مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها

الرجراجي، علي بن سعيد

منَاهِجُ التَّحصِيلِ ونتائج لطائف التَّأويل في شَرح المدَوَّنة وحَلِّ مشكلاتها تأليف أبي الحسن على بن سعيد الرجراجي تقديم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور علي علي لُقَم اعتنى به أبو الفضل الدّميَاطي أحمد بن عليّ الجُزءُ الأوَّل مركز التراث الثقافي المغربي دار ابن حزم

حُقُوقُ الطَّبع مَحفُوظَة الطَّبعة الأولى 1428هـ - 2007م ISBN 9953 - 81 - 431 - 7 الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها مركز التراث الثقافي المغربي الدار البيضاء -52 شارع القسطلاني- الأحباس هاتف: 442931 - 022/ فاكس:442935 - 022 المملكة المغربية دار بن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هاتف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

منَاهِجُ التَّحصِيلِ ونتائج لطائف التأويل في شرح المدَوَّنة وحَلِّ مُشكِلاتهَا 1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمَّدا عبده ورسوله، أقام الله به الملة العوجاء، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وهدى به البشرية التائهة إلى أقوم سبيل وأوضح طريق وأحسن منهج، وقد افترض الله -تعالى- على العباد طاعته وتوقيره ومحبته، والاقتداء بهديه واتباع سنته، وجعل الله العزة والمنعة والقوة والنصرة والولاية والتمكين في الأرض لمن نصره واتبع هداه وجعل الذلة والصغار لمن خالف أمره وعصاه وبعد: فإن رسالة الإِسلام ليست رسالة محلية يختص بها جيل دون جيل أو قبيل دون قبيل أو زمن دون زمن بل هى رسالة عامة للناس جميعا في كل زمان ومكان قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]. وإن كل تشريعات الإِسلام التي جاء بها النبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - تروم وتهدف إلى تزكية النفس وتطهيرها وتطييبها وحفظها وحفظ الدين والعقل

والنسل والمال وهذا لا يتصادم مع الفطر السوية والنفوس السليمة قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. والتشريع الإِسلامى يمثل الناحية العملية من رسالة الإِسلام، ومصدره وحى الله -سبحانه وتعالى- لنبيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من كتاب وسنة بفهم سلف الأمة الذين هم أقرب الناس إلى عصر النبوة قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115] وقال - تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3, 4]. ويقوم التشريع الإِسلامى على عدة أسس منها: أنه أرسى مبدأ الشورى فيما يتصل بالأمور الدنيوية ولم يرد فيه نص صريح قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، ومنها: النهى عن البحث فيما لم يقع. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، ومنها: النهى عن كثرة السؤال والانشغال بما يفيد وينفع، وأخرج مسلم من حديث أبى هريرة - رضي الله تعالى عنه قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

"إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال" ومنها: رد المسائل المتنازع فيها إلى الكتاب والسنة امتثالا لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]، ومنها البعد عن الشقاق والتنازع امتثالا لقوله - تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]. هذه هى الأسس والقواعد التي سار عليها الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين - ومن بعدهم من القرون المشهود لها بالخير، ولم يقع بينهم اختلاف إلا في مسائل معدودة بسبب التفاوت في فهم النص أو سماع أحدهم قولا لم يسمعه غيره، لكن هذا الاختلاف في عصر الصحابة والتابعين كان محدودا وكان قائما على قواعد وأصول ثابتة مردها إلى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ثم ظهرت المذاهب الفقهية التي أثرت الحياة العلمية أيما إثراء بكثرة المؤلفات وإعمال الفكر والعقل في النصوص فوجد الفقه المالكي والفقه الحنفي والفقه الشافعي والفقه الحنبلي وهذه هى المذاهب الفقهية التي اشتهرت وذاع صيتها في الآفاق. وهذا الكتاب الذي بين أيدينا هو شرح لكتاب المدونة للإمام مالك -رحمه الله- وهو "مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة

وحل مشكلاتها" لأبي الحسن علي بن سعيد الرجراجي. وترجع أهمية هذا الكتاب وقيمته العلمية إلى أنه شرح لكتاب المدونة الذي يعد عمدة الفقه المالكى والمرجع الأصلي لمن أراد الإلمام بفقه الإِمام مالك. وقد قيض الله - تعالى: أخانا الكريم المحقق المدقق الأخ/ أحمد بن علي المعروف بأبى الفضل الدمياطى ليقوم بإخراج هذا الكتاب وتحقيقه، وهو عملا ضخم صعب المسلك، لكنه أهل لذلك فجمع نسخه الخمس من مختلف الأماكن وبين ما في بعضها من سقط، وقام بضبط النص ضبطا دقيقا ينم عن خبرة واسعة في هذا المجال، ولعل كثرة النسخ الخطية ساعدت على إخراج النص في أحسن صورة، كما قام بتخريج الآيات والأحاديث، كما قام بتفسير بعض الكلمات الغريبة وذيل الكتاب بفهارس فنية متنوعة. وهذا العمل العلمي قد بذل فيه محققه جهدا طيبا يستحق التقدير فجزاه الله خيرا ونفع به طلاب العلم. "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين" كتبه أ. د/ علي علي لقم أستاذ اللغويات المساعد بجامعة الأزهر

مقدمة المحقق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة المحقق إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فهذا كتاب "مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها" للإمام العلامة المحقق المدقق البحاثة السلفي أبي الحسن عليِّ بن سعيد الرجراجي -رحمه الله تعالى- وكما هو معلوم أن الفقه منه ما هو تأصيلى وهو ما عُنى فيه بذكر الدليل، وتجريدي وهو ما اكتفى فيه بذكر المذهب من غير تدليل ولا مناقشة، فإن كتابنا هذا -أعنى المناهج- من النوع الأول، فإن المؤلف رحمه الله اهتم بذكر الدليل عند الخلاف في كثير من المسائل، وذلك من غير تعصب منه رحمه الله لمذهبه، وإنما عرفناه رحمه الله على مدار هذا الكتاب موصوفًا بالإنصاف مجانبا للاعتساف، وربما خالف مذهبه لصحة دليل المخالف.

منهج المؤلف في الكتاب: قال رحمه الله تعالى: "لخصت فيه من فصول الفوائد، وحصلت فيه من أمهات القواعد، ما لم يُلق في كتب الأولين على هذا الضبط، ولم يصادف في مجالس البحث مما جرى للمتقدمين على ترتيب هذا النمط وقد يختلف في بعضها فحول المذهب، ونظار المغرب، ولكل واحد منهم فيما اختاره رأي مصيب، والخطب هين في اختلاف الإيراد بعد اتفاق المغزى والمراد قريب، هذا ولم أقصد الطعن في كلام المتقدمين، وتصانيف المتأخرين، بل التمثيل صحيح للسلف الأول وللخلف النظم". كما اهتم رحمه الله تعالى بحسن السياق، والترتيب، ووجوه التحرير والتهذيب وتمهيد الدلائل، واستنباط الدليل، مع بيان أسباب الخلاف، وتلفيق ما يمكن تلفيقه من الأقوال، وإزالة الإشكال. كما قام بتلخيص مسائل المدونة، وبيان محل الخلاف فيها، وتحصيل الأقوال وتنزيلها، وحل مشكلاتها ومحتملاتها بدليل ليشهد بصحتها أو نصوص تقع في المذاهب على وفقها. السبب الداعى إلى تأليف الكتاب: قال رحمه الله: سألنى بعض الطلبة المنتمين إلينا والمتعلقين بأذيالنا، الذين طالت صحبتهم معنا أن أجمع لهم بعض ما تعلق عليه اصطلاحنا فى مجالس الدرس لمسائل المدونة، ومن وضوح المشكلات وتحصيل وجوه الاحتمالات، وبيان ما وقع فيه من المجملات، فصادف لسانه قلبًا منا قريحا، ....... " وقال أيضا:

"والحامل على وضع هذا الكتاب: حمية على طوائف من المبتدئين تركوا شمس الضحى واصطلاح المشايخ، وحاولوا الاستضائة بالصبح أول ما يتنفس" عملنا في الكتاب: 1 - قمنا بنسخ الأصل الخطي. 2 - ضبط النص وتوثيقه. 3 - خرجنا الآيات. 4 - خرجنا الأحاديث وكثير من الآثار. 5 - قمنا بعزو بعض الأقوال إلى مصادرها الأولى. 6 - بَينا بعض معاني الكلمات المشكلة. 7 - عَرَّفنَا ببعض المصطلحات الأصولية والفقهية. 8 - قمنا بعمل مقدمة أعربنا فيها عن منهجية المؤلف في كتابه، وسبب تأليف الكتاب وعملى فيه. 9 - قمنا بعمل ترجمة للمؤلف. 10 - عملنا فهارس علمية للكتاب.

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف للأسف الشديد، إنى لم أقف للمؤلف على ترجمة توفيه حقه أو بعض حقه ولم أقف بعد البحث الشديد سوى على أسطر قلائل في "نيل الابتهاج" للتنبكتي - رحمه الله - ترجم بها للمؤلف فقال: علي بن سعيد الرجراجي صاحب "مناهج التحصيل في شرح المدونة"، الشيخ الإِمام الفقيه، الحافظ، الفروعي، الحاج الفاضل، لخص في شرحه المذكور ما وقع للأئمة من التأويلات واعتمد على كلام القاضى ابن رشد والقاضي عياض وتخريجات أبى الحسن اللخمى، وكان ماهرًا في العربية والأصلين. لقي بالمشرق جماعة من أهل العلم منهم: الفرموسِ الجزولى، لقيه على ظهر البحر وتكلم معه في مسائل العربية وأخذ عنه كثير من أهل المشرق. اهـ. هذا ما وقفت عليه من ترجمة المؤلف في "نيل الابتهاج" (ص/ 316). وقد اتصلت هاتفيا بفضيلة الشيخ العلامة أبى أويس محمَّد الأمين بوخبزة وسألته عن مصادر لهذه الترجمة، فقال: إن المؤلف من رجراجة وأهل رجراجة بربر، وتراجمهم قليلة، ولا أعرف على حد علمي ترجمة للمؤلف غير ما ذكره التنبكتى في "نيل الابتهاج"، وأن الدكتور عمر الجيدي تكلم على كتاب "مناهج التحصيل" في كتاب له. أهـ. إلا أن هناك جوانب مهمة في شخصية المؤلف تتضح من خلال كتابه

هذا فمنها: أولا: عقيدته: رغم أن المذهب الأشعرى كان هو المذهب السائد في الغرب كما يقول محمَّد المنوني: كانت المذاهب الغالبة على المغرب في الفتره المرينية هى: المذهب الأشعري في المعتقدات، والمذهب المالكى في الفقهيات، والصوفية السنية. إلا أن المؤلف -رحمه الله- سلفى العقيدة، مستقيم على منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم يتضح هذا جليا من رده على الأشعرية والمعتزلة فى كتابه هذا، ومن طالع الكتاب وقف على شيء من هذا. ثانيًا: سعة علمه واطلاعه: كان المؤلف رحمه الله واسع الاطلاع غزير العلم، يدل على هذا قوله: وسبب الخلاف: الإنبات، هل هو علامة البلوغ أم لا؟ وظاهر ما قال في "كتاب القطع في السرقة" أنَّ الإنبات من علامات البُلُوغ. وأما المُراهق الذى لم ينبت الشعر، والذي تقتضيهِ "المُدوَّنة" وظواهرها ونصوص المذهب: أنَّ المُراهق لا يحكم عليه ولا لهُ حُكم البالغ. ومنِ أعجب ما رأيت بعض متفقهة الزمان يلهثون في المجالس بمكانة الخلاف في المُراهق، هل هو كالبالغ أم لا؟ وقد مارستُ المجالس، وأفنيتُ في المدارس عُمرى، وطالعتُ الأمهات في الفقه والآثار, "كالنوادر" "والاستذكار" "والتحصيل"

وكتاب "الاستيعاب للأقاويل" "وكتهذيب الطالب"، وكتاب "إسناد المطالب"، وطالعت كثيرًا من كُتب الحديث وشرحها، وتفاسير القرآن ككتاب "قانون التأويل في شرح علوم التنزيل"، مع بسطهِ وكثرة بحثهِ واستقصائهِ، حتى أربى على جميع المصنفين في تلك الطريقة، لأن صاحبه جمع فيه بين تفسير الظواهر والبواطن، فما سمعت ولا رأيت فيما رأيت من يقول: إن المراهق له حكم البالغ!! أهـ. ثالثا: شدة اتباعه للدليل: ويتضح أيضًا أن المصنف -رحمه الله- كان يضع الدليل نصب عينيه ويدور معه حيث دار، قال رحمه الله: "أما ابن القاسم فلم يزل قوله على الأصل، لأنه اتفق هو وابن حبيب أن الضرورة تنقل الحكم عن محله الذي هو الذبح والنحر، وخصص به موضعا بعينه من غير دليل ثبت عنده , وذلك مخصص الدعوى إليهم، إلا أن يكون هناك أثر يتبع، فسمعا وطاعة". وأمثال هذا في الكتاب كثير. رابعًا: تأدبه مع أصحاب المذاهب، وعدم تعصبه لمذهبه: عرفنا المصنف رحمه الله على مدار كتابه هذا بأدبه الجم مع أصحاب المذاهب الأخرى، فيقول: وإلى هذا مال حذاق الشافعية، ويقول: وهذا مذهب السادة الأحناف ....... إلخ. كما أشار رحمه الله فى مقدمته أنه تحرى في هذا الكتاب الإنصاف وترك الاعتساف، وترى أنه رحمه الله وَفَّىَ بهذا الخلق فنرى أنه ترك مذهبه وخالفه آخذًا بمذهب آخر لقوة دليله على دليل مذهبه. ومن طالع هذا الكتاب، وقف على جوانب أخرى تشهد بعلو قدم المصنف في الفقه، والأصول، والعربية، وسلامة العقيدة.

