أحمدُ على السَّوطِ وأنا لا أَقْوَى. ويلومُه بعضُهم فيقولُ: ما في قلبي مما قلتُ وأجبت إلى شيءٍ، ولكنِّي خِفْتُ أنْ أقتلَ، وتعلم ضعفي أني لو ضربتُ سوطًا واحدًا لمتُ، أو نحو ذلك. 2 - ومن ذلك أيضًا شَغَبُ بعضِهم على العلماءِ في شأنِ أخذِ الأجرةِ على التعليمِ، أو الأخذِ من بيتِ المالِ. ومَن يتأمل حالَ الدعاةِ والعلماءِ في عصرِنا، العصر الذي لم يَعُدْ فيه بيتُ مالٍ ينفقُ على طلبةِ العلمِ والعلماءِ، فيضطرُ العالمُ أنْ ينفقَ وقتًا طويلًا من عُمره لكسبِ ما يَتَقَوَّتُ به وعياله، ناهيك عن كثرةِ المتطلباتِ من الكتب والرحلةِ في الدعوةِ أو الطلبِ، فمن أين لطالبِ علمٍ أو عالمٍ فقيرٍ بكلِّ هذا؟!!.

نَعَمْ، الورعُ يقتضى ألا يمدَّ العالمُ يدَه فيأخذ أجرةً على التَعليمِ أو التصنيفِ ونحو ذلك، ولكنْ ما البديلُ يا عبادَ اللهِ؟ هل البديلُ أن نتركَ العلماءَ وطلبةَ العلمِ للتكسبِ في زمنِ الغلاءِ فتنهشهم الدُّنيا؟! هل البديلُ أن يعيشَ هؤلاءِ على صدقاتِ أهلِ الإحسانِ، والنَّاسُ اليومَ لا يعرفون أنَّ مِن أوجبِ الصدقاتِ النفقةَ على طلبةِ العلمِ الذين عليهم حراسةُ الدينِ؟! إنني أعرفُ طلبةَ علمٍ نابغين، كان يُظَنُّ أنهم حملةُ الرايةِ عن قريبٍ، تخطفتهم الدُّنيا لضيقِ ذاتِ اليدِ، فإنَّ طالبَ العلمِ اليومَ يجدُ نفسَه محتاجًا لمالٍ كثيرٍ، ليرحلَ أو ليشتريَ كتبًا أو أشرطةً، وهو شابٌّ يحتاجُ للزواجِ في زمانِ الفتنِ هذا، فيحتاجُ لمالٍ آخرَ ليجدَ بيتًا وأثاثًا، وقد لا يجدُ من يُعينه على كلِّ ذلك، فلا يجدُ فرصةً سوى العملِ الدؤوبِ، فتقلُّ ساعاتُ المذاكرةِ حتى تراه بعدَ فترةٍ هجَر دروسَ العِلْمِ، ثمَ انكَبَّ على الدنيا، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله. وكلنا يعرفُ ذلك الأمرَ، ثمَّ تجدُ مَن يلومُ هذا العالمَ أو ذاك الداعيةَ أَنْ أَخَذ مالًا على جُهدٍ بَذَلَه في تصنيفٍ أو تعليمٍ. قال بشرُ بنُ عبدِ الواحدِ: رأيتُ أبا نُعَيْمٍ في المنامِ، فقلتُ: ما فَعَل اللهُ بك؟ -يعني فيما كان يأخذُ على الحديثِ- فقال: نَظَر القاضي في أمري فوجدني ذا عِيَالٍ فَعَفَا عَنِّي.

قال الإمامُ الذهبيُّ -رحمه الله- معقبًا: ثَبَت أنه كان يأخذُ على الحديثِ شيئًا قليلا لفقرِه. قال ابنُ خشرم: سمعتُ أبا نُعَيْمٍ يقول: يلومونني على الأخذِ، وفي بيتي ثلاثةَ عَشَرَ نفسًا، وما في بيتي رغيفٌ (¬1). 3 - ومما يُعتذرُ للعالمِ أيضًا ما يَصدرُ عنه مِن أفعالٍ وأقوالٍ تتماشى مع طبيعتِه الذاتية. فمثلًا: قد يكون العالمُ ذا طبيعةٍ متسامحةٍ، فيجالسُ أهلَ البدعِ -وحقُّه أن يَكْفَهِرَّ في وجوهِهم- ولكنْ يخالطُهم لما فيه من التسامحِ الزائدِ، فيظن الجاهلُ بحالِه أنَّ هذا العالمَ بخلطتِه أهلَ البدعِ صار منهم، ويقولُ لك: اعْرف الرجلَ بمن يَصْحَبُ. وتتقاذفُ التُّهمُ، وكم مَرَّ العلماءُ والدعاةُ إلى اللهِ بمثلِ ذلك، حتى يُرمى في عقيدتِه ودينهِ، وكلامُ الرَّجُلِ يشهدُ ببراءتِه، ولكن ما الصنيعُ فيمن لا يراعون اللهَ في علمائِهم ودعاتِهم. قال الواقديُّ -في الكلامِ على ابنِ أبي ذئبٍ-: "ورُمي بالقَدَرِ، وما كان قَدَرِيًّا، لقد كان يتقي قولَهم ويَعيبُه، ولكنَّه كان رجلًا كريمًا، يجلسُ إليه كلُّ أحدٍ، ويغشاه فلا يطردُه، ولا يقولُ له شيئًا، وإن مَرِض عاده، فكانوا يتهمونه بالقدرِ لهذا وشِبْهِه". قال الإمامُ الذهبيُّ -معقبًا-: كان حَقَّه أنْ يَكْفَهِرَّ في وجوهِهم، ولعله كان حَسَنَ الظنِّ بالنَّاسِ (¬2). ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (10/ 152). (¬2) "السير" (7/ 141).

القاعدة التاسعة: الرجوع إلى العلماء والصدور عن رأيهم خصوصا في الفتن

أليس هذا حاصلًا يا عبادَ اللهِ، ويمكنُ قبولُ العُذْرِ به، فلماذا لا تُتَلَمَّسُ الأعذارُ، ويكونُ حُسْنُ الظنِّ متوافرًا بين الخَلْقِ، اللَّهم إليك المشتكى. القاعدةُ التَّاسعةُ: الرجوعُ إلى العلماءِ والصُّدورُ عن رأيهم خصوصًا في الفتنِ: فشأنُ الفتن أن تشتبه الأمورُ فيها، ويكثرَ الخلطُ والزيغُ، والعصمةُ للجماعةِ التي يمثلُ العلماءُ رأسَها، فالواجبُ على النَّاسِ -حاكمًا ومحكومًا- الأخذُ برأي العلماءِ والصدورُ عن قولِهم. قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]. ففي الرخاءِ والشدةِ جَعَل اللهُ الهدايةَ في الرجوعِ إلى أهلِ العلمِ الثقاتِ. يقولُ الشيخُ عبدُ الرحمنِ بنُ ناصرٍ السَّعْدِيُّ -رحمه الله-: "وفي هذا دليلٌ لقاعدةٍ مهمةٍ، وهي أنه إذا حَصَل بحثٌ في أمرٍ من الأمورِ ينبغي أنْ يوكلَ إلى مَن هو أهلٌ لذلك، ويُجعلَ إلى أهلِه، ولا يُتقدمَ بين أيديهم، فإنه أقربُ إلى الصوابِ، وأحرى للسلامةِ من الخطإِ" (¬1). ¬

_ (¬1) "تيسير الكريم الرحمن" (2/ 54 - 55).

القاعدة العاشرة: ليس أحد إلا وتكلم فيه؛ فتثبت

فعادةً لا يفقه النَّاسُ من الدقائقِ ما يوقعهُم في الخطإِ، كفقهِ المصالحِ والمفاسدِ مثلًا، وغالبًا ما تكونُ الفتن متعلقةً بالسياسةِ الشرعيةِ التي ليست كغيرِها من القضايا، بل تقومُ على الأخذِ بالمقاصدِ الشرعيةِ، والموازنةِ بين المفسدةِ والمصلحةِ وإقامةِ الدليلِ، وهذا متعذرٌ لطلبةِ العلمِ الصغارِ؛ إذْ هذا النوعُ من الفقهِ عزيزٌ، لاحتياجه لسعةِ علمٍ وخبرةٍ في دراسةِ الواقعِ وتطبيقِ النُّصوصِ الجزئيةِ. وقصةُ نبيِّ الله موسى مع الخضرِ دليلٌ على هذه القاعدةِ المعتبرةِ، فقد كان يدفعُ الشَّر الكبير بارتكابِ الشر الصغيرِ، ويراعي أَخَفَّ الضررينِ وأكبرَ المصلحتينِ، وهذا من الفقهِ العزيزِ. ولذلك يكثرُ الخطأُ في بابِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقاعدتُه مَبْنِيَّةٌ على أُسُسٍ، منها ألا يكونَ النهيُ عن منكرٍ مفضيًا لمنكرٍ أشدَّ منه، وعَزَّ في النَّاسِ مَن يراعي ذلك، ولذلك كان المردُّ الشرعيُّ في الفتنِ لأهلِ العلمِ خاصةً، بل إنَ الإنكارَ باللِّسانِ يكونُ لأهلِ العلمِ دونَ مَن سواهم مِمَّن لا يدري، فيلزمُ ردُّ هذه القضايا المُفضِيَةِ لإحداثِ فتنٍ في النَّاسِ لأهلِ الحَلِّ والعَقْدِ وهم العُلماءُ، فالزمْ هذا السَّبيلَ، فدونَه فتنٌ وبلايًا ومِحَنٌ، وكم مَرَّ المسلمون ببلاياتٍ لو صَدَروا عن قولِ أهلِ العلمِ لأَمِنوا تلك الغوائلَ. القاعدةُ العاشرةُ: ليس أحدٌ إلا وتُكُلِّم فيه؛ فتثبَّتْ: إنَّ رضا النَّاسِ غايةٌ لا تُدركُ، وليس إلى السلامةِ منهم سبيلٌ.

يقولُ الإمامُ الشافعيُّ: ليس إلى السلامةِ من النَّاسِ سبيل، فانظرِ الذي فيه صلاحُك فالزمْه (¬1). قال الإمامُ الذَّهبيُّ: وقَلَّ مَن برز في الإمامةِ ورَدَّ على مَن خالفه إلا عُودِي، نعوذُ باللهِ من الهوى (¬2). وقال أيضًا: فَمَنِ الذي يسلمُ من ألسنةِ النَّاسِ؟!! لكنْ إذا ثَبَت إمامةُ الرجلِ وفضلُه، لم يَضُرَّه ما قيل فيه، وإنَّما الكلامُ في العلماءِ يفتقرُ إلى وزنٍ بالعدلِ والورعِ (¬3). وإذا قلبتَ تراجمَ العُلماءِ -سلفِهم وخلفِهم- ثَبَت لك بيقينٍ صدقُ هذه القاعدةِ، فما مِن أحدٍ إلا وتُكلم فيه، وامْتُحن: هذا الإمامُ البخاريُّ يُرمى في مسألةِ "اللفظ والصوت"، وهذا الإمام أبو حنيفة يُرمى بالإرجاء (¬4)، ناهيك عمَّن رُمي بالقَدَرِ أو التشيع. قال الإمامُ البخاريُّ: ولم يَنْجُ كثيرٌ من النَّاسِ من كلامِ بعضِ النَّاسِ فيهم، وذلك نحوُ ما يُذكرُ عن إبراهيمَ من كلامِه في الشَّعبيِّ، وكلامِ الشعبيِّ في عكرمةَ، وكذلك مَن كان قبلَهم، وتناول بعضهم في العرضِ والنَّفْسِ، ولم يلتفت أهلُ العلمِ إلى ذلك، ولا سقطت عدالةُ أحدٍ إلا ببرهانٍ ثابتٍ وحُجَّةٍ. أهـ. والكلامُ في هذا كثيرٌ (¬5). ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (10/ 42، 89). (¬2) المصدر نفسه (10/ 8 - 9). (¬3) المصدر نفسه (8/ 448). (¬4) انظر في هذه المسألة "الرفع والتكميل في الجرح والتعديل" للإمام اللكنوي (ص 352 - 383). (¬5) "جزء القراءة خلف الإمام" (ص 14)، "نصب الراية" للزيلعي (4/ 416).

القاعدة الحادية عشر: الاعتبار في الحكم بكثرة الفضائل

فالموقفُ الرشيدُ حينئذٍ التثبتُ، وذلك بتمحيصِ الخبرِ والتحققِ من صدقِه قبلَ إفشائِه وإذاعتِه. قال اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. فعلى العاقلِ ألا يغترَّ بكلامٍ يتناقلُه جماهيرُ النَّاسِ دونَ تثبتٍ أو تمحيصٍ، إذ عادةُ هؤلاءِ السُّرعةُ في إساءةِ الظنِّ قبلَ إحسانهِ، وقد نُهينا عن الظنِّ الذي لا يُغني من الحقِّ شيئًا. فعليك -أيها المتفقه- أن تتثبتَ سندًا ومتنًا، فتنظر فيمن ينقلُ، وهل هو من الثقاتِ العدولِ المشهودِ لهم بالديانةِ واستقامةِ الحالِ، ثمَّ فيما يُنقَلُ هل يحتمل وجوهًا فتردُّها إليها، فتسلمُ ويَسْلَمُ قلبُك. وخُذْها عن أهلِ الجرح والتعديل: كل رجلٍ ثبتت عدالتُه لم يُقبلْ فيه تجريحُ أحدٍ إلا بأمرٍ بَيَنٍ (¬1). القاعدةُ الحاديةَ عشر: الاعتبارُ في الحكمِ بكثرةِ الفضائلِ: فالعلماءُ على الجملةِ عُدولٌ ثقات، وهم خيرُ البريةِ، وصفوةُ الأمَّةِ، وإذا كان الأمرُ كذلك فينبغي أن يُغتفَر قليلُ خطأِ العالمِ بالنسبةِ لكثيرِ صوابِه، والنَّادرُ لا حُكمَ له، والعبرةُ على الغلبةِ لا على النُّدرةِ. ¬

_ (¬1) "الرفع والتكميل" (ص 429).

قال سعيدُ بنُ المسيبِ: ليس مِن عالمٍ ولا شريفٍ ولا ذي فضلٍ إلا وفيه عَيْبٌ، ولكنْ مَن كان فضلُه أكثرَ من نقصِه وَهِبَ نقصُه لفضلِه، كما أن مَن غَلَب عليه نقصانُه ذَهبَ فضلُه (¬1). قال ابنُ القيمِ -رحمه الله-: ومَن له علمٌ بالشرع والواقعِ يعلمُ قطعًا أنَ الرجلَ الجليلَ الذي له في الإسلامِ قدمٌ صالح وآثارٌ حسنةٌ، وهو من الإسلامِ وأهلِه بمكانٍ، قد تكونُ منه الهفوةُ والزلةُ هو فيها معذورٌ بل مأجورٌ لاجتهادِه، فلا يجوزُ أن يُتبعَ فيها، ولا يجوزُ أن تهدرَ مكانتُه وإمامتُه في قلوبِ المسلمين (¬2). وقال أيضًا: فلو كان كلُّ مَن أخطأ أو غَلِط تُرِك جملةً وأُهْدِرَتْ محاسنُه لفسدتِ العلومُ والصناعاتُ والحكم وتعطلتْ معالمها (¬3). ويقول ابنُ رجبٍ -رحمه الله-: والمُنصفُ مَن اغتفر قليلَ خطأِ المرءِ في كثيرِ صوابِه (¬4). ويقولُ الإمامُ الذهبي: "نحبُّ السُّنةَ وأهلَها، ونحبُّ العالمَ على ما فيه من الاتباعِ والصفاتِ الحميدةِ، ولا نحبُّ ما ابتدع فيه بتأويلٍ سائغٍ، وإنما العبرةُ بكثرةِ المحاسنِ" (¬5). ¬

_ (¬1) "جامع بيان العلم" (2/ 48). (¬2) "إعلام الموقعين" (3/ 283). (¬3) "مدارج السالكين" (2/ 39). (¬4) "القواعد" لابن رجب (ص 3). (¬5) "سير أعلام النبلاء" (20/ 46).

