منحة السلوك في شرح تحفة الملوك

بدر الدين العيني

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم إن أحرى ما يملى في تباشير الخطب والديابيج، وأحسن ما يتلى في بحابيح الدياجر والدياييج، وأبهى فرايد تنظم في عقد الجمان، وأسنى جواهر ترصع في يواقيت أركان الأذهان، حمد من هدانا منهج الهداية، وشكر من أنجانا من مسلك الغواية، الذي أرشدنا دينا مضيا، وعلمنا شرعا مرضيا هنيا، وبعث إلينا نبيا صادقا أمينا، من أكرم محتد وأشرف جرثومة، وأطيب مغرس وأعرف أرومة، عليه صلوات لا ينهى عددها، ولا يحاط مبلغها، ولا يدرك أمدها، ثم على أزواجه الطاهرات، ونسائه الزاكيات، وعلى خلفائه الراشدين، وآله وصحبه أجمعين، والرضوان على علماء المسلمين، مصابيح الدنيا والدين، ما دخل الليل في النهار، وما هبت الرياح وامتدت الأنهار. أما بعد: فإن العبد الفقير إلى ربه الغني، أبا محمد محمود بن أحمد العيني، عامله الله ووالديه بلطفه الخفي، يقول: لما وقعت في الديار المصرية، ديار خير وعلم وأمنية، ورأيت الترك منكبين على المختصر الموسوم بتحفة الملوك، لكونه هاديا إلى أوضح السلوك، راغبين فيه غاية الرغبة، مجتهدين فيه بأشد همة، لكونه مختصرا لطيفا، ومنتخبا شريفا، بحيث يحصل منه الحظ للمبتدئ والفضل للمنتهي، وأنه محتاج إلى الشرح والإيضاح، والبيان والإفصاح، أردت أن أشرح له شرحا يذلل الصعاب، ويزيل عن مخدراته النقاب، متعرضا لحل المتن وبسط مسائله، وإيضاح ما يحتاج إلى البيان من دلائله، مترجما بكتابه (منحة السلوك في شرح تحفة الملوك) فالمسؤول من الله أن يرزقنا الفهم والدراية، ويعصمنا عن الجهل والغواية، ويوفقنا طريق الصواب،

ويحجزنا عن الوقوع في مظان الارتياب، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. ومأمول من الناظر فيه أن ينظر بعين الصدق والصفا، ولا ينظر بعين الحسد والجفا، فإن الجسد لا يخلو عن الحسد، ولكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه، اللهم اعصمنا عن نفث عاقد إذا عقد ومن شر حاسد إذا حسد، توكلي عليه وهو حسبي ونعم الوكيل.

بسم الله الرحمن الرحيم أقول: قد جرى دأب السلف والخلف من المصنفين رحمهم الله أن يعنونوا كتبهم بالبسملة وذلك من وجوه ثلاثة: الأول: اقتداء بالكتاب العزيز المستفتح هكذا، والثاني: عملا بقوله عليه السلام: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع) رواه أبو داود وابن ماجه، والثالث: تبركا باسم الله في ابتداء الأمر، وتفاؤلا به ليوفقه طريق الرشاد، ويسلكه سنن السداد، ويعاذ به من شر أبي كردوس الرجيم، ويلاذ به من مكره العظيم، فإن فيه معاذا للمؤمنين وملاذا للمسلمين. ألا يرى أن من اعتراه خطب جسيم واحتواه أمر عظيم، كيف يتلفظ باسم من هو يعزو نفسه إلى بابه، ويعدها من جملة أحبابه ليحصل له المناص من ذلك والخلاص في ذلك. وكيف ينتبّ من حواليه، وينشرد من جوانيه، من هو به حصل له ما حصل

ووقع له ما وقع، فبالحرى ذلك في اسم الله تعالى؛ لأنه هو المخلص في الدنيا والآخرة، والمنجي من مكائد أبي مرة ومصايد الحارث ووساوس الولهان، وكيف لا وإن سائر أسماء الله تعالى جميعها مضمنة، فيه مندرجة فيما تحته، كما قيل: إن لفظة الله اسم للذات، مستجمع لجميع الصفات، وأن سورة التوحيد مخصوصة به، وكلمة الشهادة واقعة به، والأيمان مشروعة به. ولو بسطنا القول فيه من حيث الاشتقاق والوضع والإعراب والمعاني والبيان والبديع، ومن حيث اختلاف المجتهدين فيما يبتنى عليه من الأحكام، ومن حيث الثواب والفضيلة، ومن حيث ما ورد فيه الآثار والأخبار، لاحتجنا إلى دفاتر ما تحمل على الأكتاف، ولكن نذكر شيئا نزرا بقدر ما يتحمله هذا المختصر، تشفيا لصدور الناظرين، وترويا لقلوب الواردين. فنقول: (بسم الله) أي بسم الله أشرع، وهو اللائق به، وكذلك المسافر إذا حل أو ارتحل وقال: بسم الله، أي بسم الله أحل، وبسم الله أرتحل، وكذلك كل فاعل يبدأ في أول فعله: بسم الله. فإن قلت: لم قدرت المحذوف متأخرا؟ قلت: لفائدة الاختصاص الذي يحصل بتقديم الاسم وتأخير الفعل كما في {إياك نعبد وإياك نستعين}. فإن قلت: لم قدم الفعل على الاسم في قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}. قلت: هذا أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الأمر بالقراءة أهم لتبليغ الرسالة فلذلك قدم. فإن قلت: لفظة الله اسم أو صفة؟ قلت: اسم غير صفة، ألا ترى أنك تصفه ولا تصف به فتقول: الله رحيم، ولا تقول: الرحيم الله. فإن قلت: اسم موضوع أو مشتق؟ قلت: ليس بمشتق في الأصح، والذين ذهبوا إلى اشتقاقه بعضهم قالوا: من ألِه يألَه بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر: أي

سكن، وبعضهم قالوا: من وله يوله: أي تحير، وبعضهم قالوا من تأله يتأله: أي تضرع، وبعضهم قالوا: من لاه يلوه: أي احتجب، فإن قلت: كيف نراعي هذه المعاني في لفظة الله؟ قلت: مراعاتها ظاهرة: أما الأول: فلسكون الخلق إليه، وأما الثاني: فلتحيرهم في كنه عظمته، وأما الثالث: فلتضرعهم إليه، وأما الرابع: فلأنه محتجب عن إدراك الأبصار وإحاطة الأفكار. فإن قلت: ما الفرق بين الرحمن والرحيم؟ قلت: الرحمن فعلان من رحم، كغضبان من غضب. والرحيم: فعيل من رحم، كسقيم من سقم، وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم، فلذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا؛ لأن الزيادة في اللفظ لزيادة في المعنى، وإليه الإشارة في الكشاف، فيكون هذا من باب التتميم والتكميل لا من باب الترقي، لأن الترقي شرطه من الأدنى إلى الأعلى، ولو كان ذلك لقيل (بسم الله الرحيم الرحيم). فإن قلت: ما معناهما من حيث اللغة؟ قلت: قد علمت أنهما مشتقان من رحم يرحم رحمة وهو: التعطف والحنو. ومنه الرحيم لانعطافها على ما فيها. فإن قلت: كيف يجوز أن يوصف الله بهذا المعنى؟ قلت: يكون مجازا من إنعامه على عباده؛ لأن مآل التعطف والحنو يفضي إلى هذا، كما أن سخطه عبارة عن عقابه. وأما إعرابها: فقوله: بسم: مجرور بالباء، ومحل الباء نصب هو ظاهر، لأنه إما مفعول وإما

حال، ويجوز أن لا يكون في قوة ابتدائي بسم الله، أي ابتدائي حاصل بسم الله، ولفظة (الله) مجرور بالإضافة، والرحمن الرحيم مجروران بالوصفية. وهذا القدر كاف للفطن الذكي، ولا ينفع الإكثار والبسط للجاهل الغبي. قوله: (الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) أقول: هذا جزء من القرآن الكريم أتى به في أول كتابه لوجوه كثيرة: الأول: تأسيا بكتاب الله تعالى فإنه مستفتح أولا بالبسملة، وثانيا بالحمدلة. والثاني: عملا بقوله عليه السلام: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أقطع) رواه أبو داود وابن ماجه وأبو عوانة. وما قيل: إن هذا وحديث البسملة متعارضان ظاهرا: فقد مر جوابه فيك تابنا المستجمع في شرح المجمع مستوفى.

والثالث: اتباعا للمصنفين في أنهم يثنون الابتداء بالحمد لله. والرابع: تفاؤلا به للتبرك، وليس شيء مما يتبرك به أفضل من القرآن. والخامس: أن هذا اقتباس، وهو من صنعة البديع، وهو أن يذكر شيئا من القرآن أو الحديث لا على أنه منه. والسادس: أن هذا الجزء الشريف مشتمل على الحمد الذي هو رأس الشكر والسلام على الأنبياء؛ لأن المراد من قوله: {على عباده الذين اصطفى} هم الأنبياء. والسابع: دفعا لسؤال من يسأل: أنه لم اختار الحمد على المدح والشكر؟ فإن قلت: دأبهم أن يصلوا على النبي عليه السلام بعد الحمد لله، والمصنف خالفهم في ذلك. قلت: لا، لأن المراد من عباده الذين اصطفى: هم الأنبياء كما قلنا، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم داخل في جملتهم، فتكون مصليا عليه أيضا. فإن قلت: هم قد صرحوا، وهو قد ترك التصريح، مع أنه ليس فيه لفظ الصلاة. قلت: طريقه آكد وأبلغ؛ لأنه كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكناية أبلغ من الصريح، لما فيها من الإشعار على الفخامة وعلو القدر ما ليس فيه، والسلام ههنا بمعنى الصلاة، على أن البعض لم يفرقوا بين الصلاة والسلام، أو يكون المراد من عباده الذين اصطفى: هو محمد صلى الله عليه وسلم، من باب إطلاق الكل وإرادة البعض. فإن قلت: كيف يكون من هذا الباب والمراد الجميع في التفسير؟ قلت: قد تقدم أنه اقتباس من القرآن فلا يكون منه مطلقا، فيعمل مراده حينئذ، ثم الحمد هو الوصف بالجميل على جهة التفضيل لا على جهة الاستهزاء، والألف واللام فيه للاستغراق، أي كل واحد من أفراد الحمد لله تعالى، وليست هي للعهد كما توهمه المعتزلة، والحمد: مرفوع بالابتداء، وخبره (الله) وسلام: عطف عليه، وعلى عباده: جار ومجرور متعلق بمحذوف، واللذين: اسم موصول، واصطفى: صلته، والعائد محذوف تقديره: الذين اصطفاهم: أي اختارهم من بين عباده بأشياء مخصوصة، وأصله: اصتفى، لأنه من صفى يصفوا صفوة وصفاءً، فنقلت إلى باب الافتعال، ثم قلبت التاء طاء لما عرف في موضعه.

قوله: (هذا مختصر في علم الفقه جمعته لبعض إخواني في الدين بقدر ما وسعه وقته). أقول: أي هذا الكتاب الذي صنفته كتاب مختصر، هذا التقدير إذا كانت الخطبة بعد الفراغ من التصنيف، وإن كانت في أول الشروع: تكون الإشارة حينئذ إلى ما في خاطره؛ لأنه تصور في خاطره أن يصنف كتابا صفته كذا وكذا، مثل قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا}. فإنه عليه السلام أشار إلى الكعبة قبل بنائها، لأنه تصورها في قلبه ما من شأنها يكون كذا وكذا. وقوله: (في علم الفقه) أي في بعض علم الفقه، وإنما قدرنا هكذا: لأن هذا المختصر مقتصر على عشرة كتب ليس إلا. والفقه في اللغة: الفهم، كما في قوله تعالى: {يفقهوا قولي} أي يفهموا، وفي اصطلاح الفقهاء: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، وعن أبي حنيفة: أنه معرفة النفس ما لها وما عليها. وقيد بقوله: (لبعض إخواني) لأنه لا يمكن أن يكون هذا المختصر لجميع إخوانه، لأن المؤمنين شرقا وغربا كلهم إخوانه في الدين، لقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} وإنما قيد بقوله: (في الدين) احترازا عما إذا كان له أخ في النسب، ولا يكون أخا له في الدين، مثل ما إذا كان كافرا.

وقوله: (بقدر ما وسعه وقته) أي جمعته بقدر ما وسع هذا المختصر وقت المختصر. فالضمير في وسعه: منصوب على المفعولية، وفاعله قوله: (وقته) والضمير في وقته مجرور بالإضافة، وكلاهما عائدان إلى المختصر. وفي بعض النسخ: بقدر ما وسعني وقته، والحاصل أن هذا اعتذار من المصنف في سبب الاختصار، وهو عدم وسعة الوقت على أطول من هذا: إما باعتبار أن المختصر مطلوب مرغوب فيه، وإما باعتبار كونه مشغولا بخلافه أيضا، ولم يساعده وقته إلا بهذا المقدار، وهذا هو الظاهر فافهم. قوله: (واقتصرت فيه على عشرة كتب هي أهم كتب الفقه له وأحقها بالتقديم) أقول: هذا بيان لقوله (هذا مختصر في علم الفقه) لأنه لما قال ذلك: ألقى في ذهن السامع أنه مختصر، ولكن ما تحقق عنده كيفية اختصاره ولا كمية أبوابه، ولما قال على عشرة كتب: انتقش في ذهنه أنه على عشرة كتب ليس إلا. وقوله: (هي أهم كتب الفقه) أي الكتب العشرة التي أذكرها: أهم كتب الفقه لبعض إخواني. وكونها أهم كتب الفقه ظاهر. أما الصلاة والزكاة والصوم والحج: فلأنها قواعد الإسلام وأسه، لما روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة

وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان) فهذه أركان خمسة للدين. أما الشهادتان: فموضعهما الكلام، فلذلك لم يذكرهما المصنف، لأنه علم برأسه مستقل بنفسه. وأما الصلاة: فلأنها تالية الإيمان، وثانيته في الكتاب والسنة، أما في الكتاب فقوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة}. وأما في الحديث: فما رويناه، وأنها أحد شطري الإيمان، ألا يرى أن تاركها جاحدا: كافر بالإجماع؟ وكسلا وتهاونا: فاسق، فيؤدي ويضرب، وعند الشافعي: يقتل، فقيل: حدا، وقيل: كفرا، وقد ورد في تاركها وعيد شديد لما روى مسلم في صحيحه بإسناده إلى جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بين الرجل والكفر ترك الصلاة). وأما الطهارة: فهي شرطها فلا تنفك عنها. وأما الزكاة: فلا ريب أنها تالية الصلاة، وثانيتها في الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}.

وأما في الحديث: فما رويناه، وأنها من أعظم أركان الدين، وكيف لا وقد قال عليه السلام (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها، حتى يقضى بين الناس) رواه مسلم وابن ماجه. وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها من نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما ردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار). وأما الصوم: فلا زيغ أنه من جملة ما يبتنى عليه الإسلام، وأنه هو العبادة التي أضافها الله تعالى إلى نفسه، وإن كان جميع العبادات له في الحقيقة، على ما روي في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به). وأما الحج: فهو أيضا من شعائر الإسلام، وتقام به شعائر الله تعالى، وتحصل به الجنة، لما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).

وفيه أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه) وفي رواية ابن ماجه (من حج هذا البيت ...) إلى آخره. وأما الجهاد: فلا مراء أنه من قواعد الإسلام، ألا يرى أن التولي من الزحف كيف عد من الكبائر، وكيف رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وقال: (يضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسولي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك ..) الحديث بتمامه في صحيح مسلم. وأما الصيد والذبائح: فلا ريبة أنهما يكثران من الخلق بالنسبة إلى غيرهما من المباحات، لا سيما الذبائح، فتكون الحاجة ماسة إلى علمه. وأما الكراهية: فلا غرو أن فيها بيان الحل والحرمة، ولا شك أن تمييز الحلال من الحرام والاجتناب عنه من قواعد الإسلام. وأما الفرائض: فلا عُندُد أنها نصف العلم لقوله عليه السلام: (تعلموا الفرائض وعلموها فإنه نصف العلم وهو ينسى، وهو أول شيء ينتزع من أمتي) رواه ابن ماجه. وقال عليه الصلاة والسلام: (العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة) رواه أبو داود.

وأما الكسب مع الأدب: فلا معلندد أن طلب الكسب فريضة، فيكون داخلا في القواعد. والأدب: التخلق بالأخلاق الحميدة، ولا شك أن التأدب بالآداب الحسنة واجب، وترك الأدب في كثير من المواضع يوجب الفسق ويسقط العدالة. هذا بيان وجه اختيار المصنف هذه الكتب العشرة، على أنا نقول: إنها أكثر وقوعا بالنسبة إلى غيرها، فإن المكلف يمكن أن لا يقع له في عمره من الوكالة أو الكفالة أو المضاربة أو الرهن أو الهبة أو العارية أو نحوها، ولا يمكن شرعا أن لا يقع له شيء من مسألة الطهارة أو الصلاة أو الصوم أو الفرائض أو الكراهية أو الكسب، وعدم الوقوع في حق البعض لوجود المانع نادر بالنسبة إلى الوقوع في حق الأكثرين، والنادر كالمعدوم عند وجود الأكثر فافهم. قوله: (نفعه الله به وجعله سببا لترقيه إلى أعلى مراتب الآخرة) أقول: أي نفع الله بعض إخواني في الدين بهذا المختصر، هذه جملة دعائية، إخبار في معنى الإنشاء، تقديره: اللهم انفعه به: أي وفقه وارزقه العمل بما فيه، لأنه حين يعمل بما فيه يهديه إلى صراط مستقيم، ويرشده إلى منهج قويم. قوله: (وجعله سببا لترقيه) أي جعل الله هذا المختصر سببا لترقي بعض إخواني في الدين الذي يشتغل فيه ويعمل بما فيه: إلى أعلى مراتب الآخرة، وهو نظره إلى ربه الكريم من غير كيف ولا تشبيه ولا قرب قريب ولا بعد بعيد، نازلا في دار البقاء، وحالا في دار الكرامة (اللهم ارزقنا ذلك يا خير الناصرين ويا رب العالمين) وهذه أيضا جملة دعائية: إخبار في معنى الإنشاء. ومعنى الترقي: هو التصعد والتدرج، وهو الوصول من الأدنى إلى الأعلى على سبيل التدريج، فافهم.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة أقول: ابتدأ المصنف في بيان الكتب العشرة التي اختارها، فإن قلت: لم قال: كتاب الطهارة، ولم يقل باب الطهارة؟ قلت: لأن الباب عبارة عن النوع، والكتاب معناه: الجمع في اللغة، فكأنه يجمع الأنواع التي تحته وهي: الوضوء والغسل وأحكام المياه والآبار والأسار ونحوها. فإن قلت: لم قال كتاب الطهارة ولم يقل كتاب الطهارات؟ قلت: الطهارة مصدر يتناول القليل والكثير، فلا يحتاج إلى الجمع. فإن قلت: لم قال كتاب الطهارة ولم يقل كتاب الوضوء؟ قلت: الطهارة تطلق على الوضوء والغسل وطهارة المكان والثوب والبدن، وطهارة الآبار ونحوها. والوضوء لا يطلق إلا على غسل الأعضاء الثلاثة ومسح ربع الرأس. فإن قلت: لم قدم كتاب الطهارة على الصلاة؟ قلت: لأنها شرط الصلاة، والشرط دائماً بقدم على المشروط، إذ وجوده يتوقف على وجود الشرط. والطهارة مصدر من طهر الشيء بفتح الطاء وضمها: هي النظافة مطلقاً، وفي الشرع: النظافة عن النجاسات. قوله: (الماء على ثلاثة أقسام): أقول: إنما قدم بحث المياه على الوضوء والغسل لأنه آلة لهما، وهما يحصلان

به، فلا بد من أن يقدم الآلة أولاً ليكون المكلف على الاستعداد، ثم قدم الماء المطلق على سائر أقسام الماء وهي: المقيد، والمستعمل، والمختلط، والمعتصر، والمتغير، ونبيذ التمر، والمكروه، والمشكوك، والنجس، لأن الطهارة تحصل به بطريق الأصالة، بخلاف بواقيه، فإن بعضها لا يجوز استعماله: كالنجس، وبعضها يجوز عند عدم المطلق: كالمكروه، وبعضها بالجمع بالتراب: كالمشكوك. قوله: (طاهر وطهور) أي القسم الأول: طاهر وطهور، أي طاهر في نفسه وطهور لغيره. قوله: (وهو الماء الباقي على أوصاف خلقته) هذا حد الماء الطاهر والطهور، وهو الماء الذي يسميه الفقهاء: ماء مطلقاً، وهو ما يكون باقياً على أوصاف خلقته التي خلقه الله تعالى عليها من غير أن يتغير طعمه ولونه وريحه، وذلك كماء السماء والعيون والآبار والأنهار والبحار والحياض والغدران ونحوها. قوله: (ومنه ما يقطر من الكرم) أي من الماء الطاهر والطهور ما يقطر من الكرم أيام الربيع، لأنه يخرج من غير علاج. وذكر في المحيط: أنه لا يتوضأ بماء يسيل من الكرم، لكمال الامتزاج. قوله: (والمتغير بطاهر) أي ومنه المتغير، أي من الطاهر والطهور: الماء الذي تغير بالشيء الطاهر كالصابون والزعفران، والحرض ونحوها، ولكن بشرطين: الأول: أن لا يغلبه بالأجزاء، أشار إليه بقوله: (ما لم يغلبه بالأجزاء).

الثاني: أن لا يجدد له اسم آخر، أشار إليه بقوله: (ولم يجدد له اسم آخر) لأنه إذا جدد له اسم آخر: لا يبقى ماء: كالمرق وماء الباقلا والخل وسائر الأشربة. واعلم أن المراد من الغلبة بالأجزاء هو: أن يخرج الماء من الصفة الأصلية وهي الرقة، بأن يثخنه إلى أن يجعله ثخيناً، لا أن يكون من حيث الوزن أكثر كما يتوهمه بعض الناس، نص عليه في شروح الهداية. ويعضده أيضاً قول قاضي خان: "أن التوضي بماء الزعفران وزردج العصفر يجوز إن كان رقيقاً والماء غالب، فإن غلبت الحمرة وصار متماسكاً لا يجوز". ويقويه قول أبي يوسف في الأمالي: "إذا اختلط الصابون بالماء وغلب عليه وأثخنه: لا يجوز التوضي به، وإذا كان رقيقاً لكن علاه بياض الصابون: يجوز

التوضي به. وكذلك إذا طبخ الآس والبابونج في الماء، فإن غلب على الماء حتى يقال ماء البابونج أو ماء الآس: لا يجوز التوضي به". وههنا تفريعات أخر ذكرتها في شرحي المستجمع، فمن رامها فعليه بذيله. قوله: (وطاهر فقط) أي القسم الثاني من الأقسام الثلاثة: ماء طاهر في نفسه فقط، يعني غير طهور لغيره (وهو كل ماء أزيل به حدث أو أقيمت به قربة) وهو الماء المستعمل، وسبب استعمال الماء: أحد الأمرين عند أبي يوسف، وهما: إزالة الحدث والتقرب، وهو أن يتوضأ وهو على الوضوء قصداً للقربة، وعند محمد: السبب التقرب فقط. وفي حكمه ثلاث روايات عن أبي حنيفة: في رواية: نجس مغلظ، وبها أخذ الحسن، وفي رواية: نجس مخفف، وبها أخذ أبو يوسف، وفي رواية: طاهر غير طهور، وبها أخذ محمد، وهو أحد قولي الشافعي، وهو الصحيح وعليه الفتوى. قوله: (ونجس) أي القسم الثالث من أقسام الثلاثة: ماء نجس (وهو ماء قليل وقعت به نجاسة وإن لم تغيره) لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة" رواه أبو داود. ولو لم يكن الماء منجساً لم يكن للنهي فائدة.

والقلتان: تتنجس بوقوع النجاسة فيها، خلافاً للشافعي، والحديث الذي ورد فيها: ضعيف، ضعفه يحيى بن معين وغيره.

وهي خمس قرب كل قربة خمسون منا. قوله: (وكثير وقعت فيه نجاسة) عطف على قوله: (وهو ماء قليل) فيكون هذا أيضاً داخلاً في حكم القسم الثالث: وهو النجس، فتقدير الكلام: القسم الثالث: ماء نجس، وهو ماء قليل وقعت فيه نجاسة وإن لم تغيره، وماء كثير وقعت فيه نجاسة فغيرت أحد أوصافه وهي: اللون والطعم والرائحة، سواء كان هذا الماء الكثير جارياً أو واقفاً. فافهم. فرع: إذا ألقي الكلب الميت في النهر والماء يجري، ينظر: إن كان للماء الذي يجري من جانب الكلب قوة الجريان، أو كان الماء يجري على أعلى الكلب: فالماء طاهر. وإن كان جميعه يجري على جميع الكلب وليس في جانبيه قوة الجريان: فالماء نجس. قوله: (والكثير: عشر في عشر9 لما بين حكم الماء الكثير أولاً شرع في بيان حده: وهو عشر في عشر بذراع المساحة، وهو ذراع الملك: وهو كسرى أنو شروان، وهو سبع قبضات بإصبع قائمة، لأنه من الممسوحات، وذراع المساحة فيها أليق، وقيل بذراع الكرباس توسعة للناس، لأنه ست قبضات: أربع وعشرون إصبعاً، وهو اختيار المصنف، والأصح أنه يعتبر في كل زمان ومكان ذراعهم، نص عليه في الكافي والمحيط.

قوله: (في عمق) بدون الواو، وجار ومجرور وقعت حالاً من قوله: (والكثير) وقوله: (بذراع الكرباس) صفة لقوله: عشر في عشر، والمبتدأ كثيراً ما يقع منه الحال، فتقدير الكلام: والماء الكثير حال كونه مستقراً في عمق عشرة أذرع كائنة في عشرة أذرع مثلها مذروعة بذراع الكرباس. قوله: (لا تظهر الأرض بالغرف) جملة وقعت صفة لقوله: (عمق) فافهم. وقيل في حد العمق: قدر ذراع، وقيل: قدر شبر، وقيل: قدر أربع أصابع مفتوحة، وعن البزدوي: بما يبلغ الكعب. قوله: (والقليل ما دونه) أي الماء القليل ما دون الكثير، وهو ما دون العشر في العشر، مثل تسعة في تسعة وما دونها. قوله: (والجاري) أي الماء الجاري (ما يذهب بتبنة أو ورق) نص عليه صاحب تحفة الفقهاء، وقيل: ما يعده الناس جارياً، وهو المختار. قوله: (والواقف ما دونه) أي الماء الواقف ما دون الجاري وهو: ما لا يذهب بتبنة ولا ورق. قوله: (والنجاسة كل خارج من أحد السبيلين) وهما القبل والدبر، وأطلق الخارج ليعم البول والغائط والدودة ونحوها. فإن قلت: كيف يقول المصنف: (والنجاسة كل خارج من أحد السبيلين) ونحن نجد خارجاً من أحدهما وهو غير نجس: كالريح

الخارجة من الذكر وفرج المرأة، فإنه لا ينقض الوضوء فلا يكون نجساً، حتى إذا كانت سراويلها مبتلة لا ينجسها؟ قلت: هذا نادر، والحكم للغالب، ولأنه لا وجود له في الحقيقة، ولأنه اختلاج، على أن فيه رواية عن محمد: أنه يجب فيه الوضوء، فحينئذ يكون نجساً. قوله: (وغيره) أي غير الإنسان، أي النجاسة كل خارج من أحد السبيلين من الإنسان، وكل خارج من أحد السبيلين من غير الإنسان، وهو يتناول جميع الدواب والوحوش والطيور، لكن استثني منه الحمام والعصفور: فإن خرءهما طاهر، لأنه لا يستحيل إلى نتن وفساد، على أن المسلمين أجمعوا على اقتناء الحمامات في المساجد مع الأمر بتطهيرها. وفيه خلاف الشافعي. فإن قلت: المراد من قوله: (والنجاسة كل خارج) مغلظة أو مخففة؟ قلت: المراد من الخارج من الإنسان: مغلظة مطلقاً، وفي غيره تفصيل وخلاف، لأنها لا تخلو إما أن تكون مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل. أما الأرواث: فنجاستها مغلظة عند أبي حنيفة سواء كانت مما يؤكل أو مما لا يؤكل، وعندهما: مخففة مطلقاً، وعند زفر: إن كانت مما تؤكل: فهي مخففة، وإن كانت مما لا تؤكل: مغلظة. وعند مالك: الأرواث طاهرة.

وأما الأخراء جمع خرء: فإن كانت مما تؤكل: فهي طاهرة، إلا خرء البط والدجاج والأوز، وإن كانت مما لا تؤكل: فنجاستها مخففة عند أبي حنيفة، ومغلظة عندهما على رواية الهندواني، وعلى رواية الكرخي: عند محمد مغلظة، وعندهما: طاهرة. وأما الأبوال: فإن كانت مما لا يؤكل: فهي مغلظة بالاتفاق، وإن كانت مما يؤكل: فعند أبي حنيفة مغلظة، وعند أبي يوسف: مخففة، وعند محمد: طاهرة، حتى لا يجوز شرب بول نحو الغنم عند أبي حنيفة مطلقاً، ويجوز عند أبي يوسف للتداوي، ويجوز عند محمد مطلقاً. وعلى هذا مسائل وتفريعات كثيرة لا يتحملها هذا المختصر، يخرجها الفطن الذكي. قوله: (والدم والقيح والصديد) عطف على قوله: (كل خارج). قوله: (إذا سال إلى محل الطهارة) يعني بعدما خرج إذا سال إلى موضع يلحقه حكم التطهير (يكون نجساً) حتى إذا لم يسل إلى هذا الموضع: لا يكون نجساً، فلا ينقض الوضوء، حتى قيل: إذا ظهر الدم ونحوه على قرحة ورفعه بقطنة من غير سيلان: لا ينقض الوضوء، ولو ألقاه في البئر أو في الطعام: لا ينجسه. قوله: (إما للوضوء وإما للغسل) تفصيل لمحل الطهارة، لأنها لا تخلو عن هذين الأمرين، أما محل الطهارة للوضوء: فهي الأعضاء الأربعة، وأما محل الطهارة للغسل: فجميع البدن. قوله: (في الجملة يؤدي معنى مطلقاً) يعني الدم ونحوه إذا خرج وسال إلى محل الطهارة: يكون نجساً وناقضاً، سواء كان السيلان قليلاً أو كثيراً، وسواء كان السيلان

إلى محل الطهارة من الوضوء، أو إلى محل الطهارة من الغسل، أو يكون المعنى: أن الدم ونحوه إذا سال إلى محل يجب تطهيرها في الجملة، يعني في الحدث أو في الجنابة، حتى لو نزل الدم من الرأس إلى قصبة الأنف: ينقض الوضوء، لأنه يجب غسل تلك المحل في الجملة، يعني في الغسل، وإن لم يجب في الوضوء. والبول إذا نزل إلى قصبة الذكر: لا ينقض الوضوء، لأنه لم يجب غسل تلك المحل في الجملة، لا في الوضوء، ولا في الغسل. هذا ما سنح به خاطري في هذا المقام فافهم. قوله: (والخمر) عطف على ما قبله، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90] أي نجس. وللخمر أحكام منها: أن قليلها وكثيرها حرام بالإجماع، ومنها: أنه يكفر مستحلها، ومنها: أن نجاستها مغلظة كالبول، ومنها: أنه لا قيمة لها في حق المسلم، حتى لا يضمن متلفها ولا غاصبها، ويحرم بيعها، ومنها: أن الحد يتعلق بنفس شربها، سواء سكر بها أو لم يسكر، ومنها: أن الطبخ لا يحلها. قوله: (والقيء ملء الفم) ولما كان هذا حدثاً لقول علي رضي الله عنه: "أو دسعة تملأ الفم" حين عد الأحداث، كان نجساً، يقال: دسع: إذا قاء ملء الفم.

قوله: (وخرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور) كالصقر والعقاب والبازي والشاهين ونحوها (ينجس الماء) لإمكان التحامي عنه بتغطية الأواني (ولا ينجس الثوب) لأنها تذرق من الهواء (إلا إذا فحش) والفحش: شبر في شبر عند البعض، وقيل: ذراع في ذراع، وقيل: أكثر من النصف. وعن أبي حنيفة: ما يستفحشه الناس. والصحيح: ربع الثوب، لأن الربع يقوم مقام الكل في كثير من الأحكام، كحلق ربع الرأس في الإحرام، وكشف ربع العورة. واختلفوا في كيفية اعتبار الربع: فقيل: ربع كل الثوب، وقيل: ربع أدنى ثوب تجوز فيه الصلاة كالمئزر، وقيل: ربع الموضع الذي أصابه، مثل ربع الكم أو الذيل أو الدخريص. قوله: (وخرء الفأرة وبوله معفو عنه في الطعام والثوب) لعدم إمكان التحامي عنه، لأن الفأرة غالباً تخرج في الليالي وتدخل المضائق، بخلاف الماء فإن حفظه ممكن. وخرء دود القز: نجس، وعن محمد: لا بأس ببولها، وبول الخفافيش وخرؤها ليس بشيء، كذا في الإيضاح. قوله: (ودم البق والبراغيث والسم: عفو) لأنه ليس بدم حقيقة. وعن أبي يوسف في قول ضعيف: أن دم السمك: نجس، ودم الحلمة والأوزاغ: نجس، ودم الكبد والطحال: طاهر. فرع: ذبح شاة بسكين، ثم مسح السكين على صوفها أو على شيء، وذهب أثر الدم: تطهر، حتى لو قطع بها بطيخاً يكون طاهراً، كذا في النوازل.

قوله: (وشعر الميتة وكل جزء منها لا حياة فيه) كالعظم والقرن والظلف والحافر والمخلب والمنقار: (طاهر) لعدم حلول الحياة فيها، فانتفت علة التنجيس، وكذلك الصوف والوبر والشعر، وفي العصب: روايتان، وعند الشافعي: الكل نجس، وعند مالك: العظم نجس والشعر طاهر. قوله: (وشعر الخنزير وسائر أجزائه: نجس) لقوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]. والضمير يرجع على الخنزير، فتكون جميع أجزائه نجساً. قوله: (ورخص الخرز بشعره) لأن خرز النعال والأخفاف الرفيعة لا يتأتى إلا به، فكان فيه ضرورة. وعن أبي يوسف: أنه يكره، لأن الخرز يتأتى بغيره. والأول: هو الظاهر، لأن الضرورة تبيح لحمه، فالشعر أولى، ثم لا حاجة إلى شرائه، لأنه يوجد مباح الأصل، وقال الفقيه أبو الليث: "إن كانت الأساكفة لا يجدون شعر الخنزير إلا بالشراء: ينبغي أن يجوز لهم الشراء، ولا بأس للأساكفة أن يصلوا مع شعر الخنزير، وإن كان أكثر من قدر الدرهم، ولو وقع في الماء القليل: أفسده عند أبي يوسف، خلافاً لمحمد". والخرز: الخياطة، من خرز يخرز من باب ضرب يضرب. قوله: (والفيل طاهر) الأصح أنه مثل سائر السباع حتى يكون سؤره نجساً، ويطهر جلده بالدباغ، ولحمه بالذكاة، ويجوز استعمال شعره وعصبه، ويجوز بيع عظمه والانتفاع به في نحو مقابض السكين والسيف، وهذا عندهما، وعند محمد: هو مثل الخنزير، فلا يجوز استعمال جزء منه أصلاً، وإطلاق المصنف بقوله: (والفيل طاهر) في حق غير الأكل، فافهم.

قوله: (وكل إهاب دبغ طهر) لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" رواه مسلم ولفظه "إذا دبغ الإهاب فقد طهر". وقوله: (كل إهاب) يتناول جميع جلد يحتمل الدباغ، وأما ما لا يحتمله مثل جلد الحية الصغيرة. والفأرة: لا يطهر بالدباغ كاللحم. وعند محمد: لو أصلح مصارين الشاة الميتة، أو دبغ المثانة: طهرت، وقال أبو يوسف: هي كاللحم. والدباغة حقيقية: كالدباغة بشيء له قيمة: كالعفص والقرظ والشث. وحكمية: كالتشميس والتتريب والإلقاء في الريح، فبعد الدباغة: يحكم بطهارته، وجوز الصلاة عليه، وشرب الماء فيه، في الفصلين جميعاً. خلافاً للشافعي في الفصل الأخير. قوله: (إلا جلد الخنزير لنجاسته، وجلد الآدمي لكرامته) وإنما قدم الخنزير على الآدمي: لأن الموضع موضع عدم الطهارة، فكان تأخير الإنسان أولى فافهم. قوله: (وسؤر الآدمي طاهر) لأن المسئر طاهر، ولا فرق بين الطاهر والجنب، والحائض والنفساء، والصغير والكبير، والمسلم والكافر، والذكر والأنثى. والسؤر: بقية الماء الذي يبقيها الشارب. قوله: (إلا حال شرب الخمر) يعني في حال شرب الخمر: سؤره

نجس، لأن الخمر نجس، فيلاقي الماء فينجسه، فإن بلع ريقه ثلاث مرات: طهر فمه عند أبي حنيفة رضي الله عنه، لأن المائع غير الماء: مطهر عنده من غير اشتراط صب عنده، وكفى لشارب الخمر إهانة وذلاً: أن يكون سؤره حال شرب الخمر كسؤر الخنزير والكلب. قوله: (وسؤر الفرس وما يؤكل لحمه طاهر) لأن المسئر طاهر، وحرمة الفرس لكونه آلة للجهاد، لا لنجاسته كالآدمي، ألا يرى أن لبنه حلال بالإجماع؟ وإنما أفرد الفرس بالذكر: لأنه غير داخل فيما يؤكل لحمه على قول أبي حنيفة، وإن كان طاهراً عنده أيضاً، ولكنه غير مكول، لأن الطهارة لا تستلزم الأكل، كالآدمي والطين. قوله: (وسؤر الخنزير والكلب وسباع البهائم: نجس) لأن المسئر نجس، وعند مالك: سؤر الخنزير والكلب طاهر، وعند الشافعي: سؤر سباع البهائم طاهر. قوله: (وسؤر الهرة ... إلى آخره) أما سؤر الهرة: فمكروه عند أبي حنيفة ومحمد، والقياس أن يكون نجساً، لأن المسئر نجس، ولكنه سقطت النجاسة بعلة الطواف، وبقيت الكراهة، وعند أبي يوسف: لا يكره، وأما سؤر الدجاجة المخلاة: فلعدم تحاميها من النجاسة، حتى لو كانت محبوسة في مكان طاهر بحيث لا يصل منقارها إلى ما تحت رجلها: لا يكره، وكذلك الإبل الجلالة والبقر الجلالة، وأما سؤر الحية والعقرب والفأرة: فالأصل فيه أن يكون نجساً، لكنها من الطوافات، فسقط التنجيس للحرج، وبقيت الكراهة. وأما سؤر سباع الطير: مثل الحدأة والبازي والصقر ونحوها: فالقياس تنجسه، اعتباراً بلحمها، ولكن الاستحسان طهره لشربها بمنقارها، وهو عظم لا يحتمل النجاسة كالسيف، وإذا ثبت طهارته: كره، لأنها لا تتحامى من النجاسة. قوله: (وسؤر البغل والحمار: مشكوك في طهوريته) وسبب الشك: تعارض الخبرين في إباحة لحم الحمار، وحرمته، ومعنى الشك: التوقف فيه، فلا يطهر النجس ولا ينجس الطاهر.

وأما البغل: فهو متولد من الحمار فيكون مثله، وقيل: الشك في طهارته، وروى الكرخي عن أصحابنا: أن سؤرهما نجس. فإن قلت: القاعدة في تعارض الخبرين: اللذين أحدهما محرم والآخر مبيح: أن يغلب المحرم على المبيح، ولم يغلب المحرم على المبيح ها هنا؟ قلت: نعم لكن لم يفعل ها هنا مثل ذلك للضرورة، لما أن الحمير تربط في الأفنية، ويحتاج إليها للركوب والحمل، وتشرب في الآنية. فإن قلت: كيف يطلق الشك على حكم من أحكام الشرع، والشارع لا يخفى عليه شيء؟ قلت: هذا بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إلى الشارع فالأشياء كلها مبينة لا شك فيها ولا خفاء. وأما لبن الحمار: فقد نص أنه طاهر، وفي شرح الجامع الصغير لفخر الإسلام: أن لبن الأتان طاهر ولا يؤكل، وفي ظاهر الرواية: أن لبنها نجس. قوله: (فإن لم يجد غيره) أي غير سؤر البغل والحمار (يتوضأ به ويتيمم) ليخرج عن العهدة بيقين، وأيهما قدم جاز. وقال زفر: لابد أن يتوضأ أولاً، ثم يتيمم، ليكون عادماً للماء حقيقة. قلنا: المقصود دخول الطهارة بيقين، فيجب الجمع دون الترتيب والله أعلم.

فصل في الوضوء والغسل

فصل في الوضوء والغسل لما فرغ من المياه وأقسامها، وعن بيان النجاسة والآسار، شرع في بيان الوضوء والغسل، وقدم الوضوء على الغسل: لأنه أكثر دوراناً بالنسبة إلى الغسل. ثم الفصل مهما فصل: لا ينون، ومهما وصل: ينون، لأن الإعراب يكون بعد العقد والتركيب، وهو: القطع لغة يقال: فصلت الثياب: إذا قطعتها. وفي الاصطلاح هو الحاجز بين الحكمين. قوله: (فرض الوضوء أربعة) لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. فالله تعالى أمرنا بغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس، والأمر من الله للإيجاب. قوله: (الأول) أي الفرض الأول (غسل الوجه) قوله: (وهو) أي الوجه أي حده (من منبت الناصية إلى أسفل الذقن طولاً ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضاً) لأنه مشتق من المواجهة، وهي تقع بهذه الجملة، والذقن بفتح الذال المعجمة وفتح القاف: مجتمع لحيي الإنسان. قوله: (ويجب غسل الشعر السائر للخدين والذقن) لأنه قائم مقام ما تحته، وما تحته كان داخلاً في الفرض، فكذا هذا. قوله: (ولا يجب غسل ما تحته) أي ما تحت الذقن ليس من الوجه، وكذا ما تحت الشارب والحاجب، لوصول الماء إليه، وكذا لا يجب إدخال الماء باطن العينين للحرج.

قوله: (وما نزل من اللحية) أي ولا يجب أيضاً غسل ما نزل من اللحية، وهو الشعر المسترسل، لأنه ليس من الوجه. قوله: (أما البياض الذي بين العذار والأذن فيجب غسله) هذا عندهما، وقال أبو يوسف: لا يجب غسله، لأنه استتر بحائل وهو اللحية. ولهما: كلما ثبت دام، إلا إذا وجد المزيل، وقد كان غسله واجباً، فلا يزول بالالتحاء. الخلاف في الملتحي، أما في الأمرد والكوسج والنساء: فلا بد من غسله اتفاقاً. قوله: (الثاني) أي الفرض الثاني (غسل اليدين مع المرفقين). وقال زفر: المرفقان والكعبان لا يدخلان في الغسل، لأن "إلى" للغاية، فلا يدخل تحت المغيا. ولنا: أن "إلى" بمعنى "مع" لقوله تعالى: {وَلا تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] أي من أموالكم. قوله: (والثالث) أي الفرض الثالث (مسح ربع الرأس) لأن الباء في قوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} للتبعيض، وفيه إجمال. وقد فسره ما روى المغيرة بن شعبة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين وعلى ناصيته" رواه أبو داود. وعند مالك: مسح كل الرأس فرض، وعند الشافعي: أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح.

قوله: (الرابع) أي الفرض الرابع (غسل الرجلين مع الكعبين) لقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. قوله: (والدواء في شقوقها) أي في شقوق الرجلين: يصح معه الوضوء، لأن الشقوق مثل الجراحة، فلا يمنع صحة الوضوء للضرورة، بخلاف ما إذا كان تحت أظفاره وسخ أو عجين، لعدم الضرورة. قوله: (وسننه عشرون) لما بين فرائض الوضوء أخذ في بيان السنن، وهي جمع سنة، وهي ما في فعله ثواب، وفي تركه عتاب لا عقاب. (الأولى: النية) وقال الشافعي: هي فرض لقوله عليه السلام: "لا عمل إلا بالنية". ولنا: أنه عليه السلام لم يعلم الأعرابي النية حين علمه الوضوء مع جهله، ولو كان فرضاً لعلمه، وهي أن يقول: نويت رفع الحدث لاستباحة الصلاة.

(الثانية: التسمية) لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" رواه أبو داود. والمراد به نفي الفضيلة والكمال. (الثالثة: غسل اليدين إلى الرسغين ثلاثاً للقائم من نومه) لما روى مالك في الموطأ: أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده". وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم من الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده" وفي صحيح مسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده" وفي جامع الترمذي "إذا استيقظ أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

(الرابعة: الترتيب) وهو أن يبدأ بما بدأ الله بذكره، وقال الشافعي: هو فرض، لأن الواو للترتيب. ولنا ما قلنا، والواو للجمع. (الخامسة: الموالاة) وهي أن يغسل العضو الثاني قبل جفاف الأول، وقيل: أن لا يشتغل بينهما بعمل آخر غير الوضوء، لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما مع وجود الترك في الجملة. (السادسة: السواك) أي استعماله، لما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" رواه البخاري. فإن قلت: كيف وجه الاستدلال بهذا؟ قلت: لما امتنع الوجوب لامتناع الأمر لوجود المشقة، ثبت ما دون الوجوب وهو السنة، لعدم المانع وهو المشقة، لأنه بسبيل من ترك السنة. فإن قلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليه، وهي دليل الوجوب، فكيف تقول أنه سنة؟ قلت: المواظبة إنما تكون دليل الوجوب إذا لم يوجد الترك أصلاً، وقد وجد هنا الترك في

الجملة، بدليل حديث الأعرابي. وحد السواك أن يكون من شجر مر في غلظ الخنصر وطول الشبر، ووقته: وقت المضمضة، لأنه ذكر في مبسوط شيخ الإسلام: "ومن السنة حالة المضمضة أن يستاك، ولا يقوم الإصبع مقامه إلا عند عدمه". (السابعة: المضمضة) وهي تطهير الفم بالماء. (الثامنة: الاستنشاق) وهو تطهير الأنف بالماء، وسنيتهما: فعله عليه السلام، ولما روي في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر". (التاسعة: المبالغة فيهما) أي في المضمضة والاستنشاق للمفطر، لما روي أنه عليه السلام قال: "أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" رواه أبو داود. (العاشرة: البداية بالميامن) وهي جمع ميمنة، وهي أن يبدأ من يمينه في غسل اليدين والرجلين، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي عليه السلام يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله، في طهوره وترجله وتنعله" رواه البخاري. (الحادية عشر: البداية في غسل اليدين من رءوس الأصابع).

(الثانية عشر: البداية في غسل الرجلين من رءوس الأصابع) أيضاً لفعله عليه السلام هكذا في الفصلين. (الثالثة عشر: تخليل اللحية) وهو سنة عند أبي يوسف، لما روي عن أنس بن مالك أنه قال: "كان عليه السلام إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه يخلل به لحيته، وقال: "هكذا أمرني ربي عز وجل" رواه أبو داود. وعندهما: فضيلة، لأنه عليه السلام ما فعله غير مرة، والصحيح قول أبي يوسف. (الرابعة عشر: تخليل الأصابع) أي أصابع اليدين والرجلين لقوله عليه السلام: "إذا توضأت فخلل الأصابع" رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. (الخامسة عشر: تحريك الخاتم الضيق) وهذا في معنى تخليل الأصابع، وإن كان واسعاً: لا يحتاج إلى تحريك. (السادسة عشر: مسح كل الرأس مرة واحدة) وقال الشافعي: السنة هي التثليث كالغسل. ولنا ما روى أبو داود في سننه: عن عثمان وعلي رضي الله عنهما في

حكايتهما وضوءه عليه السلام من غير تثليث. (السابعة عشر: البداية من مقدمه) أي البداية في مسح الرأس من مقدم الرأس، لما روى الترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه". (الثامنة عشر: مسح الأذنين) بماء الرأس عندنا، وعند الشافعي: بماء جديد، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ لهما ماء جديداً. ولنا: ما روي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الأذنان من الرأس". رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه. والمراد به: بيان الحكم. وما رواه: يحتمل أنه لم يبق على يده بلل، فأخذ بللاً لأجله. (التاسعة عشر: مسح الرقبة) لأنه عليه السلام مسح عليها.

(العشرون: تثليث كل غسلة) لأنه عليه السلام توضأ ثلاثاً ثلاثاً. قوله: (وفرض الغسل خمسة) لما فرغ عن بيان الوضوء وسننه، شرع في بيان فرائض الغسل، وهي خمسة: (الأولى: المضمضة، والثانية: الاستنشاق) وعند الشافعي: هما سنتان في الغسل، كما في الوضوء. (الثالثة: غسل سائر البدن) أي جميع البدن، لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أي فطهروا أبدانكم. (الرابعة: إيصال الماء إلى باطن السرة من الرجل والمرأة جميعاً) وهذا في حق

السمناء والسمان، وهذا داخل في قوله: (وغسل سائر البدن) ولكنه أفرد بالذكر للتأكيد، وما قيل أن ذكره مستدرك: وهم. (والخامسة: إيصال الماء إلى أثناء شعر الرجل) وإن كان مضفوراً، كالعلوي والتركي، للاحتياط، بخلاف ضفائر المرأة، حيث لا يجب عليها نقضها، لما روي أن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: "لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضين على سائر جسدك الماء فتطهرين" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. قوله: (وسننه) أي سنة الغسل (ستة): (الأولى: أن يبدأ بغسل يديه. والثانية: أن يغسل فرجه. الثالثة: أن يزيل نجاسة بدنه إن كانت. الرابعة: أن يتوضأ مثل وضوء الصلاة، إلا رجليه إن كانا في مجمع الغسالة. الخامسة: أن يغسل رأسه وسائر جسده ثلاثاً. السادسة: أن يخرج من مجمع الغسالة فيغسل رجليه) وهذه الصفة حكتها ميمونة رضي الله عنها في غسله عليه السلام، وكذا في صحيح مسلم والجامع الترمذي وسنن أبي داود. قوله: (وغسل يوم الجمعة والعيدين وعرفة والإحرام: سنة) أما يوم الجمعة:

فلقوله عليه السلام: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت يجزي عنه الفريضة، ومن اغتسل فالغسل أفضل" رواه ابن ماجة. وأما يوم العيدين: فلقول ابن عباس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى" رواه ابن ماجة. وأما يوم عرفة: فلأنه يوم ازدحام، فيغتسل لئلا يتأذى البعض برائحة البعض. وأما عند الإحرام: فلما روي أنه صلى الله عليه وسلم "اغتسل لإحرامه". رواه الدارقطني. قوله: (وشرط السنة أن يصلي به) أي بذلك الغسل: الجمعة قبل أن يحدث، وهذا قول أبي يوسف، فعلى هذا لا يسن الغسل على المسافر والعبد والمرأة. وعند الحسن: إذا اغتسل في يوم الجمعة في أي وقت كان: فقد أدرك الفضيلة. قوله: (وغسل من أسلم أو أفاق) أي من الجنون (أو بلغ بالسن: مستحب) احتياطاً في باب العبادات، وإن كان البلوغ بالإنزال: فالغسل واجب، لوجود الماء. والبلوغ بالسن عند أبي حنيفة في الغلام: بتمام ثمانية عشر، وفي الجارية: بتمام سبعة عشر، وعندهما: بخمسة عشر سنة فيهما. قوله: (وغسل الجنابة والحيض لا يسقط بالإسلام) يعني: جنب كافر إذا أسلم، أو حائض كافرة إذا أسلمت عقيب انقطاع الحيض: لا يسقط الغسل عنهما بالإسلام، لأن بقاء صفة الجنابة بعد إسلامه كبقاء صفة الحدث في وجوب الوضوء، وكذلك الحائض،

فدل هذا أن المراد من قوله: (وغسل من أسلم مستحب) أن يكون الكافر عند الإسلام طاهر. فافهم. قوله: (ونواقض الوضوء) لما فرغ عن بيان الطهارتين بأحكامهما، شرع في بيان ما ينقض الوضوء وما لا ينقض. والنواقض جمع ناقضة، والنقض إذا أضيف إلى الأجسام: يراد به إبطال تأليفها، وإذا أضيف إلى غيرها: يراد به إخراجه عما هو المطلوب، فالمطلوب من الوضوء استباحة الصلاة. قوله: (كل ما خرج من السبيلين) وهما القبل والدبر، فإن قلت: كل ما خرج من السبيلين: عين، وهي لا تصلح للعلية، لأن العلة معنى يحل بالمحل فيتغير به حال المحل، فكيف يستقيم قوله: (ونواقض الوضوء كل ما خرج من السبيلين)؟ قلت: تقدير كلامه: خروج كل ما خرج، ليقع التطابق بين العلة والمعلول، فافهم. والمراد من السبيلين: القبل والدبر كما قلنا، والخارج منهما: يتناول البول والغائط، والودي، والمذي، والدودة، والحصاة، والريح الخارج من الدبر، لا الذكر، وقيل: المرأة إذا كانت مفضاة: وهي التي اتحد مسلك بولها وغائطها. فإن قلت: من أين تقول أن المراد من السبيلين ها هنا القبل والدبر، وهما متناولان غيرهما من حيث اللغة؟ قلت: نعم، وإن كانا يتناولان غيرهما من حيث اللغة، لكنهما يطلقان على سبيل الحدث لا غير، بالحقيقة العرفية الخاصة، حتى لا ينقض الوضوء بخروج الدمع والعرق واللبن، وإن كان يجوز أن يقال: إنه خارج من سبيل. قوله: (والدم والقيح والصديد السائل بغير عصر إلى محل الطهارة) قيد بقوله: (السائر) لأنه إذا ظهر ولم يسل: لا ينقض الوضوء، لأنه يسمى بادياً لا خارجاً، والنقض يضاف إلى السيلان، لقوله عليه السلام "الوضوء من كل دم سائل" وقيد بقوله: (بغير

عصر) لأنه إذا عصر القرحة وخرج الدم ونحوه بعصره: لا ينقض وضوءه، لأنه مخرج وليس بخارج. وقيد بقوله: (إلى محل الطهارة) لأنه إذا خرج الدم أو نحوه ولم يسل إلى موضع يلحقه حكم الطهارة: لا ينقض الوضوء، وذلك مثل إذا ما نزل البول إلى قصبة الذكر، وإذا نزل إلى القلفة: نقض. هكذا قالوا. قلت: فيه نظر، لأنهم قالوا: لا يجب على الجنب إيصال الماء إليه، لأنه خلقة كالقصبة. فافهم. قوله: (في الجملة بمعنى مطلقاً) أي سواء كان محل الطهارة في أعضاء الوضوء أو في جميع البدن، وسواء كان السيلان قليلاً أو كثيراً على ما قررنا مرة. وعند الشافعي: خروج هذه الأشياء لا ينقض الوضوء مطلقاً، وعند زفر: ينقض مطلقاً. قوله: (والقيء ملء الفم) لما مر في حديث علي رضي الله عنه، وحده: أن لا يمكنه ضبطه، وما دونه ليس بناقض، وعند الشافعي: لا ينقض مطلقاً، وعند زفر: ينقض مطلقاً. قوله: (والنوم مضطجعاً أو متكئاً أو مستنداً غير مستقر على الأرض) لأن النوم بهذه الصفة سبب خروج النجاسة باسترخاء المفاصل، والسبب يقوم مقام المسبب احتياطاً في باب العبادة، وقوله: (غير مستقر) قيد لقوله: (مستنداً) قيد به، لأنه إذا نام مستنداً إلى شيء لو أزيل عنه لسقط: ينقض وضوءه، وإلا لا. وعن الطحاوي: أنه ينقض مطلقاً، والأول أصح.

قوله: (وغلبة العقل بإغماء وجنون وسكر) لأن هذه الأشياء سبب لخروج النجاسة بواسطة الغفلة وزوال المسكة، فيقام مقام خروج النجاسة. وحد السكر: أن يدخل في بعض مشيه تحرك، وقيل: أن لا يعرف الرجل من المرأة. والفرق بين الإغماء والجنون: أن العقل يكون في الإغماء مغلوباً، وفي الجنون مسلوباً، حتى صح الإغماء على الأنبياء دون الجنون. قوله: (والقهقهة في كل صلاة ذات ركوع وسجود) لقوله عليه السلام "من ضحك منكم قهقهة فليعد الوضوء والصلاة" رواه الشيخ الإمام الحافظ أبو موسى المديني في كتاب الأمالي. القهقهة هي: أن يسمع لضحكه صوت، بدت أسنانه أولاً، وهي تنقض الوضوء والصلاة جميعاً، خلافاً للشافعي. والضحك: وهو أن يسمع نفسه فقط: لا ينقض الوضوء، بل ينقض الصلاة. والتبسم: وهو أن لا يسمع نفسه ولا غيره: لا ينقض الوضوء ولا الصلاة. قيد بقوله: (ذات ركوع وسجود) لأنها لا تكون ناقضة في صلاة الجنازة. قوله: (ولو خرج من فمه دم: إن غلبه الريق لوناً: لم ينقض) لأن المغلوب في

مقابلة الغالب كالمعدوم (وإن غلب الدم الريق أو تساويا) أي الدم والريق (نقض) لأن في غلبة الدم دليلاً على خروجه بقوة معه، وأما في التساوي: فللاحتياط، قيد بقوله: (لوناً) لأن الاعتبار في الغلبة من حيث اللون، حتى لو كان أحمراً: نقض، وإن كان أصفر: لا ينقض. واعلم أن المراد من قوله: (ولو خرج من فمه) نفس الفم، حتى لو خرج من الجوف: لا ينقض إلا إذا ملأ الفم، وهو قول محمد، ورواية عن أبي حنيفة، وفي رواية أخرى: ينتقض مطلقاً، والمختار إن كان علقاً: يعتبر ملء الفم، وإن كان مائعاً: نقض وإن قل، وأما النازل من الرأس: فهو ناقض مطلقاً. قوله: (ومس الذكر لا ينقض) وقال الشافعي: ينقض، لقوله عليه السلام "من مس فرجه فليتوضأ". قلنا: المراد به غسل اليد للتنزيه، أو كان كناية عن الحدث، والخلاف: فيما إذا مس بباطن الكف، حتى لو مس بظاهر الكف أو برءوس الأنامل: لا ينقض إجماعاً، وكذا الخلاف في مس الدبر. قوله: (ولا لمس المرأة) أي ولا ينقض الوضوء أيضاً لمس المرأة، وقال الشافعي: ينقض، لقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ} [النساء: 43 والمائدة: 6] وهو

حقيقة في اللمس باليد. قلنا: إن معنى لامستم: جامعتم، لأنه هو المتعارف بين أهل اللغة. قوله: (إلا في المباشرة الفاحشة) يعين ينتقض الوضوء فيها، وهي: أن تنتشر الآلة، ويتماس الفرجان وليس بينهما حائل، وهذا عندهما، وهو الاستحسان احتياطاً. وقال محمد: لا ينقض، وهو القياس. قوله: (ويوجب الغسل) لما فرغ عن بيان ما ينقض الوضوء وما لا ينقض، شرع في بيان ما يوجب الغسل وما لا يوجب. (ويوجب الغسل: دفق المني بشهوة) سواء كان من النائم أو اليقظان، من الرجل والمرأة جميعاً لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]. وقال الشافعي: خروج المني كيف ما كان يوجب الغسل. قوله: (وتغيب الحشفة من أحد السبيلين: القبل والدبر) لما روي في حديث طويل أنه عليه السلام قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل" رواه مسلم. وعن عائشة قالت: "إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا" رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. قوله: (من الإنسان) قيد به، لأنه إذا غابت الحشفة في البهيمة: لا يجب الغسل ما لم ينزل. قوله: (عليهما) أي على الفاعل والمفعول جميعاً، والدبر من الذكر والأنثى: كالقبل في وجوب الغسل.

قوله: (والحيض والنفاس) أي يوجب الغسل أيضاً انقطاع الحيض والنفاس، أما الحيض: فلقوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بالتشديد أي حتى يغتسلن، وأما النفاس: فبالإجماع. قوله: (ولا يوجبه) أي لا يوجب الغسل (خروج المني بغير شهوة) مثل ما إذا سقط من موضع عال فخرج به ماء، أو سقط من دابة، أو حمل حملاً ثقيلاً فخرج به، خلافاً للشافعي. قوله: (ولو احتلم ولم ير بللاً فلا غسل عليه) لأنه تفكر في النوم، فهو كالتفكر في اليقظة بلا إنزال. قوله: (ولو رأى بللاً مذياً أو منياً ولم يتذكر احتلاماً: لزمه الغسل) وهذا عندهما، وعند أبي يوسف: لا يلزمه، لأنه بلل، وأنه لا يوجب الغسل حالة اليقظة، فبالأولى أن لا يوجبه في النمام. ولهما: أنه يمكن أنه قد انفصل عن شهوة، وطال مكثه، فرق، والاحتياط لازم في باب العبادات. المذي بالذال المعجمة: ماء رقيق أبيض يخرج غالباً عند ملاعبة الرجل أهله، والمني: ماء خاتر أبيض ينكسر به الذكر ويتولد منه الولد، والودي بالدال المهملة الساكنة: ماء غليظ يعقب البول.

فصل في مسح الخف

فصل في مسح الخف خالف المصنف في ذلك سائر المصنفين بتقديمه المسح على التيمم، نظراً إلى أن المسح خلف عن البعض، والتيمم خلف عن الكل، فالأول: مقدم على الثاني، والصواب: ترتيب غيره، لأن التيمم أقوى من المسح، لأنه ثابت بالسنة، والتيمم بالكتاب، ولأنه في كتاب الله تعالى ذكر التيمم عقيب الوضوء. قوله: (يمسح المقيم) الأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوماً وليلة" رواه أبو داود. وروي أنه عليه السلام سئل عن المسح على الخفين فقال: "للمسافر ثلاثاً وللمقيم يوماً" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. قوله: (من الحدث خاصة) أي الحدث الأصغر خاصة، فلا يجوز عن الجنابة، لأنها ألزمته غسل كل البدن بالنص، ومع الخف لا يتأتى ذلك. صورته: مسافر أجنب في المدة وليس عنده ماء، فتيمم ثم أحدث، ووجد من الماء ما يكفي وضوءه: لا يجوز له المسح، لأن الجنابة سرت إلى القدمين. قوله: (من وقت الحدث) أي ابتداء المدة يعتبر من حين الحدث الذي يوجد بعد اللبس، حتى لو توضأ مقيم عند طلوع الفجر، ولبس عند طلوع الشمس، وأحدث بعدما صلى الظهر، يصلي الظهر في الغد بالمسح، لا العصر. فافهم. قوله: (بشرط لبسه على طهارة كاملة) احترز به عن طهارة ناقصة، مثل: ما إذا بقي من أعضائه لمعة لم يصبها الماء، فأحدث قبل الاستيعاب: لا يجوز له المسح، واحترز به عن وضوء ناقص بأي شيء كان نقصه: كوضوء المستحاضة ومن بمعناها إذا لبسوا الخف ثم خرج الوقت، وكالمتيمم إذا لبس خفيه ثم وجد الماء، فافهم: لا يمسحون، لعدم اللبس على طهارة كاملة. قوله: (عند الحدث) أي اشتراط كمال الطهارة عند الحدث لا عند اللبس، خلافاً

للشافعي، حتى لو غسل رجليه ولبس خفيه ثم أتم الوضوء قبل أن يحدث: جاز له المسح عليه، خلافاً له، وكذا لو لبس خفيه محدثاً، وخاض الماء، فوصل الماء إلى رجليه، ثم أتم سائر الأعضاء ثم أحدث: جاز له المسح، خلافاً له، ولو غسل رجليه، ثم لبس خفيه، ثم أحدث ثم أكمل الوضوء: لا يجوز له المسح بالإجماع. قوله: (ويجوز المسح على خف فوق خف) لأنه يصير حينئذ كخف ذي طاقين. قوله: (وعلى جرموق فوق خف) أي ويجوز المسح أيضاً على جرموق فوق خف لما قلنا، وقال الشافعي: لا يجوز. قوله: (إن لبسه) أي لبس الجرموق (قبل الحدث) قيد به، لأنه إذا أحدث بعد لبس الخف، ثم لبس الجرموق: لا يمسح عليه، لأن ابتداء مدة المسح من وقت الحدث، وقد انعقد في الخف، فلا يتحرك إلى الجرموق. قوله: (وعلى جورب) أي ويجوز المسح على جورب، لما قال المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضأ ومسح على الجوربين والنعلين" رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. قوله: (لا يشف) صفة الجورب، وكذا قوله: (ويقف على الساق بلا ربط) فمهما كان الجورب على هاتين الصفتين: يجوز المسح عليه في قولهما، وقول أبي حنيفة المرجوع إليه، ولو لم يكن مجلداً، وأما في قوله المرجوع عنه: فلا يجوز إلا إذا كان مجلداً، والفتوى على قوله المرجوع إليه، رجع إليه قبل موته بسبعة أيام، وقيل: بثلاثة. قوله: (ولو سافر مقيم في مدته: أتم ثلاثاً) أي ثلاثة أيام ولياليها.

وقال الشافعي: ليس له ذلك، وهذا بناءً على أن مدة المقيم هل تتغير أم لا؟ فعنده لا تتغير، فلا يجوز، وعندنا: تتغير فيجوز. قوله: (ولو أقام مسافر في مدته، لم يزد على يوم وليلة من حين مسح) وهذا بالإجماع، لأن مدة المسافر قبل استكمالها تصير مدة المقيم عند الإقامة. قوله: (ومسح ظاهر الخف) هذا بيان محل المسح، وهو ظاهر الخف عندنا، حتى لا يجوز باطنه أو عقبه أو ساقه أو جوانبه أو كعبه، لقول علي رضي الله عنه: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على ظاهر خفيه" رواه أبو داود. قوله: (وأقله) أي أقل المسح (قدر ثلاثة أصابع من أصابع اليد) وقيل: من الرجل، لأن الحدث لا يتجزأ، لأنه يجب غسله لظهور بعض القدم، وهذا هو القياس في القليل أيضاً، لكنه سقط للحرج. قوله: (وينقض المسح: كل ما ينقض الوضوء) لأن ما ينقض الغسل: فلأن ينقض المسح أولى. قوله: (وينقضه: مضي المدة) لأنها إذا مضت: يسري الحدث إلى القدمين، فعليه غسلهما، إلا إذا خاف ذهاب رجليه من البرد. قوله: (ونزع إحدى القدمين) أي ينقض المسح أيضاً: نزع إحدى القدمين إلى ساق الخف، لأن موضع المسح فارق مكانه، فكأنه ظهر رجله، وكذا ينقض المسح: بخروج أكثر القدم في الصحيح، لأن للأكثر حكم الكل، وعن أبي حنيفة: إن زال عقب الرجل،

أو زال أكثر عقب الرجل: بطل مسحه، وهو قول أبي يوسف، وعن محمد: إن بقي من ظهر القدم في موضع المسح قدر ثلاث أصابع: لم يبطل مسحه، وعليه أكثر المشايخ. قوله: (ومتى بطل المسح بمضي المدة) أي مدة الإقامة أو السفر أو نزع الخف (كفى غسل القدمين من غير إعادة الوضوء) هذا إذا كان وجد على الوضوء، لأنه ليس بحدث مبتدأ، حتى يجب غسل باقي الأعضاء، وأما إذا وجد على الحدث: فعليه إعادة الوضوء. قوله: (ويمسح الجبيرة) وهي العيدان التي تجبر بها العظام المكسورة. قوله: (وانشد بها محدثاً) واصل بما قبله، أي وإن شد الجبيرة وهو على غير وضوء، وهذا المسح: مستحب عند أبي حنيفة، حتى لو ترك من غير عذر: جاز، وعندهما: واجب، فلا يترك إلا من عذر، والمجروح مثل المكسور. قوله: (ولا يتوقت) أي المسح على الجبيرة غير موقت، يمسحها متى شاء، لعدم التوقيف بالتوقيت. قوله: (وإن سقطت) أي الجبيرة (عن غير برء: بقي المسح) لأن سقوط الغسل للعذر، وهو قائم، والمسح قائم وإن زال الممسوح، كما لو مسح رأسه ثم حلقه. قوله: (وإن كان) أي سقوط الجبيرة (عن برء: بطل المسح) لزوال العذر. قوله: (وإن كان في الصلاة) أي وإن كان السقوط عن برء في الصلاة: (استقبلها) لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل. قوله: (وعصابة الفصد) العصابة ما يعصب به الجراحة أي يشد. قوله: (ونحوه) مثل عصابة الحجامة والقرحة والجراحة ونحوها. قوله: (إن ضره حلها) أي إن ضر المتوضي حل العصابة (مسح على جميعها) سواء كان تحتها الجراحة كلها أو لا، لأنها لا تعصب على وجه تأتي على موضع الجراحة

فحسب، بل يدخل ما حول الجراحة تحت العصابة، فكان مسح ما يواري حول الجراحة ضرورة، فله أن يمسح ما يواري الجراحة وعلى ما يواري ما حول الجراحة، ويكتفي بالمسح على أكثرها في الصحيح، لئلا يؤدي إلى إفساد الجراحة، فلو تركه: جاز وإن لم يضره عند أبي حنيفة، وعندهما: إن لم يضره لم يجز. قوله: (مع فرجتها) وهي الموضع الذي يبقى بين العقدين، قيل: يفترض غسل تلك الفرجة لأنها بادية، وقيل: لا، ويكفيه المسح، وهو الأصح، لأنه لو كلف غسل ذلك الموضع: ربما يبتل جميع العصابة، وتنفد البلة إلى موضع الفصد ونحوه، فيتضرر. ثم إنما يجوز المسح على عصابة الفصد ما لم ينسد موضع الفصد، فإذا علم يقيناً أن موضع الفصد قد انسد: يلزمه غسل ذلك الموضع ولا يجزيه المسح. ومن كان في يديه شقاق ولا يمكنه استعمال الماء، وقد عجز عن الوضوء: يستعين بغيره ليوضئه، فإن لم يستعن بغيره وتيمم وصلى: جازت صلاته عند أبي حنيفة، خلافاً لهما. ومن انكسر ظفره فجعل عليه علكاً أو نحوه: إن ضر نزعه: أمر الماء عليه، ولو كان المسح على العلك يضره: يجوز تركه، وقيل: لا. ومن أرسل علقة على يده أو رجله، فسقطت العلقة، فجعل الحنا في موضعهما، ولا يمكنه غسله: مسحه، فإن أضره المسح تركه، فيغسل ما حوله ويترك ذلك الموضع. كذا في التتمة.

فصل في التيمم

فصل في التيمم هو لغة: مطلق القصد. وشرعاً: قصد الصعيد الطاهر واستعماله بصفة مخصوصة لإقامة القربة، وسبب وجوبه: ما هو سبب وجوب الوضوء، وشرط جوازه: العجز عن استعمال الماء. والأصل في جوازه قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43 والمائدة: 6]. قوله: (ومن لم يجد الماء) كلمة (من) موصولة في محل الرفع على الابتداء، وقوله: (لم يجد الماء) جملة وقعت صلة، وما بعدها كلها عطف عليها، وقوله: (تيمم) هو الخبر. قوله: (خارج المصر) أي في خارج المصر، وبينه وبين المصر نحو الميل، وهو ثلث فرسخ، وهو أربعة آلاف خطوة، وهي ذراع ونصف بذراع العامة، وهو أربع وعشرون إصبعاً بعدد حروف لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعرض كل إصبع: ست حبات شعير ملصقة ظهراً لبطن، والفرسخ اثني عشر ألف خطوة، وهذا المقدار هو المختار، للحوقه الحرج بذهابه وإيابه. فإن قلت: لم قيد عدم وجدان الماء بكون الشخص خارج المصر، والله تعالى أطلقه بقوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وهو يتناول من في المصر ومن في خارج المصر؟ قلت: بلى، ولكن الحكم للغالب، والغالب وجدان الماء في الأمصار، وخارج المصر مظنة فقدان الماء، حتى لو لم يوجد الماء في المصر أيضاً والعياذ بالله: يجوز لأهله التيمم. قوله: (أو وجده) أي أو وجد الماء (ولكنه يخاف العطش على نفسه أو دابته) قوله: (أو كان مريضاً يخاف شدة مرضه بحركته) أي لما نحو الماء (أو باستعماله) أي

أو باستعمال الماء لتحقق العجز فيها، وعند الشافعي: لا يتيمم إلا إذا خاف تلف نفس أو عضو، وهو مردود، لإطلاق قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء: 43 والمائدة: 6]. قوله: (أو كان جنباً في المصر يخاف شدة البرد بأني مرضه أو يقتله) وإنما قيد بقوله: (في المصر) وإن كان من في خارج المصر كذلك، لوجود الخلاف فيه، فإن جواز تيمم الجنب في المصر عند خوفه شدة البرد: قول أبي حنيفة، خلافاً لهما. قيل: هذا اختلاف زمان لا برهان. قوله: (أو خائفاً) أي أو كان خائفاً، يعني يجد الماء، ولكنه يخاف من العدو أو السبع أن يصل إليه لحيالهما بينه وبين الماء: تيمم، لأنه عاجز حكماً، فهو كالعاجز حقيقة. قوله: (أو وجده) أي أو وجد الماء (ولكنه يباع بغبن فاحش) وهو أن يباع بضعف قيمته، بأن يباع ما يساوي نصف: بدرهم، فلا يشتري، بل يتيمم، لأن تحمل الضرر غير واجب، كقطع موضع النجاسة حال عدم الماء. قوله: (أو بثمن المثل) أي أو وجده يباع بثمن المثل (ولكنه لا يملكه) يعني ليس عنده ما يشتري: تيمم أيضاً للعجز. قوله: (تيمم) جواب المسائل المذكورة كلها، وهي سبع مسائل مشتركة في الجواب. قوله: (وتيمم مع وجود الماء إذا خاف فوت صلاة العيد) وقال الشافعي: لا يتيمم، الأصل في هذا: أنها تقضي عنده: فلا يتحقق الفوات، ولا تقضى عندنا:

فيتحقق، وأما إذا كان متوضئاً في العيد وسبقه الحدث: جاز له البناء بالتيمم عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، قبل هذا اختلاف زمان لا برهان. قوله: (أو الجنازة) أي يتيمم أيضاً لخوف فوت الجنازة، خلافاً للشافعي. قوله: (والولي غيره) أي والحال أن الولي غير الخايف، قيد به: لأن الولي ينتظر، فلا يجوز له التيمم. قوله: (لا لخوف فوت الجمعة) أي لا يتيمم إذا خاف فوت الجمعة والوقت، لأنهما يفوتان إلى خلف، وهو الظهر والقضاء. قوله: (وإن كان مع رفيقه ماء: طلبه قبل التيمم) استحساناً، لعدم المنع غالباً، والقياس: أن لا يطلب، لأن فيه ذلاً، ولو تيمم قبل الطلب: أجزأه عند أبي حنيفة، لأنه لا يلزمه الطلب من ملك الغير. وقالا: لا يجزئه، لأن الماء مبذول عادة. قوله: (ولا يجب طلب الماء) أي على المسافر (إلا إذا غلب على ظنه أن بقربه ماء) وعند الشافعي: يجب عليه الطلب مطلقاً. والطلب: قدر الغلوة من جوانبه الأربع، وهي: ثلثمائة ذراع إلى أربعمائة، ولا يبلغ ميلاً، لأن فيه إضراراً به وبرفقته. قوله: (والتيمم ضربتان) لما فرغ عن شرائط التيمم أخذ في صفته: وهي ضربتان (ضربة لوجهه وضربة ليده مع مرفقيه) وقال مالك في رواية: ضربة واحدة كافية وقال ابن سيرين: التيمم ثلاث ضربات: ضربة للوجه، وضربة للذراعين، وضربة

للوجه والذراعين جميعاً. والأصح: ما قلنا، لورود الأثر هكذا. كيفيته: أن يضرب بيده الصعيد ثم ينفضهما ويمسح بهما وجهه، ثم يضرب ضربة أخرى فيسمح بأصابع كفه اليسرى ظاهر ذراعه الأيمن إلى المرفق، وبباطن كفه اليسرى باطن ذراعه الأيمن إلى الرسغ، هكذا يصنع باليد اليسرى وقال زفر: المرفقان لا يدخلان فيه، وقال مالك: التيمم إلى الكوعين، والكوع: طرف الزند مما يلي الإبهام، وبه قال الشافعي في القديم. وفي الجديد: كقولنا، وعن الزهري: إلى الآباط. قوله: (ويخلل أصابعه وينزع خاتمه) هذا على رواية اشتراط الاستيعاب، وهي الأصح للفتوى، حتى لو لم يخلل الأصابع ولم ينزع خاتمه: لم يجز، وعن أبي حنيفة: أن الاستيعاب ليس بشرط، حتى لو مسح أكثر الذراعين والكف: جاز.

قوله: (والنية فيه) أي في التيمم (فرض) وقال زفر: ليست بفرض، لأنه خلف عن الوضوء فلا يخالف أصله، ولنا: أنه عبارة عن النية، فكانت من ضروراته، بخلاف الوضوء، لأن الماء مطهر بنفسه، والتراب ملوث مغير، فلا يكون مطهراً إلا بالقربة، ولا قربة إلا بالنية. قوله: (ويجوز التيمم بالصعيد الطاهر) والصعيد: فعيل بمعنى صاعد على وجه الأرض، أو بمعنى مصعود عليه، قيد بقوله: (طاهر) لأنه هو المعتبر بالإجماع. قوله: (وهو) أي الصعيد الطاهر (كل ما كان من جنس الأرض كالتراب والرمل والحجر والنورة والكحل والزرنيخ) وكذلك الطين الأحمر والأخضر والحجر الأملس والحائط المطين والمجصص والملح الجبلي والياقوت والفيروزج والزمرد والخزف إن كان من طين طاهر، ولا يجوز بالخزف المخلوط بما ليس من جنس الأرض، ولا بالملح المائي، ولا باللآلئ مدقوقة أولاً، ولا بالزيبق، ولا بجميع ما ينطبع كالحديد والرصاص والنحاس والذهب والفضة، وما يترمد: كالخشب والحنطة وسائر الحبوب. وعند الشافعي: لا يجوز إلا بالتراب المنبت، وعند أبي يوسف: لا يجوز إلا بالتراب والرمل خاصة، وبالغبار عند الضرورة، بأن يضرب ثوباً ونحوه، فإذا وقع الغبار على يديه: يتيمم. قوله: (والتيمم للحدث والجنابة سواء) لقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ} فقد ذكر نوعي الحدث عند وجود الماء، ثم ذكر نوعي الحدث عند عدمه، وأمر بالتيمم لهما بصفة واحدة، وكذلك الحائض والنفساء. قوله: (وينقضه) أي التيمم (ما ينقض الوضوء) لأن ما ينقض الأصل: فلأن ينقض الخلف أولى. قوله: (ورؤية الماء) أي وينقضه أيضاً رؤية الماء (بشرط أن يقدر على استعماله) لقوله عليه السلام "ما لم يجد الماء"

ولو رآه في أثناء صلاته: تبطل صلاته عندنا، مسافراً كان أو حاضراً، وقال الشافعي: تبطل في الحضر لا في السفر. قوله: (ومن يرجو الماء) أي وجود الماء (في آخر الوقت: فالأفضل له تأخير الصلاة) لتقع الصلاة بأكمل الطهارتين (وإن لم يرج: تيمم في الوقت المستحب) لأنه لا يفيد التأخير. قوله: (ويصلي بتيممه) أي بتيممه الواحد (ما شاء من الفرائض والنوافل جميعاً) لأنها طهارة مطلقة كالوضوء، وقال الشافعي: لا يجوز بتيمم واحد إلا أداء فرض واحد وسننه، والنوافل على وجه التبعية للفرض. قوله: (ولو نسي الماء في رحله) أي في رحله الذي وضع فيه الماء بنفسه، أو وضع فيه بأمره (أو كان بقربه ماء ولا يعلم، فتيمم وصلى به: أجزأه) حتى إذا تذكره بعدها: لا يعيد الصلاة، لأنه تيمم عند العجز عن الاستعمال حقيقة، خلافاً لأبي يوسف في المسألة الأولى. قوله: (وما أعد في الطريق للشرب) يعني الماء الذي يضعه الناس في طريق المسلمين للشرب (لا يمنع جواز التيمم) لأن الواضع ما وضعه إلا للشرب، وهو مأذون في ذلك في الشرب لا غير، فيجوز له التيمم، حتى إذا علم بكثرته أنه موضوع للوضوء والشرب جميعاً: لا يجوز له التيمم، بل يتوضأ منه. قوله: (وما يحمله الحجاج من ماء زمزم للعطية: يمنع التيمم). مريض يجد من يوضئه ولا يستضر به: يتوضأ بإعانته، قيل: بغير بدل وقيل: ببدل يسير، ولو استضر بحركته: يتيمم.

