مناهج المفسرين

منيع عبد الحليم محمود

المقدمة فى تعريف التفسير وانواعه

المقدمة فى تعريف التفسير وانواعه بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين، وبعد: فلقد حظى القرآن الكريم وهو الكتاب الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد- حظى بالتفاف أعلام الأمة الاسلامية حوله لفهم نصوصه المطهرة والعمل بما تتضمنه من أحكام عديدة فيها صلاح الحال والمآل لهذه الأمة الكبيرة. ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ. (سورة الأنعام الآية 38) ولقد تنوعت المصادر التى استقى منها المفسرون مناهجهم لفهم كتاب الله لمحاولة التعرف على فهم دقائقه وإبرازها فى صورة لائقة لتكون فى متناول الإنسان المسلم الذى يحب كتاب الله تلاوة وفهما والعمل بما يحويه هذا الكتاب من خيرى الدنيا والآخرة، ولقد اعتمد المفسرون على مصادر عديدة تحددت منها مناهجهم وتعددت بتعدد تلك المصادر. وكان أهم تلك المصادر: 1 - ما أثر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى بيان معنى المجمل من القرآن وإيضاح المعنى القرآنى وتقريبه. فعن ابن عباس قال: سأل رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم:

قال: أرأيت قول الله: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. (سورة الحجر الآية 90) قال: اليهود والنصارى. قال: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ! ما عضين؟ قال: «آمنوا ببعض وكفروا ببعض». وقد فسر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الآية الكريمة: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ. (سورة الرحمن الآية 60) بقوله: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة. ويروى أن أبا بكر قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. (سورة المائدة الآية 105) وإنا سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه. وأبو بكر رضى الله عنه يقول: يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً. يُجْزَ بِهِ. (سورة النساء الآية 123) فكل سوء عملنا يجزينا به؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:

غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء؟ - قال: بلى. - قال: فهو ما تجزون به. ولقد عرف هذا النوع الذى برز فى تفسير بعض المفسرين بالتفسير بالمأثور، ومن أهم مصادره التى يعتمد عليها (الدر المنثور فى التفسير بالمأثور) للإمام جلال الدين السيوطى- حيث اعتمد على ما أثر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وصحابته الأجلاء فى تقرير المعانى لكثير من آيات القرآن الكريم ومن أبرزهم ابن عباس رضى الله عنهما الذى حظى بصحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم خادما ومتعلما مع حظوته بدعاء الرسول صلّى الله عليه وسلم فكان فقيه الأمة وحبرها الذى لا يجارى علما وفقها فى الدين ومعرفة بالتأويل. ولقد كان القرآن الكريم، ولا يزال محورا للثقافة الإسلامية منذ أن تألفت أمة بقيادة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. جمعها على التوحيد لله سبحانه وتعالى وخلافته فى الأرض، فرأى المسلمون فى آيات القرآن الكريم حثا على النظر والتأمل فيه وتدبر آياته: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ. (سورة ص الآية 29) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ. (سورة محمد الآية 24) ومن ثم نشأ- زيادة على التفسير بالمأثور-: (التفسير بالرأى) القائم على التدبر والفهم لكتاب الله سبحانه وتعالى والاستعانة فى ذلك بالعلوم الخادمة لهذا الغرض الجليل وهى كثيرة تعددت وتنوعت فمنها علوم العربية نحوها وصرفها وبلاغتها وما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قولا وعملا وغير ذلك من العلوم الكثيرة.

واختلفت أنظار المفسرين وطرقهم ومناهجهم فى التفسير تبعا لاختلاف مشاربهم، فمنهم من غلبت عليه النزعة الفكرية العقائدية فتوسع توسعا كبيرا فى شرح الآيات المتصلة بهذه المعانى، ومنهم من غلبت عليه النزعة الفقهية الشرعية فتوسع توسعا كبيرا فى هذه النواحى وهكذا من توسع فى القصص والأخبار ومن توسع فى الأخلاق والتصوف والمواعظ وآيات الله فى الأنفس والآفاق وغير ذلك. كذلك كان من المفسرين من أطال ومنهم من أوجز واختصر ومنهم من توسط بين هذا وذاك. ولقد ترك هؤلاء وهؤلاء ثروة علمية ضخمة. أبانت عن جهود أمة .. خدمت كتاب ربها وعنيت به عناية فائقة ... لا يسبقها فى ذلك أمة .. حفظا وضبطا وشرحا واستنباطا لمسائل الشريعة الغراء لتكون الأمة الإسلامية كما أراد الله لها خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر وتؤمن إيمانا حقيقيا بالله سبحانه وتعالى. ولم تقف الحركة الفكرية عند المسلمين يوما بالنسبة لكتاب الله سبحانه بخاصة فى هذا العصر الحديث الذى امتاز بالتقارب بين الأجناس، وتكاثرت وسائل الاتصال فيه بين الأمم والشعوب وانتعشت فيه وسائل العمران البشرى على وجه العموم، وما زالت هذه المناهج فى تفسير القرآن إلى الآن على ما كانت عليه فى السابق من تفسير بالمأثور، وتفسير بالرأى، وتفسير جامع بين المأثور والرأى، وما زال القرآن هو الكوكب الدرى الذى يضيء الطريق للساكنين، وينشر ضياءه فى الخافقين، أما ما أضافه العلماء فى العصر الحاضر إلى ذلك، فهو ما يتصل بما أشار إليه القرآن الكريم من أفكار علمية، وحقائق كشف عنها التقدم فى عصرنا الحاضر، ويسرف بعض الناس فى ذلك فيحملون القرآن ما لا يحتمل أو يخرجون باللفظ عن معناه الذى يتطلبه السياق. وعلى كل حال فهى- إن حسنت النية- محاولات فيها اجتهاد يسير فى إطار الآية القرآنية الكريمة:

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (سورة فصلت الآية رقم 53) وسنعرض فى أحاديثنا التالية لجهود العلماء فى كشف أسراره وتوضيح معانيه، وتوجيه الأبصار إلى النور الذى يحتويه. ولا يسعنا فى ختام هذه المقدمة إلا التوجه بالشكر لفضيلة الامام الأكبر دكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر حيث كان لى عظيم الشرف أن يكتب فى مناهج المفسرين عن: 1 - الإمام سفيان الثورى وتفسيره 2 - الإمام القشيرى وتفسيره. 3 - الإمام ابو الحسن الشاذلى وتفسيره 4 - الإمام ابو العباس المرسى وتفسيره فله عظيم الشكر وجزيل الامتنان دكتور: منيع عبد الحليم محمود مدرس التفسير وعلوم القرآن كلية أصول الدين- جامعة الأزهر

الإمام سفيان الثورى وتفسيره

الإمام سفيان الثورى وتفسيره ولد سنة سبع وتسعين، وخرج من الكوفة إلى البصرة سنة خمس وخمسين ومائة وتوفى بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة. وكان عالم هذه الأمة وعابدها وزاهدها. وكان لا يعلم أحدا العلم حتى يتعلم الأدب ولو عشرين سنة. وامتنع مرة من الجلوس للعلم، فقيل له فى ذلك، فقال: والله لو علمت أنهم يريدون بالعلم وجه الله لأتيتهم فى بيوتهم وعلمتهم، ولكن إنما يريدون به المباهاة، وقولهم حدثنا سفيان. وكان إذا جلس للعلم وأعجبه منطقه يقطع الكلام ويقوم ويقول: أخذنا ونحن لا نشعر: وهذه منزلة فى الأخلاق ومحاسبة النفس تعز على من رامها وتطول. برز سفيان فى الحديث حتى وصل إلى أعلى مراتبه فكان: أمير المؤمنين فى الحديث- وكما أن للمؤمنين أميرا فى مسائل الدنيا فان للمحدثين أمراء وكان منهم سفيان. كان أبوه من ثقات المحدثين، وكان من غير شك أول من لقن سفيان العلم، فنشأ سفيان- دون اختيار منه- بين كتب الحديث، وتفتحت عيناه على جو من العلم يتسم بعبير النبوة وتسوده جوامع الكلام، واتجه آليا فى دراسته وجهة أبيه، وفى ذلك يقول هو: (طلبت العلم فلم تكن لى نية ثم رزقنى الله النية). أى أنه طلب العلم أولا بحكم العادة البحتة، ثم وفقه الله سبحانه لأنه يقصد به وجه الله.

ولكن مما يجدر ملاحظته أن المحدثين إذ ذاك ما كانوا يأخذون على تدريس الحديث أجرا فلقد كانوا يتمثلون قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ. (سورة الأنعام الآية 90) وفى سبيل طلب العلم قدم له أهله كل معونة وهيئوا له ما يمكن- وهو نزر يسير- من المساعدة، وفى ذلك تقول أمه: (يا بنى، أطلب العلم وأنا أعولك بمغزلى، وإذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى فى نفسك زيادة فى الخير فان لم تر ذلك فلا تتعبن نفسك). ويكفينا فى هذه الكلمة أن نأخذ منها: 1 - أن الجو الذى كان يعيش فيه سفيان كان جو تقشف. 2 - أن هذا الجو كان يتسم بالتقوى والصلاح. ونشأ سفيان بين «أب» من ثقات المحدثين، وأم تريد أن تعوله بمغزلها ليطلب العلم. من أجل زيادة النور فى قلبه. وبدأ سفيان يتعلم اتباعا لأبيه، واستجابة لرغبة أمه. وما إن دخل دور الشباب حتى بدأ يفكر جديا فى أمر معيشته، يقول سفيان: لما همت بطلب الحديث، ورأيت العلم يدرس، قلت: أى رب، إنه لا بد لى من معيشة، فاكفنى هم الرزق، وفرغنى لطلبه، فتشاغلت بالطلب فلم أر إلا خيرا وأعلنها فى صراحة صريحة: عليك بعمل الأبطال: الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال. ولما سئل عن الحلال ما هو؟ قال: تجارة برة، أو عطاء من إمام عادل، أو صلة من أخ مؤمن، أو ميراث لم يخالطه شىء.

ويوصى سفيان من عنده قدر من المال أن يصلحه أى يثمره، فيقول: من كان فى يده من هذه التجارة شىء فليصلحه، فانه زمان من احتاج كان أول ما بذل دينه. ومن أجل كل ذلك طلب سفيان المال عن طريق التجارة، وسافر متاجرا. ومع كل ذلك فما كان سفيان صاحب ثراء عريض، وما كان ليتمنى أن يكون صاحب ثراء عريض لقد وهب نفسه للعلم ووهبها للعلم لوجّه الله سبحانه وتعالى، وما كان هدفه من المال إلا حفظ ماء وجهه ومن أجل ذلك لم يكن يستغرق فى التجارة وإنما كان يتاجر بقدر كسب ما يكفيه ثم يكرس باقى وقته للعلم. كان سفيان الثورى معنيا بالقرآن عناية كبيرة، ولا يتأتى أن يكون الأمر على غير ذلك، فالقرآن فى حياة المسلم هو الأساس الأصيل الذى بدونه لا يكون اسلام، يقول الوليد بن عقبة: كان سفيان الثورى يديم النظر فى المصحف، فيوم لا ينظر فيه يأخذه فيضعه على صدره. ويقول عبد الرازق: كان الثورى جعل على نفسه، لكل ليلة جزءاً من القرآن وجزءا من الحديث فيقرأ جزءا من القرآن ثم يجلس على الفراش فيقرأ جزءا من الحديث ثم ينام. وكان سفيان يقول: سلونى عن التفسير والمناسك فإنى بهما عليم. ومن أجل عناية الثورى بالقرآن يقول الأوزاعى: لو قيل لى اختر رجلا يقوم بكتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم لاخترت لهما الثورى.

ومع عناية الثورى بالتفسير فانه لم يفسر القرآن على الطريقة المعروفة الآن وهى تتبع القرآن من أوله سورة سورة. وآية آية، حتى ينتهى إلى آخره، دون أن يترك آية بدون تفسير. كان سفيان- إذن- يفسر آية من هنا وآية من هناك ... إنه كان يفسر الآية التى تحتاج إلى نوع من الشرح والإيضاح الذى يحتاجه بعض الناس لقصورهم فى اللغة، أو لقصورهم فى الثقافة. وإذا فسر الإنسان القرآن كلمة كلمة، وآية آية ... وسورة سورة، على هذا النسق الحالى، فقد قيد القرآن- فى وهمه وفى وهم من اتبعه- بفكرته بثقافته، بعقليته، بهواه إن كان صاحب هوى ... وما من شك فى أن أسلوب القرآن يتحكم فى المفسر، ولكن المفسر مهما حاول أن يستجيب إلى أسلوب القرآن فانه يجد مجالا للتأويل حتى يصل إلى ما يرى- بحسب مستواه- أنه حق. ومع ذلك ومع كل ما قاله المفسرون مع قدماء ومن محدثين، ورغم مئات الشروح التى وضعت للقرآن فان القرآن ما زال غضّا نضرا جديدا، فياضا بالمعانى، سيلا بالإلهامات، ومن أجل هذه النضرة، ومن أجل ترك أبواب الإلهامات يوحيها القرآن كل يوم لقارئه، لم يفسر رسول الله صلّى الله عليه وسلم القرآن كلمة كلمة، وسورة سورة، وإنما هى كلمة من هنا وآية من هناك، بحسب الظروف والمقتضيات ... وانظر مثلا كتاب التفسير فى صحيح البخارى أو فى صحيح مسلم أو فى غيره من كتب الصحاح فستجد أن تفسير رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنما هو على ما ذكرنا ... ولم يحاول كبار الصحابة تفسير القرآن على الوضع المألوف عندنا الآن، ذلك لأنهم كانوا يرون أن القرآن فى انطلاقه الموحى وفى نظرته الملهمة باستمرار، وفى تأثيره الروحى والأخلاقى يجب أن لا تحده حدود، وأن لا تقيده قيود ذهنية بشرية. ومن أجل بقاء استمرار القرآن فياضا بالهداية، لا يحجب نبعه الصافى

حجاب من مراء أو من جدل، التزم سلفنا الصالح الخطة المحكمة: تفسير كلمة من هنا أو آية من هناك، بحسب الظروف والأحوال ... وسار سفيان الثورى على نسقهم، بل إنه فى الأغلب الأعم من تفسيره التزم أن يعزو كل رأى الى صاحبه، وأحب من الذين تحدثوا فى التفسير طائفة معينة، وآثر من بين هذه الطائفة «مجاهد» ... ولم يكن للثورى تفسير للقرآن معروف منشور، وكان الذين يتحدثون عن الثورى فيما يتعلق بتفسيره للقرآن انما يأخذون من ذلك متناثرات فى مختلف الكتب. ولكن توفيق الله سبحانه وتعالى صاحب الأستاذ «امتياز على عرشى» مدير مكتبة رضا ببلدة رامبور بالهند، فعثر على تفسير القرآن الكريم للثورى، رواه أبو جعفر محمد عن أبى حذيفة النهدى عن الثورى فصححه ورتبه وعلق عليه ... بيد أن هذا التفسير الذى نشر فى سنة 1385 هـ- 1965 م لم يستوعب آراء الثورى فى التفسير ففي جلية الأولياء وفى تفسير الطبرى وفى غير ذلك من الكتب كثير من آراء الثورى فى التفسير. ولعلنا فى المستقبل نجد شبابنا الذين يشرعون فى كتابة رسائل الدكتوراة، أو يحبون البحث العلمى الجاد ينقبون عن آراء الثورى فى التفسير، وينشرون قدر المستطاع كل آراء الثورى فى التفسير سواء صدرت عنه شخصيا أو اختارها من بين آراء الصحابة أو التابعين رضوان الله عليهم. والثورى له جوانب كثيرة خصبة تحتاج الى دراسة، فهو صاحب مذهب فقهى لا يقل فى عمقه وفى صدقه عن المذاهب المشهورة، وهو مذهب لم يجد من تلاميذ الثورى من يقوم على نشره وهو منشور أيضا فى ثنايا كتب الفقه والتفسير والحديث. ولعلنا نجد من شبابنا من يقوم بمهمة جمع آراء الثورى فى الفقه، فيكون لنا مذهب اتباعى من أصدق المذاهب وأخلصها.

وكان للثورى مسند فى الحديث يحتوى على آلاف من أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم. والثورى ثقة فى الحديث، ولعلنا نجد أيضا من شبابنا من يتفرغ- ابتغاء مرضاة الله تعالى- لجمع أحاديث الثورى، واعادة مسنده من جديد ... نموذج من تفسيره: عن مجاهد فى قوله عز وجل: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ. (سورة البقرة الآية 166) قال: تواصلهم فى الدنيا. وعن أبى جعفر فى قول الله تعالى: وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ (سورة التوبة الآية 60) قال: الغارمين المستدينين بغير فساد. وابن السبيل المجتاز من الأرض إلى الأرض. وعن ابن عباس فى قوله تعالى: أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً. (سورة مريم الآية 74) قال: الأثاث المال، والرئى المنظر. وعن عكرمة قال: سئل ابن عباس: أكان الليل قبل أو النهار .. ؟ فقرأ: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما. (سورة الأنبياء الآية 30) ثم قال: هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك ليعلموا أن الليل قبل النهار. وعن مجاهد فى قوله: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ. (سورة الفتح الآية 29) قال: الخشوع والتواضع ...

الإمام ابن قتيبة وتفسيره

الإمام ابن قتيبة وتفسيره هو الإمام العالم الفاضل أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينورى وقيل المروزي، الإمام النحوى اللغوى المصنف فى فنون التفسير والحديث وغيرهما من الفنون. ولد سنة 213 هـ. وسكن بغداد، وحدث بها عن ابن راهويه، وتتلمذا لكثير من المشاهير كمسلم بن قتيبة والده، والقاضى يحيى بن أكثم وأبى حاتم السجستانى وشبابة بن سوار والجاحظ. وروى عنه ابنه أحمد وابن درستويه وغيرهما، وأخذ عنه العلم كثير من العلماء كأحمد بن مروان المالكى. وقاسم بن إصبع الأندرسى وأبو القاسم عبد الله بن محمد الأزدى وغيرهم. تولى ابن قتيبة قضاء الدينور مما يدل على غزارة علمه وسعة فضله وتفرغ للبحث والدراسة والجمع والتحصيل، ثم مارس التأليف فطال فيه باعه، وظهر به فضله، وكان من كبار المجتهدين، ومن مؤلفاته الهامة ما يلى: أدب الكاتب. عيون الأخبار. تأويل الحديث. تأويل مشكل القرآن. غريب القرآن. المعارف. الشعر والشعراء. الاختلاف فى اللفظ والرد على الجهمية.

ويهمنا من هذه الكتب ما يتصل بالتفسير وعلومه حيث تبدو خدمته للقرآن واضحة، ومنهجه فى تأويل الكتب المتصلة بعلومه سليما غاية السلامة، نافعا كل النفع. وقد تحدث ابن قتيبة فى كتابه تأويل مشكل القرآن عن القرآن فقال:- الحمد الله الذى نهج لنا سبيل الرشاد، وهدانا بنور الكتاب، ولم يجعل له عوجا، بل نزله قيما، مفصلا بينا. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. (سورة فصلت الآية 42) وشرفه وكرمه، ورفعه وعظمه، وسماه روحه ورحمة، وشفاء، وهدى ونورا. وقطع منه بمعجز التأليف أطماع الكائدين، أبانه بعجيب النظم عن جيل المتكلفين وجعله متلوا لا يمل على طول التلاوة، ومسموعا لا تمجه الآذان، وغضا لا يخلق على كثرة الرد وعجيبا لا تنقضى عجائبه، ومفيدا لا تنقطع فوائده .. ونسخ به سالف الكتب، وجمع الكثير من معانيه فى القليل من لفظه، وذلك معنى قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم). فإن شئت أن تعرف ذلك فتدبر قوله سبحانه: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين». كيف جمع له بهذا الكلام كل خلق عظيم، لأن فى أخذ العفو صلة القاطعين والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين. وفى الأمر بالعرف تقوى الله، وصلة الأرحام، وصون اللسان عن الكذب وغض الطرف عن الحرمات.

وإنما سمى هذا وما أشبهه عرفا ومعروفا لأن كل نفس تعرفه، وكل قلب يطمئن إليه. ويستطرد فى التمثيل لإيجاز القرآن فى اللفظ مع وفرة المعانى التى تدل عليها الألفاظ القليلة .. ومما ذكره فى ذلك قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ؟. (سورة يونس الآية 42، 43) كيف دل على فضل السمع على البصر، حين جعل مع الصمم فقدان العقل ولم يجعل مع العمى إلا فقدان النظر. وكان من المنافحين عن لغة العرب، الكاشفين عن أسرارها، الموضحين لمزاياها وخصائصها وإنه يقول عن العرب وما خصهم الله به من العارضة والبيان واتساع المجال. وإنما يعرف فضل القرآن من كثرة نظره، واتساع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها فى الأساليب، وما خص الله به لغتنا دون جميع اللغات، فإنه ليس فى جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة والبيان، واتساع المجال ما أوتيته العرب خصيص من الله لما أرهصه فى الرسول، وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب، فجعله علمه، كما جعل علم كل نبى من المرسلين من أشبه الأمور بما فى زمانه المبعوث فيه: ويطول بنا المقام لو استعرضنا ما ذكره من أمثلة على ذلك، ويكفينا هنا قوله:

ولو أن قائلا قال: هذا قاتل أخى بالتنوين، وقال آخر: هذا قاتل أخى بالإضافة لدل التنوين على أنه لم يقتله، ودل حذف التنوين على أنه قد قتله: ويتعرض ابن قتيبة لبعض المعانى المقصودة من الآيات التى عجز عن فهمها كثير من الناس، وظن البعض أنها تعارض العقل. ومن أجمل ما ذكره فى ذلك ردا على ما قيل عن تكرار الكلام والزيادة، ومما يقوله فى ذلك. وأما تكرار الأنبياء والقصص، فإن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن نجوما «أجزاء متفرقة» فى ثلاث وعشرين سنة، بفرض بعد فرض تيسيرا منه على العباد، وتدريجا لهم إلى كمال دينه، ووعظ بعد وعظ، تنبيها لهم من سنة الغفلة، وشحذا لقلوبهم بمتجدد الموعظة، وناسخ بعد منسوخ، استعبادا لهم، واختبارا لبصائرهم يقول الله عز وجل: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا. (سورة الفرقان الآية 32) الخطاب للنبى صلّى الله عليه وسلم والمراد والمقصود به بالتثبيت أنه هو والمؤمنون. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة مخافة السّامة عليهم أى يتعهدهم بها عند الغفلة ودثور القلوب. ولو أتاهم القرآن نجما واحدا لسبق حدوث الأسباب التى أنزله الله بها، ولثقلت جملة الفرائض على المسلمين، وعلى من أراد الدخول فى الدين، ولبطل معنى التنبيه، وفسد معنى النسخ، لأن المنسوخ يعمل به مدة ثم يعمل بناسخه بعده.

وكيف يجوز أن ينزل القرآن فى وقت واحد. افعلوا كذا ولا تفعلوا .. ولم يفرض الله على عباده أن يحفظوا القرآن كله، ولا أن يختموه فى التعلم، وإنما أنزله ليعملوا بحكمه، ويؤمنوا بمتشابهه، ويأتمروا بأمره، وينتهوا بزجره، ويحفظوا للصلاة مقدار الطاقة ويقرءوا فيها الميسور. وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم وهم مصابيح الأرض، وقادة الأيام بمنتهى العلم، إنما يقرأ الرجل منهم السورتين والثلاث والأربع، والبعض والشطر من القرآن الا نفرا منهم وفقهم الله لجمعه، وسهل عليهم حفظه .. وكانت وفود العرب ترد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيقرئهم شيئا من القرآن فيكون ذلك كافيا لهم. وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثناة ومكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى قوم، وقصة نوح إلى قوم، وقصة لوط إلى قوم. فأراد الله بلطفه ورحمته أن يشهر هذه القصص فى أطراف الأرض، ويلقيها فى كل سمع ويثبتها فى كل قلب، ويزيد الحاضرين فى الإفهام والتحذير .. وليست القصص كالفروض، لأن كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت تنفذ إلى كل قوم بما فرضه الله عليهم من الصلاة، وعددها وأوقاتها والزكاة وسننها، وصوم شهر رمضان وحج البيت، وهذا ما لا تعرف كيفيته من الكتاب .. ولم تكن تنفذ بقصة موسى وعيسى ونوح وغيرهم من الأنبياء، وكان هذا فى صدر الإسلام قبل إكمال الله الدين، فلما نشره الله عز وجل فى كل قطر، وبثه فى آفاق الأرض، وعلم الأكابر الأصاغر، وجمع القرآن بين الثقلين زال هذا المعنى واجتمعت الأنباء فى كل مصر، وعند كل قوم .. هذه بعض الملامح لتفكير ابن قتيبة وعلمه فيما يتصل بالقرآن. وكل

ما صدر منه فى ذلك ينبئ عن فكر ناضج، وعلم واسع، وحرص على الروح العلمية السليمة، العاملة على كشف الشبهات، وإزالة الأباطيل، وبيان وجه الحق فيما تعرض له من شئون. وكان ابن قتيبة معنيا بالرد على الشبه التى تثار حول النصوص الدينية وخاصة من المعتزلة ونحوهم ملتزما للمنهج العلمى فى ذلك، فاستحق ثناء العلماء عليه. قال ابن خلكان: كان فاضلا ثقة سكن بغداد، وحدث بها عن اسحاق بن راهويه وأبى اسحاق إبراهيم بن سفيان بن سليمان وأبى حاتم السجستانى وتلك الطبقة وتصانيفه كلها مفيدة. وقال الذهبى فى المغنى عنه: صدوق. وقال الخطيب: ثقة. وكانت وفاته فجأة سنة 276 هـ، إذ أكل هريسة فأصابته حرارة فصاح صيحة شديدة ثم أغمى عليه، ثم أفاق، فما زال يتشهد حتى مات- الله ونفع بعلمه ..

معانى القرآن لأبى زكريا الفراء

معانى القرآن لأبى زكريا الفراء كان والده زياد الأقطع محبا لآل البيت، متفانيا فى حبهم. وكلمة «الأقطع» فى اسم والده هى وسام شرف ألحق باسمه بسبب حبه لآل البيت، فقد قطعت يده فى حربه مع سيد الشهداء الإمام الحسين رضى الله عنه: وإذا كان هناك من يسمى: أمير المؤمنين فى الحديث- كسفيان الثورى- فإنه كان يحلو لثعلب العالم الكوفى الكبير أن يسمى الفراء: أمير المؤمنين فى النحو وهو لقب استحقه الفراء بجدارة. وإذا كان قد بلغ القمة فى النحو، فإن ابن خالته هو محمد بن الحسن الفقيه الشيبانى صاحب أبى حنيفة كان قمة فى الفقه. ومن أظهر أساتذة الفراء: على بن حمزة الكسائى- فى النحو، وسفيان بن عيينة فى الفقه والحديث. وكان الفراء معنيا بعلم القراءات- وأجاده إجادة كبيرة وقد أخذه عن الكسائى، ومحمد بن حفص. وهذه العقلية التى تمحضت- أو كادت- لدراسة علوم اللغة والنحو وما إليهما لا يأتى أن يكون عندها الاستعداد الفطرى لعلم الكلام ولكن طموح الفراء أبى إلا أن يحاول إتقان علم الكلام فاخفق وذلك لأن طبيعته هى طبيعة النحويين، وعن ذلك يقول أديب العربية أبو عمرو الجاحظ: «دخلت بغداد سنة أربع ومائتين حين قدم إليها المأمون- وكان الفراء يحبنى، ويشتهى أن يتعلم شيئا من علم الكلام، فلم يكن له فيه طبع.

لقد أخفق فى دراسة علم الكلام، ولكنه كان يحب أن يشتهر بالاعتزال والفلسفة، وليس له فيهما قدم. وأما تظاهره بذلك، فإنما كان تقربا للمأمون. فإنه ما كان أحد يتقرب منه إلا إذا كانت له ميول اعتزالية، ومرن لسانه على استعمال مصطلحات فلسفية. ومع إخفاقه فى علم الكلام، فإنه برع فى علوم كثيرة، يقول ثمامة بن اشرس- وهو من أئمة المعتزلة، وكان مقربا من المأمون- يقول عن الفراء: رأيت له أبهة أدب فجلست إليه، فناقشته عن اللغة، فوجدته بحرا وعن النحو، فشاهدته نسيجا وحده، وعن الفقه: فوجدته فقيها عارفا باختلاف القوم، وفى النجوم: ماهرا، وبالطب: خبيرا، وبايام العرب واشعارها: حاذقا. واشتهر الفراء وذاع صيته، فاستدعاه الرشيد، وأنس له، وجنى الفراء من وراء ذلك ثروة ومنزلة فألف التردد على أبواب الأمراء والملوك فقد اتصل بالمأمون، ويروى المؤرخون له أن المأمون عهد إليه أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو، وما سمع من العرب، فأمر أن تفرد له حجرة من حجر الدار. ووكل بها جوارى، وخدما للقيام بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه، ولا تتشوق نفسه إلى شىء حتى أنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلاة، وصير له الوراقين، والزمه الأمناء والمنفقين، فكان الوراقون يكتبون حتى صنف كتاب الحدود، وأمره المأمون بكتبه فى الخزائن. وأنس المأمون به كما أنس الرشيد، وأدناه المأمون إلى درجة أن وكل إليه تعليم أبنائه ومع أنه كان يتردد على أبواب الأمراء والوجهاء والملوك، فقد كانت له ميزات حسنة نذكر منها: أنه كان متقشفا بطبيعته، وكان المال الذى يأتيه فى أثناء العام يجمعه إلى موعد معين يفارق فيه بغداد إلى الكوفة، حيث أهله وعشيرته فيمكث بالكوفة

أربعين يوما بين أهله وعشيرته يتفقد أحوالهم ويتودد إليهم وينفق عليهم ما ادخره أثناء العام، ثم يعود من جديد إلى بغداد ... وصلة الأرحام من أنفس القربات فى دين الإسلام الحنيف ومن الأمور التى تذكر بالخير للفراء هذا الموقف الكريم. يروى ابن النديم خبرا يحكيه أبو العباس ثعلب أن السبب فى إملاء الفراء «الحدود» هو أن جماعة من أصحاب الكسائى صاروا إليه وسألوه أن يملى عليهم أبيات النحو ففعل، فلما كان المجلس الثالث قال بعضهم لبعض: إن دام هذا على هذا علم النحو الصبيان والوجه أن يقعد عنه: فغضب وقال: سألونى القعود- يعنى للمحاضرة والإملاء- فلما قعدت تأخروا، والله لأملئن النحو ما اجتمع اثنان- فأملى ذلك ست عشرة سنة! ووثق به المأمون وبعلمه، فاتخذه معلما لاولاده. ونأتى الآن إلى (كتاب المعانى) ويذكر ثعلب أن السبب فى تأليفه أن عمر بن بكير كان من أصحابه، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل، فكتب إلى الفراء أن الأمير الحسن بن سهل ربما سألنى عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرنى فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لى أصولا، أو تجعل فى ذلك كتابا أرجع إليه فعلت! فقال الفراء لأصحابه: اجتمعوا حتى أملى عليكم كتابا فى القرآن- وجعل لهم يوما حضروا فخرج إليهم، وكان فى المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس فى الصلاة وكان يكتب عن الفراء الوراقون- وهم تجار الكتب- ومع أن عدد من كان يحضر الدرس لا يكاد يحصى فإن الذى حرص على الكتابة هم: الوراقون ولما انتهى الفراء من الإملاء خزن الوراقون الكتاب ليبيعوه بثمن مرتفع جدا، وشكا الناس إلى الفراء فاحضر الوراقين وأخذ يتحدث معهم فى خفض ثمن النسخ فلم يفلح معهم وذلك لجشعهم.

لقد أعلنوا أنهم ينسخون الخمس ورقات بدرهم، ولم يجد معهم الحديث الإنسانى! وعند ذلك أعلن الفراء أنه سيملى من جديد، وبدأ فعلا، وجاء الناس باقلامهم ومحابرهم ولما رأى الوراقون ذلك أتوا إلى الفراء ورضوا أن ينسخوا كل عشر ورقات بدرهم، وتم الاتفاق على ذلك. وعن هذا التفسير بقول ثعلب: «لم يعمل أحد قبله مثله، ولا أحسب أن أحدا يزيد عليه». وقد كان من الطبيعى أن الفراء كان مهمّا- وفى الدرجة الأولى- بالنحو كعلم له خطره. من بين العلوم، ثم استخدمه فى تفسير القراءات وتعليل وجوهها من العربية ويمكن أن يقال ان اهتمامه الزائد بالقراءات هو الذى جعله يهتم اهتماما مماثلا بالنحو! والقراءات ليست علما للعلم فقط. وإنما هى مرتبطة بالمعنى ارتباطا وثيقا، ومن هنا كان اهتمام كثير من المفسرين بها. وكما اهتم بالقراءات وبالنحو، فإنه اهتم بأسباب النزول واهتم من قبل ذلك ومن بعد بجمال الأسلوب القرآنى، وبالمعنى اهتماما كبيرا، وما كان ذلك إلا من أجل الدقة فى بيان المعنى لتقريره. نماذج من تفسيره: ونذكر هنا عددا من النماذج المختصرة: ففي مجال اهتمامه بتوجيه القراءات وما تدل عليه من معنى يذكر فى تفسير قوله تعالى من سورة النجم. الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ. (الآية 32) يقول: قرأ يحيى بن وثاب «كبير» وفسر عن ابن عباس أن كبير الإثم هو: الشرك فهذا موافق لمن قرأ «كبير الاثم» بالتوحيد- يعنى: الإفراد دون

الجمع «كبائر» - ... ثم يقول الفراء: وقرأ العوام: كبائر الإثم والفواحش- فيجعلون كبائر كأنه شىء عام وهو فى الأصل واحد، وكانى استحب لمن قرأ «كبائر» أن يخفض «الفواحش» ... قال الفراء: وما سمعت أحدا من القراء خفض «الفواحش» ... وعن جمال الأسلوب القرآنى الذى يكشف عنه الفراء نجد تفسيرا لقوله تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً ... فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً .... (سورة العاديات الآية 1، 2، 4،) قال: يريد به الوادى- ولم يذكر «الوادى» قبل ذلك وهو جائز لأن الغبار لايثار إلا من موضع. وإن لم يذكر إذا عرف اسم الشيء كنى عنه، وإن لم يجر له ذكر. قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. (سورة القدر الآية 1) يعنى القرآن وهو مستأنف سورة، وما استأنفه فى سورة إلا كذكره فى آية قد جرى ذكره فيما قبلها كقوله حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ. وقال تبارك وتعالى: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ. (سورة ص الآية 32) يريد: الشمس، ولم يجر لها ذكر. وفى مجال اهتمام الفراء بالصناعة النحوية نجد له بعض النوادر الجملية. ففي قوله تعالى:

وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. (سورة الزمر الآية 80) يقول الفراء: نسى ما كان يدعو إليه: ترك الذى كان يدعوه إذا مسه الضر، يريد الله تبارك وتعالى. فإن قلت فهلا قال: نسى من كان يدعوه، قلت: إن «ما» قد تكون فى موضع «من» قال الله تبارك وتعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. (سورة الكافرون الآية 1، 2، 3،) يعنى الله تبارك وتعالى. وقال عز وجل. فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ. (سورة النساء الآية 3) فهذا وجه وبه جاء التفسير- ومثيله: «أن تسجد لما خلقت بيدى» وقد يكون نسى ما كان يدعو إليه يراد به: نسى دعاءه إلى الله عز وجل من قبل، فإن شئت جعلت الهاء فى قوله «إليه». وإن شئت جعلتها لله عز وجل، وكل مستقيم ... نفع الله الناس بتفسير الفراء وبعلمه الغزير. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه.

الإمام سهل بن عبد الله التسترى وتفسيره

الإمام سهل بن عبد الله التسترى وتفسيره من أعلام العلماء، وائمة التصوف، الزاهد الورع، والعابد المتقشف، أبو محمد سهل بن عبد الله التسترى، ولد فى تستر بالأهواز سنة ثلاث ومائتين من الهجرة وعاش فى القرن الثالث الهجرى، ذلك القرن الذى حفل بالأئمة الكبار فى كل فن من الفنون. نشأ سهل فوجد امامه فى جنح الليل خاله محمد بن سوار، قائما يتبتل إلى الله ويضرع إليه ويناجيه، يصلى فى خشوع؛ ويدعو فى خضوع، ويقضى الليل ساهرا فى عبادة خاشعة آسرة، جذبت سهلا إليه، وربطته به، وحببته فيه. ومرت أيام فإذا بالخال يقول: يا سهل: ألا تذكر الله الذى خلقك؟ قال سهل: يا خال، كيف أذكره؟ فقال الخال: قل بقلبك عند تقلبك فى ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك: «الله شاهدى، الله معى، الله ناظر إلى» يقول سهل: فقلت ذلك ثلاث ليال ثم أعلمته به، فقال لى: قل فى كل ليلة سبع مرات فقلت ذلك ثم أعلمته، فقال: قل فى كل ليلة: احدى عشرة مرة، فقلت ذلك، فوضع فى قلبى له حلاوة، فلما كان بعد سنة قال لى خالى: احفظ ما علمتك ودم عليه إلى أن تدخل القبر فانه ينفعك فى الدنيا والآخرة.

واستمر سهل على ذلك سنين، ووجد حلاوة للعبادة، وأحس بهذه الحلاوة تملأ جوانحه وتسرى بين كل ثنايا شعوره، وتملك عليه جميع أقطار نفسه، ولما تعود الذكر وتمرس به وأصبح له وردا، وأصبح له غذاء، توجه إليه خاله قائلا: يا سهل: من كان الله معه، وهو ناظر إليه، وشاهده، أيعصيه؟ إياك والمعصية؟ ولكن كيف يتجنب المعصية وهى أمامه فى كل شىء إنها فى الطريق، إنها فى العمل إنها فى كل مجال. إن عليه أن يهئ نفسه ويعدها اعدادا كاملا للخير، ومن أجل ذلك اعتزل، وتفرغ للعبادة والتهجد والذكر وكان لا يزال صغيرا لم يذهب إلى الكتاب بعد .. وأرسلوه إلى الكتاب، فاشترط ان يكون ذهابه ساعة من نهار حتى لا ينفرط عقد عبادته، ولا يتشتت ذهنه. وذهب إلى الكتاب. وضم إلى العمل العلم، وإلى الذكر فيوضات الخير النابعة من داخل القلب، لقد حفظ القرآن، وتفقه فى امور الشرع لقد حفظ القرآن وهو ابن ست سنين، وشغله الذكر والاستغراق فى العبادة عن متطلبات الحياة المادية العادية. لقد تغذى بالذكر فخف احتياجه إلى ما سواه، وكان يكتفى بخبز الشعير، وكان يأكل أقل القليل منه. يقول الإمام ابن عربى، صاحب الفتوحات المكية .. رحل إلى عبادان، وتوجه إلى شيخ من كبار الشيوخ، فسأله عن مسألة فأجابه، فأعجب به، ولزم خدمته، وأقام عنده مدة ينتفع بكلامه ويتأدب بآدابه، ولما حصل ما شاء الله له من علوم الشيخ عاد إلى تستر، واشتهر فى مقام الزهد والتهجد والعبادة.

ثم أخذ فى السياحة إلى شتى الأقطار، ورحل إلى كثير من البلدان، وقابل العديد من الأولياء والعلماء. لقد حصل العلم بسلوكه، وحصل العلم بتلقيه ومدارسته. لقد ضم إلى الشريعة الحقيقة، واستمرت سياحته سنين، وعاد إلى تستر ... عاد إليها على نور من ربه، وبدأ دعوته إلى الله على هدى وبصيرة، ولم يبدأ الدعوة إلى الله إلا بعد أن أذن الله له. يقول صاحب كتاب صفة الأولياء ومراتب الأصفياء: ذكر سهل التسترى، وهو ابن سبع سنين وساح فى طلب العلم وهو ابن تسع سنين وكانت تلقى مشكلات المسائل على العلماء ثم لا يوجد جوابها إلا عنده وهو ابن إحدى عشرة سنة، وحينئذ ظهرت عليه الكرامات. وبلغ سهل النضوج العلمى والنضوج الروحى بتوفيق الله تعالى بعد جهاد ومجاهدة بعد ذكر وعبادة، بعد صوم وسياحة، وحينما أذن الله له فى الدعوة إليه، أخذ يدعو إلى الله على بصيرة، ويرسم الطريق إليه على هدى. ولم تقتصر دعوته إلى الله على التربية وتعليم السلوك، ولم تقتصر دعوته على القول والموعظة الحسنة، لقد ترك مؤلفات قيمة فى مجالات متعددة، وشارك فى أنواع من العلوم- ومن أشهر كتبه .. رقائق المحبين. مواعظ العارفين. جوابات أهل اليقين. قصص الأنبياء. هذا فضلا عن تفسيره المشهور. ولقد امتاز سهل بتعظيمه للسنة، وبتعظيمه للشريعة. لقد ذهب إلى أبى داود- صاحب السنن زائرا- واستقبله أبو داود فى

احترام واعزاز. وقبل سهل فم أبى داود، لأنه ينطق بالسنة ويلغها للناس. وأبان سهل بذلك عن تواضع جم، واحترام عميق للسنة ولمن يخدمون السنة. ومن كلماته الحكيمة الدالة على كمال الاقتداء: «ما عبد الله بشيء أفضل من مخالفة الهوى» «ما أعطى أحد شيئا أفضل من علم يستزيد افتقار إلى الله» وكانت وفاته بالبصرة سنة ثلاث وثمانين ومائتين بعد حياة مباركة، رحمه الله ونفع به.

تفسير سهل بن عبد الله التسترى

تفسير سهل بن عبد الله التسترى هذا التفسير من التفاسير التى تمثل بحق التفسير الصوفى للقرآن الكريم. فمؤلفه له القدم الثابته فى مجال السلوك الصوفى القائم على أساس من الشريعة والاقتداء بالرسول صلّى الله عليه وسلم. وقد تكلم على بعض آيات من القرآن مبينا ما ألهمه بشأنها. وقد جمع أقواله أبو بكر بن أحمد فى كتاب «عرف» بتفسير التسترى، وهو هذا التفسير الذى نعرفه الآن، والذى طبع فى كتاب متوسط الحجم باسم .. «تفسير القرآن العظيم». والناظر فى هذا التفسير- يلمح عليه دلائل التفسير الصوفى المستقيم، ويرى فيه تحقيق قول المؤلف .. «أصولنا سبعة .. التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق. لقد سار سهل فى إطار القرآن، وعرف ما قاله الأئمة أو كثير من الأئمة فى تفسير الآيات، ولكن القرآن لا يمكن أن يحيط أحد بأقطاره، ولا يمكن أن تكون المعانى اللغوية الضيقة هى كل ما عبر عنه القرآن، إنها- إن عبرت- فإنها تعبر عن ظاهر. ولكن القرآن الكريم ليس هو ما يظهر للناظر منذ الوهلة الأولى. إن وراء ظاهره أسرارا لا تتعارض مع هذا الظاهر، ولكنها توضحه وتجعله نافذا إلى القلوب جاذبا للنفوس، آسرا للأرواح. إنها ما عبر عنه الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله:

(لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف، حد ومطلع) ويرى سهل أن ظاهر الآية التلاوة، وباطنها الفهم، وحدها الحلال والحرام ومطلعها: اشراق القلب على المراد بها فقها من الله عز وجل، فالعلم الظاهر علم عام والفهم لباطنه، والمراد به خاص، قال تعالى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (سورة النساء الآية 78) «أى لا يفقهون خطابا. وتفسيره على هذا الأساس يتجه إلى بيان بعض ما تشتمل عليه الآيات من إشارات، وما تدل عليه من الهامات. فيبرز بعض ما يفهمه من دلائل هذه الآيات. وقد تحدث كثير من العلماء عن هذا النوع من التفسير. ويرى إمام ابن الصلاح أن ما ورد عن الصوفية المعتبرين من التفسير لم يذكره الصوفى على أنه تفسير للآية ولا ذهب به مذهب الشرح لها، وإنما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن فإنه النظير يذكر بالنظير. أما ابن عطاء السكندرى الصوفى الشهير فإنه يوضح المفهوم الحقيقى لهذا النوع من التفسير «التفسير الصوفى» فيقول: اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعانى الغريبة ليس إحالة لظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه، ما جلبت له الآية ودلت فى عرف اللسان، وثم افهام باطنه تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه، وقد جاء فى الحديث: «لكل آية ظهر وبطن» ثم يرد على من يقول: إن فى هذا النوع من التفسير إحالة لكلام الله وكلام رسوله وصرفا لهما عن معانيهما وما يقصد بهما، فيقول:

ليس ذلك بإحالة، وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا وهم لم يقولوا ذلك، بل يقرون الظواهر على ظواهرها مرادا بها، موضوعاتها ويفهمون عن الله تعالى ما أفهمهم. هذا هو الذى نراه فى هذا النوع من التفسير كتفسير سهل بن عبد الله. ان سهلا لم يقم بتفسير تقليدى، يتبع فيه القرآن، ويؤلف فيه تفسيرا شاملا يجمع ما استطاع جمعه من المعانى اللغوية والشرعية والأخلاقية والكونية، وما إلى ذلك من المجالات التى تحدث عنها القرآن. لقد تحدث عما أحس به من آثار وقوع الآية على قلبه، وما نضح به شعوره المؤمن فى هذا المجال، ولم يقل إن هذا تفسير كما يقول المفسرون ولم يقل إنه التفسير الوحيد الذى لا تقبل الآية سواه. على أن سهلا- رحمه الله- لم يقتصر فى تفسيره على الجانب الإشارى من القرآن الكريم. لقد ذكر فى أحيان كثيرة المعنى الظاهر للآية، والذى شاركه فيه أكثر المفسرين قبل أن يذكر المعى الإشارى أو بعض ما يرى أنه المعنى الإشارى؟ ولقد اقتصر فى أحيان أخرى على المعنى الظاهر، ولم يتحدث عن معنى إشارى وفى أحيان أخرى اقتصر على المعنى الإشارى لوضوح المعنى الظاهر أو شهرته متداولا بين الناس. أنظر إليه عند تفسير قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ. (سورة الروم الآية 41) يقول: «مثل الله الجوارح بالبر، ومثل القلب بالبحر وهو أعم نفعا واكثر خطرا» هذا هو باطن الآية، ألا ترى أنه سمى قلبا لتقلبه وبعد غوره. وهذا التفسير صغير الحجم، سهل المأخذ، يحوى الكثير من الإشارات

اللطيفة التى لا تخالف ظاهر القرآن، ومن الممكن أن تكون مما يشير إليه لفظ الآية، ويحتمله معناها. وقد جمع فيه كثيرا من حكايات الصالحين وأخبارهم، ووجه الأنظار كثيرا إلى ما يذكر النفوس ويطهر القلوب ويسوق إلى الصلاح ومن نماذجه الطيبة: سئل سهل عن قوله تعالى: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. (سورة آل عمران الآية 79) قال محمد بن سوار: الربانى الذى لا يختار على ربه أحدا سواه وهو اسم مشتق من الربوبية: وقال سهل: الربانيون هم العالون فى الدرجة من العلم بالعلم كما قال محمد بن الحنفية لما مات عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: لقد مات هذا اليوم ربانى هذه الأمة وإنما نسب إلى الرب لأنه عالم من علمه، كما قال: «من أنبأك هذا»؟ قال: نبأنى العليم الخبير فنسبه إلى النبوة بما علمه الله عز وجل، وكل من أنباك بخبر موافق للكتاب والسنة فهو منبئ. وقال عمر بن واصل: الربانيون هو المجموعون من العلماء، كما قال على رضى الله عنه: الناس ثلاثة: عالم ربانى، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق. قوله سبحانه: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ. (سورة الفرقان الآية 58)

سئل ابن سالم عن التوكل والكسب بأيهما تعبد الخلق؟ قال: التوكل حال رسول الله صلّى الله عليه وسلم والكسب سنته، وإنما سن الكسب لهم لضعفهم حين أسقطوا عن درجة التوكل الذى هو حاله، فلم يسقطهم عن درجة طلب المعاش بالكسب الذى هو سنة، ولولا ذلك لهلكوا .. قال سهل: من طعن فى الكسب فقد طعن فى السنة، ومن طعن فى التوكل فقد طعن فى الإيمان.

الإمام الطبرى وتفسيره

الإمام الطبرى وتفسيره إذا ما جئنا بالحديث عن ابن جرير الطبرى وتفسيره فقد جئنا شيخ المفسرين بلا منازع لقد كان ابن جرير أديبا ذا أسلوب- يندر أن يصل إليه فحول الأدباء، لا تحس حينما تقرأه بتكلف أو تصنع بل تحس بالبلاغة والفصاحة تنساب انسياب الماء الرقراق، أو تهدر هدير الأعصار المجتاح، وفى كلا الأمرين تكون بصدد الاسلوب المتقن الآسر. وكان ابن جرير فقيها. صاحب مذهب فى الفقه، يؤسفنا أن لم يعن به أحد وهذا المذهب الفقهى يصلح أن يعنى به أحد طلبة الدكتوراة فيكون رسالة نفيسة تفيد العلم وتلقى بأضواء نفاذة فى الفقه الإسلامى. وكان ابن جرير مؤرخا من كبار المؤرخين، وله تاريخه المستفيض المشهور، وكان محدثا من كبار المحدثين، لقد كان أمة وحده. ولنسر معه فى تسلسل حياته وفى أقوال العلماء عنه وعن تفسيره، فيكون ذلك تفصيلا لما ذكرناه. هو الإمام المفسر المؤرخ أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى ... ولد بآمل سنة خمس وعشرين ومائتين، واتجه منذ بواكير حياته إلى طلب العلم ودراسة علوم الدين، فحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين، ورحل فى طلب العلم إلى كثير من مدن الإسلام ملتقيا بعلمائها، متعرفا على أخبارها، متزودا مما تذخر به من ألوان الثقافة، حتى توفر له من المراجع والمعارف ما مكنه من تأليف الكتب النافعة الجامعة التى خلدت اسمه، ورفعت ذكره، ووضعته فى مكانه البارز بين علماء الإسلام.

لقد رحل إلى الرى فسمع بها محمدا بن حميد الرازى وغيره من مشاهير المحدثين. ثم انتقل عنها إلى البصرة فسمع محمدا بن المعلى. ومحمدا بن بشار المعروف ببندار .. ثم رحل إلى الكوفة فسمع من هناء بن السرى، وأبى كرب محمد بن العلاء الهمدانى وانتهى به المسير فى بلاد العراق إلى بغداد فنهل مما تذخر به من علم. واستفاد مما تحتوى عليه من ألوان الثقافة الدينية. وتجاوز بغداد إلى الشام فقرأ القرآن على العباس بن الوليد البيرونى بقراءة الشامين واستفاد منه ... ثم انتهى به المسير إلى مصر فلقى بها من مشاهير العلماء محمدا بن عبد الله بن الحكم والمزنى ومحمدا بن اسحاق بن خزيمة وتلاميذ بن وهب. وعاود رحلة العودة إلى طبرستان ثم انقطع للتدريس ببغداد حتى وافته منيته فى عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة. دفن فى داره برحبة يعقوب ولم يغير شيبه ... صنف الكثير من الكتب مثل. كتاب التفسير. وكتاب التاريخ. وكتاب اختلاف الفقهاء. وكتاب تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار وهو الذى سماه القفطى شرح الآثار. وكتابه ذيل المذيل ..

وقد طبع تفسيره وتاريخه وشطر من كتاب اختلاف الفقهاء ومختارات من ذيل المذيل .. وقد استفاض العلماء فى الحديث عن ملامح شخصيته ومعالم حياته فى شتى الجوانب ومختلف الاتجاهات. وقال الخطيب: كان ابن جرير أحد الأئمة. يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه، لمعرفته وفضله، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظا لكتاب الله بصيرا بالمعانى فقيها فى أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها. وناسخها ومنسوخها. عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من المخالفين فى الأحكام، ومسائل الحلال والحرام عارفا بأيام الناس وأخبارهم. وقال أبو العباس بن سريج: (محمد بن جرير الطبرى فقيه العالم): أما عن تفسيره فقد ظهر فيه: 1 - تحرزه قبل تأليفه. 2 - ونشاطه فى إعداده. 3 - وسروره بإتمامه. لقد ظهر تحرزه فى قوله استخرت لله تعالى فى عمل كتاب التفسير، وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله، فأعاننى .. وذكر المؤرخون أنه حدث نفسه بهذا التفسير وهو صبى، واستخار الله فى عمله، وسأله العون على ما نواه ثلاث سنين قبل أن يعمله، فأعانه سبحانه. ثم لما أراد أن يملى تفسيره قال لأصحابه: (أتنشطون لتفسير القرآن؟) ... قالوا وكم يكون قدره؟ ..

فقال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره لهم فى ثلاثة آلاف ورقة .. والناظر فى هذا التفسير يلمح ما بذله ابن جرير من جهد كبير فى إتمامه، لقد اعتنى فيه بجمع الآثار، وتحقيق الأخبار، ومدلولات اللغة، وأحكام الشرع، وأبدى رأيه مرجحا وموضحا وفاتحا المجال للاجتهاد والاختيار .. وقد قدم لتفسيره بعد الحمد والثناء والصلاة على خاتم الأنبياء فقال: ثم أما بعد: فإن من جسيم ما خص الله به أمة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم من الفضيلة، وشرفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة، وحباهم به من الكرامة السنية، حفظه ما حفظ عليهم- جل ذكره وتقدست أسماؤه- من وحيه وتنزيله، الذى جعله على حقيقة نبوة نبيهم صلّى الله عليه وسلم دلالة، وعلى ما خصه به من الكرامة علامة واضحة، وحجة بالغة، أبانه به من كل كاذب ومفتر، وفصل به بينهم وبين كل جاحد وملحد وفرق بينهم وبين كل كافر ومشرك، الذى لو اجتمع جميع من بين أقطارها جنها وإنسها، وصغيرها وكبيرها، على أن يأتوا بسورة من مثله لم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .. فجعله لهم فى دجى الظلم نورا ساطعا، وفى سدف الشبه شهابا لامعا وفى مضلة المسالك دليلا هاديا وإلى سبل النجاة والحق حاديا ... يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. (سورة المائدة الآية 61) حرسه بعين منه لا تنام، وحاطه بركن منه لا يضام، لا تهى على الأيام دعائمه ولا تبيد على طول الأزمان معالمه، ولا يجوز عن قصد المحجة تابعه. ولا يضل عن سبل الهدى مصاحبه، من اتبعه فاز وهدى ومن حاد عنه ضل وغوى، فهو موئلهم الذى إليه عند الاختلاف يئلون ومعقلهم الذى

إليه فى النوازل يعقلون، وحصنهم الذى به من وساوس. الشيطان يتحصنون وحكمة ربهم التى إليها يحتكمون، وفصل قضائه بينهم الذى إليه ينتهون، وعن الرضا به يصدرون وحبله الذى بالتمسك به من الهلكة يعتصمون .. ثم تحدث عن بعض مهمات تتعلق بالقرآن بين يدى تفسيره .. فتحدث عن إتقان معانى اى القرآن ومعانى منطق من نزل بلسانه القرآن من وجه البيان والدلالة على أن ذلك من الله تعالى ذكره هو الحكمة البالغة، مع الإبانة عن فضل المعنى الذى به باين القرآن سائر الكلام. ثم فصل القول فى البيان عن الأحرف التى اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم .. ثم تكلم عن اللغة التى نزل بها القرآن من لغات العرب. ثم تحدث عن قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة وذكر الأخبار الواردة بذلك .. ثم فصل القول فى الوجوه التى من قلبها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن. ثم ذكر بعض الأخبار التى رويت بالنهى عن القول فى تأويل القرآن بالرأى. ثم ذكر الأخبار التى رويت فى الحض على العلم بتفسير القرآن ومن كان يفسره من الصحابة .. ثم ذكر الأخبار التى غلط فى تأويلها منكرو القول فى تأويل القرآن. ثم ذكر الأخبار عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محمودا علمه بالتفسير ومن كان منهم مذموما علمه به فمن المحمودين ابن عباس يقول عبد الله بن مسعود: «نعم ترجمان القرآن ابن عباس». ومن المحمودين أيضا مجاهد يقول الثورى: «إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسك به» أما الذين لم يكن لهم فى التفسير قدم راسخة فمنهم الكلى وكنت أمر عليه طرفى النهار

ولم أكتب عنه ومنهم ابو صالح باذان، كان الشعبى رضى الله عنه يمر به. فيأخذ بأذنه فيعركها ويقول: [تفسر القرآن وأنت لا تقرأ القرآن]. ثم ذكر القول فى تأويل أسماء القرآن وسوره وآية. وانتقل بعد ذلك إلى التفسير. وهو فى تفسيره يبدى رأيه ثم يستشهد عليه بالآثار والأخبار مستعينا فى ذلك بقواعد وأقوال السابقين .. فعن تأويل قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. (سورة البقرة الآية 21) قال: فأمر جل ثناؤه الفريقين اللذين أخبر الله عن أحدهما أنه ... سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. (سورة البقرة الآية 6) لطبعه على قلوبهم وعلى سمعهم. وعن الآخر أنه يخادع الله والذين آمنوا بما يبدى بلسانه من قبله: آمنا بالله وباليوم الآخر، مع استبطانه خلاف ذلك، ومرض قلبه، وشكه فى حقيقة ما يبدى من ذلك وغيرهم من سائر خلقه المكلفين .. بالاستكانة والخضوع له بالطاعة، وأفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة، لأنه جل ذكره هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبائهم وأجدادهم، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم فقال لهم جل ذكره: فالذى خلقكم وخلق آباءكم أجدادكم وسائر الخلق غير كم وهو يقدر على ضركم ونفعكم أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نفع ولا ضر. وكان ابن عباس فيما روى لنا عنه يقول فى ذلك نظير ما قلنا فيه، غير أنه

كان يقول فى معنى «اعبدوا ربكم».: وحدوا ربكم ... وقد دللنا على أن معنى العبادة الخضوع لله بالطاعة والتذلل بالاستكانة ... والذى أراد ابن عباس- ان شاء الله- بقوله فى تأويل قوله (اعبدوا ربكم) وحدوه، أى أفردوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه. حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن أبى محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين، أى وحدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم .. ثم قال: وهذه الآية من أدل دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غير جائز إلا بعد إعطاء الله المكلف المعونة على ما كلفه، وذلك أن الله أمر من وصفنا بعبادته والتوبة من كفره بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون، وانهم عن ضلالتهم لا يرجعون. وقوله (لعلكم تتقون) تأويله: لعلكم تتقون بعبادتكم ربكم الذى خلقكم وطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه وافراد كم له العبادة لتتقوا، سخطه وغضبه أن يحل عليكم، وتكونوا من المتقين الذين رضى عنهم ربهم: وكان مجاهد يقول فى تأويل قوله: «لعلكم تتقون» تطيعون .. حدثنا ابن وكيع قال: حدثنى أبى عن سفيان عن ابن أبى نجيح عن مجاهد فى قوله (لعلكم تتقون) قال: لعلكم تطيعون .. قال أبو جعفر: والذى أظن أن مجاهدا أراده. بقوله هذا لعلكم أن تتقوا ربكم بطاعتكم إياه، وإقلاعكم عن ضلالتكم .... من هنا استحق كتاب جامع البيان عن تأويل القرآن للطبرى ثناء العلماء، فقال ابن خزيمة:

نظرت فيه من أوله إلى آخره وما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير ولقد ظلمته الحنابلة. وقال أبو حامد الأسفرائني: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا وقال القفطى: لم ير أكبر من تفسير الطبرى ولا أكثر فوائد. وقال السيوطى: كتاب الطبرى فى التفسير أجل التفاسير وأعظمها فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض وللإعراب وللاستنباط، فهو يفوق بذلك تفاسير الأقدمين. وقال السيوطى: (جمع فى تفسيره بين الرواية والراى) ولم يشاركه فى ذلك أحد قبله ولا بعده. وانتهت به الحياة كما قال ابن كامل عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة، ودفن فى دار برحبة يعقوب، ولم يغير شيبه، وكان السواد فى رأسه ولحيته كثيرا، وكان أسمر إلى الأدمة أعين، نحيف الجسم مديد القامة فصيحا، واجتمع عليه من لا يحصيه إلا الله تعالى، وصلى على قبره عدة شهور ليلا ونهارا، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب قال ابن دريد: إن المنية لم تتلف به رجلا ... بل أتلفت علما للدين منصوبا كان الزمان به تصفو مشاربه ... والآن أصبح بالتكدير مقطوبا كلا وأيامه الغر التى جعلت ... للعلم نورا وللتقوى محاريبا «رحم الله ابن جرير الطبرى، ونفع بعلمه:

معانى القرآن للزجاج

معانى القرآن للزجّاج بدأ القرآن بالبحث عن العلم، وكانت أول كلمة فى الوحى هى: «اقرأ». وأخذ المسلمون يندفعون حول العلم اتباعا لتوجيه القرآن الكريم، حتى ولو لم يكن عند البعض منهم الجو المهيأ لدراسة العلم. وهذا واحد هو نموذج لفئة كبيرة من أمثاله، لم تكن ظروفهم الأولى مواتية للتفرغ للعلم، ولكنه جاهد وثابر، وبذل كل ما يستطيع حتى احتل المكانة التى يتمتع بها العلماء من جاه وثراء. إنه أبو إسحاق الزجاج: نشأ فى بيئة متواضعة فى القرن الثالث، الهجرى سنة إحدى وأربعين ومائتين من الهجرة، ولكنها ذات خلق كريم فاضل، وهيأته البيئة الأولى إلى أن يعمل فى الزجاج، ومن هنا كانت نسبته المشهورة «الزجاج» التى يعرف بها بين كبار العلماء والأعلام. كان يخرط الزجاج، وقبل ذلك كان قد حصل شيئا من العلم، فكان يشتغل أثناء فراغه بالتعليم، ولاحظ فى نفسه ميلا شديدا إلى دراسة النحو فكان يقتصد من قوته، ويشترى من الوراقين بعض ما يمكنه من إرواء رغبته فى كتب النحو، يسهر فى دراستها ليله، ويقرأ فيها أثناء فراغه نهارا. ولما رأى نفسه معدة للفهم والتلقى عن العالم الكبير أحمد بن يحيى المعروف بثعلب «النحو» على مذهب أهل الكوفة- فأخذ الزجاج ينظم وقته بحيث يحضر درس هذا العالم الشهير. ثم بعد ذلك انتقل إلى عالم كبير هو أبو العباس المبرد صاحب كتاب

الكامل الذى صارت شهرته فى الآفاق- وثقف الزجاج من ثقافته الواسعة حتى أخذ فى الظهور واتسعت شهرته لعلمه الغزير ولخلقه الكريم، وأدبه الجم، وعقيدته السليمة. وقد استدعاه الوزير عبيد الله سليمان بن وهب، وتحدث إليه فرأى علما غزيرا، وأدبا رفيعا، ونفسا متواضعة فلم يزده علمه إلا تواضعا وأدبا. إنه العلم النافع. وأخذ الوزير يستدعيه من آن لآخر، وفى كل مرة يزداد إعجابه حتى إذا ما وثق به تماما وكل إليه تعليم ابنه القاسم- فن الأدب العربى. ومضت السنوات، وجاء الوقت الذى تولى الوزارة فيه: القاسم بن عبيد الله تلميذ الزجاج الوفى- فأغدق على الزجاج ما جعله ينعم بحياة أكثر ترفا ونعيما. ولم تصرف هذه الحياة الزجاج عن الاستمرار فى طلب العلم، بل ربما مكنته من الإزدياد فى طلبه، وكان شعاره هو الشعار الإسلامى: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً. (سورة طه الآية 114) وأخذت- لذلك- شهرته تنتشر وتذيع، حتى طلبه الخليفة العباسى المكتفى بالله وانخرط الزجاج فى مجلس المكتفى بالله، ورأى المكتفى منه ما رآه الوزير من علم غزير وأدب كريم فجعله نديما من ندمائه. وأقبلت على الزجاج الدنيا من أوسع أبوابها، ولكن ذلك لم يصرف الزجاج عن وجهته، وإنما كان يجلس مدرسا، والتف حوله العلماء يسمعون ويستفيدون، وتتلمذ له كبار العلماء. وكان من تلاميذه: أبو على الفارسى، صاحب الشهرة الكبيرة فى اللغة والأدب، وتتلمذ عليه الكثيرون الذين كان لهم الأثر البالغ فى النحو واللغة. ومن أنفس ما ألفه الزجاج هو كتابه فى تفسير القرآن: لقد كتبه فى فترة بلغ فيها قمة النضج الفكرى من حياته، واستغرق هذا التفسير حوالى ست سنوات وتفسيره هذا يمتاز بأمرين:

أحدهما: أنه تفسير بالمأثور، وذلك أن الزجاج يذكر الآية، ثم يروى فيها ما أثر عن أسلافنا رضوان الله عليهم، ولكنه لا يذكر ما روى فيها دون اختيار وانتقاء، وإنما يختار الأحسن والأوفق الذى يتفق مع ما يراه يتمشى مع الأسلوب العربى السليم ومع الجو الإسلامى العام، فتفسيره بالمأثور لم يكن مجرد جمع عن السابقين، وإنما كان إيرادا على روية وتدبير وتفكير. أما الأمر الثانى الذى برع فيه الزجاج فهو: التخريج النحوى للآيات الكريمة التى تحتاج إلى إيضاح نحوى، ومن هنا كان الزجاج يروى رغبته فى استمتاع بادائها .. والكتاب يطبع الآن لاول مرة فى طبعة محققة تحقيقا متقنا، وذلك ما يقوم به الدكتور عبد الجليل شلبى من علماء الأزهر، وقد أخرج منه جزءين كبيرين، وسيخرج الباقى تباعا إن شاء الله وكان لهذا التفسير أثره الكبير فيمن أتى من المفسرين من بعد: لقد تأثر به مثلا صاحب كتاب «الكشاف» «الذى كان معنيا بالنحو والبلاغة. وكما ناقش الزجاج من كتبوا قبله من معانى القرآن، أو كتبوا فى مجازه وبلاغته، فإن تلميذ الزجاج الامام: أبو على الفارسى قد أخذ نفسه- مع إعجابه باستاذه- يتتبع كل ما أرى أن استاذه أخطأ فيه، سواء كان الخطأ صريحا أو خلاف الأرجح. ثم أخذ يعرضها مسألة مسألة، ثم يعرض رأيه هو فيها محللا وناقدا لها. وقد سمى كتابه اسما له مغزاه، لقد سماه: «الاغفال» وكان مؤدبا فى التسمية مراعاة إلى استاذه، أنه يريد أن يقول: إن ما لاحظه مجرد إغفال من استاذه، وقال فى أوائل هذا الكتاب «الاغفال» هذه الكلمات المهذبة: هذه مسائل من كتاب أبى إسحاق فى اعراب القرآن ذكرناها لما اقتضت

عندنا من الايضاح عنها للإغفال الواقع فيها ... ، ونحن ننقل كلامه فى كل مسألة من هذه المسائل بلفظه وعلى جملته عن النسخة التى سمعناها منه فيها ثم نتبعه بما عندنا ... » ومع هذا الأسلوب المهذب قد يتساءل إنسان فيقول: ما دام أبو على الفارسى سمع التفسير من الزجاج فلم لم يناقشه اثناء الشرح والسماع؟ والجواب عن ذلك: قد تكون هيبة الزجاج هى التى منعته من ذلك ولكن الأقرب فى الإجابة أن الفارسى لم يكن إذ ذاك قد وصل فى النضج العلمى إلى الدرجة التى تمكنه من الملاحظات على استاذه فلما نضج بمرور الزمن رأى من الوفاء عليه لاستاذه أن ينبه على «الاغفال» وها هى نماذج من تفسيره: لقوله عز وجل: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ (سورة البقرة الآية رقم 269) معنى «يؤتى» يعطى، والحكمة فيها قولان: قال بعضهم هى النبوة، ويروى عن ابن مسعود أن الحكمة هى القرآن، وكفى بالقرآن حكمه، لان الأمة به صارت علماء جيلا بعد جيل، وهو وصلة إلى كل علم يقرب من الله عز وجل، وذريعة إلى رحمته، ولذلك قال الله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (سورة البقرة الآية رقم 269) ومعنى وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي ما يفكر فكرا يذكر به ما قص من آيات القرآن إلا أولوا الألباب، أى ذووا العقول.

وقوله عز وجل: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ هذا من نعت أولى الألباب، أى فهؤلاء يستدلون على توحيد الله- عز وجل- بخلقه السموات والأرض وأنهم يذكرون الله فى جميع أحوالهم «قياما وفعودا وعلى جنوبهم». معناه ومضطجعين، وصلح فى اللغة أن يعطف بعلى على «قياما وقعودا» لان معناه ينبئ عن حال من أحوال تصرف الإنسان، تقول: أنا أسير إلى زيد ماشيا وعلى الخيل. المعنى ماشيا وراكبا فهؤلاء المستدلون على حقيقة توحيد الله يذكرون الله فى سائر هذه الأحوال. وقد قال بعضهم: يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ (سورة آل عمران الآية 191). أى يصلون على جميع هذه الأحوال على قدر امكانهم فى صحتهم وسقمهم. وحقيقته عندى- والله أعلم- انهم موحدون الله فى كل حال.

تحصيل نظائر القرآن للحكيم الترمذى

تحصيل نظائر القرآن للحكيم الترمذى إننا نعجل فنورد فى مطلع الحديث عن الحكيم الترمذى قوله: (ما صنفت حرفا عن تدبير، ولا لينسب إلى شىء من المؤلفات، ولكن كان إذا اشتد على وقتى اتسلى به .. ). لقد تثقف فى اللغة والدين والحكمة كأحسن ما يكون التثقيف، والتزم العبودية لله سبحانه وتعالى أخلص ما تكون العبودية، لما توفر له العاملان الأساسيان لكل مرب ومصلح: الثقافة وتزكية النفس، وأخذ يجاهد فى سبيل الله، داعيا العبيد الآبقين إلى الدخول من جديد فى ساحة الرضوان، ليتكفل الله بهم، وليرعاهم، وليسعدوا فى دنياهم وفى آخرتهم: وفاضت عنه الحكمة جذابة وضاءة زكية، فاضت عنه حديثا، وفاضت عنه سلوكا وفاضت عنه كتابة وبحثا وتأليفا فى مختلف الميادين الدينية، يقول عنه الإمام الشعرانى: وهو من كبار مشايخ خراسان، وله التصانيف المشهورة وكتب الحديث .. ثم يروى الإمام الشعرانى بعض أقواله: نذكر منها قوله: دعا الله الموحدين للصلوات الخمس رحمة منه عليهم، وهيأ لهم فيها ألوان الضيافات لينال العبد من كل قول وفعل شيئا من عطاياه سبحانه وتعالى، فالأفعال كالأطعمة والأقوال كالأشربة، وهم عرش الوحدانية. وكان رضى الله عنه يقول: (صلاح الصبيان فى المكتب، وصلاح قطاع الطريق فى السجن، وصلاح النساء فى البيوت). أما الإمام القشيرى فإنه يقول عنه:

(من كبار الشيوخ، وله تصانيف فى علوم القوم). الواقع أنه لم يكن له التصانيف فى علوم القوم (والقوم هنا هم الصوفية) فحسب، وإنما كانت له كتب كثيرة فى كثير من الفنون المختلفة. ومنذ زمن بعيد والناس- كبارا وصغارا- متأثرون به نقدا أو إعجابا. ومن الكتب التى كان يدرسها الإمام ابو الحسن الشاذلى والإمام أبو العباس المرسى كتاب: «ختم الأولياء». وكتاب ختم الأولياء للحكيم الترمذى، كتاب أقام الجو الثقافى وأقعده حين صدوره وكان سببا فى صعوبات كثيرة اعترضت المؤلف بسبب الآراء التى احتوى عليها. وهو كتاب أثار اهتمام الإمام الأكبر محيى الدين بن عربى اثارة كبرى. فافرد له كتابا خاصا ثم افرد له صفحات من كتاب الفتوحات وحاول ان يجيب على ما ورد فيه من اسئلة ووضع نفسه بهذا موضع، الاختبار وهو من هو فلسفة وحكمة وعلما وتصوفا، ووضع نفسه بهذا موضع التحدى وكانه يقول: ها أنا ذا أجيب على الاسئلة متحديا فيما يتعلق بصحة الإجابة. لقد كان الشاذلى يلقى دروسا فى شرح هذا الكتاب ولقد بلغ من روعة هذه الدروس ان كان ابو العباس المرسى يحرص كل الحرص على حضورها لما كان لها فى نظره من الأهمية وحينما يكون على سفر فى شأن من شئون الدعوة، فإنه يلتمس كل وسيلة تمكنه من حضورها. ولقد كان كتاب ختم الأولياء مفقودا إلى عهد قريب، ثم عثر الأستاذ عثمان يحيى عليه فطبعه فى بيروت طبعة محققة مع دراسة عن الترمذى. ويقول ابن عطاء الله السكندرى- رضى الله عنه- عن أبى العباس المرسى: (وكان هو والشيخ أبو الحسن كل مهما يعظم الإمام الربانى محمد ابن على الترمذى، وكان لكلامه عندهما الخطوة التامة .. وكانا يقولان أنه أحد الأوتاد الأربعة).