ولو أنَّ كل مَن أخطأ في اجتهاده مع صحةِ إيمانِه، وتَوَخِّيه لاتباعِ الحق أهدرناه وبَدَّعناه، لَقَل مَن يسلمُ من الأئمةِ من ذلك. يقول الإمامُ الذهبي -رحمه الله-: " ثم إن الكبير من أئمةِ العلمِ إذا كَثُر صوابُه، وعُلِم تحريه للحق، واتسع علمُه، وظَهَر ذكاؤُه، وعُرِف صلاحُه وورعُه واتباعُه، يغفرُ له زللُه، ولا نضللُه ونطرحُه وننسى محاسنَه، نعم ولا نقتدي به في بدعتِه وخطئِه، ونرجو له التوبةَ من ذلك" (¬1). وقال -رحمه الله-: وإنما يُمدحُ العالمُ بكثرةِ ما لَه مِن الفضائلِ، فلا تُدفنُ المحاسنُ لورطةٍ، ولعله رَجَع عنها، وقد يغفرُ له باستفراغِه الوسعَ في طلبِ الحق، ولا قوةَ إلا باللهِ (¬2). فهذه القاعدةُ الذهبيةُ سلفيةُ المشربِ في وزنِ الرجالِ من حيثُ كثرةُ الفضائلِ أو المساوئِ، أما تَرَى الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - يعفو عن حاطبِ بنِ أبي بلتعة في شأنِ مراسلتِه للكفارِ لأنه شَهِد بدرًا (¬3)، ويقولُ في شأنِ عثمانَ لما جَهَّز جيشَ العُسْرَةِ: ما ضَر ابنَ عفانَ ما عَمِل بعدَ اليومِ (¬4). ¬

_ (¬1) "السير" (5/ 271). (¬2) المصدر نفسه. (¬3) انظر قصة حاطب في "الصحيحين"، رواها البخاري (3007) ك: الجهاد، باب: الجاسوس، ومسلم (1941) ك: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 63)، والترمذي (3701) ك: المناقب، باب: مناقب عثمان ابن عفان وقال: حسن غريب من هذا الوجه، وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي" (2920).

ويؤصِّلُ ابنُ القيمِ -رحمه الله- هذه القاعدةَ الذهبيةَ بكلام نفيسٍ فخذْه هنيئًا مريئًا، يقول -رحمه الله تعالى-: من قواعدِ الشرعِ والحكمةِ أيضًا أنَّ مَن كثُرَتْ حسناتُه وعَظُمَت، وكان له في الإسلامِ تأثيرٌ ظاهرٌ، فإنه يُحتملُ له ما لا يُحتملُ لغيرِه، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عن غيرِه، فإنَّ المعصيةَ خَبَثٌ، والماءُ إذا بَلَغ قلتينِ لم يحمل الخَبَثَ، بخلافِ الماءِ القليلِ فإنه يحملُ أدنى خَبَثٍ، ... ثم يقولُ: وهذا موسى كليمُ الرحمنِ -عزَّ وجل- ألقى الألواحَ التي فيها كلامُ اللهِ الذي كتبه له، ألقاها على الأرضِ حتى تكسرتْ، ولَطَم عينَ مَلَكِ الموتِ ففقأها، وعاتب ربَّه ليلةَ الإسراءِ في النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ... وأَخَذ بلحيةِ هارونَ وجَرَّه إليه، وهو نبيُّ اللهِ، وكل هذا لم ينقصْ من قَدْرِه شيئًا عند ربِّه، وربُّه يكرمُه ويُحبُّه، فإنَّ الأمرَ الذي قام به موسى، والعدوَ الذي بَرَز له، والصبرَ الذي صبره، والأذى الذي أوذيه في اللهِ أمرٌ لا تؤثرُ فيه أمثالُ هذه الأمورِ، ولا تغيرُ في وجهِه، ولا تخفضُ منزلتَه، وهذا أمرٌ معلومٌ عندَ النَّاسِ مستقرٌّ في فطرِهم، أنَّ مَنْ له ألوفٌ من الحسناتِ فإنَّه يُسامح بالسيئةِ والسيئتينِ ونحوِها، حتى إنه ليختلجُ داعي عقوبتِه على إساءتِه، وداعي شكرِه على إحسانِه، فيغلبُ داعي الشكرِ لداعي العقوبةِ. كما قيل: وإذا الحَبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ ... جاءتْ محاسنُه بألفِ شفيعِ

القاعدة الثانية عشر: احذر من زلات العلماء

وقال آخرُ: فإن يكن الفعلُ الذي ساءَ واحدًا ... فأفعالُه اللاتي سَرَرْن كثيرُ واللهُ سبحانَه يوازي يومَ القيامةِ بين حسناتِ العبدِ وسيئاتِه، فأيهما غَلَب كان التأثيرُ له، فيفعلُ بأهلِ الحسناتِ الكثيرةِ الذين آثروا محابَّه ومراضيه وغلبتْهم دواعي طبعِهم أحيانًا من العفوِ والمسامحةِ ما لا يفعلُه مع غيرِهم. (¬1) القاعدةُ الثانيةَ عشر: احذرْ من زلاتِ العلماءِ: فالعالمُ بَشَر غيرُ معصومٍ، والزللُ أمرٌ واردٌ وحاصلٌ -لا محالةَ- لكلِّ أحدٍ، وهذه الزلةُ لا تنقص من قدرِه، بل توهبُ سيئاته لحسناتِه -كما تقدم- ولكن هذا لا يعني الإقرارَ بالخطأِ أو اعتمادَه، بل يُبَيَّنُ حكمُ الشرعِ في هذه المسألةِ، ويُعتزرُ لمن أخطأ في اجتهادِه فهو مأجور على كلِّ حالٍ. قال الحكماءُ: الفاضلُ مَنْ عُدَّتْ سقطاتُه. وينبغي لطلبةِ العلمِ أن يُقيلوا ذَوِي الهيئاتِ عَثَراتِهم، فالواجبُ سترُ هذه الزلةِ وعدمُ إشاعتِها بينَ النَّاسِ. - قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَقِيلوا ذَوِي الهيئاتِ عثراتِهم، إلا الحدود" (¬2). ¬

_ (¬1) مفتاح دار السعادة (1/ 176 - 177). (¬2) رواه الإمام أحمد في مسنده (6/ 181)، وأبو داود (4375) ك: الحدود، باب: في الحد يُشفع فيه، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (3685).

- وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: "من أقال مسلمًا أقاله اللهُ عَثْرَتَه" (¬1). ومِن حقِّ العالمِ أن يُنصحَ إذا زَلَّ؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "الدينُ النصيحةُ، الدينُ النصيحةُ، الدينُ النصيحة" قالها ثلاثًا. قلنا: لمن يا رسولَ اللهِ؟ قال: "للهِ ولكتابِه ولرسولِه ولأئمةِ المسلميَن وعامتِهم" (¬2). ومن أئمةِ المسلمينَ العلماءُ، ولهذه المناصحةِ ضوابطُ شرعيةٌ ينبغي أن تُراعَى، ويتأدبَ الناصحُ بها. أولًا: أن يكونَ هدفُ النَّاصحِ الإصلاحَ، {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. فيُحسنُ القصدَ ويحررُ نيتَه ويستعينُ باللهِ في إيصالِ هذا النُّصحِ لمُبَلَّغه. ثانيًا: أن تبدوَ أماراتُ حُسنِ قصدِه في تصرفاتِه، فلا يجرحُ الذواتِ ولا يفتري عليهم. ثالثًا: أن يتجنبَ ما يثيرُ عنادَ المنصوحِ ويجعلُه يتمادى على الباطلِ. رابعًا: أن يكون لطيفًا في نصحِه، ولو نَصَح بالإشارةِ قُدِّمت على العبارةِ، ولو كانت الكنايةُ تَفِي بالغرضِ قدمت على الصريحِ ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 252) وأبو داود (3460) ك: البيوع، باب: فضل الإقالة، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (2954). (¬2) رواه مسلم (55) ك: الإيمان، باب بيان أن الدين النَّصيحة.

القاعدة الثالثة عشر: كلام الأقران يطوى ولا يروى

من الأقوالِ، لقد كان النبي ينصحُ فيقول: "ما بالُ أقوام ... " (¬1). خامسًا: أن يبتعد عن الألفاظِ المحتملةِ، ولا يتصيدَ الأخطاءَ بلوازمِ الأقوالِ، ولا يتعجلَ الحُكمَ، ويتقي اللهَ في أعراض المسلمين، فلا يُلقي بالتُّهمِ دونَ مبررٍ أو دليلٍ قاطع، بل إذا تعذر له كلُّ ذلك ولم يَجِدْ بُدًّا مِن حملِ هذه الزلةِ على أيِّ محملٍ كانت النصيحةُ حينئذٍ لا الفضيحةُ. سادسًا: أن يبتعدَ عن التشهيرِ أو رمي التُّهمِ على ذاتِ الشخصِ، بل يكونُ قصارى جهدِه إبطال الرأي الفاسدِ بالأدلةِ الشرعيةِ. سابعًا: أنْ يتحرى التَّخفي عن أعينِ النَّاسِ حين تجبُ المواجهةُ مع صاحبِ الزَّلةِ، ولو نفعت الرسائلُ كانت أوجهَ، ولو ذَهَب إليه حتى لا يراهما أحدٌ كان أفضلَ، ولا يُحدث بذلك إلا إذا وَجَب بيانُ الخطأَ، وشاع ضررُه بينَ النَّاسِ، واستفرغ الوسعَ في النَّصْحِ، فحينئذٍ يُبَيَّن الحقُ دونَ تعرضٍ للرجالِ ولا التشهيرِ بهم. القاعدةُ الثالثةَ عشرَ: كلامُ الأقرانِ يُطْوَى ولا يُرْوَى: قال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما- في تقرير هذه القاعدة: استمعوا علمَ العلماءِ، ولا تصدقوا بعضَهم على بعضٍ (¬2). ¬

_ (¬1) وردت هذه العبارة في عدة أحاديث منها ما رواه البخاري (750) ك: الأذان، باب: رفع البصر إلى السماء في الصلاة بلفظ "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة ... ". (¬2) "جامع بيان العلم" (2/ 151).

وقال مالكُ بن دينارٍ: يؤخذُ بقولِ العلماءِ والقراءِ في كلِّ شيءٍ إلا قول بعضِهم في بعضٍ (¬1). يقول الإمامُ ابنُ عبدِ البرِّ: السَّلَفُ -رضوانُ اللهِ عليهم- قد سَبَق من بعضِهم في بعضٍ كلامٌ كثيرٌ في حالِ الغضبِ، ومنه ما حَمَل عليه الحسدُ كما قال ابنُ عباسٍ ومالكُ بنُ دينارٍ وأبو حازمٍ، ومنه على جهةِ التأويلِ مِما لا يلزمُ القول فيه ما قاله القائلُ فيه، وقد حَمَل بعضُهم على بعضٍ السيفَ تأويلًا واجتهادًا، لا يلزمُ تقليدُهم في شيءٍ منه دونَ برهانٍ ولا حجةٍ توجبُه (¬2). يقول الإمامُ الذهبي -عليه رحمة الله-: كلامُ الأقرانِ إذا تبرهن أنه بهوى وعصبيةٍ لا يلتفتُ إليه، بل يُطوى ولا يُروى (¬3). وقال رحمه الله: وكلامُ الإقرانِ بعضِهم في بعضٍ لا يُعبأُ به، لا سيَّما إذا لاح لك أنه لعداوةٍ أو لمذهب أو لحسدٍ، وما ينجو منه إلا مَن عَصَمَه اللهُ، وما علمتُ أنَّ عصرًا من الأعصارِ سَلِم أهلُه من ذلك سوى الأنبياءِ والصدِّيقين، ولو شئتُ لسردتُ من ذلك كراريسَ (¬4). وقد وَضَعَ أئمةُ الجرحِ والتعديلِ أماراتٍ يُستشعرُ منها رَدُّ خبرِ المتكلِّمِ في قرينهِ؛ فمن ذلك: 1 - المنافسةُ في البلدِ أو التخصص العلميِّ: ¬

_ (¬1) "جامع بيان العلم" (2/ 152). (¬2) الموضع نفسه. (¬3) "سير أعلام النبلاء" (10/ 92). (¬4) "ميزان الاعتدال" (1/ 111).

فقد تكلم ابنُ أبي ذئب في مالكٍ لأنه بلغه أنَّ مالكًا -رحمه الله- لا يأخذُ بحديثِ "البيعانِ بالخيارِ ... " (¬1) فاشتدتْ مقالةُ ابنِ أبي ذئبٍ -رحمه الله- في الإمامِ مالكٍ، ولم يعوِّلْ العلماءُ على ذلك، فبقيتْ إمامتهُما معتبرةً، ولكنهما كانا عالمي المدينةِ، فحدث بينهما ما يكونُ بين الأقرانِ في البلدِ الواحدِ (¬2). وتكلم سعيدُ بنُ المسيبِ -رحمه الله- في عكرمةَ، وتكلم الثوريُّ -رحمه الله- في الإمامِ أبي حنيفةَ، وطوى العلماءُ هذه المقالاتِ، وطَعَنوا أحيانًا في صحتِها، ووجَّهُوا بعضَها بأنَّ هذا شأنُ المعاصرةِ والمنافرةِ ونحوِهما. فلم يقبلوا قولَ الإمامِ مالكٍ في محمدِ بن إِسحقَ صاحبِ المغازي؛ لما عَرَض لهما من المخالفةِ. قال علماءُ الجرحِ والتعديلِ: لا يُقبلُ جَرحُ المعاصرِ على المعاصرِ، أي إذا كان بلا حجةٍ، لأنَّ المعاصرةَ تفضي غالبًا إلى المنافرةِ. قال التاجُ السُّبكيُّ في طبقات الشافعيةِ: ينبغي لك -أيها المسترشدُ- أن تسلكَ سبيلَ الأدبِ مع الأئمةِ الماضين، وأن لا تنظرَ إلى كلامِ بعضِهم في بعضٍ، إلا إذا أتى ببرهانٍ واضحٍ، ثم إن قدرت على التأويلِ وتحسينِ الظنِّ فدونَك، وإلا فاضربْ صفحًا عمَّا جَرَى بينهم، فإنك لم ¬

_ (¬1) متفق عليه. أخرجه البخاري (2079) ك البيوع، باب إذا بين البيعان، ولم يكتما، ونصحا، ومسلم (1531) ك البيوع، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين. (¬2) انظر في توجيه هذه المسألة "الرفع والتكميل" (ص 425 - 428).