فصل في إزالة النجاسة

فصل في إزالة النجاسة لما فرغ عن بيان النجاسة الحكمية، شرع في بيان النجاسة الحقيقية، وإزالة النجاسة: إثبات الطهارة في محلها. قوله: (النجاسة المرئية تطهر بزوال عينها) أي يطهر المحل الذي أصابته النجاسة، لأن عين النجاسة لا يطهر أبداً، وأراد بالمرئية: التي لها جرم، وبغير المرئية: التي لا جرم لها، سواء كان لها لون أو لم يكن، نص عليه، هكذا في التتمة. قوله: (بكل مائع طاهر) احترز عن مائع نجس، فإنه لا يزيل النجاسة. قوله: (مزيل) احترز به عن نحو الدبس والدهن والعسل، فإنه مائع ولكنه غير مزيل. والمائع المزيل: كالخل وماء الورد، وعند محمد وزفر والشافعي: لا يجوز رفع النجاسة بالمائع المزيل. وأما الماء المستعمل: فيجوز به إزالة النجاسة الحقيقية بالاتفاق. قوله: (والأثر الذي يشق إزالته: عفو) للحرج والضرورة، سواء كان الأثر من لون أو طعم أو ريح. قوله: (وغير المرئية) أي النجاسة الغير مرئية (تطهر بالغسل) الذي يغلب به على ظن الغاسل زوالها، لأن غلبة الظن دليل شرعي، وعند الشافعي: المرة كافية. ثم غلبة الظن تقدر بالثلاث، لأنها تحصل عند هذا العدد غالباً، وقيل: بالسبع، دفعاً للوسوسة، كما في الاستنجاء. ولابد من العصر في كل مرة فيما ينعصر، ويبالغ في المرة الثالثة، حتى لو عصر بعده لا يسيل منه الماء، ويعتبر في كل شخص قوته، وفي رواية غير الأصول: يكتفي بالعصر مرة، وهو أرفق، وعن أبي يوسف: العصر ليس

بشرط. ذكره في المستغني. وأما حكم ما لا ينعصر بالعصر: فالتثليث بالجفاف، حتى لو موه السكين بماء نجس، يموه بالماء الطاهر ثلاثاً، ويجفف في كل مرة، بأن ينقطع التقاطر، ولا يشترط اليبس فيه، لأن التجفيف يؤثر في استخراج النجاسة كالعصر، وقال محمد: ما لا ينعصر بالعصر إذا تنجس: لا يطهر أبداً. بساط تنجس: فجعل في نهر، وترك فيه يوماً وليلة، وجرى عليه الماء: طهر، نص عليه في الكافي. وسئل الفقيه أحمد بن إبراهيم: عن الحصير إذا تنجس قال: إن كان من قصب: فإنه يطهر إذا غسل بماء طاهر بلا خلاف، وإن كان من بردي: فإنه يستنقع في ماء طاهر ثلاث مرات، ويجفف في كل مرة، ويطهر عند أبي يوسف، خلافاً لمحمد. تور كان فيه خمر، فتطهيره: أن يجعل الماء فيه ثلاث مرات، كل مرة لساعة إن كان التور جديداً، نص عليه في المنتقى، وفيه عن أبي يوسف: "لو طبخت الحنطة بخمر حتى تنتفخ وتنضج، فطبخت بعد ذلك ثلاث مرات، وانتفخت في كل مرة، وجفت بعد كل طبخة: فلا بأس بأكلها، وفيه أيضاً: الدقيق إذا أصابته خمر لم يؤكل، وليس لهذا حيلة".

قوله: (وكل شيء صقيل كالمرآة والسيف والسكين ونحوها: يطهر بالمسح) لأن النجاسة لا تتداخله، وعند الشافعي: يغسل. قوله: (والمني نجس) وعند الشافعي: طاهر، لأنه أصل الآدمي المكرم، وليس من الكرامة تنجيس أصله، ولنا: قوله عليه السلام: "لا يغسل الثوب إلا من خمس ... " وعد منها المني، وإيجاب الطهارة لا يكون إلا بخروج النجس. قوله: (يجب غسله رطباً) أي يجب غسل المني حال كونه رطباً، ويكفي بفركه حال كونه يابساً، لقوله عليه السلام: "يا عائشة إذا رأيت المني رطباً فاغسليه وإ، رأيته يابساً فافركيه".

ولو أصاب المني البدن: لا يطهر إلا بالغسل رطباً أو يابساً، ذكره في الأصل. قوله (ولو ذهب أكثر النجاسة عن الأرض بالشمس: جازت الصلاة على مكانها) أي مكان النجاسة، كالخمر إذا تخللت. وقال زفر: لا يجوز، قياساً على التيمم، وبه قال الشافعي. وفي المنتقى: "أرض أصابها بول أو عذرة، ثم أصابها ماء المطر، إن كان المطر غالباً قد جرى ماؤه عليه: فذلك مطهر له، وإن كان قليلاً لم يجر ماؤه عليه: لم يطهر". قوله: (دون التيمم منه) أي من مكان النجاسة، وهذا بالاتفاق، وذلك لأن النص شرط التيمم بالصعيد الطيب. قوله: (وإذا أصاب الخف أو النعل نجاسة لها جرم، فجفت فدلكه بالأرض: يطهر) هذا عند أبي حنيفة، لما روى الطحاوي في شرح الآثار بإسناده إلى أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعله، فإن كان فيهما أذى أو قذر فليمسحهما ثم ليصل فيهما" والمراد بالأذى: النجاسة العينية اليابسة، لأن الرطبة تزداد بالمسح انتشاراً أو تلوثاً.

وعند أبي يوسف: يطهر مطلقاً، لإطلاق الحديث، وعند محمد: لا يطهر إلا بالغسل مطلقاً، قياساً على الثوب، وبه قال زفر والشافعي ومالك. قوله: (بخلاف المائعة) أي بخلاف النجاسة المائعة إذا أصابت الخف، حيث لا يطهر إلا بالغسل عندهما، وعند أبي يوسف: يطهر بالدلك أيضاً لما مر. قوله: (والثوب) أي وبخلاف الثوب إذا أصابته نجاسة، فجفت، فدلكه بالأرض: حيث لا يطهر بالاتفاق، ولابد من الغسل، وهو القياس، وأما المني: فقد خص بالنص عن القياس.

فصل في البئر

فصل في البئر لما فرغ عن بيان إزالة النجاسة، شرع في بيان مسائل البئر. قوله: (النجاسة المائعة ينجسها) أي البئر فلا يطهر إلا بنزح جميع ما فيها. قوله: (والجامدة) مبتدأ، أي النجاسة الجامدة كالبعر والروث والخنثي، وقوله: (قليلها) مبتدأ ثان وقوله: (عفو) خبره، وهذا المبتدأ مع خبره، خبر عن المبتدأ الأول، والقليل: بعرة وبعرتان. قوله: (لا كثيرها) أي لا يعفى كثيرها، وهو ما يأخذ ثلث وجه الماء، وقيل: ربعه، وقيل: ما يغطي وجه الماء كله، وقيل: ما لا يخلو كل دلو عن بعرة، والصحيح أن الكثير ما يستكثره الناظر، على ما اختاره المصنف. قوله: (والرطب واليابس والصحيح والمنكسر سواء) لشمول الضرورة، وبعضهم يفرق ويقول: أن الرطب والمنكسر يفسد، لا اليابس، والصحيح والظاهر ما قاله المصنف، وكذا لا فرق بين آبار الحضر والفلوات في الصحيح. مسألة: شاة تبعر في المحلب بعرة أو بعرتين: يرمى البعر ويشرب اللبن، وكذا عن علي رضي الله عنه. قوله: (فإن ماتت فيها) أي في البئر (عصفورة أو فأرة أو نحوهما: يطهر بنزح عشرين دلواً) لما روي عن أنس رضي الله عنه قال: "ينزح في الفأرة عشرون دلواً" ويستحب الزيادة إلى ثلاثين، والفأرتان كفأرة، والثلاثة كالدجاجة. قوله: (بدلوها) أي بدلو تلك البئر، لأن المعتبر هو الدلو الوسط، وهو المستعمل في الآبار، وقيل: ما يسع صاعاً.

قوله: (بعد إخراج الواقع) لأن النزح لا يفيد ما دام الواقع فيها. قوله: (وفي الحمامة والدجاجة والهرة ونحوها: أربعون) أي ينزح أربعون دلواً، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه هكذا، ويستحب الزيادة إلى خمسين في الأظهر، وإلى ستين للاحتياط، والهرتان: كالواحدة، والثلاث: كالشاة، وعن أبي يوسف في الهرة: ينزح الكل، وعن أبي حنيفة: الأوز والسخلة والجدي: كالدجاجة، وعنه: كالشاة، وهو الأصح. قوله: (وفي الآدمي) أي وفي وقوع الآدمي (والشاة ونحوهما: ينزح الكل) أي جميع الماء، لأن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم: أفتيا بنزح ماء البئر كله حين مات الزنجي في بئر زمزم. قوله: (وإن انتفخ الواقع أو تفسخ: نزح الكل مطلقاً) أي سواء كان الواقع صغيراً كالفأرة، أو كبيراً كالشاة ونحوها، لأنها لا تخلو عن بلة، وتلك البلة نجسة كقطرة من خمر، ولهذا لو وقع ذنب الفأرة: ينزح الكل، لأن موضع القطع منه لا ينفك عن النجاسة.

قوله: (وإن لم يمكن نزح الماء كله لنبع الماء: نزح حتى يغلبهم الماء) هذا رواية عن أبي حنيفة، وعن محمد: ينزح مائتا دلو إلى ثلثمائة، لأن الغالب في الآبار نحو ذلك، والأصح أن يؤخذ بقول رجلين لهما بصارة في أمر الماء، فأي مقدار قالا أنه في البئر: ينزح ذلك القدر، وهو أشبه بالفقه، ولا يطهر ما دام الدلو الأخير في هواها، حتى لم يجز لأحد أن يتوضأ منها إلا بعد انفصالها، وقال محمد: يجوز. والله أعلم.

فصل في الاستنجاء

فصل في الاستنجاء الاستنجاء: مسح موضع النجو أو غسله، والنجو: ما يخرج من البطن. قوله: (وهو) أي الاستنجاء (سنة من البول والغائط ونحوهما) مثل المني والودي والمذي والدم الخارج من السبيلين، ومثل الدودة والحصاة الملوثة، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنها تجزئ عنه" رواه أبو داود. وقال الشافعي: هو فرض، لا تجوز الصلاة بدونه. ولنا: ما روى أبو حاتم في صحيحه: "من استجمر فليوتر، ومن فعل هذا فقد أحسن، ومن لا فلا حرج". قوله: (بكل طاهر مزيل) كالحجر والمدر والتراب والخرقة والقطن ونحوها. قوله: (ويمسح المحل) أي محل خروج النجاسة من القبل والدبر، حتى ينقيه: أي ينظفه. والمعتبر عندنا: الإنقاء، ولا يسن العدد، حتى لو حصل الإنقاء بحجر واحد: لا يحتاج إلى الثاني، ولو لم يحصل بثلاثة أحجار: يحتاج إلى الرابع.

وقال الشافعي: لابد من التثليث. قلنا: لو كان العدد شرطاً لسأل النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود رضي الله عنه الثالث ليلة الجن حين أتاه بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين ورمى الروثة فقال: "إنه رجس ونكس". وقوله (والماء أفضل) أي من الحجر ونحوه لقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] نزلت في أهل قباء، وكانوا يتبعون الحجارة بالماء. قوله: (فإن جاوز الخارج المخرج: تعين الماء) لأن المسح غير مزيل على سبيل الاستيصال، ولكن اكتفى به في المحل شرعاً دفعاً للحرج فلا يتعداه. قوله: (ويكره) أي الاستنجاء (بالعظم والروث والمطعوم واليمين) لما روي أن أبا الزبير سمع جابر بن عبد الله يقول: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح بعظم أو بعر" رواه أبو داود.

وروي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن" رواه الترمذي. وروى الترمذي أيضاً "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمس الرجل ذكره بيمينه". وصفة الاستنجاء بالأحجار: أن يجلس معتمداً على يساره، منحرفاً عن القبلة والريح والشمس والقمر، ومعه ثلاثة أحجار، يدبر بالأول ويقبل بالثاني، ويدبر بالثالث، هذا في الصيف، وفي الشتاء: يقبل بالأول ويدبر بالثاني ويقبل بالثالث، لأن خصيتيه مدليتان في الصيف. وصفته بالماء: أن يستنجي بيده اليسرى بعدما استرخى كل الاسترخاء إذا لم يكن صائماً، ويصعد إصبعه الوسطى على سائر الأصابع قليلاً في ابتداء الاستنجاء، ويغسل موضعها، ثم يصعد بنصره ويغسل موضعها، ثم يصعد خنصره ثم سبابته، فيغسل حتى يطمئن قلبه أنه قد طهر بيقين أو غلبة ظن، ويبالغ فيه إلا أن يكون صائماً، ولا يقدر بالعدد إلا إذا كان موسوساً، فيقدر في حقه بالثلاث، وقيل بالسبع، وقيل بالعشر، ويفعل ذلك بعد الاستبراء بالمشي أو التنحنح أو النوم على شقه الأيسر.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة لما فرغ عن بيان الطهارة التي هي شرط الصلاة، شرع في بيان الصلاة التي هي مشروطة، وشرط الشيء يسبقه، وحكمه يعقبه، وإنما قدمها على غيرها من العبادات لما مر من أنها تالية وثانية في الكتاب والسنة. وهي لغة: من تحريك الصلوين، وهما العظمان النابتان عن العجيزة، وقيل: من الدعاء. وشرعاً: عبارة عن الأركان المعلومة والأفعال المخصوصة، وسببها: الوقت، وفرائضها: اثني عشر، ستة قبلها تسمى شروطاً، وستة فيها تسمى أركاناً، لما يجيء بيانها. وحكمها: سقوط الواجب عن الذمة في الدنيا، وحصول الثواب في العقبى. وحكمتها: تعظيم الله تعالى بجميع الأركان والأعضاء، ظاهرها وباطنها، تبرياً عن عبادة الأوثان قولاً وفعلاً وهيئة. وفرضت الصلاة ليلة المعراج، وكان المعراج قبل خروجه عليه السلام إلى المدينة بسنة، كذا روى البيهقي عن الزهري، وروى السدي: أنه قبل مهاجره بستة عش رشهراً،

فعلى قول السدي: يكون المعراج في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزهري: يكون في ربيع الأول. قوله: (ومن أسلم أو أفاق) أي من الجنون (أو بلغ) أي الصبي (أو طهرت) أي الحائض من الحيض، أو النفساء من النفاس، (والحال أنه قد بقي من الوقت قدر تحريمة: لزمته صلاة ذلك الوقت) عندنا فيقضيها خلافاً للشافعي. قوله (ولو ارتد) أي عن الإسلام والعياذ بالله (أو جن أو حاضت المرأة حينئذ) أي حين بقي من الوقت قدر تحريمة (لم يجب عليهم صلاة ذلك الوقت) خلافاً لزفر. والأصل في هذين الفصلين: أصولي، وهو أن الوجوب عند الشافعي: بأول الوقت، وعندنا: بآخره، وأن السببية من الجزء إلى الجزء اتفاقاً، إلا أن عند زفر: إلى أن يتضيق الوقت، وعندنا: إلى آخر جزء من أجزاء الوقت.

فصل

فصل الأذان لغة: إعلام مطلقاً. وشرعاً: إعلام مخصوص في أوقات مخصوصة. قوله (الأذان سنة) قيل: واجب، والصحيح أنه سنة مؤكدة، ولو امتنع أهل بلدة: يقاتلهم الإمام عند محمد، خلافاً لأبي يوسف. قوله: (لخمس) أي الصلوات الخمس قوله: (والجمعة) إنما أفردها بالذكر وإن كانت داخلة في الخمس: نظراً إلى أن فرض الوقت هو الظهر. قوله: (فقط) يخرج السنن والتطوعات، والوتر وإن كان واجباً عند أبي حنيفة، لكنه يؤدى في وقت العشاء، فاكتفى بأدائه. قوله: (بغير ترجيع) وهو أن يأتي بالشهادتين مخافتة، ثم يأتي بهما مجاهرة، لأنه لم ينقل في حديث عبد الله بن زيد وحديث بلال، وقال الشافعي: لابد من الترجيع. قوله: (ويزيده في الفجر بعد الفلاح) أي بعد قوله حي على الفلاح (الصلاة خير

من النوم) مرتين، لما روى أبو داود في سننه في تعليم النبي عليه السلام أبا محذورة الأذان قال: "فإن كان في صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم". قوله: (والإقامة مثله) أي مثل الأذان مثنى مثنى، إلا أنه يزيد فيه: قد قامت الصلاة، مرتين بعد قوله: حي على الفلاح، لما روي عن عبد الله بن زيد أنه قال "كان أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم شفعاً شفعاً في الأذان والإقامة" رواه الترمذي. قوله: (ويترسل في الأذان) والترسل: أن يقف بين كل كلمتين إلى آخر الأذان، لقوله عليه السلام لبلال: "إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر" رواه الترمذي. قوله: (ويتوجه فيهما إلى القبلة) أي في الأذان والإقامة، لأنهما ذكر الله، والاستقبال فيه مستحب. قوله: (ويلتفت يمنة ويسرة) أي عند قوله: حي على الصلاة وحي على الفلاح، لأنهما خطاب للقوم، فيواجههم بهما. قوله: (ويرفع الصوت) لأنه إعلام الغائبين، فلابد من رفع الصوت ليحصل لهم الإعلام، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس، وشاهد الصلاة يكتب له خمس وعشرون صلاة، ويكفر عنه ما بينهما" رواه أبو داود في السنن.

قوله: (ويستحب الوضوء فيهما) أي في الأذان والإقامة، لأنهما ذكر يستحب فيه الطهارة كالقرآن. قوله: (ويكرهان للجنب) أي يكره الأذان والإقامة للجنب، لأن لهما شبهاً بالصلاة، فكره مع الحدث الأغلظ دون الأخف. قوله: (ويعاد الأذان خاصة) أي يستحب أن يعاد أذان الجنب خاصة، ولا تعاد إقامته، لأن تكرار الأذان مشروع في الجماعة كما في الجمعة، وأما تكرار الإقامة: فغير مشروع أصلاً. قوله: (ويكره إقامة المحدث) وكراهة إقامته لا لأنه ذكر معظم، بل لما فيه من الفصل بين الإقامة والتكبير، وذا غير مشروع، ويروى: لا يكره إقامته أيضاً كما لا يكره أذانه. وأذان المرأة والفاسق والصبي والقاعد والسكران: يكره، ويستحب إعادته. قوله: (ويؤذن للفائتة الأولى) يعني إذا فاتته صلوات وأراد أن يقضيها: يؤذن للفائتة الأولى ويقيم، وله الاكتفاء بالإقامة في البواقي، لما روي أنه عليه السلام "لما فاتته أربع صلوات، قضاهن مع الصحابة بجماعة، بأذان وإقامة للأولى، وإقامة لكل واحدة من البواقي". قوله: (ويجوز إقامة غير المؤذن) يعني إذا أذن واحد وأقام آخر: يجوز، لقوله عليه السلام لعبد الله بن زيد حين رأى الأذان: "ألقه على بلال" فقال عبد الله: أنا رأيته وأنا كنت أريده قال: "فأقم أنت" رواه أبو داود وفيه خلاف الشافعي.

قوله: (ويكره للمؤذن الأجرة) لما روي أن عثمان بن أبي العاص قال: يا رسول الله اجعلني إمام قومي قال: "أنت إمامهم، واقتدي بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً" رواه أبو داود. قال أبو عيسى: حديث عثمان حديث حسن. ولأنه أجرة على الطاعة وهي غير جائزة، وكذلك أخذ الأجرة على الحج والإمامة وتعليم القرآن والفقه، ولكن المتأخرين جوزوا على التعليم والإمامة في زماننا لحاجة الناس إليه، وظهور التواني في الأمور الدينية، وكسل الناس في الاحتساب، وعليه الفتوى. ولو استأجر شخصاً لتعليم الحرف، فيه روايتان: في رواية المبسوط: يجوز، وفي رواية القدوري: لا يجوز.

ولو استأجره لتعليم غلامه أو ولده شعراً أو أدباً أو حرفة مثل الخياطة أو نحوها: إن بين المدة بأن استأجره شهراً لتعليم هذا العمل: يجوز وينعقد العقد على المدة حين يستحق الأجر، تعلم أو لم يتعلم إذا سلم الأستاذ نفسه، وإن لم يبين المدة: ينعقد فاسداً، حتى لو علم: استحق أجر المثل، وإلا فلا، وكذا تعليم سائر الأعمال كالخط والهجاء والحساب على هذا. ولو استأجر قلماً ليكتب به: جاز إذا بين الوقت والكتابة. ولو استأجر على كتابة الغناء والنوح: يجوز، نص عليه شيخ الإسلام، لأن المعصية في القراءة، وقد يقرأ وقد لا يقرأ. قوله: (ولا يؤذن لصلاة قبل الوقت) لأنه مشروع في الوقت فلا يشرع قبله، إلا أذان الفجر فإنه يجوز بعد نصف الليل عند أبي يوسف والشافعي، وعندهما: لا يجوز. قوله (ويعاد فيه) أي يعاد الأذان الذي وقع قبل الوقت في الوقت، ليقع على الوجه المشروع. قوله: (ويجب على سامع الأذان والإقامة متابعة المؤذن) لما روي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" رواه أبو داود، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ويقول في الحيعلتين: لا حول ولا قوة إلا بالله، لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله فإذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله قال: لا إله إلا الله، من قلبه دخل الجنة" رواه مسلم وأبو داود. قوله: (ولا يتكلم سامعهما) أي سامع الأذان والإقامة، لأن الإجابة واجبة، والتكلم مخل بهما. (وكذلك لا يقرأ ولا يسلم ولا يرد السلام) ولا يشتغل بعمل غير الإجابة. قوله: (ويقطع القراءة لهما) أي للأذان والإقامة، فإن قلت: أليس هذا بتكرار لأنه قال أولاً (ولا يقرأ)؟ قلت: لأن المراد من قوله: (ولا يقرأ) هو: أن لا يشرع في القراءة عند الأذان والإقامة، والمراد من قوله: (ويقطع القراءة) هو أن يكون قارئاً فابتدئ الأذان والإقامة. فافهم.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان شروط الصلاة وأركانها وواجباتها وسننها وآدابها وغير ذلك الشرط ما يتوقف عليه الشيء ولا يكون منه: كالوضوء. والركن: ما يقوم به الشيء: كالقراءة. والفرض: أعم منهما، يطلق على الشرط والركن جميعاً، وهو: ما ثبت بدليل قطعي. والواجب: ما ثبت بدليل ظني. والسنة: ما في فعله ثواب، وتركه عتاب لا عقاب. والأدب: وهو التخلق بالأخلاق الحميدة. قوله: (وشروط الصلاة ستة) أي ستة أشياء: قوله: (الوقت) أي الشرط الأول: الوقت، عرفت فرضيته بالكتاب والسنة، أما الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] أي فرضاً موقتاً، وقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)} [الروم: 17 - 18]. وقيل لابن عباس: هل تجد ذكر الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية: تمسون: صلاة المغرب والعشاء، وتصبحون: صلاة الفجر، وعشياً: صلاة العصر، وتظهرون: صلاة الظهر، وعشياً: متعلق بقوله: {حِينَ تُمْسُونَ}.

{وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} اعتراض بينهما، كذا في الكشاف. وأما السنة: فقوله عليه السلام "أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين صار ظله مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إلي فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين" رواه أبو داود. قوله: (والطهارة بأنواعها) أي الشرط الثاني: الطهارة بأنواعها، وهي الطهارة عن النجاسة الحقيقية: عن الثوب والبدن والمكان الذي يصلي به، والطهارة عن النجاسة الحكمية: وهي الحدث والجنابة والحيض والنفاس. قوله: (وستر العورة) أي الشرط الثالث: ستر العورة لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] أي استروا عورتكم عند كل صلاة. قوله: (واستقبال القبلة) أي الشرط الرابع: استقبال القبلة لقوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] أي جهته. قوله: (والنية) أي الشرط الخامس: النية لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] والإخلاص لا يكون إلا بالنية. قوله: (وتكبيرة الإحرام) أي الشرط السادس: تكبيرة الإحرام، وتسمى: تكبيرة الافتتاح، والتكبيرة الأولى، وعند الشافعي: تكبيرة الإحرام ركن. وفائدة الخلاف

تظهر في جواز بناء النفل على تحريمة الفرض، فعندنا: يجوز، وعنده لا يجوز، وفيما إذا كبر مقارناً لزوال الشمس، فعندنا: يجوز، وعنده: لا يجوز. قوله: (وأركانها) أي أركان الصلاة (ستة) أشياء أيضاً (الأول: القيام) لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] (والثاني: القراءة) لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] (والثالث: الركوع) لقوله تعالى: {وَارْكَعُوا} (والرابع: السجود) لقوله تعالى: {وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] (والخامس: الانتقال من ركن إلى ركن) وذلك مثل أن ينتقل من القيام إلى الركوع، ومن الركوع إلى السجود، ومن السجود إلى القعدة، والصلاة لا توجد إلا بذلك، فكان فرضاً (والسادس: القعدة الأخيرة مقدار التشهد) والمراد من مقدار التشهد: قدر ما يتمكن فيه من قراءة التشهد إلى قوله: عبده ورسوله، إذ التشهد عند الإطلاق ينصرف إليه، وقيل: القدر المفروض من القعدة ما يأتي فيه بالشهادتين، والأول: أصح، وفرضيته: القعدة الأخيرة بقوله عليه السلام "إذا رفعت رأسك من القعدة الأخيرة وقعدت قدر التشهد فقد تمت صلاتك". فإن قلت: كيف تثبت الفرضية بخبر الواحد؟ قلت: الفرضية لا تثبت به ابتداء، أما البيان: فيصح، وهذا لأن الإتمام ثابت بالكتاب، لأن نفس الصلاة ثابتة وتمامها بها، وهذا الخبر يبين كيفية الإتمام. قوله: (وواجباتها) أي واجبات الصلاة (أحد عشر) قوله: (الفاتحة) أي الواجب الأول: قراءة الفاتحة في الركعتين الأوليين من الفرائض، وقال الشافعي: قراءة

الفاتحة فرض لقوله عليه السلام "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" ولنا قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] والتقييد بالفاتحة نسخ لمطلق النص، والحديث محمول على نفي الكمال، ولكن نقول بالوجوب لمواظبته عليه السلام عليها من غير ترك. فإن قلت: اجعلها بياناً لا نسخاً، لأنها مقررة للمزيد عليه لا مبطلة، فتكون فرضاً، قلت: البيان يستدعي الإجمال، ولا إجمال هنا لإمكان العمل به قبله، ولكن خبر الواحد يوجب العمل، فقلنا بوجوبها عملاً، حتى تكره الصلاة بتركها. قوله: (وسورة) أي الواجب الثاني: قراءة سورة أو قدرها مع الفاتحة، لمواظبته عليه السلام على ذلك من غير ترك. قوله: (والجهر) أي الواجب الثالث: الجهر في الجهرية، وهي: الركعتان الأوليان من المغرب، والعشاء، وصلاة الفجر، والجمعة، والعيدين، للنقل المستفيض هكذا. هذا في حق الإمام، أشار إليه بقوله: (للإمام) وأما المنفرد فهو مخير: إن شاء جهر وأسمع نفسه لكونه إمام نفسه، وإن شاء خافت، لأن الجهر لإسماع من خلفه، وليس خلفه أحد ليسمعه، والجهر أفضل، ليؤدي صلاته على هيئة الجماعة. قوله: (والمخافتة) أي الواجب الرابع: المخافتة (في السرية) أي الصلاة السرية مطلقاً، أي سواء كان إماماً أو منفرداً، لورود الأثر هكذا. قوله: (والطمأنينة) أي الواجب الخامس: الطمأنينة، وهي الاستقرار في الركوع والسجود، هذا عندهما، وعند أبي يوسف: هي فرض، لقوله عليه السلام لمن خفف الصلاة: "قم صل فإنك لم تصل".

وبه قال الشافعي، ولهما: إطلاق قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] والزيادة نسخ، والأمر بإلإعادة: لقلعه عن العادة الذميمة. قوله: (وترتيب أفعالها) أي الواجب السادس: ترتيب أفعال الصلاة، والمراد منه الترتيب في فعل متكرر في ركعة كالسجدة، حتى لو ترك السجدة الثانية وقام إلى الركعة الثانية: لا تفسد صلاته، أما ترتيب القيام على الركوع، وترتيب الركوع على السجود: فرض، لأن الصلاة لا توجد إلا بذلك كما مر، نص عليه في الكافي. قوله: (والقعدة الأولى) أي الواجب السابع: القعدة الأولى، لمواظبته عليه السلام على ذلك. قوله: (والتشهد) أي الواجب الثامن قراءة التشهد (في القعدتين) يعني في الأولى والأخيرة جميعاً، نص عليه هكذا في المحيط، وذكر في الهداية: "وقراءة التشهد في القعدة الأخيرة". وهذا التقييد يؤذن بأن قراءته في القعدة الأولى ليست بواجبة، وهو قول البعض، والأصح أنه سنة فيهما، وقال الشافعي: هو فرض في الثانية. قوله: (والتسليم) أي الواجب التاسع: إصابة لفظ السلام، لقوله عليه السلام: "وتحليلها التسليم".

قوله: (والقنوت) أي الواجب العاشر: قراءة القنوت في الوتر لما يجيء في الوتر، إن شاء الله تعالى. قوله: (وتكبيرات العيدين) أي الواجب الحادي عشر: تكبيرات العيدين، لما يجيء في موضعه. قوله: (وسننها) أي سنن الصلاة (ما سوى ذلك) مما ذكره من الأركان والواجبات. قوله: (من أقوالها وأفعالها المطلوبة) أما أقوالها المطلوبة: فمثل: الثناء والتعوذ والتسمية والتأمين والتسميع والتحميد والتكبيرات التي تتخلل في الصلاة، وتسبيحات الركوع والسجود، والصلاة على النبي عليه السلام في القعدة الأخيرة، ونحو ذلك على ما يجيء مفصلاً إن شاء الله تعالى. وأما أفعالها المطلوبة: فمثل رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، ووضع اليمين على الشمال، وإبداء ضبعيه، وتوجيه أصابع رجليه نحو القبلة، وغير ذلك على ما يجيء مفصلاً إن شاء الله تعالى. قوله: (الشرط الأول: الوقت) أي الشرط من الشروط الستة: الوقت، قدم بيان الوقت: لأن الصلاة كتاب موقوت، فلا بد من بيانه أولاً، ثم قدم وقت الصبح: لأنه ما اختلف في أوله وآخره. قوله: (ووقت الصبح من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس) ثم الفجر فجران: كاذب: وهو الذي يبدأ طولاً ثم يعقبه ظلمة، فلا يخرج به وقت العشاء، ولا يحرم الأكل والجماع للصائم، وصادق: وهو البياض المعترض في الأفق، فيحرم به

السحور، ويدخل به وقت الفجر، وأول وقت الصبح: هو الفجر الثاني، وآخره: ما لم تطلع الشمس، بالإجماع. قوله: (والظهر من زوالها) أي يدخل وقت الظهر من زوال الشمس عن كبد السماء، حتى يصير ظل كل شيء مثليه، سوى فيء الزوال عند أبي حنيفة رضي الله عنه، لإمامة جبريل عليه السلام للعصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، وعندهما: حتى يصير ظل كل شيء مثله، لإمامته عليه السلام للعصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، وهو قول زفر والشافعي. صورة معرفة فيء الزوال: هي أن تغرز جريدة في حال استواء الشمس، وتخط على منتهى ظل الجريدة، فتنظر إليه، فإن كان ينقص: فالشمس لم تزل بعد، وإن أخذ في الزيادة: فقد زالت، وإن صار بحال لا يزيد ولا ينقص: فذلك فيء الزوال. قوله: (وهو أول) أي آخر الظهر على الاختلاف (أول وقت العصر). قوله: (وآخره غروبها) أي آخر وقت العصر: غروب الشمس، وقال الحسن بن زياد: آخر وقت العصر حين تصفر الشمس. قوله: (وهو أول وقت المغرب) أي غروب الشمس: أول وقت صلاة المغرب، لما روى سلمة بن الأكوع: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب" رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. قوله: (وآخره) أي آخر وقت المغرب (غروب الشفق) لقوله عليه السلام: "وقت صلاة

المغرب ما لم يسقط ثور الشفق" رواه مسلم. وهو حجة على الشافعي في تقديره: بستر ووضوء وأذانين وخمس ركعات. قوله: (الأبيض) صفة الشفق، وهو ما يكون بعد الحمرة، وهذا قول أبي حنيفة وزفر، لأنه من أثره، وهو قول أبي بكر الصديق، وأنس بن مالك، ومعاذ بن جبل، وعائشة، وأبي، وابن الزبير، وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال عمر ابن عبد العزيز،

واختاره المبرد وثعلب اللغويان. وعندهما: الشفق هو الحمرة، وهي رواية أسد بن عمرو عن أبي حنيفة، وقول الشافعي. وهو قول عبد الله بن عمر، وشداد بن أوس، وعبادة بن الصامت، رضي الله عنهم، وبه قال الزبيري والفراء والخليل.

قوله: (وهو أول وقت العشاء) أي غروب الشفق على الاختلاف: أول وقت العشاء، وآخره طلوع الفجر الصادق. قوله: (ووقت الوتر وقت العشاء) وذكر في المختصر: وأول وقت الوتر بعد العشاء، قلت: المذكور فيه قولهما، وأما عند أبي حنيفة: وقته إذا غاب الشفق، إلا أنه مأمور بتقديم العشاء عليه للترتيب، كصلاة الوقت والفائتة، وهذا الاختلاف فرع اختلافهم في صفة الوتر. قوله: (ويجب تأخيره عنها) أي تأخير الوتر على العشاء لما قلنا. قوله: (ويستحب الإسفار بالفجر) لقوله عليه السلام: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. والمراد من الإسفار: التنوير لا الاصفرار، حتى أن التأخير إنما يستحب بحيث أن يقدر على صلاة بقراءة مسنونة وترتيل، وإعادتها وإعادة الوضوء قبل طلوع الشمس لو ظهر سهو. قوله: (إلا للحاج بمزدلفة فالتغليس أفضل) لتدارك الوقوف بالمزدلفة قبل طلوع الشمس، وأصل الغلس: ظلام آخر الليل، ولكن المراد به: طلوع الفجر الثاني من غير تأخير قبل أن يزول الظلام وينتشر الضياء، كذا في الطلبة.

قوله: (والإبراد) أي يستحب الإبراد (بالظهر في الصيف) لحديث أنس رضي الله عنه أنه عليه السلام "إذا كان الحر أبرد بالصلاة وإذا كان البرد عجل بالصلاة" رواه النسائي والبخاري بمعناه. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم" رواه الترمذي. قوله: (وتأخير العصر) أي يستحب تأخير صلاة العصر (ما لم يتغير قرص الشمس في الصيف والشتاء) لأنه عليه السلام "كان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية" رواه أبو داود، وروى الدارقطني عن رافع بن خديج مثله، والعبرة لتغير القرص، لا لتغير الضوء كما قال النخعي والحاكم الشهيد، لأن ذا يحصل بعد الزوال، فمتى صار القرص بحيث لا تحار فيه العين: فقد تغير، وإلا فلا.

قوله: (وتعجيل المغرب) أي يستحب تعجيل صلاة المغرب (دائماً) يعني في الصيف والشتاء، والسفر والحضر جميعاً، لقوله عليه السلام: "لن تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم" رواه أحمد وأبو داود. فإن قلت: كيف وجه التمسك به؟ قلت: لما كان التأخير سبباً لزوال الخير، كان التعجيل سبباً لاستجلابه. قوله: (وتأخير العشاء) أي يستحب تأخير العشاء (إلى ثلث الليل) لحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخر العشاء حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فقال عمر: يا رسول الله نام النساء والولدان، فخرج فقال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوا العشاء في هذه الساعة" رواه البخاري ومسلم. قوله: (وفي يوم الغيم يعجل العصر والعشاء) أما العصر: فلئلا يقع في حال تغير الشمس، وأما العشاء فلئلا يؤدي إلى تقليل الجماعة على اعتبار المطر والطين. قوله: (ويؤخر البواقي) وهي الفجر والظهر والمغرب، أما الفجر: فلأنه إذا عجل لأدى إلى تقليل الجماعة بسبب الظلمة، ولأنه لم يؤمن أن يقع قبل الصبح. وأما الظهر: فلئلا يقع قبل الزوال، وأما المغرب: فلئلا يقع قبل الغروب. قوله: (ولا يجمع بين صلاتين في وقت) مثل ما يجمع الشافعي بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، لعذر السفر والمطر ولو في الحضر. ولا جمع عندنا إلا في موضعين: الأول: في عرفة، يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر في وقت الظهر بأذان وإقامتين، حتى لا يجوز للمنفرد ذلك عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، والثاني: في مزدلفة: يصلي الإمام بهم المغرب والعشاء في وقت العشاء بأذان وإقامة واحدة، وعند

الشافعي: بأذان وإقامتين، والدليل لنا في هذا الباب ما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "والذي لا إله غيره ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة قط إلا لوقتها، إلا صلاتين جمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بجمع" رواه البخاري ومسلم. قوله: (ويستحب الوتر في آخر الليل) إن وثق بالانتباه، لقوله عليه السلام: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً" رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وإن لم يثق بالانتباه: أوتر قبل النوم، لحديث جابر رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: "أيكم خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر ثم ليرقد" رواه مسلم وغيره. قوله: (وقت الجمعة وقت الظهر) حتى يخرج وقتها بخروج وقت الظهر، وعند مالك: لا يخرج إلى المغرب، وعند الحنابلة: يجوز قبل الزوال. قوله: (ووقت صلاة العيدين من ارتفاع الشمس إلى زوالها) لأنه عليه السلام "كان يصلي العيد والشمس على قيد رمح أو رمحين".

قوله: (وأوقات الكراهية ثمانية) لما فرغ من الأوقات المستحبة شرع في بيان الأوقات المكروهة، وهي ثمانية على ما يفصل: قوله: (ثلاثة) أي ثلاثة أوقات (تكره فيها كل صلاة وسجدة تلاوة وسجدة سهو، وهي: عند طلوع الشمس واستوائها وغروبها) لقول عقبة بن عامر: "ثلاث أوقات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا: عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند زوالها حتى تزول، وحين تضيف للغروب حتى تغرب" رواه مسلم وغيره. قوله: (إلا عصر يومه) لأنه أداه كما وجب، حتى لا يجوز عصر أمسه. قوله: (ووقتان) أي وقتان من هذه الأوقات الثمانية (يكره فيهما التطوع، والصلاة المنذورة، وركعتا الطواف، وقضاء تطوع أفسده) يعني بعد الشروع، ولا يكره غير ذلك مثل: قضاء الفرائض الفائتة، والوتر الفائت، وصلاة الجنازة، وسجدة التلاوة. (وهما: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وما بعد العصر إلى الغروب) لقوله عليه السلام: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس" رواه البخاري ومسلم.

والنهي لمعنى في غير الوقت، وهو جعل الوقت كالمشغول فيه بفرض الوقت حكماً، وهو أفضل من النفل الحقيقي، فلا يظهر في حق فرض آخر مثله. فإن قلت: فعلى هذا ينبغي أن لا تكره المنذورة، لأنها صارت فرضاً بالنذر كما هو مذهب أبي يوسف، قلت: إن ما التزمه بالنذر نفل، لأن النذر سبب موضوع لالتزام النفل. قوله: (وثلاث أوقات) أي من الأوقات الثمانية (يكره فيها التطوع لا غير: الأول: بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب) لأن فيه تأخير المغرب، وهو مكروه (والثاني: وقت خطبة الجمعة) لقوله عليه السلام: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" رواه البخاري ومسلم.

فإذا كان الأمر بالمعروف مع كونه فرضاً: حراماً في هذه الحالة، فما ظنك بالنفل. (والثالث قبل صلاة العيد) لأنها لم تنقل. قوله: (الثاني) أي الشرط الثاني: الطهارة، قوله: (طهارة المصلي ولباسه ومكانه: شرط) أما طهارة المصلي: فهي طهارة بدنه من الحدث والخبث، أما من الحدث: فلقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]. وأما من الخبث: فلأن الصلاة مناجاة مع ربه، فيجب أن يكون على أحسن حال، وذا: في طهارته وطهارة ما يتصل به، وأما طهارة لباسه: فلقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] وأما طهارة مكانه: فبالاقتضاء، لأنه إذا وجب في الثوب وجب في المكان بطريق الاقتضاء، لأنه ألزم للمصلي من الثوب، إذ لا وجود للمصلي بدونه. قوله: (والنجاسة) يريد أن يبين النجاسة المائعة من المخففة والمغلظة، ويريد أن يبين المخففة ما هي، والمغلظة ما هي، فتقدير كلامه: النجاسة على نوعين: أحدهما (مخففة) وهي كبول الفرس وبول ما يؤكل لحمه، وعند محمد: طاهر، ومن المخففة: خرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور عند أبي حنيفة، وعندهما: مغلظة، وقد مر بيانه في أول الكتاب.

قوله: (ومنع) أي (من المخففة قدر ربع العضو) وقد بيناه. قوله: (لا ما دونه) أي لا يمنع ما دون الربع. قوله: (ومغلظة) أي النوع الثاني من النجاسة: نجاسة مغلظة، وهي بقية النجاسات: كالعذرة والأرواث والأخثاء، وبول ما لا يؤكل لحمه. قوله: (ووزن المثقال) وهو الدرهم المثقالي (عفو في ذات الجرم) وهو النجس المستجسد مع الكراهة، وما فوقه مانع من جواز الصلاة، وقال الشافعي: قليلها وكثيرها مانع من الصلاة مخففة كانت أو مغلظة، لإطلاق النص الموجب للتطهير. قلنا: التحرز عن القليل لا يمكن، فيجعل عفواً، وأما التعيين بعرض الكف في المانعة فلقول عمر: مثل ظفري هذا لا يمنع حتى يكون أكثر منه، وظفره كان قريباً من كفنا، وأما التقدير بالربع في الحقيقة: فلأن للربع حكم الكل. قوله: (ومحل الاستنجاء خارج عن العفو) لأن محل الاستنجاء ساقطة العبرة، فبقي الاعتبار في المنع، والعفو بما وراءها. قوله: (ورشاش البول) أي انتضاحه (مثل رءوس الإبر: عفو) لا يجب غسله، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، خصوصاً في مهب الرياح. قيل: قوله: (رءوس الإبر) يدل على أن الجانب الآخر من الإبر معتبر، وليس كذلك، بل لا يعتبر الجانبان، وعن أبي يوسف: إذا انتضح من البول شيء يرى أثره: لابد من غسله إن كان أكثر من قدر الدرهم. قوله: (ولو صلى على بساط صغير في طرفه نجاسة: صح) هذا إذا لم تكن النجاسة في موضع قيامه، وكذا إذا لم تكن في موضع سجوده على الصحيح، وإن كانت في غير تلك المواضع: تجوز صغيراً كان البساط أو كبيراً، وهو المختار. وقيل: إن كان صغيراً: لا يجوز، وإن كان كبيراً بحيث لو رفع أحد طرفيه، لا يتحرك الطرف الآخر: جاز.

وذكر في الواقعات: إذا كان البساط بحال: يتحرك الطرف الذي عليه النجاسة بقيامه أو قعوده: لا تجوز صلاته، وإن كان بخلافه: يجوز. ولو كان البساط مبطناً، فأصابت النجاسة البطانة، فصلى على طهارته وهو قائم في ذلك الموضع: يجوز عند محمد. وعن أبي يوسف: أنه لا يجوز. وذكر في القدوري: رجل سجد على فراش وجهه طاهر، وفي باطنه نجاسة: جاز، بخلاف حشو الجبة، حيث يمنع تنجسه الجواز. قوله: (ولو حمل المصلي نافجة مسك) النافجة معربة من العجم، وأصلها: نافة، وهي السرة، فصورته: إذا صلى رجل وهو حامل نافجة مسك (فلا تخلو النافجة: إما أن تكون بحيث لو أصابها الماء لا يفسدها) أي لا يغيرها إلى النتن والفساد (صحت صلاته مطلقاً) يعني سواء كانت النافجة من حيوان مذكى أو غير مذكى (وإن كانت يفسدها الماء: لا تصح صلاته) إلا إذا كانت من حيوان مذكى، لأن للتذكية أثراً في الطهارة. وذكر في شرح الكنز لفخر الدين الزيلعي رحمه الله: "الأصح أن النافجة طاهرة بكل حال". قوله: (ومن لم يجد ما يزيل به النجاسة) كلماتها مقصورة غير ممدودة، ليتناول الماء وجميع المائعات الطاهرة. قوله: (وربع ثوبه) أي والحال أن ربع ثوبه (طاهر) فقط. قوله: (صلى فيه) أي في ذلك الثوب الذي ربعها طاهر. قوله: (حتماً) أي على وجه الحتم أي الوجوب. قوله: (ولم يعد) أي ولا يعيد صلاته التي صلاها في ذلك الثوب بعد القدرة على الثوب الطاهر، لأنه أدى ما وجب عليه، فلا يطالب بالإعادة.

قوله: (وإن كان الطاهر أقل من الربع) أي وإن كان الطاهر من الثوب أقل من الربع (يخير بين الصلاة فيه قائماً بركوع وسجود، وبين الصلاة عارياً، قاعداً بإيماء) لأنه ابتلي ببليتين، فيخير، وهذا عندهما، وعند محمد وزفر: لزمه أن يصلي فيه بركوع وسجود. قوله: (والأول أفضل) أي الصلاة فيه قائماً بركوع وسجود أفضل عندهما، كما هو الواجب عند محمد. قوله: (الثالث) أي الشرط الثالث (ستر العورة) وقد مر الدليل فيه. قوله: (عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته) هذا لفظ الحديث، ويروى: "عورة الرجل ما دون سرته حتى يجاوز ركبته" فتبين أن السرة ليست بعورة، والركبة عورة، وقال الشافعي: الركبة ليست بعورة، وأما السرة فكذلك ليست بعورة عنده على الصحيح، وما ذكره صاحب المنظومة من قوله: ثم منها السرة، ليس بمعتمد مذهبه. قوله: (والحرة جميع بدنها وشعرها عورة) لقوله عليه السلام: "الحرة عورة مستورة" أي يجب سترها، وهي اسم للمجموع، فيتناول كلها، فإن قلت: الصيغة صيغة الإخبار حقيقة فكيف تأولها هكذا؟ قلت: نعم إخبار حقيقة لكنها غير مرادة، لأننا نشاهدها غير مستورة، فلو حمل

على حقيقته للزم الخلف في كلام الشارع، فحملنا على وجوب الستر، إذ الوجوب ملازم للإخبار، والوجوب مفضي إليه. فإن قلت: ما ذكرت من النص فهو عام يتناول جميع بدنها على ما قلت، فبأي شيء خرج منه البعض، وهو وجهها وكفاها وقدماها؟ قلت: خرجت تلك الأشياء للضرورة، فإن المرأة لا تجد بداً من مناولة الأشياء بيدها، وتحتاج إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها، لاسيما الفقيرات منهن، فلو جعلت هذه الأشياء عورة لحرجن، على أن هذا معنى قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] أي إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره. ورأيت في بعض النسخ: (وعورة الحرة جميع بدنها وشعورها عورة)، والأول أصوب على ما لا يخفى على الفطن، وإنما أفرد الشعر بالذكر بقوله: (وشعرها) وإن كان داخلاً في قوله: (جميع بدنها) تنبيهاً على أن الأصح أن شعرها عورة فافهم. قوله: (وعورة الأمة مثل عورة الرجل) لأنها محل الشهوة، فما كان عورة في حقه كان عورة في حقها بالطريق الأولى (وبطنها وظهرها عورة أيضاً) لأن النظر إليها سبب للفتنة، وما سوى ذلك ليس بعورة، والمكاتبة وأم الولد والمدبرة: كالأمة. قوله: (والعورة الغليظة والخفيفة سواء) أي في حكم الانكشاف المانع وغير المانع. العورة الغليظة: هي القبل والدبر، والخفيفة: غيرهما من موضع العورة، وفائدة كونهما على السواء: يظهر فيما إذا انكشف قدر ربع العضو: تمنع، سواء كانت من الخفيفة أو الغليظة، وما دونه: لا يمنع فيهما، وهذا هو الصحيح، وذكر الكرخي: أنه يعتبر في الغليظة: قدر الدرهم، وفي الخفيفة: الربع، كما في نوعي النجاسة، وهذا ليس بقوي، لأنه قصد به التغليظ في العورة الغليظة، وهو في الخفيفة: تخفيف: لأنه اعتبر

في الدبر قدر الدرهم، والدبر لا يكون أكثر من قدر الدرهم، فهذا يقتضي جواز الصلاة وإن كان كل الدبر مكشوفاً، وهو تناقض. قوله: (وما دون ربع العضو عفو) يعني إذا انكشف ما دون ربع العضو مما ذكرنا أنه عورة: لا يمنع جواز الصلاة، وإذا انكشف قدر الربع: يمنع، وإذا انكشف ربع ساقها: فكذلك يمنع، وقال أبو يوسف: إن كان المكشوف أكثر من النصف: يمنع، وإن كان أقل منه: لا يمنع، وفي النصف عنه روايتان. وأما الخصيتان: فقيل إنهما تبعان للذكر، فيعتبر الكل عضواً واحداً، والصحيح: أنه يعتبر كل واحد عضواً على حدة كما في الدية. ومذهب الشافعي: أن قليل الانكشاف وكثيره مانع. قوله: (والساتر الرقيق الذي لا يمنع رؤية العورة لا يكفي) أي لا يكفي لجواز الصلاة، لعدم الستر الواجب عليه، هذا إذا وجد غيره، أما إذا لم يجد غير ذلك: فله أن يصلي فيه، لأنه لا يكون حاله أدنى من العاري، وصلاة العاري جائزة، فهذا أولى. وإذا صلى في ثوب واحد محلول الجيب، أشار في نوادر ابن شجاع: إلى أنه يجوز. وسوى بين كث اللحية وخفيفها، فإنه ذكر عن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لو نظر إلى عورته: لا تفسد صلاته، وهو الصحيح، ذكره في الغنية. وقال القدوري: ذكر ابن شجاع: أنه إذا كان محلول الأزرار، وكان إذا نظر رأى

عورة نفسه من زيقه: لم يجز. قال في الواقعات: إنما لا تفسد صلاة المصلي إذا نظر إلى عورته، لأن العورة إنما تعتبر عورة في حق غيره دون نفسه. قوله: (ومن فقد الساتر) أي ومن لم يجد ما يستر به عورته (صلى عرياناً قاعداً يومئ بالركوع والسجود) أو صلى قائماً بركوع وسجود، والأول أفضل، لأنه أستر، وقال الشافعي: يلزمه أداء الصلاة بإتمام أركانها، وبه قال زفر. قوله: (الرابع) أي الشرط الرابع (استقبال القبلة) وقد مر الدليل فيه. قوله: (وفرض عين الكعبة: للمكي) هذا بالإجماع، حتى لو صلى المكي في بيته ينبغي أن يصلي بحيث لو أزيلت الجدران يقع استقباله على شطر الكعبة، بخلاف الآفاقي. قوله: (وجهتها) أي فرض جهة الكعبة (لغير المكي) لأنه ليس في وسعه إلا هذا، والتكليف بحسب الوسع، وقال الجرجاني: "فرض الغائب عنها: إصابة عينها كالمكي"، والأول أصح، وفائدة الخلاف تظهر في اشتراط نية عين الكعبة، فعنده: يشترط، وعند غيره: لا. قوله: (ومن اشتبهت عليه القبلة) والاشتباه يكون بانطماس الأعلام وتراكم الظلام. قوله: (لا يتحرى وعنده من يسأله) أي لا يتحرى والحال أن عنده من يسأله، لإمكان الوصول إليها بالاستخبار. قوله: (ولا في الصحراء والسماء مصحية) أي ولا يتحرى أيضاً في الصحراء، والحال أن السماء مصحية غير متغيمة، لإمكان الوصول إلى القبلة بواسطة القمر والنجوم، بخلاف ما إذا كانت متغيمة.

قوله: (وإذا عدم الدلائل) وهي الشمس والقمر والنجوم (وعدم المخبر أيضاً في الصحراء: تحرى وصلى) لقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] أي قبلة الله، نزلت في الصلاة حال الاشتباه، والتحري: بذل المجهول في نيل المقصود. قوله: (فلو تبين الخطأ فيها) أي في الصلاة (بنى على صلاته وأتمها) ولكن يستدير إلى القبلة، لأن أهل قباء لما بلغهم نسخ القبلة: استداروا في الصلاة كهيئتهم، واستحسنه النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (ولو تبين) أي الخطأ (بعد الصلاة لا يعيد ما صلى) وقال الشافعي: يعيد إن استدبر، لأنه مأمور باستقبال القبلة، ولم يوجد. ولنا: ما تلونا. قوله: (الخامس) أي الشرط الخامس (النية، وهي إرادة الصلاة بقلبه) وهي أن يعلم بقلبه أي صلاة يصلي، وأدناه: ما لو سئل: لأمكنه أن يجيب على البديهة، وإن لم يقدر على أن يجيب إلا بتأمل: لم تجز صلاته، وهذا هو الأصل، ولا عبرة للذكر باللسان، لأنه كلام لا نية، فإن فعله لتجتمع عزيمته عليه فهو حسن، وهو معنى قوله: (واللفظ سنة) أي القول باللفظ سنة. قوله: (والمقتدي ينوي أصل الصلاة) بأن يعينها: كالظهر مثلاً، ولو نوى فرض الوقت: يجوز أيضاً، لأنه مشروع الوقت، والفائتة غير مشروع الوقت، فانصرف مطلق النية إليه، كنقد البلد، إلا في الجمعة، للاختلاف في فرض الوقت. ولا يشترط أن ينوي أعداد الركعات، لأنه لما نوى الظهر فقد نوى عدد الركعات، ولو نوى الظهر خمساً، ثم سلم على رأس الأربع: جاز ظهره ولغت نيته. كذا في التتمة. قوله: (ومتابعة الإمام) أي ينوي متابعة الإمام أيضاً، لأن الفساد يلحقه من إمام،

فلا بد من التزامه، صورته: أن يقول: نويت أن أصلي لله فرض الظهر تابعاً للإمام. قوله: (أو الاقتداء به) أي أو ينوي الاقتداء بالإمام، مثل أن يقول: نويت أن أصلي لله فرض الظهر مقتدياً بالإمام. قوله: (ونحو ذلك) مثل أن يقول: نويت أن أصلي لله فرض الظهر مأموماً، والأفضل للمقتدي أن يقول: أقتدي بمن هو إمامي، أو بهذا الإمام، ولو قال: مع هذا الإمام جاز، ولو اقتدى بالإمام ولم يخطر بباله أزيد هو أم عمرو: جاز، ولو اقتدى به وهو يظن أنه زيد فإذا هو عمرو: جاز، ولو نوى الاقتداء بزيد فإذا هو عمرو: لم يجز، لأنه نوى الاقتداء بغائب. قوله: (والأحوط) أي الأفضل (مقارنة النية التكبير) لتتصل نيته بعبادته التي لا تصح إلا بها. قوله: (فإن قدمها عليه) أي فإن قدم النية على التكبير (صح إن لم يبطل بقاطع) لأن النية المتقدمة على التكبير كالقائمة عند التكبير ما لم يوجد قاطع، وهو عمل لا يليق بالصلاة، مثل ما إذا نوى ثم اشتغل بالكلام أو الأكل أو الشرب أو نحوها. وعن محمد: أن من توضأ يريد به صلاة الوقت، وعريت عنه النية عند الشروع: جازت صلاته. وفي الرقيات: من خرج من منزله يريد الصلاة التي كان القوم فيها، فلما انتهى إلى القوم: كبر ولم تحضره النية: فهو داخل مع القوم، لأن النية وجدت، فتبقى حكماً حتى يأتي المبطل ولم يوجد. فإن قلت: ما حكم النية المتأخرة عن التكبير؟

قلت: لا معتبر بها في ظاهر الرواية، وقال الكرخي: تصح ما دام في الثناء، وقيل: تصح إذا تقدمت على الركوع. قوله: (السادس) أي الشرط السادس (تكبيرة الإحرام) إنما سميت التكبيرة الأولى تكبيرة الإحرام لأنها تحرم الأشياء المباحة قبل الشروع، بخلاف سائر التكبيرات. قوله: (ويصح الافتتاح) أي افتتاح الصلاة (بالتكبير) وهو الله أكبر، (والتهليل) وهو: لا إله إلا الله (والتسمية) وهي: بسم الله الرحمن الرحيم، (وبكل اسم من أسماء الله تعالى) نحو: الله أجل، أو الله أعظم، والرحمن أكبر، أو الرحيم أكبر، أو الحمد لله أو سبحان الله. وهذا عند أبي حنيفة ومحمد لقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] نزلت في تكبيرة الافتتاح، فقد اعتبر مطلق الذكر، فيجوز بكل ما فيه ذكر. وقال مالك: لا يجوز إلا بالله أكبر، وقال الشافعي: لا يجوز إلا به وبالله الأكبر، وقال أبو يوسف: إن كان يحسن التكبير لم يجز إلا بالله أكبر، الله أكبر، الله كبير، الله الكبير. قوله: (وبقوله اللهم) أي يصح الافتتاح أيضاً بقوله: اللهم، هذا عند أهل البصرة، لأن معناه: يا الله، والميم المشددة بدل عن حرف الندا، فكان ثناءً خالصاً. ولا يصح عند أهل الكوفة لأن تقديره: يا الله أمنا بخير، أي أردنا واصرفه إلينا، فكان سؤالاً. قوله: (لا باللهم اغفر لي) أي لا يصح الافتتاح باللهم اغفر لي، لأنه ليس بتعظيم خالص، إذ هو مشوب، لأنه سؤال وهو غير الذكر. ولو قال: الله فقط، يصير شارعاً عندهما، لأنه تعظيم خالص. ولو كبر بالفارسية: جاز عند أبي حنيفة مطلقاً، وقالا: لا يجوز إلا إذا لم يحسن العربية.

وكذا الخلاف: في القراءة والتشهد والخطبة يوم الجمعة بالفارسية، وفي الأذان يعتبر العرف، لتحصيل الإعلام. قوله: (ولو أدرك الإمام راكعاً) أي لو أدرك المقتدي الإمام في الصلاة حال كون الإمام راكعاً (فكبر للركوع صار مفتتحاً) أي آتياً بتكبيرة الافتتاح وشارعاً في الصلاة. ثم هل يأتي بالثناء؟ فإن كان أكبر رأيه على أنه لو أثنى يدركه في شيء من الركوع: يثني، وإلا فلا، ويتابع في الركوع. وعن محمد بن سلمة عند الخوف: يثني في حال الركوع كتكبيرات العيدين. وإن أدرك الإمام في القيام، هل يأتي بالثناء؟ قال خواهر زادة: وإن أدركه في قيام مخافتة: يثني، وكذا إن أدركه في الأخريين من الجهرية، وإن أدركه في الأوليين منها قيل: يثني، وقيل: يستمع، وقيل: يثني حرفاً حرفاً عند سكتات الإمام. قوله: (ولو كبر قبل الإمام) أي ولو كبر المقتدي قبل أن يكبر الإمام (ناوياً الاقتداء به: بطل شروعه مع الإمام أصلاً) لأن صحة شروعه مبنية على شروع الإمام، فإذا سبق إمامه بالتكبير: كان مخالفاً، فيبطل، ثم هل يصير شارعاً في صلاة نفسه؟ قيل: يصير شارعاً، وقيل: لا، وهو الأصح، وإليه أشار المصنف بقوله: (بطل أصلاً) يعني في حق الشروع مع الإمام، وفي حق الشروع في صلاة نفسه. فانظر كيف خرجت لك هذه الدقيقة الخفية، والمنة لملهم الصواب. قوله: (والأفضل مقارنة الإمام في التكبير) هذا عند أبي حنيفة، وعندهما: يكبر بعد تكبيرة الإمام. قيل: الاختلاف في الجواز، والأصح أنه في الأفضلية، فعنده: لا يدرك فضيلة تكبيرة الافتتاح ما لم يكبر معه، مقارناً تكبيره مع تكبير الإمام، كمقارنة الخاتم بالإصبع، وعندهما: لا يدركها ما لم يكبر عقيب تكبيره. وقيل: ما لم يفرغ الإمام من الفاتحة: يدركها، وهذا لا يصح، قاله خواهر زادة.

قوله: (ويرفع يديه) هذا شروع في بيان أفعال الصلاة وأقوالها المطلوبة، يعني إذا أراد أن يشرع في الصلاة ينبغي أن يرفع يديه حتى يحاذي بإبهاميه شحمتي أذنيه، وأصابعه فروع أذنيه، لما روى البراء بن عازب قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر لافتتاح الصلاة رفع يديه حتى يكون إبهاماه قريباً من شحمة أذنيه" رواه الطحاوي في شرح الآثار. وما رواه الشافعي من حديث أبي حميد أنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه إلى منكبيه" فمحمول على أنه كان للبرد. ثم عند أبي حنيفة ومحمد: يقدم رفع اليد على التكبير، لأن الرفع إشارة إلى نفي الكبرياء عن غير الله تعالى، والتكبير إثباتها له، والنفي مقدم على الإثبات، وعند أبي يوسف: يقارن الرفع مع التكبير، لأن الرفع سنة التكبير فيقارنه، وبه قال الطحاوي. قوله: (ولا يفرج أصابعه) أي عند رفع يديه عند تكبيرة الافتتاح، والتفريج: هو النشر. قوله: (وكذا الرفع في القنوت) أي وكذا رفع اليدين محاذياً بإبهاميه شحمتي أذنيه: في القنوت وتكبيرات العبدين الزوائد، كما في افتتاح الصلاة. قوله: (وترفع المرأة حذو منكبيها) لأن مبنى حالها على الستر، وهو أستر لها، وعند أبي حنيفة: أنها كالرجل.

قوله: (ولا يرفع يديه في غير تكبيرة الإحرام) وعند الشافعي: يرفع حالة الانحطاط للركوع وحالة القيام منه، لحديث ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع". ولنا حديث جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة" رواه مسلم. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ألا أصلي بكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى ولم يرفع يديه إلا في أول مرة" وقال الترمذي: حديث حسن. وما رواه: كان ثم نسخ. وإذا رفع الحنفي يديه كالشافعي لا تفسد صلاته، نص عليه في الجامع. وذكر الصدر الشهيد في شرح الجامع الصغير: رواية مكحول عن أبي حنيفة: أنه تفسد الصلاة.

قوله: (والسنة قيام الإمام والقوم عند قول المؤذن حي على الصلاة) لأن قوله: حي على الصلاة أمر بالمسارعة إليها، ولا يحصل هذا إلا عند هذا، وقال زفر: إذا قال المؤذن أولاً: قد قامت الصلاة: قاموا، وإذا قال ثانياً: افتتحوا. قوله: (ويكبر الإمام عند قوله) أي المؤذن (قد قامت الصلاة) هذا عندهما، وعند أبي يوسف: عقيب الفراغ من الإقامة. قوله: (الأركان) لما فرغ عن بيان الشروط شرع في بيان الأركان، وهو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هذه الأركان، ويجوز أن يكون مبتدأ، وقوله: القيام: خبره، وتكون الجملة خبراً عن المبتدأ الأول. قوله: (أولها) أي أول الأركان (القيام) لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. قوله: (ولا يجوز تركه) أي ترك القيام (في الفرض والواجب بغير عذر) لأنه ركن، فلا يترك إلا عند عذر محقق، بخلاف النوافل، حيث يجوز ترك القيام فيها، لأن باب النفل أوسع. قوله: (إلا في السفينة الجارية خاصة) صورة المسألة: صلى في السفينة قاعداً وهي جارية، وهو غير معذور، جاز عند أبي حنيفة مع الإساءة، لأن الغالب فيها دوران الرأس، والغالب بمنزلة الكائن.

وعندهما: لا يجوز، لأن القيام ركن فلا يسقط إلا بعذر متحقق، وبه قال الشافعي. قيد بقوله: (الجارية) لأنها إذا كانت مربوطة إلى جانب الشط فإنها إن كانت ساكنة مستقرة: لا تجوز الصلاة فيها إلا قائماً بالاتفاق، وإن كانت مضطربة: لم تجز الصلاة فيها، لأنها تشبه الدابة. قوله: (وإذا كبر) أي تكبيرة الافتتاح (وضع يمينه على يساره) لما روي أن ابن مسعود رضي الله عنه: "كان يصلي فوضع يده اليمنى على اليسرى" رواه أبو داود. وعن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه" رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وصفة الوضع: أن يضع باطن كفه اليمنى على ظاهر كفه اليسرى، يحلق بالخنصر والإبهام على الرسغ. قوله: (تحت سرته) وقال الشافعي: يضعهما على صدره، لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أي ضع اليمين على الشمال فوق النحر، وهو الصدر، ولنا حديث علي رضي الله عنه: "إن من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة"، ولأنه

أقرب إلى الخضوع. والجواب عن الآية: أنه أريد به نحر الجزور بعد صلاة العيد. قوله: (والمرأة تضع يدها على صدرها) لأن حالها مبنية على الستر، والوضع على الصدر أستر لها. قوله: (ثم يقول: سبحانك اللهم إلى آخره) لقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] قيل: هو سبحانك اللهم. لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم ... " إلى آخره. رواه الجماعة. وقال مالك: إذا كبر: شرع في القراءة، ولا يشتغل بالثناء والتعوذ والتسمية. وقال الشافعي: يقول موضع الثناء: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين".

وقال أبو يوسف: "يجمع بين الثناء، ووجهت، ثم إن شاء: قدم وجهت على الثناء، أو أخره" كذا في شرح الطحاوي، والأقطع. ومعنى قوله "سبحانك اللهم" أنزهك يا الله عما لا يليق لذاتك. ونصب سبحان: على المصدرية، وهو علم للتسبيح، كعثمان: علم للرجل، غير منصرف إلا عند الإضافة. ومعنى تبارك اسمك: أي تعاظم اسمك عن سمات المخلوقين، وتعالى جدك: أي عظمتك، وينبغي أن تمد لام تعالى. فإن قلت: وبحمدك معطوف على أي شيء؟ قلت: هذا عطف على محذوف، كأنه قال: سبحانك اللهم بجميع آلائك وبحمدك سبحانك. فافهم فإنه من خبايا الزوايا. قوله: (الثاني) أي الركن الثاني (القراءة). قوله: (ثم يتعوذ) عطف على قوله: (ثم يقول: سبحانك اللهم) أي يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن كان إماماً أو منفرداً، لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل: 98]. فإن قلت: ظاهر الآية يقتضي أن يتعوذ بعد القراءة كما هو مذهب الظاهرية، قلت: ظاهره متروك، تقديره: إذا أردت قراءة القرآن، فأطلق اسم المسبب على السبب، كما يقال: إذا دخلت على الأمير فتأهب، أي إذا أردت الدخول. فإن قلت: ينبغي أن يكون التعوذ واجباً لظاهر الأمر. قلت: نعم، إلا أن السلف أجمعوا على سنيته. والمختار: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وهو اختيار حمزة. وقال صاحب الهداية: "والأولى أن يقول: أستعيذ بالله من الشيطان

الرجيم، ليوافق القرآن، ويقرب منه: أعوذ". قوله: (ثم يسمي) أي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. (ولا يجهرها) لما روي عن أنس أنه قال: "صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم" رواه مسلم. وقال الشافعي: يجهرها عند الجهر بالقراءة. وهي آية أنزلت للفصل بين السور، ليست من الفاتحة ولا من كل سورة. وقال الشافعي: هي من الفاتحة قولاً واحداً، وكذا من غيرها على الصحيح. ولنا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم" رواه أبو داود والحاكم في المستدرك. قوله: (ويقرأ الفاتحة إلى آخره) قراءة الفاتحة لم يتعين ركناً عندنا، وكذا ضم السورة إليها، وإنما الركن: قراءة القرآن مطلقاً، وقد بينا ذلك في الواجبات. قوله: (وواجباتها) أي واجبات الصلاة، ما بينا في أول الفصل. قوله: (وإذا قام الإمام: ولا الضالين، أمن هو) أي الإمام (والقوم جميعاً) لقوله عليه السلام: "إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه"

رواه مسلم والبخاري وأبو داود ومالك في الموطأ والترمذي، وقال حديث حسن صحيح. قوله: (سراً) يعني يسر الإمام والقوم بالتأمين سراً ولا يجهرونها، لحديث وائل: أنه عليه السلام قال: "آمين" خفض بها صوته. رواه أحمد وأبو داود والدارقطني، وقال الشافعي: يجهر بها عند الجهر بالقراءة. ومعناها: كذلك فليكن. وقيل: اللهم اسمع واستجب، وقيل: هي فارسية، يعني: همين، فقلبت الهاء همزة: كأراق وهراق، وهي بالمد والقصر، والتشديد: خطأ يفسد الصلاة. والفتوى: على أنه لا يفسد، تصحيحاً لصلاة العامة. قوله: (والفاتحة وحدها) أي قراءة الفاتحة وحدها (في الركعتين الأخريين سنة) لقول أبي قتادة: "أنه عليه السلام قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب وحدها" وعن أبي حنيفة

أنها واجبة، حتى يجب سجود السهو بتركها، والأول أصح. قوله: (وإن سبح فيهما) أي في الركعتين الأخريين (جاز) لأن علياً وابن مسعود رضي الله عنهما ما كانا يسبحان فيهما (ولو سكت كره) لأنه ترك السنة. قوله: (والقراءة واجبة في كل ركعات النفل) لأن كل ركعتين منه: صلاة، ألا يرى أنه لا يجب بالتحريمة فيه إلا ركعتان في ظاهر الرواية، ويستفتح على رأس الأخريين في الرباعية، وكذلك تجب القراءة في ركعات الوتر للاحتياط. قوله: (ويجهر الإمام حتماً) أي وجوباً (في صلاة الفجر والركعتين الأوليين من المغرب والعشاء) وقد استوفيا الكلام فيه عند عد الواجبات. قوله: (ويخير المنفرد) أي بين الجهر والإخفاء. قوله: (ويخفيان) أي الإمام والمنفرد جميعاً (في الباقي) وهو الظهر والعصر والركعتان الأخيرتان من العشاء، والركعة الثالثة من المغرب على سبيل الوجوب. قوله: (ويجهر) أي الإمام (في الجمعة والعيدين: للتوارث) وكذلك في التراويح والوتر. قوله: (وفي النفل يخفي نهاراً) أي وفي صلاة النفل يخفي المصلي القراءة في النهار، لأن النوافل أتباع للفرائض. قوله: (ويخير ليلاً) أي يخير في النفل في الليل: بأن شاء جهر، وإن شاء خافت، والجهر أفضل اعتباراً بالفرض في حق المنفرد. قوله: (ويكره تخصيص سورة بصلاة) لما فيه من هجر الباقي، وفيه احتراز عن قول الشافعي، فإن عنده الفاتحة مخصوصة بالقراءة في الصلوات.

قوله: (إلا إذا كان أيسر عليه) مثل ما إذا كان عامياً فلم يتيسر عليه إلا سورة الإخلاص مثلاً، فإنه إذا خصصها لصلاته لا يكره، لأن التكليف بقدر الوسع. قوله: (أو اتبع النبي صلى الله عليه وسلم) مثل ما إذا خصص سورة "الم السجدة" لصلاة الفجر إتباعاً للنبي عليه السلام، فإنه عليه السلام كان يقرأها في الفجر، ولكن بشرط أن يعتقد التسوية بينها وبين سائر القرآن، ولا يفضل بعضها على بعض، لأن كلام الله في الفضيلة سواء. ومعتقداً: حال من الضمير الذي في (اتبع) فافهم. قوله: (ولا يقرأ المؤتم خلف الإمام) وقال مالك: يقرأ في السرية لا في الجهرية، وقال الشافعي: يقرأ الفاتحة في الكل، والأصح ما قلنا، لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] وأكثر أهل التفسير على أن هذا خطاب للمقتدين. وقال أحمد: أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة. وفي حديث أبي هريرة وأبي موسى "وإذا قرأ فأنصتوا" قال مسلم: هذا الحديث

صحيح. وذكر في الكافي: "ومنع المقتدي عن القراءة مأثور عن ثمانين نفراً من كبار الصحابة منهم: المرتضى والعبادلة، وقد دون أهل الحديث أساميهم" ثم المقتدي إذا قرأ خلف الإمام في صلاة المخافتة قيل: لا يكره، وإليه مال الشيخ الإمام أبو حفص، وقيل: عند محمد لا يكره، وعندهما: يكره. قوله: (الثالث) أي الركن الثالث (الركوع) لقوله تعالى: {ارْكَعُوا}. قوله: (فإذا فرغ من اقراءة كبر وركع) أي كبر مع الركوع، لأن في الواو معنى المعية (وقال: سبحان ربي العظيم ثلاثاً) لما روي عن عقبة بن عامر أنه قال: "لما

نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم"، فلما نزلت: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قال: "اجعلوها في سجودكم" رواه أبو داود. وعند أبي مطيع: هذا فرض. قوله: (وهو أدنى الكمال) أي القول ثلاثاً: أدنى الفضيلة، وإن سبح مرة: كره، لأنه مخالفة لما في السنة. قوله: (فإذا اطمأن راكعاً) أي حال كونه راكعاً (قال: سمع الله لمن حمده، لا غير) يعني لا يقول: ربنا لك الحمد، وهذا عند أبي حنيفة، وعندهما: يجمع بينهما كيلا يكون محرضاً غيره وناسياً نفسه فيستحق التوبيخ، قال تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2].

وله: قوله عليه السلام: "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد" رواه البخاري ومسلم. ومعنى سمع الله لمن حمده: أجاب الله، والهاء للسكتة لا للكناية، فلهذا تحريكه خطأ. قوله: (ويقول المؤتم: ربنا لك الحمد) هذا وظيفة القوم عندنا، وعند الشافعي: يأتون بالتسميع أيضاً. قوله: (والمنفرد يجمع بينهما) أي بين التحميد والتسميع. وصفة التحميد: ربنا لك الحمد، ربنا ولك الحمد، اللهم ربنا لك الحمد، وهو الأحسن، والكل منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه الواو زائدة، وقيل: عاطفة، تقديره: ربنا حمدناك ولك الحمد. قوله: (الرابع) أي الركن الرابع (السجود) وهو وضع الجبهة على الأرض. قوله: (فإذا اطمأن قائماً) أي من الركوع (كبر وسجد وقال: سبحان ربي الأعلى

ثلاثاً وذلك أدناه) ويستحب الزيادة بالإيتار، وهو: الخمس أو السبع، وإن كان إماماً: لا يزيد على وجه يمل القوم، لأنه يؤدي إلى تنفير الجماعة (ثم يرفع رأسه مكبراً) أي ثم يرفع رأسه من السجدة حال كونه مكبراً (ويقعد، فإذا اطمأن كبر وسجد ثانية كالأولى) والسجدتان كلتاهما فرض، حتى تفسد الصلاة بترك واحدة منها. فإن قلت: ما الأصل في تكرار السجود دون الركوع؟ قلت: هذا أمر تعبدي عند الفقهاء، ولكن فيه حكمة، وهي أن الأولى: لامتثال الأمر، والثانية: لرغم إبليس، حيث لم يسجد استكباراً، وقيل: الأولى: لشكر الإيمان، والثانية: لبقائه، وقيل الأولى: إشارة إلى خلق الإنسان من التراب، والثانية: إشارة إلى أنه يعود إليه. فرع: وضع القدمين على الأرض حالة السجود فرض، فإن وضع إحداهما دون الأخرى: يجوز ويكره، ذكره في التتمة. والسجود باليدين والركبتين ليس بواجب عندنا، خلافاً لزفر والشافعي. قوله: (ويجوز السجود على كور عمامته وطرف ثوبه). وقال الشافعي: لا يجوز. ولنا: حديث أنس قال: "كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإن لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه" رواه البخاري ومسلم.

وقال البخاري في صحيحه: قال الحسن: "كان القوم يسجدون، على العمامة والقلنسوة" ولو سجد على كفه وهي على الأرض: جاز على الأصح، ولو بسط كمه على النجاسة فسجد عليه: يجوز، وقيل: لا يجوز. ولو سجد على فخذه من غير عذر: لا يجوز على المختار، وبعذر: يجوز على المختار. وعلى ركبتيه: لا يجوز في الوجهين. ولو سجد على ظهر من هو في صلاته: يجوز، وعلى ظهر من يصلي صلاة أخرى، أو ليس في الصلاة: لا يجوز. والمستحب أن يسجد على التراب. قوله: (والخامس) أي الركن الخامس (الانتقال من ركن إلى ركن) على ما بينا من أنه مثل الانتقال من القيام إلى الركوع، ومن الركوع إلى السجود، ومن السجدة إلى السجدة، ألا يرى أن رفع الرأس كيف يشترط ليتحقق الانتقال؟ حتى لو تحقق الانتقال بلا رفع الرأس بأن سجد على وسادة، فنزعت الوسادة من تحت رأسه، وسجد على الأرض: يجوز. فعلم من ذلك أن الانتقال فرض، واشتراط رفع الرأس لأجله، لا لكونه فرضاً بنفسه. قوله: (السادس) أي الركن السادس (القعدة الأخيرة قدر التشهد) وقد مر الكلام فيه مستوفى. قوله: (وإذا قرأ التشهد يشير بمسبحته عند كلمة التوحيد) وهي قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، لما قال محمد: أنه عليه السلام كان يشير، ونحن نصنع بصنعه عليه السلام. قال: وهو قول أبي حنيفة.

وإنما قال في الأصح: لأن كثيراً من المشايخ لا يرون الإشارة، وكرهها في منية المفتي، وقال في الفتاوى: لا إشارة في الصلاة إلا عند الشهادة في التشهد، وهو حسن. قوله: (ولا يزيد في القعدة الأولى على قوله: أشهد أن محمداً عبده ورسوله) لأن الزيادة ما نقلت. قوله: (ويزيد في الثانية) أي في القعدة الثانية (الصلاة على النبي عليه السلام) قلت: سها المصنف في قوله: (في الثانية) لأنه لا يشتمل قعدة الصبح وتشهد المسافر في الرباعية، ولو قال: (ويزيد في الأخيرة) لكان أشمل، فافهم. ثم اعلم أن الصلاة على النبي عليه السلام فرض في العمر مرة واحدة، أما فرضيتها فلقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] والأمر للوجوب. وأما كونها مرة: فلأن الأمر لا يقتضي التكرار، وقال الطحاوي: يكرر كلما ذكر النبي عليه السلام. وأما في الصلاة: فهي سنة عندنا، وقال الشافعي: فرض. قلنا: لو كان فرضاً لعلمها الأعرابي حين علمه فرائض الصلاة. قوله: (وما شاء من الدعاء) أي يزيد في الثانية أيضاً ما شاء من الدعاء، والمراد منه الدعاء الذي يشبه القرآن أو السنة، نحو: اللهم اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات.