ومن كتبه التى أثارت ضجة كبرى أيضا كتاب: (علل العبودية .. أو علل الشريعة). ومن الناس من يقول: ان الأحكام لا تعلل، وإن الله سبحانه يذكر الأحكام معللا لها أحيانا، فنعرف علتها نصا، ويترك سبحانه فى الأغلب الأعم التعليل، فنأخذ بالأحكام ولا نتساءل عن التعليل، والعبودية التزام ما أتى به الوحى: التزامه دون فتور أو تباطؤ، أو تردد ودون محاولات للتعليل. فلما أخرج الإمام الحكيم هذا الكتاب ثار عليه هؤلاء ورموه بالانحراف. وألقى الحكيم بنفسه فى معركة الفكر السائدة فكتب من الكتب فى ذلك: 1 - الرد على الرافضة، فأثار الرافضة ضده- (الرافضة هم الشيعة) 2 - الرد على المعطلة، والمعطلة هم المعتزلة، فأثار المعتزلة ضده. وكتب كتبا كثيرة متعددة، أثارت جدلا ونقاشا، وثورة فكرية فى المجتمع الإسلامي، ومن الكتب التي لها صلة بكتابنا الذي نقدمه الآن كتاب: (الفروق ومنع الترادف). وفكرة الكتاب تقوم على أن الترادف غير موجود فى اللغة العربية، فليس هناك لفظتان بمعنى واحد، وهذا رأى يخالفه فيه كثيرون، وليس هو الرأى العادى، ولم يبال الترمذى بما يشيع عنه الناس، وإنما كتب فى ذلك مبرهنا، ممثلا، فاثار بذلك أيضا جدلا فى الأوساط اللغوية. والكتاب الذى نقدمه هو تفسير للقرآن فى زاوية خاصة جدا هى زاوية بيان أن القرآن خال من المترادفات، وان كل كلمة فيه لها أصلها اللغوى الذى يختلف عن الأصل اللغوى للكلمات التى تشابهها. وطريقته: إن يأتى بالأصل اللغوى للكلمة ثم يورد ما يمكن أن يكون فى تيارها من كلمات قريبة المعنى منها، مبينا الفرق ولو كان يسيرا. ولقد أتى من أجل ذلك بمجموعة من المصطلحات القرآنية، وأخذ فى تفسيرها وبيان أصلها وما تختلف به عما يشابهها من الكلمات وحديثنا النظرى

هذا عن الكتاب يوضحه الأمثلة التى نوردها وهاك نموذجا من تفسيره يقول: 1 - المال: وإنما صار الخير فى هذا المكان «المال» لأنه خير الدنيا ونعيمها، فالاختيار واقع عليه ولذلك سمى (خيرا). 2 - الايمان والإسلام: وانما سمى الخير «الإسلام والايمان» فى مكان آخر: لأنه مختاره للآخرة. 3 - الوفاء والإمامة: إنما صار الخير: الوفاء والإمامة فى مكان آخر. فذاك لاختيار الله اياه. 4 - السعة والغنى: وإنما صار الخير «السعة والغنى» فى مكان آخر فذاك مختاره للدنيا. 5 - السرور: وإنما صار الخير «السرور» فى مكان آخر: لأنه مختاره على الأشياء. أ. هـ. ونموذج آخر من تفسيره: يقول: «الهدى» فقد جاءت على ثمانية عشر وجها. فالحاصل من هذه الكلمة: كلمة واحدة فقط، وذلك ان الهدى: هو الميل، ويقال فى اللغة: رأيت فلانا يتهادى فى مشيته، أى يتمايل. ومنه قوله تعالى: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ (سورة الاعراف الآية رقم 156) أى ملنا اليك، ومنه سميت الهدية: هدية: لأنها تميل بالقلب الى مهديها. وأن القلب امير على الجوارح، فاذا هداه الله لنوره، أى اماله إليه لنوره: اهتدى، أى: استمال، وقد قال فى تنزيله. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ (سورة النور الآية 35) فهذا أصل الكلمة، ثم وجدنا تفسير الهدى: 1 - البيان: فانما صار الهدى بيانا فى ذلك المكان، لأن البيان اذا أوضح على القلب بنور العلم: مد ذلك النور القلب إلى ذلك الشيء وأماله إليه. 2 - الاسلام: وانما صار الهدى فى المكان الآخر (الإسلام) لأنه اذا

مال القلب بذلك النور الى ذلك الشيء الذى تبين له: انقاد العبد وأسلم ومد عنفا إلى قبوله. 3 - التوحيد: وانما صار الهدى التوحيد فى المكان الآخر، لأنه إذا مال القلب إلى ذلك النور سكن عن التردد، واطمأن إلى ربه فوحد. 4 - الدين: وانما صار الهدى «الدين» فى مكان آخر، لأنه إذا مال القلب إلى ذلك النور: دان الله، أى: خضع، والدين: هو الخضوع، ومنه قيل للشيء المتضع: «دون». 5 - الدعاء: وإنما صار الهدى فى مكان آخر «الدعاء» لأنه إذا دعا إلى الله بقلب مستنير: مالت القلوب إلى ذلك النور، لأن على ذلك الكلام نورا، لأنه خرج من قلب مستنير. 6 - بصيرة: وإنما صار الهدى «بصيرة» فى مكان آخر، لأنه إذا دعا الداعى بقلب ذى نور: ولج الكلام مع النور فى الاسماع فاستنارت الصدور من المستمعين، فابصرت عيون نفوسهم، وهى بصائرها، فتلك بصيرة النفس، فان للفؤاد بصرا، وللنفس بصيرة كلاهما بصيران فى الصدر، لأن الصدر: ساحة القلب، وساحة النفس، وقد اشتركا فى هذه الساحة، ومنه تصدر الأمور، ولذلك سمى صدرا لأنه مصدر الأمور، والأعمال منه تصعد إلى الاركان: ما دبر القلب، وما دبرت النفس، اتفقا، أو اختلفا فتنازعا. فالاركان لأيهما غلب بجنوده، فإذا كانت النفس ذات بصيرة: بايعت القلب فى الحق والصواب الذى هو كائن من القلب، لأن فى القلب المعرفة: والعقل معها، والحفظ معها، والفهم معها، والعلم معها، فهؤلاء كلهم حزب واحد، فاذا كانت النفس ذات بصيرة: تابعت القلب وجنوده، واذا عميت: فانما تعمى لغلبة الشهوات ... ودخان الهدى، نازعت القلب بجنودها، فغالب ومغلوب، وذلك قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم. حدثنا بذلك عمر بن أبى عمر العبدى، قال حدثنا محمد بن الوعيى، قال حدثنى يعلى بن الاشدق الطائفي، قال سمعت عمى عبد الله بن جراد

يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: (ليس الأعمى من يعمى بصره، انما الأعمى من تعمى بصيرته). ومن قوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (سورة القيامة الآية 14) فكل آدمى على بصيرة، فما دام لا تغلب على بصيرته الشهوات فهو مستقيم، فاذا غلبت الشهوات عليها عميت، فاذا عميت استمرت لشدتها وتجلب على القلب شدتها حتى يتابعها القلب، فاذا تابعها عمى القلب، قال الله تبارك اسمه: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ (سورة الحج الآية 46). 7 - المعرفة: وانما صار الهدى المعرفة فى مكان آخر، لأنه إذا استنار الصدر: انشرح وانفسح، فعرف القلب ما يأتى وما يذر، فى ذلك الضوء. 8 - القرآن: وانما صار الهدى «القرآن». 9 - والرسول: فى مكان آخر، لأن القلب اذا عقل ما فى القرآن مال إلى ما فيه من الأمر والنهى والوعظ. 10 - الرشد: وانما صار الهدى «الرشد». 11 - والصواب: فى مكان آخر، لأنه إذا مال القلب إلى ذلك النور فقد رشد. 12 - التقوى: وانما صار الهدى «التقوى» لأنه اذا مال القلب إلى ذلك النور فقلبه صار فى الوقاية، والتقوى هى الوقاية من النار. 13 - التوفيق: وانما الهدى «التوفيق» لأنه اذا مال القلب إلى ذلك النور وفقه الله للصواب. 14 - التوبة: وانما صار الهدى «التوبة» لأنه اذا مال القلب إلى ذلك النور. تاب، والتوبة هى الرجوع إلى الله.

15 - الممر: وانما صار الهدى «الممر» لأنه الممر طريق العباد إلى الله، فاذا مال القلب إلى ذلك النور، فقد أصاب الممر. فمرجع هذه الأشياء التى حيرت وجوها ذات شعب: الى كلمة واحدة .. لأن الهدى: هو ميل القلب إلى الله بذلك النور الذى أشرق به الصدر فانشرح وانفسح وهو قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه). هذه الأصالة الفكرية وهذه السعة فى المعارف، وهذه الجرأة فى اعلان ما يرى أنه الحق هى التى اطلقت على أبى عبد الله الترمذى: الحكيم، وهذا الوصف يميزه عن الامام الترمذى المحدث الكبير، ولكنها هى نفسها التى عرضته لفتنة أثارها اعداؤه وحاسدوه. ان الله سبحانه وتعالى يقول: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا (سورة الأنعام الآية 112). ولم يكن للترمذى عدو واحد، وانما كان له أعداء من الرافضة ومن المعطلة ومن المحدثين ومن الفقهاء وقد اثر هؤلاء على العامة، فكان له أعداء من العامة أيضا والناس على دين ملوكهم، أما الناس هنا فهم العامة، وأما ملوكهم فهم أصحاب الأقلام والألسنة. ولكن العجب العجاب أنه أيضا تعرض للاضطهاد من الصوفية أنفسهم. ولكن الحق الذي تقوله: أنه لم يخل من المسئولية فى ذلك فإنه هاجم دون رفق أو هوادة أو مجاملة كل انحراف: انظر إليه يقول عن الصوفية: تمل للمفتونين (بعض الصوفية) يقول لكم محمد بن على (هو الحكيم نفسه) حرام على قلوبكم الوصول إلى منار القرية حتى تؤدوا الفرائض على

ما وصفت، ثم حرام على قلوبكم بعد ذلك درجات الوسائل، حتى تميتوا مشيئاتكم، ثم حرام على قلوبكم بعد ذلك الدرجة العظمى فى ملك الملوك بين يديه حتى تنقطع عن قلوبكم مشيئة الوصول إليه. وتالب عليه جميع اعدائه فاخذوا يتهمونه (وهو الصوفى العالم الحكيم) بهم لا تخطر له على بال، حتى رموه فى النهاية بالزندقة. وأخذ الحكيم الترمذى الى الوالى وتحدث اليه الوالى فوجد عقلا وحكمة. ولكنه من جانب آخر وجد هياجا شديدا ضد الحكيم، ماذا يصنع؟ انه أخذ على الحكيم تعهدا أن لا يتحدث فى الحب وكان الحديث فى الحب من التهم التى اتهموه بها، ولم تسكن الفتنة، فاخرج الحكيم من ترمذ فسافر الى بلخ فكرمه أهلها وقدروه واعتزوا به. وهدأت الفتنة فى ترمذ وعاقب الله تعالى كل من أساء اليه فعاد الى ترمذ معززا مكرما ومات بها سنة 320 هـ- على ارجح الاقوال.

شيخ الحنفية ببغداد الجصاص وتفسيره

شيخ الحنفية ببغداد الجصاص وتفسيره أبو بكر أحمد بن على الرازى- شيخ الحنفية ببغداد الذى انتهت اليه رئاسة المذهب فى زمانه. عاش الرازى فى عصر ازدهر فيه العلم وكثرت فيه العلماء فى فنون العلم المختلفة وظهر ذلك واضحا فيما انتجته قرائح علماء هذا العصر من تراث كبير ما زال المعين الفياض الذى يفيض على المجتمع الانسانى بما يعود عليه بالنفع فى دينه ودنياه. وقد لقب بالرازى والجصاص نسبة الى العمل بالجص- ولد الرازى سنة خمس وثلاثمائة للهجرة، وشب على طلب العلم والسعى فى تحصيله وشد الرحال اليه فى أشهر مواطنه. حيث دخل بغداد سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ثم انتقل منها الى الاهواز ليلتقى بمن فيها من علماء العصر. ويواصل الجصاص الرحلة فيعود الى بغداد مرة أخرى ومنها يخرج الى نيسابور مع الحاكم النيسابورى وكان ذلك برأى شيخه الكبير أبو الحسن الكرخى. وقد عاد الجصاص من نيسابور الى بغداد سنة أربع وأربعين وثلاثمائة بعد أن مات شيخه الكرخى وقد أفاد الجصاص من الرحلة الى الذين تلقى وروى عنهم من أمثال أبى الحسن الكرخى- آنف الذكر- وأبى العباس الاحيم

مؤلفاته

النيسابورى وعبد الله بن جعفر بن فارس الأصبهاني، وعبد الباقى بن قانع القاضى وسليمان بن أحمد الطبرانى وغيرهم الكثير- لقد أفاد الجصاص منهم علما وسلوكا تمثل فى طهره وعفافه وزهده وورعه وصيانته. مؤلفاته :- وقد كان من ثمار الرحلة لطلب العلم والجد فى تحصيله تلك الثروة الضخمة التى تركتها لنا قريحة هذا العالم الفذ والتى من أشهرها هذه المصنفات الجليلة: أحكام القرآن شرح مختصر شيخه أبى الحسن الكرخى شرح مختصر الطحاوى شرح الجامع محمد بن الحسن شرح الاسماء الحسنى كتاب فى أصول الفقه جوابات عن مسائل وردت عليه أدب القضاء وكثيرا ما ترى الحصاص مذكورا فى المصنفات المشهورة فيذكر صاحب الطبقات السنية فى طبقات الحنفية نقلا عن صاحب «الغنية» عن أبى بكر جواهر زادة فى مسالة اذا وقع البيع بغبن فاحش قال:- ذكر الجصاص وهو أبو بكر الرازى فى واقعاته أن للمشترى أن يرد وللبائع أن يسترد. وذكر أيضا قول الشيخ جلال الدين فى «المغنى فى أصول الفقه» فى الكلام فى الحديث المشهور قال: قال الجصاص: أنه أحد قسمى المتواتر ...

منصب قضاء القضاة

منصب قضاء القضاة : ولما ذاع صيت الجصاص وظهر للناس علمه وعرفوا قدره وحسن سيرته وتحليه بالزهد والورع خوطب فى تولى منصب قضاء القضاة ولكنه أبى وتعفف عن قبول هذا المنصب الخطير. وقد نقل صاحب الطبقات السنية فى ذلك. حدث أبو بكر الابهرى قال: خاطبنى المطيع على قضاء القضاة وكان السفير فى ذلك أبو الحسن بن أبى عمرو الشرابى فأبيت عليه وأشرت بأبى بكر أحمد بن على الرازى. فأحضر للخطاب على ذلك، وسألنى أبو الحسن بن أبى عمرو معونته عليه فخوطب فامتنع، وخلوت به فقال لى: تشير على بذلك؟ فقلت: لا أرى لك ذلك .. ثم قمنا الى بين يدى أبى الحسن بن أبى عمرو، وأعاد خطابه، وعدت الى معونته فقال لى: أليس قد شاورتك فأشرت على أن لا أفعل؟ فوجم أبو الحسن بن أبى عمرو من ذلك، قال: تشير علينا بانسان ثم تشير عليه الا يفعل .. قلت: نعم، إمامى فى ذلك مالك بن أنس، أشار على أهل المدينة أن يقدموا نافعا القارئ فى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأشار على نافع أن لا يفعل، فقيل له فى ذلك. فقال: أشرت عليكم بنافع، لانى لا أعرف مثله، وأشرت عليه أن لا يفعل لانه يحصل له اعداء وحساد فكذلك أنا أشرت عليكم به لانى لا أعرف مثله وأشرت عليه أن لا يفعل لانه أسلم لدينه. تلاميذ الجصاص : وقد كثر تلاميذ الرازى كثرة فائقة وانتفع بعلمه الكثيرون وانتهت الرحلة اليه حيث جمع مآثر من تقدمه فى العلم والورع والزهد والصيانة، ومن أشهر هؤلاء الذين أخذوا عنه وانتفعوا به:

تفسير الجصاص «أحكام القرآن»

أبو بكر أحمد بن موسى الخوارزمى، وأبو عبد الله محمد بن يحيى الجرجانى شيخ القدورى، وأبو الفرج أحمد بن محمد بن عمر المعروف بابن المسلمة وأبو جعفر محمد بن أحمد النسفى، وأبو الحسن محمد بن أحمد الزعفرانى، وأبو الحسن بن محمد بن أحمد بن الطيب الكعارى والد اسماعيل قاضى واسط وغيرهم. تفسير الجصاص «أحكام القرآن» . يعتبر هذا السفر الذى تركته قريحة الجصاص من أجمع الكتب التى تناولت أحكام القرآن بصورة مفصلة أفاد منها غيره ممن جاء بعده وكتب فى هذه الاحكام من أمثال الكبا الهرامى وابن عربى والقرطبى صاحب التفسير المشهور «الجامع لاحكام القرآن». والكتاب يجمع هذه الاحكام فى أبواب مرتبه تجمع شمل الآيات التى تتناول قضية أو حكما عاما يفصل الكلام عليها تفصيلا مشفوعا بأقوال العلماء وقرائهم واستنكاراتهم ونظرة سريعة فى سورة النساء تريك صدق ما نقول عن هذا التبويب الفريد، ففي مطلع السورة وما بعده تجد هذه الابواب. باب دفع أموال اليتامى باعيانها ومنعه الوحى من استهلاكها. باب تزويج الصغار باب هبة المرأة المهر لزوجها باب دفع المال الى السفهاء باب دفع المال إلى اليتيم باب أكل ولى اليتيم من ماله- الى غير ذلك من الابواب .. نموذج من أحكام القرآن فى باب الامتنان بالصدقة يذكر الحصاص جمله من الآيات يجمع شملها هذا الباب هى قوله تعالى:

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً» الآية وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ». وقوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً» (سورة البقرة الآية 262 و 264 و 263) وقوله تعالى: «وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ». (سورة الروم الآية 39) ثم يقول الجصاص بعد ذكر هذه الآيات: «أخبر الله تعالى فى هذه الآيات أن الصدقات اذا لم تكن خالصة لله عارية من منّ واذى فليست بصدقه لان ابطالها هو احباط ثوابها، فيكون فيها بمنزلة من لم يتصدق، وكذلك سائر ما يكون سبيله وقوعه على وجه القربة الى الله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (سورة محمد الآية 33) وقال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ (سورة البينة الآية 5) [فما لم يخلص لله تعالى من القرب فغير مثاب عليه فاعله ونظيره أيضا قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (سورة الشورى الآية 20)

ومن أجل ذلك قال اصحابنا: لا يجوز الاستئجار على الحج وفعل الصلاة وتعليم القرآن وسائر الافعال التى شرطها أن تفعل على وجه القربة. لان أخذ الاجر عليها يخرجها عن أن تكون قربة لدلائل هذه الآيات ونظائرها وروى عن الحسن فى قوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى قال: هو المتصدق يمن بها فنهاه الله عن ذلك وقال ليحمد الله اذ هداه للصدقة وعن الحسن فى قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ (سورة البقرة الآية 265] قال يتثبتون اين يضعون اموالهم. وعن الشعبى قال: تصديقا ويقينا من انفسهم وقال قتادة: ثقة من أنفسهم، والمن فى الصدقة: أن يقول المتصدق قد أحسنت إلى فلان وأغنيته- فذلك ينقصها على المتصدق بها عليه والاذى قوله: انت ابدا فقير: وقد بليت بك وأراحني الله منك .. ونظيره من القول الذى فيه تعبير له بالفقر فقال تعالى: «قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى» يعنى والله أعلم- ردا جميلا ومغفرة قيل فيها ستر الحالة على السائل. وقيل العفو عمن ظلمه خير من صدقة يتبعها اذى لانه يستحق الماثم بالمن والأذى ورد السائل بقول جميل فيه السلامة من المعصية. فأخبر الله تعالى أن ترك الصدقة برد جميل خير من صدقة يتبعها اذى وامتنان وهو نظير قوله تعالى: «واما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ..

الحاكم النيسابورى وتفسيره

الحاكم النيسابورى وتفسيره فى حوالى ثلاثمائة وعشرين صحيفة من القطع الكبير جدا جمع الحاكم فى كتابه النفيس المستدرك ما صح عنده من التفسير بالمأثور. والحاكم هو أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد، وعرف بالحاكم لتوليه القضاء، ولد سنة (321 هـ) وقد عنى أبوه بتربيته عناية فائقة، فأخذ فى الدرس من زمن مبكر جدا من حياته، وواصل الليل بالنهار، وبلغ فى العلم مبلغا عظيما. قال ابن قاضى شهبة:- «طلب العلم فى صغره، وأول سماعه سنة ثلاثين، ورحل فى طلب الحديث، وسمع على شيوخ يزيدون على ألفى شيخ، وتفقه على ابن أبى هريرة، وأبى سهل الصعلوكى وغيرهم». أخذ عنه الحافظ أبو بكر البيهقى فأكثر عنه، وبكتبه تفقه وتخرج، ومن بحره استمد، وعلى منواله مشى. ويذكر صاحب الشذرات: أنه كتب عن نحو ألفى شخص، وحدث عن الاصم، وعثمان بن السماك، وطبقتهما، وقد درس القراءات وعنى بها عناية فائقة، ولم يدرسها نظريا فحسب وانما قراه بالفعل على جماعة كثيرة من مشاهير أئمة القراءات. أما تصانيفه فانها كثيرة، بل هى من الكثرة بحيث يقول المؤرخون عنه: «بلغت تصانيفه ألفا وخمسمائة جزء»، ويلاحظ أنهم لم يقولوا: ألفا وخمسمائة كتاب، وانما ألفا وخمسمائة جزء، ماذا كان حجم الجزء.؟ والذى لا شك فيه أنه كان من المكثرين فى التأليف المستفيضين فى الدراسة، ويقول عنه صاحب الشذرات:-

وصنف التصانيف الكثيرة، ويقول ابن ناصر الدين «له مصنفات كثيرة». وكان للحاكم تلاميذ، وفتن به كثيرون، انظر الى صاحب الشذرات يقول: وانتهت إليه رئاسة الفن بخراسان لا بل بالدنيا. أما عبد الغافر فقد أطنب- كما يقول ابن شهبة- فى مدحه وذكر فضائله وفوائده ومحاسنه الى أن قال:- مضى الى رحمة الله ولم يخلف بعده مثله. ويقول عنه أحد مؤرخيه: أحد أركان الاسلام، وسيد المحدثين وامامهم فى زمنه، والرجوع اليه فى هذا الشأن وقدمه الراسخة كانت فى فن الحديث وقد وثقه الكثيرون، ويقول الخطيب البغدادى عنه:- كان ثقة، ويقول ابن عماد: «وهو ثقة حجة». وقال عنه ابن ناصر الدين:- «وهو صدوق من الاثبات» وهكذا يقولون عنه ويعبرون عن ثقتهم فيه، ولكنهم يعودون فيقولون مثلا:- وكان يميل الى التشيع، أو: «وكان فيه تشيع» «ابن عماد» هكذا. كيف يكون ثقة ويتهم بالتشيع فى آن واحد مع آن واحد مع المحدثين ينأون عن كل ذى نزعة أو عصبية، إن الامام الذهبى يقف معتدلا فى وجه المفتونين بالحاكم ويقف موضحا الامر فى رمى الحاكم بالتشيع فيفسر الامر تفسيرا معقولا، ويضع كل شىء فى موضعه المستقيم، قال الذهبى: هو معظم الشيخين بيقين ولذى النورين، وانما تكلم فى معاوية فاوذى،

قال:- وفى المستدرك جملة وافرة على شرطهما، وجملة وافرة على شرط أحدهما لكن مجموع ذلك نصف الكتاب وفيه نحو الربع مما صح سنده وفيه بعض الشيء معلل وما بقى وهو الربع مناكير وواهيات لا تصح، وفى ذلك بعض موضوعات قد علمت عليها لما اختصرته. وهذا الرأى للذهبى يضع كتاب «المستدرك» فى وضعه الصحيح ويبين أن الحاكم لم يكن شيعيا، وإنما كان يحب عليا وكان حبه لعلى كرم الله وجهه ورضى الله عنه قد ملك عليه شعوره فتحدث عن معاوية باحاديث لا ترضى أنصاره فوصف لذلك بالتشيع أو بالميل الى التشيع، وليس ذلك من التشيع فى شىء فكثير من أهل السنة وكثير من المؤرخين منهم يقولون بما يقول به الحاكم وليسوا من التشيع من شىء، ولان الحاكم لم يكن شيعيا فانهم وصفوه بأنه حجة ثقة وقد توفى الحاكم فجأة عقب خروجه من الحمام فى صفر سنة 405 هجرية، توفى مستحما طاهرا رحمه الله رحمة واسعة. والآن نورد بعض النماذج من تفسيره: يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ قال:- حدثنا يحيى بن العلاء عن عمه شعيب بن خالد عن سماك بن حرب، وقرا: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. (سورة آل عمران الآية 5) فقال حدثنى عبد الله بن عميرة عن العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه قال:- «كنا جلوسا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى البطحاء فمرت سحابة فقال:

أتدرون ما هذا قلنا الله ورسوله أعلم، فقال: السحاب، فقلنا: السحاب، فقال: والمزن، فقلنا والمزن فقال: والعنان، فقلنا: والعنان ثم قال أتدرون كم بين السماء والأرض فقلنا: الله ورسوله اعلم قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة ومن كل سماء الى السماء التى تليها مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله، كما بين السماء والارض ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين ركبهم وأظلافهم كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك ليس يخفى عليه من أعمال بنى آدم شىء. ونموذج آخر: يقول الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ سورة آل عمران الآية 96] قال: «عن خالد بن عرعرة قال سأل رجل عليا رضى الله تعالى عنه أول بيت وضع للناس للذى بمكة مباركا أهو أول بيت بنى فى الأرض قال: لا، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة والهدى ومقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا وإن شئت انباتك كيف بناه الله عز وجل، ان الله أوحى الى إبراهيم أن ابن لى بيتا فى الأرض فضاق به ذرعا فأرسل الله اليه السكينة وهى ريح حجوج لها رأس فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت ثم تطوقت الى موضع البيت تطوق اليه، فبنى إبراهيم فكان يبني هو سائقا كل يوم حتى اذا بلغ مكان الحجر قال لابنه ابغنى حجرا فالتمس تمة حجر ثم أتاه به فوجد الحجر الاسود قد ركب فقال: له ابنه من أين لك هذا قال: جاء به من لم يتكل على بنائك جاء به جبريل عليه السلام من السماء فاتمه .. ونموذج ثالث:- يقول الله تعالى: «وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً

وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» (سورة الأعراف الآية 163) يقول:- حدثنا ابن جريح عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس رضى الله عنهما وهو يقرأ فى المصحف قبل أن يذهب بصره وهو يبكى فقلت ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداك؟ فقال هل تعرف ايلة قلت وما ايلة قال قرية كان بها ناس من اليهود فحرم الله عليهم الحيتان. يوم السبت فكانت حيتانهم تأتيهم يوم سبتهم شرعا بيضاء سمانا كامثال المخاض بأفنائهم وابنياتهم فاذا كان فى غير يوم السبت لم يجدوها ولم يدركوها الا فى مشقة ومئونة شديدة فقال بعضهم لبعض أو قال ذلك منهم لعلنا لو اخذناها يوم السبت وأكلناها فى غير يوم السبت ففعل ذلك أهل بيت منهم فاخذوا فشووا فوجد جيرانهم ريح الشوى فقالوا والله ما نرى إلا اصاب بنى فلان شىء فاخذها آخرون حتى فشا ذلك فيهم وكثر فافترقوا فرقا ثلاثا فرقة أكلت وفرقة نهت وفرقة قالت لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا فقالت الفرقة التى نهت انما نحذركم غضب الله وعقابه أن يصيبكم بخسف أو قذف أو ببعض ما عنده من العذاب والله لا نبيت فى مكان أنتم فيه وخرجوا من السور فغدوا عليه من الغد فضربوا باب السور فلم يجبهم أحد فاتوا بسبب فاسندوه إلى السور ثم رقى منهم راق على السور فقال يا عباد الله قردة والله لها أذناب تعاوى ثلاث مرات ثم نزل من السور ففتح السور فدخل الناس عليهم فعرفت القردة أنسابها من الانس ولم يعرف الأنس أنسابهم من القردة قال: فيأتى القرد إلى نسيبه وقريبه من الأنس فيحتك به ويلصق ويقول الإنسان أنت فلان فيشير برأسه أى نعم ويبكى وتأتى القردة إلى نسيبها وقريبها من الأنس فيقول لها أنت فلانة فتشير برأسها أى نعم وتبكى فيقول لهم الأنس أما إنا حذرناكم غضب الله وعقابه أن يصيبكم بخسف أو مسخ أو ببعض ما عنده من العذاب قال ابن عباس فاسمع الله يقول فأنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا

بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فلا أدرى ما فعلت الفرقة الثالثة، قال ابن عباس فكم قد رأينا من منكر فلم ننه عنه قال عكرمة فقلت ما ترى جعلنى الله فداك انهم قد انكروا وكرهوا حين قالوا: «لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً» (سورة الاعراف الآية 144) فأعجبه قولى ذلك وأمر لى ببردين غليظين فكسانيهما.

الامام السلمى وتفسيره

الامام السلمى وتفسيره مؤلف هذا التفسير: محمد بن الحسين بن موسى الأزدى أبو عبد الرحمن السلمى جدا، النيسابورى بلدا. كان شيخ الصوفية، وعالمهم بخراسان، ذكره الحافظ عبد الغافر فى السياق فقال: شيخ الطريقة فى وقته، الموفق فى جميع علوم الحقائق، ومعرفة طريق التصوف، وصاحب التصانيف المشهورة العجيبة فى علم القوم، وقد ورث التصوف عن أبيه وجده، وجمع من الكتب ما لم يسبق إلى ترتيبه، حتى بلغ فهرست تصانيفه المائة أو اكثر. وكان من المشتغلين بعلم الحديث، سمع من أبى العباس الأصم، وابن فارس العمرى البلخى، والحافظ ابى على الحسين بن محمد النيسابورى وغيرهم من كبار المحدثين .. وروى كثيرا من مسموعاته، وممن روى عنه من الأئمة: الحاكم أبو عبد الله، وأبو القاسم القشيرى، وأبو صالح المؤذن، وكثيرون وقد وثقه فى الحديث علماء اجلاء منهم الخطيب البغدادى والتاج السبكى وغيرهما، يقول الخطيب: قدر أبى عبد الرحمن عند أهل بلده جليل، وكان مع ذلك محمودا صاحب حديث ... ويقول التاج: أبو عبد الرحمن ثقة، ولا عبرة بالكلام فيه .. وقد كان للسلمى بيت كتب جمع فيه من الكتب ما لم يسبق إلى ترتيبه من ذخائر المحدثين والصوفية، وكان يخلو بهذا البيت ينقطع فيه للقراءة والتأليف.

وكان شيوخ نيسابور يستعيرون منه بعض ما يحتاجون إليه من هذه الذخائر، فيعيرهم إياه .. وقد ابتدأ أبو عبد الرحمن التصنيف سنة نيف وخمسين وثلاثمائة، وهذا معناه أن أباه عبد الرحمن ظل يؤلف قريبا من بضعة وخمسين عاما .. وقد اشتهر أبو عبد الرحمن بأنه نقّال الصوفية، وراوى كلامهم، وممن له العناية التامة بتوطئة مذهب المتصوفة وتهذيبه على ما بينه الأوائل. ولقد كان مدققا فى تعبيره عن مذهب الصوفية، واختباره لمن سبقه. بمثل هذا المذهب من الشيخ، فالإمام الكامل، الفقيه الأصولي المفسر الأسفرايني الذي اشتهر بالدفاع القوى عن مذهب أهل السنة والرد على البدع وعلى كل ما يخالف مذهب أهل السنة: يقول فى كتابه «التبصير فى الدين»: سادس ما امتاز به أهل السنة هو: علم «التصوف» والاشارات وما لهم فيها من الدقائق والحقائق، لم يكن قط لاحد من «أهل البدعة» فيه حظ، بل كانوا محرومين مما فيه من الراحة والحلاوة، والسكينة والطمأنينة، وقد ذكر ابو عبيد الرحمن السلمى من مشايخهم قريبا من ألف، وجمع اشاراتهم وأحاديثهم. ولم يوجد فى جملتهم قط من ينسب إلى بدع «القدرية» و «الروافض» و «الخوارج». وكيف يتصور فيهم من هؤلاء، وكلامهم يدور على التسليم والتفويض من النفس، والتوحيد بالخلق والمشيئة. وأهل البدع ينسبون الفعل والمشيئة، والخلق والتقدير، إلى انفسهم وذلك بمعزل عما عليه أهل الحقائق من التسليم والتوحيد. ولد على المشهور- فى رمضان سنة ثلاثين وثلاثمائة، وقيل: سنة خمس وعشرين وثلاثمائة .. وكان والده شيخا، ورعا، زاهدا، دام المجاهدة، له القدم فى علوم

المعاملات، وحينما توفى قام جده لأمه وكان واسع الثراء- على رعايته، فما أن توفى حتى آل إليه من ثروته ما مكنه من التفرغ للكتابة والتأليف، وكانت تصانيفه مقبولة، حبيبة إلى الناس، تباع بأغلى الأثمان. وفى أخريات أيامه ابتنى للصوفية خانقاه صغيره، كانت مشهورة فى نيسابور وفى ما جاورها أو بعد عنها من أقاليم مملكة الاسلام، حتى أن الخطيب البغدادي حين ذهب إلى نيسابور زار هذه الدويرة التي كان يسكنها الصوفية يومئذ .. أما عن تفسيره فإن له طابعا خاصا هو طابع التفاسير الصوفية الخالصة، إن كل اتجاهه كان منحصرا فى جمع ما يتيسر من آراء الصوفية حول آيات من القرآن الكريم، وهو لذلك ليس تفسيرا مفصلا لكل آية من آيات القرآن الكريم، وليس تحليلا لفظيا أو بيانا لحكم شرعي. وهو لذلك يمثل فهمّا خاصا لقوم مخصوصين فيما يتصل بتفسير القرآن الكريم، أو الحديث عن بعض الفهوم المستنبطة منه. ومثل هذا المنهج فى التأليف قد لا يستسيغه من يقصر الفهم فى القرآن على ظاهر الآيات، ومن هنا كانت الحملة الشديدة العنيفة على هذا الكتاب، حتى لقد قال الذهبي ليته لم يصنفه. وإذا ما تاملنا فى سر هذه الحملة فإننا نجد أن أساسها لا يرجع إلى فساد ما نقله فى نفسه، وإنما إلى ربطه بالآية كفهم لها أو تعبير عن بعض ما تشير إليه. قال التاج السبكي: وكتاب حقائق التفسير المشار إليه قد كثر الكلام فيه، وقيل أنه اقتصر فيه على ذكر تأويلات ومجال الصوفية ينبو عنها ظاهر اللفظ. ولقد اطلعنا على الكتاب وهو مخطوط لم يطبع بعد ولكن توجد منه نسخ كثيرة ومنها فى مكتبة الأزهر وغيرها فوجدناها لا تخرج عن كلام الصوفية

المعتبرين فى فهم الآيات وتنزيلها على إشارات تتعلق بإصلاح السلوك واخلاص العبودية فضلا عما يدور بين الناس من معانيها الظاهرة. إن ما يقوله الصوفية حول آيات من القرآن الكريم إنما هو الهامات واشراقات بتوفيق الله رائعة، وهم فى هذا الميدان يسمون الهاماتهم: إشارات، يعنون بذلك أن الآيات القرآنية لها تفسير بحسب اللغة وأسباب النزول وحوادث التاريخ، وهو تفسير يتفاوت دقة وجمالا، ولكنه مع ذلك تفسير لا يستنفد كل ما تعطيه الآيات القرآنية من اشارات، وما يشع عنها من انوار، وما يتضوع عنها من عبير طيب، وينبغى علينا أن نلاحظ أن هذه الاشارات لا تهدف فى قليل ولا فى كثير إلى أن تحل محل التفسير المألوف كما أن هذه الاشارات لا تتعارض مع التفسير المالوف. انها اشارات وليست تفسيرا، ومن أجل ذلك فإنه لا تعارض بين الصوفية والمفسرين. ونستطيع أن نقول: ان نقد الكتاب إنما يتجه لو كان مؤلفه يرى أن ما يقوله هو وحده الذى تفيده الآية. أما إذا اعتقد أن ما ذكره جهد يضاف إلى جهود، وتسليط للضوء على جانب من الجوانب التى تفيدها الآية، فإن النقد حينئذ يصبح غير ذى موضوع. وإليك نماذج من تفسيره لتتمكن من الحكم عليه على بصيرة: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ (سورة الأنفال الآية 27) قال أبو عثمان: من خان الله تعالى فى السر هتك ستره فى العلانية، قال بعضهم: فى هذه الآية خيانة الله تعالى فى الاسرار وحب الرئاسة وإظهار خلاف الاضمار، وخيانة الرسول عليه السّلام فى آداب الشريعة، وترك

السنن، والتهاون بها، وخيانات الأمانات، فى المعاملات والأخلاق، ومعاشرة المؤمنين فى ترك النصيحة لهم. وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ (سورة يونس الآية 57) قال ابن عطاء: الموعظة للنفوس، والشفاء للقلوب، والهدى للأسرار، والرحمة لمن هذه صفته. قال جعفر: شفاء لما فى الصدور، أى راجعة لما فى السرائر، قيل: شفاء المعرفة، والصفا، وقيل شفاء التوبة، وقيل: شفاء التسليم والرضا، ولبعضهم شفاء المشاهدة واللقاء.

متشابه القرآن للقاضى عبد الجبار بن أحمد الهمدانى

متشابه القرآن للقاضى عبد الجبار بن أحمد الهمدانى للمعتزلة نزعة معروفة محددة، إنها النزعة التى تحكم العقل له القياد. وهذا ظاهر فى كل ما يكتبون فى التفسير وفى التوحيد. ومن أهم الشخصيات التى توضح مذهبهم- والتى وجدت تآليفها رواجا وانتشارا: القاضى عبد الجبار. وقد كان لنشر كتابه: «المغنى» أثر كبير فى التعريف المستفيض بآراء المعتزلة وهو كتاب كبير اجتمع على تحقيق اجزائه الكثيرة طائفة من كبار المحققين فأخرجوه اخراجا متقنا. ولقد لقى القاضى عناية الكثيرين ممن يهتمون به، فنشر له كتاب: «الأصول الخمسة» وكتاب: «تنزيه القرآن عن المطاعن». ولقد ولد القاضى بخراسان، ولا نكاد نعرف عن حياته الأولى شيئا، ولكنه من غير ما شك تعلم على الطريقة التقليدية: الفقه والتفسير والتوحيد والعربية، وغير ذلك مما كان تقليدا فى زمنه. لقد خرج إلى البصرة، واختلف إلى مجالس العلماء. ولقد نشأ فى أسرة متواضعة، فنشأ فى تقشف وشظف من العيش ولكن نفسه الطموحة تمردت على ظروفه، فأبى إلا ان يتابع الطريق العلمى فى غير فتور أو ملل. وشاءت المقادير أن يتصل بالصاحب بن عباد، وكان الصاحب بن عباد ذا ميول شيعية وبين الشيعة والمعتزلة شبه كبير، وخاصة بين المعتزلة والشيعية الزيدية الذين تتلمذ أمامهم زيد على واصل بن عطاء رأس المعتزلة الأول.

كان تقدير الصاحب للمعتزلة كبيرا إلى درجة أنه ما كان يولى القضاء إلا من المعتزلة. كان القاضى عبد الجبار حينئذ صاحب شهرة عريضة، بل إنه بدأ يحتل مكان الرئاسة للمعتزلة فاستدعاه الصاحب إلى «الرى» واصدر له امرا يتولى رئاسة القضاء فى (الرى) (وقزوين) وغيرهما ثم ولاه اضافة إلى ذلك جرجان وطبرستان. وأتته الدنيا راغمة وكثر ماله وخدمه وحشمه، وما كان ذلك عن انحراف فى طريقه فقد كان مثلا كريما للعدالة والتحرى الدقيق فى الاحكام. أما تقدير الصاحب وحبه له فقد فاق كان وصف: لقد وصل به الأمر أن كان يقول عنه: افضل أهل الأرض. ويقول عنه: أعلم أهل الأرض. وما من شك أنه كان صاحب خلق فاضل، وصاحب علم عزيز. وبيما القاضى فى اوج الشهرة: إذا بالصاحب ينتهى أجله، ويذهب للقاء ربه. وهنا بدأت مشكلة فى غاية العمق تختلف فيها الأنظار فى كل زمن، وقد اختلفت فيها الأنظار اختلافا كبيرا إذا ذاك، ولعل الكثيرين يتفقون معنا فى انها تحتاج حقيقة إلى تامل. لقد أحسن الصاحب إلى القاضى كل الإحسان واحبه وقدره وغمره بالمال والمناصب ثم مات الصاحب ودعى القاضى للصلاة عليه وهنا وقف القاضى بين أمرين كلاهما مر أحدهما مبدؤه- مبدأ القاضى- وهو مبدأ الاعتزال، وهذا المبدأ يقتضى التوبة الصادقة لأن مرتكب الكبيرة فاسق فإذا لم يتب فلا صلاة عليه، هل يصلى عليه ويخالف فى ذلك مبدأه ويصغر فى عين نفسه ويصبح بمخالفته مبدأه مهرجا أو مزيفا.

أما الأمر الثانى: فهو الوفاء الذى يقتضيه الصلاة على الصاحب والشكر وعدم التنكر له بعد انتقاله إلى ربه وعدم نكران الجميل. المبدأ أو الوفاء. وآثر القاضى: المبدأ. ورفض الصلاة على الصاحب. وهنا ثار الناس عليه ثورة عارمة ورموه ينكران الجميل، وبعدم الوفاء، ونقم عليه فخر الدولة وقبض عليه، وعزله من منصبه وصادر امواله. أكان القاضى على حق، أكان مخطئا ذلك ما نتركه للقارئ. ولقد طال عمر القاضى حتى ليقول ابن الأثير: «وقد جاوز التسعين» ومات فى ذى القعدة سنة خمس عشرة وأربعمائة. والكتاب الذى نتحدث عنه هو كتاب: «متشابه القرآن» وعنوانه يدل على محتواه، فهو تفسير للآيات المتشابهة. والمتشابه يختلف الناس فى معناه ولكنهم مهما اختلفوا فإن القاضى عرض للآراء المختلفة فى المتشابه، والمتشابه- فيما يرى- هو الذى على صفة تشتبه على السامع من حيث خرج ظاهره على أن يدل على المراد به لشىء يرجع إلى اللغة أو التعارف، ويضرب القاضى مثالا لذلك: بقول تعالى:- إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ (سورة الأحزاب الآية 57) فإن هذه الكلمة القرآنية وما شاكلها ظاهرها محال على الله تعالى، فالمراد مشتبهه ويحتاج فى معرفته إلى الرجوع إلى غيره من المحكم.

وتفسير القاضى للمتشابه بهذا النحو يجعل دائرة المتشابه واسعة تشمل كل الآراء التى قيلت فى المتشابه. أما المحكم فهو الذى لا يحتمل إلا المعنى الظاهر فى أصل اللغة أو بالتعارف أو بشواهد العقل، وذلك نحو قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (سورة الإخلاص) ونحو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً (سورة يونس الآية 44) والكتاب مسائل، يعرض المؤلف الآية فى صورة مسألة، ويفسرها بما يتناسب مع الجو الإسلامى وخصوصا مع جو الاعتزال، ومن أمثلة ذلك ما يلى: مسألة قالوا: ثم ذكر تعالى بعد ذلك ما يدل على إنه خص المؤمن بالهدى دون غيره. فقال: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ (سورة البقرة الآية 213) والجواب عن ذلك: قد تقدم انا قد بينا أن تخصيصه المؤمن بأن هداه لا يدل على إنه لم يهد غيره، وإنما خصه، لانه الذى انتفع بالهدى دون غيره. «وبينا أنه قد يخص المؤمن بالهدى الذى هو بمعنى الثواب، أو طريقه

المؤدى إليه، إلا أن المراد فى هذا الموضع: الدلالة، ولذلك علق الهدى بالحق فما اختلفوا فيه. وقوله تعالى من بعد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (سورة النساء الآية 29 و 30) فدل تعالى على أن من يفعل أكل المال بالباطل وقتل النفس يدخله النار لا محالة وقد يوصف بذلك الفاسق من أهل الصلاة، كالكافر، فيجب حمل الآية على العموم، ومعقول من حال الكلام أنه يريد النهى عن أن يأكل بعضنا أموال بعض، والوعيد وارد عليه على الحد الذى وقع النهى. عنه، فليس لاحد أن يتعلق بذلك فاما قتل النفس فالنهى يتناول فيه أن يقتل بعضنا بعضا أو أن يقتل نفسه وكلاهما سواء فى صحة النهى فيهما، فإن حمل على الامرين ورد الوعيد عليهما جميعا. وإنما قال: العلماء إن المراد به: ولا يقتل بعضكم بعضا، من حيث ثبت أن الإنسان ملجأ إلى أن يقتل نفسه، فلا يصح وحاله هذه أن ينهى عن القتل، فيجب إذا صرف النهى إلى الوجه الثانى، والوعيد إنما ورد على هذا الحد. مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أنه هو الخالق لانصراف المؤمن عن اتباع الشيطان، فقال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا (سورة النساء الآية 83)

والجواب عن ذلك: ان ظاهره يقتضى انه لولا فضله لا قدمنا على المعصية، وليس فيه بيان ذلك الفضل، والمراد به الالطاف والتاييد وسائر ما يصرف المرء عن اتباع الشيطان والمعاصى، وبين تعالى أن ذلك الفضل لو لم يفعله لكان فيهم من لا يتبع الشيطان مبينا بذلك أن المعلوم من حال كثير منهم أنه يؤمن ويتصرف عن اتباع الشيطان وإن لم يلطف له، وهذا يصدق قولنا فى اللطف أنه قد يختص بمكلف دون مكلف. وإن حملت الكلام على أنه لولا فضله على الكل لا تبعوا الشيطان إلا قليلا منهم فإنهم مع فضله عليهم يتبعونه، فإنه يدل على مثل ما قدمناه فى أن اللطف قد يختص، وقد يختص، وقد يفعل بمكلفين فيكون لطفا لاحدهما دون الآخر، كما أن رفق الوالد بأحد ولديه قد يكون لطفا له فى التعليم، ولا يكون لطفا فى الآخر. وبعد: فإن هذا الكتاب فى غاية النفاسة إذا نظرنا إلى مذهب المعتزلة أما إذا نظرنا إلى مذهب أهل السنة، فإن فيه الكثير من التفانى، ولكن فيه أيضا، الكثير مما يمكن المناقشة فيه والجدل، وهو على كل حال كتاب للخاصة.

الإمام القشيرى وتفسيره لطائف الإشارات

الإمام القشيرى وتفسيره لطائف الإشارات يمثل الإمام القشيرى اتجاها خاصا فى العلوم الإسلامية، إنه الاتجاه الصوفى فى أدق مظاهره وأنقى صوره: اتباع للسنة، وكشف لدقائق الطريق، ورد لما نسب إلى التصوف من مظاهر، وما التصق به من رسوم .. والإمام القشيرى هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك زين الإسلام القشيرى نسبة إلى قبيلة بنى قشير العربية الأصيلة. ولد فى قرية من نواحى نيسابور ومات أبوه وهو صغير، فاتجهت اسرته نحو العلم، فسمع من كبار الشيوخ، وتلقى عن كثير من العلماء ومن أهم هؤلاء الذين أثروا فى تكوين شخصيته العلمية وحياته الفكرية ابن فروك وأبو إسحاق الأسفرائني وغيرهم. ثم ارادت المقادير أن يحضر درس: الأستاذ ابن على الدقاق، ليرى اخلاصا، ويرى تقوى، ويرى نورا يرتسم على وجهه، ويشرق من كلماته فينير قلوب السامعين، وبجذبهم إلى الله، وكانت فطرة القشيرى النقية على استعداد تام لسلوك الطريق، ورأى الإمام أبو على الدقاق فيه النجابة، فقبله فى زمرة مريديه، ثم اصطفاه فى زمرة أخصائه، وزوجه ابنته، مع كثرة أقاربها .. وتأثر القشيرى بالشيخ الدقاق، وكان ذا شخصية قوية فيما يتصل بالتصوف والصوفية، دقيق البحث عميق الفكرة، رائد السلوك، يقول المناوى عنه: كان لسان وقته، وإمام عصره، فارها فى العلم، محمود السيرة، مجهود السريرة، جنيدى الطريقة سرى الحقيقة، أخذ مذهب الشافعى عن القفال

والحصرى وغيرهما، وبرع فى الأصول وفى الفقه وفى العربية حتى شدت إليه الرحال فى ذلك، ثم أخذ فى العمل، وسلك طريق التصوف، وأخذ عن النصرآباذي .. قال ابن شهبة: (وزاد عليه حالا ومقالا، وعنه أخذ القشيرى صاحب الرسالة، وله كرامات ظاهرة ومكاشفات باهرة ... وكما استفاد القشيرى من أساتذته تأثر بمن عاصره من العلماء، كما أثر فيهم، ومن أشهر هؤلاء: (السلمى وأبى المعالى الجويني إمام الحرمين). وقد ألف الإمام القشيرى عددا من المؤلفات الهامة تدور فى مجملها حول التصوف، سواء أكان تحديدا لماهيته، أم فهما للقرآن على ضوئه، أو مناقشة للأمور التي تلازمه كالذكر ونحوه ... ومن أهم هذه المؤلفات: 1 - الرسالة القشيرية، كتبها المؤلف فى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة إلى جماعة الصوفية ببلدان الإسلام. كتبها تصحيحا لأوضاع كثيرة انحرفت، وبيانا لما ينبغى أن يكون عليه المريد الصادق. لقد كانت هناك جوانب كثيرة فى الاجواء التي تزعم أنها صوفية قد دب إليها الفساد، وسلك بعض المدعين مسالك لا تمت إلى الدين ولا إلى التصوف بصلة، كما هو الشأن دائما فى المدعين المزيفين الذين يوجدون فى كل عصر وفى كل ميادين، فأشفق الإمام القشيرى على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر- أى أمر التصوف- على هذه الجملة قد بنى قواعده، وعلى هذا النحو سار سلفه ... وقاده هذا الاشفاق إلى أن يكتب هذه الرسالة مبينا فيها جانبين: الجانب الأول: سيرة رجال التصوف وبعض أقوالهم، وذكر فى هذا الجانب كثيرا من أعلام الصوفية كنماذج يسير المريد على هديهم ... أما الجانب الثاني: فإنه مبادئ السلوك ومناهجه .. 2 - تفسيره المشهور: لطائف الاشارات «وسنتحدث عنه بالتفصيل».

3 - التيسير فى التفسير، مخطوط فى النهد ولندن. 4 - حياة الأرواح والدليل على طريق الصلاح والفلاح، مخطوط بالاسكوريال. 5 - المعراج وقد حققه الدكتور على حسن عبد القادر. 6 - شكابة أهل السنة، ذكرها السبكى فى طبقات الشافعية كاملة .. 7 - الفصول، وهو مخطوط بالقاهرة. 8 - الوحيد النبوى، مخطوط بالقاهرة. 9 - اللمع، مخطوط بالقاهرة. 10 - شرح أسماء الله الحسنى، وقد طبعه مجمع البحوث الإسلامية .. وهذه المؤلفات انما تدل على تمكن صاحبها من علوم الشريعة والحقيقة، ورعايته فى الحديث لما يقتضيه كل من العلمين، فلم يكن فى حديثه عن التصوف إلا معبرا عن الشريعة، ولم يكن فى حديثه عن الشريعة إلا موضحا لها ببعض المفاهيم الصوفية .. وانتهى الأمر بالقشيرى إلى أن أصبح كما يقول عنه الإمام عبد الغافر: الإمام مطلقا، الفقيه، المتكلم، الاصولي، المفسر، الاديب، النحوى، الكاتب، الشاعر لسان عصره، وسيد وقته، وسر الله بين خلقه، مدار الحقيقة، وعين السعادة، وقطب السيادة، من جمع بين الشريعة والحقيقة، كان يعرف الأصول على مذهب الاشعرى، والفروع على مذهب الشافعى .. ولقد ترجم له صاحب كتاب «دمية القصر» أبو الحسن الباخرزى فقال: جامع لأنواع المحاسن، تنقاد له صعابها ذلل المراسين، فلو قرع الصخر بصوت تخديره لذاب، ولو ربط ابليس فى مجلس تذكيره لتاب، وله فصل الخطاب فى فصل المنطق المستطاب، ماهر فى التكلم على مذهب الاشعرى، خارج فى احاطته بالعلوم عن الحد البشرى كلماته للمستفيدين فوائد وفوائد،

واعتاب منبره للعارفين وسائد ثم إذا عقد بين مشايخ الصوفية حبوته، ورأوا قربته من الحق وحظوته: تضاء لوا بين يديه، وتلاشوا بالإضافة إليه وطواهم بساطه فى حواشيه، وانقسموا بين النظر والتفكير فيه، وله شعر يتوج به رءوس معاليه، إذا ختمت به أذناب أماليه». وتوفى يوم الاحد فى السادس عشر من شهر ربيع الأول عام 465 هـ خمس وستين وأربعمائة بمدينة (نيسابور) ودفن بجوار شيخه أبى على الدقاق رحمهما الله رحمة واسعة. قدم الإمام القشيرى لتفسيره بمقدمة تشير إلى منهجه، وتبين طريقته فى تأليفه فقال: الحمد الله الذى شرح قلوب أوليائه بعرفانه، وأوضح نهج الحق بلائح برهان لمن أراد طريقه، وأتاج البصيرة لمن ابتغى تحقيقه، وأنزل الفرقان هدى وتبيانا على صفيه محمد صلّى الله عليه وسلم وعلى آله معجزة وبيانا، وأودع صدور العلماء معرفته وتأويله، وأكرمهم بعلم قصصه ونزوله، ورزقهم الإيمان بمحكمة ومتشابهه وناسخه، ووعده ووعيده، وأكرم الاصفياء من عباده بفهم ما أودعه من لطائف اسراره وأنواره، لاستبشار ما ضمنه من دقيق اشاراته، وخفى رموزه بما لوح لاسرارهم من مكنونات، فوقفوا بما خصوا به من أنوار الغيب على ما استتر عن أغيارهم، ثم نطقوا على مراتبهم وأقدارهم والحق سبحانه وتعالى يلهمهم بما به يكرمهم فهم به عنه ناطقون وعن لطائفه مخبرون وإليه يشيرون، وعنه يفصحون والحكم إليه فى جميع ما يأتون به ويذرون. وقال الإمام أبو القاسم القشيرى رحمه الله: وكتابنا هذا يأتى على ذكر طرف من اشارات القرآن على لسان أهل المعرفة اما من معانى مقولهم، أو قضايا أصولهم سلكنا فيه طريق الاقلال خشية الملال، مستجدين من الله تعالى عوائد المنة، متبرئين من الحول والمنة، مستعصمين من الخطإ والخلل، مستوفقين لاصوب القول والعمل ملتمسين أن

يصلى على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، ليختم لنا بالحسنى بمنته وافضاله، وتيسر الاخذ فى ابتداء هذا الكتاب فى شهور سنة اربع وثلاثين وأربعمائة، وعلى الله إتمامه إن شاء الله تعالى عز وجل. لقد بين فى هذه المقدمة أن كتابه إنما هو ذكر لطرف من اشارات القرآن على لسان أهل المعرفة، وهذه الاشارات دقيقة محكمة مختصرة، وهى وإن كانت تعبر عن الحقيقة فإنها لا تخالف الشريعة، فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول. إن هذا التفسير يمثل مرحلة أخرى فوق مرحلة التفسير العادى الذى يعتمد على قواعد اللغة وألوان العلوم التى يحتاج إليها المفسر .. إنه كشف لذوق، وإبراز لا حساس تحصل من المجاهدة، وساعد عليه فضل الله تعالى الذى فجر ينابيع الفهوم .. ومن هنا يعد مكملا لغيره من ألوان التفاسير لا مباينا لها، ويتعاون الجميع كل فى مجاله على فهم آيات القرآن الكريم. ومن نماذج هذا التفسير: قوله جل ذكره: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (سورة آل عمران الآية 146) «إن الذين درجوا على الوفاء، وقاموا بحق الصفاء، ولم يرجعوا عن الطريق وطالبوا نفوسهم بالتحقيق، وأخذوا عليها بالتضييق والتدقيق، وجدوا محبة الحق سبحانه ميراث صبرهم، وكان الخلف عنهم الحق عند نهاية أمرهم، فما زاغوا عن شرط الجهد، ولا زاغوا فى حفظ العهد، وسلموا

تسليما وخرجوا عن الدنيا وكان كل منهم للعهد مقيما مستديما، وعلى شرط الخدمة والوداد مستقيما .. » قوله جل ذكره: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (سورة الانفطار الآية 6) أى ما خدعك وما سول لك حتى عملت بمعاصيه؟ ويقال: سأله وكأنما فى نفس السؤال لقنه الجواب، يقول: غرنى كرمك بى ولولا كرمك لما فعلت، لأنك رأيت فسترت، وقدرت فأمهلت .. لا استحلالا له ولكن طول حلمه عنه حمله على سوء خصاله وكما قلت: يقول مولاى: أما تستحى ... مما أرى من سوء أفعالك قلت: يا مولاى رفقا فقد ... جرأنى كثرة أفضالك قوله جل ذكره: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ أى ركب أعضاءك على الوجوه الحكمية فى أى صورة ما شاء، من الحسن والقبح والطول والقصر، ويصح أن تكون الصورة هنا بمعنى الصفة وفى بمعنى على فيكون معناه: على أى صفة شاء ركبك: من السعادة أو الشقاوة، والإيمان أو المعصية» هذا وقد قام الدكتور إبراهيم بسيونى بجهد مشكور فى تحقيق هذا التفسير واخراجه على صورة طيبة حازت إعجاب الجميع، فشكر الله له جهده، ونفع بهذا التفسير ..

شيخ الشافعية ببغداد الكيا الهراس وتفسيره

شيخ الشافعية ببغداد الكيا الهراس وتفسيره الإمام شمس الإسلام عماد الدين أبو الحسن على بن محمد الطبرى المعروف بالكياالهراس الملقب: عماد الدين. «والكيا» بهمزة مكسورة ولام ساكنة، ثم كاف مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت معناه الكبير بلغة الفرس. «الهراس» براء مشددة وسين مهملة- قال ابن العماد فى الشذرات: (لا نعلم تبعيته لأي شىء) ولد الهراس خامس ذى القعدة سنة خمسين وأربعمائة للهجرة ونشأ طالبا للعلم جادا فى تحصيله ورحل فى سبيله إلى نيسابور فى الثامنة عشرة من عمره قاصدا ساحة العالم الجليل والإمام المشهور إمام الحرمين الذى كان حسن الوجه مليح الكلام فحصل طريقته وتخرج وصار من ائمة اصحابه، وبرز فى الفقه والأصول وغيرهما من العلوم، وأصبح من رءوس المعيدين فى الدرس- وكان هو وأقرانه- الغزالي والخوافي- أبرز تلاميذ إمام الحرمين وأنبغ من تخرج به. ومما يدل على جده فى تحصيل العلم وحفظه ما قاله عن نفسه: وكان فى مدرسة «سرهنگ» قناة لها سبعون درجة وكنت إذا حفظت الدرس انزل القناة وأعيد الدرس كل درجة فى الصعود والنزول، وكذا كنت افعل فى كل درس حفظته .. ». وقد واصل الهراس الرحلة إلى بيهق ودرس بها زمنا ثم تحول بعد ذلك إلى مدينة العلم وحاضرة العصر وموطن العلم والعلماء مدينة بغداد. وقد انتهى به الأمر فى هذه المدينة إلى ان تبوأ بها منزلة رفيعة فى العلم وشأنا عظيما بين العلماء حيث تولى التدريس بالمدرسة النظامية بها فى ذى الحجة سنة ثلاث وتسعين

وأربعمائة واستمر مدرسا بها إلى ان توفى فى أول شهر المحرم سنة أربع وخمسمائة للهجرة. مكانته وثناء العلماء عليه: لقد بلغ الهراس منزلة سامية ومحلا مرموقا فى العلم وبين العلماء وقد استفاض العلماء فى بيان مكانته والتعريف بمنزلته فقال عبد الغفار بن اسماعيل الفارس عنه: «الإمام البالغ فى النظر مبلغ الفحول». وقال السبكى عنه: أحد فحول العلماء ورءوس الأئمة فقها وأصولا وجدلا وحفظا لمتون احاديث الاحكام. وقال الاسنوى: كان اماما نظارا، قوى البحث، دقيق الفكر، ذكيا فصيحا، جهورى الصوت حسن الوجه جدا وكان فى مناظرته قوى الحجة بين الدلالة واضح الرأى له لطافة وعذوبة. يقول السبكى: وكانت فيه لطافة عند مناظرته، ربما ناظر بعض علماء العراق فأنشد: ارفق بعيدك ان فيه يبوسه ... جبلية ولك العراق وماؤه قيل: انشد هذا البيت فى مناظرته مع أبى الوفاء بن عقيل الحنبلى- وكان أبو الوفاء مشهورا بتمسكه بالاصول وشدته فى الرأى، وقد نقل عنه الجوزى فى كثير من كتبه عن كتبه محتجا بآرائه ولا سيما فى كتاب «تلبيس ابليس». ومما يدل على هذه المكانة السامية ومنزلته بين علماء عصره، ما حكاه الاسنوى قائلا:

وأنشد الشريف

«وكان ممن حضر جنازته الشريف أبو طالب الزيوبى. وقاضى القضاة أبو الحسن بن الدامغانى مقدما أصحاب الحنفية، وكانت بينه وبينهما منافسة فوقف احدهما عند رأس قبره والآخر عند رجليه، وأنشد ابن الدامغانى: وما تغنى النوادب والبواكى وقد أصبحت مثل حديث أمس وأنشد الشريف :- عقم النساء فلم يلدن شبيهه ... ان النساء بمثله عقم وقد رثاه خادمه أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان العزى الشاعر المشهور حيث قال: بكى على شمسه الاسلام اذا فلت ... بأدمع قل فى تشبيهها المطر حبر عهدناه طلق الوجه مبتسما ... والبشر احسن ما يلقى به البشر احيا ابن ادريس درسا كنت تورده ... تحار فى نظمه الآذان والفكر من فاز منه بتعليق فقد علقت ... يمينه بشهاب ليس ينكدر رحم الله الهراس الذى كان محبا لأهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم والسنة قولا وعملا حتى قال عنه ابن خلكان: كان محدثا يستعمل الأحاديث فى مناظراته ومجالساته ونقل عنه قوله: «إذا جالت الأحاديث فى ميادين الكفاح طارت رءوس المقاييس فى مهاب الرياح». فتاويه :- وللهراس كثير من الفتاوى المنثورة فى امهات المراجع ونقلها عنه تلاميذه المشهورون، ومنها ما نقله عنه الحافظ أبى طاهر السلفى إذ قال: «استفتيت شيخنا الكيا الهراس: ما يقوله الإمام- وفقه الله تعالى- فى رجل أوصى بثلث ماله للعلماء والفقهاء، أتدخل كتبه الحديث هذه الوصية أم لا؟

مؤلفاته

فكتب الشيخ تحت السؤال: نعم، كيف لا وقد قال النبى صلّى الله عليه وسلم. «من حفظ على أمتى أربعين حديثا من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما». مؤلفاته :- كثرت مؤلفات الهراس فى فنون مختلفة شملت القرآن والحديث وعلوم الشريعة الغراء، ومن اشهر هذه المؤلفات: أحكام القرآن- وسنتناوله بالحديث بعد ذلك (لوامع الدلائل فى زوايا المسائل) و (شفاء المسترشدين فى مباحث المجتهدين). و (نقد مفردات الإمام أحمد). و (كتاب فى أصول الفقه).

أحكام القرآن

أحكام القرآن يعتبر كتاب احكام القرآن الذى ألفه الهراس واحدا من اشهر التآليف التى تعنى بآيات الاحكام فهما واستنباطا واستخراجا للأصول منها حيث تظهر الثروة الكبيرة فى مجال الفقه والتشريع الاسلامى. وقد راعى مؤلفه فيه الايجاز والاختصار والاقتصار على اللباب فجاء كتابه وافيا فى بابه نافعا لقارئه. والكتاب يعد من أول الكتب المؤلفة فى أحكام القرآن على مذهب الإمام الشافعى حيث استخدم منهجه وسلك مسلكه وسار على طريقته فضم بذلك- إلى جانب ما ألفه غيره من أتباع أبى حنيفة ومالك رحمهما الله نظرة تكاد تكون متكاملة على الجانب التشريعى للقرآن الكريم. يقول الهراس اثناء مقدمته لهذا الكتاب. «وبعد: فإنى لما تأملت مذاهب القدماء المعتبرين، والعلماء المتقدمين والمتأخرين ومذاهبهم وآراءهم ولحظت مطالبهم وأبحاثهم، رأيت مذهب الشافعى رضى الله عنه وأرضاه اسدها وأقواها وأرشدها وأحكمها حتى كان نظره فى كبر آرائه ومعظم ابحاثه يترقى عند حد الظن والتخمين إلى درجة الحق واليقين. ولم أجد لذلك سببا أقوى وأوضح وأو فى من تطبيقه مذهبه على كتاب الله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. (سورة فصلت الآية 42) وأنه اتيح له درك غوامض معانيه، والغوص على تيار بحره لاستخراج

ما فيه. وان الله فتح عليه من أبوابه ويسر عليه من اسبابه ورفع له من حجابه ما لم يسهل لمن سواه، ولم يأت لمن عداه فكان على ما اخبر الله تعالى عن ذى القرنين فى قوله: آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً. (سورة الكهف الآية 84) ولما رأينا الأمر كذلك اردت أن اصنف فى احكام القرآن كتابا اشرح فيه ما انتزعه الشافعى رضى الله عنه من أخذ الدلائل فى غوامض المسائل وضممت إليه ما نسجته على منواله، واحتذيت فيه على مثاله على قدر طاقتى وجهدى ومبلغ وسعى وجدى .. ثم يقول:- ولن يعرف قدر هذا الكتاب وما فيه من العجب العجاب إلا من وفر حظه من علوم المعقول والمنقول. ومتبحر فى الفروع والأصول ثم اكب على مطالعة هذه الفصول بمسكة صحيحة وقريحة نقية غير قريحة .. وأعوذ بالله من الاعجاب بالابداع والميل بالهوى إلى بعض الآراء فى مظان النزاع، وأسأله أن يجعل مجامع مساعينا وجل متابعنا فى طلب مرضاته إنه ولى قدير وبالاجابة جدير فأقول: لما رأيت أقاويل المفسرين فى أحكام القرآن متجاوزة حد البيان آخذة بطرفى الزيادة والنقصان، جررت فى سرجها هذه الفصول المتضمنة من اللفظ والمعنى شفاء كل عليل مع انتخابى فيها قصد السبيل، وتوقى التعليل والتطويل ... وقد انتفع بهذا الكتاب الكثيرون من العلماء واثنوا عليه الثناء المستطاب واعتمدوا عليه فى تأليفهم بعده حتى قال عنه ابن العربى الذى جاء بعده فى مقدمة كتابه أحكام القرآن. «إن مؤلفه أتى فيه بالعجب، ونثر فيه لباب الألباب وفتح فيه لكل من جاء بعده إلى معارفة الباب، فكل أحد غرف منه على قدر انائه ..

نموذج من"أحكام القرآن"

نموذج من «أحكام القرآن» قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها. (سورة البقرة الآية 114) قوله «منع» نزل فى شأن المشركين حين منعوا المسلمين من ذكر الله تعالى فى المسجد الحرام وسعيهم فى خرابه بمنعهم من عمارته بذكر الله وطاعته وقوله «أولئك ما كان لهم ان يدخلوها إلا خائفين». يدل على ان المسلمين اخرجوهم منها إذ دخلوها. ويدل على مثل ذلك قوله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ. وعمارتها تكون ببنائها واصلاحها والثانى حضورها ولزومها، كما يقال:- فلان يعمر مسجد فلان؛ أى يحضره ويلزمه. قوله عز وجل: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. (سورة البقرة الآية 115) ويدل على جواز التوجه إلى الجهات فى النوافل، وللمجتهد جواز التعبد بالجميع .. قوله تعالى:- وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ.

دلت على أن التنظف ونفى الأوساخ والاقذار عن الثياب والبدن مأمور به وقد قال سليمان بن فرج أبو واصل اتيت أبا أيوب فصافحته فرأى فى أظافرى طولا فقال: جاء إلى النبى عليه السلام رجل يسأل عن اخبار السماء فقال: يجيء أحدكم يسأل عن خبر السماء وأظفاره كأنها اظفار الطير يجتمع فيها الوسخ والتفث؟ قوله تعالى:- إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. الامام: من يؤتم به فى امر الدين كالنبى عليه السلام والخليفة والعالم اخبر الله تعالى إبراهيم انه جاعله للناس اماما، وسأل إبراهيم ربه أن يكون ابناؤه أئمة فقال تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. (سورة البقرة الآية 124) ودل قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. على ان الاجابة قد وقعت له فى ان من ذريته ائمة ولكن لا امامه لظالم حتى لا يقتدى به، ولا يجب على الناس قبول قوله فى امر الدين. نعم: كان يجوز ان تظهر المعجزة على يد فاسق ظالم، ويجب قبول قوله لوجود الدليل، وان لم يجب قبول قول الفاسق لعدم ظهور الصدق وعدمه عقلا غير ان العصمة وجبت للانبياء سمعا. ويجوز عقلا وجوب قبول قول الفاسق ولكن دلت هذه الآية على ان عهد الله تعالى لا ينال الظالمين. فيحتمل أن يكون ذلك النبوة، ويحتمل أن يكون ما اراد لهم من امر دينه، وأجاز قولهم فيه، وأمر الناس بقبوله منهم.

ويطلق العهد على الأمر قال الله تعالى. إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا. (سورة آل عمران الآية 183) يعنى امرنا وقال: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ. (سورة يس الآية 60) يعنى ألم اقدم إليكم الأمر به: وإذا كان عهد الله هو اوامره، فقوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ لا يريد به انهم غير مأمورين لأن ذلك خلاف الاجماع، فدل على ان المراد به أن يكونوا بجملة من تقبل منهم أوامر الله، ولا يؤمنون عليها.

الواحدى النيسابورى وأسباب النزول

الواحدى النيسابورى وأسباب النزول هو على بن أحمد بن محمد بن على الواحدى النيسابورى، الامام الكبير أبو الحسن كان أبوه من التجار فتهيأ له طلب العلم والأخذ منه، فأخذ العربية عن أبى الحسن القهندزى، واللغة عن أبى الفضل أحمد بن محمد بن يوسف العروضى صاحب أبى منصور الأزهرى، وسمع من أبى الطاهر الزيادى وأبى بكر أحمد بن الحسن الحيرى وأبى إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، وعبد الرحمن بن حمدان النصرونى، وأحمد إبراهيم النجار وخلق. وداب الواحدى فى طلب العلم، وجد فيه حتى لقد قيل عنه: واحد عصره فى التفسير وكان له من المؤلفات الكثيرة فى التفسير وغيره، ومن مؤلفاته فى ذلك: البسيط، والوسيط، والوجيز، وكلها تفسير للقرآن الكريم، فالبسيط فى نحو ستة عشر مجلدا، والوسيط فى اربعة مجلدات، والوجيز فى أقل من ذلك: ومنها: اسباب النزول وهو موضوع حديثنا وهو مطبوع بمصر محقق. ومنها: التحبير فى شرح الأسماء الحسنى. ومنها: شرح ديوان المتنبى. ومنها: الدعوات. ومنها: المغازى. ومنها: الاغراب فى علم الاعراب. ومنها: كتاب تفسير النبى صلّى الله عليه وسلم.

ومنها: شرح ديوان المتنبى. وكان له شعر مليح، واختيار طيب لما ينقل، فمن تفسيره فيما نقله التاج السبكى فى طبقاته ما قاله فى الوسيط فى تفسيره سورة القتال عند الكلام على قوله تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ. أخبرنى أبو الحسن محمد بن أحمد بن الفضل بن يحيى، عن محمد بن عبيد الله الكاتب قال: قدمت مكة، فلما وصلت إلى طيزناباذ ذكرت بيت أبى نواس: كرم ما مررت به إلا ... تعجبت ممن يشرب الماء فهتف بى هاتف اسمع صوته ولا اراه: وفى الجحيم حميم ما تجرعه ... حلق فابقى له فى البطن امعاء وفى تفسير «ألم نشرح» نقل بسنده عن ابن العتبى قال: كنت ذات ليلة فى البادية بحالة من الغم، فألقى فى روعى بيت من الشعر، فقلت: ارى الموت لمن أص ... بح مغموما له اروح فلما جن الليل سمعت هاتفا يهتف فى الهواء. ألا ايها المرء ال ... ذى الهم به برح وقد انشد بيتا لم ... يزل فى فكره يسبح إذا اشتد بك، الأمر ... ففكر فى ألم نشرح فعسر بين يسرين ... إذا ابصرته فافرح وقد نقل الواحدى عن الشعبى قال: فرق الله تنزيله فكان بين أوله وآخره عشرون أو نحو عشرين سنة انزله قرآنا

عظيما وذكرا حكيما، وحبلا ممدودا، وعهدا معهودا، وظلا عميما، وصراطا مستقيما، فيه معجزات باهرة وآيات ظاهرة، وحجج صادقة، ودلالات ناطقة، دحض به حجج المبطلين. ورد به كيد الكائدين، وايد به الاسلام والدين فلمع منهاجه، وثقب سراجه، وشملت بركته، ولمعت حكمته على خاتم الرسالة، والصادع بالدلالة، الهادى للأمة، الكاشف للغمة الناطق بالحكمة، المبعوث بالرحمة، فرفع اعلام الحق، واحيا معالم الصدق، ودفع الكذب ومحا آثاره، وقمع الشرك وهدم مناره، ولم يزل يعارض ببيناته المشركين، حتى مهد الدين، وابطل شبه الملحدين، صلّى الله عليه وسلم صلاة لا ينتهى امدها، ولا ينقطع مددها وعلى آله وأصحابه الذين هداهم وطهرهم ... أما كتابه اسباب النزول فهو من احسن المؤلفات فى هذا الباب وقد جمع فيه تقريبا جميع المرويات من الحديث وأقوال الصحابة والتابعين فى سبب نزول الآيات، وقد رتبه سورة بعد سورة. على ترتيب المصحف ويذكر فى كل سورة منها ما ورد من سبب نزول الآيات بها فليس كل آية ورد بها سبب نزول عنده ولكنه عد ذلك فى كثير من الآيات مع ذكر السند الذى يوثقها. وهاك نموذجا من أسباب النزول:- قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. (سورة الصف الآية 1) أخبرنا محمد بن جعفر، حدثنا محمد بن عبد الله بن زكريا، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الدغولى، قال: حدثنا محمد بن بهيجى، حدثنا محمد بن كثير الصنعانى عن الأوزاعى عن يحيى بن كثير، عن ابن سلمة عن عبد الله بن سلام: قال: قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتذكرنا وقلنا:

لو نعلم أى الأعمال أحب إلى الله تبارك وتعالى عملناه. فأنزل الله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ. (سورة الصف الآية 1، 4) إلى آخر السورة فقرأها علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفى سورة الفتح: قوله عز وجل: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. إلى آخر الآية. أخبرنا سعيد بن محمد المقرى قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد المدينى، قال حدثنا أحمد بن عبد الرحمن السقطى قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا همام عن قتادة عن أنس قال: لما نزلت: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ. قال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هنيئا لك يا رسول الله ما أعطاك الله، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ .... (سورة الفتح الآية 1، 5)

الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل

الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل مؤلفه هو: أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشرى- الملقب ب «جار الله» وقد كان حنفى المذهب، معتزلى العقيدة. ولقب بجار الله، لأنه ذهب إلى مكة وجاور بها زمنا. أما مولده: فكان فى رجب سنة 467 هـ- فى قرية من قرى «خوارزم تسمى «زمخشر» ومن هنا كان انتسابه إليها فقيل له: الزمخشرى. رحلته : وقد دأب الزمخشرى على السفر والانتقال من مكان إلى مكان، فقد سافر إلى بغداد، وسافر إلى «خراسان» عدة مرات، وسافر إلى الأرض المقدسة، وأقام بها طويلا، وألف فيها كتابه «الكشاف» الذى يقول عنه: انه ألفه فى مدة مقدارها مدة خلافة أبى بكر رضى الله عنه أى سنتان وبضعة أشهر، انه يقول: «ووفق الله وسدد ففرغ منه فى مقدار مدة خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وكان يقدر تمامه فى أكثر من ثلاثين سنة، وما هى إلا آية من آيات هذا البيت المحرم، وبركة أفيضت على من بركات هذا الحرم المعظم، اسأل الله أن يجعل ما تعبت فيه سببا ينجينى ونورا لى على الصراط يسعى بين يدى ويمينى، ونعم المسئول ... » لقد ألفه الزمخشرى فى أواخر عمره، وألفه بعد أن أجرى تجربة فى التفسير كانت ناجحة، وذلك أنه طلب إليه املاء تفسير ويقول عن ذلك: فأمليت عليهم مسألة فى الفواتح، وطائفة من الكلام فى حقائق سورة

البقرة، وكان كلاما مبسوطا كثير السؤال والجواب، طوف بالذيول والأذناب، وإنما حاولت به التنبيه على غزارة نكت هذا العلم وأن يكون لهم منارا يحجونه، ومثالا يحتذونه ... » ونجحت هذه التجربة، فأخذ الناس يفدون إليه ليأخذوها عنه، ويسافرون إليه ليستفيدوا بها منه. ثم- لما حط رحاله بمكة- شرع فى تفسيره «الكشاف» ولم يؤلفه على نسق التجربة السابقة وإنما: «فى طريقة أخصر من الأولى- كما يقول- مع ضمان التكثير من الفوائد والفحص عن السرائر». توفى الزمخشرى سنة 538 هـ- بجرجانية خوارزم. أما كتابه فإن الناس يقولون عنه عادة: «الكشاف للزمخشرى» وهو كتاب أثار- وما زال يثير- الاستحسان الجم، والنقد اللاذع إذ أن صاحبه يوصف بوصفين ظاهرين يعلنهما على الملأ ويذكرهما دون خفاء. أما أحد هذين الوصفين فهو: أنه يتمذهب بمذهب أهل الاعتزال ويعتز به إلى درجة أنه كان أحيانا إذا قصد صاحبا له، واستأذن عليه فى الدخول يقول لمن يأخذ له الاذن: «قل له: أبو القاسم المعتزلى بالباب» ويركز على كلمة «المعتزلى ... » وقد بدأ تفسيره منذ الكلمات الأولى على مذهب الاعتزال وسار فيه من أوله إلى آخره واضعا نصب عينيه هذا المذهب، ففسر الآيات التى اختلف فيها بين أهل السنة وأهل الاعتزال على طريقة المعتزلة، وأسرف فى ذلك ... والقرآن الكريم ليس كتاب مذهب، فإذا وضعت الاساس عند التفسير على طريقة معنة، واتخذت ذلك شعارا فقد ملت عن شرعة الانصاف. ومن هنا كان النقد المستفيض من قمم علماء أهل السنة. أما الوصف الثانى- الذى ظهر فى وضوح فى التفسير وفى صاحب التفسير:

فهو هذا النوع من بيان اعجاز القرآن فى بلاغته وفصاحته، وايضاح أنه حقيقة من كلام رب العالمين، وليس للبشر إلى مثله من سبيل ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. ولقد أعد الزمخشرى نفسه لهذا اعدادا كاملا: لقد أعد له لغة، وأعد له بلاغا وبيانا، وأعد له اسلوبا وفصاحة وأعد له نحوا وصرفا ... ولكن الذى يركز عليه صاحب الكشاف ولا يرى من اتقانه مناصا للمفسر هو: علم المعانى، وعلم البيان وما من شك فى أن التفسير يحتاج إلى علوم جمة نترك للزمخشرى نفسه بيانها، أنه يقول عن التفسير: «لا يتم لتعاطيه واجالة النظر فيه كل ذى علم- كما ذكر الجاحظ فى كتاب نظم القرآن- فالفقيه ان برز على الاقران فى علم الفتاوى والاحكام والمتكلم وان بز الدنيا فى صناعة الكلام، وحافظ القصص والاخبار وان كان من ابن القرية احفظ (أحد فصحاء العرب) والواعظ وان كان من الحسن البصرى أوعظ والنحوى وان كان انحى من سيبويه واللغوى وان علك اللغات بقوة لحييه: لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص عن شىء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع فى علمين مختصين بالقرآن وهما: علم المعانى وعلم البيان، وتمهل فى ارتيادهما آونة، وتعب فى التنقير عنهما ازمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة فى معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله- بعد أن يكون أخذ من سائر العلوم بحظ جامعا بين أمرين: تحقيق- وحفظ- كثير المطالعات طويل المراجعات، قد رجع زمانا، ورجع إليه ورد عليه فارسا فى علم الاعراب مقدما فى حملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقادها- يقظان النفس داركا للمحة وإن لطف شأنها، منبها على الرمزة وإن خفى مكانها لاكزا جاسيا ولا غليظا جافيا، متصرفا ذا دراية بأساليب النظم والنثر، مرتضى غير ربض بتلقيح بنات الفكر، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف

ينظم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقة، ووقع فى مداحضه ومزالقه» ولقد أعجب الزمخشرى بتفسيره حتى أنه ليقول فيه شعرا، منه: إن التفاسير فى الدنيا بلا عدد وليس فيها لعمرى مثل كشافى إن كنت تبغى الهدى فالزم قراءته فالجهل كالداء والكشاف كالشافى وربما كان اصدق ما قيل فيه هو كلام الشيخ حيدر الهروى، فانه وفاه حقه فيما هو عليه من البلاغة والبيان، وذلك حق لا يمارى فيه انسان، ثم بين ما أخذ عليه وهو حق أيضا لا ينكره منصف، أما ما الزمخشرى- فيما رأى الشيخ الهروى- فإنه يقول: «إن كتاب الكشاف عالى القدر، رفيع الشأن لم ير مثله فى تصانيف الأولين، ولم يرد شبيهه فى تآليف الآخرين، اتفقت على متانة تراكيبه الرشيقة كلمة المهرة المتقنين، واجتمعت على محاسن اساليبه الأنيقة السنة الكلمة من المفلقين، ما قصر فى قوانين التفسير وتهذيب براهينه، وتمهيد قواعده، وتشييد معاقده. وكل كتاب بعده فى التفسير- ولو فرض أنه لا يخلو عن النقير والقطمير إذا قيس به- لا تكون له تلك الطلاوة، ولا يوجد فيه شىء من تلك الحلاوة، على أن مؤلفه يقتفى أثره، ويسأل خبره وقلما غير تركيبا من تراكيبه إلا وقع فى الخطأ والخطل، وسقط من مزالق الخبط والزلل، ومع ذلك كله إذا فتشت عن حقيقة الخبر، فلا عين منه ولا أثر، ولذلك قد تداولته أيدى النظار فاشتهر فى الاقطار كالشمس فى وسط النهار ... أما ما يؤخذ عليه فهو أمور منها: أنه كلما شرع فى تفسير آية من الآيات القرآنية مضمونها لا يساعد هواه.