وصف النسخ المعتمدة في التحقيق

وصف النُّسخ المعتمدة في التحقيق رزقنا الله سبحانه وتعالى خمس نسخ خطية لهذا الكتاب وإليك بيان كل واحدة على حدة. النسخة الأولى: وهي نسخة دار الكتب المصرية. وصف النسخة: هذه نسخة كاملة غير ناقصة، وليس بها سقط ولا خرم. اسم الناسخ: عبد الله بن عمر بن يوسف الزواوي المالكي. تاريخ النسخ: سنة 733 هجرية. عدد الأوراق: 500 ورقة. تحت رقم: 95 فقه مالكي. وقد اعتمدنا هذه النسخة كأصل، ورمزنا لها بالرمز (أ). النسخة الثانية: وهي نسخة مصورة من الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة عن مكتبة القرويين بفاس. وصف النسخة: هذه نسخة ناقصة تبدأ من أول الكتاب إلى آخر كتاب النكاح الأول. اسم الناسخ: لم يذكر تاريخ النسخ: لم يذكر عدد الأوراق: 77 ورقة

عدد الأسطر: 41 سطرا. وهذه النسخة رمزنا لها بالرمز (ب). النسخة الثالثة: وهذه النسخة مصورة من الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة عن مكتبة القرويين بفاس. وصف النسخة: ناقصة مكونة من جزأين، الجزء الأول يبدأ بأول كتاب النكاح الأول، وينتهى بآخر كتاب الولاء والمواريث. والجزء الثاني يبدأ بأول كتاب الرهون، وينتهى بآخر كتاب الديات. الناسخ: أبو بكر بن الطيب بن يونس. عدد الأوراق: 260 ورقة. عدد الأسطر: 30 سطر. تاريخ النسخ: لم يذكر. وقد رمزنا لهذه النسخة بالرمز (هـ). النسخة الرابعة: وهي نسخة مصورة من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية عن مكتبة الزاوية الناصرية. وصف النسخة: هذه نسخة ناقصة مكونة من جزأين، الجزء الأول يبدأ من أول الكتاب غير أنه سقط من أوله مقدمة المؤلف بكاملها غير ورقة واحدة، وينتهى هذا الجزء بآخر كتاب الضحايا.

والجزء الثاني يبدأ بأول كتاب النكاح الأول، وينتهى بآخر كتاب الولاء والمواريث. اسم الناسخ: لم يذكر. تاريخ النسخ: لم يذكر. عدد الأوراق: 210 ورقة. عدد الأسطر: 32 سطر. وقد رمزنا لهذه النسخة بالرمز (ج) ... النسخة الخامسة: وهي نسخة مصورة عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية عن الخزانة العامة بالرباط. وصف النسخة: هذة نسخة ناقصة تقع في مجلد واحد يبدأ بأول كتاب النكاح الأول وينتهى بآخر كتاب الصرف. اسم الناسخ: لم يذكر. تاريخ النسخ: 987 هجرية. تحت رقم: 88 الخزانة العامة. عدد الأوراق: 155 ورقة. عدد الأسطر: 29 سطر. وقد رمزنا لهذه النسخة بالرمز (ع).

لوحة العنوان من النسخة (أ)

اللوحة الأولى من النسخة (أ)

اللوحة الأخيرة من النسخة (أ)

لوحة العنوان من النسخة (ب)

اللوحة الأولى من النسخة (ب)

اللوحة الأخيرة من النسخة (ب)

لوحة العنوان من النسخة (جـ)

اللوحة الأولى من النسخة (جـ)

اللوحة الأخيرة من النسخة (جـ)

لوحة العنوان من النسخة (ع)

اللوحة الأولى من النسخة (ع)

اللوحة الأخيرة من النسخة (ع)

لوحة العنوان من النسخة (هـ)

اللوحة الأولى من النسخة (هـ)

اللوحة الأخيرة من النسخة (هـ)

مقدمة المصنف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا ونبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. الحمد لله الذي نور البصائر لإظهار الحق، وأعان وأغنى بقصده، وأيده على الإصرار على [أضعاف] (¬1) الإيمان الذي صلى به الفؤاد، فأنطق به اللسان، وجعل جياد جزمنا تتألق في صدر الباطل، فترى بحوله وقوته أعمال [السر] (¬2) [الأذان] (¬3) [يعلو] (¬4) في يوم الطعان. والصلاة على [سيدنا] (¬5) محمَّد، نبيه الكريم المصطفى، ورسوله المقرب المجتبى، الآتي على فترة من الرسل، وإشعار بآخر الزمان، الآخذ بالحجز عن النار، يوم يكون أهل الإشراك في الأشراك، وأهل الإيمان في الأمان، المبعوث بالحق بشيرًا، ونذيرًا، وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في الله بشهادة الفرقان، فأوضح السبيل ودفع العلل بما تلقاه، ووعاه في ليلة الإسراء، وبعدها من البيان، وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في الله من بعده بأيْد وشدَّة وجدة تلوح على أثر حفدة الذين لم يكن بهم شرف، ولا نام [لهم] (¬6) طرف، ولا غمد لهم سيف حتى توفرت الدواعي على إكمال الدين الذي جعل الله لهم أهم شأن، وبهذا خاصموا الأمة طول مددهم بألسنة الخرسان، ولم يعدموا في الضالين المضلين فتنة بكرًا تخطبها لهم كل حرب عوان. ¬

_ (¬1) هكذا في ب. (¬2) بياض في أ. (¬3) في أ: اللذان. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من أ. (¬6) في أ: منهم.

فالسعيد من حذا حذوهم، وجرى إلى غايتهم ملء العنان. [وبعد] (¬1): فقد سألني بعض الطلبة المنتمون إلينا، المتعلقين بأذيالنا، الذين طالت صحبتهم [معنا] (¬2) أن أجمع لهم بعض ما [تعلق] (¬3) عليه اصطلاحنا في مجالس الدرس لمسائل المدونة من وضوح المشكلات، وتحصيل وجوه الاحتمالات، وبيان ما وقع فيه من [المجملات] (¬4) , فصادف [لسانه] (¬5) قلبًا منا قريحًا بائتلام حصن الإِسلام بموت فقهاء الأمة وسادات الأئمة، وانقطاع رفقة العلم بذهاب الدفاتر [وخراب] (¬6) المحاضر في البوادي والحواضر، مع تبلد الخاطر لكثرة ما يرد عليه من الخواطر لسبب فتنة [المغرب] (¬7) ودكاله، ومن انضاف [إليهما] (¬8) من أهل البغي والرذالة حتى [أخربوا] (¬9) المغرب الأقصى، وهلك فيه من الخلق ما لا يحصى. وقد منَّ الله عليَّ بالخلاص؛ لطفًا منه وبرًا ونعمة لا أحيط بها شكرًا، ففررت لما رأيت نارًا لا أطيق لها [شررًا] (¬10) ونفسًا مني قد تركتها هذه ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: معي. (¬3) في ب: نقري. (¬4) في ب: المحتملات. (¬5) في ب: سؤاله. (¬6) في ب: وكتاب (¬7) في أ: العرب. (¬8) في ب: إليهم. (¬9) في ب: خرب. (¬10) في أ: شرًا.

[النوبة] (¬1) وما بها إلا الرمق نجت برأسها، وتركت أعزة الأهل في [أسرار الرفق] (¬2) فألقيت إليه هذه المعاذير، فلم تزده إلا إلحاحًا, ولا نجحت فيه إلا إغراءً وإفصاحًا حتى بلغ الأمر مبلغًا أحسست منه [بالوقوع] (¬3) في مظنة [الضنة] (¬4) [عليه] (¬5)، ونعوذ بالله من البخل، ولاسيما بالعلم مع الأهل، فابتدرت حنيئذ إلى إجابة الداعي، وتداعت مني إلى إسعاف بغيته الدّواعي، فانتدبت إلى وضع كتاب ترجمته بكتاب: ["مناهج] (¬6) التحصيل، ونتائج لطائف التأويل"، لخصت فيه من فصول [الفوائد] (¬7)، وحصلت فيه من أمهات [القواعد] (¬8) ما لم يلق في كتب الأولين على هذا الضبط، ولم يصادف في مجالس البحث ما جرى للمتقدمين على ترتيب هذا النمط، وقد يختلف في بعضها، فحول المذهب ونظار المغرب، ولكل [واحد] (¬9) منهم فيما اختاره رأي مصيب [والخطب هين] (¬10) في اختلاف الإيراد بعد اتفاق [المغزى] (¬11) والمراد [قريب] (¬12). هذا ولم أقصد الطعن في كلام المتقدمين وتصانيف المتأخرين؛ بل ¬

_ (¬1) في ب: الغربة. (¬2) هكذا في ب. (¬3) في ب: الوقوع. (¬4) في أ: الظنة. (¬5) زيادة من أ. (¬6) في ب: منهاج. (¬7) في ب: القواعد. (¬8) في ب: المعاقد. (¬9) زيادة من ب. (¬10) سقط من أ. (¬11) في ب: المعنى. (¬12) سقط من ب.

التمثيل صحيح للسلف الأول، وللخلف النظم. والحامل على وضع هذا الكتاب: حمية على طوائف من المبتدئين تركوا شمس الضحى [و] (¬1) اصطلاح المشايخ، وحاولوا الاستضائة بالصبح أول ما يتنفس. وقد كان للقدماء رحمة الله عليهم في تدريس المدونة اصطلاحان: [اصطلاح] (¬2) عراقي، [واصطلاح] (¬3) قروي. فالاصطلاح العراقي: جعلوا مسائل المدونة كالأساس، وبنوا عليها فصول المذهب بالأدلة والقياس، ولم يعرجوا [على] (¬4) [الكتاب] (¬5) بتصحيح الروايات، [ومناقشة] (¬6) الألفاظ، ودأبهم القصد إلى إفراد المسائل وتحرير الدلائل [برسم] (¬7) الجدليين، وأهل النظر من الأصوليين. وأما الاصطلاح القروي: فهو البحث عن ألفاظ الكتاب، والتحرز عما احتوت عليه بواطن الأبواب، وتصحيح الروايات، وبيان وجوه الاحتمالات، والتنبيه على ما في الكتاب من اضطراب الجوابات، واختلاف المقالات مع ما انضاف إلى ذلك من تتبع سياق الآثار, وترتيب أسانيد الأخبار، وضبط الحروف على حسب ما وقع من السماع -وافق ذلك عوامل الإعراب [أو] (¬8) [خالفها] (¬9). ¬

_ (¬1) في ب: في. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: إلى. (¬5) في ب: المكتبة. (¬6) في ب: ومناسبة. (¬7) في ب: على رسم. (¬8) في ب: أم لا. (¬9) سقط من ب.

فهذه سيرة القوم إلى أن [أدرجوا] (¬1) رضوان الله عليهم ثم نجم بعدهم [طوائف في أقصى المغرب] (¬2) ضلوا عن جادة الطريق، وتنكبوا عن مسالك التحقيق، وهجموا على [أكبر يم] (¬3) وركبوا [لجج] (¬4) البحر دون سفين؛ [فوجدوا فلاة بغير دليل] (¬5)، ولا اهتدوا بسلوك السبيل، فاقتحموا على [تدريس] (¬6) المدونة بغير إجازة من شيخ، ولا تحقيق من شرح حتى أن من سلك منهم نذرًا حقيرًا، وقدرًا يسيرًا بفرض وانتصب، وتعب ونصب نفسه إلى معرفة أسرارها [واستخراج] (¬7) مكنونها. وسبب ذلك: أن أبواب الدواعي مفتوحة للخائض [مفتوحة وسياط التحسب عن متعاطيها] (¬8) مطروحة، فلله در القائل: لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها ... ورخصت حتى رامها كل مفلس فهؤلاء القوم انقسموا في تدريسها على طوائف: فطائف أعرضت وفرطت وقصرت، وطائفة أوغلت وأسرفت، وأفرطت، وطائفة أعدلت [وقصدت] (¬9) وتوسطت. ¬

_ (¬1) في ب: درجوا. (¬2) في ب: أقصى المغرب طوائف. (¬3) سقط من ب. (¬4) في أ: شبح. (¬5) في ب: فلجوا فلاة الأرض بغير دليل. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: واستخرج. (¬8) سقط من أ. (¬9) زيادة من ب.