وما ليس من القرآن: مفسد، كقوله: اللهم اغفر لزيد وعمرو، أو لعمي وخالي. ولو قال: اللهم ارزقني من بقلها وقثائها وفومها: لا تفسد، لأنه موجود في القرآن، ولو قال: اللهم ارزقني بقلاً وقثاءً وفوماً: تفسد: لأنه ليس من القرآن. وهذا كله إذا لم يقعد قدر التشهد في آخر الصلاة، وأما إذا قعد: فصلاته تامة، ويخرج به من الصلاة. قوله: (والسؤال) أي يزيد أيضاً من السؤال الذي لا يعطيه إلا الله، كالرحمة والمغفرة والرضا والجنة والاستعاذة من النار ومن الشيطان الرجيم، ولا يسأل بما لا يستحيل سؤاله من العباد، نحو: أعطني كذا، أو زوجني امرأة، وعند الشافعي: يجوز أن يدعو بما شاء مطلقاً ولنا قوله عليه السلام: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وإنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن" رواه مسلم. قوله: (ثم يسلم عن يمينه) أي بعد الفراغ عن التشهد والصلاة والدعاء: يسلم عن يمينه فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، ثم يسلم عن يساره كذلك. والسلام ليس بفرض عندنا، حتى يصح الخروج بغيره، وقال الشافعي: هو فرض لقوله عليه السلام: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم". ولنا: ما روي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قعد الإمام

في آخر صلاته، ثم أحدث قبل أن يتشهد تمت صلاته"، وفي رواية: "قبل أن يسلم"، وفي رواية: "قبل أن يتكلم" رواه أبو داود والترمذي والبيهقي. وما رواه إن صح: لا يفيد الفرضية، لأنها ثبتت بخبر الواحد، وإنما يفيد الوجوب، وقد قلنا بوجوبه. قوله: (وينوي بكل تسليمة من في تلك الجهة من الملائكة والحاضرين رجالاً ونساءً) لأن السلام قربة والأعمال بالنيات، والأصح أن لا ينوي النساء في زماننا ولا من لا شركة له في الصلاة. نص عليه في الهداية ولا ينوي الملائكة عدداً محصوراً لاختلاف الأخبار في عددهم. فقال ابن عباس: مع كل مؤمن خمس من الحفظة: واحد عن يمينه يكتب الحسنات، وواحد عن يساره يكتب السيئات، وواحد أمامه يلقنه الخبرات، وواحد ورائه يدفع عنه الآفات، وواحد عند ناصيته يكتب ما يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويلقيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل: مع كل مؤمن ملكان، وقيل: ستون ملكاً، وقيل: مائة وستون، فصار كالأنبياء عليهم السلام، فإنه لا ينبغي أن يعين عدداً في إيمانهم، للاختلاف، فربما يؤمن بمن ليس نبي، أو لا يؤمن بمن هو نبي لو عين عدداً.

ثم المصنف قدم الملائكة على الحاضرين كما هو في المبسوط. وفي الجامع الصغير: عكسه، ولا يتعلق بذلك حكم، لأن الواو لا تقتضي الترتيب. قوله: (والمأموم ينوي إمامه في أي جهة كان) فإن كان في يمينه: نواه في التسليمة الثانية، وإن كان في يساره: نواه في التسليمة الأولى، وإن كان بحذائه: نواه فيهما أي في التسليمتين.

فصل في السنن الرواتب وغيرها

فصل في السنن الرواتب وغيرها لما فرغ عن بيان الفرائض شرع في بيان السنن، والرواتب جمع راتبة، والسنة الراتبة: هي السنة المؤكدة، وقوله: (وغيرها) أي وفي بيان غير السنن الرواتب أيضاً، وهي السنن غير المؤكدة. قوله: (وهي) أي السنن الرواتب (ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء) فهذه اثنتي عشرة ركعة. لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ركعتين" رواه أبو داود ومسلم وابن حنبل. قوله: (وأربع قبل العصر) وهذا غير مؤكد، لعدم المواظبة عليه، ولهذا جعلها في الأصل حسناً. قوله: (أو ركعتان) أي قبل العصر، يعني يخير المصلي بين الركعتين والأربع قبل العصر، لاختلاف الآثار، والأربع أفضل. قوله: (وأربع قبل العشاء) وهذه أيضاً غير مؤكدة لما قلنا، ولهذا كان مستحباً.

قوله: (وبعدها أربع أو ركعتان) أي بعد العشاء أربع ركعات أو ركعتان، خلاف الركعتين اللتين هما مؤكدتان، وقيل: الأربع قول أبي حنيفة، والركعتان: قولهما، بناءً على اختلافهم في نوافل الليل. قوله: (وأربع قبل الجمعة) لما روي عن أبي أيوب: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بعد الزوال أربع ركعات، فقلت: ما هذه الصلاة التي تداوم عليها؟ فقال: "هذه ساعة تفتح أبواب السماء فيها فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح"، فقلت: أفي كلهن قراءة؟ فقال: "نعم"، فقلت: ابتسليمة واحدة أم بتسليمتين؟ فقال: "بتسليمة واحدة" رواه الطحاوي وأبو داود والترمذي وابن ماجة، من غير فصل بين الجمعة والظهر، فتكون سنة كل واحد منهما أربعاً. قوله: (وأربع بعدها) أي بعد الجمعة لما روي عن ابي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: "من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعاً" رواه مسلم. قوله: (والسنة لا تقضي إلا سنة الفجر إذا فاتت مع الفجر) لأن الأصل في السنن أن لا تقضى، لأن القضاء تسليم مثل الواجب فيختص به، إلا أن النص ورد في قضاء

سنة الفجر تبعاً للفرض، فبقي ما وراءه على الأصل. وأما إذا فاتت بغير الفجر هل تقضى؟ فعندهما: لا تقضى، وعند محمد: تقضى بعد طلوع الشمس إلى الزوال. قوله: (وسنة الظهر أيضاً يقضيها في وقته) يعني إذا فاتت الأربع التي قبل الظهر بسبب شروعه مع الإمام، يقضيها في وقته عند الجمهور، وقيل: لا يقضيها، والأول أصح. ثم قال أبو يوسف: يصلي الأربع أولاً ثم الركعتين، وقال محمد: بعكسه، وذكر الصدر الشهيد الاختلاف على العكس. مسألة: ترك سنن الصلوات الخمس: إن لم يرها حقاً: كفر، وإلا أثم. قوله: (والتطوع بالنهار: ركعتان) بتسليمة (أو أربع) لورود الأثر كذلك (وفي الليل: ركعتان، أو أربع، أو ست، أو ثمان). قوله: (وتكره الزيادة على ذلك فيهما) أي على الأربع في النهار، وعلى الثمان في الليل. قوله: (والأربع أفضل فيهما) أي التنفل بأربع ركعات: أفضل في الليل والنهار جميعاً. هذا عند أبي حنيفة، وعندهما: الأفضل هو الأربع بالنهار، والركعتان بالليل.

وعند الشافعي: الأفضل مثنى مثنى فيهما لقوله عليه السلام: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى". ولهما قوله عليه السلام: "صلاة الليل مثنى" ولأبي حنيفة ما روت عائشة رضي الله عنها: "كان صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل أربع ركعات لا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن" رواه مسلم والبخاري. قوله: (والأفضل في السنن والنوافل: المنزل) لما روى زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة" رواه أبو داود.

قوله: (ويتطوع قاعداً بغير عذر) لأن باب النفل أوسع، ثم قيل: يقعد متربعاً، والصحيح أن يقعد كما في التشهد، لأنه عهد مشروعاً في الصلاة. قوله: (إلا سنة الفجر) لأنها في قوة الواجب، فلا تجوز قاعداً إلا من عذر. قوله: (ولو شرع قاعداً) أي لو شرع في التطوع قاعداً (وأتمه قائماً أو بالعكس) وهو أن يشرع قائماً وأتمه قاعداً: صح، فالأولى: اتفاقية، والثانية: فيها خلاف، فعند أبي حنيفة: يجوز ويكره كما في الابتداء، وعندهما: لا يجوز إلا عند العذر، اعتباراً للشروع بالنذر. قوله: (ولو شرع راكباً) أي ولو شرع في التطوع وهو على الدابة (ثم نزل: بنى على صلاته) لأن إحرامه انعقد مجوزاً للركوع والسجود على معنى أنه بالخيار، إن شاء نزل وأتمه بركوع، وإن شاء أتمه على الدابة. قوله: (وفي عكسه استقبل) وهو ما إذا شرع في التطوع وصلى ركعة وهو على الأرض، ثم ركب: لا يبني بل يستقبل، لأن إحرامه انعقد موجباً للركوع والسجود، فلا يقدر على ترك ما لزمه من غير عذر. قوله: (ويكره التطوع بجماعة إلا التراويح) لورود الأثر في التراويح دون غيرها من النوافل. قوله: (ومن تطوع بصلاة أو صوم لزمه إتمامه) لأنه وجب عليه بالشروع، حتى يلزم عليه القضاء إن أفسده. وقال الشافعي: لا يجب بالشروع، فلا يقضى عند الإفساد.

فصل في التراويح

فصل في التراويح المناسبة بين الفصلين ظاهرة، وهي كون كل واحد منهما مشتملاً على النوافل. قوله: (وهي) أي التراويح (سنة مؤكدة) ذكر القدوري لفظ الاستحباب، والأصح: أنها سنة مؤكدة لمواظبة الخلفاء الراشدين عليها، نص عليه صاحب الهداية. وهي سنة الرجال والنساء، وقال بعض الروافض: سنة الرجال دون النساء، وقال بعضهم: سنة عمر رضي الله عنه. وعندنا: هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أقامها في بعض الليالي، وبين العذر في ترك المواظبة، وهي خشية أن تكتب علينا، ثم واظب عليها الخلفاء الراشدون. قوله: (خمس ترويحات) أي التراويح من جهة العدد: خمس ترويحات، كل ترويحة: أربع بتسلمتين، فالجميع عشرون ركعة. وعند مالك: ست وثلاثون ركعة. ولنا ما روى البيهقي بإسناد صحيح: "أنهم كانوا يقيمون على عهد عمر رضي الله عنه بعشرين ركعة، وعلى عهد عثمان وعلي رضي الله عنهما مثله"، فصار إجماعاً. قوله: (ويجلس بين كل ترويحتين) هذا الجلوس مستحب، لعادة أهل الحرمين كذلك، غير أن أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين أسبوعاً، وأهل المدينة يصلون بدل

ذلك أربع ركعات، وأهل كل بلدة بالخيار: يسبحون أو يهللون أو ينتظرون سكوتاً. قوله: (ولا يجلس بعد التسليمة الخامسة) في الأصح، وهو قول الجمهور، فالجلوس خلاف عمل أهل الحرمين. قوله: (ثم يوتر بهم) أي ثم يصلي الإمام بهم الوتر، وأشار (بثم) إلى أن وقت التراويح بعد العشاء قبل الوتر، ولكن الأصح أن وقته بعد العشاء إلى آخر الليل قبل الوتر وبعده، كما يجيء عن قريب. وإدخال (ثم) هنا على المعهود من ترتيب الوتر عليها. قوله: (ولا يصلى الوتر بجماعة خارج رمضان) عليه إجماع المسلمين، هذا لفظ الهداية. وفي النوازل وواقعات الصدر الشهيد: "أن الاقتداء بالوتر خارج رمضان يجوز". قوله: (وسنتها الختم) أي سنة التراويح: الختم في الشهر، وهو أن يقرأ في كل ليلة جزءاً من القرآن الكريم. هذا هو المفهوم من ظاهر كلامه. ولكن ينبغي أن يكون الختم في ليلة السابع والعشرين لكثرة الأخبار أنها ليلة القدر. والختم مرتين: فضيلة، وثلاث مرات في كل عشر: أفضل، ونص صاحب الهداية والكافي: "أن الختم لا يترك لكسل القوم". قوله: (والجماعة فيها) أي في التراويح (سنة على الكفاية) هذا عند الجمهور، حتى لو ترك أهل مسجد: أساءوا، ولو أقامها البعض: فالمتخلف عن الجماعة تارك للفضيلة، ولم يكن مسيئاً، فقد تخلف بعض الصحابة. قوله: (ويترك الإمام الدعاء بعد التشهد إن علم ملل القوم) لأنها ليست بسنة، بخلاف الثناء، حيث لا يتركها الإمام ولا الجماعة.

قوله: (ووقتها) أي وقت التراويح (بعد أداء العشاء إلى الفجر قبل الوتر وبعده) وقال جماعة من أصحابنا منهم إسماعيل الزاهد: أن الليل كله وقت لها، قبل العشاء وبعده. وقال عامة مشائخ بخارى: وقتها ما بين العشاء والوتر. والصحيح ما ذكره المصنف، حتى لو تبين أن العشاء صلوها بغير وضوء دون التراويح والوتر، أعادوا التراويح مع العشاء دون الوتر عند أبي حنيفة، لأنها تبع للعشاء.

فصل في الوتر

فصل في الوتر المناسبة بين الفصلين: من حيث أن كلاً من التراويح والوتر ثابت بالسنة، ومن حيث أن كلاً منهما مشروع بالجماعة في رمضان. قوله: (وهو) أي الوتر (واجب) عند أبي حنيفة علماً، وفرض عملاً، وسنة سبباً، وعندهما: سنة، لأن الزيادة على الخمس زيادة على النص بالرأي. وله: قوله عليه السلام: "الوتر حق على كل مسلم" رواه أبو داود، وقال الحاكم: هو على شرطي البخاري ومسلم. وقوله عليه السلام: "اجعلوا آخر صلاتكم وتراً" اتفقا عليه في الصحيحين. والأمر وكلمة (على، وحق) للوجوب. وفائدة هذا الخلاف في مسألتين: الأولى: إذا تذكر في صلاة الوتر فريضة فائتة: فسدت صلاة الوتر عنده، خلافاً لهما، والثانية: إذا صلى العشاء بغير طهارة وهو لا يعلم، أو حاملاً للنجاسة، أو غير متوجه إلى القبلة، وصلى الوتر مستجمعاً لشرائط الصحة، ثم تذكر بعد أداء الوتر أن العشاء غير صحيحة، ثم أعاد العشاء، لا يلزمه إعادة الوتر عنده، خلافاً لهما. قوله: (ثلاث ركعات) أي الوتر ثلاث ركعات متصلة عندنا، وعند الشافعي في قول: ركعة واحدة، وفي قول: ثلاث بقعدة، وفي قول: ثلاث بتسليمتين، وفي قول: كمذهبنا، لكن من غير قنوت في جميع السنة إلا في النصف الأخير من رمضان.

قوله: (يقنت في الثالثة) أي في الركعة الثالثة (سراً قبل الركوع) كل السنة، وعند الشافعي: القنوت بعد الركوع فيما يقنت، لأنه صلى الله عليه وسلم: "قنت في الفجر بعد الركوع"، ولنا: أنه عليه السلام "قنت شهراً يدعو على قوم من العرب ثم تركه" رواه البخاري ومسلم. وقوله: (سراً) أي إخفاء، لأنه دعاء، وخير الدعاء ما خفي. وقيل: الإمام يجهل، والأول أصح. قوله: (ولا يقنت في الفجر) خلافاً للشافعي، وقد مر. قوله: (وإن قنت إمامه فيه) صورته: حنفي اقتدى بشافعي يقنت في الفجر، يسكت الحنفي ولا يتابعه في القنوت، وإذا لم يتابعه: قيل: يقف ساكتاً ليتابعه في الباقي، وقيل: يقعد تحقيقاً للمخالفة. والأول أصح. وقال أبو يوسف: يتابعه لأنه مجتهد فيه، وقد التزم متابعته، ولهما: أنه منسوخ. ثم اقتداء الحنفي بالشافعي هل يجوز؟ قال شمس الأئمة الحلواني: لا يجوز إذا كان يعلم أنه لا يرى الوضوء من الحجامة، والوتر ثلاثاً بتسليمة واحدة. وقال ركن الإسلام علي السغدي: ما لم يستيقن بالمفسد: يصلي خلفه.

وهكذا أجاب شيخ الإسلام الأوزجندي. وسئل شيخ الإسلام: عن الصلاة خلف من يشك في إيمانه؟ قال: هذا من ضعف الفهم والرأي. وقال ركن الإسلام: من شك في إيمانه لا يكون مؤمناً. وقيل: إن قال: أنا مؤمن إن شاء الله: لا يصح الاقتداء به، وإن قال: أموت مؤمناً إن شاء الله: يصح الاقتداء به. قوله: (ولو فات يقضى) وهذا بالإجماع. والأصل في ذلك: أن الوتر دائر بين الوجوب والسنة، فبالنظر إلى جانب لوجوب: يقضى فواته، ولا يجوز قاعداً من غير عذر ولا راكباً. وبالنظر إلى جانب السنة: لا يكفر جاحده، ولا أذان له ولا إقامة، ولا وقت له غير وقت العشاء. قوله: (وليس فيه) أي في الوتر (دعاء معين) كذا ذكره في المحيط. فعلى هذا يجوز له أن يدعو بما شاء من الأدعية المأثورة. وعمل كافة الناس اليوم على قراءة "اللهم إنا نستعينك" إلى آخره، ومن لا يعرف القنوت يقول: يا رب ثلاث مرات، ثم يركع، كذا ذكر في فتاوى سمرقند. وفي شرح الطحاوي يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

قوله: (وفي جامع الأصول عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في وتره: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك") قلت: هذا الحديث أورده أبو داود والنسائي.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان ما يكره من الصلاة ما لا يكره، وما يفسدها وما لا يفسدها قوله: (يستحب أن يكون نظر المصلي في قيامه إلى موضع سجوده) وذلك لما نزل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1 - 2]، قال أبو طلحة: ما الخشوع يا رسول الله؟ قال: "أن يكون منتهى بصر المصلي: موضع سجوده، وفي الركوع: إلى ظهر قدميه، وفي السجود: إلى أرنبة أنفه، وفي القعود: إلى حجره، وعند التسليمة الأولى: إلى كتفه الأيمن، وعند الثانية: إلى كتفه الأيسر". قوله: (ولا يلتفت) لقوله عليه السلام: "لا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه" رواه أبو داود والنسائي. وحد الالتفات المكروه: أن يلوي عنقه، حتى يخرج وجهه من أن يكون إلى جهة القبلة، فأما لو نظر بمؤخر عينيه يمنة أو يسرة من غير أن يلوي عنقه: فلا يكره، لأنه صلى الله عليه وسلم "كان يلاحظ أصحابه في صلاته بموق عينيه".

قوله: (ولا يعبث بثوبه وعضوه) لقوله عليه السلام: "إن الله كره ثلاثاً: الرفث في الصوم والعبث في الصلاة والضحك في المقابر" وإذا انتقض كور عمامته فسواها: فصلاته تامة. وإن عبث بلحيته أو حك بعض جسده: لا تفسد صلاته، وعلى قياس ما حكي عن عن أبي نصر: أن من نتف شعره ثلاثاً: فسدت صلاته، وكذا إذا حك جسده أو عبث بلحيته ثلاثاً، وكذلك إذا لبس المصلي الخفين، والمرأة إذا تخمرت: فسدت صلاتها. قوله: (ويكره تغميض عينيه) لقوله عليه السلام: "إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يغمض عينيه". قوله: (ويكره سبقه الإمام) أي سبق المقتدي الإمام (في الأفعال) بأن يركع قبل أن يركع الإمام، أو يرفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام، لأنه مخالفة، وهو مأمور بالموافقة، لقوله عليه السلام: "لا تبادروني بالركوع والسجود" رواه أبو داود، وروى أبو داود أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى، أو ألا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه والإمام ساجد أن يحول الله رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار".

وهذا فيما إذا وجدت المشاركة مع الإمام، وأما إذا لم توجد أصلاً: تفسد صلاته. قوله: (وعد الآي) أي يكره عد الآي والتسبيح، هذا عند أبي حنيفة، لأنه ليس من أعمال الصلاة، وعندهما: لا بأس به، وبه قال الشافعي. قيل: الخلاف في المكتوبة، ولا خلاف في التطوع أنه لا يكره، وقيل: بالعكس. والغمز برءوس الأصابع أو الحفظ بالقلب: لا يكره اتفاقاً، وأشار في الإيضاح: إلى أن يكره العد بالقلب أيضاً. (وحمل شيء) أي يكره حمل شيء في يده أو فمه، لأنه نوع عبث، ومنه قلب الحصى، إلا أن لا يمكنه السجود فيسويه مرة، لأنه جاء في الخبر عن سيد البشر في تسوية الحجر: "يا أبا ذر، مرة أو ذر". قوله: (وتطويل الإمام) أي يكره تطويل الإمام (الركوع لداخل يعرفه) لأن العبادة ينبغي أن تكون خالصة لله تعالى، وفيه نوع اشتراك، حتى قيل: تفسد صلاته، وقيل: يخشى عليه الكفر، وإذا لم يعرف الداخل: لا يكره، وقيل: إن كان الداخل غنياً: يكره، وإن كان فقيراً: لا يكره. قوله: (ويكره افتتاح الصلاة وبه حاجة) أي إلى الخلاء من البول أو الغائط، لما

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة" ولأنه يشغله، ولا يتفرغ قلبه إلى الصلاة. قوله: (ويكره الصلاة خلف صف وحده مهما وجد فرجة) أي موضعاً خالياً في الصف، لتخلفه عن الجماعة بانفراده، حتى إذا لم يجد فرجة: لا يكره، للضرورة. قوله: (ولو صلى في مكان طاهر في الحمام ولا صورة فيه: لا يكره) وقيل: يكره مطلقاً، فقيل: لأنه موضع الشياطين، وقيل: لأنه مصب الغسلات، والأصح أنه لا يكره، ولكن بشرط أن يستر عورته، وأن يصلي في مكان نظيف، والاستدلال على الكراهة بأنه موضع الشياطين: ممنوع، فإن جميع المواضع لا تخلو عنهم، فينبغي أن تكره الصلاة خارج الحمام أيضاً، وليس كذلك، والاستدلال عليهما بأنه مصب الغسلات: مدفوع بالمكان الطاهر، وإنما قيد بقوله: (ولا صورة فيه) لأنه إذا كان فيه صورة: يكره. قوله: (وتكره القراءة في الحمام جهراً لا سراً) قلت: ينبغي أن لا تكره مطلقاً، لأن من يكرهها جهراً يستدل بأنه موضع الشياطين، وقد قلنا أن جميع المواضع لا تخلو عنهم، فيلزم أن تكره القراءة جهراً في سائر المواضع، والأمر بخلافه. قوله: (وتكره صورة ذي الروح) مثل صورة الأسد والفيل والآدمي والخيل والطير التي ينقشها المصورون في الجدران والسقوف، وينسجها النساج في البسط والفرش. قيده بقوله: (ذي روح) لأن صورة غير ذي روح: لا يكره، كالشجر ونحوه، لأنه لا يعبد.

قوله: (في كل جهات المصلي) يعني سواء كانت في يمينه أو يساره أو أمامه أو وراءه أو فوقه أو تحته، وذلك لحديث جبريل عليه السلام: "إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب أو صورة" رواه مسلم. وبيت لا تدخله الملائكة شر البيوت، وأشدها كراهة أن يكون أمام المصلي، ثم فوق رأسه، ثم يمينه، ثم يساره، ثم خلفه. قوله: (إلا ممحوة الرأس) لأن الصورة لا تعبد بلا رأس. وممحوة الرأس: أن تكون مقطوعة الرأس، أو يمحى رأسها بخيط يخاط عليها، حتى لم يبق للرأس أثر أصلاً، ولو خيط ما بين الرأس والجيد: لا يعتبر، لأن من الطيور ما هو مطوق. قوله: (أو الصغيرة جداً) وهذا أن يكون بحيث لا يبدو للناظر إلا بتأمل، لأن الصغيرة جداً لا تعبد، وكان على خاتم أبي هريرة ذبابتان ولو صلى على بساط مصور: لا يكره إن لم يسجد عليها، لأنه إهانة وليس بتعظيم، ولو كانت الصورة على وسادة ملقاة أو بساط مفروش: لم يكره، لأنها توطأ، فكان استهانة بالصورة، بخلاف ما لو كانت الوسادة منصوبة كالوسائد الكبار، أو كانت على الستر، لأنه تعظيم لها، ولو لبس ثوباً مصوراً: كره لشبهه بحامل الصنم، ولا تفسد صلاته في كل الفصول. قوله: (ولو استقبل تنوراً متقداً) أي يشعل فيه نار (أو كانوناً فيه نار: يكره) لأنه يشبه عبادتها، بخلاف الشمع والسراج والمصحف والسيف ونحوها، لأن هذه الأشياء لا تعبد غالباً. قوله: (والعمل الكثير يقطع الصلاة) أي يبطلها، وهو ما لا يوجد إلا باليدين، ويتفرع عليه مسائل منها: إذا وقعت عمامته من رأسه في الصلاة، فإن وضعها على رأسه بيده الواحدة: لا تفسد، وإن وضعها بيديه: تفسد. ومنها: إذا ألجم الدابة في الصلاة: تفسد، لأن

الإلجام لا يكون إلا باليدين، بخلاف ما إذا خلعها، لأن الخلع يمكن بيد واحدة. ومنها: إذا عقد إزاره في الصلاة، فإن عقدها بيده الواحدة: لا تفسد، وإن عقدها بيديه: تفسد. وقيل: العمل الكثير ما اشتمل على العدد الثلاث، ويتفرع عليه مسائل منها: أن المصلي إذا تروح بمروحة مرتين: لا تفسد صلاته، وإن تروح ثلاثاً: فسدت. وقيل: العمل الكثير: كل عمل يكون مقصوداً للفاعل، على أن يفرد له مجلس على حدة، ويتفرع عليها مسائل منها: أن المصلية إذا لمسها زوجها أو قبلها بشهوة: تفسد صلاتها. ومنها: أن الصبي إذا مص ثديها وخرج اللبن: فسدت صلاتها. وقيل: العمل الكثير هو ما يجزم الناظر إليه أنه ليس في الصلاة. قال الصدر الشهيد: هو الصواب، واختاره الفضلي، وأشار المصنف إليه بقوله: (وهو المختار) فاستخرج ما يتفرع عليه من المسائل إن كنت على ذكر منها. قوله: (ومن صلى في الصحراء: نصب بين يديه سترة) لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها: لا يقطع الشيطان عمله" رواه أبو داود. قوله: (قدر ذراع فصاعداً) لما روي أنه عليه السلام قال: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال من مر وراء ذلك" أخرجه مسلم والترمذي. وروى صاحب السنن: أن آخر الرحل ذراع فما فوقه.

قوله: (ويجعلها بحذاء أحد حاجبيه) لما روي عن المقداد أنه قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمداً" رواه أبو داود. لكي لا يقابله مستوياً مستقيماً بل كان يميل عنه. قوله: (ولا عبرة بالإلقاء ولا بالخط) يعني إذا تعذر غرز العود: لا يلقي ولا يخط، لأن المقصود لا يحصل به، وقيل: يضعه طولاً، وقيل: إن لم يكن معه ما يستتر به: يخط طولاً. وقيل: شبه المحراب. قوله: (ويأثم المار في موضع سجوده في الصحراء والمسجد الجامع) لقوله عليه السلام: "لو علم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لوقف ولو أربعين" رواه أبو داود، وقال أبو النضر: لا أدري قال: أربعين يوماً أو شهراً أو سنة، وقدر في

رواية أبي هريرة بسنة. وإنما يأثم إذا مر في موضع سجوده في الأصح، لأن هذا القدر من المكان حقه، وفي تحريم ما وراءه تضييق على المارة، وقيل: بقدر الصفيين، هذا في الصحراء، فإن كان في المسجد: إن كان بينهما حائل كإنسان أو اسطوانة: لا يكره، وإن لم يكن بينهما حائل والمسجد صغير: كره، أي: في أي مكان كان، والمسجد الكبير كالصحراء، وقيل كالمسجد الصغير. قوله: (ويدرأ المار) أي يدفعه (إن لم يكن له سترة أو مر بينه وبينها) أي بين السترة (بإشارة أو تسبيح) لقوله عليه السلام: "لا يقطع الصلاة شيء، وادرأوا ما استطعتم فإنما هو شيطان". قوله: (ولا يدرأ بهما) أي بالإشارة والتسبيح جميعاً لحصول المقصود بأحدهما، ثم الإشارة تكون بالرأس أو العين أو غيرهما. قوله: (وإن تنحنح بغير عذر) بأن لم يكن مضطراً إليه، بل كان لتحسين الصوت (فحصلت به) أي بالتنحنح (حروفاً) نحو: أح بالفتح والضم (بطلت) أي صلاته عندهما، خلافاً لأبي يوسف. قوله: (وإن كان) أي التنحنح (بعذر) بأن كان مضطراً إليه لاجتماع البزاق في حلقه (فلا) أي فلا تبطل وإن حصلت حروف، لأنه مضطر إليه طبعاً، فصار كالعطاس والجشأ لو حصلت.

فصل في الجماعة

فصل في الجماعة لما كان أداء الصلاة على وجه الكمال بالجماعة، إذ هي من سنن الهدى، فصل لها فصلاً على حدة. قوله: (هي) أي الجماعة (سنة مؤكدة)، لقوله عليه السلام: "الجماعة من سنن الهدى لا يتخلف عنها إلا منافق" هذا مأخوذ من حاصل حديث طويل أخرجه أبو داود والنسائي، والمراد منه جماعة الرجال، لأن جماعة النساء مكروهة، وفي رواية: الجماعة فرض كفاية، وهي قول الشافعي، وعند أحمد بن حنبل: فرض عين، لكن غير شرط للجواز. قوله: (وتخفيفها مع الإمام سنة ثانية) أي تخفيف الصلاة مع إتمام ركوعها وسجودها وغير ذلك: سنة ثانية. فإن قلت: قوله: (ثانية) يستدعي الأولى، لأن الثاني مبني على الأول، فالأولى ما هي ههنا؟ قلت: كون الجماعة سنة مؤكدة هو الأولى، وتخفيف الإمام الصلاة مع إتمام أركانها: هو الثانية، ولاشك أن كلاً منهما سنة، أما الأول: فلما روينا، وأما الثاني: فلقوله عليه السلام: "يا معاذ لا تكن فتاناً فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة" رواه أبو داود. فإن قلت: لم؟ قيل: لتخفيف الصلاة سنة ثانية؟ قلت: لأن السنن على نوعين: سنة مؤكدة، وسنة الزوائد وهي السنة الثانية. ولاشك أن تخفيف الصلاة من السنن الزائدة فافهم. ورأيت في بعض النسخ (وتحقيقها مع الإمام) بالحاء المهملة والقافين، فحينئذ يكون الضمير عائداً إلى الجماعة أي: تحقيق الجماعة مع الإمام، وهو ظاهر،

لأنه إذا اجتمع قوم في مكان، وصلوا فرادى: لا يكونون مقيمين حق الجماعة ولا مكتسبين ثوابها، وعلى هذا ينبغي أن يقرأ (ثابتة)، بالباء المنقوطة بنقطة واحدة من تحت بعد الثاء المثلثة: من الثبوت. قوله: (وأقلها) أي أقل الجماعة (في غير الجمعة: واحد مع الإمام) لقوله عليه السلام: "الاثنان جماعة فما فوقهما" رواه ابن ماجة. وأما في الجمعة: فالشرط ثلاثة سوى الإمام كما يجيء في بابها إن شاء الله. قوله: (والأولى بالإمامة الأفقه) إذا كان يحسن القراءة، ويجتنب الفواحش الظاهرة، وعن أبي يوسف: أن الأقرأ مقدم. قوله: (ثم الأقرأ) أي فإن تساووا في العلم: فأقرأهم لكتاب الله. قوله: (ثم الأورع) أي فإن تساووا في القراءة: فأورعهم أولى بالإمامة، لقوله عليه السلام: "اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفد فيما بينكم وبين ربكم". قوله: (ثم الأكبر سناً) أي فإن تساووا في الورع: فأكبرهم سناً أحق بالتقديم، لما روي عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ولصاحب له: "إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما ثم ليؤمكما أكبركما" رواه أبو داود.

قوله: (ثم الأحسن خلقاً) أي فإن تساووا في السن: فأحسنهم خلقاً أولى بالإمامة (ثم الأشرف نسباً) أي فإن تساووا في حسن الخلق: فأشرفهم نسباً أحق بالتقديم، لزيادة فضله بشرف النسب. قوله: (ثم الأصبح وجهاً) أي فإن تساووا في شرف النسب: فأصبحهم وجهاً أحق بالتقديم، ومعنى أصبحهم وجهاً: أكثرهم صلاة بالليل، وفي الحديث: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار". ثم إن تساووا في هذا المعنى أيضاً: يقرع فيقدم من خرجت قرعته، أو يكون الخيار للقوم فيقدم من يختارونه. قوله: (ومن أم واحداً: أقامه عن يمينه مقارناً له) لما روي عن ابن عباس أنه قال: "بت في بيت خالتي ميمونة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فأطلق القربة، فتوضأ، ثم أوكأ القربة، ثم قام إلى الصلاة فقمت وتوضأت كما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره، فأخذني بيمينه وأدارني من وراءه فأقامني عن يمينه، فصليت معه" رواه أبو داود، وغيره. قوله: (وإن أم اثنين: تقدم عليهما) لحديث أنس: "أقامني رسول الله صلى الله عليه وسلم واليتيم وراءه وأم سليم

وراءنا" رواه البخاري ومسلم. قوله: (ومن تقدم على إمامه) عند اقتدائه (لم يصح اقتداؤه) لأن وظيفة الإمام: التقدم، ووظيفة المقتدي: التأخر منه، فانقلب عكساً: فلم يجز. وقوله: (لم يصح اقتداؤه) أي لم يصح شروعه مع الإمام، ثم هل يصح شروعه في صلاة نفسه أم لا؟ فيه وجهان: إن قسناهما على مسألة: من كبر قبل إمامه ناوياً الاقتداء به: بطل شروعه مع الإمام، وهل يصير شارعاً في صلاة نفسه أم لا؟ فيه روايتان: فأقول ذلك بطريق القياس، لأني ما وقفت في ذلك على نقل صريح فيما طالعت من الكتب، فافهم. قوله: (ولا يصح اقتداء الرجل بالمرأة) لقوله عليه السلام: "أخروهن من حيث أخرهن الله" فينافي هذا تقديمهن على غيرهن. وتجوز إمامتها للنساء، ولكن جماعتهن مكروهة، فإن فعلن: يقف الإمام وسطهن كالعراة. قوله: (ولا بالصبي) أي لا يصح اقتداء الرجل بالصبي مطلقاً، يعني سواء كان في

الفرض أو في غيره، وقال الشافعي: يصح مطلقاً، وهذا مبني على أن اقتداء المفترض بالمتنفل يجوز عنده، ولا يجوز عندنا، والصبي متنفل. وعن بعض مشايخنا: جواز إمامته في التراويح والسنن المطلقة، والأكثرون على المنع مطلقاً، وعليه الفتوى. قوله: (ويصح اقتداء الصبي بالصبي) لأنهما متنفلان، فيصح اقتداء المتنفل بالمتنفل. فروع: تكره إمامة الأعمى،

والعبد وولد الزنا والمبتدع والفاسق. وقال مالك: لا تجوز إمامة الفاسق. ولا تجوز إمامة الجهمية والقدرية والرافضة، ولا إمامة أهل الأهواء في رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال أبو يوسف: لا تجوز الصلاة خلف المتكلم، وإن تكلم بحق. وفي المنتقى: إبراهيم عن محمد: أنه سئل هل يصلى خلف شارب الخمر؟ قال: لا ولا كرامة. واقتداء الأخرس بالأمي صحيح لا العكس. ويصح اقتداء متوضئ بمتيمم، وغاسل بمساح، وقائم بقاعد، ومومئ بمثله، ومتنفل بمفترض دون عكسه. وقال محمد: لا يصح اقتداء متوضئ بمتيمم، وقائم بقاعد دون عكسه. قوله: (ويصف الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء) أما الرجال: فلقوله عليه السلام: "ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى) رواه مسلم، وأما الصبيان: فلحديث أنس وقد

رويناه، وأما الخناثى: فلاحتمال كونهم إناثاً، وأما تقديمهم على النساء: فلاحتمال كونهم ذكوراً. قوله: (ويكره للنساء الشواب حضور الجماعة مطلقاً) يعني في جميع الصلوات، للفتنة والفساد، ولهذا يباح للعجائز الخروج في العيدين والجمعة بالاتفاق، لأنهن غير مرغوب فيهن، فلا فتنة. وكذا يباح لهن الخروج في الفجر والمغرب والعشاء عند أبي حنيفة، لأن من ظهر منهم الفتنة وهم الفساق: نائمون في الفجر والعشاء، ومشغولون بالطعام في المغرب، وعندهما: يخرجن في الصلوات كلها كما في الجمعة، والفتوى اليوم على الكراهة في كل الصلوات لظهور الفساد. ومتى كره حضور المسجد للصلاة، فلأن يكره حضور مجالس الوعاظ خصوصاً عند هؤلاء الجهال الذين تحلوا بحلية العلماء: أولى، ذكره فخر الإسلام. قوله: (ولو ظهر حدث الإمام: أعاد المأموم) يعني إذا اقتدى بإمام، ثم ظهر أنه محدث أو جنب: يعيد المأموم صلاته، خلافاً للشافعي. والأصل في جنس هذه المسألة: أن المأموم تبع للإمام صحة وفساداً عندنا، وعنده: تبع في الموافقة لا في الصحة والفساد، حتى يجوز اقتداء القائم بالمومئ. وقراءة الإمام لا تنوب عن قراءة المقتدي، ويجوز اقتداء المفترض بالمتنفل وبمن يصلي فرضاً آخر، وعندنا: على العكس. قوله: (ومتى كان بين الإمام والمأموم حائل) أي مانع (يشتبه به حال الإمام عليه) أي على المأموم (منع الصحة) أي صحة صلاة المأموم، لاختلاف حال الإمام عليه، حتى إذا لم يشتبه: لا يمنع الصحة والله أعلم.

فصل في الجمعة

فصل في الجمعة المناسبة بين الفصلين من حيث أن الجمعة لا تقام إلا بالجماعة والإمام، وما ذكر في الفصل الأول هو أحكام الجماعة والإمام. قوله: (لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع) لقوله عليه السلام: "لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع" ذكره شيخ الإسلام خواهر زاده في مبسوطه وقال: ذكره أبو يوسف في الإملاء مسنداً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والمصر الجامع: كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود، وقال الشافعي: لا يشترط المصر، حتى إذا كان أربعون رجالاً أحراراً مقيمين في القرى: تقام الجمعة. قوله: (أو في فنائه) أي فناء المصر، وهو ما أعد لحوائج أهل المصر. وفناء المصر، وفناء الدار، وفناء كل شيء: كذلك. واختلفوا فيه: فقدره محمد: بغلوة، وبعضهم: بفرسخ، وبعضهم: بفرسخين، وبعضهم: بمنتهى صوت المؤذن إذا أذن. وعن أبي يوسف: لو أن إماماً خرج من المصر مقدار ميل أو ميلين لحاجة، فجاء

وقت الجمعة فصلاها بهم: جاز، وقيل: يجوز عند أبي يوسف إذا كان بينه وبين المصر مزارع. وبه كان يفتي شمس الأئمة الحلواني. قوله: (ولا يقيمها إلا السلطان أو نائبه) لقوله عليه السلام: "من تركها استخفافاً بها وله إمام عادل أو جائر فلا جمع الله شمله .. " الحديث. شرط فيه أن يكون له إمام، وقال الشافعي: هذا ليس بشرط، وتجوز الجمعة خلف المتغلب الذي لا منشور له من الخليفة، إذا كانت سيرته في رعيته سيرة الأمراء، يحكم فيما بين رعيته، لأن بهذا تثبت السلطة، فتحقق الشرط، كذا في التتمة والكافي. والي مصر قد مات ولم يبلغ موته الخليفة حتى مضت بهم جمع: فإن صلى بهم خليفة الميت أو صاحب شرطة أو القاضي: جاز، ولو اجتمعت العامة على أن يقدموا رجلاً من غير أمر الخليفة أو القاضي: لم يجز ولم يكن جمعة، كذا في العيون. صبي خطب يوم الجمعة وله منشور الوالي: يجوز، ويصلي بالناس رجل بالغ صلاة الجمعة، كذا في فتاوى خوارزم. قوله: (ويخطب قبلها) أي قبل الجمعة (خطبتين خفيفتين) وهي شرط، حتى لو صلوا بغيرها: لا يجوز، لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، أي

الخطبة، والسنة: خطبتان خفيفتان بجلسة بينهما، ومقدارها: أن يستقر كل عضو منه موضعه، ويحمد في الأولى، ويتشهد ويصلي على النبي عليه السلام، ويعظ الناس، وفي الثانية كذلك، إلا أنه يدعو مكان الوعظ، كذا جرى التوارث، ويخطب قائماً بطهارة، فلو خطب قاعداً أو محدثاً: جاز وكره، ويستحب إعادتها إذا كان جنباً. قوله: (ولو ذكر الله بدل الخطبة) مثل ما إذا قال: سبحان الله أو لا إله إلا الله: (صح) عند أبي حنيفة، وكذا لو اقتصر على الحمد لله، وعندهما: لا يجوز إلا إذا كان كلاماً يسمى خطبة عادة، وقيل: أقله قدر التشهد، والشرط عند أبي حنيفة: أن يكون قوله الحمد لله على قصد الخطبة، حتى إذا عطس وقال: الحمد لله، يريد به الحمد على عطاسه: لا ينوب عن الخطبة. قوله: (وشرطها) أي شرط إقامة الجمعة (ثلاثة أنفس غير الإمام) وهذا عندهما، وقال أبو يوسف: اثنان سوى الإمام، لأن في المثنى معنى الاجتماع، ولهما: أن أقل الجمع ثلاث، كما في قوله: له علي دراهم، أو نذر أن يصوم أياماً: يجب عليه ثلاثة فيهما. ثم اشتراط الجماعة لتأكد العقد بالسجدة عند أبي حنيفة، وعندهما: شرط للشروع، وعند زفر: لأدائها. وفائدته: فيما إذا نفر الناس عن الإمام قبل أن يقيد الركعة الأولى بالسجدة: فعند أبي حنيفة: لا يجمع، ويستقبل الظهر، وعندهما: إن نفروا بعد شروعه: جمع، وعند زفر: إن نفروا قبل قعوده قدر التشهد: لم يجمع. والدلائل قد مرت في المستجمع. قوله: (ولا جمعة على مسافر) للحرج (وامرأة) لاشتغالها بخدمة الزوج (ومريض) للحرج (وعبد) لاشتغاله بخدمة المولى (وأعمى) لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [الفتح: 17]، وهذا عند أبي حنيفة، وسواء وجد قائداً يوصله إلى الجامع أولاً، وقالا: إن وجد قائداً وجب عليه، بدليل أنه لو أدى جاز، وكذا الخلاف في الحج. قوله: (وإن صلوها: كفتهم) أي وإن حضر هؤلاء وصلوا الجمعة: كفتهم جمعتهم

عن فرض الوقت، لأن السقوط عنهم للتخفيف، فلو وجب غيرها بتقدير إقامتها: لعاد الأمر على موضوعه بالنقض. قوله: (وتصح إمامتهم فيها) أي إمامة الجماعة المذكورة، خلافاً لزفر، لأنهم صالحون لإمامة غير الجمعة، فكذا الجمعة، وأما المرأة فهي مستثناة بالإجماع. قوله: (وتحصل بهم الجماعة) أي وتحصل بهؤلاء الجماعة التي هي من شرط الجمعة، كما تجوز إمامتهم فيها، إلا المرأة. قوله: (ومن صلى الظهر يوم الجمعة في منزله بغير عذر: كره وأجزأه) وقال زفر: لا يجوز، لأن الجمعة هي الأصل، والظهر خلف عنها، فلا يجوز تقديمه على الأصل، وبه قال الشافعي. ولنا: أن الأصل هو الظهر، إلا أنه مأمور بإسقاط هذا الفرض بأداء الجمعة إذا استجمعت شرائطها، فإذا أداها قبل الجمعة: جاز، وأما الكراهة: فلتركه السعي المأمور به. قوله: (ويكره للمعذورين مثل العميان والمرضى والمحبوسين: الظهر بجماعة يوم الجمعة) رعاية لحق الجمعة، وعند الشافعي ومالك: لا يكره. قوله: (ومن أدرك الإمام في التشهد) أي في تشهد صلاة الجمعة (أو أدركه وهو في سجود السهو: أتم الجمعة) عندهما، وعند محمد: يصلي أربعاً، ويعقد في الثانية البتة، ويقرأ في الأربع للاحتياط، وبه قال زفر والشافعي ومالك. ولهما: قوله عليه السلام: "من أدرك الإمام في التشهد يوم الجمعة فقد أدرك الجمعة" ذكره خواهر زاده في مبسوطه.

وقوله عليه السلام: "من أدرك الإمام جالساً قبل أن يسلم فقد أدرك الصلاة" ذكره الدارقطني. قوله: (وبالأذان الأول يحرم البيع) لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. وقال الطحاوي: يكره البيع عند أذان المنبر بعد خروج الإمام، وهذا يرجع إلى أن الأذان المعتبر عنده هذا، والذي قبله محدث، وقال الحسن بن زياد: والمعتبر هو الأذان الأول، والأصح أن كل أذان يكون قبل الزوال: فهو غير معتبر، والمعتبر: أول الأذان بعد الزوال، سواء كان على المنبر أو على المنارة. فإن قلت: كيف حقيقة قوله: (يحرم البيع) فهل هو فاسد؟ قلت: عامة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع، لأن النهي لمعنى في غيره لا يعدم المشروعية، وقيل: إنه فاسد، وهو قول مالك وأحمد. قوله: (ويجب السعي) أي إلى الجمعة (على من سمع النداء فقط) لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وهذا قول محمد والشافعي، وعند أبي يوسف: يجب على أهل القرى المشمولين بسور البلد، وعند أبي حنيفة: على القرى التي يجبي خراجها مع خراج المصر، وعند مالك: يجب على من بينه وبين الجامع ثلاثة أميال. قوله: (وإذا خرج الإمام إلى الخطبة: ترك الناس الصلاة والكلام حتى يصلوا) هذا

عند أبي حنيفة، وعندهما: يجوز الكلام إلى الخطبة، لأن الكراهية للإخلال بفرض الاستماع، ولا استماع ههنا. وله: قوله عليه السلام: "إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام". قوله: (فإذا خطب: وجب السماع والسكوت على القريب والبعيد). لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت" [من غير فصل]. رواه مسلم وابن ماجة وأبو داود. قوله: (وإذا قرأ) أي الخطيب ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] يصلي السامع في نفسه) يعني لا يجهر بالصلاة لما روينا، بل يصلي في قلبه.

فصل في العيدين

فصل في العيدين وجه المناسبة بين الفصلين: من حيث أن كلاً منهما ركعتان، تجهر القراءة فيهما، ويقامان بالجماعة والإمام والخطبة، ولا يقضيان. عيد: أصله عود، قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وإنما سمي عيداً: لأنه يعود في كل سنة. قوله: (تجب صلاة العيد على كل من تجب عليه الجمعة) حتى لا تجب على المسافر والمريض والأعمى والمرأة والعبد. أما الوجوب فلقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] قيل: هو صلاة العيد. وتواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيد. وقال شمس الأئمة السرخسي: "الأظهر أنها سنة، ولكنها من معالم الدين، أخذها

هدى وتركها ضلالة" والأول أصح. ويشترط لها ما يشترط للجمعة، إلا الخطبة فإنها ليست من شرائط العيد. قوله: (ويستحب يوم الفطر أن يطعم الإنسان قبل الصلاة) لما روي عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وتراً" أخرجه البخاري. قوله: (وفي الأضحى بعدها) أي يستحب أن يطعم في الأضحى بعد الصلاة، لتكون البداية من لحوم القرابين، التي هي ضيافة الله تعالى لعباده في هذا اليوم. قوله: (ويغتسل فيهما) أي في العيدين، وهذا مكرر، لأنه ذكر مرة في باب الغسل. قوله: (ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه) لأنه يوم ازدحام، حتى لا يتأذى البعض برائحة البعض. قوله: (ويتوجه إلى المصلى وهو غير مكبر جهراً) هذا عند أبي حنيفة، لأن الأصل في الدعاء الإخفاء، وعندهما: يجهر اعتباراً بالأضحى. قوله: (بخلاف الأضحى فإنه يكبر فيها جهراً بالاتفاق) لأنه يوم تكبير فاختص به. قوله: (وصلاة الأضحى كالفطر) يعني كلاهما على صورة واحدة، وهي أن يصلي الإمام

بالناس ركعتين، يكبر في الأولى تكبيرة الافتتاح، ثم يكبر ثلاثاً، ثم يقرأ، ثم إذا فرغ من القراءة من الركعة الثانية يكبر ثلاثاً، ثم يكبر للركوع، فتكون التكبيرات الزائدة ستاً. وهذا قول ابن مسعود. وعند الشافعي: يكبر سبعاً في الركعة الأولى بعد تكبيرة الافتتاح، بالذكر بينهن، وخمساً في الثانية قبل القراءة، فتكون الزوائد عنده اثني عشر، وهذا قول ابن عباس، صححه البخاري وغيره. وعند مالك وأحمد بن حنبل: ست في الأولى وخمس في الثانية. ويرفع يديه في الزوائد إلا في تكبيرتي الركوع. وعن أبي يوسف: أنه لا يرفع في شيء منها اعتباراً بتكبيرتي الركوع. قوله: (ويستحب تعجيلها) أي تعجيل صلاة الأضحى (لأجل ذبح القرابين) ليكون بداية الفطر من لحومها. قوله: (والوقوف يوم عرفة في موضع آخر) مثل ما يقف أهل القدس تشبيهاً بأهل عرفة (بدعة)، وقيل: يستحب ذلك، لأنه تشبه بأهل الطاعة فيكون لهم ثوابهم، وعن ابن عباس: أنه فعل ذلك بالبصرة.

قلنا: هذه عبادة مخصوصة بمكان، فلا تصير عبادة في غيره، فإن من طاف حول مسجد سوى الكعبة يخشى عليه الكفر، وما نقل عن ابن عباس: فذا في الوعظ. قوله: (وتكبير التشريق: أوله بعد الفجر من يوم عرفة، وآخره بعد عصر يوم النحر) فيكون ثمان صلوات، وهذا قول أبي حنيفة، والمأثور عن المشايخ الكبار من الصحابة: كأبي بكر وعمر وابن مسعود رضي الله عنهما. وعندهما: أوله هكذا، ولكن يختم في عصر آخر أيام التشريق، ثلاثاً وعشرين صلاة، وهو قول شبان الصحابة: كعلي وابن عباس وزيد بن ثابت، والفتوى عليه. وعند الشافعي: مبدأه من ظهر يوم النحر، ويختم في فجر آخر أيام التشريق. قوله: (وصفته) أي صفة التكبير (مرة واحدة) أي يقوله مرة واحدة على سبيل الوجوب، وما زاد فمستحب. قوله: (بعد الفرض) أي بعد صلاة الفرض، حتى لا يكبر عقيب الوتر والسنن والنوافل. قوله: (وإنما يجب) أي التكبير (على كل مقيم) احترز به عن المسافر (مصلي في جماعة) احترز به عن المنفرد (مستحبة) احترز به عن جماعة النساء فإنها مكروهة، وهذا عنده. وعندهما: التكبير تبع للفرض، فمن عليه الفرض: فعليه التكبير، وبه قال الشافعي.

قوله: (ولا يكبر بعد الوتر) لأنه ليس بفرض، وكذا لا يكبر بعد صلاة العيد، ويكبر بعد الجمعة، لأنها فرض خلف عن الظهر. قوله: (فإن ترك الإمام التكبير) سواء كان على طريق النسيان أو غيره (كبر المأموم) لأنه لا يسقط عنه بترك إمامه. قوله: (ويستحب اختلاف الطريق في صلاة العيد) لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم العيد في طريق، ثم رجع في طريق آخر" رواه أبو داود وابن ماجة والله أعلم.

فصل في المسافر

فصل في المسافر وجه المناسبة بين الفصلين: من حيث أن صلاة العيد ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان أيضاً سوى المغرب. قوله: (المرخص للمطيع والعاصي) أي السفر المرخص لقصر الصلاة وترك الصوم ونحوهما (مقدر بثلاثة أيام ولياليها) سواء كان المسافر مطيعاً أو عاصياً، مثل قاطع الطريق والعبد الآبق، وعند الشافعي: لا يرخص للعاصي. والأصل فيه قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ} [النساء: 101]. وأما تقدير المدة بالثلاثة: فلقوله عليه السلام: "يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها". ووجه الاستدلال: أن المسافر ذكر محلى بالألف واللام، فاستغرق الجنس لعدم المعهود، واقتضى تمكن كل مسافر من مسح ثلاثة أيام ولياليهن، ولا يتصور أن يمسح

كل مسافر ثلاثة أيام إلا وأن يكون أقل مدة السفر ثلاثة أيام، إذ لو كان أقل من ذلك يخرج بعض المسافرين عن استيفاء هذه الرخصة، والزيادة عليها منتفية إجماعاً، فكان الاحتياج إلى إثبات: أن الثلاثة أقل مدة السفر. قوله: (بسير الإبل ومشي الأقدام) وذلك لأن أعجل السير سير البريد، وأبطأه سير العجلة، وخير الأمور أوسطها. وعن أبي حنيفة: أنه اعتبر ثلاث مراحل، وهو قريب من ثلاثة أيام، لأن العادة من السير في كل يوم: مرحلة، خصوصاً في أقصر أيام السنة. ولا معتبر بالفراسخ، لأن ذا يختلف باختلاف الطرق في السهول والجبال والبحار، وقيل: يعتبر بالفراسخ: أحد وعشرون، أو ثمانية عشر، أو خمسة عشر، ولا يعتبر السير في الماء بالسير في البر، والمعتبر في البحر ما يليق بحاله كما في الجبل. والفتوى: على أن ينظر: أن السفينة كم تسير في ثلاثة أيام ولياليها عند استواء الريح؟ لم تكن عاصفة ولا هادية، فيجعل ذلك أصلاً. قوله: (وفرض المسافر في كل رباعية) مثل الظهر والعصر والعشاء (ركعتان) ولا يقصر المغرب ولا الوتر، وإن كان أبو حنيفة يقول بفرضيته. وفائدة هذه المسألة: تظهر في التي تليها وهي قوله: (فلو صلى أربعاً) أي فلو صلى المسافر الرباعية أربعاً على حالها ولم يقصر (ينظر إن كان قرأ في الأوليين، وقعد في الركعة الثانية قدر التشهد: صحت صلاته) وتصير الأوليتان فرضاً والأخريان نفلاً (وإن لم يقعد في الثانية قدر التشهد: بطلت صلاته) لأن القعدة في الثانية فرض في حقه، وقد تركه. والشافعي يخالفنا في ذلك.

والأصل فيه أن القصر هل هو رخصة أو عزيمة؟ فعندنا: عزيمة، وعنده: رخصة يظهر بالتأمل. قوله: (ويترخص المسافر بمفارقته بيوت المصر) حتى لو كان أمامه دار أو داران: لا يقصر، لما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين" رواه أبو داود ومسلم. قوله: (حتى يرجع إليها) أي إلى بيوت مصره، فإذا رجع إليها ودخل فيها: أتم وإن لم ينو الإقامة. قوله: (أو ينوي الإقامة في بلد أو في قرية خمسة عشر يوماً) أما النية: فلأن السفر لا ينقطع إلا بالإقامة الصحيحة، وذلك بالنية.

وأما تقديرها بخمسة عشر يوماً: فلما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "إذا نوى إقامة خمسة عشر يوماً أتم الصلاة" وروي مثله عن سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، كذا ذكره محمد بن الحسن في موطأه. قوله: (لا في مفازة) أي لا تصح نية إقامته بخمسة عشر يوماً أو أكثر في مفازة، لأنها ليست بمحل للإقامة، فلم تصادف النية محلها، فلغت. قوله: (فيتم) أي حين رجع إلى مصره ودخلها، وحين نوى الإقامة في بلد أو قرية بخمسة عشر يوماً، يتم الصلاة. قوله: (ولو دخل مصراً ولم ينو الإقامة فيه، وتمادت) أي تطاولت (حاجته شهراً) وذكر الشهر: تمثيل لا تقييد، حتى لو لم ينو الإقامة، وبقي على ذلك سنين (يترخص

برخص المسافرين) لما روي عن جابر بن عبد الله قال: "أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة" رواه أبو داود. قوله: (ولا تصح نية إقامة العسكر المحارب للكفار أو البغاة) لأن حالهم يبطل عزيمتهم، لأنهم إما أن هزموهم، أو انهزموا بإزعاجهم، وعند زفر وهو رواية عن أبي يوسف: أنه تصح نيتهم الإقامة. قوله: (بخلاف أهل الكلأ) أي تصح نية إقامتهم، وهم أهل الأخبية والخيام، كالأعراب والأتراك والأكراد، لأن الإقامة للمرء أصل، والسفر عارض، فلا يبطل بالانتقال من مرعى إلى مرعى. وعن أبي يوسف: أن الرعاء إذا كانوا في تطواف وترحال من المفاوز والمهامة، من مساقط الغيث إلى مساقط الغيث، ومعهم رحالهم وأثقالهم: كانوا مسافرين حيث نزلوا، إلا إذا نزلوا مرعى كثير الكلأ والماء، واتخذوا المخابز والمعالف والأواري، وضربوا الخيام، وعزموا على الإقامة مدة خمسة عشر يوماً، والكلأ والماء يكفيهم: فإني أستحسن أن أجعلهم مقيمين. قوله: (ويتم المسافر المقتدي بالمقيم) لأن التبعية معتبرة كنية الإقامة. قوله: (وإذا صلى المسافر بالمقيمين ركعتين: سلم) أي على رأس الركعتين (وقال للجماعة: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) بذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى بأهل مكة في سفره، وهذا إعلام من الإمام للقوم، وهو مستحب. والسفر بسكون الفاء: جمع سافر، كركب جمع راكب.

قوله: (ومن توطن في غير وطنه ثم دخل وطنه الأول: قصر). صورته: شامي انتقل من الشام بأهله وعياله، وتوطن المصر، ثم سافر فدخل الشام: يقصر الصلاة، لأنه لم يبق له، لإبطاله الوطن الأول بتوطنه في غيره، كمكة للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (وفائتة الحضر تقضى في السفر أربعاً) لأن القضاء يجب بالسبب الذي يجب به الأداء، فيحكيه، وعلى هذا الأصل تقضى فائتة السفر في الحضر ركعتين، إلا عند الشافعي تقضى أربعاً. قوله: (والمعتبر في ذلك) أي في وجوب القضاء (أربعاً أو ركعتين آخر الوقت عندنا) وذلك بقدر التحريمة، وعند زفر: يعتبر قدر ما يتمكن من أداء الصلاة فيه، حتى أن مسافراً لو أقام في آخر الوقت وبقي منه قدر ما يتمكن من أن يصلي فيه ركعتين: قصر عنده، وإن بقي أقل منه: أتم، والحيض والطهر على هذا، وقد مر في أول كتاب الصلاة. قوله: (ويصير المسافر مقيماً بمجرد النية) لأن النية هي المعتبرة في تغير حاله، فيؤثر فيما يصادف محلها، حتى لا يصير المقيم مسافراً إلا بالنية مع الخروج. قوله: (ويباح السفر يوم الجمعة قبل الزوال وبعده) أما بعد الزوال فظاهر، وأما قبله: فملا روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلك يوم الجمعة، فغدا أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ألحقهم، فملا صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه فقال: "ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ " فقال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال: "لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم" أخرجه الترمذي.

قوله: (ومن بداله) أي ظهر له (أن يرجع من الطريق إلى مصره وليس بينهما) أي بينه وبين مصره (مدة سفر) وهي ثلاثة أيام (صار مقيماً في الحال) فلا يقصر الصلاة، لعدم وجود مدة السفر. قوله: (وإلا فهو مسافر) أي وإن كان بينه وبين مصره مدة سفر: فهو مسافر حتى يدخل مصره، لوجود مدة السفر، فلا يتم الصلاة. قوله: (وكل تبع يصير بنية متبوعه إذا علم بها) أي بنية متبوعه، فالتبع: كالجندي والعبد والمرأة والأجير والتلميذ. والمتبوع: كالأمير والمولى والزوج والمستأجر والأستاذ. والمرأة إنما تكون تبعاً للزوج: إذا أوفاها مهرها المعجل، وإلا فلا، قبل الدخول وبعده. والجندي إنما يكون تبعاً للأمير: إذا كان يرتزق من الأمير، ولو كان العبد مشتركاً بين مسافر ومقيم، قيل: يتم، وقيل: يقصر، وقيل: إن كان بينهما مهايأة في الخدمة: يقصر في نوبة المسافر ويتم في نوبة المقيم.

فصل في المريض

فصل في المريض وجه المناسبة بين الفصلين من حيث وجود المشقة في كل منهما قوله: (من عجز عن قيام صلى قاعداً يركع ويسجد) لما روي عن عمران بن الحصين قال: "كان بي الناصور فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: "صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب" رواه أبو داود وابن ماجة والبخاري، ولكن في البخاري: "كانت بي بواسير". قوله: (فإن لم يطق) أي إن لم يقدر على الركوع والسجود (أومأ قاعداً) وجعل سجوده أخفض من الركوع، ليتحقق الفرق بينهما، ويقعد مثل القعود في الصلاة، وقيل: يتربع، والفتوى على الأول. قوله: (ولا يرفع إلى وجهه شيئاً ليسجد عليه) لما روي أن ابن مسعود: "دخل على مريض يعوده فرآه يسجد على عود، فانتزعه وقال: هذا مما عرض به لكم الشيطان".

قوله: (فإن لم يطلق القعود) أي فإن لم يقدر القعود أيضاً (استلقى على ظهره وجعل رجليه إلى القبلة وأومأ بالركوع والسجود) وينبغي أن يوضع تحت رأسه وسادة حتى يكون شبه القاعد ليتمكن من الإيماء بالركوع والسجود، إذ حقيقة الاستلقاء يمنع الإيماء للصحيح، فكيف للمريض (أو اضطجع على جنبه متوجهاً إليها) أي إلى القبلة، وهذه رواية الطحاوي عن أبي حنيفة، وهو مذهب الشافعي أيضاً. قوله: (فإن لم يطق الإيماء) أي إن لم يقدر الإيماء برأسه أيضاً (أخر الصلاة) لأن التكليف بقدر الوسع. قوله: (ولم تسقط الصلاة ما دام مفيقاً) لأنه يفهم مضمون الخطاب، فلا يسقط وإن كان العجز أكثر من يوم وليلة، بخلاف المغمى عليه. وقيل: الأصح أن عجزه إن زاد على يوم وليلة: لا يلزمه القضاء، وإن كان دون ذلك: يلزمه كما في الإغماء، لأن مجرد العقل لم يكف لتوجه الخطاب، فقد ذكر محمد: أن من قطعت يداه من المرفقين وقدماه من الساقين: لا صلاة عليه. قوله: (ولا يومئ بغير رأسه) يعني العاجز عن الإيماء برأسه لا يومئ بعينيه وحاجبيه وقلبه، وقال زفر: يومئ بهذه الأعضاء عند العجز. قوله: (وإذا قدر على القيام لا على الركوع والسجود: صلى قاعداً يومئ بهما) أي بالركوع والسجود، لأن فريضة القيام لأجل الركوع والسجود، ويسقط عند سقوط ما هو الأصل. قوله: (أو قائماً) أي أو صلى قائماً مومئاً، ولكن الأول أولى، لأنه أشبه بالسجود. قوله: (ومن مرض في صلاته: بنى على حسب ما قدر) صورته: ابتدأ الصلاة قائماً، ثم عرضه مرض، فعجز عن القيام: أتمها قاعداً، وإن عجز

عن القعود مع الركوع والسجود: أومأ قاعداً، وإن عجز عن هذا: استلقى وأومأ مستلقياً، لأنه بناء الضعيف على القوي. قوله: (ومن صلى قاعداً ثم صح) أي مريض كان يصلي قاعداً، ثم جاءته الصحة (بنى صلاته قائماً) ولا يستأنف عندهما، وقال محمد: يستأنف، والأصل ما مر في جواز اقتداء القائم بالقاعد. قوله: (ومن صلى مومئاً ثم صح: استقبل) أي الصلاة، لأن بناء القوي على الضعيف: لا يجوز. قوله: (ومن جن أو أغمي عليه يوماً وليلة: قضى) أي قضى صلوات ذلك اليوم والليلة بعد الإفاقة. وقال الشافعي: لا يقضي إذا أغمى عليه وقت صلاة كاملة، لأنه عجز مانع عن فهم الخطاب، فنافى الوجوب إذا استوعب وقت صلاة. ولنا: ما روي أن علياً رضي الله عنه "أغمي عليه أربع صلوات فقضاهن". وابن عمر رضي الله عنه "أغمي عليه أكثر من يوم وليلة: فلم يقض". قوله: (بخلاف الأكثر) يعني إذا أغمي عليه أكثر من يوم وليلة: لا يقضي شيئاً لما رويناه.

ثم الزيادة على يوم وليلة تعتبر بالأوقات عند محمد، حتى لا يسقط القضاء ما لم يستوعب ست صلوات، وعندهما: يعتبر من حيث الساعات، حتى لو أغمي عليه قبل الزوال، فأفاق من الغد بعد الزوال: فعندهما: لا يجب القضاء، وعند محمد: يجب إذا أفاق قبل خروج وقت الظهر. قوله: (والنائم يقضي مطلقاً) يعني سواء نام يوماً وليلة أو أقل أو أكثر، لأن الامتداد في النوم نادر، فيلحق الممتد منه بالقاصر منه. قوله: (ويقضي المريض فائتة الصحة على حسب حاله) صورته: رجل فاتته صلوات في صحته، ثم مرض وأراد أن يقضي تلك الصلوات الفائتة في مرضه، فله أن يقضيه بحسب حاله، غذ التكليف يعتمد الوسع، فيكلف في المرض على القضاء كما يكلف على الأداء. قوله: (ويقضي الصحيح فائتة المرض كاملة) صورته: مريض فاتته صلوات في مرضه، ثم صح وأراد أن يقضيها: يقضيها كاملة كما يفعله الأصحاء، لأن تحصيل الركن فرض، وإنما يسقط عند الأداء للعذر.

فصل في الفائتة أي في بيان الصلوات الفائتة

فصل في الفائتة أي في بيان الصلوات الفائتة قوله: (ومن فاتته صلاة قضاها إذا ذكرها قبل فرض الوقت) لقوله عليه السلام: "من نسي صلاة فليصليها إذا ذكرها" قال الله تبارك وتعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] رواه أبو داود وابن ماجة. وهذا يدل على وجوب الترتيب، وعند الشافعي: الترتيب مستحب. قوله: (إلا إذا خاف فوت فرض الوقت) فحينئذ تقدم الوقتية على الفائتة، لأن تفويت الوقتية عن الوقت حرام، لأن آخر الوقت: للوقتية بالنص والإجماع والتواتر من الأخبار، فلو قلنا بوجوب تقديم الفائتة بالخبر: لنسخناها بالخبر، وذا لا يجوز. قوله: (أو وقوعه في وقت مكروه) أي أو خاف وقوع فرض الوقت في وقت مكروه، فحينئذ تقدم الوقتية على الفائتة، صوناً لها عن الفساد. اعلم أن عد المصنف هذا مما يسقط الترتيب، مبني على أصل، وهو: أن العبرة لأصل الوقت، أم للوقت المستحب الذي لا كراهية فيه؟ قيل: العبرة للوقت المستحب، وقيل: لأجل الوقت، وثمرته تظهر فيما إذا شرع في العصر وهو ناس للظهر، ثم تذكر الظهر في وقت لو اشتغل بالظهر يقع العصر في وقت مكروه، فعلى القول الثاني: يقطع العصر، ويصلي الظهر، ثم يصلي العصر، وعلى القول الأول: يمضي في العصر، ثم يصلي الظهر بعد غروب الشمس، فافهم، وانظر ما فتحت لك ها هنا. قوله: (أو كانت الفوائت ستاً) وهذا أيضاً مما يسقط الترتيب، وإنما يسقط بصيرورة الفوائت ستاً: لأنه لو وجب الترتيب فيها: لوقعوا في حرج عظيم، وهو مدفوع بالنص، ولأن الاشتغال بها عند كثرتها قد يؤدي إلى تفويت الوقتية، وليس ذلك من

الحكمة، ويعتبر في سقوطه خروج وقت الصلاة السادسة، وعن محمد: أنه اعتبر الدخول. واعلم أن الترتيب يسقط بالنسيان أيضاً، ولم يذكره المصنف، ويسقط أيضاً بالظن المعتبر، كما إذا صلى الظهر وهو ذاكر أنه لم يصل الفجر: فسد ظهره، ثم قضى الفجر وصلى العصر وهو ذاكر للظهر: يجوز العصر، لأنه لا فائتة عليه في ظنه حال أداء العصر، وهو ظن معتبر. قوله: (كلها قديمة أو حديثة) صورة الفوائت القديمة: أن يترك الشخص صلاة شهر أو سنة فسقاً، ثم يقبل على الصلاة ندماً على سوء صنيعه، ثم يترك أقل من صلاة يوم وليلة، فهل تجوز له الوقتية مع تذكر ما فات أقل من يوم وليلة؟ قيل: يجوز، وهو القياس وعليه الفتوى، لأن الحديثة ليس أداؤها بأحق من القديمة، فتتحقق كثرة الفوائت. وقيل: لا يجوز، وهو الاستحسان مع تذكر الحديثة، زجراً له عن التهاون بالصلاة، وتجعل القديمة كأن لم تفت، بل تجعل كأن الحديثة هي الفائتة فحسب، فلا تتحقق الكثرة، فلا يسقط الترتيب. قوله: (فإن قضى واحدة من الستة عاد الترتيب) صورته: رجل ترك صلاة شهر، فقضاها إلا صلاة أو صلاتين، ثم صلى صلاة دخل وقتها وهو ذاكر لها، فإن ذلك لا يجوز، لعود الترتيب، وهو الذي اختاره صاحب الهداية أيضاً. واختار شمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام: أن الترتيب لا يعود بعد السقوط، وهو الأصح.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان أحكام من أدرك الإمام، وأحكام المسبوق قوله: (ومن دخل مسجداً قد أذن فيه: كره خروجه) أي من المسجد (قبل الصلاة) لما روي عن أبي الشعثاء قال: "كنا مع أبي هريرة في المسجد، فخرج رجل حين أذن المؤذن للعصر، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم" رواه أبو داود. قوله: (إلا أن يكون إماماً أو مؤذناً فذهب إلى جماعته) لأن لهما حاجة، فلا يلامان، لقوله عليه السلام: "من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج، لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة: فهو منافق" رواه ابن ماجة. قوله: (أو قد يكون قد صلى الفرض فخرج) لأن الأذان دعاء لمن لم يصل لا لمن صلى، إلا أن يقام للصلاة قبل خروجه: فحينئذ يقتدي بالإمام تطوعاً إن كان في الظهر والعشاء، موافقة للجماعة، ويخرج في العصر والفجر، لأن التطوع بعد صلاة العصر وبعد صلاة الفجر مكروه، وفي المغرب أيضاً، لأن التنفل بالثلاث بتيراء، وهو منهي عنه، ويمكن أن يصلح هذا بضم ركعة أخرى بعد سلام الإمام. قوله: (ولو جاء رجل والإمام) أي والحال أن الإمام (في صلاة الفجر، إن خاف فوت ركعة واحدة مع الإمام: صلى السنة خارج المسجد ثم اقتدى بالإمام، وإن خاف فوت الركعتين: ترك السنة واقتدى به). الأصل في ذلك: أن سنة الفجر لها فضيلة عظيمة، قال عليه السلام: "لا تدعوهما وإن

طردتكم الخيل" رواه أبو داود. وللجماعة فضيلة عظيمة لقوله عليه السلام: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" رواه مسلم. فإذا تعارضتا: يعمل بهما بقدر الإمكان، فمتى أدرك ركعة مع السنة: كان أحق من تفويت أحدهما، لأن بإدراك ركعة مع الإمام يكون مدركاً للصلاة مع الجماعة، قال عليه السلام: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" رواه مسلم وابن ماجة. وإذا خشي فوتهما: دخل مع الإمام، لأنه تعذر إحراز الفضيلتين، فيحرز أهمهما: وهو الجماعة، لأن ثوابها أعظم من ثواب السنة لما رويناه. ولأن في تركها وعيداً شديداً، وهو ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزماً من حطب، ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم" رواه أبو داود. قوله: (ولم يقضها) أي سنة الفجر بعد الفراغ من الصلاة لا قبل طلوع الشمس ولا بعده خلافاً لمحمد، وقد مر.

قوله: (وسنة الظهر يتركها في الحالين) يعني سواء خاف فوت ركعة أو ركعتين أو أكثر، لأنه ليس لسنة الظهر فضيلة سنة الفجر، ثم يقضيها بعد الفراغ من الفرض فيقدمها على الركعتين عند أبي يوسف، خلافاً لمحمد، وقد مر في فصل السنن. قوله: (ومن أدرك مع الإمام ركعة: حصل له ثواب الجماعة) لأن من أدرك آخر الشيء فقد أدركه، ولهذا لو حلف لا يدرك الجماعة: يحنث إذا أدرك الإمام في آخر الصلاة ولو في التشهد. قوله: (ولو أدرك الإمام راكعاً) أي حال كون الإمام راكعاً (فكبر) أي المقتدي (ووقف حتى رفع الإمام رأسه: لم يصر مدركاً لتلك الركعة) لأن الشرط هو المشاركة للإمام في أفعال الصلاة، ولم يوجد لا في القيام ولا في الركوع. وقال زفر والشافعي: يصير مدركاً لتلك الركعة. قوله: (ولو أدركه) أي الإمام (وهو في القيام ولم يركع معه حتى رفع الإمام رأسه، ثم ركع المقتدي: صار مدركاً لها) أي لتلك الركعة، لأنه أدرك حقيقة القيام، هذا بالاتفاق. قوله: (ولو ركع قبل الإمام فأدركه الإمام فيه) أي في الركوع (صح) لوجود المشاركة في جزء واحد (وكره للمخالفة) وقال زفر: لا يصح. قوله: (والمسبوق يقضي فائته بعد فراغ الإمام بقراءة) لأنه منفرد فيما سبق، فيأتي بالقراءة ولو كان قرأ مع الإمام، بخلاف ما لو قنت معه، فإنه لا يقنت فيما يقضي.

والفرق بينهما: أن القراءة مع الإمام غير معتد بها، لعدم الوجوب عليه خلف الإمام، وإذا قام لقضاء ما سبق: انفرد، فيجب عليه حينئذ، بخلاف القنوت، فإن قراءته خلف الإمام معتد بها، فلا يعيد في قضاء ما سبق من الوتر. قوله: (ولو أدرك الإمام ثالثة المغرب: قضى الأوليتين) أي الركعتين الأوليتين (بجلستين، يجلس على رأس كل ركعة) لأن ما صلى مع الإمام أول صلاته وهو ركعة، ويتشهد عقيبها لموافقة الإمام، فإذا صلى ركعة أخرى يتشهد، ثم يصلي ركعة أخرى ويتشهد أيضاً، لأنها آخر صلاته. قوله: (وما يقضيه المسبوق أول صلاته حكماً) يعني لا حقيقة، لأن أول صلاته ما صلى مع الإمام حقيقة. قوله: (فيستفتح فيه) - فائدة ما قبله- أي يستفتح في قضاء ما سبق، لا فيما أدرك مع الإمام، لأن الاستفتاح يكون في أول الصلاة، وأول صلاته ما يقضيه حكماً. قوله: (ويتشهد) أي المسبوق (مع إمامه) للموافقة (ولا يدعو) لأن الدعاء محلها آخر الصلاة. والله أعلم.

فصل في السهو

فصل في السهو أي في بيان أحكام السهو. قوله: (يجب للسهو لا للعمد سجدتان) قيل: إنهما سنة، وما قاله المصنف أصح، لأنه شرع لجبر النقصان، فصار كالدماء في الحج. قوله: (متى ترك واجباً) مثل ما إذا ترك الفاتحة أو أكثرها في الأوليتين، أو ضم السورة، أو التشهد كله أو بعضه في القعدة الأخيرة، أو ترك القعدة الأولى ونحوها. قوله: (أو أخره) أي أو أخر واجباً: مثل ما إذا أخر الفاتحة عن السورة ونحوها. قوله: (أو أخر ركناً) مثل ما إذا ترك السجدة الصلبية سهواً، فتذكرها في الركعة الثانية فسجدها، أو أخر القيام إلى الثالثة بالزيادة على قدر التشهد. قوله: (أو زاد في صلاته فعلاً من جنسها) مثل ما إذا ركع ركوعين، أو سجد ثلاث سجدات، قيد بقوله: (من جنسها) لأنه إذا زاد فعلاً من غير جنس الصلاة: تبطل صلاته. وذكر المصنف أسباب سجود السهو أربعة: ترك الواجب وتأخيره، وتأخير الركن، والزيادة. ويجب بتغير الواجب أيضاً، مثل: أن يجهر فيما يخافت، أو يخافت فيما يجهر. وبتقديم الركن: مثل أن يركع قبل أن يقرأ،

أو يسجد قبل أن يركع. ومحلها بعد السلام عندنا، وقبله عند الشافعي. ولنا قوله عليه السلام: "من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد السلام" رواه أبو داود. قوله: (ويجب على المأموم بسهو الإمام) تبعاً له في الوجوب والأداء، ولو تركه الإمام وافقه المأموم، ولا يسجد تبعاً له. قوله: (وسهو المأموم لا يوجب السجود) لأنه إن سجد هو: خالف إمامه، وإن سجد الإمام: يؤدي إلى قلب الموضوع. قوله: (ومن سها عن القعدة الأولى) أي تركها ساهياً (فإن تذكر وهو إلى القعود أقرب: قعد) لأن القريب من الشيء يأخذ حكمه، ولا شيء عليه لحصول الجبر بالرجوع (وإن كان إلى القيام أقرب: لم يعد ويسجد للسهو) لتركه الواجب. قوله: (ومن سها عن القعدة الأخيرة) أي تركها ساهياً 0وقام إلى الخامسة، عاد إليها) أي إلى القعدة الأخيرة (ما لم يسجد للركعة الخامسة، ويسجد للسهو لتأخيره الركن، وإن سجد للخامسة صار فرضه نفلاً، ويضم إليه ركعة سادسة) لأن التنفل بالخمس غير مشروع، وهذا عندهما، وعند محمد: بطل أصل الصلاة، فلا يضم ركعة أخرى. قوله: (وإن لم يضم: صح) أي وإن لم يضم إليها ركعة سادسة، صح نفله، لأن ضم السادسة ندب، لأنه مظنون، وصلاته غير مظنونة، خلافاً لزفر، لأن الشروع ملزم. قلنا: نعم إن شرع ملزماً، أما لو شرع مسقطاً فلا، إذ الضمان بالإلزام أو بالالتزام.

قوله: (ولو قعد في الرابعة) أي على آخر الركعة الرابعة من الصلاة الرباعية (ثم قام إلى الخامسة ولم يسلم) يظن أنها القعدة الأولى (عاد ما لم يسجد للخامسة، ويسجد للسهو) لأنه أخر الواجب، وهو إصابة لفظ السلام. قوله: (وإن سجد للخامسة) أي للركعة الخامسة (زاد سادسة) أي ركعة سادسة، فيتم فرضه لوجود أركانه، ويصير الزائد وهو الركعتان: نفلاً. قوله: (غير نائب عن سنة الظهر) يعني هذه الزيادة وهي الركعتان إذا كانت في آخر الظهر مثلاً، لا تنوب عن الركعتين التي بعد الظهر، وقيل: تنوبان، والأول أصح، لأن المواظبة عليه بتحريمة مبتدأة مقصودة، ولم يوجد. قوله: (ويسجد للسهو) يعني في هذه الصورة، جبراً للنقصان المتمكن في الفعل بالدخول فيه. قوله: (ومن سلم يريد الخروج من صلاته وعليه سهو، لم يخرج منها) أي من الصلاة (ويسجد للسهو، وبطلت نية القطع) لأن نيته تغيير الشروع، فيلغو. وأما إذا سلم من غير إرادة القطع، فكذلك: لا يخرج من الصلاة عند محمد وزفر، وعندهما: يخرج عن حرمة الصلاة خروجاً موقوفاً، فإن سجد: عاد إليها، وإن لم يسجد: لم يعد. وفائدة الاختلاف: فيما إذا اقتدى به غيره بعد السلام قبل سجود السهو: يصح عند محمد مطلقاً، وعندهما: إن عاد إلى سجود السهو: يصح، وإلا فلا. وفي انتقاض الطهارة بالقهقهة: فعنده: ينتقض، وعندهما: لا. قوله: (ومن شك: أصلي ثلاثاً أو أربعاً وذلك) أي الشك (أول ما عرض عليه: استأنف الصلاة بالسلام) لقوله عليه السلام: "إذا شك أحدكم في صلاته أنه كم صلى فليستقبل الصلاة" رواه خواهر زادة في مبسوطه. قلت: المراد في قوله: (أول ما عرض عليه) أن السهو ليس بعادة له، لأنه لم يسه في عمره قط، وإنما قال (استأنف الصلاة بالسلام) لأن السلام عرف محللاً، قال عليه السلام: "وتحليلها التسليم".

قوله: (وهو) أي السلام (أولى من الكلام) لما قلنا. قوله: (وإن كان الشك يعرض له كثيراً: يعمل بأكبر رأيه) أي بغالب رأيه، لأن غلبة الظن دليل شرعي عند الحاجة (وإن لم يكن له رأي: أخذ بالأقل) لقوله عليه السلام: "إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين" رواه أبو داود. صورته: إذا وقع الشك بين ركعة وركعتين: فإنه يبنى على ركعة، وإن وقع في الركعتين والثلاث. يبنى على الركعتين، وإن وقع في الثلاث والأربع: بنى على الثلاث، ويتم صلاته على ذلك، وعليه أن يتشهد عقيب الركعة التي يقع الشك أنها آخر صلاته احتياطاً، ثم يقوم ويضيف إليها ركعة أخرى ويتشهد ويسجد للسهو.