ومدلولها لا يطاوع مشتهاه: صرفها عن ظاهرها بتكلفات باردة، وتعسفات جامدة، وصرف الآية- بلا نكتة بلاغية لغير ضرورة- عن الظاهر، تحريف لكلام الله سبحانه وتعالى، وليته يكتفى بقدر الضرورة، بل يبالغ فى الاطناب والتكثير لئلا يتهم بالعجز والتقصير، فتراه مشحونا بالاعتزالات الظاهرة التى تتبادر إلى الافهام، والخفية التى لا تتسارق إليها الأوهام بل لا يهتدى إلى حبائله إلا وراد بعد وراد من الأذكياء الحذاق- ولا ينتبه لمكائده إلا واحد من فضلاء الآفاق، وهذه آفة عظيمة، ومصيبة جسيمة. ومنها: أنه يطعن فى أولياء الله المرتضين من عباده، ويغفل عن هذا الصنيع لفرط عناده، ونعم ما قال الرازى فى تفسير قوله تعالى: «يحبهم. ويحبونه»: خاض صاحب «الكشاف» فى هذا المقام فى الطعن فى أولياء الله تعالى، وكتب فيها ما لا يليق بعاقل أن يكتب مثله فى كتب الفحش، فهب أنه اجترأ على الطعن فى أولياء الله تعالى، فكيف اجتراؤه على كتبه ذلك الكلام الفاحش فى تفسير كلام الله المجيد. ومنها: أنه ... أورد فيه أبياتا كثيرة- وأمثالا غريزة، بنى على الهزل والفكاهة أساسها وأورد على المزاج البارد نبراسها وهذا أمر من الشرع والعقل بعيد لا سيما عند أهل العدل والتوحيد. ومنها: أنه يذكر أهل السنة والجماعة وهم الفرقة الناجية- بعبارات فاحشة، فتارة يعبر عنهم بالمجبرة، وتارة ينسبهم على سبيل التعريض إلى الكفر والإلحاد- وهذه وظيفة السفهاء الشطار، لا طريقة العلماء الابرار ... ». وهاك نموذجا من التفسير لقوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (سورة الزخرف الآية 67، 68، 69، 70)

قال: «يومئذ» منصوب بعدو، أى منقطع فى ذلك اليوم كل خلة بين المتخالين فى غير ذات الله، وتنقلب عداوة ومقتا إلا خلة المتصادقين فى الله، فإنها الخلة الباقية المزادة قوة إذا رأوا ثواب التحاب فى الله تعالى- والتباغض فى الله- وقيل «إلا المتقين» إلا المجتنبين اخلاء السوء. وقيل: نزلت فى أبى بن خلف وعقبة بن أبى معيط. «يا عباد» حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون فى الله يومئذ «الذين آمنوا» منصوب المحل صفة لعبادى لانه منادى مضاف، أى الذين صدقوا «بآياتنا وكانوا مسلمين» مخلصين وجوههم لنا جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا. وقيل: إذا بعث الله الناس فزع كل أحد فينادى مناد يا عبادى فيرجوها الناس كلهم ثم يتبعها الذين آمنوا فييأس الناس منها غير المسلمين. قرئ يا عباد «تحبرون» تسرون سرورا يظهر حباره، أى أثره فى وجوهكم كقوله تعالى: «تعرف فى وجوههم نضرة النعيم». وقال الزجاج: تكرمون اكراما يبالغ فيه، والحبرة المبالغة فيما وصف بجميل». رحم الله الزمخشرى ونفع الناس بعلمه.

ابن العربى وتفسيره (أحكام القرآن)

ابن العربى وتفسيره (أحكام القرآن) مؤلف هذا التفسير هو : أحد الاعلام الكبار- ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحفاظها القاضى أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد- المعافرى الاندلسى الاشبيلى. ولد أبو بكر سنة 468 هجرية وتأدب ببلده وقرأ القراءات وسمع به من أبى عبد الله بن منظور، وأبى محمد بن خزرج ثم انتقل ورحل إلى جملة من البلاد والأقطار فسمع العلم فى بلاد الاندلس وبخاصة قرطبة التى زخرت بالعلماء أمثال أبى عبد الله بن عتاب وأبى مروان بن سراج وغيرهما وحصلت له عناية العبادية- أصحاب اشبيلية فى ذلك الوقت- رئاسة ومكانة فلما انقضت دولتهم خرج إلى الحج مع ابنه القاضى أبى بكر سنة 485 هـ وطوف فى البلاد يأخذ عن علماء كل قطر ينزل فيه، فلقى بمصر أبا الحسن الخلعى، وأبا الحسن بن مشرف، وأبا الحسن بن داود الفارسى وغيرهم، وفى مكة سمع من أبى عبد الله الحسين بن على الطبرى وغيره، وفى الشام لقى أبا حامد الغزالى والإمام أبا بكر الطرطوشى الذى تفقه به، وأبا سعيد الزنجاني، وأبا نصر المقدسى وغيرهم كثير، وفى عاصمة العلم بغداد التى زارها عدة مرات سمع من أبى الحسن المبارك بن عبد الجبار الصيرفى، ومن أبى بكر بن طرخان، ومن النقيب الشريف أبى الفوارس طراد بن محمد الزينبى، وأبى زكريا التبريزى وآخرين يضيق المقام عن سرد أسمائهم، وما أحد منهم إلا وله شهرة فى فنه وعلمه فعن هؤلاء وهؤلاء أخذ مجلة من الفنون حتى اتقن الفقه والأصول، وقيد الحديث واتسع فى الرواية، واتقن مسائل الخلاف والكلام وتبحر فى التفسير وبرع فى الأدب والشعر ...

وأخيرا وبعد هذه الرحلات المتوالية والجد فى طلب العلم عاد ابن العربى، عاد وفى جعبته العلم الكثير حتى قيل عنه: لم يأت به أحد قبله ممن كانت له رحلة إلى المشرق وعلى الجملة فقد كان رحمه الله من أهل التفنن فى العلوم والاستبحار فيها- والجمع لها متقدما فى المعارف كلها- متكلما فى أنواعها- نافذا فى جمعها- وحريصا على ادائها ونشرها حتى قالوا عنه: إنه أحد من بلغ مرتبة الاجتهاد، واحد من انفرد بالاندلس بعلو الإسناد ويجمع إلى ذلك كله: آداب الاخلاق، مع حسن المعاشرة، وكثرة الاحتمال- وكرم النفس وحسن العهد، وثبات الود، وغير ذلك من صفات العلماء العاملين الذين يألفون ويؤلفون رضى الله عنه وارضاه. هذا هو ابن العربى- كما تصوره المصادر- حتى صار استاذا. وكثر تلاميذ الاستاذ ابن العربى كثرة فائقة: رحلوا إليه وسمعوا منه وأخذوا عنه- ويكفى أن نذكر من تلاميذه: القاضى عياض الذى قال عن استاذه: «واستقصى أبو بكر ببلده فنفع الله به أهلها لصرامته وشدته ونفوذ احكامه، وكانت له فى الظالمين سورة مرهوبة، يؤثر عنه فى قضائه احكام غريبة، ثم صرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثه. وكان نصيحا ادبيا شاعرا كثير الخبر، مليح المجلس» وأخذ عنه أبو زيد السبيلى- وأحمد بن خلف الطلاعى- وعبد الرحمن بن ربيع الاشعرى والقاضى أبو الحسن الخلعى وغيرهم. أما التصانيف التى تركتها المعية ابن العربى فهى من الكثرة والإفادة بمكان نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: احكام القرآن- وهو ما نحن بصدده كتاب: المسالك فى شرح موطأ مالك.

تفسير ابن العربى: أحكام القرآن

كتاب: القبس على موطأ مالك. عارضة الأحوذى على كتاب الترمذى. القواصم والعواصم. المحصول فى أصول الفقه وكتاب القانون فى تفسير الكتاب العزيز. وكتاب الانصاف فى مسائل الخلاف- عشرون مجلدا- وغير ذلك كثير- ومما يجدر بالذكر ما قاله ابن العربى فى كتابه (القبس): إنه ألف كتابه المسمى «انوار الفجر فى تفسير القرآن» فى عشرين سنة ثمانين ألف ورقة، وتفرقت فى أيدى الناس- وبا لجملة فقد خلف ابن العربى رحمة الله كتبا كثيرة انتفع الناس بها بعد وفاته، كما نفع هو بعلمه من جلس إليه فى حياته. وقد كانت وفاته بعد هذه الحياة العلمية الكريمة سنة 543 هـ فى مراكش وحمل ميتا إلى مدينة فاس، ودفن بها رضى الله عنه وارضاه. تفسير ابن العربى: أحكام القرآن يتعرض هذا التفسير لآيات الأحكام فى القرآن الكريم كما يظهر من اسمه- وطريقه فى تفسيره: أن يذكر السورة- ثم يذكر عدد ما فيها من آيات الاحكام، ثم يأخذ فى شرحها آية آية قائلا: الآية الأولى وفيها خمس مسائل مثلا ... والآية الثانية وفيها سبع مسائل مثلا ... وهكذا حتى يفرغ من آيات الاحكام الموجودة فى السورة كلها. وكتاب احكام القرآن يعتبر مرجعا مهما للتفسير الفقهى عند المالكية، وذلك لان ابن العربى كان مالكى المذهب كثير التعصب له والدفاع عنه. غير إنه- والحق يقال- لم يكن مشتطّا فى تعصبه إلى الدرجة التى يتغاضى فيها عن كل زلة علمية تصدر من مجتهد مالكى، ولم يبلغ به التعسف إلى الحد الذى يجعله ينقد كلام مخالفه إذا كان وجيها ومقبولا.

والذى يتصفح هذا التفسير يلمس منه روح الانصاف لمخالفيه أحيانا- كما يلمس منه روح التعصب المذهبى التى تستولى على صاحبها فتجعله احيانا كثيرة يرمى مخالفيه، وان كان اماما له قيمته ومركزه بالكلمات المقذعة اللاذعة، تارة بالتصريح، وتارة بالتلميح. فإذا أضيف إلى ذلك ما ذكرناه من قبل إنه جمع آداب الاخلاق وحسن المعاشرة وكثرة الاحتمال، وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود .. إذا أضيف ذلك علمنا أن ما كتبه ابن العربى فى كتبه كلها انما هو محوط بسياج الروح العلمية الاسلامية الكريمة من عالم جمع إلى العلم وفضله العمل به والسير على منواله. رحم الله ابن العربى واجزل له المثوبة ونفع الله بعلمه أنه سميع مجيب. وهاك نموذج من تفسيره: قوله تعالى وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فيها ست مسائل: المسألة الأولى: قوله تعالى (أمه) كلمة ذكر لها علماء اللسان خمسة عشر معنى رأيت من بلغها إلى أربعين، منها أن الأمة بمعنى الجماعة، ومنها أن الأمة الرجل الواحد الداعى إلى الحق. المسألة الثانية: فى هذه الآية إلى بعدها وهى قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (سورة آل عمران الآية 110) دليل على أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض كفاية ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر نصرة الدين باقامة الحجة على المخالفين، وقد يكون فرض عين إذا عرف منه. المسألة الثالثة: فى مطلق قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ (سورة آل عمران الآية 102)

دليل على أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض يقوم به المسلم، وإن لم يكن عدلا، خلافا للمبتدعة الذين يشترطون فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر العدالة. وقد بينا فى كتب الأصول أن شروط الطاعات لا تثبت إلا بالادلة، كل أحد عليه فرض فى نفسه أن يطيع، وعليه فرض فى دينه أن ينبه غيره على ما يجهله من طاعة أو معصية، وينهاه عما يكون عليه من ذنب، وقد بيناه فى الآية الأولى قبلها. المسألة الرابعة- فى ترتيب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: ثبت عن النبى صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» وفى هذا الحديث من غريب الفقه أن النبى صلّى الله عليه وسلم بدا فى البيان بالأخير فى الفعل، وهو تغيير المنكر باليد، وإنما يبدأ باللسان والبيان فإن لم يكن فباليد. يعنى أن يحول بين المنكر وبين متعاطيه بنزعه عنه وبجذبه منه فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فيتركه، وذلك إنما هو إلى السلطان، لأن شهر السلاح بين الناس قد يكون مخرجا إلى الفتنة وآئلا إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مثل أن يرى عدوا يقتل عدوا فينزعه منه ولا يستطيع الا بدفعه ويتحقق أنه لو تركه قتله، وهو قادر على نزعه ولا يسلمه بحال وليخرج السلاح. المسألة الخامسة: فى هذه الآية دليل على مسالة اختلف فيها العلماء، وهى إذا رأى مسلم فحلا يصول على مسلم فإنه يلزمه أن يدفعه عنه، وإن أدى إلى قتله ولا ضمان على قاتله حينئذ، سواء كان القاتل له هو الذى صال عليه الفحل أو معينا له من الخلق وذلك إنه إذا دفعه عنه فقد قام بفرض يلزم جميع المسلمين فناب عنهم فيه، ومن جملتهم مالك الفحل فكيف يكون نائبا عنه فى قتل الصائل ويلزمه ضمانه؟

وقال أبو حنيفة: يلزمه الضمان، وقد بيناها فى مسائل الخلاف. المسألة السادسة: فى هذه الآية دليل على تعظيم هذه الأمة وكذلك فى قوله سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.

تفسير الإمام ابن الجوزى"زاد المسير"

تفسير الإمام ابن الجوزى «زاد المسير» تقديره : الإمام ابن الجوزى علم من أعلام الفكر الإسلامى، برز فى الحديث والوعظ والتفسير والتاريخ وغيرها من أصناف العلوم الدينية، ووصل فيها إلى مرتبة مشهورة، تحدث عنها باعجاب، وأقره العلماء على هذا الحديث، قال فى كتابه «لفتة الكبد»: ولقد وضع الله لى من القبول فى قلوب الخلق فوق الحد، واوقع كلامى فى نفوسهم فلا يرتابون بصحته، وقد أسلم على يدى نحو مائتين من أهل الذمة. وقال سبطه أبو المظفر: أقل ما كان يحضر مجلسه عشرة آلاف .. وسمعته يقول على المنبر فى آخر عمره: «كتبت باصبعى هاتين ألفى مجلدة، وتاب على يدى مائة ألف». وقال عنه الحافظ الدبيثى فى ذيله على تاريخ ابن السمعانى: شيخنا الإمام جمال الدين بن الجوزى صاحب التصانيف فى فنون العلم من التفاسير والفقه والحديث والوعظ والرقاق والتواريخ وغير ذلك، وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه، والوقوف على صحيحه من سقيمه، وله فيه المصنفات من المسانيد والأبواب والرجال، ومعرفة ما يحتج به فى أبواب الأحكام والفقه وما لا يحتج به من الأحاديث الواهية الموضوعة، والانقطاع والاتصال، وله فى الوعظ العبارة الرائقة، والاشارات الفائقة، والمعانى الدقيقة، والاستعارة الرشيقة، وكان من أحسن الناس كلاما، وأتمهم نظاما، واعذبهم لسانا، وأجودهم بيانا، وبورك له فى عمره وعمله فروى الكثير، وسمع الناس منه أكثر من أربعين سنة، وحدث بمصنفاته مرارا ...

حياته

وقال الموفق عبد اللطيف: كان ابن الجوزى لا يضيع من زمانه شيئا، يكتب فى اليوم أربعة كراريس، ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلدا إلى ستين، وله فى كل علم مشاركة، لكنه كان فى التفسير من الاعيان، وفى الحديث من الحفاظ، وفى التاريخ من المتوسعين، ولديه فقه كاف. وقال ابن خلكان: وبالجملة فكتبه أكثر من أن تعد، وكتب بخطه شيئا كثيرا، والناس يغالون فى ذلك حتى يقولوا: إنه جمعت الكراريس التى كتبها وحسبت مدة عمره، وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس .. ويقال: إنه جمعت براية أقلامه التى كتب بها حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحصل منها شىء كثير، وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته، ففعل ذلك، فكفت وفضل منها. حياته : ولد ابن الجوزى أبو الفرح جمال الدين عبد الرحمن بن أبى الحسن بن على فى سنة إحدى عشرة وخمسمائة من الهجرة ببغداد، وتوفى والده وهو ابن ثلاث فكفلته امه وعمته، واتجه إلى العلم منذ بدأ وعيه بالحياة، فاتجه إلى سماع العلم فى سن الخامسة وحفظ القرآن وهو صغير، وسمع أمهات كتب الحديث كمسند أحمد وصحيحى البخارى ومسلم وجامع الترمذى وما لا يحصى من كتب الحديث. ومن ملامح نشأته، ومظاهر حياته ما يقوله ابن العماد من أنه كان يراعى حفظ صحته، وتلطيف مزاجه، وما يفيد عقله قوة، وذهنه حدة، لباسه الناعم الأبيض المطيب .. وله مداعبات حلوة وما تناول ما لا من جهة لا يتيقن حلها، ولا ذل لأحد .. قال فى لفتة الكبد يخاطب ولده: وما ذل أبوك فى طلب العلم قط، ولا خرج يطوف فى البلدان كغيره، من الوعاظ ولا بعث رقعة إلى أحد يطلب منه شيئا .. ولم تكن حياته كلها سهلة ميسرة، لينة مبهجة، لقد استلذ فى سبيل العلم

شيوخه

ما يستصعبه غيره وقنع فى سبيل الوصول إلى ما يبتغيه بالقليل .. إنه يذكر فى كتابه صيد الخاطر، إنه كان فى زمن الطلب يأخذ معه ارغفة يابسة ويخرج فى طلب الحديث، فيقف على نهر عيسى لا يقدر على أكل هذا الخبر اليابس إلا عند المالك، كلما أكل لقمة شرب عليها شربة، وأنه وجد مع ذلك من لذة العلم وحلاوة الإيمان ما جعله يخاف على نفسه العجب ان شرحه .. ولقد حبب إليه العلم من زمن الطفولة، ولم يرغب فى فن واحد من فنونه، بل رغب فى كل منه، وكان يتردد أبدا بين الزهد والعبادة وبين العلم والبحث. شيوخه : ومن أهم شيوخه أبو الحسن بن الزاغونى الذى كان كما قال ابن الجوزى: له فى كل فن من العلم حظ وافر، ووعظ مدة طويلة، وكان له حلقة بجامع المنصور يناظر فيها يوم الجمعة قبل الصلاة ثم يعظ فيها بعد الصلاة، ويجلس يوم السبت أيضا. وكان من شيوخه أبو القاسم الحريرى وأبو القاسم السمرقندى، وأبو منصور القزاز، وعبد الجبار بن منده، وقرأ الادب على أبى منصور الجواليقى صاحب كتاب المعرب. وكان فى كل ذلك كما قال عن نفسه: لم أقنع بفن واحد بل كنت اسمع الفقه والحديث، واتبع الزهاد، ثم قرات اللغة، ولم أترك أحدا ممن يروى ويعظ، ولا غريبا يقدم، إلا وأحضره، وأتخير الفضائل، ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث فينقطع نفسى من العدو لئلا أسبق، وكنت أصبح وليس لى مأكل، وأمسى وليس لى مأكل، ما أذلنى الله لمخلوق قط. الواعظ : أما عن وعظه فقد بلغ فيه غاية الشهرة، وكان من أهم أسباب ارتفاع منزلته، وسمو مكانته قال الإمام ناصح الدين بن الحنبليّ الواعظ عنه:

مؤلفاته

اجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع فى غيره، وكانت مجالسه الوعظية جامعة للحسن والإحسان بإجماع ظراف بغداد، ونظاف الناس، وحسن الكلمات المسجوعة، والمعانى المودعة فى الالفاظ الرائجة، وقراءة القرآن بالاصوات المرجعة، والنغمات المطربة، وصيحات الواجدين، ودمعات الخاشعين، وانابة النادمين، وذل التائبين، ووعظ وهو ابن عشر سنين إلى أن مات. وكانت وفاة ابن الجوزى كما قال سبطه بين العشاءين فى ليلة الجمعة الثالث عشر من شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة فى داره ببغداد وعمره نحو التسعين وكانت جنازته مشهودة اجتمع لها أهل بغداد، وغلقت الاسواق وحملت جنازته على رءوس الناس، ودفن بباب حرب بالقرب من مدفن أحمد بن حنبل رضى الله عنه .. مؤلفاته : وقد خلف ابن الجوزى الكثير من الكتب، ومن أشهرها كتابه زاد المسير فى علم التفسير حفزه إلى تأليفه قوله: لما كان القرآن العزيز أشرف العلوم وكان الفهم لمعانيه أو فى الفهوم، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، وإنى نظرت فى جملة من كتب التفسير فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه، وصغير لا يستفاد كل المقصود منه، والمتوسط منها قليل الفوائد، عديم الترتيب، وربما أهمل فيه المشكل وشرح غير الغريب، فأتيتك بهذا المختصر اليسير، منطويا على العلم الغزير، ووسمته ب: زاد المسير فى علم التفسير، وقد بالغت فى اختصار لفظه فاجتهد وفقك الله فى حفظه، والله المعين على تحقيقه، فما زال جائدا بتوفيقه .. وقد قدم لكتابه بعدة فصول: الفصل الأول فى فضيلة علم التفسير. الثانى فى معنى التفسير والتأويل

ومن تفسيره

الثالث فى مدة نزول القرآن. الرابع فى أول ما نزل من القرآن. الخامس فى آخر ما نزل وقد درج فى تفسيره على المبالغة فى الاختصار فقال: وقد حذرت من إعادة تفسير كلمة متقدمة إلا على وجه الاشارة، ولم أغادر من الاقوال التى احطت بها إلا ما تبعد صحته مع الاختصار البالغ، فإذا رأيت فى فرض الآيات ما لم يذكر تفسيره فهو لا يخلو من أمرين: أما أن يكون قد سبق، وإما أن يكون ظاهرا لا يحتاج إلى تفسير. وقد انتقى كتابنا هذا انقى التفاسير، فأخذ منها الاصح والاحسن والأصون فنظمه فى عبارة الاختصار. ورغم ترداد ابن الجوزى لكلمة الاختصار والإيجاز لهذا التفسير، فإنه يقع فى تسع مجلدات وكل مجلد يقع فى عدد يزيد على ثلاثمائة وخمسين صحيفة، وهو ليس بالصورة التى يعطيها كلام ابن الجوزى من الاختصار، ولكن لكثرة معلومات ابن الجوزى وسعة معارفه ظهرت له صورة الكتاب على طوله، إنه من المختصرات. وفى الواقع إن مما يشق على قارئ هذا التفسير أن ابن الجوزى كثيرا ما يحيل على ما سبق دون بيان كاف لموضع الاحالة. وقد اخرجه فى صورة متقنة جميلة المكتب الإسلامى للطبع والنشر على نفقة صاحب السمو العالم الجليل الشيخ على بن عبد الله آل ثانى حفظه الله. فجزاه الله خير الجزاء لما أداه للعلم من خدمة جليلة بطبع هذا التفسير ... ومن تفسيره : قال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ

أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. (سورة البقرة الآية 269) قوله تعالى «يؤتى الحكمة من يشاء» فى المراد بهذه الحكمة أحد عشر قولا: أحدهما: أنها القرآن، قاله ابن مسعود ومجاهد والضحاك ومقاتل فى آخرين .. الثانى: معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره، ونحو ذلك، رواه على بن أبى طلحة عن ابن عباس .. الثالث: النبوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: الفهم فى القرآن، قاله أبو العالية وقتادة وإبراهيم. الخامس: العلم والفقه رواه ليث عن مجاهد. والسادس: الإصابة فى القول، رواه ابن أبى نجيح عن مجاهد. والسابع: الورع فى دين الله، قاله الحسن. والثامن: الخشية لله، قاله الربيع بن أنس. والتاسع: العقل فى الدين، قاله ابن زيد. والعاشر: الفهم، قاله شريك. والحادى عشر: العلم والعمل، لا يسمى الرجل حكيما إلا إذا جمعهما، قاله ابن قتيبة .. ومما نحب أن نشير إليه أننا قد ربطنا بين هذه الآراء المختلفة فى معرض حديثنا عن الحكمة فقلنا: وردت كلمة الحكمة كثيرا فى اللغة العربية: فى الشعر وفى القرآن الكريم، وفى الاحاديث النبوية. وهى تطلق عند علماء الإسلام، وفى اللغة العربية على معان عدة، بلغ بها صاحب البحر المحيط تسعة وعشرين رأيا منها:

الإصابة فى القول والعمل، ومنها: الفهم: ومنها: الكتابة، ومنها: اصلاح الدين واصلاح الدنيا. ويذكر صاحب البحر المحيط: أن معانى الكلمة قريب بعضها من بعض، ما عدا قول السدى. أما قول السدى فى تفسير الحكمة فهو: انها النبوة، ولكن السدى لا يستقل بهذا الرأى فقد قاله ابن عباس، فيما رواه عنه أبو صالح. وقريب منه ما قيل: فى معنى الحكمة، من أنها: العلم اللدنى، أو من أنها: تجريد السر لورود الالهام. والواقع أن معانى هذه الكلمة: تنقسم طبيعيا إلى قسمين: أحدهما: ما يبدو فى السلوك الخارجى: من سداد فى الرأى، واتزان فى التفكير، واتجاه فى السلوك إلى الطريق الاقوم. والثانى: هو الناحية الاشرافية الالهامية، وهى ناحية باطنية داخلية، يعلمها صاحبها ويلقنها من يصطفيهم من خاصة صحبة أو تلاميذه. وهذان المعنيان لا يتعارضان، وإنما يوجد ان أحيانا فى انسجام وتناغم، وأحيانا يوجد المعنى الأول فقط. ومما لا شك فيه: إنه لا يوجد المعنى الثانى بدون المعنى الأول. فالشخص الملهم: مسدد الرأى، متزن التفكير، أنه «حكيم» باطنيا وظاهريا. وبهذين المعنيين فسر علماء الإسلام معنى كلمة: «حكمة» فى عدة آيات من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى فيما يتعلق بداود عليه السّلام: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ (سورة البقرة الآية 251) وقوله تعالى:

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ قرأ يعقوب بكسر تاء «يؤت» ووقف عليها بهاء، والمعنى: ومن يؤته الحكمة، وكذلك هى فى قراءة ابن مسعود بهاء بعد التاء .. قوله تعالى: وَما يَذَّكَّرُ قال الزجاج: وما يتفكر فكرا يذكر به ما قص من آيات القرآن إلا ذوو العقول .. قال ابن قتيبة: «أولو» بمعنى ذو و، وواحد- «أولو» «ذو» و «أولات» ذات .. قوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. (سورة آل عمران الآية 123) قوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ فى تسمية بدر قولان: أحدهما: أنها بئر لرجل اسمه بدر، قاله الشعبى. والثانى: أنه اسم للمكان الذى التقوا عليه، ذكره الواقدى عن اشياخه .. قوله تعالى: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أى: لقلة العدد والعدد .. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أى لتكونوا من الشاكرين.

تفسير ابن عطية

تفسير ابن عطية يمثل هذا التفسير لونا من التفاسير المحررة الموجزة الجامعة فى معانيها، المختصرة فى تعبيرها، ويظهر ذلك واضحا من تسمية مؤلفه له: المحرر الوجيز فى تفسير القرآن العزيز. وقد بهر ابن عطية بتفسيره العلماء فى عصره وفيما بعد عصره، يقول ابن عميرة الضبى المتوفى سنة 599 هـ. «ألف- يعنى ابن عطية- فى التفسير كتابا ضخما اربى فيه على كل متقدم». ويقول ابن الآبار: «وتأليفه فى التفسير جليل الفائدة، كتبه الناس كثيرا وسمعوه منه واخذوه عنه». أما ابن جزى فإنه يقول:- «وأما ابن عطية فكتابه فى التفسير أحسن التأليف واعدلها، فإنه اطلع على تآليف من كان قبله فهذبها ولخصها، وهو مع ذلك حسن العبارة، مسدد النظر، محافظ على السنة». ويقول ابن تيمية: وتفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشرى، واصح نقلا وبحثا، وابعد عن البدع، ... بل هو خير منه بكثير، بل لعله ارجح هذه التفاسير. ويقول ابن خلدون- عما امتاز به تفسيره من حذر من الاسرائيليات وتثبت فى نقل الاخبار. «وتساهل المفسرون فى مثل ذلك- النقل عن أهل الكتاب الذين دخلوا فى الإسلام مثل كعب الاحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وامثالهم- وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات، واصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك،

إلا أنهم بعد صيتهم وعظمت اقدارهم لما كانوا عليه من المقامات فى الدين والله، فتلقيت بالقبول من يومئذ، فلما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص، وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالمغرب، فلخص تلك التفاسير كلها، وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها، ووضع ذلك فى كتاب متداول بين أهل المغرب والاندلس حسن المنحى وتبعه القرطبى فى تلك الطريقة على منهاج واحد فى كتاب آخر مشهور بالمشرق ا. هـ. والناظر فى هذا التفسير يجد أنه يذكر الآية ثم يفسرها تفسيرا سهلا شاملا مختصرا ثم يورد بعض ما يتصل بالآية مما ينتقيه من المأثور، وأكثر ما يختار منه من تفسير الطبرى، وقد يعرج بالرد على رواية والانتقاد لمنقول .. ويظهر فى تفسيره الاهتمام باللغة العربية، والعناية باستخراج المعانى على اساس منها، كما أنه يذكر فى أحيان كثيرة القراءات المختلفة ويستخرج المعانى المستنبطة على أساسها. وقد تأثر تفسير ابن عطية كثير من مشاهير المفسرين كالقرطبى وابن حيان والثعالبى فاستفادوا منه ونقلوا عنه، وكان له فى تفاسيرهم الأثر المحمود فيما يتصل بالمنهج، وفيها يتصل بالمضمون. ومع الأهمية المتزايدة لهذا التفسير فما زال مخطوطا متنافر الأجزاء بين المكتبات المختلفة ويوجد منه فى دار الكتب المصرية اربعة أجزاء من مجموع الكتاب ويقع فى عشر مجلدات كبار .. وقد استفاد ابن عطية فى تفسيره بالإضافة إلى تفسير الطبرى بتفسير المهدوى المسمى (التفصيل الجامع لعلوم التنزيل) الذى قال عنه فى مقدمة تفسيره: إنه متقن التأليف، وانتقد اسلوبه فى عدم تتبع الألفاظ، بأنه مفرق للنظر، مشعب للفكر. أما عن مصنف هذا التفسير فهو القاضى أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن غالب، ابن عطية المحاربى.

امتاز بالفهم وسرعة التحصيل والطموح العلمى، والمثابرة والاجتهاد، قال السيوطى فى طبقات المفسرين: كان يتوقد ذكاء. وقال فى بغية الوعاة: كان فاضلا من بيت علم وجلاله، غاية فى توقد الذهن، وحسن الفهم، وجلالة التصرف .. وقال الفتح بن خاقان: ادمن التعب فى السؤدد جاهدا، حتى تناول الكواكب قاعدا، وما اتكأ على ارائك ولا سكن إلى راحات بكره وأصائله .. وقال: سما إلى رتب الكهول صغيرا، وشن كتبه على العلوم مغيرا، فسباها معنى وفصلا، وحواها فرعا وأصلا .. ولد سنة 481 فى أول عهد المرابطين بغرناطة وكان له شغف بالعلم عمل على اروائه فتتلمذ على شيوخ من أهمهم والده وكان اماما فى الحديث وحافظا للسنة- أو كما قال الفتح بن خاقان شيخ العلم وحامل لوائه، وحافظ حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكوكب سمائه شرح الله لحفظه صدره، وطاول به عمره. ومن أهم شيوخه الحافظ أبو على الحسين بن محمد الغسانى المتوفى سنة 498 هـ وكان من أهم تلاميذ الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر، له مؤلفات قيمه وآثار مشهورة فى مجال خدمة السنة. ومنهم الحافظ أبو على الحسين بن محمد الصدفى المتوفى سنة 514 هـ، والفقيه أبو عبد الله محمد بن على ابن حمد بن التغلبى المتوفى سنة 508. كان ابوه يتعهده بالعناية والرعاية، ويشجعه على إعداد تفسيره، والعمل على إتمامه فكان ربما ايقظه فى الليل مرتين بقوله: قم يا بنى اكتب كذا وكذا فى موضع كذا من تفسيرك. وكان له فى سبيل العلم رحلات مختلفة واسفار متعددة، فرحل فى طلب العلم إلى قرطبة واشبيليه ومرسية وبلنسية.

واليك نماذج من تفسير ابن عطية

كما شارك فى تحمل اعباء الجهاد فى عصره- حينما احتاج الأمر إلى مجهوده فيه- فكان كما قال ابن الآبار فى آخر دولة المرابطين كثير الخروج للغزو فى جيوشهم. وقد استنتج الشيخ محمد الفاضل بن عاشور من ذلك أن من المرجح أن يكون تأليف تفسيره قبل هذا الدور الأخير من دولة المرابطين الذى هو الدور الأخير من حياة ابن عطية إذ كان تاريخ وفاته سنة 542 هـ عين تاريخ انتهاء دولة المرابطين بالأندلس .. وقد استفاد ابن عطية فى تفسيره بالإضافة إلى تفسير الطبرى بنفيسه المهدوى المسمى: «التفصيل الجامع العلوم التنزيل» الذى قال عنه فى مقدمة تفسيره أنه متقن التأليف، وانتقد اسلوبه فى عدم تتبع الالفاظ بأنه مفرق للنظر مشعب للفكر. وكان ابن عطية فى تفسيره نابضا بالشباب، فتيا بالعروبة، فإن الشباب كما يقول الشيخ الفاضل بن عاشور افاده قريحة متقدة ونظرة حادة يتناول بهما موضوعه فى قوة وسرعة ومتانة المام فيأتى بيانه محبوكا منسجما، والعروبة أفادته طبعا اصيلا وملكة صافية ففاض بيانه قويا هتانا سائغا سلسا. ولذلك فلا بدع أن يتصف تفسير ابن عطية بأن «محرر» لا سيما وقد دفع الشبه وخلص الحقائق وحرر ما هو محتاج إلى التحرير. وهو وجيز بالنسبة إلى بعض التفاسير التى سبقته .. واليك نماذج من تفسير ابن عطية عن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (سورة الحديد الآية 28)

واختلف الناس فى المخاطب بها- يعنى بالآية- فقالت فرقة من المتأولين: خوطب بهذا أهل الكتاب، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله وآمنوا بمحمد ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح عن النبى صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين. رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه صلّى الله عليه وسلم وآمن بى «الحديث» وقال آخرون: المخاطبة للمؤمنين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، يقول لهم:- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ أى اثبتوا على ذلك ودوموا عليه، وهذا هو معنى الأمر ابدا لمن هو متلبس بما يؤمر به. وقوله: (يؤتكم كفلين) أى نصيبين بالإضافة إلى ما كان الامم قبل يعطونه قال أبو موسى الأشعرى: كفلين: ضعفين «بلسان الحبشة». وروى أن عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) قال لبعض الأحبار: كم كان التضعيف للحسنات فيكم؟ .. قال: ثلاثمائة وخمسين، فقال: الحمد لله الذى أضاف لنا إلى سبعمائة .. ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح الذى يقتضى أن اليهود إلى نصف النهار على قيراط، والنصارى من الظهر إلى العصر على قيراط، وهذه الأمة من العصر إلى الليل على قيراطين، فلما أصبحت اليهود والنصارى على ذلك وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل أجرا، قال الله تعالى: هل نقصتكم من أجركم شيئا؟ قالوا: لا قال: فإنه فضلى أوتيه من أشاء

تفسير الإمام البغوى

تفسير الإمام البغوى هو الإمام الحافظ الشهير محيى السنة أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوى الشافعى المحدث المفسر، صاحب التصانيف وعالم أهل خراسان. وصفه ابن الأهول فقال: «هو صاحب الفنون الجامعة، والمصنفات النافعة، مع الزهد والورع والقناعة ومن مظاهر زهده ما قاله صاحب شذرات الذهب من انه كان سيدا زاهدا قانعا يأكل الخبز وحده، فليم فى ذلك فصار يأكله بالزيت .. ولد فى بغشور، والنسبة إليها بغوى على غير قياس، وقيل: اسم المدينة «بغ» بليدة بين هراة ومرو والروذ من بلاد خراسان. نشأ شافعى المذهب بحكم البيئة التى عاش فيها، والعلماء الذين تلقى عنهم وكانت له آثار قيّمة فى المذهب الشافعى، حيث أنه ألف فيه كتابه (التهذيب) ونحى فيه منحى أهل الترجيح والاختبار والتصحيح، لا يتعصب لمذهبه، ولا يندد بغيره، رائده الوصول إلى ما يراه أقرب إلى النصوص، وأوفق لمبادئ الدين. وكان داعيا إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، ناشرا لعلومهما، موضحا لما يوجهان إليه، فألف فى ذلك التآليف النافعة التي أهلته لأن يكون بحق «محيى السنة». وكما هو دأب العلماء قام علمه على دعامتين هامتين: أولا- الأخذ من العلماء، وقد اشتهر من أساتذته: الإمام الحسين بن محمد المروزى القاضى، فقيه خراسان، وشيخ الشافعية فى زمنه واحد مشاهير العلماء، المتوفى سنة 462 هـ.

والإمام الفقيه الفاضل أبو الحسن على بن يوسف الجوينى المعروف بشيخ الحجاز المتوفى سنة 463 هـ. والمحدث الفاضل أبو بكر يعقوب بن أحمد الصيرفى النيسابورى المتوفى سنة 466 هـ. ثانيا: الأخذ من الكتب والاطلاع على ما أثر عن العلماء ... وكان الإمام البغوى محدثا فاضلا سمع الكثير من الحفاظ، وروى عنهم الصحاح والسنن والمسانيد والأجزاء من أجود الطرق وأوثقها وأوفاها وجالس علماء اللغة وحمل عنهم الكتب التى ألفت فى غريب الحديث وبيان معانيه، قال الحافظ الذهبى: الإمام العلامة القدوة الحافظ، شيخ الإسلام، محيى السنة، صاحب التصانيف ... وقال ابن نقطة: إمام حافظ ثقة صالح .. وقال السبكى: وكان البغوى يلقب بمحيى السنة، وبركن الدين، ولم يدخل بغداد ولو دخلها لاتسعت ترجمته، وقدره عال فى الدين وفى التفسير وفى الحديث، متسع الدائرة نقلا وتحقيقا. وكان الشيخ تقى الدين السبكى يقول: قل ان رأيناه يختار شيئا إلا وإذا بحث عنه وجد أقوى من غيره، هذا مع اختصار كلامه وهو يدل على نبل كبير، وهو حرى بذلك، فإنه جامع لعلوم القرآن والسنة والفقه وقد انتج هذا النشاط العلمى الكبير مؤلفات قيمه منها: 1 - مجموعة من الفتاوى ضمنها فتاوى شيخه أبو على الحسين بن محمد المروزى. 2 - التهذيب فى فقه الإمام الشافعى، وهو تأليف محرر، مهذب، مجرد من الأدلة غالبا. 3 - شرح السنة. 4 - معالم التنزيل وهو التفسير المشهور. وقد قدم لتفسيره مقدمة، بينت منهجه، وحددت خطته، وأبانت عن

مقصده، وبينت جوانب من علمه الواسع فى مجال الدراسات القرآنية. إنه يقول فى مقدمته بعد الحمد والثناء: أما بعد: فإن الله جل ذكره أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، رحمة للعالمين، وبشيرا للمؤمنين، ونذيرا للمخالفين، اكمل به بنيان النبوة، وختم به ديوان الرسالة، واتم به مكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وأنزل عليه بفضله نورا هدى به من الضلالة، وأنقذ به من الجهالة، حكم بالفلاح لمن تبعه، وبالخسران لمن أعرض عنه بعد ما سمعه، واعجز الخليقة عن معارضته، وعن الاتيان بسورة من مثله فى مقابلته، ثم سهل على الخلق مع إعجازه تلاوته، ويسر على الألسن قراءته، أمر فيه وزجر، وبشر وأنذر، وذكر المواعظ ليتذكر، وقص عن أحوال الماضيين ليعتبر، وضرب الأمثال ليتدبر، ودل على آيات التوحيد ليتفكر، ولا حصول لهذه المقاصد منه إلا بدراية تفسيره وإعلامه، ومعرفة أسباب نزوله وأحكامه والوقوف على ناسخه ومنسوخه، ومعرفة خاصه وعامة، ثم هو كلام معجز، وبحر عميق لا نهاية لاسرار علومه، ولا إدراك لحقائق معانيه وقد ألف ائمة السلف فى أنواع علومه كتبا كل على قدر فهمه، ومبلغ علمه، نظرا للخلق، فشكر الله تعالى سعيهم، ورحم كافتهم، فسألنى جماعة من أصحابى المخلصين، وعلى اقتباس العلم مقبلين، كتابا فى معالم التنزيل وتفسيره فأجبتهم إليه معتمدا على فضل الله تعالى وتيسيره، واقتداء بالماضين من السلف فى تدوين العلم ابقاء على الخلف، وليس على ما فعلوه مزيد، ولكن لا بد فى كل زمان من تجديد ما طال به العهد، وقصر بالطالبين فيه الجد والجهد، تنبيها للمتوقفين، وتحريضا للمتثبطين، فجمعت بعون الله تعالى وحسن توفيقه فيما سألوا كتابا متوسطا بين الطويل الممل، والقصير المخل، ارجو أن يكون مفيدا، لمن أقبل على تحصيله مزيدا .. ثم ذكر الأسانيد التى اعتمدها فى تفسيره ... ومن هنا ندرك أن كتابه من الكتب المعتبرة فى التفسير بالمأثور ..

ثم يقول: إن الناس كما انهم متعبدون باتباع أحكام القرآن وحفظ حدوده، فهم متعبدون بتلاوته، وحفظ حروفه، على سنن خط المصحف- اعنى الإمام- الذى اتفقت عليه الصحابة، وأن لا يجاوزوا فيما يوافق الخط ما قرأ به القراء المعروفون الذين خلفوا الصحابة والتابعين، واتفقت الأئمة على اختيارهم، وقد ذكرت فى الكتاب قراءة من اشتهر منهم بالقراءات واختباراتهم .. أما عن استشهاده بالأحاديث والآثار فقد اختار فيه الصحيح المقبول، وترك الضعيف والموضوع- ويعبر عن ذلك قوله: وما ذكرت من أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى أثناء الكتاب على وفاق آية أو بيان حكم، فإن الكتاب يطلب بيانه من السنة، وعليها مدار الشرع وأمور الدين من الكتب المسموعة للحفاظ ذائعة الحديث، واعرضت عن ذكر المناكير، وما لا يليق بحال التفسير فأرجو أن يكون مباركا على من أراده ... ثم عقد عدة فصول بين يدى التفسير تتمثل فيما يلى: فصل فى فضائل القرآن وتعليمه. فصل فى فضائل تلاوة القرآن. فصل فى وعيد من قال فى القرآن برأيه من غير علم ... ونحن نلاحظ فما يتعلق بالإمام البغوى أن له جوانب تجعله من الطبقة الممتازة لقد استكمل عدة التفسير من اللغة فقد جالس علماء اللغة وتثقف عليهم كأحسن ما تكون الثقافة اللغوية وبعض الناس يظن أن اللغة كافية فى معرفة التفسير، ولكنهم مخطئون فلا بد فى التفسير من عناصر أخرى، منها: السنة النبوية الشريفة: وقد برع فيها الإمام البغوى فهو محدث ممتاز وصلت به ثقافته فى الحديث إن سمى: محيى السنة، وكان محدثا ثقة وهو فى تقدير المحدثين: الإمام الحافظ الثقة. وقد اتقن فن القراءات وأبان عنها فى تفسيره.

وكان مهذبا، أدبه القرآن والحديث ومن أثر هذا الأدب أن شكر فى مقدمة تفسيره السابقين من المفسرين واثنى عليهم. ويرى الإمام البغوى- ونحن نؤيده فى ذلك تأييدا مطلقا- وجوب حفظ حروف القرآن على سنن خط المصحف الإمام اعنى الخط العثمانى الذى اتفقت عليه الصحابة، وان لا يجاوز وإنما يوافق ما قرأ به القراء المعروفون الذين خلفوا الصحابة والتابعين واتفقت الأئمة على اختيارهم. كل ذلك يوضع فى كفة امتياز الإمام البغوى .. ويتضح مجهوده فى التفسير بنماذج منه: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (سورة البقرة الآية 153) بالعون والنصرة (ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله أموات) نزلت فى قتلى بدر من المسلمين، وكانوا أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، كان الناس يقولون لمن يقتل فى سبيل الله: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها، فأنزل الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (سورة البقرة الآية 152) كما قال فى شهداء أحد: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. (سورة آل عمران الآية 169). قال الحسن: إن الشهداء أحياء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح الفرعون غدوة وعشية فيصل إليهم الوجع.

وقال تعالى: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ (سورة الأنعام الآية 120) يعنى الذنوب كلها لأنها لا تخلوا من هذين الوجهين: قال قتادة: علانيته وسره، وقال مجاهد: ظاهره ما يعمله الإنسان بالجوارح من الذنوب وباطنه ما ينويه ويقصده بقلبه كالمصر على الذنب القاصد له. قال الكلبى: كظاهره الزنا، وباطنه المخالفة، وأكثر المفسرين على أن ظاهر الإثم الاعلان بالزنا وهم أصحاب الرايات، وباطنه الاستسرار به، وذلك أن العرب كانوا يحبون الزنا، وكان الشريف منهم يتشرف فيسر به، وغير الشريف لا يبالى فيظهره، فحرمهما الله عز وجل .. وقال سعيد ابن جبير: ظاهر الإسم نكاح المحارم، وباطنه الزنا .. وقال ابن زيد: إن ظاهر الإثم التجرد من الثياب والتعرى فى الطواف، والباطن الزنا .. وروى حيان عم الكلبى: ظاهر الإثم طواف الرجال بالبيت نهارا عراة، وباطنه طواف النساء بالليل عراة .. إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ فى الآخرة .. بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (سورة الأنعام الآية 120) يكتسبون فى الدنيا ..

المفردات فى غريب القرآن للراغب الأصفهانى

المفردات فى غريب القرآن للراغب الأصفهانى ويسمى هذا الكتاب عادة: «المفردات للراغب الأصفهانى». أما الراغب الأصفهانى فإنه من أهل اصبهان أو أصفهان. ولما تزود من العلم بحظ كاف يمم شطر بغداد، وكانت محط أنظار العلماء واشتهر بها شهرة واسعة. ولا نعلم فى يقين متى كان ميلاده ولكن وفاته كانت على التقريب سنة 502 هـ، 1108 م. ولقد كان الراغب أديبا قمة فى الأدب، وكان عالما من أئمة العلماء، وفقيها من خيرة الفقهاء. ولكن المادة التى كانت مدار تخصصه وشهرته كانت: القرآن. لقد انغمس فى أنوار القرآن واتخذه نبراسا لآرائه وسلوكه، وواتاه فى ذلك تمكنه من اللغة وذوقه الجميل فى الأدب. ولقد ألف فى الجو القرآنى: 1 - جامع التفاسير، وهو تفسير مستفيض، وإن كان لم يكمل، وقد طبعت مقدمته مبينة عن فضل عظيم للمؤلف فى مجال العلم بالقرآن وما ينبغى للمفسر. وقد اقتبس الإمام البيضاوى وغيره من هذا التفسير كثيرا. 2 - حل متشابهات القرآن. 3 - تحقيق البيان فى تأويل القرآن. 4 - المفردات الذى سنتحدث عنه إن شاء الله. ولكن إذا كانت هذه المؤلفات متصله بالقرآن مباشرة، فإن الكثير من

مؤلفاته الأخرى مستمد من القرآن الكريم، ونابع من أنواره، ومن ذلك مثلا كتاب: «الذريعة فى مكارم الشريعة». وهو كتاب نفسى جدا ويقال: إن الإمام الغزالى قدس الله روحه كان لا يفارق هذا الكتاب فى حل ولا ترحال، وهذا الكتاب جدير بالاقتناء، وقد كان الشيخ محمد عبده عليه رحمة الله يستفيد منه كثيرا، وهو كتاب فى الأخلاق الإسلامية مصدره القرآن والسنة الشريفة. وله كتاب آخر بعنوان: «الأخلاق» وأحيانا يسمى أخلاق الراغب، وهو كتاب يستمد أيضا من القرآن الكريم. أما فى الأدب واللغة فله كثير من المؤلفات منها: «محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء، وقد طبع فى القاهرة فى جزءين وهو يضم ظرائف وملحا مما وقع بين الأدباء أو مما كتبوه فى مؤلفاتهم. وله فى هذا المجال: «أفانين البلاغة». «وهو كتاب يبين إبانة واضحة عن المدى العظيم فى احاطة المؤلف بالبلاغة وعمق نظرته فيها، ولكن الطريف فى مؤلفات هذا العالم القمه هو كتابه: «أدب الشطرنج». وهو كتاب له مفهومه الواسع فى حياة المؤلف انه يدل على: 1 - لم يكن المؤلف متزمتا ولا متصنعا للتزمت. 2 - كان المؤلف مرحا ولا يتنافى مرحه مع وقار العلم وكرامة العلماء. 3 - كان المؤلف ذكيا يتحدى بذكائه فى هذه اللعبة: لعبة الذكاء والأذكياء.

أما مكانة المؤلف فى نظر العلماء فيكفينا أن نقول: إن الإمام فخر الدين الرازى صاحب التفسير المشهور والذى بلغ فى علم الكلام القمة، كان يقرن الراغب الأصفهانى بحجة الإسلام الإمام الغزالى. والواقع أن بينهما شبها كبيرا، وألوان الشبه: ان كلا منهما كان من أهل السنة وكان كلاهما يرد على المعتزلة، وكان كلاهما مهتما بالأخلاق، وذلك لأن الأخلاق من الأسس الأصيلة التى تقوم عليها المجتمعات الصالحة. وكتابة «المفردات» الذى نكتب عنه اليوم من الكتب التى لا غنى لعالم من علماء الإسلام عنها، وهو يتحدث فيه عن مفردات القرآن: يتتبع اللفظ فى الآيات القرآنية شارحا له فيها متحدثا عن مفاهيمه فى مختلف المواضع مستأنسا على ذلك بالحديث الشريف أو بأشعار العرب، وقد أجاد إجادة تامة فى الوصول إلى غايته وهى تفسير ألفاظ القرآن. وقد رتب كتابه على ترتيب الحروف الهجائية، وذلك ليسهل الكشف فيه. وهذا الكتاب يعتبره المؤلف «حلقة» بين حلقتين، احداهما سابقة قد تحققت أما الثانية: فإنها كانت فى عزم المؤلف عند ما شرع فى تأليف هذا الكتاب، ونترك المؤلف يعبر عن ذلك بقلمه، إنه يقول: «وقد استخرت الله تعالى فى إملاء كتاب مستوفى فيه مفردات ألفاظ القرآن على حروف التهجى فتقدم ما أوله الألف ثم الباء على ترتيب حروف المعجم معتبرا فيه أوائل حروفه الأصلية دون الزوائد والإشارة فيه إلى المناسبات التى بين الألفاظ المستعارات منها والمشتقات حسبما يحتمل التوسع فى هذا الكتاب واحيل بالقوانين الدالة على تحقيق مناسبات الألفاظ على الرسالة التى عملتها مختصة بهذا الباب ففي اعتماد ما حررته من هذا النحو استغناء فى بابه من المثبطات عن المصارعة فى سبيل الخيرات وعن المسابقة إلى ما حثنا عليه بقوله تعالى سابقوا إلى مغفرة من ربكم سهل الله علينا الطريق إليها واتبع هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ونسأ فى الأجل بكتاب ينبئ عن تحقيق الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد وما بينها من الفروق الغامضة فبذلك يعرف

اختصاص كل خبر بلفظ من الألفاظ المترادفة دون غيره من أخواته نحو ذكره القلب مرة والفؤاد مرة والصدر مرة ونحو ذكره تعالى فى عقب قصة إن فى ذلك لآيات لقوم يؤمنون وفى أخرى لقوم يتفكرون وفى اخرى لقوم يعلمون وفى أخرى لقوم يفقهون وفى أخرى لأولى الأبصار وفى أخرى لذى حجر وفى أخرى لأولى النهى ونحو ذلك ما بعده يحق الحق ويبطل الباطل وأنه باب واحد فيقدر أنه إذا فسر الحمد لله بقوله الشكر لله ولا ريب فيه بلا شك فيه فسر القرآن ووفاه التبيان جعل الله لنا التوفيق رائدا والتقوى سائقا ونفعنا بما اولانا وجعله لنا من معاون تحصيل الزاد المأمور به فى قوله تعالى وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. (سورة البقرة الآية 197) وأما مقدمة الكتاب فإنها تتحدث فى أسلوب رائق عن القرآن الكريم إذ يقول: «الحمد لله رب العالمين وصلواته على نبيه محمد وآله أجمعين قال الشيخ أبو القاسم الحسين بن محمد بن الفضل الراغب رحمة الله اسأل الله أن يجعل لنا من أنواره نورا يرينا الخير والشر بصورتيهما ويعرفنا الحق والباطل بحقيقتهما حتى نكون ممن يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ومن الموصوفين بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. (سورة الفتح الآية 4) وبقوله أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ. (سورة المجادلة الآية 22) كنت قد ذكرت فى الرسالة المنبهة على فوائد القرآن إن الله تعالى كما جعل النبوة بنبينا مختتمة وجعل شرائعهم بشريعته من وجه منتسخة ومن وجه مكملة مننه تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (سورة المائدة الآية 3)

جعل كتابه المنزل عليه متضمنا ثمرة كتبه التى أولاها أوائل الأمم كما نبه عليه بقوله تعالى يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وجعل من معجزة هذا الكتاب أنه مع قلة الحجم متضمن للمعنى الجم وبحيث تقصر الألباب البشرية عن احصائه والآلات الدنيوية عن استيفائه كما نبه عليه بقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. (سورة لقمان الآية 27) لكن محاسن أنواره لا يثقفها إلا البصائر الجلية وأطايب ثمره لا يقطفها إلا الايدى الزكية ومنافع شفائه لا ينالها إلا النفوس النقية كما صرح تعالى به فقال فى وصف متناوليه: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. (سورة الواقعة الآية 77 و 78 و 79) وقال فى وصف سامعيه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى. (سورة فصلت الآية 44) وذكرت أنه كما لا تدخل الملائكة الحاملة للبركات بيتا فيه صورة أو كلب كذلك لا تدخل السكينات الجالبة للبينات قلبا فيه كبر وحرص: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ. (سورة النور الآية 26)

ودللت فى تلك الرسالة على كيفية اكتساب الزاد الذى يرقى كاسه فى درجات المعارف حتى يبلغ من معرفته أقصى ما فى قوة البشر أن يدركه من الأحكام والحكم فيطلع من كتاب الله على ملكوت السموات والأرض ويتحقق أن كلامه كما وصفه بقوله ما فرطنا فى الكتاب من شىء جعلنا الله كما قال تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ. (سورة القصص الآية 56) وذكرت أن أول ما يحتاج أن يشتغل به العلوم اللفظية ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفرقة فتحصيل معانى مفردات ألفاظ القرآن فى كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه كتحصيل اللبن فى كونه من أول المعاون فى بناء ما يريد أن يبنيه وليس ذلك نافعا فى علم القرآن فقط بل هو نافع فى كل علم من علوم الشرع فألفاظ القرآن هى لب كلام العرب وزبدته وواسطته وكرائمه وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء فى احكامهم وحكمهم وإليها مفزع حذاق الشعر والبلغاء فى نظمهم ونثرهم وما عداها وعدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتقات منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، والحثالة والتبن بالإضافة إلى لبوب الحنطة. والآن نورد نماذج من الكتاب: 1 - (آدم) أبو البشر قيل: سمى بذلك لكون جسده من اديم الأرض وقيل لسمرة فى لونه يقال رجل آدم نحو اسمر وقيل سمى بذلك لكونه من عناصر مختلفة وقوة متفوقة كما قال تعالى «امشاج نبتليه» ويقال جعلت فلانا أدمة أهل أى خلطته بهم وقيل سمى بذلك لما طيب به من الروح المنفوخ فيه المذكور فى قوله ونفخت فيه من روحى وجعل له به العقل والفهم والروية التى فضل بها على غيره كما قال تعالى:

وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا. (سورة الاسراء الآية 70) وذلك من قولهم الادام وهو ما يطيب به الطعام وفى الحديث لو نظرت إليها فإنها أحرى أن يؤدم بينكما أى يؤلف ويطيب. 2 - (الرزق) يقال للعطاء الجارى تارة دنيويا كان أم أخرويا وللنصيب تارة ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة يقال أعطى السلطان رزق الجند ورزقت علما قال: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. (سورة المنافقون الآية 10) أى من المال والجاه، والعلم وكذلك قوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. (سورة البقرة الآية 2) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ (سورة البقرة الآية 172) وقوله وتجعلون رزقكم أنّكم تكذّبون أى وتجعلون نصيبكم من النعمة تحرى الكذب وقوله وفى السماء رزقكم قيل عنى به المطر الذى به حياة الحيوان وقيل هو كقوله وأنزلنا من السماء وقيل تنبيه أن الحظوظ بالمقادير، وقوله تعالى: فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ. (سورة الكهف) أى بطعام يتغذى به وقوله تعالى: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ. (سورة ق الآية 10)

قيل عنى به الأغذية ويمكن أن يجمل على العموم فيما يؤكل ويلبس ويستعمل وكل ذلك مما يخرج من الأرضين وقد قيضه الله بما ينزله من السماء من الماء وقال فى العطاء الأخروى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. (سورة آل عمران الآية 169) أى يفيض الله عليهم النعم الأخروية وكذلك قوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا. (سورة مريم الآية 62) وقوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ. (سورة الذاريات الآية 58) فهذا محمول على العموم والرزاق يقال لخالق الرزق ومعطيه والمسبب له وهو الله تعالى ويقال ذلك للانسان الذى يصير به وصول الرزق والرزاق لا يقال إلا لله تعالى وقوله: وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ. (سورة الحجر الآية 20) أى يسبب فى رزقه ولا مدخل لكم فيه وقوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ. (سورة النحل الآية 73) أى ليسوا بسبب فى رزق بوجه من الوجوه، وبسبب من الأسباب ويقال ارتزق الجند اخذوا أرزاقهم والرزقة ما يعطونه دفعة واحدة، وهذا الكتاب النفيس مطبوع عدة طبعات.

الفخر الرازى وتفسيره

الفخر الرازى وتفسيره هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن على القرشى التيمى البكرى الطبرستانى الرازى. لقب بفخر الدين، وعرف بابن الخطيب. ولد بالرى خامس عشر شهر رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة للهجرة. وقد شب على طلب العلم ورحل فى سبيل تحصيله الى أشهر مواطنه فى عمره: فى خوارزم وخراسان وماوراء النهر، وكان قد قضى وطره من التلقى عن والده الذى كان من تلاميذ الامام البغوى الشهير ثم تلقى بعده عن الكمال السمعانى والمجد الجيلى وكثير من العلماء الذين عاصرهم. وقد كان من نتيجة السعى لطلب العلم والجد فى تحصيله ان أصبح الرازى- كما قيل عنه- إمام وقته فى العلوم العقلية فكان متكلم زمانه، وأحد الأئمة فى العلوم الشرعية، والتفسير واللغة. كما كان فقيها على المذهب الشافعى. مؤلفاته : وقد ترك الرازى فى هذه العلوم الكنوز العلمية الكبيرة والآثار الخالدة من المؤلفات التى حظيت فى حياته وبعد وفاته باقبال الناس عليها يتدارسونها وينتفعون بما تركته قريحة هذا العالم الكبير وهى تربوا- فى مجموعها على مائتى مصنف. ومن أشهر مؤلفات الرازى: كتابه المشهور فى التفسير المعروف ب «مفاتيح الغيب».

ولوامع البينات فى شرح أسماء الله تعالى والصفات. وكتاب معالم أصول الدين. ومحصل المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين. والمسائل الخمسون فى أصول علم الكلام. وأسرار التنزيل فى التوحيد. والمباحث المشرقية. وانموذج العلوم. والمحصول فى علم الاصول. والسر المكتوم فى مخاطبة النجوم. وكتاب الهندسة. وغير ذلك الكثير مما يجعله فى مكانه مع كبار العلماء والمفكرين والفلاسفة الاسلاميين. وقد كان لهذا العالم الفذ مواقفه الصلبة دفاعا عن العقيدة وذبا عن حماها. وكان للرازى شهرة كبيرة فى الوعظ باللسانين العربى والعجمى اذ كان بالغ التأثير فى خطابته لما يلحقه من وجد فى حال الوعظ حيث كان يكثر من البكاء فيأخذ بمجامع القلوب وتنصت إليه الأسماع وقد زاد من تأثيره فى قلوب سامعيه عاطفته التى كانت تجيش فى كثير من الاحيان بشعر ياخذ بالالباب ويهز أوتار القلوب هزا، ومن شعره فى ذلك: اليك اله الحق وجهى ووجهتى ... وأنت الذى ادعوه فى السر والجهر وأنت غياثى عند كل ملمة ... وأنت أنيسى حين أفراد فى القبر ومنه: نهاية اقدام العقول عقال ... وأكثر سعى العالمين ضلال

تلامذة الرازى

وأرواحنا فى وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال وكم قد رأينا من رجال دولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال تلامذة الرازى : وقد كثر تلاميذ الرازى كثرة فائقة حتى قيل انه كان يمشى فى خدمته نحو ثلاثمائة تلميذ، وكان يحضر مجالس وعظه الخاص والعام. وقد عاش الرازى فى رغد من العيش وسعة من الثراء ونعمة تضاهى نعمة الملوك حيث اجتمعت له الاموال الكثيرة اكراما له من سلاطين عصره من أمثال: شهاب الدين الغورى سلطان غزنة. والسلطان علاء الدين خوارزم شاه. وقد عظم شأنه حتى أن الملك خوارزم هذا كان يأتى إلى بابه ويحضر مجالس وعظه حتى اذا انتهت به الحياة وقضى منها وطره ترك ثروة ضخمة تربو على ثمانين ألف دينار. ومع ما قام به هذا الرجل من دراسات وتأليف ومحاورات فى علم الكلام فاننا نراه- ككثرة من العلماء- يعود إلى الاقرار بأن هناك ما هو أجدى وأجدر بالبحث والدراسة والتصنيف وهو القرآن الكريم فتراه يقول: «لقد اختبرت الطريق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروى غليلا، ولا تشفى عليلا، ورأيت أصح الطريق طريقة القرآن .... ثم يقول: «وأقول من صميم القلب من داخل الروح: أنى مقر بأنّ ما هو الاكمل والأفضل الأعظم الاجل فهو لك، وكل ما هو عيب ونقص فأنت منزه عنه ...

وأن الإمام الرازى بهذا الاعتراف الذى كان منه فى أواخر حياته يبين أن هذا الفيلسوف بعد أن طاف بمجالات الفكر فى جوانبها العميقة وفى زواياها المستفيضة رأى فى النهاية أن منهج الاتباع للقرآن وللسنة هو المنهج الذى يهدى الانسان الى الصراط المستقيم، أما المتاهات التى سار فيها الفلاسفة والمتكلمون فإنها ليست بمنهج السلم الصادق. والقرآن نزل هداية للعقل ورسما للطريق الصواب، وهو عصمة لمن اتبعه، وهداية لمن استقام عليه. وعاد الامام الرازى اذن بعد أن طوف ما طوف إلى القرآن الكريم متبعا ومستهديا ومسترشدا، وقال كلمته المشهورة: نهاية اقدام العقول عقال ... تفسير الرازى «مفاتيح الغيب» ومنهجه فيه. يقع هذا التفسير فى ثمانية مجلدات ضخمة مطبوعة ومتداولة بين أهل العلم حيث يحظى بين دارسى القرآن بالشهرة الواسعة نظرا لما يشتمل عليه من أبحاث فياضة تضم أنواعا شتى من مسائل العلوم المختلفة حتى قيل عنه أنه: جمع كل غريب وغريبة. والناظر فى هذا التفسير الكبير يجد أمورا هامة تلفت النظر وتشد الانتباه منها: 1 - الاهتمام بذكر المناسبات بين سور القرآن وآياته وبعضها مع بعض حتى يوضح ما عليه القرآن من ترتيب على الحكمة «تنزيل من حكيم حميد». 2 - كثرة الاستطراد إلى العلوم الرياضية والفلسفية والطبيعة وغيرهما. 3 - العرض لكثير من آراء الفلاسفة والمتكلمين بالرد والتفنيد فهو- على شاكلة أهل السنة ومن يعتقد معتقدهم- يقف دائما للمعتزلة بالمرصاد يفند آراءهم ويدحض حجتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا. 4 - والفخر الرازى فى تفسيره لا يكاد يمر بآية من آيات الأحكام إلا

ويذكر مذاهب الفقهاء فيها مع ترويجه لمذهب الشافعى الذى كان يتابعه هو فى عبادته ومعاملاته. 5 - ويضيف الرازى إلى ما سبق كثيرا من المسائل فى علوم: الأصول والبلاغة والنحو وغيرها، وان كانت هذه المسائل فى مجموعها بعيدة عن الاطناب والتوسع كما هو الحال فى المسائل الكونية والرياضية والفلسفية بوجه عام. وبالجملة فتفسير الإمام الرازى أشبه ما يكون بموسوعة كبيرة فى علوم الكون والطبيعة والعلوم التى تتصل اتصالا من قريب أو بعيد بعلم التفسير والعلوم الخادمة له والمترتبة عليه استنباطا وفهما. وانظر إليه بعد أن عرض لسورة الفاتحة عرضا موجزا فى مقدمته اذ يقول: أما بعد: فهذا كتاب مشتمل على شرح بعض ما رزقنا الله تعالى من علوم سورة الفاتحة، ونسأل الله العظيم أن يوفقنا لا تمامه وأن يجعلنا فى الدارين اهلا لإكرامه وانعامه ... وهذا الكتاب مرتب على مقدمة وكتب، أما المقدمة ففيها فصول: الفصل فى التنبيه على علوم هذه السورة على سبيل الإجمال. ثم يقول: اعلم أنه مر على لسانى فى بعض الأوقات أن هذه السورة الكريمة يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسئلة فاستبعد هذا بعض الحساد وقوم من أهل الجهل والغى والعناد وحملوا على ذلك ما ألفوه من انفسهم من التعليقات الفارغة من المعانى والكلمات الخالية من تحقيق المعاقد والمبانى، فلما شرعت فى تصنيف هذا الكتاب قدمت هذه المقدمة لتصير كالتنبيه على أن ما ذكرناه أمر ممكن الحصول قريب الوصول. ثم يذكر بعد ذلك مقدمة جدلية يشفعها بقوله: فظهر بهذا الطريق أن قولنا «اعوذ بالله» مشتمل على الألوف من المسائل الحقيقية اليقينية ...

نموذج من تفسيره

ثم يؤكد ذلك مرة أخرى مع زيادة وتوسع فى تفصيل وتوضيح فيقول: «فيثبت بهذا الطريق أن قولنا: «اعوذ بالله» مشتمل على عشرة آلاف مسألة وأزيد أو أقل من المسائل المهمة المعتبرة». والكتاب بين يدى القارئ بذلك يعتبر مائدة كبرى حوت أطيب المآكل والمشارب وقطوف الثمرات يشبع ويروى بها أهل العلم ودارسوا القرآن وعلومه أفئدتهم وظمأهم من هذا التفسير المبارك. رحم الله الرازى ونفع بتفسيره وجزاه عن القرآن وعلوم القرآن ودارسيه خير الجزاء. نموذج من تفسيره : قوله تعالى: «لا ريب فيه» فيه مسئلتان: المسألة الأولى: «الريب» قريب من الشك، وفيه زيادة كأنه ظن سوء ... تقول: رابنى امر فلان اذا ظننت به سوءا، ومنه قوله عليه السلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». فان قيل؛ قد يستعمل الريب فى قولهم ريب الدهر، وريب الزمان أى حوادثه. قال تعالى: نتربص به ريب المنون. ويستعمل أيضا فى معنى ما يختلج فى القلب من أسباب الغيظ كقول الشاعر: قضينا فى تهامة كل ريب ... وخير ثم اجمعنا السيوفا قلنا: هذان قد يرجعان الى معنى الشك لأن الشك ما يخاف من ريب المنون محتمل فهو كالمشكول، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن. فقوله تعالى: «لا ريب فيه» المراد منه نفى كونه مظنة الريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شبهة فى صحته ولا فى كونه من عند الله ولا فى كونه معجزا.

ولو قلت: المراد لا ريب فى كونه معجزا على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا (سورة البقرة الآية 23) وهاهنا سؤالان: السؤال الأول: طعن بعض الملحدة فيه فقال: إن عنى أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه، وإن عنى أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه .. الجواب: المراد أنه بلغ من الوضوح إلى حيث لا ينبغى لمرتاب أن يرتاب فيه، والامر كذلك، لان العرب مع بلوغهم فى الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن وذلك يشهد بأنه بلغ هذه الحجة فى الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه. السؤال الثانى: لم قال هاهنا: لا ريب فيه، وفى موضع آخر «لا فيها غول .. ؟ الجواب: لانهم يقدمون الاهم فالمهم، وهاهنا الأهم نفى الريب بالكلمة عن الكتاب، ولو قلت: لا ريب فيه لاوهم أن هناك كتابا آخر حصل الريب فيه لا هنا كما قصد فى قوله: لا فيها غول تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا فانها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا. السؤال الثالث: من بين بدل قوله لا ريب فيه على نفى الريب بالكلية. الجواب: قرأ أبو الشعثاء: لا ريب فيه- بالرفع. واعلم أن القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدليل عليه أن قوله: لا ريب فيه نفى لما هية الريب، ونفى الماهية يقتضى نفى كل فرد من افراد الماهية، لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية، ولهذا السر كان قولنا: لا اله الا الله نفيا لجميع الآلهة سوى الله تعالى.

وأما قولنا: لا ريب فيه- بالرفع فهو نقيض لقولنا: ريب فيه، وهو يفيد ثبوت فرد واحد فذلك النفى يوجب انتفاء جميع الافراد ليتحقق التناقض .... الخ ..