تُخلقْ لهذا، فاشتغلْ بما يَعنيك، ودع عنك ما لا يعنيك، ولا يزالُ طالبُ العلمِ نبيلًا حتى يخوضَ فيما جَرَى بين الماضينَ. وبعدَ أن ذَكَر بعضَ كلامِ الأئمةِ في بعضٍ. قال رحمه الله: فإنك إذا اشتغلت بذلك خِفْتُ عليك الهلاكَ، فالقومُ أئمةٌ أعلامٌ، ولأقوالهِم محاملُ، وربَّما لم نَفهمْ بعضَها، فليس لنا إلا الترضي عنهم والسكوتُ عمَّا جَرَى بينهم، كما يُفعلُ فيما جرى بين الصحابةِ -رضي الله عنهم- (¬1). ومن العلاماتِ أيضًا: 2 - الاختلافُ المذهبيُّ: فإن اختلافَ الآراءِ نظرًا لاختلافِ الأصولِ والمنابعِ مُفْضٍ للخصوماتِ والعداواتِ، والتاريخُ شاهدٌ على ذلك، ومَن لا يدري ما صَنَعه "التعصبُ المذهبي" في الأمةِ من بلياتٍ، فَطَعَن هؤلاءِ في أولئك، وقَبِلوا كلَّ ضعيفٍ أو موضوعٍ لوجود الدَّافعِ ولقلةِ العلمِ، فأَرحْ نفسَك، وأنزلْ الأئمةَ منازلَهم. ومنها أيضًا: 3 - الغضبُ الشديدُ: فإنَّ الغضبَ ملاكُ كلِّ شَرٍّ، والعلماءُ بَشَرٌ يغضبون ويرضُون: وعينُ الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ ... ولكنَّ عينَ السُّخْطِ تُبْدِي المساويا ¬

_ (¬1) "طبقات الشافعية" (1/ 188). وعنه "الرفع والتكميل" (ص 425 - 429).

أيها المتفقه

ومنها: 4 - وجودُ المخاصماتِ والإحَنِ: وقد تفعلُ قالةُ السوءِ وحملةُ النميمةِ بأهلِ العلمِ ما قد تَرَى وتَدْرِي، فنسألُ اللهَ العافيةَ من الغِيبةِ والنميمةِ والسعايةِ بالسوءِ بينَ المسلمين، واللهُ المستعانُ. أيها المتفقه: وما تَقَدَّم لك مِن خصوماتِ العلماءِ لا ينبغي أنْ يطمسَ عنك صورًا مشرقةً لأهلِ العلمِ الأجلاءِ، الذين كانوا يُثنون بعضُهم على بعضٍ، مع ما قد يكونُ عَرَض لهم من خصوماتٍ واختلافاتٍ، وانظرْ لثناءِ الأئمةِ الأربعةِ بعضِهم في بعضٍ، فهذا الشافعيُّ يَرى كلَّ الفقهاءِ عيالًا على فقهِ أبي حنيفةَ، ويستمدُ الحديثَ من الإمامِ أحمدَ، وهذا أحمدُ -رحمه الله- لا يَرَى مثلَ الشافعيِّ في درايةِ الحديثِ وفقهِه، ويَرَى أنَّ مَن فاته علمُ هذا الرجلِ لَحِقَه خسرانٌ شديدٌ، وهَلُمَّ جَرًّا، فضعْ قاعدتَنا السابقةَ في موضعِها إن عَرضتْ. القاعدةُ الرابعةَ عشرَ: العَدْلُ والإنصافُ شرطٌ لازمٌ للحُكمِ على أهلِ العلمِ والاجتهادِ: فالأصلُ أنَّ كلَّ مجتهدٍ مأجورٌ غيرُ مأزورٍ، مع أنَّ الحق واحدٌ، فمن أصابه فله أجرانِ، ومن خَفي عليه فله أجر.

قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حَكَم الحاكمُ فاجتهد فأصاب فله أجرانِ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ" (¬1). والاختلافُ أمرٌ مقدورٌ لا يمكنُ تجاوزُه، وغالبُ الفروعِ يخضعُ للظنونِ، وهذا مِمَّا ساغ الاختلافُ فيه، ويسعُنا فيه ما وَسِع مَن قبلَنا، دونَ تبديعٍ أو تفسيقٍ أو تكفيرٍ، إذْ جمعُ الأمةِ على قولٍ واحدٍ متعذرٌ حدوثُه، ولذلك أَبَى الإمامُ مالكٌ أن يؤخذَ النَّاس بما في الموطأ، وقال للخليفةِ المنصور: "لا تفعلْ هذا؛ فإنَّ النَّاسَ قد سبقتْ إليهم أقاويلُ، وسَمِعوا أحاديثَ ورواياتٍ، وأَخَذ كلُّ قومٍ منهم بما سَبَق إليهم، وعَمِلوا به ودانوا به من اختلاف النَّاس وغيرهم، وإنَّ ردَّهم عما اعتقدوه شديدٌ، فَدَعِ الناسَ وما هم عليه ... " (¬2). فإذا كان الاجتهادُ سائغًا لاختلافِ الأفهامِ، فلا يجوزُ التشنيعُ على المجتهدِ بما آلَ إليه اجتهادُه وإن خالف جمهورَ العلماءِ، أو ما استقرَّ عليه الرأيُ في بلدٍ ما، ولو استحلَّ ما ثَبَت حُرمتُه بجهلِ دليلِ الحُرمةِ لم يَقْدَحْ ذلك في علمِه ولا تُرَدُّ به شهادتُه، ولا يلحقه الوعيدُ الذي تنصُّ عليه النصوصُ، بل يقال: متأولٌ معذورٌ. وقد عَقَد شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رسالةً عظيمةَ القدرِ سمَّاها "رفع الملامِ عن الأئمةِ الأعلام" لبيانِ أعذارِ العُلماءِ وأسبابِ اختلافِهم. ¬

_ (¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (7352) ك: الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد، ومسلم (1716) ك الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد. (¬2) نقلًا عن ابن عساكر "كشف الغطاء" (ص 47).

فيا أيها المتفقه

فمن ذلك: 1 - عدمُ ثبوتِ النَّصِّ عندَ الإمامِ، إمَّا بأنه لم يصلْه، أو وَصَلَه من طريقٍ ضعيفٍ فردَّه، أو كان عندَه ما هو أوثقُ منه فتركه للأوثق. 2 - أن يكونَ قد فَهِم منها خلافَ الراجحِ، فلم يعتقدْ إرادةَ تلك المسألةِ بذلك النصِّ لاحتمالِه. 3 - أن يعتقدَ أن النَّصَّ منسوخٌ. وعلى الجملةِ فكلُّ أهلِ العلمِ متفقون على وجوبِ الأخذِ عن الكتابِ والسنةِ الصحيحةِ، ولكنْ تختلفُ الآراءُ لاختلافِ الاعتباراتِ. ثمَّ إنَّ الاختلافَ بعضه لفظيٌّ مَحضٌ، مِن بابِ اختلافِ التنوعِ، لكنْ قَصُر فهمُ طالبِ العلمِ عن ذلك، وأمثلةُ ذلك كثيرةٌ. فيا أيها المتفقه: اعْرِفْ حقَّ العالمِ، فلا تشغبْ عليه إذا اجتهد بما لم يستقرَّ كلامُ أهلِ العلمِ عليه، بل عليك بالإنصافِ والعدلِ في الحكمِ على أهلِ الاجتهادِ والعلمِ، معتذرًا له إن أخطأ، ملتمسًا للاحتمالات التي أفضت به لهذا الرأي، وإن تبين لك خلافُه فدعْ عنك رأيَه، ووَقِّره وعَذِّره وأنزله منزلتَه. ودعْ عنك اعتراضَ الجُهَّالِ، فقد علمتَ شأنَ الاختلافِ، بل قُلْ خيرًا أو اصمتْ، وقبل أن تتهمَ العالمَ اتهم رأيَك، وانظرْ إلى حقيقةِ

القاعدة الخامسة عشر: ثق في أهل العلم، فإنهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى

أمرِك، فبنفسِك انشغلْ، دونَ التطاولِ على العلماءِ، فإنهم أعلمُ بمآلاتِ الأمورِ ومقاصدِ الشريعةِ، وقد يعرضُ لهم من النظرِ ما لا تبلغُه، فتدبرْ قصةَ نبيِّ اللهِ موسى والخضرِ لتعلمَ أنَّ الصبرَ وعدمَ المبادرةِ إلى الإنكارِ أولى بالمرءِ، واعْرِفْ من قصةِ صلحِ الحديبيةِ كيف كانت سببَ الفتحِ وإن بَدَا في الظاهرِ أنَّها في غيرِ صالحِ المؤمنين. فطالبُ العلمِ عليه أن يحرصَ على أن يستمعَ أكثر من أن يقولَ. قال الحسنُ -رضي الله عنه- لابنهِ: يا بُنيَّ إذا جالستَ العلماءَ فكنْ على أن تسمعَ أحرصَ منك على أن تقولَ، وتعلَّمْ حُسْنَ الاستماعِ كما تتعلمُ حُسْنَ الصمتِ (¬1). القاعدةُ الخامسةَ عشرَ: ثِقْ في أهلِ العِلْمِ، فإنهم أئمةُ الهُدى ومصابيحُ الدُّجَى: فعلى مدارِ هذه القاعدةِ تأدب -أيها المتفقه- فإنك إن تَثِقْ بالعالمِ تُحسنْ معاملتَه، وتعرفْ قدرَه، وتستنرْ بعلمِه في ظلماتِ الليلِ الدامسةِ. وفي زمانٍ يخلو عن قدواتٍ، مَنْ -يا تُرى- ترغبُ في التأسى بهم دونَ أهلِ العلمِ؟!! ¬

_ (¬1) "جامع بيان العلم" (1/ 139).

فيا أيها المتفقه ..

فيا أيها المتفقه .. ضَعْ ثقتَك في أهلِ العلمِ الأمناءِ على شرعِ اللهِ، واعْرِفْ أنهم لن يمتنعوا عن فعلِ خيرٍ إلا رجاءَ خيرٍ أعظمَ أو خشيةً من وقوعِ شرٍّ أعظمَ. وكثيرٌ من الأمورِ قد يكتمُها العلماءُ، وتصدرُ فتواهم دونَ حيثياتٍ، لا سيما إذا كان في التحديثِ حصولُ مفسدةٍ أعظمَ، وليس هذا من كتمانِ العلمِ المنهيِّ عنه، بل لاعتبارات شرعيةٍ. فاعلمْ؛ أن امتناعَ أهلِ العلمِ عن الإخبارِ لا يحصلُ إلا من بابِ دَرْءِ المفسدةِ وتحقيقِ المصلحةِ. ومن ثقتِك بهم أن تعرفَ أنهم أدرى بمصلحتكِ من نفسِك، فلربَّما يشيرُ عليك شيخُك بكتابٍ، أو بعلمٍ، أو يبدأُ معك بصغارِ المسائلِ فتستخفُّ بها، والعلمُ لابد له من المرحليةِ، فخذ عنهم، فلن تَعْدَمَ نفعًا. قال الإمام البخاريُّ: الربانيُّ الذي يُرَبِّي النَاسَ بصغارِ العلمِ قبلَ كبارِه. قال الحافظُ معلقًا: "والمرادُ بصغارِ العلمِ ما وَضحَ من مسائلِه، وبكبارِه ما دَق منها. وقيل: يعلمُهم جزئياتِه قبلَ كلياتِه، أو فروعَه قبلَ أصولِه، أو مقدماتِه قبلَ مقاصدِه" (¬1). ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (1/ 195) ط دار الريان للتراث.

المنطلق التاسع تكوين الملكة الفقهية

المنطلق التاسع تكوين الملكة الفقهية

المنطلق التاسع تكوين الملكة الفقهية أيها المتفقه: ـ حبيبي في الله ـ دائمًا ما أردد أنَّ جهودنا الدعوية التي بذل فيها الغالي والنفيس للأسف الشديد لم تنتج لنا ما كنا نحلم به في جيل الصحوة، فلم نرَ فقيهًا بمعنى الكلمة، ولم نجد المجتهد الذي يتعامل مع الواقع المتغير بمنهجية سلفية محضة، وليس هذا على سبيل التجوز أو الادعاء، وإلا فقد صدق من قال: عالمنا طالب علم عند السلف، وطالب العلم عندنا عامي عندهم. إننا بحاجة ماسة لوجود هذا الفقيه المنشود، الذي تربى على الأخذ بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، الذي يستطيع التعامل مع واقعنا المعاصر، وأنت تدري حجم الأزمات الفقهية الطاحنة التي يمر بها المسلمون في هذا الزمان، فكلما خرج علينا أهل العلوم التجريبية بنظرية أو اكتشاف ما، وبدا أنه يتعارض مع نصوص الوحي الرباني من جانب تجد صراعًا مريرًا بين الطائفتين، ولك أن تتذكر مثلاً المشكلات الطبية التي ما زالت تحظى بجدل فقهي كبير في هذا العصر

كقضية ... " نقل الأعضاء "، وقضية " الختان للإناث "، وقضية " الاستنساخ "، ولك أن تنظر إلى الصراع الذي يدور كل عام بين الفلكيين وعلماء الدين حول رؤية هلال رمضان، أضف إلى هذا القضايا الاقتصادية كالتعامل مع البنوك، وشركات التأمين بكل صوره، والتعامل مع بورصة الأوراق النقدية، وغير هذا من القضايا التي تلحظ دائمًا فيها افتقاد الأمة للفقيه الذي يجمع بين الحسنيين، أعني قراءة النص، وقراءة الواقع بفهم سلفي صحيح. وقد حثنا الله تبارك وتعالى للتفقه في دينه، وجعله من فروض الكفايات، فالأمة كلها تأثم إذا لم يوجد فيها هذا النمط المنشود من الفقهاء. قال تعالى: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " [التوبة /122] وقال صلى الله عليه وسلم: " من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين " (¬1) فمحض منة من الله تبارك وتعالى أن يرزق العبد تلك الملكة الفقهية، ولكن تعالوا لنتساءل: ما السبيل إذاً؟ وما هو المطلوب من هذا الفقيه المنشود وسط هذه التحديات؟ فبادئ ذي بدء، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (71) ك العلم، باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ومسلم (1037) ك الزكاة، باب النهي عن المسالة.