فصل في سجود التلاوة

فصل في سجود التلاوة المناسبة بين الفصلين ظاهرة: من حيث أنه يطلق على هذا سجدة التلاوة، وعلى ذلك: سجدة السهو. قوله: (وهي) أي سجدة التلاوة (أربع عشر سجدة) وهي: في آخر الأعراف، وفي الرعد والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والأولى في الحج، والفرقان، والنمل، والم تنزيل، وص، وحم السجدة، والنجم، وإذا السماء انشقت، والعلق. قوله: (منها: الأولى في الحج) إنما أفرد هذا بالذكر لبيان الاختلاف فيه، فعند الشافعي: في الحج سجدتان، وليس في ص سجدة، فتكون السجدة عنده: أربعة عشر أيضاً. وقال مالك: لا سجود في المفصل: في سورة النجم والانشقاق والعلق، وبه قال الشافعي في القديم. والأصح ما قلناه، لما روي عن عمرو بن العاص: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثالث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان" رواه أبو داود وابن ماجة. إلا أنا نقول: السجدة الثانية في الحج هي سجدة صلاة.

وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: "سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس" رواه البخاري. وعن أبي سعيد الخدري: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر {ص} فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه" رواه أبو داود. قوله: (وتجب على التالي والسامع) وقال الشافعي: تسن ولا تجب، ولنا: أن آيات السجدة كلها تدل على الوجوب، لأنها ثلاثة أقسام: قسم: أمر صريح، وهو للوجوب. وقسم: فيه ذكر فعل الأنبياء عليه السلام، والاقتداء بهم واجب. وقسم: فيه ذكر استنكاف الكفار، ومخالفتهم واجبة، ولهذا ذم الله تعالى من لم يسجد عند القراءة. قوله: (ووجوبها) أي وجوب سجدة التلاوة (على التراخي) حتى لا يأثم بالتأخير، لأن الأمر غير مؤقت، وقيل: على الفور. قوله: (ولا تجب على من لا تجب عليه الصلاة ولا قضاؤها) أي لا تجب سجدة التلاوة أداء وقضاء على من لا تجب عليه الصلاة، كالحائض، والنفساء، والصبي، والمجنون، والكافر، لأنهم ليسوا بأهل التلاوة، فلا تجب عليهم. قوله: (وتجب على سامعها منهم) أي من هؤلاء المذكورين، لتحقق السبب، وقيل: لا تجب بقراءة المجنون والصغير الذي لا يعقل. قوله: (ولو سمعها من الطوطي والنائم، قيل: لا تجب، وقيل: تجب) والأصح أنه لا يجب إذا سمعها من الطوطي، وكذا لا تجب إذا سمعها من المغمى عليه في رواية.

قوله: (وتجب على التالي الأصم) لوجود التلاوة منه. قوله: (وإن قرأها المأموم خلف الإمام لم يسجدها هو) أي المأموم (ولا الإمام في الصلاة وبعدها) أما المأموم فلأنه إذا سجد: فإن تابعه الإمام: يؤدي إلى قلب الموضوع، وإن لم يتابعه: كان المأموم مخالفاً لإمامه. وأما الإمام: فلأنه إذا سجد يكون قلب الموضوع أيضاً. وقوله: (في الصلاة وبعدها) قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وأما عند محمد: يسجدونها بعد الفراغ من الصلاة، لوجود سبب الوجوب وهو السماع والتلاوة، وبه قال الشافعي. ولهما: أن المقتدي محجور عن القراءة لنفاذ تصرف الإمام عليه، وتصرف المحجور عليه لا حكم له، فلا يسجدونها مطلقاً. قوله: (والسجدة الصلاتية لا تقضى خارج الصلاة) لأنها صلاتية، ولها مزية الصلاة، فتكون أقوى من غير الصلاتية، والكامل لا يتأدى بالناقص. قوله: (ومن قرأ آية السجدة ولم يسجدها حتى صلى في مجلسه) يعني في المجلس الذي تلاها فيه (وأعادها) أي أعاد تلك السجدة بعينها (وسجد لها: سقطتا) أي الأولى والثانية جميعاً (للتداخل، وجعلت الصلاتية مستتبعة للأولى) هذا جواب عامة الكتب. وفي نوادر أبي سليمان: تلزمه سجدة أخرى، إذا فرغ من الصلاة، سجد للتلاوة الأولى.

قوله: (ولو كان سجد للأولى) أي للتلاوة الأولى (قبل الصلاة، ثم أعادها في الصلاة: سجد لها أيضاً فيها) لعدم التداخل. قوله: (ومتى اتحد المجلس والآية: تداخلت) لأن لاتحاد المجلس أثراً في جمع المتفرقات، حتى لو تلاها فيه وسجد، ثم ذهب وجاء إليه فتلاها ثانية: سجد لها أخرى. والمجلس المتحد: كالمسجد، والجامع، والبيت، والسفينة سائرة كانت أو واقفة، والحوض، والغدير، والنهر الواسع، والدابة السائرة وراكبها في الصلاة، والمختلف: كالدابة السائرة وراكبها ليس في الصلاة، والماشي في الصحراء، والسابح في البحر، والنهر العظيم، والمتنقل من غصن إلى غصن. قوله: (ولا يختلف المجلس بمجرد القيام بل بالانتقال) حتى إذا قرأها وهو قاعد ثم قام فقرأها: لا تجب عليه إلا سجدة واحدة، ولا يختلف بخطوة أو خطوتين، بل بثلاث خطوات فصاعداً، ولا بلقمة بل بلقمتين، ولا بشربة بل بشربتين، ولا بكلمة بل بكلام كثير. قوله: (والسفينة الجارية: كالبيت) لأن جريانها غير مضاف إليه، قال الله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22]. ولهذا لا يقدر على إيقافها متى شاء، بخلاف الدابة: فإن قوائمها كرجليه، لقدرته عليها وقفاً وتسييراً. قوله: (ولو كررها) أي التلاوة (على دابة وهي تسير، فإن كان في الصلاة: اتحدت) أي السجدة، لأن حرمة الصلاة تجعل الأمكنة كمكان واحد (وإن لم يكن في الصلاة: تعددت) لما قلنا. قوله: (وإن تلاها على الدابة: أجزأته بإيماء) لأنه أداها كما وجبت. ولو تلاها عند طلوع الشمس فلم يسجد لها، حتى كان وقت الزوال فسجد: أجزأه، خلافاً لزفر، وكذلك لو تلاها راكباً، ولم يسجد لها حتى نزل ثم ركب فسجد: أجزأه، خلافاً لزفر، ولو تلاها على الأرض ثم ركب وأومأ: لم يجز، خلافاً للشافعي.

قوله: (وهي) أي سجدة التلاوة (كسجدة الصلاة بغير تشهد وسلام) لأنه المأمور به من غير زيادة، وعند الشافعي: يتشهد ويسلم. ثم اختلف أصحابنا: في أنه ماذا يقول في السجود؟ فقيل: يقرأ فيها: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وقيل: يقول: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} وقيل: يقول: "سبحان ربي الأعلى" قال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل في السجدة مراراً: "سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته" رواه أبو داود.

فصل في الميت

فصل في الميت لما بين حالة الإنسان في حياته، أخذ في بيان حالته في مماته، وحالته لا تخلو عنهما. قوله: (بوجه المحتضر) أي الذي احتضر للموت (إلى القبلة على شقه الأيمن) أي جانبه الأيمن، اعتباراً بحالة الوضع في القبر، واختار المتأخرون: الاستلقاء، لأنه أيسر لخروج الروح. قوله: (ويذكر عنده الشهادة) وهي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، لقوله عليه السلام: "لقنوا موتاكم قول لا إله إلا الله" رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة. والمراد به من قرب إلى الموت، حتى لا يلقن بعد الدفن كما هو مذهب الشافعي. قوله: (ولا يؤمر بها) أي بالشهادة، احترازاً عن أن يقول: لا أقول. قوله: (فإذا مات: غسل وكفن وصلي عليه) أما الغسل: فلأن الملائكة عليه السلام غسلوا آدم عليه السلام وقالوا لولده: "هذه سنة موتاكم".

وغُسِّل النبي صلى الله عليه وسلم حين مات، وفعله المسلمون بعده. وأما التكفين: فلما روت عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية" رواه البخاري ومسلم. وأما الصلاة عليه: فما روي عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للمسلم على المسلم أربع خلال: تشميته إذا عطس، ويجيبه إذا دعاه، ويشهده إذا مات، ويعوده إذا مرض" رواه ابن ماجة. تفريع: كيفية الغسل: أن يوضع الميت على سرير مجمر وتراً. أما السرير: فلينصب ماء الغسل منه، وأما التجمير: فللتعظيم، وأما الإيتار: فلقوله عليه السلام: "إن الله وتر يحب الوتر" رواه أبو داود.

ويغلى الماء بسدر لزيادة التنظيف، وإن لم يوجد: فالقراح، ويعرى غير عورته، وقال الشافعي: يغسل في ثيابه. ولا يمضمض ولا يستنشق، وقال الشافعي: يستحب ذلك. وكذلك لا يسرح رأسه ولحيته، ولا يقص شاربه وظفره، خلافاً للشافعي. ولا يختن. ثم ينشف بخرقة، ثم يلف في الكفن، ويجعل على رأسه ولحيته حنوط- لأن التطييب سنة- والحنوط: عطر مركب من أنواع الطيب، وعلى مساجده: كافور، وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان. وكيفية التكفين: أن يُكفن الرجل في ثلاثة أثواب: قميص وإزار ولفافة، يبسط اللفافة ثم الإزار فوقها، ثم يقمص ويوضع على الأرض، والقميص من المنكب إلى القدم والإزار واللفافة، وقال الشافعي: كلها لفائف ولا قميص فيها. هذا الكفن السنة، لما روينا، وكفن الكفاية: أن يقتصر على الإزار واللفافة، وكفن الضرورة: ما يوجد. وأما كفن السنة في حق المرأة: فهو خمسة أثواب: إزار ولفافة ودرع وخمار

وخرقة تربط بها ثدياها فوق الأكفان عند الصدر تحت اللفافة، وكفن الكفاية: ثوبان وخمار. والمراهق كالبالغ، وغير المراهق يكفن في خرقتين: إزار ورداء، وإن كفن في ثوب واحد: أجزأه. وكيفية الصلاة: أربع تكبيرات من غير رفع اليد في غير الأولى، خلافاً للشافعي، يحمد الله في الأولى، ويصلي على النبي في الثانية، ويدعو له وللميت وللمسلمين في الثالثة، ويسلم في الرابعة. وأولى الناس بالصلاة: السلطان إن حضر، وإلا فنائبه، وإلا فإمام المصر، وإلا فالقاضي، وإلا فصاحب الشرط، وإلا فخليفة الوالي، وإلا فخليفة القاضي، وإلا فإمام الحي، وإلا فالأقرب من ذوي قرابته على ترتيب العصبات: البنوة ثم الأبوة ثم الأخوة ثم العمومة، وعند الشافعي: الولي يقدم على الوالي. قوله: (وإن لم يصل عليه: صلي على قبره، ما لم يغلب على الظن تفسخه) إقامة للواجب بقدر الإمكان. والمعتبر في التفسخ: غالب الظن، فإن كان غالب الظن أنه يفسخ: لا يصلى عليه، وإن كان غالب الظن أنه لم يتفسخ: يصلى عليه، وإذا شك: لا يصلى عليه، وهذا الاعتبار هو الصحيح. قوله: (ومن استهل) الاستهلال من الصبي: ما يدل على حياته من بكاء أو تحريك يد ورجل، وأن يطرف بعينه. قوله: (غسل وصُلي عليه) لقوله عليه السلام: "إذا استهل الصبي صُلي عليه وورث" رواه ابن ماجة.

قوله: (وإن لم يستهل: غسل ولف في خرقة ولم يصل عليه) قيل: لا يغسل، لأنه في حكم الجزء، والمختار: أنه يغسل، لأنه نفس من وجه، وجزء من وجه، فيغسل اعتباراً بالنفوس، ولف في خرقة تكريماً لبني آدم، ولا يصلى عليه لما روينا. قوله: (ولا يصلى على باغ وقاطع الطريق) اقتداء بفعل علي رضي الله عنه في ترك الصلاة على البغاة، وقطاع الطرق في معناهم، وقال الشافعي: يصلى عليهم. وكذلك لا يصلى على قاتل نفسه في رواية عن أبي يوسف، لما روي عن جابر بن سمرة قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه" رواه مسلم. قوله: (والمشي خلف الجنازة أفضل) لقوله عليه السلام: "الجنازة متبوعة وليست بتابعة، ليس معها من تقدمها" رواه ابن ماجة. وقال الشافعي: المشي أمامها أفضل.

قوله: (ويطيل الصمت) يعني عند المشي مع الجنازة، لأن هذه الحالة حالة الاعتبار. قوله: (ويكره رفع الصوت بالذكر) يعني مع الجنازة، لأنه بدعة محدثة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (فإذا وصلوا إلى قبره كره الجلوس قبل وضعه) أي وضع الميت عن رقاب الناس، لإمكان الحاجة إلى التعاون في الوضع. قوله: (ويحفر القبر لحداً) لقوله عليه السلام: "اللحد لنا والشق لغيرنا" رواه أبو داود وابن ماجة. وقال عليه السلام: "احفروا ووسعوا وأحسنوا" رواه ابن ماجة. واختلفوا في عمقه: قيل: قدر نصف القامة، وقيل: إلى الصدر، وإن زادوا فحسن. قوله: (ويدخل الميت فيه من جهة القبلة) لأنه عليه السلام أخذ أبا دجانة من قبل القبلة. وعند الشافعي: يسبل، وهو أن توضع الجنازة على آخر القبر حتى يكون رأسه بإزاء موضع قدمه من القبر، ثم يسل من جنازته إلى قبره.

قوله: (ويضجع على شقه الأيمن موجهاً إليها) أي إلى القبلة، هكذا جرت السنة. قوله: (ويكره البناء على القبر) لأن القبر للبلى لا للبناء، ولما روي عنه عليه السلام أنه: "نهى عن تجصيص القبور" رواه ابن ماجة. قوله: (ولا يدفن في قبر أكثر من واحد) لعدم ورود الأثر بذلك (إلا للضرورة) لأنها مستثناة. قوله: (واتخاذ التابوت للمرأة حسن) لأنها أستر لها، ولا يتخذ للرجال، إلا أن تكون الأرض رخوة. قوله: (والشهيد) لما بين أحكام الموتى، أخذ في بيان الشهداء. (والشهيد: كل مسلم قتله كافر أو مسلم ظلماً قتلاً لم يجب به مال) قيد بقوله: (ظلماً) لأنه إذا قتله مسلم حقاً، مثل ما إذا قتل رجماً أو قوداً: لا يكون شهيداً. والشرط فيه: أن يكون القاتل معلوماً، فوجب عليه القصاص، مثل من قتله قطاع الطريق، أو البغاة، أو قتل دون نفسه أو أهله أو ماله، أو قتل مدافعاً عن مسلم أو ذمي. أما إذا لم يكن القاتل معلوماً، فوجد القتيل في محلة تجب فيه الدية والقسامة: فلا

يكون شهيداً. وقيد بقوله: (لم يجب به مال) لأنه إذا وجب به مال: لا يكون شهيداً. إلا في قتل الوالد ولده عمداً، فإن القصاص فيه ساقط لحرمة الأبوة، ويجب المال، والولد شهيد. قوله: (فلا يغسل دمه ولا ينزع عنه ثيابه) لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم" رواه أبو داود. قوله: (وينزع كل ما عليه من غير جنس الكفن) كالفرو والحشو والقلنسوة والخف والسلاح، لأنها ليست من جنس الكفن. قوله: (ويكمل كفنه) يعني إن كان ما عليه أقل من الكفن الشرعي، وينقص أيضاً إن كان زيادة على سنة الكفن. قوله: (ثم يصلى عليه) لما روي عن عقبة بن عامر قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين" رواه البخاري. وقال الشافعي: لا يصلى عليه. فإن قلت: الشهيد وصف بأنه حي بالنص، والصلاة شرعت على الميت لا على الحي؟ قلت: الشهيد حي في أحكام الآخرة، فأما في أحكام الدنيا: فهو ميت، حتى يقسم ميراثه، وتتزوج امرأته، والصلاة عليه من أحكام الدنيا.

فإن قلت: ما شرعت إلا بعد الغسل، فسقوطه دليل على سقوطها. قلت: غسله ليطهره، والشهادة طهرته، فأغنت عن الغسل، كسائر الموتى بعد ما غسلوا. قوله: (وكل جريح أكل أو شرب) إلى آخره، بيان الارتثاث الذي يخرج به الميت عن حكم الشهادة: وهو أن يأكل طعاماً أو يشرب ماءً أو دواءً، أو ينام أو يعالج بدواء أوي ضمه سقف، بأن نقل إلى تحت بيت أو خيمة، أو ينقل من المعركة حياً، أو يمر عليه وقت صلاة وهو حي يعقل، أو يوصي بأمر دنياوي: فهذه الأشياء تسقط الشهادة، فيغسل، لأنه نال بها مرافق الحياة، فخف أثر الظلم، فلم يكن في معنى شهداء أحد. وقيد بقوله: (لا لخوف وطء الخيل) لأنه إذا نقل من المعركة حياً لأجل خوف أن تطأه الخيل، لا يخرج عن كونه شهيداً، فلا يغسل، قالوا: لأنه ما نال به مرافق الحياة. قلت: فيه نظر، لأنا لا نسلم أن الحمل من المصرع ليس بنيل راحة. قوله: (أو مر عليه وقت صلاة وهي حي يعقل) قول أبي يوسف، وعنه: إن عاش بعد الجرح أكثر اليوم أو أكثر الليلة: يغسل، إقامة للأكثر مقام الكل. قوله: (أو أوصى بأمر دنياوي) احتراز عما إذا أوصى بأمر أخراوي، فإنه لا يخرجه عن الشهادة، فلا يغسل. ثم المرتث إذا غسل: فله ثواب الشهيد، كالغريق والحريق والمبطون والغريب، فإنهم يغسلون، وهم شهداء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم بالصواب.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة وجه المقارنة بالصلاة قد مر في أول الكتاب. وهي لغة: عبارة عن النماء، يقال: زكا الزرع: إذا نما، وقيل: عن الطهارة، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، أي تطهر. وشرعاً: "إعطاء شقص من النصاب الحولي إلى فقير غير هاشمي ولا مولاه، بطريق التمليك، بشرط قطع المنفعة له من كل وجه لله تعالى". قوله: (الزكاة تجب على كل حر بالغ عاقل مسلم). أقول: معنى يجب: يفترض، لأن الوجوب مستعمل بمعنى الفرض توسعاً، واحترز بقوله: (حر) عن الرقيق، ومعتق البعض، وبقوله: (بالغ عاقل) عن الصبي والمجنون. وقال الشافعي: يجب عليهما، لعموم النصوص. قلنا: الأهلية معدومة فيهما، فصارت كالصلاة. وبقوله: (مسلم) احترز عن الكافر، لعدم أهليته لأداء العبادات. قوله: (ملك نصاباً) صفة لقوله: (حر بالغ) لأنه بملك النصاب يصير غنياً، والزكاة إنما تجب على الغني. قوله: (ملكاً تاماً) احتراز عن الملك الناقص، حيث لا يجب فيه الزكاة، كالبيع قبل القبض: لا زكاة فيه، وكالدية على العاقلة، والمهر إذا كان ديناً، وبدل الصلح عن دم العمد، وبدل الخلع.

قوله: (رقبة ويداً) أي من حيث الرقبة، ومن حيث اليد، وبه احترز عن المكاتب، فإنه وإن كان مالكاً لما في يده من حيث اليد، لكنه غير مالك من حيث الرقبة. قوله: (وتم عليه) أي على النصاب (حول) لقوله عليه السلام: "ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول" رواه أبو داود. قوله: (وجوباً) مفعول لقوله: (يجب). قوله: (على الفور) وهو قول الكرخي وعامة أهل الحديث، وقيل: على التراخي، لأن جميع العمر وقت للأداء. وفائدته: أنه هل يأثم بالتأخير؟ وهل ترد شهادته أم لا؟ قوله: (وكل دين لآدمي يمنع بقدره) أي يمنع الزكاة بقدر الدين، سواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً، مثلاً: إذا كان له أربع مائة، وعليه دين مائتا درهم: فإنه يمنع زكاة المائتين، ولو كان له مائتان أو ثلثمائة: لا زكاة عليه أصلاً على هذا. وقال الشافعي: ديون العباد لا تمنع الزكاة، كفرض الحج. قلنا: إنه مشغول بحاجته، بخلاف الحج، لأنه لا مطالب له من العباد. وإنما أطلق بقوله: (كل دين لآدمي) ليتناول جميع أنواع الديون مثل: دين استهلاك، ومهر ولو مؤجلاً، وعشر، وخراج، ونفقة قريب وزوجة قضيت بها، وإذا لم

يقض بها: لا يمنع، وكذلك دين الزكاة منع عندنا، خلافاً لزفر، وأما ديون النذور والكفارات: لا تمنع، لأنه ليس لها مطالب من جهة العباد. قوله: (ومن مات وعليه زكاة أو صدقة فطر أو صوم نذر أو كفارة: سقطت) لأنها حق الله تعالى، ولا يؤخذ من تركته إلا إذا أوصى، فيؤخذ من الثلث، لأن تصرفه من الثلث لا غير. وقال الشافعي: يؤخذ من تركته، أوصى بها أو لم يوص. قوله: (ولا زكاة في غير الفضة والذهب والسوائم إلا بنية التجارة) وذلك كالعروض والأمتعة والسلع ونحوها، ولا زكاة فيها إلا بنية التجارة، لأنها مبادلة المال بالمال، والنية للتمييز والإخلاص، فلابد منها، بخلاف النقدين والسوائم. قوله: (ولا زكاة في مال الضمار، وهو) أي الضمار (ما لا يقدر عليه بنفسه ولا بنائبه) مثل المال الضائع والساقط في البحر، والمدفون في المفازة، والعبد الآبق، والمغصوب، والدين المجحود، إذا لم يكن عليهما بينة، والمودع عند من لا يعرفه، والذي أخذه السلطان مصادرة. وقال زفر: يجب في الضمار: الزكاة، لإطلاق النصوص. ولنا: قول علي رضي الله عنه: "لا زكاة في المال الضمار" موقوفاً ومرفوعاً. وفي المدفون في الأرض والكرم: اختلاف المشايخ. قوله: (ولا تصح) أي الزكاة (إلا بنية مقارنة للأداء أو لعزلها) لأن النية لابد منها لأداء العبادات، فالزكاة تؤدى متفرقاً، فربما يحرج في النية عند أداء كل دفعة، فاكتفى بها عند العزل تسهيلاً وتيسيراً.

قوله: (إلا إذا تصدق بكل النصاب فإنه لا يحتاج حينئذ إلى النية) لأن الزكاة جزء من المال، وكان متعيناً فيه، فلم يحتج إلى التعيين. وعند زفر والشافعي: لا تسقط. قوله: (نصاب الفضة: مائتا درهم) لما فرغ عن بيان من تجب عليه الزكاة ومن لا تجب، شرع في بيان نصب الأموال الزكوية، وقدم زكاة النقدين: لأغلبهما، وقدم الفضة على الذهب: لكثرتها بالنسبة إلى الذهب. قوله: (وزن سبعة) أي العشرة من الدراهم تكون وزن سبعة مثاقيل في الزكاة، ونصاب السرقة وتقدير الديات والمهر. وأصله: أن الدراهم كانت مختلفة في زمن عمر رضي الله عنه، وكانت على ثلاثة أصناف: صنف منها: كل عشرة: عشرة مثاقيل، كل درهم: عشرون قيراطاً، وصنف منها كل عشرة: ست مثاقيل، كل درهم: اثني عشر قيراطاً، وهو ثلاثة أخماس مثقال، وصنف منها: كل عشرة: خمسة مثاقيل، كل درهم: نصف مثقال، وهو عشرة قراريط. وكان المثقال نوعاً واحداً، وهو عشرون قيراطاً، وكان عمر رضي الله عنه يطالب الناس في استيفاء الخراج بأكبر الدراهم، ويشق عليهم ذلك، فالتمسوا منه التخفيف، فشاور عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمع رأيهم على أن يأخذ عمر من كل نوع ثلثه، فأخذ، فصار الدرهم بوزن أربعة عشر قيراطاً، فاستقر الأمر عليه في ديوان عمر رضي الله عنه. وهذا لأن ثلث العشرين قيراطاً: ستة وثلثان، وثلث الاثني عشر: أربعة، وثلث العشرة: ثلاثة وثلث، فالمجموع: أربعة عشر قيراطاً، فيكون عشر دراهم مثل وزن سبعة مثاقيل، لأن سبعة مثاقيل: مائة وأربعون قيراطاً، فكذا عشرة دراهم: مائة وأربعون قيراطاً. وذكر في الغاية: أن دراهم مصر: أربعة وستون حبة، وهو أكبر من درهم الزكاة، فالنصاب: مائة وثمانون درهماً وحبتان.

قوله: (أغلبها فضة) اعتباراً للغالب، حتى لو كان الغش غالباً على الفضة: يكون في حكم العروض، ولم يعتبر القليل: للضرورة، لأن الفضة لا تنطبع إلا بقليل غش. قوله: (وفيه خمسة دراهم) أي وفي مائتي درهم: خمسة دراهم لقوله عليه السلام: "هاتوا ربع العشور، من كل أربعين درهماً: درهم، وليس عليكم شيء حتى تتم مائتي درهم، فإذا كانت مائتي درهم: ففيها خمسة دراهم، فما زاد فعلى حساب ذلك" رواه أبو داود. قوله: (ثم في كل أربعين درهماً: درهم، والناقص عفو) يعني إذا زاد على المائتين شيء: لا شيء فيه عند أبي حنيفة حتى يبلغ أربعين درهماً، فإذا بلغ أربعين درهماً: ففيه درهم، وتكون الجملة ستة دراهم: خمسة من المائتين، ودرهم في الأربعين، ولا شيء فيما دون الأربعين. وقالا: ما زاد على المائتين فبحسابه، حتى إذا زادت عشرة على المائتين مثلاً: يعطي خمسة دراهم وربع درهم، وإذا زادت خمسة عشر: يعطي خمسة دراهم وربع درهم وثمن درهم، وإذا زادت عشرين: يعطي خمسة دراهم ونصف درهم، وعلى هذا لما مر من قوله صلى الله عليه وسلم: "فما زاد فعلى حساب ذلك". وله: قوله عليه السلام: "لا تأخذوا من الكسور شيئاً" رواه أبو بكر الرازي في شرح مختصر الطحاوي.

قوله: (ونصاب الذهب: عشرون مثقالاً) لما روت عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين ديناراً فصاعداً: نصف دينار، ومن الأربعين: ديناراً" رواه ابن ماجة. والمثقال: ستة دوانق، وهو عشرون، قيراطاً، كل قيراط: خمس شعيرات. قوله: (أغلبها ذهب) اعتباراً للغالب، وقد مر. قوله: (وفيه) أي في عشرين مثقالاً (نصف مثقال) لما رويناه. قوله: (ثم في كل أربعة مثاقيل: قيراطان) يعني إذا زاد على عشرين مثقالاً: لا شيء فيه عند أبي حنيفة على أن يبلغ أربعة مثاقيل، فإذا بلغ: ذلك ففيه قيراطان، والقيراطان من أربعة مثاقيل: ربع العشر، لأن عدد المثاقيل وهي أربعة، إذا ضرب في عدد قراريط المثقال وهو عشرون: يكون ثمانين، وعشر ثمانين: ثمانية، وربع الثمانية: اثنان، فيكون القيراطان: ربع عشر أربعة مثاقيل. فافهم. وقالا: ما زاد فبحسابه، وقد مر. قوله: (والتبر والحلي والآنية: نصاب) يعني في وجوب الزكاة. التبر: القطعة المأخوذة من المعدن. وقال الشافعي: لا زكاة في حلي النساء، وخاتم الفضة للرجال.

ولنا: ما روي عن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحاً من ذهب، فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ قال: "ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز" رواه أبو داود. والوضح: الحلي، وجمعه أوضاح. وما رواه الشافعي من حديث جابر: أنه عليه السلام قال: "ليس في الحلي زكاة" فلا أصل له، رواه البيهقي. قوله: (وما غلبه منهما) أي من الذهب والفضة (غش: فهو كعروض التجارة) فلا يزكى إلا بنية التجارة، ويقوم عند الزكاة إلى أن يخلص منه نصاب، فحينئذ لا يشترط فيهما نية التجارة ولا القيمة. قوله: (ونصاب العروض: أن يبلغ قيمتها نصاباً، لأنه الأنفع للفقراء) وذلك لرعاية حق الفقراء. وعن أبي يوسف: أن يقوم بما اشتري إذا كان الثمن من النقود، وإن اشتراها بغير النقود: يقومها بالغالب من النقود. وعن محمد: أنها تقوم بالنقد الغالب على كل حال، ويقوم بالمصر الذي هو فيه، وإن كان في مفازة: يقوم في المصر الذي يليه. قوله: (وكمال النصاب في طرفي الحول كاف) صورته: إذا كان النصاب كاملاً في ابتداء الحول وانتهائه، فنقصانه فيما بين ذلك لا يسقط الزكاة، لأن ما بين ذلك ليس بوقت الوجوب، ولا بوقت الانعقاد، فلم يعتبر كمال النصاب فيه، خلافاً لزفر. قوله: (ويضم الذهب والفضة والعروض بعضها إلى بعض بالقيمة) أما نفس الضم:

فليس فيه خلاف عندنا، ولكن الخلاف في كيفية الضم، فعند أبي حنيفة: يضم الذهب إلى الفضة بالقيمة، وعندهما: بالأجزاء، حتى إذا كان النصف من أحدهما، والنصف من الآخر، أو الثلث من أحدهما، والثلثان من الآخر، أو الربع من أحدهما، وثلاثة الأرباع من الآخر: يضم بالاتفاق. أما إذا كان من أحدهما النصف، ومن الآخر ربع تساوي قيمته النصف من الآخر: يضم عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، فيؤدي الزكاة من أي النوعين شاء، أو يؤدي من الدراهم حصتها، ومن الدنانير حصتها. وأما العروض: فعند أبي حنيفة: إن شاء قوم العروض، فيضم قيمتها إلى الذهب والفضة، وإن شاء قوم الذهب والفضة، فيضم القيمة إلى قيمة العروض، وعندهما: لا يضم الذهب والفضة بالقيمة، ولكن يقوم العروض فيضم باعتبار الأجزاء. قوله: (ويضم ما دون الأربعين) أي من الدراهم (إلى ما دون أربعة مثاقيل من الدنانير) صورته: إذا كان الفاضل على المائتين مثلاً: ثلاثين، وعلى عشرين مثقالاً: ثلاثة مثاقيل، يضم أحدهما إلى الآخر على الخلاف المذكور، فافهم. قوله: (ونصاب الإبل في كل خمس شاة) إلى قوله: (إلى مائة وعشرين) لما روى البخاري في صحيحه مسنداً إلى ثمامة بن عبد الله بن أنس، أن أنساً حدثه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: "بسم الله الرحمن الرحيم: هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط: في أربع وعشرين من الإبل فما دونها: من الغنم، في كل خمس: شاة، إذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين: ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين: ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين: ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة

وستين إلى خمس وسبعين: ففيها جذعة، فإذا بلغت يعني ستاً وسبعين إلى تسعين: ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة: ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة: ففي كل أربعين: بنت لبون، وفي كل خمسين حقة". قوله: (ثم يبدأ كما مر إلى خمس وعشرين) اعلم أنه لا خلاف بين الفقهاء إلى مائة وعشرين، ولكن اختلفوا في الزيادة عليها، فقال أصحابنا: يستأنف الفريضة، فيكون في خمس: شاة مع الحقتين، وفي العشر: شاتان، هكذا إلى مائة وخمس وأربعين: ففيها حقتان وبنت مخاض، إلى مائة وخمسين: ففيها ثلاث حقاق، ثم يستأنف الفريضة هكذا، في كل خمس شاة، فإذا بلغت مائة وخمسة وسبعين: ففيها ثلاث حقاق وبنت مخاض، إلى مائة وستة وثمانين: ففيها ثلاث حقاق وبنت لبون، إلى مائة وستة وتسعين: فيجب فيها أربع حقاق، إلى مائتين، ثم يستأنف الفريضة أبداً مثل ما استؤنفت من مائة وخمسين إلى مائتين. وقال الشافعي: إذا زادت على مائة وعشرين واحدة: ففيها ثلاث بنات لبون، وإذا صارت مائة وثلاثين: ففيها حقة وبنتا لبون، ثم يدور الحساب على الأربعينات والخمسينيات، فيجب في كل أربعين: بنت لبون، وفي كل خمسين: حقة، كما يدور في البقر على الثلاثينات والأربعينات. ولنا: كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم فكان فيه: "إذا بلغت إحدى وتسعين: ففيها حقتان، إلى أن يبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من ذلك، ففي كل خمسين: حقة، وفي كل أربعين: بنت لبون، فما فضل فإنه يعاد إلى أول فرائض الإبل، فما كان أقل من خمس وعشرين: ففيه الغنم، في كل خمس ذود: شاة" رواه أبو داود والطحاوي، وقال

أبو الفرج: قال أحمد بن حنبل: حديث ابن حزم في الصدقات صحيح. وما تمسك به الشافعي: بما روي في البخاري: "فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين: بنت لبون، وفي كل خمسين: حقة" فجوابه: أنا نعمل به أيضاً، ألا ترى أن في تسعين ومائة: يجب ثلاث حقاق وبنت لبون، وكذا في المائتين: أربع حقاق عندنا؟ فيحمل حديث الخصم عليه، لأن ظاهره يدل على زيادة فيها: أربعون، وفيها خمسون، ولكن تخلل الغنم بحديث عمروا بن حزم. قوله: (والبخت والعراب سواء) لأن اسم الإبل يتناولهما. والبخت: جمع بختي، وهو منسوب إلى بخت نصر، والعراب: جمع عربي، والأناسي: عرب. قوله: (ونصاب البقر ثلاثون، وفيه: تبيع إلى أربعين، ثم مسنة) لما روي عن معاذ ابن جبل: "أنه عليه السلام بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة: تبيعاً أو تبيعة ومن كل أربعين: مسنة" رواه الترمذي. قوله: (وما زاد بحسابه) أي وما زاد على الأربعين: يعتبر بحسابه، مثلاً: في الواحدة الزائدة: ربع عشر مسنة، أو ثلثي عشر التبيع، وفي التثنتين: نصف عشر مسنة،

أو ثلثي عشر تبيع، وفي الثلاثة: ثلاثة أرباع عشر مسنة، أو عشر تبيع، وهذا عند أبي حنيفة في رواية الأصل، وفي رواية الحسن: أنه لا يجب في الزيادة شيء إلى أن يبلغ خمسين، ثم فيها: مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع. وقالا: لا شيء في الزيادة حتى يبلغ ستين، وهو رواية عن أبي حنيفة. قوله: (ثم تبيعان) أي في ستين: تبيعان (إلى سبعين ففيها: مسنة وتبيع، إلى ثمانين ففيها: مسنتان، إلى تسعين ففيها: ثلاثة أتبعة، إلى مائة ففيها: تبيعان ومسنة). قوله: (وهكذا أبداً) أي وهكذا يتغير الفرض من التبيع إلى المسنة، ومن المسنة إلى التبيع، فليتدبر، فإنه ظاهر على الفطن الذكي. قوله: (والجواميس والبقر سواء) لأنها نوع منه، فتتناولهما النصوص الواردة باسم البقر. بخلاف ما إذا حلف لا يأكل لحم البقر، حيث لا يحنث بأكل الجاموس، لأن مبنى الأيمان على العرف، وفي العادة أوهام الناس لا يسبق إليه. قوله: (ونصاب الغنم أربعون) إلى آخره، ملا روى البخاري في صحيحه: في كتاب أبي بكر لأنس: "وفي صدقة الغنم في سائمتها: إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة: شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين: شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة: ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة: ففي كل مائة: شاة". قوله: (والضأن والمعز سواء) لأن النص ورد باسم الشاة والغنم، وهو شامل لها، فكانا جنساً واحداً، فيكمل نصاب أحدهما بالآخر. قوله: (ويؤخذ الثني منهما) أي من الضأن والمعز، وهو ما تمت له سنة (ولا يؤخذ الجذع) وهو ما أتى عليه أكثرها. وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه يجوز الجذع من الضأن، وهو قولهما وقول الشافعي. قوله: (وما ينتج بين ظبي وشاة، أو بقرة وحشية أو أهلية: يعتبر أمه) حتى إذا نزى

ظبي على شاة، أو بقرة وحشية على أهلية، فولدت شاة وبقرة: تلحق بأمها، حتى يجوز التضحية بها، ويكمل بها النصاب ونحوهما، وبالعكس: لا. قوله: (ونصاب الخيل اثنان: ذكراً وأنثى) هذا التقدير على قول أبي حنيفة، وقيل: ثلاثة، وعن الطحاوي: خمس، والأصح: أن لا تقدير، لعدم النقل به. قوله: (وفيه ديناران) أي أن الواجب في نصاب الخيل وهو اثنان: ذكر وأنثى: ديناران، يعطي عن كل فرس: ديناراً، أو يقومها، ويعطي عن كل مائتي درهم: خمس دراهم. وقال أبو يوسف ومحمد: لا زكاة في الخيل أصلاً إذا لم تكن للتجارة، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس على المسلم صدقة في عبيده ولا في فرسه" رواه البخاري ومسلم وابن ماجة وغيرهم. ولأبي حنيفة: ما روى جابر عن النبي عليه السلام أنه قال: "في كل فرس سائمة: دينار، وليس في الرابطة شيء" رواه الدارقطني وأبو بكر الرازي في شرحه لمختصر الطحاوي. والجواب عما روى البخاري: أن المراد من الفرس: فرس الغازي. قوله: (ولا يجب شيء في ذكور أو إناث محضة) فالمشهور عن أبي حنيفة: أنه لا يجب فيها شيء، وروي عنه: أنه يجب فيها أيضاً وإن كانت إناثاً محضة، فلذلك فيه روايتان. وإن كانت علوفة أو سائمة للحمل والركوب والجهاد: فلا يجب الزكاة فيها. وإن كانت للتجارة: يجب فيها الزكاة، وسواء كانت تعلف في المصر أو تسام في البراري، كذا في التحفة. قوله: (ولا في البغال) أي ولا تجب الزكاة أيضاً في البغال والحمير بالإجماع، لقوله عليه السلام: "ليس في الجبهة ولا في الكسعة ولا في النخعة: صدقة".

الجبهة: الخيل، والكسعة: الحمير، والنخعة: البقر العوامل. قوله: (ولا في الصغار الأتبعاء للكبيرة) صورته: إذا اشترى أربعين من الحملان، أو ثلاثين من العجاجيل، أو خمسة وعشرين من الفصلان، فهل ينعقد الحول عليها؟ فعندهما: لا ينعقد، وعند أبي يوسف: ينعقد، حتى لو حال الحول من حين ملكه: يجب فيها الزكاة. وأما إذا كانت كبيرة معها: ينعقد عليها الحول بالاتفاق، فتجب الزكاة عند تمام حولان الحول، ثم إذا أخذ الساعي منها: يأخذ الصغير عندنا، وقال زفر: يأخذ منها ما يأخذ في المسان. قوله: (وليس في العلوفة ولا في الحوامل والعوامل السائمة: زكاة) العلوفة بفتح العين: ما يعلف من الغنم وغيرها، الواحد والجمع سواء، والحوامل جمع حاملة، والعوامل جمع عاملة. وقال مالك: يجب فيها الزكاة. ولنا: ما روي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في العوامل صدقة" قال أبو الحسن القطان: إسناده صحيح. وعن جابر أنه عليه السلام قال: "ليس في المثيرة صدقة" رواه الدارقطني.

قوله: (والسائمة: الراعية أكثر الحول لا للركوب والعمل) هذا تفسير السائمة، وهي من سامت الماشية سوماً: أي رعت. قيد بقوله: (الراعية أكثر الحول) لأنه لو علفها نصف حول: لا تكون سائمة حتى لا يجب فيها الزكاة. وقيد بقوله: (لا للركوب والعمل) لأنه إذا كانت للركوب أو العمل: لا زكاة فيها. قوله: (وبنت مخاض: ما دخل في السنة الثانية) أي بنت مخاض: ما تمت له سنة ودخل في السنة الثانية، وإنما سميت بها: لأن أمها حملت بعدها وهي ماخض، يقال: مخضت الحامل مخضاً: أي أخذها وجع الولادة. قوله: (وبنت لبون: في الثالثة) أي بنت لبون: ما تمت له سنتان، ودخل في السنة الثالثة، سميت بها: لأن أمها حملت قبلها وولدت وهي ذات لبن. قوله: (والحقة: في الرابعة) أي الحقة: ما تمت له ثلاث سنين ودخل في السنة الرابعة، سميت بها: لأنها استحقت أن يحمل عليها. قوله: (والجذعة: في الخامسة) أي الجذعة: ما تمت له أربع سنين ودخل في السنة الخامسة، سميت بها: لأنها أطاقت الجذع، يقال جذع الدابة: أي حبسها على غير علف. قوله: (والتبيع: في الثانية) أي التبيع: ما تمت له سنة ودخل في السنة الثانية، سمي بذلك: لأنه يتبع أمه. قوله: (والمسنة: في الثالثة) أيا لمسنة: ما تمت لها سنتان ودخلت في السنة الثالثة. قوله: (وثني الغنم: ما بلغ سنة، وجذعها: ما بلغ أكثرها) أي جذع الغنم: ما بلغ أكثر السنة. والجذع من البقر: ابن سنة، والثني: ابن سنتين، والجذع من الإبل: ابن أربع سنين، والثني: ابن خمسة. قوله: (ومن وجب عليه السن) أي ذات سن (وصاحبه لا يملكه: أعطى أعلى منه وأخذ الزائد برضا الساعي) يعني: لا يجبر الساعي على القبول، لأن فيه شراء الزيادة، ولا إجبار فيه.

قوله: (أو أعطى أسفل منه مع الزائد مطلقاً) يعني سواء رضي الساعي أو لم يرض، حتى إذا لم يرض: يجبر على القبول. قوله: (ويجوز دفع القيمة في الزكاة والفطر والكفارة والعشر والخراج والنذر) وقال الشافعي: لا يجوز قياساً على الهدي والأضحية. ولنا: ما روى البخاري من حديث ثمامة: أن أنساً حدثه: أن أبا بكر كتب له الفريضة التي أمر الله ورسوله: "من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة: فإنها تقبل منه الحقة .. " الحديث. قوله: (والواجب أخذ الوسط من النصاب) حتى لو وجب عليه بنت لبون مثلاً: لا يؤخذ منه خيار بنت لبون في ماله، ولا أردأ بنت لبون فيه، وإنما يؤخذ بنت لبون وسط، وكذا غيرها، لقوله عليه السلام: "إياكم وكرائم أموالهم" رواه الجماعة. قوله: (ومطلق المستفاد يضم في الحول) اعلم أن الفائدة على ضربين: ما يكون من جنس الأصل، وما يكون من غير جنس الأصل، والثاني لا يضم إلى الأصل بالاتفاق، بل يستأنف له حول آخر، كما إذا كانت له إبل، فاستفاد بقراً أو غنماً في أثناء الحول. والأول لا يخلو: إما أن يكون حاصلاً بسبب الأصل: كالأولاد والأرباح: وذاك

يضم بالإجماع. وإن كان حاصلاً بسبب مقصود في نفسه كالموروث والمشتري والموهوب: يضم عندنا. خلافاً للشافعي. والمراد من الضم: أن تجب الزكاة في الفائدة عند تمام الحول على الأصل. قوله: (وغيرهما) أي غير الربح والولد (يضم إلى أقرب جنسه حولاً) صورته: إذا كان له نصاب من الفضة، ونصاب آخر من عروض التجارة، ثم وهب له دراهم: يضم الدراهم إلى الفضة إن كان نصاب الفضة أقرب إلى تمام الحول، ويضم إلى نصاب العروض إن كان أقرب إلى الحول. قوله: (والزكاة واجبة في النصاب دون العفو) هذا عندهما، وعند محمد وزفر: يجب فيما. قوله: (فلا يسقط شيء بهلاك العفو) فائدة الخلاف المذكور، فلهذا أتى بالفاء، ي لا يسقط شيء من الزكاة إذا بقي النصاب وهلك العفو، صورته: إذا كان له تسع من الإبل مثلاً، فحال عليها الحول، فهلك منها أربعة التي هي عفو: تسقط أربعة أتساع شاة عند محمد، ولو كان له مائة وعشرون شاة، فحال عليها الحول، فهلك منها ثمانون: سقط عند محمد ثلثا شاة وبقي الثلث. وعندهما: لا يسقط شيء من الفصلين جميعاً. قوله: (ولو هلك النصاب بعد وجوب الزكاة: سقطت) وقال الشافعي: إذا هلكت الأموال الباطنة بعد الوجوب وبعد التمكن من الأداء: لا يسقط. ولنا: أن المال محل الزكاة، فيفوت بفوات المحل. قوله: (ولو هلك بعضه) أي بعض النصاب (سقط بقدره) مثل ما إذا هلك مائة، وبقي مائة: يجب عليه زكاة المائة، وعلى هذا قوله: (ولو أهلك المالك: ضمن التعدي).

قوله: (ولو هلك بعد طلب الساعي فقولان: في قول مشايخ ما وراء النهر: لا يضمن) وهو اختيار أبي طاهر الدباس وأبي سهل الزجاجي، وهو الصحيح (وفي قول العراقيين: يضمن) وهو اختيار الكرخي. قوله: (ويصح التعجيل لسنتين، أو لنصب أيضاً بعد ما ملك النصاب) وقال مالك: لا يصح. ولنا: أنه عليه السلام:"استسلف من عباس زكاة عامين" رواه الشيخ أبو الحسين القدوري. وروي أن العباس: "سأل رسول الله صلى الله عليه سولم في تعجيل صدقته قبل أن تحل،

فرخص له في ذلك" رواه ابن ماجة. ومعنى قوله: (أو لنصب) أن يكون عنده نصاب، فيقدم زكاة نصب كثيرة ليست في ملكه بعدك فإنه يجوز، خلافاً لزفر. قوله: (المعدن والركاز) أي هذا بيان أحكام المعدن والركاز. والمعدن: اسم لمال خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلقها. والكنز: اسم لمال دفنه بنو آدم. والركاز: اسم لهما جميعاً، فقد يذكر ويراد به المعدن، وقد يذكر ويراد به الكنز. قوله: (ومن وجد معدناً من جوهر ذائب) كالذهب والفضة والنحاس والرصاص ونحوها (في أرض مباحة: ففيه الخمس) وقال الشافعي: لا شيء فيه، لأنه مباح سبقت يده إليه، إلا إذا كان ذهباً أو فضة: فإنه يجب فيه الزكاة إذا بلغ نصاباً، من غير اشتراط الحول. ولنا: قوله عليه السلام: "العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس" رواه البخاري وغيره. وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الركاز الخمس"، قيل: وما الركاز يا رسول الله؟ قال: "الذهب الذي خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلقت" رواه البيهقي. قوله: (والباقي له) أي أربعة أخماسه للواجد.

قوله: (ولو وجد) أي ولو وجد المعدن (في داره: فلا شيء فيه). هذا عند أبي حنيفة، وعندهما: فيه أيضاً، لإطلاق الحديث، وله: أنه مالك الدار بجميع أجزائها، والمعدن من أجزائها، ولا مؤنة في سائر أجزائها، فكذا في هذا الجزء. قوله: (بخلاف الكنز) يعني إذا وجد كنزاً في داره ففيه الخمس بالاتفاق، لأنه ليس من أجزاء الأرض، لأنه ليس بمركب فيها. قوله: (ولو وجد في أرضه) أي ولو وجد المعدن في أرضه (فروايتان) عن أبي حنيفة، على رواية الأصل: لا شيء فيه، وعلى رواية الجامع الصغير: فيه الخمس. قوله: (ومن وجد كنزاً: ففيه الخمس) هذا بالاتفاق، لقوله عليه السلام: "وفي الركاز الخمس". قوله: (ولو كان متاعاً) أي ولو كان الكنز متاعاً من الأثاث والسلاح وأثاث المنازل ونحوها. قوله: (والباقي لقطة في الضرب الإسلامي) يعني إذا وجد كنزاً وعليه علامة الإسلام، كما إذا كانت عليه كلمة الشهادة: يؤخذ الخمس، والباقي حكمه حكم اللقطة في التعريف والتصدق على نفسه إن كان فقيراً، وإلا على غيره إن كان غنياً. قوله: (وفي الجاهلية: هو للواجد إن كانت الأرض مباحة) يعني إذا كانت العلامة عليه جاهلية، كما إذا كان نقشها صليباً: ففيه الخمس بلا خلاف، لأنه دفين الكفار، وحكمه: حكم الغنيمة، وأربعة أخماسه للواجد إذا كانت الأرض مباحة: مثل المفاوز والجبال، سواء كان الواجد حراً أو عبداً، مسلماً أو ذمياً، صغيراً أو كبيراً، غنياً أو فقيراً، لأنهم من أهل الغنيمة. قوله: (وإن لم يكن) أي وإن لم تكن الأرض مباحة: مثل ما إذا كانت مملوكة (ففيه الخمس أيضاً، وأربعة أخماسه لمالكها أول الفتح). وهو الذي يسمى: المختط له، وهو الذي خصه الإمام بتمليك هذه البقعة حين فتح أهل الإسلام تلك البلدة، أو لورثته إن عرفوا، والمصنف ترك هذا.

وإن جهل مالكها أول الفتح وورثته: فلأقصى مالك الأرض يعرف في الإسلام أو ورثته، وإن لم يعرفوا: فلبيت المال. قوله: (فإن خفي الضرب) بأن اشتبه عليهم (يجعل جاهلياً في ظاهر المذهب) لأنه الأصل، وقيل: يجعل إسلامياً في زماننا، لتقادم العهد. قوله: (ولا شيء في الفيروزج) أي لا خمس، وهو حجر مضيء يوجد في الجبال، لقوله عليه السلام: "لا خمس في الحجر". وكذا لا يجب في الياقوت واللؤلؤ والعنبر والزمرد، وجميع الجواهر والفصوص من الحجارة. وعند أبي يوسف: يخمس العنبر واللؤلؤ، وكل حلية تستخرج من البحر. قوله: (وفي الزئبق: الخمس) خلافاً لأبي يوسف، فهو جعله: كالقير والنفط، وهما: كالرصاص. قوله: (زكاة النبات) أي هذا بيان أحكام زكاة النبات، وهي العشر. قوله: (يجب عشر كل نابت بماء السماء أو سيحاً) المراد من ماء السماء: المطر، ومن السيح: الماء الجاري، وذلك لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وانتصاب (سيحاً) بنزع الخافض، تقديره: أو بسيح. قوله: (إلا الحطب والقصب والحشيش) يعني لا شيء فيها، لأن سبب العشر الأرض النامية، وهذه الأشياء إذا غلبت على الأرض أفسدتها، ولا يحصل بها النماء.

قال في خلاصة الفتاوى: "لا عشر في الطرفاء، وشجر القطن، والباذنجان، ولا عشر في الأدوية: كالهليلج، ولا في الكندر، والصمغ". قوله: (من غير شرط نصاب أو حول أو عول أو بلوغ) هذا يتعلق بقوله: (يجب عشر كل ناب) وهذا عند أبي حنيفة، والخلاف ها هنا في موضعين: في اشتراط النصاب، وفي اشتراط البقاء، فعند أبي حنيفة: لا يشترط واحد منهما، وعندهما: كلاهما شرط. لهما في الأول: قوله عليه السلام: "ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق" رواه مسلم. وقوله عليه السلام: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" رواه أبو داود. وله: قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء والغيم: العشر، وفيما سقي بالسانية: نصف العشر" رواه مسلم وغيره. وقوله عليه السلام: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً: العشر، وفيما سقي بالنضح: نصف الشعر" رواه الجماعة غير مسلم. كل ذلك بلا فصل بين القليل والكثير، وتأويل ما روياه: زكاة التجارة.

ولهما في الثاني: قوله عليه السلام: "ليس في الخضروات صدقة" والزكاة ليست بمرادة، فتعين العشر. وله: ما روينا، ولأن السبب هي الأرض النامية، وقد يستنمى بما لا يبقى، فيجب العشر كالخراج، وما روياه: ليس بثابت. قوله: (وإن جعل أرضه محطبة أو مقصبة أو محشيشاً: وجب فيه العشر) لأنه حينئذ يقصد بها الاستغلال. قوله: (وما سقي بغرب أو دالية: ففيه نصف العشر) لما روينا. والغرب: الدلو العظيمة، والدالية: الدولاب وهي الناعورة. قوله: (وإن سقي سيحاً وبدالية: حكم بأكثر الحول) يعني إذا سقيت الأرض بالماء الجاري والدالية جميعاً: حكم بأكثر الحول، فإن كان السقي بالسيح في أكثر الحول: ففيها العشر كاملاً، وإن كان بالدالية: ففيها نصف العشر. قوله: (وفي العسل: العشر) هذا إذا أخذ من الأرض العشرية، وإن أخذ من أرض الخراج فلا شيء فيه. قوله: (ولو وجد في الجبل) واصلاً بما قبله، أي لو وجد العسل في الجبل: ففيه العشر، كالثمر الموجود فيه، لأنه مال. وعن أبي يوسف والحسن: إذا وجد في الجبال والمفاوز وعلى الأشجار والكهوف: فلا شيء فيه، وهو بمنزلة الثمار تكون في الجبال والأودية، ولا خراج فيها ولا عشر. ثم إذا وجب العشر: فعند أبي حنيفة: يجب في قليله وكثيره، وعند أبي يوسف: إذا بلغ قيمة خمسة أوسق: ففيه العشر، وعنه: لا شيء فيه حتى يبلغ عشر قرب، كل قربة خمسون مناً، وعنه: لا شيء فيه حتى يبلغ خمسة أمناء، وعند محمد: إذا بلغ

خمسة أفراق، والفرق: ستة وثلاثون رطلاً بالعراقي: ففيه العشر. قوله: (ولا يطرح أجر العمال ونفقة البقر قبل العشر) لإطلاق ما تلونا وما روينا، وكذلك في كري الأنهار وأجرة الحافظ ونحوهما. قوله: (ولا شيء في القير والنفط) هذا إذا كان في أرض عشر، ولو كانت في أرض خراج: يجب الخراج، لأنهما ليسا من الأموال، وإنما هما عين فوارة كعين الماء، غير أنه إن كان حريمه يصلح للزراعة: يجب فيها الخراج، وإلا فلا خراج فيه أيضاً. والقير: الزفت، ويقال: القار. والنفط بفتح النون: دهن يكون على وجه الماء. قوله: (مصارف الزكاة والعشر) مبتدأ، وقوله: (سبعة) خبره، ويجوز أن يكون التقدير: هذا بيان مصارف الزكاة، بأن يكون المبتدأ محذوفاً، وقوله: (سبعة) أي هي سبعة، على حذف المبتدأ أيضاً. والأصل فيه قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وهم ثمانية أصناف، وقد سقط منها المؤلفة قلوبهم، لأن الله تعالى أعز الإسلام وأغنى عنهم، وهو من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علته، إذ لا نسخ بعده عليه السلام. قوله: (الفقير) أي المصرف الأول: الفقير: وهو من له أدنى شيء. قوله: (والمسكين) أي المصرف الثاني: المسكين وهو من لا شيء له، وقيل: بالعكس، أي قيل: المسكين من له أدنى شيء، والفقير من لا شيء له، وهو قول الشافعي أيضاً. قوله: (والعامل) أي المصرف الثالث: العامل: يدفع إليه إن عمل بقدر عمله، فيعطيه ما يكفيه وأعوانه غير مقدر، بشرط أن يكون غير هاشمي، فإن الهاشمي لا يحل له عندنا، خلافاً للشافعي، وأما إذا كان غنياً: فلا يضر، وتحل له العمالة بالإجماع.

قوله: (والمكاتب) أي المصرف الرابع: المكاتب: يعان في حل رقبته. وعند مالك: يبتاع رقبته فيعتق، فيكون الولاء على مذهبه: لجماعة المسلمين دون المعتق. قوله: (والمديون) أي المصرف الخامس: المديون: يدفع إليه إذا لم يملك نصاباً فاضلاً عن دينه. قوله: (والغازي المنقطع) أي المصرف السادس: الغازي المنقطع، وهو تفسير قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]. فقال أبو يوسف: المراد منه الغازي المنقطع، لما روى البخاري في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن خالداً احتبس أدرعه

في سبيل الله"، ولا شك أن الدرع للحرب لا للحج. وقال محمد: الحاج المنقطع، لما روى البخاري أيضاً عن أبي لاس الخزاعي أنه قال: "حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج". فعلم بذلك أن سبيل الله: منقطع الحاج، لأنه عليه السلام صرف الصدقة إليه. قوله: (ومن ماله بعيد عنه) أي المصرف السابع: ابن السبيل: وهو من ماله بعيد عنه فيدفع إليه الزكاة لأنه فقير في الحال، وإن كان غنياً، بالنظر إلى حيث ماله. قوله: (وللمالك أن يعم المصارف وأن يخص بعضها) وهو قول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، وجماعة أخر، ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلاف ذلك، فكان إجماعاً. وعند الشافعي: لا يجوز، إلا إذا دفع إلى ثمانية أصناف، من كل صنف ثلاثة أنفس، إلا العامل. قوله: (ولا يدفع إلى غني وإن كان نصابه غير تام) لقوله عليه السلام: "لا تحل الصدقة

لغني" رواه أبو داوود والنسائي والترمذي. وقال مالك والشافعي: يجوز دفعها إلى غني الغزاة إذا لم يكن له شيء في الديوان، ولم يكن يأخذ من الفيء. قوله: (ولا إلى ذمي) أي ولا يدفع الزكاة إلى ذمي أيضاً، لما روي من حديث معاذ أنه عليه السلام قال: "أعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم" متفق عليه. وقال زفر: يجوز. قوله: (بخلاف غير الزكاة) يعني غير الزكاة مثل: صدقة الفطر والكفارات والصدقة المنذورة، فيجوز دفعها إليه عندهما، خلافاً لأبي يوسف والشافعي. وأما التطوع: فدفعه إليه جائز اتفاقاً. قوله: (ولا يبنى منها) أي من الزكاة (مسجد) لأن التمليك شرط فيها، فلم يوجد، وكذا لا يبنى منها القناطر والسقايات وإصلاح الطرقات وكري الأنهار والحج والجهاد، وكل ما لا تمليك فيه. قوله: (ولا يكفن بها) أي بالزكاة (ميت) لانعدام التمليك. قوله: (ولا يقضى دينه) أي دين الميت، لانعدام التمليك أيضاً. قوله: (ولا يعتق بها عبد) يعني لا يجوز أن يشتري بها عبد فيعتق. خلافاً لمالك، وقد مر.

قوله: (ولا يدفعها المزكي إلى أصوله) وهم الآباء والأجداد والأمهات والجدات من قبل الأب والأم وإن علوا (وفروعه) وهم الأولاد وأولاد الأولاد وإن سفلوا، لعدم تحقيق التمليك على الكمال. قوله: (وزوجته) أي ولا يدفعها أيضاً إلى زوجته، لعدم كمال التمليك، ولوجود الاشتراك في المنافع بينهما. قوله: (وزوجها) أي ولا تدفع المرأة زكاتها إلى زوجها أيضاً، هذا عند أبي حنيفة، وعندهما: يجوز، لقوله عليه السلام: "لها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة" رواه البخاري والطحاوي في شرح الآثار، وذلك حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن جواز إنفاق زينب على زوجها عبد الله وأيتام لها في حجرها. وله: أن المنافع متصلة، فلا يتحقق التمليك على الكمال. والجواب عن الحديث: أن زينب كانت صناع اليدين، ولم يكن لها مال يجب عليها فيه زكاة، فكانت صدقتها على عبد الله نافلة لا فريضة. قوله: (ومكاتبه) أي ولا يدفعها المزكي إلى مكاتبه ومدبره وأم ولده وعبده الذي أعتق بعضه، لعدم الإخراج الصحيح، لأن كسب المملوك لسيده، فصار كأنه دفع إلى نفسه.

وإذا دفع إلى مكاتب غيره: يجوز، وإن كان مولاه غنياً. قوله: (ولا إلى مملوك غني) لأن المملوك واقع للمولى، فلم يجز (ولا إلى ولده الصغير) لأنه يعد غنياً بيسار أبيه. قوله: (بخلاف امرأته) يعني إذا دفع إلى امرأة الغني يجوز، لأنها لا تعد غنية بيسار الزوج، وبقدر النفقة لا تصير موسرة، وكذلك يجوز دفعها إلى البنت الكبيرة الفقيرة لغني. قوله: (ولا إلى هاشمي) أي ولا يدفع أيضاً إلى هاشمي، لقوله عليه السلام: "نحن أهل بيت لا تحل لنا الصدقة" رواه البخاري. وقوله عليه السلام: "إنما هذه الصدقات هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد" رواه مسلم. والهاشمي: آل عباس وآل علي وآل جعفر وآل الحارث بن عبد المطلب. ذكرهم القدوري هكذا. وفائدة تخصيصهم بالذكر: جواز الدفع إلى بعض بني هاشم وهم بنو أبي لهب. وقال أبو نصر البغدادي: وما عدا المذكورين: لا تحرم عليهم الزكاة. قوله: (ومولاه) أي ولا يدفع أيضاً إلى مولى الهاشمي، لقوله عليه السلام: "إن الصدقة لا تحل لنا، وإن مولى القوم من أنفسهم" رواه الجماعة وصححه الترمذي.

قوله: (ولو ظنه مصرفاً) يعني دفع إلى رجل يظنه فقيراً (فأخطأ) بأن بان أنه غني أو هاشمي أو كافر، أو دفع في ليلة مظلمة فبان أنه أبوه أو ابنه (سقطت عنه الزكاة) ولا إعادة عليه عندهما، خلافاً لأبي يوسف، لأن خطأه ظهر بيقين. ولهما: ما روي عن معن بن يزيد قال: كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن" رواه البخاري. قوله: (إلا في مكاتبه) يعني لا تسقط في هذه الصورة، لأنه لم يوجد الإخراج عن ملكه، وكذلك إذا ظهر عبده أو مدبره أو أم ولده. قوله: (ولو أعطاه شاكاً: لم تسقط) يعني إذا دفع الزكاة إليه وهو شاك، ولم يتحر ولم يظهر أنه مصرف: لا يسقط، إلا إذا ظهر صوابه يقيناً، أو بأكبر رأيه، فحينئذ يجوز. وكذا إذا تحرى ووقع أكبر رأيه ليس بمصرف، فدفع مع ذلك: لا يجزئه، إلا إذا ظهر أنه فقير أو أجنبي بيقين أو بدليل غالب. قوله: (ويكره نقلها) أي نقل الزكاة (إلى بلد آخر) لأن فيه ترك رعاية حق الجوار (إلا إذا نقل إلى قريبه، أو قوم هم حوج من أهل بلده) لأن فيه صلة القريب، وزيادة دفع الحاجة. والحوج بضم الحاء وسكون الواو: جمع أحوج. قوله: (صدقة الفطر) أي هذا في بيان أحكام صدقة الفطر، أو تكون: صدقة الفطر مبتدأ، وقوله: (تجب) خبره.

الأصل في وجوبها: ما قال ابن عباس رضي الله عنه: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهوراً للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" رواه أبو داود. قوله: (على كل مسلم مالك نصاباً فاضلاً عن حاجته الأصلية) أما اشتراط الإسلام: فلوقوع القربة، وأما اشتراط ملك النصاب: فلقوله عليه السلام: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول" رواه البخاري. وهو أن يكون مالكاً لمقدار النصاب، فاضلاً عن مسكنه وثيابه وأثاثه وفرسه وسلاحه وعبيده. وقال الشافعي: تجب على كل من يملك زيادة على قوت يومه لنفسه وعياله. قوله: (وإن كان) أي النصاب (غير تام) يعني لا يشترط أن يكون النصاب نامياً لوجوب صدقة الفطر، لأنها تجب بالقدرة الممكنة دون الميسرة، بخلاف الزكاة. قوله: (عنه) أي عن نفسه (وعن ولده الصغير الذي لا شيء له، وعن عبيده للخدمة) لأن السبب رأس يمونه ويلي عليه، لما روي أنه عليه السلام: "أمر بصدقة الفطر على الصغير والكبير والحر والعبد بمن يمونون" رواه الدارقطني. وهؤلاء المذكورون بهذه الصفة على الكمال. قيد بقوله: (الذي لا شيء له) لأنه إذا كان له مال: تجب من ماله عندهما، خلافاً لمحمد.

وقيد بقوله: (عبيده للخدمة) لأنه إذا كان للتجارة: لا يجب عليه عنه شيء. قوله: (ولو أنه كافر) أي ولو أن العبد كافر، لإطلاق ما روينا. قوله: (بخلاف ولده الكبير) أي لا يجب عليه عن ولده الكبير، لأنه لا يمونه ولا يلي عليه، فانعدم السبب. قوله: (ولا عن زوجته أيضاً) لأنه لا يلي عليها ولا يمونها إلا لضرورة مصالح النكاح، ولهذا لا يجب عليه [غير] الرواتب نحو الأدوية. قوله: (ولو أدى عنهما) أي ولو أدى الوالد عن ولده الكبير، أو الزوج عن زوجته (على وجه التبرع وهما لم يعلما ذلك: أجزأهما استحساناً) لأنه مأذون فيه عادة. قوله: (ولا يجب عن مكاتبه) لعدم الولاية عليه، وكذا، المستسعى، ذكره صاحب التحفة. قوله: (بخلاف مدبره وأم ولده) يعني يجب على المولى أن يخرج صدقة الفطر عن مدبره وأم ولده لأنه يلي عليهما. قوله: (ولا عن عبد) أي ولا يجب عن عبد أو عبيد بين موليين، لوجود الولاية والمؤنة في حق كل منهما. وقال أبو يوسف ومحمد: يجب على كل واحد منهما ما يخصه من الرءوس دون الأشقاص، ففي الثلاثة: يجب لأجل العبدين، وفي الخمسة: يجب لأجل الأربعة. قوله: (وهي) أي صدقة الفطر (نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير) وقال

الشافعي: من كل نوع صاع، لما روي عن أبي سعيد الخدري قال: "كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب" رواه البخاري. ولنا: ما روي أنه عليه السلام "قام خطيباً، فأمر بصدقة الفطر: صاع تمر أو صاع شعير عن كل رأس، أو صاع بر أو قمح بين اثنين، عن الصغير والكبير والحر والعبد" رواه أبو داود. وروي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب قبل يوم العيد بيومين فقال: "إن صدقة الفطر مد من بر على كل إنسان، أو صاع مما سواه من الطعام" رواه الدارقطني. والجواب عن حديث أبي سعيد: أنه ليس بحجة علينا، لأنه أخبر بفعل نفسه حيث قال: كنا نخرج، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ليس بموجب، ففعل الصحابة أولى بأن لا يكون موجباً. والعجب من الشافعي أنه لا يرى تقليد الصحابي واجباً، فكيف قلد أبا سعيد في هذه المسألة؟ قوله: (أو دقيقه) أي دقيق البر (أو سويقه أو دقيق الشعير وسويقه) كلها جائز عندنا، خلافاً للشافعي. ولنا ما روى سفيان بإسناده إلى أبي سعيد قال: "كنا نخرج على عهد

رسول الله صلى الله عليه وسلم صاع تمر أو شعير أو أقط أو زبيب أو صاعاً من دقيق" رواه أبو داود. قوله: (وفي الزبيب روايتان) في رواية مشهورة عن أبي حنيفة: يجب نصف صاع، لأن نصف صاع لما وجب من التمر: ففي الزبيب أولى، لأنه أعلى قيمة منه، وفي رواية: يجب صاع، كما هو قولهما. قوله: (والدقيق أفضل من البر) وهو اختيار الفقيه أبي جعفر، ذكره في الهداية. قوله: (والدارهم أفضل منهما) أي من الدقيق والبر، وهو رواية عن أبي يوسف. قوله: (وقيل: البر أفضل منهما) أي من الدارهم والدقيق، لأنه أبعد عن الخلاف، وهو رواية أبي بكر الأعمش. قوله: (والصاع: ثمانية أرطال بالعراقي) وهذا عندهما: وعند أبي يوسف: خمسة أرطال وثلث رطل، وهو مذهب أهل الحجاز، وقيل: لا خلاف بينهم في الصاع، وإنما أبو يوسف لما حرر صاع أهل المدينة: وجده خمسة أرطال وثلث رطل برطل أهل المدينة، وهو أكبر من رطل أهل بغداد، لأنه ثلاثون أستاراً، والرطل البغدادي: عشرون أستاراً، فإذا قابلت ثمانية أرطال بالبغدادي بخمسة أرطال وثلث بالمدني: تجدهما سواء. قوله: (ووقتها) أي وقت صدقة الفطر (فجر يوم الفطر) وبه أخذ الشافعي في القديم.

وقال في الجديد: وقتها: غروب الشمس من آخر يوم من رمضان. ولنا: ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير" رواه أبو داود. والفطر من رمضان: بطلوع الفجر من يوم الفطر. وإذا ثبت أن وقت الوجوب يدخل بطلوع الفجر، فمن مات قبل ذلك: سقطت فطرته، لأنه يدرك وقت الوجوب. ومن أسلم أو ولد بعد طلوع الفجر: لم تجب فطرته، لأنه لم يكن وقت الوجوب من أهل الفطرة. قوله: (ويستحب دفعها قبل الخروج إلى صلاة العيد) لما روى ابن عمر قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" رواه أبو داود. قوله: (ويصح تعجيلها مطلقاً) أي سواء عجل قبل الفطر في رمضان، أو قبل رمضان، لوجود أداء المسبب بعد وجود السبب، كالتعجيل في الزكاة. وعند خلف بن أيوب: يجوز تعجيلها بعد دخول رمضان لا قبله وقيل: يجوز

تعجيلها في النصف الأخير من رمضان، وقيل: في العشر الأخير. وعند الحسن بن زياد: لا يجوز تعجيلها أصلاً، والأصح ما ذكره المصنف. قوله: (ولا تسقط بالتأخير) لأنه يقدر على مثلها من عنده قربة، بخلاف الأضحية: حيث تسقط إذا فاتت عن وقتها، لأنه لا يقدر على الإتيان بمثلها، لأنها لم تشرع قربة في سائر الأيام. وقال الحسن بن زياد: تسقط صدقة الفطر بالتأخير كالأضحية والله أعلم.

كتاب الصوم

كتاب الصوم ذكر الصوم عقيب الزكاة، وإن كان الوجه تقدم الحج عليه من حيث أن له مناسبة بالزكاة في المال، لأن الحج عبادة مركبة من البدني والمالي، والصوم عبادة بدنية لا تعلق لها بالمال أصلاً، والمفرد قبل المركب. وهو لغة: إمساك مطلقاً. وشرعاً: إمساك مخصوص في وقت مخصوص من شخص مخصوص بنية. قوله: (يصح صوم رمضان من الصحيح المقيم بمطلق النية) مثل ما إذا قال: نويت أن أصوم، ونية النفل مثل ما إذا قال: نويت أن أصوم نفلاً، ونية واجب آخر مثل ما إذا كان عليه رمضان آخر ونواه في هذا الرمضان، ففي جميع ذلك يصح نيته عن رمضان، لأنه متعين ولا يحتاج إلى التعيين. وقال الشافعي: لا يجوز إلا بالتعيين عن فرض الوقت. وإنما قيد بقوله: (من الصحيح المقيم) لأن المريض إذا نوى واجباً آخر: فعن أبي حنيفة روايتان: في رواية: يقع عما نوى، وفي رواية وهي قولهما: يقع عن رمضان، وهي الأصح. وكذلك المسافر إذا نوى واجباً: يقع عما نوى عند أبي حنيفة، وعندهما: عن فرض الوقت، ولو نوى النفل: ففيه روايتان. قوله: (والنذر المعين) مثل ما إذا نذر العشر الأول من رجب مثلاً: يصح بمطلق

النية، مثل ما إذا قال: نويت أن أصوم، وبنية النفل مثل ما إذا قال: نويت أن أصوم نفلاً. قوله: (لا بنية واجب آخر) أي لا يصح أداء النذر المعين بنية واجب آخر. والفرق بينه وبين صوم رمضان: حيث يصح صوم رمضان بكل ما نوى، ولا يصح النذر المعين بنية واجب آخر، لأن التعيين في رمضان من جهة الشارع، وليس له إبطال هذا، وفي النذر: التعيين من جهة الناذر، وله إبطال هذا فيما له هو النفل، لا فيما عليه: وهو الواجب الآخر، فافهم. قوله: (وكلاهما) أي صوم رمضان، والنذر المعين (يصح بنية من الليل والنهار قبل الضحوة الكبرى) وقال الشافعي: الصوم الواجب لا يجوز إلا بنية من الليل لقوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم يبيت النية من الليل" رواه أبو داود والترمذي وحسنه. ولنا ما روى محمد في كتاب الاستحسان: "أن أعرابياً شهد بهلال رمضان بعد الصبح، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته وأمر الناس بالصوم". ولأن النية لما جاءت في الليل وهو ليس بوقت للصوم، فلأن تجوز في النهار وهو وقت الصوم أولى. والحديث محمول على نفي الكمال، كقوله عليه السلام: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد".

قوله: (لا بعدها) أي لا يصح كلاهما بنية من النهار بعد الضحوة الكبرى، كالنفل: فإنه يجوز بنية من النهار قبل الضحوة الكبرى، وهي ما قبل نصف النهار. وذكر القدوري: ما بينه وبين الزوال، وما ذكره المصنف هو الأصح، لأن النية إنما تصح إذا وقعت في الليل أو في أكثر النهار، والنية الواقعة قبل نصف النهار تكون واقعة في أكثر النهار، بخلاف ما قال القدوري، حيث لا تقع النية في أكثر النهار لا محالة، لأن نصف اليوم من طلوع الفجر الصادق إلى الضحوة الكبرى، لا وقت الزوال. قوله: (والأفضل التبييت) أي النية من الليل، ليكون أبعد من الخلاف. قوله: (ولو نوى المريض والمسافر برمضان واجباً آخر: صح) هذا عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، وقد مر. قوله: (والنذر المطلق) مثل ما إذا نذر عشرة أيام مثلاً من غير تعيين الأيام (والكفارة، وقضاء رمضان، ونحوها: لا يصح بنية في النهار) إذ ليس لها وقت متعين، فلم يتعين لها إلا بنية من الليل. قوله: (ويستحب طلب الهلال ليلة ثلاثين من شعبان ورمضان) لقوله عليه السلام: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له" رواه البخاري. ومعنى فاقدروا له: أي قدروا عدده باستيفاء عدد الثلاثين. قوله: (فإن لم تروا: فلا صوم ولا فطر) أي فإن لم تروا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان: لا تصوموا، وإن لم تروه ليلة ثلاثين من رمضان: لا تفطروا، لما روينا. قوله: (ويكره صوم يوم الشك) ووقوع الشك: بأن يغم عليهم هلال رمضان أو

هلال شعبان، وإنما يكره لقوله عليه السلام: "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة" رواه أبو داود والنسائي. قوله: (إلا أن يكون ورداً له) أي إلا أن يوافق يوم الشك يوم ورده الذي كان من عادته أن يصوم فيه، فحينئذ لا يكون مكروهاً لقوله عليه السلام: "لا تقدموا صوم رمضان بيوم أو يومين غلا أن يكون صوم يصومه رجل فليصم ذلك الصوم" رواه أبو داود. فعلم بهذا أن المراد من قوله عليه السلام: "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال ... " الحديث. غير التطوع، حتى لا يزاد على صوم رمضان كما زاد أهل الكتاب على صومهم. وقال الشافعي: يكره التطوع، لقوله عليه السلام: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" رواه أبو داود. ولنا: ما روينا، وما رواه: غير محفوظ، قاله أحمد. قوله: (ومن رأى الهلال) أي هلال رمضان (وحده فردت شهادته: صام)

لقوله عليه السلام: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" رواه البخاري. قوله: (فإن أفطر بعد الرد) أي بعد أن رد القاضي شهادته (لزمه القضاء لا غير) أي لا الكفارة، لأن تفرده بالرؤية يوهم الغلط فيه، فتقع الشبهة، والكفارة تندرئ بالشبهات. قوله: (وكذا لو أفطر قبله) أي وكذا لا تجب الكفارة لو أفطر قبل رد القاضي شهادته عند البعض، وقيل: يجب، والأول أصح، لما بينا من ثبوت الشبهة. قوله: (ولو صام ثلاثين يوماً لم يفطر وحده) لأن وجوب الصوم عليه في الابتداء كان للاحتياط، وهنا الاحتياط في تأخير الإفطار، لأنه يحتمل أن الهلال اشتبه عليه، ومع هذا لو أفطر: لا كفارة عليه للحقيقة التي عنده. قوله: (ويقبل في هلال رمضان في الغيم شهادة واحد عدل) لأنه أمر ديني، فيقبل فيه خبر الواحد، ذكراً كان أو أنثى، حراً كان أو عبداً، أو أمة، أو محدوداً في قذف. وعن أبي حنيفة: أنه لا يقبل شهادة المحدود في القذف: لأنه شهادة من وجه، والأول أصح، لأنه من باب الإخبار. قوله: (فإذا صاموا ثلاثين يوماً ولم يروا هلال شوال: ففي الفطر خلاف) ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة: لا يفطرون احتياطاً، وفي رواية عن محمد: يفطرون. قوله: (بخلاف شهادة اثنين) يعني بخلاف ما إذا صام الناس بشهادة اثنين، ثلاثين يوماً ولم يروا الهلال (حيث يفطرون بلا خلاف). قوله: (وفي الصحو) يعني وفيما إذا لم يكن بالسماء علة من سحاب أو دخان (لابد من أهل محلة) لأن التفرد في مثل هذه الحالة يوهم الغلط، فوجب التوقف في خبره، حتى يكون جمعاً كثيراً يقع بهم العلم، أو خمسين رجلاً مثل القسامة. قوله: (وفي هلال شوال في الغيم لابد من رجلين) أي لابد أن يشهد رجلا، أو رجل وامرأتان، عدولاً أحراراً غير محدودين، كما في سائر الأحكام، لأن فيه منفعة العباد وهي الإفطار، فأشبهت الشهادة على حقوق الناس.

قوله: (كالأضحى) يعني كما أن هلال الأضحى لابد له من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين لأن فيه منفعة العباد أيضاً من نحو التوسع بلحوم الأضاحي، والإحلال في الحج. وعن أبي حنيفة: أن هلال الأضحى كهلال رمضان، ذكره في الخلاصة عن النوادر. قوله: (ولا يلزم أحد المصرين برؤية الآخر) أي لا يلزم الصوم ولا الإفطار أحد المصرين برؤية أهل المصر الآخر، لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم، إلا إذا اتحدت المطالع فحينئذ يلزم أحد المصرين برؤية الآخر، حتى إذا صام أهل أحدهما ثلاثين يوماً، وأهل الآخر تسعة وعشرين يوماً: يجب عليهم قضاء يوم. قوله: (ولو أكملوا شعبان ثم صاموا رمضان فكان ثمانية وعشرين، فإن كانوا عدوا شعبان من رؤية هلاله: قضوا يوماً) لأنهم لما عدوا أيام شعبان من رؤية الهلال، وظهر رمضان ثمانية وعشرين يوماً: علم أنهم أكلوا يوماً من رمضان، فيقضون يوماً (وأما إذا لم يعدوا أيام شعبان من رؤية الهلال: قضوا يومين) لاحتمال أن يكون رمضان كاملاً، فيكون أكلهم يومين، فيصومون يومين. قوله: (ولو رأي الهلال قبل الزوال: فهو من الليلة الماضية) يعني إذا رأو الهلال يوم الشك، فإن كانوا رأوه قبل الزوال: يكون من الليلة الماضية، ويكون ذلك اليوم من شهر رمضان، وإن كانوا رأوه بعد الزوال: فهو لليلة المستقبلة. فهذا التفصيل رواية عن أبي يوسف. وفي ظاهر الرواية: هو لليلة المستقبلة، سواء كان قبل الزوال أو بعده، حتى لا يكون ذلك اليوم من شهر رمضان. وإذا رأوا هلال الفطر قبل الزوال، قال أبو يوسف: أفطروا، وإن رأوه بعده: لم يفطروا. وقال قاضي خان: إن أفطروا لا كفارة عليهم، لأنهم أفطروا بتأويل، وقال عليه السلام: "أفطروا لرؤيته".