الإمام الطبرسى وتفسيره مجمع البيان لعلوم القرآن

الإمام الطبرسى وتفسيره مجمع البيان لعلوم القرآن ان مؤلف هذا التفسير هو الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسى. والطبرسى: نسبه إلى طبرستان، وهو من كبار علماء الشيعة الامامية، توفى سنة 548 هـ. ليلة عيد الاضحى وقد عاش فى خراسان فى المشهد الرضوى مدة طويلة فنسب إلى المشهد، ويقال له أحيانا الطبرسى المشهدى ثم ارتحل إلى بلده سبزاوار من اقليم خراسان. وألف هذا، الكتاب بها وفرغ من تأليفه فى ذى القعدة سنة 546 هـ. وهو رجل من بيت من بيوت العلم، فقد كان ابنه رضى الدين من أهل العلم وكان سبطه على بن الحسن من أهل العلم وكان الكثيرون من أقربائه وأحفاده من ذوى المكانة العلمية. وأخذ عنه كثير من العلماء وأخذ هو عن قمة من قمم المذهب الشيعى هو الشيخ أبى على بن الشيخ الطوسى وقد ألف فى التفسير ثلاثة كتب أحدها هذا الكتاب الذى نقدمه الآن ولتأليفه قصة: إن المؤلفين يذكرونها كما يلى: «ومن عجيب أمر هذا الطبرسى بل من غريب كراماته، ما اشتهر بين الخاص والعام أنه قد أصابته السكتة فظنوا به الوفاة فغسلوه وكفنوه ثم رجعوا، فلما أفاق وجد نفسه فى القبر ومسدود عليه سبيل الخروج عنه من كل جهة، فنذر فى تلك الحالة أنه أن انجى من تلك الداهية ألف كتابا فى تفسير القرآن، فاتفق أن بعض النباشين قصده لأخذ كفنه، فلما كشف عن وجه القبر أخذ الشيخ بيده فتحير النباش ودهش مما رآه ثم تكلم معه فازداد به قلقا، فقال له: لا تخف، أنا حى وقد أصابتنى السكتة ففعلوا بي هذا، ولما لم يقدر على

النهوض والمشى من غاية ضعفه، حمله النباش على عاتقه وجاء به إلى بيته الشريف، فأعطاه الخلعة وأولاه ما لا جزيلا، وتاب على يده النباش، ثم انه بعد ذلك وفى بنذره الموصوف، وشرع فى تأليف مجمع البيان» اهـ. أما التفسير الثانى فله أيضا قصة وذلك أنه وصله فى يوم من الأيام تفسير الكشاف فوجد أنه تفسير نفيس فاستحسن طريقته، وأعجب به، ولكنه رأى به بعض ما يؤخذ عليه من التعصب الكامل لمذهب المعتزلة، فألف كتاب: «الكافى الشافى عن الكشاف» وقد ضمن هذا الكتاب الوسيط فوائد تفسيره مجمع البيان وفوائد تفسير الكشاف وهو فى أربعة مجلدات، وله تفسير ثالث مختصر هو الوجيز. والتفسير الذى نقدمه كتب عنه قديما وحديثا كثير من مفكرى الاسلام، لقد كتب عنه الشيخ محمد تقى القمى من أعلام الشيعة: «انه كتاب وقف مؤلفه موقف الانصاف، والتزم جادة الأدب القرآنى، فلم يعنف فى جدال، ولم يسفه فى مقال، بل أعطى مخالفيه ما أعطى موافقيه من حسن العرض، وبيان الحجة، ورواية السند، فمكن القارئ بذلك من الحكم السديد، وجعل من كتابه موضعا للقدوة الحسنة فى الجدال بالتى هى أحسن. وكتب عنه فضيلة الامام الأكبر الشيخ محمود شلتوت ما يلي: «ان هذا الكتاب نسيج وحده بين كتب التفسير وذلك لأنه مع سعة بحوثه وعمقها وتنوعها، له خاصية فى الترتيب والتبويب، والتنسيق والتهذيب، لم تعرف لكتب التفسير من قبله، ولا تكاد تعرف لكتب التفسير من بعده: فعهدنا بكتب التفسير الاولى أنها تجمع الروايات والآراء فى المسائل المختلفة، وتسوقها عند الكلام على الآيات سوقا متشابكا ربما اختلط فيه فن بفن، فما يزال القارئ يكد نفسه فى استخلاص ما يريد من هنا وهناك حتى يجتمع إليه

ما تفرق، وربما وجد العناية ببعض النواحى واضحة إلى حد الاملال، والتقصير فى بعض آخر واضحا إلى درجة الاختلال، أما الذين جاءوا بعد ذلك من المفسرين، فلئن كان بعضهم قد اطنبوا، وحققوا وهذبوا وفصلوا وبوبوا، فإن قليلا منهم أولئك الذين استطاعوا مع ذلك أن يحتفظوا لتفسيرهم بالجو القرآنى الذى يشعر معه القارئ بأنه يجول فى مجالات متصلة بكتاب الله اتصالا وثيقا، وتتطلبها خدمته حقا لا لادنى ملابسة، وأقل مناسبة. لكن كتابنا هذا كان أول- ولم يزل أكمل- مؤلف من كتب التفسير الجامعة استطاع أن يجمع إلى غزارة البحث، وعمق الدرس، وطول النفس فى الاستقصاء، هذا النظم الفريد، القائم على التقسيم والتنظيم والمحافظة على تفسير القرآن، وملاحظة أنه فن يقصد به خدمة القرآن، لا خدمة اللغويين بالقرآن، ولا خدمة الفقهاء بالقرآن، ولا تطبيق آيات القرآن على نحو سيبويه، أو بلاغة عبد القاهر، أو فلسفة اليونان أو- الرومان، ولا الحكم على القرآن بالمذاهب التى يجب أن تخضع هى لحكم القرآن. ومن مزايا هذا التنظيم أنه يتيح لقارئ الكتاب فرصة القصد إلى ما يريده قصدا مباشرا، فمن شاء أن يبحث عن اللغة عمد إلى فصلها المخصص لها، ومن شاء أن يبحث بحثا نحويا اتجه إليه، ومن شاء معرفة القراءات رواية أو تخريجا وحجة عمد إلى موضع ذلك فى كل آية فوجده ميسرا محررا، وهكذا. ولا شك أن هذا فيه تقريب أى تقريب على المشتغلين بالدراسات القرآنية، ولا سيما فى عصرنا الحاضر الذى كان من أهم صوار فى المثقفين فيه عن دراسة كتب التفسير ما يصادفونه فيها من العنت، وما يشق عليهم من متابعتها فى صبر ودأب، وكد وتعب. فتلك مزية نظامية لهذا الكتاب، بجانب مزاياه العلمية الفكرية. أما منهج صاحب الكتاب نفسه فانه يتحدث عنه قائلا: أنه استخار الله تعالى، ثم يقول:

«وشمرت عن ساق الجد، وبذلت غاية الجهد والكد، وأسهرت الناظر، وأتعبت الخاطر، وأطلت التفكير، وأحضرت التفاسير، واستمددت من الله سبحانه التوفيق والتيسير، وابتدأت بتأليف كتاب هو فى غاية التلخيص والتهذيب، وحسن النظم والترتيب، بجمع أنواع هذا العلم وفنونه، ويحوى فصوصه وعيونه، من علم قراءاته، واعرابه ولغاته، وغوامضه ومشكلاته، ومعاينة وجهاته، ونزوله وأخباره، وقصصه وآثاره، وحدوده وأحكامه، وحلاله وحرامه، والكلام على مطاعن المبطلين فيه، وذكر ما ينفرد به أصحابنا رضى الله عنهم من الاستدلال بمواضع كثيرة منه على صحة ما يعتقدونه من الأصول والفروع، والمعقول والمسموع على وجه الاعتدال والاختصار، فوق الايجاز ودون الاكثار، فان الخواطر فى هذا الزمان لا تحتمل أعباء العلوم الكثيرة، وتضعف عن الاجراء فى الحلبات الحظيرة، اذ لم يبق من العلماء إلا الأسماء، ومن العلوم إلا الذماء، وقدمت فى مطلع كل سورة ذكر مكيها ومدنيها، ثم ذكر الاختلاف فى عدد آياتها، ثم ذكر فضل تلاوتها ثم أقدم فى كل آية الاختلاف فى القراءات، ثم ذكر العلل والاحتجاجات، ثم ذكر العربية واللغات ثم ذكر الاعراب والمشكلات، ثم ذكر الاسباب والنزولات، ثم ذكر المعانى والأحكام والتأويلات، والقصص والجهات، ثم ذكر انتظام الآيات، على أنى قد جمعت فى عربيته كل غرة لائحة، وفى اعرابه كل حجة واضحة وفى معانيه كل قول متين، وفى مشكلاته كل برهان مبين، فهو بحمد الله للأديب عمده، وللنحوى عده، وللنحوى عده، وللمقرئ بصيرة، وللناسك ذخيرة، وللمتكلم حجة، وللمحدث محجة، وللفقيه دلالة، وللواعظ آلة. وسميته كتاب «مجمع البيان لعلوم القرآن» وأرجو ان شاء الله تعالى أن يكون كتابا كثير الدرر، غزير الغرر، متواصف السمات، متناسق الصفات، سيارا فى الانجاد والأغوار، طيارا فى الآفاق والاقطار، مهذب الترتيب، مذهب التهذيب، أحكام الشريعة بمعانيه منوطة، وأعلام الحقيقة

بمبانيه مربوطه، وبحول الله أعتصم وبقوته وعونه أفتتح وأختتم، وإياه أسأل الهداية للتى هى أقوم. وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (سورة هود الآية 88) وهاك نماذج من تفسيره: قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (سورة آل عمران الآية 6) يقول: التصوير جعل الشيء على صورة لم يكن عليها، والصورة هيئة يكون عليها الشيء فى التأليف. وأصلها من صاره يصوره اذا أماله لأنها مائلة إلى هيئة بالشبه لها، والفرق بين الصورة والصيغة: أن الصيغة عبارة عما وضع فى اللغة ليدل على أمر من الأمور، وليس كذلك الصورة لأن دلالتها على جعل جاعل شيئا على بنية، والأرحام: جمع رحم وأصله الرحمة، وذلك لأنها مما يتراحم به، ويتعاطف، يقولون: وصلتك رحم، والمشيئة هى الارادة. المعنى: «هو الّذى يصوّركم» أى يخلق صوركم فى الأرحام «كيف يشاء» على أى صورة شاء وعلى أى صفة شاء من ذكر أو أنثى، أو صبيح أو دميم، أو طويل أو قصير «لا اله إلا هو العزيز» فى سلطانه «الحكيم» فى أفعاله. ودلت الآية على وحدانية الله وكمال قدرته وتمام حكمته حيث صور الولد فى رحم الأم على هذه الصفة وركب فيه من أنواع البدائع من غير آلة

ولا كلفة، وقد تقرر فى عقل كل عاقل أن العالم لو اجتمعوا على أن يخلقوا من الماء بعوضة، ويصوروا منه صورة فى حال ما يشاهدونه ويعرفونه، لم يقدروا على ذلك ولا وجدوا إليه سبيلا، فكيف يقدرون على الخلق فى الأرحام. فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (سورة المؤمنون الآية 14) وهذا الاستدلال مروى عن جعفر بن محمد». وهاك نموذج آخر من تفسيره: قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. (سورة آل عمران الآية 164) يقول: «المعنى: ذكر سبحانه عظيم نعمته على الخلق ببعثه نبينا فقال: «لقد من الله» أي أنعم الله «على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا» منهم خص المؤمنين بالذكر وان كان صلّى الله عليه وسلم مبعوثا إلى جميع الخلق، لأن النعمة عليهم أعظم لاهتدائهم به وانتفاعهم ببيانه، ونظير ذلك ما تقدم بيانه من قوله «هدى للمتقين»، وقوله: «من أنفسهم» فيه أقوال: أحدها: أن المراد به من رهطهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته، وكونه أميا لم يكتب كتابا ولم يقرأه ليعلموا أن ما أتى به وحى منزل، ويكون ذلك مشرفا لهم وداعيا إياهم إلى الايمان.

وثانيها: أن المراد به أنه يتكلم بلسانهم فيسهل عليهم تعلم الحكمة منه فيكون خاصا بالعرب. وثالثها: أنه عام لجميع المؤمنين، والمراد بأنفسهم أنه من جنسهم لم يبعث ملكا ولا جنيا، وموضع المنة فيه أنه بعث فيهم من عرفوا أمره، وخبروا شأنه. وقوله: «يتلو عليهم آياته» يعنى القرآن «ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة» ويعرضهم لما يكونون به أزكياء بشهادته لهم بذلك ليعرفهم الناس. «ويعلمهم الكتاب والحكمة» الكتاب القرآن، والحكمة هى القرآن أيضا، جمع بين الصفتين لاختلاف فائدتهما كما يقال: الله العالم بالأمور كلها، القادر عليها. وقيل: أراد بالكتاب القرآن، وبالحكمة الوحى من السنة وما لا يعلم إلا من جهته من الأحكام «وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين» يعنى أنهم كانوا فى ضلال ظاهر بين أى كفارا وكفرهم هو ضلالهم، فأنقذهم الله بالنبى صلّى الله عليه وسلم اهـ. وبعد: فانه مما لا شك فيه أنه تفسير نفيس، وكل ما يؤخذ عليه ميله للمذهب الشيعى ومهما قيل عن انصافه فانه لم يستطع أن يتخلص فى أحكامه من هذا المذهب.

تفسير الإمام أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه

تفسير الإمام أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه هو أبو الحسن على الشاذلى الحسنى يصل نسبه إلى ابن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هريرة بن حاتم، بن قصى، بن يوسف، بن يوشع، بن ورد، بن بطال على بن أحمد، أبى محمد بن عيسى بن محمد الحسن بن سيد شباب أهل الجنة وسبط خير البرية، ابن أمير المؤمنين على بن أبى طالب، كرم الله وجهه، وابن فاطمة الزهراء، بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يقول أبو العزائم ماضى يصف الشيخ رضى الله عنه: «كانت صفته رضى الله عنه، آدم اللون، نحيف الجسم، طويل القامة، خفيف العارضين، طويل أصابع اليدين، كأنه حجازى. وكان فصيح اللسان، عذب الكلام. ولد ببلاد المغرب سنة 593 هـ بقرية تسمى «غمارة» - بلدة مغربية: قريبة من مدينة سبتة. وأخذ يدرس بها العلوم الدينية: وسائل وغايات، وبرع فيها براعة كبيرة. يقول ابن عطاء الله السكندرى عنه: انه لم يدخل طريق القوم حتى كان يعد للمناظرة فى العلوم الظاهرة. بيد أن هذه العلوم الظاهرة مهما بلغت بها الدقة، ومهما بلغ بها العمل، لا تفضى بالنفوس الطموحة إلى الكف عن التطلع نحو عالم الغيب، واشراق الله وأنواره. كيف يصل الانسان الى عالم الغيب؟ كيف ينغمس الانسان فى أضوائه؟

كيف ينعم بجماله، ويشعر بالروعة فى محيط جلاله؟ ان النفوس الطموحة كلما ازدادت علما، ازدادت شعورا بالنقص، والكمال لله وحده، ولقد أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أن يقول: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (سورة طه الآية 114) وشعر أبو الحسن بالرغبة الملحة فى القرب من الله، وفى أن يستضيء قلبه بنور المعرفة، وفى أن يكشف الله له الحجب. كيف يروى هذه الرغبة، كيف يسير فى الطريق، من أين يبدأ؟ لقد رسم الأول الطريق: ان البدء، البدء الميسر السهل، البدء الذى يأمن الانسان عواقبه انما يكون طريقه خبير سير الطريق، ومحص السبل، وكشف عن المزالق والاخطار، واستنار قلبه بالطريق القاصد إلى الله. أين يجد هذا الشيخ ما السبيل إليه؟ ان بغداد منذ عهد العباسيين، كانت دائما محط أنظار طلاب الدنيا، وطلاب الدين. ولقد كانت تضم كبار الفقهاء، وأعلام المحدثين، والقمم العوالى من الصوفية، كما تضم كبار الساسة والقادة، كان ذلك فى عهدها الزاهر فهل يا ترى هى كذلك فى القرن السابع الهجرى؟ واذا لم يكن لها كل البريق المادى الاول فهل بها على الاقل من الصوفية من يرسم الطريق عن خبرة، ومن يسلك بالمريد السبل دون أخطاء؟ وتحمل الرغبة الملحة أبا الحسن على السفر، انها هجرة إلى الله، انها هجرة النفس الطلقة الشفافة. وهى هجرة يسير بها الامل، ويتخللها الاشفاق، وتصاحبها فى كل الاوقات اسئلة لا جواب لها:

هل سيجد الشيخ؟ وكيف يكون؟ وهل يستقبله الشيخ بقبول حسن؟ وبم سينصحه؟ واذا لم يجده فى بغداد فأين يجده؟ انتهى به المطاف إلى بغداد، والتقى بالاولياء، وكان قمتهم فى نظره هو أبو الفتح الواسطى يقول أبو الحسن: لما دخلت العراق اجتمعت بالشيخ الصالح أبى الفتح الواسطى، فما رأيت بالطريق مثله. ولكن همة أبى الحسن كانت تسموا إلى البحث عن القطب ذاته، انه كان يريد أن يكون قائده هو القطب نفسه، أين يجد القطب؟. ها هو ذا بالعراق، وها هم أولاء الصالحون، وأولياء الله يتردد عليهم كل يوم وها هو ذا يرى النور على وجوههم، والصلاح يرتسم على سيماهم، ولكنه لم يجد القطب وهو مطلبه. وذات يوم قال له أحد الأولياء: انك تبحث عن القطب بالعراق، مع أن القطب ببلادك، ارجع إلى بلادك تجده. وعاد أبو الحسن من حيث أتى، عاد يحدوه الأمل، ويغمره الرجاء، لقد صدق الولى الذى أنبأه بأن القطب فى بلاده، وبأنه سيجده عند عودته. وعاد يسرع الخطا ويستحث الوصول. ها هو ذا بغمارة من جديد يسأل عن القطب المقبل والمدبر، والراحل والمقيم:

أقول أكاد اليوم أن أبلغ المدى ... فيبعد عنى ما أقول أكاد أسائلكم عنها فهل من مخبر ... فما لى بنعم مذ نأت دارها علم فلو كنت أدرى أين خيم أهلها ... وأى بلاد الله- اذ ظعنوا- أموا أذن لسلكنا مسلك الريح خلفها ... ولو أصبحت نعم ومن دونها النجم وذات يوم:- يقول أبو الحسن: لما قدمت عليه وهو ساكن بمغارة فى رأس جبل، اغتسلت فى عين بأسفل ذلك الجبل وخرجت عن علمى وعملى، وطلعت إليه فقيرا، واذا به هابط إلى، وعليه مرقعة، وعلى رأسه قلنسوة من خوص، فقال لى: مرحبا بعلى بن عبد الله الجبار، وذكر نسبى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال لى: يا على طلعت إلينا فقيرا من علمك وعملك، فأخذت منا غنى الدنيا والآخرة. فأخذنى منه الدهش، فأقمت عنده أياما إلى أن فتح الله على بصيرتى. وكان رضى الله عنه، يأخذ زينته عند كل مسجد، واذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا». أى أن الأرض- أينما كان الانسان عليها- كلها مسجد، فإن أبا الحسن كان يتحلى دائما بالثياب الحسنة. وما كان أبو الحسن يحب التزمت فى شىء أبدا. وفى يوم من الأيام دخل أبو العباس المرسى على الشيخ أبى الحسن، وفى نفسه أن يأكل الخشن، وأن يلبس الخشن، فقال له الشيخ: يا أبا العباس: اعرف الله وكن كيف شئت.

ومن عرف الله فلا عليه أيضا ان أكل هنيئا وشرب مريئا. وما كان أبو الحسن يتعمد قط أن يأكل الغليظ من الطعام، أو يقتصر على غير الزلال البارد من الشراب، انه يقول: يا بنى برد الماء، فانك اذا شربت الماء السخن فقلت الحمد الله، تقولها بكزازة: وإذا شربت الماء البارد، فقلت الحمد الله استجاب كل عضو منك بالحمد لله. وعن ذلك، وبيانا لنهج الطريقة الشاذلية، الذى رسمه أبو الحسن، يقول ابن عطاء الله: «وأما لبس اللباس اللين، وأكل الطعام الشهى، وشرب الماء البارد: فليس القصد إليه بالذى يوجب العتب من الله، إذا كان معه الشكر لله، ا. هـ .. وهذا كله طبعا يتمشى مع قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ. (سورة الأعراف الآية 32) ويقول الأستاذ على سالم عمار: «كان الشاذلى يلبس الفاخر من الثياب، ويركب الفاره من الدواب، ويتخذ الخيل الجياد» ا. هـ. ولقد كان الجانب العلمى من العناصر الاولى التى حددت شخصية الشاذلى: لقد بدأ الدراسة والتحصيل صغيرا، فثقف كأحسن ما يكون المثقف، لقد ثقف على الطريق العادى فحفظ القرآن، ودرس السنة، ودرس العلوم الدينية، وسائل وغايات: «ولم يدخل فى علوم القوم حتى كان يعد للمناظرة فى العلوم الظاهرة».

وكان: «ذا علوم جمة» وهو صاحب «العلوم الغزيرة». ولقد تدرج فى هذه العلوم سلما فسلما، ثم أخذ يختار الكتب التى يدرسها ويشرحها وينصح بقراءتها، ويجب فى أصحابها، وكان منها فى موضوع التفسير «كتاب التحرير الوجيز» لا بن عطية، وهو كتاب يشرحه عنوانه، فهو محرر كلماته منتقاة متميزة، محررة وعبارته دقيقة .. وهو وجيز وان لم يكل فى إيجاز الجلالين أو البيضاوى. وكان الشيخ ينتقل بين الأقطار إلى أن وصل إلى مصر واستمر الشيخ يدعو فيها إلى الله إلى أن كان شهر شوال سنة 656 هـ، وفى هذا الشهر أخذ الشيخ فى السفر إلى الأراضى المقدسة للحج. فلما كان فى حميثرة بصحراء عيذاب- وهى بين قنا والقصير- جمع الشيخ أصحابه فى احدى الأمسيات، وأوصاهم بأشياء، وأوصاهم بحزب البحر وقال لهم: «حفظوه أولادكم فان فيه اسم الله الأعظم»، ثم خلا بأبى العباس المرسى- رضى الله عنهما- وحده وأوصاه بأشياء. واختصه بما خصه الله من البركات، ثم وجه الحديث لاصحابه من البركات، ثم وجه الحديث لاصحابه قائلا: «أنا إذا مت فعليكم بأبى العباس المرسى، فانه الخليفة من بعدى وسيكون له بينكم مقام عظيم، وهو باب من أبواب الله سبحانه وتعالى»، وبات تلك الليلة متوجها إلى الله تعالى ذاكرا ومعه اصحابه وهو يقول: «الهى إلهى»! فلما كان السحر سكن فظننا أنه نام، فحركناه فوجدناه ميتا! وجاء الشيخ أبو العباس فغسله، وصلى الجميع عليه، ودفن حيث توفاه الله. وقد كان للشيخ أولاد ذكور فلم يفكر فى أن يستخلف أحدهم وإنما أستخلف من رآه أحق بالخلافة، وترجو أن يعتبر رجال الطرق فى العصر

الراهن- فلا يجعلوا الطريق مورد رزق تورث كما يورث العقار. ورحم الله أبا الحسن وطيب ثراه، ونفعنا ببركاته انه نعم المجيب .. وكان شأن أبى الحسن الشاذلى فى التفسير شأن الشيخ محمد عبده، فقد كان الشيخ محمد عبده يأخذ تفسير الجلالين بين يديه، ويقرأ فيه ويشرح ويستفيض فى شرح رأيه هو دون أن يكون تفسيره الجلالين إلا تكأة موجزة إيجازا كبيرا. وكان أبو الحسن الشاذلى يأخذ تفسير ابن عطية ويقرأ فيه، وفى خلال شرحه يذكر الهاماته واشاراته .. وهى الهامات واشارات مبثوثة هنا وهناك لم تجمع فى كتاب، ولم تطبع مستقلة! ولقد سميناها اشارات لأن الاشارات الروحية، والتوجيهات الالهية للقلوب والبصائر من خلال القرآن الكريم لا يحيط بها عد، ولا يأتى عليها الزمن. هذه الاشارات للقلوب والبصائر تنبع وتفيض وتزداد بنسبة زيادة الامعان فى تحقيق معنى العبودية لله سبحانه وتعالى. وهى اشارات لا تحرم حلالا، ولا تحل حراما، انها ليست من تأويلات الباطنية هذه التأويلات المنحرفة، والتى يهدمها من أساسها فى سهولة ويسر عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم .. فقد طبق صلوات الله وسلامه عليه دين الله تطبيقا هو الاسوة التى تحتذى، والتى إذا خرج الانسان عن دائرتها فى الدين فانه يكون خاطئا ضالا .. لقد أخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصحابته البررة الأصفياء الأوامر الالهية والنواهى الالهية عن دائرة النظريات إلى دائرة العمل، وتحدد بذلك المعنى المقصود من الأوامر والنواهى تحديدا لا لبس فيه، وكل تأويل- إذن-

للأوامر والنواهى يخرجها عن أن تكون مطابقة لعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعمل الصحابة فإنما هو تأويل باطنى ضال .. أما الاشارات التى نثبتها هنا، فانها اشارات روحية ترشد إلى معارج الروح تتسامى بازدياد الانسان فى القرب من الله عن طريق الاستقامة. ومن اشاراته: «من أجل مواهب الله: الرضا بمواقع القضاء، والصبر عند نزول البلاء، والتوكل على الله عند الشدائد، والرجوع إليه عند النوائب، فمن خرجت له هذه الأربع من خزائن الأعمال على بساط المجاهدة ومتابعة السنة، والاقتداء بالأئمة فقد صحت ولايته لله ولرسوله وللمؤمنين: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (سورة المائدة الآية 56) ومن خرجت له من خزائن المنن على بساط المحبة فقد تمت له ولاية الله بقوله: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ .. ففرق بين الولايتين: فعبد يتولى الله، وعبد يتولاه، فهما ولايتان: صغرى وكبرى. فولايتك الله: خرجت من المجاهدة، وولايتك لرسوله: خرجت من متابعتك لسنته، وولايتك للمؤمنين: خرجت من الاقتداء بالأئمة، فافهم ذلك من قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ

وقال الشيخ أبو العباس رضى الله عنه: كنت مع الشيخ فى سفره ونحن قاصدون إلى الاسكندرية حين مجيئنا من المغرب، فاخذنى ضيق شديد حتى ضعفت عن حمله، فأتيت إلى الشيخ أبى الحسن رضى الله عنه، فلما أحس بى قال: أحمد- قلت: نعم يا سيدى .. قال آدم خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه الجنة نصف يوم- خمسمائة عام- ثم نزل به إلى الأرض،، والله ما نزل الله بآدم إلى الأرض لينقصه، ولكن نزل به إلى الأرض ليكمله- ولقد أنزله إلى الأرض من قبل أن يخلقه بقوله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (سورة البقرة الآية 28) ما قال فى الجنة ولا فى السماء، فكان نزوله إلى الأرض نزول كرامة، لا نزول اهانة، فانه كان يعبد الله فى الجنة بالتعريف فأنزله الله الأرض ليعبده بالتكليف، فلما توفرت فيه العبوديتان استحق أن يكون خليفة- وأنت أيضا لك قسط من آدم: كانت بداية فى سماء الروح فى جنة المعارف فأنزلت إلى النفس لتعبده بالتكليف، فلما توفرت فيك العبوديتان استحققت أن تكون خليفة .. وفى قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (سورة الطلاق الآية 2) فسر سهل بن عبد الله هذه التقوى من الحول والقوة وعدل عما تزين به الباطلون من مظاهر التقوى مع دنس باطنه وهذا صحيح فى عبد ظاهر المعاصى والشهوات ويحمل نفسه على أنواع الطاعات وقد سد الافق

بالدعاوى، وأضاف الحول والقوة إلى نفسه: فهذا عبد قد جاوز الحدود، وأعظم الفرية والعجب فلا يقوم خيره بشره، والمحققون ينسبون له الأشياء وينظرون إلى البواعث والثمار، فاذا فقدت الثمار علموا أن علمه وعمله مدخولان، وإذا فقدت البواعث الصحيحة فى الاصول فلا يعتبرون بأعمالهم، قال الله عز وجل:- وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً فيا مدعى التقوى أين المخرج؟ فإذا رأيت المخرج (ثمرة لتقواك) وذلك وعد الله وضمانه (فأنت على الصواب والخير)، وإذا لم تجد بتقواك إلا تجبرا فمن الصادق ومن الكاذب؟ ومن أصدق من الله قيلا: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (سورة الطلاق الآية 2) ولا يصح التوكل إلا لمتق. ولا تتم التقوى إلا لمتوكل. فدققوا النظر فى البواعث والاصول والثمار والله يحب الصابرين .. ولا يتأتى أن نترك حياة أبى الحسن دون أن ننبه إلى موقفه من معركة المنصورة: بدأ الصليبيون يزحفون صوب المنصورة وكانت مصر آنذاك تضم بين أرجائها نخبة ممتازة من العلماء الدينيين الذين أخلصوا جهادهم لله وحده، فلم تغرهم الدنيا بزخرفها وزينتها. كان فى مصر اذ ذاك: العز بن عبد السلام، ومجد الدين القشيرى، ومحيى الدين بن سراقة، ومجد الدين الاخميمى، وأبو الحسن الشاذلى، وغيرهم من خيرة العلماء.

لم يستقر هؤلاء العلماء فى دورهم البعيدة عن الخطر، وإنما هبوا جميعا للجهاد فى سبيل الله، لقد هاجروا إلى المنصورة ليكونوا بين المجاهدين، ورغم أن العارف بالله أبا الحسن الشاذلى كان فى آخر حياته، وكان قد كف بصره، فانه كان فى مقدمة الذاهبين إلى المنصورة!!! ها هم أولئك العلماء الصوفية، أو الصوفية العلماء، بسمتهم الملائكى، وبايمانهم الذى لا يتزعزع يسيرون وسط الجند، يحثون ويشجعون، ويرشدون ويذكرون بالله، ويبشرون- كما وعد الله- باحدى الحسنيين: النصر أو الجنة. وإذا لزم الامر عملوا بأيديهم مع العالمين. ولقد كان مجرد سيرهم فى الحوارى والشوارع: تذكيرا بالنصر أو الجنة، وكان حفزا للهمم، وتثبيتا للايمان، وتأكيدا لصورة الجهاد الاسلامية التى قادها فى عصور الاسلام الاولى رسول الله صلوات الله عليه، وخلفاؤه الراشدون، رضوان الله عليهم .. حتى إذا اطمأنوا إلى الأسباب والوسائل: المادية الظاهرة، والمعنوية الباطنة، اجتمع هؤلاء الاعلام فى خيمة من خيام المعسكر نعم فى خيمة من خيام المعسكر يتجهون إلى الله بصلاتهم ودعائهم، يلتمسون منه النصر، فاذا ما فرغوا من ذلك أخذوا يتدارسون كتابا من الكتب ... وشغل أبو الحسن بأمر المسلمين، فكان ليله ونهاره مشغولا بالله فى أمرهم حتى إذا ما أخذته سنة من النوم ليلة من الليالى، رأى فيما يرى النائم، رؤى تتعلق بحالة المسلمين فى المنصورة ومن: الرؤيا التى حكاها كتاب «درة الاسرار» قال: «قال الشيخ أبو الحسن: كنت بالمنصورة، فلما كانت ليلة الثامن من ذى الحجة، بت مشغولا بأمر المسلمين وبأمر الثغر، وقد كنت أدعو الله وأضرع إليه فى أمر السلطان والمسلمين.

فلما كان آخر الليل، رأيت فسطاطا واسع الأرجاء، عاليا فى السماء، يعلوه نور ويزدحم عليه خلق من أهل السماء، وأهل الأرض عنه مشغولون، فقلت: لمن هذا الفسطاط؟ فقالوا: لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. فبادرت إليه بالفرح، ولقيت على بابه عصابة من العلماء والصالحين نحوا من السبعين، أعرف منهم الفقيه عز الدين بن عبد السلام، والفقيه مجد الدين مدرس قوص، والفقيه الكماب بن القاضى صدر الدين والفقيه المحدث محيى الدين بن سراقة، والفقيه عبد الحكيم بن أبى الحوافز ومعهم رجلان لم أعرف أجمل منهما، غير أنى وقع لى ظن فى حالة الرؤيا: أنهما الفقيه زكى الدين عبد العظيم المنذرى المحدث والشيخ مجد الدين الاخميمى ... وأردت أن أتقدم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فالزمت نفسى التواضع والادب مع الفقيه ابن عبد السلام وقلت: لا يصلح لك التقدم قبل عالم الامة فى هذا الزمان، فلما تقدم وتقدم الجميع، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يشير إليهم يمينا وشمالا: أن اجلسوا وتقدمت، وأنا أبكى بالهم والفرح، أما الفرح، فمن أجل قربى لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بالنسب، وأما الهم فمن أجل المسلمين والثغر، وهم، طلبى إليه صلّى الله عليه وسلم، فمد يده حتى قبض على يدى، وقال: لا تهتم كل هذا الهم من أجل الثغر، وعليك بالنصيحة لرأس الامر- يعنى السلطان- فان ولى عليهم ظالم فما عسى؟ وجمع اصابع يده الخمسة فى يده اليسرى كأنه يقلل المدة. وان ولى عليهم تقى: «الله ولى المتقين» وبسيط يده اليمنى واليسرى. وأما المسلمون فحسبك الله ورسوله وهؤلاء المؤمنون- أى العلماء والفقهاء والصالحون بالمجلس وقال:

وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ. وأما السلطان فيد الله مبسوطة عليه برحمته من والى أهل ولايته ونصح المؤمنين من عباده فانصحه واكتب له وقل فى الظالم عدو الله قولا بليغا: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (سورة الروم الآية 60) فقلت: نصرنا ورب الكعبة، وانتبهت، ونصر الله المسلمين نصرا مؤزرا، وأسر الملك لويس، وأسر الكثيرون من قواده، وأشاد الشعراء بهذا النصر. ومن قصيدة مشهورة لابن مطروح نقتطف منها ما يلي: قال يخاطب لويس: وكل أصحابك أودعتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضريح سبعون الفا لا يرى منهمو ... إلا قتيل أو أسير أو جريح وقل لهم ان أزمعوا عودة ... لأخذ ثار أو لفعل قبيح دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشى صبيح

الإمام أبو العباس المرسى وتفسيره

الإمام أبو العباس المرسى وتفسيره لم يكن أبو العباس معنيا بالحديث عن نفسه، ولم يكن مهتما بالتاريخ لحياته انه لم يتحدث عن اسرته، ولم يتحدث عن نفسه، ولم يشد بأفعاله، لقد فنى فى أبى الحسن، فلم يكن فى آفاقه فراغ للحديث عن نفسه، ثم فنى فى الدعوة إلى الله بعد أبى الحسن، فلم يكن فى آفاقه فراغ للحديث عن نفسه. ويحدثنا التاريخ أنه ولد فى الاندلس «مرسية» التى ينسب إليها، ولد سنة- 616 هـ 1219 م، ويتصل نسبه بالانصار الذين أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن حبهم من علامات الايمان، ان نسبه يتصل بسعد بن عبادة، سيد الخزرج. ولد فى «مرسية» ونشأ بها، حيث كان والده يعمل فى التجارة، ويبدو أن حالة الوالد كانت من اليسر بحيث مكنته من ارسال ابنه إلى مؤدب لتعلم القرآن، والتفقه فى أمور الدين، يقول أبو العباس:- «كنت وأنا صبى، عند المؤدب، جاء رجل فوجدنى اكتب فى لوح، فقال الصوفى لا يسود بياضا، فقلت: ليس الأمر كما زعمت، ولكن لا يسود الصحائف بسود الذنوب». هذه القصة تدل دلالة واضحة على ذكاء غير عادى، وعلى مهارة وفهم لا يوجدان فى المستوى العام، فى اطفال المكاتب، وترسم أيضا اتجاها إلى الصلاح، والتقوى منذ هذه السن المبكرة. وعن بعض حوادثه مع المؤدب يقول: عمل إلى جانب دارنا خيال خيال الستار، وأنا اذ ذاك صبى فحضرته، فلما أصبحت اتيت إلى المؤدب، وكان من أولياء الله تعالى، فأنشد حين رآنى.

يا ناظرا صور الخيال تعجبا ... وهو الخيال بعينه لو أبصرا فخجل أبو العباس، وعزم فى نفسه أن يأخذ فى حياته مسلك الجد. وأعظم حادث فى حياة أبى العباس هو صلته بأبى الحسن الشاذلى وعن بدء هذه الصلة يقول: فلما نزلت بتونس، وكنت اتيت من «مرسية» - وأنا إذ ذاك شاب- سمعت بذكر الشيخ أبى الحسن الشاذلى، فقال لى رجل: تمضى بنا إليه، فقلت حتى استخير الله فنمت تلك الليلة، فرأيت كأنى أصعد إلى رأس جبل، فلما علوت فوقه، رأيت هنالك رجلا، عليه برنس أخضر، وهو جالس، وعن يمينه رجل، وعن يساره رجل فنظرت إليه، فقال: عثرت على خليفة الزمان، قال: فانتبهت. فلما كان بعد صلاة الصبح، جاءنى الرجل الذى دعانى إلى زيارة الشيخ فسرت معه فلما دخلنا عليه، رأيته بالصفة التى رأيته بها فوق الجبل، فدهشت .. فقال لى: عثرت على خليفة الزمان، ما اسمك؟ فذكرت له اسمى، ونسبى، فقال لى:- رفعت لى منذ عشر سنين، وبهره أبو الحسن بهره بحديثه المنطلق، والهاماته المندفعة وسلوكه الربانى، فلازمه أبو العباس ملازمة المريد الصادق لشيخه العارف. ورأى الشاذلى فيه فطرة طاهرة، ونفسا خيرة، واستعدادا طيبا، للاقبال على الله: فمنحه وده، وغمره بعنايته، وأخذ فى تربيته تربية تؤهله ليكون خليفة من بعده. وحدث فى تونس سوء التفاهم بين الشاذلى، وقاضى القضاة ابن البراء، هذا الخلاف الذى سبق ان فصلناه فى كتابنا عن «المدرسة الشاذلية» وكانت نتيجته ان غادر الشاذلى تونس، ميمها شطر الديار المصرية، ورافقه فى هذا السفر جماعة كان على رأسهم أبو العباس.

واستمر أبو العباس مع الشاذلى يسير فى ضوء تربيته، ومنهج طريقه لا يحيد عنه قيد شعره إلى ان كانت وفاة الشاذلى. لقد بشر الشاذلى بأنه سيموت ويدفن بأرض لم يعص الله عليها قط، فلما كان فى طريقه إلى الحج ووصل إلى حميثرة، وقد خيم الركب للمبيت جمع أصحابه وأوصاهم بأشياء وأوصاهم حزب البحر، وقال لهم: حفظوه لأولادكم، فإن فيه اسم الله الأعظم. وخلا بأبى العباس وحده رضى الله عنهما وأوصاه بأشياء، واختصه بما اختصه الله به من البركات. وقال لأصحابه: إذا أنامت فعليكم بأبى العباس المرسى: فإنه الخليفة من بعدى، وسيكون له بينكم مقام عظيم، وهو باب من أبواب الله سبحانه يقول صاحب كتاب درة الأسرار نقلا عن نجل الشيخ أبى الحسن: وبات تلك الليلة متوجها إلى الله سبحانه، ذاكرا، أسمعه يقول: الهى، الهى. فلما كان السحر سكن فظننا أنه نام، فحركناه فوجدناه ميتا، رحمه الله. واستدعينا سيدى أبا العباس المرسى، فغسله وصلينا عليه، ودفناه بحميثرة، وهذا الموضع ببرية عيذاب، فى واد على طريق الصعيد. يقول صاحب «درة الأسرار» وقد شربت من مائها، وزرت ضريحه، ورأيت له البركات نفع الله به فى الدنيا والآخرة. وقال: ولما دفناه، اختلف اصحابه فى الرجوع، أو التوجه، فقال لهم سيدى أبو العباس: الشيخ أمرنى بالحج ووعدنى بكرامات، وتوجهنا، ورأينا تهوينا، وبركات، ورجعنا فى صحبته. ... وظهر أبو العباس من بعد الشاذلى ظهورا عظيما، وظهرت له كرامات كثيرة على أنه كان يبدو واضحا من مواقف أبى الحسن مع أبى العباس ومن

حديثه عنه أنه: كان يعده للخلافة، بل لقد اقامه فيها بصورة تشبه أن تكون صريحة حينما استدعاه، وقال له: يا أبا العباس، تكلم بين الناس. فجلس فى جامع العطارين بالاسكندرية فعاصره بالكلام والتدريس والدعوة إلى الله عن اذنه وبأمر منه، وحمل أبو العباس لواء الدعوة إلى الله طيلة حياته متفانيا فيها، باذلا كل ما يستطيع فى سبيلها حتى انتهت به الحياة راضيا عن الله، مرضيا عنه من الله وكان ذلك فى الخامس والعشرين من ذى القعدة سنة 685 هـ- 1287 م، وكان يبلغ تقريبا سبعين عاما، رحمه الله رحمة واسعة. ويروون له كرامات كثيرة منها على سبيل المثال: إن السلطان يعقوب، أمر بذبح دجاجة وخنق أخرى، وطبخها، وقدمها إليه، وجلس ليأكل معه، فلما نظر الشيخ أبو العباس إليهما، أمر الخادم برفع المخنوقة، وقال: هذه جيفة، وقال: لولا تنجس الأخرى بالمرق النجس لأكلت منها، وقاله الشعرانى، قال المناوى، وقدم إليه رجل طعاما فيه شبهة يمتحنه فرده وقال كان الحاسبى، إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة ضرب عرق باصبعه فأنا فى يدى ستون عرقا تضرب. ومن كراماته التى انفرد بها عن غالب الأولياء تسليكه لنحو ثلاثين قاضيا، وكان يقول للعرشى: ليس الشأن أن تسلك كل يوم ألفا من العوام، بل ان تسلك فقيها واحدا فى مائة عام. وقال الشيخ حسن العدوى فى كتابه «شرح البردة البوصيرية». قال بعضهم: صليت خلف الشيخ أبى العباس فشهدت الأنوار ملأت بدنه، وانبثقت من وجوده، حتى أنى لم استطع النظر إليه. مات سنة 686 هـ بالاسكندرية، رحمه الله ا. هـ. ومع ذلك فقبل ان ننتهى من الكرامات نقول انه رضى الله عنه كان يقول هذه الكلمة المخلصة. «والله ما جلست حتى جعلت جميع الكرامات تحت سجادتى».

تفسير أبى العباس المرسى

تفسير أبى العباس المرسى لم يكتب أبو العباس المرسى تفسيرا للقرآن، يبتدئ فيه من أوله وينتهى فيه بنهايته، ولم يكتب مريدوه وتلاميذه تفسيره ولم يجعلوا له تفسيرا، وإنما اكتفوا بأن تفسيره مبثوث هنا وهنالك فى كتب الشاذلية. وننقل هنا بعض نماذج من هذا التفسير الذى يسير فيه- طبيعيا- على المنهج الصوفى، ففي سورة الفاتحة أم الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. (سورة الفاتحة أم الكتاب) قال الله سبحانه: الحمد الله رب العالمين: قال الشيخ رضى الله عنه: علم الله عجز خلقه عن حمده، فحمد نفسه بنفسه فى آزاله فلما خلق الخلق اقتضى منهم ان يحمدوه بحمده، فقال الحمد لله رب العالمين، أى قولوا الحمد الله رب العالمين، أى أن الحمد الله الذى حمد نفسه بنفسه، هو له لا ينبغى أن يكون لغيره، فعلى هذا تكون الألف واللام للعهد. يقول ابن عطاء الله: وسمعته يقول فى قوله عز وجل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. إياك نعبد، شريعة.

وإياك نستعين، حقيقة. إياك نعبد، إسلاما. وإياك نستعين، احسانا. إياك نعبد، عباده. وإياك نستعين، عبودية. إياك نعبد، فوق. وإياك نستعين، جمع. ثم قال سبحانه وتعالى: «اهدنا الصراط المستقيم». فقال الشيخ رضى الله عنه: بالتثبيت فيما هو حاصل، والارشاد لما ليس بحاصل وهذا الجواب ذكره ابن عطية فى تفسيره، وبسطه الشيخ رضى الله عنه، فقال: عموم المؤمنين يقولون: اهدنا الصراط المستقيم، أى بالتثبيت فيما هو حاصل والارشاد لما ليس بحاصل، فإنهم حصل لهم التوحيد، وفاتهم درجات الصالحين. فيما هو حاصل، والارشاد لما ليس بحاصل، فإنه قد حصل له رتبة القطبانية، وفاته علم إذا شاء الله ان يطلعه عليه، اطلعه. 2 - قال الله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا. (سورة الإسراء الآية 1) ولم يقل بنبيه ولا برسوله وهو نبيه ورسوله، وإنما كان كذلك لأنه أراد أن يفتح باب السريان للاتباع، فاعلمنا بأن الاسراء، من بساط العبودية، فالنبى صلّى الله عليه وسلم كان له كمال العبودية فكان له كمال الإسراء، اسرى بروحه وجسمه وظاهره وباطنه.

فالأولياء لهم قسط من العبودية، فلهم قسط من الاسراء، يسرى بأرواحهم لا بأشباحهم. 3 - يقول الله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. (سورة الحشر الآية 21) قال رضى الله عنه فى هذه الآية: مدح لسيد المرسلين صلّى الله عليه وسلم، أى أن هذا القرآن لا تثبت له الجبال لو أنزل عليها، وأنت يا محمد ثبت لنزوله بالقوة الربانية، التى أودعناها فيك. وفيها ذم للكافرين، أى أن هذا القرآن لو أنزل على جبل لخشع وتصدع، وأنتم ما خشعتم ولا تصدعتم.

أبو حيان الأندلسى وتفسيريه (البحر المحيط) و (النهر الماد)

أبو حيان الأندلسى وتفسيريه (البحر المحيط) و (النهر الماد) مفسر العصر ومحدثه ومؤرخه واديبه والإمام المطلق فى النحو والتصريف الإمام أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن على بن يوسف بن حيان الأندلسى الغرناطى. ولد بمطخشارش بالقرب من غرناطة آخر شوال سنة اربع وخمسين وستمائة. بدأ أبو حيان حياته بالقرآن الكريم حفظا ودراسة فقرأه على الخطيب عبد الحق بن على افرادا وجمعا ثم على الخطيب أبى جعفر بن الطباع، ثم على الحافظ أبى على بن أبى الأحوص بمالقة والم رحمه الله بالقراءات صحيحها وشاذها. وقد حببت إليه الرحلة لطلب العلم فكانت رحلاته ببلاد الاندلس وحواضرها المشهورة ومواطن العلم والعلماء فى ذلك الوقت فسمع الحديث بالأندلس وافريقيا والاسكندرية ومصر والحجاز من نحو اربعمائة وخمسين شيخا منهم أبو الحسن بن ربيع وابن الأحوص والقطب العسكلانى وأجاز له خلق من المشرق والمغرب منهم الشرف الدمياطى وابن دقيق العيد وغيرهم الكثير. ويقول ابن العماد فى شذرات الذهب: واكب- أبو حيان- على طلب الحديث واتقنه وشرع فيه وفى التفسير والعربية والقراءات والادب والتاريخ واشتهر اسمه وطار صيته وأخذ عنه أكابر عصره وتقدموا فى حياته كالشيخ تقى الدين السبكى وولديه والجمال الاسنوى وابن قاسم وابن عقيل والسمين وناظر الجيش وابن مكتوم وخلائق.

مؤلفاته

وقال الصفدى: لم اره قط إلا يسمع أو يشتغل أو يكتب، أو ينظر فى كتاب وكان ثباتا عارفا باللغة وأما النحو والتصريف فهو الإمام المطلق فيهما خدم هذا الفن أكثر عمره حتى صار لا يدركه أحد فى اقطار الأرض فيهما وله اليد الطولى فى التفسير والحديث وتراجم الناس، ومعرفة طبقاتهم خصوصا المغاربة واقرأ الناس قديما وحديثا، الحق الصغار بالكبار، وصارت تلامذته أئمة وشيوخا فى حياته. ومما يذكر عن سبب رحلته ما نقله السيوطى قائلا: «ورأيت فى كتابة النضار الذى ألفه فى ذكر مبدئه واشتغاله وشيوخه ورحلته: أن مما قوى عزمه على الرحلة عن غرناطة ان بعض العلماء بالمنطق والفلسفة والرياضة والطبيعة قال للسلطان فى ذلك الوقت- إنى قد كبرت وأخاف أن اموت، فأرى ان ترتب لى طلبة اعلمهم هذه العلوم لينتفعوا من بعدى، قال أبو حيان: فأشير إلى أن أكون من أولئك وترتب لى جيد وكسوة واحسان فتمنعت ورحلت مخافة أن اكره على ذلك». ومما يذكر لأبى حيان ما قاله عنه الأدفوي وهو:- ( ... كان ثبتا صدوقا سالم العقيدة من البدع الفلسفية والاعتزال والتجسيم ... كثير الخشوع والبكاء عند قراءة القرآن، وكان شيخا طوالا حسن النفحة مليح الوجه ظاهر اللون مشربا بحمرة منور الشيبة كبير اللحية مسترسل الشعر). مؤلفاته :- وقد كثرت مؤلفات أبى حيان كثرة فائقة نذكر منها: البحر المحيط والنهر الماد وهما تفسيران مطول ومختصر سنتحدث عنهما. إتحاف الاريب بما فى القرآن من الغريب. والتذييل والتكميل فى شرح التسهيل.

شعره

ومطول الارتشاف ومختصره مجلدان- قيل عنهما-: لم يؤلف فى العربية أعظم من هذين الكتابين ولا أجمع ولا احصى للخلاف والأحوال. وغير ذلك الكثير. شعره :- ولأبى حيان شعر جيد يجعله فى عداد الحكماء نذكر منه قوله: عداى لهم فضل على ومنة ... فلا اذهب الرحمن عنى الأعاديا همو بحثوا عن زلتى فاجتنبتها ... وهم نافسونى فاكتسبت المعاليا هذا وقد انتهت بأبى حيان الحياة بعد عمر مديد فى خدمة القرآن وعلومه وكانت وفاته بمصر سنة خمس وأربعين وسبعمائة للهجرة فرحم الله أبا حيان ورضى عنه وجزاه خير الجزاء.

تفسير أبى حيان البحر المحيط، والنهر الماد - ومنهجه فيهما

تفسير أبى حيان البحر المحيط، والنهر الماد- ومنهجه فيهما لقد شغل أبو حيان زمنا مديدا بخدمة القرآن وعلوم اللغة حتى قارب الستين من عمره ثم تفرغ لتفسير القرآن بعد أن حصل ادوات المفسر العالم الذى أدرك ما به سعادته الأبدية. يقول أبو حيان فى مقدمة البحر المحيط. وبعد: فإن المعارف جمة، وهى كلها مهمة، وأهمها ما به الحياة الأبدية، والسعادة السرمدية، وذلك علم كتاب الله هو المقصود بالذات، وغيره من العلوم كالادوات، هو العروة الوثقى، والوزر الأوفى الأقوى، والحبل المتين والصراط المستقيم- وما زال يختلج فى ذكرى ويلح فى فكرى أنى إذا بلغت الأمد الذى يتفضض فيه الأديم، ويتنغص برؤيتى النديم، وهو العقد الذى يحل عرى الشباب المقول فيه: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وأيا الشراب، الوذ بجانب الرحمن واقتصر على النظر فى تفسير القرآن، فأتاح الله لى ذلك قبل بلوغ العقد وبلغنى ما كنت أروم من ذلك القصد .. وكان ذلك فى أواخر سنة عشر وسبعمائة وهى أول سنة سبع وخمسين من عمرى، فعكفت على تصنيف هذا الكتاب .. فكم حوى من لطيفة فكرى مستخرجها ومن غريبة ذهنى منتجها، تحصلت بالعكوف على علم العربية .. وقد ذكر أبو حيان فى مقدمته على البحر المحيط منهجه فى هذا السفر الضخم الذى يقع فى ثمانى مجلدات كبيرة ينتفع بها الباحثون فى علوم القرآن على وجه العموم والباحثون فى علوم اللغة من نحو وصرف على وجه الخصوص يقول:- وترتيبى فى هذا الكتاب: أنى ابتدأت أولا بالكلام على مفردات الآية

التى افسرها لفظة لفظة فيما يحتاج إليه من اللغة والاحكام النحوية التى لتلك اللفظة قبل التركيب، وإذا كان للكلمة معنيان او معان ذكرت ذلك فى أول موضع فيه تلك الكلمة لينظر ما يناسب لها من تلك المعانى فى كل موضع تقع فيه فيحمل عليه. ثم أشرع فى تفسير الآية ذاكرا سبب نزولها إذا كان لها سبب ونسخها ومناسبتها وارتباطها بما قبلها حاشدا فيها القراءات شاذها ومستعملها ذاكرا توجيه ذلك فى علم العربية ناقلا أقاويل السلف والخلف فى فهم معانيها. متكلما على جليها وخفيها بحيث أنى لا اغادر منها كلمة وان اشتهرت حتى اتكلم عليها مبديا ما فيها من غوامض الاعراب ودقائق الأدب من بديع وبيان مجتهدا أنى لا أكرر الكلام فى لفظ سبق فى جملة تقدم الكلام عليها ولا فى أية فسرت بل اذكر فى كثير منها الحوالة على الموضع الذى تكلم فيه على تلك اللفظة أو الجملة أو الآية، وأن عرض تكرير فمزيد فائدة ناقلا أقاويل الفقهاء الأربعة وغيرهم فى الأحكام الشرعية مما فيه تعلق باللفظ القرآنى محيلا على الدلائل التى فى كتب الفقه، وكذلك ما نذكره من القواعد النحوية أجيل فى تقريرها والاستدلال عليها على كتب النحو، وربما اذكر الدليل إذا كان الحكم غريبا أو خلاف مشهور ما قال معظم الناس بادئا بمقتضى الدليل وما دل عليه ظاهر اللفظ مرجحا له لذلك ما لم يصد عن الظاهر ما يجب اخراجه به عنه منكبا فى الاعراب عن الوجوه التى تنزه القرآن عنها مبينا أنه مما يجب أن يعدل عنه وأنه ينبغى أن يعدل إلى أحسن اعراب وأحسن تركيب إذ كلام الله تعالى افصح الكلام فلا يجوز فيه جميع ما يجوزه النجاة فى شعر الشماخ والطرماح وغيرهما من سلوك التقارير البعيدة والتراكيب القلقة والمجازات المعقدة، ثم اختتم الكلام فى جملة من الآيات التى فسرتها افرادا وتركيبا بما ذكروا فيها من علم البيان والبديع ملخصا. ثم اتبع آخر الآيات بكلام منثور أشرح به مضمون تلك الآيات على ما اختاره من تلك المعانى ملخصا جملها فى أحسن تلخيص، وقد ينجر معها ذكر معان لم تتقدم فى التفسير، وصار ذلك نموذجا

لمن يريد أن يسلك فيما بقى من سائر القرآن وستقف على هذا المنهج الذى ذكرته إن شاء الله ... الخ. ويقول أبو حيان عن منهجه فى تفسيره الثانى المسمى: (النهر الماد) والمطبوع بهامش البحر المحيط: وبعد: فإنى لما صنفت كتابى الكبير المسمى بالبحر المحيط فى علم التفسير عجز عن قطعه- لطوله- السبائح، وتفلت له عن اقتناصه البارح منه والسائح، فأجريت منه نهرا تجرى عيونه، وتلتقى بأبكاره فيه عيونه لينشط الكسلان فى اجتلاء جماله، ويرتوى الظمآن بارتشاف زلاله وربما نشأ فى هذا النهر ما لم يكن فى البحر، وذلك لتجدد نظر المستخرج للآلية المبتهج بالفكرة فى معانيه، وما اخليته من أكثر ما تضمنه البحر من نقوده، بل اقتصرت على يواقيت عقوده، ونكبت فيه عن ذكر ما فى البحر من أقوال اضطربت بها الحجة واعراب متكلف تعاصرت عنه خججه، وتفكيك اجزاء يخرج بها الكلام عن براعته ويتجرد من فاخر بلاغته ونصاعته، وهذا النهر مده من بحر ليس له جزر فيعسر وروده على من حظه فى النحو نزر، لأن ادراك عويص المعانى مرتب على تقدم معرفة المبانى: ولما اثرت در هذا النهر من بحره، ونثرت حليه على مفرق الزمان وجيده ونحوه: سميته بالنهر الماد من البحر، والله أسأل أن يعيننا على ذلك- ويلطف بنا فى الدارين هنا وهناك.

نموذج من تفسيريه البحر المحيط، والنهر الماد (أولا: من البحر المحيط):

نموذج من تفسيريه البحر المحيط، والنهر الماد (أولا: من البحر المحيط): فى قوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ لما ذكر تعالى- فى الآية السابقة- أن لكل وجهة يتولاها أمر نبيه أن يولى وجهه شطر المسجد الحرام من أى مكان خرج لان قوله: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها- فَوَلِّ وَجْهَكَ. ظاهره أنه أمر له باستقبال الكعبة وهو مقيم بالمدينة فبين بهذا الأمر الثانى تساوى الحالين اقامه وسفرا فى أنه مأمور باستقبال البيت الحرام ثم عطف عليه. وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. ليبين مساواتهم له فى ذلك أى فى حال السفر والأولى فى حال الإقامة، وقرأ عبد الله بن عمير (ومن حيث) بالفتح فتح تخفيف، وقد تقدم القول فى حيث فى قوله (وحيث ما). وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. هذا اخبار من الله تعالى بأن استقبال هذه القبلة هو الحق أى الثابت الذى لا يعرض له نسخ ولا تبديل، وفى الأول قال: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ.

حيث كان الكلام مع سفهائهم الذين اعترضوا فى تحويل القبلة فرد عليه بأشياء منها: إن علماء هم يعلمون أن تحويل القبلة حق من عند الله، وختم آخر هذه الآية بما ختم به آخر تلك من قوله: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. (سورة البقرة الآية 144) فى امتثال هذا التكليف العظيم الذى هو التحويل من جهة إلى جهة- وذلك هو محض التعبد فالجهات كلها بالنسبة إلى البارى تعالى مستوية فكونه خصها باستقبال هذه زمانا. ونسخ ذلك باستقبال جهة اخرى متأيدة لا يظهر فى ذلك فى بادئ الرأى إلا أنه تعبد محض فلم يبق فى ذلك إلا امتثال ما أمره الله به فأخبره تعالى أنه لا يغفل عن أعمالكم- بل هو المطلع عليها المجازى بالتواب من امتثل أمره- وبالعقاب من خالفه. وجاء فى قوله (الحقّ من ربّك) - فى المكانين- وفى قوله: (وما الله) - فى المكانين- فحيث نبه على استدلال حكمته بالنظر إلى أفعاله ذكر الرب المقتضى للنعم، لينظر منها إلى النعم ونستدل بها عليه ولما انتهى إلى ذكر الوعيد ذكر لفظ الله المقتضى للعبارة التى من أخل بها استحق اليم العذاب ... ويقول أبو حيان فى تفسيره الآية السابقة فى النهر الماد: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ لما امر باستقبال الكعبة وهو عليه السلام مقيم بالمدينة بين تساوى الحالين فى الإقامة والسفر وبين بقوله: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ تساوى جهاتهم وحاله عليه السّلام فى ذلك- وختم هذه الآية بما ختم تلك الآية السابقة مبالغة فى امتثال هذا التكليف العظيم الذى هو تحويل من جهة إلى جهة وهو تعبد محض.

البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن لابن الزملكانى

البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن لابن الزملكانى إن الذين يكتبون عن زوايا من إعجاز القرآن يتعرضون تعرضا عميقا لتفسيره فى كثير من آياته، وهم فى ذلك مفسرون من أعلى طبقات المفسرين. ومن هؤلاء كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكانى المتوفى سنة 651 هـ صاحب كتاب: «البرهان» الكاشف عن أعجاز القرآن، الذى نشرته مديرية الأوقاف بالعراق بتحقيق نفيس قامت به الدكتورة خديجة الحديثى والدكتور أحمد مطلوب. والزملكانى نسبة إلى زملكان بدمشق. وقد درس حتى أصبح اماما من أئمة اللغة والأدب ووصل به أمر الوظائف إلى أن تولى القضاء، وهذا يدل على أنه مع ضربه بسهم نافذ فى الأدب فإنه انغمس أيضا فى الفقه فكان له قدم فيه .. وقد كتب عدة كتب منها:- 1 - التبيان. ولقد اهتم مؤلفنا بإعراب القرآن الكريم، فكتب كتاب: 2 - المفيد فى إعراب القرآن المجيد. 3 - الخصائص النبوية على أن كتب صاحب البرهان تدل على أنه اهتم اهتماما كاملا بالسيرة النبوية الشريفة فألف فيها كتاب «الخصائص النبوية». ولقد اجتذبت الخصائص النبوية كثيرا من المؤلفين، منهم الإمام السيوطى الذى كتب كتابا ضخما فى الخصائص، وهو كتاب نفيس ...

ويؤلف المؤلفون أيضا فى الخصائص تحت عنوان «الشمائل». ومن اشهر الكتب فى ذلك كتاب «الشمائل» للترمذى. وعنه يقول صاحب شذرات الذهب: ابن الزملكانى العلامة كمال الدين عبد الواحد بن خطيب زملكا أبو محمد عبد الكريم بن خلف الأنصارى السماكى الشافعى صاحب علم المعانى والبيان، كان قوى المشاركة فى فنون العلم خيرا متميزا ذكيا سريا ولى قضاء صرخد، ودرس مدة ببعلبك، وله نظم رائق، وهو جد الكمال الزملكانى المشهور، واسطة عقد البيت، وتوفى عبد الواحد فى المحرم بدمشق وكان له ولد يقال له أبو الحسن على، إمام جليل، وافر الحرمة، حسن الشكل، درس بالامينية وتوفى فى ربيع الأول سنة تسعين وستمائة، وقد نيف على الخمسين. وفيه يقول صاحب طبقات الشافعية: عبد الواجد بن عبد الكريم بن خلف: الشيخ كمال الدين أبو المكارم، ابن خطيب زملكا. قال أبو شامة: كان عالما خيرا متميزا فى علوم عدة، ولى القضاء بصرخد، ودرس ببعلبك. قلت: وهو جد الشيخ كمال الدين محمد بن على بن عبد الواحد الزملكانى، وكانت له معرفة تامة بالمعانى والبيان، وله فيهما مصنف، وله شعر حسن، توفى فى المحرم بدمشق سنة احدى وخمسين وستمائة .. ومع كثرة خوضه فى التفسير وفى الفقه، ومع كونه كان قاضيا معروفا فإن نزعة الأدباء إلى الشعر خصوصا من كانت عنده الوهبة، قد غلبت عليه، فكان يقول شعرا، بل كان يبدأ كعادة الشعراء قصائده بغزل فى غاية العذوبة، وفى بعض قصيدة له يقول: أطرفك ام هاروت يعقد لى سحرا ... أريقك أم طالوت يعصر لى خمرا

وما العيش إلا أن أرى لك عاشقا ... وما الموت إلا أن تعذبنى هجرا جمالك يكسو كل حسن ملاحة ... ومنطقك الاسماع يملؤها درا عذارك لام كل صدفك صاده ... ولا غروان تضحى العيون به سهرى وفى فيك أم عقد اللآلى منظم ... فكان ظلام الليل فى ضوئه ظهرا أليس ببدع أن تصيد قلوبنا ... وأن تكثر القتلى وأن ترخص الأسرى وكان يقول الشعر فى المدح، ومن قصيدة له فى مدح الوزير أبى الحسن على الأمين:- أسد فريسته أغاثه مدنف ... أخنى عليه الدهر فى تجواله جبل على الأبطال عند نزالهم ... يا ويح من يدعى ليوم نزاله السعد فى نظراته، والموت فى ... سطواته، والفضل فى أفعاله عجبا أبا الحسن الوزير غضنفر ... والخائفون امانهم بظلاله أبت المكارم أن تجود لدهرها ... بمثاله، ولغيره بخصاله الصاحب الندب الجواد ومن له ... شرف بمحتده وحسن فعاله ومما ذكره الدكتور أحمد مطلوب من أهم آرائه التى عرضها فى البرهان ما يلي: 1 - اختار الرأى القائل بأن البسملة من الفاتحة. 2 - رد على أبى هلال العسكرى فى تعريف البلاغة وقال: ان الفصاحة من عوارض الألفاظ مع ملاءمة المعنى، والبلاغة من عوارض المعانى وهو تكميل المعنى باللفظ الذى يفهمه من قولهم (بلغ كذا) إذا انتهى إليه، فإن اللفظ إذا كمل معناه أوصله إلى القلب .. أو أنه من (بلغ الشيء فى نفسه) إذا انتهى نهايته، وبلغ حده .. 3 - ذهب إلى ان ألم تر؟ بمنزلة: «هل رأيت»؟ وذكر الادلة على ذلك. 4 - أنكر الترادف بين الألفاظ غير القديمة، وأن من ادعى لها قدما فقد

زل قدما وسيعض بنانه يوم القيامة ندما، كيف والقديم واجب الوجود لذاته لا يقبل العدم، ولا يوصف بحلول فى صدور البشر، ولا يلحن أحد فيه بلسان أو قلم، ولا يضاف إلى لغة عرب ولا عجم .. والنموذج الذى نذكره مكون فى الواقع من عدة نماذج، فهو نص يتضمن عدة نصوص يتحدث فيه المؤلف من: «أسباب التقديم والتأخير فى الآيات القرآنية». يقول: التقدم فى اللسان تبع للتقدم فى الجنان، على ما سنين أن الألفاظ تبع للمعانى والمعانى تتقدم باعتبارات خمسة: الاول: تقدم العلة والسببية على المعلول والسبب، كتقديم المضيء على الضوء، وليس تقدما بالزمان لأن جرم الشمس ينفك عن الضوء. الثانى: التقدم بالذات كالواحد مع الاثنين، وليس الواحد علة لوجود الاثنين بخلاف القسم الأول. الثالث: بالشرف كتقدم الأنبياء (صلّى الله عليه وسلم) على الاتباع، والعالم على الجاهل .. الرابع: بالرتبة، كتقدم الإمام على الماموم، والجنس الأعلى على ما تحته إذا جعل مبدأ .. الخامس: بالزمان، كالأبعد من الآن مع الاقرب إليه، ومنه تقدم الوالد على الولد، فإن الوالد وجد فى زمان لم يكن فيه الولد موجودا .. فما كان من المعانى مقدما على غيره بأحد هذه الاعتبارات أو بأكثرها كان فى العبارة كذلك .. ومن التقدم بالزمان: «وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم». ومنه: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ. (سورة الانعام الآية 1).

فإن الظلمة سابقة على النور فى الإحساس، وكذلك الظلمة المعنوية سابقة على النور الوالد يؤيده قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله خلق خلقه فى ظلمة ثم صب عليهم من نوره، فمن اصابه من ذلك النور اهتدى، ومن اخطأ ضل». ومنه قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ. فانتفاء العلم ظلمة، وهى متقدمة بالزمان على نور الادراكات .. وقوله تعالى: «فى ظلمات ثلاث» إشارة إلى ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة .. وقيل: ظلمة الصلب والرحم والبطن .. فهذه ظلمات ثلاث محسة. وفى الآية الأولى: ظلمات ثلاث معقولة: فقد السمع والبصر والفهم ... ومن التقدم بالذات قوله تعالى: «مثنى وثلاث ورباع». ونحوه: «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم» .. الآية، وكذلك مراتب العدد، فكل مرتبه هى ادنى من الأخرى، فهى متقدمة على ما فوقها. ومن التقدم بالسببية «العزيز» على «الحكيم»، لأنه إذا عز حكم. ومنه: «يحب التوابين ويحب المتطهرين»، فإن التوبة سبب للطهارة .. وكذلك: «كل افاك اثيم» فإن الافك سبب للإثم، وكذلك «معتد اثيم».

ومن التقدم بالرتبة قوله تعالى: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ (سورة الحج الآية 27) فإن الذين يأتون رجالا الغالب انهم يكونون من المكان القريب، والاتيان على الضامر ان يكون من مكان بعيد على أنه قد ورد عن ابن عباس (رضى الله عنهما): «وددت أنى لو حججت راجلا، فإن الله قدم الرجالة على الركبان فى القرآن». فجعله من باب التقدم بالفضيلة والشرف، والمعنيان موجودان عند كثير من العلماء .. وقوله تعالى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. (سورة ن الآية 11) وذلك لا يفتقر إلى مشى بخلاف النميمة فإنها نقل للحديث من مكان إلى مكان عن شخص إلى شخص. ومن التقدم بالشرف قوله عز وعلا: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. (سورة المائدة الآية 6) فإن الوجه اشرف بالنسبة إلى أعضاء البدن، واليدان اشرف باعتبار الأعمال، والبدن سابق على عمله، والرأس اشرف من الرجلين لاشتماله على

القوى الدراكة وهى القوى المدركة والحافظة والحافظة، وذلك من عالم الغيب لا من عالم الشهادة .. فلا جرم تأخر عن الوجه واليدين إذ قواهما تظهر- فى عالم المشاهدة من الابصار والذوق والنطق .. ومن التقدم بالشرف قوله تعالى: «من النبيين والصديقين» .. ومنه تقديم السمع على البصر، وسميع على بصير، لأن السمع يدرك أخبار الأوائل والأواخر واحكام الآخرة .. وأيضا يدرك ما غاب وحضر، والبصر إنما يتعلق بالحاضر فكان ادراك السمع أعم، والأعم ابدا قبل الأخص بالرتبة .. وقد جعل تقديم الجن على الانس من التقديم بالشرف لاشتمال الجن على الملائكة، وقال سبحانه: «وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا». وقال الأعشى: وسخر من جن الملائك سبعة قياما لديه يعملون بلا أجر ونحوه قوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. (سورة الرحمن الآية 74). وقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ .. (سورة الرحمن الآية 39) وقوله تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً. (سورة الجن الآية 5) الجن فى ذلك كله لا يتناول الملائكة لنزاهتهم عن العيوب، ولا يتوهم عليهم الكذب وسائر الذنوب، فلما لم يتناول الملائكة عموم لفظ الجن بدأ بالاتى لفضلهم ..

الإمام ابن تيمية ومنهجه فى التفسير

الإمام ابن تيمية ومنهجه فى التفسير هو الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، المولود بحران من بلاد الشام فى عاشر ربيع الأول سنة 661، وقد أقام بها بضع سنين ثم انتقل منها إلى دمشق مع أبيه وأخويه سنة 667 تحت ضغط هجوم التتار. نشأ فى دمشق، وترعرع بها، ثم بلغ أشده حتى أصبح من المشهورين، ونهل من شتى أنواع العلوم والمعارف الدينية فى عصره، ووصف ابن الوردى نشأته العلمية فقال: انه بعد أن تعلم الخط والحساب، وحفظ القرآن فى المكتب، أقبل على الفقه والعربية، وبرع فى النحو، ثم أقبل على التفسير اقبالا كليا حتى سبق فيه، وأحكم أصول الفقه. ثم يقول ابن الوردى: ونشأ فى تصون تام، وعفاف وتعبد، واقتصاد فى الملبس والمأكل، ومارس المناظرة فى صغره، وكانت له دراية واسعة بالسنة وفنونها مما ساعده على الاستدلال على آرائه ومعارضة آراء الخصوم. وبالجملة جمع إلى المنقول المعقول فكان من كبار العلماء. تحدث المؤرخ كمال الدين بن الزملكانى عنه فقال: كان إذا سئل عن فن من الفنون ظن الرائى والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدا لا يعرف مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا فى سائر مذاهبهم منه ما لم يكونوا يعرفونه من قبل. ولقد كثر الثناء عليه قديما وحديثا كما كثر فى حقه الانتقاد، فاغرم به

جهاده السياسى

معجبون لا يصدرون إلا عن رأيه ويتعصبون لكل ما يصدر عنه، ووقف فى وجهه اعداء فى حياته وبعد موته، كرهوه وكرهوا كل ما يصدر عنه، وتوسط منصفون فأعطوه حقه، وقرءوه فى انصاف فريفوا ما زاف، واثبتوا ما يمكث فى الأرض، فكانوا مع الحق، عنه يصدرون، وعلى ضوئه يسيرون. جهاده السياسى :- ولقد سخر ابن تيمية نفسه وعلمه لخدمة المعركة الكبرى للمسلمين ضد عدوهم الخطير «التتار» لقد تقدم بنفسه لمفاوضة ملك التتار، واستطاع ان يأخذ منه الامان، وهجم التتار مرة ثانية على الشام ففزع الناس، فكان ممن ثبت النفوس وساعد على رياضة القلوب بمواعظه المؤثرة، وكلماته الحكيمة، ولقد شهد معركة مع التتار فى رمضان تحقق فيها النصر للمسلمين. نقد ابن تيمية :- لقد انتقد بعض العلماء ابن تيمية لجرأته لرأيه ومهاجمة رأى خصمه، ولقد كان فى تحمسه فى هذه المهاجمة يبتعد عن الحق احيانا غير متأن، أو مترو، ولو تأنى، أو تروى لتبين له الأمر على حقيقته. ويؤخذ عليه أنه يتعصب لفكرته فى الصفات، والاستواء على العرش، وهى ليست على منهج السلف الذين يبتعدون عن الجدل فى صفات الله، مقتنعين بحق أنها من- المتشابه الذى نهينا عن البحث فيه، وهذا الجدل فى الصفات قد آثار عليه الكثير من كبار علماء الإسلام من المحدثين الذين يتبعون مذهب السلف، ومن المتكلمين الذين يتبعون مذهب الخلف. ويؤخذ عليه اسهابه المسهب فى توضيح رأيه واكثاره من الاستدلال والتكرار فيما يستدل عليه وانطلاقه مع فكرته فى أسلوب عنيف جارف يستميل العامة، ولا يستسيغه كثير من الخاصة.

ومما أخذه عليه كثير من الناس حملته على الصوفية، هذه الحملة التى يمدحها كثير من أصحابه والحق أن هؤلاء وأولئك لم يدرسوا ابن تيمية فى هذا الجانب دراسة عميقة، وذلك أن ابن تيمية يقدس الإمام عبد القادر الجيلانى، ويشرح كثيرا من فقراته مثنيا ومادحا .. والإمام الجيلانى هو التصوف كله، فلا يكاد يخرج رأى فى التصوف إلا وله فيه باع طويل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية فى فتاواه ج 11، ص 17 فى تحديد معنى الصوفى: «هو فى الحقيقة نوع من الصديقين، فهو الصديق الذى اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذى اجتهدوا فيه، والصوفيون قد يكونون من أجل الصديقين بحسب زمانهم فهم من أكمل صديقى زمانهم، والصديق فى العصر الأول أكمل منهم، والصديقون درجات وأنواع». ويقول ابن تيمية أيضا: «ولأجل ما وقع من كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه تنازع الناس فى طريقهم فطائفة ذمت الصوفية، والتصوف وقالوا أنهم مبتدعون خارجون على السنة وطائفة غالت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفى هذه الأمور ذميم والصواب أنهم مجتهدون فى طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل الطاعة ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده وفيهم المقتصد الذى هو من أهل اليمين وفى كل من النوعين من قد يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أولا يتوب.