ما هي حقيقة الفقه؟ أيها المتفقه ـ حبيبي في الله ـ: الفقه الحقيقي هو: امتلاك القدرة على ما يسمى في المصطلح الفقهي بـ " تحقيق المناط "، أو القدرة على تجريد النص من قيد الزمان والمكان، والاجتهاد في تنزيله على واقع الناس، ومعالجته لمشكلاتهم. فليس الفقه في حفظ كتاب أو سرعة استذكار مسألة مع العجز ـ مثلاً ـ عن إيجاد وتوليد مثال غير مثال الأقدمين، والذي ما زلت تراه في كل كتاب تقرأه، وكأنَّ الفقه صار محصورًا في بعض المسائل القديمة. وإنما نعني بالفقه الإدراك العميق لمقصود الشرع، والإلمام بالواقع عن طريق معرفة الأسباب، ومعرفة السنن الربانية والكونية، واستيعاب حقائق الماضي، في ظل مواجهة واقعية، فليس بفقيه من عاش بمعزل عن الناس، ولم يبصر ما يعانونه، ولم يدرك الملابسات والتفاصيل التي تحيط بكل منهم. وقد قال الله تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء " [الأنعام /38] ... فالدين يشمل كل جوانب الحياة، ولعل هذا من أخطر ما يعاني منه المسلمون الآن، أعني إدراك هذه الحقيقة والتعامل من منطلقها في دراسة كل مشكلاتهم، لأنَّه بسبب تيارات " الغزو الفكري " تعرضت لزعزعة هذا الأصل الأصيل في تعاملها مع الواقع، فلم يعد الدين هو صاحب الكلمة الأولى، ولم يعد له الفصل في جميع المسائل،

ومع تقاعس الفقهاء عن اللحاق بمستجدات عصرهم، ظهرت هذه الإشكالية، وصار في الناس من يقسِّم الدين إلى قشور ولباب، فافتقدنا أول الأصول وقاعدة الارتكاز أعني " شمولية الدين ". إنَّ غياب الرؤية الإسلامية أو الفقه الشامل عن أي موقع وعدم امتداده له يعني وجود الفراغ الذي يسمح بوجود " الآخر " ليصنع للناس رؤيتهم، ومن هنا ينبغي أن نعود لتوسيع معنى الفقه، فلا يقف عند حدود " التشريعات " بل نحن في أمس الحاجة الآن إلى علم أصول فقه: " تربوي " و" اجتماعي " و" سياسي " ... و" اقتصادي " و" معرفي " بشكل عام؛ ليغطي جميع شعب المعرفة وجوانب الحياة، ولا يقتصر على الجانب التشريعي فقط. ولعل من قبيل نفس الملاحظة أنَّ الأصوليين عندما تكلموا في شروط المجتهد، ومنها إلمامه بكتاب الله عز وجل، تباينت وجهات نظرهم في هذا الجانب فحصر بعضهم هذا الإدراك في نطاق آيات الأحكام، وهذا ما يمثل ... " الوقوف عند الجانب التشريعي فحسب " بينما كانت النظرة الأوفق للصواب تدعو لضرورة إلمامه التام بجميع آيات الذكر الحكيم لماذا؟ لأنَّ آيات القرآن كلها آيات أحكام فمنها: أحكام تربوية وأخلاقية، ومنها أحكام اجتماعية، ومنها أحكام سياسية، وهكذا فحصر الفقه في جانب دون آخر يبعدنا عما ننشده في فقيهنا المعاصر، فإنَّ هذا كان موجود في سلفنا، وآراؤهم تشهد بهذا، لكن يوم غاب عنَّا هذا الفهم

الشمولي اختزلت نصوص الشرع لتنأى عن الواقع، وهذا لم ليحدث في أمة شهدت حضارة ضخمة امتدت عبر مئات السنين واتسعت لبيئات مختلفة وأجناس متباينة. انظر مثلا: لقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " [الحشر/2] بين الفهم التشريعي والفهم الشمولي، فإنَّ الأصوليين استدلوا بهذه الآية على ... " القياس " باعتباره أحد أدله الفقه، والآية واضحة في مخاطبة أهل الإيمان بالاسترشاد بسنن الله في الكون، وأخذ العبرة والعظة من حال الأمم السابقة، إنها أصل فيما يمكن تسميته بالفقه السياسي أو الاجتماعي. كذا قوله تعالى: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " [التوبة /122] فالفقه هنا لا يقتصر على ... " الفقه التشريعي " وإنما أعم من ذلك، ولعل من أدلة ذلك التعبير بـ " النفرة " التي تتناسب مع دخول الميدان ودراسة الواقع. وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم المأثور لعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " وأنت تلحظ أنَّ المقصود ليس هو الفقه التشريعي الذي يشمل أبواب العبادات والمعاملات والجنايات ونحوها، وإنما الفقه الذي يشمل فقه

الملكة الفقهية

السنن الربانية والفهم عن الله تبارك وتعالى، فقه الحياة بشتى صورها، وليس المقصود بـ " التأويل " التفسير والبيان كما اعتدنا فهمه، بل التأويل يعني البصر بالعواقب والنتائج والمآلات، إنه إدراك للسنن الفاعلة في الحياة وتحولاتها الاجتماعية وقانونها الرباني. فهذا ما نعنيه بالفقه أعني " الفقه الحضاري "، الفقه الذي يغطي جوانب الحياة، الفقه الذي يتماشى مع شمولية الدين، وصلاحيته لكل زمان ومكان، ... " فقه السنة " بمعناها العام الذي يعني الطريقة المطردة والقانون الناظم، أي فقه تقويم الحاضر بقيم الدين في ضوء كل الظروف المحيطة. وفي ضوء هذا المعنى نحتاج إلى بيان المقصود بـ " الملكة الفقهية " كمقدمة لمعرفة طرق تكوينها واكتسابها. ... الملكة الفقهية الملكة في معناها اللغوي تدور حول الدلالة على القوة والرسوخ، ومعناها في اصطلاح أهل العلم ليس بمنأى عن ذلك فقالوا: هي " صفة راسخة في النفس "، هذه الصفة تعين الإنسان على سرعة البديهة في فهم الموضوع. وهذه الصفة هبة من عند الله ومن هذا قول الإمام مالك: ليس الفقه بكثرة المسائل، ولكن الفقه نور يؤتيه الله من يشاء من خلقه.

أنواع الملكة الفقهية

وهذه الصفة تنمو بالاكتساب عن طريق الإحاطة بمبادئ العلوم والإلمام بقواعده، وهي تبدأ ضعيفة ثمَّ تقوى بالرعاية والتدرج، ولذلك فإنَّ حصول هذه الملكة يحتاج إلى نوع من الدربة والتدرج في التلقين والتعلم. وعلى هذا فإنَّ صاحب الملكة الفقهية من يكون الفقه له سجية، وعنده قوة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مآخذها. وهذه الملكة لها أنواع: فمنها: فقه النفس وهو غريزة لا تتعلق بالاكتساب، وتورث صاحبها شدة الفهم لمقاصد الكلام. ومنها: القدرة على استحضار الحكم الشرعي العملي في مظنته الفقهية. ومنها: القدرة على استنباط هذا الحكم الشرعي، عن طريق التضلع بالعلوم الشرعية وعلوم اللغة مما هو ضروري للاجتهاد. ومنها: القدرة على تخريج الفروع على الأصول والترجيح بين الآراء،. وقد يعبر عن هذه الملكة بـ " البصيرة " أو " الحكمة " أو " الاجتهاد " وبينهم من التداخل والتباين ما بينهم، والفقيه المطلوب ـ والذي نرجوه ـ هو الذي تجتمع له كل هذه الأنواع من الملكات؛ لأنَّه بحاجة إلى مجموعها،

ففقه النفس يعينه على القيام بأمر الله تعالى في نفسه وأهله، ومن حولهم، وفي فتاويه للنَّاس، فإنَّه يعلم بحاله حالهم، فتكون فتاويه ونصائحه موفقة لا ملفقة. وملكة القدرة على الاستنباط لأنَّ نصوص الشرع تنحصر والنوازل لا تنحصر، فأحكام الدين تؤخذ بالاستنباط من الأدلة، وهذا هو الفقه الحقيقي، فليست القضية في حفظ النصوص واستحضارها، ولكن في تنزيل هذه الأحكام بفقه النفس وملكة الاستنباط في استخراج الحكم الذي يرضي الله ورسوله، فقد قالوا: أنَّ الفقيه هو الذي أحاط علمًا بالشريعة، فيستخرج الحكم من مجموعها. وأيضًا ملكة الترجيح بين الآراء ملكة خطيرة، فهو لا يتعصب لمذهب ولا لشخص ولا يحكمه الهوى، فلا يتابع أحدًا في كل أقواله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك هو مجتهد حقيقة، وهذا المجتهد له ملكة حقيقية، تبين له الصحيح من المزيف من الأقوال كالصيرفي الماهر، فهو حين ينظر في أقوال الناس يعرف مآخذ العلماء ويتبين له مشاربهم، فيتوجه الأمر لديه بالترجيح الصحيح بينهم، وقد مر بنا مرارًا قول رسول صلى الله عليه وسلم " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين " (¬1) ¬

(¬1) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (7/ 38)، قال في كنز العمال: قال الخطيب سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث وقيل له كأنه كلام موضوع قال لا هو صحيح سمعته من غير واحد.

كيف تتكون الملكة الفقهية؟

كيف تتكون هذه الملكة؟ لتكوين الملكة الفقهية شروط هي: أولاً: الاستعداد العقلي والقلبي والشخصي للمتفقه. فأما استعداده العقلي فينبغي أن يكون المتفقه ذكيًا، قوي المدارك، يعرف مقتضى الكلام ومعناه، عنده ملكة جيدة في الحفظ والاستذكار، ولذلك كانوا يبدأون بحفظ القرآن لصقل هذه الملكة عند طالب العلم، وليعتاد ذلك منذ الصغر وتقدير مقوماته الإدراكية، فضلاً عن النور الذي يبعثه القرآن في صدره. وأما استعداده القلبي والخلقي فأعني أن يكون المتفقه صافي النفس من أدران الدنيا وشوائبها، مخلصًا في طلب الحق والمعرفة، عدلا يجتنب المعاصي ويلتزم بالطاعات، متحليًا بصفات المروءة وقد كان سلفنا الصالح يختبرون المتعلم أولاً، فإن وجدوا فيه خلقًا رديئًا منعوه؛ لئلا يكون آلة فساد، وإن وجدوه مهذبًا علموه، ولا يطلقونه قبل الاستكمال خوفًا على فساد دينه ودين غيره. أما استعداده الشخصي فإن تكوين الملكة الفقهية يحتاج إلى كبير همة وجد ومثابرة وصبر على ذل التعلم، فالمتفقه لا يترك لحظة دون تعلم واستكثار من ميراث النبوة، وتعاهده بالحفظ، والمذاكرة المستمرة قالوا: العلم ما ثبت في الخواطر لا ما حوته الدفاتر.

ثانيًا: المعلم الحاذق القدوة لا شك أنَّ وجود المعلم المربي من أركان هذا البناء، فنحن في حاجة إلى شيخ متقن لعلمه متمكن فيه ملم بآفات النفوس ويحسن تهذيبها، وفي ظل افتقاد الأمة لهذا الرجل القدوة تظل الإشكالية مطروحة، ومن هنا علينا إيجاد هذه النماذج في الأمة، والبحث عنها، والاستكثار منها، وتأهيل القائمين على العملية التعليمية وفق منهج علمي صحيح ليكثر سواد هؤلاء المعلمين. فمن شرطه: 1) أن يكون معروفًا بالديانة والستر والصيانة، وإلا فإنَّ أخطر وبال على طالب العلم أن يتلقى تعليمه من أهل المعاصي والفسوق، فيشب الفتى متلطخًا بما رباه عليه أستاذه بحاله قبل مقاله. قال محمد بن سيرين: إنما هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. 2) أن يكون بصيرًا بطريقة التلقين والتعليم بحسب مرحلة الطالب وقدرته، ماهرًا في عرض المادة العلمية، لديه القدرة على الإيضاح بوسائل شتى، عاملاً على صقل مواهب تلاميذه.

ثالثًا: اتباع منهج علمي أصيل من المقومات الأساسية للملكة الفقهية وجود منهج دراسي أصيل يتلقاه المتفقه في مراحل دراسته، ويتمثل في العلوم الأساسية التي ينبغي له أن يدرسها وهي: 1) معرفة القرآن وعلومه. فالقرآن أقوى شيء في تكوين الملكة الفقهية، وبناء الأخلاق والنفوس، قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ: " إن الكتاب قد تقرر أنَّه كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه لأنه معلوم من دين الأمة، وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة، وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها: أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرًا وعملاً، لا اقتصارا على أحدهما، فيوشك أن يفوز بالبغية، وأن يظفر بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول " (¬1) فالقرآن الكريم لا يخلق بكثرة النظر، وكلما نظر الإنسان فيه ازداد علمًا وفقهًا، فعلى المتفقه أن يحفظ القرآن الكريم أولاً وقبل أي شيء ¬

(¬1) الموافقات (3/ 346)

آخر، ويتقن تلاوته، فيلم بعلم التجويد، ولا يتعجل ويرمي إلى دراسة الفقه وعلومه قبل أن يكون أتم حفظ القرآن الكريم. ثمَّ ينهل من معين علومه قسطًا فيعرف الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، والقراءات القرآنية. 2) معرفة السنة وعلومها. فيبدأ بحفظ بعض المتون المختصرة كالأربعين النووية ونحوها ليتسع محصوله من السنة شيئًا فشيئًا بعد ذلك. ويلم بعلوم الحديث، فيعرف " أسباب ورود الحديث " و" الناسخ ... والمنسوخ " و" الجرح والتعديل " يلم من ذلك بطرف. وثمَّ مسالة مهمة في هذا وجب التنبيه عليها، وهي أنَّ الصحوة لما قامت وبينت أهدافها في لزوم رجوع الأمة إلى المعين الصافي من الكتاب والسنة، واكب ذلك اهتمام عظيم بعلوم السنة بفضل مجدد العصر عليه رحمات الله ... الشيخ / محمد ناصر الدين الألباني، وكثر الباحثون في هذا المجال بفضل الله تعالى، ولكن مع ظهور الفهارس العلمية ناهيك عن التقنيات الحديثة الآن دخل في هذا المضمار من ليس أهلاً له، والشيخ ـ رحمه الله ـ شنَّ عليهم حملات متتابعة تشهد بذلك مقدمات مصنفاته الأخيرة، ولكن اختلط الحابل بالنابل، وصار ديدن

البعض لا يخرج عن فلك " مصطلح الحديث " و " تحقيق وتخريج الأحاديث " تحت الزعم بأنَّه نشر للسنة، والواقع يكذب ذلك، ومن ثمَّ لابد من ترشيد طلاب العلم في هذا الجانب، فلا يكون جل اهتمامه في علم واحد، ويترك حفظ القرآن وتعلم أبواب الفقه والإلمام بالأصول وإتقان اللغة، ولعل هذا من واجبات " الجيل الثاني " الذي لم تبدُ بعدُ معالمه منذ رحل العلامة الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ وعلى طالب العلم أنْ يبدأ في التعرف على كتب السنة وطرق مصنفيها، ليعرف كيفية استخراج الحديث من هذه الكتب، وفي ظل وجود الحاسب الآلي وغيره من التقنيات الحديثة فإني لا أنصح بالتعامل مع هذه الوسائل إلا بعد أن يكتسب طالب العلم مهارة التخريج من الكتب، وهذا ليس من قبيل التعسير، بل هذا من محض التجربة، نعم نحن لا نقلل من هذه التقنيات وأنها وسيلة بحثية جيدة، لكن لا يبدأ بها طالب العلم، وإلا فإنها ستهدم ملكة البحث والتنقيب عنده، والتي لها من المزايا ما لا يدركه إلا من جرب ذلك. فاجمع بين الأمرين، تدرب جيدًا مع الكتب، ثمَّ استخدم هذه التقنيات بعد أن يرسخ قدمك، فسوف تجد من المنفعة ما لا يعرفه إلا خبير بهذا الشان. وينبغي أن تمتد صلتك بالمتون إلى الشروح، والانتفاع بما فيها من علم غزير، وعادةً سوف تكون هذه المراجع بغيتك في فترة لاحقة، ولكن في البداية استأنس بها، ثمَّ عندما تستكمل أدواتك فسوف يعظم قدر هذه الكتب عندك بعد ذلك.

3) معرفة علوم اللغة. ينبغي للمتفقه أن يلم بعلوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وأدب؛ ليتمكن من فهم نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية حق الفهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " إنَّ تعلم اللغة العربية من الدين، وإنَّه فرض واجب لفهم مقاصد الكتاب والسنة ومراد الشارع من خطابه، فإنَّ فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان غلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " (¬1) أما الشاطبي ـ رحمه الله ـ فيقول: " الشريعة عربية، وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم؛ لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز، فإذا فرضنا مبتدئًا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ولا كان قوله فيها مقبولا، فلا بد من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها كالخليل وسيبويه والأخفش والجرمي والمازني ومن سواهم " (¬2) ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم ص (207) (¬2) الموافقات (4/ 115).