فأما الطائفة [المعرضة] (¬1) فقد أعرضت عن الكتاب، ولم تفهم [معنى] (¬2) السؤال منه والجواب، بل اعتمدت على مطالعة كتب [المتأخرين] (¬3) كتبصرة اللخمي، والجامع لابن يونس، وقدموا قراءة الشرح على المشروح، [فكفى] (¬4) بهذا الوصف تبيانًا لفساد وضعهم في [السلوك] (¬5) حتى أن [الجاهد] (¬6) منهم، ومن يشار إليه [بالبنان] (¬7) بالتبحر في الفقه، وفصاحة اللسان يساهر النجوم، ويساور الوجوم في مطالعة الأمهات يرتب وينسخ بعض كلامه على بعض، [ويذهب] (¬8) ويزخرف ألفاظه، ويموه كلامه ويطول أنفاسه حتى [يذهب] (¬9) عامة النهار في الدرس في الكلام الفارغ [منه] (¬10) ويسمع [النقل] (¬11) من "العتبية" و"الموازية". ولا ذكر هناك لمعاني المدونة، وهم في درسها -على زعمهم- فإذا خرج آخرهم من الدرس انحل الترتيب [وانحل] (¬12) واختل ذلك التمويه حتى لا يعقل منها على رواية, فهذه عادته طول العمر يقطع المدونة طالعًا ونازلًا، والإشكال فيها كما كان، ولا جرم تلاميذهم كوادن وهم حشو ¬

_ (¬1) في ب: المفرطة. (¬2) في أ: عن. (¬3) في ب: الشارحين. (¬4) في أ: وكفى. (¬5) في ب: المسلوك. (¬6) في ب: المجاهد. (¬7) في ب: بالبيان. (¬8) سقط من ب. (¬9) في ب: تذهب. (¬10) زيادة من ب. (¬11) هكذا في أ. (¬12) زيادة من ب.

المدارس، ولا حسنة تزداد [ولا] (¬1) سيئة تمحى، فالعياذ بالله من الخذلان. فإذا كانت سيرة الفحول من هذه الطائفة على هذا النعت، فكيف حال الخصيان المتشبهين بالإناث ومن [بضاعته] (¬2) في هذا الفن مزجاة فتعجب من ضلالة المسكين بعول على النقل من الأمهات والدرس للروايات، ولم يميز [منها] (¬3) بين الضعيف والمتين، ولا [يفرق] (¬4) بين الغيث والسمين، ويدعي أنه اقتفى [أثر] (¬5) المشايخ المتقدمين، وهذه تصانيف [المحققين] (¬6) [الموافقين تحقيق] (¬7) ما أطلقه القدماء، وخصوص ما عممه العلماء [ككتاب الوجيز] (¬8) لأبي القاسم بن محرز، [وكتاب] (¬9) "التنبيه" لأبي الفضل [العياضي, وكتاب] (¬10) "الكشف عن أسرار المدونة" [لأبي محمد] (¬11) عبد الحميد السوسي، [وكتاب "الشرح" لابن لبابة" (¬12) الصغير, [وأكثر تصانيف] (¬13) أبي عمران الفاسي قدَّسَ الله أرواحهم في الخوض على تصانيف المدونة، واستقراء الأحكام منها ¬

_ (¬1) في ب: لا. (¬2) في أ: بطاعته. (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: فرق. (¬5) في ب: آثار. (¬6) في ب: التحقيق. (¬7) في ب: الواقفين على تقييد. (¬8) في ب: كالوجيز. (¬9) سقط من ب. (¬10) سقط من ب. (¬11) سقط من ب. (¬12) في ب: وشرح ابن لبابة. (¬13) في ب: وتصنيف.

ينادي على المعول على مجرد النقل بالويل والثبور، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور. وأما الطائفة المفرطة: فقد راغموا الدليل، وسدوا باب التأويل، واتبعوا ظواهر الكتاب، واقتنعوا بالقشور عن اللباب، وركنوا إلى الدعة والراحة، ولم يتعبوا الذهن والقريحة، وهم ظاهرية المذهب. وهذه الطائفة أبخس من الأولى، وأقل منها توفيقًا وأكثرها ماءً، وأقل دقيقًا؛ لأنهم خلطوا المذهب، وأفسدوا أذهان المتعلمين، وجمعوا بين مفترق وفرقوا بين [مجتمعين] (¬1) تحكما بغير بيان، وتعسفًا عريًا عن البرهان، وتخرصًا على صاحب الكتاب بأن ذلك مرامه بالخطاب، فباؤوا بإثم عظيم، واستحقوا بذلك العذاب الأليم، إلا أن يعفو الجواد الكريم، وأما الطائفة المتوسطة المعتدلة: فهي الطائفة الموفقة إلى ما ضلت عنه الطائفتان، [وعميت] (¬2) عنه بصائر الفريقين، وهي أقوم قيلًا، وأهدى إلى الحق سبيلًا وأهلها على ما كان عليه قدماء الأصحاب من مغاربة المذهب، [فبصاعهم] (¬3) كالوا، وعلى [منوالهم] (¬4) نسجوا في استعمال ظواهر الكتاب وبواطنه، واستنباط الفوائد الكامنة في فرائد ألفاظه واستنزال الدر النفيس من أهدابه، واستنزال المعنى الرائق من مخزن أوعاره، وهذه الطائفة في المغرب الأقصى أقل وجودًا في هذا الزمان [من الغراب] (¬5) الأعصم. ¬

_ (¬1) في ب: مجتمع. (¬2) في ب: وعمت. (¬3) في ب: فبضاعتهم. (¬4) في ب: منادلهم. (¬5) سقط من أ.

فصل

فصل [فنحن] (¬1) بحمد الله في كتابنا [هذا] (¬2) على سنن هذه الطائفة [أجرينا] (¬3)، وفي ميدانها ركضنا، ومن مأخذهم [أخذنا] (¬4)، وعلى أصولهم بنينا، ونزيد [عليهم] (¬5) من حسن السياق، والترتيب وجوه التحرير والتهذيب في تحصيل المسائل، وتمهيد الدلائل، ونستنبط التأويل المقصود بالدليل المؤدي إلى أوضح السبيل على ما احتمل أن يكون اختلاف السؤال، أو يكون اختلاف الأقوال، أو اختلاف الأحوال، وفي هذه الثلاثة الأوجه يخطر الاحتمال إنما وقع في المدونة، أو الإجمال وتلفيق ما يمكن تلفيقه من الأقوال، وإزالة ما عسى أن يقع في بعض المسائل من الإشكال، وفتح [ق/ 2أ] ما تغمم على بعض الأبواب من الأقفال، ويسفر الغطاء عما ظهر لنا من الأسرار من إظهار المحجوب من مفهومها من وراء السجوف والأستار بما لم تسبق إليه أقلام العلماء، ولا وطئت ساحته أقدام القدماء، ولا ولجت فيه أفهام الحكماء، ولا يلق في كتبه في تعاليق الفقهاء، ولاسيما ما حصل في أيدي الناس في هذا الزمان من الكتب المترجمة بشرح المدونة، وليست بشرح لها على الحقيقة، وإنما هو النقل من الأمهات، والإطناب في التعريفات، وتعطيل الأوراق بما هو مدون في الدواوين، وقد حكى عن أبي محمَّد عبد الله بن أبي زيد، قال: في المدونة آبار لا يعرفها إلا مؤلفها، فليت شعري كيف غفلوا, ولم يكشفوا الغطاء عن تلكم الآبار؟ هل للعجز والقصور عن إدراك حقائقها، والحلول ¬

_ (¬1) في ب: ونحن. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: جرينا. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: عنهم.

بساحة أوعارها، وكلال الفطنة عن استنباط فرات مياهها، أو لعوارض عائقة، وأعذار مانعة صدته عن بلوغ الغاية، واستيفاء النهاية، والظن بهم رضي الله عنهم أن الوقوف عن ذلك لعائق الأقدار، ومانع الأعذار، ولم يصل إلى هذا المغرب الأقصى في هذا الزمان كتاب في شرح المدونة يشفي العليل علته، ويروي الغليل غلته، إلا "كتاب التنبيه" لأبي الفضل العياضي، غير أنه تناهبته أيدي الطلبة، وقعدوا عليه حتى لا يقدر فيه على النسخة الصحيحة؛ بل تسلطت عليه أقلام من لا يعرف كيف يمسكها، فمسخوه وهو يتوهمون أنهم نسخوه حتى لا يوجد منه شيء يعول عليه إلا من له فطنة ذكية، ورواية زكية، فالبعسار يظفر منه بالمقصود إذا أمعن النظر في المدونة مع توفيق يعضده، والتوفيق بيد الله يؤتيه من يشاء، فها أنا أهذب المقصود وأقرب المطلوب في هذا الكتاب بتلخيص مسائل المدونة، وبيان محل الخلاف فيها، وتحصيل الأقوال المستقرأة من المدونة، وتنزيلها، وبيان مشكلاتها ومحتملاتها بدليل يشهد بصحتها، أو نصوص تقع في المذهب على وفقها، وكل استقراء خرج من موافقة الدليل، أو لم يكن في نص المذهب ما يوافقه، ويؤيده فهو استقراء ساقط عند أهل التحصيل والتأويل، وإنما اعتمد حذاق المذهب العمل بالاستقراء من المدونة، وقدموه على نص يخالفه في المذهب لصحة المدونة، وقوة إسنادها، وكثرة الاعتناء بها؛ [ولذلك] (¬1) قدمت على ما عداها. وقيدت منها مع ذلك المشكلات الشوارد، وعقلت فيها المعضلات الأوابد حتى غادرتها يسقى منها بالأكف، والسواعد بعد أن كانت شاغرة [المسالك] (¬2) والموارد، ونشرف أثناء ذلك من لطائف الفوائد، وطرائف الفرائد ما لم يقع في ¬

_ (¬1) في أ: وبدليل. (¬2) في ب: المباه.

الشروحات له ذكر، ولا انكشف له في التعاليق ستر حتى [يستغني] (¬1) به الطالب عن جملة المصنفات، ويصول به على أصحاب الروايات، وأرباب الدرايات، ويكتفي به عن مطالعة الأمهات، إلا من أراد الاستغزار في الروايات عند تزاحم الأسئلة بالجوابات، أو من تصدى للقضاء والمحاكمات. ولعلنا لا نعدم غمرًا جاهلًا، أو حقودًا عن منهج [الحق] (¬2) مائلًا يشحذ إلينا [حربة] (¬3) الطعن، ويفرق نحونا [سهام] (¬4) سوء الظن، ويدعي ألا تصنيف إلا ما صنفه القدماء، وأن كتب الماضيين بالاقتداء أولى، وما حدث من التصانيف بدعة، وما [ترك] (¬5) الأوائل للأواخر شيئًا، وقد كان فلان وفلان مع [قوة] (¬6) باعهم في العلم ما مدوا أفهامهم إلى التصنيف، ولا بروا أقلامهم على التأليف، [ويسرد] (¬7) من هذا الهذيان كثير، أو يحجج على خطابه بحجج، ويكثر الكلام بغير فائدة، فهذا المسكين المجهول قد ضيق واسعًا، وتعرض لاكتساب الآثام طائعًا, ولم يدر أن باب التصنيف مفتوح، وهو لمن ساعده التوفيق من الله [مبذول] (¬8) وممنوح، وللحق لسان صادع، وحسام قاطع، وقضاء لا يرد وباب لا يسد؛ فاعرف الحق تعرف أهله، ولا تعرف الحق بالرجال، فتتحير في متاهات الضلال. ¬

_ (¬1) في أ: استغنى. (¬2) في ب: الرشد. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: خلف. (¬6) في ب: امتداد. (¬7) في ب: ويورد. (¬8) سقط من ب.

[فصل]

جعلنا الله وإياكم ممن اتضح له الحق فاقتفاه، وظهر له الباطل فنفاه، وإلى الله أرغب في الثواب الجزيل، وهو حسبي ونعم الوكيل، وبه اعتصمت عصمة [تقمع] (¬1) شهوات النفس ودواعيها، وتوفيقًا يرشد إلى مناهج الطاعات ومساعيها. وكان ابتدائي في تصنيف هذا الكتاب: شهر ذي الحجة [سنة] (¬2) ثلاث وثلاثين وستمائة، بجبل الكستة، بجبال جزولة يحرسها الله. [فصل] (¬3) يتضمن مقدمة [نخلتها] (¬4) من كتب المشايخ، تصلح لاستفتاح المدونة عند ابتدائها على سياق عجيب، ورستاق غريب؛ يستملحها السامع عند سماعها، وتهتز بها أعطاف المستملي عند إيرادها؛ ليكون هذا الكتاب -مع صغر حجمه- ولطافة جرمه مفيدًا للطالب [حاويًا لجميع المطالب] (¬5) بحمد الله وعونه. ... ¬

_ (¬1) في أ: تغني. (¬2) في أ: عام. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: تخللتها. (¬5) سقط من أ.