(تفسير ابن تيمية)

(تفسير ابن تيمية) كان لابن تيمية فهم ممتاز فى كتاب الله، ولم يؤلف تفسيرا خاصا، بل تناثر تفسيره فى ثنايا كتبه وفتاواه ورسائله، وكتب ما كتبه منه فى أوقات مختلفة بحسب المناسبات وقد قام جامع فتاواه عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الجنيدى الحنبلى، يجمع ما كتبه فى مجال التفسير فى المجلد الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، من مجموع فتاوى ابن تيمية فلم تخل سورة من تناول ابن تيمية لآية أو آيات منها مما يسهل لنا فهم منهجه فى التفسير والبحث عن مطابقة هذا المنهج لما قام بتفسيره. منهجه فى التفسير :- قسم ابن تيمية التفسير إلى نوعين:- تفسير بالنقل، وتفسير بالعقل. أما عن التفسير بالنقل فذكر أن النبى صلّى الله عليه وسلم فسر القرآن كله للصحابة. قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ. (سورة النحل الآية 44) وذكر أن الصحابة فسروا القرآن للتابعين، وتحدث عن قلة الاختلاف بين الصحابة فى التفسير، ثم شاع الخلاف بعد عصرهم شيئا فشيئا حتى وصل إلى حالة من التضاد والتناقض. ويرى ابن تيمية أن الخلاف بين السلف فى التفسير هو اختلاف تنوع

لا اختلاف تضاد كاختلافهم فى تفسير الصراط المستقيم حيث قال بعضهم هو القرآن. وقال بعضهم: هو الإسلام، والقولان متفقان، لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ولكن كل واحد منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر، وكذلك قول من قال هو السنة والجماعة وقول من قال: هو طريق العبودية، وقول من قال هو طاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم وامثال ذلك فهؤلاء كلهم اشاروا إلى ذات واحدة، يقصد اتباع القرآن، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها. ويرى ابن تيمية أن أحدا من علماء المسلمين لم يقل باختصاص اللفظ العام الوارد بسبب حادث معين بهذا الحادث، وان الاختلاف إنما هو فى اختصاص هذا اللفظ بنوع ذلك السبب وما يشابهه أو شموله لكل ما يتناوله اللفظ. فمثلا روى أن قوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. (سورة المائدة الآية 49) نزل فى بنى قريظة والنضير، واللفظ عام ليس فيه اختصاص: فهل يشمل هذا القول ما يماثل سبب النزول فقط، أو يعم كل حكم، وكل حاكم على مدى الزمان. ولم يقل أحد بتعطيل الآية، أو الوقف عن الأخذ بها بعد زوال سببها وهم بنو قريظة وبنوا النضير، أو بعد زوال الوقت الذى نزلت فيه. وقد تحدث ابن تيمية عن استطراد كثير من المفسرين بالنقل، فيما يفيد ولا دليل على الصحيح منه مثل اختلافهم فى لون كلب اصحاب الكهف ومقدار سفينة نوح ونوع خشبها ونحو ذلك- ويبين ان ما كان من هذا القبيل طريقه النقل الصحيح عن الرسول صلّى الله عليه وسلم فهو مقبول كالعلم بأن اسم صاحب

موسى الخضر وان كان عن غير طريق صحيح إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم رددنا ما قطعنا بكذبه وتوقفنا فيما صح عن أهل الكتاب لقوله صلّى الله عليه وسلم: لا تصدقوا اهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بما انزل الينا وما انزل اليكم والهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون. ثم يتحدث ابن تيمية عن القسم الثانى من التفسير وهو التفسير بالعقل فيقول: ان فى هذا اللون من التفسير خطأ وهذا الخطأ له وجهان:- الأول:- قوم اعتقدوا معانى ثم ارادوا حمل الفاظ القرآن عليها فراعوا المعنى الذى رأوه واعتقدوه من غير نظر إلى ما تستحقه الفاظ القرآن من الدلالة والبيان، يريد انهم يحللوا من كل ما ورد مما يتصل بالآية كسبب النزول والناسخ والمنسوخ والبيان النبوى لكثير من الآيات. الثانى:- قوم فسروا القرآن بمجرد ما يفيده اللفظ العربى من غير نظر إلى منزل القرآن والمنزل عليه والمخاطب به فراعوا جانب اللفظ وتركوا ما عداه وكل من الطريقتين الأخريين فيما يرى ابن تيمية خطأ وأحسن طرق التفسير فى نظره تفسير القرآن بالقرآن فإن لم يتيسر ذلك فسرناه بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، قال الشافعى رحمه الله: كل ما حكم به الرسول صلّى الله عليه وسلم فهو بما فهمه من القرآن- ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم. «الا انى اوتيت القرآن ومثله معه» أى السنة والسنة ايضا تنزيل عليه بالوحى كما ينزل القرآن لا انها لا تتلى كما يتلى. وإذا لم يتيسر التفسير بالقرآن والسنة رجعنا إلى اقوال الصحابة لا سيما كبراؤهم وعلماؤهم كالخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عباس وغيرهم. فهم الدين شاهدوا التنزيل وعاصروا اسباب النزول وعرفوا الناسخ من المنسوخ وتلمسوا الجوانب المحيطة بالقرآن والمعانى التى اشار إليها الرسول صلّى الله عليه وسلم وهم انضر الناس فهما واقدرهم على الاجتهاد والاستنباط.

فإن لم نجد التفسير فى اقوال الصحابة آخر ففيما اجمع عليه التابعون ثم تخيرنا فيما روى عنهم ثم لجأنا إلى الاجتهاد بالرأى فى حدود المنهج المقبول. وهذا المنهج الذى رسمه ابن تيمية للتفسير منهج سلفى لا مجال للطعن فيه. ولكن ابن تيمية فى تفسيره قد ابتعد فى بعض الأحيان عن هذا المنهج وإليك نموذجا من تفسيره: سئل رضى الله عنه عن قوله تعالى: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ. (سورة الانعام الآية 2) وقوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ. وقوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ. (سورة الرعد الآية 39) هل المحو الاثبات فى اللوح المحفوظ والكتاب الذى جاء فى الصحيح (ان الله تعالى كتب كتابا فهو عنده على عرشه) الحديث. وقد جاء: «جف القلم» فما معنى ذلك فى المحو والاثبات؟ وهل شرع فى الدعاء ان يقول: «اللهم ان كنت كتبتنى كذا فامحنى واكتبنى كذا فإنك قلت: «يمحو الله ما يشاء ويثبت». وهل صح ان عمر كان يدعو بمثل هذا؟ وهل الصحيح عندكم ان العمر يزيد بصلة الرحم كما جاء فى الحديث؟ افتونا ماجورين.

فأجاب رضى الله عنه: الحمد الله رب العالمين. أما قوله سبحانه: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ فالاجل الأول هو أجل كل عبد الذى ينقضى به عمره، والأجل المسمى عنده هو اجل القيامة العامة. ولهذا قال: «مسمى عنده» فإن وقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب ولا نبى مرسل، كما قال: يسألونك عن الساعة ايان مرساها؟ قل: انما علمها عند ربى، لا يجليها لوقتها إلا هو بخلاف ما إذا قال مسمى. كقوله: «إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى» إذ لم يقيد بأنه مسمى عنده، فقد يعرفه العباد وأما أجل الموت فهذا تعرفه الملائكة الذين يكتبون رزق العبد وأجله وعمله، وشقى او سعيد كما قال فى الصحيحين عن ابن مسعود: أحدكم يجمع خلقه فى بطن امه اربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات فيقال، اكتب رزقه، وأجله وعمله، وشقى أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فهذا الأجل الذى هو أجل الموت قد يعلمه الله لمن شاء من عباده. وأما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا هو. وأما قوله: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ فقد قيل ان المراد الجنس أى ما يعمر من عمر انسان، ولا ينقص من عمر انسان، ثم التعمير والتقصير يراد به شيئان: «أحدهما» أن هذا يطول عمره، وهذا يقصر عمره، فيكون تقصيره نقصا له بالنسبة إلى غيره، كما ان المعمر يطول عمره، وهذا ينقص عمره، فيكون تقصيره نقصا له بالنسبة إلى غيره. كما ان التعمير زيادة بالنسبة إلى آخر. وقد يراد بالنقص من العمر المكتوب، كما يراد بالزيادة الزيادة فى العمر المكتوب. وعن النبى صلّى الله عليه وسلم انه قال: «من سره ان يبسط له فى رزقه،

وينسأ له فى اثره فليصل رحمه» وقد قال بعض الناس: ان المراد به البركة فى العمر، بأن يعمل فى الزمن القصير ما لا يعمله غيره إلا فى الكثير، قالوا: لأن الرزق: والأجل مقدران مكتوبان. فيقال لهؤلاء تلك البركة. وهى الزيادة فى العمل، والنفع هى أيضا مقدرة مكتوبة وتتناول لجميع الأشياء. والجواب المحقق: ان الله يكتب للعبد اجلا فى صحف الملائكة فإذا أوصل زاد فى ذلك المكتوب وان عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك الكتاب. ونظير هذا ما فى الترمذى وغيره عن النبى صلّى الله عليه وسلم: ان آدم لما طلب من الله ان يريه صورة الأنبياء من ذريته فأراه اياهم، فرأى فيهم رجلا له بصيص، فقال: من ذا يا رب؟ فقال: ابنك داود. قال: فكم عمره؟ قال اربعون سنة. قال: وكم عمرى؟ قال: ألف سنة. قال: فقد وهبت له من عمرى ستين سنة. فكتب عليه كتاب، وشهدت عليه الملائكة، فلما حضرته الوفاة قال: قد بقى من عمرى ستون سنة. قالوا: وهبتها لابنك داود. فأنكر ذلك: فأخرجوا الكتاب، قال النبى صلّى الله عليه وسلم فنسى آدم فنسيت ذريته: جحد آدم فجحدت ذريته، وروى انه كمل لآدم عمره ولداود عمره. فهذا داود كان عمره المكتوب اربعين سنة، ثم جعله ستين، وهذا معنى ما روي عن عمر انه قال: اللهم ان كنت كتبتنى شقيا فامحنى واكتبنى سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت. والله سبحانه عالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون فهو يعلم ما كتبه له وما يزيده اياه بعد ذلك والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله والله يعلم الأشياء قيل كونها وبعد كونها. فلهذا قال العلماء: ان المحو والاثبات فى صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدله ما لم يكن عالما به، فلا محو فيه ولا اثبات. وأما اللوح المحفوظ فهو فيه محو واثبات على قولين. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ابن جزى وكتابه التسهيل

ابن جزى وكتابه التسهيل أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن جزى الكلبى الغرناطى من مشاهير العلماء بغرناطة، وذوى الأصالة والنباهة فيها. كان رحمه الله على طريقة مثلى من العكوف على العلم، والاشتغال بالنظر والتقيد والتدوين، جمع إلى الفقه جودة الحفظ واتقان التفسير، وشارك فى كثير من الفنون كالعربية والأصول والقراءات بالحديث والأدب، وجمع فى مكتبة العديد من الكتب المفيدة والمراجع المهمة، وتولى الخطابة بالمسجد الأعظم فى بلده على حداثة سنه، فاتفق على فضله واشتهر جده وعلمه .. وكان رحمه الله مستغرقا فى همه، وهمه بلوغ القمة فى علوم الشريعة، وتحصيل ما يستطيع تحصيله، وبث ذلك فى الناس ونشره، ومما يعبر عن ذلك قوله: لكل بنى الدنيا مراد ومقصد ... وان مرادى صحة وفراغ لأبلغ فى علم الشريعة مبلغا ... يكون به لى فى الحياة بلاغ ففي مثل هذا يستزيد اولوا النهى ... وحسبى من الدنيا الغرور بلاغ فما العيش إلا فى نعيم مؤبد ... به العيش رغد والشراب يساغ قرأ على الأستاذ أبى جعفر بن الزبير واستفاد منه فى العربية والفقه والحديث والقراءات وعلى ابى عبد الله بن العماد، ولزم الحافظ بن رشيد، ولازم الخطيب الفاضل أبا عبد الله بن برطال والاستاذ النظار المتفنن أبا القاسم قاسم بن عبد الله .. وقد انتج ابن جزى فى مجال نشاطه كثيرا من المؤلفات منها: الأنوار السنية فى الكلمات السنية.

تفسيره

الدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الأخبار. التنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنابلة. تقريب الوصول إلى علم الأصول. أصول القراء الستة غير نافع. المختصر البارع فى قراءة نافع. القوانين الفقهية فى تلخيص مذهب المالكية. الفوائد العامة فى لحن العامة. النور المبين فى قواعد عقائد الدين. ومن معالم شخصيته المميزة حبه للرسول صلّى الله عليه وسلم، ويعبر عن ذلك قوله: أريم امتداح المصطفى فيردنى ... قصورى عن ادراك تلك المناقب ولو ان كل العالمين تألفوا ... على مدحه لم يبلغوا بعض واجب فأمسكت عنه هيبة وتأدبا ... وخوفا وإعظاما لا رفع جانب ورب سكوت كان فيه بلاغة ... ورب كلام فيه عتب لعاتب وكان رحمه الله من المجاهدين المحاربين، فكان يحرض الناس يوم معركة طريف، ومات شهيدا فى جمادى الأولى سنة احدى وأربعين وسبعمائة. تفسيره قدم ابن جزى للتفسير بمقدمة جليلة فقال بعد الحمد والثناء: أما بعد، فإن علم القرآن العظيم هو ارفع العلوم قدرا، واجلها خطرا، وأعظمها اجرا واشرفها ذكرا، وان الله انعم على بأن شغلنى بخدمة القرآن وتعلمه وتعليمه، وشغفنى بتفهم معانيه، وتحصيل علومه، فاطلعت على

ما صنف العلماء رضى الله عنهم فى تفسير القرآن من التصانيف المختلفة الأوصاف، المتباينة الاصناف، فمنهم من اثر الاختصار ومنهم من طول حتى كثر الاسفار، ومنهم من تكلم فى بعض العلم دون بعض، ومنهم من اعتمد على نقل أقوال الناس، ومنهم من عمل على النظر والتحقيق والتدقيق، وكل أحد سلك طريقا نحاه، وذهب مذهبا ارتضاه، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى (سورة الحديد الآية 10)، فرغبت فى سلوك طريقهم والانخراط فى مساق فريقهم، وصنفت هذا الكتاب فى تفسير القرآن العظيم،- وسائر ما يتعلق به من العلوم وسلكت مسلكا نافعا، إذ جعلته وجيزا جامعا، قصدت به اربعة مقاصد تتضمن اربع فوائد: الفائدة الأولى: جمع كثير من العلم فى كتاب صغير الحجم، تسهيلا على الطالبين وتقريبا على الراغبين، فلقد احتوى هذا الكتاب على ما تضمنته الدواوين الطويلة من العلم ولكن بعد تلخيصها، وتنقيح فصولها، وحذف حشوها وفضولها، ولقد اودعته من فن من فنون علم القرآن اللباب المرغوب فيه، دون القشر المرغوب عنه، من غير افراط ولا تفريط ثم انى عزمت على ايجاز العبارة، وافراط الاختصار، وترك التطويل والتكرار .. الفائدة الثانية:- ذكر نكت عجيبة، وفوائد غريبة، قلما توجد فى كتاب، لأنها من نبات صدرى وينابيع ذكرى، ومما أخذته عن شيوخى رضى الله عنهم، أو مما التقطته من مستطرفات النوادر الواقعة فى غرائب الدفاتر .. الفائدة الثالثة:- ايضاح المشكلات، اما بحل العقد المقفلات، واما بحسن العبارة ورفع الاحتمالات، وبيان المجملات. الفائدة الرابعة: تحقيق أقوال المفسرين، السقيم منها والصحيح، وتمييز الراجح من المرجوح وذلك ان أقوال الناس على مراتب: فمنها الصحيح الذى يعول عليه، ومنها الباطل الذى لا يلتفت إليه، ومنها ما يحتمل الصحة

والفساد، ثم ان هذا الاحتمال قد يكون مساويا أو متفاوتا والتفاوت قد يكون قليلا أو كثيرا، وانى جعلت لهذه الأقسام عبارات مختلفة،- تعريفها كل مرتبة وكل قول، فادناها ما صرح بأنه خطأ أو باطل، ثم ما أقول فيه أنه ضعيف أو بعيد، ثم أقول أن غيره ارجح أو اقوى، أو اظهر أو اشهر، ثم ما أقدم غيره عليه اشعارا بترجيح المتقدم او بالقول فيه: قيل كذا قصدا للخروج من عهدته، واما صرحت باسم قائل القول فانى افعل ذلك لاحد امرين: اما للخروج عن عهدته، واما لنصرته إذا كان قائله ممن يقتدى به. ثم قال: وسميته «كتاب التسهيل لعلم التنزيل» وقدمت فى أوله مقدمتين: إحداهما: فى أبواب نافعة، وقواعد كلية جامعة، والأخرى فيما كثر دوره من اللغات الواقعة ثم قدم لكتابيه مقدمات: المقدمة الأولى: فيها اثنا عشر بابا. الباب الأول: فى نزول القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أول ما بعثه الله بمكة وهو ابن اربعين سنة إلى ان هاجر إلى المدينة ثم نزل عليه بالمدينة إلى ان توفاه الله. الباب الثانى:- فى السور المكية والمدنية. الباب الثالث:- فى المعانى والعلوم التى تضمنها القرآن. الباب الرابع:- فى فنون العلم التى تتعلق بالقرآن. الباب الخامس:- فى أسباب الخلاف بين المفسرين، والوجوه التى يرجح بها بين أقوالهم. الباب السادس:- فى ذكر المفسرين. الباب السابع:- فى الناسخ والمنسوخ. الباب الثامن:- فى جوامع القراءة.

الباب التاسع:- فى الوقف. الباب العاشر:- فى الفصاحة والبلاغة وادوات البيان. الباب الحادى عشر:- فى اعجاز القرآن واقامة الدليل على انه من عند الله عز وجل. الباب الثانى عشر:- فى فضل القرآن. المقدمة الثانية:- فى تفسير معانى اللغات أى الكلمات التى يكثر ورودها فى القرآن أو تقع فى موضعين فأكثر من الأسماء والأفعال والحروف. وكان فى كل ذلك سالكا سبيل الاختصار، مكتفيا بالتركيز عن الاطالة، ممهدا الطريق لبدء تفسير الآيات، فاشتملت المقدمة على كثير مما حال الاختصار دون ذكره فى تفسير الآيات، وحقق بها ما يمكن ان يضم إلى الكتب المؤلفة فى كل فن من الفنون التى اشتملت عليها. ومن نماذجه: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (سورة النساء الآية 19) لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ قال ابن عباس: كانوا فى الجاهلية إذا مات الرجل كان اولو الحق بامرأته ان شاءوا تزوجها أحدهم وان شاءوا زوجوها من غيرهم، وان شاءوا منعوها التزوج، فنزلت الآية فى ذلك، فمعنى الآية على هذا: لا يحل لكم ان تجعلوا النساء يورثن عن الرجال كما يورث المال.

وقيل: الخطاب للازواج الذين يمسكون المرأة فى العصمة ليرثوا مالها من غير غبطة بها. وقيل الخطاب للاولاد الذين يمنعون امهاتهم من التزوج ليرثوهن دون الزوج. ولا تعضلوهن: معطوف على ان ترثوا أو نهى، والعضل المنع، قال ابن عباس: هى أيضا فى أولياء الزوج الذين يمنعون زوجته من التزوج بعد موته، إلا أن قوله «ما آتيتموهنّ» على هذا معناه ما اتاها الرجل الذى مات. وقال ابن عباس: هى فى الأزواج الذين يمسكون المرأة ويسيئون عشرتها حتى تفتدى صداقها وهو ظاهر اللفظ فى قوله «ما آتيتموهن» وبقوله «وعاشروهنّ بالمعروف» فإن الاظهر فيه ان يكون فى الأزواج، وقد يكون فى غيرهم .. وقيل للأولياء .. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ: قيل الفاحشة هنا الزنا، وقيل نشوز المرأة وبغضها فى زوجها، فإذا نشزت جاز له ان يأخذ ما آتاها من صداق أو غير ذلك من مالها، وهذا جائز على مذهب مالك فى الخلع إذا كان الضرر من المرأة، والزنا أصعب على الزوج من النشوز فيجوز له أخذ الفدية .. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ الآية ... معناها ان كرهتم النساء لوجه فاصبروا فعسى ان يجعل الله الخير فى وجه آخر .. وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلم: لا يترك مؤمن مؤمنة، ان سخط منها خلقا رضى آخر .. ***

الإمام النسفى وتفسيره

الإمام النسفى وتفسيره من علماء المذهب الحنفى المشهورين، وممن لهم قدم راسخ فى كثير من العلوم، المفسر الشهير، والعالم النحرير، حافظ الدين أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفى المنسوب إلى نسف ببلاد السند بين جيحون وسمرقند. كان عالما بالفقه وأصول الدين وأصول الفقه والتفسير وامتازت مؤلفاته بجودة التحرى ودقة التعبير وشدة التركيز وحشد المعلومات المتنوعة فى حيز بسيط حتى ليعسر على غير المتخصص الأخذ عنها، وفهم كل ما يشير إليه. وقد استفاد من شتى طرق البحث السابق عليه فخرج بين استدلالات المتكلمين وجدل الأصوليين واستنباط الفقهاء متميزا بطريقته الخاصة فى التأليف. كما استفاد من شيوخه المشاهير ومنهم شمس الأئمة الكردى، وأحمد ابن محمد العتابى وغيرهم من كبار العلماء المتخصصين. مؤلفاته : للإمام النسفى مؤلفات طبع أكثرها، وأخذ مجاله فى سوق العلم حتى اشتهر كمفسر، وأشتهر كفقيه، وأشتهر كباحث فى أصول الدين وباحث فى أصول الفقه ... ومن هذه المؤلفات: 1 - عمدة العقائد فى الكلام. 2 - شرح عمدة العقائد وسماه الاعتماد. 3 - منار الأنوار فى أصول الفقه. 4 - الكافى فى شرح الوافى فى الفقه الحنفى. 5 - كنز الدقائق فى الفقه الحنفى.

صفاته

صفاته : كان الإمام النسفى على نسق غيره من كبار العلماء المسلمين مشهورا بالزهد والصلاح والتقوى، فضلا عن تفرغه للعلم والدراسة والبحوث وقد اشتهر علمه وذاع فضله فى عصره وبعد عصره وبارك الله فى مؤلفاته، فأصبحت مرجع الباحثين، ومجال البحث والدراسة بين الدراسين، لما فيها من تدقيق وتحقيق، واكتفاء بالاشارة عن التفصيل، وبالإيجاز عن الاطناب. وقد قدره العلماء حق قدره، فقد كتب عنه صاحب (الدرر الكامنة) فوصفه بهذه الكلمة المدوية (علامة الدنيا). وكتب عنه الحافظ عبد القادر فى طبقاته فقال: «أحد الزهاد المتأخرين، صاحب التصانيف المفيدة فى الفقه والأصول، له المستصفى فى شرح المنظومة، وله شرح النافع سماه بالمنافع، وله الكافى فى شرح الوافى، وله كنز الدقائق، وله المنار فى أصول الفقه، وله العمدة فى أصول الدين، تفقه على شمس الأئمة الكردى، وروى الزيادات عن أحمد بن محمد العتابى» .. والنسفى باعتباره من أئمة أهل السنة كان له مواقف فى غاية القوة، وفى غاية العمق، فى الرد على كل انحراف فى تفسير القرآن، وخصوصا تفسير الكشاف .. ، .. ولم يقتصر فى الرد على المعتزلة على ما كتبه عن تفسير الكشاف، وإنما فعل ذلك فى كل كتبه الكلامية التى كانت لقيمتها الكبرى مجال اهتمام فى رحاب الأزهر، قررت على الطلبة فى مختلف مراحل التعليم، وقام الأساتذة باختصارها، وبشرحها، وبالتعليق عليها مستفيدين منها، ومفيدين للغير بها- والله سبحانه وتعالى يقول: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ. سورة يس الآية 12 وان آثار الإمام النسفى فى الخير هائلة.

وفاته

وفاته : وكانت وفاة الإمام النسفى رحمه الله عام واحد وسبعمائة من الهجرة ببلدة ايذج بين خوزستان واصبهان. رحمه الله ونفع بعلمه .. تفسير النسفى سماه الإمام النسفى (مدارك التنزيل وحقائق التأويل) ويعتبر هذا التفسير من التفاسير العلمية المحررة، ليس بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل. وقد تحدث الإمام النسفى عن السبب الذى دعاه إلى تأليف هذا التفسير فقال: (سألنى من تتعين أجابته كتابا وسطا فى التأويلات، جامعا لوجوه الاعراب والقراءات، متضمنا لدقائق علمى البديع والاشارات، حاليا بأقاويل أهل السنة والجماعة، خاليا عن أباطيل أهل البدع والضلالة، ليس بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل .. ثم ذكر أنه تردد فى الاجابة .. ولكنه قطع هذا التردد، وسار فى تأليفه بجد، حتى أتمه فى مدة يسيرة. والناظر فى هذا التفسير يجد فيه فهما واعيا، وخبرة دقيقة، واطلاعا واسعا، وحسن استفادة من هذا الاطلاع .. وقد استفاد من تفسيرى البيضاوى والكشاف أيما استفادة، فأخذ من البيضاوى معناه الدقيق، وفهمه الواعى، وتوجيهه السديد، وإيجازه المركز .. وأخذ من الزمخشرى فى كشافه خبرته الواسعة باللغة، ومناقشته للآراء المتعددة، واختيار ما يراه .. على أنه لم يقع فيما وقع فيه الزمخشرى فى كشافه من التعصب لمذهب الاعتزال، وحمل الآيات فى تعسف على تأييد أصوله وقواعده.

إنه على العكس من ذلك اتخذ موقفا مضادا، فحارب ما يخالف المذهب الأشعرى مستفيدا من طريقة الزمخشرى، رادا عليه، منتقدا طريقته وحججه. ويمتاز تفسير النسفى باقلاله من الاسرائيليات، وابتعاده ما استطاع عنها. كما يمتاز بتحريه فى اختيار أكثر الأحاديث، ويظهر ذلك أبلغ ما يظهر فى تركه ذكر الاحاديث الموضوعة فى فضائل السور .. كما أنه لم يتوسع فى الإعراب، ولم يدخل فى تفصيلات فرعية، تشتت الذهن، وتبتعد بالقارئ عن الجو القرآنى. ولم يخل تفسيره من الإشارة إلى المذاهب الفقهية فى بعض آيات الأحكام، والانتصار لمذهبه الحنفى. تفسير قوله تعالى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. (سورة المائدة الآية 112) عن الحسن: أن المائدة لم تنزل، ولو نزلت لكانت عيدا إلى يوم القيامة، لقوله: وآخرنا .. والصحيح أنها نزلت: فعن وهب: نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملائكة، عليها كل طعام إلا اللحم .. وقيل: كانوا يجدون عليها ما شاءوا. وقيل: كانت تنزل حيث كانوا بكرة وعشيا.

ما يؤخذ على تفسيره

ما يؤخذ على تفسيره : ولا يسلم تفسير النسفى على وجه العموم من النقد: لقد اكتفى بإشارات فى غاية الايجاز إلى الآراء المختلفة فيما يتعلق بالآيات التى استدلت بها الفرق، وكأنه يفترض شهرة هذه الآراء، ومعرفة الكل بها، ودوام هذه المعرفة، ويتمثل لنا ذلك فى تفسير قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (سورة الملك الآية 14) إنه يقول: أنكر أن لا يحيط علما بالمضمر والمسر والمجهر من خلقها، وصفته أنه اللطيف أى العالم بدقائق الأشياء، الخبير العالم بحقائق الأشياء، وفيه إثبات خلق الأقوال فيكون دليلا على خلقه أفعال العباد، وقال أبو بكر بن الأمم وجعفر بن حرب من مفعول والفاعل مضمر وهو الله تعالى، فاحتالا بهذا لنفى خلق الأفعال .. ولم يسلم من الإسرائيليات رغم احتياطه وتحفظه، فتراه عند تفسيره لقوله تعالى من سورة النمل: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ. (سورة النمل الآية 16) روى أنه صاحب فاختة (طائر معروف) فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاوس فقال: يقول: كما تدين تدان، ثم ذكر أصنافا من الطير، وقول كل صنف من هذه الأصناف، دون أن يعقب على ذلك، بل دون أن يحترز من ذكر مثل هذه الأقوال التى لا سند لها من الأحاديث الصحيحة.

نماذج من تفسير النسفى

ونأخذ عليه: أن أسلوبه يعلو على مستوى العامة، حيث حشد مفسره فيه ألوانا من العلوم المتعلقة بالقرآن لا يفهمها إلا من عنده فكرة سابقة عنها .. وفى آية المائدة التى ذكرناها سابقا يذكر آراء عن الحسن وعن وهب وعن غيرهما دون أن يوجه نظره إلى ما رواه الترمذى بسنده عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (انزلت المائدة من السماء خبزا ولحما .. الخ الحديث) .. والواقع أنه على الرغم من منزلة الإمام النسفى الكبرى فإن مكانته فى علم الكلام هى مناط شهرته، ومصدر ذيوع صيته، أما تفسيره على ما له من مكانة كبيرة لا تنكر، ومن منزلة سامية لا يشك فيها، فإنه- كان فيه عالة على تفسير الإمام البيضاوى، وعلى تفسير الإمام الزمخشرى، فى مجال معين هو مجال الجوانب البلاغية التى برع فيها جار الله الزمخشرى ولم يجاره فيها مجار والإمام النسفى وإن كان عنى عناية بالغة بالرد على الإمام الزمخشرى فإنه تبنى كل ما كتبه الإمام الزمخشرى تقريبا فى البلاغة القرآنية. ورحم الله الإمام النسفى رحمة واسعة جزاء زهده ونشره للعلم فقها وأصولا وكلاما وتفسيرا. نماذج من تفسير النسفى 1 - يقول الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (سورة التوبة لآية 100)

«والسّابقون» مبتدأ، (الأولون) صفة لهم (من المهاجرين) تبيين لهم وهم الذين صلوا إلى القبلتين، أو الذين شهدوا بدرا، أو بيعة- الرضوان (والأنصار) عطف على المهاجرين، أى ومن الأنصار، وهم أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين (والّذين اتبعوهم بإحسان) من المهاجرين والأنصار، فكانوا سائر الصحابة، وقيل: هم الذين اتبعوهم بالايمان والطاعة إلى يوم القيامة، والخبر (رضى الله عنهم) بأعمالهم الحسنة (ورضوا عنه) بما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية (وأعدلهم) عطف على رضى (جنّات تجرى تحتها الأنهار) من تحتها مكى (خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم). 2 - يقول الله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (سورة التوبة الآية 128 و 129) «لقد جاءكم رسول» محمد صلّى الله عليه وسلم (من أنفسكم) من جنسكم، ومن نسبكم، عربى قرشى مثلكم (عزيز عليه ما عنتم) شديد عليه شاق- لكونه بعضا منكم- عنتم لقاؤكم المكروه، فهو يخاف عليكم الوقوع فى العذاب (حريص عليكم) على ايمانكم (بالمؤمنين) منكم ومن غيركم (رءوف رحيم) قيل: لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلّى الله عليه وسلم (فإن تولوا) فإن أعرضوا عن الأيمان بك وناصبوك (فقل حسبى الله) فاستعن بالله وفوض إليه أمورك، فهو كافيك وناصرك عليهم (لا اله إلا هو عليه توكلت) فوضت أمرى إليه (وهو رب العرش) هو أعظم خلق الله، خلق مطافا لأهل السماء، وقبلة للدعاء (العظيم) بالجر وقرئ بالرفع على نعت الرب جل وعز، عن أبى: آخر آية نزلت: لقد جاءكم رسول من أنفسكم، الآية.

الإمام ابن كثير وتفسيره

الإمام ابن كثير وتفسيره الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين .. نبدأ مع الإمام ابن كثير بالحديث عن منهجه فى تفسير القرآن الكريم لأنه منهج من المناهج المثالية التى تتبع فى التفسير. إن أصح الطرق فى تفسير القرآن الكريم- حسبما يرى ابن كثير- هى:- 1 - أن يفسر القرآن بالقرآن، وذلك أنه كثيرا ما يكون المجمل فى مكان قد بسط فى موضع آخر. 2 - فإذا تعذر ذلك فعلى المفسر بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل لقد قال الإمام الشافعى رحمه الله تعالى ورضى عنه حسبما يذكر ابن كثير: «وكل ما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهو ما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (سورة النساء الآية 105) وقال تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (سورة النحل الآية 64)

وقال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (سورة النحل الآية 44) ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الا أنى أوتيت القرآن ومثله معه» يعنى السنة. والسنة أيضا تنزل عليه بالوحى كما ينزل القرآن، الا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن. 3 - فإذا لم نجد التفسير فى القرآن ولا فى السنة رجعنا فى ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم ادرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التى اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المبتدين المبدين، وعبد الله بن مسعود- رضى الله عنهم- والحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وترجمان القرآن. 4 - وإذا لم تجد التفسير فى القرآن ولا فى السنة ولا وجدته عند الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة فى ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه كان آية فى التفسير، وكسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء ابن ابى رباح والحسن البصرى ومسروق بن الاجدع، وسعيد بن المسيب وابى العالية والربيع بن انس والضحاك بن مزاحم وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم فتذكر أقوالهم فى الآية. وهؤلاء فيما يرى ابن كثير يقع فى آرائهم اختلاف، ولكن ابن كثير ينظر إلى آرائهم نظرة تشبه القداسة ويقول فى ذلك حرفيا: فيقع فى عبارتهم تباين فى الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافا فيحكيها أقوالا- أى يحكيها آراء متباينة مختلفة .. والكل بمعنى واحد فى أكثر الأماكن فيتفطن اللبيب لذلك.

ونحن وان كنا نشكر ابن كثير على موقفه هذا من آراء التابعين الذى يدل على نزعة طيبة نحو التقريب وتقليل شقة الخلاف فإننا نرى أن التابعين بحكم اصالتهم كانت لهم آراؤهم المتباينة. وإذا سألت الآن عن موقف ابن كثير من التفسير بالرأى فإنه يقول: «أما التفسير بالرأى فقد ورد عن السلف ما يدل على تحرجهم عن الكلام فى التفسير بما لا علم لهم فيه فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه». وهذا الرأى لا بن كثير رأى موفق، أنه لا حرج على من تكلم فى التفسير بالرأى ما دام قد استكمل عدة ذلك من اللغة ومن الشرع. وقد طبق ابن كثير منهجه هذا النفيس فى كتابه ومن أجل ذلك كان تفسيره من انفس التفاسير، يرجع إليه المحققون وقد استفاد منه الكثيرون فيما بعد فاغترف منه اغترافا صاحب محاسن التأويل وصاحب تفسير المنار وغيرهم كثير .. ومن أمثلة هذا التفسير ما يلى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (سورة البقرة الآية 254) يأمر الله تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم فى سبيله سبيل الخير ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم وليبادروا إلى ذلك فى هذه الحياة الدنيا. (من قبل أن يأتى يوم) يعنى يوم القيامة. (لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) أى لا يباع أحد من نفسه ولا يفادى بمال لو بذله ولو جاء بملء الأرض ذهبا لا تنفعه خلة أحد يعنى صداقته بل ولا نسابته كما قال: (فإذا نفخ فى الصور فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون).

(ولا شفاعة) أى لا تنفعهم شفاعة الشافعين. وقوله (والكافرون هم الظالمون) مبتدأ محصور فى خبره، أى ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا، وقد روى ابن أبى حاتم عن عطاء بن دينار أنه قال: «الحمد الله الذى قال (والكافرون هم الظالمون) ولم يقل: «والظالمون هم الكافرون». وقال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى يعنى أهل مكة وقد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما حولها كعاد وكانوا بالأحقاف بحضرموت عند اليمن وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام وكذلك سبأ وهم أهل اليمن ومدين وكانت فى طريقهم وممرهم إلى غزة، وكذلك بحيرة قوم لوط كانوا يمرون بها أيضا: وقوله عز وجل: وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أى بيناها وأوضحناها لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. (سورة الأحقاف الآية 27) وإذا كنا قد قدمنا الحديث عن المنهج لأهميته، فإننا نتحدث الآن عن الشخص وعن تقدير العلماء له. انه الحافظ الكبير، المدقق المحقق، عماد الدين اسماعيل بن عمر بن كثير البصرى ثم الدمشقى الفقيه الشافعى: ولد سنة إحدى وسبعمائة بقرية شرقى بصرى من أعمال دمشق وابتدأ فى طلب العلم من صغره ورحل فى طلبه، وقدم دمشق وله سبع سنين سنة ست وسبعمائة مع أخيه وقد مات أبوه وهو طفل لم يشب عن الطوق فى سنة 703 وساعده أخوه فى شئون حياته واتجه بكليته إلى العلم: دارسا ومتفقها، ومتعرفا على ألوان العلوم فحفظ والف وكان- فى كل ذلك- كثير الاستحضار، قليل النسيان، جيد الفهم، يشارك فى العربية وينظم نظما وسطا.

ولم يتحصل له العلم إلا بعد أن سمع من كثير من العلماء وتفقه على العديد من الشيوخ كالشيخ برهان الدين الفزارى وكمال الدين بن قاضى شهبة، ثم صاهر الحافظ أبا الحجاج المزى ولازمه وأخذ عنه، وأقبل على علم الحديث وأخذ الكثير عن ابن تيمية وقرأ الأصول على الأصبهانى، وسمع الكثير، وبرع فى حفظ المتون ومعرفة الأسانيد والعلل والرجال والتاريخ حتى برع فى ذلك وهو شاب. قال عنه الإمام الذهبى فى معجمه: «الإمام المفتى المحدث البارع: فقيه متفنن ومحدث متقن، ومفسر نقاد. وقال ابن حجر فى الدرر: سمع من ابن الشحنة وابن الزرّاد وإسحاق الآمدى وابن عساكر والمزى وابن الرضى وأجاز له من مصر: الدبوسى والوانى والختنى وغيرهم .. واشتغل بالحديث مطالعة فى متونه ورجاله، فجمع التفسير، وشرع فى كتاب كبير فى الأحكام لم يكمل، وجمع التاريخ الذى سماه البداية والنهاية وعمل طبقات الشافعية وخرج أحاديث مختصر ابن الحاجب وشرع فى شرح البخارى، ولازم المزى وقرأ عليه تهذيب الكمال وصاهره على ابنته وأخذ عن ابن تيمية، ففتن بحبه وامتحن بسببه. وقال عنه ابن حبيب: زعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنف وأطرب الأسماع بالفتوى وشنف، وحدث وأفاد وطارت أوراق فتاويه فى البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير وانتهت إليه رئاسة العلم فى التاريخ والحديث والتفسير. وقال تلميذه الحافظ شهاب الدين بن حجى: «كان احفظ من ادركناه لمتون الأحاديث، واعرفهم بتخريجها ورجالها وصحيحها وسقيمها وكان اقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك، وكان يستحضر شيئا كثيرا من الفقه والتاريخ قليل النسيان وكان فقيها جيد الفهم صحيح

الذهن، يشارك فى العربية مشاركة جيدة وينظم الشعر، وما اعرف أنى اجتمعت به على كثرة ترددى إليه إلا واستفدت منه». وقال ابن حجر: كان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة، سارت تصانيفه فى البلاد فى حياته وانتفع بها الناس بعد وفاته. وقد انتهت إليه رئاسة العلم فى التاريخ والتفسير والحديث فولى مشيخة أم الصالح بعد موت الذهبى، ومشيخة دار الحديث الاشرفية بعد موت السبكى مدة يسيرة، ثم أخذت منه. وهو القائل: تمر بنا الأيام تترى وانما ... نساق إلى الآجال والعين تنظر فلا عائد هذا الشباب الذى مضى ... ولا زائل هذا المشيب المكدر

بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز للفيروز بادى

بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز للفيروز بادى مؤلف هذا الكتاب أمام مشهور، وعالم فاضل، برز فى اللغة وعلومها، والحديث وفنونه، وضم إلى ذلك معرفة تاريخية صائبة وسلوكا صوفيا طيبا، وجمع كل معارفه فنسقها تنسيقا لم يسبق إليه، وقدمها تقديما حاول به أن ييسر القرآن للباحثين، ويكشف للعالم عن وجوه الإعجاز فيه فجاء وافيا بآية محققا للغاية المنشودة منه. والفيروزآبادي: مجد الدين أبو الطاهر محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيرازى الشيخ العلامة. كان بروزه إلى ساحة الحياة فى سنة تسع وعشرين وسبعمائة بكازرون لأب كان من علماء اللغة والأدب بشيراز فحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين وشغل بكتب اللغة من هذه السن ثم انتقل إلى شيراز فى سن الثامنة فأخذ اللغة من أبيه والحديث من محمد بن يوسف الزرندى الحنفى. وانطلق فى رحلاته بين أرجاء العالم الإسلامى محصلا جامعا متفهما متعلما: يقول ابن حجر فى أنباء الغمر: (ودخل الديار الشامية بعد الخمسين فسمع بها وظهرت فضائله وكثر الآخذون عنه، ثم دخل القاهرة ثم جال فى البلاد الشمالية والشرقية ودخل الهند وعاد منها على طريق اليمن قاصدا مكة، ودخل زبيد فتلقاه الملك الأشرف إسماعيل بالقبول، وكان ذلك بعد وفاة جمال الدين الريمى قاضى الأقضية باليمن كله فقرره الملك الأشرف مكانه وبالغ فى إكرامه فاستقرت قدمه بيزيد واستمر فى ذلك إلى مات وقدم فى هذه المدة مكة مرارا وأقام بها وبالطائف، ثم رجع).

ومن معالم شخصيته البارزة قوة الحفظ فقد حكى عنه أنه قال: «ما كنت أنام حتى احفظ مائتي سطر». ومن هذه المعالم طيب النفس وسماحة السلوك وحسن الصحبة، قال ابن حجر: (اجتمعت به فى زبيد وفى وادى الخصيب وناولنى جل «القاموس» واذن لى مع المناولة أن أرويه عنه وقرأت عليه من حديثه عدة أجزاء وسمعت منه «المسلسل» بالأولية بسماعة من السبكى وكتب لى تقريظا على بعض تخريجاتي أبلغ فيه وأنشدنى لنفسه فى سنة ثمانمائة بيزيد. وقد كان لهذه السماحة أطيب الأثر فى إقبال أهل عصره واحرصهم على تكريمه فكان كما قال ابن حجر: (لم يقدر له قط أنه دخل بلدا الا وأكرمه متوليه وبالغ فى إكرامه مثل شاه شجاع صاحب تبريز والأشرف صاحب مصر والأشرف صاحب اليمن وابن عثمان صاحب الروم وأحمد بن ادريس صاحب بغداد وغيرهم. أما من علمه فقد كان عزيرا، لقد استفاد بكبار علماء عصره، واستنار بما دون فى الكتب من العلوم ومع دقة حفظه وسعة اطلاعه فقد كانت المراجع لا تفارقه فى حله وترحاله لقد كان لا يسافر إلا وصحبته عدة احمال من الكتب يخرج أكثرها فى كل منزلة فينظر فيها ويعيدها إذا رحل وكان إذا املق باعها. ونقل السخاوى عنه أنه قال: اشتريت بخمسين ألف مثقال ذهبا كتبا. أما عن شيوخه فقد قرأ القراءات العشر على الشهاب أحمد بن على الديواني وأخذ ببغداد عن التاج محمد بن السباك والسراج عمر بن على القزوينى، وفى دمشق أخذ عن الشيخ تقى الدين السبكى وابنه التاج عبد الوهاب وفى الشام أخذ عن صلاح الدين العلائى وفى القاهرة أخذ عن بهاء الدين ابن عقيل شارح الألفية وجمال الدين الاسنوى وابن هشام النحوى. والناظر فى تفسيره يجد أنه قد رسم له خطته وحدد طريقته فقال فى مقدمته:

المقصد الأول

وبعد: فهذا كتاب جليل ومصنف حفيل ايتمرت بتأليفه الأوامر الشريفة العالية المولوية الامامية السلطانية العامية الهمتمية الصمصاوية الأعدلية الأفضلية السعدية الأجلية الملكية الاشرفية ممهد الدنيا والدين، خليفة الله فى العالمين أبو العباس إسماعيل بن العباس بن على بن داود بن يوسف بن عمر بن رسول خلد الله سلطانه. وأنار فى الخافقين برهانه قصد بذلك نصره الله- جمع شتات العلوم وضم أنواعها، على تباين أصنافها فى كتاب مفرد تسهيلا لمن رام سرح النظر فى أزاهير أفنان الفنون وتيسيرا لمن أراد الاستمتاع برائع أزهارها، ويانع ثمارها الغض المصون. فاستعنت بتوفيق الله وتأييده، ورتبته على مقدمة وستين مقصدا: المقدمة فى تشويق العالم إلى استزادة العلم الذى طلبه فرض، وتمييز العلوم بعضها من بعض. المقصد الأول: فى لطائف تفسير القرآن العظيم. أما المقاصد الباقية فتتعلق بعلوم أخرى كعلم الحديث وعلم الفقه وعلم الحروف وخواصها ونحو ذلك. المقصد الأول : وبعد المقدمة يقول المقصد الأول فى لطائف تفسير القرآن العظيم. اعلم أن رتبنا هذا المقصد الشريف على أغرب اسلوب وقدمنا أمامه مقدمات ومواقف: أما المقدمات: ففي ذكر فضل القرآن الكريم ووجه اعجازه وعد اسمائه وما لا بد للمفسرين من معرفته: من ترتيب نزول سور القرآن واختلاف أحوال آياته وفى مواضع نزوله وفى وجوه مخاطباته وشىء من بيان الناسخ والمنسوخ وأحكامه ومقاصده: من ابتداء القرآن إلى انتهائه. ثم يقول: (واذكر فى كل سورة على حدة سبعة أشياء). موضع النزول، وعدد الآيات، والحروف والكلمات واذكر الآيات التى

"بصيرة" - أنا انزلناه

اختلفت فيها القراءات ومجموع فواصل آيات السورة، وما كان للسورة من اسم أو اسمين فصاعدا، واشتقاقه ومقصودة السورة وما هى متضمنة له وآيات الناسخ والمنسوخ منها والمتشابه منها وبيان فضل السورة مما ورد فيها من الأحاديث. ثم اذكر موقفا يشتمل على تسعة وعشرين بابا على عدد حروف الهجاء ثم اذكر فى كل باب من كلمات القرآن ما أوله حرف ذلك الباب مثاله أنى أذكر فى أول باب الألف الألف واذكر وجوهه ومعانيه ثم اتبعه بكلمات أخرى مفتتحة بالألف وكذلك فى باب الباء والتاء إلى آخر الحروف فيحتوى ذلك على جميع كلمات القرآن ومعانيها على أتم الوجوه. واختتم ذلك بباب الثلاثين اذكر فيه أسماء الأنبياء ومتابعيهم من الأولياء، ثم أسماء اعدائهم المذكورين فى القرآن واشتقاق كل ذلك لغة، وما كان له فى القرآن من النظائر واذكر ما يليق به من الأشعار والأخبار واختم الكتاب بذكر خاتم النبيين. ثم استفاض فى تفسيره على النمط الذى ذكره ومن أمثلته ما يلى: «بصيرة» - أنا انزلناه السورة مكية عند بعض المفسرين، مدنية عند الأكثرين. آياتها ست فى عد الشام وخمس عند الباقين. وكلماتها ثلاثون وحروفها مائة واثنتا عشرة. فواصل آياتها على الراء. سميت سورة القدر لتكرر ذكره فيها. معظم مقصود السورة: بيان شرف ليلة القدر فى نص القرآن ونزول الملائكة المقربين من عند الرحمن واتصال سلامهم طوال الليل على أهل الإيمان فى قوله حتى مطلع الفجر السورة محكمة.

المتشابهات

المتشابهات : قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (سورة القدر الآية 1، 2) ثم قال (ليلة القدر) فصرح به، وكان حقه الكناية مرفعا لمنزلتها فإن الإسم قد يذكر بالصريح فى موضع الكناية تعظيما وتخويفا كما قال الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شىء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا فصرح باسم الموت ثلاث مرات تخويفا وهو من أبيات كتاب سيبويه فضل السورة : فيه أحاديث ضعيفة: عن أبى: من قرأها أعطى من الأجر كمن صام رمضان واحيا ليلة القدر. وقال جعفر: من قرأها فى ليلة نادى مناد: استأنف العمل فقد غفر الله لك. وقال: يا على، من قرأها فتح الله فى قبره بابين من الجنة وله بكل آية قرآن ثواب من صلى بين الركن والمقام ألف ركعة. بصيرة فى الرزق : والرزق- بالكسر- ما ينتفع به ويقال للعطاء الجارى تارة دنيويا كان أو أخرويا وللنصيب تارة ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة والجمع أرزاق. والرزق- بالفتح- المصدر الحقيقى والمرة الواحدة رزقه والجمع رزقات ويقال: أعطى السلطان رزق الجند ورزقت علما، قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ من المال والجاه والعلم. وقوله: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (سورة الواقعة 82)

أي تجعلون نصيبكم من النعمة تحرى الكذب وقوله: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ (سورة الذاريات 22) قيل: عنى به المطر الذى به حياة الحيوان. وقيل: هو كقوله: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً (سورة الحجر 22) وقيل: تنبيه ان الحظوظ بالمقادير وقوله: (فليأتكم برزق منه) أى بطعام يتغذى به. وقوله (رزقا للعباد) قيل عنى به الأغذية ويمكن أن يحمل على العموم فيما يؤكل ويلبس ويستعمل. وقال فى العطاء الأخروية. وقوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ (سورة الذاريات الآية 58) محمول على العموم. والرزاق يقال الخالق الرزق معطيه والسبب له وهو الله تعالى ويقال للإنسان الذي يصير سببا فى وصول الرزق فلا يقال إلا الله تعالى وقوله: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (سورة الحجر الآية 20) أي بسبب رزقه ولا مدخل لكم فيه. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً (سورة النحل الآية 73) الآية: أى ليسوا بسبب فى رزقهم بوجه من الوجوه وبسبب من الأسباب. وارتزق الجند: أخذوا أرزاقهم، والرزقة ما يعطونه دفعة واحدة. اهـ.

النيسابورى المتوفى سنة 728 هـ

النيسابورى المتوفى سنة 728 هـ هو الإمام الكبير، والعالم الشهير، نظام الدين الحسن بن محمد بن الحسين الخراسانى النيسابورى. ولد نيسابورى وأقام بمدينة «قم» وكان منشؤه وموطنه بديار نيسابور .. كان ملما بالعلوم العقلية والنقلية، عارفا باللغة العربية، متمكنا من ناحية التعبير عارفا بالتأويل والتفسير، واعيا بالقراءات، وضم إلى ذلك الشهرة العلمية الواسعة على جانب كبير من الورع والتقوى، ومعرفة واسعة بالتصوف وعلوم الاشارات. كانت له كتب مفيدة، وآثار جيدة، ثلاثة كتب فى التفسير: كبير ومتوسط وموجز ومنها كتاب تعبير التحرير شرح لتحرير المجسطى للطوسي، وتوضيح التذكرة النصيرية فى الهيئة هذا فضلا عما كتبه فى أوقاف القرآن .. تفسير النيسابورى ومن أهم كتب النيسابورى تفسيره المشهور: غرائب القرآن ورغائب الفرقان الذى الفه رغبة فى تيسير القرآن للدارسين، ومساعدة الراغبين فى فهمه، والتعرف على ما يمكن التعرف عليه من اسراره .. وقد بين السبب فى قيامه بتأليفه فقال: وإذ وفقنى الله تعالى لتحريك القلم فى أكثر الفنون المنقولة والمعقولة، كما اشتهر بحمد الله تعالى ومنه فيما بين أهل الزمان، وكان علم التفسير من العلوم بمنزلة، الانسان من العين والعين من الانسان، وكان قد رزقنى الله تعالى من إبان الصبا وعنفوان الشباب حفظ لفظ القرآن، وفهم معنى الفرقان، وطالما

طالبنى بعض أجلة الاخوان، وأعزة الأخدان، ممن كنت مشارا إليه عندهم بالبنان فى البيان، والله المنان، يجازيهم عن حسن ظنونهم، ويوفقنا لا سعاف سؤلهم وانجاح مطلوبهم، ان اجمع كتابا فى علم التفسير، مشتملا على المهمات، مبينا على ما وقع لنا من نقل الاثبات وأقوال الثقات، من الصحابة والتابعين، ثم من العلماء الراسخين، والفضلاء المحققين المتقدمين والمتأخرين، جعل الله تعالى سعيهم مشكورا، وعملهم مبرورا، فاستعنت بالمعبود وشرعت فى المقصود، معترفا بالعجز والقصور فى هذا الفن وفى سائر الفنون .. ثم ذكر أهم المراجع التى اعتمد عليها فى اعداد تفسيره فقال: ولما كان التفسير الكبير المنسوب إلى الإمام الافضل، والهمام الامثل، الحبر النحرير، والبحر الغزير، الجامع بين المعقول والمنقول، الفائز بالفروع والأصول، أفضل المتأخرين، فخر الملة والحق والدين، محمد بن عمر بن الحسن الخطيب الرازى، تغمده الله برضوانه وأسكنه بحبوحة جنانه، اسمه مطابق لمسماه، وفيه من اللطائف والبحوث ما لا يحصى، ومن الزوائد والفنون ما لا يخفى، فإنه قد بذل مجهوده، ونثل موجوده، حتى عسر كتابه على الطالبين، واعوز تحصيله على الراغبين، فحاذيت سياق مرامه، وأوردت حاصل كلامه وقربت مسالك أقدامه، والتقطت عقود نظامه، من غير اخلال بشيء من الفرائد، واهمال لما يعد من اللطائف والفوائد، وضمت إليه، ما وجدت فى الكشاف وفى سائر التفاسير من اللطائف المهمات إذ رزقنى الله تعالى من البضاعة المزجاة، وأثبت القراءات المعتبرات والوقوف المعللات ثم التفسير المشتمل على المباحث اللفظيات والمعنويات، مع اصلاح ما يجب اصلاحه، وإتمام ما ينبغى إتمامه، من المسائل الموردة فى التفسير الكبير والاعتراضات، ومع حل ما يوجد فى الكشاف من المواضع المعضلات، سوى الابيات المعقدات، فان ذلك يوردها من ظن أن تصحيح القراءات وغرائب القرآن انما يكون بالامثال والمستشهدات، كلا فان القرآن حجة على غيره وليس غيره عليه، فلا علينا أن نقتصر فى غرائب القرآن على تفسيرها

بالألفاظ المشتهرات وعلى ايراد بعض المتجانسات، التى تعرف منها أصول الاشتقاقات، وذكرت طرفا من الاشارات المقنعات والتأويلات الممكنات، والحكايات المبكيات، والمواعظ الرادعة عن المنهيات الباعثة على أداء الواجبات .. ثم قال مبينا منهجه فى التفسير: «والتزمت ايراد لفظ القرآن الكريم أولا مع ترجمته على وجه بديع، وطريق منيع مشتمل على ابراز المقدرات، واظهار المضمرات، وتأويل المتشابهات، وتصريح الكنايات وتحقيق المجازات والاستعارات، فان هذا النوع من الترجمة مما تسكب فيه العبرات، ويزل المترجمون هنالك إلى العثرات، وقلما يفطن له الناشئ الواقف على متن اللغة العربية، فضلا عن الدخيل القاصر فى العلوم الأدبية، واجتهدت كل الاجتهاد فى تسهيل سبيل الرشاد. ووضعت الجميع على طرف التمام ليكون الكتاب كالبدر فى التمام، وكالشمس فى افادة الخاص والعام، من غير تطويل يورث الملام، ولا تقصير يوعر مسالك السالك ويبدد نظام الكلام، فخير الكلام ما قل ودل، وحسبك من الزاد ما بلغك المحل. وقد قدم لتفسيره بمقدمات هامة: المقدمة الاولى: فى فضل القراءة والقارئ وآداب القراءة وجواز اختلاف القراءات وذكر القراء المشهورين المعتبرين. المقدمة الثانية: فى الكلام على الاستعاذة المندوب إليها فى قوله عز من قائل: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم). المقدمة الثالثة: فى فوائد مهمة تتصل بتواتر القراءات السبع، والكلام على نزول القرآن على سبعة أحرف. المقدمة الرابعة فى كيفية جمع القرآن ..

المقدمة الخامسة فى معانى المصحف والكتاب والقرآن والسورة والآية والكلمة والحرف وغير ذلك. المقدمة السادسة: فى ذكر السبع الطوال والمثانى والمئين والطواسيم والحواميم والمفصل والمسبحات وغير ذلك. المقدمة السابعة: فى ذكر الحروف التى كتب بعضها على خلاف بعض فى المصحف وهى فى الأصل واحدة المقدمة الثامنة: فى أقسام الوقف. المقدمة التاسعة: فى تقسيمات يعرف منها اصطلاحات مهمة المقدمة العاشرة: فى أن كلام الله تعالى قديم أولا المقدمة الحادية عشرة: فى كيفية استنباط المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة. ويبدأ بعد ذلك فى تفسيره على ما رسمه فى مقدمته. أنه يبدا بكتابة مجموعة من الآيات ثم يتحدث عما فيها من القراءات، وما تشتمل عليه من الوقوف ثم يبدأ التفسير، وغالبا ما يعقب بالتأويل. ولتعرض نموذجا صغيرا من تفسيره فى قول الله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. (سورة البقرة الآية 48) القراءات: ولا تقبل بالتاء الفوقانية (قراءة) ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب

الوقوف: العالمين (.) (أى آخر آية) ينصرون (.) التفسير (ولطول الكلام فيه سنوجزه فيما يأتى): إنما أعاد سبحانه هذا الكلام توكيدا للحجة، وتحذيرا من ترك اتباع محمد صلّى الله عليه وسلم، كأنه قال: ان لم تطيعونى لاجل سوالف نعمتى عليكم، فاطيعونى للخوف من عقابى فى المستقبل. والمراد بالعالمين هاهنا: الجم الغفير من الناس، كقوله بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ سورة الانبياء (71) ويمكن أن يكون المراد: فضلتكم على عالمى زمانكم، لان الشخص الذى سيوجد بعد ذلك لا يكون من جملة العالمين ويحتمل ان يكون لفظ العالمين عاما للموجودين ولمن سيوجد، لكنه مطلق فى الفضل، والمطلق يكفى فى صدقه صورة واحدة. 2 - قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (سورة البقرة: 119) القراءات:- «ولا تسئل» على النهى نافع ويعقوب، للباقون بضم التاء، ورفع اللام على الخبر. الوقوف:- «ونذيرا ولا» للعطف: أى نذيرا، وغير مسئول إلا لمن قرأ (ولا تسأل) على النهى لاختلاف الجملتين (الجحيم) تمام الآية. التفسير: لما بين غاية اصرارهم على العناد، وتصميمهم على الكفر بعد نزول ما يكفى فى باب الاقتداء والاهتداء من الآيات البينات، اراد أن يسلى

ويسرى عن رسوله لئلا يضيق صدره فقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ يا محمد (بالحق) والصواب ما تقتضيه الحكمة، وهو أن لا يكون لك أن تجبرهم على الايمان بل لا يتجاوز حالك عن أن تكون (بشيرا) لمن اتبعك بكل خير (ونذيرا) لمن خالفك بكل سوء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ (سورة فاطر: 8) انك غير مسئول عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ «سورة البقرة: 119» وهو من أسماء النار وكل نار عظيمة فى مهواة فهى جحيم، من قوله تعالى:- قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ. (سورة الصافات: 77) والجاحم: المكان الشديد الحر، وهذا كقوله فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (سورة الرعد: 40) وأما قراءة النهى، فيروى أنه قال: «ليت شعرى ما فعل أبواى؟ «فنهى عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله، وفى هذه الرواية بعد «لان سياق الكلام ينبو عن ذلك ولانه صلّى الله عليه وسلم مع علمه الاجمالى بحال الكفار كيف يتمنى ذلك؟ والاقرب أن معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من المحن كما إذا سألت عمن وقع فى بلية، فيقال لك. لا تسأل عنه، فكأن المسئول يحرج أن يجرى على لسانه ما هو فيه لفظاعته، أو يرى أنك لا تقدر على استماع خبره، لانه يورث الوحشة والضجر ..

الإمام البيضاوى ومنهجه فى التفسير

الإمام البيضاوى ومنهجه فى التفسير هو الإمام عبد الله بن عمر بن محمد بن على الشيرازى، أبو سعيد أبو الخير ناصر الدين البيضاوى من قرية يقال البيضاء لها من بلاد فارس ولى القضاء بشيراز وفسر القرآن، وألف فى كثير من الفنون وتيسر له هذا المنصب بعد حادثة دلت على نبوغه، وكشفت عن عبقريته .. لقد دخل تبريز، فصادف دخوله إليها مجلس درس قد عقد بها لبعض الفضلاء، فجلس القاضى ناصر الدين فى اخريات القوم، بحيث لم يعلم به أحد فذكر المدرس نكتة زعم أن أحدا من الحاضرين لا يقدر على جوابها، وطلب من القوم حلها، والجواب عنها، فإن لم يقدر فالحل فقط فان لم يقدر فإعادتها فلما انتهى من ذكرها شرع القاضى ناصر الدين فى الجواب فقال له: لا اسمع حتى اعلم أنك فهمتها، فخيره بين اعادتها بلفظها أو معناها، فبهت المدرس، وقال: اعدها بلفظها، فاعادها ثم حلها وبين أن فى ترتيبه اياها خللا، ثم اجاب عنها، وقابلها فى الحال بمثلها، ودعا المدرس إلى حلها، فتعذر عليه ذلك، فاقامه الوزير من مجلسه، وادناه إلى جانبه وسأله من انت؟ فاخبره انه البيضاوى، وأنه جاء فى طلب القضاء بشيراز، فاكرمه، وخلع عليه فى يومه، ورده وقد قضى حاجته .. كان إماما علامة، عارفا بالفقه والتفسير وأصول الفقه وأصول الدين والعربية والمنطق وكان عالما بفنون المناظرة وآداب المناقشة، صالح السلوك، مجتهدا فى العبادة، زاهدا فى متاع الدنيا الفانى، شافعى المذهب ..

قال ابن شهبة فى طبقاته عنه صاحب المصنفات، وعالم اذربيجان، وشيخ تلك الناحية وقال السبكى: كان إماما مبرزا نظارا صالحا معبدا .. وقال ابن حبيب: تكلم كل من الأئمة بالثناء على مصنفاته، ولو لم يكن له غير المنهاج الوجيز لفظه المحرر لكفاه .. صنف الكتب المهمة فى شتى الفنون الدينية، فصنف مختصر الكشاف، والمنهاج فى علم الاصول وشرح مختصر ابن الحاجب فى الاصول وشرح المنتخب فى الاصول للإمام فخر الدين، وشرح المطالع فى المنطق، والايضاح فى أصول الدين، والغاية القصوى فى الفقه، والطوالع فى الكلام، وشرح الكافية لابن الحاجب، وشرح المصابيح ولب اللباب فى علم الاعراب ما زال مخطوطا، والغاية القصوى فى دراسة الفتوى فى فقه الشافعية، وما زال فى عداد المخطوطات .. ومن أهم مصنفاته تفسيره المشهور الذى قدم له فقال بعد الحمد والثناء. وبعد: فان أعظم العلوم مقدارا، وارفعها شرفا ومنارا، علم التفسير الذى هو رئيس العلوم الدينية ورأسها، ومبنى قواعد الشرع واساسها، لا يليق لتعاطيه والتصدى للتكلم فيه إلا من برع فى العلوم الدينية كلها- اصولها وفروعها، وفائق فى الصناعات العربية والفنون الادبية بانواعها، ولطالما أحدث نفسى أن اصنف فى هذا الفن كتابا يحتوى على صفوة ما بلغنى من عظماء الصحابة، وعلماء التابعين، ومن دونهم من السلف الصالحين، وينطوى على نكت بارعة، ولطائف رائعة، استنبطتها أنا ومن قبلى من افاضل المتاخرين، واماثل المحققين، ويعرب عن وجوه القراءات المعزية إلى الأئمة الثمانية المشهورين، والشواذ المروية عن القراء المعتبرين إلا أن قصور بضاعتى يثبطنى عن الاقدام، ويمنعنى عن الانتصاب فى هذا المقام، حتى سنح لى بعد الاستخارة ما صح به عزمى على الشروع فيما اردته، والاتيان بما قصدته، ناويا ان اسميه بعد ان اتممه ب «انوار التنزيل، وأسرار التأويل».

ثم شرع فى التفسير:- والمتأمل فى تفسيره يجد أنه قد نحا فيه نحو الاختصار، وركز فيه الافكار، ووجه الانظار إلى ما تشتمل عليه الآيات فى كثير من نواحى الاعراب والفقه والاصول ونحو ذلك، معتمدا على ما سبقه من التفاسير كتفسير الكشاف والرازى ونحوهما .. وقد افاض العلماء فى الحديث عن هذا الكتاب محللين ومبينين، فقال السيوطى فى حاشيته عليه:- إن القاضى ناصر الدين البيضاوى لخص هذا الكتاب فاجاد، وأتى بكل مستجاد وماز فيه أماكن الاعتزال، وطرح موضع الدسائس وازال، وحرر مهمات، واستدرك تتمات، فظهر كأنه سبيكة نضار، واشتهر اشتهار الشمس فى رابعة النهار، وعكف عليه العاكفون، ولهج بذكر محاسنه الواصفون، وذاق طعم دقائقه العارفون، فاكب عليه العلماء تدريسا ومطالعة، وبادروا إلى تلقيه بالقبول رغبة فيه ومسارعة .. وقال صاحب كشف الظنون:- تفسيره- أى البيضاوي- كتاب عظيم الشأن، غنى عن البيان، لخص فيه من الكشاف ما يتعلق بالاعراب والمعانى والبيان، ومن التفسير الكبير- رأى الرازى- ما يتعلق بالحكمة والكلام، ومن تفسير الراغب ما يتعلق بالاشتقاق وغوامض الحقائق ولطائف الاشارات، وضم إليه ما ورى زناد فكره من الوجوه المعقولة، فجلا رين الشك عن السريرة، وزاد فى العلم بسطة وبصيرة كما قال مولانا المنشى .. اولوا الالباب لم ياتوا ... بكشف قناع ما يتلى ولكن كان للقاضى ... يد بيضاء لا تبلى ولكونه متبحرا فى ميدان فرسان الكلام فاظهر مهارته فى العلوم حسبما يليق بالمقام كشف القناع تارة عن وجوه محاسن الاشارة وملح الاستعارة، وهتك

الاستار الاخرى عن اسرار المعقولات بيد الحكمة ولسانها، وترجمان المناطقة وكيزانها، فحل ما اشكل على الانام، وذلل لهم صعاب المرام، واورد فى المباحث الدقيقة ما يدحض بعض الشبه المضلة، واوضح لهم مناهج الادلة والذى ذكره من وجوه التفسير ثانيا أو ثالثا أو رابعا بلفظ قبل فهو ضعيف ضعف المرجوح أو ضعف المردود .. وأما الوجه الذى تفرد فيه وظن بعضهم انه مما لا ينبغى أن يكون من الوجوه التفسيرية السنية كقوله: وحمل الملائكة العرش وخفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له، ونحوه فهو ظن من لعله يقصر فهمه عن تصور مبانيه، ولا يبلغ علمه الا الاحاطة بما فيه، فمن اعترض بمثله على كلامه كأنه ينصب الحبالة للعنقاء، ويروم أن يصيد نسر السماء، لانه مالك زمام العلوم الدينية، والفنون اليقينية، على مذهب أهل السنة والجماعة، وقد اعترفوا له قاطبة بالفضل المطلق، وسلموا إليه قصب السبق، فكان تفسيره يحتوى على فنون من العلم وعرة المسالك، وانواعا من القواعد المختلفة الطرائق، وقل من برز فى فن الأوصدة عن سواه وشغله، والمرء عدو لما جهله، حتى يسلم من الغلط والزلل، ويقتدر على رد السفسطة والجدل .. واستطرد صاحب كشف الظنون فى الثناء على الكتاب وعلى صاحب الكتاب، حتى قال بحق: ثم ان هذا الكتاب رزق من عند الله سبحانه وتعالى بحسن القول عند جمهور الافاضل والفحول، فعكفوا عليه بالدرس والتحشية، فمنهم من علق تعليقته على سورة منه، ومنهم من حشى تحشية تامة، ومنهم من كتب على بعض مواضع منه .. ومن أشهر الحواشى عليه حاشية قاضى زاده (مطبوعة) وحاشية الشهاب الخفاجى (مطبوعة) وحاشية القونوى ..

هذا هو تفسير البيضاوى مختصر فى غير خلل، ومشتمل على الوان من العلم النافع، والخير الغزير، ويتضح ذلك بذكر نماذج منه: قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ .. (سورة الأنعام: 161 و 162 و 163) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بالوحى والارشاد إلى ما نصب من الحجج. (دينا) بدل من محل «الى صراط» إذ المعنى: هدانى صراطا، كقوله: ويهديكم صراطا مستقيما، أو مفعول فعل مضمر دل عليه الملفوظ، (قيما) فعل من قام كسيد من ساد، وهو ابلغ من المستقيم باعتبار الزنة «الوزن» والمستقيم باعتبار الصيغة، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائى: «قيما» على أنه مصدر، وكان قياسه قوما كعوض فاعل الاعلال فعله كالقيام، مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان لدينا حَنِيفاً حال من إبراهيم وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عطف عليه .. قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي عبادتى كلها، أو قرباتى، أو حجى وَمَحْيايَ وَمَماتِي وما انا عليه فى حياتى واموت عليه من الايمان والطاعة، او طاعات الحياة والخيرات والمضافة إلى الممات كالوصية والتدبير، أو الحياة والممات أنفسهما، وقرا نافع: محياى باسكان الياء اجراء للوصل مجرى الوقف لله رب العالمين لا شريك له، خالصة لا اشرك فيها غيره، وَبِذلِكَ القول أو الاخلاص أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لانه إسلام كل نبى متقدم على إسلام

الدر المنثور فى التفسير بالمأثور

الدر المنثور فى التفسير بالمأثور للحافظ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى ولد الإمام السيوطى فى أول رجب سنة 849 هـ وكانت وفاته فى جمادى الأول سنة 911 ودفن فى حوش قوصون خارج باب القرافة بالقاهرة. أفرد الحافظ الداودى- وهو تلميذ الامام السيوطى- ترجمة كتاب مستقل عن أستاذه الحافظ السيوطى، وقد ترجم الحافظ السيوطى لنفسه فى كثير من كتبه يذكر فى أحدها ما لم يذكره فى الآخر، وترجم له كثيرون من محبيه ومن خصومه، ومن المعتدلين بين هؤلاء وممن ترجم له من القدماء ابن اياس فى تاريخه، وصاحب الكواكب السائرة، وعبد الغنى النابلسى. وترجم له من المحدثين العالم المحقق الثبت السيد عبد الحى الكناني. ولقد كان السيوطى قمة من القمم التى أثارت الكثير من الحديث عنها فيما بين ذام ومادح، وقد كان خصبا فى التأليف، وكان صاحب ذاكرة قوية وجد واجتهاد منذ صغره، فحفظ القرآن الكريم وما بلغ الثامنة من عمره بعد. ودرس على مشايخ وتتلمذ على أساتذة، وصل بعضهم بعددهم إلى ستمائة، أما مشايخه فى الرواية سماعا واجازة فقد وصل إلى مائة وخمسين. وكتبه بلغ تقديرها أكثر من خمسمائة، وهذه الكتب منها المؤلف الأصيل، ومنها ما هو مختصر من كتب سابقيه ومنها ما هو جمع أو تنسيق، والسيوطى فى كل ذلك له طابعه الموجود فى كل كتبه، وأعنى به طابع السهولة، فكتبه لا تعقيد فيها، سواء أكانت تأليفا أم جمعا وتنسيقا.

يقول ابن العماد فى الشذرات: «ان تلميذه الحافظ الداودى استقصى أسماء مؤلفاته الحافلة الكبيرة الكاملة الجامعة فنافت عدتها على خمسمائة مؤلف، وقد أشتهر أكثر مؤلفاته فى أقطار الأرض شرقا وغربا وكان آية كبرى فى سرعة التأليف، قال تلميذه الداودى: عاينت الشيخ وقد كتب فى يوم واحد ثلاث كراريس تأليفا وتحريرا، وكان مع ذلك يملى الحديث، ويجيب عن المتعارض منه بأجوبة حسنة» أ. هـ. ويقول أبو الحسنات: محمد عبد الحى اللكنوى فى فى حواشيه على الموطأ بعد أن ذكر السيوطى: «وتصانيفه كلها مشتملة على فوائد لطيفة، وفوائد شريفة، تشهد كلها بتبحره وسعة نظره ودقة فكره، وأنه حقيق بأن يعد من مجددى الملة المحمدية فى بدء المائة العاشرة، وآخر التاسعة، كما ادعاه بنفسه، وشهد بكونه حقيقا به من جاء بعده، كعلى القارى المكى فى المرآة شرح المشكاة. ويقول السيد محمد عبد الحى الكنانى: «وقد ظفرت» فى مصر بكراسة من تأليف السيوطى عدد فيها تآليفه إلى سنة 904 قبل موته بسبع سنين اوصل فيها عدد مؤلفاته إلى 538، فعدد ما له فى علم التفسير 73، وفى الحديث 205، والمصطلح 32، والفقه 71، وأصول الفقه، والدين والتصوف 20، واللغة والنحو والتصريف 66، والمعانى والبيان والبديع 6 والكتب الجامعة من فنون 8 الطبقات والتاريخ 30، الجميع 37، أ. هـ. وفى فترة من فترات حياته كان له مثل عليا يجب أن يصل إلى مكانة علمية تماثلها: فهو يتحدث قائلا: انه لما حج شرب من ماء زمزم لأمور منها.

1 - أن يصل فى الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقينى. 2 - وفى الحديث إلى رتبة الحافظ بن حجر. ولكن السيوطى فيما بعد كتب يقول: «وقد كملت عندى الآن آلات الاجتهاد بحمد الله تعالى، أقول ذلك تحدثا بنعمة الله تعالى لا فخرا ولو شئت أن أكتب فى كل مسألة مصنفا بأقوالها وادلتها النقلية ومداركها ونقوحها وأجوبتها والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها والقدرة على ذلك من فضل الله لا بحولى ولا بقوتى فلا حول ولا قوة إلا بالله». ومن استكمل آلات الاجتهاد ولا يكون مثله الأعلى فى الفقه الشيخ سراج الدين البلقينى وفى الحديث الحافظ بن حجر، وذلك أن من استكمل آلات الاجتهاد يكون قد تربع على القمة فى مختلف الفنون. ورتبة الاجتهاد قد ادعاها الامام السيوطى فجرت عليه مشاكل وأثارت حوله جدلا واضطر هو أن يدافع ويهاجم، وأن يدخل معركة تتعلق بجدارته وكفاءته كان فى غنى عنها، لقد قال بعضهم- وهو قول باطل- ان من يبلغ رتبة الاجتهاد لا بدّ وأن يكون عالما محققا فى فن المنطق، والسيوطى ليس من أئمة المنطق فهو ليس مجتهدا. ورغم أن هذه الدعوى باطلة وذلك أن الكثير من أئمة الاجتهاد توفاهم الله قبل أن يترجم المنطق الأرسطى إلى اللغة العربية، وكثير من أئمة الاجتهاد نأوا بأنفسهم عن المنطق بعد أن ترجم ولم يتهمهم أحد بنقص فى اجتهادهم. ولكن بمجرد أن وجه هذا النقد إلى الامام السيوطى كتب يرد عن نفسه وفى كتابه الجميل: «صون المنطق والكلام» عن: «فنى المنطق والكلام» أخذ يدافع عن نفسه ويعلن أنه اتقن علم المنطق اتقان ائمته وأنه لذلك مستوف شرائط الاجتهاد، ولكن السيوطى لم يدع الاجتهاد فحسب، وأنما ادعى أنه مجدد القرن العاشر.