وعندهما: لا يعتبر رؤيته بالنهار، ووقته العشية، ولا يعتبر قبله ولا بعده. قوله: (ووقت الصوم: من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس) لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. قوله: (والصوم: هو الكف عن الأكل والشرب والجماع نهاراً مع النية) هذا حد الصوم شرعاً، قلت: هذا الحد غير مانع، لأنه لا يخرج الحائض والنفساء والكافر، ولو قال: مع النية من أهله: لخرج هؤلاء، قيد به الشيخ حافظ الدين النسفي في مختصره.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان ما يفسد الصوم وما لا يفسد وما يوجب القضاء وما لا يوجب قوله: (ومن أكل أو شرب أو جامع ناسياً لم يفطر) لقوله عليه السلام: "إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه" رواه البخاري. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد بالحديث: الإمساك، تشبهاً بالحائض إذا طهرت؟ قلت: أمره بإتمام صومه وبالإمساك تشبهاً: لا يتم صومه، والمأمور به هو الإتمام للصوم، والذي يؤيد هذا المعنى: ما روي أنه عليه السلام قال: "إذا أكل الصائم ناسياً أو شرب ناسياً فإنما هو رزق ساقه الله إليه فلا قضاء عليه" رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح. وإذا ثبت في الأكل والشرب ثبت أيضاً في الجماع دلالة، لأنه في معناه. قوله: (بخلاف المكره والمخطئ) يعني إذا أكل أو شرب أو جامع مكرهاً أو مخطئاً: أفطر، خلافاً للشافعي، لأن المفطر وصل إلى جوفه، فيفسد صومه، وهو القياس بالناسي، إلا أنا تركناه بما رويناه. والفرق بين صورة الخطأ والنسيان: أن الخاطئ ذاكر للصوم لكنه غير قاصد للشرب، والناسي قاصد للشرب لكنه ليس بذاكر للصوم، وهما على طرفي نقيض. قوله: (ولو أنزل باحتلام أو فكر أو نظر أو أصبح جنباً من جماع أو ادهن أو قبل: لم يفطر) أما الإنزال بالاحتلام: فلا يفطر، لقوله عليه السلام: "لا يفطر من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم" رواه أبو داود.

وأما الإنزال بالفكر أو النظر: فكذلك لا يفطر لعدم المباشرة. وأما إذا أصبح جنباً من جماع: فلأن الطهارة عن الجنابة ليست بشرط لصحة الصوم. وأما الادهان: فلأنه غير مناف، والداخل من المسام لا من المسالك لا ينافيه، كما لو اغتسل بالماء البارد ووجد برده في كبده. وأما التقبيل: فلما روى أبو سعيد الخدري أنه عليه السلام: "رخص في القبلة للصائم، والحجامة" رواه الدارقطني. وعن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملك لإربه" رواه البخاري وأبو داود. قوله: (ولو أنزل بقبلة أو لمس: لزمه القضاء لا غير) يعني لا الكفارة لقصور الجناية. قوله: (وتباح القبلة للصائم إن أمن على نفسه) أي إن أمن من الإنزال والجماع، لما روينا (ويكره إن لم يأمن) والشافعي أباحها في الحالتين. والمس والمباشرة: كالقبلة، لما روى أبو هريرة أنه عليه السلام: "سأله رجل عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب" رواه أبو داود بإسناد جيد.

قوله: (ولو دخل حلقه ذباب أو غبار أو دخان وهو ذاكر لصومه: لم يفطر) لأنه لا يستطيع الامتناع عنه. قوله: (بخلاف المطر والثلج) يعني إذا دخل حلقه مطر أو ثلج: يفطر، لإمكان الامتناع عنه، بأن آواه خيمة أو سقف. قوله: (ولو تنخع وابتلع ما تنخع) وهو النخامة، وهي ما تنزل من الخيشوم (أو ابتلع ريقه المغلوب بالدم: لم يفطر) لتعذر الاحتراز عنه، وقيل في الثانية: يفطر. قوله: (وإن ابتلع ما بين أسنانه من عشائه دون حمصة: لم يفطر) لعدم إمكان الاحتراز عنه، والعشاء بفتح العين: العشوة. قوله: (إلا إذا أخرجه بيده ثم أكله: يفطر) لإمكان لاحتراز عنه. قوله: (وبقدر الحمصة يفطر) يعني إذا ابتلع ما بين أسنانه من عشائه بقدر الحمصة: يفطر ولا كفارة عليه. وعند زفر: يفطر في قدر الحمصة وما دونها، وعليه الكفارة أيضاً في قدر الحمصة. قوله: (وإن ابتلع سمسمة لزمته الكفارة) وقيل: لا تجب الكفارة لأنه ناقص، وعليه فخر الإسلام البزدوي. وقال الصدر الشهيد: المختار أنه يجب الكفارة، لأنها من جنس ما يتغذى بها. قوله: (وإن مضغها) أي وإن مضغ السمسمة (لم يفطر) لأنها تتلاشى بالمضغ، إلا إذا وجد طعمها في حلقه فحينئذ يفطر. قوله: (ولو أكل عجيناً أو دقيقاً أو ابتلع حصاة أو نحوها) مثل النواة والحديد والرصاص وغير ذلك (لزمه القضاء) لوجود صورة الفطر (ولا كفارة عليه) لقصور الجناية، إلا عند محمد: تجب الكفارة في الدقيق والعجين، وعلى هذا الخلاف: الأرز. ولو أكل ملحاً: لا كفارة عليه، وقيل: يجب إذا اعتاد أكل ذلك وحده، ولو ابتلع جوزة رطبة أو لوزة رطبة أو بطيخة صغيرة: فعليه القضاء لا الكفارة. قوله: (ولو أكل مسكاً أو كافوراً أو زعفراناً أو تراباً مشوباً أو ورق شجر يعتاد

أكله: لزمته الكفارة) أما المسك والكافور والزعفران: فلأنها مما يؤكل عادة ويتداوى بها، فكملت الجناية، فيجب الكفارة، وأما التراب: فإنها توجب الكفارة إذا كان مشوباً: أي مختلطاً بشيء، حتى إذا أكل تراباً خالصاً: لا تجب عليه الكفارة، لأنه مما لا يتغذى به ولا يتداوى به عادة، وكذلك لا تجب الكفارة في الطين، إلا في الطين الأرمني لأنه يتداوى به. وأما ورق الشجر: فكذلك إنما يوجب الكفارة إذا كان مما يعتاد أكله، لكمال الجناية، وأما إذا كان مما لا يعتاد أكله: لا تجب الكفارة. وعلى هذا التفصيل النباتات كلها. قوله: (ولو مضغ لقمة ناسياً فذكرها فابتلعها: وجبت الكفارة) وقيل: يجب القضاء دون الكفارة، والأول أظهر. قوله: (ولو أخرجها) أي ولو أخرج تلك اللقمة الممضوغة من فيه (ثم ابتلعها: لم تجب الكفارة) وقيل: تجب الكفارة، والأول أصح، قاله أبو الليث، لأن بعد إخراجها تعافها النفس، وما دامت في فيه يتلذذ بها، وقيل: إن كانت سخنة بعد: فعليه الكفارة. قوله: (ولو أفطر عمداً ثم مرض، أو أفطرت عمداً ثم حاضت) لم تجب الكفارة عليهما، لأنه ظهر بالمرض والحيض أن الفطر في ذلك اليوم مباح لهما، فلا تجب الكفارة. قوله: (ولو سافر طائعاً: وجبت) يعني إذا أفطر عمداً ثم سافر طائعاً باختياره: وجبت الكفارة، لأن بإفطاره عمداً وجبت عليه الكفارة، ثم لم يظهر ما يرفعها، بخلاف الصورة الأولى. وأما لو سافر مكرهاً: فقد ذكر في خلاصة الفتاوى: أنه لا يسقط عنه الكفارة في ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة: تسقط، وعندهما: لا تسقط. قوله: (وللمريض الفطر يوم نوبة حماه، وللمرأة أيضاً يوم عادة حيضها، بناءً على العادة) لأن الظاهر أن الحمى تأتيه يوم النوبة، والحيض يأتيها يوم العادة. قوله: (فإن أفطرا) أي إن أفطر المريض يوم نوبة حماه، أو أفطرت المرأة يوم عادة حيضها (اعتماداً على مجيء الحمى والحيض، ولم يأت الحمى والحيض: وجبت عليهما الكفارة) لكمال الجناية، وعدم ظهور ما يبيح الإفطار.

قوله: (فإن غلبة القيء: لم يفطر مطلقاً) يعني سواء قاء كثيراً أو قليلاً، لقوله عليه السلام: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض" رواه أبو داود وغيره، وقال الدارقطني: رواته كلهم ثقات. قوله: (وإن تعمد) أي وإن تعمد القيء ملأ فيه (أفطر، وعليه القضاء لا الكفارة) لما روينا. هذا في الطعام والماء والمرة، وأما إذا قاء بلغماً: فهو لا يفطر عندها، خلافاً لأبي يوسف. وإن قاء مراراً في مجلس واحد ملأ فيه: لزمه القضاء، وإن كان في مجالس، أو غدوة، ثم نصف النهار، ثم عشية: لا يلزمه القضاء. ذكره في خزانة الأكمل. قوله: (ومن أكل غداء، أو شرب دواء، أو جامع عامداً في أحد السبيلين: لزمته الكفارة) وعند الشافعي: لا تجب الكفارة إلا بالجماع، وتجب على الزوج دون المرأة. ولنا: قوله عليه السلام: "من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر" رواه الدارقطني بمعناه. وما روي عن أبي هريرة: "أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره عليه السلام أن يعتق رقبة" رواه مسلم وأبو داود.

ولفظ "أفطر" فيهما: يتناول المأكول وغيره، وكلمة "من" تطلق على الذكر والأنثى، والإنزال في الجماع ليس بشرط، لأنه شبع، والتقاء الختانين كاف، وعن أبي حنيفة: أن الجماع في الدبر لا يوجب الكفارة، والأصح: أنه تجب، كما في القبل. قوله: (ولا كفارة بالجماع فيما دون الفرج) كالتبطين والتفخيذ (ولو أنزل) لعدم الجماع صورة (وعليه القضاء) لوجود معنى. قوله: (ولا كفارة على المرأة لو كانت نائمة أو مجنونة) يعني إذا جومعت المرأة وهي نائمة أو مجنونة أو مكرهة، فعليها القضاء لا الكفارة، لعدم الجناية، لأنها تكون بالقصد، ولا قصد. وقال زفر والشافعي: لا يجب القضاء ولا الكفارة. وعلى هذا الخلاف: إذا صب الماء في حلق النائم. وتأويل المجنونة: أن تفيق فلا يستوعب جنونها الشهر، فصار كالنوم والإغماء. قوله: (ولا كفارة في إفساد صوم غير رمضان أداء) لأنها وردت في هتك حرمة رمضان، إذ لا يجوز إخلاؤه عن الصوم، بخلاف غيره من الزمان. قيد بقوله: (أداء) لأنه إذا لم تجب الكفارة في إفساد صوم غير رمضان من حيث الأداء، فبالأولى أن لا تجب في الإفساد من حيث القضاء. قوله: (ومن احتقن أو استعط أو أقطر في أذنيه دواء أو ادهن أو داوى جائفة أو آمة بدواء رطب: لزمه القضاء) لأن الفطر مما دخل، وقد وجد (لا غير) يعني لا تجب الكفارة. لعدم صورة الفطر، وهو الأكل والشرب من المنفذ المعهود وهو الفم. الاحتقان: وضع الحقنة في الدبر، والاستعاط: صب السعوط في الأنف. قال في الأجناس: الحقنة توجب الفطر، ولا يقع به الرضاع، والجائفة: هي الطعنة التي تبلغ الجوف، والآمة: الشجة التي تبلغ أم الرأس.

قيد بقوله: (رطب) لأن المفطر: هو الرطب عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، واليابس: ليس بمفطر اتفاقاً، ولكن أكثر المشايخ: على أن العبرة للوصول، حتى إذا علم أن اليابس وصل إلى جوفه: فسد الصوم، وإن علم أن الرطب لم يصل: لا يفسد. قوله: (فإن أقطر في أذنه ماء أو في ذكره دهناً: لم يفطر). أما إذا أقطر في أذنه ماء: فإنه لا يفطر لعدم الوصول، بخلاف ما إذا أقطر دهناً: فإنه يصل بقوة التشرب، وأما إذا أقطر في ذكره دهناً: فإنه لا يفطر أيضاً عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يفطر، ومحمد مضطر بين قوليهما. وهذا الاختلاف مبني على أنه: هل بين المثانة والجوف منفذ أم لا؟ واختلفوا في الإقطار في قبلها: والصحيح الفجر. قوله: (ومن ذاق شيئاً ومجه: لم يفطر) لانعدام الفطر صورة ومعنى. قوله: (ويكره للصائم الذوق) لأنه تعريض لإفساد صومه. قوله: (إلا حالة الشرى) يعني إذا ذاق الصائم الطعام حاله الشرى: لا يكره للضرورة، وقيل: المرأة إذا كان زوجها سيء الخلق: لا بأس أن تذوق المرق بلسانها. قوله: (ويكره للمرأة مضغ الطعم لولدها بغير ضرورة) لما قلنا أنه تعريض لإفساد الصوم، بخلاف ما إذا كان ضرورة، بأن لم تجد المرأة من يمضغ لصبيها الطعام من حائض أو نفساء أو غيرهما ممن لا يصوم، ولم تجد طبيخاً ولا لبناً حليباً، ألا يُرى أنه يجوز لها الإفطار إذا خافت على الولد؟ فالمضغ أولى. قوله: (ومضغ العلك مكروه للصائم) لأنه يتهم به الإفطار، لأن من رآه من بعيد يظنه آكلاً. قوله: (وقيل: يفسد) أي مضغ العلك مفسد للصوم (إن كان متفتتاً) لأنه إن كان متفتتاً: يصل منه شيء إلى جوفه، وكذلك إذا كان أسود وإن كان ملتئماً. قوله: (ولا يكره) أي مضغ العلك (للمرأة المفطرة) لأنه يقوم مقام السواك في حقهن، لأن أسنانهن ضعيفة لا تحتمل السواك، وهي تبقي الأسنان، وتشد اللثة كالسواك.

قوله: (وفي الرجل خلاف) أي وفي مضغ العلك للرجل خلاف (فقيل: يكره إذا لم يكن من علة) لما فيه من التشبيه بالنساء، والعلة مثل ما إذا كان في فمه بخر (وقيل: لا يكره). قوله: (ويباح للصائم الكحل) لما روي أنه عليه السلام: "كان يكتحل بالإثمد وهو صائم" رواه الجصاص في شرحه لمختصر الطحاوي. وعن عائشة رضي الله عنها: "أنه عليه السلام اكتحل وهو صائم" رواه الدارقطني. قوله: (ولو وجد طعمه في حلقه) واصل بما قبله، لأنه وصل من المسام فلا يعتد به، خلافاً لمالك. قوله: (ودهن الشارب) أي يباح للصائم دهن الشارب أيضاً، لأنه ليس فيه شيء ينافي الصوم، بخلاف المحرم. والدهن بفتح الدال: مصدر، والمعنى هنا على هذا، وبالضم: اسم.

قوله: (إذا قصد بهما) أي بالكحل ودهن الشارب (غير زينة) بأن كان قصده التداوي. قوله: (وكذا المفطر) أي وكذا يباح الكحل ودهن الشارب للمفطر أيضاً، إذا قصد بهما غير زينة، وكذلك يباح له دهن شعر الوجه، وبذلك جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانه يعمل عمل الخضاب، ولا يفعل لتطويل اللحية إذا كانت بالقدر المسنون وهي القبضة. والأصل: فيه ما روي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: "كان يقبض على لحيته فيقطع ما زاد على الكف" رواه أبو داود. قوله: (ولا يكره للصائم سواك رطب أو يابس) لما روي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أعده ولا أحصي" رواه الترمذي وأبو داود.

وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" رواه البخاري. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" رواه البخاري. فدل إطلاق الأحاديث: على جواز الاستياك مطلقاً، لأنه لم يخص الصائم من غيره، ولا الغداة من العشي، ولا غير المبلول. وقال الشافعي: يكره آخر النهار، وقال أبو يوسف: يكره إذا كان مبلولاً. قوله: (ولا الفصد ولا الحجامة) أي ولا يكره للصائم الفصد ولا الحجامة، لما روي أنه عليه السلام: "احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم" رواه البخاري وغيره. وما روى الترمذي من قوله عليه السلام: "أفطر الحاجم والمحجوم". وإليه ذهب أحمد: فمنسوخ بما روينا.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان العوارض قوله: (المريض إذا خاف شدة مرضه أو تأخر برئه: أفطر) لأن ذلك قد يفضي إلى الهلاك، فيجب الاحتراز عنه، وطريق معرفته: الاجتهاد، فإذا غلب على ظنه: أفطر، وكذا إذا أخبره طبيب حاذق عدل. والصحيح الذي يخشى أن يمرض بالصوم: فهو كالمريض، وكذا الأمة التي تخدم إذا خافت الضعف: جاز أن تفطر ثم تقضي. قوله: (والمسافر أفطر مطلقاً) أي خاف المرض أو لم يخف، لأن عين السفر مشقة، وصومه أفضل عندنا إن لم تنله مشقة، لقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]. ولما روي عن أبي الدرداء قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته في حر شديد، حتى أن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، ما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة" رواه البخاري ومسلم وأبو داود. فعلم: أن الصوم أفضل، لأنه اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الشافعي: الفطر أفضل.

قوله: (وإن مات في المرض والسفر) أي وإن مات المريض في مرضه، والمسافر في سفره (لا قضاء عليهما) لأنهما لم يدركا عدة أيام أخر. قوله: (وإن صح المريض أو أقام المسافر، ثم ماتا: وجب الإيصاء بقدر ما أدركا) هذا فائدة لزوم القضاء، بقدر صحة المريض وإقامة المسافر، وإذا أوصى: يؤدي الوصي من ثلث ماله لكل يوم مسكيناً بقدر ما يجب في صدقة الفطر، وإن لم يوص وتبرع الورثة: جاز، وإن لم يتبرعوا: لا يلزمهم الأداء، بل سقط في حكم الدنيا. قوله: (وقضاء رمضان: إن شاء فرقه وإن شاء تابعه) لإطلاق النص، ولكن التتابع أفضل للمسارعة في إسقاط الواجب. قوله: (ولا فدية بتأخيره عن رمضان ثان) يعني إذا أخر من عليه قضاء رمضان عن رمضان ثان: لا يجب عليه الفدية، لأن الله تعالى أوجب القضاء خاصة لا الفدية، فلا يجوز زيادة الفدية. وقال الشافعي: عليه الفدية. قوله: (وللحامل والمرضع الإفطار خوفاً على ولدهما وأنفسهما) دفعاً للحرج. الحامل: هي التي في بطنها ولد. المرضع: هي التي لها لبن ترضع الولد. قوله: (ولا فدية عليهما) أي على الحامل والمرضع، لأن الفدية بخلاف القياس في الشيخ فلا يلحق به خلافه. وقال الشافعي: إذا خافت المرضع على الولد فأفطرت، فعليها الفدية. قوله: (والشيخ العاجز عن الصوم يفطر، دفعاً للحرج ويفدي) لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] أي لا يطيقونه.

قوله: (فإن قدر على الصوم بعد الفدية: قضى) لأن شرط كون الفدية خلفاً عن الصوم في حقه: دوام العجز، فلما قدر على الصوم: انتفى شرط الخلفية، ومثل هذا لم يفعل في التيمم، لئلا يلزم الحرج بتضاعف الصلوات. قوله: (ومن أوصى بقضاء رمضان: أطعم عنه وليه) كما مر من قوله: عن كل يوم: نصف صاع من بر، أو صاع من تمر، أو صاع من شعير، وعند الشافعي: لكل يوم مد. قوله: (وإن لم يوص: لا يجب) أي لا يجب على الولي الإطعام، ومع هذا لو أطعم: جاز إن شاء الله تعالى. وعند الشافعي: يلزم عليه أوصى أو لم يوص. وعلى هذا الخلاف: الزكاة وصدقة الفطر. قوله: (والصلاة كالصوم) هذا استحسان، والقياس: أن لا تجوز الفدية عن الصلاة، لأن ما ثبت بخلاف القياس: فغيره لا يقاس عليه. وجه الاستحسان: أن كلاً منهما عبادة بدنية لا تعلق لوجوبها ولا لأدائها بالمال، والباقي يعرف في الأصول. قوله: (وكل صلاة كصوم يوم) في أن يؤدي عن كل صلاة مثل ما يؤدي عن كل يوم، وهذا هو الصحيح. وعن محمد بن مقاتل: تجب لصلوات يوم: نصف صاع. قوله: (ولا يصوم عنه وليه ولا يصلي) يعني إذا مات إنسان وعليه صوم أو صلاة:

ليس على وليه أن يصوم ويصلي عنه، خلافاً للشافعي. له: ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليه" رواه البخاري وأبو داود. ولنا: قوله عليه السلام: "لا يصوم أحدكم عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد ولكن يطعم عنه" رواه النسائي. وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما: أنه عليه السلام قال: "من مات وعليه صوم شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً" رواه ابن ماجة. قال القرطبي: إسناده حسن.

والجواب عن حديث البخاري: أن المراد منه: الطعام الذي يقوم مقام الصوم مجازاً، بدليل ما روينا. قوله: (ومن أسلم، أو بلغ، أو طهرت الحائض، أو أفاق، أو قدم من سفر، أو بريء من مرض، أو أفطر خطأ أو عمداً: أمسك بقية يومه) تشبهاً للصائمين. واختلفوا في هذا الإمساك: فقيل: مستحب، وقيل: واجب، وليس على الكافر الذي أسلم، والصبي الذي بلغ: قضاء ذلك اليوم، خلافاً لزفر في الكافر الذي أسلم. قوله: (بخلاف الحائض والنفساء في حال الصوم) يعني الطاهرة إذا حاضت في أثناء الصوم: لا يلزمها إمساك بقية صموها، لتحقق المانع من التشبه. قوله: (ولو أكل: فلا قضاء عليه) أي لو أكل الكافر الذي أسلم، أو الصبي الذي بلغ، في ذلك اليوم الذي أسلم وبلغ فيه: فلا قضاء عليهما، لانعدام الأهلية من الأول، بخلاف الصلاة، لأن سبب الوجوب: الجزء المتصل بالأداء، وقد وجدت الأهلية عند ذلك الجزء، فافهم. قوله: (ومن سافر بعد الفجر ونوى الفطر، ثم قدم، أو صح) أي المريض (من مرضه قبل الزوال: لزمه الصوم) لزوال المانع، ولو أفطر: فلا كفارة عليه للشبهة. قيد بقوله: (قبل الزوال) لأنه إذا قدم أوصح بعد الزوال: لا يجوز نيته للصوم على ما عرف، فافهم.

قوله: (وإذا علم المسافر أنه يدخل في يومه مصره أو موضع إقامته: كره له الفطر) لما أنه أعرض عن الصوم، وأما إذا علم أن دخول المصر لا يتفق له حتى تغيب الشمس: فلا بأس بأن يفطر، لأنه مسافر فيه. قوله: (ومن أغمى عليه أو جن في رمضان: قضى ما بعد يوم الإغماء والجنون خاصة) يعني لا يقضي اليوم الذي حدث فيه الإغماء والجنون، لأن صومه في ذلك اليوم صحيح، بناءً على وجود النية منه ظاهراً، وقضى ما بعد ذلك لعدم النية فيه. قوله: (والجنون المستوعب يسقط القضاء) دفعاً للحرج، خلافاً لمالك. قوله: (بخلاف الإغماء) أي الإغماء إذا استوعب الشهر لا يسقط القضاء، لأنه نوع مرض يضعف القوى ولا يزيل الحجا، وكذلك الجنون غير المستوعب لا يسقط القضاء، لعدم الحرج. قوله: (ومن لم ينو في رمضان صوماً ولا فطراً: لزمه القضاء) لأن المستحق عليه الإمساك بجهة العبادة، فلا يكون ذلك إلا بالنية. وقال زفر: لا يجب عليه القضاء. قوله: (ومن أصبح غير ناو للصوم، ونوى قبل الزوال، فأكل: لا كفارة عليه للشبهة) هذا عند أبي حنيفة، وقالا: إن كان ذلك قبل الزوال: فعليه القضاء والكفارة، وإن كان بعده: فعليه القضاء لا الكفارة، وقال زفر: عليه الكفارة في الصورتين. قوله: (والحائض والنفساء تفطر وتقضي، بخلاف الصلاة) يعني لا يقضيان الصلاة، لما في قضائها من حرج، بخلاف قضاء الصوم. قوله: (ومن ظن بقاء الليل فتسحر، أو غروب الشمس فأفطر، وبان خطأه) بأن ظهر أن الفجر طالع، والشمس لم تغرب (لزمه القضاء) لأنه مضمون عليه بالمثل، ولزمه التشبه موافقة للصائمين.

قوله: (لا غير) يعني لا تجب الكفارة لقصور الجناية لعدم القصد. وذكر في المستصفى: أن المراد من الظن: غلبة الظن، حتى لو كان شاكاً تجب الكفارة. قوله: (ولو شك في طلوع الفجر) بأنه طلع أو لا (فالأفضل له أن لا يفطر) تحرزاً عن المحرم (ولو أفطر لا قضاء عليه) لأن الأصل هو الليل، فلا يخرج بالشك، إلا إذا تبين أنه أكل بعدما طلع الفجر: فحينئذ يجب عليه القضاء لا غير. قوله: (ولو شك في غروب الشمس) بأنها غربت أولاً (يجب أن لا يفطر) تحرزاً عن إفساد الصوم (ولو أفطر: لزمه القضاء، وفي الكفارة: روايتان) وإن تبين أنه أكل قبل الغروب: يجب عليه الكفارة. قوله: (والسحور مستحب، وقيل: سنة) لقوله عليه السلام: "إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر"، ويروى: "السحور" رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. وقال عليه السلام: "تسحروا فإن في السحور بركة" رواه البخاري ومسلم. والسحور بفتح السين: اسم ما يؤكل وقت السحر. قوله: (وكذا تأخره) أي كذا يستحب تأخير السحور، لما روى أبو ذر: أنه عليه السلام كان يقول: "لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر" رواه أحمد. قوله: (ويستحب تعجيل الإفطار) لما روينا، ولما روي عن سهل بن سعد أن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه. وعن أنس أنه عليه السلام: "كان يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء" رواه أحمد وأبو داود والترمذي. قوله: (ومن أكل ناسياً فظن أنه أفطر، أو علم أنه لم يفطر فأكل عمداً: لزمه القضاء لا غير) يعني لا الكفارة، لتحقق الشبهة (ولو احتجم: فظن أنه يفطره، فأكل متعمداً: فعليه القضاء والكفارة). قوله: (ويحرم صوم يوم العيدين) لما روي أنه عليه السلام: "نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى" رواه مالك في الموطأ وأبو داود في السنن. قوله: (وأيام التشريق) أي يحرم صوم أيام التشريق أيضاً، وهي ثلاثة أيام بعد عيد الأضحى، لورود النهي فيها. قوله: (ولا يكره صوم الستة من شوال موصولاً برمضان) لقوله عليه السلام: "من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر" رواه أبو داود وابن ماجة. وفي روايته: "كان كصوم الدهر".

قوله: (ويكره صوم الوصال) وهو أن يصوم أياماً لا يفطر بينها، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن الوصال، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال: "إني لست كهيئتكم إني أطعم وأسقى" رواه أبو داود. قوله: (فإن صام في الأيام الخمسة المحرمة) وهي: يوما العيدين، وأيام التشريق: (فقولان في كراهة الوصال) في قول: يكره، وفي قول: لا يكره، للفاصل الذي يخرجه من الوصل المنهي. قوله: (ويكره صوم الصمت، وهو أن لا يتكلم في الصوم) لأن صوم الصمت من فعل المجوس لعنهم الله. وقال الإمام حميد الدين الضرير: إنما يكره الصمت إذا اعتقد قربة، أما إذا لم يعتقد قربة: فلا يكره، لقوله عليه السلام: "من صمت نجا". قوله: (ويكره صوم السبت أو عاشوراء وحده) لما في ذلك من التشبه باليهود. قوله: (ويستحب يوم الخميس) أي صوم يوم الخميس، لأن النبي عليه السلام كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، وسئل عن ذلك فقال: "إن أعمال العباد تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس" رواه أبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يصوم الاثنين والخميس، فقيل: يا رسول الله إنك تصوم الاثنين والخميس فقال: "إن يوم الاثنين والخميس يغفر الله فيها لكل مسلم إلا مهتجرين يقول: دعهما يصطلحا" رواه ابن ماجة.

قوله: (والجمعة) أي يستحب صوم يوم الجمعة، قال في الإيضاح: لا بأس بصوم يوم الجمعة في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: قد جاء حديث في كراهته، غلا أن يصوم قبله يوماً أو بعده يوماً، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله بيوم أو بعده" رواه مسلم وأبو داود. قوله: (وأيام البيض) أي يستحب صوم أيام البيض، وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، سميت بيضاً: لأن لياليها مقمرة من أول الليل إلى آخره، ولما روي عن ابن ملحان القيسي عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، قال: وقال: "هي كهيئة الدهر" رواه أبو داود وابن ماجة. قوله: (ويوم عرفة) أي يستحب صوم يوم عرفة، لقوله عليه السلام: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" رواه مسلم. قوله: (لغير الحاج) قيد به: لأن صوم يوم عرفة للحاج مكروه، لما روي أنه عليه السلام: "نهى عن صوم يوم عرفة" رواه أبو داود وابن ماجة.

قوله: (ولا تصوم المرأة تطوعاً بغير إذن زوجها) لقوله عليه السلام: "لا تصوم امرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه غير رمضان" رواه أبو داود. قوله: (إلا أن يكون صائماً) أي إلا أن يكون الزوج صائماً أو مريضاً، فحينئذ تتطوع المرأة بغير إذنه، لأن النهي لحاجة الزوج، ولا حاجة في تلك الصورتين. قوله: (ولا العبد) أي ولا يصوم العبد أيضاً تطوعاً بغير إذن مولاه (وإن كان صومه لا يضر مولاه) يعني لعدم ضعفه بسبب الصوم، وكذلك المدبر وأم الولد: لا يصومان بغير إذن مولاهما، وإن كان صومهما لا يضره. قوله: (وكفارة صوم رمضان عتق رقبة ... إلى آخره) لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله هلكت، فقال: "مالك؟ " قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تجد رقبة تعتقها؟ ". قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال: لا، قال: "فهل تستطيع إطعام ستين مسكيناً؟ " قال: لا، فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه التمر، والعرق: المكتل، قال: "أين السائل؟ " قال: أنا، قال: "خذ هذا فتصدق به"، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لا بيتها- يريد الحرتين- أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: "أطعم أهلك" رواه البخاري وأبو داود. قوله: (كما مر) أي في صدقة الفطر، وهو أن يطعم لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من تمر. قوله: (ولو أفطر مراراً في رمضان: بأن جامع أياماً، أو أكل أياماً، أو شرب أياماً: كفته كفارة واحدة) عندنا لاتحاد الجنس. وكذلك الحكم إذا أفطر مراراً في رمضانين أو ثلاثة. قوله: (إلا إذا تخللت الكفارة) بأن أفطر في رمضان يوماً، ثم كفر عنه، ثم أفطر

يوماً آخر: يلزمه كفارة أخرى في ظاهر الرواية لأن التداخل قبل أداء الأول لا بعده، كما في الحدود، فإنه إذا زنى فحد ثم زنى: يحد ثانياً. قوله: (ويباح الفطر في التطوع بعذر، بعد الضيافة وغيرها) قيل: يباح الفطر من غير عذر، وهي رواية عن أبي يوسف، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "هل عندكم شيء؟ " فقلنا: لا، قال: "إني إذا صائم"، ثم أتى يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله أهدي إلينا حيس فقال: "أرنيه فلقد أصبحت صائماً"، فأكل" رواه مسلم، وزاد النسائي: "ولكن أصوم يوماً مكانه". وصحح هذه الرواية أبو محمد عبد الحق. وقيل: لا يباح الفطر إلا من عذر، وهو قول الكرخي وأبي بكر، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليصل" رواه أبو داود. وقال هشام: والصلاة: الدعاء.

قال القرطبي: ثبت هذا عنه عليه السلام، ولو كان الفطر جائزاً: كان الأفضل الفطر، لإجابة الدعوة التي هي السنة. واختلفوا في الضيافة: هل تكون عذراً؟ قيل: لا تكون عذراً، لما روينا، وقيل: تكون عذراً قبل الزوال، وبعد الزوال لا تكون عذراً إلا إذا كان من الأبوين، وكذا إذا حلف عليه بالطلاق: يفطر قبل الزوال، ولا يفطر بعده، ثم إذا أفطر: عليه أن يقضي، خلافاً للشافعي. لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين، فأهدي إلينا طعاماً، فأفطرنا عليه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني حفصة وكانت ابنة أبيها، فسألته عن ذلك فقال عليه السلام: "اقضيا يوماً مكانه" ذكره في الموطأ والنسائي والترمذي. وهو قول أبي بكر وعمر وعلي وابن عباس، وغيرهم رضي الله عنهم. قوله: (ولو شرع في صوم أو صلاة ظنها عليه) أي ظن أن في ذمته صوماً أو صلاة (ثم علم بعد الشروع أنها ليست عليه: فالأفضل الإتمام) صوناً للمشروع عن البطلان (ولو أفسد: فلا قضاء عليه) لأن ذلك مظنون فلا يجب. والله أعلم.

كتاب الحج

كتاب الحج تأخير الحج عما قبله: لكونه مركباً، وما قبله مفرد، والمفرد قبل المركب، وتقديمه على ما بعده: لكونه من الأركان الخمسة للإسلام. والحج لغة: القصد، وشرعاً: زيارة مكان مخصوص في زمان مخصوص بفعل مخصوص. قوله: (هو فرض على الفور) أي الحج فرض على الفور، لا على التراخي، لأنه يختص بوقت خاص، والموت في سنة واحدة غير نادر، فيتضيق احتياطاً، ولقوله عليه السلام: "من أراد الحج فليتعجل، فإنه بمرض المريض، وتضل الضالة وتعرض الحاجة" رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي. وهذا قول أبي يوسف. وقال محمد والشافعي: هو على التراخي، لأنه وظيفة العمر. قوله: (مرة في العمر) لما روى ابن عباس: أن الأقرع بن حابس سأل

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ قال: "بل مرة واحدة فمن زاد فهو تطوع" رواه أبو داود وابن ماجة. قوله: (على كل مكلف) يتعلق بقوله: (فرض) على كل مكلف أي حر عاقل بالغ، حتى لا يجب على العبد والمجنون والصبي. قوله: (صحيح) احتراز عن المريض، والمقعد، والمفلوج، ومقطوع الرجلين، والزمن الذي لا يستطيع الثبوت على الراحلة بنفسه، لكن يجب عليهم في مالهم إذا كان لهم مال مقدار ما يحج به غيرهم، فيحجون عنهم، فتجزي عن حجة الإسلام، هذا إذا مات المريض قبل زوال العلة، أما إذا برأ وقدر على الحج: كان عليه حجة الإسلام، ويكون ما حج عنه تطوعاً. قوله: (بصير) احترازاً عن الأعمى، فإنه لا يجب عليه الحج عند أبي حنيفة، وإن وجد زاداً وراحلة وقائداً، وعندهما: يجب. قوله: (قادر على زاد وراحلة) لأنه عليه السلام فسر الاستطاعة به. قوله: (غير عقبة) صفة لقوله: (راحلة) قيد بها لأنها إذا كانت عقبة: لا يجب عليه الحج. والعقبة: أن يكتري رجلان بعيراً واحداً يتعاقبان في الركوب، يركب كل واحد منهما مرحلة ويمشي مرحلة. قوله: (ونفقة ذهابه ورجوعه) أي قادراً على نفقة ذهابه إلى مكة ورجوعه منها. قوله: (فاضلاً) أي حال كون الزاد والراحلة ونفقة الذهاب والرجوع فاضلاً (عما لابد منه لعياله إلى وقت رجوعه) ويعتبر في نفقته ونفقة عياله: الوسط، من غير تبذير

ولا تقتير، ولا يترك نفقة لما بعد غيابه في ظاهر الرواية، وقيل: يترك نفقة يوم، وعن أبي يوسف: نفقة شهر. قوله: (بشرط أمن الطريق) لأن الحج لا يتأتى بدونه، فأشبه الزاد والراحلة، ثم قيل: هو شرط الوجوب، وقيل: شرط الأداء، والخلاف يظهر في وجوب الإيصال، فافهم. قوله: (فإن بذل له ذلك: لم يجب) يعني إذا أعطي له الزاد والراحلة بطريق الإباحة: لا يلزمه الحج، سواء كان ممن لا تلحقه المنة: كالوالدين والمولودين، أو ممن يلحقه كالأجانب. قوله: (ولو حج فقير: وقع فرضاً) يعني إذا استغنى بعده: لا يجب عليه حجة أخرى، لحصول المقصود. قوله: (والمحرم أو الزوج شرط في المرأة إذا كان سفراً) وهو مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً لقوله عليه السلام: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو محرم منها" رواه مسلم وأبو داود. وهذا حجة على الشافعي، حيث يجوز لها الخروج مع النساء الأمينات. قوله: (ونفقة المحرم عليها) أي على المرأة، لأنها لا تتمكن من الحج إلا بالمحرم، كما لا تتمكن إلا بالزاد والراحلة. قوله: (والمحرم: العبد، والذمي إذا كان مأموناً: كالحر المسلم) لأن الذمي يحفظ محارمه وإن كن مسلمات، حتى إذا كان مجوسياً: لا يجوز.

قوله: (ولا عبرة بصبي أو مجنون) لأن وجودهما كالعدم، وكذلك لا عبرة بالفاسق لأنه غير مأمون. قوله: (وللزوم منعها) أي منع زوجته مع المحرم (عن النفل) أي عن الحج النفل، وعن الحج المنذور، لأن في الخروج تفويت حقه، والنفل ليس من أركان الإسلام، والنفل إن كان واجباً في حقها ففي حقه نفل. قوله: (لا عن الفرض) أي لا يمنعها عن الحج الفرض، لأنه من أركان الإسلام، فلا يجوز منعه كما في صلاة الفرض، وقال الشافعي: له أن يمنعها في الفرض أيضاً. قوله: (ووقته) أي وقت الحج (شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة) كذا روي عن العبادلة الثلاثة، وعبد الله بن الزبير. قوله: (ويكره تقديم الإحرام على شوال) لئلا يقع في المحظورات بطول الزمان.

قوله: (والإحرام: شرط أيضاً) أي كاشتراط الزاد والراحلة، وأمن الطريق، والنفقة، ونحوها، لما مر. وعلامة كونه شرطاً: أن يستدام إلى أن يحلق ويجامع، كل ركن من أركان الحج، وأداء الأفعال متأخر عنه. قوله: (وأركان الحج: الوقوف بعرفة) لقوله عليه السلام: "الحج عرفة فمن أدركها فقد أدرك الحج". قوله: (وطواف الزيارة) لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] المراد من هذا الطواف: طواف الزيارة والله أعلم. قوله: (وواجباته) أي واجبات الحج (الوقوف بمزدلفة) وقال الشافعي: إنه ركن.

ولنا: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "أنا ممن قدم النبي عليه السلام ليلة المزدلفة في ضعفة من أهله" رواه الجماعة. فعلم أنه ليس بركن، ولو كان ركناً لم يجز تركه للضعفاء، كالوقوف بعرفات. قوله: (والسعي بين الصفا والمروة) وقال مالك والشافعي: هو ركن أيضاً. ولنا: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]. رفع الجناح والتخيير ينافي الفرضية. قوله: (ورمي الجمار) أي جمار أربعة أيام، وهي سبعون حصاة: سبعة في يوم العيد، وثلاثة وستون في ثلاثة أيام بعد العيد، كل يوم: أحد وعشرون، عند كل ميل: سبعة. قوله: (والحلق والتقصير) لما روي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أتى منى، فأتى

الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، وقال للحلاق: "خذ"، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس" رواه مسلم وأبو داود وأحمد. والتقصير: أن يأخذ الرجل أو المرأة من رءوس شعر ربع الرأس مقدار الأنملة. قوله: (وطواف الصدر) وقال مالك والشافعي: هو سنة. ولنا ما روي عن ابن عباس أنه قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" رواه مسلم وأحمد. قوله: (وركعتا الطواف) وقال الشافعي: هو سنة. ولنا: أنه عليه السلام "لما انتهى إلى مقام إبراهيم عليه السلام قرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]. وصلى ركعتين، فقرأ فاتحة الكتاب، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ثم عاد إلى الركن فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا" رواه أحمد ومسلم.

قوله: (وسننه) أي سنن الحج (طواف القدوم) وقال مالك: هو واجب، قوله عليه السلام: "من أى البيت فليحيه بالطواف" قلنا: سماه تحية، فلا يفيد الوجوب. قوله: (والرمل فيه) أي في الطواف، لفعله عليه السلام. قوله: (والهرولة في السعي بين الميلين الأخضرين) أحدهما في ركن الجدار، والآخر متصل بدار ابن عباس، لما روي أنه عليه السلام: "نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي رمل، حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة" رواه أبو داود. قوله: (والعمرة سنة مؤكدة) وقيل: واجبة، وقيل: فرض كفاية، وقال الشافعي في القديم: هي تطوع، وفي الجديد: هي فريضة. ولنا: ما روي: أنه أتى أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال عليه السلام: "لا وأن تعتمر خير لك" قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

قوله: (وركنها) أي ركن العمرة (الطواف، وشرطها: الإحرام، وواجباتها: السعي والحلق أو التقصير) وعليه إجماع الأمة. قوله: (وميقات الإحرام ... إلى آخره) لحديث ابن عباس أنه عليه السلام: وقت لأهل المدينة: ذا الحليفة، ولأهل الشام: الجحفة، ولأهل نجد: قرن المنازل، ولأهل اليمن: يلملم، وقال: "فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة" رواه البخاري ومسلم. قوله: (ما يحاذي واحداً منها) أي من هذه المواضع، لما روينا. قوله: (والإحرام من وطنه أفضل إن وثق من نفسه باجتناب محظوراته) أي باجتناب محرمات الإحرام لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196]. قيل: الإتمام بأن يحرم بهما من دويرة أهله، وقال عليه السلام: "من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجرة غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه أحمد وأبو داود بنحوه وابن ماجة، وذكر فيه العمرة دون الحجة.

قوله: (ولا يجوز لهؤلاء) أي لأهل المدينة والشام والعراق ونحوهم (إذا قصدوا دخول مكة لحج أو لغيره) مثل التجارة أو زيارة أحد (تأخير الإحرام عنها) أي عن هذه المواقيت، لقوله عليه السلام: "لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام". قوله: (ولأهل هذه المواضع) أي ولأصحاب هذه المواقيت (ومن دونهم: ميقاتهم الحل الذي بينهم وبين الحرم) لأن خارج الحرم كله كمكان واحد في حقهم، والحرم في حقهم كالميقات في حق الآفاقي، فلا يدخلون إلا محرمين. قوله: (وللمكي ميقاته للحج: الحرم، وللعمرة: الحل) بالإجماع.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان كيفية الإحرام قوله: (إذا أراد الإحرام: قص شاربه، وقلم أظفاره، وحلق عانته) وهذا مستحب، كما استحب استعمال الطيب، وكذلك ينتف إبطه ويسرح رأسه. قوله: (ثم توضأ واغتسل، وهو أفضل) أي الغسل أفضل، لما روى زيد بن ثابت: "أنه عليه السلام اغتسل لإحرامه" رواه الدارقطني والترمذي وقال: حديث حسن. والمراد بهذا الغسل: تحصيل النظافة وإزالة الرائحة، لا الطهارة، حتى يؤمر به الحائض والنفساء، لما روي عن ابن عباس أنه قال عليه السلام: "إن النفساء والحائض تغتسل، وتحرم، وتقضي المناسك كلها، غير أن لا تطوف بالبيت" رواه أبو داود والترمذي. قوله: (ولبس إزاراً ورداء) لأنه عليه السلام "لبسهما هو وأصحابه" رواه مسلم. قوله: (جديدين) لأن الجديد أفضل، ولأنه أنظف، ولأنه لم تركبه النجاسة. قوله: (أبيضين) لقوله عليه السلام: "خير ثيابكم البيض فالبسوا" رواه ابن ماجة. قوله: (وهو أفضل) أي الجديد الأبيض: أفضل من العتيق، ومن غير الأبيض، لما ذكرنا. قوله: (ويطيب) لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أطيب رسول الله لإحرامه قبل

أن يحرم، ولإحلاله قبل أن يطوف بالبيت" رواه مالك في الموطأ، والبخاري وأبو داود. قوله: (وادهن) لما روي عن عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد، ثم رأي وبيص الدهن في رأسه ولحيته بعد ذلك" رواه مسلم. قوله: (وإن وجد) قيد للطيب والدهن جميعاً. قوله: (وصلى ركعتين) يعني بعد اللبس والتطيب، لأنه عليه السلام "صلى ركعتين" رواه مسلم والبخاري. قوله: (ويسأل الله التيسير) لأنه الميسر لكل عسير. قوله: (ثم لبى ناوياً نسكه) أي حال كونه ناوياً بالتلبية حجه، لما روي عن أنس رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر، ثم ركب راحلته، فلما علا على جبل البيداء أهل" رواه أبو داود. قيد بقوله: (ناوياً) لأن النية شرط لجميع العبادات. قوله: (رافعاً صوته) لقوله عليه السلام: "جاءني جبريل فقال: يا محمد مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحج" رواه ابن ماجة.

قوله: (والتلبية معروفة وهي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) كذا حكى ابن عمر تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، متفق عليه. واختلفوا في الداعي، فقيل: هو الله تعالى، وقيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأظهر: أنه الخليل عليه السلام. ومعناها: أقيم في طاعتك إقامة بعد إقامة، من ألب بالمكان ولب به: إذا أقام ولزمه ولم يفارقه. قوله: (وهي) أي التلبية (مرة: شرط) لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197]. قال ابن عباس: فرض الحج: الإهلال، وقال ابن عمر: التلبية، ولأن الحج يشتمل على أركان، فوجب أن يشترط في تحريمه ذكر يراد به التعظيم كالصلاة. وعن أبي يوسف: يصير شارعاً بالنية وحدها من غير تلبية، وبه قال الشافعي. قوله: (والزيادة سنة) أي الزيادة على مرة: سنة، لأنها ذكر وتعظيم.

ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التلبية، لما روي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر أنه قال: "كان يستحب للرجال الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التلبية" رواه أبي داود والدارقطني. وعن خزيمة بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان إذا فرغ من التلبية: سأل الله رضوانه والجنة، واستعاذ برحمته من النار" رواه الدارقطني. قوله: (ويتقي المحرم) أي يجتنب المحرم (الرفث والفسوق والجدال) لقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ} [البقرة: 197]. الرفث: الجماع، وقيل الفحش في الكلام، والفسوق: الخروج عن حدود الشريعة، وقيل: التساب والتنابز بالألقاب، والجدال: المراء مع الرفقاء والخدم والمكارين. قوله: (وقتل صيد البر) أي ويتقي قتل صيد البر، والدلالة، والإشارة، لقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] ولحديث أبي قتادة: أنه عليه السلام قال حين سألوه عن لحم حمار وحش اصطاده أبو قتادة قال: "هل منكم أحد أمره أو أشار إليه؟ "

قالوا: لا، قال: "فكلوا ما بقي من لحمه" رواه البخاري ومسلم. علق حله على عدم الإشارة والأمر، والإشارة: أن يشير إلى صيد باليد، والدلالة: أن يقول: إن في مكان كذا صيد. فالإشارة تكون في الحضور، والدلالة تكون في الغيبة. قوله: (ويباح له كل صيد البحر) مثل السمك وأنواعه، لأن المنهي عنه صيد البر. قوله: (ويترك لبس المخيط) لأنه ممنوع منه (وكذلك يترك لبس العمامة والقلنسوة والخفين التامين) قيد بالتامين: لأنه إذا قطعهما أسفل من الكعبين يجوز، لما روي عن ابن عمر أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم؟ قال: "لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البرانس ولا السراويل ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران، ولا الخفين، إلا أن لا يجد النعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين" رواه البخاري ومسلم وغيرهما. قوله: (وتغطية الرأس والوجه) لقوله عليه السلام في المحرم الذي خر من بعيره: "لا تخمروا وجهه ولا رأسه" رواه مسلم وغيره. قوله: (والدهن) أي يترك المحرم الدهن والتطيب، لقوله عليه السلام: "الحاج: الشعث التفل" رواه أبو ذر الهروي وغيره.

وقال الشافعي: يجوز له الخضاب بالحنا، لأنه ليس بطيب. ولنا: أنه عليه السلام نهى المعتدة عن الكحل والخضاب بالحناء وقال: "الحناء طيب" رواه النسائي. قوله: (وحلق الشعر وقصه) لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196]. والقص في معنى الحلق، وأما قص الظفر: فلأن فيه إزالة الشعث. قوله: (ولبس المصبوغ) أي يترك لبس المصبوغ، لما روينا من حديث البخاري: (إلا مغسولاً لا بنفض) أي لا يفوح، وقيل: لا يتناثر، لأن النهي عن الطيب لا اللون. قوله: (ولا يغسل شعره بخطمي) لأن فيه إزالة الشعث. قوله: (ولا يحك رأسه إلا برفق إن كان عليه شعر) لأن الحك بغير رفق يزيل الشعث (وإن لم يكن عليه شعر: لا يحك). قوله: (وله) أي للمحرم (أن يغتسل ويدخل الحمام) لأنه عليه السلام "اغتسل وهو محرم" رواه مسلم. وحكى أبو أيوب الأنصاري اغتسال رسول الله صلى الله عليه وسلم، متفق عليه.

قوله: (ويستظل) بالنصب، عطف على قوله: (أن يغتسل) أي وللمحرم أن يستظل بنبت أو خيمة أو محمل، لحديث أم الحصين قالت: "حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت أسامة وبلالاً، أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي عليه السلام، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة" رواه مسلم وأبو داود والنسائي. قوله: (ويشد الهميان) أي وله أن يشد الهميان في وسطه، لأنه ليس بلبس مخيط ولا في معناه، كوذا شد المنطقة، والسيف، والسلاح، والتختم بالخاتم. قوله: (ويكثر التلبية بصوت رفيع بعد الصلاة) لما روي عن أبي بكر الصديق أنه عليه السلام: "سئل: أي الحج أفضل؟ قال: العج والثج" رواه الترمذي، العج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إسالة الدم. قوله: (وكلما علا شرفاً) أي موضعاً عالياً (أو هبط وادياً) أي نزل مكاناً سافلاً (أو لقي ركباً) لما روي أنه عليه السلام "كان يلبي إذا لقي ركباً، أو صعد أكمة، أو هبط وادياً، وفي إدبار المكنوبة وآخر الليل" ذكره في الإمام.

قوله: (وبالأسحار) أي وفي وقت الأسحار، وفي غير الأسحار أيضاً، لكن تخصيص الأسحار: لأنها وقت يستجاب فيه الدعاء. قوله: (فإذا دخل مكة) اعلم أنه إذا دخل مكة: يستحب له أن يدخل من الثنية العليا وهي ثنية كدا من أعلى مكة على درب المعلى وطريق الأبطح، ويخرج من الثنية السفلى وهي ثنية كدا من أسفل مكة على درب اليمن، لما روي أنه عليه السلام "كان يدخل من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى" رواه الجماعة إلا الترمذي. ولا يضره: دخلها ليلاً أو نهاراً، لأنه عليه السلام "دخلها ليلاً ونهاراً" رواه النسائي. ويقول عند دخوله الحرم: "اللهم إن هذا أمنك وحرمك الذي من دخله كان آمناً، فحرم لحمي ودمي وعظمي وبشري على النار، اللهم آمني من عذابك يوم تبعث عبادك، فإنك أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم، وأسألك أن تصلي على سيدنا محمد وعلى آله". ويقول عند دخوله مكة: "اللهم افتح لي أبواب رحمتك وأدخلني فيها وأعذني من الشيطان الرجيم". قوله: (طاف للقدوم سبعة أشواط) لما روى عروة عن عائشة رضي الله عنها: "أن أول شيء

بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت" الحديث، رواه البخاري ومسلم. ويكون ملبياً في دخوله، ويدخل من باب بني شيبة، ويقدم رجله اليمنى في دخوله ويقول: "بسم الله والحمد لله والصلاة على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك وأدخلني فيها، اللهم إني أسألك في مقامي هذا أن تصلي على محمد عبدك ورسولك وأن ترحمني وتقيل عثرتي وتغفر ذنبي وتضع عني وزري"، فإذا وقع بصره على البيت: كبر وهلل ثلاثاً ويقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام، اللهم زد بيتك هذا تعظيماً وتشريفاً ومهابة، وزاد من شرفه وعظمه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً". قوله: (وراء الحطيم، لأن الحطيم من البيت) لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجر من البيت هو؟ قال: "نعم" الحديث متفق عليه. سمي حطيماً: لأنه حطم من البيت أي: كسر، وسمي حجراً: لأنه حجر من البيت: أي منع منه، وهو محوط ممدود على صورة نصف دائرة، خارج عن جدار البيت من جهة الشام تحت الميزاب، وليس كله من البيت، بل مقدار ستة أذرع منه من البيت، لحديث عائشة رضي الله عنها "أنه عليه السلام قال: ستة أذرع من الحجر من البيت، وما زاد ليس من البيت" رواه مسلم. قوله: (يرمل في الثلاثة الأول منها) لما روى عن جابر: أنه عليه السلام "لما قدم مكة أتى

الحجر فاستلمه، ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً" رواه مسلم والنسائي. وإذا حاذى الملتزم في أول طوافه، وهو بين الباب والحجر الأسود قال: "اللهم إن لك علي حقوقاً فتصدق بها علي"، وإذا حاذى الباب يقول: "اللهم هذا البيت بيتك وهذا الحرم حرمك وهذا الأمن أمنك وهذا مقام العايذ بك من النار فأعذني منها"، وإذا حاذى المقام على يمينه يقول: "اللهم إن هذا مقام إبراهيم العايذ اللايذ بك من النار، حرم لحومنا وبشرتنا على النار"، وإذا أتى الركن العراقي يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشرك، والشك، والنفاق، والشقاق، وسوء الأخلاق، وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد"، وإذا أتى ميزاب الرحمة يقول: "اللهم أظلني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظل عرشك، واسقني بكأس محمد عليه السلام شربة لا نظمأ بعدها أبداً"، وإذا أتى الركن الشامي يقول: "اللهم اجعله حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً، وتجارة لن تبور، يا عزيز يا غفور"، وإذا أتى الركن اليماني يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر، وأعوذ بك من الفقر، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من الخزي في الدنيا والآخرة". قوله: (ثم يصلي ركعتين في المقام) وهذه الصلاة واجبة عندنا، خلافاً للشافعي، وقد مر في عد الواجبات. ومن جملة سنن الطواف: أن يستلم الحجر كلما مر به إن استطاع، لما روي أنه عليه السلام "طاف على بعير، كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر" رواه أحمد والبخاري. ويستحب أن يستلم الركن اليماني، لما روي عن ابن عمر أنه قال: "ما تركت استلام هذين الركنين: الركن اليماني والحجر الأسود منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما" رواه مسلم وأبو داود.

ولا يقبله، وعند محمد: هو سنة، فيقبله مثل الحجر الأسود، لما روي عن ابن عباس: "أنه عليه السلام كان يقبل الركن اليماني ويضع يده عليه" رواه الدارقطني. وعن ابن عباس: "أنه عليه السلام: إذا استلم الركن اليماني قبله" رواه البخاري في تاريخه. قوله: (ثم سعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط) لما روي عن أبي هريرة: "أنه عليه السلام لما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه، حتى رأى البيت، ورفع يديه، فجعل يحمد الله تعالى ويدعو ما شاء أن يدعو" رواه مسلم وأبو داود. وروى جابر: "أنه عليه السلام بدأ بالصفا فرقى عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، ووحد الله تعالى وكبره وقال: "لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده"، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى، حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا" رواه مسلم وغيره.

قوله: (يهرول فيما بين الميلين الأخضرين) والهرولة: المشي بالسرعة، لما روى جابر "أنه عليه السلام نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه: رمل في بطن الوادي، حتى إذا صعد مشى" رواه أبو داود. قوله: (ثم يقيم بمكة حراماً) لأنه محرم بالحج، فلا يتحلل قبل الإتيان بأفعاله. قوله: (يطوف ما شاء) لأنه يشبه الصلاة (ولا يرمل ولا يسعى) لأن السعي لا يجب فيه إلا مرة واحدة، والتنفل به غير مشروع، والرمل لم يشرع إلا مرة واحدة في طواف بعده سعي، ويختم كل طواف بركعتين على ما شاء. قوله: (ثم يخرج غداة التروية إلى منى) ملا روى جابر "أنه عليه السلام توجه قبل صلاة الظهر يوم التروية إلى منى وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح" رواه مسلم وغيره، ويستحب أن ينزل عند مسجد الخيف. قوله: (ثم يتوجه إلى عرفات) لما روى ابن عمر "أنه عليه السلام غدا من منى حين طلع الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة ... " الحديث. رواه أحمد وأبو داود. قوله: (فإذا زالت الشمس) أي شمس يوم عرفة (صلى الإمام بالناس الظهر والعصر في وقت الظهر بأذان وإقامتين) لما روى جابر في حجة النبي صلى الله عليه وسلم "ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً" رواه مسلم. قوله: (ولا يجمع المنفرد) هذا عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، والأصل في

ذلك: أن الجمع بين الظهر والعصر إنما يجوز بشرط الإمام والإحرام عند أبي حنيفة، حتى لو صلاهما، أو صلى أحدهما منفرداً أو غير محرم: لم يجز له الجمع. والمراد بالإحرام: إحرام الحج، ثم قيل: لابد من الإحرام قبل الزوال ليجوز الجمع، وإن لم يكن محرماً قبل الزوال وأحرم بعده: لم يجز له الجمع، والصحيح أنه يكتفي بالتقديم على الصلاتين. ومن شرط الجمع: أن تكون صلاة الظهر صحيحة، حتى لو تبين فسادها بعدما صلاهما: أعاد الظهر والعصر جميعاً. وقال زفر: يراعي هذه الشرائط في العصر خاصة، وعندهما: لا يشترط الإمام في حق العصر، حتى يجوز للمنفرد أن يجمع، وعلى هذا الخلاف جواز الجمع للإمام وحده، فعنده: لا يجوز، خلافاً لهما، ولو نفروا عنه بعد الشروع: جاز له الجمع، واختلفوا فيما إذا نفروا عنه قبل الشروع على قوله، والمراد بالإمام: هو الإمام الأعظم أو نائبه، ولو مات الإمام وهو الخليفة: جمع نائبه أو صاحب شرطته، فافهم. قوله: (ثم يقف الإمام بعرفة راكباً بقرب الجبل) وهو الذي عند الصخرات السود الكبار، وهو الجبل الذي بوسط عرفات، يقال له: إلال على وزن هلال، والجبل يسمى: جبل الرحمة، والموقف الأعظم، وذلك لما روي أنه عليه السلام "ركب القصواء، حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه، فاستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس" رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة. قوله: (وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة) لقوله عليه السلام: "عرفات كلها موقف

وارتفعوا عن بطن عرنة" رواه البخاري. ويحمد الله تعالى ويكبر ويهلل ويلبي ويصلي ويدعو الله لحاجته، لقوله عليه السلام: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير" رواه مالك والترمذي وأحمد وغيرهم. وكان عليه السلام يجتهد في الدعاء في هذا الموقف، حتى روي أنه عليه السلام: "دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة، فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم، ثم أعاد الدعاء بالمزدلفة فأجيب حتى الدماء والمظالم" خرجه ابن ماجة. قوله: (فإذا غربت الشمس أفاض) أي الإمام (إلى مزدلفة) لحديث علي رضي الله عنه "أنه عليه السلام دفع حين غابت الشمس" رواه أبو داود وغيره. قوله: (ووقف بقرب قزح) والمراد من هذا الوقوف: النزول، لأن الوقوف لا يكون إلا بعد صلاة الفجر بغلس، وإنما ينزل هنا: لأنه الموقف، لما روي أنه عليه السلام "لما أصبح وقف على قزح" رواه أبو داود.

وقال في الصحاح: قزح اسم جبل بالمزدلفة. قال في الكشاف: المشعر الحرام: قزح، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة. قوله: (ومزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر) لقوله عليه السلام: "والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر" رواه البخاري. قوله: (ويصلي بالناس المغرب والعشاء في وقت العشاء بأذان وإقامة واحدة) وقال زفر: بأذان وإقامتين، واختاره الطحاوي. ولنا: حديث ابن عمر "أنه عليه السلام أذن للمغرب بجمع، فأقام ثم صلى العشاء بالإقامة الأولى" قال ابن حزم: رواه مسلم. قوله: (ومن صلى المغرب في الطريق) أي في طريق مزدلفة (أعاد) وكذا لو صلاها

في عرفات، وقال أبو يوسف: يجوز، لأنه صلاها في وقتها المعهود، ولهما: حديث أسامة بن زيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع من عرفة، حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ولم يسبغ الوضوء، قلت: الصلاة يا رسول الله قال: "الصلاة أمامك"، فركب، فلما جاء المزدلفة نزل وتوضأ فأسبغ الوضوء ... " الحديث. رواه البخاري ومسلم. قوله: (ويبيت بها) أي بالمزدلفة (ويصلي بهم الفجر بغلس) لما روي "أنه عليه السلام صلاها يومئذ بغلس" متفق عليه. قوله: (ثم يقف بالمشعر الحرام) وهو قزح، لما مر. قوله: (ويدعو) لما روي "أنه عليه السلام ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده" رواه مسلم. قوله: (فإذا أسفر جداً) أي إذا أسفر الصبح إسفاراً كاملاً (أفاض إلى منى فرمى جمرة العقبة من بطن الوادي سبع حصيات) لما روي أنه عليه السلام "لم يزل واقفاً حتى أسفل جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى إذا أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها- حصى الخذف- رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر" رواه مسلم.

ولو دفع بليل لعذر به من ضعف أو علة: جاز ولا شيء عليه، لما روى ابن عمر أنه عليه السلام "أذن لضعفة الناس أن يدفعوا بالليل" رواه أحمد. قوله: (مثل حصى الخذف) بالخاء المعجمة، وهو الرمي برءوس الأصابع، يقال: الحذف بالعصا، والخذف بالحصى، الأول: بالحاء المهملة، والثاني: بالخاء المعجمة. وكيفية الرمي: أن يضع الحصاة على ظهر إبهامه اليمنى ويستعين بالمسبحة، ومقدار الرمي: أن يكون بين الرامي وبينه: خمسة أذرع. قوله: (يكبر مع كل حصاة) لما روينا، ولو سبح مكان التكبير: أجزأه، لحصول التعظيم بالذكر. قوله: (ولا يقف عندها) أي عند جمرة العقبة، لما روي عن ابن عمر "أنه كان يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله" رواه البخاري. قوله: (ويقطع التلبية مع أول حصاة) لما روي عن ابن عباس "أن أسامة كان رديف النبي صلى الله عليه وسلمن من عرفة إلى مزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، قال: فكلاهما قالا: لم يزل النبي عليه السلام يلبي حتى رمى جمرة العقبة" رواه البخاري ومسلم وغيرهما. قوله: (ولو رمى السبع جملة) أي ولو رمى سبع حصيات جملة دفعة واحدة (فهي واحدة) لأن المنصوص عليه تفريق الأفعال.

قوله: (ويجوز الرمي بجنس الأرض) كالحجر، والمدر، والطين، والمغرة والنورة، والزرنيخ، والملح الجبلي، والكحل، والقبضة من تراب، (والأحجار النفيسة) كالياقوت، والزبرجد، والزمرد، والبلخش، والفيروزج، والبلور، والعقيق. قوله: (لا بالذهب) أي لا يجوز بالذهب والفضة، وكذلك الخشب والعنبر واللؤلؤ والجواهر، لأنها ليست من جنس الأرض، أو لأنه نثار وليس برمي. قوله: (ثم يذبح إن شاء) وهذا الذبح ليس بواجب على المفرد، أشار إليه بقوله: (إن شاء) ويجب على القارن والمتمتع. قوله: (ثم يحلق ربع رأسه) لما روي عن أنس "أنه عليه السلام، أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، وقال للحلاق: "خذ" وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس" رواه مسلم وأبو داود وأحمد. قوله: (وهو) أي الحلق (أفضل من التقصير) لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله: والمقصرين، قال: "وللمقصرين" متفق عليه. قوله: (ويحل له كل شيء إلا النساء) لحديث عائشة أنها قالت: "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت" متفق عليه.

وعنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رميتم وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء، وحل لكم الثياب والطيب" رواه الدارقطني. قوله: (ثم يطوف طواف الزيارة) لما روي في حديث جابر "أنه عليه السلام أفاض إلى البيت يوم النحر فصلى بمكة بعدما طاف بالبيت" رواه مسلم. قوله: (ووقته) أي وقت طواف الزيارة (أيام النحر وهي ثلاثة أيام) لأن الله تعالى عطف الطواف على الذبح والأكل منه بقوله: {فَكُلُوا} ثم قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا} فكان وقتهما واحداً، وأولها أفضلها كما في النحر. قوله: (ويحل له النساء) يعني بعدما طاف طواف الزيارة: يحل له النساء أيضاً، لإجماع الأمة على ذلك. قوله: (ثم يعود إلى منى) لما روي "أنه عليه السلام أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى" متفق عليه. قوله: (ويرمي الجمار الثلاث بعد الزوال في اليوم التالي). اعلم: أنه يرمي الجمار الثلاث في ثاني النحر بعد الزوال، بادياً لما يلي المسجد، ثم بما يليها، ثم بجمرة العقبة، ووقف عند كل رمي بعده رمي، ثم غداً كذلك، ثم بعد كذلك إن مكث، لما روت عائشة أنها قالت: "أفاض النبي صلى الله عليه وسلم من يومه حتى صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمار إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، ثم يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها" رواه أبو داود.

فإن لم يمكث في اليوم الرابع: يسقط عنه الرمي، لأنه مخير فيه بقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى} [البقرة: 203]. والأفضل أن يرمي، موافقة للنبي عليه السلام. قوله: (فإذا أراد الرجوع إلى بلده طاف طواف الصدر) يعني إذا فرغ من رمي الجمار وأراد أن يرجع إلى بلده، نزل بالمحصب، وهو الأبطح، وتسمى الحصباء، والبطحاء، والخيف، وهو ما بين الجبل الذي عند مقابر مكة، والجبل يقابله مصعداً في الشق الأيسر، وأنت ذاهب إلى منى، مرتفعاً عن بطن الوادي، وليست المقبرة من المحصب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن نازلون عند الخيف، خيف بني كنانة .... " الحديث. رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة والنسائي. ثم يطوف طواف الصدر لما روي "أنه عليه السلام صلى لظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمحصب، ثم رقد رقدة، ثم ركب إلى البيت فطاف به" رواه البخاري. قوله: (ومن وقف بعرفة لحظة) أي ساعة (ما بين الزوال يوم عرفة وفجر يوم النحر: أجزأه) لقوله عليه السلام: "الحج عرفة فمن وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم

حجه" روى بمعناه أبو داود وغيره وصححه الترمذي. قوله: (ولو كان نائماً) أي ولو كان الحاج حال الوقوف نائماً (أو مغمى عليه أو جاهلاً بها) أي بعرفة، لأن الأحاديث مطلقة تعرف في موضعها. قوله: (والمرأة في أفعال الحج كالرجل) لأن أوامر الشرع عامة جميع المكلفين ما لم يقم دليل الخصوص. قوله: (إلا في كشف الرأس) يعني إلا أنها لا تكشف رأسها، ولكن تكشف وجهها، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا كشفناه" رواه أبو داود وغيره.

وقوله: (ولبس المخيط) يعني إلا أن لها لبس المخيط، لأنه عليه السلام "أباح السراويل والقميص للنساء المحرمات" رواه أبو داود. ولا ترفع صوتها بالتلبية، ولا ترمل ولا تهرول: للفتنة، ولا تحلق، ولكن تقصر، لما روى ابن عباس أنه عليه السلام قال: "ليس على النساء الحلق إنما على النساء التقصير" رواه أبو داود وأحمد وغيرهما. والخنثى المشكل في جميع ما ذكرنا كالمرأة. قوله: (فإنها تخالفه) أي فإن المرأة تخالف الرجل في جميع ما ذكرناه.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان أحكام القران والتمتع وهو مصدر: من قرنت إذا جمعت. قوله: (القران أفضل من التمتع والإفراد) وقال الشافعي ومالك: الإفراد أفضل، وقال أحمد: التمتع أفضل. ولنا: قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. وإتمامهما: أن يحرم بهما من دويرة أهله، كذا فسرته الصحابة، وهو القران. وحديث أنس أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لبيك عمرة وحجاً " رواه البخاري ومسلم. وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لبيك عمرة وحجاً" متفق عليه. وعن علي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف أهللت؟ " قلت: أهللت بإهلالك، فقال: "إني سقت الهدي وقرنت" رواه أبو داود والنسائي.

قوله: (وصفته) أي صفة القران (أن يهل) أي يحرم (بالحج والعمرة معاً من الميقات ويقول: اللهم إني أريد العمرة والحج فيسرهما لي وتقبلهما مني) لما تلونا وروينا. قوله: (فإذا دخل مكة ابتدأ بالعمرة ثم بالحج) لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]. وكلمة (إلى) لانتهاء الغاية، فيقدم العمرة ضرورة، حتى يكون انتهاء العمرة بالحج، والآية وإن نزلت في التمتع: فالقران بمعناه، من حيث أن كلاً منهما ترفق بأداء النسكين في سفرة واحدة. قوله: (فإذا رمى الجمرة) أي جمرة العقبة (يوم النحر: أراق دماً) أي ذبح شاة أو بدنة أو سبعها لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. والقران بمعنى التمتع، وكان عليه السلام قارناً وذبح الهدايا. وقال جابر: "حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحرنا البعير عن سبعة، والبقرة عن سبعة" رواه البخاري ومسلم. قوله: (إن قدر) أي إن قدر على إراقة الدم (وإلا صام ثلاثة أيام آخرها: يوم عرفة، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله) لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]. قوله: (والتمتع أفضل من الإفراد) هذا في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن الإفراد أفضل. قوله: (وصفته) أي صفة التمتع (أن يهل بالعمرة من الميقات، فيطوف لها ويسعى،

ويحلق أو يقصر، وقد حل منها، ثم يحرم بالحج يوم التروية من الحرم، ويفعل ما يفعله الحاج المنفرد، ويقطع التلبية بأول الطواف) لما روي أنه عليه السلام "كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر" رواه أبو داود. قوله: (وعليه) أي على المتمتع (دم أو بدله) وهو أن يصوم ثلاثة أيام، آخرها يوم عرفة، وسبعة أيام إذا رجع، كما مر في القارن.

فصل

فصل هذا الفصل في أحكام الجنايات قوله: (إذا طيب المحرم عضواً: لزمه دم) أي شاة، وذلك مثل الرأس والفخذ والساق، لأن الجناية تتكامل بتكامل الارتفاق، وذلك في العضو الكامل، وكذا إذا أكل طيباً كثيراً عند أبي حنيفة، وقالا: صدقة. قوله: (وإن كان أقل) أي من العضو (لزمه الصدقة لقصور الجناية). [والمراد من الصدقة في هذا الباب جميعه: نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير، إلا ما يجب بقتل جرادة أو قمل، أو بإزالة شعرات قليلة من رأسه أو عضو آخر من أعضائه. قوله: (وإن خضب رأسه بالحناء: لزمه دم) لأن الحناء طيب، لقوله عليه السلام: "الحناء طيب" رواه البيهقي. قوله: (وإن لبد) أي وإن لبد (رأسه بالحناء: لزمه دمان، دم للتطيب ودم لتغطية الرأس) فظهر من هذا أن المراد من قوله: (خضب رأسه) هو أن يكون الحناء مائعاً. قوله: (وإن ادهن بزيت) إلى قوله: (لزمه دم) أما إذا ادهن بزيت: فلأنه أصل الطيب، فيجب دم، هذا عند أبي حنيفة، وقالا: صدقة، وهذا الخلاف في الزيت البحت، والخل البحت: أي الخالص الذي لا يخالطه طيب. أما المطيب بالبنفسج والزنبق والبان وما أشبه ذلك: يجب فيه الدم بالإجماع، وهذا إذا استعمله على وجه التطيب، أما لو داوى به جرحه أو شقوق رجليه: فلا شيء عليه بالإجماع. وأما إذا لبس مخيطاً يوماً: فعند الشافعي: يجب الدم بنفس اللبس. ولنا: أن

الارتفاق الكامل به لا يحصل إلا بالدوام، لأن المقصود منه: دفع الحر والبرد، واليوم يشتمل عليهما، فقدرناه به، وكذلك الكلام في تغطية الرأس يوماً. وأما إذا حلق ربع رأسه أو ربع لحيته: فلأن الربع يقوم مقام الكل، وأما إذا حلق كل رقبته: فلأنها عضو كامل يكمل الارتفاق بحلقه، وكذلك الإبطان أو أحدهما. قوله: (وإن كان أقل) يعني إذا لبس أو غطى رأسه أقل من يوم، أو حلق أقل من ربع رأسه أو لحيته، أو حلق بعض رقبته أو بعض إبطه (لزمه صدقة لقصور الجناية). قوله: (وإن قص من شاربه شيئاً: فعليه حكومة عدل) وتفسيره: أنه ينظر أن هذا المأخوذ: كم يكون من ربع اللحية؟ فيجب عليه بحسابه من الطعام، حتى إذا أخذ منه نصف ثمن اللحية: يجب عليه ربع الدم. قوله: (وإن حلق موضع المحاجم، أو قص أظفاره في مجلس أو ربعها: لزمه دم). أما إذا حلق موضع الحجامة: فعليه دم عند أبي حنيفة، لأنه حلق موجود لأمر مقصود وهو الحجامة، وقالا: عليه صدقة، والمحاجم جمع محجمة بكسر الميم وفتح الجيم: وهي قارورة الحجام، وأما المحجم، بفتح الميم والجيم: فهو اسم مكان، من الحجم، وجمعه محاجم أيضاً، والمراد ها هنا: الأول، ولا يلزم الخلل، على ما لا يخفى على الفطن والفهم. وأما إذا قص أظافره في مجلس: فلأن إزالة ما ينمو من بدن الإنسان من محظورات الإحرام، وقد ارتكبه، فيجب عليه الدم، وأما إذا قص أربع أظافر فكذلك يجب دم، لأن الربع يقوم مقام الكل. قوله: (وإن قص الكل) أي وإن قص جميع أظافره (في أربع مجالس: لزمه أربعة دماء) لاختلاف المجلس، فصار كاللبس المتفرق والتطيب المتفرق.

قوله: (وإن قص أقل من خمسة مجتمعة أو خمسة متفرقة: لزمه لكل ظفر صدقة) أما إذا قص أقل من خمسة مجتمعة: فلأنه لم يحصل له الارتفاق الكامل ولا الزينة، فلا يجب الدم. وقال محمد: يجب عليه بحساب ذلك من الدم، وقال زفر والشافعي: إن قص ثلاثة: فعليه دم. وأما إذا قص أقل من خمسة متفرقة من يديه ورجليه: فكذلك صدقة عندهما، وقال محمد: دم. ولا شيء بأخذ ظفر منكسر. قوله: (وإن تطيب أو لبس أو حلق بعذر: تخير بين دم، وثلاثة أصوع من بر، يطعمها لستة مساكين، وصوم ثلاثة أيام) لما روي عن كعب بن عجرة أنه قال: "كان بي أذى من رأسي، فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: "ما كنت أرى الجهد بلغ منك ما أرى، أتجد شاة؟ " قلت: لا، فنزلت الآية: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال: هو صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين: نصف صاع لكل مسكين" متفق عليه. وفسر النسك عليه السلام: بالشاة، فيما رواه أبو داود. وكلمة (أو) للتخيير، والصوم يجزئه في أي مكان شاء، وكذا الصدقة عندنا، وأما النسك: فيختص بالحرم بالاتفاق.

قوله: (وإن قبل أو لمس بشهوة: لزمه دم) لأن فيه الاستمتاع بالنساء، وهو منهي عنه، فإذا أقدم عليه: فقد ارتكب المحرم، فيجب دم. قوله: (وإن جامع قبل الوقوف بعرفة: فسد حجة بالإجماع) وعليه شاة عندنا، وعند الشافعي: بدنة، اعتباراً بما لو جامع بعد الوقوف. ولنا: أن الجناية قبل الوقوف أكمل، لوجودها في مطلق الإحرام، فيكون جزاؤه أغلظ، وروي أن رجلاً جامع امرأته وهما محرمان فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما: "اقضيا نسككما وأهديا هدياً" الحديث رواه البيهقي، والهدي يتناول الشاة. قوله: (ويتمه) أي يتم ذلك الحج الفاسد (ويقضيه من عام قابل) لما روي عن ابن عمر وعلي وابن مسعود أنهم قالوا: "يريقان دماً، ويمضيان في حجهما، وعليهما الحج من قابل". قوله: (ولا يفارق امرأته في القضاء) لأن الافتراق ليس بنسك في الأداء فكذا في القضاء، لأن القضاء يحكي الأداء. وقال زفر ومالك والشافعي: يفترقان فيه، فعند مالك: عند الخروج من المنزل، وعند الشافعي: عند المكان الذي جامعها فيه، وعند زفر: عند الإحرام. قوله: (وإن جامع بعد الوقوف: لم يفسد حجه) خلافاً للشافعي، لقوله عليه السلام:

"من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، فبعد التمام لا يلحقه الفساد. قوله: (ومن طاف طواف القدوم أو الصدر محدثاً: فعليه صدقة) لأنه دخله نقص بترك الطهارة، فيجبر بالصدقة. قوله: (وإن طاف جنباً) أي وإن طاف طواف القدوم أو الصدر جنباً (فعليه شاة) لأنه نقص كثير. قوله: (ومن طاف للزيارة محدثاً: فعليه شاة) لأن النقص الحاصل بالحدث يسير، فوجب جبره بالشاة، فصار كترك شوط منه. قوله: (وإن طاف جنباً) أي وإن طاف طواف الزيارة جنباً (فعليه بدنة) كذا روي عن ابن عباس، ولأن الجناية أغلظ. قوله: (ومن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها) مثل شوطين أو شوط (فعليه شاة) لأن النقصان يسير فيجبر بالدم. قوله: (وإن ترك أربعة) أي وإن ترك أربعة أشواط من طواف الزيارة (فهو محرم أبداً في حق النساء حتى يطوفه) لأن للأكثر حكم الكل، فصار كأنه لم يطف. قوله: (ومن ترك من طواف الصدر ثلاثة أشواط: فعليه صدقة). وهي نصف صاع من بر لكل شوط، ولا يجب فيه دم، بخلاف طواف الزيارة. قوله: (وإن ترك أربعة) أي أربعة أشواط من طواف الصدر (فعليه دم) لأن طواف الصدر واجب، فتركه يوجب الدم، فكذا أكثره.