[باب]: في فضل العلم

[باب] (¬1): في فضل العلم وهذه الترجمة تحتوي على فضل العلم والتعلم [والتعليم] (¬2). [وأما] (¬3) فضيلة العلم: فالأصل فيه الكتاب، والسنة، والآثار. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ [وَأُولُو الْعِلْمِ] (¬4) قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬5). فانظر كيف بدأ الله تعالى بنفسه، وثنَّا [بالملائكة] (¬6)، وثلَّث بالعلماء؛ فناهيك بذلك شرفًا وفضلًا وجلالًا و [نفلًا] (¬7). وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬8)، قال ابن عباس: للعلماء [درجات] (¬9) فوق المؤمنين بسبعمائة درجة, بين كل درجة ودرجة مسيرة خمسمائة عام. وقال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} (¬10)، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬11)، وقال ¬

_ (¬1) في ب: فصل. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: فأما. (¬4) سقط من أ. (¬5) سورة آل عمران الآية (18). (¬6) في ب: بملائكته. (¬7) سقط من أ. (¬8) سورة المجادلة الآية (11). (¬9) في أ: درجة. (¬10) سورة العنكبوت الآية (13). (¬11) سورة فاطر الآية (28).

سبحانه: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1)، وقال جلَّ من قائل: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ [الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ] (¬2)} (¬3)، [فرد] (¬4) حكمه في الوقائع إلى استنباطهم، وألحق رتبتهم برتبة الأنبياء [في كشف حكم الله تعالى] (¬5)، وقيل في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} (¬6): يعني: العلم، و"ريشًا": يعني: اليقين، و"لباس التقوى": يعني الحياء. وأما الأخبار: فمنها ما رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ويلهمه رشده" (¬7)، وقال أيضًا: "العلماء ورثة الأنبياء" (¬8)، ومعلوم أنه لا رتبة فوق رتبة النبوة، ولا شرف فوق شرف ¬

_ (¬1) سورة الزمر الآية (9). (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة النساء الآية (83). (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من ب. (¬6) سورة الأعراف الآية (26). (¬7) أخرجه الطبراني في الكبير (19/ 340) حديث (786) من حديث معاوية مرفوعًا. وأخرجه ابن أبي عاصم في "كتاب الزهد" (161)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 107) من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعًا. والحديث أصله عند البخاري (71)، ومسلم (1037) من حديث معاوية من غير هذه الزيادة التي في آخره، فإنها زيادة ضعيفة. قال الشيخ الألباني: ضعيف بهذه الزيادة. الضعيفة (2129). (¬8) أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجة (223)، وأحمد (21208)، والدارمي (342). قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس هو عندي بمتصل. قلت: صححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (6297).

[الوراثة] (¬1) لتلك [الرتبة] (¬2). وقال أيضًا: "يستغفر للعالم أربعة أشياء؛ الملائكة في السماء، والطير في الهواء، والدواب في القِفَار، والحيتان في البحار" (¬3)، وأيُّ منصب [يزيد على] (¬4) من تشتغل [ملائكة السماء] (¬5) بالاستغفار له، وهو بنفسه مشتغل. وقال أيضًا: "العلم يزيد الشريف شريفًا، ويرفع المملوك حتى يدرك مدارك الملوك" (¬6). وقال أيضًا: "أفضل الناس المؤمن العالم الذي إن أُحتِيج إليه نفع، وإن استُغني عنه أغنى نفسه" (¬7). وقال أيضًا: "الإيمان عريان، ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وثمرته العلم" (¬8). وقال أيضًا: "موت قبيلة أيسر من موت عالم" (¬9). ¬

_ (¬1) في ب: الوارث. (¬2) في أ: المرتبة. (¬3) لم أقف عليه بهذه الصياغة. (¬4) في ب: فوق. (¬5) في ب: الملائكة. (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/ 510) والبيهقي في المدخل (398)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (6/ 136/ أ)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 31) من حديث ابن عباس موقوفًا. (¬7) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (7642) من حديث علي مرفوعًا. (¬8) أخرجه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (103)، والديلمي في مسند الفردوس (380) من حديث ابن مسعود موقوفًا. (¬9) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1699)، والرافعي في التدوين (3/ 462) من حديث أبي الدرداء مرفوعًا. =

وقال أيضًا: "الناس معادن؛ فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" (¬1). [وقال أيضًا] (¬2): "يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء" (¬3). وقال أيضًا: "أوحى الله إلى إبراهيم صلوات الله على نبينا وعليه يا إبراهيم: إني عليم أحب كل عليم". وقال أيضًا: "صنفان إذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس؛ الأمراء والفقهاء". وقال أيضًا: "إذا أتى عليَّ يوم لا أزداد فيه علمًا يقربني إلى الله؛ لا بورك لي [في] (¬4) طلوع شمس ذلك اليوم" (¬5). وقال عليه السلام: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي" (¬6). ¬

_ = قال العلامة الألباني: ضعيف جدًا. الضعيفة (4838)، وضعيف الترغيب والترهيب (73). (¬1) أخرجه البخاري (3203)، ومسلم (2526) من حديث أبي هريرة مرفوعًا. (¬2) في ب: وقال - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) أخرجه أبو سعيد السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء (162)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (83)، وقال: هذا حديث لا يصح. ونقل ابن الجوزي عن الخطيب أنه اتهم به محمَّد بن الحسن العسكري أحد رواته، وقال: نراه أنه مما صنعت يداه. (¬4) سقط من أ. (¬5) أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (1128)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 188)، وابن عدي في الكامل (3/ 294)، والطبراني في الأوسط (6636)، والخطيب في التاريخ (6/ 100) من حديث عائشة مرفوعًا. قال المحدث الألباني: موضوع. الضعيفة (379)، وضعيف الجامع (285). (¬6) تقدم.

وقال أيضًا: "ما عُبد الله بشيء أفضل من العلم" (¬1). وقال أيضًا: "يبعث الله العباد يوم القيامة، ثم يبعث العلماء، ثم يقول: يا معشر العلماء: إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم؛ اذهبوا فقد غفرت لكم" (¬2). [وأما الآثار فمنها ما] (¬3) قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل ابن زياد: "العلم خير من المال [العلم] (¬4) يحرسك، وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم فيه، والمال تُنقصه النفقة، والعلم يزكو مع الإنفاق". وقال أيضًا: العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد؛ فإذا مات العالم ثُلم [في] (¬5) الإسلام ثُلْمة لا يسدها إلا خلف منه، وقال رضي الله عنه [شعرًا] (¬6): ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ ... على الهدى لمن استهدى أدلَّاء ووزن كل امرئ ما كان يُحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء وقال [رضي الله عنه نثرًا] (¬7): قيمة كل امرئ ما كان [يحسنه] (¬8)؛ ¬

_ (¬1) قال العلامة الألباني: موضوع. الضعيفة (5159)، وضعيف الترغيب والترهيب (67)، وضعيف الجامع (5104). (¬2) أخرجه ابن عدي في الكامل (4/ 111)، والبيهقي في المدخل (567). قال العلامة الألباني: ضعيف جدًا. الضعيفة (868). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من ب. (¬6) سقط من ب. (¬7) في ب: أيضًا. (¬8) في أ: يحسن.

فنظمه بعض الشعراء [شعرًا] (¬1). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الإمام العادل المتقن: "كل امرئ قيمته عندنا، وعند أهل الأرض ما يحسنه". وقال الآخر (¬2): [كبيب] (¬3) مريض القلب يخفي أنينه ... ويضحي كئيب البال عندي حزينه يلوم عليَّ إن رحت [للعلم طالبًا] (¬4) ... لأجمع من عند الرواة فنونه [وأعرف] (¬5) أبكار [العلوم] (¬6) وعونه ... وأحفظ مما أستفيد عيونه ويزعم أن العلم لا يجلب الغنا ... ويحسن بالجهل الذميم ظنونه فيا لائمي دعني أُغالي بقيمتي ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه [ق/ 3 أ] وقال [أبو] (¬7) الأسود: ليس شيء أعز من العلم، الملوك ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) الشاعر هو ابن طباطبا العلوي. (¬3) في الديوان: حسود. (¬4) في الديوان: في العلم راغبًا. (¬5) في الديوان: وأملك. (¬6) في الديوان: الكلام. (¬7) سقط من أ.

حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: خُيِّر سليمان بين العلم، والمال، والملك، فاختار العلم؛ فأعطى المال، والملك، والحكمة. وسُئل ابن المبارك [ق/ 2 ب] عن خبر الناس؛ قال: العلماء، فقيل له: ومن الملوك؟ فقال: الزهاد، فقيل له: ومن السّفَلَة؟ فقال: الذي يأكل بدينه، ولم يجعل غير العالم من الناس؛ لأن الخاصية التي تميز الناس عن سائر البهائم هو العلم، والإنسان إنسان لما هو شريف لأجله، وليس ذلك لقوة شخصه، فإن الجمل أقوى منه، [ولا] (¬1) لعظمته، فإن الليل أعظم منه، ولا بشجاعته، فإن الأسد أشجع؛ بل لم يخلق إلا للعلم. وقال بعض الحكماء: ليت شعري! أي شيء أدْرَكَ من فاته العلم، وأي شيء فات من أَدْرَكَ العلم. وقال فتح الموصلي رضي الله عنه: أليس المريض إذا مُنع الطعام، والشراب ثلاثة أيام يموت؟ قالوا: نعم، قال: [و] (¬2) كذلك القلب؛ إذا مُنع العلم، والحكمة ثلاثة أيام يموت. ولقد صدق؛ فإن غذاء القلوب العلم والحكمة، وبه حياته كما أن غذاء الجسم الطعام والشراب، ومن فقد العلم فقلبه مريض وموته لازم لا يشعر به؛ لانهماكه في الدنيا وبحبه إياها؛ بل بطل إحساسه كما أن غلبة الخوف قد يبطل إحساس ألم [الجراح] (¬3) في الحال، وإن كان واقعًا، فإذا حَطَّ الموت عنه إعياء الدنيا أحس بهلاكه، وتحسر تحسرًا لا ينفعه كما أن الخائف والمغشى عليه إذا استفاق من غشيته أو من خوفه [أحس] (¬4) بألم ما وقع ¬

_ (¬1) في أ: لا. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الجرح. (¬4) في أ: فحسن.

فيه من الجراح، فنعوذ بالله من [الفضيحة يومًا يكشف فيه الغطاء] (¬1). ولذلك قيل: الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا. وقال عبد الله بن مسعود: عليكم بالعلم قبل أن يُرفع، ورفعه: أن يُرفع روَاته؛ فوالذي نفسي بيده: ليودَّن رجال قُتلوا في سبيل الله [شهداء] (¬2) أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم، وإن أحدًا لم يولد عالمًا، وإنما العلم بالتعلم. وقال الأحنف بن قيس: كاد العلماء أن يكونوا أربابًا، وكل عِز لم يؤكد بالعلم [: فالذل] (¬3) مصيره. وقال سالم بن [أبي] الجعد: اشتراني مولاي بثلاثمائة درهم، و [أعتقني] (¬4)، فقلت: بأي حرفة أحترف؟ فاحترفت [بالعلم، فما تمت عليَّ سنة إلا جاء [أمير المؤمنين] (¬5) يزورني فلم آذن له. وقال الزبير بن [أبي المبارك] (¬6): كتب إلى أبي بالعراق: عليك بالعلم؛ فإن افتقرت: كان لك مالًا، وإن استغنيت: كان لك جمالًا. ... ¬

_ (¬1) في أ: كشف الغطاء. (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ: على الذل. (¬4) في ب: فأعتقني. (¬5) في ب: أمير المدينة. (¬6) في ب: المبارك.

باب: في فضل [التعلم]

باب: في فضل [التعلم] (¬1) وأما فضيلة التعلم فمن الكتاب: قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} الآية (¬2). وقوله جلَّ وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬3). وأما الأخبار؛ فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سلك طريقًا يطلب فيه العلم: سلك الله به طريقًا إلى الجنة" (¬4)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع" (¬5). وقال أيضًا: "لأن تغدوا، فتتعلم بابًا من العلم: خير من أن تصلي مائة ركعة" (¬6). وقال أيضًا: "باب من العلم يتعلمه الرجل خير [له] (¬7) من الدنيا وما فيها" (¬8). وقال: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" (¬9). وقال أيضًا: "العلم خزائن، ومفاتحه السؤال، فاسألوا فإنه يؤجر فيه ¬

_ (¬1) في ب: العلم. (¬2) سورة التوبة الآية (122). (¬3) سورة النحل الآية (43). (¬4) أخرجه مسلم (2699). (¬5) تقدم. (¬6) قال العجلوني: رواه ابن عبد البر في "فضل العلم"، كشف الخفا (2/ 507). وقال الشيخ الألباني: ضعيف. ضعيف الترغيب والترهيب (54). (¬7) سقط من ب. (¬8) أخرجه الدارمي (385) عن الحسن قوله. (¬9) أخرجه ابن ماجة (224)، وصححه العلامة الألباني في صحيح ابن ماجة (224).