لقد روى أبو داود وغيره بسند صحيح عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ان الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». والناس من قديم يتنازعون فى شخصية المجدد لكل قرن، ويختلفون على اسمه، وقد أرضى الامام بن كثير أغلب العلماء حين عمم فى الموضوع وجعله شاملا لكثيرين. انه يقول: «وقد ادعى كل قوم فى امامهم أنه المراد بهذا الحديث، والظاهر أنه يعم جملة من العلماء من كل طائفة وكل صنف ومن مفسر ومحدث وفقيه ونحوى ولغوى وغيرهم». وعن ذلك وعن تقدير الامام السيوطى القارى فى شرح المشكاة: «شيخ شيوخنا السيوطى هو الذى أحيا علم التفسير فى الدر المنثور، وجمع جميع الاحاديث المتفرقة فى جامعه المشهور، وما ترك فنا الا فيه له متن أو شرح مسطور، بل وله زيادات ومخترعات يستحق أن يكون هو المجود فى القرن العاشر كما ادعاه وهو فى دعواه مقبول ومشكور. ونختم هذا بقول العارف بالله الشيخ الحافظ التيجانى أطال الله فى عمره: «ولما بلغ العلامة السيوطى أربعين سنة من عمره أخذ فى التجرد للعبادة والانقطاع إلى الله تعالى والاشتغال به صرفا والاعراض عن الدنيا وأهلها كأنه لم يعرف أحدا منهم وشرع فى تحرير مؤلفاته التي سبقت الاشارة إليها وترك الافتاء والتدريس واعتذر عن ذلك فى مؤلف ألفه فى ذلك وسماه بالتنفيس، وأقام فى روضة المقياس فلم يتحول منها إلى أن مات، ولم يفتح طاقات بيته التى على النيل من سكناه، وكان الأمراء والأغنياء يأتون إلى زيارته ويعرضون عليه الأموال النفيسة فيردها وأهدى إليه القوم خصيا وألف دينار فرد الألف وأخذ الخصى فأعتقه وجعله خادما فى الحجرة النبوية، وقال لقاصد

السلطان: لا تعد تأتينا قط بهدية، فان الله تعالى أغنانا عن مثل ذلك، وكان لا يتردد إلى السلطان، ولا إلى غيره وطلبه مرارا فلم يحضر إليه، وقيل له: ان بعض الأولياء كان يتردد إلى الملوك والامراء فى حوائج الناس فقال: اتباع السلف فى عدم التردد عليهم أسلم لدين المسلم» أ. هـ. ونأتى الآن إلى السيوطى والتفسير لقد ذكر السيوطى أنه ألف فى التفسير وما يتعلق به 73 رسالة وكتابا، ويقول الامام السيوطى فى مقدمة كتابه: «الدر المنثور» «وبعد: فلما ألفت كتاب ترجمان القرآن وهو التفسير المسند عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم، وتم بحمد الله فى مجلدات فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرج منها رأيت قصور أكثر الهمم عن تحصيله ورغبتهم فى الاقتصار على متون الاحاديث دون الاسناد وتطويله فلخصت منه هذا المختصر مقتصرا فيه على متن الأثر مصدرا بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر، وسميته: بالدر المنثور فى التفسير بالماثور» والله أسأل أن يضاعف لمؤلفاته الأجور ويعصمه من الخطأ والزور، بمنه وكرمه أنه البر الغفور». والدر المنثور هو أجمع كتاب للتفسير بالمأثور، لم يبد فيه الامام السيوطى رأيا، ولم يقل فيه كلمة مفسرة أو جملة شارحة، وأنما التزم التزاما كاملا أن يكون تفسيره جمعا لأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الآية وسردا لبعض أقوال الصحابة رضى الله عنهم. وهو فى جمعه هذا لم يلتزم صحة الاحاديث والنقل، ومن أجل ذلك فان هذا الكتاب الجليل فى حاجة ماسة إلى عمل متقن، فى التحقيق والتخريج، وبيان الصحيح من الاحاديث والحسن منها والضعيف. ونورد الآن نموذجا يغنى عن غيره: يقول فى قول الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (سورة الفاتحة)

«أخرج ابن جرير عن ابى حاتم عن ابن عباس فى قوله: «إياك نعبد» ويعنى إياك نوحد وتخاف ونرجو ربنا لا غيرك، «وإياك نستعين» على طاعتك وعلى أمورنا كلها، وأخرج وكيع والفرياني عن ابن رزين قال سمعت عليا قرأ هذا الحرف كان قرشيا عربيا فصيحا «إياك نعبد وإياك نستعين» اهدنا، برفعهما جميعا. وأخرج الخطيب فى تاريخه عن أبى رزين أن عليا قرأ: إياك نعبد وإياك نستعين «فهمز ومد وشد» وأخرج أبو القاسم البغوى والماوردى معا فى معرفة الصحابة والطبرانى فى الأوسط وأبو نعيم فى الدلائل عن انس بن مالك عن أبى طلحة قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى غزوة فلقى العدو فسمعته يقول: «يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين» قال: فلقد رأيت الرجال تصدع تضربها الملائكة من بين يديها ومن خلفها»

الإمام أبو السعود وتفسيره

الإمام أبو السعود وتفسيره الإمام أبو السعود محمد بن مصطفى العمارى الحنفى صاحب التفسير المشهور، وصل إلى مرتبة عالية فى العلوم الدينية، بعد أن قرأ على أبيه وعلى كبار علماء عصره، وتنقل فى المدارس المتنوعة. وأهلته هذه الدراسة الجادة مع ما منح من ميزات شخصية لتقلد أرقى المناصب الدينية الهامة- فتقلد القضاء فى عدد من البلاد التركية، كان آخرها قضاء العسكر فى ولاية روم «أيلى» ودام عليه مدة ثمان سنين. ولما توفى مفتى تركيا سعد الله بن عيسى بن أمير خان تولى الفتيا مكانه، فكان له فيها أطيب الأثر، وأجمل الذكر، سارت بفتاويه الركبان، وأشبع حاجة السائلين، واتسع عمله لاجابة الطالبين- وسجلت آراؤه السديدة بأسلوبه اللطيف، الذى صبغت حقائقه العلمية فى أساليب ادبية طيبة، ومما ذكر فى ذلك أنه سئل عن شخص لا هو مريض ولا هو صحيح ولا حى ولا ميت ولا عاقل ولا مجنون، ولا نائم ولا يقظان، فأجاب متكلما بقوله: أن كان لهذا وجود فهو الترياق. وسئل عن شرب القهوة قبل أن يكمل اشتهارها بعد ما قرر له اجتماع الفسقة على شربها، فأجاب بقوله: ما أكب أهل الفجور على تعاطيه، فينبغى أن يجتنبه من يخشى الله ويتقيه. لقد حرمها بسبب اجتماع الفساق على تعاطيها وان كانت فى نفسها حلالا، لأن اجتماع الفسقة على شىء، ينقل خبثهم إليه، ويخرجه عما هو عليه من السلامة إلى الضياع ..

وقد كثر ثناء العلماء عليه، فقال صاحب شذرات الذهب: وكان من الذين قعدوا من الفضائل والمعارف على سنامها وغاربها، وضربت له نوبة الامتياز فى مشارق الأرض ومغاربها. تفرد فى ميدان فضله ولم يجاره أحد، وانقطع عن القرين والمماثل فى كل بلد، وحصل له من المجد والاقبال والشرف والافضال، ما لا يمكن شرحه بالمقال. ويقول صاحب الكواكب السائرة: وكان المولى أبو السعود عالما، واماما كاملا، شديد التحرى فى فتاويه، حسن الكتابة عليها، حسن المحاورة، وافر الانصاف، دينا خيرا، سالما ابتلى به كثير من موالى الروم، من أكل المكيفات، سالم الفطنة جيد القريحة، لطيف العبارة، حلو النادرة. أما صاحب الاعلام فيقول عنه: وأضيف إليه الافتاء سنة 1952 هـ، وكان حاضر الذهن، سريح البديهة، كتب الجواب مرارا فى يوم واحد على ألف رقعة باللغات العربية والفارسية والتركية تبعا لما يكتبه السائل. وقد عاقه الدرس والفتوى، والاشتغال بما يقتضيه المنصب، عن التفرغ للتصنيف، غير أنه- كما قال صاحب شذرات الذهب- اختلس فرصا، وصرفها إلى التفسير الشريف، وقد أتى فيه بما لم تسمح به الأذهان، ولم تقرع بمثله الاذان ويتحدث الإمام أبو السعود عن ظروف اعداد هذا التفسير مبرزا ظروف حياته فى لمحات خاطفة فيقول: وكنت اتردد فى ذلك بين اقدام واحجام، لقصور شأنى وعزة المرام، أين الحضيض من الذرى؟ شتان بين الثريا وهيهات اصطياد العنقاء بالشباك، واقتياد الجوزاء من بروج الافلاك فمضت عليه الدهور والسنون، وتغيرت الاطوار وتبدلت الشئون، فابتليت بتدبير مصالح العباد، برهة فى قضاء

البلاد، وأخرى فى قضاء العساكر والاجناد، فحال بيني وبين ما كنت أخال، تراكم المهمات وتزاحم الاشغال، وجموح العوارض والعلائق، وهجوم الصوارف والعوائق والتردد إلى المغازى والأسفار، والتنقل من دار إلى دار .. وكنت فى تضاعيف هاتيك الامور، أقدر فى نفسى أن انتهز نهزه من الدهور، ويتسنى لى القرار، وتطمئن بى الدار، وأظفر حينئذ بوقت خال، أتبتل فيه جانب ذى العظمة والجلال، وأوجه إليه وجهتى، وأسلم له سرى وعلانيتى، وأنظر إلى كل شيء بعين الشهود، وأ تعرف سر الحق فى كل موجود، تلافيا لما قد فات، واستعداد لما هو آت، وأتصدى لتحصيل ما عزمت إليه، وأتولى لتكميل ما توجهت إليه، برفاهة واطمئنان، وحضور قلب وفراغ جنان، فبينما أنا فى هذا الخيال، إذ بدا لى ما لم يخطر بالبال تحولت الاحوال والدهر فوقعت فى أمر أشق من الأول: أمرت بحل مشكلات الأنام، فيما شجر بينهم من النزاع والخصام، فلقيت معضلة طويلة الذيول، وصرت كالهارب من المطر إلى السول .. فاضحيت فى ضيق المجال وسعة الاشغال أشهر ممن يضرب بها الامثال، فجعلت أتمثل بقول من قال: لقد كنت أشكو والحوادث برهة ... واستمرض الأيام وهي صحائح إلى أن تغشتنى وقيت حوادث ... تحقق أن السالفات منائح فلما انصرمت عرى الآمال عن الفوز بفراغ البال عزمت على انشاء ما كنت أنويه، توجهت إلى املاء ما ظلت أبتغيه ناويا أن اسميه عند تمامه بتوفيق الله وأنعامه: (ارشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم) فشرعت فيه مع تفاقم المكاره على، وتزاحم المشادة بين يدي، متضرعا إلى رب العظمة والجبروت خلاق عالم الملك والملكوت، فى أن يعصمنى عن الزيغ والزلل، ويقيني مصارع السوء فى القول والعمل ويوفقني لتحصيل ما أروي وأرجوه ويهديني إلى تكميله على أحسن الوجوه ..

وتلمح من ذلك ما كان لأبي السعود من شخصية اجتماعية ممتازة، وما كان يتحلى به من إيمان قوى وروح طيبة واستمساك صادق بعرى الدين. ومن ملامح العبقرية عند أبى السعود اشارته الواضحة إلى ما فى أسرار الخلق والايجاد من آيات بينات، ثم قوله: لكن الاستدلال بتلك الآيات والدلائل، والاستشهاد بتلك الامارات والمخايل، والتنبيه لتلك الاشارات السرية والتفطن لمعانى تلك العبارات العبقرية وما فى تضاعيفها من رموز أسرار القضاء والقدر، وكنوز آثار التعاجيب والعبر، مما لا يطيق به البشر، إلا بتوفيق خلاق القوى والقدر، اذن مدار المراد ليس إلا كلام رب العباد، اذ هو المظهر لتفاصيل الشعائر الدينية، والمفسر لمشكلات الآيات التكوينية، والكاشف عن خفايا حظائر القدس، والمطلع على خبابا سرائر الانس، وبه تكتسب الملكات الفاخرة وبه يتوصل إلى سعادة الدنيا والآخرة. ثم يبين أنه قرأ عن القرآن الكتب الكثيرة، فاغرم بتفسيرى الكشاف وأنوار التنزيل فقام بخلده نظم درر فرائدهما وترتيب غرر فوائدهما وأن يضيف إليهما ما فى غيرهما من جواهر الحقائق وزواهر الدقائق فكان هذا الكتاب. ولم يقتصر نشاط أبو السعود على تأليف هذا الكتاب بل ألف غيره من الكتب على ضيق وقته، واتساع نشاطه، ومما نقل فى ذلك أنه ألف تحفة الطلاب فى المناظرة ورسالة فى المسح على الخفين، ورسالة فى مسائل الوقوف، ورسالة فى الأوقاف، وقصة هاروت وماروت. وكان له إلى جانب أسلوبه البارع فى النثر شعر جميل مطبوع، ومما اشتهر عنه من ذلك قصيدته الميمية التى أولها: أبعد سليمى مطلب ومرام ... وغير هواها لوعة وغرام وهيهات أن تثنى إلى غير بابها ... عنان المطايا أو يشد حزام ثم يقول: فكم عشرة ما أورثت غيرا ... ورب كلام مقتضاه كلام

ولد أبو السعود سنة 898 .. وكانت وفاته بالقسطنطينية فى الثلث الأخير من ليلة الأحد خامس جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة، وكانت جنازته حافلة، وصلى عليه فى حرم جامع السلطان محمد الكبير فى جمع كثير، ودفن بمقبرته بالقرب من مدفن أبى أيوب الأنصارى الصحابى رضى الله عن الجميع. ومن تفسيره ما يلي: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (سورة البقرة: 172، و 173) (يا أيّها الذين آمنوه كلوا من طيبات ما رزقناكم، أى مستلذاته. «واشكروا الله»: الذى رزقكموها، والالفات لتربية المهابة. «ان كنتم إياه تعبدون»: فان عبادته تعالى لا تتم إلا بالشكر له .. وعن النبى صلّى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: إنى والانس والجن فى نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيرى، وأرزق ويشكر غيرى. «إنما حرم عليكم الميتة والدم» أى أكلها والانتفاع بها، وهى التى ماتت على غير ذكاة والسمك والجراد خارجان عنها بالعرف، أو استثناء الشرع، وخرج الطحال من الدم. «ولحم الخنزير» انما خص لحمه مع أن سائر اجزائه أيضا فى حكمه لأنه يؤكل من الحيوان، وسائر أجزائه أيضا فى حكمه لأن معظمها يؤكل من الحيوان، وسائر أجزائه بمنزلة التابع له.

«وما أهل به لغير الله»، أى رفع به الصوت عند ذبحه للصنم، والإهلال أصله رؤية الهلال، لكن لما جرت العادة برفع الصوت بالتكبير عند ذلك سمى اهلالا، ثم قبيل لرفع الصوت وأن كان لغيره. «فمن اضطر غير باغ» بالاستئثار على مضطر آخر. «ولا عاد» سد الرمق والجوعة، وقيل: غير باغ على الوالى ولا عاد بقطع الطريق. وعلى هذا لا يباح للعاصى بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعى، وقول أحمد رحمهما الله: «أى أن من سافر فى معصية لا يجوز له تناول شىء مما حرم عليه ولو اضطر لذلك لأنه تسبب فى هذا الاضطرار» «فلا اثم عليه»: فى تناوله. «ان الله غفور»: لما فعل. «رحيم»: بالرخصة. ان قبل: كلمة انما تفيد قصر الحكم على ما ذكر، وكم من حرام لم يذكر. قلنا: المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا، أو قصر حرمته على حالة الاختيار، كأنه قيل: إنما حرم عليكم هذه الاشياء ما لم تضطروا إليها.

السراج المنير للخطيب الشربينى

السراج المنير للخطيب الشربينى يقول المؤلف فى هذا التفسير: «فدونك تفسيرا كأنه سبيكة عسجد، أو در منضد، جمع من التفاسير معظمها، ومن القراءات متواترها، ومن الأقاويل أظهرها، ومن الأحاديث صحيحها وحسنها محرر الدلائل فى هذا الفن مظهرا لدقائق استعملنا الفكر فيها إذا الليل جن». ولقد يظن بعض الناس من هذه الكلمة أن الخطيب الشربينى يجب الفخر أو يشعر بالخيلاء، ولكن ذلك أبعد الأشياء عن فطرته. ولقد كانت فطرته التى صقلتها دراسته الدينية من أنقى الفطر وأطهرها وإذا نظرت إلى حياته فإنك تجده من كبار العلماء. تلقى العلم على أعلام عصره مثل الشيخ أحمد البرلسى، والنور المحلى، والشهاب الرملى وغيرهم. ولقد أجازوه بالافتاء والتدريس فى حياتهم، فدرس وأفتى فى حياة أشياخه، وقد انتفع بعلمه: تدريسا وكتبا خلق لا يكادون يحصون. ومن كتبه شرح كتاب المنهاج وشرح كتاب التنبيه وهما شرحان نفيسان أقبل الناس على قراءتها وكتابتهما فى حياته، وله على الغاية شرح مطول حافل. وكان الشيخ يستخدم علمه فى كل الظروف، وكان حركة لا تهدأ فإنه كان حينما يحج لا يركب، وإنما يستمر سائرا على قدميه إلى أن يبلغ به التعب مداه فيركب إلى أن يستريح ثم يعود إلى السير من جديد. وكان إذا خرج من بلدته «بركة الحاج» إلى الحج لم يزل يعلم الناس مناسك الحج ومناسك الحج لا يعلمها كثير من الذاهبين إلى بيت الله الحرام،

فكان الشيخ يعلمهم المناسك ويعلمهم آداب السفر وذلك أن للسفر فى الجو الإسلامى آدابا معينة هى من آداب الإسلام. وكان يحث رفاقه على الصلاة ويعلمهم القصر أثناء السفر والجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء. وكان هو يكثر فى الطريق من قراءة القرآن، ومن الذكر والصلاة على الرسول صلّى الله عليه وسلم. أما حينما يكون بمكة فإنه يكثر من الطواف فإنه العبادة المفضلة فيما يتعلق بالنوافل حينما يكون الإنسان بالمسجد الحرام. وكان يكثر من الصوم فى السفر وفى مكة. وكان يؤثر على نفسه فقد كان يحاول دائما أن يكون من الذين يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة. ويقول المؤرخون: أجمع أهل مصر على صلاحه ووصفوه بالعلم والعمل، ووصفوه بالزهد والورع، ووصفوه بكثرة النسك والعبادة. ومما يدل على اتجاهه إلى العبادة ومرضات الله تعالى أنه حينما كان يحل شهر رمضان يعتكف فى أول يوم من الشهر ويستمر فى المسجد عابدا مصليا قائما قارئا للقرآن ولا يخرج من الجامع إلا بعد صلاة العيد. ويقول المؤرخون حينما ينتهون من الحديث عن حياته: «وبالجملة: كان آية من آيات الله تعالى، وحجة من حججه على خلقه». ومع أنه كان بهذه المكانة العلمية والاجتماعية، فإنه كان يؤثر «الخمول» كما تقول الكتب التى تؤرخ له، وما كان الشيخ خاملا، كلا، وهو صاحب هذا النشاط الجم، وإنما يقصدون بالخمول أنه ما كان يجرى وراء دنيا وما كان يتهافت على المناصب ولا يقف بأبواب الحكام.

ولقد أعلن الشيخ عن ظروف تاليف الكتاب، وعن منهجه فى التأليف من حيث الحجم، ومن حيث التزام الصحة فى الروايات، ومن حيث النحو، ومن حيث القراءات وفى كل ذلك يقول: « ... ثم سألنى بعد ذلك جماعة من أصحابى المخلصين ... أن أجعل لهم تفسيرا وسطا بين الطويل الممل، والقصير المخل، فأجبتهم إلى ذلك ممتثلا وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ان رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون فى الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا». واقتداء بالماضين من السلف فى تدوين العلم ابقاء على الخلف. وليس على ما فعلوه مزيد، ولكن لا بدّ لكل زمان من تجديد ما طال به العهد، وقصر للطالبين فيه الجد والجهد، تنبيها للمتوقفين، وتحريضا للمتثبطين، وليكون ذلك عونا لى، وللقاصرين مثلى مقتصرا فيه: على أرجح الأقوال، وإعراب ما يحتاج إليه عند السؤال وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية وأعاريب محلها كتب العربية، وحيث ذكرت فيه شيئا من القراءات فهو من السبع المشهورات، وقد اذكر بعض أقوال وأعاريب لقوة مداركها أو لورودها ولكن بصيغة «قيل» ليعلم أن المرضى أولها ... ولقد حاول الشيخ حقا أن يجرد كتابه عن الروايات الضعيفة وينتقد ما ذكره منها المفسرون ولكنه هو لم يسلم من إيراد بعضها، ولكن يلاحظ أن الروايات الضعيفة التى يأتى بها عليها جميعها سمة الموعظة والغبرة، وليس فيها ما يمس أمرا من أمور الدين فى أصوله أو فى فروعه. والملاحظ فى التفسير أن أسلوبه سهل وعبارته فصيحة، وأنه يعتمد كثيرا على تفسير الفخر الرازى، ولكنه لا يتبعه اتباعا أعمى وذلك أنه فى كثير من الأحيان يرد عليه وينتقده.

والمؤلف لا ينكر أنه استفاد من الذين سبقوه وإنما يعلن ذلك فى صراحة، أنه يقول: وقد تلقيت التفسير- بحمد الله- من تفاسير متعددة، رواية ودراية، عن أئمة ظهرت وبهرت مفاخرهم، واشتهرت وانتشرت مآثرهم ... ». وهذه شيمة العلماء الأعلام: أنهم يعترفون بالفضل لأولى الفضل فلا ينقصهم الاعتراف بل يزيدهم فضلا ورفعه. وهاك نموذجا من تفسيره: قال فى قوله تعالى: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. (سورة البقرة: 284) «لله ما فى السموات وما فى الأرض» خلقا وملكا- قال الجلال السيوطى: وعبيدا ولعل ذكره بعد «ملكا» لئلا يتوهم أن «ما» لما لا يعقل «وان تبدوا» أى تظهروا ... «ما فى أنفسكم» من السوء والعزم عليه «أو تخفوه» أى تسروه «يحاسبكم» أى يجزكم «به الله» يوم القيامة والآية حجة على من أنكر الحساب كالمعتزلة والروافض. «فيغفر لمن يشاء» مغفرته «ويعذب من يشاء» تعذيبه، وهذا صريح فى نفى وجوبه، وقرأ ابن عامر وعاصم برفع الراء من «يغفر»، ورفع الياء من «يعذب» على الاستئناف، والباقون يجزمهما عطفا على جواب الشرط، وأدغم الراء المجزومة فى اللام: السوس. وقول الزمخشرى، ومدغم الراء فى اللام مخطئ خطأ فاحشا ورواية عن ابن عمر يعنى: السوس- مخطئ مرتين: لأنه يلحن وينسب اللحن إلى أعلم الناس بالعربية مما يؤذن بجهل عظيم، والسبب فى نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب فى قلة الضبط قلة الدراية ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو مردود لأنه مبنى على القول بأن الراء إنما تدغم فى الراء لتكرره الفائت بإدغامها فى اللام ...

ورد بأن ذلك قراءة أبى عمرو وهى متواترة مع أن القول بامتناع ادغام الراء فى اللام إنما هو مذهب البصريين، وأما الكوفيون- بل وبعض البصريين كأبى عمرو فقائلون بالجواز- كما نقله عنهم أبو حيان- ونقل أبو عمرو والكسائى وأبو جعفر صحة ادغام: «صار لى» و «صار لك» عن العرب- ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ووجه الجعبرى ادغام الراء فى اللام بتقارب مخرجيهما على رأى سيبويه وتشاركهما على رأى الفراء، وتجانسهما فى الجهر والانفتاح والاستقلال. «والله على كل شىء قدير» فيقدر على جزائكم ومحاسبتكم ... نموذج آخر فى تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا، وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. الآية الأخيرة من سورة آل عمران: «يا أيها الذين آمنوا اصبروا» على مشاق الطاعة، وما يصيبكم من الشدائد وعن المعاصى «وصابروا» أى وغالبوا أعداء الله فى الصبر على شدائد الحرب فلا يكونوا أشد صبرا منكم «ورابطوا» أى أقيموا فى الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو، قال الله تعالى: «ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم» وروى أنه صلّى الله عليه وسلم قال «من رابط يوما وليلة فى سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة» وروى أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة» «واتقوا الله» فى جميع أحوالكم «لعلكم تفلحون» أى تفوزون فى الجنة وتنجون من النار وقال بعض العلماء: اصبروا على السراء والضراء، ورابطوا فى دار الأعداء، واتقوا اله الأرض والسماء لعلكم تفلحون فى دار البقاء .. رحم الله الخطيب الشربينى ونفع بعلمه ... هذا وبالله التوفيق.

روح البيان فى تفسير القرآن لاسماعيل حقى

روح البيان فى تفسير القرآن لاسماعيل حقى إن هذا التفسير مشهور شهرة كبيرة تسمع به هنا وتسمع به هناك، وهو مشهور فى أوساط العرب، ومشهور فى أوساط العجم يعجب به أولئك ويقدسه هؤلاء، ألفه إسماعيل حقى ابن مصطفى الاسلامبولى. وهو تركى ولد فى آيدوس، وتعلم كما كان طلبة العلم إذ ذاك يتعلمون: العربية فى استفاضة حتى تزيل العجمة، وحتى تكون هى الطابع الغالب على طالب العلم، وتعلم الطالب إسماعيل حقى فى إطار اللغة: النحو والصرف وتعلم البلاغة بأقسامها وكان نابها نابغا فى المدارس فى الدرس ممتازا وفى القسطنطينية تعلم عن طريق العربية والتفسير والحديث والفقه، والعلوم الإسلامية على وجه العموم. وكان يقف كثيرا أمام آيات القرآن التى تتحدث عن التقوى وعن القرب مثل: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ. (سورة التوبة: 112) ومثل: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ

كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً. (سورة الأحزاب 35) ويقف عند الآيات التى تتحدث عن التوكل، ويبحث فى الجو الذى نزلت فيه وهكذا فى كل ما يتصل بالقلب فى القرآن الكريم. أما فى الأحاديث الشريفة، فانه كان يطيل النظر فيما يسمى الرقائق، والرقائق كلمة يراد بها فى الحديث كل ما يتصل بالسرائر والبواطن تهذيبا واصلاحا، أو- على حد تعبير القرآن الكريم- تزكية، والله سبحانه وتعالى يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها سورة الشمس: 9) ويقوده ذلك كله إلى أن يتجه شطر التصوف وينخرط فى سلك المريدين، وأخذ طريق الخلوتية. وكان للطريق اذ ذاك منهج اصطلاحى يرقى بالمريد خطوة فخطوة إلى القرب من الله تعالى، ولم يكن الطريق سلبيا، وإنما الجهاد للنفس والجهاد فى المجتمع حتى تستقيم النفس ويستقيم المجتمع على أمر الله. ولكن الجهاد فى المجتمع محفوف دائما بالاشواك وذلك أن الغرائز والشهوات والنزعات والفساد المختلف الألوان حينما يستشرى فى المجتمع، فان اقتلاعه مثير دائما للخواطر، ولم يبال اسماعيل حقى بهذه المخاطر، وإنما جابه المجتمع بكل ما يعتقد أنه حق، وثار ذوو الاغراض الفاسدة. وكان إسماعيل حقى قد انتقل من القسطنطينية إلى «بروسة» وأعلن منهجه الاصلاحى وجاهد فى سبيله فنفى إلى «تكفور طاغ». وناله من الأذى الكثير: لقد اوذى فى نفسه وفى ماله واستمر الايذاء امدا من الدهر، ثم عاد إلى بروسة واستمر إلى أن مات سنة 1127 هـ 1715 م أما تآليفه فانه كان تارة يؤلف بالعربية: الرسالة الخليلية» فى التصوف. وهى رسالة الخلة: شروطها وطريقها وثمرتها وغايتها، الخلة التى وصل

إليها سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما أصبح خليل الله، وهى درجة لا تتأتى لغير الأنبياء، ولكن وضعها كذروة يسير الانسان نحو انوارها ويهتدى بهديها وهو ما يجوز لغير الأنبياء: ان الله سبحانه وتعالى حينما يقول: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ سورة الأحزاب: 22) إنما أحب سبحانه أن نتخذ منه المنارة التى تسير نحوها فى اضوائها، والرسالة الخليلية إنما تنهج هذا المنهج. ومن عادة كثير من كبار العلماء أن يختاروا أربعين حديثا من الاحاديث الشريفة ينتخبونها فى دقة ويذيعونها ويشرحونها يستشفعون بها إلى الله فى أن يكتب لهم النجاة ومن أشهرها «الأربعون النووية» التى جمعها الإمام النووى رضى الله عنه، وسلك الإمام إسماعيل حقى هذا المسلك فجمع من الاحاديث الشريفة أربعين وسماها «الأربعون حديثا». أما أثره الخالد فانه كتابه فى التفسير وهو تفسير لغوى بيانى صوفى، أى أنه جمع ميزة التفسير العادى الذى يلتزم أسباب النزول والآثار والقراءات، واللغة، وميزة التفسير الصوفى، ولعل مكانة هذا التفسير عند الصوفية لا تضارعها مكانة تفسير آخر ذلك أنه خلا من الشطح ومن المغالاة والتزم القصد والاعتدال مع اعتماد على الأثر واللغة. وفيما يلى بعض الأضواء على جوانب من حياته وعلى ظروف تأليف التفسير، انه يقول: «وبعد: فيقول العبد الفقير سمى الذبيح الشيخ إسماعيل حقى الناصح المهاجر كلأه الله من فتن الغدايا والعليا والهواجر، لما أشار إلى شيخى الإمام العلامة، واستاذي الجهبذ الفهامة، سلطان وقته ونادرة زمانه، حجة الله على الخلق بعلمه وعرفانه، مطلع أنوار العناية والتوفيق، وارث أسرار الخليفى على التحقيق، المشهود له بسر التجديد فى رأس العقد الثانى من الألف الثانى، معدن الالهام الربانى السيد الثانى، الشيخ الحسيب

النسيب سمى بن عفان نزيل قسطنطينية، أمده الله وأمدنا به فى السر والعلانية، بالنقل إلى بروج الأولياء مدينة بروسا، صينت عن تطاول يد الضراء والبؤس فى العشر السادس من العشر العاشر من العقد الأول من الألف الثانى ولم أجد بدا من الوعظ والتذكير فى الجامع الكبير والمعبد المنير الشهير، وقد كان منى حين انتواء الاقامة ببعض ديار الروم، بعض صحائف ملتقطة من صفحات التفاسير وادوات العلوم، مشتمله على ما يزيد عن آل عمران، من سورة القرآن، ولكنها مع الاطناب الواقع فيها كانت متفرقة كأيدى سبا جزء منها حوته الصبا، وأردت أن الخص ما فرط من الالتقاط، وأضم إليها مما سنح لى من المعارف، وأجعله فى سمط ما أنظمه، وأسرد بانملة البراعة، وإن كنت قليل البضاعة قصير الباعة ما يليه إلى آخر النظم الكريم، ان أمهلنى الله العظيم إلى قضاء هذا الوطر الجسيم، وأبيض للناس قدر ما حررته فى الاسابيع والشهور وافرزته بالتسوية أثناء السطور ليكون ذخرا للآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون، وشفيعا لى حين لا يجدى نفعا غير الصاد والنون وأسأل الله تعالى أن يجعله من صالحات الأعمال، وخالصات الآثار، وباقيات الحسنات إلى آخر الاعمال، فانه إذا أراد بعبد خيرا حسن عمله فى الناس، وأهله لخيرات هى بمنزلة العين من الرأس وهو الفياض» اهـ ويقول فى آخر التفسير: «هذا وقد تم تحرير روح البيان فى تفسير القرآن، فى مدة الوحى تقريبا لما أن أقصت الاقدار إلى أقاصى أقطار الأرض، وأيدى الاسفار النائية تداولتنى من طول إلى عرض، حتى أقامنى الله مقام الاتمام، فجاء باذن الله التمام يوم الخميس الرابع عشر من جمادى الأولى المنتظم فى سلك شهور سنة سبع عشرة ومائة وألف» اهـ وقد اتقن إسماعيل حقى الفارسية أيضا وكثيرا ما يستخدم الفارسية والتركية فى تفسيره فيورد أبياتا من الشعر بالفارسية أو التركية وجملا بهذه وبتلك.

وهاك نموذجا من تفسيره: تِلْكَ الرُّسُلُ إشارة إلى الجماعة الذين من جملتهم النبى عليه الصلاة والسلام فاللام فى الرسل للاستغراق فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره، وأعلم أن الأنبياء كلهم متساوون فى النبوة لأن النبوة شىء واحد لا تفاضل فيها وانما التفاضل باعتبار الدرجات بلغ بعضهم منصب الخلة كإبراهيم عليه الصلاة والسلام ولم يحصل ذلك لغيره، وجمع لداود الملك والنبوة وطيب النعمة ولم يحصل هذا لغيره، وسخر لسليمان الجن والانس والطير والريح ولم يحصل هذا لأبيه داود، وخص محمدا عليه وعليهم السلام بكونه مبعوثا إلى الجن والأنس، ويكون شرعه ناسخا لجميع الشرائع المتقدمة، ومنهم من دعا امته بالفعل إلى توحيد الأفعال وبالقوة إلى الصفات والذات، ومنهم من دعا امته بالفعل إلى الصفات أيضا وبالقوة إلى الصفات والذات، ومنهم من دعا بالفعل وهو إبراهيم عليه السلام فانه قطب التوحيد اذ الأنبياء كانوا يدعون إلى المبدأ أو العماد وإلى الذات الأحدية الموصوفة ببعض الصفات الالهية الأحدية ولذا أمر الله نبينا صلّى الله عليه وسلم باتباعه بقوله ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً (سورة النحل: 123) فهو من أتباع إبراهيم باعتبار الجمع دون التفصيل إذ لامتمم لتفاصيل الصفات إلا هو ولذلك لم يكن غيره خاتما فالانبياء وان كانوا متفاوتين فى درجات الدعوة بحسب مشارب الأمم إلا أن كلهم واصلون فانون فى الله باقون بالله لأن الولاية قبل النبوة حيث أن آخر درجات الولاية أول مقامات النبوة فهى تبنى على الولاية ومعنى الولاية الفناء فى الله والبقاء بالله فالنبى لا يكون إلا واصلا محرزا جميع مراتب التوحيد من الأفعال والصفات والذات مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أى فضله الله بأن كلمه بغير واسطة وهو موسى عليه الصلاة والسلام فهو كليمه بمعنى مكالمه واختلفوا فى الكلام الذى سمعه موسى وغيره من الله تعالى هل هو الكلام القديم الازلى الذى ليس من جنس الحروف والاصوات قال، الأشعرى وأتباعه المسموع هو

ذلك الكلام الازلى قالوا كما أنه لم تمتنع رؤية ما ليس بمكيف فكذا لا يستعبد سماع ما ليس بمكيف، وقيل سماع ذلك الكلام محال وانما المسموع هو الحروف والصوت وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ (سورة البقرة: 153) أى عمل درجات أى على درجات فانتصابه على نزع الخافض وذلك بأن فضله على غيره من وجوه متعددة أو بمراتب متباعدة والظاهر أنه أراد محمدا صلّى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم أوتى ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ثلاثة آلاف آية وأكثر ولو لم يؤت الا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما أوتى الأنبياء لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات، وفى الحديث (فضلت على الأنبياء بست أوتيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب واحلت لى الغنائم وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بى النبيون)، قال فى التأويلات النجمية اعلم أن فضل كل صاحب فضل يكون على قدر استعلاء ضوء نوره لأن الرفعة فى الدرجات على قدر رفعة الاستعلاء كما قال تعالى: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ (سورة المجادلة: 11) فالعلم هو الضوء من نور الوحدانية فكلما ازداد العلم زادت الدرجة فناهيك عن هذا المعنى قول النبى عليه السلام فيما يخبر عن المعراج أنه رأى آدم فى السماء الدنيا ويحيى وعيسى فى السماء الثانية ويوسف فى السماء الثالثة وادريس فى السماء الرابعة، وهارون فى السماء الخامسة، وموسى فى السماء السادسة وإبراهيم فى السماء السابعة وعبر النبى عليه السلام حتى رفع إلى سدرة المنتهى ومن ثم إلى قاب قوسين أو أدنى، فهذه الرفعة فى الدرجة فى القرب إلى الحضرة كانت له على قدر قوة ذلك النور فى استعلاء ضوئه وعلى قدر غلبات أنوار التوحيد على ظلمات الوجود كانت مراتب الانبياء بعضهم فوق بعض فلما غلب نور الوحدانية على ظلمة انسانية النبى عليه السلام اضمحلت وتلاشت وفنيت ظلمة وجوده بسطوات تجلى صفات الجمال والجلال فكل نبى بقدر بقية ظلمة وجوده بقى فى مكان من أماكن السموات فانه صلى الله تعالى عليه وسلم ما بقى فى مكان ولا فى الامكان لأنه كان غائبا عن ظلمة

وجوده باقيا بنور وجوده ولهذا سماه الله نورا وقال قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (سورة المائدة: 15) فالنور هو محمد عليه السلام والكتاب هو القرآن، فافهم واغتنم فانك لا تجد هذه المعانى إلا هاهنا، انتهى كلام التأويلات النجمية.

فتح القدير للإمام الشوكانى

فتح القدير للإمام الشوكانى لقد كتب مفسرنا تاريخا لحياته وكتابه تاريخ الحياة فى جو مفكري الاسلام نادر وربما كان أول من بدأ كتابة تاريخ حياته الفكرية فى عالمنا الاسلامى هو الإمام الغزالى فى كتابه «المنقذ من الضلال» ولكن مفسرنا كتب حياته الانسانية يختلط فيها الفكر بالنسب والحسب والدراية والتحصيل انه من هجرة شوكان وهو يعتز بهذه البلدة وإليها ينتسب الشوكانى ويقول عنها. وهذه الهجرة معمورة بأهل الفضل والصلاح والدين من قديم الازمان لا يخلو وجود عالم منهم فى كل زمن ولكنه يكون تارة فى بعض البطون وتارة فى بطن أخرى. تولى والده القضاء مدة أربعين عاما وكان عالما ورعا تقيا وعنى عناية فائقة بابنه وتثقف الابن الثقافة الاسلامية كاعمق ما يكون المثقف لقد حفظ القرآن وجوده وهذا من أهم الامور لمن يشتغل بعلوم الدين والعربية فالقرآن الكريم هو الاساس الأول لكل دارس للدين ولكل نابغ فى العربية. وبينما كان يدرس القرآن فى المكتب عن له سؤال سأله لوالده القاضى: انه يقول: (وإنى أذكر وأنا فى المكتب مع الصبيان أنى سألت والدى رحمه الله عن أعلم من بالديار اليمنية اذ ذاك فقال: فلان يعنى: «عبد القادر بن أحمد». ووطن نفسه على أن ينال- عند ما يكون أهلا لذلك- فن علم هذا الشيخ. وقد كان الشوكانى صاحب ذاكرة قوية فحفظ منذ صغره كثيرا من متون

العلم والمتون هى الصورة الموجزة المركزة لفنون العلم. راقه فى بواكير شبابه الاشتغال بكتب التواريخ ومجاميع الأدب. ووصل الأمر بنبوغه وجده فى طلب العلم أنه تصدر للافتاء وهو فى سن العشرين وكان مثله فى ذلك مثل العالم الكبير أمير المؤمنين فى الحديث سفيان الثورى العالم النابغة الذى تصدر للفتوى هو الآخر وهو فى سن العشرين. وكل ذلك حصله فى صنعاء وكان فى صنعاء ذاك الوقت كثير من أفذاذ العلماء وكان يروق للشوكانى أن يدرس الكتاب على عدة من اعلام العلم ليرى منهج كل منهم وليوازن ويقارن بين أفهام النابهين من أولى العلم وكان هذا الأمر كأنه هو آية عنده. لقد استمع لشرح كتاب «الأزهار» على أربعة من العلماء. بل انه قرأ شرح «الأزهار» على العالم الكبير أحمد بن محمد الرازى ثلاث مرات ويقول عن ذلك فى طرافة «اثنتان إلى ما تدعو إليه الحاجة والثالثة استكملنا بها الدقيق والجليل من ذلك مع بحث وتحقيق. ويتحدث الشوكانى عن بعض قراءاته على شيخ واحد من مشايخه فيقول:- صحيح مسلم من أوله إلى آخره بلا قوت مع بعض شرحه للنورى، وبعض صحيح البخارى مع بعض شرحه فتح البارى، وبعض جامع الأصول لابن الأثير وسنن الترمذى من أولها إلى آخرها بلا فوت وبعض سنن ابن ماجة وبعض الموطأ وبعض المنتقى لابن تيمية وبعض شفاء القاضى عياض. وسمعت منه كثيرا من الاحاديث المسلسلة ... وقرأت عليه فى علم الاصطلاح بعض منظومة الزين العراقى وشرحها. وفى الفقه بعض ضوء النهار وبعض البحر الزخار مع حواشيهما ..

وفى علم أصول الدين بعض المواقف العضدية وشرحها للشريف وبعض القلائد وشرحها. وفى أصول الفقه بعض جمع الجوامع وشرحه للحملى وفى اللغة بعض الصحاح وبعض القاموس ومؤلفه الذى سماه «فلك القاموس» ولما استكمل الشوكانى شيئا من النضح العلمى أصبحت تلمذته نوعا من الاستفادة والافادة وهو يصف نمطا من ذلك فيقول: وكانت القراءات جميعها تجرى فيها المباحث الجارية على نمط الاجتهاد فى الاصدار والايراد ما تشد إليه الرجال وربما انجد البحث إلى تحرير رسائل مطولة ووقع من هذا كثير. وكنت أحرر ما يظهر لى فى بعض المسائل واعرضه عليه فان وافق ما لديه من اجتهاده فى تلك المسألة .. قرظة تارة بالنظم الفائق، وتارة بالنثر الرائق .. وان لم يوافق كتب عليه ثم أكتب على ما كتبه ثم كذلك فان بعض المسائل التى وقعت فيها المباحثة حال القراءة اجتمع ما حررته وحرره فيها إلى سبع رسائل. وكانت هذه الطريقة هى بداية التأليف عند الامام الشوكانى. ولقد ساعده على التأليف استاذه الكبير عبد القادر بن أحمد الذى دله عليه والده وهو فى المكتب صبيا لقد كان هذا الشيخ يدفعه دفعا إلى القراءة فى كتب معينة يرشده إليها ويقول الشوكانى فى ذلك. وما سألته القراءة عليه فى كتاب فابى قط بل كان يبتدينى تارات ويقول، تقرأ فى كذا وكان يبذل لى كتبه ويؤثر بها على نفسه. بل كان يقترح عليه الكتب التى يؤلفها كما رغبه فى تأليف شرح المنتقى فشرع الشوكانى فى هذا وعرض عليه عددا من الكراريس التى انتهى منها

فقال: اذا تم على هذه الكيفية كان فى نحو عشرين مجلدا وأهل العصر لا يرغبون فيما بلغ من التطويل إلى دون هذا المقدار. ثم أرشدنى إلى الاختصار ففعلت .. وما كان هذا الشيخ وحده هو الذى يفعل مع الشوكانى ذلك، وإنما كان غيره من خيرة الشيوخ يفعلون ذلك أيضا، وكان الشيوخ اذ ذاك يتخذون العلم رسالة يريدون بها وجه الله، ولا يتخذونه حرفة أو مهنة، وكانوا كلما رأوا طالبا مجدا ساعدوه مساعدة فعاله، ساعدوه فى العلم وساعدوه فى السلوك حتى يصبح شيخا له تلاميذ يساعد المجد منهم فى العلم، ويساعده فى حسن السلوك. وتربع الشوكانى على منصة العلم فى صنعاء، ودرس وأفتى، وكان الناس لا يكادون يذهبون فى الفتوى إلى غيره، وكانوا يحبون أن ينفحوه على الفتوى بعض المال فكان يأبى ويقول هذه الكلمات النفيسة: «أنا أخذت العلم بلا سبب فأريد انفاقه كذلك». وفى سنة 1209 هـ كان الشوكانى فى السادسة والثلاثين من عمره المبارك، توفى قاضى القضاة، ونترك الآن للشوكانى يقص ما جرى، وهى قصة لها مغزاها العميق نضعها أمام طلاب الدنيا والمناصب الذين يجرون وراء الرئاسة والحكم: وكان المتولى لهذا المنصب مرجع العامة والخاصة وعليه المعول فى الرأى والاحكام ومستشار الامام الوزراء فيما يعرض لهم وللدولة من احداث أو ما ينوبهم من أمور: فلما مات فى ذلك التاريخ وكنت اذ ذاك مشتغلا بالتدريس فى علوم الاجتهاد والافتاء والتصنيف مجتمعا عن الناس لا سيما أهل الأمر وأرباب الدولة، فانى لا اتصل بأحد منهم كائنا من كان.

ولم يكن لى رغبة فى شىء سوى العلم وكنت أدرس للطلبة فى اليوم الواحد نحو ثلاثة عشر درسا منها ما هو فى التفسير كالكشاف وحواشيه، ومنها ما هو فى الأصول كالعضد وحواشيه والغاية وحواشيها، وجمع الجوامع وشرحه وحاشيته. ومنها ما هو فى المعانى والبيان كالمطول والمختصر وحواشيهما، ومنها ما هو فى النحو كشرح الرضى على الكافية والمغنى، ومنها ما هو فى الفقه كالبحر وضوء النهار، ومنها ما هو فى الحديث كالصحيحين وغيرهما، مع ما يعرض من تحرير الفتاوى ويمكن من التصنيف: فلم أشعر إلا بطلاب لى من الخليفة بعد موت القاضى المذكور بنحو اسبوع فعزمت إلى مقامه العالى فقال لى أنه قد رجح قيامى مقام القاضى المذكور، فاعتذرت له بما كنت فيه من الاشتغال بالعلم، فقال: القيام بالامرين ممكن وليس المراد إلا القيام بفصل ما يصل من الخصومات إلى ديوانه العالى فى يومى اجتماع الحكام فيه. فقلت: سيقع منى الاستخارة لله والاستشارة لا هل الفضل وما اختاره الله ففيه الخير. فلما فارقته ما زلت مترددا نحو اسبوع ولكنه وفد إلى غالب من ينتسب إلى العلم فى مدينة صنعاء واجمعوا على أن الاجابة واجبة، وأنهم يخشون أن يدخل هذا المنصب. الذى إليه مرجع الاحكام الشرعية فى جميع الأقطار اليمنية- من لا يوثق بدينه وعلمه وأكثروا من هذا وأرسلوا إلى بالرسائل المطولة. فقبلت مستعينا بالله ومتكلا عليه. ولقد ألف الشوكانى كثيرا من الكتب منها: 1 - نيل الاوطار فى الفقه. 2 - ارشاد الغبى وهو كتاب نفيس يتحدث فيه الشوكانى عن وجوب البعد عن ذم الصحابة أو سبهم وهو كتاب ضروى فى أوساط الشيعة. 3 - كتاب البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع.

4 - تفسير القرآن المسمى: فتح القدير الجامع بين فن الرواية والدراية من التفسير. وعنوان هذا الكتاب يشرح الطريقة، فهى ليست طريقة التفسير بالمأثور تقتصر على ايراد ما ورد فى الآية من الآثار كما فعل مثلا الامام السيوطى فى تفسيره الذى اقتصر فيه على ايراد ما ورد من الماثورات. وليس تفسيرا يجعل كل همه العقليات كما فعل مثلا أبو مسلم الاصفهانى أو الفخر الرازى وأنما هو تفسير يجمع بين» الرواية والدراية» والرواية، هى ايراد المأثورات والدراية هى ابداء الرأى الشخصى بعد الفهم والتأمل فى الآية وما روى عنها، ونأتى الآن بنموذج منه. يقول الله تعالى فى سورة الأنبياء إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ، قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ، قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (سورة الأنبياء: 52، 53، 54) وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة من أهل الملة الاسلامية، فان العالم بالكتاب والسنة إذا أنكر عليهم العمل بمحض الرأى المدفوع بالدليل. قالوا: هذا قد قال به امامنا الذى وجدنا آباءنا له مقلدين وبرأيه آخذين. وجوابهم هو ما أجاب به الخليل هاهنا (قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم فى ضلال مبين) أى فى خسران واضح لا يخفى على أحد ولا يلتبس على ذى عقل، فإن قوم إبراهيم عبدوا الاصنام التى لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر، وليس بعد هذا الضلال ضلال، ولا يساوى هذا الخسران خسران. وهؤلاء المقلدة من أهل الاسلام استبدلوا بكتاب الله، وبسنة رسوله كتابا فدونت- اجتهادات عالم من علماء الاسلام، زعم أنه لم يقف على دليل يخالفها، أما لقصور منه، أو لتقصير فى البحث، فوجد ذلك الدليل من وجده، وابرزه واضح المنار كأنه علم فى رأسه نار، وقال: هذا كتاب الله أو هذه سنة رسول الله.

ويقول فى تفسير: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (سورة آل عمران: 169) وقد اختلف أهل العلم فى الشهداء المذكورين فى هذه الآية من هم؟ فقيل: شهداء أحد. وقيل فى شهداء بدر، وقيل فى شهداء بئر موتة .. وعلى فرض أنها نزلت فى سبب خاص فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .. ومعنى الآية عند الجمهور: أنهم أحياء حياة محققه .. ثم اختلفوا: فمنهم من قال: أنها ترد إليهم ارواحهم فى قبورهم فيتنعمون. وقال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة، أى يجدون ريحها وليسوا فيها. وذهب من عدا الجمهور إلى أنها حياة مجازية والمعنى: أنهم فى حكم الله مستحقون للنعم فى الجنة، والصحيح الأول، ولا موجب للمصير إلى المجاز وقد وردت السنة المطهرة بأن أرواحهم فى اجواف طيور خضر، وأنهم فى الجنة يرزقون ويأكلون ..

الإمام الألوسي وتفسيره روح المعانى

الإمام الألوسي وتفسيره روح المعانى الألوسي هو العلامة المحقق شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادى مفتى بغداد. وكان مولده فى جانب الكرخ من بغداد سنة سبع ومائتين بعد الألف من الهجرة النبوية. أخذ العلم عن العلماء الاعلام، وعلى رأسهم والده وكان من العلماء الكبار والشيخ على السويدى، والشيخ خالد النقشبندى .. وكان حرصه على العلم وما وهبه الله من قدرة على التحصيل، وتمكن من الفهم، وعمل على التزود من العلم من العوامل التى جعلت منه أرضا خصبة صالحة للانبات، فأثمر علما يانعا جعل منه شيخ علماء العراق، وصاحب التفسير الجامع الكبير. ابتدأ النشاط العلمى الزاخر وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ودرس فى عدة مدارس وكان حريصا على تبليغ العلم كما كان حريصا على جمعه، فكان يشجع طلاب العلم ويواسيهم بما يملك، ويقدم لهم ما يستطيع من وسائل الحياة ومتطلباتها ليتفرغوا للبحث والتحصيل. وتقلد الألوسي الكثير من المناصب العلمية، والاعمال المتصلة بالناحية الدينية فعين مفتيا للحنفية فى السنة الثامنه والأربعين بعد المائتين والألف من الهجرة المحمدية. كما تولى قبل ذلك أوقاف المدرسة المرجانية ... وتفرغ فى شوال سنة ثلاث وستين ومائتين بعد الألف لتفسير القرآن الكريم حتى أتمه، ثم سافر إلى القسطنطينية فى السنة السابعة والستين بعد المائتين والألف عارضا تفسيره على السلطان عبد المجيد خان، فنال اعجابه ورضاه ..

التفسير

تميز الألوس بسرعة الفهم، واتساع الحافظة، وثبات الحفظ، حتى لقد عبر عن ذلك شاكرا فقال: ما استودعت ذهنى شيئا فخاننى، ولا دعوت فكرى لمعضلة إلا وأجابنى وكان جادا فى تحصيل العلم، لا يبالى بما يصيبه فيه، شعاره هذه البيت المشهور: سهرى لتنقيح العلوم الذلى ... من وصل غانية وطيب عناق وخلف رحمه الله كثيرا من المؤلفات المفيدة فضلا عن تفسيره المشهور .. منها حاشية على القطر فى النحو، أكملها إلى موضع الحال، وشرح المسلم فى المنطق والأجوبة العراقية عن الأسئلة اللاهورية، والأجوبة العراقية على الأسئلة الإيرانية ودرة الغواص فى أوهام الخواص، والنفحات القدسية فى المباحث الامامية والفوائد السنية فى علم آداب البحث .. وقد توفى رحمه الله فى يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذى القعدة 1270 هـ ودفن مع أهله فى مقبرة الشيخ معروف الكرخى .. رحمه الله ونفع بعلمه .. التفسير قدم الألوسي لكتابه بمقدمة مهمة، بين فيها منهجه، وحدد فيها سبب تأليفه له، وألمح إلى بعض مظاهر حياته، وجوانب شخصيته فقال بعد الحمد والثناء: أما بعد، فيقول عيبة العيوب، وذنوب الذنوب، أفقر العباد إليه عز شأنه، مدرس دار السلطنة العلية، ومفتى بغداد المحمية، أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادى عفى عنه.

ان العلوم وان تباينت اصولها وغربت وشرقت فصولها، واختلفت احوالها فهى بأسرها مهمة. ثم بين أن اعلاها قدرا، وأغلاها مهرا علم التفسير، الباحث عما اراده الله سبحانه بكلامه المجيد، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ثم قال بعد ذلك: وأنى- ولله تعالى المنة- مذ ميطت عنى التمائم، ونيطت على رأسى العمائم لم أزل متطلبا لاستكشاف سره المكتوم، مترقبا لارتشاف رحيقه المختوم طالما فرقت نومى لجمع شوارده، وفارقت قومى لوصال خرائده فلو رأيتنى وأنا أصافح بالجبين صفحات الكتاب من السهر، واطالع- ان أعوز الشمع يوما- على نور القمر، فى كثير من ليالى الشهر، وامثالى إذ ذاك يرفلون فى مطارف اللهو، ويرقلون فى ميادين الزهو ويؤثرون مسرات الاشباح على لذات الارواح، ويهبون نفائس الاوقات لنهب خصائص الشهوات، وأنا مع حداثة سنى، وضيق عطنى، لا تغرينى حالهم ولا تغرينى افعالهم، كان لبنى لبانتى، ووصال سعدى سعادتى حتى وقفت على كثير من حقائقه، ووفقت لحل وفير من دقائقه، وثقبت- والثناء لله تعالى- من دره بقلم فكرى درا مثمنا، ولا بدع فأنا من فضل الله الشهاب وأبو الثناء وقبل أن يكمل سنى العشرين جعلت اصدح به واصدع، وشرعت أدفع كثيرا من اشكالات الأشكال وادفع، وأتجاهر بما الهمنيه ربى مما لم أظفر به فى كتاب من دقائق التفسير، وأعلق على ما أغلق مما لم تعلق به ظفر كل ذى ذهن خطير ولست أنا أول من من الله تعالى عليه بذلك، ولا آخر من سلك فى هاتيك المسالك فكم وكم للزمان ولد مثلى، وكم تفضل الفرد عز شأنه على كثير بأضعاف مثلى: ألا أنما الأيام أبناء واحد ... وهذى الليالى كلها أخوات ألا أن رياض الأعصار أعصار، وحياض تيك الامصار اعتراها

اعتصار، فصار العلم بالقيوق والعلماء أعز من بيض الأنوق. والفضل معلق باجنحة النسور، وميت حى الأدب لا يرجى له نشور: كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر ولكن الملك المنان- أبقى من فضله الكثير قليلا من ذوى العرفان، فى هذه الازمان دينهم اقتناص الشوارد، وديدنهم افتضاض ابكار الفوائد، يرون فيرمون، ويقدحون فيرون، لكل منهم مزية لا يستتر نورها، ومرتبة لا ينتثر نورها، طالما اقتطفت من ازهارهم، واقتبست من انوارهم، وكم صدر منهم أودعت علمه صدرى، وحبر فيهم افنيت فى فوائده حبرى، ولم أزل مدة على هذه الحال لا أعبأ بما عبا لى مما قيل أو يقال، كتاب الله لى أفضل مؤنس، وسميرى إذا اخلوا لكشف ظلمة الحناوس. نعم السمير كتاب الله أن له ... حلاوة هى احلى من جنى الضرب به فنون المعانى قد جمعن فما ... تفتر من عجب ألا إلى عجب أمر ونهى وأمثال وموعظة ... وحكمة أودعت فى أفصح الكتب طائف يجتليها كل ذى بصر ... وروضة يجتنيها كل ذى ادب وكانت كثيرا ما تحدثنى فى القديم نفسى، أن أحبس فى قفص التحرير ما اصطاده الذهن بشبكة الفكر، أو اختطفه باز الالهام فى جو حدس. فاتعلل تارة بتشويش البال يضيق الحال، وأخرى يفرط الملال وسعة المجال إلى أن رأيت فى بعض ليالى الجمعة من رجب الأصم سنة الألف والمائتين والاثنتين والخمسين بعد هجرة النبى صلّى الله عليه وسلم رؤية لا أعدها اضغاث احلام- ولا أحسبها خيالات أوهام: إن الله جل شأنه- وعظم سلطانه امرنى بطى السموات والأرض ورتق فتقهما على الطول والعرض، فرفعت يدا إلى السماء، وخفضت الأخرى إلى مستقر الماء- ثم انتبهت من نومتى وأنا مستعظم رؤيتى فجعلت افتش لها عن تعبير، فرأيت فى بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير،

فرددت حينئذ على النفس تعللها القديم وشرعت مستعينا بالله تعالى العظيم. وكأنى ان شاء الله عن فريب عند اتمامه بعون عالم سرى ونجواى، أنادى وأقول غير مبال بتشنيع جهول: هذا تأويل رؤياى، وكان الشروع فى الليلة السادسة عشرة من شعبان المبارك من السنة المذكورة وهى السنة الرابعة والثلاثون من سنى عمرى جعلها الله تعالى بسنى لطفة ميسورة وهاك نموذجا من تفسيره:- قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ- لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. (سورة البقرة: 188) (ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل). والمراد من- الأكل ما يعم الأخذ والاستيلاء، وعبر به لأنه أهم الحوائج وبه يحصل اتلاف المال غالبا .. والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض، فهو على حد وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ سورة الحجرات: 11 من تقسيم الجمع على الجمع، كما فى «راكبو دوابهم» حتى يكون معناه لا يأكل واحد منكم مال نفسه، بدليل قوله سبحانه: (بينكم) فإنه- بمعنى الواسطة- يقتضى أن يكون ما يضاف إليه منقسما إلى طرفين، يكون الأكل والمال حال الأكل متوسطا بينهما، وذلك ظاهر على المعنى المذكور، والظرف متعلق ب «تأكلوا» كالجار والمجرور بعده، أو بمحذوف حال من (الأموال) والباء للسببية، والمراد- من «الباطل» الحرام، كالسرقة، والغضب، وكل ما لم يأذن بأخذه الشرع. (وتدلوا بها إلى الحكام) عطف على تأكلوا، فهو منهى عنه مثله، مجزوم بما جزمه وجوز نصبه بأن مضمرة، ومثل هذا التركيب وان كان للنهى عن الجمع إلا أنه لا ينافى أن يكون كل من الأمرين منهيا عنه.

والادلاء فى الاصل إرسال الحبل فى البئر ثم استعير للتوصيل إلى الشيء أو الالقاء والباء صلة الادلاء، وجوز أن تكون سببه، والضمير المجرور للاموال أى لا تتوصلوا أو لا تلقوا بحكومتها والخصومة فيها إلى الحكام، وقيل لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة وقرأ أبى (ولا تدلوا) (لتأكلوا) بالتحاكم والرفع إليهم. فريقا: جملة. من اموال الناس بالاثم: أى بسبب ما يوجب اثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة ويحتمل أن تكون الباء للمصاحبة، أى متلبسين بالاثم، والجار والمجرور على الاول متعلق بتأكلوا .. وعلى الثانى حال من فاعله، وكذلك: (وانتم تعلمون) ومفعول العلم محذوف أى: تعلمون أنكم مبطلون. وفيه دلالة على أن من لا يعلم أنه مبطل وحكم له الحاكم يأخذ مال يجوز له أخذه اخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا أن عبد الله بن أشوع الحضرمى وامرؤ القيس بن عابس اختصما فى أرض ولم تكن بينه، فحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم به، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا (سورة آل عمران: 77) فارتدع عن اليمين وسلم الأرض فنزلت. واستدل بها على أن حكم القاضى لا ينقذ باطنا فلا يحل به الأخذ فى الواقع وإلى ذلك ذهب الشافعى رضى الله تعالى عنه، وأبو يوسف محمد، ويؤيده ما أخرجه البخارى ومسلم عن أم سلمه زوج النبى صلّى الله عليه وسلم أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال:- «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما اسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما اقطع له قطعة من النار».

وذهب الامام أبو حنيفة رضى الله تعالى عنه إلى أن الحاكم إذا حكم بينه بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ظاهرا وباطنا ويكون كعقد فداء، وإن كان الشهود زورا كما روى أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت فادعى عند على كرم الله تعالى وجهه أنه تزوجها، وأقام شاهدين، فقالت المرأة لم اتزوجه وطلبت عقد النكاح فقال على كرم الله تعالى وجهه: قد زوجك الشاهدان، وذهب فيمن ادعى حقا فى يدى وأقام بينة تقتضى أنه له وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح له أخذه، وان حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه وحمل الحديث على ذلك، والآية ليست نصا في مدعى مخالفيه لانهم ان أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ فى الجملة فسلم ولا نزاع فيه، لأن الامام الأعظم رضى الله تعالى عنه يقول بذلك، لكن فيما سمعت والمسألة معروفة فى الفروع والأصول ولها تفصيل فى أدب القاضى فارجع إليه.

حاشية الإمام الصاوى على الجلالين

حاشية الإمام الصاوى على الجلالين والجلالين هنا هما جلال الدين المحلى، وجلال الدين السيوطى، وقد اشتركا فى تفسير القرآن غاية فى الإيجاز، وربما كان أوجز تفسير للقرآن. أما الذى نتحدث عنه اليوم فهو حاشية العالم العلامة العارف بالله تعالى، الشيخ أحمد الصاوى المالكى على هذا التفسير. والشيخ الصاوى إمام من أئمة علماء الأزهر، وصوفى من كبار الصوفية، وشيخه فى الطريق هو الامام الدردير الملقب بأبى البركات، شيخ الدردير هو الإمام الأكبر الشيخ الحفنى الملقب بأبى الأنوار .. والشيخ الصاوى مالكى المذهب، خلوتى الطريقة، من اقليم الغريبة، بلدة «صان الحجر» بمصر، ولد سنة 1175 هـ 1761 ميلادية. وكانت وفاته بالمدينة المنورة سنة 1241 هـ 1825 ميلادية. وله كتب، وله حواش على بعض كتب شيخه الشيخ أحمد الدردير فى فقه المالكية. وله شرح مشهور على صلوات الدردير طبع عدة مرات بالقاهرة. وهو يسير فى تفسيره للقرآن على نمط العلماء المتزنين، وعلى نهج الصوفية الصادقين المتواضعين. إنه يقول مثلا فى أوائل حاشيته مفسرا منهجه وطريقته: وبعد: فيقول العبد الفقير الذليل أحمد بن محمد الصاوى المالكى الخلوتى: ولما كان علم التفسير اعظم العلوم مقدارا، وأرفعها شرفا ومنارا، إذ هو

رئيس العلوم الدينية ورأسها، ومبنى قواعد الشرع واساسها، وكان كتاب الجلالين من أجل كتب التفسير، واجمع على الاعتناء به الجم الغفير، من أهل البصائر والتنوير، وجاءنى الداعى الالهى بقراءته، فاشتغلت به على حسب عجزى، ووضعت عليه ملخصة من حاشية شيخنا العلامة المحقق المدقق الورع الشيخ سليمان الجمل، مع زوائد وفوائد فتح بها مولانا من نور كتابه وإنما اقتصرت على تلخيص تلك الحاشية لكونى وجدتها ملخصة من جميع كتب التفسير التى بأيدينا تنسب لنحو عشرين كتابا منها البيضاوى وحواشيه، وحواشى هذا الكتاب ... ومنها الخازن والخطيب والسمين وأبو السعود والكواشى والبحر والنهر والساقية والقرطبى والكاشف وابن عطية والتحبير والاتقان، ولم انسب العبارات لاصحابها غالبا اكتفاء بنسبة الأصل، والله على ما أقول وكيل، وهو حسبى وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى .. وقد تلقيت هذا الكتاب من أوله إلى آخره مرتين عن العلامة الصوفى سيدى الشيخ سليمان الجمل وعن الامام أبى البركات العارف بالله تعالى استأذنا الشيخ أحمد الدردير، وعن أستاذنا العلامة الشيخ الامير، وكل من هؤلاء الأئمة تلقاه عن تاج العارفين شمس الدين سيدى محمد بن سالم الحفناوى، وعن أبى الحسن سيدى الشيخ على الصعيدى العدوى ومما يرويه فى مقدمته. هذا الترتيب الذى نقرؤه توقيفى. ونزل القرآن على النبى صلّى الله عليه وسلم فى ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع لقول الله تعالى:- وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (سورة الفرقان: 33) لكنه نزل لا على هذا الترتيب، فإنه نزل عليه ثلاث وثمانون سورة بمكة قبل الهجرة وبالمدينة احدى وثلاثون على التحقيق. فأول ما نزل بمكة: اقرأ.

وآخر ما نزل بها: قيل: العنكبوت، وقيل: المؤمنون، وقيل المطففين، وأول سورة نزلت بالمدينة: البقرة. وآخر سورة نزلت بها: المائدة. وأما أول آية نزلت على الاطلاق: فأقرأ باسم ربك. وآخر آية على الاطلاق: «واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله». ومن طريق ما يقوله فى مقدمته: وعدة حروف القرآن: ألف ألف وخمسة وعشرون ألفا. وعدة آياته: ستة آلاف وستمائة وستة وستون آية. ونصفه بحسب الآيات قوله تعالى فى سورة الشعراء: فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (الآية رقم 45) ونصفه بحسب الحروف قوله تعالى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (سورة الكهف: 74) فالنون من النصف الأول، والكاف من الثانى. ونصفه بحسب السور: الحديد، والمجادلة من النصف الثانى .. وعدة كلماته سبعة وسبعون ألفا وأربعمائة وخمسون كلمة. وترتيب السور هكذا توقيفى. وأما وضع أسمائها فى المصاحف، وتقسيمها إلى أعشار وأرباع، وأثلاث وأجزاء، وأحزاب فمن الحجاج الثقفى بأخذ من الصحابة فى وضع أسماء السور، وباجتهاد منه فى تقسيمه إلى ما ذكر ولذلك تجد ابتداء الربع وسط قصة.

وكان الامام الصاوى يأخذ على الحجاج أنه لم يراع المعنى فى ابتداء أرباع القرآن الكريم والنماذج التى نوردها نحاول أن تكون من خصائص الامام البيضاوى. فهو عند قوله تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ (سورة البقرة: 152) يقول: معنى اذكرونى: تذللوا لجلالى. اذكركم: اكشف الحجب عنكم، وافيض عليكم رحمتى واحسانى، وأحبكم، وأرفع ذكركم فى الملأ الاعلى، لما فى الحديث: (من تقرب إلى شبرا تقربت منه ذراعا). وفى الحديث أيضا: إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل فقال له: يا جبريل، إنى أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادى فى السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول فى الأرض. وهذا من جملة الثمرات المعجلة، وأما المؤجلة فرؤية وجه ربه الكريم، ورفع الدرجات وغير ذلك .. وينبغى للانسان أن يذكر الله كثيرا، لقوله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً. (سورة الاحزاب: 35) ولا يلتفت لواش ولا رقيب، لقول السيد الحفنى خطابا للعارف بالله تعالى، استاذنا الشيخ الدردير: يا مبتغى طرق أهل الله والتسليك ... دع عنك أهل الهوى تسلم من التشكيك أن اذكرونى لرد المعترض يكفيك ... فاجعل سلاف الجلالة دائما فى فيك ولا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، فربما ذكر مع غفلة يجر لذكر

مع حضور، لأنهم شبهوا الذكر بقدح الزناد، فلا يترك الانسان القدح لعدم ايقاده من أول مرة مثلا، بل يكرر حتى يوقد، فإذا ولع القلب نارت الاعضاء فلا يقدر الشيطان على وسوسته، لقوله تعالى:- إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا (سورة الاعراف: 201) وخفت العبادة على الاعضاء فلا يكون على الشخص كلفة فيها، قال العارف: إذا رفع الحجاب فلا ملاله ... بتكليف الإله ولا مشقّة ويكفى الذاكر من الشرف قول الله تعالى فى الحديث القدسى: (أنا جليس من ذكرنى) وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الأنفال: 45) وهل الأفضل الذكر مع الناس، أو الذكر فى خلوة؟ والحق التفصيل، وهو ان كان الانسان ينشط وحده، ولم يكن مدعوا من الله لهداية الناس، فالخلوة فى حقه أفضل وإلا فذكره مع الناس أفضل، إما لينشط أو لتقتدى الناس به. نسأل الله أن يجعلنا من أهل ذكره. وعند قوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِي (سورة البقرة: 152) يقول:

الحق أنه يتعدى بنفسه وباللام والمعنى واحد، وهو من عطف الخاص على لعام والنكتة فى الذكر، فإن المقاصد فى الذكر مختلفة، فمن قصد بذكره لدنيا فقط فهو دنى، ومن قصد بذكره الجنة والنجاة من النار فهو اعلى من لأول، ومن قصد بذكره شكر الله على خلقه إياه وانعامه عليه، ولم يقصد غيره فهو من المقربين لما فى الحديث: أفلا أكون عبدا شكورا.