فالشاطبي ـ رحمه الله ـ جعل مدار علوم الاجتهاد على أمرين: 1) الإلمام بعلوم اللغة ... 2) البصر بمقاصد الشريعة. ولكنه يرى أنَّه ينبغي أن يستفرغ المتفقه الوسع في تحصيلهما حتى يصل في اللغة ـ مثلاً ـ كما يقول هو: إلى درجة الخليل وسيبويه والاخفش ونحو من فحول علماء اللغة. وإن كان في هذا نوع تجوز إلا أنه يفيدنا هنا خطورة دور اللغة وصلتها الوثيقة بالعلوم الشرعية. وعلى كل حال ينبغي لطالب العلم أن يبدأ بدراسة متن من متون النحو كالأجرومية ثمَّ يثني بكتاب كـ " قطر الندى " أو " شذور الذهب " لابن هشام، ثمَّ يترقى إلى شروح ألفية ابن مالك كشرح ابن عقيل أو الأشموني وحاشية الصبان عليها، إلى أن يصل لدراسة " مغني اللبيب " لابن هشام أيضًا. وفي الصرف يحفظ الشافية، ويلم بشروحها. وفي البيان يبدأ بالكتب اليسيرة كالبلاغة الواضحة، وينتقل للمتون كتلخيص المفتاح للخطيب القزويني، ومن اخطر ما كتب في هذا الفن كتب عبد القاهر الجرجاني لا سيما " دلائل الإعجاز " و" أسرار البلاغة "

4) دراسة الفروع الفقهية. وهي دراسة الفقه بمعناه "التشريعي " بمعرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية في كتاب الله أو سنة رسول الله أو الإجماع أو بالقياس وغيرها من الأدلة الشرعية. والمتفقه ينبغي أن يحفظ مختصرًا في الفقه على مذهب من المذاهب، يتلقاه على شيخ حاذق، ثمَّ بعد ذلك يبدأ في التوسع مرحليًا، وقد رتب أهل العلم الكتب التي يبدأ بها طالب العلم ثم بماذا يثني في مرحلة التوسط ثمَّ ماذا يقرأ في مرحلة الاستقصاء والانتهاء وهكذا فمثلاً: في الفقه الحنبلي ألف ابن قدامة ـ رحمه الله ـ " عمدة الأحكام " للمبتدئ ثمَّ " المقنع " لمن هو أعلى منه ثمَّ " الكافي " ثم في النهاية " المغني " وهكذا. وينبغي على طالب العلم ألا يتعدى مرحلة دون أن يصل إلى رسوخ القدم فيها، ولا عليه أن يتعرض للفقه المقارن في البداية فإنَّه مدعاة لتشويش ذهنه بالخلافيات فتدبر ذلك فكم زلت أقدام بسبب عدم سماع النصيحة في ذلك فإلى الله المشتكى. 5) الإلمام بعلم أصول الفقه والقواعد الفقهية وهذا أهم العلوم للفقيه، وهو الآلة التي يتوصل بها للاجتهاد، وهذه الدراسة تكون بعد أن يلم طالب العلم

بمختصر من المختصرات الفقهية، وبعد أن يلم بطرف من العلوم اللغوية إذ منهما يستمد. " واعلم أنَّ هذا الفن طويل عميق، لا تحصل البضاعة منه إلا في مدة متطاولة " (¬1) وقد أدخل المتأخرون فيه من الكلاميات والجدليات ما جعله يعسر على كثير من شداة هذا الفن، ولكن ثمة جهود تبذل الآن لتنحية مثل هذه الكلاميات عن صلب العلم، وهناك بعض الكتب الجيدة في هذا الباب. والفائدة التي تعود على المتفقه من تعلمه الأصول أنَّه ينمي ملكته فتبدأ في حصر المتفرقات وضبطها، وتربي عنده ملكة الاستنباط، وتبصره بطريقة التعامل مع النصوص لاستخراج الحكم الفقهي. 6) معرفة مقاصد الشريعة الإسلامية. ونعني بها المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، ومن المعلوم أن المتفقه لا يدرك ذلك إلا بعد أن يغوص في العلوم الشرعية حتى يبدأ في فهم سنن الله الكونية والدينية ويستصحب ذلك ¬

(¬1) ترتيب العلوم للمرعشي ص (157) ط دار البشائر الإسلامية.

فتعينه على الترجيح بين الأدلة المتعارضة والجمع بينهما، ورد المتشابه إلى المحكم، وقراءة الواقع وتدبره وفق أصول صحيحة، وكم من مسائل فقهية لا يمكنك أن تنتهي فيها إلى رأي جازم دونما استصحاب هذه المقاصد الشرعية. ومن البدهي أن نقول: إنَّ الإمام الشاطبي هو فارس هذا الميدان، وقد سطر من بعده الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي بعد الدراسات القيمة أيضًا، لكن ما ينبغي التنبيه إليه أنْ إحاطة المتفقه بهذه المقاصد على الوجه المرجو لا تكون إلى بعد رسوخ قدمه في العلوم الشرعية ـ كما تقدم بيانه ـ فانتبه. 7) فهم الواقع المعاصر. لابد للمتفقه أن يكون ملمًا بواقعه المعاصر، مدركًا للتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحدث في زمانه، ولا يجوز له بحال من الأحوال تجاهلها، لأنَّه حينئذٍ لن يكون محيطًا بفقه الواقعة فيصعب أن ينزل النص لهذا الواقع الذي يجهله، وهنا تتخبط أقدام، والله المستعان أن يظهر في الأمة من يعوضنا من ذهب من علمائنا الأفذاذ، والذين استقامت عندهم الرؤيتان، وأن ينبت من جيل " الصحوة " علماء في شتى المجالات، حتى تتبين الأمور في ظل هذه

كيف يمكن تنمية هذه الملكة؟

الغيوم التي يفرزها " الغزو الثقافي " و" الحملات العلمانية " الداعية إلى فصل الدين عن الحياة، وتقديم العقل على النقل، ومواجهة أهل الدين بالتقدم التقني الغربي وأنَّه كان من نتاج العلمانية في أوروبا يوم فصلوا الدين عن الدولة، إلى غير ذلك من هذه المهاترات التي تحتاج إلى فرسان في كل ميدان، يذبون عن دين الله، ويقيمون الحجة على الناس، فانتبه أيها المتفقه فلست بمعزل عن عصرك وإقليمك. كيف يمكن تنمية هذه الملكة؟ إذا كان تكوين الملكة الفقهية يحتاج إلى أركان ثلاثة: المتفقه والمعلم والمنهج، فإنَّ تنمية هذه الملكة لتحصل على أتم وجه يحتاج إلى الممارسة العملية، ووضع المتفقه أمام مشكلات عصره، ومحاولة تقويم طريقته في علاج تلك المشكلات. فبعد أن مرَّ بفترة من التأهيل النظري نحتاج إلى وضعه في مواجهة ... الواقع، كأن تربى عنده ملكة الاجتهاد الجزئي بتكليفه ببحث مسألة من المسائل، ودراستها دراسة متأنية، وهنا نقف على مدى إمكانياته، ولا يتم ذلك قبل ... التأهيل، أعيد ذلك وأكرر؛ لأننا نعاني في هذا الزمان من قلة الصبر، واستعجال قطف الثمار قبل نضوجها. من الأمور التي تنمي الملكة عنده أيضًا، تعويده الموازنة بين المصالح والمفاسد.

آفات الملكة الفقهية

فيعرف المصلحة الشرعية المعتبرة ومتى يقدمها، ومتى يدرأ المفسدة قبل جلب المصلحة، هذه تطبيقات فقهية لازمة، وله أن يستأنس بكتاب " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " للعز بن عبد السلام، و" ضوابط المصلحة " للبوطي كذلك تعويده طرق الجمع بين الأدلة التي تبدو مختلفة عند الوهلة الأولى ومن أفضل ما يستعين به في ذلك كتاب " تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة. كذلك تعويده الحوار الفقهي وقراءة المناظرات الفقهية التي تقوي الملكة عنده، ولكن يُحَذَّر هنا من التعصب أو الجدل البيزنطي الممقوت، بل يناقش بدليل، لا ينتصر لمذهب إلا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا ينتقص من مخالف بل يقول دائمًا: قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول مخالفي خطا يحتمل الصواب. ومما يقوي الملكة عنده الرحلة إلى العلماء، والاستكثار منهم، فكلما زاد شيوخه اتسع علمه. آفات الملكة الفقهية وحذار ثمَّ حذار من معوقات تشل هذه الملكة، فتنقض غزلك من بعد قوم أنكاثًا، وهي تنقسم إلى: - آفات خلقية ونفسية. - وآفات منهجية.

فأما الآفاتُ الخلقيةُ والنفسيةُ، فمن ذلك: أولاً: الكبرُ والعجبُ: فإنه داءٌ يصيبُ كلَّ متعلمٍ لم يخلصْ وجهَه للهِ من باديءِ أمرِه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ الناسِ" (¬1)، ولا يزول ذلك إلا إذا عَرَف المرءُ حقارةَ نفسهِ، ولعله يحتاجُ هنا إلى المربي ليقوِّمَ اعوجاجَه، ومن ثمَّ قلنا بالصبرِ على ذُلِّ التعلمِ لأنه أكثرُ شيءٍ فائدة للمتعلمِ لو كان يدري. فلتحذرْ من رؤيةِ النفسِ، كأنْ تناظرَ للغلبةِ لا لمعرفةِ الحقِّ، وكتحصيلِ علومٍ تتجملُ بها في المحافلِ والتعالي على الأقرانِ، ونحوه مِمَّا يضيعُ العلمَ ويثيرُ الأحقادَ. ثانيًا: الغرورُ: وهو أنْ تَسْكُنَ النفسُ إلى ما يوافقُ هواها وتميلُ إليه بطبعِها. والمغرورُ يتحدثُ عن نفسِه دائمًا، بل ربما يُظْهِرُ نفسَه بإلحاقِ التهم بأقرانِه، والغرورُ يحجبُ طالبَ العلمِ عن الزيادةِ في الطلبِ، فيظنُّ أنه قد انتهى إلى ما لنْ يَصِلَ إليه غيرُه، ويمنعُه من سماعِ النصيحةِ. والمغرورُ يثيرُ حولَه من العداواتِ ما يُتْلِفُ قلبَه، فاللَّهم إنا نعوذُ بك من الغرورِ وأهلِه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في "صحيحه" (147) ك الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه.

ثالثًا: الحسدُ: الذي هو تمني زوالِ النعمةِ عن الغيرِ، وهو خلقٌ ذميمٌ، يُفْسِدُ الجَنَانَ ويردي الإيمانَ. والحسدُ يَدِبُّ بين خِلَّانِ الدنيا الذين يطمعون في حطامِها الزائلِ، أما أهلُ الآخرةِ فبمعزلٍ عن ذلك. والحسودُ -عادةً- لا يسودُ، وينشغلُ بحاسدِه عن العلمِ فتضعفُ ملكتُه، وتَسَخُّطُه يزيلُ عنه العلمَ، وينفرُ الناسَ منه. فإياك والحسَد فإنه يحلقُ الدينَ كما يحلقُ الموسى الشعرَ. أما المعوقاتُ المنهجيةُ، فمنها: أولًا: الغفلةُ عن النصوصِ الشرعيةِ الثابتةِ، والتفسيرُ الخاطىءُ للنصِّ الشرعيِّ: وعادةً ما يكونُ ذلك بسببِ ما حذرتُك منه من التصدرِ قبلَ التأهلِ، والتزببِ قبلَ التحصرمِ. ثانيًا: التقليدُ والتعصبُ والجمودُ: وكلٌّ منها يؤدي إلى الآخَرِ، والتقليدُ هو اتباعُ الإنسانِ غيرَه فيما يقولُ أو يفعلُ، معتقدًا الحقيقةَ فيه من غيرِ نظرٍ وتأملٍ في الدليلِ، أي أنه يتبعُ قولَ غيرِه بدونِ حجةٍ أو دليلٍ. والتعصبُ مذمومٌ، والجمودُ يُشِلُّ ملكاتِ الإنسانِ، ويجعلُه في بوتقةٍ لا يتجاوزُها فتضعفُ قدراتُه.

ثالثًا: الالتزامُ بحرفيةِ النصوصِ، وعدمُ النظرِ إلى مقاصدِ الشريعةِ: ولذلك فإنَّ الفقه الظاهريَّ عاداه أهلُ العلمِ ورأوا فيه انحرافًا عن الجادةِ، رغم أنَ الناظرَ في كتابٍ كـ "المحلى" لابنِ حزمٍ لا يَرَى سوى نصوصٍ من كتابِ رَبِّنا وسنةِ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - وقولِ صحابيٍّ أو تابعيٍّ، وهذا كلُّه جيدٌ، لكن للأسفِ عدمُ الأخذِ بأصولِ منهجِ السلفِ في الاستدلالِ جعلتْه يخرجُ علينا بأقوالٍ شاذةٍ معروفةٍ. رابعًا: الغُلُوُّ: والغلوُّ يعني؛ الانحرافَ عن الجادةِ، فالدينُ دينٌ سَمْحٌ لا إفراطَ فيه ولا تفريطَ، وكم من آراءٍ شَذَّتْ بسببِ موقفٍ متشددٍ وَقَفَه أحدُ أهلِ العلمِ فَهَجَره العلماءُ، كما فَعَل نجمُ الدينِ الطوفي الذي قَدَّم المصلحةَ المرسلةَ على النصِّ الشرعيِّ، وشهر بذلك بعضُ الرويبضةِ في هذا العصرِ حتى يتسنى لهم تبريرُ الواقعِ ومداهنةُ مَن يريدون. فيا أيها المتفقه ... هل لنا أنْ ننشدُ فيك بغيَتنا غدًا؟ لعلي أحتاجُ في نهايةِ المطافِ أنْ أذكِّرَك بأمرٍ يَعزُّ بين طلابِ العلمِ الجمعُ بينَه وبينَ العلمِ، مع أنه الثمرةُ المرجوةُ، وباعثُ الفتوةِ، والأصلُ الأصيلُ في رحلتِك إلى اللهِ، أعني "المنهجَ"، وتلك قاعدةُ انطلاقِك الأخيرةُ معي، أسأل اللهَ أن يختمَ لنا بخاتمةِ السعادةِ أجمعين.

المنطلق العاشر: من أين نبدأ؟

المنطلق العاشر (من أين نبدأ؟)

المنطلق العاشر (من أين نبدأ؟) قد آذن الركب بالرحيل ومازلت أراك حائرًا، تتعثر خطاك، تقول: كيف السبيل؟ كيف أطلب العلم؟ من أين أبدأ؟ وإنْ كان مضى طرفٌ من ذلك عارضًا فيما مرَّ فذا أوان بيانه، فامضِ بإذن الله موفقًا، والله أسأل أن يرزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل، وأنْ يكتب لنا الصواب، ويجنبنا الزلل إنَّه ولي ذلك والقادر عليه. أيها المتفقه .. لابد لك من منهجين يمضيان معًا، لا ينفك أحدهما عن الآخر، منهج في تلقي العلوم الشرعية، ومنهج في التربية، فأنت تعلم أنَّ أصول المنهج ثلاثة: التوحيد والاتباع والتزكية. قال الله تعالى: " رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " [البقرة/129] وقوله تعالى: " لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين " [آل عمران/164]

وقال جل وعلا: " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ " [الجمعة/2] فرسالة الأنبياء وورثتهم من بعدهم تتناول تلك الجوانب الثلاثة، فلابد من علم وعمل ودعوة، لابد من تزكية للنفوس وشحذ للعقول، والمنهج الذي لا يراعي هذه الجوانب الثلاثة منهج يجانب الصواب.

منهج للمبتدئين في التربية

منهج للمبتدئين في التربية أولاً: قواعد هامة عامة في أصول المنهج: 1) لقبول العبادة شرطان: الإخلاص ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم قيل: (قولوا لمن لم يك مخلصاً: " لا تتعنّ "). فلذلك حرر الإخلاص واجتهد في ذلك واحرص على أن يكون عملك لله وحده لا رياء الناس، ولا شهوة، ولا هوى وحظ نفس، ولا لطلب الدنيا والعلو فيها، والأمر يحتاج إلى جهاد وصبر ومثابرة. 2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عَمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (¬1) فلا تتعبد إلا بالوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبفهم السلف لأصول العبادات، ولا تبتدع في دينك، فالبدعة شر من المعصية. 3) التدرج أصل في هذا المنهج فأوغل في الدين برفق، وراع فقه النفس، ولا تحملها فوق طاقتها فتستحسر وتترك، ولكن لا يكون التدرج تكأة للتفريط، ولا مدعاة للكسل، ولا سبيلاً لسقوط الهمة وعدم طلب الأعلى والأكمل والأفضل، قال ابن الجوزي: (للنفس حظ وعليها حق، فلا تميلوا كل الميل، وزنوا بالقسطاس المستقيم). ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1718) ك الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.