أربعة، السائل، والعالم، والمستمع لهم، والمستجيب لهم" (¬1). وفي حديث أبي ذر: "حضور مجلس العلم خير من صلاة ألف ركعة، ومن عيادة ألف مريض، وشهود ألف جنازة"، فقيل: يا رسول الله: [ومن] (¬2) قراءه القرآن؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل [ينفع القرآن] (¬3) إلا بالعلم". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ومن جاءه الموت، وهو يطلب العلم: جاء يوم القيامة، وبينه وبين الأنبياء درجة واحدة" (¬4). وأما الآثار؛ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: "ذللت طالبًا [فعززت] (¬5) مطلوبًا" ولذك قال ابن أبي مليكة: "ما رأيت مثل ابن عباس؛ إذا رأيته: رأيت خير الناس وجهًا، فإذا تكلم: كان أعذب الناس لسانًا، فإذا أفتى: كان أكثر الناس علمًا". وقال ابن المبارك أيضًا: "عجبت لمن يطلب العلم كيف تدعوه نفسه [إلى مكرهة] (¬6) ". وقال أبو الدرداء: "لأن أتعلم مسألة أحب إليّ من قيام [ليلة] (¬7) ". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 192)، والرافعي في التدوين (3/ 4)، (3/ 428) من حديث علي مرفوعًا. قال أبو نعيم: هذا حديث غريب من هذا الوجه، لم نكتبه إلا بهذا الإسناد. وقال الشيخ الألباني: موضوع. الضعيفة (278)، وضعيف الجامع (3873). (¬2) في ب: وما. (¬3) في ب: تنفع قراءة القرآن. (¬4) أخرجه الدارمي (354) عن الحسن مرسلًا. (¬5) في ب: وعززت. (¬6) في ب: مكرمة. (¬7) سقط من الأصول.

وقال أيضًا: "العالم والمتعلم شريكان، وسائر الناس همج [رعاع] (¬1) لا خير فيهم". وقال عطاء: "مجلس [خير] (¬2) يكفر سبعين [مجلسًا من] (¬3) مجالس اللهو". وأما فضيلة التعليم، فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬4)، والمراد به: الإرشاد والتعليم. وقال جلّ ثناؤه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [وَلَا تَكْتُمُونَهُ] (¬5)} (¬6). ومن الأخبار: قوله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذًا إلى اليمن: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من الدنيا وما فيها" (¬7). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من تعلم بابًا من العلم [ليعلمه] (¬8) الناس أعطى ثواب سبعين صديقًا" (¬9). وقال [عيسى عليه السلام] (¬10) من عَلِمَ، وعمل وعلَّم، فذلك ¬

_ (¬1) في أ: رعاء. (¬2) في ب: ذكر. (¬3) سقط من ب. (¬4) سورة التوبة الآية (122). (¬5) سقط من ب. (¬6) سورة آل عمران الآية (187). (¬7) أخرجه البخاري (2783)، ومسلم (2406). (¬8) في أ: ليعلم. (¬9) قال المنذري: رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس، وفيه نكارة. الترغيب والترهيب (1/ 54). وقال العلامة الألباني: موضوع. ضعيف الترغيب والترهيب (55). (¬10) في ب: - صلى الله عليه وسلم -.

[يُدعى عظيمًا يوم القيامة في ملكوت السماوَات] (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " [إن الله] (¬2) لا ينزع العلم انتزاعًا من الناس بعد أن يؤتهم إياه، ولكن يذهب بذهاب العلماء؛ فكلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم [حتى إذا لم يبق عالم] (¬3) اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا؛ إن سُئلوا أفتوا بغير علم، فيضلون ويضلون" (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من سُئل عن علم علمه فكتمه: أُلجم يوم القيامة بلجام من نار" (¬5). وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فرأى مجلسين؛ أحدهما يدعون [إلى] (¬6) الله، [ويرجونه] (¬7) ويرغبون إليه، والثاني: يعلمون الناس، فقال: "أما هؤلاء فيسألون الله تعالى، فإن شاء أعطاهم، وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيعلمون الناس، وإنما بعثت معلمًا، ثم عدل إليهم فجلس معهم" (¬8). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مثل ما بعثني الله به من العلم، والهدى كمثل الغيث الكثير، أصابت أرضًا، فكانت [منها] (¬9) بقعة قبلت الماء، فأنبتت ¬

_ (¬1) في ب: فذلك عظيم في ملكوت السماوات. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673). (¬5) أخرجه أبو داود (3658)، والترمذي (2649)، وابن ماجة (264)، وأحمد (7883) من حديث أبي هريرة، وهذا حديث متواتر. (¬6) زيادة من ب. (¬7) زيادة من ب. (¬8) أخرجه ابن ماجة (229)، والدارمي (349) من حديث ابن عمرو مرفوعًا. وضعفه المحدث الألباني في مشكاة المصابيح (257). (¬9) زيادة من ب.

الكلأ، والعشب الكثير، وكانت منها بقعة أمسكت [الماء] (¬1) فنفع الله به الناس؛ فشربوا [منها] (¬2) وسقوا وزرعوا، وكانت [منها] (¬3) طائفة قيعان لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأ" (¬4). فالأول ذكره مثلًا للمنتفع بعلمه، والثاني: مثلًا للنافع، والثالث: للمحروم [منه] (¬5). وقال أيضًا: "لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" (¬6). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ["رحمة الله على خلفائي"]، (¬7): قيل: من خلفاؤك؟ قال: "الذي يُحيون سنتي، ويعلمونها عباد الله سبحانه" (¬8). ومن الآثار: [ما قال] عمر (¬9): من حدث بحديث فعُمل به، فله أجر ذلك العامل. وقال ابن عباس رضي الله عنه: مُعلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) زيادة من ب. (¬4) أخرجه البخاري (79)، ومسلم (2282) من حديث أبي موسى. (¬5) في أ: منهم. (¬6) أخرجه البخاري (73)، ومسلم (816). (¬7) سقط من أ. (¬8) ورد هذا الحديث هكذا مبتورًا في الأصل، وبلفظ الخلفاء، ولم أقف عليه بهذه الصياغة. والذي وقفت عليه بلفظ: "إن هذه الدين بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء، فقيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يحيون سنتي، ويعلمونها عباد الله" أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (1052)، والبيهقي في كتاب الزهد الكبير (205). (¬9) في أ: قال.

وقد روى أن سفيان الثوري قدم عسقلان، فمكث فيها ثلاثة أيام لا يسأله [الناس] (¬1) فقال: [اكتروا] (¬2) لي [لأخرج] (¬3) من هذا البلد؛ هذا بلد يموت فيه العلم" (¬4). وإنما قال ذلك حرصًا على فضيلة التعليم، واستبقاء للعلم به. وقال عطاء: دخلت على سعيد بن المسيب -وهو يبكي- فقلت [له] (¬5): وما يبكيك؟ فقال: ليس أحد يسألني عن شيء. وقال [بعضهم] (¬6): العلماء سراج الأزمنة، وكل واحد منهم سراج أهل زمانه؛ يستضىء [به أهل زمانه] (¬7). وقال الحسن رضي الله عنه: لولا العلماء صار الناس مثل البهائم، أي: [فالتعليم يخرجه من حد البهيمية] (¬8) إلى حد الإنسانية. وقال عكرمة: إن لهذا العلم ثمن، [قيل] (¬9): وما هو؟ قال: أن تضعوه فيمن يحسن حمله، ولا يضيعه. وقال يحيى بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد من آبائهم وأمهاتهم، قيل: كيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، [والعلماء] (¬10) يحفظونهم من نار الآخرة. ¬

_ (¬1) في أ: إنسان. (¬2) في ب: أكروا. (¬3) في ب: أخرج. (¬4) انظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 279). (¬5) زيادة من ب. (¬6) سقط من ب. (¬7) سقط من ب. (¬8) في ب: بالتعليم خرجوا من حد البهائم. (¬9) في ب: قال. (¬10) في أ: وهم.

وقيل: أول العلم الصمت, ثم الاستماع، ثم الحفظ، ثم العلم، ثم نشره. وقال معاذ بن جبل [رضي الله عنه] (¬1) في التعليم والتعلم -[وهو أيضًا مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬2): تعلموا العلم؛ فإن تعلمه [لله] (¬3) خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلم صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل [في] (¬4) السراء والضراء، والوزير عند الأخلاء، [والقريب] (¬5) عند [الغرباء] (¬6) [ومنازل المحبة] (¬7) يرفع الله [بها] (¬8) أقوامًا فيجعلهم في الخير قادة سادة يقتدى بهم؛ لأنهم أدلة في الخير، تقص آثارهم، وتُرمق أفعالهم، وترغب الملائكة في خلتهم، [وبأجنحتها] (¬9) تمسحهم، كل رطب ويابس [لهم يستغفر] (¬10) حتى الحيتان في البحر وهوامه، وسباع البر [وأنعامه] (¬11) والسماء ونجومها؛ لأن العلم حياة القلوب من [العدم] (¬12) ونور الأبصار من الظلام، وقوة ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ: للناس. (¬4) في ب: على. (¬5) في أ: والقربى. (¬6) في جـ: الغربة. (¬7) في ب: ومنازل سبيل الجنة. (¬8) في ب: به. (¬9) في ب: وبأجنحتهم. (¬10) في ب: يستغفر لهم. (¬11) زيادة من ب. (¬12) في جـ: العمى.

الأبدان من الضعف [يبلغ العبد المنازل] (¬1) والدرجات العلا، والتفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يُطاع الله سبحانه، وبه يُعبد [به] (¬2) ويُوحد، وبه يُتورع، وبه [توصل] (¬3) الأرحام، وهو [الإمام] (¬4) والعمل تابعه، يُلهَمه السعداء، ويُحرمه الأشقياء. فإذا ثبت ذلك، فطلب العلم [والتفقه في الدين] (¬5) من فروض الكفاية؛ فمن قام به سقط [الفرض] (¬6) عن الباقين، إلا ما لا يسع المكلف جهله من صفة وضوئه وصلاته وصيامه، وزكاته -إن كان ممن تجب عليه الزكاة- فإن ذلك واجب عليه تعلمه، ولا يُسقط فرضه فيه علمُ غيره. وقد سُئل مالك رضي الله عنه عن طلب العلم أَوَاجب؟ قال: أما على كل الناس فلا. وروى عنه ابن وهب أنه كان جالسًا معه، فحضرت الصلاة فقام إليها، فقال: ما الذي قمت إليه بأوجب [من] (¬7) الذي قمت عنه. وهذا الكلام فيه نظر؛ كيف يكون طلب العلم على أحد أوجب من الصلاة؟ فإن صحت الرواية فلا يعني بذلك [ق/ 4 أ] أنه كان في أول الوقت، والصلاة أول الوقت إنما تجب وجوبًا موسعًا؛ فيكون الاشتغال بتقييد ما يُخشى فواته ¬

_ (¬1) في ب: يبلغ العبد منازل الأبرار. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: يتوصل إلى. (¬4) في أ: إمام. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من ب. (¬7) في ب: مما.

[فصل]

من العلم آكد عليه من البدار ["إلى الصلاة في أول وقتها" (¬1)] (¬2). [فصل] (¬3) ولا يحصل العلم إلا [بالعناء] (¬4) والتعب، والملازمة، والمباحثة، والنصب، والصبر على الطلب؛ كما حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال للخضر: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} الآية (¬5)، وأنه قال لفتاه: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (¬6) أي: تعبًا. وقال ابن المسيب رحمه الله: كنت أرحل في طلب العلم والحديث الواحد مسيرة الأيام، والليالي؛ ولهذا كان سيد أهل عصره، وكان [يسمى] (¬7) سيد التابعين. وقال مالك رحمه الله: أقمت خمس عشرة سنة أغدو من منزلي إلى منزل ابن هرمز، وأقيم عنده إلى صلاة الظهر مع ملازمتي لغيره؛ ولذلك فاق أهل عصره، ويسمى إمام دار الهجرة، وأقام ابن القاسم متغربًا عن بلده في رحلته إلى مالك عشرين سنة حتى مات مالك رحمه الله. ورحل سحنون إلى ابن القاسم، فكان مما قرأ عليه مسائل "المدونة" و"المختلطة" فدونها، فجعلت أصل علم المالكيين، ومقدمة على غيرها من الدواوين بعد "موطأ مالك" رحمه الله. ويُروى أنه ما بعد كتاب الله أصح من "موطأ مالك" في الفقه، ولا ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) في ب: تقديم وتأخير. (¬3) زيادة من ب. (¬4) في ب: بالعناية. (¬5) سورة الكهف الآية (69). (¬6) سورة الكهف الآية (62). (¬7) سقط من أ.