الإمام جمال الدين القاسمى وتفسيره محاسن التأويل

الإمام جمال الدين القاسمى وتفسيره محاسن التأويل من علماء الشام الكبار المحقق المدقق العالم الجليل جمال الدين ابن محمد سعيد بن قاسم القاسمى. ولد فى سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف ونشأ فى حجر والده وتلقى مبادئ العلوم الدينية والشرعية على يديه ثم تلقى سائر العلوم على كثير من علماء عصره ومن أبرزهم الشيخ بكرى العطار والشيخ عبد الرازق البيطار. مدحه أمير البيان شكيب ارسلان فكان مما قال عنه: كان فى هذه الحقبة الأخيرة جمال دمشق، وجمال القطر الشامى بأسره فى غزارة فضله وسعة علمه. وشفوف حسه وذكاء نفسه وكرم اخلاقه وشرف منازعه وجمعه بين الشمائل الباهية والمعارف المتناهية. وقد سما فى العلم والفضل وعلا فى سماء الشهرة والمجد حتى صار هو والشيخ عبد الرازق البيطار علمين من أعلام الشام تشابها كما يقول الأمير شكيب فى سماحة الخلق ورجاحة العقل ونبالة القصد وغزارة العلم والجمع بين العقل والنقل والرواية والفهم ولم يكن فى وقتهما أعلى منهما فكرا وأبعد نظرا وأثقب ذهنا فى فهم المتون والنصوص والتمييز بين العموم والخصوص، وكان وجودهما ضربة شديدة على الحشوية، الفرقة المجسمة فى العقائد تلك الطبقة الجاحدة التى صارت هى وأمثالها حجة على الاسلام فى تدهوره، وقال عنه الشيخ رشيد رضا:

طريقته فى التأليف

هو علامة الشام ونادرة الايام والمجدد لعلوم الاسلام محيى السنة بالعلم والعمل والتعليم والتهذيب والتأليف واحد حلقات الاتصال بين هدى السلف والارتقاء الذى يقتضيه الزمن الفقيه الاصولى المفسر المحدث الأديب المتفنن التقى الأواب الحليم الأواه- العفيف النزيه صاحب التصانيف الممتعة والابحاث المقنعة. بدأ الشيخ حياته العلمية مدرسا فى حياة والده فلما توفى والده تولى مكانة فى خدمة امامه فى جامع السنانين بدمشق ومارس نشاطه العلمى فى التأليف والشرح والنقد والاصلاح حتى ازدهرت تأليفه وكثرت مصنفاته ووصل عددها إلى ما يقرب من الثمانين ما بين مخطوط ومطبوع ومن أشهرها: - محاسن التأويل فى تفسير القرآن الكريم. - ومنها: - فصل الكلام فى حقيقة عود الروح إلى الميت حين الكلام. - بحث فى جمع القراءات المتعارف عليها. - دلائل التوحيد. - موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين. - قواعد التحديث فى فنون مصطلح الحديث. طريقته فى التأليف : تعتمد طريقته فى التأليف على النقل الواعى من التراث الاسلامى الزاخر والاكتفاء بالترتيب والتبويب والتعقيب اللطيف أو الاستدراك الخفيف. وكان من المعجبين بالشيخ ابن تيمية ومن اقطاب المدرسة السلفية وقد اكتسب خبرة واسعة فى الاطلاع والاحاطة حتى لقد حكى عن نفسه أنه قد من الله عليه بفضله فاسمع صحيح مسلم رواية ودراية فى مجالس من اربعين يوما

تفسير القاسمى

وسنن ابن ماجة احدى وعشرين يوما والموطأ فى تسعة عشر يوما وطالع بنفسه لنفسه كتاب تقريب التهذيب لابن حجر مع تصحيح سهو القلم فيه وضبطه وتحشيته من نسخة مصححة جدا ثم قال: وهذه الكتب قرأتها اثر بعضها فأجهدت نفسى وبصرى حتى رمدت. ولقد ذكرنا ذلك لنعرف بهمته العالية واطلاعه الواسع وعلمه الغزير ولشدة عنايته بالاصلاح واخلاصه فى بث الدعوة ونشر الدين والحرص على التجديد. اتهم بالدعوة إلى مذهب جديد فى الدين سمى بالمذهب الجمالى وقبض عليه وحقق معه ولكنه رد التهمة وأثبت براءته فأخلى سبيله. ولم تخل حياته من التنقل والارتحال فرحل إلى مصر وزار المدينة وعاد إلى دمشق فانقطع فى منزله للتصنيف والقاء الدروس الخاصة والعامة فى التفسير والأدب وعلوم الشريعة إلى أن وافاه الموت فى شهر رجب من سنة اثنين وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة. رحمه الله ونفع به. تفسير القاسمى إذا أحببت أن تقرأ تفسيرا كاملا للقرآن لا تجد فيه خرافة ولا أسطورة ولا شيئا من الإسرائيليات المذمومة التى حشيت بها التفاسير فعليك بكتاب الإمام القاسمى (محاسن التأويل) الذى فسر به القرآن الكريم تفسيرا يعتبر نموذجا إلى حد كبير .. وقد تحدث القاسمى فى مقدمة تفسيره فقال بعد أن أثنى على القرآن: (وإنى كنت حركت الهمة إلى تحصيل ما فيه من الفنون والاكتمال باثمد مطالبه لتنوير العيون فاكببت على النظر فيه وشغفت بتدبير لآلئ عقوده ودراريه

وتصفحت ما قدر لى من تفاسير السابقين وتعرفت- حين درست- ما تخللها من الغث والثمين- ورأيت كلا- بقدر وسعه- حام حول مقاصده، وبمقدار طاقته جال فى ميدان دلائله وشواهده، وبعد أن صرفت فى الكشف عن حقائقه شطرا من عمرى ووقفت على الفحص عن دقائقه قدرا من دهرى أردت أن انخرط فى سلك مفسريه الأكابر قبل أن تبلى السرائر وتفنى العناصر). وقد استخار الله تعالى فى تسميته وتأليفه ثم شرع فى تنفيذ ما عزم عليه فكان هذا الكتاب الجليل. وكان شروعه فى هذا التفسير بعد تكرار الاستخارة فى العشر الأول من شوال سنة ست عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة وما أن تم هذا العمل الجليل حتى تفسيرا حافلا فى سبعة عشر مجلدا. فسد فراغا وحقق نفعا للعامة والخاصة ونفع الله به المسلمين. والناظر فى هذا التفسير يجد أن مؤلفه قد أفرد جزءا كاملا مقدمة لتفسيره وفى هذه المقدمة يتجلى منهجه فى التفسير بل فى التأليف عموما. لقد ناقش قضايا عامة وخطيرة فيما يتصل بالتفسير ونقل كثيرا عن مشاهير العلماء فى الأصول والتفسير وسائر العلوم القرآنية. لقد تحدث عن مصادر التفسير وعد أن أصولها أربعة: الأول: النقل عن النبى صلّى الله عليه وسلم وعلى المفسر بطريق النقل أن يحذر من الضعيف والموضوع. الثانى: الأخذ بقول الصحابى اذ هو المعاصر للتنزيل والفاهم لجو القرآن. الثالث: الأخذ بمطلق اللغة. الرابع: التفسير بما يقتضيه معنى الكلام ومفهوم الشرع. ومصادر مقدمته غالبا من الشيوخ المعروفين:

الإمام الشاطبى والإمام ابن تيمية وشذرات من كلام العز بن عبد السلام، والإمام الغزالى والراغب الاصفهانى وبعض العلماء المحدثين مثل الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا. لقد كان الإمام القاسمى بوفرة اطلاعه ودقة فهمه وأمانته فى النقل ينتقى أجود الأقوال فيما يختص بموضوع بحثه ثم ينقله فى كتبه وعلى هذا النهج جرى فى تفسيره، فتفسيره أشبه ما يكون بحديقة غناء لا ترى فيها إلا زرعا ناضرا أو وردا عاطرا ولا تجد فيه ما يؤذى النفس ويثير الشعور ويمتاز هذا التفسير الجليل زيادة على التحرى فى النقل وحسن الاختيار والبعد عن الضعيف والموضوع بما يأتى: 1 - العناية بالمعانى اللغوية للمفردات وتوجيه الاعراف فى سهولة ويسر دون تفريع أو تطويل. 2 - اعتماده فى تفسير القرآن على القرآن ثم على السنة الصحيحة ثم على أقوال الصحابة وآراء السلف الصالح. 3 - اهتمامه بالآيات التى تحتاج إلى بحث واطالته النفس فيها وذلك أن فى القرآن آيات بينه واضحة لا تحتاج إلى بحث لأنها واضحة من ناحية المعنى. وفى القرآن آيات واضحة ولكن بعض المفسرين قد حاول اثارة الجدل فيها أو أخطأ فى فهمها أو فسرها باسرائيليات أو انحرفت بها الأهواء على أى وضع كانت ويشتد اهتمام مفسرنا بمثل هذه الآيات .. شارحا ومبينا ومحققا للحق وكاشفا لزيف الباطل .. وينقل فى سبيل ذلك عن القدماء ما يؤيد فكرته ويتخذ من هذا التأييد كمصدر أول- القرآن نفسه فإنه يفسر بعضه بعضا ويتخذ كذلك الأحاديث الصحيحة الشريفة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كمصدر آخر ثم ينقل عن العلماء القدامى وعن العلماء المحدثين ما يؤيد وجهة نظره، وهى فى الأغلب الأعم وجهة نظر سليمة. 4 - اهتمامة بذكر وجوه القراءات مع الترجيح بينها يقول فى تفسير قوله تعالى:

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ. (آية 36 من سورة البقرة) فأزلّهما الشيطان عنها: أى اذهبهما عن الجنة وأبعدهما يقال: نزل عن مرتبته وزل عن ذاك: اذا ذهب عنك ... وزل من الشهر كذا .. وقال ابن جرير: فأزلهما بتشديد اللام بمعنى استنزلهما .. من قولك زل الرجل فى دينه إذا هفا فيه وأخطأ فأتى ما ليس له اتيان فيه .. وازله غيره إذ سبب له ما يزل من أجله فى دينه أو دنياه .. وقرئ (فأزلهما) بالألف من التنحية فأخرجهما مما كان فيه من الرغد والنعيم والكرامة. لقد ذكر الإمام القاسمى كلا من القراءتين والمعنى على حسب كل قراءة ونقل من كلام العلماء ما يؤيد ما ذهب إليه. أما عن العلماء الذين تأثر بهم الإمام القاسمى فأولهم الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهو يهتم اهتماما واضحا بكل ما انفراد به من آراء: انه ينقل عن ابن تيمية رأيه فى مجازات القرآن، وهو من الآراء التى اشتهر بها ابن تيمية وخالف فيها كثيرا من العلماء وذكر ابن تيمية منهجه فى التفسير ورأيه فى مناهج المفسرين. وتأثر فى منهجه بهذا المنهج فى التفسير. ولقد أعجب القاسمى بالإمام محمد عبده ونقل عنه رأيه فى وجوه التفسير ومراتبه نقلا عن مقدمة تفسير الإمام محمد عبده المشهور .. لقد نقلها محبذا لها مقرا لكل ما فيها .. ونستطيع أن نقول بحق: لقد تأثر القاسمى بهذا المنهج ونسق بينه وبين منهج ابن تيمية فى تفسيره لكن هذا الإعجاب بالشيخ محمد عبده لم يمنعه من مخالفة الاستاذ الإمام فى مسائل الملائكة وآدم وابليس والسحر وغير ذلك- لم يقل برأى الإمام فى هذه الأمور وسار على رأى الجمهور فى أنها حقائق وليست تعبيرا بالمثال والإرشاد والتفهيم.

ولعل هذا يكشف لنا جانبا هاما من جوانب الإمام القاسمى لقد كان يعجب بقدر وكان يتحكم فيما يختار ولا ينساق وراء الآراء تبعا لشهرة قائلها وانتشارها بين الناس. ومن المعالم البارزة فى هذا التفسير اعتناء المفسر بالربط بين الآيات المختلفة والكشف عن مظاهر الحكمة فى ترتيب القرآن .. ففي سورة البقرة مثلا يتحدث عن الانتقال من قصة آدم ودعوة بنيه إلى الدين إلى الحديث عن بنى إسرائيل فى قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. (البقرة: 38، 39، 40) يتحدث عن الصلة بين الآيات فيقول: ولما قدم الله تعالى دعوة الناس عموما وذكر مبدأهم .. دعا بنى إسرائيل خصوصا وهم اليهود- لانهم كانوا أولى الناس- بالإيمان بالنبى صلّى الله عليه وسلم لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل فدعاهم تارة بالملاطفة وتارة بالتخويف وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أفعالهم. ونعود فنقول: إن التفسير تعبير حى عن الشيخ القاسمى فى سعة علمه ووفرة مراجعه وحسن انتقائه وسلامة منهجه ودقته فى التعبير واقتصاره على قدر الحاجة- وقد ضم عصارات الأفكار وخلاصة آراء العلماء فى كثير من الآفاق العلمية والفكرية والعملية كما عبر عنها القرآن. ومما يلاحظ على الإمام القاسمى فى تفسيراته إن استمداده من الإمام ابن كثير بلغ حدا كبيرا .. انه يكاد يشبه تفسير الإمام ابن كثير فى كثير من

نموذج من تفسير القاسمى

الموضوعات فى صورة تكاد تكون متقنة .. ومع ذلك فإن هذا التشابه القوى بينه وبين ابن كثير لا ينزله عن أصالته فإن هذا التشابه آت من اتحاد الرأى وتشابه الأفكار لا من النقل والتقليد. وكما قلنا فالكتاب نخبة ممتازة يضم الأفكار القيمة والآراء الصحيحة فى كل ما يتصل بالتفسير. نموذج من تفسير القاسمى قال تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ. أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ. (سورة المؤمنون: 71، 72، 73، 74) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ. أى لو كان ما كرهوه من الحق الذى هو التوحيد والعدل المبعوث بهما الرسول صلوات الله وسلامه عليه موافقا لا هوائهم المتفرقة فى الباطل الناشئة عن نفوسهم الظالمة المظلمة لفسد نظام الكون لأن مناط النظام ليس إلا ذلك وفيه من شأن الحق والتنبيه على سمو مكانه ما لا يخفى «بل أتيناهم بذكرهم»

اضراب عن توبيخهم بكراهته وانتقال إلى لومهم بالنفور عما ترغب فيه كل نفس من خيرها أى ليس مكروها بل هو عظة لهم لو اتعظوا أو فخرهم أو متمناهم لأنهم كانوا يقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا من عباد الله المخلصين «فهم عن ذكرهم معرضون» أى بالنكوص عنه وأعاد الذكر تفخيما واضافة لهم لسبقه وفى سورة الأنبياء (ذكر ربهم) لاقتضاء ما قبله له «أم تسألهم خرجا» أى جعلا على أداء الرسالة فلا جل ذلك لا يؤمنون «فخراج ربّك خير» أى عطاؤه «وهو خير الرازقين وانك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وان الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون». أى منحرفون- قال القاشاني: الصراط المستقيم الذى يدعوهم إليه هو طريق التوحيد المستلزم لحصول العدالة فى النفس ووجود المحبة فى القلب وشهود الوحدة والذين يحتجبون عن عالم النور بالظلمات وعن القدس بالرجس إنما هم منهمكون فى الظلم والبغضاء والعداوة والركون إلى الكثرة فلا جرم أنهم عن الصراط ناكبون منحرفون إلى ضده فهو فى واد وهم فى واد وقال الزمخشرى: قد الزمهم الحجة فى هذه الآيات وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذى أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم وأنه لم يعرض له حتى يدعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ولم يجعل ذلك مسلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذى هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو اخلالهم بالتدبر والتأمل واستئثارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق واعراضهم عما فيه حظهم من الذكر.

الإمام محمد عبده وتفسيره

الإمام محمد عبده وتفسيره لعل خير ما يعرف بالشيخ محمد عبده ما كتبه عن نفسه ونقله عنه صاحب المنار فى كتاب خاص سماه: تاريخ الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وفيه يقول: عرفت أنى ابن عبده خير الله، من سكان قرية محلة نصر بمركز شبراخيت من مديرية البحيرة، ووقر فى نفسى احترام والدى، ونظرت إليه أجل الناس فى عينى، ومسكن من هيبته فى قلبى ما لا أجده لأحد من الناس اليوم عندى. ويقول وجدت والدى يقرى الضيف، ويؤوى الغريب، ويفتخر باكرام النزيل وذلك كان يزيد منزلته من نفسى علوا، وأنا لا أفهم من هذا إلا أنه شىء يفتخر به بدون أن أعقل له علة .. وبالجملة كنت أعتقد أن والدى أعظم رجل فى القرية وكل من فيها دونه، وهو بذلك كان أعظم رجل فى الدنيا فإن الدنيا عندى لم تكن أوسع من قرية محلة نصر. أما والدتى فكانت منزلتها بين نساء القرية لا تنزل عن مكانة والدى، وكانت ترحم المساكين وتعطف على الضعفاء، وتعد ذلك مجدا وطاعة لله وحمدا، ولم أزل أجد أثر ما وعيت من ذلك فى نفسى إلى اليوم .. أما عن تدرجه فى التعليم والطلب فيقول: تعلمت القراءة والكتابة فى منزل والدى، ثم انتقلت إلى دار حافظ قرآن قرأت عليه وحدى جميع القرآن أول مرة، ثم اعدت القراءة حتى اتممت حفظه جميعه فى مدة سنتين، بعد ذلك حملنى والدى إلى طنطا حيث كان أخى لأمى الشيخ مجاهد رحمه الله لا جود القرآن فى المسجد الأحمدى لشهرة

قرائه بفنون التجويد، وكان ذلك فى سنة 1279 هجرية .. ثم فى سنة احدى وثمانين جلست فى دروس العلم وقضيت سنة ونصفا لا أفهم شيئا لرداءة طريقة التعليم، فادركنى اليأس من النجاح، وهربت من الدرس وحاول أخى اكراهى على طلب العلم فأبيت، وانتهى الجدال بتغلبى عليه، فأخذت ما كان لى من ثياب ومتاع، ورجعت إلى محلة نصر على نية أن لا أعود إلى طلب العلم وتزوجت فى سنة 1282 على هذه النية. ثم يواصل الحديث عن تدرج حياته فى التعليم فيقول: بعد أن تزوجت بأربعين يوما جاءنى والدى ضحوة نهار وألزمنى بالذهاب إلى طنطا لطلب العلم، وبعد احتجاج وتمنع وإباء لم أجد مندوحة عن اطاعة الأمر .. ولم يواصل السير إلى طنطا، لقد تغلبت عليه نزعة الهرب من طلب العلم والعزوف عن تحصيله فتخلف فى قرية بها عدد كثير من أقاربه، وانطلق مع أقرانه من الشباب يلهو ويلعب وفى هذه القرية التقى بأحد أخوال أبيه وهو الشيخ درويش. وكان الشيخ درويش قد أخذ عن بعض الشيوخ طريقة الشاذلية، وكان يحفظ الموطأ، وبعض كتب الحديث، ويجيد حفظ القرآن وفهمه، ثم رجع من أسفاره إلى قريته هذه، واشتغل بما يشتغل به الناس من فلح الأرض، وكسب الرزق بالزراعة. وتدرج معه الشيخ درويش فى ترويضه على العلم، والعودة به إلى رحاب المعرفة فأعطاه كتابا يحتوى على رسائل كتبها السيد محمد المدنى إلى بعض مريديه بالأطراف وسأله أن يقرأ له فيها شيئا لضعف بصره، وما زال به حتى قرأ بضعة أسطر فاندفع يفسر له معانى ما قرأ بعبارة واضحة غلبت اعراضه وسبقت إلى نفسه، وقاومت نزعته إلى اللعب واللهو. وان هى الا أيام قليلة حتى صار أبغض شىء إليه ما كان يحبه من لعب ولهو

وفخفخة وزهو وعاد أحب شىء إليه ما كان يبغضه من مطالعة وفهم .. ثم سأل الشيخ عن الطريقة فقال: الاسلام وعن الورد فقال: القرآن، ولم تمض أيام حتى رأى نفسه يطير فى عالم آخر غير الذى كان يعهد، فاتسع له ما كان ضيقا، وصغر عنده من الدنيا ما كان كبيرا، وعظم عنده من أمر العرفان والنزوع بالنفس إلى جانب القدس ما كان صغيرا وتفرقت عنه جميع الهموم ولم يبق إلا هم واحد وهم أن يكون كامل المعرفة، كامل أدب النفس. ويتابع الشيخ حديثه فيقول: وفى منتصف شوال من تلك السنة ذهبت إلى الازهر، وداومت على طلب العلم على شيوخه، مع محافظتى على العزلة والبعد عن الناس، حتى كنت استغفر الله إذا كلمت شخصا كلمة لغير ضرورة وفى اواخر كل سنة دراسية كنت اذهب إلى (محلة نصر) لا قيم بها شهرين- من منتصف شعبان إلى منتصف شوال وكنت عند وصولى إلى البلد أجد خال والدى الشيخ درويش قد سبقنى إليه فكان يستمر معى بدراستى القرآن والعلم إلى يوم سفرى. كان الشيخ يدارسه ويسأل ماذا قرأت؟ ثم يوجهه إلى دراسة علوم أخرى إلى جانب ما يدرس بالأزهر كالمنطق والحساب والهندسة، واستجابة لتوجيهه كان يلتمس هذه العلوم عند من يعرفها فتارة كان يخطئ فى الطلب وأخرى يصيب إلى أن جاء السيد جمال الدين الأفغانى إلى مصر أواخر سنة 1286، فوجد عنده ما ابتغاه من العلوم وشاركه فى الدعوة إلى الاصلاح ثم عرض نفسه على مجلس الامتحان فى سنة 1294 هجرية للحصول على العالمية فخرج منه بالدرجة الثانية، وصار مدرسا من مدرسى الجامع الأزهر، وأخذ يقرأ العلوم الكلامية والمنطقية وغيرها. ومع ما وصل إليه فى العلوم ظل يطلب العلم، ويتحدث عن ذلك فيقول: بدأت بتعلم اللغة الفرنسية عند ما كانت سنى أربعا وأربعين سنة، فبحثت عن معلم فوجدت استاذا لا بأس به، فتعلمت مبادئ اللغة الفرنسية،

تفسيره

وحصلت منها ما كان يمكننى من القراءة والفهم، لكن ما كنت استطيع الكلام .. سافرت بعد ذلك إلى فرنسا وإلى سويسرا عدة مرات فى أيام العطلة فى كلية جنيف، وبهذه الطريقة تعلمت اللغة الفرنساوية فى أوقات الفراغ مع اشتغالى بالقضاء فى المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف. ونشط الشيخ فى التأليف والتدريس بالأزهر وغير الأزهر فذاع صيته وطارت شهرته وعم النفع به .. تفسيره لم يكن التفسير عند الاستاذ الإمام بالشىء السهل، بل كان من أصعب الأمور وأهمها .. ووجه الصعوبة فيه- فيما يرى الإمام من وجوه أهمها: إن القرآن كلام سماوى تنزل عن حضرة الربوبية على قلب أكمل الأنبياء وهو يشتمل على معارف عالية، ومطالب سامية، لا يشرف عليها إلا أصحاب النفوس الزاكية والعقول الصافية .. وكان الإمام فى تصديه للتفسير راغبا بث الدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول: تحرير الفكر عن قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع فى كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشرى التى وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه، لتتم حكمة الله فى حفظ نظام العالم الإنسانى، وأنه على هذا الوجه يعد صديقا للعلم باعثا على البحث فى أسرار الكون، داعيا إلى احترام الحقائق الثابتة مطالبا بالتعديل عليها فى أدب النفس واصلاح العمل. الثانى: إصلاح أساليب اللغة العربية فى التحرير، سواء كان فى المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها، أو فيما تنشره الجرائد على الكافة منشئا أو مترجما من لغات أخرى أو فى المراسلات بين الناس.

وللتفسير فى نظر الإمام وجوه شتى: أحدها: النظر فى أساليب الكتاب ومعانيه وما اشتمل عليه من أنواع البلاغة، ليعرف به: علو الكلام وامتيازه على غيره من القول .. سلك هذا المسلك الزمخشرى، ونحا نحوه آخرون. ثانيها: الاعراب .. وقد اعتنى بهذا أقوام توسعوا فى بيان وجوهه وما تحتمله الألفاظ منها .. ثالثها: تتبع القصص، وقد سلك هذا المسلك أقوام زادوا فى قصص القرآن وما شاءوا من كتب التاريخ والإسرائيليات، ولم يعتمدوا على التوراة والإنجيل والكتب المعتمدة عند أهل الكتاب وغيرهم، بل أخذوا جميع ما سمعوه عنهم من غير تفريق بين غث وثمين ولا تنقيح لما يخالف الشرع ولا يطابق العقل ... رابعها: غريب القرآن. خامسها: الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات والاستنباط منها. سادسها: الكلام فى أصول العقائد ومقارعة الزائغين، وصحابة المختلفين، وللإمام الرازى العناية الكبرى بهذا النوع .. سابعها: المواعظ والرقائق، وقد مزجها الذين ولعوا بها بحكايات المتصوفة والجهاد، وخرجوا ببعض ذلك عن حدود الفضائل والآداب التى وضعها القرآن .. ثامنها: ما يسمونه بالإشارة، وقد اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية الصوفية .. ومن ذلك التفسير الذى ينسبونه للشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، وإنما هو للقاشانى الباطنى الشهير، وفيه من النزعات ما يتبرأ منه دين الله وكتابه العزيز. وإذا كان الاكثار فى مقصد خاص من هذه المقاصد يخرج الكثيرين عن المقصود من الكتاب الالهى، ويذهب بهم فى مذاهب تبهم معناه الحقيقى،

فإن ما كان يعنى الإمام من التفسير هو فهم الكتاب من حيث هو دين، وهداية من الله للعالمين، جامعة بين بيان ما يصلح به أمر الناس فى هذه الحياة الدنيا، وما يكونون به سعداء فى الآخرة، ويتبعه- بلا ريب- بيان وجوه البلاغة بقدر ما يحتمله المعنى، وتحقيق الإعراب على الوجه الذى يليق بفصاحة القرآن وبلاغته عند الحاجة إلى ذلك. وللتفسير فى نظر الإمام مراتب: أدناها: أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه، ويصرف النفس عن الشر، ويجذبها إلى الخير، وهذه التى تتيسر لكل أحد (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر). وأما المرتبة العليا فهى لا تتم إلا بأمور: أحدها: فهم حقائق الألفاظ المفردة التى أودعها القرآن بحيث يجد المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة، غير مكتف بقول فلان وفهم فلان. ثانيها: الأساليب، فينبغى أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفعية، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته، مع التفطن لنكته ومحاسنة، والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه. ثالثها: علم أحوال البشر، فقد ورد فى القرآن من الحديث عن أحوال الخلق وقصص الأمم والسنن الالهية فى البشر ما يجعل العلم بأطوار البشر وأدوارهم ومناشئ اختلاف أحوالهم من ألزم الأمور. رابعها: العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن بمعرفة ما كان عليه الناس فى عصر النبوة من العرب وغيرهم وما كانوا عليه من العوائد. خامسها: العلم بسيرة النبى صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وما كانوا عليه من علم وعمل وتصرف فى الشئون دينويها وأخرويها. والغرض الأول الذى دعا إليه فى قراءة التفسير، استجماع تلك الشروط لأجل ان تستعمل لغايتها وهى محاولة فهم المراد من القول، وحكمة التشريع فى

العقائد والأحكام على الوجه الذى يجذب الأرواح، ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة فى الكلام ... فالمقصد الحقيقى وراء كل تلك الشروط والفنون هو الاهتداء بالقرآن .. وفى سنة 1315 اتصل بالشيخ محمد عبده: ان القرآن لا يحتاج إلى تفسير كامل من كل وجه، ولكن الحاجة شديدة إلى تفسير بعض الآيات .. ولم يزل به الشيخ رشيد رضا حتى اقنعه بقراءة التفسير فى الأزهر، وبدأ بالدروس فى غرة المحرم سنة 1317 هـ وانتهى منه فى منتصف المحرم سنة 1323 هـ عند تفسير قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً من سورة النساء. وعلى الرغم مما فى تفسير الشيخ محمد عبده من محاسن، فإنه يحتاج إلى تعقيب، ونكتفى هنا بمثال على ذلك: اننا جميعا نجل الشيخ محمد عبده، ونحترمه، وندين له بكثير من تخليص الدين عن الخرافات والأساطير ولكن حينما نقرأ له تفسير قصة آدم، فنراه لا يضع احتمال أنها تمثيل متساءل: لم ذكر الشيخ محمد عبده هذا الاحتمال؟ حينما نتساءل حقيقة عن السر العميق- فى الشعور وفى اللاشعور- نجد أن الشيخ محمد عبده رأى أن فكرة التطور منتشرة فى جميع أرجاء أوربا، بل والعالم، وهى فيما يرى بظاهرها تتعارض مع التعاليم التى تنبئ أن آدم هو أول البشر، وهو الذى خلقه الله وسواه، وخاطب الملائكة فى شأنه وأمرهم أن يسجدوا له. رأى الشيخ محمد عبده أن كل ذلك لا يتلاءم كثيرا مع فكرة التطور المزعومة فماذا صنع؟ ذكر هذا الاحتمال، وبذلك يمكننا أن نؤولها كيفما شئنا، وما كنا نود أن يجيز ذلك إذ أنه يفتح للناس باب التأويل فى صورة من الاستفاضة الضارة .. كما رأى الشيخ محمد عبده أن يفسر اختلاف رسالات الرسل وتعاقبها:

موسوية وعيسوية وإسلامية بتطور الإنسانية. الآن الإنسانية- حسبما برى- حسية فى زمن موسى، فكانت رسالة سيدنا موسى حسية. ثم تطورت الإنسانية من الحس إلى العاطفة، فكانت رسالة سيدنا عيسى عاطفية. ثم تطورت الإنسانية من الحس والعاطفة الى العقل، فكانت رسالة سيدنا محمد عقلية. ورأيي أن الإنسانية لم تتطور هذا التطور وأن الإنسانية لم تتطور هذا التطور هذا التطور وأن الإنسانية أينما سرنا وعند أى فرد رأينا، فى أى مجتمع شاهدنا، فإنما يتمثل فيها جوانب ثلاثة: الحسى والعاطفة والعقل .. ولكن فكرة التطور، وأن الإنسانية متطورة، انتهت بأن أصبحت مسيطرة على الكثيرين فانقادوا لها، وأدخلوها فى المحيط الدينى، فأفسدت كثيرا من القضايا .. ومن تفسيره: قال تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها، وَالْجِبالَ أَرْساها، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ. (سورة النازعات: 27، 28، 29، 30، 31، 32، 33) أأنتم أشدّ خلقا: عود إلى خطاب أولئك المكذبين المغرورين لتقريعهم وتسفيه أحلامهم، فى استبعاد ما يوعدون به من البعث وما يتبعه، أو استبطاء أخذ الله لهم فى هذه الدنيا مع أنه هو الذى انشاهم وخلقهم أول مرة فإن كانوا

قد غفلوا عن أنه هو خالقهم فلينظروا إلى السماء وإلى الأرض، فيعلموا أن من خلقهما وأنشأهما لا يصعب عليه خلقهم، ولا يسعهم إنكار أن خالق السماء والأرض هو الله، فكيف ينكرون أنه خالقهم، وأنه القادر على إعادتهم كما بدأهم؟ (أشدّ خلقا) أصعب انشاء .. (بناها) بيان لكيفية خلق السماء، والبناء ضم الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض مع ربطها بما يمسكها حتى يكون عنها بينة واحدة، وهكذا صنع الله بالكواكب وضع كل منها على نسبة من الآخر مع ما يمسك كلا فى مداره حتى كان منها عالم واحد فى النظر سمى باسم واحد وهو السماء التى تعلونا، وهى معنى قوله: (رفع سمكها فسوّاها) والسمك قامة كل شىء، فقد رفع اجرامها فوق رءوسنا. (فسوّاها) عدلها بوضع كل جرم فى موضعه (أغطش الليل) أظلمه، وغطش الليل أظلم ونسبة الليل إلى السماء لأنه يكون بعقيب كواكبها (ضحاها) نورها وضوء شمسها، قال تعالى والشمس وضحاها أى ضوؤها، وتعاقب الليل والنهار واختلاف الفصول التابع لحركة بعض السيارات يهيئ الأرض للسكنى، وهو معنى قوله (والأرض بعد ذلك) تسوية السماء على الوجه السابق وابراز الأضواء (دحاها) أى مهدها وجعلها قابلة للسكنى، وذلك بأن (أخرج منها ماءها) بتفجير الينابيع والعيون والأنهار، (ومرعاها) أى رعيها، وهو النبات الذى يأكل منه الناس والدواب، وتثبيت الجبال وجعلها مانعة من اضطراب الأرض من تتمة التمهيد واعداد الأرض لسكنى الأحياء، وهو متأخر عن الاستعداد الأول لا نبات النبات وإن كان برور الجبال سابقا على ذلك، وقد جعل الله ذلك كله ليتمتع به الناس والأنعام أفلا يكون صانع ذلك كله هو صانعكم؟ أفلا يكون خالقكم وواهبكم ما به تحبون ورافع السماء فوقكم وممهد الأرض تحتكم، قادرا على بعثكم، وهل يليق به أن يترككم سدى بعد أن دبركم هذا التدبير، ووفر لكم هذا الخير الكثير؟

الأستاذ رشيد رضا وتفسيره

الأستاذ رشيد رضا وتفسيره أحد رجال الاصلاح الاسلامى: محمد رشيد بن على رضا بن محمد شمس الدين القلمونى المنشأ البغدادى الاصل الحسينى النسب، من الكتاب العلماء بالحديث والادب والتاريخ والتفسير، وهو صاحب مجلة المنار المشهورة التى كانت منارا للفكر والاصلاح الاجتماعى فى العصر الحديث. نشأ صاحبنا وترعرع فى بلدة القلمون- من أعمال طرابلس الشام- ودرج فيها طالبا للعلم ساعيا فى تحصيله فيها وفى مدينة طرابلس وجاشت عاطفته فى صباه بالشعر وظهرت كتاباته فى الصحف والمجلات فلمع نجمه وعرف من بين الكتاب. وكانت مصر كنانة الله فى أرضه منارا خاصا بأشهر العلماء ومنهم الإمام الأستاذ محمد عبده وطبقته من العلماء المشهورين فى ذلك الوقت حتى إذا كان العام الخامس عشر بعد الألف والثلاثمائة للهجرة رحل الشيخ محمد رشيد رضا إليها واتصل بعلمائها وتتلمذ على الشيخ محمد عبده الذى كان ثورة كبيرة بعلمه وآرائه الخلاقة فى الاصلاح والاجتماع، ثم أصدر المجلة المشهورة التى عرفت بالمنار وذلك لبث آرائه فى الاصلاح الدينى والاجتماعى وأصبح الشيخ مرجع الفتيا فى التأليف بين الشريعة الاسلامية الغراء والأوضاع العصرية المتجددة. وعند ما أعلن الدستور العثمانى سنة 1326 زار الشيخ بلاد الشام لتسير آراءه وابداء وجهة النظر الاسلامية فى كثير من المسائل الهامة، وقد اعترضه- وهو على منبر الجامع الأموى بدمشق- أحد أعداء الاصلاح فكادت تكون فتنة كبيرة لولا حكمة الشيخ الذى عاد فى ذلك الوقت إلى مصر.

مؤلفاته وآثاره

وفى مصر نشطت حركته فأنشأ (مدرسة الدعوة والارشاد) وأمدها بروحه القوية وكرس جهوده لخدمتها، ثم قصد سورية فى أيام الملك فيصل بن الحسين وانتخب رئيسا للمؤتمر السورى فيها ثم غادرها على أثر دخول الفرنسيين إليها سنة 1920 فأقام فى مصر مدة رحل بعدها إلى الهند والحجاز واروبا وعاد فاستقر بمصر إلى أن توفى فجأة فى سيارة كان راجعا فيها من السويس إلى القاهرة ودفن بالقاهرة عام أربع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة النبوية. مؤلفاته وآثاره :- لقد غصت المكتبة العربية بمؤلفات الشيخ رشيد رضا الكثيرة ومن أشهرها: مجلة «المنار» وقد أصدر منها 34 مجلدا. تفسير القرآن- فى 12 مجلدا. تاريخ الاستاذ الامام الشيخ عبده فى ثلاثة أجزاء. نداء للجنس اللطيف. الوحى المحمدى. يسر الاسلام وأصول التشريع العام. الخلافة . الوهابيين والحجاز. محاورات المصلح والمقلد. ذكرى المولد النبوى شبهات النصارى وحجج الاسلام.

منهجه فى تفسيره

هذا وقد ألف الامير شكيب أرسلان كتابا فى سيرة الشيخ محمد رشيد رضا سماه «السيد رشيد رضا، أو أخا أربعين سنة» منهجه فى تفسيره : للشيخ رشيد رضا منهج واضح فى تفسيره غايته فهم القرآن ومعرفة اهدافه وأغراضه والانتفاع بها كما اراد الله لهذه الامة حتى تكون خير امة اخرجت للناس وعلى ذلك فالذين يفيدون من القرآن فقها وعلما طائفة خاصة من الناس هم من يقول عنهم صاحب المنار: «إنما يفهم القرآن ويتفقه فيه من كان نصب عينه ووجهه قلبه فى تلاوته فى الصلاة وفى غير الصلاة ما بينه الله تعالى فيه من موضوع تنزيله وفائدة ترتيله وحكمة تدبره من علم ونور، وهدى ورحمة وموعظة وعبرة وخشوع وخشية وسنن فى العالم مطردة، فتلك غاية انذاره وتبشيره ويلزمها عقلا وفطرة تقوى الله تعالى بترك ما نهى عنه، وفعل ما أمر به بقدر الاستطاعة، فإنه كما قال: (هدى للمتقين). ثم ينعى الشيخ رشيد رضا على المسلمين حظهم بسبب ما اشتملت عليه كثير من التفاسير مما ابعدها عن مقاصد القرآن أساسا فيقول: «كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كتب فى التفسير يشغل قارئه عن مقاصد القرآن العالية، والهداية السامية، فمنها ما يشغله عن القرآن به لبحث الاعراب وقواعد النحو ونكت المعانى ومصطلحات البيان، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتظلمين، وتخريجات الاصوليين واشتباكات الفقهاء المقلدين وتأويلات المتصوفين وتعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات، وما مزجت به من خرافات الاسرائيليات ... نعم ان أكثر ما ذكر من وسائل فهم القرآن، فنون العربية لا بدّ منها واصطلاحات الاصول وقواعده الخاصة بالقرآن ضرورية أيضا كقواعد النحو

والمعانى، وكذلك معرفة الكون وسنن الله تعالى فيه كل ذلك يعين على فهم القرآن. ثم يقول- مبينا ما وقع فيه غيره من المفسرين عن خرافات واضاليل اجتنبها هو فى تفسيره. وأما الروايات المأثورة عن النبى صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء التابعين فى التفسير، فمنها ما هو ضرورى أيضا، لأن ما صح من المرفوع لا يقدم عليه شىء، ويليه ما صح عن علماء الصحابة فيما يتعلق بالمعانى اللغوية أو عمل عصرهم، والصحيح من هذا وذاك قليل، واكثر التفسير المأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب كما قال الحافظ ابن كثير وجل ذلك فى قصص الرسل مع اقوامهم، وما يتعلق بكتبهم ومعجزاتهم، وفى تاريخ غيرهم كأصحاب الكهف ومدينة أرم ذات العماد وسحر بابل ... وفى أمور الغيب من اشراط الساعة وقيامتها وما يكون فيها وبعدها، وجل ذلك خرافات ومفتريات صدقهم فيها الرواة .. وكان الواجب جمع الروايات المفيدة فى كتب مستقلة كبعض كتب الحديث وبيان قيمة اسانيدها، ثم يذكر فى التفسير ما يصح منها بدون سند كما يذكر الحديث فى كتب الفقه لكن يعزى إلى تخرجه كما نفعل ثم يقول: وغرضنا من هذا كله أن أكثر ما روى فى التفسير حجاب على القرآن وشاغل لنا فيه عن مقاصده العالية المزكية للانفس المنورة للعقول، الفضول للتفسير المأثور لهم شاغل عن مقاصد القرآن بكثرة الروايات التى لا قيمة لها اسنادا ولا موضوعا، كما أن المفضلين لسائر التفاسير لهم صوارف أخرى كما تقدم. فكانت الحاجة شديدة إلى تفسير تتوجه العناية الأولى فيه إلى هداية القرآن على الوجه الذى يتفق مع الآيات الكريمة المنزلة فى وصفه، وما أنزل لا جله من الانذار والتبشير والهداية والاصلاح ... ثم العناية إلى مقتضى حال هذا

نموذج من تفسيره

العصر فى سهولة التعبير، ومراعاة اقبال صنوف القارئين، وكشف شبهات المشتغلين بالفلسفة والعلوم الطبيعية وغيرها إلى غير ذلك مما تراه قريبا هو ما يسره الله بفضله لهذا العاجز ... والناظر فى تفسير الشيخ رشيد رضا يجد فيه روح الشيخ الإمام محمد عبده وكلامه وآراءه ووقفاته الكريمة لفهم كتاب الله الحكيم. رحم الله الشيخ رشيد رضا واستاذه الامام محمد عبده وجزاهما عن المسلمين خير الجزاء. نموذج من تفسيره قال فى قوله: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (سورة البقرة: 5) هاهنا إشارتان، والمشار إليه عند الجمهور واحد وهو ما فى الآيتين السابقتين الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ (سورة البقرة: 3) والذين يؤمنون بما انزل (إليك)، من غير أهل الكتاب والمؤمنين منهم، وكرر الاشارة للاعلام بأنه لا بدّ عن تحقيق الوصفين لتحقق الحكم بأنهم على هدى وأنهم هم المفلحون، كما قال بعضهم وهو تكلف ظاهر وكذا قولهم: ان تنكير «هدى» هنا للتعظيم، وشيخنا قد جعل الاشارتين لنوعى المؤمنين المذكورين فى الآية السابقة بأسلوب اللف والنشر المرتب. قال: ان الاشارة الأولى أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فى هذه الآية للفرقة الولى: وهم الذين ينتظرون الحق لانهم على شىء منه- كما يدل عليه تنكير «هدى» الدال على النوع، وينتظرون بيانا من الله تعالى ليأخذوا به

وكذلك تقبلوه عند ما جاءهم، فقد أشعر الله قلوبهم الهداية بما آمنوا به من الغيب، وأقاموا الصلاة بالمعنى الذى سبق وانفقوا مما رزقهم الله. وأما الفرقة الثانية: وهم المؤمنون بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم فعلى هدى تشترك فيه تلك الفرقة الاولى لكن على وجه أكمل .. لأنها مؤمنة بالقرآن وعاملة به. وقوله «على هدى» تعبير يفيد التمكن من الشيء كمتمكن المستقر عليه كقولهم: ركب هواه، ولقد كان افراد تلك الفرقة (أي الأولى) على بصيرة وتمكن من نوع الهدى الذى كانوا عليه، فان كان هذا غير كاف لإسعادهم وفلاحهم فهو كاف لا عدادهم وتأهيلهم لهما بالايمان التفصيلى المنزل ولذلك قبلوه عند ما بلغتهم دعوته. والى الفرقة الثانية وقعت الاشارة الثانية وأولئك هم المفلحون كما هو ظاهر، وهم المفلحون بالفعل لاتصافهم بالايمان الكامل بالقرآن، وبما تقدمه من الكتب السماوية واليقين بالآخرة- لا مطلق الايمان بالغيب اجمالا .. ويرشد إلى التغاير بين مرجع الاشارتين ترك ضمير الفصل «هم» فى الأولى وذكره فى الثانية ولو كان المشار إليه واحدا لذكر الفعل فى الأولى لأن المؤمنين بالقرآن هم الذين على الهدى الصحيح التام فهو خاص بهم دون سواهم لكنه اكتفى عن التنصيص على تمكنهم من الهدى بحصر الفلاح فيهم. ومادة الفلح تفيد فى الأصل معنى الشق والقطع .. ويطلق الفلاح والفلح على الفوز بالمطلوب، ولكن لا يقال: افلح الرجل إذا فاز بمرغوبة عفوا من غير تعب ولا معاناة، بل لا بد فى تحقيق المعنى اللغوى لهذه المادة من السعى إلى الرغبة والاجتهاد لإدراكها، فهؤلاء ما كانوا مفلحين إلا بالإيمان بما أنزل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله، واتباع هذا الايمان بامتثال الأوامر واجتناب النواهى التى نيط بها الوعد والوعيد فيما انزل إليه صلّى الله عليه وسلم مع اليقين بالجزاء على جميع ذلك فى الآخرة ويدخل فى هذا كله ترك الكذب والزور وتزكية النفس من سائر الرذائل كالشر، والطمع والجبن والهلع والبخل والجود والقسوة وما

ينشأ عن هذه الصفات من الافعال الذميمة، وارتكاب الفواحش والمنكرات والانغماس فى شرور اللذات، كما يدخل فيه الفضائل التى هى اصدار هذه الرذائل المتروكة، وجميع ما سماه القرآن عملا صالحا من العبادات وحسن المعاملة مع الناس، والسعى فى توفير منافعهم العامة والخاصة مع التزام العدل والوقوف عند ما حده الشرع القويم والاستقامة على صراطه المستقيم. وجملة القول: أن الإيمان الذى أنزل إلى النبى صلّى الله عليه وسلم هو الايمان بالدين الاسلامى جملة وتفصيلا فما علم من ذلك بالضرورة ولم يخالف فيه مخالف يعتد به فلا يسع أحدا جهله، فالإيمان به إيمان والاسلام لله به اسلام، وإنكاره خروج من الاسلام، وهو الذى يجب أن يكون معقد الارتباط الاسلامى وواسطة الوحدة الاسلامية وما كان دون ذلك فى الثبوت ودرجة العلم فموكول إلى اجتهاد المجتهدين، ولا يصح أن يكون شىء من ذلك مثار اختلاف فى الدين. زاد الاستاذ هنا بخطه عند قولنا «اجتهاد المجتهدين» ما نصه أو ذوق العارفين، أو ثقة الناقلين بما نقلوا عنه ليكون معتمدهم فيما يعتقدون بعد التحرى والتمحيص، وليس لهؤلاء أن يلزموا غيرهم ما ثبت عندهم، فإن ثقة الناقل بمن ينقل عنه حالة خاصة به لا يمكن لغيره أن يعشر بها حتى يكون له مع المنقول عنه فى الحال مثل ما للناقل معه فلا بد أن يكون عارفا بأحواله واخلاقه ودخائل نفسه ونحو ذلك عما يطول شرحه، وتحصل الثقة للنفس بما يقول القائل: وأقول: معنى هذا أن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها ولا تكون حجة على غيره يلزمه العمل بها- ولذلك لم يكن الصحابة رضى الله عنهم يكتبون جميع ما سمعوا من الاحاديث ويدعون إليها مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به، وبالسنة العلمية المتبعة المبينة له إلا

قليلا من بيان السنة كصحيفة على كرم الله وجهه المشتملة على بعض الاحكام كالدية وفكاك الاسير وتحريم المدينة كمكة. ولم يرض الامام مالك من الخليفتين: المنصور والرشيد أن حملا الناس على العمل بكتبه حتى- «الموطأ» وانما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة، وعلى من وثق برواية أحد وفهمه لشىء منها أن يأخذه عنه، ولكن لا يجعل ذلك تشريعا عاما، وأما ذوق العارفين فلا يدخل شىء منه فى الدين، ولا يعد حجة شرعية بالاجماع إلا ما كان من استفتاء القلب فى الشبهات والاحتياط فى تعارض البيانات.

تفسير ابن باديس

تفسير ابن باديس وابن باديس هو عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكى بن باديس، ولد فى أسرة صنهاجية من اعرق الاسر فى العلم والنسب، ومكانة الاسرة فى العلم يصف جانبا منها ابن خلدون حينما يقول: انه اجتمع اربعون عمامة من أسرة باديس فى وقت واحد فى التدريس والافتاء والوظائف الدينية. وهذا العدد فى أسرة واحدة فى وقت واحد دليل كاف على صلتها الوثيقة بالعلم والاسرة تنحدر عن الصنهاجيين الذين كانوا ملوكا وحكاما، وكان من انبهم المعز بن باديس. ولد ابن باديس فى سنة 1308 هـ 1889 م ميلادية وأخذ منذ الطفولة فى التعليم بحفظ القرآن الكريم كما ألف الوسط الذى يعيش فيه من بدئهم بحفظ القرآن الكريم، ثم أخذ يتزود من علوم العربية وعلوم الاسلام. ثم شد الرحال الى جامع الزيتونة بتونس الذى كان مزدهرا بالعلم والعلماء، ارتحل الى الزيتونة وهو كبير السن وقد تزود بقسط وافر من العلوم، وانتهت دراسته بها سنة 1912 ثم سافر الى الحج والزيارة، وهناك التقى ببعض الجزائريين النابهين، منهم الشيخ البشير الابراهيمى، واخذوا يتدارسون الوضع السياسى فى الجزائر والاحتلال الفرنسى الجاثم على صدرها، يدبر الامر فى عنف لجعلها فرنسية لغة وثقافة، واتفقوا على أن النهضات المستقرة الناجحة انما تقوم على اساس من الايمان الوثيق، وبدون الايمان لا تنجح نهضة فى الشرق الاسلامى ولا تستقر.

ومن هنا كان السر فى انشاء «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين» سنة 1931 م وكانت سن ابن باديس اذ ذاك 42 عاما. وكان ابن باديس حلقة فى سلسلة معينة من التيار الفكرى الذى ينتسب اليه كثير من الذين يتجهون الى الاصلاح على نهج جمال الدين الافغانى. وفى ذلك يقول الشيخ البشير الابراهيمى رحمه الله: «ان هذه النهضة المباركة المنتشرة اليوم فى الاقطار الاسلامية بشير خير، بقرب رجوع المسلمين الى هذه الهداية، لان هذه النهضة بنيت اصولها على الدعوة الى كتاب الله وتفهمه والعمل به» وقد كان من بواكير ثمار هذه النهضة فى باب التأليف: تفسير الامام النقاد: «محمود الآلوسي» على ما فيه من تشدد فى المذهبية. وتفسير الامير «صديق حسن خان». ثم جاء إمام النهضة بلا منازع، وفارس الحلبة بلا مدافع الاستاذ الامام «محمد عبده» فجلا بدرسه فى تفسير كتاب الله عن حقائقه التى حام حولها من سبقه ولم يقع عليها وكانت تلك الدروس آية على أن القرآن لا يفسر الا بلسانين: «لسان العرب، ولسان الزمان». وبه وبشيخه «جمال الدين» استحكمت هذه النهضة واستمر مريرها. ثم جاء الشيخ «محمد رشيد رضا» جاريا على ذلك النهج الذى نهجه محمد عبده فى تفسير القرآن، كما جاء شارحا لآرائه وحكمته وفلسفته فى الدين والاخلاق والاجتماع. ثم جاء اخونا وصديقنا الاستاذ الشيخ «عبد الحميد بن باديس» قائد تلك النهضة بالجزائر، بتفسيره لكلام الله على تلك الطريقة وهو ممن لا يقصر عمن ذكرناهم فى استكمال وسائلها من ملكة بيانية راسخة، وسعة اطلاع

على السنة وتفقه فيها وغوص على اسرارها، واحاطة وباع مديد فى علم الاجتماع البشرى وعوارضه، والمام بمنتجات العقول ومستحدثات الاختراع ... ومستجدات العمران، يمد ذلك قوة خطابية قليلة النظير، وقلم كاتب لا تفل له شباة. ولقد مكث ابن باديس يدرس تفسير القرآن الكريم فى مدى خمسة وعشرين عاما دون فتور أو انقطاع، وحينما اتمه كان يوم عيد فى الجزائر وعن ذلك يقول الشيخ البشير «بارك الله فى عمر الاستاذ فأتم تفسير كتاب الله ببيانه المشرق فى خمس وعشرين عاما، من غير ان تختل اعماله العلمية الكثيرة، ولا أعماله المستغرقة لدقائقه فى سبيل النهضة. وعرفت الامة الجزائرية قيمة ما اتم الله على يد الاستاذ فاحتفلت بهذا الختم كأعظم ما تحتفل أمة ناهضة باثر ناجح من جهودها. وكان من الاحسان فى هذا العمل العظيم ومن الاحسان للنهضة أن تسجل من هذا الاحتفال صورة منبهة على حقيقته فصدر عدد من (الشباب) وهو لسان حال هذه النهضة- خاصا بهذه المنقبة، مخلدا لهذا الاثر، مسجلا لبعض أوصافه وما قيل فيه. ونحن بمالنا من الصلة الوثيقة بهذه النهضة، ومن العمل النزر فيها نغتبط بهذه الخطوة السديدة، وهذه المرحلة الجديدة، التى تمت بختم التفسير. وعن ابن باديس يقول الدكتور: محمد البهى: «والامام عبد الحميد بن باديس» رئيس جمعية العلماء بالجزائر، وباعث النهضة الاسلامية العربية فيها، وفائد الثورة ضد الاستعمار الفرنسى فى هذه البلاد العزيزة، واحد العلماء المصلحين المفكرين الرواد فى الوطن الاسلامى والعربى، وهم- مع الاسف- لم يكونوا كثرة فى العدد وان كانوا قوة فى الاثر».

ودخل بن باديس فى صراع لا هوادة فيه مع الاستعمار والمستعمرين، ومن طريف ما يرويه فى ذلك قوله: «اذكر اننى- ابن باديس- لما زرت المدينة المنورة، واتصلت فيها بشيخى الاستاذ أحمد الونيسى، وشيخى أحمد الهندى، أشار على الاول بالهجرة الى المدينة، وقطع كل علاقة لى بالوطن وأشار على الثانى، وكان عالما حكيما بالعودة الى الوطن وخدمة الاسلام والعربية فيه بقدر الجهد فحقق الله رأى الشيخ الثانى ورجعنا الى الوطن بقصد خدمته، فنحن لا نهاجر، نحن حراس الاسلام والعربية والقومية فى هذا الوطن.

تفسير جزء تبارك للشيخ عبد القادر المغربى

تفسير جزء تبارك للشيخ عبد القادر المغربى من فضلاء العلماء فى هذا القرن: الشيخ عبد القادر المغربى الأديب العالم المتضلع من علوم اللغة ومعارف الدين. كان له نشاط مشكور فى الحركة العلمية والادبية فى عصره، اذ ضم الى حسن المحاضرة- وفرة المعلومات، وغزارة الافكار، ودقة الفهم، وعمق التحرى فيما يتحدث عنه. وقد تولى عضوية المجلس العلمى بدمشق، والمجمع اللغوى بمصر، وظل يتنقل بين القطرين مع امتداد رحلته الى غيرهما من الأقطار. وكان له معرفة بفضلاء عصره، يسمعهم ويستفيد منهم، ويقدم لهم ما عنده من العلم ويفيدهم وهو فى كل ذلك لا يهدأ عن الحركة، ولا يتوقف عن العمل. ومن روائع كتبه، فضلا عن هذا التفسير، كتابه عن جمال الدين الافغانى الذى اشتمل على ذكريات نادرة محببة، فيها كشف لجوانب طيبة ممتعه عن جمال الدين، كما كان له آراء جيدة،- ومواقف علمية سديدة فيما يتصل بمباحث اللغة ومشكلاتها. أما عن تفسيره لجزء تبارك، فقد كان له أسباب بعثت عليه، وأمور وجهت نحوه، ويتحدث هو عن ذلك فى مقدمة تفسيره، فيقول: أما بعد: فان جزءي «عم» و «تبارك» من أكثر الاجزاء شيوعا بين طلاب المدارس، وتداولا بين عامة المسلمين، وأيدى صغارهم، وآياتهما أشد علوقا بالنفس، وترديدا فى الافواه، من سائر آيات الكتاب، فمن ثم

كانا جديرين بأن يفسر كل منهما تفسيرا حسن الوضع، صحيح الاسلوب، يقرب من أذهان العامة ولا تتجافى عنه عقول الخاصة فيقتصر فيه من القول على ما يكشف الغموض عن الآيات من جهة اللغة والاعراب، ثم يشرح فيه المعنى المتبادر شرحا وسطا مجردا عن التنطع بالمشاغبات وايراد الخلافات والخرافات. وقد وضع مولانا الاستاذ الشيخ محمد عبده رحمه الله تفسيرا لجزء «عم توخى فيه هذا النمط والاسلوب، فجاء من خير الكتب وفاء بالغرض، واصابة لمواضع الحاجة، فلا غرو اذا تناولته الالسنة بالثناء وتلقته القلوب بالقبول. وقد رغب الى بعض الفضلاء فى أثناء اقامتى بمصر بين سنتى 1323، 1327 هـ (1905 - 1908 م) أن أضع تفسيرا الجزء «تبارك» أتوخى فيه طريقة استاذنا الجليل فيما علقه على جزء «عم» من جهتى الصحة فى التعبير، والاقتصار على المفيد من القول، فقلت له: بلغنى أن الاستاذ رحمه الله قد فسر جزء «تبارك» وهو ما زال فى تساويد مبعثرة محفوظة عند صديقة المرحوم «حسن باشا عاصم». وبعد البحث عن تلك التساويد، علمنا أن الاستاذ لم يشرع فى تفسير جزء «تبارك» بالفعل وإنما كان هيأ صحائف بيضاء رقم فى رءوسها آيات ذلك الجزء، وتركها غفلا من الكتابة على أمل أن- يصطحبها معه فى بعض اسفاره، ويملأها تفسيرا وتعليقا، كما كان من أمره فى تفسير وتعليقا، كما كان من أمره فى تفسير جزء «عم» الذى ألفه فى غضون سفره الى البلاد المغربية، لكنه اخترمته منيته قبل أن تتحقق أمنيته. ثم كان ذلك الصديق الفاضل كلما زارنى أو صادفنى سألنى عن التفسير وألحّ على بالشروع فيه، فكنت أعتذر اليه بنقص الكفاية، وصعوبة الامر، وفقد الاداة اللازمة لسلوك هذا الطريق الوعر، ولا سيما أن تفسيرى لجزء «تبارك» لا ينظر اليه الناظرون لذاته، من حيث نسبته الى صاحبه، وانما تنعمد فيه

الموازنة بينه وبين ما كتبه الاستاذ على جزء «عم» فيحط قدره فى عيون القراء، وينسخ ظلامه بالضياء وبضدها تتميز الاشياء. ثم ضرب الدهر ضربا، فكان من أمره أن نزلت دمشق أول سنى الحرب الاولى نزولا حسبته لما ما، فاذا هو قد استتلى شهورا وأعواما، فتجددت لى وأنا فيها دواع حفزتنى لتحقيق الامل. ومباشرة ما كلفت من العمل، فوضعت هذا التفسير مستعينا بحول الله وقوته، وأكملته على مثال تفسير شيخنا وطريقته. بيد أنى رأيت أن أتوسع قليلا فى التعليق والتفسير والاستشهاد والتنظير- ولا سيما فى المباحث اللغوية- بأكثر مما فعله الاستاذ رحمه الله فى تفسير جزء «عم» مراعيا فى ذلك حال قراء جزء «تبارك» ومقدرا فى نفسى أنهم سيكونون أكبر سنا، وأتم استعدادا، وأشد اهتماما بالتحصيل من قراء جزء «عم» وقد قمت فى تفسيرى هذا بفعل ما أطيق وأملك: من تحرى الحق والصواب فيما أولت وفسرت، وبسط العبارة وتهديها فيما أنشأت وحررت وتصحيح النية وجعلها خالصة لوجهة الكريم فيما اخترت ورجحت. وقد وفى الشيخ بما وعد به فى مقدمة تفسيره، ويتضح ذلك بذكر نموذج منه: قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ، وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» (سورة الحاقة: 48، 49، 50، 51، 52) جعل ختام السورة كنتيجة للكلام السابق، مرتبطة به أشد ارتباط، فهو يقول:

اذا ثبت أن القرآن وحى من الله، لم يتقوله محمد صلّى الله عليه وسلم على ربه- كان هذا القرآن تذكرة وعظة ينتفع بها المتقون. فضمير «وانه» يرجع الى القرآن الذى ان لم يتقدم له ذكر صريح، فقد تقدم ما يعينه ويومئ اليه، فان قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لم يرد به الا القرآن الذى كان يزعم المشركون أنه أقاويل وأساطير، والله نفى ذلك واحتج على كذبهم وصدق القرآن. وقوله «للمتقين» يريد بهم أولئك الذين صفت نفوسهم عن كدورات الاوهام، وخلصت من شوائب الجمود والتقليد، ومالت بفطرتها الى قبول الحق، والاذعان له تنفى بذلك سخط خالقها، وتحذر عقابه، أمثال هؤلاء هم الذين استعدت نفوسهم لقبول القرآن والاستهداء به، أما أولئك المكذبون الجامدون على ما ورثوه من آبائهم، فان الله توعدهم بقوله: وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وليس المراد به افادة أنه تعالى يعلم بالمكذبين فقط، بل المراد أنه تعالى محيط بهم، راصد لهم، غير تارك عقابهم، فاستعمال العلم بهذا المعنى كاستعمال المعرفة، يقال: «أنا أعرف المحسن منكم والمسيء «أى لا يخفى على ذلك منكم ولا أغفل عن مقابلة كل بما يستحقه، ومنه قول ابن الفارض: «روحى فداك عرفت أم لم تعرف» أى كافيتني بالحسنى أم لم تكافنى. فهؤلاء المكذبون الذين يعلم الله، وهو من ورائهم، كيف يكون حالهم فى مستقبل الايام فى الدنيا، اذا أظهر الله نبيه، ونصر حزبه، وفى الآخرة اذا أزيح الستار وبطلت الاعذار؟ لا جرم أن تكذيبهم سيكون عليهم حسرة، وهذا معنى قوله تعالى: «وانه لحسرة على الكافرين» فضمير «انه» يرجع الى التكذيب المفهوم

من قوله «المكذبين» ومراده «بالكافرين» نفس المكذبين المذكورين قبله، وكان الظاهر الاضمار، أى أن يقول «وانه لحسرة عليهم» لكنه أتى بالاسم الظاهر ليتناول به وصفا جديدا لهؤلاء المكذبين وهو كونهم كافرين ويحتمل أن يرجع ضمير «وانه» الى القرآن أى القرآن سيكون حسرة على المكذبين فى الدنيا اذا ظهرت تعاليمه وانتشر فى الخافقين نوره، أو فى الآخرة اذا رأوا نجاة المصدقين به، المتمسكين بحبله، وعود ضمير «وانه لحسرة» على القرآن أنسب، وبذلك ينتظم شمله مع ضمير «وانه لتذكره» الذى قبله وضمير، «وانه لحق اليقين» الذى بعده فانهما للقرآن. ومعنى «وانه لحق اليقين» ان القرآن هو اليقين، أى الحق الثابت الذى لا شبهه فيه ولا ريب، والجملة من مقوله تعالى، يثبت بمضمونها قلب نبيه صلّى الله عليه وسلم، فلا يلين فى الدعوة ولا يضعف عزمه لتكذيب أولئك المكذبين ورميهم له بمختلف التهم وملفق الدعاوى. ومعنى «فسبح باسم ربك العظيم» اذا كان من عاقبة المكذبين ما ستعلمه يا محمد وسيعلمونه هم، وكان القرآن وحيا من الله يقينا لم يبق الا ثباتك فى أمرك ومضيك فى ما ندبت له من تبليغ رسالتك، واستعن على مهمتك هذه بتسبيح ربك، والشكر له، على أن اختصك بكرامة النبوة، وعلو المرتبة، فهو ربك الذى أحاطك بعنايته، والعظيم الذى يصغر كل شىء اذا قيس بعظمته، وهو تعالى وحده الذى يجب أن تسبحه وتشكر له، وترجوه وتخافه، ودع عنك أولئك المكذبين جانبا».

التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور

التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور والشيخ المفسر توفى منذ عامين تقريبا، وهو من بيت عريق فى العلم والنسب فى ضواحى تونس العاصمة. تعلم فى ضاحيته التى نشأ فيها القرآن حفظا وتجويدا وقراءات، وتعلم شيئا من العربية ثم التحق بالزيتونة، والزيتونة تنافس الازهر فيما مر بها من قرون، وهى مسجد من المساجد العتيقة التى نشرت العلم على نطاق واسع، والتى علت فيها كلمة الله فى مختلف العصور. التحق الشيخ محمد الطاهر بالزيتونة فى أوائل هذا القرن الهجرى، ونبغ فى العلوم الاسلامية على مختلف الوانها، واستمر حتى انتهى من الدراسة فى ارقى مستوياتها وتخرج من الزيتونة ليعمل فى مختلف المناصب الدينية. ولم يكن عمله فى هذه المناصب عن حاجة مادية، وإنما كان عمله رسالة آمن بها، وقد أسس نفسه لها تأسيسا اصيلا، وساعده على ذلك هذه المكتبة الضخمة التى تضم نوادر المخطوطات ونفائس المطبوعات، فى مختلف الفنون الاسلامية، وكانت ميراث اجيال من ذوى العلم فى أسرته وهى من المكتبات المشهورة فى العالم. وقد أسهم الشيخ رحمه الله اسهاما فعالا فى الحركة الوطنية بتونس، وكان زميلا من زملاء الجهاد مع الشيخ الأكبر محمد الخضر حسين التونسى الذى تولى مشيخة الأزهر بمصر .. كلاهما كان عالما ممتازا، وعلى ايمان قوى، ودخلا السجن، ونالا من المتاعب فى سبيل وطنهما ودينهما الكثير ..

ولم تكن هذه المتاعب من المستعمر فحسب، وانما كانت أيضا من الذين يصطنعهم المستعمر والذين يوجدون فى كل قطر من ذوى النفوس الخسيسة، ولكن الله كان معهما، فقد هيأ سبحانه للشيخ الخضر مشيخة الاسلام فى مصر، وهيأ للشيخ الطاهر مشيخة الاسلام فى تونس وكان قد تولى قبلها القضاء ثم تولى الافتاء. ولكن الشيخ الطاهر اضطرته الظروف للالتحام فى معركة من معارك الرأى الاسلامى فى تونس مع ذوى الرئاسة اذ ذاك:- لقد انتصر لدينه قوة، وانتصر فى أمر هو من أصول الدين ومن بدهياته وأعلن الشيخ رأى الدين فى صراحة، وفى وضوح، وفى قوة، لم يدار، ولم يداهن ولم يتملق. فلما رأى الحاكمون أنه لم تجد معه الرهبة، ولم تفد معه الرغبة، أصبح أهل تونس يرون فى الصحف أنه أخرج من مشيخة الاسلام. وكان هذا أقل ما يتوقع بالنسبة له .. فالتزم بيته يدرس ويكتب، ويستمتع بالنفائس التى تضمها مكتبة الأسرة، وكان يفكر منذ زمن بعيد أن يكتب تفسيرا، وفى ذلك يقول:- كان أكبر امنيتى منذ أمد بعيد تفسير الكتاب المجيد، الجامع لصالح الدنيا والدين .. ويقول:- ولكنى كنت على كلفى بذلك اتجهم التقحم على هذا المجال، واحجم عن الزج فى هذا النضال، اتقاء ما عسى أن يعرض له المرء نفسه من متاعب تنوء بالقوة وفلتات سهام الفهم وأن بلغ ساعد الذهن كمال الفتوة، فبقيت اسوف النفس مرة ومرة، اسومها زجرا، فان رأيت منها تصميما احلتها على فرصة أخرى، وأنا آمل ان يمنح من التيسير ما يشجع على قصد هذا الغرض العسير ..

وفيما انا بين اقدام واحجام، أتخيل هذا الحقل مرة القتاد وأخرى الثمام، اذا انا باملى قد خيل الى أنه تباعد أو انقضى، اذ قدر ان تسند الى خطة القضا، فبقيت متلهفا ولات حيت مناص، واضمرت تحقيق هاته الامنية متى اجمل الله الخلاص. وكنت احادث بذلك الاصحاب والاخوان، واضرب المثل بأبى الوليد بن رشد فى كتاب البيان ولم ازل كلما مضت مدة يزداد التمنى وارجو انجازه، الى أن اوشك ان تمضى عليه مدة الحيازة فاذا الله قد من بالنقلة الى خطة الفتيا، وأصبحت الهمة مصروفة الى ما تنصرف اليه الهمم العليا، فتحول الى الرجاء ذلك الياس، وطمعت أن أكون ممن أوتى الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها الناس .. هنالك عقدت العزم على تحقيق ما كنت اضمرته، واستعنت بالله تعالى واستخرته، وعلمت أن ما يهول من توقع كلل أو غلط، لا ينبغى أن يحول بينى وبين نسج هذا النمط، اذا بذلت الوسع من الاجتهاد، وتوخيت طرق الصواب والسداد .. اقدمت على هذا المهم اقدام الشجاع على وادى السباع، متوسطا فى معترك انظار الناظرين .. ويتحدث المؤلف عن التفاسير التى تقدمت تفسيره، فيتحدث عن أخذ بعضها من بعض ويقول: والتفاسير- وأن كانت كثيرة- فانك لا تجد الكثير منها الاعالة على كلام سابق بحيث لاحظ لمؤلفه الا الجمع على تفاوت بين اختصار وتطويل. وان أهم التفاسير تفسير الكشاف، والمحرر الوجيز لابن عطية، ومفاتيح الغيب لفخر الدين الرازى، وتفسير البيضاوى الملخص من الكشاف ومن مفاتيح الغيب بتحقيق بديع وتفسير الشهاب الآلوسي، وما كتبه الطيبى والقزوينى والقطب والتفتازانى على الكشاف وما كتبه الخفاجى على تفسير

البيضاوى، وتفسير ابى السعود، وتفسير القرطبى والموجود من تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسى من تقييد تلميذه الآبي، وهو بكونه تعليقا على تفسير ابن عطية اشبه منه بالتفسير، لذلك لا يأتى على جميع اى القرآن وتفاسير الاحكام، وتفسير الامام محمد بن جرير .. الطبرى وكتاب درة التنزيل، المنسوب لفخر الدين الرازى، وربما ينسب للراغب الاصفهانى .. ويتحدث المؤلف عما يمتاز به تفسيره فيقول: فجعلت حقا على أن أبدى فى تفسير القرآن نكتا لم أر من سبقنى اليها، وأن اقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارة لها، وآونة عليها .. فان الاقتصار على الحديث المعاد، تعطيل لفيض القرآن الذى ماله من نفاد .. لقد رأيت الناس حول كلام الاقدمين أحد رجلين:- رجل معتكف فيما شاده الاقدمون، وآخر أخذ بمعوله فى هدم ما مضت عليه القرون وفى كلتا الحالتين ضرر كثير .. وهنالك حالة أخرى ينجبر بها الجناح الكسير، وهى أن تعمد الى ما أشاده الاقدمون فنهذبه ونزيده، وحاشا ان ننقضه أو نبيده، عالما بأن غض فضلهم كفران للنعمة، وجحد مزايا سلفها من حميد خصال الأمة، فالحمد لله الذى صدق الامل، ويسر الى هذا الخير ودل .. ولقد اهتم فى تفسيره فضلا عن ذلك ببيان وجوه الاعجاز، ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال. واهتم أيضا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض، وهو منزع جليل قد عنى به فخر الدين الرازى، والف فيه برهان الدين البقاعى كتابه المسمى «نظم الدرر» فى تناسب الآي والسور الا أنهما لم ياتيا فى كثير من الآي بما فيه مقنع، فلم تزل انظار المتأملين لفصل القول تتطلع أما البحث عن تناسب مواقع السور بعضها اثر بعض فلا اراه حقا على المفسر.

ولم اغادر سورة الا بينت ما احيط به من اغراضها لئلا يكون الناظر فى تفسير القرآن مقصورا على بيان مفرداته، ومعانى جمله، كأنها فقر متفرقة، تصرفه عن روعة انسجامه، وتحجب عنه روائع جماله .. واهتمت بتبين معانى المفردات فى اللغة العربية بضبط وتحقيق ما خلت عن ضبط كثير من قواميس اللغة. وعسى ان يجد فيه المطالع تحقيق مراده، ويتناول منه فوائد ونكتا على قدر استعداده، فانى بذلت الجهد فى الكشف عن نكت من معانى القرآن واعجازه خلت عنها التفاسير ومن أساليب الاستعمال الفصيح ما تصبو اليه النحارير، بحيث ساوى هذا التفسير على اختصاره مطولات القماطير، ففيه أحسن ما فى التفاسير، وفيه أحسن مما فى التفاسير .. اما اسم التفسير فإنه يقول عنه: وسميته تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد؛ من تفسير الكتاب المجيد. واختصرت هذا الاسم باسم التحرير والتنوير من التفسير. ومن نماذج هذا التفسير ما يلى:- قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (سورة البقرة: 43) امر بالتلبس بشعار الاسلام عقب الامر باعتقاد عقيدة الاسلام، فقوله: (وآمنوا بما أنزلت) الآية راجع الى الايمان بالنبى صلّى الله عليه وسلم، وما هو وسيلة ذلك وما هو غايته .. فالوسيلة: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ- الى- فَارْهَبُونِ والمقصد: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ

والغاية: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وقد تخلف ذلك نهى عن مفاسد تصدهم عن المامورات، مناسبات للاوامر، فقوله (واقيموا الصلاة) الخ ... أمر باعظم القواعد الاسلامية بعد الايمان والنطق بكلمة الاسلام وفيه تعريض بحسن الظن بإجابتهم، وامتثالهم للاوامر السالفة، وانهم كملت لهم الامور المطلوبة .. وفى هذا الامر تعريض بالمنافقين، ذلك أن الايمان عقد قلبى لا يدل عليه الا النطق، والنطق اللسانى امر سهل قد يقتحمه من لم يعتقد اذا لم يكن ذا غلو فى دينه، فلا يتحرج أن ينطق بكلام يخالف الدين، اذا كان غير معتقد مدلوله، كما قال تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا (سورة البقرة: 14) ولذلك امروا بالصلاة والزكاة، لان الاولى عمل يدل على تعظيم الخالق والسجود اليه وخلع الآلهة، ومثل هذا الفعل لا يفعله المشرك لانه يغيظ آلهته بالفعل ويقول: الله اكبر ولا يفعله الكتابى لانه يخالف عبادته، ولان الزكاة انفاق المال وهو عزيز على النفس فلا يبذله المرء فى غير ما ينفعه الا عن اعتقاد نفع أخروى لا سيما اذا كان المال ينفق على العدو فى الدين فلذلك عقب الامر بالايمان بالامر بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة، لانهما لا يتجشمها الا مؤمن صادق، ولذلك جاء فى المنافقين: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى (سورة النساء: 142) وقوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ .. (سورة الماعون: 4، 5) وفى الصحيح أن صلاة العشاء اثقل صلاة على المنافقين .. وقوله وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ تاكيد لمعنى الصلاة، لان لليهود صلاة لا ركوع فيها، فلكى لا يقولوا إننا نقيم صلاتنا دفع هذا التوهم بقوله: واركعوا مع الراكعين ...

الشيخ المراغى وتفسيره

الشيخ المراغى وتفسيره ان المفسر الذى نتحدث عنه ليس هو المرحوم الشيخ أحمد مصطفى المراغى صاحب التفسير الكامل للقرآن الكريم المسمى: «تفسير المراغى». وانما هو الشيخ محمد مصطفى المراغى شيخ الأزهر الأسبق، وقاضى قضاة السودان الأسبق، وقد ولد رحمه الله تعالى بقرية «المراغة» سنة 1298 هـ- وذلك يوافق سنة 1881 م، واخذ يتعلم القرآن وشيئا من العربية فى قريته، ولما استأهل لأن ينتسب الى الازهر سافر الى مصر والتحق بالأزهر. واظهر نبوغا وذكاء وجدا فى التحصيل والدرس ولازم دروس الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده، ونهل من معينه، وهو يعد من مدرسته. ونال شهادة العالمية فى سنة 1904 على حداثة سنه، فلم تكن العادة فى الأزهر أن ينال الانسان العالمية فى سن الخامسة والعشرين، وربما كان اذ ذاك اصغر من نال شهادة العالمية. وفى السنة نفسها عين قاضيا فى السودان فى بلدة «دنقلة» واخذ ينتقل فى مناصب القضاء فى السودان حتى عين قاضى قضاة السودان. وكان الشيخ فى هذا المنصب الذى يعتبر اكبر منصب دينى فى السودان يحتفظ للمنصب بكرامته وللاسلام بعزته. ولقد كان الانجليز اذ ذاك متصرفين فى السودان فى كل كبيرة وصغيرة، وكان مندوبهم الانجليزى اكبر شخصية هناك. وفى يوم من الايام اقيم احتفال دينى، وكانت العادة ان يجلس قاضى القضاة على يمين المعتمد الانجليزى ويتصدر المعتمد الحفل، ولكن الشيخ

المراغى أتى الى الحفل وتصدر المجلس ولم يكن هناك بد من أن يجلس المعتمد على يمينه او ان ينسحب الشيخ الجليل فتحدث ثورة الانجليز فى غنى عنها. وجلس المعتمد البريطانى فى المكان الثانى واحتفظ الشيخ بكرامته كقاضى القضاة وقد ظل الشيخ فى منصب قاضى القضاة حتى سنة 1919 ثم جاء الى مصر وعين فى سنة 1920 رئيسا للمحكمة الشرعية العليا. وجاء حدث فى اثناء تولية رئاسة المحكمة ان قضية ميراث ضخمة عرضت على المحكمة ودرسها الشيخ بما تستحق من عناية ودقة، سهر فيها ليلا، واطال النظر فيها نهارا حتى استبان له الحق من الباطل، والزيف من الصواب، وعلم اهل الباطل اتجاه الشيخ فارادوا عرقلة ذهابه الى المحكمة فرشوه وهو فى طريقه الى المحكمة بماء الناس، وقدر الله ان تكون المسأله خفيفة فاصر الشيخ على الذهاب الى المحكمة معارضا كل ما اراده اصدقاؤه من عدم الذهاب وحكم الشيخ بما رآه الحق. وللشيخ امثال هذا كثير. وفى مايو سنة 1928 عين شيخا للازهر، عين وسنه ثمانية واربعون عاما فكان اصغر شيخ عين شيخا للازهر. وبدأ الشيخ فى قوة يعلن عن مبادئه فى الاصلاح بمذكرة مدوية اثارت الكثير من الجدل والنقاش والمعارضة، واشتد الامر حتى لقد آثر الشيخ ان يدع العمل وبقى قرابة ست سنوات بعيدا عن الازهر حتى عاد إليه مكرما معززا فى سنة 1935 واستمر به حتى وافاه القدر المحتوم فى رمضان سنة 1364 هـ. والتفسير الذى نعنيه هنا ليس تفسيرا متكاملا، وانما هو تفسير السور او لاجزاء من بعض السور، ونشر عدة مرات فى الازهر، وفى أحد اعداد كتاب الهلال. وها هو نموذج من التفسير:

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ، وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً. (الفرقان: 74) قرّة العين: هى السرور والفرح، مصدر من قرت عينك قرة، اى فرحت وسررت، لأن الفرح يجعل العين قارة، او لأن دمعة العين من السرور باردة. والامام: الحجة المقتدى به ووحدت لانها مصدر، ولا تكاد العرب تجمع المصادر ووحد الامام لانه ذهب به مذهب الاسم لا الصفة، واذا ذهب به هذا المذهب وحد، ويكون معناه: حجة، تقول: هم امام- اى حجة، كما تقول: هم بينة، وقال بعضهم: ان الامام جمع آم، كصيام فى جمع صائم. بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأمة جاهلة، على اشد حالة بعث عليها نبى فى فترة، ما يرون دينا افضل من عبادة الاوثان، فجاء بفرقان فرق بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى كان الرجل يرى ولده ووالديه واخاه كافرا وقد فتح الله قلبه للاسلام، وهو يعلم انه ان مات قريب له من هؤلاء دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم ان حبيبه فى النار، لذلك كان المسلمون يطلبون من الله ان يهب لهم من ذرياتهم وزوجاتهم من يطيع الله ويعبده لتقر عينهم بهذا، ومن الطبيعى فى النفوس ان يحب الشخص لذريته واهله ما يحب لنفسه، وان يتمنى الا تكون البيئة التى هو فيها تجعل العيش مريرا، وتذهب بالفكر وتقسمه، فلا يستقيم عيش، ولا تتجه النفس اتجاها كاملا الى الخيرات والعبادات والنفع العام. من صفات عباد الرحمن ان يطلبوا ذرية صالحة مؤمنة وازواجا مؤمنات، ومن صفاتهم ان يطلبوا من الله زوجات عاليات فى التقوى والطاعة يشار اليها: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً

خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (سورة الفرقان: 75 و 76) الغرفة: العلية، وكل بناء عال فهو غرفة، وقد ذكرت الغرفة واحدة والمراد الغرفات، لدلالة الواحدة على الجنس بدليل قوله سبحانه: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (سورة سبأ: 87) وقوله: لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ (سورة الزمر: 20) والمراد بها الدرجات العالية فى الجنة والتحية: الدعاء بالتعمير، والسلام: الدعاء بالسلامة. بين الله سبحانه انه اعد لعباده الموصوفين بالصفات السابقة جميعها جزاء على صالح اعمالهم هو الدرجات العالية فى الجنة، وفيها تتلقاهم الملائكة بالتحية والسلام فيدعون لهم بالتعمير والخلود، ويدعون لهم بالسلامة، هذه الدرجات استحقها هؤلاء بصبرهم على الطاعات وعلى ترك الشهوات، وعلى اذى الكفار ومجاهدتهم، وعلى الفقر والمصائب، وغير ذلك مما يعرض للمؤمن من المكروه، وهذا دليل على ان المؤمنين يستحقون الجنة باعمالهم، وهذا الاستحقاق بوعد الله سبحانه، وهو صاحب الفضل فى وعد عباده بالجنة وبهذا الوعد استحقت الجنة. يقول تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (سورة الحديد: 11) القرض: ما يدفع من المال على شرط رده، واذا وصف الله بالكرم فمعناه احسانه وانعامه الظاهران. واذا وصف الانسان بالكرم فهو اسم للافعال والاخلاق المحمودة التى تظهر عليه، ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه، وكل شىء شرف فى بابه يقال له كريم.