قوله: (ومن ترك السعي) أي السعي بين الصفا والمروة (وأفاض من عرفة قبل الإمام، أو ترك الوقوف بمزدلفة، أو ترك رمي كل الجمار، أو ترك رمي وظيفة يوم، أو ترك أكثرها) بأن ترك الجمرة الأولى والثانية، أو الثانية والثالثة، أو الأولى والثالثة (لزمه دم) لأن في ذلك ترك الواجب فيجبر بالدم. قوله: (فإن كان أقل) أي فإن كان تركه من الرمي أقل (من وظيفة يوم) بأن ترك الجمرة الأولى، أو الوسطى، أو الأخيرة (لزمه صدقة) لكل حصاة نصف صاع من بر، أو صاع من تمر أو شعير. قوله: (ومن أخر الحلق أو طواف الزيارة عن وقته وهو أيام النحر: لزمه دم) هذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا شيء عليه فيهما. وعلى هذا: الخلاف في تأخير الرمي، وفي تقديم نسك على نسك، كالحلق قبل الرمي، ونحر القارن قبل الرمي، والحلق قبل الذبح. قوله: (وكذا الحلق في وقته خارج الحرم) المراد منه: أن يحلق في غير الحرم، في أيام النحر، وأما إذا خرجت أيام النحر فحلق في غير الحرم: فعليه دمان عند أبي حنيفة، وقال محمد: دم واحد في الحج والعمرة، وقال زفر: إن حلق للحج في أيام النحر فلا شيء عليه، وإن حلق بعده فعليه دم.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان الجنايات على الصيد قوله: (محرم قتل صيداً) الصيد: هو الحيوان الممتنع المتوحش بأصل الخلقة، وهو بري: إذا كان توالده وتناسله في البر، وبحري: إذا كان في الماء، ويحرم الأول على المحرم، دون الثاني لقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]. قوله: (أو قتل سبعاً) أي أو قتل سبعاً (غير صائل) أي حامل، قيد به: لأنه إذا قتله لصولته أو حملته: لا يجب عليه شيء، خلافاً لزفر. قوله: (عمداً أو سهواً) أي سواء قتله بطريق العمد والقصد أو السهو (وسواء كان في ذلك عايداً أو بادياً) المراد بالبادي: الذي قتل الصيد مرة، ومن العايد: الذي قتل مرة بعد مرة، لأن الموجب للضمان لا يختلف باختلاف هذه الأحوال. قوله: (أو دل عليه) أي على صيد (من قتله) بأن قال: إن في مكان كذا صيداً، فقتله المدلول: يجب على الدال الجزاء، سواء كان المدلول محرماً أو حلالاً، وذلك لارتكابه محظور إحرامه، وقال الشافعي: لا شيء عليه. قوله: (فعليه) أي فعلى المحرم المذكور (قيمة الصيد الذي قتله). قوله: (بقول عدلين) حال من قيمته، أي عليه قيمة الصيد حال كونهما مقومة بقول عدلين، وهو أن يقوماه في مقتله أو أقرب موضع منه، ثم يخير فيها: بين الهدي إن بلغت قيمته هدياً، والطعام يتصدق به، على كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من تمر وشعير، والصيام يصوم عن كل نصف صاع يوماً، وهذا عندهما، وقال محمد والشافعي: يجب النظير فيما له نظير، ففي الظبي شاة، وفي الضبع: شاة، وفي

الأرنب: عناق، وفي اليربوع: جفرة، وفي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش وبقر الوحش: بقرة، وفيما لا نظير له كالعصفور ونحوه: تجب القيمة. قوله: (ولو عيب الصيد) بأن جرحه أو قطع عضوه أو نتف شعره (ضمن النقصان) اعتباراً للجزء بالكل في حقوق العباد، وكذلك لو قلع سنه أو ضرب عينه فابيضت. قوله: (ولو أزال امتناعه ضمن كل القيمة) لأنه فوت عليه الأمن بنقص آلة الامتناع، فيغرم قيمته، وزوال الامتناع أعم من أن يكون بقطع القوائم ونتف الريش. قوله: (ولو كسر بيض صيد ضمنه) أي ضمن قيمة البيض لأنه أصل للصيد. قوله: (وضمن فرخه الميت إن خرج منه) أي من البيض، لأن البيض معد ليخرج منه فرخ، والتمسك بالأصل واجب حتى يظهر خلافه، وكسر البيض قبل وقته سبب لموت الفرخ، والظاهر أنه مات به فيجب، وكذا لو ضرب بطن ظبية فألقت جنيناً ميتاً ثم ماتت: يجب عليه قيمتهما، لأن الضرب سبب صالح لموتهما، بخلاف من ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ميتاً ثم ماتت: حيث يجب ضمان الأم ولا يجب ضمان الولد، غير الغرة في الحرة. وفي الأمة: يجب قيمة الأم ونصف عشر قيمة الولد لو كان ذكراً، وعشر قيمته لو كان أنثى، لأن الجنين جزء من وجه، ونفس من وجه، فجزاء الصيد مبني على الاحتياط، فرجحنا فيه جانب النفس، فأوجبنا فيه ضمانهما، بخلاف حقوق العباد، فافهم. قوله: (ولا شيء عليه) أي على المحرم (في قتل الغراب المؤذي) المراد منه: الغراب الأبقع الذي يأكل الجيف أو يخلط، وأما العقعق: فلا يحل قتله للمحرم،

والأصل فيه: أنه عليه السلام "أمر بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" متفق عليه. والمراد من الكلب العقور: الذئب، فعلى هذا: الكلب غير العقور لا يحل قتله، وعن أبي حنيفة: أن الكلب العقور وغير العقور والمستأنس منه والمستوحش: سواء. وأما النمل والبراغيث والقراد والبق والذباب: فلأنها ليست بصيود، وإنما هن من الحشرات، وكذلك السلحفا والخنفسا، والمراد من النمل: السوداء والصفراء التي تؤذي بالعض، وما لا يؤذي: لا يحل قتلها، ولكن لا يضمن، لأنها ليست بصيد. وفي المحيط: وليس في القنافذ والوزغ والزنبور والحلمة وصباح الليل والصرصر وأم حنين وابن عرس: شيء، لأنها من هوام الأرض، وليست بصيود. قوله: (ومن قتل قملة أو جرادة: تصدق بكف من الطعام أو بالتمرة) لما روي: "أن أهل حمص أصابوا جراداً كثيراً في إحرامهم فجعلوا يتصدقون مكان كل جرادة بدرهم، فقال عمر رضي الله عنه: أرى دراهمكم كثيرة يا أهل حمص، تمرة خير من جرادة". والتصدق بكف من الطعام: في الجراد، وفيما إذا قتل قملة أو قملتين، وأما إذا قتل كثيراً: أطعم نصف صاع من بر. قوله: (ويجب الجزاء بأكل الصيد مضطراً) أي في حالة الاضطرار، لأن الإذن مقيد بالكفارة بالنص، وهو قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] وجه التمسك: أن الحلق محظور الإحرام، وقد أذن له الشارع فيه حالة الضرورة مقيداً بالكفارة، وكذا قتل الصيد محظور الإحرام: يستباح لأجل الضرورة مقيداً بالكفارة. قوله: (ويحل للمحرم ذبح غير الصيد) مثل الشاة والبقرة والبعير والدجاجة والبط الأهلي، لإجماع الأمة عليه.

قوله: (والحمام المسرول والظبي المستأنس: صيد) لأنهما صيد بأصل الخلقة، والاستئناس عارض، فلا يبطل الحكم الأصلي، بخلاف البعير الناد، حيث لا يكون صيداً في حق المحرم، ولكن يأخذ حكم الصيد في حق الذكاة. قوله: (ويحل للمحرم لحم صيد اصطاده حلال، وذبحه بلا واسطة محرم) يعني إن لم يدل عليه ولم يأمره بصيده، وذلك: لأن أبا قتادة لم يصد الحمار الوحشي لنفسه خاصة، بل صاده لنفسه ولأصحابه وهم محرمون، فأباحه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحرمه عليهم بإرادته أنه لهم، هكذا قاله الطحاوي. قوله: (وفي صيد المحرم إذا ذبحه الحلال: قيمته يتصدق بها لا غير) يعني لا يجزئه الصوم، لقوله عليه السلام: "إن الله حرم مكة لا يخلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها"، فقال العباس: إلا الإذخر فإنه لقبورنا وبيوتنا، فقال عليه السلام: "إلا الإذخر" متفق عليه. وإنما لم يجزه الصوم: لأنه غرامة وليس بكفارة، فأشبه غرامات الأموال. قوله: (وكذا في حشيشه) أي وكذا تجب القيمة في حشيش الحرم (وشجره غير المملوك، والمنبت عادة وغير المنبت عادة ما لم يجف) لما روينا، أما التقييد بغير المملوك: فلأنه إذا كان في ملك إنسان: فعلى قاطعه قيمتان: قيمة حقاً للشرع، وقيمة لمالكه، وأما التقييد بغير المنبت عادة: فلأنه إذا كان منبتاً عادة مثل الحنطة والبقول والرياحين: فالضمان عليه لحق صاحبه لا لحق الحرم. وأما الذي هو ليس بمنبت عادة كأم غيلان: فلا يخلو: إما أنبته منبت، أو نبت بنفسه، والنابت بنفسه لا يخلو أيضاً: إما أن نبت في ملك أحد، أو في غير ملك أحد. أما الذي أنبته منبت: فلا ضمان فيه لحق الحرم، حيث ملكه بالإنبات فصار مما ينبته الناس عادة، وأما الذي نبت بنفسه وكان في ملك أحد: فعلى القاطع فيه ضمانان: ضمان لحق الحرم وضمان لحق صاحبه.

وأما الذي نبت بنفسه ولم يكن في ملك أحد: فعليه فيه ضمان واحد لحق الحرم، وأما التقييد بعدم الجفاف: فلأنه إذا قطع شجرة يابسة أو حشيشاً يابساً: لا شيء عليه، لأنه حطب. قوله: (ولا يرعى حشيش الحرم) لما رويناه، وجوز أبو يوسف رعيه لمكان الحرج. قوله: (ولا يقطع منه) أي من حشيش الحرم (غير الإذخر) لما روينا. قوله: (ويحل قلع الكمأة) أي من الحرم، لأنها ليست من نبات الأرض، وإنما هي مودعة فيها، ولأنها لا تنمو ولا تبقى، فأشبهت اليابس من النباتات. قوله: (وما يوجب على المفرد دماً، يوجب على القارن دمين: دماً لحجته ودماً لعمرته) وقال الشافعي: دم واحد، وهذه قاعدة مطردة إلا في مسألة واحدة، وهي مجاوزة القارن الميقات: فإن عليه دماً واحداً فيه، وقال زفر: عليه دمان. قوله: (ولو قتل محرمان صيداً: فعلى كل واحد منهما جزاء) أي جزاء كامل، لأن كلاً منهما جان. وقال الشافعي: جزاء واحد. قوله: (ولو قتل حلالان صيد المحرم: فعليهما جزاء واحد) لأن الواجب فيه بدل المحل لا جزاء الفعل، وهو واحد. قوله: (وبيع المحرم الصيد وشراءه: باطل) لأن بيعه حياً: تعرض للصيد، وبيعه بعد قتله: بيع ميتة، بخلاف ما إذا باع لبن الصيد، أو بيضه، أو الجراد، أو شجر الحرم، لأن هذه الأشياء لا يشترط فيها الذكاة، والله أعلم.

فصل

فصل هذا الفصل مشتمل على أحكام المحصر والعمرة والحج عن الغير والهدي قوله: (محرم منعه عدو أو مرض: جاز له التحلل ببعث شاة تذبح في يوم يعلمه ليتحلل بعد الذبح) لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فيعم الإحصار بالعدو والمرض، لا كما قاله الشافعي: أن الإحصار بالعدو فقط. قوله: (ويتوقت دم الإحصار بالحرم) حتى لا يجوز ذبحه في غيره، ولا يتوقت بيوم النحر: حتى جاز ذبحه في أي وقت شاء وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: يتوقت بالزمان وهو أيام النحر، وبالمكان هو الحرم، وهذا الخلاف في المحصر بالحج، وأما دم المحصر بالعمرة: فلا يتعين بالزمان بالإجماع. قوله: (بخلاف دم المتعة والقران) حيث يختصان بالحرم ويوم النحر، لأنه دم نسك كالأضحية. قوله: (والمحصر بالحج إذا تحلل: فعليه حجة وعمرة) كذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنه، وقال الشافعي: يلزمه حجة لا غير. قوله: (وعلى المحصر بالعمرة: القضاء) يعني إذا تحلل المحصر بالعمرة: وجب عليه

القضاء لا غير، والإحصار عنها يتحقق عندنا، وقال مالك والشافعي: لا يتحقق. قوله: (وعلى القارن: حجة وعمرتان) لأنه صح شروعه في الحج والعمرة، فيلزمه بالتحلل قضاؤها وقضاء عمرة أخرى، إذا لم يقض الحج في تلك السنة. قوله: (ولو زال الإحصار قبل الذبح، فإن قدر على إدراك الحج والهدي: لزمه التوجه لأداء الحج) وليس له أن يتحلل بالهدي، لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل، ويصنع بالهدي ما شاء. قوله: (وإلا: لا) يعني وإن لم يقدر على إدراك الهدي والحج: لا يجب عليه التوجه، (وإن توجه ليتحلل بأفعال العمرة: جاز) لأن فيه فائدة: وهي سقوط العمرة عنه في القضاء. قوله: (ومن قدر على الوقوف) أي بعرفة (أو الطواف) أي طواف الزيارة (أو منع بعد الوقوف بعرفة: فليس بمحصر) أما إذا قدر على الوقوف: فلأنه أمن من الفوات، وأما إذا قدر على الطواف: فلأن فائت الحج يتحلل به، والدم بدل عنه في التحلل، فلا حاجة إلى الهدي، وأما إذا منع بعد الوقوف: فلأنه لا يتصور الفوات بعده، فأمن منه. قوله: (ومن فاته الوقوف) أي بعرفة (حتى طلع من الفجر يوم النحر: فقد فاته الحج) لأنه لا يمكن تدارك الوقوف بعده لذهاب وقته، فيتحلل بعمرة ويقضي الحج من قابل، ولا دم عليه. قوله: (والعمرة لا تفوت: لأنها غير موقتة) وعليه الإجماع. قوله: (وهي) أي العمرة (جائزة في كل وقت، إلا يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق) لما روي عن ابن عباس: "لا تعتمر في خمسة أيام واعتمر فيما قبلها وبعدها".

قوله: (وهي) أي العمرة (سنة) وهذا مكرر لا طائل تحته، لأنه ذكرها مرة في أول الحج. قوله: (وتجوز النيابة في نفل الحج) اعلم أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره عند أهل السنة والجماعة، صلاة كان أو صوماً، أو حجاً، أو صدقة، أو قراءة القرآن والأذكار، إلى غير ذلك من جميع أنواع البر، يصل ذلك إلى الميت وينفعه. وقالت المعتزلة: ليس له ذلك، ولا يصل إليه ولا ينفعه. وقال الشافعي ومالك: يجوز ذلك في الصدقة والعبادة المالية: كالحج، ولا يجوز في غيره من الطاعات: كالصلاة والصوم وقراءة القرآن، وغيره. ولنا: ما روي "أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان لي أبوان أبرهما حال حياتهما، فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صومك" رواه الدارقطني.

وعن علي رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام قال: "من مر على المقابر وقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أحد عشر مرة، ثم وهب أجرها للأموات، أعطي من الأجر بعدد الأموات" رواه الدارقطني. وعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا على موتاكم سورة يس" رواه أبو داود. وعنه عليه السلام "أنه ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته" متفق عليه، أي جعل ثوابه لأمته.

قوله: (مطلقاً) يعني سواء أكان له عجز دائم إلى الموت أو لم يكن، وذلك لأن باب النفل أوسع. قوله: (وفي فرضه) أي تجوز النيابة في فرض الحج عند العجز الدائم إلى الموت، لأنه فرض العمر، فيعتبر عجز مستوعب لبقية العمر، ليقع به اليأس عن الأداء بالبدن، حتى لو حج عن نفسه وهو مريض: يكون مراعى، فإن مات به: أجزأه، وإن تعافى: بطل، كذا لو أحج عن نفسه وهو محبوس. ثم الصحيح من المذهب فيمن حج عن غيره: أن أصل الحج يقع عن المحجوج عنه، لقوله عليه السلام لرجل: "حج عن أبيك واعتمر" رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

قوله: (ودم القران على المأمور) لأنه واجب شكراً لما وفقه الله بين الحج بين النسكين، والمأمور هو المختص بهذه النعمة. قوله: (ودم الإحصار على الآمر) لأنه هو الذي أدخله في هذه العهدة فيجب عليه تخليصه. قوله: (والهدي: من الإبل والبقر والغنم) وهو مجمع عليه. والهدي: ما يهدى من النعم إلى الحرم. قوله: (والعيب مانع كالأضحية) أي كما يمنع في الأضحية، والذي يمنع فيهما: هو العوراء، والعرجاء: التي لا تمشي إلى المنسك، والعجفاء: التي لا تبقى، ومقطوعة الأذن والذنب، ولا يمنع الجماء والخصي والثولاء والجرباء. قوله: (ويجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران) لقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36]. ولا يجوز الأكل من هدي الجنايات، لأنها دماء كفارة. قوله: (ويتوقت دم المتعة والقران خاصة بيوم النحر) لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 28 - 29]، وقضاء التفث والطواف يختص في الحرم بأيام النحر، فكذا الذبح، ليكون الكلام مسروداً على نسق واحد. ويختص جميع دم يجب على الحاج: بالحرم، لقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95].

قوله: (ويجوز التصدق بها) أي بالدماء (على ساكني الحرم وغيرهم من الفقراء) لأنه سد خلة المحتاج، ولا فرق بينهم وبين غيرهم، وقال الشافعي: لا يجوز التصدق على غيرهم، والله أعلم بالصواب.

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد أقول: لما فرغ عن بيان الحج، شرع في بيان الجهاد، على التناسب الذي في خطبة الكتاب، ويسمى هذا كتاب السير أيضاً، وهو مصدر: جاهد. قوله: (هو) أي الجهاد (فرض كفاية وإن لم يبدأ الكفار بالقتال) لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]. فإذا حصل من البعض: سقط عن الباقين، كصلاة الجنازة، ودفن الميت، ورد السلام، وكانت الصحابة يغزو بعضهم ويقعد البعض، ولو كان فرض عين لما قعدوا. قوله: (ولا جهاد على امرأة، وعبد، وأعمى، ومقعد، وأقطع) لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [الفتح: 17]، نزلت في أصحاب الأعذار حين اهتموا بالخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت آية التخلف. قوله: (إلا إذا هجم العدو) فحينئذ يكون الجهاد فرض عين، تخرج المرأة والعبد بلا إذن زوجها وسيده. قوله: (ويقدم طلب الإسلام) يعني إذا حاصر أهل الإسلام الكفار: يدعونهم إلى الإسلام أولاً، لما روي عن ابن عباس أنه قال: "ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً قط إلا دعاهم" رواه أحمد.

قوله: (ثم الجزية) يعني إذا لم يقبلوا الإسلام: يدعونهم إلى الجزية، لما روي أنه عليه السلام "كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية: أمره به" في حديث فيه طول، رواه أحمد والترمذي وصححه. قوله: (فإن أبوهما) أي إن أبوا الإسلام والجزية (قوتلوا بالسلاح والمنجنيق .. إلى آخره) لما روي أنه عليه السلام كان يقول في وصية أمراء الجيش: "فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن أجابوك: فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا: فاستعن بالله عليهم وقاتلهم" رواه مسلم. قوله: (ويرمون قاصدين الكفار وإن تترسوا بالمسلمين) أي بالمسلمين الذين هم أسارى عندهم، لأن دفع الضرر العام بالضرر الخاص جائز، وفي بعض النسخ: (ويرمون مقصودين) فإن صح هذا فوجهه أن يقرأ (يرمون) على صيغة المبني للمفعول، ويكون (مقصودين) حال من الضمير الذي في (يرمون). قوله: (ويكره إخراج النساء والمصاحف إن خيف عليهما) لما فيه من تعريض المصحف على الاستخفاف، وتعريض المرأة على الضياع والفضائح، وإن لم يخف عليهما: فلا بأس بإخراج العجائز للخدمة: من الطبخ والخبز ومعالجة المرض وغير ذلك. وأما الشواب منهن: فقرارهن في البيوت أسلم، والأولى: أن لا يخرجن أصلاً، فإن تحققت الضرورة: تخرج الإماء دون الحرائر. قوله: (ويحرم الغلول) لأنه عليه السلام نهى عنه، وهو الخيانة، وكذلك تحرم المثلة والغدر، لقوله عليه السلام: "لا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليداً" رواه ابن ماجة.

والغدر: الخيانة أيضاً، إلا أن الغلول في المغنم، والغدر أعم. قوله: (وقتل المجنون) أي يحرم قتل المجنون (والصبي والمرأة) إلى آخره، لما روي أنه عليه السلام "نهى عن قتل النساء والصبيان" رواه أحمد والبخاري ومسلم وجماعة آخرون. وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انطلقوا باسم الله وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأة" رواه أبو داود. وقيد بقوله: (غير الملكة) لأن المرأة إذا كانت ملكة: تقتل، لأن في قتلها كسر شوكتهم. قوله: (والهرم) هو الشيخ الفاني. قوله: (ونحوهم) مثل المقطوع إحدى يديه وإحدى رجليه، أو اليمنى. قوله: (إلا دفعاً لشر قتاله) يعني إذا كان أحد من هؤلاء مقاتلاً أو ذا رأي في الحرب: يقتل لما قلنا، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل دريد بن الصمة وكان ابن مائة وعشرين سنة، وقيل ابن مائة وستين سنة، لأنه كان صاحب رأي وهو أعمى. قوله: (ويكره للمسلم قتل أبيه الكافر) لقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15]. وليست البداية بالقتل من المعروف. قوله: (إلا دفعاً) استثناء من قوله: (ويكره) يعني إذا قصد الأب قتله ولم يمكنه دفعه إلا بقتله: فله أن يقتله دفعاً. قوله: (كالمسلم) يعني كما يجوز له أن يدفع اباه المسلم بالقتل إذا قصد الأب قتله، فإذا ثبت في هذه الصورة: ففي الصورة الأولى أولى وأحرى.

قوله: (وللإمام الصلح مجاناً) يعني بلا شيء، هذا إذا كان الصلح خيراً للمسلمين، لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]. أي وإن مالوا للصلح. قوله: (وبمال) أي وللإمام الصلح أيضاً بمال أخذاً ودفعاً، فالأخذ: أن يأخذ المال منهم، والدفع: أن يدفع المال إليهم، وذلك لأن الصلح: جهاد في المعنى إذا كان فيه مصلحة، إذ المقصود من الجهاد: دفع الشر، ولكن الصلح بالدفع إنما يجوز إذا خاف الهلاك على المسلمين، لأن دفع الهلاك بأي طريق أمكن: واجب، وإذا لم يخف: لا يفعل ذلك، لما فيه من إلحاق الذلة بالمسلمين. قوله: (ونقضه) أي وللإمام نقض الصلح (بعد الإعلام متى رآه مصلحة) لأن المصلحة لما تبدلت: كان النقض جهاداً، هذا إذا صالحهم مدة، فرأى نقضه قبل مضي المدة، وأما إذا انقضت المدة: يبطل الصلح بمضيها. قوله: (وإن بدوا بخيانة: لم يجب الإعلام) يعني وإن بدأ الكفار بخيانة بعد الصلح: نقض الإمام الصلح بدون الإعلام، لأن الإعلام لنقض العهد، وقد انتقض بالخيانة. قوله: (ويكره بيع السلاح والحديد والخيل منهم) أي من الكفار، لأن فيه تقوية لهم، فيحرم. قوله: (ولو كان سلماً) واصل بما قبله، السلم بكسر السين وفتحها: بمعنى الصلح، يعني ولو كانوا مصطلحين مع المسلمين: يكره بيع السلاح منهم، لما ذكرنا. قوله: (بخلاف الطعام) لا يكره بيع الطعام واللباس منهم، والقياس أن يمنع منهم، لأن فيه تقويتهم، إلا أنا تركناه لما روي عنه عليه السلام "أنه أمر ثمامة أن يمير أهل مكة".

قوله: (وإذا أمنهم حر: صح) يعني أمان الحر الواحد من المسلمين: كافراً واحداً أو جماعة: صحيح، لقوله عليه السلام: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" رواه أحمد. والذمة: العهد، وأدناهم: أي أقلهم عدداً، وهو الواحد. قوله: (إلا أن يرى الإمام نقضه) أي نقض أمان الحر الواحد إذا كان شراً لمصالح المسلمين، واحترازاً عن الغدر، وقال عليه السلام: "لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به" رواه أحمد والبخاري ومسلم. قوله: (ولا يصح أمان ذمي) لأنه منهم (ولا أمان أسير وتاجر) لأنهما مقهوران تحت أيديهم، (ولا أمان مسلم غير مهاجر) وهو الذي أسلم في دارهم ولم يهاجر إلينا، (ولا أمان عبد غير مأذون في القتال) لأنه لم يباشر القتال، فلا يخافونه، فلا يصح أمانه، وقال محمد والشافعي: يجوز أمانه.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان أحكام الغنائم وقسمتها قوله: (إذا فتح الإمام بلداً قهراً: فله الخيار: في قسمته بين الغانمين) يعني بعد إخراج الخمس كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر (وإبقائه) أي إبقاء البلد (عليهم بقطع الجزية على رؤوسهم، والخراج على أراضيهم) كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق بموافقة الصحابة رضي الله عنهم. قوله: (وله) أي للإمام (الخيار أيضاً إن شاء: قتل الأسرى) كما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة، فإنه قتل مقاتلتهم واسترق ذراريهم (وإن شاء استرقهم) لأن فيه توفير المنفعة لهم بالاسترقاق، إلا مشركي العرب والمرتدين على ما يجيء. قيد بقوله: (إن لم يسلموا) لأنه إذا أسلموا لا يتعرض لهم بالقتل ووضع الجزية، ولكن له أن يسترقهم (وإن شاء جعلهم ذمة للمسلمين). قوله: (ولا يطلقهم بمال) أي ولا يخلي سبيلهم بأخذ المال منهم (ولا يفادي بهم أسرانا) لأن في ذلك تقويتهم على المسلمين، وعودهم حرباً عليهم، وعن أبي حنيفة: أنه لا بأس أن يفادي بهم أسارى المسلمين، وهو قول محمد. قوله: (وإن تعذر نقل مواشيهم: ذبحها وحرقها) كيلا ينتفع بها، كما يخرب بيوتهم ويقطع أشجارهم ويقلع زرعهم. قوله: (لا غير) يعني لا تعقر، لأنه مثلة، وكذلك لا تحرق قبل الذبح، لأنه منهي عنه.

قوله: (وحرقوا الأسلحة) لئلا ينتفعوا بها. قوله: (وما لا يحرق) أي وما لا يمكن إحراقه (يدفن في مكان لا يقفون عليه) كيلا ينتفعون بها. قوله: (ولا تقسم غنيمة في دار الحرب) لأن فيه قطع حق المدد فلا يشرع. قوله: (إلا للإيداع) يعني القسمة بين الغانمين على وجه الإيداع: تجوز، ليحملوها إلى دار الإسلام، ثم يرتجعها منهم فيها، فإن أبو أن يحملوها: أجبرهم على ذلك بأجر المثل، وقيل: لا يجبروا. ولو كان في بيت المال أو في الغنيمة حمولة: حمل عليها، لأن الكل ما لهم. قوله: (والردء في الغنيمة كالمقاتل) لتحقق سبب الاستحقاق، وهو المجاوزة على قصد القتال. الردء بكسر الراء وسكون الدال في آخره همزة: هو المعين. قوله: (بخلاف السوقي) يعني السوقي ليس كالمقاتل، لانعدام السبب في حقه، لأن قصده التجارة، لا إعزاز الدين ولا إرهاب العدو، إلا أن يقاتل: فيستحق حينئذ، وفي قول للشافعي: يسهم له. قوله: (والمدد قبل إخراج الغنيمة إلى دار الإسلام: كالأصل) لأن سبب الملك هو القهر، وتمام القهر: بالإحراز بالدار، وقد شاركه في هذا المعنى، بخلاف ما إذا لحقه المدد بعد إخراج الغنيمة. قوله: (ومن مات قبل إخراج الغنيمة سقط حقه) يعني لا يورث نصيبه، لأن الإرث يجري في الملك، ولا ملك قبله. قوله: (وبعده لا) أي بعد إخراج الغنيمة لا يسقط حقه بل يورث منه.

قوله: (وللعسكر الانتفاع بالغنيمة قبل الإخراج) أي إلى دار الإسلام (أكلاً) أي من حيث الأكل والعلف والدهن والإيقاد والقتال بالسلاح، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب ونأكله ولا نرفعه" رواه البخاري. قوله: (ونحوها) مثل الانتفاع بالحطب والعسل والعنب ونحوها، ولا فرق في الطعام بين أن يكون مهيأ للأكل وبين أن لا يكون مهيأ له، حتى يجوز لهم ذبح المواشي من البقر والغنم والجزور، وكذا أكل الحبوب والسكر والفواكه الرطبة واليابسة والسمن والزيت، وكل شيء هو مأكول عادة. قوله: (بلا قسمة) متعلق بقوله: (الانتفاع) وإنما لم يجز القسمة: لما ذكرنا من أن فيه قطع حق المدد. قوله: (وفي غير بيع) متعلق أيضاً بقوله: (الانتفاع) وإنما لم يجز البيع: لأنهم لا يملكون بالأخذ ما لم يخرجوا، وإنما أبيح لهم التناول: للضرورة، والمباح له لا يملك البيع، وإن باعه أحدهم: رد الثمن إلى المغنم. قوله: (بخلاف الثياب) يعني لا يجوز الانتفاع بالثياب والدواب والمتاع والسلاح، لأنه مال مشترك بينهم، فلا يجوز الانتفاع به بلا حاجة، والأولى: أن يقسم الإمام بينهم إذا احتاجوا إليه كلهم، لأن المحظور يستباح للضرورة. قوله: (وبعد الإخراج) أي إلى دار الإسلام (يردون ما فضل عنهم من ذلك، ولا ينتفعون) لزوال المبيح: وهو الضرورة. قوله: (وخمس الغنيمة: يقسم أثلاثاً بين اليتامى والمساكين وابن السبيل، يقدم منهم) أي من هؤلاء (فقراء ذوي القربى خاصة، ولا حق لأغنيائهم) وقال الشافعي: لذوي القربى: خمس الخمس، يستوي فيه فقيرهم وغنيهم، ويقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ويكون ذلك لبني هاشم وبني المطلب، ولا يكون لغيرهم.

فحاصله: أن الخمس يقسم أثلاثاً عندنا، وعنده أخماساً: سهم لذوي القربى، وسهم للنبي صلى الله عليه وسلم يخلفه فيه الإمام، ويصرفه إلى مصالح المسلمين، والباقي للثلاثة. ولنا: أن الخلفاء الراشدين قسموه على ثلاثة، على نحو ما قلنا، بمحضر من الصحابة، فكان إجماعاً. قوله: (وذكر الله في الخمس: للتبرك باسمه في افتتاح الكلام) وهو غير محتاج إلى شيء، لأن الكل له محتاج. قوله: (وسهم النبي عليه السلام: سقط بموته) لأنه عليه السلام كان يستحقه بالرسالة، ولا رسول بعده. قوله: (كالصفي) أي كما يسقط الصفي، وهو شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصطفيه لنفسه، ويستعين به على أمور المسلمين، وكانت صفية من الصفي. رواه أبو داود. قوله: (وأربعة الأخماس بين الغانمين: للفارس سهمان، وللراجل سهم) وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: للفارس ثلاثة أسهم، وبه أخذ الشافعي، لقول ابن عمر: "أنه عليه السلام أسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً" رواه الجماعة.

ولأبي حنيفة: قول مجمع بن جارية: "قسمت خيبر .. إلى أن قال: أنه عليه السلام أعطى الفارس سهمين والراجل سهماً" رواه أحمد وأبو داود، وما رووه: محمول على التنفيل، كما روي أنه عليه السلام "أعطى سلمة بن الأكوع سهم الفارس والراجل" رواه أحمد ومسلم بمعناه. قوله: (والبرذون والعربي سواء) لأن السبب هو الإرهاب، وذلك باسم الخيل، وهو يتناولهما. قوله: (ولا سهم لبعير وبغل) لعدم الإرهاب بهما. قوله: (ويعتبر كونه فارساً وراجلاً عند مجاوزة الدرب لا عند القتال، حتى لو دخل دار الحرب فارساً فنفق فرسه) أي هلك (وقاتل راجلاً: استحق سهم الفارس، ولو دخل راجلاً فاشترى فرساً: استحق سهم الراجل). وعند الشافعي: يعتبر كونه فارساً وراجلاً حال انقضاء الحرب.

قوله: (ويرضخ الإمام للعبد والصبي والمرأة والذمي ما يراه) لقول ابن عباس: "لم يكن للمرأة والعبد سهم إلا أن يهديا من غنائم القوم" رواه أحمد ومسلم. ولأن الجهاد عبادة، والذمي ليس من أهله، والمرأة والصبي عاجزان عنه، وإنما يرضخ لهم إذا باشروا القتال، أو كانت المرأة تداوي الجرحى وتقوم بمصالح المرضى، أو دل الذمي الطريق. ولا يبلغ بالرضخ السهم. والرضخ بالضاد والخاء المعجمتين: العطاء ليس بالكثير، من رضخ يرضخ بفتح العين فيهما. قوله: (ولا يخمس ما أخذه واحد أو اثنان مغيرين) لأن الخمس وظيفة الغنيمة، وهي المأخوذة قهراً وغلبة، وهذا اختلاس وسرقة، وقوله: (مغيرين) بفتح الراء، حال من قوله: (اثنان) من أغار يغير. قوله: (بل ما أخذوا جماعة) أي بل بخمس ما أخذه جماعة (لها منعة) أي شوكة، لأن ما ذكرنا من المعنى يحصل بهذا. قوله: (ويجوز التنفيل بالسلب) بأن يقول الإمام: من قتل قتيلاً فله سلبه، لأنه تحريض على القتال، وهو مندوب إليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65]. وحرض عليه السلام بالتنفيل على القتال فقال: "من قتل قتيلاً عليه سلبه فله سلبه" رواه أحمد والبخاري ومسلم. والسلب: مركبه وثيابه وسلاحه، وما معه على الدابة من ماله أو في وسطه. قوله: (وغيره) أي وغير السلب، بأن يقول للسرية: جعلت لكم الربع بعد الخمس، لما ذكرنا، ولما روي أنه عليه السلام "نفل الربع بعد الخمس في رجعته" رواه أحمد وأبو داود.

وكان عليه السلام "ينفل في البداية: الربع، وف يالرجعة: الثلث" رواه أحمد وابن ماجة والترمذي. قوله: (والترك والروم: يملك كل طائفة منهم ما استولت عليه من نفوس الطائفة الأخرى وأموالها) لأن الاستيلاء في المباح: سبب الملك، كالاحتطاب، والاصطياد. قوله: (ويملك الكفار كلهم أموالنا بالاستيلاء) لزوال العصمة. وقال الشافعي: لا يملكونها. قوله: (لا نفوسنا) أي لا يملكون نفوسنا، لأن الآدمي لم يخلق محلاً للتمليك، بل ليملك لا ليملك، وإنما ثبتت في الكافر محلته الملك بالكفر العارض. قوله: (لا خالص رقيقنا) أي يملكون خالص رقيقنا، لأنه كالمال، واحترز بالخلوص عن المدبر والمكاتب وأم الولد، فإن الحرية قد توجهت إليهم، ولم يكونوا أرقاء خالصة. قوله: (والمالك القديم أحق بماله قبل القسمة مجاناً) يعني إذا غلب المسلمون على أهل الحرب الذين أخذوا أموالنا، فمن وجد منا ماله الذي أخذه العدو منهم قبل أن تقسم الغنيمة بين المسلمين: أخذه بغير شيء، لأنه عين حقه. قوله: (وبعدها بالقيمة) أي يأخذها بعد القسمة بالقيمة، لأنه زال ملكه بغير رضاه، فكان له حق الاسترداد نظراً له، غير أن في الأخذ بعد القسمة ضرراً بالمأخوذ منه، بإزالة ملكه الخاص، فيأخذه بالقيمة إن شاء، ليعتدل النظر من الجانبين، والشركة قبل القسمة عامة، فيقل الضرر، فيأخذه بغير شيء. قوله: (أو بالثمن إن كان مشتري) يعني لو اشترى ما أخذه العدو منهم: تاجر، وأخرجه إلى دار الإسلام، أخذه المالك القديم بالثمن الذي اشترى به التاجر من العدو،

نظراً للجانبين، لأنه لو أخذه بغير شيء: يتضرر التاجر، وإن اشتراه بعرض: أخذه بقيمة العرض، ولو كان البيع فاسداً: يأخذه بقيمة نفسه. قوله: (مسلم دخل دار الحرب تاجراً: يحرم عليه الخيانة والغدر بهم) لما روينا: "أنه عليه السلام نهى عن الغدر". قوله: (فإن خان في شيء وأخرجه: تصدق به) لأنه وإن كان ملكه باستيلائه على مال مباح: ولكنه محظور، لأنه حصل بسبب الغدر، فأوجب ذلك خبثاً فيه، فيؤمر بالتصدق به. قوله: (ولو دخل حربي إلينا بأمان، يقال له: إن أقمت سنة جعلت ذمياً). الأصل فيه: أن الكافر لا يمكن من إقامة دائمة في دارنا إلا باسترقاق أو جزية، لأنه يبقى ضرراً على المسلمين، لكونه عيناً لهم وعوناً علينا، ويمكن من الإقامة اليسيرة، لأن في منعها قطع المنافع من الميرة والجلب، وسد باب التجارات، ففصلنا بينهما بسنة، لأنها مدة تجب فيها الجزية. قوله: (فإن أقام سنة: صار ذمياً لالتزامه الجزية) واعتبار المدة: من وقت التقدم إليه، لا من وقت دخوله دار الإسلام. قوله: (ولا يمكن من الرجوع) أي إلى دار الحرب، كما لا يمكن منه بعد ما وضع عليه الخراج، أو إذا تزوجت الحربية ذمياً. قوله: (والجزية على الغني كل سنة: ثمانية وأربعون) هذا التقدير إذا لم توضع الجزية بالتراضي، وأنه متى وضعت بالتراضي لا يعدل عنها، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه قال: "صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على الغني حلة: النصف في صفر، والنصف في رجب، يؤدونها، وثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، أو ثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليه" الحديث رواه أبو داود. فإذا لم توضع بالتراضي بل وضعت بالقهر، بأن غلب الإمام على الكفار وأقرهم

على أملاكهم، فيوضع على الغني: ثمانية وأربعون درهماً، يؤخذ منه في كل شهر أربعة دراهم، وعلى وسط الحال: أربعة وعشرون درهماً، يؤخذ منه في كل شهر درهمان، وعلى الفقير المتعمل: اثني عشر درهماً، يؤخذ منه في كل شهر درهم، نقل ذلك عن عمر وعثمان وعلي، والصحابة متوافرون، ولم ينكر عليهم أحد منهم: فصار إجماعاً. قوله: (وتوضع الجزية على الكتابي والمجوسي وعابد الوثن من العجم) لقوله تعالى: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]. وروي عن ابن عمر رضي الله عنه: "أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر" رواه البخاري وأحمد وجماعة أخر. وعن المغيرة بن شعبة: أنه قال لعامل كسرى: "أمرنا نبينا عليه السلام أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية" رواه أحمد والبخاري، وكانوا عبدة أوثان. قوله: (ولا يوضع على عابد الوثن من العرب ولا المرتد) لغلظ كفرهما.

قوله: (ولا جزية على من لا يقتل) بضم الياء وفتح التاء: كالصبي، والمرأة، والعبد، والمكاتب، والزمن، والأعمى، والراهب الذي لا يخلط، لأنها خلف عن النصرة وعقوبة، وهم بمعزل عن ذلك. قوله: (ويؤخذ من القسيسين والرهبان وأصحاب الصوامع المتعملين) لأنهم باعتمالهم صاروا من أهل الجزية. والقسيسون جمع قسيس: وهو العالم، والرهبان جمع راهب: وهو العابد. قوله: (ومن أسلم أو مات وعليه جزية: سقطت) لأنها بدل عن النصرة وعقوبة على الكفر، فينتفيان بعد الإسلام والموت، وقال الشافعي: لا يسقط بها بعد مضي السنة. قوله: (وإن اجتمعت الجزيتان: تداخلتا) يعني إذا لم يؤخذ منه الجزية، حتى جاء عليه حولان، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا يتداخلان، وبه قال الشافعي، وخراج الأرض قيل: على هذا الخلاف، وقيل: لا يتداخل فيه اتفاقاً. قوله: (ويكلف الذمي إحضارها بنفسه، فيعطيها قائماً، والقابض منه) أي من الذمي (قاعد، إظهاراً للصغار عليهم) قيد بقوله: (إحضارها بنفسه) لأنه إذا بعثها على يد نائبه: لا يقبل في الصحيح من الرواية. قوله: (ويهزه) أي يهزه (القابض ويقول له: أعط الجزية يا ذمي، وفي رواية: يا عدو الله) هذا كله لأجل الذل والهوان.

قال الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، أي أذلاء. قوله: (وتجب) أي الجزية (بأول الحول، ويمهل إلى آخره تيسيراً) ليتمكن من القدرة على أدائها، وقال الشافعي: إذا وضعت الجزية على الذمي: فلا تجب إلا بعد حولان الحول.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان ما يعمل مع أهل الذمة وبيان مصارف الجزية ونحوها قوله: (ولا يجوز إحداث بيعة ولا كنيسة في دار الإسلام) لقوله عليه السلام: "لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة" أي لا يخصى إخصاء، ولا تحدث كنيسة في موضع لم يكن فيه، وبيت النار كالكنيسة، والبيعة: لليهود، والكنيسة: للنصارى. قوله: (ويعاد ما انهدم كما كان) لأنه جرى التواتر من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا: بترك الكنائس في أمصار المسلمين، ولا يقوم البناء دائماً، فكان دليلاً على جواز الإعادة. قوله: (ولا ينقل) أي لا تنقل البيعة أو الكنيسة (من مكان إلى مكان) لأنه إحداث في ذلك الموضع في الحقيقة. قوله: (ويميز أهل الذمة عن المسلمين في زيهم ومراكبهم وسروجهم وقلانسهم) إظهاراً للصغار عليهم، فلا يلبسون ما يختص بأهل العلم والزهد والشرف، ولا يلبسون طيالسة المسلمين، ولا أردية مثل أرديتهم. قوله: (ولا يركبون الخيل) لأنهم ليسوا من أهل الجهاد، وإن ركبوا لضرورة من سفر أو مرض: نزلوا في مجامع المسلمين، ولذلك لا يحملون السلاح. قوله: (ويجعل على أبوابهم علامة) حتى لا يقف عليها سائل، كيلا يدعو بمثل المغفرة والرحمة. قوله: (ويميز نسائهم عن نسائنا في الطرق والحمامات: بعلامة) لأن في تركها ذلاً لنساء المسلمين.

قوله: (ويؤمر الذمي بشد الزنار من الصوف الغليظ) لأن في ذلك إهانة لهم. قوله: (دون إبريسم) أي يمنع من شد الزنار من الإبريسم، لأنه لا إهانة في ذلك، ولا يمنع من الكستح: وهو الخيط الغليظ. قوله: (ومنع من لباس يختص به أهل العلم والزهد والشرف) كالصوف، والفرجية، والعمامة المدورة، والعذبة، والدراعة، والطيالسة ونحوها. قوله: (ولا يبدأ بالسلام) أي ولا يبدأ الذمي بالسلام، لأن فيه إكراماً له. قوله: (ولا بأس برد سلامه) يعني إذا سلم الذمي على المسلم: لا بأس للمسلم أن يرد سلامه، ولا يزيد على قوله: وعليكم، لقوله عليه السلام: "إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: وعليكم" رواه ابن ماجة. قوله: (ولو قال في جوابه: والسلام على من اتبع الهدى: جاز) لورود الأثر بذلك. قوله: (ولو قال للذمي: أطال الله بقائك: لم يجز) لأن فيه التمادي على الكفر (إلا إذا نوى به) أي بهذا الدعاء (إطالة بقائه لأجل أن يسلم، أو لمنفعة الجزية) لأن الدعاء فيهما لا يرجع إلى الذمي. قوله: (ويضيق عليه الطريق للإهانة، ولا ينتقض عهد الذمة إلا أن يلتحق بدار الحرب) لأنه بذلك صار حرباً علينا، فينتفي المقصود من بقاء العهد، وكذلك إذا غلبوا على موضع وحاربوا.

قوله: (فعند ذلك هم كالمرتدين في حل قتلهم ودفع مالهم لورثتهم) لأنهم التحقوا بالأموات بتباين الدارين. قوله: (إلا أنهم يسترقون) يعني صيرورتهم كالمرتدين: ليست من جميع الوجوه، لأنهم يسترقون، ولا يجبرون على قبول الذمة، بخلاف المرتدين، حيث لا يسترقون، ويجبرون على الإسلام، لأن كفرهم أغلظ، فأوجب الزيادة في العقوبة. قوله: (ومال الخراج والجزية وهدايا أهل الحرب تصرف ... إلى آخره) لأنه مأخوذ بقوة المسلمين، فيصرف إلى مصالحهم. والثغور: جمع ثغر، والقناطر: جمع قنطرة، والجسور: جمع جسر، والقنطرة تستلزم الجنس من دون عكس، لأنها ما يبنى من الحجر، بخلاف الجسر، فإنه من الحجر والخشب وغير ذلك، والقضاة: جمع قاض، والغزاة: جمع غازي. اعلم أن ما يجيء إلى بيت المال أنواع أربعة: أحدها: هذا الذي ذكرناه مع مصرفه. والثاني: الزكاة والعشر، ومصرفهما: ما ذكره الله تعالى من قوله {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] وقد مر. والثالث: خمس الغنائم والمعدن والركاز، ومصرفه: ما ذكرهم الله في قوله {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]. والرابع: اللقطات والتركات التي لا وارث لها، وديات مقتول لا ولي له، ومصرفها: الفقراء الذين لا أولياء لهم، يعطون منه نفقتهم وأدويتهم، ويكفن به موتاهم، ويعقل به جنايتهم. وعلى الإمام أن يتقي الله، ويصرف إلى كل مستحق قدر حاجته من غير زيادة، فإن قصر في ذلك: كان الله عليه حسيباً.

قوله: (مع أولادهم) يعني يصرف إليهم بقدر ما يكفيهم ويكفي أولادهم، لأنهم لو لم يعطوا هكذا: لاحتاجوا إلى الاكتساب، فتتعطل مصالح المسلمين. قوله: (والعمال) بضم العين: جمع عامل، وهو الذي يقبض الزكوات والعشورات والخراجات والجزى. قوله: (ومن مات قبل القبض: سقط نصيبه) لأنه صلة، فلا يملك قبل القبض، وعلى هذا قيل: إن الإمام، أو المؤذن، أو المدرس، إذا مات قبل أن يقبض معلومه: ليس لورثته أن يأخذ ذلك.

فصل

فصل هذا الفصل في أحكام المرتدين قوله: (ومن ارتد عرض عليه الإسلام) والعرض مروي عن عمر رضي الله عنه، وهو: مستحب وليس بواجب، لأن الدعوة قد بلغته، غير أنه يحتمل أنه اعتراه شبهة، فيعرض عليه ليزاح ويعود للإسلام، لأن عوده مرجو. قوله: (وحبس ثلاثة أيام استحباباً، وقيل وجوباً) وهو قول الشافعي، لأن ارتداده يكون عن شبهة ظاهراً، فلا بد من مدة يمكنه أن يتأمل فيها، فقدرت بالثلاث، لأنها مدة ضربت لأولي الأعذار. قوله: (فإن لم يسلم: قتل) لقوله عليه السلام: "من بدل دينه فاقتلوه" رواه أحمد والبخاري وغيرهما. قوله: (فإن قتله رجل مسلم قبل عرض الإسلام عليه: كره) لأن فيه تفويت الغرض المستحب، وقال صاحب الهداية: معنى الكراهة هنا ترك المستحب. قوله: (ولا شيء) يعني لا يجب شيء (على القاتل) لأنه مباح الدم بالحديث. قوله: (والمرتدة لا تقتل، بل تحبس حتى تسلم) لأن المبيح للقتل: كفر المحارب، وقال الشافعي: تقتل، ولو قتلها: لا شيء عليه للشبهة.

قوله: (وكذا الصبي المميز) أي وكذا لا يقتل الصبي المميز إذا ارتد، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف وزفر والشافعي: ارتداده ليس بارتداد. قوله: (ويزول ملك المرتد عن أمواله زوالاً موقوفاً) هذا عند أبي حنيفة، وعندهما: لا يزول، لأن تأثير الردة يظهر في إباحة دمه لا في زوال ملكه، وله: أن الملك يكون بالعصمة، وقد زالت بالردة، غير أنه يدعى إلى الإسلام بالإجبار عليه، ويرجى عوده إليه، فلم يتم سبب الزوال، فيتوقف. قوله: (فإن أسلم) تفصيل لما قبله، أي فإن أسلم المرتد (عاد ملكه، وإن مات على الردة أو قتل عليها: فكسب إسلامه: لورثة المسلمين، وكسب ردته: فيء) أي غنيمة، وعندهما: كلاهما لورثة المسلمين، وعند الشافعي: كلاهما فيء. قوله: (ويعتق مدبروه وأمهات أولاده) لأن هذه أحكام معلقة تتنجز بالموت. قوله: (والمرتدة كسبها لورثتها) إذ لا حراب منها، فلم يتحقق سبب الفيء، (ويرثها زوجها المسلم إن ارتدت وهي مريضة) لقصدها إبطال حقه بعد تعلق حقه بمالها فصارت فارة، وإن كانت صحيحة: لا يرثها زوجها، لأن ردتها ليست سبباً لهلاكها، لأنها لا تقتل، فلم يتعلق حقه بمالها. قوله: (وإلحاقه بدار الحرب مع الحكم به) أي باللحاق: كالموت، لأنه باللحاق: صار من أهل الحرب، وهم أموات، ولكن لا يستقر إلحاقه إلا بحكم الحاكم، لاحتمال أنه يعود إلينا، وفيه خلاف الشافعي، وفائدة كون إلحاقه بالموت: أن يصير مثل

الميت، حتى تحل ديونه، ويعتق مدبروه، ومكاتبوه، وأمهات أولاده، لما مر. قوله: (وتصرفات المرتد أقسام: نافذ) أي الأول: تصرف نافذ (كالطلاق، والاستيلاد، وقبول الهبة، وإسقاط الشفعة) لأنها لا تستدعي الولاية، حتى تصح هذه التصرفات من العبد أيضاً، وكذلك الحجر على عبده المأذون. قوله: (وباطل) أي القسم الثاني: تصرف باطل (كالنكاح والذبح) لأنه يعتمد الملة، ولا ملة له، وكذلك الإرث. قوله: (وموقوف) أي القسم الثالث: تصرف موقوف (كالمفاوضة، والبيع، والشراء، والرهن، والإجارة، والهبة، والإعتاق، والتدبير) ومعنى كونه موقوفاً: أنه إن أسلم: نفذ تصرفه، وإن هلك: بطل. أما مفاوضته: فهي موقوفة اتفاقاً، وكذلك تصرفه على ولده الصغير، ومال ولده، لأنها تعتمد المساواة، ولا مساواة بين المسلم والمرتد ما لم يسلم، وأما غيرها فكونها موقوفة: مذهب أبي حنيفة، وعندهما: نافذة، عاد إلى الإسلام أو لم يعد. قوله: (ولا تصح ردة مجنون) لأن إقراره لا يدل على اعتقاده فلا يعتبر، وكذا الصبي والسكران اللذان لا يعقلان. قوله: (ويصح إسلام الصبي المميز) خلافاً لزفر والشافعي، ولنا: أنه عليه السلام "صحح إيمان علي رضي الله عنه وقد كان آمن صبياً"، وافتخاره بذلك معروف، وذكر أبو جعفر: أنه أسلم وهو ابن خمس سنين.

وذكر القتبي: أن عمره كان سبع سنين، وعن عروة أنه قال: "أسلم علي وعمره ثمان سنين" أخرجه البخاري. مسألة الساحر يقتل ولا يستتاب، ولا يقبل قوله: إني أترك السحر وأتوب منه، إذا شهد شهود أنه الآن ساحر أو أقر بذلك. وقيل: إن اعتقد أنه خالق لما يفعل، ثم تاب عن ذلك وقال: الله خالق كل شيء، وتبرأ عما اعتقد: تقبل توبته ولا يقتل. والمرأة الساحرة تقتل أيضاً، لأن عمر رضي الله عنه "كتب إلى نوابه: أن اقتلوا الساحر والساحرة" رواه أحمد وأبو داود والبخاري. وعن جندب أنه عليه السلام قال: "حد الساحر ضربه بالسيف" رواه الدارقطني. والزنديق: يقتل أيضاً ولا تقبل توبته، وهو بكسر الزاي: كالقرامطة والمانوية ونحوهما.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان أحكام البغاة والخوارج قوله: (الخوارج يدعون إلى الإسلام بكشف شبهتهم) لأن علياً رضي الله عنه بعث عبد الله ابن عباس إلى أهل حروري، فدعاهم إلى التوبة، وناظرهم قبل قتالهم. قوله: (ولا يبدأ بهم الإمامب القتال حتى يبدؤوه به) أي بالقتال (أو يجتمعوا له) أي للقتال، فعند ذلك يقاتلهم حتى يفرق جمعهم، وعند الشافعي: لا يبدأ الإمام، حتى يبدؤوا بالقتال حقيقة. ولنا: قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]. يعني من غير قيد بالبداءة منهم، وقول علي رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان، حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة"

رواه أحمد ومسلم والبخاري. قوله: (فإن كانت لهم فيئة) أي جماعة (أجهز على جريحهم) يعني يتم جرحه (واتبع موليهم) دفعاً لشرهم، لئلا يلحق المولي والجريح بالفيئة. قوله: (وإلا فلا) أي وإن لم يكن لهم فيئة: لا يجهز على جريحهم ولا يتبع موليهم. قوله: (ولا تسبى ذراريهم، ولا تغنم أموالهم) لأنهم معصومون في الدماء والأموال، ولكن يحبسوا، حتى يتوبوا، فترد عليهم بالإجماع. قوله: (ويجوز القتال بأسلحتهم وركوب خيلهم عند الحاجة) لأن علياً رضي الله عنه:

قسم سلاحهم بالبصرة فيما بين أصحابه، وكانت قسمته للحاجة لا للتمليك، وقال الشافعي: لا يقاتل به. قوله: (وتحبس الأموال) أي أموالهم (حتى يتوبوا، فيردوها عليهم) لما قلنا: أن أموالهم معصومة فلا تملك. قوله: (وما جبوه من الزكاة والعشر والخراج من البلاد التي غلبوا عليها: لم يثن) لأن التقصير من الإمام، حيث لم يحمهم، بخلاف ما إذا مر بهم فعشروه، حيث يؤخذ ثانياً، لأن التقصير منه حيث مر بهم. قوله: (ويفتى المأخوذ منه بإعادة الزكاة والعشر إن كان الآخذون أغنياء) هذا الإفتاء فيما بينهم وبين الله، لأنهم لم يصرفوها إلى مستحقيها ظاهراً. قوله: (بخلاف الخراج) يعني لا يفتى فيه بالإعادة، لأنهم مصارف له، لكونهم مقاتلة، وقيل: إذا نوى بالدفع التصدق عليهم: أجزأ له الصدقات أيضاً كالخراج، لأنهم لو حوسبوا بما عليهم من التبعات: ظهروا فقراء. وأما ملوك زماننا، فهل تسقط هذه الحقوق بأخذهم من أصحاب الأموال أم لا؟. قال الهنداوني: تسقط وإن لم يضعوها في أهلها، لأن حق الأخذ لهم، فكان الوبال عليهم. وقال أبو بكر بن سعيد: يسقط الخراج عنهم، ولا تسقط الصدقات، كما في البغاة.

وقال أبو بكر الإسكاف: لا يسقط الجميع، وقيل: إذا نوى بالدفع إليهم التصدق: يسقط، وإلا فلا، وعلى هذا ما يؤخذ من الرجل في جبايات الظلمة والمصادرات، إذا نوى بالدفع التصدق عليهم: جاز عما نوى. قوله: (ولو قتل بعضهم بعضاً، ثم ظهرنا عليهم: لم يجب عليه القصاص) كالقتل في دار الحرب. قوله: (ولو غلبوا على بلد فقتل رجل من أهله) أي من أهل البلد (رجلاً آخر) يعني من أهل المصر (ثم ظهرنا على البلد قبل استقرار ملكهم) أي ملك البغاة وإجراء أحكامهم (وجب القصاص) لأن ولاية إمام أهل العدل لم تنقطع قبل أن تجري أحكامهم، فيجب القصاص. قوله: (وإلا فهو هدر) يعني وإن ظهرنا عليهم بعد استقرارهم وإجراء أحكامهم: فالقصاص هدر، لانقطاع ولاية الإمام العادل، فلا يجب. قوله: (ولا يأثم العادل ولا يضمن بإتلاف مال الباغي أو نفسه) لأن قتل الباغي واجب، فلا إثم على قاتله ولا ضمان. قوله: (والباغي يأثم فيما يفعل بالعادل) لأن قتله حرام. قوله: (ولا يضمن) يعني لا يجب عليه الضمان في قتله العادل، لأنه قتل حصل بتأويل صحيح عنده، وإن كان فاسداً في نفسه. قوله: (فلو قتل العادل الباغي: ورثه) لأن حرمان الإرث جزاء الجريمة، ولا جريمة في القتل الواجب أو الجائز، فلا يحرم، وقال الشافعي: لا يرث.

قوله: (ولو قتله الباغي وقال: قتلته محقاً: ورثه) لأنه أتلف ما أتلف عن تأويل فاسد، والفاسد فيه يلحق بالصحيح إذا انضمت إليه منعة، وهو عندهما، وقال أبو يوسف: لا يرث الباغي. قوله: (وإن قال: قتلته مبطلاً: لم يرث) وهذا بالاتفاق والله أعلم.

كتاب الصيد والذبائح

كتاب الصيد والذبائح الصيد: مصدر صاد يصيد، وينطلق على المفعول، يقال: صيد الأمير: أي مصيوده، وهو: ما يمتنع بجناحيه أو بقوائمه. والذبائح: جمع ذبيحة: وهي ما اتخذ للذبح، والذبح: قطع الأوداج، وهو في البقر والغنم خاصة، والنحر: هو الطعن في الصدر، وهو في الإبل خاصة. قوله: (يجوز الصيد) لقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. قوله: (بالكلب والفهد والبازي والصقر) لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]. أي صيد ما علمتم من الجوارح، وهي الكواسب، والجرح: الكسب، والمكلب: المعلم من الكلاب ومؤدبها، ثم عم في كل ما أدب: بهيمة كانت أو طائراً. قوله: (وكل جارح معلم) مثل: النمر، والضبع، والثعلب، والعقاب، والشاهين، والباشق، وسائر الجوارح من كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطيور، بشرط أن تكون معلمة. قوله: (إلا الخنزير) فإن الاصطياد به لا يجوز بالإجماع، لنجاسة عينه. قوله: (وقيل: إلا الأسد) وهو رواية عن أبي يوسف. أما الأسد: فإنه لا ينقاد لعلو همته، وأما الذيب: فإنه لا يقبل التعليم، وأما الدب والحدأة: فلخياستهما. قوله: (وتعلم الكلب ونحوه) مثل الفهد وغيره (بتركه الأكل ثلاث مرات) أما شرط التعليم فلقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} [المائدة: 4].

ولقوله عليه السلام لثعلبة: "ما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل" رواه البخاري ومسلم وأحمد. وأما التقدير بترك الأكل ثلاث مرات: فلأن ترك العادة في هذا، وهذا قولهما، وهي رواية عن أبي حنيفة. قوله: (وقيل: تعلمه بغلبة ظن صاحبه أنه تعلم) لأن غلبة الظن دليل شرعي، فإذا غلب ظنه أنه صار معلماً بتركه الأكل مرة واحدة: صار معلماً، وإن لم يغلب على ظنه أنه صار معلماً بتركه الأكل ثلاث مرات: لا يصير معلماً، حتى يغلب على ظنه أنه صار معلماً، وهذا أيضاً رواية عن أبي حنيفة. قوله: (وقيل تعلمه: بقول الصيادين أنه تعلم) لأنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فيفوض إليهم، وهذا أيضاً رواية عن أبي حنيفة. قوله: (وتعلم البازي ونحوه) مثل الباشق والصقر والعقاب ونحوها (بإجابته لصاحبه إذا دعاه) لأن الرجوع في معرفة ذلك إلى أهل الصنعة، وهم يعدون ذلك تعليماً. قوله: (فإذا أرسل الجارح المعلم، وسمى عند إرساله، فجرح صيداً أو مات: حل) أي الصيد، وها هنا أربعة شروط: الأول: كون المرسل مسلماً أو ذمياً. الثاني: أن يكون الجارح معلماً. الثالث: التسمية عند الإرسال، لقوله عليه السلاملعدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك

فاذكر اسم الله تعالى، فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه: فكله، فإن أخذ الكلب ذكاة". رواه مسلم والبخاري وأحمد. الرابع: الجرح، وهو شرط في ظاهر الرواية، لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4]. ولأن الذكاة الاضطرارية تتحقق به، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: ليس بشرط، رواه الحسن عنهما، وهو قول الشعبي. قوله: (وإن لم يجرح) أي وإن لم يجرح الجارح المعلم (الصيد: لم يحل أكله) لما قلنا. قوله: (وكذا لو خنقه) أي وكذا لو خنق الصيد أو كسره، لانعدام الجرح وهو شرط، وعن أبي حنيفة: أنه إذا كسر منه عضو فمات: حل، رواها الحسن عنه، وكذلك روي عن أبي يوسف. قوله: (فإن أكل منه) أي من الصيد (الكلب أو الفهد: لم يحل) لأنه خرج عن كونه معلماً، سواء كان أكله نادراً أو معتاداً، وللشافعي قولان: فيما إذا أكل نادراً. ولو اعتاد الأكل: حرم ما ظهرت عادته فيه، وهل يحرم ما أكل منه قبل الذي ظهرت عادته فيه؟ وجهان.

قوله: (ولا يحل ما اصطاده قبل هذا) أي قبل أكله، سواء كان محرزاً في البيت أو في الصحراء، وهذا عند أبي حنيفة، لأن الله تعالى شرط الإمساك علينا بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]. ولم يوجد، وعندهما: يجوز أكل ما صاده من قبل، لوجود الإمساك فيه. قوله: (ولا ما يصيده بعده) أي ولا يحل ما يصيده بعد الأكل (حتى يصير معلماً) بما ذكرنا من الأقوال، وهذا بالاتفاق. قوله: (ولو فر باز من صاحبه ولم يجبه إذا دعاه، ثم صاد: فحكمه) أي حكم هذا البازي: (كحكم الكلب في الوجوه كلها) يعني يصير ما صاده قبل الفرار حراماً، سواء كان محرزاً في البيت أو في الصحراء، ولا يجوز ما صاده بعد، حتى يصير معلماً بما ذكرنا. قوله: (ولو شرب الكلب من دم الصيد ولم يأكل منه: حل) لأنه ممسك عليه، وهذا من غاية علمه، حيث شرب ما لا يصلح لصاحبه، وأمسك عليه ما يصلح له. قوله: (وكذا لو أكل) أي وكذا يحل لو أكل الكلب (ما أعطاه صاحبه منه) أي من الصيد (أو حفظه من صاحبه فأكل منه) لأنه أمسك على صاحبه وسلمه إليه، وأكله بعد ذلك لا يضر. قوله: (ولو قطع من الصيد قطعة فأكلها، ثم اتبعه فقتله ولم يأكل منه: لا يحل) لأنه صيد كلب جاهل، حيث أكل من الصيد. قوله: (ولو ألقى ما قطعه) يعني إذا رمى ما قطعه من الصيد (ثم أتبعه فقتله ولم يأكل منه حتى أخذه صاحبه، ثم مر بتلك القطعة التي رماها فأكلها: حل) لأنه لو أكل من نفس الصيد في هذه الحالة لا يضره، فإذا أكل ما بان منه وهو لا يحل لصاحبه: أولى. قوله: (وإن أدرك المرسل الصيد حياً مثل حياة المذبوح: وجبت ذكاته) لما روينا من حديث عدي بن حاتم. قوله: (فإن تركها) أي الذكاة (حتى مات: لم يحل أكله) لأن بتركه: صار ميتة وهذا إذا تمكن من ذبحه، أما إذا وقع في يده ولم يتمكن من ذبحه، وفيه من الحياة فوق

ما يكون في المذبوح: لم يؤكل في ظاهر الرواية، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه يحل، وهو قول الشافعي. قوله: (وكذا البازي والسهم) أي وكذا الحكم فيما إذا أدرك مرسل البازي أو رامي السهم، الصيد حياً مثل حياة المذبوح: ينبغي أن يذكي، حتى إذا ترك الذكاة، فمات: لم يحل كما قلنا. قوله: (وكذا إن لم يتمكن لضيق الوقت) أي وكذا لا يحل إذا لم يتمكن المرسل أو الرامي من الذكاة، لأجل ضيق الوقت، لأنه بالوقوع في يده لم يبق صيداً، فلم يعتبر ذكاة الاضطرار فيه. وقال الحسن بن زياد ومحمد بن مقاتل: يحل استحساناً، وهو قول الشافعي. قوله: (أو لعدم الآلة) يعني إذا لم يتمكن من الذكاة لعدم الآلة: لا يحل أيضاً، لأن التقصير من قبله، حيث لم يحمل آلة الذكاة معه. قوله: (كالأهلي إن لم يتمكن من ذبحه: لا يحل بذكاة الاضطرار) يعني الأهلي مثل الغنم ونحوه، إذا أصابه آفة من مرض أو سقوط ولم يتمكن من ذبحه: لا يحل بذكاة الاضطرار، لأنه وقع في يده حياً فلم تجز ذكاة الاضطرار. قوله: (ولو وقع الصيد عند مجوسي، وقدر على ذبحه ثم مات: لم يؤكل) لأنه بالوقوع عنده لم يبق صيداً، وإن كان المجوسي غير أهل للذكاة. قوله: (ولو أرسل كلبه على صيد فأخذ غيره) أي غير ما أرسل إليه (حل) لأنه لا يتعين بالتعيين، خلافاً لمالك. قوله: (ولو أرسله) أي ولو أرسل الكلب (على صيود كثيرة، وسمى مرة واحدة:

يحل له كل ما قتله بتلك التسمية) لأن الذبح يبقى بالإرسال، ولهذا يشترط التسمية عنده، والفعل وهو الإرسال: واحد، فيكتفي بتسمية واحدة. قوله: (بخلاف الشاتين اللتين لم تضجع إحداهما فوق الأخرى) يعني إذا أضجع شاتين، ولم يضجع إحداهما فوق الأخرى، فذبحهما بتسمية واحدة: لا تحل، لأن الفعل متعدد، حتى إذا أضجع إحداهما فوق الأخرى فذبحهما دفعة واحدة بتسمية واحدة: حل، لعدم التعدد. (وكمون الفهد لا يقطع حكم إرساله) الكمون: الاستتار، يعني إذا أرسل فهداً خلف صيد، فكمن حتى يستمكن من الصيد، ثم أخذه فقتله: يؤكل، لأن ذلك عادة له يحتال لأخذه لا للاستراحة، فلا ينقطع به حكم الإرسال. قوله: (وكذا الكلب إذا اعتاد عادته) أي وكذا كمون الكلب واختفاؤه: لا يقطع حكم الإرسال، إذا اعتاد عادة الفهد من الكمون لأجل الاحتيال، لما قلنا. قوله: (وإذا أخذ الجارح صيداً بعد صيد بإرسال واحد، حل الكل ما لم يعرض لاستراحة) لأن الإرسال قائم لم ينقطع، وهو بمنزلة ما لو رمى سهماً إلى صيد، فأصابه وغيره. قيد بقوله: (ما لم يعرض لاستراحة) لأنه إذا أعرض لاستراحة: لا يحل الصيد الثاني، لانقطاع حكم الإرسال. قوله: (كما لو جثم على الصيد) الجثوم: الوقوف على الشيء بالملازمة، يعني كما لو جثم الجارح على الصيد المرسل إليه زماناً طويلاً، فمر به صيد آخر فقتله: لم يحل الثاني، لانقطاع الإرسال بمكثه طويلاً، إذ لم يكن ذلك منه حيلة للأخذ، وإنما هو استراحة. قوله: (ولو مر السهم من الصيد المقصود إلى آخر فقتله: حلا) يعني إذا قصد صيداً فرماه بسهم، وتجاوز السهم منه إلى غيره فقتله: حل الأول والثاني جميعاً، لعدم تخلل الفاصل. قوله: (ولو أرسل بازيه على صيد، فنزل على شيء، ثم طار وأخذه: حل إن قصر الزمان بقدر ما يكون تمكناً لاستراحة) لقيام حكم الإرسال (حتى إذا مكث زماناً طويلاً للاستراحة: لا يحل) لانقطاع حكم الإرسال.

قوله: (ولو أخذ جارح معلم صيداً، ولم يعلم هل أرسله أحد أم لا: لم يحل) لوقوع الشك في الإرسال، ولا تثبت الإباحة بدونه، ولئن كان مرسلاً: فهو مال الغير، فلا يجوز تناوله إلا بإذن صاحبه. قوله: (وإن شاركه كلب غير معلم، أو كلب مجوسي، أو كلب لم يذكر اسم الله عليه عمداً: لم يحل) لقوله عليه السلام: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه، فإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل، فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله" رواه البخاري ومسلم وأحمد. قيد بقوله: (عمداً) لأنه إذا كان نسياناً: لا يضر. قوله: (ولو رده عليه ولم يجرحه معه) أي ولو رد الصيد كلب من الكلاب المذكورة على الكلب المعلم الذي أرسله، ولم يجرحه معه، بل مات بجرح المعلم (حل: وكره) لوجود المعاونة في الأخذ وفقدها في الجرح، ثم قيل: الكراهة تنزيه، وقيل: تحريم، وهو اختيار الحلواني. قوله: (ولو رده عليه مجوسي، أو أغراه به فزاد عدوه: لم يكره) يعني لو رد الصيد على الكلب المعلم المرسل: مجوسي، أو أغرى الكلب. بأن هيجه وصال عليه فزاد جري الكلب بذلك: لمي كره، لأن فعل المجوسي ليس من جنس فعل الكلب، فلا تتحقق المشاركة أصلاً. قوله: (وكذا لو لم يرده عليه الثاني، بل حمل عليه فزاد عدوه) أي وكذا لا يكره لو لم يرد الكلب الثاني الصيد على الكلب الأول، بل حمل عليه، فزاد جري الأول بسبب ذلك. لأن فعل الكلب الثاني أثر في الكلب الأول حتى ازداد طلباً، ولم يؤثر في الصيد، فكان تبعاً لفعله، لأنه بناءً عليه، فلا يضاف الحكم إلى التبع. قوله: (ولو أرسله مجوسي، فأغراه مسلم فزاد عدوه: لم يحل) لأن الزجر دون

الإرسال لكونه بناءً عليه، فلا ينفسخ به الإرسال: فلا يحل، وعلى هذا: لو أرسله مسلم، فأغراه مجوسي، فزاد عدوه: يحل كما ذكرنا. قوله: (وتعتبر الأهلية وعدمها عند الإرسال لا عند الأخذ) حتى أن المجوسي إذا أرسل كلبه إلى صيد، ثم أسلم وأخذ ما صاده كلبه: لم يحل، لكونه غير أهل عند الإرسال، والمسلم إذا أرسل كلبه، ثم ارتد والعياذ بالله، وأخذ ما صاده كلبه: يحل، لكونه أهلاً عند الإرسال. قوله: (وكل من لا تحل ذكاته، وهو مثل: الوثني والمرتد والمحرم في حق الصيد، وتارك اسم الله عمداً: فهو كالمجوسي) فيما ذكرنا من المسائل الماضية، حتى لو أرسل كلبه إلى صيد وسمى، ثم زجره من لم يسم: يؤكل، وبعكسه لا يؤكل، وعلى هذا غيره، فافهم. قوله: (والمسلم وغيره سواء في صيد السمك والجراد) لأنهما لا يحتاجان إلى الذكاة. قوله: (ولو انفلت كلب مجوسي) الانفلات: أن يذهب الكلب من يده بغير إرساله منه، يعني إذا لم يرسل المجوسي كلبه بل عدا بنفسه (فأغراه مسلم، وزجره بالصيد فأخذه: حل) لأن الزجر عند عدم الإرسال يجعل إرسالاً، لأن انزجاره عقيب زجره: دليل طاعته، فيحل، والبازي كالكلب.

فصل

فصل ذكر الفصل لكون هذه المسائل التي فيه محتاجة إلى أن تفصل عن المسائل التي قبلها قوله: (ومن سمع حساً ظنه حس صيد فرماه) أي رماه (بسهم، أو أرسل عليه جارحاً مثل الكلب والبازي ونحوهما فأصاب) أي (السهم أو الذي أرسله غيره) أي غير ما سمع حسه (حل المصاب) بضم الميم، (إذا كان المسموع في الأول حس صيد) لأنه وقع اصطياداً مع قصده ذلك. قوله: (ولو كان خنزيراً) واصل بما قبله، أي ولو كان المسموع خنزيراً، فإنه لا يضر، وعن أبي يوسف: إن كان الحس حس سبع سوى الخنزير: يؤكل المصاب، وإن كان حس خنزير: لم يؤكل، وقال زفر: إن كان حس صيد لا يؤكل لحمه كالسباع ونحوها: لا يؤكل المصاب. قوله: (بخلاف ما لو ظهر أنه آدمي) يعني إذا ظهر أن الحس المسموع حس آدمي (أو حيوان أهلي مثل البقر والغنم: لا يحل المصاب) لأن الإرسال ليس باصطياد فيهما. قوله: (والطير المستأنس والظبي المربوط: أهليان حكماً) يعني إذا سمع حساً ظنه حس صيد: فرماه، أو أرسل عليه جارحاً فأصاب غيره، فظهر أن الحس حس طير مستأنس أو ظبي مربوط: لا يحل المصاب لما قلنا. قوله: (ولو أصاب المسموع حسه) أي لو أصاب السهم، أو الذي أرسله من الجوارح: الحيوان الذي سمع حسه (وقد ظنه) أي والحال أنه قد ظن الحس (آدمياً، فظهر صيداً: حل) لأنه لا عبرة لظنه مع تعينه. قوله: (ولو رمى إلى طائر وأصاب صيداً، وفر الطائر، ولم يعلم أنه وحشي أو أهلي: حل الصيد) لأن الظاهر فيه التوحش. قوله: (بخلاف ما لو رمى إلى بعير) يعني إذا رمى إلى بعير (فأصاب صيداً ولا يدري أهو ناد أم لا: لا يحل المصاب) لأن الأصل فيه الاستيناس، حتى إذا علم أنه ناد: حل المصاب، لأنه يصير وحشياً.

قوله: (ولو رمى إلى سمكة أو جرادة فأصاب صيداً: حل) في إحدى الروايتين عن أبي يوسف، وفي رواية أخرى: لا يحل، لأنه لا ذكاة فيهما. قوله: (وإذا وقع السهم بالصيد، أو جرحه الجارح، فتحامل حتى غاب عن الصايد، ولم يزل في طلبه حتى اصابه ميتاً: حل) لقوله عليه السلام لأبي ثعلبة: "إذا رميت سهمك، فغاب ثلاثة أيام وأدركته: فكل ما لم ينتن" رواه مسلم وأبو داود وأحمد والنسائي. قوله: (وإن قعد) أي الصائد: (عن طلبه، ثم أصابه ميتاً: لم يحل) لأنه ربما يكون موته بسبب آخر، فلا يحل. قوله: (وكذا) يعني وكذا لا يحل (لو وجد به جراحة أخرى) يعني سوى جراحة سهمه لقوله عليه السلام لعدي: "إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله عليه، فإن غاب عنك يوماً فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقاً في الماء: فلا تأكل" رواه مسلم والنسائي. قوله: (ولو رمى صيداً فوقع في ماء .. إلى آخره) الأصل فيه قوله تعالى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة: 3] الآية، وما روينا، وقوله عليه السلام لعدي: "إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن وجدته قد قتل: فكل، إلا أنتجده قد وقع في ماء فإنك لا تدري: الماء قتله أو سهمك" رواه البخاري ومسلم وأحمد. قوله: (لم يحل) جواب المسائل كلها. قوله: (إلا إذا بان رأسه بالرمية) يعني إذا قطع رأسه برميه يحل، لعدم احتمال أن أحد هذه الأشياء قتله: إما بحدته، أو بترديه، فافهم

قوله: (ولو وقع على الأرض حياً .. إلى آخره) لأنه لا يمكن التحرز عنه، فيسقط اعتباره كيلا ينسد بابه. قوله: (إلا أن يصيبه حد الصخرة، فيشق بطنه فيحرم) لأن الظاهر أن موته بغير الرمي، فلا يحل. قوله: (وإن كان الطير مائياً ورماه في الماء: حل إن لم ينغمس بالجراحة فيه) أي في الماء (وإن انغمست: لا يحل) لاحتمال الموت به دون الرمي، لأن تشرب الجرح الماء: سبب لزيادة الألم، فصار كما إذا أصابه السم. قوله: (ولا يحل الصيد بالبندقة) لما روي أنه عليه السلام نهى عن الخذف وقال: "إنها لا تصيد ولكنها تكسر السن وتفقأ العين" رواه البخاري وأحمد. ولأن الجرح لابد منه، والبندقة لا تجرح. وأما عرض المعراض: فلقوله عليه السلام: "إذا رميت بالمعراض فخرق: فكله، وإن أصابه بعرض: فلا تأكله" رواه البخاري ومسلم وأحمد. والمعراض: سهم طويل له أربعة قذذ دقاق إذا رمي به: اعترض. والقذذ، جمع قذة: وهي ريش، كذا في مجمل اللغة.

وأما العصا التي لا حد لها: فلأنها ثقيلة ثقلاً لا جرحاً، إلا إذا كان لها حد، فبضع بضعاً: فيكون كالسيف والرمح. وأما الحجر الثقيل: فلأنه يقتله بثقله فيحرم. قوله: (ولو كان) أي الحجر (خفيفاً وفيه حدة: حل) لتعين الموت بالجرح. قوله: (ولو رماه بمروة محدودة ولم تجرحه: لم يحل) لأنها قتلته دقاً، والمروة: الحجر الأبيض البراق. قوله: (ولو أبان رأسه أو قطع أوداجه أو رماه بسيف أو سكين: حل إن جرح بحده) لحصول الجرح بالحدة (وإن لم يجرحه بحده: لا يحل) لأنه يكون ميتاً بثقله. قوله: (وإذا جرح السهم أو الكلب الصيد غير مدم) يعني جرحاً غير مخرج للدم (قيل: يحل) لإتيان ما في وسعه، وهو الجرح، وإخراج الدم ليس في وسعه، فلا يكون مكلفاً به، وهو الأظهر (وقيل: لا يحل) لانعدام معنى الذكاة، وهو إخراج الدم النجس، وشرط النبي صلى الله عليه وسلم إخراج الدم بقوله: "أنهر الدم بما شئت" رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. وقيل: يحل في الجراحة الكبيرة لا في الصغيرة، لأن الكبيرة إنما لا يخرج منها الدم لعدمه، والصغيرة لضيق المخرج ظاهراً، فيكون التقصير منه. قوله: (ولو ذبح شاة ولم يسل منها دم: فعلى القولين) يعني قيل: يحل أكلها، وهو قول أبي بكر الإسكاف، لأن كثيراً من الحيوان ينجمد دمه، ولاسيما إذا كان قد أكل من

شجر العناب، وقيل: لا يحل، وهو قول غسماعيل الصفار، لأن خروج الدم المسفوح شرط، وقيل: إن تحركت حلت، ولو خرج الدم ولم تتحرك: لا يحل، هذا قول محمد بن مقاتل، لأن الدم لا ينجمد عند موته، فيجوز خروج الدم بعد الموت. قوله: (ولو أصاب السهم ظلف الصيد أو قرنه: حل إن أدماه) لأن ما هو المقصود- وهو تسييل الدم- قد حصل، هذا يؤيد قول من يشترط خروج الدم. قوله: (ولو رمى صيداً فقطع عضوه أو أقل من نصف رأسه: حل الصيد لا المقطوع) أي لا يحل المقطوع لقوله عليه السلام: "ما أبين من الحي فهو ميت". قال في الكافي: "هذا إذا أبان شيئاً يبقى المبان منه حياً بدون عادة: كاليد والرجل والفخذ، ويليه مما يلي القوائم، والأقل من نصف الرأس". قوله: (وإن قطع نصفين أو قطعه أثلاثاً والأكثر من مؤخره) يعني مما يلي العجز (أو قطع نصف رأسه أو أكثر: حل الكل) يعني المبان والمبان منه، إذ لا يتوهم بقاؤه حياً بعد هذا، فكان قتلاً. قوله: (ولو تعلق العضو المقطوع بجلده، فإن كان يلتئم) أي يندمل (لو تركه: حل العضو) لأن هذا جرح وليس بإبانة. قوله: (وإلا فلا) وإن كان لا يلتئم ولا يتوهم إيصاله لعلاج: لا يحل العضو، ويحل ما سواه لوجود الإبانة.