4) والصبر أصل آخر فلا تظن أنك ستجد قرة العين في الصلاة من أول مرة أو تستشعر حلاوة ولذة القيام في البداية أو تجد الخشوع والدموع عند تلاوة القرآن منذ الآية الأولى، كلا ولا، فالأمر يحتاج إلى صبر وصدق ومعاناة. قال بعض السلف: (عالجت قيام الليل سنة ثم تمتعت به عشرين سنة) فاصبر سنة وسنوات لتنال الرتب العالية. 5 - المجاهدة والمعاناة أصل مع الصبر والاصطبار. قال بعض العلماء: (من أراد أن تواتيه نفسه على الخير عفواً فسينتظر طويلاً بل لابد من حمل النفس على الخير قهراً) وهذا هو الحق المطلوب أن يحمل الإنسان نفسه على الخير حملاً. قال بعض السلف: (عودوا أنفسكم على الخير فإن النفوس إذا اعتادت الخير ألفته) جاهد نفسك لعمل الخير، جاهد نفسك لتحقيق الإخلاص، جاهد نفسك لتحسين العمل، جاهد نفسك للارتفاع بمستوى إيمانك، جاهد نفسك لتكون من المتقين. 6 - تدرب ذهنياً على العبادات قبل أدائها بمعنى أنك ينبغي أن تقرأ عن الصلاة، وفضل قيام الليل، وجزاء الصائمين القائمين، وعاقبة المتصدقين قبل أداء هذه العبادات، وكذلك قراءة أحوال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والصالحين لتكوين صورة لهذه

العبادات ذهنياً، واستشعارها قلبياً، ثمَّ الدخول في هذه العبادات بهذا التصور، فيكون الأمر أسلم وأدعى لتحصيلها على أحسن صورها وأكمل أحوالها. 7 - لا تستخف بقدراتك وكن مستعداً للمجازفة. إنَّ عدم المجازفة نتيجة الخوف من الفشل عائق للنجاح، إنَّ العبد الرباني الذي يعتمد على الله ويتوكل عليه ثم يحزم أمره وينطلق في عمله. قال الله تعالى: "وإذا عزمت فتوكل على الله " [آل عمران/159] وقال جل وعلا: " فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم " [محمد/21] أنت قوي فتوكل على الله، وأنت تستطيع الكثير، ولست أقل ممَّن وصلوا إلى المراتب العليا في العلم والعمل، بقي لك الصدق والتوكل، ثمَّ إذا أخفقت أو فشلت فأعمل فكرك كيف تجنب نفسك الإخفاق مرة أخرى. 8 - اطلب النتيجة لا الكمال. إنَّ المسلم الحكيم هو الذي يطلب النتيجة الصحيحة عبر مقدماتها الصحيحة دون أن يبالغ في مطلبه، فينزع إلى اشتراط الكمال في مواهبه، فإذا وجد قصوراً في نفسه ـ وهو لا شك واجد ـ سارع إلى إصلاحه، واجتهد في تصحيحه، وليس شرطاً أن يصير صحيحاً مائة في المائة،

لابد من قصور (فاستمتع بها على عوج). إنَّ الانشغال بتحسين نتائج العمل خير ألف مرة من اشتراط الكمال في الأعمال لأن ذلك مثبط عن الأعمال ودافع إلى الانقطاع والاستحسار. 8) تكامل الشخصية الإيمانية بتكامل أعمال الإيمان. قالوا: (لو أنَّ للنفوس بصمات لكانت أشد اختلافاً من بصمات الأصابع) ومن ثمَّ فليس كل علاج موصوفاً يناسب جميع النفوس؛ وقد علم فاطر النفوس سبحانه أنَّ خلقه هكذا، فجعل مراضيه سبحانه متعددة، تناسب إمكانات النفوس وطاقاتها وقدراتها، فشرع سبحانه الصيام والصلاة، والذكر والصدقة، والقرآن وخدمة المسلمين، وطلب العلم وتعليم الناس، والحج والعمرة، كل من هذه العبادات وعشرات غيرها منها فرائض، ومنها نوافل، وجعل سبحانه الفرائض بقدر ما لا يشق على النفوس، ثمَّ فتح الباب في النوافل يستزيد منها من يشاء، ولا حرج على فضل الله، فقم بالفرائض فأدِّها كما ينبغي، ثمَّ اعمد إلى النَّوافل فاستزد ممَّا تجد في نفسك رغبة وهمة إليه. قال الله في الحديث القدسي: " وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه " (¬1)، فزد في النوافل قدر ما تستطيع، ولكن لكل نفس باباً يفتح لها من الخير، تلج فيه إلى منتهاه. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (6502) ك الرقاق، باب التواضع.

قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: أنا لا أصوم ـ يعني النوافل ـ لأن الصوم يضعفني عن الصلاة، وأنا أفضِّل الصلاة على الصيام. هذا المنهج يناسب ـ إن شاء الله تعالى ـ جميع النفوس، حاولت أن أستوعب فيه جميع جوانب العبادة، ولكن إذا وجدت من نفسك همة ونشاطاً في جوانب العبادة فاسلكه، ولا تتوان وزد فيه، ولا تتأخر لعل الله يجعل فيه زكاة نفسك، والتزم جميع الجوانب بقدر الإمكان، فإنها مكملات لشخصيتك الإيمانية. 10 - المتابعة أم المداومة والاستمرار أبو الاستقرار. لابد لشيخ متابع، أو أخ كبير معاون، أو على الأقل زميل مشارك، لا تكن وحدك (فإنَّما يأكل الذئب القاصية) (¬1) فليكن لك شيخ يتابعك إيمانياً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتابع أصحابه يومياً فيقول: (من أصبح منكم اليوم صائماً، من أطعم اليوم مسكيناً، من عاد اليوم مريضاً) (¬2) وقد أمره ربه بذلك في أصل أصول التربية فقال: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم " [الكهف/28] فابحث لك عن شيخ وبالإخلاص ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (547) ك الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5701). (¬2) أخرجه مسلم (1028) ك الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر.

ترزق، وابحث عن أخ كبير تستشيره، فهو ذو خبرة سابقة تنفعك، وائتلف مجموعة من الإخوة الأقران يكونون عوناً لك على طاعة الله ورسوله، فتكونون " كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار " [الفتح/29] 11 - لا تمنن تستكثر اعلم ـ أخي ـ رزقني الله وإياك الإخلاص في القول والعمل، والسر والجهر، أنَّ التحدث بالعمل لا تخلو من آفات، فإمَّا أن يكون إظهار العمل للرياء والفخر والسمعة فيحبط عملك أو تحسد. فالإيمان يتعرض للحسد فتحصل الانتكاسة، فاكتم عملك، وأسرَّ بقرباتك، ولا تحدث بطاعاتك تسلم. ونصيحة أخرى: أنَّك لا تدري أي أعمالك حاز القبول، ونلت به الرضا، فمهما كثر عملك فلتكن على وجل خوفَ الرد وعدم القبول، أو حَذر الحسد، وإفساد الأحوال، ولا تفتر فتهلك، نعوذ بالله من تكدير الصافي، ونسأل الله السلامة والمسامحة.

أولا: القرآن الكريم

المنهج أولاً: القرآن الكريم قال بعض السلف: كل ما شغلك عن القرآن فهو شؤم عليك. اعلم أنَّ القرآن العظيم كلام الله تعالى من أكبر عوامل التثبيت على الإيمان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة " (¬1). وتلاوة القرآن من أفضل القربات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه " (¬2). وقال ابن مسعود رضي الله عنه (إن الله أنزل هذا القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً) ولذلك اجتهد في تلاوة القرآن ليلك ونهارك. ¬

(¬1) متفق عليه. أخرجه البخاري (7086) ك الفتن، باب إذا بقي في حثالة من الناس، ومسلم (143) ك الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب، وعرض الفتن على القلوب. (¬2) أخرجه مسلم (804) ك صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة.

وهاك منهجك في تلاوته: 1 - التلاوة أهم من الحفظ، والجمع بينهما هو المتحتم لمن يريد التربية. 2 - ختم المصحف كل جمعة هو هدي السلف رضوان الله عليهم أجمعين، وذلك بأن تتعود أن تقرأ جزءًا من القرآن كل صلاة فريضة، إما قبلها، وإما بعدها، أو يتم قسمته ما بين الصلاتين، تبدأ من عصر الجمعة، وتنتهي عصر الخميس من كل أسبوع، ولليلة الجمعة وظائفها. إن لم تستطع فعلى الأقل جزأين كل يوم في الصباح جزء وفي المساء مثله، أدنى الأحوال أن تقرأ جزءاً كل يوم فلك كل شهر ختمة وهذا فعل ضعيف الهمة فلا تدم عليه وإنما زد وردك بالتدرج لتختم كل أسبوع. 3 - عند التلاوة اجتهد في التدبر وذلك يحصل بالآتي:- أ- حضور القلب عند التلاوة وتفريغه من الشواغل بقدر الإمكان. ب- استشعار أن القرآن كلام الله العظيم فاخشع. ج- اجمع أهلك على التلاوة معك حتى ولو في بعض ما تتلو وتدارس معهم القرآن. د - الأمر يحتاج إلى صبر فليس من أول مرة يحصل لك الخشوع فلا تعجل واصبر ولا تجزع

ثانيا: الصلاة

هـ - مصحف يشتمل على معاني الكلمات على الأقل فتنظر فيما تريد فهمه. و- لابد من حفظ القرآن فهو من فروض الكفايات ولذلك طرق منها: * تعلم القرآن على يد شيخ متقن ولو بالأجر فالقرآن أغلى. * استشر أهل الخبرة في كيفية حفظ القرآن وطالع بعض الكتب المهمة في ... ذلك. * لابد من التسميع اليومي لزوجتك أو أحد أولادك ولا تتكبر عن ذلك ومن التسميع الأسبوعي أو نصف أسبوعي للشيخ. ثانياً: الصلاة 1 - الفرائض: أأصلح صلاة الفريضة أولاً بالحرص على صلاة الجماعة في المسجد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى لله أربعين يوماً في جماعة لا تفوته تكبيرة الإحرام كتبت له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق " (¬1). حاول تحقيق هذا الحديث وكلما فاتتك تكبيرة الإحرام فابدأ الأربعين مرة أخرى من الأول. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (241) ك الصلاة، باب ما جاء في فضل التكبيرة الأولى، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6365)

2 - النوافل

ب- احرص على الوضوء والوصول إلى المسجد مبكراً فإنه مهم لصلاح القلب. ج- احرص على الصف الأول خلف الإمام فإنه أدعى للخشوع وحضور القلب. د- اطرد الشواغل وفرغ قلبك واستشعر حلاوة الإيمان واجعل الصلاة قرة عين لك. هـ- أذكار الصلاة مهمة تدبرها وابحث عن معانيها وافهم ما تقول واستحضر معنى ما تدعو به و- تدبر ما تتلو من القرآن في الصلاة فإنه أدعى لحضور القلب واجعل قراءتك من المحفوظ الجديد ولا تصل بالعادة بسور محددة تكررها في كل صلاة. 2 - النوافل: - قال الله في الحديث القدسي " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه " (¬1) 1 - استحضر هذا الحديث عن صلاة النوافل لتطلب بها حب الله حتى يعطيك ما تسأل ويعيذك مما تكره. ¬

(¬1) تقدم تخريجه قريبًا.

2 - النوافل حريم الفرض فمن فرط في السنن أوشك أن يفرط في الفريضة ومن حافظ على السنن كانت الفرائض في حماية فأحط فريضتك بسنن تحميها. 3 - النوافل تتمم الفرائض الناقصة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى عليَّ صلاة لم يتمها زيد عليها من سبحاته حتى تتم " (¬1) فأتمم النواقص بنوافل كثيرة يتم الله لك. 4 - السنن الراتبة لا تفرط في شيء منها أبداً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بُني له بيت في الجنة، أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر " (¬2) 5 - صلاة التطوع كثيرة فأكثر ما استطعت فقد قال الله تعالى " واسجد واقترب " (العلق 19) فكلما سجدت أكثر كان قربك من الله أكثر وصرت عن الدنايا أعلى ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (18/ 22) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6348) (¬2) أخرجه الترمذي (414) ك الصلاة، باب ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة، وقال: حديث غريب، وابن ماجه (1140) ك إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في ثنتي عشرة ركعة من السنة، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6362)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة " (¬1) وهاك بعض المستحبات: ثمان ركعات ضحى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلَّى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين، ومن صلى أربعاً كتب من العابدين، ومن صلى ستاً كفي ذلك اليوم، ومن صلى ثمانياً كتبه الله من القانتين، ومن صلى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة " (¬2) أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار " (¬3) أربع ركعات قبل العصر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا " (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم (753) ك الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه (¬2) أخرجه الطبراني في الصغير (1/ 182) وقال الهيثمي في المجمع (2/ 237): رواه الطبراني في الكبير، وفيه موسى بن يعقوب الزمعي وثقه ابن معين وابن حبان، وضعفه ابن المديني وغيره وبقية رجاله ثقات. (¬3) أخرجه الترمذي (428) ك الصلاة، وقال: حسن صحيح غريب، وابن ماجه (1160) ك إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن صلى فبل الظهر أربعا وبعده أربعا. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6364) (¬4) أخرجه الترمذي (430) ك الصلاة، باب ما جاء في الأربع قبل العصر، وقال: غريب حسن، وأبو داود (1271) ك الصلاة، باب الصلاة قبل العصر. وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (3493)

ثالثا: القيام

ركعتين قبل المغرب وركعتين قبل العشاء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بين كل أذانين صلاة قالها ثلاثا قال في الثالثة: لمن شاء " (¬1) 3 - القيام: وما أدراك ما القيام، إن لقيام الليل أسرار. إنه إعداد للرجال .. إنه يثبت القلوب على الحق ويزيدها قوة إلى قوتها، إنه سر فلاح العبد، يبعد عن الخطايا والذنوب ويزيد الإيمان، يلحق العبد بالصالحين، ويبلغه مرتبة القانتين المحسنين يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة لغرفا، يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها. فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل ... والنَّاس نيام " (¬2) وقال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم " (¬3) ¬

(¬1) أخرجه مسلم (838) ك صلاة المسافرين وقصرها، باب بين كل أذانين صلاة. (¬2) أخرجه الترمذي (2526) ك صفة الجنة عن رسول الله، باب ما جاء في صفة غرف الجنة، وقال: حديث غريب، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2123) (¬3) أخرجه الترمذي (3549) ك الدعوات عن رسول الله، باب في دعاء النبي، وقال: حديث غريب، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4097).