بعد "موطأ مالك" [دواوين] (¬1) في الفقه أفيد من "المدونة"، وهي عند أهل العلم ككتاب سيبويه عند أهل الإعراب، وككتاب إقليدس عند أهل الحساب، وموضعها من الفقه: موضع أم القرآن من الصلاة، وتجزئ عن غيرها, ولا يجزئ عنها غيرها، وكان مؤلفه على مذهب أهل العراق [فسلخ] (¬2) أسد بن الفرات منها [الأسئلة] (¬3) وقدم بها على مالك رحمه الله المدينة يسأله عنها، ويسيرها على مذهبه، فألفاه قد توفي، فأتى أشهب يسأله عنها فسمعه يقول: أخطأ مالك في مسألة كذا، وأخطأ في مسألة كذا، فاستنقصه لذلك وعابه، ولم يرض قوله فيها، وقال: ما أشبه هذا إليّ إلا [كرجل] (¬4) بال في جانب البحر، فقال: هذا بحر آخر. فدُل على ابن القاسم فأتاه يرغب إليه في ذلك، فأبى عليه، فلم يزل كذلك حتى شرح الله صدره لما سأله، فجعل يسأله عنها مسألة مسألة؛ فما كان عنده [من سماع] (¬5) مالك، قال: نعم سمعت مالكًا يقول فيه كذا وكذا، وما لم يكن عنده سماع عن مالك إلا بلاغ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئًا، وبلغني عنه أنه قال فيه كذا وكذا، وما لم يكن عنده فيه سماع، ولا بلاغ، قال: لم أسمع من مالك فيه شيئًا، والذي أرى فيه كذا وكذا حتى أتمها. فرجع بها إلى بلاده فطلبها منه سحنون، وكان معه في القيروان، فأبى ¬

_ (¬1) في ب: ديوان. (¬2) في ب: فنسخ. (¬3) في ب: الأسدية. (¬4) في ب: برجل. (¬5) في أ: بسماع.

عليه، فتحيّل [عليه] (¬1) سحنون حتى [صارت النسخة] (¬2) عنده فنسخها ثم [رحل] (¬3) بها إلى ابن القاسم، فقرأها عليه فرجع فيها عن مسائل، وكتب إلى أسد أن يصلح كتابه على ما في كتاب سحنون؛ فأَنِف أسد من ذلك وأباه، فبلغ ذلك ابن القاسم، فدعا عليه ألا يبارك [له] (¬4) فيها -وكان مستجاب الدعوة- فأجيبت دعوته، ولم يشتغل بكتابه، فما زال الناس في قراءة "المدونة" ونفع الله بها. [ومن أفضل] (¬5) ما يستعان به على الطلب: تقوى الله العظيم؛ فإنه قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (¬6)، ويجب على طالب العلم أن يخلص نيته لله في طلبه؛ فإنه لا ينفع علم لا نية لطالبه؛ لقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" (¬7)، وقال عليه السلام: "نية المؤمن أبلغ من عمله" (¬8)، وقال أيضًا: "من كانت هجرته إلى الله ورسوله" (¬9) الحديث. ويجب عليه أيضًا ألا يريد بعلمه الرياء، والسمعة، ولا غرضًا من أغراض الدنيا؛ فإن الله تعالى يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: صار الكتاب. (¬3) في ب: رجع. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: وأفضل. (¬6) سورة البقرة الآية (282). (¬7) أخرجه البخاري (1). (¬8) أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (146)، (147)، والبيهقي في الشعب (6859). قال العجلوني: رواه العسكري في الأمثال، والبيهقي عن أنس مرفوعًا، قال ابن دحية: لا يصح، والبيهقي: إسناده ضعيف. كشف الخفا (2/ 430). (¬9) تقدم.

حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}، الآية (¬1)، وقال عزّ من قائل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} (¬2). وروى أن رهطًا من أهل العراق مرُّوا بأبي ذر، فسألوه فحدثهم، فقال: [لهم] (¬3) أتعلمون أن هذه الأحاديث التي يُبتغى بها وجه الله إن تعلمها أحد يريد [بها] (¬4) غرض الدنيا، لا يجد عرف الجنة [وعرفها: ريحها] (¬5). وروى عن [شفي] (¬6) الأصبحي أنه دخل المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع الناس إليه، فقال: من هذا؟ فقيل: أبو هريرة، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه -وهو يحدث الناس- فلما سكت [الرجل] (¬7) قلت له: فبحق الله عليك إلا ما حدثتني بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عقلتَه وعلمتَه، فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثك حديثًا حدثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[أنا] (¬8) وهو في هذا البيت -عقلتهُ وعلمتهُ ما معنا أحد غيري، وغيره- ثم نشغ (¬9) نشغة، ثم سكت ثم أفاق، فقال: أفعل، لأحدثنك حديثًا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -حتى فعل ذلك ثلاث مرات- فقال: حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أن الله تعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهما، وكل أمة جاثية؛ فأول من يدعى به رجل جمع القرآن، ¬

_ (¬1) سورة الشورى الآية (20). (¬2) سورة الإسراء الآية (18). (¬3) زيادة من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من ب. (¬6) في أ، ب: شقيق. (¬7) زيادة من ب. (¬8) سقط من أ. (¬9) أي: شهق حتى يكاد أن يغمى عليه.

ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال والصدقة، [فيقول] (¬1) للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: [ماذا عملت] (¬2)؟ فيقول: كنت أقوم به آناء الليل، وأطراف النهار؛ فيقول الله [تعالى له] (¬3): كذبت، ثم يقول الله تعالى: أما أردت أن يُقال فلان قارئ [وقد] (¬4) قيل ذلك. [ثم يؤتى] (¬5) بصاحب المال [والصدقة] (¬6)، فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك أن تحتاج إلى أحد؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ماذا عملت فيما أعطيتك؟ فيقول: كنت أصل [الرحم] (¬7) وأتصدق، فيقول الله تعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، فيقول الله له: أردت أن يُقال: فلان جواد، وقد قيل ذلك. [ثم] (¬8) يؤتى بالرجل [الذي قُتل] (¬9) في سبيل الله، فيقول الله له: فيم قُتلت؟ [فقال] (¬10) أُمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قُتلت، فيقول الله له: كذبت، أردت أن يُقال فلان جرىء، فقد قيل ذلك"، ثم ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركبتيه، فيقول: "يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول ¬

_ (¬1) في ب: فقال. (¬2) في ب: ما عملت بما علمتك. (¬3) زيادة من أ. (¬4) في ب: فقد. (¬5) في أ: فيؤتى. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: الأرحام. (¬8) في أ: و. (¬9) في ب: قاتل. (¬10) في ب: فيقول.

خلق الله تُسعَّر لهم النار يوم القيامة" (¬1). ثم قال شقي: وحدثت معاوية بهذا الحديث، فقال: قد فُعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقى من الناس، فبكى حتى ظننا أنه هالك، ثم أفاق فمسح الدموع عن وجهه [وقال] (¬2): صدق الله ورسوله، ثم تلى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} .. إلى قوله: {مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬3). وروى عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} (¬4): أنه الرياء، وهذا الوعيد -والله أعلم- فيمن كان أصل عمله الرياء، والسمعة، فأمَّا من كان أصل عمله لله، فلا يضره ذلك إن شاء الله كالخطرات التي في القلب [ولا يملك دفعها] (¬5). ولقد سُئل مالك وربيعة [رضي الله عنهما] (¬6) عن رجل يحب أن يلقى في طريق المسجد، ولا يجب أن يلقى في طريق السوق: فأما ربيعة: فكره ذلك، وأما مالك فقال: إذا كان أول ذلك لله، فلا بأس به إن شاء الله. قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} (¬7). قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (¬8). قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنه: لأن تكون قلتها أحبَّ إليَّ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1905)، والترمذي (2382)، واللفظ له. (¬2) في ب: فقال. (¬3) سورة هود الآيتان (15، 16). (¬4) سورة فاطر الآية (10). (¬5) في أ: علمه. (¬6) زيادة من ب. (¬7) سورة طه الآية (39). (¬8) سورة الشعراء الآية (84).

من أن يكون لي كذا وكذا. إذا كان [أخبره] (¬1) بما كان في نفسه من الشجرة التي مثَّلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجل المؤمن، وسأل أصحابه عنها؛ فوقعوا في شجر البوادي، فقال عبد الله بن عمر: [فوقع] (¬2) في نفسي أنها النخلة، ثم قال عليه السلام: "أنها النخلة" (¬3). فقال مالك: أي شيء إلا مراء، وإنما هو أمر يكون في القلب لا يملك؛ فهذا إنما يكون من الشيطان ليمنعه، فمن وجد ذلك فلا يكسله عن التمادي في الخير، ولا ييئسه من الأجر، وليدفع الشيطان عن نفسه ما استطاع [ويجدد] (¬4) النية لله تعالى. وقد روى عن بعض المتقدمين أنه قال: طلبنا العلم لغير الله، فردَّنا العلم إلى الله. [وفي خبر] (¬5) عن معاذ بن جبل أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس من بني سلمة إلا مقاتل؛ فمنهم مَنْ القتال طبيعته، ومنهم مَنْ يقاتل رياء، ومنهم مَنْ يقاتل احتسابًا، فأيّ هؤلاء من الشهداء من أهل الجنة؟ [فقال لمعاذ بن جبل] (¬6): "مَنْ قاتل على شيء من هذه الخصال، وأصل أمره أن تكون كلمة الله العليا، فقُتل: فهو شهيد من أهل الجنة" (¬7). وروى أن رجلًا قال: يا رسول الله من يعمل العمل فيخفيه، فيطَّلع ¬

_ (¬1) في أ: يخبره. (¬2) في ب: ووقع. (¬3) أخرجه البخاري (131)، ومسلم (2811). (¬4) في ب: ويجرد. (¬5) في أ: روى. (¬6) في ب: فقال له معاذ بن جبل. (¬7) أخرجه البخاري (123)، ومسلم (1904) من حديث أبي موسى، ولم أقف عليه من حديث معاذ.

عليه الناس فيسره، [فقال] (¬1): "له أجر السر وأجر العلانية" (¬2)، ويجب على من تعلم العلم: أن يعمل [به] (¬3) لله؛ فإنه إن لم يعمل به كان عليه حجة يوم القيامة، وحسرة، وندامة. وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما منكم من أحد إلا ويخلو به ربه يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، ثم يقول: يا بن آدم: ما غرك [بي، يا ابن آدم] (¬4): ماذا عملت فيما علمت؟ بماذا أجبت المرسلين؟ " (¬5). وروى عن أبي الدرداء [أنه قال] (¬6): من أشر الناس منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه. وقال عليه السلام: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، ويعمل به مثل الأترجة؛ طعمها طيب، وريحها طيب، والفاجر الذي لا يقرأ القرآن ولا يعمل به: مثل [الحنظل] (¬7) طعمها مر وريحها مر، ومثل الذي يقرأ القرآن ¬

_ (¬1) في ب: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) أخرجه الترمذي (2384)، وابن ماجة (4226)، وابن حبان في صحيحه (375)، والطبراني في الأوسط (4702)، والبيهقي في الشعب (7003)، وهناد في الزهد (880)، وابن عدي في الكامل (3/ 363) من حديث أبي هريرة مرفوعًا. قال الشيخ الألباني: ضعيف. الضعيفة (4344)، ضعيف ابن ماجة (4226)، وضعيف الجامع (4787). قلت: فيه أبو سنان الشيباني صدوق له أوهام عن حبيب بن أبي ثابت -ثقة كثير الإرسال والتدليس- وقد عنعنه. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) أخرجه الطبراني في الكبير (8899)، وابن أبي عاصم في كتاب الزهد (164)، وابن المبارك في الزهد (38)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 131) من حديث ابن مسعود موقوفًا. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير موقوفًا، وروي بعضه مرفوعًا في الأوسط. مجمع الزوائد. (10/ 347). (¬6) سقط من ب. (¬7) في ب: الحنطة.

ولا يعمل به مثل الريحانة؛ ريحها طيب وطعمُها مُر، ومثل الذي [ق/ 5 أ] لا يقرأ القرآن ويعمل به: مثل التمرة؛ طعمها طيب، ولا ريح لها" (¬1). [وكان] (¬2) العلم في الصدر الأول والثاني في صدور الرجال، ثم انتقل إلى جلود الضأن، وصارت مفاتيحه في صدور الرجال؛ فلابد لطالب العلم من مُعَلِّم يتقى الله [ويَفْتَحُ] عليه ويطرق له، ويتخذه قدوة في دينه، ويرتضيه بأن يكون حاجزًا بينه، وبين النار. وقد قال النبي عليه السلام: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفونا [عنه] (¬3) تحريف الجاهلين، وتأويل الغالين، وانتحال المبطلين" (¬4). وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه عنه" (¬5). وأحق من أُخذ العلم عنه، واقتُبس منه، واتخذ فيه إمامًا متبعًا، وقدوة مطاعًا، من كان معروفًا بالعلم والديانة، موصوفًا بالثقة والأمانة، مشهورًا بحسن الاتباع، وتجنب الابتداع، عارفًا بطرق الأخبار، وعلل الآثار، عالمًا بتصحيح الروايات من سقيمها، بصيرًا بذوي الثقة، والضعف من رواتها، صحيح النقل والرواية, مكين المعرفة والدراية، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4732)، ومسلم (797). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (599)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 59)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/ 17)، وابن حبان في الثقات (4/ 10)، وابن عدي في الكامل (2/ 79)، والعقيلي في الضعفاء (1/ 9، 10) والخطيب في الجامع (135). قلت: صححه العلامة الألباني في مشكاة المصابيح (248). (¬5) أخرجه ابن عدي في الكامل (1/ 148)، والسهمي في تاريخ جرجان (430). قال المحدث الألباني: ضعيف جدًا. الضعيفة (2481).