قوله: (ولا يحل صيد المجوسي والمرتد والوثني) لأنهم ليسوا من أهل الذكاة حالة الاختيار، فكذا في حالة الاضطرار، وكذا المحرم، لأنه ليس من أهل الذكاة الاختيارية في حق الصيد، فكذا لا يكون من أهل الذكاة الاضطرارية. قوله: (بخلاف اليهودي والنصراني) يعني يحل صيدهما لأنهما من أهل الذكاة اختياراً، فكذا اضطراراً. قوله: (ومن رمى صيداً فأصابه ولم يثخنه، فرماه آخر فقتله: فهو له) أي للآخر، لأنه هو الآخذ به، قال عليه السلام: "الصيد لمن أخذه" ويحل بالإجماع. لأنه لما لم يخرج بالأول من حين الامتناع، كانت ذكاته اضطرارية، وهي الجرح أي موضع كان، وقد وجد. قوله: (وإن أثخنه الأول: فهو له، ولم يحل) لأنه لما أثخنه: أخرجه من حيز الامتناع، وصار قادراً على الذكاة الاختيارية ولم يذكه، وصار الثاني قاتلاً له: فيحرم. قوله: (ويضمن الثاني قيمته مجروحاً بجراحة الأول) يعني يضمن الثاني للأول قيمة الصيد حال كونه مجروحاً بجراحة الأول، لأنه يلزمه قيمة ما أتلف، وقيمته وقت إتلافه كان ناقصاً بجراحة الأول، فيلزمه ذلك. مثلاً: الرامي الأول إذا رمى صيداً يساوي عشرة، فنقصه درهمين، ثم رماه الثاني فنقصه درهمين، ثم مات: يضمن الثاني ثمانية، ويسقط عنه من قيمته درهمان، لأن ذلك تلف بجرح الأول. قوله: (إن علم حصول القتل بالثاني) بأن كان رمى الأول بحال يسلم منه، ورمى الثاني بحال لا يسلم منه، حتى إذا كان رمى الأول بحال لا يسلم منه الصيد، بأن لا يبقى فيه من الحياة إلا بقدر ما يبقى في المذبوح، كما إذا أبان رأسه: يحل. قوله: (وإن علم حصوله بهما) أي إن علم حصول القتل برمي الأول والثاني، أو شك في أن القتل حصل برمي الأول أو برمي الثاني (ضمن الثاني للأول ما تقتضيه جراحته، وضمن نصف قيمته مجروحاً بجراحتين، وضمن نصف قيمة لحمه) أما الضمان الأول وهو ضمان ما نقصته جراحته: فلأنه جرح حيواناً مملوكاً للغير، وقد نقصه:

فيضمنه. وأما الضمان الثاني وهو ضمان نصف قيمته مجروحاً بالجراحتين: فلأن الموت حصل بالجراحتين، فيكون هو متلفاً نصفه، وهو مملوكاً لغيره، فيضمن نصف قيمته مجروحاً بالجراحتين، لأن الجراحة الأولى ما كانت بصنع الثاني، فلا يضمنها، والجراحة الثانية ضمنها مرة: وهو ما ضمنه من النقصان بجراحته أولاً، فلا يضمنها ثانياً. وأما الضمان الثالث، وهو ضمان نصف قيمة اللحم: فلأن برمي الأول: صار بحال يحل بذكاة الاختيار لولا رمي الثاني، فهذا بالرمي الثاني أفسد نصف اللحم فيضمنه، ولا يضمن النصف الآخر، لأنه ضمنه مرة، حيث ضمن نصف قيمته حياً، فدخل ضمان اللحم فيه، فافهم. فإن هذه من مسائل الزيادات. توضيح: طريق الضمان: أن الرامي الأول إذا رمى صيداً يساوي عشرة مثلاً، فنقصه درهمين، ثم رماه الثاني فنقصه درهمين: يضمن الثاني للأول ما نقصته جراحته وهو درهمان، وبقي من قيمته ستة دراهم، فيضمن الثاني أيضاً نصفها، وهو ثلاثة دراهم، وهي نصف قيمته مجروحاً بجراحتين، ثم إذا مات يضمن النصف الآخر، وهو ثلاثة أيضاً، لأنه فوت عليه اللحم، ولا يضمن النصف الآخر من اللحم بعد الموت، وإن كان تفويت اللحم فيه موجوداً بقتله، لأنه ضمن ذلك النصف حياً، فلو ضمنه بعد الموت: كأن يتكرر الضمان، بأن يضمن قيمته حياً، ثم تضمن قيمة لحمه بعد الموت، وهذا لا يجوز فافهم. قوله: (وإن كان ارامي ثانياً هو الأول) أي هو الرامي الأول (فحكم الإباحة ما قلنا) وهو أن الرامي إن لم يثخنه برميه الأول، وقتله برميه: يحل، وإن أثخنه برميه

الأول، وقتله برميه الثاني: لم يحل، لأن في الأول: لم يخرج من حيز الامتناع، وكانت ذكاته اضطرارية، وفي الثاني: صار قادراً على الذكاة الاختيارية ولم يذك: فيحرم. قوله: (وصار) أي وصار حكم هذه المسألة (كما لو رمى صيداً على جبل فأثخنه، ثم رماه ثانياً فأنزله: لا يحل) لأن الرمي الثاني محرم. قوله: (ويحل صيد ما لا يؤكل لحمه مثل الثعلب والنمر وسائر السباع وكذلك الطيور المحرمة) لقوله تعالى: {فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. مطلقاً، ولأن اصطياده سبب الانتفاع بجلده أو شعره أو ريشه أو لدفع شره، وكل ذلك مشروع. قوله: (ولو رمى صيداً، أو رماه آخر، فأصاب سهم الثاني سهم الأول، فرده إلى صيد آخر فقتله: حل إن سمى الثاني) وفي هذا تفصيل: وهو أن ينظر إن كان سهم الأول بحال يعلم أنه لا يبلغ إلى الصيد بدون دفع الثاني: فالصيد للثاني، لأنه هو الآخذ له، حتى لو كان الثاني مجوسياً أو محرماً: لا يحل. وإن كان السهم الأول بحال يبلغ الصيد بدون السهم الثاني: فالصيد للأول لأنه هو السابق في الأخذ، وإن كان الثاني مجوسياً أو محرماً: لا يحل استحساناً، لأنه أوجب زيادة قوة في السهم الأول، فأوجب الحرمة احتياطاً. قوله: (ولو رمى صيداً بمعراض أو ببندقة فأصاب سهماً فرفعه) أي رفع السهم (فقتل صيداً جرحاً: حل) لأن اندفاع السهم بالواسطة أضيف إلى الرامي فكأنه رماه به ابتداءً. قوله: (ولو نصب شبكة للصيد في أرض الغير فوقع فيها) أي في الشبكة (صيد: فهو له) أي لناصب الشبكة، لأنه قصد به الاصطياد، حتى إن من نصب فسطاطاً فتعلق به صيد: لا يملكه صاحب الفسطاط، إلا إذا قصد بنصب الفسطاط. الاصطياد، وكذلك إذا حفر رجل بئراً في أرضه لا يريد به الصيد، فوقع فيها صيد: فهو لمن أخذه، لأ، "الصيد لمن أخذ ... " الحديث.

قوله: (ولو نصبها) أي ولو نصب الشبكة (في أرض الغير للجفاف ونحوه، فوقع فيها صيد: لم يكن له حتى يأخذه) لأنه لم يرد بنصبها الاصطياد، والحكم لا يضاف إلى السبب إلا بالقصد الصحيح، ولكنه يملكه بالأخذ، للحديث. قوله: (ومن أخذ صيداً أو فرخة أو بيضة في دار رجل أو أرضه: فهو له) أي للآخذ، لأن الصيد يجيء ويذهب، والبيض يصير طائراً ويطير، فيملكه بالأخذ، وهذا بخلاف ما إذا اتخذ النحل كوارات في أرض رجل فخرج منه عسل: كان ذلك لصاحب الأرض، ولا سبيل لأحد على أخذه، لأنه ليس مثل الصيد. قوله: (إلا أن يغلق الباب) أي إلا أن يغلق صاحب الدار الباب لإحراز الصيد الذي دخل في داره (فحينئذ يملكه بإحرازه) ولو أغلق الباب ولم يعلم به: لم يصر مالكاً، حتى لو خرج الصيد بعد ذلك وأخذه رجل: يملكه، بخلاف الأول حيث لا يملكه. قوله: (ولو نصب شبكة فوقع فيها صيداً، أو رمى شصاً فتعلقت به سمكة، فاضطربا) أي الصيد اضطرب في الشبكة، والسمكة اضطربت في الشص (حتى انقطعت الشبكة، أو انقطع خيط الشص وخلصا، فصادهما آخر: فهما له) أي للآخر، لأنهما خرجا من ملك الأول بخلوصهما، فصار كحالتهما الأولى في الإباحة، فاستولت عليهما يد الآخر، فملكهما. والشص بالكسر والفتح: حديدة معوجة يصاد بها السمك. قوله: (ولو لم يخلص) أي ولو يخلص الصيد من الشبكة، أو السمكة من الشص (حتى جاء الصائد وقدر على أخذه ثم خلص وانفلت: فهو على ملكه) لأن بقدرته على أخذه: خرج عن ملكه، فلا يملكه أحد غيره، بخلاف الصورة الأولى. قوله: (وكذا لو رمى بالسمكة) يعني إذا اصطاد سمكة فرمى بها خارج الماء، (فاضطربت ثم وقعت في الماء، فإن كان قدر على أخذها وانفلتت من يده ووقعت في الماء: فهي على ملكه) حتى لو أخذها غيره لا يملكها، وإلا فلا، فافهم.

قوله: (ولو رمى صيداً فصرعه وغشي عليه ثم أفاق وطار فأخذه آخر: فهو له) لأنه لم يثخنه الأول فلا يملكه. قوله: (ولو جرحه جراحة فثخنه ثم برأ وطار: فهو للأول) لأنه ملكه بالإثخان، فلا يملكه غيره.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان ما يحل أكله وما يحرم وما يكره وما لا يكره قوله: (ويحرم أكل ذي ناب من السباع) لما روي عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير" رواه مسلم وأبو داود وجماعة آخرون. والسباع جمع سبع: وهو كل مختطف منتهب جارح قاتل عاد عادة، والمراد بذي مخلب: ما له مخلب هو سلاح، وهو مفعل من الخلب: وهو مزق الجلد. قوله: (ويحرم الضبع والثعلب .. إلى آخره) أما الضبع والثعلب: فلأنهما سبع. والشافعي اباحها. وأما اليربوع وابن عرس: فلأنهما من سباع الهوائم، وأما الرخمة والبغات والعذاف: فلأنها تأكل الجيف، وكذلك الغراب الأبقع الذي يأكل الجيف. قوله: (ويحل غراب الزرع) لأنه يأكل الحب، وليس من السباع ولا من الخبائث، وكذلك الزرزور. وأما العقعق واللقلق: فلأنهما كالدجاج في خلط علفها، وعن أبي يوسف: أنه كره العقعق، لأن غالب مأكوله الجيف، والأول أصح. قال في النهاية: "ذكر في بعض المواضع: أن الخفاش يؤكل، وذكر في بعضها: أنه لا يؤكل، لأنه ذو ناب".

قوله: (ويحرم الضب والقنفذ والسلحفاة والزنبور والحشرات كلها) لأنها من الخبائث. والشافعي جوز أكل الضب والقنفذ. قوله: (إلا الجراد فإنه مستثنى من الحشرات) لقوله عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال". قوله: (ولو مات) أي الجراد (حتف أنفه) لأن الذكاة ليست بشرط فيه، وعن مالك: لابد من قطف رأسه. قوله: (ولحم الفرس حرام) هذا عند أبي حنيفة، وقالا: مباح، وهو قول الشافعي، ولحمه طاهر بالاتفاق، ولكن الحرمة عند أبي حنيفة لكرامته، لأنها آلة الجهاد، وفي أكله تقليله، وكذا لبنه: يكره عنده كلحمه، ذكره قاضي خان، وفي شرح الكنز: ولبن الرمكة حلال بالإجماع.

قوله: (وبقر الوحش وحمر الوحش وغنم الجبل: حلال) لأنها من الطيبات. وأما (الحمر الأهلية فهي حرام) لما روي عن أبي ثعلبة أنه قال: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية" رواه البخاري ومسلم وأحمد. ولو كانت أمها فرساً: كان على الخلاف في لحم الخيل. قوله: (ولا يحل من حيوان الماء إلا أنواع السمك كلها) مثل: الجريث والمارماهي، لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. وما سوى السمك خبيث. وقال مالك: يؤكل جميع حيوان الماء، واستثنى بعضهم الخنزير، والسباع، والكلب والإنسان، وعن الشافعي: أنه أباح ذلك كله. قوله: (ولا يحل الطافي منه) أي من السمك: وهو الذي مات حتف أنفه، لقول جابر: أنه عليه السلام قال: "ما نضب عنه الماء فكلوه، وما طفي فلا تأكلوه". وهو حجة على

الشافعي ومالك في إباحتهما الطافي. قوله: (ويحل ما في بطنه) أي في بطن الطافي من السمك، لأنه غير طاف، بل مات بآفة، وهو ضيق المكان. قوله: (ولو قطعه) أي لو قطع السمك (فمات: حل المقطوع والباقي) لأن سبب موته معلوم. قوله: (وفي موته) أي وفي موت السمك (بالحر) أي بحر الماء أو برده أو كدرته (روايتان: في رواية يؤكل) لأن لموتها سبباً معلوماً (وفي رواية: لا يؤكل). لأن الماء لا يقتل السمك حاراً كان أو بارداً أو منكدراً. قوله: (ولو حصر سمكاً في أجمة) وهي الحظيرة ونحوها، مثل: الحوض والبئر (فمات لضيق المكان: حل) لأنه مات بآفة، وكذلك إذا مات في الشبكة وهو لا يقدر على التخليص، وكذلك إذا قتلها شيء من طير الماء. قوله: (وما انحسر عنه الماء) أي السمك الذي انكشف عنه الماء (فإن ذهب الماء وبقي السمك في أرض يابسة، أو ألقاه إلى الساحل حياً فمات: يحل) لأنه مات بآفة. وفي فتاوى التتمة: إذا انحسر عنها الماء، إن كان الرأس وحده خارج الماء: يؤكل، وإن كان الرأس في الماء: إن كان ما على الأرض النصف أو أقل: يؤكل، وإن كان أكثر من النصف: لا يؤكل. قوله: (ولو وجد على الأرض سمكة ميتة: حل) لأنها ماتت بآفة، وهي انفصالها عن الماء.

قوله: (ولو وجد نصف سمكة في الماء: لا يحل) لأن سبب موته غير معلومة، حتى إذا ظهر أنها مقطوعة بسيف أو نحوه: يحل، لأن سبب موته حينئذ يصير معلوماً. وفي الجامع الأصغر: إذا وجد السمك ميتاً على وجه الماء وبطنه من فوق: لم يؤكل، لأنه طاف، وإن كان ظهره من فوق: أكل لأنه ليس بطاف. وفي المنتقى عن محمد: إذا كانت السمكة استقلت الماء وماتت: لم تؤكل. قوله: (ولو اشترى سمكة في خيط وهي) أي السمكة (في الماء، وقبض الخيط ثم دفعه إلى البائع وقال) أي المشتري: (احفظها لي، فابتلعتها) أي السمكة التي في الخيط (سمكة أخرى، فالثانية) أي السمكة الثانية وهي السمكة المبتلعة (للبائع) لأنها حصلت في يده (ويخرج الأولى) أي يخرج البائع السمكة الأولى وهي السمكة التي باعها (من بطن السمكة التي ابتلعتها، ويسلمها إلى المشتري من غير خيار للمشتري، وإن نقصها الابتلاع) لأنه لما دفعها إلى البائع: صار راضياً بالنقصان، فلا يخير. قوله: (ولو ابتلعت المربوطة) أي السمكة المربوطة بالخيط (أخرى) أي سمكة أخرى (فهما) أي السمكة البالعة والمبلوعة (للمشتري، قبضها أو لم يقبضها) أما إذا قبضها: فظاهر، وأما إذا لم يقبضها: فلأنه حصل في ملك المشتري والله أعلم.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان أحكام الذبائح قوله: (وذبيحة المسلم والكتابي حلال) لإطلاق قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]. قوله: (بخلاف ذبيحة المجوسي) يعني ذبيحة المجوسي ونحره: حرام. أما المجوسي: فلقوله عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم". والوثني: كالمجوسي، لأنه مشرك مثله، وأما المرتد: فلأنه لا ملة له، ولهذا لا تجوز ذكاته، بخلاف اليهودي إذا تنصر، أو النصراني إذا تهود، أو تنصر المجوسي أو تهود، ولو تمجس اليهودي: لا تحل ذكاته، والمتولد بين الكتابي والمشرك: يعتبر بالكتابي، لأن المشرك شر من الكتابي. قوله: (وذبيحة المحرم: الصيد) أي لا تحل ذبيحة المحرم الصيد، لأن فعله فيه غير مشروع، وذبيحته في غير الصيد تؤكل، لأن فعله فيه مشروع. قوله: (وما ذبح) أي لا يحل ما ذبح (من الصيد في الحرم، ولو ذبحه حلال) لأنه منهي عنه، فلا يكون مشروعاً، وكذا الكتابي لو ذبح صيداً في الحرم: لا يحل. قوله: (والصبي والمجنون والسكران إن كان يقدر على الذبح ويعقل التسمية: حل)

لأن التسمية على الذبيحة شرط بالنص، وذلك بالعقل، وصحته بالمعرفة والضبط، وهو أن يعلم شرائط الذبح: من فري الأوداج والتسمية. وكذلك يحل ذبيحة الأقلف، والأخرس، والمرأة، والمعتوه كالصبي إذا كان ضابطاً. قوله: (وإلا فلا) يعني وإن لم يقدر على الذبح ولم يعقل التسمية: لا يحل، لما ذكرنا. قوله: (ومتروك التسمية عمداً: ميتة) لقوله تعالى: {وَلا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]. وهو حجة على الشافعي في جوازه ذلك. قوله: (ومتروكها ناسياً: حلال) لأن النسيان مرفوع بقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان".

وقال مالك: حرام. قوله: (ووقت التسمية في غير الصيد: عند الذبح) لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]. وهي حالة النحر. قوله: (وفي الصيد) أي وقت التسمية في الصيد: (عند الرمي أو إرسال الجارح) لأن التكليف بحسب الوسع، والذي في وسعه هذا. قوله: (ولو أضجع شاة وسمى وذبح غيرها) أي غير تلك الشاة (بتلك التسمية: لم يحل) لأن المعتبر أن يذبح عقيب التسمية، وأنه سمى للأولى، فبقيت الثانية بلا تسمية. قوله: (بخلاف الإرسال والرمي) يعني إذا أرسل الجارح إلى صيد وسمى، أو رمى إلى صيد وسمى، فأصاب صيداً آخر: حل، لتعلق التسمية بالآلة. قوله: (ولو أضجع شاة وسمى، ثم رمى السكين وذبح بأخرى) أي بسكين أخرى (حل) لعدم تعلق التسمية بالآلة. قوله: (ولو سمى على سهم ثم رمى بغيره) أي بغير ذلك السهم (فقتل: لم يحل) لتعلق التسمية بالآلة. قوله: (ولو قال في تسميته: بسم الله محمداً رسول الله) يعني منصوباً من غير عطف (ومحمد رسول الله) بالرفع من غير عطف، (أو قال: اللهم تقبل مني أو من فلان: حل) لعدم الشركة، وكره لوجود الوصل صورة. قوله: (ولو قال: ومحمد بالجر) يعني ولو قال: بسم الله ومحمد رسول الله، بكسر الدال (لم يحل) لوجود الشركة، وكره لوجود الوصل صورة. قوله: (ولو قال: ومحمد بالجر) يعني ولو قال: بسم الله ومحمد رسول الله، بكسر الدال (لم يحل) لوجود الشركة، كذا ذكر في النوادر. وقيل: هذا إذا كان يعرف النحو، والأوجه: أن لا يعتبر الإعراب، بل يحرم مطلقاً بالعطف، لأن كلام الناس اليوم لا يجري عليه. قوله: (ولو قال: بسمل بغير هاء، وقصد به التسمية: حل) لوجود القصد بالتسمية.

قوله: (ولو قال: اللهم اغفر لي وقصد به التسمية: لم يحل) لأنه دعاء وسؤال. والشرط: الذكر الخالص. قوله: (ولو سبح) بأن قال: سبحان الله (أو حمد) بأن قال: الحمد لله (أو كبر) بأن قال الله أكبر (وقصد التسمية: حل) لوجود الذكر على الذبح. قوله: (ولو عطس عند الذبح فحمد الله: لم يحل) في الأصح، لأنه يريد الحمد على النعمة دون التسمية، بخلاف الخطبة: حيث يجزيه. قوله: (ولو سمى ثم عمل عملاً آخر قبل الذبح، إن كان قليلاً كشرب أو تكليم إنسان: حل، وإلا فلا) يعني وإن كان كثيراً: لا يحل، لأن إيقاع الذبح- متصلاً بالتسمية، بحيث لا يتخلل بينهما شيء- لا يمكن إلا بحرج عظيم، فأقيم المجلس مقام الاتصال، فالعمل القليل لا يقطع المجلس، والكثير يقطع. قوله: (والذبح بين الحلق واللبة) لما روي أنه عليه السلام بعث منادياً ينادي في فجاج منى: "ألا إن الذكاة في الحلق" الحديث رواه الدارقطني. وفي الجامع: "لا بأس بالذبح في الحلق: كله ووسطه وأعلاه وأسفله". والتقييد بالحلق واللبة يفيد أنه لو ذبح أعلى من الحلقوم أو أسفل منه: يحرم، لأنه ذبح في غير المذبح، ذكره في الواقعات. ولكن في جواب الإمام الرستغفني ما يخالف ذلك، وهو أنه سئل عمن ذبح

شاة، فبقيت عقدة الحلقوم مما يلي الصدر، وكان يجب أن يبقى مما يلي الرأس، أيؤكل أم لا؟ قال: يجوز أكلها، سواء بقيت العقدة مما يلي الرأس أو مما يلي الصدر. وفي فتاوى سمرقند: قصاب ذبح الشاة في ليلة مظلمة، فقطع أعلى من الحلقوم أو أسفل منه: يحرم أكلها. قوله: (والعروق المقطوعة فيه) أي في الذبح أو الحلق (أربعة وهي: الحلقوم والمري والودجان) لقوله عليه السلام: "أفر الأوداج بما شئت" وهي عروق الحلق في المذبح، والمري: مجرى الطعام والشراب، والحلقوم: مجرى النفس. قوله: (ولابد من قطع ثلاثة منها) أي من العروق الأربعة (أيها كانت) أي: أي ثلاثة كانت، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف أولاً، وعن أبي يوسف: أنه يشترط قطع الحلقوم والمري وأحد الودجين، وعن محمد: لابد من قطع أكثر كل واحد من هذه الأربعة. وقال الشافعي: يكتفي بقطع الحلقوم والمري، وقال مالك: لابد من قطع الأربع. قوله: (ويجوز الذبح بكل محدد أنهر الدم) مثل: السكين، والسيف، والليطة، والمروة، ونحوها، لقوله عليه السلام: "أفر الأوداج بما شئت واذكر الله" رواه مسلم.

وأفر: أمر، من قولك: فريت الشيء أفر فرياً: إذا قطعته لإصلاحه، والليطة بكسر اللام: قشر القصب. قوله: (إلا السن المتصل، والظفر والقرن، فإن المذبوح بها ميتة) لقوله عليه السلام: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سناً أو ظفراً، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن: فعظم، وأما الظفر: فمدي الحبشة" رواه البخاري ومسلم، وتأويله: إذا كان قائماً. قوله: (والذبح بالمنفصل منها) أي من السن والظفر والقرن (مكروه) لأنها آلة، جارحة فيحصل بها ما هو المقصود: وهو إخراج الدم، ولكن يكره، لأن فيه زيادة الألم. وقال الشافعي: المذبوح بهذه الأشياء ميتة. قوله: (وكذا بالعظم) أي وكذا يكره الذبح بالعظم لما قلنا. قوله: (وبكل ما فيه) أي وكذا يكره الذبح بكل شيء فيه (إبطاء الإماتة) لأن فيه زيادة الألم للحيوان، وقد نهينا عنه. قوله: (ويستحب إحداد السكين قبل الإضجاع) لقوله عليه السلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم: فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم: فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" رواه مسلم وأحمد وغيرهما. قوله: (ويكره بعده) أي يكره إحداد السكين بعد الإضجاع، لما روي أنه عليه السلام "رأى

رجلاً أضجع شاة وهو يحد شفرته، فقال: "لقد أردت أن تميتها موتات، هلا حددتها قبل أن تضجعها". قوله: (ومن بلغ بالسكين النخاع) وهو خيط أبيض في جوف عظم الرقبة (أو قطع الرأس: حل وكره) لنهيه عليه السلام عن نخع الشاة، وفي قطع رأسه زيادة تعذيب بلا فائدة. والنخع بفتح النون وسكون الخاء: أن يجوز بالذبح إلى النخاع. قوله: (وكل زيادة تعذيب لا يحتاج إليها: مكروه) لأنه تعذيب الحيوان بلا فائدة، وذلك: كجر المذبوح برجله إلى المذبح، وسلخه قبل أن يتم موته، وكذا لو مات ولم يبرد أيضاً: عند البعض، وعند البعض: إذا سلخ بعد موته: لا يكره ولو لم يبرد، ويؤكل في جميع ذلك. قوله: (ولو ذبح من القفا وبقي حياً حتى قطع العروق الثلاثة: حل وكره) أما الحل: فلتحقق الموت بما هو ذكاة، وأما الكراهة: فلزيادة الألم. قوله: (وإلا فلا) يعني وإن لم يبق حياً إلى أن يقطع العروق الثلاثة: لم يحل، لوجود الموت بما ليس بذكاة. قوله: (وما استأنس من الصيد: فذكاته الذبح) لأن ذكاة الاضطرار لا يصار إليه إلا عند العجز عن ذكاة الاختيار، ولم يتحقق العجز فيما استأنس من الصيد. قوله: (وما توحش من النعم بصيال) أي حملة (أو ند: فذكاته الجرح) لتحقق

العجز، بشرط قصد الذكاة (لا دفع الصيال فقط) فإنه إذا قصد دفع الصيال فقط وقتله: لم يحل. قوله: (وكذا البعير) يعني البعير إذا وقع في النهر، ووقع العجز عن ذكاته: يحل بالجرح، بشرط أن لا يتوهم بعد الجرح موته بالماء، حتى إذا علم أنه مات من الماء: لا يؤكل، وإن أشكل ذلك: أكل، لأن الظاهر أن الموت من الجرح. قوله: (والشاة إذا ندت في الصحراء فهي وحشية) حتى تحل بالعقر، لتحقق العجز عن ذكاة الاختيار. قوله: (وإن ندت في المصر: فلا) أي فلا تكون وحشية، حتى لا تحل بالعقر، لأنها لا تدفع عن نفسها، فيمكن أخذها. قوله: (بخلاف البعير والبقر) يعني البعير والبقر إذا ندت: صارت وحشية، سواء ندت في الصحراء أو ندت في المصر، حتى تحل بالعقر، لتحقق العجز في ذلك. قوله: (والمستحب في الإبل: النحر) لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]. أي انحر الجزور، ولأنه أيسر في الإبل، حتى يكره الذبح. قوله: (وفي البقر) أي يستحب في البقر (والغنم: الذبح) لأن السنة المتواترة هكذا، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، وقال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]. ولأنه أيسر فيهما، حتى يكره النحر فيهما. قوله: (والجنين الميت في الذبيحة: حرام أكله وإن تم خلقه) وهذا عند أبي حنيفة وزفر والحسن، وقالا: إذا تم خلقه: حل أكله بذكاتهما، لقوله عليه السلام: "ذكاة الجنين ذكاة أمه". وله: أن الله حرم الميتة، وهو اسم لحيوان مات من غير ذكاة، ألا يرى أن الله شرط التذكية بقوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]. وحرم المنخنقة، والجنين مات خنقاً: فيحرم بالكتاب، وما روي: لا يعارض الدليل القطعي.

قوله: (والمنخنقة) وهي التي خنقوها، أو انخنقت بسبب (والموقوذة) وهي التي أثخنوها ضرباً بعصا أو حجر (والمتردية) وهي التي تردت من جبل أو في بئر (والنطيحة) هي التي نطحتها أخرى (وفريسة السبع) هي التي خرقها مثل: الأسد والنمر والضبع والذئب ونحوها (فإذا ذبحت هذه المذكورات) والحال أن فيها حياة مثل حياة المذبوح (حلت في ظاهر المذهب) لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]. وعن أبي حنيفة: أنها إنما تحل إذا كانت بحال تعيش يوماً لولا الذكاة، لأنها إذا كانت بحال تموت سريعاً: لا يدري أنها ماتت بذبحه أو بما أصابها، فدخل الشك، وعن أبي يوسف: أنها إذا كانت تعيش اليوم لولا الذكاة: تؤكل، وإلا فلا، إقامة للأكثر مقام الكل. وعن محمد: أنها إذا بقي من حياتها أكثر من حياة المقطوع أوداجه: يحل، وإلا فلا، وهذا أيسر. قوله: (ويكره ذبح الحامل المقرب) أي التي قربت ولادتها، لأن في ذلك ترك الترحم. قوله: (ولو رمى حمامة له) أي لنفسه في الهواء (إن كانت ضالة عن منزله: يحل) لأنه حينئذ صيد، فتصير ذكاته اضطرارية، فيحل بالجرح أين اتفق. قوله: (وإن كانت) أي الحمامة (تهتدي إلى منزله: لم يحل) لعدم الاضطرار، إلا إذا أصاب مذبحها، وهو ما بين الحلق واللبة: فينوب عن الذبح. قوله: (وكذا الظبي) أي وكذا حكم الظبي (المستأنس إذا خرج إلى الصحراء فرماه رجل، إن أصاب مذبحه: حل، وإلا فلا) لعدم تحقق العجز عن الذكاة الاختيارية.

كتاب الكراهية

كتاب الكراهية الكراهية بتخفيف الياء: مصدر: كالطواعية، وهي ضد الإرادة والرضا. قوله: (كل مكروه في كتاب الكراهية: فهو حرام عند محمد) نص محمد رحمه الله: أن كل مكروه حرام، وإنما لم يطلق لفظ الحرام: لأنه لم يجد فيه نصاً قاطعاً، وعندهما: هو إلى الحرام أقرب. قوله: (فلهذا) أي فلكون كل مكروه حراماً عند محمد (عبرنا عن أكثر المكروهات بالحرام). قوله: (ويحرم الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب والفضة) لقوله عليه السلام: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" رواه البخاري ومسلم وأحمد. وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي عليه السلام قال في الذي يشرب في إناء فضة: "كأنما يجرجر في بطنه نار جهنم" رواه أحمد وابن ماجة. فإذا ثبت في الشرب والأكل: ثبت في التطيب ونحوه، لأنه مثله في الاستعمال.

ومعنى يجرجر: يردد، من جرجر العجل: إذا ردد صوته في حنجرته. قوله: (للرجال والنساء) لإطلاق ما روينا. قوله: (وكذا يحرم كل استعمال: كالأكل بملعقة الفضة، والاكتحال بميلها) أي بميل الفضة (واتخاذ المكحلة، والمرآة، والأدوات من الفضة) وما أشبه ذلك من الاستعمال. قوله: (وتحل آنية الزجاج والبلور والعقيق والنحاس والرصاص ونحوها) مثل الصفر وغيره. وقال الشافعي: يكره جميع ذلك، لوقوع التفاخر بها. قلنا: لا نسلم، ولئن سلمنا: فهي ليست في معنى الذهب والفضة، فلا يلحق بهما. قوله: (ويحل الشرب في الإناء المفضض) بالضاد المعجمتين (والمضبب) بالضاد المعجمة، والباءين المنقوطتين من تحت بنقطة واحدة: بمعنى المشعب بالفضة. قوله: (بشرط اتقاء موضع الفضة في الكل) بأن يتقي موضعها بالفم في الإناء، وقيل: بالفم واليد في الأخذ، وفي غير الإناء يتقي موضع الجلوس. قوله: (وكذا اللجام) يعني وكذا يحل اللجام (المفضض، والركاب المفضض، والثغر المفضض) بشرط أن يتقي موضع الفضة عند الإمساك، ووضع الرجل، وكذا في نصل السيف، أو السكين، أو قبضتهما، بشرط أن لا يضع يده على موضعها، وكذا حلقة المرآة، وكذا الثوب إذا كان فيه كتابة بذهب أو فضة، وهذا كله عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يكره ذلك كله، ومحمد مضطرب.

قوله: (وهذا) أي هذا الحكم (مع التفصيل والخلاف فيما يخلص منه شيء عند الإذابة، فأما التمويه الذي لا يخلص منه شيء: فمباح مطلقاً) يعني سواء اتقى موضع الفضة أو لا، لأنه مستهلك، فلا عبرة ببقائه لوناً. قوله: (كالعلم في الثوب) فإنه مباح مطلقاً بالإجماع، وكذلك مسمار الذهب في فص الخاتم، وكذا العمامة المعلمة بالذهب. قوله: (ويحل تذهيب السقف) لأنه ليس باستعمال، ولكنه إسراف وتزيين، فتركه أولى. قوله: (والسيف) أي يحل تذهيب السيف أيضاً، وهذا عند أبي حنيفة، وكرهه أبو يوسف، لما فيه من زي العجم، والتشبه بهم حرام. قوله: (ومن دعي إلى ضيافة فوجد ثمة لعباً أو غناءً) يعني بعد حضوره وجد لعباً أو غناء (يقعد ويأكل ولا يترك ولا يخرج) لأن إجابة الدعوة سنة، قال عليه السلام: "من لم يجب الدعوة فقد عصا أبا القاسم"، فلا يتركها لما اقترنت البدعة بغيره، كصلاة الجنازة لا يتركها لأجل النائحة. قوله: (ومنع إن قدر) لأجل إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن لم يقدر: يصبر. قوله: (وإن كان قدوة) أي وإن كان المجيب ممن يقتدى به: كالقاضي والمفتي ونحوهما (بمنع) لأنه يقدر على المنع (ويقعد، فإن عجز عن المنع: يخرج ولا يقعد) لأن في ذلك شين الدين، وفتح باب المعصية على المسلمين. قوله: (وإن كان ذلك على المائدة) أي وإن كان اللعب والغنى على المائدة، أو كانوا يشربون الخمر (خرج وإن لم يكن قدوة) لقوله تعالى: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].

قوله: (وإن علم قبل الحضور) يعني: وإن علم قبل أن يحضر أن هناك غناء أو لعب أو شرب خمر (لا يحضر في الوجوه كلها) يعني سواء قدر على المنع أو لم يقدر، وسواء كان قدوة أو غير قدوة، لأنه حينئذ لا يلزمه إجابة الدعوة. وقال علي رضي الله عنه: "صنعت طعاماً فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فرأى في البيت تصاويرن فرجع" رواه ابن ماجة. ودلت المسألة على أن الملاهي كلها حرام. واختلفوا في المغنى المجرد، قيل: حرام مطلقاً، والاستماع إليه معصية، ولو سمع بغتة: فلا إثم عليه، وقيل: لا بأس بأن يغنى ليستفيد به فهم القوافي والفصاحة، وقيل: يجوز لدفع الوحشة إذا كان وحده، ولا يكون على سبيل اللهو، وإليه مال السرخسي. ولو كان في الشعر حكم أو عبر أو فقه: لا يكره، ولو كان فيه ذكر امرأة غير معينة، وكذا لو كانت معينة وهي ميتة، وإن كانت حية: يكره. قوله: (ويحرم شرب لبن الأتن) لأن اللبن يتولد من اللحم، فصار مثله. قوله: (وأبوال الإبل) أي يحرم شرب أبوال الإبل (لأجل التداوي) وهذا عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف: يباح للتداوي، وعند محمد: يباح مطلقاً. وقد مر في كتاب الطهارة. قوله: (وأكل) أي يحرم أكل (لحم الإبل والبقر الجلالة) لأنها تتغير، وكذا يحرم شرب لبنها، لأن لبنها يتولد من لحمه. وفي المنتقى: الناقة والبقرة إنما تكون جلالة: إذا تغيرت ونتنت، فوجدت منها رائحة منتنة.

قوله: (بخلاف الدجاج المخلاة) يعني لا يحرم أكل الدجاجة المخلاة، لأنها لا تتغير. قوله: (فإن حبست) أي الإبل الجلالة والبقر الجلالة إن حبست (في مكان طاهر وعلفت: حلت) وكان أبو حنيفة لا يوقت بحبسها. ويقول: تحبس حتى تطيب ويذهب نتنها، وهو قولهما. كذا في التتمة. وقيل: يقدر في الإبل: بأربعين يوماً، وفي البقر: بعشرين يوماً، وفي الشاة: بعشرة أيام، وفي الدجاجة: بثلاثة ايام. قوله: (ولو رضع جدي لبن الخنزير: فهو كالجلالة) لتغيره: فيحرم، إلا إذا حبس وعلف عشرة أيام. قوله: (والحطب الموجود في الماء: حلال) أي إن لم يكن له قيمة، لأن إلقاء مثل هذا يدل على إباحته، فيحل الانتفاع به، حتى إذا كانت له قيمة: لا يحل. قوله: (والثمر الساقط تحت الشجر: لا يحل في المصر) لأنه لم يخرج من ملك صاحبه، سواء كان مما يتسارع إليه الفساد أو لا. قوله: (وأما خارج المصر) أي وأما الثمر الساقط تحت الشجر في خارج المصر (فإن كان مما يبقى كالجوز واللوز ونحوهما: لا يحل) لانعدام الإذن في أخذه (وإن كان مما لا يبقى: كالمشمش والخوخ: حل) لعدم النهي فيه عادة، حتى إذا نهى عنه صاحبه: لا يحل. قوله: (ويحل الثمر الموجود في الماء الجاري وإن كثر) لأنه يعدم بجريان الماء، فأخذه أولى من تركه، بخلاف ما إذا كان في الماء الواقف. وقوله: (ولو وقع ما نثر من السكر والدراهم في حجر رجل، فأخذه غيره: حل) لأنه مباح، والمباح لمن سبق يده إليه. إلا أن يكون الأول قد تهيأ له، أو ضمه إلى نفسه، لأنه بذلك يملكه، فيحرم لغيره أن يأخذه.

ثم النهبة هل هي جائزة؟ فعن محمد: أنها جائزة إذا كان أذن فيها صاحبها، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم: نحر يوم النحر خمسة أبعرة، وقال: "من شاء فليقطع". قوله: (وكذا لو وضع طشتاً على سطحه فاجتمع فيه ماء المطر، إن وضعه لذلك) أي لاجتماع ماء المطر (فهو له) ولا يجوز لغيره أن يأخذه (وإن لم يضعه لذلك: فهو لمن أخذه) لأنه مباح. قوله: (ويحرم أكل التراب والطين) لورود النهي فيه، ولأنه يورث الاصفرار ووجع المثانة. وقيل: لم يكن فرعون قط إلا وهو آكل الطين، ثم قيل: أنه يحرم مطلقاً، وقيل: إلا الطين الأرمني والنيسابوري، لأنه يؤكل للدواء، ويميل إليه الطبع، وفيه نظر: لأن العلة إذا كان أكله للتداوي: فالجميع كذلك عند الحاجة، وإن كان ميلان الطبع إليه: فمن الطبائع طبيعة تميل الجميع. قوله: (ويحل خضاب اليد والرجل للنساء، ما لم يكن فيه تماثيل) أي صور، لأن ذلك من أجل الزينة، فيجوز لهن بشرط أن يمتنعن عن المحرم. قوله: (ويحرم للرجال) أي يحرم خضاب اليد والرجل للرجل (والصبيان مطلقاً) يعني سواء كانت فيه تماثيل أو لم تكن، لأنهم ممنوعون عن مثل هذه الزينة، إلا لأجل التداوي.

قوله: (ولا بأس بخضاب الرأس واللحية بالحناء والوسمة للرجال والنساء) لقوله عليه السلام: "إن احسن ما غيرتم به الشبب: الحنا والكتم" رواه ابن ماجة. والوسمة بفتح الواو وسكون السين المهملة: ورق النيل. والكتم بفتح الكاف والتاء ثالث الحروف: نبات يخلط مع الوسمة للخضاب.

فصل

فصل هذا فصل في بيان ما يحل من اللباس وما لا يحل ونحوها قوله: (ويحل لبس الحرير والقز للنساء لا للرجال) لما روي عن أبي موسى الأشعري "أن النبي صلى الله عليه وسلم أحل الذهب والحرير للإناث من أمته، وحرم على ذكورها" رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. قوله: (ولو كانوا) أي ولو كان الرجال (مقاتلين) هذا عند أبي حنيفة، لإطلاق النص، وقالا: يجوز ما داموا مقاتلين، لأنه أهيب لعين العدو. قوله: (إلا العلم الحرير، أو المنسوج بالذهب قدر أربعة أصابع عرضاً) لما روي عن عمر رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا هكذا: ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم السبابة والوسطى وضمهما" رواه أحمد ومسلم والبخاري. وفي لفظ "نهى عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة" رواه مسلم وأحمد وأبو داود وجماعة أخر. قوله: (ويحل توسده والنوم عليه لهما) أي للرجال والنساء، وهذا عند أبي حنيفة، لأنه عليه السلام جلس على مرفقة حرير، وقالا: يكره للرجال. قوله: (بخلاف اللحاف) لأنه مثل اللبس في التنعم.

قوله: (ويحل تعليق السترة على الباب للحاجة) مثل دفع الحر والبرد، أو لئلا يطلع عليه أحد داخل البيت. وهذا على الخلاف الذي في توسد الحرير. قوله: (ويحرم تكة الحرير والديباج) لأنه في معنى اللبس. قوله: (ولبنتهما) بكسر اللام وسكون الباء، أي يحرم لبنة الحرير والديباج، وهي قطعة من الحرير أو الديباج يعمل في جيب القميص أو الجبة. قوله: (ويحل لبس ما سداه حرير مطلقاً) يعني سواء كان في دار الحرب أو لا، لأن الصحابة كانوا يلبسون الخز، وهو اسم للمسدى بالحرير. قوله: (وما لحمته حرير: يحل في الحرب خاصة) لأن العبرة باللحمة، غير أن في الحرب ضرورة، وأما الحرير الخالص في الحرب: فغير جائز عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، وقد مر. قوله: (ولا يحل للرجال من الذهب شيء) لما روينا (ويجوز لهم من الفضة: الخاتم والنمطقة وحلية السيف) وهذه مستثناة لمعنى النموذج، والفضة أغنت عن الذهب، لأنهما من جنس واحد. قوله: (والتختم بالحجر والحديد والصفر: حرام للرجال والنساء) لما روي أنه عليه السلام رأى على رجل خاتم صفر فقال: "ما لي أجد منك رائحة الأصنام". ورأى على آخر خاتم حديد فقال: "مالي أرى عليك حلية أهل النار". قوله: (والمعتبر: الحلقة) لأن قوام الخاتم بها، ولا يعتبر بالفص حتى يجوز من الحجر. قوله: (ويجعل الرجل الفص إلى باطن كفه) لما روي أنه عليه السلام "كان يجعل فصه مما يلي كفه" رواه ابن ماجة.

قيد بالرجل: لأن المرأة تختتم كيفما تشاء، لأنه للزينة في حقها. قوله: (والأفضل لغير القاضي والسلطان ممن لا يحتاج إلى الختم: تركه) لعدم الاحتياج إليه. قوله: (ولا يتجاوز وزنه) أي وزن الخاتم (مثقالاً) لقوله عليه السلام: "اتخذه من الورق ولا تزده على مثقال". قوله: (ولا يشد السن المتحرك بالذهب: بل بالفضة) وهذا عند أبي حنيفة، لأن الحاجة تندفع بالأدنى، فلا يصار إلى الأعلى. وقالا: يحل بالذهب أيضاً. قوله: (ولو قطع أنفه أو سقط سنه: عوض بفضة) لاندفاع الحاجة بها (فإن أنتن: عوضه بالذهب) لما روي "أن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم كلاب فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن، فأمره عليه السلام أن يتخذ أنفاً من ذهب". قوله: (ويحرم إلباس الصبيان الذهب والحرير) لأنه لما ثبت التحريم في حق الذكور، وحرم اللبس: حرم الإلباس أيضاً، كالخمر لما حرم شربها: حرم سقيها الصبي، وكذا الميتة والدم. قوله: (والإثم على الملبس) لأن الصبي مرفوع عنه القلم.

قوله: (ويحرم حمل المنديل تكبراً) لأنه يشبه زي الأعاجم. قوله: (ويحل) أي يحل حمل المنديل (لمسح العرق وبلل الوضوء والمخاط والريق) لأن "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن". وفي الجامع الصغير: "يكره حمل الخرقة التي يمسح بها العرق، لأنها بدعة محدثة" والأول أصح. قوله: (كالتربع بحل للحاجة) مثل الضعف والعلة في الرجلين ونحوهما. (ويحرم لأجل التكبر) وعلى هذا التفصيل: الاتكاء. قوله: (ويحرم النظر إلى غير الوجه والكفين من الحرة الأجنبية) لقوله عليه السلام: "من نظر إلى محاسن امرأة أجنبية عن شهوة صب في عينيه الآنك يوم القيامة". واستثناء الوجه والكفين لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]. قال علي وابن عباس: ما ظهر منها: الكحل والخاتم، والمراد بهما موضعهما: وهو الوجه والكف. قوله: (وفي القدم روايتان) في رواية: لا ينظر إليها، وفي رواية رواها الحسن عن أبي حنيفة: أنه يباح النظر إلى قدمها أيضاً.

وعن أبي يوسف: أنه يباح النظر إلى ذراعها. قوله: (فإن خاف الشهوة: لم ينظر إلى الوجه أيضاً) لما روينا، ولكن خرج منه بعض الأشياء للضرورة، فإذا خاف: لم ينظر أصلاً إلا للحاجة، مثل الحاكم ينظر للحكم، والشاهد ينظر للشهادة، والطبيب ينظر لموضع المرض. قوله: (وكذا لو شك) يعني لو شك في الشهوة: لاي نظر أيضاً أصلاً، لأن الحرمة غالبة. قوله: (ولا يحل للشاب مس الوجه والكفين، وإن أمن الشهوة) لوجود المحرم، وانعدام الضرورة. قوله: (إلا من عجوز) يعني إذا كانت عجوزاً (لا تشتهي: فلا بأس بمصافحتها ومس يديها) لانعدام خوف الفتنة. قوله: (وكذا لو كان شيخاً وأمن عليه وعليها) أي وكذا تحل المصافحة ونحوها لو كان الرجل شيخاً وأمن على نفسه وعلى نفسها، لانعدام الفتنة (حتى إذا خاف عليها: حرم) لما فيه من التعرض للفتنة. قوله: (والصغيرة التي لا تشتهي: يحل مسها) لانعدام الشهوة، حتى إذا مات صغيراً أو صغيرة: يغسله الرجل والمرأة ما لم يبلغ حد الشهوة. قوله: (ويحل للقاضي عند الحكم، والشاهد عند الأداء خاصة، وللخاطب: النظر مع خوف الشهوة) وذلك للضرورة، فرخص لهم إحياء لحقوق الناس، ودفعاً لحاجتهم. ولكن يقصد القاضي بالنظر: الحكم، والشاهد: إقامة الشهادة، والخاطب: إقامة السنة، بقدر الإمكان، لا قضاء الشهوة، تحرزاً عن القبيح بقدر الإمكان. قيد بقوله: (عند الأداء خاصة) لأنه إذا خاف الشهوة: لا يحل له النظر إليها عند التحمل، لأنه يوجد من لا يشتهي. قوله: (ويحل للطبيب النظر على موضع المرض منها) أي من المراة (إن لم يمكنه تعليم امرأة) اعلم أنه ينبغي للطبيب أن يعلم امراة إن أمكن، لأن نظر الجنس أخف، وإن لم يمكن: ستر كل عضو منها سوى موضع المرض، ثم ينظر ويغض بصره عن غير ذلك الموضع ما استطاع، لأن ما ثبت بالضرورة: يتقدر بقدرها.

قوله: (وكذا الحافظة) وهي التي تحفظ النساء: أي تقطع بصورهن (والخاتن) وهو الذي يختن الرجال (والحاقن) وهو الذي يعمل الحقنة. يعني: هؤلاء ينظرون إلى موضع الختان، وموضع الاحتقان، لكن بطريق ما ذكرنا. قوله: (وينظر الرجل من الرجل: إلى جميع بدنه إلا عورته، وهي ما بين السرة والركبة) وقد مر في كتاب الصلاة. قوله: (ويمس ما ينظر إليه) أي يمس الرجل من أعضاء الرجل ما يجوز له النظر إليه. قوله: (وتنظر المرأة من الرجل ذلك) أي جميع بدنه (غير عورته، إن أمنت الشهوة) لأن ما ليس بعورة لا يختلف فيه النساء والرجال. قوله: (وفي رواية أنها) أي المرأة (لا تنظر منه) أي من الرجل (إلا إلى ما ينظر هو) أي الرجل (إليه من محارمه) فعلى هذه الرواية: لا تنظر المرأة إلى ظهره وبطنه أيضاً. قوله: (وتنظر المرأة من المرأة: إلى ما ينظر الرجل إليه من الرجل) وهو جميع بدنها، إلا من سرتها إلى ركبتها. قوله: (وينظر) أي نظر (الرجل من أمته التي تحل له، وزوجته: إلى جميع بدنها سواء كان بشهوة او غير شهوة) لقوله عليه السلام: "غض بصرك إلا عن زوجتك وأمتك". والأولى: ألا ينظر كل منهما إلى عورة صاحبه، وكان ابن عمر يقول: الأولى أن ينظر إلى فرج امرأته وقت الوقاع، ليكون أبلغ في تحصيل معنى اللذة. وإنما قيد الأمة بقوله: (التي تحل له) احترازاً عن الأمة المجوسية والمشركة، فإنه لا يحل له النظر إلى فرجها. قوله: (وينظر) أي الرجل ينظر (من محارمه: إلى ما ورا ءالبطن والظهر والفخذ)

لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور: 31]. ولم يرد به نفس الزينة، لأن النظر إلى غير الزينة مباح مطلقاً، ولكن المراد موضع الزينة، فالرأس: موضع التاج، والشعر: موضع الكحل، والعنق والصدر: موضعا القلادة، والأذن: موضع القرط، والعضد: موضع الدملوج، والساعد: موضع السوار، والكف: موضع الخاتم والخضاب، والساق: موضع الخلخال، والقدم: موضع الخضاب، بخلاف الظهر والبطن والفخذ، لأنها ليست بمواضع الزينة. قوله: (والمحرم كل من يحرم نكاحه على التأبيد بنسب، مثل: الأم والأخت والبنت والعمة والخالة ونحوهن، أو بسبب: كالرضاع والصهرية). قوله: (ولو أنها) أي الصهرية (بزنا) وقيل: إذا كانت المصاهرة بزنا: لا يجوز له أن ينظر إلى وجهها وكفيها كالأجنبية، والأول أصح، لأنها محرمة على التأبيد. قوله: (ويمس ذلك أيضاً) أي يمس ما حل النظر إليه من محارمه، لتحقق الحاجة إلى ذلك في المسامرة والمخالطة. قوله: (فإن خاف عليه) أي على نفسه (أو عليها) أي أو خاف على نفسها (لا ينظر ولا يمس) لقوله عليه السلام: "العينان تزنيان، وزناهما النظر، واليدان تزنيان، وزناهما البطش، والرجلان تزنيان، وزناهما المشي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه". فكان تحت كل واحد منها نوع زناً، والزنا محرم بجميع أنواعه، وحرمة الزنا بالمحارم أشد وأغلظ.

قوله: (ولا بأس بالخلوة بها) أي بمحارمه، لقوله عليه السلام: "لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل، فإن ثالثهما الشيطان". والمراد: إذا لم يكن محرماً، لأن المحرم بسبيل منها، إلا إذا خاف عليه أو عليها لما قلنا. قوله: (والسفر معها) أي مع محارمه، لقوله عليه السلام: "لا تسافر المرأة فوق ثلاث أيام ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها". قوله: (وينظر من أمة غيره إذا أمن الشهوة إلى ما ينظر إليه من محارمه) لأنها تحتاج إلى الخروج لحوائج مولاها في ثياب مهنتها، وحالها مع جميع الرجال: كحال المرأة مع محارمها. قوله: (ولو كانت) أي ولو كانت الأمة (أم ولد لغيره، أو مكاتبته، أو مدبرته، أو مستسعاته، ففي الخلوة بها والسير معها قولان: في قول: يجوز) لوجود الحاجة، وقيام الرق فيهن (وفي قول: لا يجوز). قوله: (ويحل له مس ذلك) أي الموضع الذي يجوز له أن ينظر إليه: كالصدر والساق والذراع والرأس (وقت الشراء وإن خاف الشهوة) للضرورة (وقيل: يحل له النظر إليها وقت الشراء مع خوف الشهوة، ولا يحل المس معه) أي مع خوف الشهوة، لاندفاع الحاجة بالنظر فقط.

قوله: (والخصي) وهو الذي قلعت خصيتاه (والمجبوب) وهو مقطوع الذكر والخصيتين، (والمخنث) وهو الذي يعمل الردي من الأفعال، وهو الذي يؤتى: (كالفحل في جميع الأحكام) لإطلاق النصوص، ولأن الخصي: ذكر يشتهي ويجامع، والمجبوب: يشتهي ويسحق وينزل، والمخنث: كغيرهمن الرجال، بل هو من الفساق، فيبعد عن النساء. قوله: (والعبد كالأجنبي في رؤية سيدته) أي عبد المرأة: كالأجنبي من الرجال في رؤية مولاته، حتى لا يجوز لها أن تبدي من زينتها إلا ما يجوز أن تبديه للأجنبي، ولا يحل له أن ينظر إليها إلا ما يجوز أن ينظر إليه من الأجنبية، لأنه فحل، غير محرم ولا زوج، والشهوة متحققة، والحاجة قاصرة، لأنه يعمل خارج البيت. وقال مالك والشافعي: نظره إليها كنظر الرجل إلى محارمه. قوله: (ويحل له) أي للعبد (الدخول على سيدته من غير إذن) للضرورة. قوله: (ويعزل عن أمته بغير إذنها) لأنه لا حق لها في الوطء. قوله: (وعن زوجته) أي ويعزل عن زوجته (الحرة بإذنها) لأن لها حقاً في الوطء، حتى كان لها المطالبة بقضاء الشهوة، وتحصيلاً للولد، ولهذا تخير في الجب والعُنة. قوله: (ويعزل عن زوجته الأمة بإذن مولاها) هذا عند أبي حنيفة، وعندهما: لا يعزل إلا بإذن الأمة. قوله: (ويكره تقبيل الرجل الرجل ومعانقته) لأنه عليه السلام "نهى عن المكاعمة: وهي التقبيل، وعن المكامعة: وهي المعانقة" رواه الطحاوي.

وفي الجامع الصغير: "ويكره أن يقبل فم الرجل أو يده، أو شيئاً منه، أو يعانقه". وذكر الطحاوي: أن هذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا بأس بالتقبيل والمعانقة. وقالوا: الخلاف فيما إذا لم يكن عليهما غير الإزار، وإذا كان عليهما قميص أو جبة: فلا بأس به بالإجماع، وهو الذي اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي. قوله: (ولا بأس بالمصافحة) لأنها سنة قديمة متواترة في البيعة وغير ذلك، وقال عليه السلام: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا" رواه ابن ماجة. قوله: (وقيل: لا بأس بهما) أي بالمعانقة والمصافحة جميعاً (إذا قصد المبرة والإكرام). قوله: (ولا بأس بتقبيل يد العالم، والسلطان العادل، على سبيل التبرك) وكذلك تقبيل يد الأبوين، والشيخ، والرجل الصالح. وما يفعله الجهال من تقبيل يد نفسه إذا لقي غيره: فهو مكروه، ولا رخصة فيه. وما يفعلون من تقبيل الأرض بين يدي السلاطين: فحرام، والفاعل والراضي به: آثمان، لأنه يشبه عبادة الوثن. وذكر الصدر الشهيد: "أنه لا يكفر بهذا السجود، لأنه يريد به التحية". وقال السرخسي: "السجود لغير الله على وجه التعظيم: كفر". وفي التتمة: "إذا سجد للسلاطين للتحية: لا يكفر" فيفهم من هذا القيد أنه إذا سجد للتعظيم: يكفر.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان الاحتكار وغيره قوله: (ويحرم احتكار أقوات الناس) مثل الحنطة، والعدس، والحمص، ونحوها (وأقوات البهائم) مثل الشعير، والتبن، لقوله عليه السالم: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" رواه ابن ماجة. قوله: (فقط) إشارة إلى تخصيص الاحتكار بأقوات بني آدم والبهائم، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: كل ما ضر بالعامة حبسه: فهو احتكار، وإن كان ثياباً أو دراهم ونحوها. ثم مدة الاحتكار: قبل أربعون ليلة، وقيل: شهر، وقيل: المدة للعاقبة في الدنيا، وأما الإثم فيحصل، وإن قلت المدة. قوله: (في البلد الصغير) لأن الضرر يقع في هذا، حتى إذا كان البلد كبيراً: لا يكون محتكراً، لأنه حابس ملكه من غير إضرار لغيره، وتلقي الجلب على هذا التفصيل. قوله: (ومن احتكر غلة أرضه، أو ما جلبه من بلد آخر: حل) لأنه خالص حقه، فلم يتعلق به حق العامة، فلا يكون احتكاراً. وقال أبو يوسف: يكره أن يحبس ما جلبه من بلد آخر. قوله: (ويحرم التسعير) لقوله عليه السلام: "لا تسعروا فإن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق".

قوله: (إلا إذا تعين) أي إلا إذا تعين التسعير: بأن كان أرباب الطعام يتحكمون على المسلمين، ويتعدون تعدياً فاحشاً، وعجز السلطان عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير: فحينئذ يسعر، دفعاً للضرر العام. ولو خاف الإمام الهلاك على أهل مصر: أخذ الطعام من المحتكرين وفرقه، فإذا وجدوا: ردوا مثله. قوله: (ويحرم بيع أرض مكة) لقوله عليه السلام: "إن الله حرم مكة فحرام بيع رباعها"، وهذا عند أبي حنيفة، خلافاً لهما. وكذلك يحرم إجارتها، لقوله عليه السلام: "من أكل أجور أرض مكة فكأنما أكل الربا". قوله: (ولا يحرم بيع أبنيتها) لأن البناء ملك لمن بناه، ألا يرى أنه لو بنى في المستأجر أو في الوقف: صار البناء له، وجاز له بيعه. قوله: (ويكره التعشير في المصحف والنقط) لقول ابن مسعود: "حمروا القرآن"، ولكن هذا كان في زمنهم، لأنهم كانوا يتلقونه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما أنزل،

وكانت القراءة سهلاً عليهم، ولا كذلك في زمننا: فيستحسن، والتساويد والنقط والتعشير: لعجز العجمي عن التعلم إلا به، إلى هذا أشار المصنف بقوله: (ويباح في زماننا). وعلى هذا لا بأس بكتابة أسامي السور وعدد الآي، فهو وإن كان محدثاً: لمستحسن، وكم من شيء يختلف باختلاف الزمان والمكان. قوله: (ويباح تحلية المصحف) لما فيها من تعظيمه (وكذا نقش المسجد وزخرفته) أي تزيينه بماء الذهب من غير مال الوقف، لأن في ذلك تعظيم بيت الله، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18]. ولا يجوز من مال الوقف، حتى إذا فعل منه: يلزم الضمان على الذي فعل. قوله: (ويحرم استخدام الخصيان) لأن فيه تحريض الناس على الخصاء، وهو مثلة، وقد صح أنه عليه السلام: نهى عنها، فيحرم. قوله: (ولا بأس بخصاء البهائم) لأنه عليه السلام "ضحى بكبشين أملحين موجوءين". قوله: (وإنزاء الحمير على الخيل) لأنه عليه السلام "ركب البغلة واقتناه" ولو لم يجز: لما فعله، لأن فيه فتح بابه.

قوله: (ولا بأس بعيادة الذمي) لأنها نوع من البر، وقد قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8]. وأما المجوسي: فقد قيل: لا يعوده، لأنه أبعد من أهل الكتاب إلى الإسلام، وقيل: يعوده، لأن فيه إظهار محاسن الإسلام وترغيبه فيه وتأليفه، وقد ندبنا إليه. واختلفوا في عيادة الفاسق أيضاً، والأصح: أنه لا بأس بها، لأنه مسلم. قوله: (ويحرم قوله في الدعاء: أسألك بمعقد العز من عرشك) اعلم أن لهذه المسألة عبارتان: بمعقد: من العقد، وبمقعد: من القعود، تعالى الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً. ولاشك في كراهية الثانية، لاستحالة معناها على الله سبحانه وتعالى، وكذا الأولى، لأنه يوهم أن (عز) متعلق بالعرش، والعرش حادث، وماي تعلق به يكون حادثاً، والله تعالى متعال عن تعلق عزه بالحادث، بل عزه قديم كذاته. وعن أبي يوسف: أنه لا بأس به، وبه أخذ الفقيه أبو الليث. قوله: (وبحق فلان) أي يحرم أن يقول في دعائه: بحق فلان، أو بحق أنبيائك، وأوليائك، أو بحق البيت، أو بحق المشعر الحرام، لأنه لا حق للخلق على الله تعالى، وإنما يختص برحمته من يشاء من غير وجوب عليه. قوله: (ويحرم اللعب بالنرد) لقوله عليه السلام: "من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله" رواه مالك وأحمد وابن ماجة. (وكذا النردشير) لقوله عليه السلام: "من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم

الخنزير" رواه مسلم وأحمد وأبو داود. (وكذا الشطرنج) لقوله عليه السلام: "كل لعب ابن آدم حرام إلا ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه لفرسه، ومناضلته بقوسه". وأباح الشافعي: الشطرنج من غير قمار، ولا إخلال بحفظ الواجبات، ومن غير كلام بفحش. قوله: (وكل لهو) أي يحرم كل لهو إلا المناضلة: وهي المراماة، والمسابقة بالخيل، ومداعبة الرجل أهله، لما روينا.

فروع

فروع ولا بأس بالمسابقة في الرمي، والفرس، والإبل، إن شرط المال من جانب واحد، بأن يقول أحدهما لصاحبه: إن سبقتني: فلك كذا، وإن سبقتك: فلا شيء لي، لقوله عليه السلام: "لا سبق إلا في خف ونصل أو حافر" رواه أحمد وأبو داود وجماعة أخر. وحرم: لو شرط المال من الجانبين، بأن يقول: إن سبق فرسك: أعطيتك كذا، وإن سبق فرسي: فأعطني كذا، إلا إذا أدخلا ثالثاً سهماً، وقالا للثالث: إن سبقتنا: فالمالان لك، وإن سبقناك: فلا شيء لنا عليك، ولكن أيهما سبق صاحبه: أخذ المال المشروط. وكذا المتفقة: إذا شرط لأحدهما الذي معه الصواب: صح، وإن شرطاه لكل واحد منهما على صاحبه: لا يجوز، كما في المسابقة. واعلم أن رمي السهم له فضائل كثيرة، لقوله عليه السلام: "إن الله ليدخل بالسهم الواحد: الثلاثة الجنة، صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد به" رواه ابن ماجة. وقال عليه السلام: "من رمى العدو بسهم، فبلغ سهمه العدو أصاب أو أخطأ: فيعدل رقبة" رواه ابن ماجة. وقال عليه السلام: "من تعلم الرمي ثم تركه فقد عصاني" رواه ابن ماجة. قوله: (ويباح السلام على المشغول بالشطرنج بنية التشويش) يعني ليشوشهم ليغلطوا في حسابهم، وهو رواية عن أبي حنيفة، وقيل: لا يباح، تحقيراً لهم. وروي أن علياً رضي الله عنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج ولم يسلم عليهم، فقيل له في ذلك،

فقال: "كيف أسلم على قوم يعكفون على أصنامهم"، وهذا قول أبي يوسف ومحمد. قوله: (والجوز الذي يلعب به الصبيان يوم العيد يؤكل) لأن ابن عمر رضي الله عنه: كان يشتري الجوز لصبيان وهم يلعبون، ثم يأكله معهم. قوله: (إن لم يقامروا به) لأنهم إذا قامروا به: يكون حراماً، لأن كل ما يكتسب من القمار حرام. والقمار من القمر: وهو اليسر، سمي به: لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة، من غير كد ولا تعب. قلت: وحكم البيض المسلوق الذي يلعب به الصبيان على هذا الحكم. قوله: (وسماع صوت الملاهي كلها حرام) لقوله عليه السلام: "استماع الملاهي معصية، والجلوس عليها فسق، والتلذذ بها من الكفر" رواه الصدر الشهيد في كراهية الواقعات. والملاهي تشمل جميع أنواع اللهو، حتى التغني بضرب القضيب ونفخ القصب. قوله: (فإن سمع بغتة: فهو معذور) لأنه لم يكن منه قصد، فيعذر فيه، ثم يجتهد أن لا يسمع بعد ذلك مهما أمكنه، لأن الإعراض عن سماعه واجب. قوله: (ويحل ضرب الدف في العرس لإعلان النكاح) لقوله عليه السلام: "أعلنوا النكاح ولو بالدف" وقال عليه السلام: "فصل ما بين الحرام والحلال: الدف والصوت في النكاح" رواه ابن ماجة.

قوله: (وضرب الطبل في الحج والغزوات: للإعلام لا للهو) أي يحل ضرب الطبل في الحج والغزوات لإعلام الرحيل والنزول، ولأنه هيبة للمسلمين على الأعداء. قيد بقوله: (لا للهو) لأن ضرب الطبل وغيره للهو: حرام، لأنه معصية. قوله: (وما يأخذ المغني والنائحة من غير شرط: مباح) لأنه حصل برضا صاحبه، فيباح له. قوله: (ومع شرط: حرام) لأن بالشرط يكون مقابلاً بالمعصية، فعليه رد ما أخذ على أربابه إن عرفهم، لأن الأخذ معصية، والسبيل في المعاصي: ردها، فكذلك هنا، وعليه أن يتصدق إن لم يعرف أربابه. وذكر الحاكم في كسب المغنية: أنه إن قضي به دين: لم يسع لصاحب الدين أن يأخذه، لأنه بمنزلة الغصب، وأما في القضاء: فإنه يجبر على أخذه. قوله: (ولا تركب المرأة على السرج) لقوله عليه السلام: "لعن الله الفروج على السروج". قوله: (إلا للضرورة) يعني إذا كانت المرأة في سفر الحج وغيره، واضطرت للركوب على السرج، تركب مستديرة، لأن الضرورة تبيح المحظورة.

قوله: (ومن رأى منكراً وهو ممن يفعله: يلزمه النهي عنه) أي عن ذلك المنكر، لأن في الامتناع عنه يرتكب محظورين: فعل المنكر، وترك النهي عن المنكر، وفي إقدامه: يكتسب ثواب النهي عن المنكر. والكف عن النهي عن المنكر: سبب لعموم العقوبات لجميع الناس، لقوله عليه السلام: "إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه: أوشك أن يعمهم الله بعقابه" رواه ابن ماجة. قوله: (حامل اعترض الولد في بطنها وقت الولادة وخيف عليها) أي على الحامل (ولم يمكن إخراجه) أي إخراج الولد (إلا بقطعه: لم يجز قطعه) بأن تدخل القابلة يدها داخل الفرج فتقطعه بآلة ونحوها، لأن موتها موهوم، فبأمر موهوم لا يجوز إتلاف آدمي حي، حتى إذا كان ميتاً: يجوز أن يقطع لتتخلص أمه. قوله: (حامل ماتت فتحرك في بطنها الولد، فإن غلب على الظن حياته وبقاؤه: يشق بطنها من الجانب الأيسر ويخرج منه) لأنه سبب إلى إحياء نفس محترمة، وقد فعل ذلك أبو حنيفة وعاش الولد. ولو دفنت، وقد أتى على الولد سبعة أشهر، وكان يتحرك في بطنها، فرئيت في المنام أنها تقول: ولدت: لا ينبش، لأن الظاهر موته. قوله: (ويباح للمرأة إسقاط الولد ما لم يستبين شيء من خلقه) لأنه ليس بآدمي ما لم يستبن خلقه، ذكره في المحيط. وإن شربت دواء لتصلح نفسها وهي حامل: فلا بأس بذلك، وإن سقط الولد فلا شيء عليها. وإن أتى على حملها ستة أشهر، فأرادت أن تلقي العلق على ظهرها: سألت من الأطباء، فإن قالوا: لا يضر: فعلت، وإلا فلا، وكذلك الفصد والحجامة. قوله: (رجل ابتلع درة أو ذهباً لغيره، ثم مات ولم يترك شيئاً: لا يشق بطنه) لأنه أتلفه بابتلاعه، والحكم في المتلف أن يضمن قيمة ما تلف، فإن ترك شيئاً: فعليه قيمته، وإن لم يترك: فلا شيء في الدنيا.

وروي عن الجرجاني: أنه يشق، لأن حق العبد مقدم على حق الله، وحق المظلوم على الظالم المعتدي. قوله: (نعامة ابتلعت لؤلؤة) أي نعامة لرجل ابتلعت لؤلؤة (لرجل آخر، أو شاة لرجل نشبت رأسها) أي دخل رأسها (في آنية رجل، وتعذر إخراجه: ينظر إلى أكثرهما قيمة، فإن كانت قيمة النعامة أكثر من قيمة اللؤلؤة: يضمن صاحب النعامة قيمة اللؤلؤة لصاحبها، وإن كانت قيمة اللؤلؤة أكثر من قيمة النعامة: يضمن صاحب اللؤلؤة قيمة النعامة لصاحبها، وكذلك الحكم في الشاة مع الإناء) لأن في ذلك نظراً للجانبين بطريق التعادل. قوله: (ويصنع به ما شاء) أي يصنع الرجل الذي غرم بما غرم: ما شاء، لأنه ملكه بالضمان. قوله: (ويكره قتل النملة، ما لم تبتدي بالأذى) لأن قتل الحيوان إنما يجوز لغرض صحيح، فإذا لم يؤذ: لا يقتل (بخلاف القملة) فإنه يجوز قتلها مطلقاً، سواء آذت أو لا، لأنها بالطبع مؤذية، وكذلك الراغيث. قوله: (ويكره إحراق القملة والعقرب ونحوها) مثل الحية والأربعة والأربعين (بالنار) لقوله عليه السلام: "لا تعذبوا بعذاب الله" رواه ابن ماجة. قوله: (وطرحها حية) أي طرح القملة حية (مباح) لأنها مستحقة للقتل، ولكنه ليس بأدب، لأن في ذلك هلاكها بالجوع. قوله: (والختان للرجال سنة وللنساء مكرمة) هذا لفظ الحديث. المكرمة: بفتح الميم وضم الراء. وليس للختان وقت معلوم، قال الفقيه أبو الليث: والمستحب عندي إذا بلغ سبع سنين: يختتن ما بينه وبين عشر سنين.

وقيل: وقته وقت البلوغ، وقيل: بتسع، وقيل: بعشر سنين، وقيل: متى كان يطيق ألم الختان: ختن وإلا فلا. ولو ولد مختوناً: لا يقطع منه شيء حتى يكون ما يواري الحشفة. قوله: (وتضرب الدابة على النفار دون العثار) والنفار: من النفرة، والعثار من العثرة، وإنما تضرب في النفار: لأنه من عادتها السيئة، بخلاف العثار: فإنه آفة تصيبها. قوله: (وركض الدابة ونخسها) الركض: الضرب بالرجل، والنخس: الطعن بمهماز أو عصا أو نحوهما، كما يفعله الدلالون لأجل العرض على المشترين، أو يفعله أحد للهو (مكروه) لأنه تعذيب الحيوان بلا غرض صحيح، حتى يباح لأجل الجهاد وغيره، من غرض صحيح مثل: الفرار من العدو، أو الكرار إليه، ونحو ذلك. قوله: (والسلام سنة) لقوله عليه السلام: "والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم" رواه ابن ماجة. قوله: (ورده) أي رد السلام (فرض كفاية) حتى إذا رد واحد من الجماعة: يسقط عن الباقين، وأما كونه فرضاً: فلأن في الامتناع من الرد إهانة للمسلم واستخفافاً به، وأنه حرام. قوله: (وثواب المسلم أكثر) لقوله عليه السلام: "للبادي من الثواب عشرة وللراد واحد" وفي رواية: "للبادي من الثواب عشرون وللراد عشرة".

ولأن البادي بالسلام هو المسبب للجواب، وهو البادي بالإحسان، والراد يجازي إحسانه بالإحسان، والمجازاة للإحسان أفضل، ولكن ثواب المبتدي به أجزل. ثم إنما يصح رد السلام إذا سمعه المسلم، لأن الرد جواب سلامه، والجواب إنما يكون جواباً إذا سمعه المخاطب، إلا إذا كان المسلم أصماً: فينبغي أن يريه بتحريك شفتيه. ويسلم القوي على الضعيف، والراكب على الراجل، والماشي على القاعد، والصغير على الكبير، والكثير على الواحد، وراكب الفرس على راكب الحمار، والبدوي على القروي، وقيل: بالعكس. قوله: (ولا يجب رد سلام السائل) لأنه يسلم لأجل شيء، وكذلك لا يجب على القاضي رد سلام المتخاصمين. قوله: (ولا ينبغي أن يسلم على من يقرأ القرآن) لأنه يشغله عن قراءته. وإن سلم عليه: فالأصح أنه يجب عليه رده، لأنه فرض، وقراءة القرآن ليست بفرض، فلا يدع الواجب بانشغاله بالنفل، بخلاف ما لو سمع اسم النبي صلى الله عليه وسلم: لا يجب عليه الصلاة، لأن قراءة القرآن على نظمه: أفضل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (وتشميت العاطس فرض كفاية) حتى إذا قام بها واحد من الجماعة سقط عن الباقين، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليرد عليه من حوله، يرحمك الله، وليرد عليهم: يهديكم الله ويصلح بالكم" رواه ابن ماجة.

(ويكره تعليم البازي بالطير الحي) لأنه تعذيب الحيوان، مع حصول المقصود بالمذبوح. قوله: (ويكره الغل في عنق العبد) لأنه عقوبة الكفار، فيكره كالإحراق بالنار. قوله: (ولا يكره القيد لخوف الإباق) لأن القيد سنة السلف في السفهاء والدعار والعبيد، احتراز عن إباقهم والتمرد على مواليهم. قوله: (ويباح الجلوس في الطريق للبيع إذا كان واسعاً، لا يتضرر الناس به) أي بجلوسه (ولو كان الطريق ضيقاً: لا يجوز) لأن المسلمين يتضررون بذلك. وقال عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام". قوله: (وتكره الخياطة في المسجد وكل عمل من أعمال الدنيا) لأن المساجد بنيت لأداء الفرائض، حتى أن أداء النوافل في البيت أفضل. قوله: (ويكره الجلوس فيه) أي في المسجد (للمصيبة ثلاثة أيام) لما قلنا، ويباح في غير المسجد، والترك أولى، لما روي عن جرير بن عبد الله قال: "كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة" رواه ابن ماجة. قوله: (ولو جلس فيه) أي في المسجد (معلم أو وراق، فإن كانت حسنة لله تعالى: لا بأس به) لأنه حينئذ لم يكن من أعمال الدنيا (وإن كان بأجرة: يكره، إلا عند ضرورة يكون بهما) أي بالمعلم أو الوراق. قوله: (ويكره تمني الموت لضيق المعيشة أو للغضب من ولده أو غيره) مثل

الخوف من سلطان جائر، أو من حادثة أصابته، لقوله عليه السلام: "لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنياً الموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً ليه" رواه ابن ماجة. قوله: (ولا بأس بتمنيه) أي تمني الموت (لتغير أهل الزمان وظهور المعاصي، خوفاً من الوقوع فيها) أي في المعاصي، لأن المؤمن المتقي في الزمان الذي ظهر فيه الفساد واشتهرت فيه المعاصي: حيران في أمر دينه، وكيف يحفظه، وكيف ينجو من شرهم، ففي هذا الزمان: يجوز تمني الموت، لقوله عليه السلام: "لتنتقون كما ينتقى التمر من أغفاله، فليذهبن خياركم وليبقين شراركم، فموتوا إن استطعتم". قوله: (رجل يتردد على الظلمة ليدفع شرهم عنه، فإن كان مفتياً أو مقتدى به: لا يحل له ذلك) لأن دفع شرهم عنه ممكن بغير التردد، ولأن فيه إهانة للعلم وأهله، (وإن كان غير مقتدى به: فلا بأس بتردده إليهم ليدفع شرهم) وأما إذا تردد لأجل أن يصيبه منهم دنيا: فلا يجوز، لقوله عليه السلام: "إن أناساً من أمتي سيتفقهون في الدين ويقرؤون القرآن ويقولون: نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا ولا يكون ذلك، كما لا يجتني من القتاد إلا شوك: كذلك لا يجتني من قربهم إلا الخطايا" رواه ابن ماجة. والقتاد بفتح القاف، والتاء ثالث الحروف: ضرب من العضاة، وهي جمع عضة: وهي شجر من شجر الشوك ليس فيه إلا الشوك.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض وهي جمع فريضة، والفرض: التقدير، وفرض القاضي النفقة: أي قدرها، وسمي هذا العلم فرائض: لأن الله قدره بنفسه ولم يفوض تقديره إلى ملك مقرب، ولا نبي مرسل. قوله: (الفروض المقدرة في القرآن ستة: النصف والربع والثمن والثلث والثلثان والسدس) وهي المذكورة في سورة النساء. قوله: (وأصحابها) أي أصحاب الفروض المقدرة (اثني عشرة طائفة: أربعة من الرجال، وثمان من النساء، أما الأربعة من الرجال: فالأول: الأب، والثاني: الجد، والثالث: الأخ لأم، والرابع: الزوج، وأما الثمانية من النساء، فالأولى: الأم، والثانية: الجدة، والثالثة: البنت، والرابعة: بنت الابن، والخامسة: الأخت لأب وأم، والسادسة: الأخت لأب، والسابعة: الأخت لأم، والثامنة: الزوجة). فلنبين لك كل واحدة على حدة. قوله: (فالأب له السدس) شروع في بيان ما يصيب لكل واحد من الرجال والنساء من السهام المقدرة. فالأب له السدس مع وجود الابن أو ابن الابن، لقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11]. جعل له السدس مع الولد، وولد الابن: ولد شرعاً بالإجماع، قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26]. وكذا عرفاً، قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأجانب قوله: (والتعصيب) أي للأب التعصيب، وهو حالته الثانية، وهو أن يكون عصبة

لعدم الولد وولد الولد، لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]، فذكر فرض الأم وجعل الباقي له: دليل على أنه عصبة. قوله: (وكلاهما) أي للأب كلاهما، أي السدس والتعصيب، وهو حالته الثالثة، وذلك عند وجود البنت وبنت الابن. أما الفرض: فلما تلونا، وأما التعصيب: فلقوله عليه السلام: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت فلأولى رجل ذكر" رواه مسلم. قوله: (والجد في أحواله كالأب) والمراد منه الجد الصحيح: وهو الذي لم يتخلل في نسبته إلى الميت أم، أي الجد في جميع أحواله كالأب (إلا في مسألتين: إحداهما: في رد ام الميت من ثلث الجميع إلى ثلث ما يبقى في زوج وأبوين، أو زوجة وأبوين، فإن الأب يردها إليه، لا الجد، والثانية: في حجب أم الأب، فإن الأب يحجبها دون الجد) وللجد حالة رابعة: وهو السقوط بالأب. وإنما كان الجد كالأب عند عدمه، لأنه يسمى أباً، قال الله تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38]. وكان إسحاق جده، وإبراهيم جد أبيه، فإذا كان أباً: دخل في النص: إما بطريق عموم المجاز أو بالإجماع. قوله: (والأخ لأم: له السدس، وللاثنين فصاعداً: الثلث) لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. المراد به أولاد الأم، لأن أولاد الأب والأم، أو الأب، مذكورون في آية النصف، ولهذا قرأها بعضهم: وله أخ أو أخت لأم. وإطلاق الشركة يقتضي المساواة: ذكورهم وإناثهم سواء. قوله: (والزوج له النصف عند عدم الولد وولد الابن) لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12]. ولفظ الولد يتناول ولد الابن، فيكون مثله بالنص أو بالإجماع.