رابعا: الصيام

وهاك طريقة التدرج في القيام: *- ركعتين على الأقل في جوف الليل وليس الطول شرطاً لهما ولابد من القراءة من المحفوظ من القرآن. *- في اليوم الثاني مباشرة لا تتكاسل ولا تفرط اجعلها أربعاً واجتهد في التدبر لتشعر بحلاوة الإيمان. *- وبعد أسبوع اجعلها ستاً ثم ثمانية غير الوتر. *- ابدأ بعد ذلك بتطويل الركعات حتى ولو بالقراءة من المصحف. *- استشعر حال قيام الليل الأنس بالله والخلوة معه سبحانه. *- لعدم الملال المسبب للترك لا تجعل صلاتك على وتيرة واحدة كل ليلة: فليلة أوتر بخمس، وليلة أخرى أوتر بثلاث، وليلة أوتر بسبع، وليلة طول القيام مع عدد ركعات أقل، وليلة لطول السجود، وليلة لتكثير الركعات وتخفيف الصلاة ... .وهكذا *- إذا فاتك القيام بالليل اقضه بالنهار. 4 - الصيام: أصيام الاثنين والخميس والثلاثة أيام البيض من كل شهر مدرجة لخير الصيام.

خامسا: الاعتكاف

ب- إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك ففي الصيام احفظ لسانك وليكثر ذكرك لله وليظهر على سمتك الخشوع والوقار والإخبات وإياك والمعاصي فيفسد الصيام. ج احرص على السحور متأخراً وعجل الإفطار. د- احرص على أن يصوم معك أهل البيت وشجعهم على ذلك واجتمعوا على الإفطار والسحور. هـ- احرص على إفطار الصائم: ادع غيرك إلى الصيام وفطر الصائمين. و- استشعر المعاني الإيمانية أثناء الصيام من إقامة حاكمية الله على النفس الأمارة بالسوء فتعود أمة مأمورة غير آمرة ومطيعة غير مطاعة، وأيضا استشعار ذل الفقر والحاجة والضعف والفاقة، وأيضاً استشعار نعمة الله في المطعم والمشرب. 5 - الاعتكاف: مع ضجيج الحياة وكثرة صخبها مع المادية القاتلة التي تطحن الناس بين رحاتها مع ضرورة الاختلاط بالناس يتكدر القلب ويتعكر صفو النفس فنحتاج إلى هدوء وراحة فلابد لها من عزلة وخلوة ولذلك يلزمك أخي طالب التربية إلى اعتكاف يومي فأخذ لنفسك الأنسب لحالك ولا تفرط: إما بين المغرب والعشاء يومياً وإما بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس كل يوم

وفي هذا الاعتكاف اليومي لابد لك من أمور: 1 - استصحب النية أولاً وارج ثواب الله. 2 - ذكر الله هو الأصل في هذه الجلسة واستشعر أن جليسك الله، قال تعالى في الحديث القدسي: " أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه " (¬1) فاجلس بالرغبة والرهبة. 3 - من آداب هذه الجلسة: ألا تلتفت، ولا تنشغل بغير ذكر الله، وليتعود النَّاس منك ذلك، ألا تكلم أحداً، ولا تسلم على أحدٍ، ولا تشارك في شيء، بل هذه خلوتك. وقد يكون هذا الاعتكاف في مسجد لا يعرفك فيه أحد، أو إذا تعذر الأمر فاجعل لك خلوة في بيتك ساعات كل يوم، حيث لا يراك أحد، ولا يشغلك شيء. 4 - المحاسبة اليومية من أهم أعمال هذه الخلوة، فالزم نفسك المحاسبة، والتزم بالكلمات الخمس: *- المشارطة: أن تشترط على نفسك صبيحة كل يوم أن تسلمها رأس المال وهو العمر (24 ساعة)، والأدوات: وهي القلب والجوارح، وتشترط عليها أن تضمن لك بذلك الجنة بالأعمال الصالحة آخر النهار. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه (3792) ك الأدب، باب فضل الذكر، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1906).

سادسا: الذكر

*- المراقبة: أن تراقب نفسك طيلة اليوم، فإنَّ همَّت بمعصية ذكَّرْتَها بالمشارطة، وإن توانت عن طاعة زجرتها بالمشارطة. *- المحاسبة: أن تستعرض شريط يومك نهاية كل يوم، وبالورقة والقلم يتم حساب الخسائر والأرباح، ومعرفة مصير المشاركة مع النفس. *- المعاتبة: أن يحصل عتاب على التقصير. *- المعاقبة: أن يتم العقاب على الذنوب والغفلة، فتعاقب نفسك بحرمانها من بعض شهواتها، وإلزامها بزيادة قرباتها، بذلك تنجو من شرها، وتقودها سالمة إلى ربها، والله المستعان. اعتياد هذا الاعتكاف بهذا البرنامج يومياً يؤدي إلى تلافي الأخطاء، وإصلاح الأحوال فاصبر، والزم تلتزم. 6 - الذكر. قال الله تعالى: " الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم " [آل عمران/191] وقال جل وعلا: " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب " [الرعد/28]

وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " دلني على عمل أتشبث به قال: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله " (¬1). وفي الكلمات الخمس التي أمر الله بها يحيى بن زكريا ـ عليهما السلام ـ أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن: " وآمركم أن تذكروا الله، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا، حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله " (¬2). الذكر نجاه، ذكر الله بركة، ذكر الله هداية، ذكر الله نعمة ونعيم، وقرة عين، وأنس روح، وسعادة نفس، وقوة قلب، نعم ذكر الله روح وريحان، وجنة نعيم. - عوِّد لسانك: رب اغفر لي فإنَّ لله ساعات لا يرد فيها سائلاً. - الأذكار الموظفة في اليوم والليلة افرضها على نفسك فرضاً، وعاقب نفسك على التفريط في شيء منها، وهي أذكار دخول البيت والخروج منه، وكذا المسجد وكذا الخلاء، وأذكار الطعام والشراب واللباس، والوضوء والصلاة والنوم والجماع، وأذكار الصباح والمساء. - احمل في جيبك المصحف، وكتاب حصن المسلم، ولا تفرط فيهما أبداً. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (3375) ك الدعوات عن رسول الله، باب ما جاء في فضل الذكر، وقال: حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7700). (¬2) أخرجه الترمذي (2863) ك الأمثال عن رسول الله، باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة، وقال: حسن صحيح،

عبودية المال

- احفظ الأذكار، وراجعها دائماً على الكتاب، واسأل عن معناها، وافهم ما تقول. - كثرة الصلاة على النَّبي صلى الله عليه وسلم بلا عدد محصور تزيل الهمّ. - كثرة الاستغفار تزيد القوة. - الباقيات الصالحات: " سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله " خير ثواباً وخير أملاً. - التهليل قول: " لا إله إلا الله " حصن حصين من الشيطان، والحوقلة قول: ... " لا حول ولا قوة إلا بالله " كنز من كنوز العرش. - سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ثقيلتان في الميزان. عموماً قال الله تعالى: " فاذكروني أذكركم " [البقرة/152] فاذكر الله يذكرك، ولا تنْسه فينساك. عبودية المال المال فتنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال " (¬1) ونحن في زمن الماديات، وصراع الناس على الكماليات، وهموم الناس الدنيئة التي خرَّبت قلوبهم وعلاقتهم بربهم في زمن التعاسة ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (2336) ك الزهد عن رسول الله، باب ما جاء أنَّ فتنة هذه الأمة في المال، وقال: حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2148).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدرهم والدينار " (¬1). في هذا الزمن الحرج يحتاج الإنسان إلى التخلص من ربقة المادية الطاغية؛ وذلك ببذل المال، قال تعالى: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " ... [الحشر/9] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصدقة برهان " (¬2) أي دليل على حب صاحبها لله. فهيا ـ أخي طالب التربية ـ لتربي نفسك على الزهد في الدنيا: *- ألا يكون للدنيا أي قيمة في قلبك، فهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلا تفرح بإقبالها، ولا تحزن على إدبارها، ولتستوِ عندك الحالتان؛ لأنك عبد للمعطي المانع قال تعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور " [الحديد/23] قيل للإمام أحمد بن حنبل: الرجل يملك ألف دينار ويكون زهداً!! قال: نعم. قيل: كيف؟! قال: إذا لم يفرح إذا زادت، ولم يحزن إذا نقصت. ¬

(¬1) جزء من حديث، أخرجه البخاري (2887) ك الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله. (¬2) أخرجه مسلم (223) ك الطهارة، باب فضل الوضوء.

المنهج في طلب العلوم الشرعية

المنهج في طلب العلوم الشرعية أيها المتفقه .. كثير من طلبة العلم يخبط خبط عشواء بسبب افتقاده للمنهجية في التعلم، فهو لا يعرف ماذا يدرس؟ بماذا يبدأ؟ ما هي الكتب التي عليه أن يقتنيها؟ والأمر سهل ميسور ـ بإذن الله تعالى ـ فإنَّ سلفنا الصالح قد قيدوا في ترتيب العلوم مصنفات لبيان هذه المسالة. ولابد أن تعرف قواعد السير حتى لا يتعثر جوادك: أولا: العلم كثير، والعمر قصير، فلا تشتغل بمفضول عن فاضل، ولا تتعدَّ. ثانيًا: خذ من كل علم بطرفه بادئ الأمر ثمَّ ترقَّ في الدرجات. ثالثًا: علومنا كلٌ واحد فلا تركن لجانب دون الآخر. رابعًا: علومنا منها علوم وسائل، ومنها علوم ثمرات، فابدأ بالبذر، واصبر في زمان السقي، وارتقب حصول الثمرة لتحصدها. خامسًا: لابد من المنهجية والمرحلية، فلكل علم ثلاث مراتب: اقتصار، واقتصاد، واستقصاء. فهن ثلاث: للمبتدئ، والمتوسط، والمنتهي.

ولا يجوز بحال أنْ تأخذ ما جُعل لمن هو أرقى منك درجة، وإلا بنيت من غير أسس صحيحة، وتلك آفة التَّسرع والعجلة، فلا تعجلْ. سادسًا: قدِّم فروض الأعيان على فروض الكفايات على المندوبات، وإياك ومكروه ناهيك عن حرام. (¬1) سابعًا: لابد من متابعٍ دليل يأخذ بيدك، يبصِّرك بمفاتيح العلوم، ومداخل الكتب، لتنأى عن شبهة " تصحيف " أو " تحريف "، ولابد أنْ يكون دليلك سلفي المنهج لتتربى بعيدًا عن التأويلات الباطلة والآراء الشاذة المنكرة. ثامنًا: لكل علم وفن مصطلحاته، ولا مشاحة في الاصطلاح، فاحرص على اقتناء معاجم المصطلحات، واجعل لكل علم دفترًا عندك، ودوِّن فيه كل مصطلح جديد. تاسعًا: لا يمر بك يوم دون تحصيل، فوقتك رأس مالك، والعلماء أبخل النَّاس بزمانهم الوقت أنفس ما عنيت بحفظه ... وأراه أسهل ما عليك يضيع ¬

(¬1) ممَّا يحرم تعلمه السحر والموسيقى، وكذلك الفلسفة في قطر لم تفشُ فيه، فإنْ فشت تعلمها المضطر لاستدفاع ضررها عن الناس، وبيان خطرها، ورد قالة السوء، ومنها تعلم القوانين الوضعية للحكم بغير ما أنزل الله، والقاعدة شهيرة: الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فكل ما أدى إلى حرام فهو حرام، كمن يتعلم صناعة الخمور أو السجائر، أو المعاملات الربوية الخبيثة في البنوك وشركات التأمين، فكل ذلك حرام تعلمه فضلاً عن العمل به.

الجدول العلمي في كل فن

عاشرًا: الكتاب خير جليس، وأفضل أنيس، فلا تقرا قراءة الغافل، بل حادثه وحاوره، لا تكن كالإسفنجة تتشرب كل شيء، بل كن كالقارورة المصمتة، تبصر من وراء حجاب. الجدول العلمي في كل فن تنبيهات: 1) ما يذكر من الكتب ليس ملزمًا فقد يكون هناك كتابًا آخر على نفس المستوى والشاكلة، فاستنصح من خبير بالفن ليدلك. 2) عليك باقتناء الطبعات المحققة لاسيما لأئمة المحققين كالشيخ / أحمد شاكر، والشيخ / الألباني، والشيخ/ محمود شاكر ـ رحمهما الله ـ والأستاذ / عبد السلام هارون، ومحمد أبو الفضل إبراهيم وغيرهم فاستبصر. أولاً: القرآن الكريم. - حفظه. قال أهل العلم: أول العلم حفظ القرآن. فلابد أن يبدأ طالب العلم بحفظ القرآن الكريم كاملاً، نعم حفظ القرآن فرض كفاية على الجملة، لكنَّا نقول بتعينه على طلبة العلم

الملتزمين في عصرنا، فإذا تقاعس هؤلاء فمن يسد الثغرة ويكفَّ عن الأمة؟ 1) ومن أقرب الوسائل لذلك إدمان التلاوة، واستغلال الأوقات المباركة كالسحر والبكور، والتزام طبعة واحدة من المصحف لترتسم في مخيلتك صورة تتابع الآيات في الصفحة، ودوام المراجعة في أداء نوافل الصلاة والقيام والسير في الطرقات، وغض البصر فإنَّه من أكثر المعينات لحفظ العلوم كافة. 2) تأدب بآداب حفظ القرآن، واقتنِ في ذلك، " التبيان في آداب حملة القرآن " للإمام النووي ـ رحمه الله ـ 3) استثمر سني الحفظ الذهبية (حتى الثالثة والعشرين من عمرك)، ومن فاتته فلا ييأس، فالموفق من وفقه الله تعالى، واستعن بالله ولا تعجز تنبيه من الكتب النافعة في مسألة حفظ القرآن. القواعد الذهبية في حفظ القرآن الكريم ... للشيخ /عبد الرحمن عبد الخالق. عون الرحمن في حفظ القرآن ... للشيخ / أبو ذر القلموني.

أحكام التلاوة والتجويد

- أحكام التلاوة والتجويد. لابد من المشافهة في تعلم هذا العلم. اتقن قراءة من القراءات كحفص عن عاصم، ابدأ: بمتن تحفة الأطفال فاحفظها ومن شروحه: فتح الأقفال شرح متن تحفة الأطفال ... للناظم سليمان الجمزوري. (¬1) بغية الكمال شرح تحفة الأطفال ... الشيخ / أسامة عبد الوهاب. ثنِّ: بحفظ متن الجزرية. ومن شروحه " فتح المريد في علم التجويد " عبد الحميد يوسف منصور. وانتهِ: بهداية القاري إلى تجويد كلام الباري ... للشيخ عبد الفتاح السيد عجمي المرصفي - علوم القرآن ابدأ بـ: لمحات في علوم القرآن. ... محمد الصباغ. مباحث في علوم القرآن ... صبحي الصالح أو مناع القطان. ثنَّ بـ: التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن ... طاهر الجزائري. ¬

(¬1) طُبع بمكتبة محمد علي صبيح وأولاده بالأزهر الشريف.

أصول التفسير

ثمَّ ... : الإتقان في علوم القرآن ... السيوطي. وانته بـ: البرهان في علو القرآن ... الزركشي. - أصول التفسير ابدأ بـ: رسالة في أصول التفسير ... لشيخ الإسلام ابن تيمية. ثنِ بـ: بحوث في أصول التفسير ... محمد الصباغ. وأخيرًا: قواعد التفسير جمعًا ودراسة ... خالد بن عثمان السبت فإنَّه جيد في هذا الباب. - كتب التفسير من الكتب التي أرخت تأريخًا طيبًا لحركة التفسير " كتاب التفسير والمفسرون " للشيخ / محمد حسين الذهبي، وهو كتاب جيد على الحقيقة. أما كتب التفسير ذاتها فابدأ بـ: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ... عبد الرحمن السعدي ثمَّ ... : تيسير العلي القدير مختصر تفسير ابن كثير ... نسيب الرفاعي أو عمدة التفسير (لكنه لم يكتمل) ... أحمد شاكر ثنِ بـ: محاسن التأويل ... القاسمي انتهِ ... : جامع البيان ... لابن جرير الطبري

ثانيا: علوم السنة

ثانيًا: علوم السنة 1) لا تشتغل بالحديث قبل حفظ القرآن وأخذ نصيبك منه. 2) لا تعمد إلى الاشتغال بفروع تخصصية قد سدَّها غيرك، فتشتغل بمفضول عن فاضل. 3) الحديث بحر لا ساحل له فالنَّهل من السنة تفنى الأعمار دون الإتيان على آخره. 4) لابد أن تكون لك حصيلة ضخمة من الأحاديث النبوية تتكاثر مع الوقت، فالسنة لواؤك، وبها يقوم منهجك. دواوين السنة ابدأ بـ: الأربعين النووية فاحفظها واستأنس بشرحها المبارك " جامع العلوم والحكم " لابن رجب الحنبلي وقد زاد عليها. ثمَّ ... : عليك بـ " رياض الصالحين " فإنَّه كتاب مبارك، كتاب منهج، سلفي محض. واستأنس بشرحه " نزهة المتقين شرح رياض الصالحين " في مجلدين لمجموعة من العلماء، ولشيخنا ابن عثيمين شرح حديث عليه فاقتنه. ثمَّ ... : " الترغيب والترهيب " للمنذري، وقد خرج تحقيق الشيخ الألباني لجزء منه.