حافظًا لدينه بالتِّقى والورع، صائنًا لعلمه بالتّنزه عن الطمع، مؤديًا لما يلزمه له من حق غير هائب فيه سطوة ذي ولاية، قد زانه أحسن الأعمال، ولم يَشِنْه بالإهمال والإغفال؛ كأبي عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المديني رضي الله عنه، فقيه مصره، وشيخ علماء عصره، والمجتمع على فضله ونبله، والمتأول سادات العلماء فيه أنه العالم الذي بَشَّرَ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعلمَ أنه أعلم أهل زمانه، والبائن بهذه الفضيلة دون كافة شركائه، وأقرانه، مع طرائقه المرضية الحميدة، وسيرته في العلم القويمة السعيدة، وتفضيل الأئمة له بما تغني شهرته عن الإطالة باقتصاصه. فإن قال قائل: لسنا ننازعكم في فضله ونُبله، وعلو قدره، ومنزلته، ولكن لم صرتم إلى مذهبه دون مذهب غيره [ق/3 ب]، وتدينتم بقوله، وأمرتم المبتدئ بالتفقه بدرسه، واعتقاده مع قولكم بصحة النظر ووجوبه، وبطلان التقليد وفساده. وإن كونه من حيازته الفضائل، والمراتب، وكثرة الشمائل، والمناقب بحيث وصفتم غير كاف فيما ادعيتم؛ لأن هذه الأمور قد [شاركه] (¬1) فيها من لم تصيروا إلى مذهبه، ولم تحكموا بتصويب طريقته؟ فالجواب عن ذلك من وجهين [اثنين] (¬2): أحدهما: من طريق الأثر، والثاني: من طريق النظر. فأما من طريق الأثر: فما رواه سفيان بن عيينة عن [أبي] (¬3) جريج عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) في أ: شاركوه. (¬2) زيادة من ب. (¬3) في أ، ب: أبو، والمثبت هو الصواب.

"يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل [في طلب العلم] (¬1) فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة" (¬2). قال سفيان بن عيينة: وكانوا يرونه مالك بن أنس. وروى عبد الله بن عمر عن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى الأشعرى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج طالب العلم من المشرق [والمغرب] (¬3) فلا يجد عالمًا أعلم من عالم المدينة". ومعلوم أن هذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - إخبار بأن عالم المدينة أعلم من تُشَد إليه الرِّحَال، وتُطوى لديه المراحل، وتُضْرب إليه أكباد الإبل. وقد علمنا أنه لم يرد بذلك عصره [ولا عصر الصحابة من بعده] (¬4) إنما أراد بذلك [الأعصار] (¬5) بعده، وليس أحدا بعد عصره وعصر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين ثبت له إطلاق هذا الاسم، وضربت إليه أكباد الإبل إلا مالك رضي الله عنه؛ فوجب بذلك ما قلناه من تقديمه على غيره؛ لأنه هو الذي انتهى إليه علم السلف الصالح من أهل المدينة، وضُربت إليه أكباد الإبل من الفجاج العميقة، والأقطار البعيدة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه الترمذي (2680)، وأحمد (7920)، والحاكم (307)، وابن حبان (3736)، والنسائي في الكبرى (4291)، والبيهقي في الكبرى (1681)، والخطيب في التاريخ (6/ 376)، والرحلة في طلب الحديث (90) بسنده هنا سواء. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الشيخ الألباني: ضعيف. الضعيفة (4833)، ضعيف الجامع (6448)، ومشكاة المصابيح (246). (¬3) في أ: إلى المغرب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: إلا عصرًا.

وسُمِّي فقيه المدينة، وعالم المدينة، وإمام دار الهجرة، كما سُمِّي غيره عالم العراق والشام، حتى أن مخالفيه يسمونه، وينسبونه إليه، ويقولون: قال مالك -فقيه المدينة، وعالم المدينة، وقال [ابن] (¬1) المدني- فيكتفون بذلك في تعريفه. [وقد] (¬2) روى عن ابن جريج، وسفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي أنهم كانوا يرونه مالك بن أنس. ومما حكى عن سفيان [إن يكن] (¬3) مَنْ هذه صفته: فأبو عبد الرحمن -يعني المقري- فقد رجع عن ذلك، فقال: العالم من يخشى. وأما من طريق النظر: فلأن المدينة لما كانت مستقر التنزيل، ومعدن التأويل، ودار الهجرة, ومستقر النبوة، وعرصة الوحي، وكان النبي عليه السلام بين [ظهراني] (¬4) أهلها قاطنًا مطمئنًا قد اتخذها مسكنًا، ووطنًا، يشرِّع ويَسن ويوضح، ويبين؛ كان أهلها أعلم من غيرهم؛ فمن تابعهم لما ثبت لهم من مزية الشهادة، وفضل القرب والمعاينة، وقد شاهدوا الأحكام [ق/ 1 جـ]، ومعرفة تفاصيل الحلال والحرام على حسب ما نزل به الروح الأمين على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا الاعتبار رجع مخالفوهم [إلى قولهم] (¬5) في الأحباس، والأوقاف، والمُد، والصَّاع، وغير ذلك. [وبهذه الطريقة] (¬6) رجح أصحابنا إجماع أهل المدينة من طريق ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: فمن يكون. (¬4) في ب: أظهر. (¬5) زيادة من ب. (¬6) وبهذا الطريق.

الاجتهاد؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم قد شاهدوا الوحي، والتنزيل، [وشاهدوا] (¬1) الأحكام التي [نزل] (¬2) بها الأمين جبريل، وعرفوا الأغراض، والمقاصد، وميزوا بين المصادر، والموارد؛ فكان استخراجهم واستنباطهم أقرب إلى الحق والصواب، وكان مالك [رضي الله عنهم] (¬3) [هو] (¬4) الآخر منهم، والوارث لعلومهم، وإليه انتهت علومهم، وعليه اجتمعت فضائلهم، وعلى أصولهم بني وأسس [وَوَلَّد وفَرَّع] (¬5) ومنها استنبط، واستخرج، وقاس، واعتبر، ووجب بذلك تقديمه على غيره، وكون مذهبه أولى [بأن] (¬6) يصار إليه، ويؤخذ به. هذا على أنا لم نذكر شيئًا من فضائله المشهورة. وتفصيل أئمة العلم، وإخبارهم بصواب رأيه، ووفور علمه، وعقله , ودينه، وفضله، وزهده، وورعه، وتوقيره للعلم، وإعظامه محله , وما رؤى له من المبشرات، والرؤى الصالحات، وما مضى له [مع] (¬7) أصحاب الولايات من كثرة المراجعات والمقالات، [في] (¬8) الذَّب عن الدِّين، والمنع عن [إعطاء الدنية] (¬9) والرضا فيه من التبعية، وما أصابه في ذلك من المِحَن التي لم يزده الصبر عليها، والتجريع لغُصصها إلا رتبة، ونبلًا، ومحلًا، وفضلًا. ¬

_ (¬1) في ب: وعاينوا. (¬2) في ب: ينزل. (¬3) في ب: رحمه الله. (¬4) زيادة من ب. (¬5) سقط من ب. (¬6) في ب: ما. (¬7) في أ: من. (¬8) في أ: و. (¬9) في ب: الإعطاء بالدنية.

[فصل في بيان أحكام الشريعة]

ولا ذكرنا شيئًا من فضائل أصحابه [المتأدبين] (¬1) بآدابه المتمسكين بمذهبه كعبد الرحمن بن القاسم الذي هو شيخ مذهبه، والقائم به، والموثوق بروايته، وقياسه، والمعول على استنباطه، واستخراجه مع [محله] (¬2)، وفضله، ودينه، وكسحنون، واسمه: عبد السلام بن سعيد الذي هو أمين المذهب، وحامل رايته، وناشره في مشارق الأرض ومغاربها، الذي اشتهرت [إمامته] (¬3) وظهرت [مفاخره] (¬4)، وثبتت فضائله في كل ناد، وثبتت عند كل حاضر، وباد رضي الله عنهم. [فصل في بيان أحكام الشريعة] (¬5) [وأقسام] (¬6) الشريعة [تنقسم] (¬7) على خمسة أقسام؛ واجب ومستحب، ومباح، وحرام، ومكروه. فالواجب: ما حرم تركه، وله خمسة أسماء؛ واجب وحتم، ومفروض، ولازم، ومكتوب، وكلها قائمة من القرآن. [وهو ينقسم] (¬8) على ثلاثة أقسام؛ واجب بالقرآن، وواجب بالسنة، وواجب بالإجماع، [وهي] (¬9) كلها سواء في لحوق الإثم. والمندوب: ما كان في فعله ثواب، ولم يكن في تركه عقاب؛ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: علمه. (¬3) في ب: أمانته. (¬4) في أ: علانيته. (¬5) زيادة من ب. (¬6) في ب: وأحكام. (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: وهي تنقسم. (¬9) سقط من ب.

كالعتق [المبتدأ] (¬1) والكتابة. والمباح: ما استوى طرفاه. والمحظور: ضد الواجب في لحوق الإثم بالمتلبس به. والمكروه: ضد المستحب في كونه [ثواب] (¬2) على الترك. فإذا ثبت ذلك؛ فالمندوب ينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ سنن، ورغائب، ونوافل. والسنن: ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله، وقرن بأمره ما يدل [على] (¬3) أن المراد به [غير] (¬4) الندب، ولم تقترن به قرينة على مذهب من [يرى] (¬5) الأوامر على الندب ما لم تقترن به قرينة (¬6)، أو ما داوم النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله بغير صفة النوافل. والرغائب: ما داوم النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله، ورغب؛ فيقول من فعل كذا وكذا فله كذا. والنوافل: ما قَدَّرَ الشرع [أن] (¬7) في فعله ثوابًا من غير أن يأمر النبي ¬

_ (¬1) في ب: والتدبير. (¬2) في ب: ثياب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: رأى. (¬6) قالت المعتزلة: يقتضي الأمر الندب، ولا يحمل على الوجوب إلا بدليل. وقالت الأشاعرة: إذا ثبت كون الصيغة للاستدعاء وجب التوقف فيها, ولا تحمل على الوجوب ولا على غيره إلا بدليل. ومذهب الجمهور: إذا تجردت صيغة الأمر اقتضت الوجوب. انظر: التبصرة في أصول الفقه (26: 35). (¬7) سقط من ب.

- صلى الله عليه وسلم - بفعله، أو يرغب فيه، أو يداوم على فعله. والعبادات التي لها هذه الأحكام تنقسم على ثلاثة أقسام: [قسم] (¬1) [منها] (¬2) يتوجه إلى القلوب، وقسم [منها] (¬3) يتوجه إلى الأبدان، وقسم [منها] (¬4) يشترك فيه القلوب والأبدان. فأما القسم الذي يتوجه منها إلى القلوب: خمسة أجناس؛ نظر، واعتقاد، وعلم، وظن، وإرادة. وأما [القسم] (¬5) الذي يتوجه إلى الأبدان، وهو ما لا يفتقر فيه إلى النية كإزالة النجاسة عن الثوب، والبدن. وأما القسم الثالث: وهو ما يشترك فيه القلوب والأبدان كالطهارة؛ وهي في أصل اللغة (¬6): النزاهة عما تستقذره الطباع، وتنافره [الأخلاق الرفاع] (¬7). ومنه يقال: فلان طاهر الذيل ذي الأخلاق النفيسة [المنزهة عن النقائض الخسيسة] (¬8)، قال الله تعالى: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (¬9)، وقال: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (¬10). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من ب. (¬5) زيادة من ب. (¬6) انظر: مختار الصحاح (167). (¬7) في ب: أخلاق الوراع. (¬8) في ب: غير الخسيسة. (¬9) سورة الأحزاب الآية (33). (¬10) سورة المائدة الآية (6).