سمى الله سبحانه قرضا ما ينفق فى سبيله وفى وجوه الخير ابتغاء مرضاته. والقرض- كما سبق بيانه- ما يعطى على شرط الرد، ففي ذلك دلالة على انه سيرده الى المنفق، ثم ذكر صراحة انه سيعطيه اجرا كريما وانه سيضاعف هذا الاجر الكريم، ولا يوجد ما هو ابلغ فى الحث على الصدقة والاحسان من هذا التعبير يقول الله سبحانه: هذه يدى بسطتها اريد قرضا سارده وسأجزى عليه لكل كريما مضاعفا، فمن يسمع هذا ولا يبادر الى الاجابة ويتمم عقد القرض مع الله؟ فالجملة مسوقة مساق التمثيل، واثرها ظاهر فى النفس، وهى ابلغ من كل عبارة تقال فى الحث على الصدقة، وقد ذكروا ان يهوديا قال عند نزول هذه الآية: ما استقرض اله محمد حتى افتقر، فلطمه ابو بكر، فشكا اليهودى الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال لأبي بكر: ما اردت بهذا؟ قال: ما ملكت نفسى ان لطمته، ولم يقلها اليهودى الا استهزاء وحمقا وجهلا. وقد ذكروا فى شروط القرض الحسن وجوها: ان يكون حلالا، فان الله طيب لا يقبل الا الطيب، وان لا يكون رديئا وان يعطى للاحوج فالاحوج، وان يكتم الصدقة ولا يتبعها المن والاذى، وان يقصد بها وجه الله دون الرياء، وان لا يستكثرها وان كانت كثيرة، وان تكون من المال المحجوب عنده وان لا يرى لنفسه عزة الغنى ويرى للفقير ذلة الفقر، وان يكون الانفاق فى حال رجاء الحياة وطول الامل. وقد اكثر الله سبحانه فى القرآن من الحث على الصدقات وباساليب مختلفة، وفى سورة البقرة طائفة من الآيات نورد بعضها هنا تتمة لموضوع الصدقة. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا

هُمْ يَحْزَنُونَ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ. وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. (سورة البقرة: 262، 263، 265، 267، 271، 272) ففي هذه الآيات ترغيب فى النفقة، وفيها شروط القرض الحسن التى، مر ذكرها وهناك احاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرغبة فى الصدقة، وكل هذا يدل على روح الاسلام وانه وجه للتعاون والتناصر، تحقيقا للوحدة التى يبتغيها، وتزهيدا فى المال اذا وجدت مصارفه، وبان موضوع الحق فيه. وهذا يدل على قيمة المال، وعلى ان له قدرا عظيما، فإنه وسيلة الى تحصيل الاجر العظيم من الله، ووسيلة الى ان يعقد المؤمن مع الله قروضا،

وهو وسيلة فى اعزاز البلاد واعزاز الدين اذا ما تعرض المسلم للجهاد، فلا يجوز التزهيد فى المال على معنى عدم طلبه وعدم جمعه وانما يكون التزهيد فيه على معنى عدم جمعه وحبه الحب الموجب للادخار وكيف يزهد فى المال مع ان الله وعد منفقه بالاجر العظيم، وبالامن والمسرة حيث قال: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. استمر السلف الصالح يفهمون هذه الآيات ويعملون بها، فصانوا بلادهم وانفسهم وايدوا الوحدة الاسلامية والتضامن بين افراد الامة وقويت الروابط بينهم، فلم يحقد الفقراء على الاغنياء ولم ينظر الاغنياء الى الفقراء نظر المدل الفخور. ثم نسى ذلك وقست القلوب، فظلم الناس فى جمع المال، وظلموا فى ادخاره، ولا سبيل الا بالرجوع الى الله وكتابه، ولا فلاح الا بالايمان والتقوى والانفاق فى سبيل الله.

تفسير الشيخ محمود شلتوت

تفسير الشيخ محمود شلتوت كان الشيخ شلتوت رحمه الله من الشخصيات التى لا تهدأ: كان حركة وبحثا وانتاجا وجدلا هنا وهناك. وكان لا يحب الروتين فى عمله، وكان يتسم دائما بسمة التجديد، والناس حينما يألفون شيئا يعتقدون أنه حقيقة ويستكينون إليه، ويرضون به، فاذا ما انسان خطأ بعض مفاهيمهم، وقلب بعض الأوضاع التى يسيرون عليها، فأنهم لا يسكتون عنه وإنما يشتبكون معه فى جدال ونقاش، قد يكون أحيانا حادا عنيفا، كذلك كان الامر مع الشيخ شلتوت وقد اشتبك فى معارك علمية كثيرة وهاجم ودافع وكان له أنصار وكان له خصوم. ولم تكن حياته بسبب ذلك هادئة رخاء، فقد فصل فى يوم من الأيام من الأزهر لأنه مجدد ومخرج، وثائر على الأوضاع المعروفة، واستمر فصله مدة طويلة، ثم اعيد إلى الازهر من جديد فلم يترك منهجه فى السلوك. وهو أول من اقترح على الاذاعة أحاديث الدين الصباحية، ورأى القائمون على الاذاعة وجاهة الاقتراح فعهدوا إليه بالامر فترة طويلة من الزمن، وكان صوته يجلجل كل صباح متسما بالحيوية القوية، والاسلوب الطيب، والفكرة الجديرة بأن تسمع. واشترك مع غيره من علماء الدين النابهين فى التقديم للقرآن الكريم حينما يتلى فى الاذاعة وكان هذا تجديدا أيضا فى برامج الاذاعة وكان هذا التقديم متتابعا متتاليا يقدم الربع من القرآن الكريم، ثم يقرأ القارئ فيكون المستمع على علم بمضمون ما يسمع من التلاوة. وكان مركز الشيخ شلتوت يقوى ويتركز يوما فيوما حتى وصل به الامر إلى مشيخة الأزهر.

وولد الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الازهر الاسبق فى قرية منية بنى منصور بمحافظة البحيرة سنة 1893 ودرس العلم بمعهد الاسكندرية الدينى .. واستمر فى طريق التعليم مرحلة بعد مرحلة حتى نال شهادة العالمية النظامية سنة 1918. هذا عن تعليمه: أما عن تدرجه فى الاعمال فقد عمل مدرسا بمعهد الاسكندرية، ثم انتقل إلى التدريس بالقسم العالى .. وعمل بعض الفترات بالمحاماة، ثم نال عضوية جماعة كبار العلماء سنة 1942 وتدرج فى مناصب الازهر حتى اختير شيخا للازهر سنة 1958. وكان له نشاط بارز فى البحوث الدينية والمؤتمرات العلمية ومجال التأليف الذى كان أنضج ثمراته تفسير القرآن الكريم. ويمثل تفسير الشيخ شلتوت الدراسة العلمية الموضوعية التى تجعل القرآن اصلا للبحث وأساسا للتشريع، فيجمع إلى الآية التى يقصد تفسيرها ما يناسبها من آيات وما يرتبط بها من موضوعات العلوم، ثم يعالج موضوع الآية معالجة عامة شاملة تبرز موقف القرآن بل الدين عامة من هذا الموضوع. ويمتاز هذا التفسير بوضوح الفكرة وسهولة الاسلوب وجمال التنظيم. وقد اعتبره مؤلفه مظهرا من مظاهر نشاط المسلمين فى خدمة القرآن الكريم وقد تحدث فى مقدمته عن جهود المسلمين فى خدمة القرآن فقال: «لا نكاد نعرف علما من العلوم التى اشتغل بها المسلمون فى تاريخهم الطويل إلا كان الباعث عليه هو خدمة القرآن الكريم من ناحية ذلك العلم: فالنحو الذى يقوم اللسان ويعصمه من الخطأ أريد به خدمة النطق الصحيح للقرآن وعلوم البلاغة التى تبرز خصائص اللغة العربية وجمالها أريد بها بيان نواحى الاعجاز فى القرآن والكشف عن اسراره الادبية وتتبع مفردات

اللغة والتماس شواردها وشواهدها وضبط الفاظها وتحديد معانيها، أريد بها صيانة الفاظ القرآن ومعانيه أن تعدوا عليها عوامل التحريف والغموض. والتجويد، والقراءات لضبط اداء القرآن، وحفظ لهجاته. والتفسير لبيان معانيه والكشف عن مراميه. والفقه لاستنباط احكامه. والأصول لبيان قواعد تشريعه العام وطريقة الاستنباط منه. وعلم الكلام لبيان ما جاء به من العقائد واسلوبه فى الاستدلال عليها. وقل مثل ذلك فى التاريخ الذى يستدل به المسلمون تحقيقا لما أوحى به الكتاب الكريم فى مثل قوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ (يوسف: 3) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ (هود: 120) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (القمر: 4) وقل مثل هذا أيضا فى علوم تقويم البلدان وتخطيط الاقاليم الذى يوحى به مثل قوله تعالى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ (آل عمران: 137) فَامْشُوا فِي مَناكِبِها (الملك: 15) وفى علوم الكائنات التى يوحى بها مثل قوله: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (الانبياء: 30)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (النور: 43) وهكذا علوم الفلك والنجوم والطب، وعلوم الحيوان والنبات وغير ذلك من علوم الانسان لا يخلو علم منها أن يكون الاشتغال به فى نظر من اشتغل به من المسلمين مقصودا به خدمة القرآن، أو تحقيق إيحاء أوحى به القرآن. حتى الشعر انما اشتغلوا به ترقية لأذواقهم، وتربية لملكاتهم، واعدادا لها كى تفهم القرآن وتدرك جمال القرآن. وحتى العروض من أسباب عنايتهم به أنه وسيلة لمعرفة بطلان قول المشركين أن محمدا شاعر وأن ما جاء به شعر. وانتقل الشيخ شلتوت إلى بيان مناهج المفسرين والوان تفسيرهم ومنها ما يغلب عليه بيان نواحى البلاغة والاعجاز. ومنها ما يهتم بالفقه والتشريع وبيان أصول الاحكام .. وهكذا. ثم علق على ذلك بقوله: لهذا كله اعتقد أنى لا أتجاوز حد القصد والاعتدال اذا قلت: أنه لم يظفر كتاب من الكتب سماويا كان أو أرضيا فى آية أمة من الأمم قديمها وحديثها بمثل ما ظفر به القرآن على أيدى المسلمين ومن شارك فى علوم المسلمين .. ولعل هذا يفسر لنا جانبا من الرعاية الالهية لهذا الكتاب الكريم الذى تكفل الله بحفظه وتخليده فى قوله:

«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ». فما كان الحفظ والتخليد بمجرد بقاء الفاظه وكلماته مكتوبة فى المصاحف مقروءة بالألسنة متعبدا بها فى المساجد والمحاريب، وإنما الحفظ والخلود بهذه العظمة التى شغلت الناس وملأت الدنيا، وكانت مثارا لأكبر حركة فكرية اجتماعية عرفها البشر. ولم يقتصر الشيخ شلتوت على عرض الجهود، وكشف مظاهر خدمة المسلمين للقرآن بل نبه إلى أشياء ينبغى تنزيه القرآن عنها، فقال: وإذا كان المسلمون قد تلقوا كتاب الله بهذه العناية، واشتغلوا به على هذا النحو الذى افادت منه العلوم والفنون، فان هناك مع الأسف الشديد ناحيتين كان من الخير أن يظل القرآن بعيدا عنهما، احتفاظا بقدسيته وجلاله، هاتان الناحيتان هما: ناحية استخدام آيات القرآن لتأييد الفرق والخلافات المذهبية. وناحية استنباط العلوم الكونية والمعارف النظرية الحديثة منه. ويهمنا هنا تفصيل الناحية الثانية وتتمثل فيما يرى الشيخ شلتوت فى طائفة المثقفين الذين أخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة ويقيسون آيات القرآن على مقتضاها. ومن الامثلة على ذلك أن يفسر بعض الناظرين فى القرآن الكريم قوله تعالى:- فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (الدخان: 10، 11) بما ظهر فى هذا العصر من الغازات السامة والغازات الخانقة التى انتجها العقل البشرى فيما أنتج من وسائل التخريب والتدمير، يفسرون الآية بهذا ويغفلون عن قوله تعالى:

رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ، وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. (الدخان: 12، 13، 14) ثم يقول: ولسنا نستبعد- اذا راجت عند الناس فى يوم ما نظرية داروين مثلا- أن يأتى إلينا مفسر من هؤلاء المفسرين الحديثين فيقول: «ان نظرية داروين قد قال بها القرآن منذ مئات السنين» وهذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك، لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتابا يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم، ودقائق الفنون، وأنواع المعارف. وهى خاطئة من غير شك لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلا متكلفا يتنافى مع الاعجاز ولا يسيغه الذوق السليم. وهى خاطئة لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم فى كل زمان ومكان والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأى الاخير، فقد يصح اليوم فى نظر العلم ما يصبح غدا من الخرافات. فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرضناه للتقلب معها وتحمل تبعات الخطأ فيها ولا وقفنا انفسنا بذلك موقفا حرجا فى الدفاع عنه. وحسبنا أن القرآن ولم يصادم- ولن يصادم- حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول ولا يتأتى أن ننقل نموذجا كاملا من هذا التفسير لاعتماده على الناحية الموضوعية واسهابه فى الكلام عما يتعرض له من آيات. وعن قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (النساء: 114)

يشير إلى أن الاعمال وخاصة ما ذكر فى الآية يكون لصاحبها الاجر العظيم اذا فعلها خالصة بها نيته مبتغيا بها مرضاة ربه. هذا هو الاساس فى فهم الفضيلة: ترسم أوامر الله وتنفيذها ابتغاء مرضاة الله ومن هنا جهد المؤمنون بالله فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وأهليهم وعشيرتهم، وكان ذلك فى نظرهم الحياة الخالدة، والغنى الدائم والسعادة الابدية. وهناك فريق من الناس يرون أن اساس الفضيلة هو تلبية الضمير فيما يعتقدون خيّرا للمجتمع ويرون ان هذا كاف لسعادة الانسان ومد الضمير كفيل بتقدير الخير ومعرفته دون الرجوع إلى الله، وما يرسم لعباده من شرع وخلق، وأنهم بهذا ليسوا فى حاجة إلى الوحى وان الوحى إذا كان قائما يحتاج إليه لإرشاد من ليسوا أرباب الضمائر الحية المستيقظة. وقد فات هؤلاء أن فهم ما ينفع الهيئة الاجتماعية وما لا ينفعها كثيرا ما تختلف فيه الانظار والآراء وقلما تجد فى تاريخ هذه النظرية قديمة وحديثة- اتفاقا على نفع جزئية معينة أو ضرر جزئية معينة وفاتهم أيضا أن النظر الواحد أو الضمير الواحد كما يعبرون كثيرا ما يتغير فى معرفة الخير والفضيلة. وقد عدل كثير من الفلاسفة عن آرائهم الاولى واستحدثوا آراء أخرى جديدة .. ولهذا تعترك فى عصرنا الحاضر المذاهب الاجتماعية، من ديمقراطية وفاشية ونازية وشيوعية واشتراكية بل يتنازع أرباب المذهب الواحد، بل يتناقض الفرد الواحد مع نفسه ورأيه، فى وقتين مختلفين وكل هؤلاء يتحاكمون إلى الضمير أو يتحاكمون إلى الادراك البشرى وفى معرفة الفضيلة وهو تحاكم- كما نرى- إلى أساس غير ثابت ولا منضبط ولا مأمون العاقبة. وهو فى الوقت ذاته سير بالنفس وبالعالم فى طريق محفوفة بالمخاطر تهدد العالم فى امنه واستقراره وتشعل فيما بين جوانبه نار الحروب والتدمير.

ولا سبيل إلى الاستقرار فى هذا العالم، وسلامته من أثر الآراء المشتجرة بالا بالرجوع إلى أساس ثابت منضبط، صادر عن عليم بطيات النفوس، ونزعات البشرية، يبصرهم ذلك الاساس بالخير والفضيلة التى ارتسمت فى لوح الوجود الحق الذى لا يكتبه إلا خالق الوجود ومدبر الكون على ما يعلم فيه من سنن وشئون، وليس ذلك المبصر إلا وحى العليم الحكيم: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً. (الإسراء: 9)

تاج التفاسير لكلام الملك الكبير للامام محمد عثمان الميرغنى

تاج التفاسير لكلام الملك الكبير للامام محمد عثمان الميرغنى إنه تفسير فى جزءين، كل منهما يقرب من ستمائة صحيفة، وهو مؤلف على سبيل الايجاز على غرار تفسير الامامين الجليلين: جلال الدين المحلى، وجلال الدين السيوطى. أما مؤلف هذا التفسير الجليل: فهو امام من كبار الائمة فى العصر الحديث وكان له أثر كبير فى نشر الدعوة الاسلامية فى افريقيا، وكان من أثر تبشيره أن اعتنق الاسلام على يديه عشرات الألوف من الوثنيين. ولقد اتخذ الاسلوب الموفق للدعوة وذلك أنه كان صوفيا قد تجرد من الطمع والشره واخذ الاجر على دعوته. كان متواضعا، رفيقا، زاهدا، عابدا، ذاكرا صاحب اوراد وحضرات، فكان بذلك يجذب العدد الكثير إلى الاسلام. ولد رضى الله عنه فى الطائف فى سنة 1308 هجرية، وفقد والديه صغيرا فكفله عمه، وأخذ الامام فى الدراسة والتعليم، فحفظ القرآن وتعلم العلم وأصبح فى مكانة علمية مرموقة ودفعته نزعته الدينية وشعوره الروحى الفطرى أن يتلمس الطريق إلى الله على مذهب التصوف وبعد دراسة علمية عند هؤلاء وأولئك استقر به المقام عند الشيخ أحمد بن ادريس الفاسى الذى كان يتخذ من مكة مقاما، وهو الذى وجهه إلى الرحلة التبشيرية. سافر الامام إلى مصر والحبشة واريتريا، وتوقف فى اريتريا فترة من الزمن هاديا مرشدا، وقد كان يسكن جبال اريتريا كثير من القبائل الوثنية فانغمس فيهم، ولما رأوا النور فيه والاشراق تابعوه وأخذوا عليه العهد، ولما اطمأن إلى خلفائه فى اريتريا ذهب إلى صعيد مصر، ومكث فترة سافر بعدها إلى السودان

متنقلا بين سهوله وجباله شرقا وغربا، ولما وصل كردفان أسس فيها مسجدا كعادته فى كل مكان يطيل فيه الاقامة السنية التى تسمى الآن الختمية. أما مدينة سواكن فإنه أسس بها ثلاثة مساجد. ومن الطريف أنه أسس فى هذه المدينة مدرسة لتعليم المرأة فكانت أول مدرسة أسست للمرأة فى السودان، ومن هذه المسألة تبين افقه الواسع وفكره الثاقب. وفى أثناء هذه الرحلات الكثيرة كان يؤلف فى المسائل التى تعرض له أثناء سياحته. ان مشاكل المجتمعات كثيرة، ولا بد لها من حل فكان الامام كلما عرضت له مشكلة ألف فيها حتى لا تكون فتواه كلاما ينسى على مر الزمن. ومن مؤلفاته، وربما كان اهمها كتابه «تاج التفاسير» الفه فى الربع الثانى من القرن الثانى عشر الهجرى، يقول بعض من كتبوا عنه: «وقد امتاز تفسيره بوضوح الاسلوب والخلوص من مصطلحات العلوم والفنون، فهو يتناول الآيات الكريمة ويفسرها تفسيرا يقوم على الدلالات اللغوية وربطها بما ترمى إليه من المعانى الشرعية والروحية فى أسلوب مبين، وعبارة موجزة واضحة لا لبس فيها ولا غموض. وقد خلا هذا الكتاب من الاسرائيليات ومن الاسهاب فى القصص التاريخى، والتزم بما جاء فى أوائل السور المرموزة من التفسير الاشارى، وان كان لا يتعرض اليه- فيما عدا ذلك- إلا قليلا مما لا يتعارض مع ما يرمى اليه النظام الحكيم- هذا مع العناية بالقراءات فى غير اسهاب ولا تطويل، بالاضافة إلى ذكر الاحاديث النبوية الواردة فى فضائل السور. أما المؤلف نفسه فإنه يقول فى تواضع جم: «لقد رسخ فى الخاطر الغائر منذ سنوات مع التماس بعض الاحباب

الاكابر، والاخلاء أصحاب الخاطر العاطر، تأليف تفسير لكلام من لا يحيط بعلوم سواه، ولا يعلم اجمال وتفصيل ما به العلوم غير مصطفاة، ولكن عبر كل وبحسب ما اقتبس من مشكاة بحر انواره، فافتقيت الاثر، واستمددت منه ومن كتب أخباره المستمدين منه فوضعت هذا التفسير واختصرته الاختصار الذى لا يفيد دونه الصغار ولا الكبار وجعلته فى عبارة سهلة يفهمها العوام والخواص ومزجه بالسنة الغراء» أ. هـ. وهاك نموذجا من تفسيره .. يقول تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (المائدة: 118، 119) يقول: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ أى تعذب من كفر منهم فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ لا شريك لك فيهم وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ أى تغفر لمن آمن منهم، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر على الثواب والعقاب الْحَكِيمُ فى تنزيل كل أحد منزله. وفى الصحيحين: عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «يا أيها الناس انكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا، كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا انا كنا فاعلين، ألا وان أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم صلّى الله عليه وسلم الا وانه يجاء يوم القيامة برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابى فيقال: انك لا تدرى ما أحدثوا بعدك؟ فأقول كما قال العبد الصالح: «وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شىء شهيد، ان تعذبهم فإنهم عبادك، وان

تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم» فيقال لى: «انهم لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقتهم». وفى الحديث أنه قام صلّى الله عليه وسلم ليلة كاملة بآية، والآية: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. قال الله هذا يوم، وقرئ يوم، أى يوم القيامة «ينفع الصادقين» الذين صدقوا فى معاملة الله «صدقهم». وفى الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بالصدق، فإنه باب من أبواب الجنة وإياكم والكذب فإنه باب من أبواب النار». «لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار» محتوية على أشرف النعم بفضل الغفار «خالدين» فيها أبدا «لا يخرجون منها» رضى الله عنهم «وأحلهم بحبوحة رضاه» ورضوا عنه حيث أولاهم نعماه ودخول حماه، وشهود محياه. ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وكيف لا وقد احتوى على النظر لوجه الله الكريم» أ. هـ. ونموذج آخر من تفسيره: يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ.

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ، وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ، انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. (الأنعام: 97، 98، 99) يقول: «إن الله فالق» شاق «الحب» بالنبات «والنوى» من النخل «يخرج الحى كالإنسان والطير» من الميت «كالنطفة والبيضة» ومخرج الميت «كالنطفة والبيضة» من الحى «من الإنسان والطير» ذلكم الله «هو القادر على ذلك» فانى «فكيف» «تؤفكون» تصرفون عن توحيده، مع هذه الدلائل الواضحة- «فالق الإصباح» شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل- وقرئ الأصباح بفتح الهمزة، فالق بالنصف «وجعل الليل سكنا» يسكن فيه الخلق من التعب، لأن فيه النوم، والنوم به الراحة، وقرئ .. وجعل الشمس والقمر وقرئ بالجر، وقرئ بالرفع «حسبانا» تحسب بهما الأوقات «ذلك» تسييرهما بالحساب «تقدير العزيز» مقدرة لهما على السير المطلوب منهما العليم بكيفية سيرهما «وهو الذى جعل» خلق «لكم النجوم» رحمة منه لتهتدوا بها «فى سيركم» فى ظلمات البر والبحر وتعرفوا بها الجهات «قد فصلنا» بينّا الآيات الدالات على كمال قدرتنا «لقوم يعلمون» وفى ذلك يتفكرون، وفى الخبر قال صلّى الله عليه وسلم: «تعلموا من النجوم ما تهتدون به فى ظلمات البر والبحر، ثم انتهوا» أخرجه ابن مردويه فى تفسيره «وهو الذى انشأكم» خلقكم «من نفس واحدة» أى آدم «فمستقر» فى الاصلاب ومستودع فى الارحام، «قد فصلنا الآيات» بيناها «لقوم يفقهون» وعن الله يفهمون «وهو الذى أنزل من السماء» لإغائة عباده «ماء» مطرا «فأخرجنا» لرزق عباده «به» الضمير للماء «نبات» نبت كل شىء من أصناف المنبت «فأخرجنا منه» أى من النبات «خضرا»

شيئا أخضر «نخرج منه» الضمير للخضر «حبا متراكبا» سنابل «ومن النخل» من طلعها وهو أول ما يخرج منها «قنوان» عراجي «دانية» قريب بعضها من بعض «وجنات» بساتين «من أعناب» أي من عنب وهو من أشرف الفواكه وأحسنها وألطفها، وفيه يقول الله لموسى فى مكالمته: «يا موسى لو كنت آكلا لأكلت الخبز بالعنب» وفى الجاف منه يقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «عليكم بالزبيب فإنه يكشف المرة ويذهب بالبلغم، ويشد العصب، ويذهب العياء، ويحسن الخلق، ويطيب النفس ويذهب الهم» رواه أبو نعيم. «والزيتون» هو شجر أيضا شريف فيه بركة كثيرة «والرمان» وهو من ألطف الفواكه وأحسنها «مشتبها وغير متشابه» فى الألوان والطعوم «انظروا» معتبرين «إلى ثمره إذا أثمر» كيف يثمر ضعيفا كأنه لا ينتفع به «وينعه» كيف يعود ضخما ينفع ويلذ «ان فى ذلكم» من الأشياء المذكورة «لآيات» تدل على كمال قدرة الحق «لقوم يؤمنون» فإن نور الإيمان هو الذى به يهتدى.

ضياء الاكوان للشيخ أحمد سعد العقاد

ضياء الاكوان للشيخ أحمد سعد العقاد حينما تحدث علماء التفسير عن شروط المفسر فإنهم رأوا أن من بينها: أن يكون المفسر تقيا. وما من شك أن التقوى من مصادر الالهام والفهم الصافى، حينما تتوافر الشروط الاخرى فى المفسر، وقد نشأ مؤلفنا فى بيئة دينية صالحة تقية. فقد كان من سلالة علماء صالحين اتقياء. ولد بمدينة الفيوم عام 1307 هـ وتوفى عام 1373 هـ. وبعد أن درس فى بلدته القرآن حفظا وتجويدا وأخذ حظا من علوم العربية، أخذ أهبته إلى مركز النور والمعرفة: الأزهر- الذي كان محط أنظار الطامعين المؤمنين واجتهد فى الدراسة فكان مرموقا لجده وذكائه. وأرادت العناية الالهية به أن يلتقى بالعارف بالله السيد محمد ماضى أبو العزائم فوجهه نحو الاستقامة التي نشأ فى رحابها مؤلفنا وأصبحت الاستقامة بالنسبة له فطرة وتعليما، سلوكا ودراسة، ونشأ مؤلفنا اذن نشأة الشاب الذى لا صبوة له. ولما انتهت الدراسة بالأزهر عينته وزارة الأوقاف أماما وخطيبا فى مسجد من كبار المساجد فاشتغل فيه بالتدريس للعامة وشرح كتاب الله وتعليم الفقه وغير ذلك من العلوم، وكان يقيد ما يدرس فخرج من ذلك بمجموعة كبيرة من الكتب فى العلوم الإسلامية. منها ما طبع، ومنها ما زال مخطوطا، لم يطبع: 1 - الدين النصيحة. 2 - كنوز العارفين فى ميراث الأنبياء والمرسلين. 3 - كتاب الهجرة النبوية.

4 - كتاب مواهب الإنسان. 5 - الأنوار القدسية فى شرح أسماء الله الحسنى. 6 - السعادة فى الدخول من باب التوبة. ومن كتبه التى ما زالت مخطوطة: 1 - الفقه على المذاهب الأربعة. 2 - ريحان العارفين فى حكمة أحكام الدين. 3 - الشرف الأعلى فى اسراء من «دنا فتدلى». 4 - الإنسان الكامل. 5 - مقامات أهل اليقين. وأجل كتبه هو ما تقدمه اليوم: «ضياء الأكوان فى تفسير القرآن». يقول فى مقدمته: «فقد عزمت بحول الله تعالى وقوته على كتابة تفسير للقرآن الكريم يكون سهل العبارة ريق الإشارة يجمع بين جمال تفسيره وأسرار تأويله، متحريا فى ذلك الصحيح من الأقوال مجتنبا الحشو والتطويل. وان الكثير من التفاسير فيه أقوال ضعيفة وتواريخ مكذوبة، وآراء متعارضة، وسأتحرى بمشيئة الله ما يوافق الشرع ويتمشى مع العقل. وقد وضع المؤلف لكتابه مقدمة: «تكشف لقارئها بعض أسرار القرآن». ومن هذه المقدمة يقول تحت عنوان: «الآيات القرآنية»: كل آية فى القرآن بمنزلة دواء مستقل أو كنز للسعادة، منها آيات يخاطب الله بها العقول على قدرها بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (الروم: 24) والعقل هو الذى يتقبل الآيات بالموازين والقوانين ويحكم على الأشياء بقدر ما وهب له من الاستعداد النورانى، ويخاطب الله الألباب بقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ.

واللب هنا هو الروح التى بها حياة القلب التى بها الاستعداد للتلقى عن الله، ومنها آيات يخاطب الله بها الفكر فى قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم: 21) والفكر قوة تتجول فى الآثار وترجع بالمعلومات وتعرضها على العقل فيثبت منها ما شاء فهو وزير العقل. ومن الآيات ما يخاطب الله به القوة الذاكرة، وهى المعبر عنها بالحافظة فى قوله: إنّ فى ذلك لآيات لقوم يتذكّرون. والذاكرة قوة تبحث عن معلوماتها الأولية التى اشتغلت عنها بالمظاهر الحسية، فبالتذكر يصل العبد إلى ذكر العهود الأولية، وذكر النعم الالهية الظاهرة والباطنة. ولم ترد آية فى القرآن تقول: إن فى ذلك لآيات لقوم يتخيلون أو لقوم يتوهمون فما أوقع الناس فى التيه والغرور الا شيطان الوهم وزخارف الخيال والقرآن يتكلم فى صميم الحقائق والرجل من تباعد عن الخيالات والأوهام وتمسك بالحقائق الناصعة. ومن الآيات ما يخاطب بها أهل العلم والعرفان بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (الروم: 22) ويخاطب أهل الإيمان بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الروم: 37) والإيمان قوة فى القلب تفتح له عيونا يشرف بها على معانى الهيبة الالهية والجلال فيؤمن بالغيب ويرى أن كل السمعيات التى وردت عن الشارع الحكيم كأنها مشهودة أمامه ويخاطب الله أهل السمع بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (الروم: 23)

والسمع الحقيقى اذن واعية فى القلب صاغية لنداء الرب، والاذن الحسية بمنزلة السماعة التى توصل للقلب الخطاب. ومن الآيات ما يخاطب الله بها أهل الكشف النورانى والذوق الروحانى بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (الحجر: 75) والمتوسم هو الذى يعرف العوالم بسيماهم ويكشف ما وراء استار المادة بالنور الالهى فى ضميره. ومن لآيات ما يخاطب الله بها أهل اليقين بقوله: إنّ فى ذلك لآيات لقوم يوقنون. واليقين قوة الهية تكسب العبد رسوخا وثباتا وتكشف عنه الحجب. ويخاطب الله المحسنين: والإحسان قوة فى القلب تجعل العبد يحسن ألفاظه وأعماله ونيته، ويلاحظ أن الله معه بسمعه ويراه. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (آخر أية فى سورة العنكبوت) ويخاطب الله أولى الأبصار بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ. والبصر ما يدرك ظواهر الكون ويوصلها الى حدقة عين القلب، والبصيرة ما تدرك الأمور الخافية ولا يكمل العبد إلا إذا كان يتدبر فى الآيات الظاهرة ويتجول في الآيات الباطنة. فإذا قال الله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإنه يقول: يا أهل العقول اننى أتحدث معكم الآن فتدبروا واعتبروا، وإذا قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الروم: 37) كأنه يقول: يا أهل الإيمان سلموا تسعدوا، وإذا قال لقوم يتفكرون قال: يا أهل التفكير تجولوا فى الآثار فتغنموا، فانزل كل آية فى رتبتها الخاصة وتناول دواءها الخاص حتى تعرف الأدوية الروحية القرآنية «والله أعلم» ا. هـ.

والآن نأتى بنموذج من تفسيره: قوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ (البقرة: 45) أراد الحق تعالى أن يصف دواء نافعا للامراض القلبية فبين دواء مركبا من عنصرين: الأول: الصبر، وهو حبس النفس عن شهواتها طلبا للثواب من الله تعالى، والصبر أساس كل فضيلة، وما وصل إنسان إلى المعالى الاعلى معراج الصبر، والصبر أقسام: - صبر على طاعة الله وجهاد النفس، وصبر عن معصية الله ومحارمه. - وهناك صبر مذموم وهو الصبر عن حبيبك وهو الله تعالى فتنساه وتتسلى بغيره ... ومتى تعود العبد الصبر وتخلق به صار صبورا والصابر يعطى أجره بغير حساب. قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ. والصوم من الصبر لأنه يمنع النفس عن شهواتها. قوله: «والصلاة» هى الخضوع والخشوع لله بالقلب والجوارح، ومتى تمكن العبد من الصبر فى طوايا نفسه والخشوع فى ضميره وجوارحه فقد استعان على تزكية نفسه وتطهيرها واقبالها على الله، وكأن النفس وحظوظها كجيش محارب والسلاح الذى يقهرها هو الاستعانة التى وصى بها الله بالصبر والصلاة. قوله: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ يعنى الصلاة كبيرة يعنى ثقلية على النفوس. قوله: إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ يعنى الاستعانة بالصلاة سهلة لذيذة على أهل الخشوع وهم الذين عرفوا الله وطلبوا رضاه واعتقدوا أن الدنيا دار سفر فصبروا على مشاقها وأن الصلاة قرة أعينهم لأنها تدخلهم فى حضرة مولاهم وتؤنسهم بجنابه، أ. هـ وتنبهت القلوب وكأنها قالت: يا رب بين أهل الخشوع لنعرفهم. فقال تعالى:

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ (البقرة: 46) يعنى يوقنون ويعلمون علم يقين أنهم سيلقون الرب تعالى ومعنى لقاءه تعالى- هو كشف الستائر الحاجبة للعبد عن الله فيراه قريبا مجيبا محيطا، العارفون بالله يكرمهم الله بلقائه هنا، فتشهد عيون أرواحهم أنوار وجهه الجميل، وأسرار تجلياته فيأنسون به فى كل مشهد ومظهر، وإنما عبر هنا بيظنون ولم يقل يوقنون رحمة بعباده فإنهم يشهدون من تجلياته على قدرهم، والحقيقة فى غيب الغيب والحق تعالى يقول فى الحديث القدسى: «أنا عند حسن ظن عبدى بى» فالظن منك فى شهود الأنوار يقين عند الله واليقين هو كشف الأمر على ما هو عليه وهو لا يتمكن منه أى مخلوق عند مواجهة الحقيقة ولقاء الله الحق عند الخاصة يكون كرامة لهم هنا بعيون الروح لا بعيون الرأس، وفى الآخرة يكون بالعينين. قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. (القيامة: 22، 23) قوله: وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ يعنى بالموت ومفارقة الحياة: ينسلخون من الغواشى والهيكل وتتخلص أرواحهم من الظلمات وترجع إلى أصلها، وهو النور فيتجلى لها النور جل جلاله، أ. هـ. ونموذج آخر: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ (البقرة: 124) سبق فى علمه تعالى أن يبتلى العباد، والابتلاء هو الاختيار والامتحان الذى يكشف مكنون النفوس ويوضح غوامض الضمائر ولم يكن الامتحان لتجديد علم بل الحق تعالى يعلم ضمائر الخلق، ويرى الملبى والمخالف ولكن قدر ذلك لتظهر تلك الحقائق مشهودة للخلق فتكون شرفا للمطيع وحجة وسندا للمؤمن وتكون بلية على العاصى وإظهارا للكامن فى نفسه من الخبث والقساوة

والجحود والامتحان قدره الله على الملائكة فى خلق آدم وعلى ابليس فى السجود لآدم وعلى الأنبياء فى تحمل البلايا، وعلى الأولياء فى القيام بالجهاد الشديد للنفس والدنيا وقدره على بنى الإنسان أجمع ليقف كل إنسان عند حده فلا يدعى الولاية الشديدة مخالف ولا يدعى التقوى عاص، حكمة بالغة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أشدكم بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل، فالامثل» والذى يثبت فى الامتحان وينال شهادة من الله بها رفعة شأنه وعلو قدره واحترامه فى الدنيا والآخرة والكلمات هى الأوامر الالهية التى كلف الله بها خليله وقدرها عليه فصبر وثبت ورضى، فمن ذلك: ابتلاه بالرمى فى النار، ومن ذلك ابتلاه بأخذ السيدة هاجر وابنها إسماعيل والتوجه بهما إلى أرض الحجاز بجوار الكعبة حيث لا ماء ولا ظل ولا أنيس، فثبت وسلم ولده وزوجته لله تعالى فهو أرحم من إبراهيم بولده وزوجته، ومن ذلك ابتلاه بذبح ولده إسماعيل وكلفه ببناء البيت والقيام بإرشاد الحق له بأعمال الفطرة الحنيفة فنفذ الخليل كل ذلك، فشهد له الحق بقوله (فاتمهن) يعنى قام بالواجب بصدر رحب وعزم صادق فلما وفى نال مقام الوفاء فمنحه الله مقام الصفاء وأعلى ذكره فى القرآن وبشره بعد الثبات فى الامتحان بقوله: «قال إنى جاعلك للناس إماما» يعنى صيرتك قدوة للعباد، والسيد إبراهيم محبوب عند كل طوائف الامم ومعناه أب رحيم وهو من ذرية سام ابن نوح عليه السلام، وكأن الحق تعالى يقول إننى لم أمنح خليلى رتبة التقدم والامامة إلا بعد الامتحان والنجاح فيه وقد امتحن الله المؤمنين بقوله: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. (العنكبوت: 2) ولما بسط الحق بساط الانس والمال للخليل وبشره بالبشرى التى تشرح الصدور بقوله إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً طمع الخليل فى وسعة الحق وكرمه فطلب منه نفحة لذريته بقوله قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يعنى اجعلهم ائمة للعالم، فقال الحق قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (البقرة:

24) يعنى لا يدعوك تلطفى معك وأنك بعطفى أن أغير شيئا مما فى علمى فاجعل الظالم مقدما محترما فإن كل مخالف من ذريتك لا ينال عهدى يعنى مودتى وكرمى ورحمتى ونعمى، وفى هذا الرد على الخليل من الحق ما يجعل قلوب العارفين تخشع وتمتلئ بالهيبة من جلال الحق، وقد قال العارفون: اذ انبسط لك الحق بجماله فانقبض وتأدب معه وإذا تجلى لك بجلاله فانهض وافرح، فى حضرته فمهما أعطاك فكن على حذر فالسيد الخليل مع جلالة قدره طلب لذريته مطالب فأجابه فى البعض ولم يجبه فى الآخر فلا تركن الى أبيك وشرفه ومجده وانظر هل أنت ظالم لنفسك أم عادل؟

تفسير محمد فريد وجدى

تفسير محمد فريد وجدى مفسرنا هو الاستاذ الجليل محمد فريد بن مصطفى وجدى، من أعلام العصر الحديث ومن مشاهير العلماء والفلاسفة ورجال الصحافة. برز نشاطه فى كل مجال من المجالات، وثبتت أقدامه على طريق الحياة الطويل فى دنيا الفكر والتأليف الذى قضى فيه ما يزيد على الخمسين عاما. ولد الاستاذ وجدى بمدينة الاسكندرية، وانتقل منها إلى دمياط فامضى بها فترة الشباب، ثم انتقل إلى السويس فأصدر بها مجلة الحياة، ثم انتقل إلى القاهرة فأنشأ مطبعة فى حياة البحث والتأليف حتى انتهت به الحياة. كان حار الدفاع عن الحق، شديد التمسك بما يعتقده صوابا، سلس الأسلوب واضح الفكرة، بعيدا بهدفه فى الحياة. ولقد تحدث عن العوامل التى أثرت فى فكره، ورسمت معالم شخصيته فقال: كنت فى سن السادسة عشرة، طالبا بالمدرسة التحضيرية، وكان أبى (مصطفى وجدى) موظفا فى الحكومة المصرية، وحدث أن اختير وكيلا لمحافظة دمياط، فكان لا بدّ من انتقالى مع عائلتى إلى هذه المدينة التى اشتهر أهلها الدماثة لا خلاق والتفقه فى الدين. ولما نزلنا هذه البلدة مع أبى أقبل علماؤها وكبار أهلها يرحبون به، فكان يجتمع فى دارنا عدد كبير منهم وكنت إذا ناقشت أحد العلماء فى مسألة تتعلق بالكون والخلق أسرع إلى قفل باب المناقشة، وأمرنى الا أخوض فى المسائل الدينية أو أبدى فيها رأيا فامتعضت لذلك وقلت فى نفسى،: لا بدّ أن يكون ما يدرسونه من الكتب عقيما ومن هنا تزلزلت عقيدتى، وشرع الشك يتسرب إلى نفسى حتى صرت لا أرتاح إلى رأى واحد يتضمنه كتاب، ولا انتصر على

فكرة معينة يجتهد بعض العلماء فى اثباتها بما أدلى من قوة الحجة وساطع البرهان. وجعلت أتناول بالقراءة والدرس جميع الكتب الدينية والكونية والاجتماعية وسائر ما يتعلق منها بعلم النفس، واكببت على ذلك عدة سنين، فاكتسبت علما غزيرا، واتسع أمامى نطاق الحياة، وجال نظرى فى الكائنات جولات أفادتنى فيما أتناوله بالحديث والدرس حتى صرت لا أقتنع بفكرة دون أن أعتنى بدرسها وتمحيصها معتمدا فى ذلك على تجاربى الذهنية التى مرت بى، وقد أفادنى هذا استقلالا فى الفكر واعتمادا على النفس، ورغبة فى استيعاب ما يقع بين يدى من الكتب على اختلاف أنواعها بمصر كما افادنى دقة فى البحث حتى ازال الشك عنى وارتاحت نفسى إلى عقيدة ثابتة. وبدأ طريق الحياة العلمية الجادة على أسس قوية من العقل والروية والتفكير وفى سنة 1901 م اصدر كتابه «الاسلام فى عصر العلم» وهو كتاب فى جزءين مناسبين فى وضوح أن الاسلام حث على العلم وأشاد به، ودفع المسلمين إليه وأنه لا تعارض مطلقا بين الاسلام والعلم وما وصل إليه العلم فى العصر الحاضر من آفاق مادية وحضارة صناعية، فان ذلك كله لا يتعارض منه شىء مع الاسلام، بل أن ذلك كله يؤيده الاسلام وكلما تقدم العلم كان تأييدا للاسلام. وتفرغ للبحث والتأليف فغطى الصحف اليومية الشهيرة بمقالات وبحوث، ومن أبرز هذه الصحف: الاهرام، والجهاد، ثم اشتغل بتحرير مجلة الأزهر وظل رئيسا لتحريرها حتى وافاه الموت فى فبراير سنة 1954 م سنة 1373 هـ. والناظر فى حياة مفسرنا الجليل يجد أن نشاطه العلمى كان يمثل تيارا دافقا بالحياة، وأنه قضى حياته الطويلة يدافع عن اهداف محدودة يوضحها ويشرحها ويدفع عنها كل تحريف أو اتهام. وهذه الاهداف: هى الاسلام، والدين، والروحية.

ولعل أهم ما شغل فكره وظهر فى نتاجه الكبير قضية الروحية والمادية والدفاع عن الروحية تجاه المادية، واقامة الادلة على الروح، وما إلى ذلك مما هو نابض فى كل مؤلف من مؤلفاته. ولقد استطاع تطويع اللغة العربية للتعبير عن النواحى الفلسفية والافكار العلمية بأسلوب بارع رشيق، حتى لقد صاغ بعض أفكاره ومناقشاته فى صورة مقامات كمعلقات بديع الزمان الهمذانى ومقامات أبى القاسم الحريرى وغيرهم، وقد جمعت تلك المقامات فى كتاب باسم الوجديات، وقال فى مقدمته بعد أن ذكر بعض من كتب بهذا الاسلوب من الادباء والعلماء فرأينا أن نحتذى مسالكهم ونترسم خطواتهم بوضع مقامات أدبية ترمى لاغراض تعليمية وزدنا على متقدمينا بأن جعلنا الصفة الفلسفية فيها تغلب على سواها حرصا منا على الغرض الرئيسى الذى حدانا لنشرها. ويبين غرضه من تأليفها فيقول: تصوير مثل عليا للحياة الفاضلة، وامداد النفوس بالقوى الادبية الضرورية لها. وقد أثمر كفاحه العلمى الطويل عدة مؤلفات قيمة من ابرزها: 1 - دائرة معارف القرن العشرين فى عشرين مجلدا، وأتمها فيما يقرب من ثلاث سنين وهو عمل تنوء به طائفة كثيرة من العلماء، ولكنه يدل على هذه العزيمة القوية النادرة التى تحلي بها وجدى وعلى ما تحلى به أيضا من تنظيم دقيق لوقته وعلى ما تحلى به من ذاكرة واعية لما يقرأ ومن حسن تصرف فيما يقرأ وقدرة على الانتفاع به إلى أكبر مدى من الانتفاع. 2 - السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة وهو كتاب جميل حاول به فريد وجدى أن يقرب حقائق السيرة إلى اذهان شبابنا وأن يحببهم فيها ليتخذوها مثلا أعلى يحتذونه وهذا هدف شريف، ولقد قام به فى أسلوب رصين، وفى دراسة تتسم بروح العصر وبأسلوبه.

ملامح من حياته

3 - «الاسلام دين عام خالد» بين فيه الاسس والاصول والمبادئ التى قام عليها الاسلام فى صورة من الاسلوب الرائع والعرض السهل. 4 - نقد كتاب فى الشعر الجاهلى للدكتور طه حسين. 5 - فضلا عن العديد من الابحاث والمقالات فى كثير من الجرائد والمجلات، وقد ترجم كتاب على اطلال المذهب المادى، وهو إن كان ترجم اجمل وأدق ما تكون الترجمة فإنه احتوى على كثير من آراء فريد وجدى الشخصية تعليقا وشرحا. بل ان الكتاب كله يمثل رأى فريد وجدى نفسه وتسرى روحه فى كل جزء منه. 6 - وكان تفسيره صفوة العرفان فى تفسير القرآن المعروف بالمصحف الميسر من أعماله السامية. ملامح من حياته : عاش وجدى ما يزيد على خمسة وسبعين عاما، قضى أكثرها فى البحث والتأليف، وقد امتاز فى حياته بالجدية ومتانة الخلق ووضوح الهدف والتأنى فى تحقيقه. حكى الاستاذ العقاد أنه عطل جريدة الدستور لعسر حالته، وباع آلاتها لتسديد أجور العمال مليما بمليم، ورفض فى نفس الوقت عرضا سخيا من حكومة تركيا الفتاة ليكون لسان حالها وناشرا لافكارها فى بلاد الشرق. وكان معتنيا بصحته، مراعيا لسلامة الجسم والنفس عاملا بما يقول: نموذجا طيبا بسلوكه كما كان نموذجا طيبا فى تفكيره وتأليفه وكان نباتيا. وكانت وفاته بعد حياة حافلة 1954، سنة 1973 هـ بمصر. ولقد دخل فريد وجدى فى الحياة الفكرية الاسلامية فى عصره دخولا حكيما.

لقد درس مشكلات العصر وكتب فى الكثير منها كتابات مستفيضة سواء تعلقت بإصلاح المجتمع أو المسائل الفلسفية أو أو الجوانب الروحية. ولقد اضطره ذلك إلى أن يدخل فى جدل مستفيض مع الذين يرى أنهم ليسوا على الحق لقد دخل فى جدل طويل مع المرحوم الشيخ رشيد رضا، واستمر النزاع بينهما فترة طويلة من الزمن ودخل فى جدل مع المرحوم الشيخ عبد الواحد يحيى الذى كان يرى أن تحضير الارواح تعامل مع الجن، أو مع كائنات أخرى، من كائنات لا صلة لها بالارواح حقيقة، وثار نزاع ونقاش بينهما فى المجلة التى كانت تصدر فى سنة ثلاثين بعنوان «المعرفة». ولم يهدأ فريد وجدى طيلة حياته بحثا وعرضا لآرائه ومناقشة لخصومه وبيانا لوجهة نظره التى يرى أنها الحق. وكان من عاداته الجميلة أنه كان يستقبل زائريه كل ليلة فى بيته بعد صلاة المغرب مباشرة إلى وقت صلاة العشاء. يجيب عن استفساراتهم ويوضح مشكلاتهم، ويبين الحق فيما يثور من جدل فى الصحف والمجلات. ولو قيض الله سبحانه وتعالى لهذه الجلسات من سجلها لا بانت عن كثير من الحقائق فى مسائل مختلفة من العلم والاجتماع. وبعد: فان فريد وجدى يقول: «يجب على أن أنبه إلى أنى استخلصت هذا التفسير من الآراء المجمع عليها لدى أئمة المفسرين وأقطاب أهل السنة فلم أخرج به عن سنتهم قيد شعرة ليوافق مذهبا من المذاهب أو يؤيد رأيا من الآراء الفردية، ولو اضطرنى الكلام ببعض الآيات على أن أورد لى، أو لاحد من غير أهل السنة نبهت إليه وعزوته لقائله حتى يكون القارئ على بينه من أمره». وهذا النهج الذى أتبعه فريد وجدى هو النهج المستقيم الذى يجب اتباعه فيما يتعلق بالتفسير.

والمنهج الذى ذكره وجدى للتفسير حاول تحقيقه خصوصا فيما يتعلق بسهولة التعبير ويسر الشرح والعناية بمعانى الالفاظ، وكل صحيفة من القرآن فى هذا التفسير يحيط بها هامشان أحدها للمعنى والآخر للالفاظ، وخير لهذا التفسير أن نأتى بصحيفة كاملة من القرآن الكريم توضح لنا فى صورة دقيقة منهجه وطريقته. وقد طبع هذا التفسير عدة طبعات وظن الناس أن فريد وجدى لم يقم فى تفسير القرآن وبيان اهدافه الا بهذا الكتاب الذى بين أيديهم. وهذه الفكرة ليست بصواب، وهى تصوير خطأ لعمل فريد وجدى فى تفسير القرآن وذلك أن فريد وجدى قبل أن يفسر القرآن كتب مقدمة مستفيضة تعتبر وحدها كتابا نفسيا، بين هذه المقدمة المستفيضة ما يستفيض فيه الباحثون من مسائل القرآن كالبعث مثلا والجنة والنار، والالوهية والنبوة، يقول فريد وجدى عنها: هذه المقدمة طبعها فريد وجدى من عشرات السنين ونفدت طبعتها من زمن بعيد ولم يطبعها الذين طبعوا المصحف المفسر، فاعتقد الناس أن هذا هو العمل الوحيد لفريد وجدى فيما يتعلق بتفسير القرآن. والواقع أن هذه المقدمة ضرورية لكل قارئ لتفسير وجدى، وأنها هى والتفسير عمل متكامل ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يشرح صدور الطابعين لهذا التفسير لطبع المقدمة معه فى الطبعات التالية. أما ما يؤخذ على تفسير وجدى وعلى وجدى نفسه، فهو أن صلته بالحديث لم تكن وثيقة، ومن أجل ذلك نجد فى كتاباته من آن لآخر، وعلى قلة الأحاديث الضعيفة، وكنا نتمنى أن لو كانت صلته بالحديث أوثق. كما أنه لم يخل فى كتاباته من أن يوطئ بعض النواحى الدينية للتيارات الفلسفية فيحاول فى رفق شرحها بحسب الوضع الفلسفى، والوضع الفلسفى وضع بشرى لا يثبت على حال.

ومن نماذجه

ومن نماذجه : يقول الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ. (سورة سبأ الآيات 1 - 2) تفسير الألفاظ : ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أى ما يدخل فى الأرض يقال: ولج يلج ولوجا، أى دخل، والذى يلج فى الأرض هو الغيث وما يدفن فيها من مقتنيات وموتى. وَما يَخْرُجُ مِنْها كالنباتات والمعادن والعيون .. وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالملائكة والوحى والأرزاق. وَما يَعْرُجُ فِيها كالملائكة وأعمال العباد .. الخ يقال: عرج يعرج عروجا، أى صعد. «بلى» حرف جواب قد تأتى رد النفى كما فى هذه الآية أو جوابا لسؤال منفى نحو قوله تعالى: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى»: «لا يَعْزُبُ» أى لا يغيب يقال: عزب عنه الشيء يعزب، ويعزب عزوبا بعد وغاب وخفى، أما عزب الرجل يعزب عزبة وعزوبة، فمعناه صار عزبا، أى بلا زوج «فى كتاب» هو اللوح المحفوظ الذى فيه ما كان ويكون إلى يوم القيامة.

تفسير المعاني

تفسير المعاني : الحمد الله الذى له ما فى السموات والأرض خلقا وإبداعا، وله الحمد فى الآخرة على جميل احسانه ورحمته وهو الحكيم الخبير، يعلم ما يدخل فى جوف الأرض وما يخرج منها، وما يهبط من السماء وما يصعد إليها، لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة مما يحصل فى ملكه الذى لا ينتهى إلى حد وهو الرحيم والغفور. وأنكر الذين كفروا مجىء يوم القيامة، قل: بلى والله عالم الغيب، لتجيئنكم لا يخفى عليه ثقل ذرة من هباء فى السموات والأرض، ولا أصغر ولا أكبر منها، إلا فى كتاب مبين هو اللوح المحفوظ. اهـ.

التفسير الواضح للشيخ محمد محمود حجازى

التفسير الواضح للشيخ محمد محمود حجازى رحم الله الشيخ محمد حجازى- لقد عرفناه واحببناه، احببناه لخلقه السمح وادبه الجم. وعلمه الغزير، اما عن خلقه فإنه كان سمحا صفوحا لا تستثيره المهاترات: انه كان يعرض عنها وكان قلبه طاهرا طهر الماء الصافى لا بجمل حقدا لاحد، ولا ضغينة لانسان وكان من الذين اذا مروا باللغو مروا كراما، ولذلك قل اعداؤه وانكمش هؤلاء الذين ينفسون على العالم علمه وعلى المؤلف تأليفه، وعاش حياته فى هدوء نسبى متفرغا للعلم، دائبا على الدراسة. ولد الشيخ فى محافظة الشرقية عام 1914 ودرس العلم فى معهد الزقازيق وكان مثالا للطالب المجد الذى لا شأن له يغير ما قدم اليه وهو العلم، ولم تكن مغريات الحياة قد انتشرت فى مدينة الزقازيق، فلم تجذبه زينة الحياة الدنيا، وكان المعهد يأخذ طلبته بالجد الصارم فانصرف الطالب الى التحصيل. ولما انتهى من دراسته فى معهد الزقازيق يمم وجهه شطر القاهرة دارسا بكلية اللغة العربية، ولم يشغله زخرف القاهرة فجد حتى نال العالمية، ثم عين مدرسا بمعهد الزقازيق الذى تخرج منه والقريب من بلده. لقد عاد الى المعهد الذى درس فيه طالبا: عاد اليه شيخا مدرسا وكانت سعادته عظيمة وفرحته لا تحد حين مشى بسمته الازهرى الجميل فى فناء هذا المعهد، واخذت عيناه تفحصان الأمكنة التى مشى فيها، او جرى نحوها، او لعب فيها، او تلقى الدرس فى رحابها وها هو يتحدث سعيدا مع بعض طلبة المعهد من بلدته، الذين كانوا قد انتسبوا الى المعهد حين اوشك هو على مغادرته، او الذين انتسبوا اليه من بعده، لقد كان ابناء بلدته يعتزون به، ويعتز هو بهم، فيوجه اليهم النصح فى صورة صديق وفى صورة أخ اكبر.

وكانوا يحمدون فيه تواضعه وعاطفته الجياشة بحب الازهر ويحب ابناء بلدته. واخذ فى السنوات الاولى من التخرج يعد نفسه لمستقبل علمى زاهر، واتجه على الخصوص الى التفسير. كتب الشيخ حجازى تفسيره وهو ما زال مدرسا بمعهد الزقازيق، وكان طموحه ان يكون بين اعلام اساتذة كلية اصول الدين، فاخذ يعد رسالة لنيل الدكتوراة واختار لها موضوعا دقيقا عميقا، هو: «الوحدة الموضوعية فى القرآن الكريم». ولعل اختياره لهذا الموضوع لم يكن اختيارا بالمعنى العادى للكلمة، وذلك انه يشبه ان يكون قد فرض نفسه، انه يقول فى مقدمة رسالة الدكتوراة: «ولقد راعنى وانا اكتب «التفسير الواضح» هذا النسق العجيب فى سور القرآن وترتيبها فى المصحف، فهذه سورة مدنية بجوار سورة مكية، وهذه سورة مدنية وسط عدد من السور المكية وهكذا. ثم اذا نظرت الى نفس السورة وآياتها تجد العجب العجاب، تجد السورة وقد جمعت آيات متعددة، وإن تكن متناسبة ومتلائمة، ولكنك تجد السورة تتحدث من موضوع خاص، فماذا قرأت غيرها تجدها تحدثت هى الأخرى عن نفس الموضوع، ولكن بشكل خاص ونسق يلتئم مع جو السورة التى قيل فيها، هذه ظاهرة استرعت البحث والنظر، اما السابقون فتخلصوا من هذا بالقول بالنسخ فالآية المتأخرة نسخت التقدمة وهكذا. واما نحن فقد هدانا الله الى القول بنظرية «الوحدة الموضوعية فى القرآن الكريم». لهذا كانت تلك النظرية جديدة على الاسماع فرفضها البعض وحاول منع نقاشها بجامعة الازهر، ولكن الحق يظهر دائما ولا بد ان يبدو الصبح لذى

عينين واما المنصفون والمعتدلون فطالبوا بالدليل، والبيان، وضرب الامثلة، مع الحجة والبرهان. ثم هم بعد ذلك طالبونى بتعميم الفائدة، ونشر هذه الرسالة فاجبت الطلب والله المستعان. ثم يقول فى تواضع جم: وبعد: فهذه رسالة أتقدم بها الى كلية اصول الدين بجامعة الازهر لنيل الدكتوراة وعنوانها: (الوحدة الموضوعية فى القرآن الكريم). والحق يقال: إننى لست من رجال هذه الابحاث الدقيقة العميقة المتصلة بالقرآن الكريم، ولكنها محاولة، دفعنى اليها حب البحث فى كل ما يتعلق بكتاب الله، فان اصبت فذلك الفضل من الله والا فهى محاولة. والله يهدى الى الحق وهو نعم النصير أ. هـ. اما عن التفسير فإنه بعد محاولات عدة وتجارب فى الوان التفسير استقر رأيه على كتابة تفسير للقرآن يكون مختصرا واضحا متأسيا فى ذلك بما كان الامر عليه فى الصدر الأول للإسلام وذلك ان المسلمين فى الصدر الأول من الإسلام كانوا يختصرون فى التفسير الى درجة انهم كانوا يقتصرون تقريبا على تفسير الكلمة او على تفسير الآية بكلمات قليلة او تفسيرها بحديث من الاحاديث الشريفة او بأثر عن صحابى جليل. واثر الشيخ محمد حجازى هذا المنهج واقتنع بحكمة القدماء فى ترك القرآن دائما غضا نضرا تتفهم النفس منه مباشرة الهداية والرشاد، وترتفع معه النفس الى الافق السامى الذى احبه الله للمسلمين وبينه فى القرآن الكريم، وقد اهدى التفسير الى: «الى الذين اذا ذكروا الله وجلت قلوبهم، واذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا الى الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه، الى اخواننا المسلمين فى مشارق الارض ومغاربها اهدى هذا واحسب اجرى عند الله أ. هـ.

ويقول فى مقدمته للطبعة الاولى: «وبعد فهذا هو القرآن الكريم بل هذا هو الهدى والنور، كتاب شرحه بلغة سهلة واضحة لا تعمق فيها ولا ابعاد، خالية من المصطلحات العلمية الفنية تفسر للشعب كل ما فيه من صوغ المعنى الاجمالى للآية، بلغة العصر مع البعد عن الحشو والتطويل والخرافات الإسرائيلية والاعتدال فى الرأى، فلم يهدم كل قديم، ولم يرفع كل جديد، وان يكن لكل فارس كبوة. ولا طاقة للناس الآن بالاطالة فيما لا شأن له باصل الغرض من التفسير اذ لهم ان يفهم القرآن اكبر عدد ممكن من المسلمين. ألم يأن للحق ان يدحض الباطل كما دحضه فى صدر الاسلام، وقد يكون ما تراه من الجمعيات الاسلامية والمؤاخاة الدينية جذوة فيها ضوء يسطع ليبصر من اراد ان يسعد عاجلته وآجلته وفيها نار تحرق هؤلاء الشياطين الذين لم يستمعوا من الله، ولا من الحق فجعلوا من جاههم ونفوذهم حربا على الاسلام ابقاء على زخرف كاذب وفرارا من حقوق اخوانهم فى الدين والانسانية قبلهم. وها نحن الآن قد عزمنا «والعون من الله وحده» على الكتابة فى التفسير على ان يخرج الجزء الاول ثم الذى يليه وهكذا. فان كان للعمر بقية ومن الله تأييد، ثم هذا العمل الذى نقصد به وجه الله. ولا انكر انه عمل ضخم ليس لمثلى ان يتعرض له ولكن:- واكذب النفس اذا حدثتها ... ان صدق النفس يزرى بالامل وسنظل والحمد لله ندفع بايدينا وبالسنتنا وباقلامنا عن حمى هذا الدين حتى يظهره الله او نهلك دونه، ولن يضيعنا الله. وصدق الله اذ يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (محمد: 7)

ويقول فى مقدمة الطبعة الثانية: «حمدا يا رب حمدا»: لقد طوقت جهدى بفيض توفيقك، وغمرتنى بنور هداك، فمضيت احوم حول فرآنك الابدى الخالد ودستورك السليم القويم، على اظفر بما يجلو ويوضح فخامته، لا يثنينى وصب ولا نصب حتى تنفس للمتردد صبح، وانبلج للسارى نور، وبدت معانيه لمن حرموا التعمق لتراكم اثقال الحياة عليهم، او فاتهم ركب العلم سهلة واضحة تبين لهم عن رحيب قدرتك، وواسع وشامخ عظمتك وشكرا ايها الحافلون بجهدى شكرا. لقد شجعنى اقبالكم فدست الاشواك، واقتحمت المصاعب ومضيت غير عابئ بتعب او مال غايتى وجه الله فى افهام ما ينطوى عليه القرآن من معنى ظاهر باوجز لفظ وايسر عبارة واسهل اسلوب ليغزو شعاعه كل قلب، ويعمر هداه كل نفس فيزدادوا ايمانا على ايمانهم وتسكن نفوسهم بنور ربهم وقد احسست ان حقا واجبا فى عنقى لمن افلتت من ايديهم الاعداد الاولى من: «التفسير الواضح» لن تبرأ منه الذمة حتى استجيب لرغباتهم الملحة الهاتفة. وها أنا ذا البى بحمد الله وعونه، واتيح الفرصة لمن فاتتهم الفرصة فاضع بين ايديهم الطبعة الثانية. وان فيها لاعتصارا جديدا لجهدى، وفى سبيل الله يهون الاعتصار، وانها ايها الاخوان لمحققة مدققة فيها الكثير فاستدركت ما زلت به سرعة الطباعة، واستودعتها ما وقفت عليه من جديد. والله ارجو ان يرضى به عملا، ان يهيئ من لدنه القوة والسداد حتى اتم ما بدأ انه لنعم النصير والظهير، وهو ولى التوفيق. يقول الله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا

المفردات

اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. (سورة البقرة: 238، 239) المفردات : «حافظوا» داوموا عليها باتقان (الوسطى) المتوسطة او الفضلى والمراد بها صلاة العصر على الاصح (قانتين) ذاكرين الله فى القيام مداومين على الضراعة والخشوع. المعنى : الصلاة عماد الدين والركن العملى الاول الذى يكرر فى اليوم خمس مرات لما لها من الاثر الفعال فى تطهير النفس وهى كالبئر يغتسل منه المصلى خمس مرات فى اليوم والليلة فهل يبقى عليه من درن؟ ولهذا كله امرنا بالمحافظة عليها ووضعها بين الاحكام التى تتعلق بالبيوت والاسر إشارة الى انه يجب الا تشغلنا البيوت وما فيها ولا انفسنا عن الصلاة وللاشارة الى ان الصلاة والاتصال بالله مما يصفى الروح ويزيل كدرتها التى كثيرا ما تكون سببا فى ازمات تقع فى الاسرة. وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، حافظوا على الصلاة مطلقا يحفظكم من كل هم وغم ويحفظكم من الفحشاء والمنكر خاصة الصلاة الوسطى وهى العصر لقوله صلّى الله عليه وسلم يوم الاحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر». ووقت صلاة العصر كما يقولون وقت وسط بين وقتى الظهر والمغرب فهى متوسطة بهذا المعنى، وقوموا لله خاشعين ذاكرين الله دون سواه. وللاشارة الى خطر الصلاة وانه لا يصح لمسلم ان يتركها لعذر قيل ما معناه لا عذر فى ترك الصلاة حتى فى مجال الخوف على النفس او المال او العرض بل صلوا على اى كيفية راكبين او ماشين سائرين او

ونموذج آخر

واقفين، على اى وضع كان، فاذا زال الخوف فاذكروا الله فى الصلاة كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون من كيفية الصلاة فى حال الامن والخوف. ونموذج آخر : يقول الله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ. (سورة الاعراف: 204) المفردات : فَاسْتَمِعُوا الاستماع يزيد عن السمع بالاتصال والقصد والنية. تَضَرُّعاً من الضراعة والذلة والخضوع وَخِيفَةً خائفين بِالْغُدُوِّ الغدو جمع غدوة وهى ما بين صلاة الفجر الى طلوع الشمس وَالْآصالِ جمع اصيل وهو ما بعد العصر الى الغروب. المعنى : اذ قرئ القرآن الكريم فاستمعوا له بانصات وادب وقصد مع السكون والخشوع رجاء ان ترحموا من الله فإنه لا يستمع لكلامه بادب وحسن استماع الا المخلصون الذين فى قلوبهم نور الايمان وبرد اليقين اما من اهمتهم الدنيا واقضت مضاجعهم حتى اصبحت قلوبهم خلوا من نور الايمان تراهم عند سماع القرآن لا ينصتون ابدا بل ويتكلمون فى توافه الامور. والآية عامة فى الصلاة والخطبة وغيرهما، ايليق بالمسلم ان يتكلم الله فلا

يستمع ويتكلم جاره فيستمع؟ واذكر ربك فى نفسك وذلك بذكر اسمائه وصفاته وشكره واستغفاره والمهم التذكر بالقلب الا بذكر الله تطمئن القلوب. اذكره ضارعا متذللا خاضعا خائفا راجيا ثوابه، مع إتمام الاسم وعدم استعمال ما يخل اذكره بلسانك وقلبك ذكرا دون الجهر وفوق السر اي اذكره وسطا بين هذا وذاك «ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا». وانسب الأوقات للذكر وقت الصباح والمساء وبقية النهار وتحصيل الرزق وإياك أيها المسلم ان تكون من الغافلين عن ذكر الله بقلبك، واعلم ان الذين عند ربك من الملائكة والمقربين لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه فى الليل والنهار، وله وحده يسجدون فكيف بك؟

المنتخب في تفسير القرآن

المنتخب في تفسير القرآن ان الحاجة الماسة فى العصر الحاضر تدعو الى ترجمة معانى القرآن الكريم ترجمة دقيقة بقدر الاستطاعة. وذلك ان الترجمات الموجودة فى الاغلب الاعم منها، تقصر عن الترجمة الدقيقة فى بعض الآيات وتضل فى البعض الآخر. وذلك لقصور المترجمين فى احدى اللغتين المترجم منها، او المترجم اليها، او لقصورهم فى بعض العلوم التى تتصل بالقرآن الكريم اتصالا وثيقا كالاحاديث النبوية الشريفة، او اسباب النزول، او السيرة النبوية. من اجل ذلك لا تمثل الاغلبية من هذه الترجمات المعنى القرآنى تمثيلا صحيحا. وهذا التمثيل الصحيح ضرورى لنشر الدعوة ولبيان المبادئ الاسلامية للغرب. ولكل من لا يعرف اللغة العربية بيانا صادقا. ولكن المجلس الاعلى للشئون الاسلامية فى جد للقيام بهذا العلم، وهيأ له كل وسائل النجاح، وجمع مجموعة ضخمة من العلماء، وأبان لهم الفكرة، ووضع لهؤلاء العلماء منهجا فيما بينهم، وبدءوا، ورأى المشرفون على العمل من العلماء أنفسهم ان هناك تفاوتا بين مفسر وآخر، وبين الاطالة والايجاز، ورأوا المشارب تختلف وتتعدد، وهذا امر طبيعي، ولكن كان من الضرورى ان يكون هناك نوع من الانسجام التقارب الوثيق اذا لم يتأت اتحاد المنهج اتحادا تاما، فؤلفت لجنة من كبار العلماء سميت لجنة التنسيق وأخذت تنسق ما يأتيها من موارد التفسير حتى يكون المنهج والطابع منسجما متقاربا. وحينما قطعت لجنة التنسيق شوطا لا بأس به فى العمل واصبح المنهج والطابع مفهوما واضحا، انقسمت اللجنة إلى ثلاث لجان، وذلك للتمكن من السرعة فى انهاء هذا العمل الجليل.

مميزات هذا التفسير

وفى هذه الاثناء كان الخبراء فى الفنون المختلفة كالفلك، والاحياء، والطب يدرسون الآيات المتصلة بعلومهم فى القرآن الكريم ويضعون عليها تعليقات موجزة، وكانت لجنة التنسيق تنظر فى كل ذلك حتى انتهت من العمل على خير اسلوب واصبح العمل معدا اعدادا متقنا للترجمة. ولكن شاءت المقادير ان يكون هذا العمل الذي اعد اولا وقبل كل شيء للترجمة يصبح تفسيرا للقرآن الكريم يتهافت عليه الناس من مختلف الهيئات والبيئات ويصبح اكثر التفاسير القرآنية رواجا. لانه فى متناول كل الناس على مختلف ثقافاتهم. ولانه موجز يتناسب مع طابع السرعة فى العصر الحاضر، ولانه حقيقة الامر قد هيأ الله سبحانه وتعالى له الدقة والتركيز والسهولة. وهو تفسير يجمع إلى ايجاز العبارة: الوفاء بالمعنى المراد، بعيدا عن التعقيد قريبا من الهدف الذي يرجى من القرآن، وهو انتفاع المسلم العادى بما فى كتاب الله مما فيه صلاح دينه ودنياه وآخرته من اقرب طريق، فكان هذا التفسير الذى اسهم فى اخراجه جمع من العلماء فى المجلس الاعلى للشئون الاسلامية. مميزات هذا التفسير : 1 - يمتاز هذا التفسير بانه وضع باسلوب عصرى سهل واضح العبارة وجيز لا يخل ولا يمل. 2 - يخلو هذا التفسير مما كثر فى تفاسير السابقين من: الخلافات المذهبية، والمصطلحات الفنية، والحشو، والتعقيدات اللفظية. 3 - يخلو هذا التفسير من كثير مما فى تفاسير السابقين من قصص أو ما يشبه الاساطير والحكايات والاخبار الإسرائيلية.

4 - روعى فى هذا التفسير ان يكون فى مقدور العلماء باللغات الاجنبية من ابناء العربية نقل معانى القرآن وترجمتها الى تلك اللغات الاجنبية حتى تظل رسالة المسلم هى التبليغ دائما امرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وعملا بموجب كتاب الله سبحانه. 5 - كل آية فى هذا التفسير وضع لها تفسيرها بازائها حسب الارقام الواردة فى المصحف فالآية رقم (1) تفسيرها تحت نفس الرقم (2) تفسيرها تحت هذا الرقم (2) وهكذا. 6 - قد يلحق بتفسير بعض الآيات اشارات بالهامش تتعلق بالمعنى العام للآية او لإيضاح لفظ او لبيان مسألة من المسائل تترتب على المعنى المفهوم من اللفظ او الآية على وجه العموم. نماذج من هذا التفسير: فى قوله تعالى من سورة البقرة: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ- (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى، كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ، وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ، فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً، لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ- (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ،

فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ- (265) الآية (263) تفسيرها: قول تطيب به النفوس، وتستر معه حال الفقير، فلا تذكر لغيره، خير من عطاء يتبعه ايذاء بالقول أو الفعل، والله سبحانه وتعالى غنى عن كل عطاء مصحوب بالأذى ويمكن الفقراء من الرزق الطيب. الآية (264) تفسيرها: لا تضيعوا ثواب صدقاتكم أيها المؤمنون بإظهار فضلكم على المحتاجين وايذائهم فتكونوا كالذين ينفقون أموالهم بدافع الرغبة فى الشهرة، وحب الثناء من الناس وهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فإن حال المرائى فى نفقته كحال حجر املس عليه تراب، هطل عليه مطر شديد فأزال ما عليه من تراب فكما إن المطر العزير يزيل التراب الخصب المنتج من الحجر الأملس، فكذلك المن والأذى والرياء تبطل ثواب الصدقات فلا ينتفع المنتفعون بشيء منها، وتلك صفات الكفار فتجنبوها، لأن الله لا يوفق الكافرين إلى الخير والارشاد. الآية (265) تفسيرها: حال الذين ينفقون أموالهم طلبا لمرضاة الله وتثبيتا لأنفسهم على الإيمان، كحال: صاحب بستان بأرض خصبة مرتفعة، يفيده كثير الماء وقليلة، فإن أصابه مطر غزير أثمر مثلين وإن لم يصبه المطر الكثير بل القليل فإنه يكفى لاثماره لجودة الأرض وطيبها فهو مثمر فى الحالتين، فالمؤمنون المخلصون لا تبور اعمالهم. والله لا يخفى عليه شيء من اعمالكم. نرجو الله سبحانه وتعالى أن يجزى الذين قاموا به خير الجزاء تم بحمد الله

§1/1