ثمَّ: عليك بالكتب الستة: قال بعض شيوخنا: لا يجاوز طال العلم الخامسة والعشرين إلا وقد أتى على الكتب الستة قراءة وفهمًا، فعليك بـ: صحيح البخاري مع شرحه الماتع " فتح الباري ". صحيح مسلم مع شرح الإمام النووي له. جامع الترمذي وشرحه " تحفة الأحوذي " للمباركفوري. سنن أبي داود وشرحه " عون المعبود " لشمس الدين آبادي. سنن النسائي وشرح السيوطي عليه. وسنن ابن ماجه وشرح السيوطب عليه أيضًا. واستأنس في السنن الأربعة بجهود العلامة الألباني ـ رحمه الله ـ في تصحيحها وتضعيفها. ثمَّ تنتهي بمرحلة " المعاجم والمسانيد والمصنفات " كمعاجم الطبراني الثلاثة، ومسند الإمام أحمد، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى، ومصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة. ولا يفوتك " الجامع الصغير وزياداته " للسيوطي، مع تحقيق الشيخ الألباني في " صحيح الجامع الصغير " و " ضعيف الجامع " فإنَّه كتاب لا يخلو منه بيت داعية ولا طالب علم فضلاً عن عالم، ويمتاز بسهولة وقصر أحاديثه فيمكنك حفظ طائفة هائلة من " صحيح الجامع " تكوِّن حصيلة جيدة لك.

مصطلح الحديث

والكتاب مرتب على حروف الهجاء، وقد رتبه الأخ / عوني نعيم الشريف على الموضوعات، وخرج في أربعة مجلدات باسم " ترتيب احاديث الجامع الصغير وزياداته ". - مصطلح الحديث ابدأ بـ: تيسير مصطلح الحديث ... محمود الطحان. واحفظ: البيقونية، واقتنِ شرح الشيخ ابن عثيمين عليها. ثمَّ ... : نخبة الفكر وشرحها نزهة النظر لابن حجر العسقلاني. ثمَّ ... : الباعث الحثيث لابن كثير، أو قواعد التحديث للقاسمي. ثمَّ ... : متن التقريب للإمام النووي، وشرحه الجامع " تدريب الراوي " للسيوطي. وأخيرًا: ألفية العراقي. وشرحه " فتح المغيث " للسخاوي. وإن شئت ألفية السيوطي فلا بأس. وفي علوم الحديث بشكل عام اقتنِ " مباحث في علوم الحديث " للشيخ/ مناع القطان. تنبيه لا بأس أن تتدرب على تخريج الأحاديث بالطريقة المثلى، بتتبع الطرق والحكم على الأسانيد، فقط على سبيل الدربة، ففيها فوائد عظيمة تمكنك من الاحتكاك بكتب السنة ومعرفة مناهجها.

ثالثا: علم التوحيد أو العقيدة

ولا شك أنَّك ستحتاج في بحثك عن معرفة أصول هذا الفن، فاقتنِ: أصول التخريج ... محمود الطحان. التأصيل ... بكر أبو زيد (خرج منه مجلد واحد فقط). ثالثًا: علم التوحيد أو العقيدة. ابدأ بـ: وأرشح لك ـ أيها المتفقه ـ بعض الكتب التي تدلك على العقيدة الصحيحة السلفية " عقيدة أهل السنة والجماعة." ابدأ بـ: 200 سؤال وجواب في العقيدة. ثمَّ ... : رسالة " العقيدة الصحيحة " للشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ ثم َّ ... : شرح العقيدة الواسطية لخليل هراس. وللشيخ ابن عثيمين مجموعة في (33 شريطًا) في شرح الوسطية فاقتنه مع الكتاب. ثمَّ ... : احفظ " كتاب التوحيد " لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وشروحه كـ " فتح المجيد "، " وتيسير العزيز الحميد " ثمَّ ... : معارج القبول للحافظ أحمد حكمي. ثمَّ ... : شرح العقيدة الطحاوية. لأبى العز الحنفي. إلى أن تنتهي بكتب سلفنا الرائعة مثل: السنة. ... لابن أبي عاصم.

بعض المباحث المهمة

الإبانة. ... لابن بطة. شرح أصول أهل السنة والجماعة ... للالكائي. وفي بعض المباحث المهمة: في الولاء والبراء: ... اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية. في الاسماء والصفات القواعد المثلى في الاسماء الحسنى للشيخ ابن عثيمين. العذر بالجهل ... للشيخ / أحمد فريد. القضاء والقدر ... شفاء العليل ... لابن قيم الجوزية. مسألة العلو ... اجتماع الجيوش الإسلامية لابن قيم الجوزية، وكتاب ... " العلو للعلى الغفار " للحافظ الذهبي، مع مختصره للشيخ الألباني. وبالجملة ليكن لك من كتب ورسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأئمتنا منهلاً عذبًا ليصفو اعتقادك وفق عقيدة السلف الصالح. رابعًا: الفقه. تقدم معك رأينا في مسألة تعلم الفقه، ولذلك فالاختيار أن يبدأ بمتن من المتون الفقهية على مذهب من المذاهب الأربعة المعتبرة

فابدأ بـ: ففي الفقه الحنفي: " مختصر القدوري " المسمى بـ " الكتاب " مع شرحه ... " اللباب في شرح الكتاب " للشيخ عبد الغني الغنيمي الميداني. ثمَّ ... " بداية المبتدي " وشرحه " الهداية شرح بداية المبتدي " للمرغيناني، وشرحها " العناية " للبابرتي. ثمَّ ... " بدائع الصنائع " للكاساني. وينتهي بموسوعة الفقه الحنفي " المبسوط " للسرخسي، و" حاشية ابن عابدين " المسماه بـ " حاشية رد المحتار على الدر المختار " وفي الفقه الشافعي: " متن أبي شجاع " أو يحفظ " متن المهذب " للشيرازي. ثم عليه ب " الروضة "، و " منهاج الطالبين" للإمام النووى -رحمه الله-. فأما " الروضة"، فهو مختصرُ من كتاب " فتح العزيز شرح الوجيز" للرافعىِّ. وأمَّا " المنهاج "، فإنه من الكتب المعتمدة عند المتأخرين من فقهاء الشافعية وهو مختصر لكتاب " المحرر " للرافعى كذلك. ثم عليه ب " المجموع شرح المهذب " للإمام النووى أيضاً وهو أصلُ عظيمُ فى المذهب كله.

قال النووى -رحمه الله-: "اعلم؛ أنَّ هذا الكتابَ -إن سميته شرح المهذبِ- فهو شرح للمذهبِ كله، بل لمذاهبِ العلماء كلِّهم، وللحديثِ، وجمل من اللغةِ، والتاريخ والأسماءِ، وهو أصلٌ عظيمٌ في معرفةِ صحيحِ الحديثِ وحسنهِ وضعيفهِ وبيانِ عللهِ، والجمع بين الأحاديثِ المتعارضاتِ، وتأويلِ الخفياتِ، واستنباطِ المهماتِ" (1). لكنَّ الكتاب لم يتمه الإمام النووي، فأكمله السُّبكي -رحمه الله-، ثمَّ المطيعي -رحمه الله-، وأنت تَلْحظ تفاوتًا كبيرًا بين أساليب الثلاثة، فأعلاهم الأول ثمَّ الذي يليه بالترتيب، وكل ميسر لما خلق له (2). وفي الفقه المالكي: " رسالة ابن أبي زيد القيرواني " المسماه بـ (باكورة ... السعد) أو (مختصر خليل). ثم عليه بـ: " مواهب الجليل شرح مختصر الخليل " للحطَّاب، وهو من أشهر شروح "مختصر الخليل". ثم عليه بـ: " الشرح الكبير على مختصر الخليل " لأحمد بن محمد بن محمد بن احمد العدوى المالكى الشهير بالدردير (ت 1201 هـ)، وهو من الشروح المعتمدة فى المذهب.

ثم " حاشية الدسوقى على الشرح الكبير" لابن عرفة الدسوقى (ت 1230 هـ). ومن الكتب الحديثة: " مواهب الجليل من أدلة الخليل " للشيخ أحمد بن أحمد المختار الشنقيطى -وهو ابن عم صاحب " أضواء البيان"، وطبعته إدارة إحياء التراث الإسلامى بقطر. وفي الفقه الحنبلي: متن " عمدة الأحكام " لابن قدامة المقدسي، وشرحه ... " العدة " ثمَّ " المقنع " لابن قدامة وشرحه " الروض المربع ". ثمَّ " الكافي " لابن قدامة أيضًا. وينتهي بـ " المغني " لابن قدامة، الذي يعد مرجعًا مهم في الفقه المقارن، وأنت ترى أنَّه في آخر الطريق، وللأسف الشديد يبدأ به الكثيرون. لا بأس في مرحلة متقدمة من الاستئناس بـ " فقه السنة " للشيخ / سيد سابق، مع تعليقات الشيخ / الألباني في " تمام المنة " " سبل السلام " للصنعاني.

خامسا: أصول الفقه

وعلى طالب الفقه المتقدم متابعة المجلات الفقهية المتخصصة، وإصدارات المجامع الفقهية العالمية، كالمجمع الفقهي بمكة، وفتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية، وفتاوى دار الإفتاء المصرية، والقراءة في الأبحاث العصرية للاطلاع على رأي فقهاء العصر فيما يجد. خامسًا: أصول الفقه. 1) لا يتعلم الأصول إلا بعد الانتهاء من المرحلة الأولى في الفقه ليتصور طالب العلم الفروع الفقهية في البداية، ثمَّ يتعلم كيفية تأصيل الأصول، وتخريج الفروع من الأصول. 2) قد يحتاج طالب العلم إلى دراسة منطقية أو كلامية ليحسن التعامل مع كتب الأصول التي استقت من المنطق والكلام، فلا ينبغي أن يتعدى طالب العلم ذلك بمعنى ألا يستفيض في دراسة هذه العلوم التي كرهها سلفنا وحذروا منها كما تدري، وبحمد الله ثمَّ جهود مباركة في تخليص علم أصول الفقه من الكلاميات، والتركيز على جانب الثمثيل من النصوص الشرعية. كيف تطلب علم الأصول؟ ابدأ بـ: " أصول الفقه " لعبد الوهاب خلاف أو لأبي زهرة، أو لأحمد إبراهيم، ثمَّ للخضري. ثمَّ ... : " أصول الفقه " لأبي النور زهير.

سادسا: علوم اللغة

ثمَّ ... : " معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة " لمحمد حسين الجيزاني. والحنفي المذهب: عليه بحاشية " التلويح على التوضيح " للتفتازاني. " والتقرير والتحبير " للكمال بن الهمام. ومن عداه عليه بـ: " نهاية السول " للإسنوي الشافعي، " وجمع الجوامع " لتاج الدين السبكي. وتنتهي عند أفضل ما ألِّف في الأصول ومقاصد الشريعة " كتاب الموافقات " للإمام الشاطبي. وفي قضية مقاصد الشريعة لا بأس بكتاب " مقاصد الشريعة " للطاهر بن عاشور أو لعلال الفاسي. ومن هذا الباب كتاب " مقاصد المكلفين " للدكتور/ عمر الأشقر. وهو بحثُ مفيدُ ماتعُ عليك به، ولو أن تسطره بيدك لكان أولى. سادسًا: علوم اللغة. 1) علوم اللغة متشعبة، والمجتهد في اللغة مجتهد في الشرع كما قال الشاطبي.

2) إنَّما سقمت الأفهام يوم صرنا أعاجم فلا تقل: علوم لغة، وعلوم شرع، فعلوم اللغة جزء خطير من علوم الشريعة، فعليها مدار ضبط الأفهام فتنبه. في علم النحو: ابدأ بـ: " الأجرومية " فاحفظها، واستأنس بشرح " التحفة السنية " عليها للشيخ / محمد محيي الدين عبد الحميد. ثمَّ ... : " قطر الندى " لابن هشام. ثمَّ ... : " شذور الذهب " له أيضًا. وفي المرحلة الثانية ابدأ بـ: حفظ الألفية وتدرج مع شروحها. شرح ابن عقيل، ثمَ شرح الأشموني، ثمَّ حاشية الصبان وفي المرحلة الثالثة عليك بـ " مغني اللبيب " لابن هشام، و " المفصل " لابن يعيش، وأخيرًا " الكتاب " لسيبويه. في علم الصرف ابدأ بـ " شذا العرف في علم الصرف "

ثمَّ " لامية الأفعال "، وكثير ممَّا مرَّ ذكره من الكتب النحوية تحوي مباحث علم الصرف المختلفة. في علم البلاغة ابدأ بـ " البلاغة الواضحة " لعلي الجارم ثمَّ " مقدمة تفسير ابن النقيب " تحقيق د/ زكريا سعيد علي. ثمَّ " أسرار البلاغة " و " دلائل الإعجاز " كلاهما لعبد القاهر الجرجاني بتحقيق الشيخ /محمود محمد شاكر. في غريب الكتاب والسنة. المفردات في غريب القرآن ... الراغب الأصفهاني. النهاية في غريب الأثر ... لابن الأثير في المعاجم اقتنِ " مختار الصحاح " لا يفارقك جيبك.

ثمَّ ابدأ في التعامل مع المعاجم المختلفة بأنواعها: كالوسيط والوجيز، ولسان العرب لابن منظور، والبحر المحيط للفيروز آبادي. في الأدب ابدأ بـ " حفظ المعلقات السبع " لتكوِّن حصيلة لغوية جيدة. اقرأ في " خزانة الأدب " للبغدادي، " صبح الأعشى " للقلقشندي، ودواوين أبي الطيب المتنبي وأبي تمام والبحتري وأبي العتاهية وغيرهم من الشعراء، تجنب الرديء المخالف، والتمس من أشعار الحكمة ما ينفعك.

أيها المتفقه ..

أيها المتفقه .. قد آذن الركب بالرحيل، وقد بلغت جهدي في نصحك، فهلا شمرت عن ساعد الجد، واتخذت من تلك المنطلقات العشرة زادا لرحلتك، عساك أبصرت السبيل، وقد بقى اليسير من العمل، كي نبلغ فيك الأمل، فبالله لا تركن فأمتك مقهورة، والأيدي مقطوعة، والآمال عليك معقودة. أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما يعلمنا، وأن يزيدنا علمًا. وكتبه الفقير إلى عفو مولاه محمد بن حسين يعقوب غفر الله له ومشايخه ولأهله ووالديه وأولاده وللمسلمين والمسلمات ولمن ساعد في نشر هذا الكتاب والله تَعالى الموفِّقُ، والحمدُ للهِ أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله

§1/1