قوله: (والربع مع أحدهم) أي للزوج الربع مع أحد الولد أو ولد الابن، لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ} [النساء: 12]، فصار للزوج حالتان: النصف والربع. قوله: (والأم لها السدس مع الولد وولد الابن) لقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11]. جعل لها السدس مع الولد، وولد الابن: ولد شرعاً بالإجماع لما قلنا. قوله: (أو الاثنين من الأخوة) أي الأم لها السدس أيضاً مع وجود الاثنين من الإخوة والأخوات فصاعداً أي جهة كانوا لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]. ولفظ الجمع من الإخوة يطلق على الاثنين، فتحتجب بهما من الثلث إلى السدس من أي جهة كانوا، لأن لفظ الإخوة يطلق على الكل، وهذا قول جمهور الصحابة، وروى عن ابن عباس: أنه لم تحجب الأم من الثلث إلى السدس إلا بثلاثة منهم، عملاً بظاهر الآية. قوله: (والثلث) أي الأم لها الثلث: (عند عدم هؤلاء) أي عند عدم الولد وولد الابن، والاثنين من الإخوة والأخوات، لما تلونا. قوله: (وثلث ما بقي) أي الأم لها ثلث ما يبقى في المسألتين، فصار للأم ثلاثة أحوال: السدس، وثلث الكل، وثلث ما يبقى. قوله: (وهما) أي المسألتان: (زوج وأبوان) أي إحداهما: زوج وأبوان، يعني إذا تركت زوجاً وأبوين: فأصل المسألة في هذا من اثنين، لأن الزوج يستحق النصف عند عدم الولد، والأم تستحق ثلث ما يبقى، ومخرج النصف اثنان، فالنصف وهو واحد: للزوج، فيبقى واحد، وليس له ثلث صحيح، فنضرب مخرج الثلث في الاثنين: فيصير ستة.

فالنصف منها: ثلاثة للزوج، وبقي ثلاثة: ثلثها واحد للأم، وبقي اثنان: وهما الثلثان للأب. قوله: (أو زوجة وأبوان) أي المسألة الثانية، زوجة وأبوان، يعني إذا ترك زوجة وأبوين، وأصل المسألة في هذا من أربعة: ربعها للزوجة، فبقي ثلاثة، ثلثها: واحد للأم، وبقي اثنان للأب. قوله: (ولو كان مكان الأب جد: فلها الثلث كاملاً في الأصح) أي ثلث الجميع كاملاً في الأصح من المذهب، وعند أبي يوسف: لها ثلث الباقي أيضاً في هذه الصورة، وهو مروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما. قوله: (والجدة: أم الأم وأم الأب: لهما السدس، واحدة كانت أو أكثر) لقوله عليه السلام: "أطعموا الجدة السدس". وإنما فسر الجدة بقوله: (أم الأم وأم الأب) بياناً للجدة الصحيحة، لأن الجدة الصحيحة من لا يتخلل في نسبتها إلى الميت ذكر بين اثنين، والفاسدة بخلافها، والجدات يشتركن في السدس إذا كن ثابتات متحاذيات. قوله: (وللبنت الواحدة: النصف) لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]. قوله: (وللثنتين فصاعداً: الثلثان) وهو قول عامة الصحابة، وبه أخذ علماء الأمصار. وعن ابن عباس: أنه جعل حكم الثنتين منهم حكم الواحدة، فجعل لهما النصف.

قوله: (وكذا بنت الابن عند عدم بنت الصلب) أي بنت الابن عند عدم بنت الصلب إذا كانت واحدة: فلها النصف، وللاثنين فصعداً: الثلثان. قوله: (ولها) أي لبنت الابن واحدة كانت أو أكثر (مع بنت الصلب: السدس، تكملة للثلثين) لقول ابن مسعود في بنت وبنت ابن وأخت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين، والباقي للأخت". وقوله: (تكملة للثلثين) دليل على أنهن يدخلن في لفظ الأولاد، لأن الله تعالى جعل للأولاد الإناث: ثلثين، فإذا أخذت الصلبية النصف: بقي منه السدس، فيعطى لها تكملة لذلك. فلولا أنهن دخلن في الأولاد، وفرضهن واحد: لما صار تكملة له، إلا أن الصلبية أقرب إلى الميت، فتقدم عليهن بالنصف، ودخولهن على أنه من عموم المجاز أو بالإجماع. والحاصل: أن لبنات الابن ستة أحوال: النصف: للواحدة، والثلثان: للاثنتين فصاعداً، والمقاسمة: مع ابن الابن، والسدس: مع الصلبية الواحدة، والسقوط بالابن وبالصلبيتين، إلا أن يكون معهن غلام، على ما يجيء بيانه إن شاء الله. قوله: (والأخت لأب وأم: لها النصف، وللثنتين فصاعداً: الثلثان) لقوله تعالى: {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 176]. قوله: (والأخت لأب كذلك) أي الأخت لأب: كالأخت لأب وأم عند عدم الأخت لأب وأم، حتى يكون للواحدة: النصف، وللثنتين فصاعداً: الثلثان، ومع الإخوة لأب: للذكر مثل حظ الأنثيين. قوله: (ولها) أي للأخت لأب واحدة كانت أو أكثر (مع الأخت لأب وأم: السدس) تكملة للثلثين، ويسقطن: بالأختين لأب وأم، إلا أن يكون معهن أخ لأب: فيعصبهن، لما بينا.

قوله: (والأخت لأم كالأخ لأم) وذكورهم وإناثهم في الاستحقاق ولاقسمة سواء، حتى يكون للواحدة: السدس، وللأكثر: الثلث، لما بينا عند قوله: (والأخ لأم له السدس). قوله: (والزوجة لها الربع: عند عدم الولد وولد الابن) واحدة كانت أو أكثر، لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء: 12]. قوله: (والثمن) أي للزوجة الثمن: (مع أحد الولد وولد الابن) لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12].

فصل

فصل هذا الفصل في بيان العصبات قوله: (العصبة قسمان: عصبة نسب وعصبة سبب). اعلم أن العصبة في اللغة: عبارة عن الإحاطة، ومنه: عصبة القلنسوة، سميت عصبة: لإحاطتها حوالي الرأس، وهذا المعنى موجود في هذا الباب، لأن العصبة تحرز جميع المال، إذا لم يكن معه صاحب فرض. والعصبة على نوعين: عصبة نسبية وعصبة سببية. (أما العصبة النسبية فثلاثة أصناف: الأول: عصبة بنفسه، والثاني: عصبة بغيره، والثالث: عصبة مع غيره). (أما العصبة بنفسه) فكل ذكر لا يدخل في نسبته إلى الميت أنثى، وهو معنى قول المصنف: (كل ذكر يدلي إلى الميت بمحض الذكور، وهم أربعة أصناف: جزء الميت) أي البنون، ثم بنوهم وإن سفلوا، (ثم أصل الميت) أي الأب، ثم الجد أب الأب وإن علا، (ثم جزء أبيه) أي الأخوة، ثم بنوهم وإن سفلوا (ثم جزء جده) أي الأعمام، ثم بنوهم وإن سفلوا. وقول المصنف: (كالأب وآبائه) إشارة إلى أصل الميت. قوله: (والابن وأبنائه) إشارة إلى جزء الميت. قوله: (والأخ لأب وأم أو لأب وأبنائهما) إشارة إلى جزء أب الميت، وقوله: (والعم لأب وأم أو لأب وأبنائهما) إشارة إلى جزء جد الميت. قوله: (والصنف الأول مقدم) وهو جزء الميت وهو الابن ثم ابنه وإن سفل، لأنه أقرب إليه من أصله وإن علا، وجزء أبيه وجزء جده. قوله: (ثم الثاني) وهو أصل الميت وهو الأب ثم أب الأب وإن علا. قوله: (ثم الثالث) وهو جزء أب الميت وهو الأخ لأب وأم، والأخ لأب وأبنائهما، وإنما قدموا على الأعمام، لأن الله تعالى جعل الإرث في الكلالة للأخوة عند عدم الولد والوالد.

قوله: (ثم الرابع) وهو جزء جد الميت وهو العم وعم الأب وعم الجد. قوله: (فإن اجتمع اثنان من صنف واحد: قدم أعلاهما درجة) وذلك مثل ما إذا اجتمع الابن وابن الابن: فالابن مقدم، وكذلك الأب والجد: فالأب مقدم، وكذلك الأخ وابن الأخ: فالأخ مقدم، وكذلك العم وابن العم: فالعم مقدم. قوله: (فإن استويا في الدرجة) يعني إن استوى الاثنان في الدرجة (قدم ذو الجهتين على ذي جهة واحدة) ذكراً كان أو أنثى، كالأخ لأب وأم، أو الأخت لأب وأم إذا صارت عصبة مع البنت: أحق من الأخ لأب، وابن الأخ لأب وأم: أحق من ابن الأخ لأب، وكذا الحكم في أعمام الميت، ثم أعمام أبيه، ثم في أعمام جده. قوله: (والعصبة بغيره: كل أنثى فرضها النصف: تصير عصبة بأخيها، فلا يفرض لها) يعني لا يقدر لها سهم (بل يكون المال بينهما) أي بين الأنثى التي فرضها النصف، وبين أخيها الذي صارت هي عصبة به. قوله: (وهي) أي الأنثى التي فرضها النصف (البنت وبنت الابن، والأخت لأب وأم، أو الأخت لأب). قوله: (ولا يعصب عصبة أخيه غير هؤلاء) أي غير هؤلاء المذكورات من النساء، كبنت الأخ مع ابن الأخ، وكالعمة مع العم، فإن المال كله للذكر دون الأنثى، لأن الأنثى من ذوي الأرحام، وذوو الأرحام يسقطون بالعصبة. قوله: (وعصبة مع غيره) أي العصبة مع غيره (كل أنثى تصير عصبة مع أنثى أخرى) كالأخوات لأب وأم أو لأب: تصير عصبة مع البنات وبنات الابن. فإن قلت: ما الفرق بين قوله: (والعصبة بغيره) وبين قوله: (والعصبة مع غيره)؟ قلت: إن "مع" قد تستعار للشرط، والباء: للسبب، فحصل الفرق بقوله "مع" وبغيره، بهذا المعنى فافهم. قوله: (وعصبة السبب: المعتق بكسر التاء ذكراً أو أنثى) لقوله عليه السلام: "اللواء لحمة كلحمة النسب" أي وصلة كوصلة النسب.

قوله: (وعصبته) يعني إذا لم توجد عصبة السبب وهو المعتق، تكون عصبة المعتق أحق بالميراث على الترتيب الذي ذكرنا، بأن يكون جزء المعتق أولى لميراث المعتق وإن سفل، ثم أصل المعتق وإن علا، ثم جزء أبيه، ثم جزء جده. ولا شيء للإناث من ورثة المعتق، كما إذا ترك ابن المعتق وبنته، أو أخ المعتق وأخته: المال كله للذكور دون الإناث، لقوله عليه السلام: "ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن، أو أعتق من أعتقن، أو كاتبن، أو كاتب من كاتبن، أو دبرن، أو دبر من دبرن، أو جر ولاء معتقهن، أو معتق معتقهن". صورة الكتابة: أن تقول المرأة لعبدها: كاتبتك على ألف مثلاً، على أن تؤديني في ثلاث سنين: في كل سنة كذا، فإذا أدى المكاتب البدل: يعتق، وولاءه لها، ومكاتب المكاتب على هذا: فولاؤه لها إن لم يكن مكاتب المرأة حياً. وصورة التدبير: أن تقول المرأة لعبدها: إن مت فأنت حر، ثم ارتدت والعياذ بالله، ولحقت بدار الحرب، فقضى القاضي بلحاقها، فعتق مدبرها، ثم جاءت مسلمة، ثم مات المدبر: فولاؤه لها. وصورة مدبر المدرب: اشترى مدبر المرأة عبداً بعدما أعتق، ثم قال لعبده: إن مت فأنت حر، فمات: عتق مدبره، ثم مات مدبر المدبر: فولاؤه لها. وصورة جر ولاء المعتق: بأن تقول المرأة لعبدها: تزوج امرأة، فتزوج معتقة رجل، فولدت ولداً: فولاء الولد لمولى المعتقة ما دام العبد لم يعتق، فإذا عتق: جر ولاء ابنه إلى مولاه. وصورة معتق المعتق: امرأة لها عبد فأعتقت، فاشترى المعتق عبداً، ثم أذن لعبده أن يتزوج معتقة شخص، فولدت ولداً: فولاء ولدها لمولاه، فإذا أعتق المعتق عبده: جر ولاء ابنه إلى مولى مولاه: وهي المرأة التي أعتقت معتق المعتق. فافهم.

قوله: (وهو آخر العصبات) أي عصبة السبب آخر العصبات، لأن العصبة النسبية مقدمة عليها، فتكون آخر العصبات. قوله: (والعصبة يأخذ كل الأموال عند عدم صاحب الفرض) هذا حد العصبة شرعاً، أي العصبة من يأخذ جميع المال عند انفراده، ويأخذ ما أبقته أصحاب الفرائض عند وجودهم، فإن لم يبق شيء: سقط العصبة، لأنه إنما يأخذ شيئاً بعد أن استوفى صاحب الفرض فرضه، فإذا استوفى ولم يبق شيء: سقط.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان الحجب ونحوه قوله: (ستة لا يسقطون بحال) أي بحال من الأحوال (وهم: الأبوان والزوجان، والابن والبنت) وهذا ظاهر. قوله: (ومن سواهم) أي ومن سوى هؤلاء الستة (من الورثة: فالأقرب منهم يحجب الأبعد) كالجد مع الأب، فإن الأب يحجب الجد حجب الحرمان. قوله: (وضابطه) أي ضابط الحجب (أن كل من انتسب إلى الميت بواسطة: لا يرث مع وجود تلك الواسطة) كما مر في صورة اجتماع الجد مع الأب، فإن انتساب الجد إلى الميت: بواسطة الأب، فلا يرث مع وجود تلك الواسطة: وهي الأب. قوله: (إلا الأخوات لأم) وهي أولاد الأم، فإنهم يرثون مع الأم، وإن كان انتسابهم بالواسطة: وهي الأم، لعدم استحقاق الأم جميع التركة. قوله: (وتسقط الأجداد بالأب) لما قلنا أن الأب واسطة، فيمنع من إرثهم. قوله: (والجدات من الجهتين بالأم) أي تسقط الجدات بالأم، سواء كانت من جهة الأم، أو ن جهة الأب، لأن الأم أصل في القرابة. قوله: (والأبويات خاصة بالأب) أي تسقط الأبويات من الجدات: بالأب إذا كان وارثاً، روي ذلك عن عثمان، وعلي، وسعد، والزبير،

وزيد بن ثابت، وبه أخذ جمهور العلماء. وروي عن عمر، وابن مسعود، وعمران بن حصين، وأبي موسى الأشعري: أنهم جعلوا لها السدس مع الأب. وبه أخذ طائفة من أهل العلم من التابعين وغيرهم. قوله: (وأولاد الابن) أي يسقط أولاد الابن (بالابن) لقرابة الابن. قوله: (والأخوات) أي تسقط الأخوات (بالابن وابن الابن وإن سفل، وبالأب والجد وإن علا) لما مر من الأصل. قوله: (وأولاد الأب) أي يسقط أولاد الأب (بهؤلاء) أي بالابن وابن الابن وإن سفل، وبالأب والجد وإن علا، وبالأخ لأب وأم أيضاً. قوله: (والبعدى من الجدات) أي تسقط البعدى من الجدات (من أي جهة كانت: بالقربى من أي جهة كانت) سواء كانت القربى وارثة أو محجوبة، كأم الأب تسقط أم أم الأم. وصورة كونها محجوبة: كأم الأب تحجب بالأب، ولكن تحجب أم أم الأم، لأنها قربى من أم أم الأم، والقرب من أسباب الترجيح. وإذا كانت جدة ذات قرابة واحدة: كأم أم الأب، والأخرى ذات قرابتين أو أكثر: كأم أم الأم، وهي أيضاً أم أب الأب: يقسم السدس بينهما أنصافاً باعتبار الأبدان عند

أبي يوسف، لأن المستحق للإرث: نفسهما، ونفسهما: اثنان، فيصير السدس بينهما أنصافاً. وعند محمد: أثلاثاً، لأن الجهة عنده بمنزلة جدة، فحينئذ تستحق الجدة التي لها جهتان: الثلثين، والجدة التي لها جهة واحدة: الثلث. صورته: امرأة زوجت بنت بنتها من ابن ابنها، فولد منهما ولد، فهذه المزوجة: أم أم أم الولد، وهي أيضاً: أم أب أب الولد، والجدة الأخرى: أم أم أب الولد، فإن تزوج هذا الولد بسبط لها آخر، فولد منهما ولد: صارت هذه المرأة جدة لهذا الولد الأخير من ثلاثة أوجه. فإن تزوج هذا الولد بسبط لها آخر، فولد منهما ولد: صارت هذه الجدة جدة لهذا الولد من أربعة أوجه. صورته: ميت مِ ت مِ ... ت مِ م م وقس الثاني على هذا. قوله: (وأولاد الأم) أي يسقط أولاد الأم (بالولد وولد الابن والأب والجد) لما مر من التعليل. قوله: (وإذا أخذت البنات الثلثين: سقطت بنات الابن) لأن إرثهن كان تكملة للثلثين، وقد كمل، فسقطن، إذا لا طريق لتوريثهما فرضاً وتعصيباً، إلا أن يكون معهن أو أسفل منهن ذكر، فيعصب من كان بحذائه ومن كانت فوقه ممن لم تكن ذات سهم. ثم الأصل في بنات الابن عند عدم بنات الصلب: أن أقربهن إلى الميت: ينزل منزلة البنت الصلبية، والتي تلتها في القرب منزلة: بنات الابن، وهكذا يفعل، وإن سفلن، مثاله: لو ترك ثلاثة بنات ابن بعضهن أسفل من بعض، وثلاث بنات ابن ابن آخر بعضهن أسفل من بعض، وثلاث بنات ابن ابن ابن آخر بهذه الصورة:

ميت ابن ابن ابن ابن بنت ابن ابن ابن بنت ابن بنت ابن ابن بنت ابن بنت ابن بنت ابن بنت ابن بنت فالعلياء من الفريق الأول: لا يوازيها أحد، فيكون لها النصف، والوسطى من الفريق الأول: يوازيها العليا من الفريق الثاني: فيكون لهما السدس، تكملة للثلثين، ولا شي للسفليات، إلا أن يكون مع صاحبة فرض، حتى لو كان الغلام مع السفلى من الفريق الأول: عصبها وعصب الوسطى من الفريق الثاني، والعليا من الفريق الثالث، وسقطت السفليات، ولو كان الغلام مع السفلى من الفريق الثاني: عصبها وعصب الوسطى منه، والوسطى والعليا من الفريق الثالث، والسفلى من الفريق الأول. ولو كان مع السفلى من الفريق الثالث: عصب الجميع غير أصحاب الفرائض. ولو كان الابن مع العليا من الفريق الأول: عصب أخته وسقطت البواقي، وبعد ذلك: الأصل في استحقاقهم: أن للعليا من الفريق الأول: النصف، لأنها قائمة مقام بنت الصلب، وللوسطى من الفريق الأول مع من يوازيها: السدس تكملة للثلثين. فصار في المسألة: نصف وسدس. فأصل المسألة من الستة، نصفها: ثلاثة للعليا من الفريق الأول، وسدسها: واحد للوسطى من الفريق الأول مع من يوازيها، فصار لهن أربعة أسهم، وبقي اثنان، فرد الاثنان عليهن بقدر حقوقهن. فعلمنا أن المسألة صارت ردية، فإذا كانت المسألة ردية: ينظر هل فيها من لا يرد عليه أم لا؟ فإذا لم يكن فيها من لا يرد عليه، ينظر: هل كان من يرد عليه من جنس واحد أو من جنسين؟

فإذا كان من يرد عليه من الجنسين، تجعل المسألة من سهامهم، ففي مسألتنا هذه من يرد عليه من جنسين، لأن في مسألتنا: العليا من الفريق الأول: قائم مقام بنت الصلب، والوسطى من الفريق الأول مع من يوازيها: قائمان مقام بنات الابن، فيصيران من الجنسين، فتجعل مسألتهن من سهامهن، فهي أربعة، فعلمنا أن هذه الساعة عمل الرد. وينظر بعد علمه بين سهامهن، ورؤوسهن إلى ثلاثة أحوال: الاستقامة، والموافقة، والمباينة. والاستقامة: أن ينقسم سهام كل فريق على رءوسهم بلا كسر. والموافقة: أن ينقص من الأكثر مقدار الأقل إلى أن يتساويا في الاثنين أو أكثر. والمباينة: أن ينقص من الأكثر مقدار الأقل إلى أن يتساويا في الواحد. وسهام العليا من الفريق الأول ثلاثة، ورأسها واحدة، فبين الثلاثة والواحدة، استقامة، فلا حاجة إلى الضرب. وسهم الوسطى من الفريق الأول مع من يوازيها: واحدة، ورؤوسهما: اثنان، فبين الواحدة والاثنين مباينة. فإذا كان بين سهامهم ورؤوسهم مباينة، وأيضاً الكسر على طائفة، فالحكم فيها: أن يضرب كل عدد رءوسهم في أصل المسألة، ففي مسألتنا، رؤوس من انكسر عليهم، اثنان، فيضرب في أصل المسألة وهو أربعة، فيصير ثمانية، وتسمى الثمانية: النفيح والمبلغ، والاثنان: المضروب، والأربعة: أصل المسألة. ثم لابد من أن يعرف نصيب كل فريق، ونصيب كل فرد من كل فريق، وطريق معرفة تنصيب كل فريق: أن يضرب سهم كل فريق من أصل المسألة في المضروب، فالمبلغ نصيب ذلك الفريق. ففي مسألتنا: للعليا من الفريق الأول من أصل المسألة: النصف، وهو ثلاثة، فيضرب في المضروب وهو اثنان: فيصير ستة، وللوسطى مع من يوازيها، سدس وهو واحد، فيضرب في المضروب وهو اثنان، فيصير اثنين. وطريق معرفة نصيب كل فرد من كل فريق: أن ينسب سهام كل فريق من أصل المسألة على عدد رؤوسهم، فيعطى تلك النسبة.

ففي مسألتنا: سهام العليا من الفريق الأول: ثلاثة، ورأسها واحدة، فبين الثلاثة والواحدة: ثلاثة أمثال، فيعطى من المضروب ثلاثة أمثال وهي ستة، وسهام الوسطى من الفريق الأول مع من يوازيها: واحد، وهو بالنسبة إلى رءوسهم: نصف، فيعطى نصف المضروب وهو واحد. قوله: (وإذا أخذت الأخوات لأب وأم الثلثين: سقطت الأخوات لأب) قد مر أن الأخوات لأب وأم للواحدة منهن: نصف، وللثنتين فصاعداً: الثلثان، فإذا أخذت الثلثيين: سقطت الأخوات لأب، إلا أن يكون معهن أخ لأب: فيعصبهن، كما في بنات الابن. قوله: (والمحجوب يحجب) كالأخوين مع الأب والأم: لا يرثان مع الأب، ولكن يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، وذلك لأن إرث الإخوة مشروطة بالكلالة، وإرث الأم: الثلث، مشروط بعدم الاثنين من الأخوة. قوله: (والمحروم لا يحجب) أي المحروم عن الإرث بسبب الرقية، أو القتل مباشرة، أو اختلاف الدارين، أو الدار: لا يحجب، وعند ابن مسعود "يحجب حجب النقصان" ينقص نصيب الزوجين والأم بالوالد المحروم. قوله: (وأسباب الحرمان أربعة: الرق) أي أحدهما الرق، كاملاً كان أو ناقصاً، والمراد من الرق الكامل: ما لم يتوجه إليه جهة العتق، والناقص عكسه، وهو أربعة عند أبي حنيفة: المكاتب والمدبر، وأم الولد، والذي أعتق بعضه. والدليل على منع الرق من الإرث قوله عليه السلام: "العبد لا يملك إلا الطلاق" فالنفي يعم كل شيء إلا الطلاق: فلا يملك شيئاً، فيحرم.

قوله: (والقتل) أي الثاني من الموانع: القتل الذي يتعلق به وجوب القصاص والكفارة، لقوله عليه السلام: "لا يورث القاتل بعد صاحب البقرة". وهو الذي قتل عمه في زمن موسى عليه السلام، والقتل الخطأ، والقتل بالسبب: لا يمنعان. قوله: (واختلف الدينين) أي الثالث من الموانع: اختلاف الدينين، لقوله عليه السلام: "لا يرث المسلم من الكافر". قوله: (واختلاف الدارين) أي الرابع من الموانع: اختلاف الدارين حقيقة وحكماً. اعلم أن الدار نوعان: دار الإسلام ودار الكفر، والاختلاف أيضاً نوعان: اختلاف حقيقة: مثل أن يكون كل واحد في داره. واختلاف حكماً: مثل أن يكون كلاهما في دار واحدة، ولكن في قصد أحدهما الانتقال إلى داره. صورة اختلاف الدار حقيقة: كالحربي والذمي الحربي في دار الحرب، والذمي في دار الإسلام، إذا مات أحدهما: لا يرث الآخر، بسبب اختلاف الدار حقيقة. وصورة اختلاف الدار حكماً: كالمستأمن والذمي، فإن كليهما مجتمعان في دار واحدة، ولكن من قصد المستأمن: الانتقال إلى دار الحرب، فسمي بذلك اختلافاً حكماً، فلو مات أحدهما: لا ميراث للآخر.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان ذوي الأرحام قوله: (وذو الرحم: كل قريب ليس صاحب فرض ولا عصبة). هذا تعريف ذي الرحم على اصطلاح الفرضيين، وفي الحقيقة: الوارث لا يخرج من أن يكون ذا رحم. اختلفت الصحابة في توريث ذوي الأرحام. فقال عامتهم: يرثون، وبه أخذ أصحابنا. وقال زيد بن ثابت: لا يرثون، وبه قال الشافعي ومالك. ولنا: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين الصحابة، فكانوا يتوارثون بذلك، حتى نزلت: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]. فتوارثوا بالنسب".

وعن المقدام بن معد يكرب: عن النبي عليه السلام قال: "من ترك مالاً فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه، والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه" رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. وحين مات ثابت بن الدحداح، وكان غريباً أتياً لا يعرف من أين هو، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي: "هل تعرفون له فيكم نسباً؟ " قال: لا يا رسول الله، فدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن المنذر ابن أخته فأعطاه ميراثه. وعن أبي أمامة بن سهل: أن رجلاً رمى رجلاً بسهم فقتله، وليس له وارث إلا

خال، فكتب في ذلك أبو عبيدة إلى عمر، فكتب عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له" وقال الترمذي: حديث حسن. وقال الطحاوي: هذه آثار متصلة قد تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا كانت الصحابة. قوله: (وهم) أي ذو الأرحام (أصناف أربعة: الصنف الأول: ينسب إلى الميت) وهم: أولاد البنات، وأولاد بنات الابن وإن سفلوا وأقلهم من ذكر وأنثى: يتصور أربعة (والصنف الثاني: ينتمي إليهم الميت) وهم: الأجداد الساقطون، والجدات الساقطات من قبل الأم والأب. وأقلهم من ذكر وأنثى: يصير أربعة (والصنف الثالث: ينتمي إلى أبوي الميت) وهم: أولاد الأخوات، وبنات الأخوة، وبنو الأخوة لأم، وأقلهم من ذكر وأنثى: يصير عشرة (والصنف الرابع: ينتمي إلى جدي الميت وجدتيه) وهم العمات والأعمام لأم، والأخوال والخالات، وأقلهم: يكون عشرة، لكل واحد منهم ولد من ذكر، فيصير عشرين، وأيضاً: البنتان للعمين لأب وأم، فيصير مجموعهم: اثنين وثلاثين، ومجموع ذوي الأرحام على هذا الطريق: يكون خمسين. وإلى هذه الأصناف الأربعة أشار المصنف بقوله: (الصنف الأول) إلى آخره. قوله: (والجد الفاسد) إلى آخره، تعريف الجد الفاسد والجدة الفاسدة.

قوله: (بنات الأخوة مطلقاً) يعني سواء كانت الأخوة لأب وأم، أو لأب أو لأم، وكذلك معنى قوله: (وأولاد الأخوات مطلقاً). قوله: (وكل تفرع منهم) أي من هذه الأصناف الأربعة (ذوو الأرحام) ومجموع ذوي الأرحام بالتفريع: يلحق خمسين نفراً كما مر. قوله: (ولا يرثون) أي ذوو الأرحام لا يرثون (إلا إذا لم يكن للميت صاحب فرض من أصحاب الفروض المذكورة غير الزوجين) حاصل كلامه: أن ذوي الأرحام لا يرثون مع صاحب الفرض والعصبة سوى الزوجين، لعدم الرد عليهما، لأن العصبة أولى منه، وكذا الرد على ذوي السهام أولى من ذوي الأرحام، لأنهم أقرب إلى الزوجين، فإنهما لا قرابة لهما مع الميت، وإرثهما نظير الدين، فإن صاحب الدين لا يرد عليه ما فضل من فرضهما. قوله: (ولا عصبة) عطف على قوله: (صاحب فرض). قوله: (ويقدم الصنف الأول) وهم: أولاد البنات، وأولاد بنات الابن وإن سفلوا (وأولاهم بالميراث: أقربهم إلى الميت) كبنت البنت أولى من بنت بنت الابن. ميت بنت ابن بنت بنت بنت أولى محجوبة وإن سفلوا في القرب: فولد الوارث أولى من ولد ذوي الأرحام. كبنت بنت الابن أولى من ابن بنت البنت. ميت ابن بنت بنت بنت بنت ابن أولى محجوب

وإن استوت درجاتهم وليس فيهم ولد وارث، أو كان كلهم أولاد الوارث: فعند أبي يوسف والحسن: تعتبر أبدان الفروع، سواء كانت صفة الأصول متفقة في الذكورة والأنوثة، أو مختلفة، ومحمد يعتبر أبدان الفروع، فيما إذا كان صفة الأصول متفقة موافقاً لها، وإن كانت صفة الأول مختلفة: يقسم المال على أولى بطن اختلف، ويعطى الفروع ميراث الأصول. صورة اتفاق الصفة: كبنت البنت وابن البنت: ميت بنت بنت بالإجماع بنت1 ابن 2 وصورة اختلاف الصفة: كبنت ابن البنت وابن بنت البنت. ميت بنت ... بنت هند أبي يوسفابن ... بنت هند محمد 2بنت ... ابن قوله: (ثم الثاني) أي ثم يقدم الصنف الثاني (فالحكم فيه كالحكم في الأول) أعني: أولاهم بالميراث أقربهم إلى الميت، فإن استووا: فمن يدلي بوارث: فهو أولى عند أبي سهل الفرضي، وأبي فضل الخفاف، وعلي بن عيسى البصري، ولا تفضيل له عند أبي سليمان الجوزجاني وأبي علي البستي.

وإن استوت درجاتهم وليس فيهم من يدلي بوارث، أو كان كلهم يدلون بوارث واتحدت قرابتهم: فإن كانت صفة من يدلون بهم متحدة في الذكورة والأنوثة: فالقسمة على أبدانهم، وإن اختلفت قرابتهم: فالثلثان لمن يدلي بقرابة الأب، والثلث لمن يدلي بقرابة الأم. قوله: (ثم الثالث) أي ثم يقدم الصنف الثالث (وأولاهم بالميراث أقربهم للميت) كما في الصنف الأول: كبنت أخ، وابن بنت أخ أو أخت كلاهما لأب وأم أو لأب، لأنه الأقرب. فإن استوت درجاتهم: فولد العصبة أولى من ولد ذوي الأرحام، كبنت ابن أخ، وابن بنت أخت كلاهما لأب وأم أو لأب. فصورة الأولى: ميت أخ أخ وأختبنت ... ابن أولى بنت محجوبة وصورة الثانية: ميت أخ أخت ابن بنت بنت ابن أولى محجوبة ولو كانا لأم: المال بينهما أثلاثاً، للذكر مثل حظ الأنثيين عند أبي يوسف، باعتبار الفروع، وعند محمد: المال بينهما أنصافاً باعتبار الأصول.

قوله: (ثم الرابع) أي ثم يقدم الصنف الرابع: وهم العمات المتفرقة، والعم لأب، والأخوال والخالات المتفرقة، فمجموعهم يصير عشرة، الحكم فيهم: أنه إذا انفرد واحد منهم: استحق المال كله لعدم المزاحم، وإن اجتمعوا وكانت جهة قرابتهم متحدة، أعني: إما أن يكونوا من جهة الأب كالعمات، أو من جهة الأم كالأخوال والخالات: فالأقوى منهم أولى بالإجماع، أعني من كان لأب وأم أولى ممن كان لأب، بهذه الصورة: ميت ... ميت ... ميت عمة لأب وأم، ... عمة لأب، ... عمة لأم، ... خال لأب وأم، ... خال لأب، ... خال لأم، ... خالة لأب وأم، أولى ... محجوبة ... محجوبة ... أولى ... محجوب ... محجوب ... أولى خالة لأب، ... خالة لأم. محجوبة ... محجوبة وإن كانوا ذكوراً وإناثاً واستوت قرابتهم: فللذكر مثل حظ الأنثيين، كعم وعمة كلاهما لأم، أو خال وخالة كلاهما لأب وأم أو لأب أو لأم، بهذه الصورة. ميت ... ميت عم لأم عمة لأم ... خال لأب وأم وخالة لأب وأم ... خال لأب وخالة لأب أولى ... محجوب خال لأم وخالة لأم محجوب قوله: (ومتى اجتمع ذكر وأنثى من صنف واحد، وتساووا في الدرجة والجهة: قسم المال بينهما: للذكر مثل حظ الأنثيين) كما إذا ترك عماً وعمة كلاهما لأب: فالمال بينهما أثلاثاً، الثلثان للعم، والثلث للعمة، وكذلك إذا ترك خالاً وخالة كلاهما لأب وأم، أو لأب أو لأم: فالمال بينهما أثلاثاً كذلك. وإن اجتمعوا وكان قرابتهم متحداً، بأن كان الكل من جنس واحد: فالأقوى أولى، بالإجماع، أي من كان لأب وأم: أولى ممن كان لأب، ومن كان لأب: أولى ممن كان لأم، ذكوراً كانوا أو إناثاً.

وإن كان قرابتهم مختلفاً: كعمة لأب وأم، وعمة لأب: فالثلثان لقرابة الأم، وهو نصيب الأب، والثلث لقرابة الأم، وهو نصيب الأم. قوله: (وإن وجد منهم واحد) أي من ذوي الأرحام لا غير (أخذ كل المال) لعدم المزاحم.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان أحوال المفقود وهو غائب لم يدر موضعه وحياته وموته قوله: (المفقود حي في ماله فلا يورث) يعني لا يقسم ماله بين ورثته (حتى يحكم الحاكم بموته إذا مات أقرانه) لأنه إذا لم يبق أحد من أقرانه: دل ذلك على موته، فحكم بموته، لأن بقاءه بعد أقرانه نادر، وتبنى الأحكام الشرعية على الغالب لا على النادر (وقيل: يحكم بموته بعد تسعين سنة) وأبو يوسف قدره بمائة سنة، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه قدره بمائة وعشرين سنة، وظاهر الرواية: ما قاله المصنف. والمختار: أنه يفوض إلى رأي الإمام، لأنه يختلف باختلاف البلاد، وكذا غلبة الظن تختلف باختلاف الأشخاص، وذلك في ثلاثة أقسام: إما في المكان، أو في الزمان، أو في ذات المفقود. أما المكان: وهو الموضع الذي سافر فيه، إما أن يكون بحراً أو براً، فإن كان بحراً: عجل في حكم موته، وإن كان براً: أخر. أما الزمان: فإن كان سفره في زمن الأمن: أخر، وإن كان في زمن الفترة: عجل. وأما في الذات: وهو في حال سفره: إما أن يكون صحيحاً أو سقيماً، أو شيخاً أو شاباً، فإن كان سقيماً أو شيخاً: عجل، وإن كان صحيحاً أو شاباً: أخر. قوله: (وهو) أي المفقود (موقوف في الحال في مال غيره، فيتوقف نصيبه فيه) أي من الغير، كما في الحمل، لأن حياته باستصحاب الحال، وذلك لا يصلح للاستحقاق، وأما توقف نصيبه: فللاحتياط (وإذا حكم بموته: فماله لورثته الموجودين عند الحكم بموته، والموقوف له) أي للمفقود (من مال غيره: يرد إلى ورثة ذلك الغير). الأصل في تصحيح مسائل المفقود: أن تصحح المسألة على تقدير حياته، ثم تصحح على تقدير وفاته. وصورة المسألة: امرأة ماتت وتركت زوجاً وأماً وأختاً لأب وأم، وأخاً لأب وأم مفقوداً، فالمسألة تصح من ثمانية عشر على تقدير الحياة، وعلى تقدير الوفاة: من ثمانية، فإذا ضرب وفق أحدهما في جميع الأخرى: تصير اثنين وتسعين، للزوج سبعة وعشرون، وتسعة موقوفة من نصيبه. وللأم: اثني عشر، وستة موقوفة من نصيبها، وللأخت: تسعة وأربعون، وثمانية عشر موقوفة من نصيبها.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان أحكام الغرقى والحرقى والهدمى قوله: (إذا مات جماعة بغرق أو حرق أو هدم، ولم يعلم ترتيب موتهم: جعل كأنهم ماتوا جميعاً) لأن الحكم إذا اشتبه أوله وآخره: يجعل معاً، كحكم بني حنيفة: أنهم لما ارتدوا ثم أسلموا: لم يؤمروا بتجديد الأنكحة، فعلم بهذا: أن الحكم إذا بهم تقدمه وتأخره: جعل معاً، فمال كل واحد منهم لورثته الأحياء، ولا يرث بعض الأموات من بعض، وعليه الفتوى. وقال علي وابن مسعود: يرث بعض الأموات من بعض، إلا مما ورث كل منهم من مال صاحبه، لأنه لو ورث كل واحد منهما مما ورث كل واحد من مال صاحبه: يؤدي إلى الدور وهو باطل، فحينئذ لا يرث. صورته: رجل له ابنان، ولابنه الواحد ابن، فلذلك الرجل ستمائة درهم، ولابنه الذي له ابن ستمائة درهم، ثم سافر الرجل مع ابنه الذي له ابن، ثم غرقا في البحر: فمال كل واحد لورثته الأحياء، يعني مال الرجل لابنه، ومال ابنه لابنه. وعند علي وابن مسعود: سدس مال الابن للأب، ونصف مال الأب لابنه الذي مات معه، فالسدس الذي أخذ الأب من مال ابنه الذي غرق: يعطى إلى ابنه الذي بقي في وطنه، فحصل لهذا أربعمائة درهم، والنصف الذي ورث الابن الميتمن أبيه: يعطى على ابنه، فحصل لابن الابن: ثمانمائة درهم. قوله: (ولا يعتد بواحد من الغرقى ونحوهم) مثل الحرقى والهدمى (في ورثة الباقين في إرث ولا حجب) وهذا ظاهر يفهم من التقرير الذي قررناه آنفاً.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان أحكام توارث الكفار والمرتدين قوله: (الكفر كله ملة واحدة، فيرث الكفار كلهم بعضهم من بعض) حتى اليهود من اليهود، والنصارى من النصارى، والمجوس من المجوس (بالنسب والنكاح والولاء، لأنهم محتاجون إليه، إلا أن تختلف دارهم) كما مر في فصل الحجب. والمانع: هو الاختلاف حكماً، حتى لا تختلف الحقيقة بدونه، حتى لا يجري الإرث بين المستأمن والذمي في دارنا ولا في دار الحرب، ويجري بين المستأمن وبين من هو في داره، لأن المستأمن إذا دخل إلينا أو إليهم: من أهل داره حكماً، وإن كان في غيرها حقيقة. والدار إنما تختلف باختلاف المنفعة والملك، كدار الإسلام ودار الحرب. ودارين مختلفين من دار الحرب باختلاف ملكهم، لانقطاع الولاية والتناصر فيما بينهم، والإرث يكون بالولاية. والمراد بالنكاح: أن يكون نكاح محرم، حتى إذا تزوج المجوسي أمه، أو غيرها من المحارم: لا يرث منها بالنكاح. أما عندهما: فظاهر، لأن النكاح لم يصح، وأما عند أبي حنيفة: فلأنه وإن كان له حكم الصحة، لكن لا يقر عليه إذا أسلم، فكان كالفاسد. قوله: (أما المرتد فلا يرث من أحد: لا من مرتد مثله ولا من مسلم) وكذلك المرتدة، لعدم الأهلية في استحقاق الإرث، ولكن إذا ارتد أهل ناحية بأجمعهم: يتوارثون، كالكافر الأصلي. قوله: (وحكم ماله) أي مال المرتد (ذكرناه في كتاب الجهاد) فلا يعاد خوفاً من التكرار والإطالة.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان أحكام الحمل قوله: (الحمل يوقف له نصيب ابن واحد أو بنت واحدة أيهما أكثر) هذا عند أبي يوسف، وعليه الفتوى، لأن الغالب ولادة ولد واحد، والعبرة للغالب. وعند أبي حنيفة: يوقف نصيب أربعة بنين أو أربعة بنات أيهما أكثر. وعند محمد: يوقف نصيب ثلاثة بنين، رواه ليث بن سعد، وفي رواية: نصيب ابنين، وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف، رواه هشام. وأكثر مدة الحمل: سنتان عندنا، وعند الليث بن سعد: ثلاث سنين، وعند الشافعي: أربع سنين، وعند الزهري: سبع سنين. قوله: (وإنما يعطى ما وقف له) أي للحمل (بشرط أن يولد حياً في مدة يعلم أنه كان موجوداً في بطن أمه عند موت مورثه) والأصل: أن الحمل من جملة الورثة إذا كان موجوداً وقت موت المورث وخرج حياً، وإنما يعرف كونه موجوداً وقت موت المورث: إذا ولدت لأقل من ستة اشهر من وقت موت المورث، إذا كان النكاح قائماً وقت الموت. وإن كانت في العدة وقت الموت، فإنها إذا ولدت لأقل من سنتين: يعلم أنه كان

موجوداً وقت الموت، وعلامة خروجه حياً: أن يستهل، وهو أن يسمع منه صوت أو عطاس، وكذا إذا تحرك شيء من أعضائه. وإنما كان كذلك: لأن الورثة خلافه، وذا إنما يتحقق بالموجود لا بالمعدوم، فإن خرج أقل الولد ثم مات: لا يرث، ولو خرج أكثره ثم مات: يرث، فإن خرج مستقيماً: فالمعتبر صدره، أعني إذا خرج صدره كله، فإن خرج منكوساً: فالمعتبر سرته، أعني: إذا خرجت سرته كلها ثم مات: فإنه يرث، والله أعلم.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان أحكام الرد قوله: (إذا فضلت التركة عن فروض الورثة ولم يكن معهم عصبة: فالباقي يرد عليهم بقدر فروضهم) اعلم أن في مسائل الرد اختلافات: فعند زيد بن ثابت: لا رد لأصحاب الفروض مطلقاً، سواء سببية أو نسبية، وعند علي رضي الله عنه: يجوز الرد على أصحاب الفروض مطلقاً. وعند جمهور الصحابة: يجوز الرد على ذوي الفروض النسبية بقدر حقوقهم، ولا يجوز الرد على ذوي الفروض السببية. وبقول زيد بن ثابت: قال مالك والشافعي، وبقول جمهور الصحابة: قال أصحابنا. ومسائل الرد أربعة أقسام: أحدها: أن يكون في المسألة جنس واحد ممن يرد عليه عند عدم من لا يرد عليه، فأصل المسألة من رءوسهم، كما إذا ترك بنتين أو أختين أو جدتين، فاجعل المسألة من ثنتين، لأن رؤوسهن ثنتان. والثاني: إذا اجتمع في المسألة جنسان أو ثلاثة أجناس ممن يرد عليه عند عدم من لا يرد عليه، فتجعل المسألة من سهامهم، ويتصور فيه أربع مسائل: وهي: إما أن يكون

في المسألة سدسان: كما إذا ترك جدة وأختاً لأم وأماً، أو من ثلاثة إذا كانت ثلث وسدس: كما إذا ترك أختين لأم وأماً، أو من أربعة إذا كان في المسألة نصف وسدس: كما إذا ترك بنتاً، وبنت ابن، وأختاً لأب وأم، وأختاً لأب أو لأم، وجدة. أو من خمسة إذا كان في المسألة ثلثان وسدس: كما إذا ترك بنتين وأماً أو جدة، أو أختين لأب وأم أو لأب، وأختاً لأم، أو أماً، أو جدة. أو كان في المسألة نصف وسدسان: كبنت، وبنت ابن، وأم، وأخت لأب وأم، وأخت لأب، وأخت لأم، أو جدة، أو كان في المسألة نصف وثلث: كالأخت لأب، وأختين لأم أو أم. وانحصرت المسألة على أربعة: وهي اثنان وثلاثة وأربعة وخمسة، ولا يتصور ستة، لأنه إذا كان من ستة: فلا يتصور ردياً، وإذا كان من واحد: فلا يكون من يرد عليه جنسان، فلأجل هذا ينحصر على أربعة مسائل. والثالث: أن يجتمع مع من يرد عليه إذا كان من جنس واحد، من لا يرد عليه، فالحكم فيه أن تجعل مسألة من لا يرد عليه من أقل مخارجه، ومسألة من يرد عليه من رؤوسهم، ثم يعطى فرض من لا يرد عليه، فإذا استقام ما بقى من فرض من لا يرد عليه على رؤوس من يرد عليه فيها: كزوج وثلاث بنات، فإن لم يستقم: ينظر: إن كان بينهما موافقةك فيضرب وفق عدد رؤوسهم في مسألة من لا يرد عليه: كزوج وست بنات، فإن لم يكن بينهما موافقة: فيضرب كل عدد رؤوس من يرد عليه في مخرج فرض من لا يرد عليه كزوج وخمس بنات. وطريق القسمة: أن يضرب سهام من لا يرد عليه في عدد رءوس من يرد عليه أو في وفقها، ورؤوس من يرد عليه فيما بقي من لا يرد عليه أو في فرضه، ثم تصحح المسألة على أصولهم في مسائل التصحيح. والرابع: أن تجتمع من يرد عليه مع من لا يرد عليه فيما إذا كان من يرد عليه من جنسين أو من ثلاث أجناس، فالحكم فيه: أن نجعل مسألة من لا يرد عليه من أقل مخرج فرضه، ومسألة من يرد عليه من سهامهم، ثم تجمع مسألتهم إلى سهامهم، فيطرح الباقي ثم يعطى فرض من لا يرد عليه، فينظر بين ما بقي من فرض من لا يرد عليه وبين سهام من يرد عليه، فإن استقام: فبها، وإن لم يستقم فاضرب سهام من يرد عليه في مخرج فرض من لا يرد عليه، فما بلغ: يخرج منه حق كل واحد من غير كسر، كاربع زوجات وتسع بنات وست جدات.

قوله: (إلا على الزوجين) فإنه لا يرد عليهما، بل يوضع الباقي في بيت المال، وذكر في فتاوى القنية: أن في زماننا هذا يرد على الزوجين لفساد بيت المال، وإنما قدم الرد على ذوي الأرحام: لأن أصحاب الفروض بعد إحراز الفريضة صاروا من ذوي الأرحام، وفي ذوي الأرحام بعضهم أولى ببعض. ومن جملة أصحاب الفروض الذي يجوز عليه الرد: "البنت" والبنت أقرب إلى الميت من جميع ذوي الأرحام، فيجب الرد عليها لقربها. قوله: (إن لم يكن للميت أحد من ذوي الأرحام) قيد به لأنه إذا كان للميت أحد من ذوي الأرحام: يكون المال له بالترتيب الذي ذكرناه، والله أعلم بالصواب.

كتاب الكسب والأدب

كتاب الكسب والأدب أقول: هذا عاشر الأبواب العشرة التي رتبها المصنف، والذي يختم به هذا الكتاب. والكسب: مصدر من كسب يكسب، وهو: اسم لعمل يجر العامل إلى نفسه نفعاً، أو يدفع عن نفسه ضراً عاجلاً أم آجلاً، فإن عمل للأجرة: يسمى كسباً، لما فيه من جلب منفعة أو دفع مضرة آجلاً. والسنة إنما تسمى كسباً: لأن فاعلها يجر إلى نفسه منفعة عاجلة أو يدفع عن نفسه مضرة حالة. والأدب: التخلق بالأخلاق الحميدة والخصال المرضية. قوله: (طلب الكسب لازم) أما شرعية الكسب: فبقوله تعالى: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] يعني بالتجارة: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} [البقرة: 267] أي بالزراعة. وقوله عليه السلام: "الحرفة أمان من الفقر" ولأن في ترك الكسب تعطلاً وتبطلاً، وأنه مذموم شرعاً، لقوله عليه السلام: "إن الله يبغض الصحيح الفارغ". وأما لزومه: فلأنه سبب إلى إقامة ما هو فرض، وهو قوته، وقوت عائلته، وقضاء دينه، لما يجيء الآن. قوله: (كطلب العلم) أي كما أن طلب العلم لازم، لقوله عليه السلام: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" رواه ابن ماجة.

قوله: (وهو) أي طلب الكسب (أنواع أربعة): قوله: (فرض) أي أحدها: فرض (وهو كسب أقل الكفاية) لنفسه وعياله وقضاء دينه، لأنه سبب يتوصل به إلى إقامة الفروض، فيكون فرضاً، ألا ترى إلى ما جاء من وعيد شديد في الدين، وهو قوله عليه السلام: "إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها: أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء" رواه أبو داود. وأن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، لقوله عليه السلام: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم" رواه الترمذي والنسائي. قوله: (ومستحب) أي الثاني: مستحب (وهو كسب الزايد على أقل الكفاية) ليواسي به فقيراً، أو يصل به قريباً، لأنه سبب يتوصل به إلى إقامة ما هو مستحب، فيكون مستحباً، لقوله عليه السلام: "الساعي على الأرملة والمسكين: كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يقوم الليل ويصوم النهار"، وقوله عليه السلام: "الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي القرابة اثنان: صلة وصدقة" رواهما ابن ماجة. قوله: (وهو) أي الكسب المستحب (أفضل من نفل العبادة) لأن منفعة العبادة تخصه، ومنفعة الكسب يتعدى إلى غيره، وقد قال عليه السلام: "خير الناس من ينفع الناس"

وقال عليه السلام: "تباهت العبادات، فقالت الصدقة: أنا أفضلها". قوله: (ومباح) أي القسم الثالث: مباح (وهو كسب الزايد على ذلك) أي على ما يواسي به الفقير، ويصل به القريب، للتنعم والتجمل والترفه، حتى يبنى البنيان، وينقش الحيطان ويشتري السراير والغلمان، لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. وقوله عليه السلام: "المال الصالح للرجل الصالح". وقيل: هذا مكروه، لأنه ربما يكون سبباً للطغيان والعصيان والتكاثر والتفاخر، وذلك حرام شرعاً. قوله: (وحرام) أي القسم الرابع: حرام (وهو كسب ما أمكن) للتفاخر والتكاثر والأشر والبطر، وإن كان من حل، لأنه سبب يتوصل به إلى إقامة ما هو مكروه فيكون مكروهاً. قوله: (وأفضل الكسب: الجهاد) لأن منفعته عامة، لما فيه من الاستغنام من حل، ودفع شر الكفرة، وإطفاء نارهم عن المسلمين (ثم التجارة) لأن منفعة التاجر تحدث كل ساعة وتتكرر كل وقت، فيحصل بها كفايته الوقتية، فكانت أعم نفعاً، فتكون

أفضل من الزراعة، لأن منفعة الزراعة تكون في الأحيان مرة (ثم الزراعة) لأنها سعي لقوما الأبدان المحترمة، فإن قوامها بالمطعوم والملبوس، وذا: إنما يحصل بالزراعة، لأنها سبب أيضاً من الأسباب. قوله: (والعلم أيضاً أنواع أربعة: فرض) أي النوع الأول فرض (وهو تعلم ما يحتاج إليه لأداء الفرائض) فإنه لا تتهيأ إقامة الفرائض إلا بعد العلم بصحتها وفسادها، فيكون فرضاً: كالطهارة، والسعي إلى الجمعة، ولمعرفة الحلال والحرام في أحوال نفسه، فإنه إذا لم يميز الحلال من الحرام: ربما يقع في الحرام. قوله: (ومستحب) أي الثاني: مستحب (وهو تعلم الزائد على ما يحتاج إليه ليعلمه من يحتاج إليه) لقوله عليه السلام: "أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علماً ثم يعلمه أخاه المسلم" رواه ابن ماجة. ولذلك صار هذا القسم أفضل من نفل العبادة. قوله: (ومباح) أي الثالث: مباح (وهو تعلم الزائد على ذلك للزينة والكمال) لأن بذلك تحصل الكمالات الإنسانية، وشدة المعرفة بكلام الله وكلام رسوله: الدالين على ذاته وصفاته. قوله: (وحرام) أي الرابع: حرام (وهو أن يتعلم ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء) لقوله عليه السلام: "من طلب العلم ليماري به السفهاء وليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه: فهو في النار" رواه ابن ماجة وقال عليه السلام: "من تعلم علماً ممن يبتغي به

وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا: لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" يعني ريحها، رواه أبو داود. قوله: (ويجب على العالم تعليم غيره إذا طلب منه) لقوله عليه السلام: "ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه: إلا أتى يوم القيامة ملجماً بلجام من نار" رواه ابن ماجة. وفي رواية أبي داود: "من سئل عن علم فكتمه: ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة". قوله: (إلا أن يبلغ) أي المتعلم (إلى المرتبة الأولى) وهو التعلم بقدر ما يحتاج إليه: لأداء الفرائض، ومعرفة الحلال والحرام، ولا يجب عليه أكثر من ذلك. قوله: (ولا يجب على العالم أن يجيب عن كل ما يسأل عنه) لأن الفتوى والتعلم فرض كفاية، فإذا قام به البعض يسقط عن الباقين، حتى إذا علم أن ما يسأل عنه لا يعلمه غيره: يجب عليه الجواب، لأنه حينئذ يكون فرض عين لتعينه لذلك. قوله: (ولو طلب كافر من مسلم أن يعلمه القرآن أو الفقه: فلا بأس به) أي بالتعليم (رجاء أن يطلع على محاسنه فيسلم) لأن النبي عليه السلام: كان يقرأ القرآن على المشركين رجاء أن يقفوا على كونه معجزاً فيؤمنوا. هذه المسألة ذكرها محمد في السير الكبير.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان أنواع الأكل وآدابه ونحوها قوله: (والأكل على ثلاث مراتب: فرض) أي المرتبة الأولى: فرض (وهو أن يأكل بقدر ما يدفع الهلاك عن نفسه) ويمكنه معه الصلاة قائماً، لأنه سبب يتوصل به البدن إلى إقامة الفرائض، فيكون فرضاً، حتى أنه لا يحاسب على هذا المقدار، لأن ما هو سبب للثواب لا يكون سبباً للحساب، وهو مأجور فيه. قوله: (ومباح) أي المرتبة الثانية: مباح (وهو أدنى الشبع) بنية أن يتقوى به على العبادة، وهذا القسم لا أجر فيه ولا وزر، ولكن يحاسب فيه حساباً يسيراً إن كان من حل، لقوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]. قوله: (وحرام) أي المرتبة الثالثة: حرام (وهو أكل ما زاد على ذلك) أي على أدنى الشبع. لقوله عليه السلام: "إن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة" رواه ابن ماجة. قوله: (إلا للصوم في غد، أو لموافقة الضيف) يعني الأكل فوق الشبع يباح في هذين الموضعين، أما في الأول: فلأن نيته بذلك التقوي على تحصيل العبادة، وأما في الثاني: فلئلا يمسك الضيف عن الطعام حياء وخجلاً، ويكون هذا بإمساكه: ممن أساء القرى، وإساءة القرى مذمومة. قوله: (ولا تحل الرياضة بتقليل الأكل إلى أن يضعف عن العبادات) لقوله عليه السلام: "إن نفسك مطيتك فارفق بها، ومن الرفق ألا تجيعها". وقال عليه السلام: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".

وقيل: لا بأس إذا خاف من فرط الشهوة أن يقع في الفاحشة، والأول: أصح، لأن هذا الخوف يندفع بالنكاح. قوله: (ولو وصل أربعين يوماً) أي ولو راض الجوع حتى وصل أربعين يوماً (فمات: مات عاصياً) لما فيه من إهلاك نفسه باختياره. قوله: (ولو مرض فترك المعالجة توكلاً على الله فمات: لم يمت عاصياً) لأنه ليس في ترك المعالجة إهلاك النفس، لأنه ربما يصح من غير معالجة، وربما لا تنفعه المعالجة. ثم التداوي جائز، لقوله عليه السلام: "تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم" رواه أبو داود. وقال عليه السلام: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء" رواه ابن ماجة.

قوله: (والتنعم بأنواع الفاكهة: مباح) لقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. قوله: (وتركه أفضل) لئلا ينقص من درجاته، لأنه متى أذهب طيباته في حياته واستمتع بها، نقص من درجاته في الآخرة. قوله: (والجمع بين أنواع الأطعمة: حرام) لأن ذلك غسراف، وهو حرام، قوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]. قوله: (وكذا وضع الخبز على المائة أضعاف ما يحتاج إليه الآكلون) لأنه إسراف فيكون حرام. قول (وكذا رفع الخبز على الخوان) أي وكذا رفع الخبز على الخوان: حرام، لما روي عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: "ما علمت النبي صلى الله عليه وسلم أكل على سكرجة قط ولا خبز له مرقق، ولا أكل على خوان، قيل لقتادة: على ما كانوا يأكلون؟ قال: على السفر" رواه البخاري.

الخوان بكسر الخاء وفتح الواو الخفيفة: طبق كبير من نحاس، تحته كرسي ملزوق به، وأصله: اسم أعجمي، قال في المجمل: سمي به لأنه يتخون ما عليه: أي ينتقص. قوله: (ووضعه تحت القصعة ليعدل) أي وكذا وضع الخبز تحت القصعة والزبدية، ونحوهما ليستقيم: حرام، لأن في ذلك استخفافاً، وقد أمرنا بتكريمه، لقوله عليه السلام: "أكرموا الخبز فإن الله أخرجه فيما بين بركات السماء والأرض" وكذا: مسح الأصابع والسكين بالخبز ووضع المملحة عليه، وأكل وجهه خاصة، كل ذلك مكروه لما قلنا. قوله: (ومن سنن الأكل غسل يديه قبله وبعده) لقوله عليه السلام: "الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم". والأدب في غسل الأيدي قبل الطعام: أن يبدأ بالشباب، ثم بالشيوخ، وبعده

بالشيوخ، ثم بالشباب، ولا يمسح يده قبل الطعام بالمنديل، لكن يترك ليجف، ليكون أثر الغسل باقياً وقت الطعام، وبعده: يمسح ليكون أثر الطعام زائلاً بالكلية. ويلعق أصابعه قبل المسح، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يلعقها" رواه البخاري. قوله: (والتسمية قبله) أي من سنن الطعام: الشكر بعده، وهو أن يشكر الله ويحمده ويدعو، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: "الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا" رواه البخاري. وروي عن أبي سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاماً قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين" رواه ابن ماجة. قوله: (ومن اشتد جوعه وعجز عن كسب قوته: يجب على كل من علم بحاله إطعامه) لأنه أشرف على الهلاك، فيجب على من يعلم به: صونه عن الهلاك: بإطعامه

بنفسه أو يدل آخر عليه، كمن لقي لقيطاً أشرف على الهلاك، أو أعمى كاد أن يتردى في البئر: يفترض عليه دفع الهلاك عنه، وإذا أعمه واحد: سقط عن الباقين، لحصول المقصود. قوله: (وإن لم يعلم به أحد: يجب عليه أن يسأل ويعلم بحاله) وإن كان في السؤال ذل، ولكنه أهون من الهلاك، فيلزمه أن يختار الأهون، كالإمام في الأسارى في النسوان والذراري: يلزمه الاسترقاق، وإن كان إهلاكاً كالقتل، لأنه أهونهما، فكذا هذا. قوله: (فإن لم يفعل) يعني إن لم يسأل ولم يعلم حاله للناس (حتى مات: كان قاتل نفسه) لأنه يفترض على كل إنسان أن يدفع الهلاك عن نفسه ما أمكنه، وقد ترك، فصار قاتل نفسه. قوله: (ومن له قوت يوم: لا يحل له السؤال) لأنه يستذل نفسه بلا ضرورة. وإنه حرام، لقوله عليه السلام: "حرام على المؤمن أن يذل نفسه" ولكنه يباح له الأخذ من غير سؤال. قوله: (والسائل في المسجد قيل: يحرم إعطاؤه) وهو قول أبو مطيع البلخي، لأنه روي عن الحسن البصري أنه قال: "ينادي يوم القيامة منادي: ليقم بغيض الله، فيقوم سؤال المسجد" (والمختار: أنه إن كان لا يتخطى رقاب الناس، ولا يمر بين يدي المصلي، ولا يسأل الناس إلحافاً: يباح إعطاؤه) لأن السؤال كانوا يسألون على عهد رسول الله في المسجد. قوله: (وإن كان السائل يفعل واحداً من هذه الثلاثة) وهو إما أن يتخطى رقاب الناس، أو يمر بين يدي المصلي، أو يسأل الناس إلحافاً: أي إلحاحاً (حرم إعطاؤه) لأنه إعانة على أذى الناس، ولهذا قال خلف بن أيوب: "لو كنت قاضياً: لم أقبل شهادة من يتصدق عليه" وقال إسماعيل المستملي: "هذا فلس واحد يحتاج إلى سبعين فلساً للكفارة".

قوله: (والمعطي للصدقة أفضل من آخذها) لقوله عليه السلام: "واليد العليا خير من السفلى) أي اليد المعطية خير من اليد الآخذة، وإليه أشار المصنف بقوله: (ويده هي العليا) أي: يد المعطي هي اليد العليا، ولأن نفع الإعطاء يتعدى إلى غيره، ونفع الآخذ يقتصر عليه. قوله: (والفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر) لأنه عليه السلام اختار الفقر فقال: "أحيني مسكيناً". قوله: (وقيل: على العكس) أي قيل: الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر، لأن مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال إنما توجد من الغني لا من الفقير، بإيصال النفع وبره وإحسانه. قال المصنف: (والأول عندي أصح) قلت: الثاني عندي أصح في هذا الزمان. قوله: (واختلفت الصحابة في جواز قبول هدية الأمراء الظلمة وأكل طعامهم) فكان

ابن عباس وابن عمر: يقبلان هدية المختار، وكان أبو ذر وأبو الدرداء لا يجوزان ذلك، حتى روي أن أميراً أهدى إلى أبي ذر مائة دينار فقال: هل أهدى إلى كل مسلم مثل ذلك؟ فقيل: لا، فردها وقال: كلا إنها لظى نزاعة للشوى. (والمختار: أنه إن كان أكثر ماله حلالاً) بأن كان صاحب تجارة أو زرع (حل قبول هديته، وأكل طعامه) ولا جرم أن أموال الناس لا تخلو عن قليل حرام وتخلو عن كثير، فكانت العبرة للغالب، والأحوط أن لا يقبل، لأن شبهة الحرام ربما توقعه في أخذ الحرام. قوله: (وطعام الولادة والعقيقة والختان وقدوم المسافر والموت ليس بسنة). العقيقة: طعام يتخذ عند حلق رأس المولود في اليوم السابع، وطعام المسافر يسمى نقيعة، وطعام الموت يسمى: وضيحة. وعند الشافعي: العقيقة سنة، وعندنا: السنة هي الوليمة فقط لقوله عليه السلام: "أولم ولو بشاة" رواه البخاري وابن ماجة. والوليمة: هي أن يدعو الجيران والأقرباء والأصدقاء، ويصنع لهم طعاماً، ويذبح لهم، وينبغي للرجل أن يجيب، وإن لم يفعل فقد أثم لقوله عليه السلام: "إذا دعي أحدكم إلى

وليمة عرس فليجيب" رواه ابن ماجة. ومحلها: أول اليوم، لقوله عليه السلام: "الوليمة أول يوم: حق، والثاني: معروف، والثالث: رياء وسمعة". قوله: (ويكره الضيافة بعد الثلاث في الموت) لأن الضيافة تتخذ عند السرور والفرح، لا عند الحزن والترح. قوله: (ويكره رفع الزلة) أي يحرم رفع الزلة (إلا بإذن المضيف) لأنه مأذون بالأكل لا بالرفع. قوله: (ويحل للضيف في الأصح أن يطعم ضيفاً آخر) لأنه مأذون فيه عادة لتعامل الناس في ذلك، قيد بقوله: (في الأصح) تنبيهاً إلى رواية في ذلك وهي رواية محمد: أنه لا يحل، لأنه مأذون بالأكل لا بالطعام. قوله: (وأن يطعم) أي يحل للضيف أيضاً أن يطعم (الخادم الواقف على المائدة) لما ذكرنا. قوله: (ولا يحل له) أي للضيف (أن يعطي سائلاً أو رجلاً داخلاً هناك لحاجته) لأنه لا إذن له في ذلك، وكذلك لا يحل له أن يعطي كلباً أو هرة لصاحب الضيافة، وإن أطعم الكلب أو الهرة خبزاً محترقاً أو فتات المائدة: حل ذلك، لأنه مأذون فيه عادة.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان أنواع اللبس قوله: (واللبس على ثلاث مراتب: فرض) أي المرتبة الأولى: فرض (وهو قدر ما يستر بدنه، ويدفع عنه ضرر الحر والبرد) لما مر أن صون نفسه عن الهلاك فرض. قوله: (من وسط ثياب القطن والكتان) لأن الخير في الوسط، لأنه إذا لبس دنياً من كل وجه: تحقره العيون، وإذا لبس نفيساً من كل وجه، يصير علماً بين الناس، فيختار الوسط. قال المصنف: (والقطن عندي أفضل) أي من الكتان، لأنه لباس الصالحين. قوله: (ومستحب) أي المرتبة الثانية، مستحب (وهو لبس الثياب الجميلة للتجمل والتزين وإظهار نعمة الله) لما روي أنه عليه السلام "كان له صوف وعلى كمه علم حرير"، وروي أن أبا حنيفة: ارتدى برداء قيمته أربعمائة دينار، وروي أنه عليه السلام قال: "إن الله يحب أن يرى نعمته على عبده" رواه الترمذي. قوله: (وحرام) أي المرتبة الثالثة: حرام (وهو لبس الثياب الجميلة للتكبر والخيلاء) لقوله عليه السالم: "من لبس ثوباً كبراً أعرض الله عنه حتى يضعه متى وضعه" وقوله عليه السلام: عن الذي يجر ثوبه من الخيلاء: "لا ينظر الله إليه يوم القيامة" رواهما ابن ماجة. قوله: (ولبس الثوب الأحمر والمعصفر: حرام) لما روي: أن رجلاً مر وعليه ثوبان أحمران فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه" رواه الترمذي.

وقال علي: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي والمعصفر" أخرجه الترمذي وأبو داود. قوله: (وأفضل الثياب البيض) لقوله عليه السلام: "البسوا من ثيابكم: البياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا بها موتاكم" أخرجه الترمذي والنسائي. وأما لبس الأخضر: فقد قال أبو رمثة: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان أخضران" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وللنسائي: "وعليه بردان أخضران". وأما لبس الأسود: فقد قال سعد ابن أبي وقاص: "رأيت رجلاً على بغلة بيضاء، على رأسه عمامة سوداء، وقال: كسانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أخرجه أبو داود. قوله: (ويستحب إرخاء طرف العمامة بين الكتفين إلى وسط الظهر) لما روى ابن عمر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا إعتم يسدل عمامته بين كتفيه" رواه الترمذي. وقال

عمرو بن أمية: "كأني أنظر الساعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عماة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه" أخرجه النسائي وابن ماجة. قوله: (ويحرم إرخاء الستور في البيوت، وستر حيطانها باللبود، ونحوها من: الكتان والقطن والحرير للزينة والتكبر) لأن التكبر حرام، وكل ما هو للتكبر فهو حرام. قوله: (ويحل لدفع البرد) لأنه لضرورة الحاجة، وكذلك لدفع الحر.

فصل

فصل هذا الفصل في بيان أنواع الكلام قوله: (والكلام على ثلاثة مراتب: مستحب) أي المرتبة الأولى: مستحب (كالتسبيح) وهو أن يقال: سبحان الله (والتحميد) وهو أن يقول: الحمد لله، (والتكبير) وهو أن يقول: الله أكبر (والتهليل) وهو أن يقول: لا إله إلا الله، (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) وهو أن يقول: اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين. وقيل: أن يقول: اللهم صل على النبي الأمي محمد وعلى آله، وفي هذا النوع أجر عظيم وثواب جزيل، لما روي عنه عليه السلام أنه قال: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" رواه ابن ماجة ومسلم. وقال عليه السلام: "لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" رواه مسلم. وقال عليه السلام: "من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة: غُفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر" رواه ابن ماجة. قوله: (ومباح) أي المرتبة الثانية، مباح (وهو قول الإنسان لغيره: قم واقعد ونحو ذلك) من قوله: اشرب، واذهب، واسكت، وهذا مما لا أجر ولاوزر فيه، وقد جعله محمد معطلاً، واختلفوا فيه: أنه هل يكتب؟ قيل: لا يكتب أصلاً، لقول ابن عباس: "إن الملائكة لا تكتب إلا ما فيه أجر أو وزر" وقيل: يكتب ذلك عليه، ثم يستنسخ

متى قوبل عليه في اللوح المحفوظ كل اثنين وخميس، فما كان فيه جزاء خير أو شر: ثبت، وما لم يكن جزاء خير وشر: طرح، لقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]، وقيل: يكتب ويستنسخ يوم القيامة، لأنه يوم الحساب والجزاء. قوله: (وحرام) أي المرتبة الثالثة: حرام (وهو الكذب، والغيبة، والنميمة، والشتيمة، والتملق، والنفاق، ونحو ذلك) مثل الكلام الفحش والبهتان وشهادة الزور. أما الكذب: فلقوله عليه السلام: "عليم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" رواه مسلم. وأما الغيبة: فلقوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَاكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]. وأما النميمة: فلقوله عليه السلام: "لا يدخل الجنة قتات" رواه مسلم. وأما الشتيمة: فلقوله عليه السلام: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" رواه ابن ماجة. وقال عليه السلام: "إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة" رواه مسلم. وأما التملق: وهو اللطف الشديد الخارج عن العادة، فلقوله عليه السلام: "شر الناس من يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه".

وأما النفاق: فلقوله عليه السلام: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين: تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة" رواه مسلم. والنفاق ثلاثة أشياء: الكذب عند الكلام، والخيانة عند الأمانة، والخلف عند الوعد، على ما جاء في الحديث الصحيح: "ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". قوله: (ويستثنى من الكذب) يعني يجوز الكذب في ثلاثة مواضع (في الحرب للخديعة، وفي الصلح بين اثنين، وفي إرضاء الرجل أهله) لما روي عن أم كلثوم أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس أو يقول خيراً". قال ابن شهاب: "ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث المرأة زوجها" رواه مسلم، وأما دفع ظلم الظالم عن المظلوم بالكذب: ففي معنى ما ذكر. قوله: (فإن عرض بالكذب بغير ضرورة) أي بغير حاجة ضرورية (قيل: يحرم) لأن اللفظ ظاهره الكذب، وإن كان يحتمل الصدق، فإن السامع يفهم منه الكذب ظاهراً، فيكون في ذلك نوع تغرير وخداع. (وقيل: لا يحرم) لأنه ليس بكذب، لأنه مما يحتمله اللفظ، مثل أن يقال له: كل معنا هذا الطعام، فيقول: أكلت- يريد به الأكل بالأمس لا الأكل الحال.

قوله: (ويستثنى من الغيبة: غيبة الظالم عند الشكوى منه) لقوله عليه السلام: "اذكر الفاجر بما فيه"، ولأنه يعلمه للسطان: ليزجره ويمنع أذاه عن المسلمين، فلا يأثم فيه، بل يثاب، لاسيما في ظلمة هذا الزمان. (وكذلك يستثنى غيبة واحد لا بعينه من جماعة) لأن الغيبة إنما تكون غيبة للمعلوم، فكان المراد مجهولاً، ولذلك يستثنى غيبة الفاسق، إذا كان قصده أن يحذر الناس منه.

فصل

فصل هذا الفصل آخر الكتاب الذي يختم به قوله: (ويحرم التسبيح والتكبير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند عمل محرم) كما إذا سبح أو كبر أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس الفسق أو اللهو، على أنه يعمل عمل الفسق: فهو حرام يأثم فيه، وكذلك التاجر إذا فتح متاعه لمشتريه، وسبح الله تعالى، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد بذلك إعلام المشتري جودة متاعه، وكذلك الفقاعي يقول عند فتح كوز الفقاع: لا إله إلا الله، أو يقول: صل على النبي، أو يقول: صلى الله على محمد، لأنه يأخذ بذلك ثمناً ويرغب المشترين. قوله: (ولو أمر العالم بذلك) أي بالتسبيح أو التكبير أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (أهل مجلسه عند الوعظ والتذكير، أو أمر الغازي عند المبارزة: حل) لأنه يذكر للتفخيم والتعظيم. قوله: (والتسبيح في مجلس الفسق بنية مخالفتهم) بأن يكون على وجه الاعتبار، أو على أنهم يشتغلون بالفسق وهو يشتغل بالتسبيح. (وفي السوق بنية تجارة الآخرة) بأن يكون نيته أن الناس يشتغلون بأمور الدنيا، وهو يشتغل بالتسبيح (حسن) وبذلك يؤجر عليه. قوله: (وهو) أي التسبيح في السوق بنية تجارة الآخرة (أفضل من التسبيح في غير السوق) أراد به من التسبيح مرة واحدة، أو بسبب أنه ينوي بذلك تجارة الآخرة. قوله: (والترجيع في قراءة القرآن: حرام في المختار، على القاري والسامع) لأن فيه تشبيهاً بفعل الفسقة في حال فسقهم، وهو التغني، وليس هذا كان في الابتداء، وقيل: لا بأس، لقوله عليه السلام: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن".

قوله: (وكذا في الأذان) أي وكذا الترجيع في الأذان: حرام على المؤذن والسامع، لأنه محدث. قوله: (وكره أبو حنيفة قراءة القرآن عند القبور، وقال محمد: لا يكره وينتفع به الميت) وهذا هو المختار: لورد الآثار بقراءة آية الكرسي وسورة الإخلاص،

والفاتحة، ونحو ذلك عند القبور، ولا يكره التسبيح والتهليل ونحوهما أيضاً. أما زيارة القبور: فهي جائزة، لقوله عليه السلام: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" رواه مسلم وأبو داود. ويقول الزائر: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" أخرجه أبو داود. وعن ابن عباس: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور أهل المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: "السلام عليكم يا أهل القبور، ويغفر الله لنا ولكم، أنتم لنا سلف ونحن بالأثر" أخرجه مسلم والنسائي. ويكره الجلوس على القبر، لقوله عليه السلام: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي.

وقال عليه السلام: "لأن يجلس أحدكم على جمر فيحرق ثيابه فيخلص إلى جلده: خير له من أن يجلس على قبر" أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. قوله: (ويجب منع الصوفية الذين يدعون الوجد والمحبة: عن رفع الصوت وتمزيق الثياب عند سماع الغناء لأن ذلك) أي رفع الصوت وتمزيق الثياب (حرام عند سماع القرآن، فكيف عند الغناء الذي هو حرام) خصوصاً في هذا الزمان الذي اشتهر فيه الفسق، وظهرت فيه أنواع البدع، واشتهرت فيه طائفة تحلوا بحلية العلماء، وتزيوا بزي الصلحاء، والحال أن قلوبهم مليء من الشهوات والأهواء الفاسدة، وهم في الحقيقة ذياب نعوذ بالله من شرهم. فالعجب منهم نهم يدعون محبة الله، ويخالفون سنة رسوله، لأنهم يصفقون بأيديهم، ويطربون وينعرون ويصعقون، وكل ذلك جهل منهم، فمن ادعى محبة الله وخالف سنة رسوله: فهو كذاب. وكتاب الله يكذبه، فلا شك في أنهم لا يعرفون ما الله ولا يدرون ما محبة الله، وهم قد يصورون في أنفسهم الخبيثة صورة معشقة وخيالاً فاسداً، فيظهرون بذلك وجداً عظيماً، وبكاءً جسيماً، وحركات مختلفة، وبعبعة عظيمة، والأزباد تنزل من أفواههم، حتى أن الجهال والحمقى من العامة يعتقدونهم ويلازمونهم، وينسبون أنفسهم إليهم، ويتركون شريعة الله وسنة رسوله. فما هم إلا في الدعاوى الفاسدة، والأقوال الكاسدة، أعاذنا الله وإياكم من شر هؤلاء الطائفة، ومن شر الجنة والناس. قوله: (اعلم أيها الأخ العزيز) أقول: لما ختم المصنف الكتاب الذي وعده لبعض إخوانه في الدين، نبه على نصيحة عظيمة بقوله: (وفقك الله وإيانا .. إلى آخره) وتوفيق الله لعباده: أن يجعل جميع أقوالهم وأفعالهم موافقة لمحبته ورضاه، ويهديهم إلى صراط مستقيم، ويرشدهم إلى منهج قويم. ومفعول "اعلم": قوله: "إن سعادة الدنيا فانية) وكلمة "إن" باسمها وخبرها قد

سدت مسد مفعولي "اعلم" وقوله: "وفقك الله .. إلى آخره) جملة دعائية معترضة، ولا شك أن سعادة الدنيا فانية، لأنا نعلم بعين اليقين فناء الخلق وتغيرات الزمان، ونعلم بعلم اليقين: أن سعادة الآخرة باقية، لما أن الله تعالى أخبر في كتابه الكريم في مواضع كثيرة: بأن عز الآخر وسعادتها باقية. والعجب من العاقل كيف يختار الدنيا الفانية على الآخرة الباقية؟ مع أنها ملعونة في لسان الشارع، وهو قوله عليه السلام: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً" رواه ابن ماجة. ولكن الحرص المركب من الشهوة والهوى جذبه إلى ذلك وأحبه إياها، ولو كانت دار الدنيا في الحقيقة من ذهب، ودار الآخرة من خزف، لكنا العاقل يختار الخزف الباقي على الذهب الفاني، فكيف والدنيا خزف فاني والآخرة ذهب باقي. وقوله: (وسعادة الآخرة) جواب عن سؤال مقدر، فإنه لما قال أولاً: (وسعادة الآخرة باقية) فكأن السائل يقول: بأي شيء تحصل سعادة الآخرة؟ فقال: (وسعادة الآخرة إنما تحصل بتقوى الله) والتقوى: اجتناب محارم الله تعالى، (وهي) أي التقوى: (وصية الله تعالى لجميع الأمم) كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]، أي ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من الأمم السالفة ووصيناكم أن اتقوا الله، يعني أنها وصية قديمة ما زال يوصي الله بها عباده، لستم بها مخصوصين، لأنهم بالتقوى يسعدون عنده وبها ينالون النجاة في العاقبة. والتقوى أصل الخير كله، فعليك أيها الأخ بالتقوى والاستعداد للقاء الله عز وجل ونعيم الآخرة، والاستعداد إلى لقاء الله تعالى يكون بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وبذكر الموت والاستعداد له، قال عليه السلام: "أكثروا ذكر هادم اللذات" يعني الموت.

وقال عليه السلام: "من احب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه". فقيل: يا رسول الله كراهية لقاء الله في كراهية الموت، فكلنا نكره الموت، قال: "إنما ذلك عند موته إذا بشر برحمة الله تعالى ومغفرته: أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإذا بشر بعذاب الله: كره لقاء الله فكره الله لقاءه". وقال عليه السلام: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها ثم تمنى على الله عز وجل" الأحاديث رواها ابن ماجة. والمصنف كما بدأ كتابه بجزء من القرآن الكريم، ختم كذلك بجزء من القرآن الكريم تبركاً في الابتداء والانتهاء، إذ ليس شيء أفضل مما يتبرك به سوى القرآن، فإنه كلام من جلت قدرته وعظمت هيبته، وتنزه عن الحدوث والزوال، وتقدس عن الشريك والأمثال، وتفرد بالبقاء، وتعالى عن الفناء، وهو مولانا ونعم النصير وهو على كل شيء قدير. قال مصنفه: وهذا آخر ما كتبناه من شرح الكتاب، بعون الله الملك الوهاب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. ووافق الفراغ منه في نهار الأربعاء سلخ شهر ذي القعدة الحرام عام ثمان وأربعين وثمانمائة.

§1/1