ومنه قول الشاعر: خليلي هل لي قطرة بعد توبة ... أداوي بها قلبي على فجور إلى رجح الأكفال غيد من الظبا ... عذاب الثنايا ريقهن طهوري أي: بقى طاهر نقي غير مستقذر الفضلات، كما قال الآخر (¬1): ثياب بني عوف طهاري نقية ... وأوجههم عند المشاهد غراف [وهي] (¬2) في الشرع على ما هي عليه [ق/6 أ] في الموضع غير أن للشرع فيها تصرفات، وزيادات، وصفات. واختلف العلماء؛ هل هي معقولة المعنى، ومفهومة المغزى فمن نظر إلى اختصاص المجمل يؤذن [أن] (¬3) الغرض منها تنظيف الأعضاء المبتذلة في التصرف، والامتهان لما يتعلق بها من الأدران؛ ولاسيما: غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، والرجلين إلى الكعبين؛ إذ هما مسارح الأبصار، معرضة غالبًا لملاقاة الغبار، ومصادمة الأوطار، والأقذار. والطاهر منها في الأكثر هذا المقدار، والرأس مستور بالعمائم والقلانس، وقد يبدو منه بعضه أو كله للاسترواح، ولابد من هبوب الرياح، فشرع له فيه المسح الذي هو أدنى مزيل لأقل مُزال. والإنسان منكمش على المعاش، ويأوي إلى الفراش، عاريًا من الرياش، ولابد من عرق، وغبار متعلق، ووظف غسل الجنابة على الجسد عمومًا. والاعتراض على هذا يخرج التيمم [عن] (¬4) التنظيف ¬

_ (¬1) الشاعر هو امرؤ القيس. (¬2) في ب: أو هي. (¬3) سقط من أ (¬4) سقط من أ.

والتحسين؛ إذ الظاهر منها التلويث والتغيير؛ إذ التيمم [أحد] (¬1) الطهارتين، فالعبرة بالعبر، والمعاني، لا بالصور [والمباني] (¬2)، قال الله تعالى: {لَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (¬3)، فجعل القصاص الذي هو عين الإتلاف: حياة، وإلى هذا ذهب [متأخرو] (¬4) الشافعية، أو ليست بمعقولة المعنى نظرًا إلى أسرار الربوبية، واختصاص الألوهية غسل المَحَالّ الظاهرة النقية بالأوامر الواردة الشرعية لخروج خارج من محل مخصوص، وربما اقتصر المكلف على تطهير ذلك المحل أو بمزيل العين خاصة كالاستجمار، وأي معنى في كون الأذى يخرج من محله، ويوجب الغسل في محل آخر. وهل هو في المثال إلا كما يقول الأول: حكمة على ذنبه، [وهو النابغة الذبياني الشاعر] (¬5): [فَحَمَّلَتْنِي] (¬6) ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يُكوى غيره وهو راتع ولكن الله تعالى يتصرف في عباده، وفي خلقه كما يشاء، ويأمر عباده كيف شاء، لا يُعترض على فعله، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬7)، وهذا هو مذهب مالك رضي الله عنه، وهو أصح من مذهب الأول. وهي تنقسم -أعني الطهارة- إلى قسمين: طهارة لإزالة الخبث، وطهارة لرفع حدث. ¬

_ (¬1) في أ: إحدى. (¬2) في الأصل: المغابي. (¬3) سورة البقرة الآية (179). (¬4) في الأصل: متأخر. (¬5) ساقطة من ب. (¬6) في الديوان: لكلفتني. (¬7) سورة الأنبياء الآية (23).

فأما الطهارة لإزالة الخبث، وهي من العبادات المتوجهة إلى الأبدان، فلا يفتقر إلى النية باتفاق المذهب، وإنما اختلف في حكم إزالتها؛ هل هو واجب أو مستحب، أو واجب مع الذِّكْر ساقط مع النسيان؟ على ما اقتضته رسوم المذهب. وأما الطهارة لرفع الحدث: فهي من العبادات المتوجهة إلى القلوب والأبدان، فهل يفتقر فعلها إلى نية أم لا؟ فالخلاف فيها بين فقهاء الأمصار؛ بل بين أرباب المذهب عندنا. وقد حكى أبو عبد الله المازري في "المُعلم" رواية في المذهب: أن الطهارة لا تفتقر إلى النية كمذهب المخالف، إلا أنها مهجورة (¬1) في المذهب، والمشهور خلافها على ما لا خفاء له على من [شد] (¬2) [طرفًا] (¬3) في الأدلة، والحمد لله وحده. ... ¬

_ (¬1) أي: رواية المازري. (¬2) هكذا في أ. وفي ب: شهد. (¬3) في أ: نظره.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد [وآله وسلم تسليمًا] (¬2). تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها أربع عشرة مسألة؛ [فأولها: مسألة التوقيت] (¬3). قال سحنون: قلت [لعبد الرحمن بن القاسم] (¬4): أرأيت الوضوء، هل كان مالك يوقت فيه واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا؟، قال: لا، إلا ما أسبغ (¬5). [و] (¬6) اعلم أن هذه المسألة قد مُدَّت إليها أيدي الأغراض، وكَثُر عليها الاعتراض؛ فبعضهم يقول: [هذا] (¬7)، فيه تناقض؛ لأنه أثبت ونفى، وبعضهم يقول: [بل] (¬8) الاستثناء الواقع في الجواب استثناء منفصل، وبعضهم يقول غير ذلك. وكل يَخْبِطُ عَشْواء، وعن المقصود الأسنى حاد وراء، فها أنا أكشف الغطاء عن سر المسألة حتى تكون أجلى من النهار، وأشهر في الظلام من النار؛ فأقول: هذه الترجمة اشتملت على معنيين؛ سؤال وجواب، فالسؤال [مركب من كلمتين والجواب] (¬9) مركب على ¬

_ (¬1) في ب، جـ: الوضوء. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: المسألة الأولى في التوقيت في الوضوء. (¬4) في ب: لابن القاسم. (¬5) "المدونة" (1/ 2)، وقال: لم يكن مالك يوقت، وقد اختلفت الآثار في التوقيت. (¬6) زيادة من ب. (¬7) زيادة من ب. (¬8) سقط من ب. (¬9) سقط من أ.

كلمتين، معادلة وموازنة ومسائلة ومطابقة، فالسؤال اشتمل على الإجمال أولًا، والتفصيل ثانيًا، والجواب يشتمل على التفصيل أولًا، والإجمال ثانيًا. فالإثبات من الجواب ثانيًا عديل التوقيت من السؤال أولًا، والنفي من الجواب أولًا عديل الواحدة من السؤال ثانيًا. فالتوقيت لابد منه في مظنة [الجواب] (¬1) والطهارة واجبة فكأنما مقصود السائل: أن يقع التوقيت عددًا، ومقصود المجيب: أن يقع التوقيت كمالًا. فالعدد معلوم الأصل، والتوقيت معلوم الأصل دون التفصيل. والإسباغ: معلوم في الأصل، مجهول التفصيل. فهذا ترتيب الجواب على هذا السؤال، وليس فيه تناقض كما يَدَّعِي بعض المتفقهة، ويقولون: [نفى وأثبت] (¬2) فإن مصرف النفي غير مصرف الإثبات كما رتبناه، فلكون التحديد بالأعداد فيها لا يفي بالمقصود، وقد يقع [فيها] (¬3) قصور أضرب عنها إلى الإسباغ الذي هو معنى كليًا يلتمسه المكلّف ما أمكن حتى يصل إليه، وقد أبان مالك -رحمه الله- فيما روى عنه ابن حبيب في كتابه (¬4) حيث قال: "لا أحب الواحدة إلا للعالم بالوضوء". فهذا نص لما قيدناه وميزناه أنه مراده ومغزاه، فإن قيل: ما معنى قوله: [هل] (¬5) كان مالك يوقت في الوضوء واحدة أو ¬

_ (¬1) في أ: الوجود. (¬2) في أ: حالفوا ثابت. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: "النوادر والزيادات" (1/ 31)، وقال: ولا أحب أن ينقص من اثنتين، ولا يزاد في المسح على الواحدة، وأما غسل القدمين فلا حَدَّ في غسلهما. (¬5) في الأصل: إذا.

اثنتين أو ثلاثًا، قال: لا، إلا ما أسبغ؟ فكان الجواب غير مطابق للسؤال. وهل شرط الجواب أن يكون مطابقًا للسؤال؟ لأنه سأل عن الأعداد، فأجابه [بالإسباغ] (¬1). فالجواب عن التحديد بالأعداد فيه قصور عن [الكلام] (¬2) فأضرب عنه إلى الإسباغ الذي هو معنى كليًا يلتمسه المكلف قدر الإمكان، كما قدمناه. وقوله: وقد اختلفت الآثار في التوقيت يريد الأعداد. وقوله: "هل وقت مالك في الوضوء" بمعنى: قدر فيه مالك عددًا يقتصر عليه، ويوقف عنده ولا يزاد عليه فلا عدد يقتصر عليه ويوقف لديه، ولا يزاد ولا ينقص منه، فهذا معنى كلامه [والحمد لله وحده] (¬3). ... ¬

_ (¬1) في أ: على الإسباغ. (¬2) في ب: الكمال. (¬3) زيادة من جـ.

المسألة الثانية الأسآر

المسألة الثانية الأسآر فجميع ما يَدُب على الارض ينقسم [على] (¬1) قسمين؛ آدمي وبهيمي، فالآدمي ينقسم إلى: مسلم وكافر. فالمسلم: ينقسم إلى مؤمن وفاسق. فالمؤمن سُؤْره طاهر على الإطلاق، والفاسق ملتحق بقسم الكافر؛ [فسُؤره] (¬2) كسؤر الكافر: نجس على الإطلاق. وأما [الكفار] (¬3): فلنجاستهم حسًا ومعنى. أما الحس: فلكونهم يباشرون النجس بأيديهم، وبأفواههم من الميتة والخمر ولحم الخنزير، وأفواههم لم تَخْل من فضلات ما أكلوه وشربوه، ثم لا [يؤمن] (¬4) ممازجة الماء [الذي] (¬5) شربوا [منه] (¬6) من مخالطة تلك الفضلات مما يرجع فيه إلى الإناء. وبهذا الاعتبار ساوينا بين الفاسق والكافر الأصلي؛ [والعلة شاملة للجنسين] (¬7). وأما نجاستهم معنى؛ فلأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬8)؛ ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) في ب: وسؤره. (¬3) في أ: الكافر. (¬4) في أ: يؤمنون من. (¬5) في أ: التي. (¬6) في أ: منها. (¬7) في أ: لعلة مماثلة الجنس. (¬8) سورة التوبة الآية (28).

فقد أخبر الشارع [ق/ 2 جـ]، بنجاستهم ذاتًا وصفة، وهذا هو مشهور المذهب، وهو نص "المدونة" (¬1). قال مالك: "ولا يتوضأ بسؤر النصراني، ولا بما أدخل يده فيه" (¬2)، فعمَّ ولم يفصل. وروى ابن القاسم عن مالك في "العتبية" التفصيل بين سؤره وفضله، قال: "لا بأس بالوضوء بسؤره، وأما بفضله فلا". وسحنون رضي الله عنه صَّل بين من أُمن شربه الخمر، فإنه يتوضأ بسؤره اختيارًا واضطرارًا، [ومن] (¬3) لم يُؤْمَن منه فلا. ويتحصل في المذهب على هذا ثلاثة أقوال في السؤر، وقول واحد في الفضل: أحدها: أنه نجس إطلاقًا، وهو ظاهر قول مالك في "المدونة". والثاني: أنه طاهر إطلاقًا، ونص عليه اللخمي، وهو قول مالك فيما روى عنه ابن القاسم في "العتبية" (¬4). والثالث: قول سحنون في "النوادر" (¬5). وسبب الخلاف: إضافة الماء بشيء نجس, ولم يغيره هل يؤثر في ترك استعماله، ويطلق عليه اسم النجس أم لا؟، وقد يتناول الجميع فيرجع ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 14). (¬2) انظر: السابق. (¬3) في ب: وإن. (¬4) البيان والتحصيل (1/ 33). (¬5) حيث قال: "إذا أمنت أن يشرب النصراني خمرًا أو يأكل خنزيرًا فلا بأس بفضل سؤره في ضرورة أو غير ضرورة". النوادر (1/ 70).

إلى قول واحد؛ فيُحمل قول مالك [في المدونة] (¬1) على أنه تيقن مباشرته وشربه للخمر، ويُحمل قول ابن القاسم على أنه قد تيقن مجانبته للخمر، فيرجع الجميع إلى قول سحنون. فإن توضأ به وصلى، هل يعيد أو لا يعيد؟ فيتخرج الخلاف فيها على الخلاف في الماء القليل إذا وقعت فيه النجاسة اليسيرة ولم تغيره. وأما البهيمي: فينقسم إلى ما لا يصل إلى النَّتَن، وإلى ما يصل إليه. [فأما [ما] (¬2) لا يصل إلى النَّتَن] (¬3) من جميع البهائم على اختلاف أنواعها: فسؤره طاهر -كان الماء قليلًا أو كثيرًا-. فأما ما يصل منها إلى النتن: فلا يخلو ما شربته منه من أن يكون [الماء] (¬4) قليلًا أو كثيرًا، فإن كان كثيرًا كالحوض وشبهه: فالماء طاهر لا يتنجس بشربها؛ سواء أكان في أفواهها وقت شربها أذىً أم لا؛ لقوله عليه السلام: "لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقى شرابًا وطهورًا" (¬5)، ولقول عمر رضي الله عنه: يا صاحب الحوض: "لا تخبرنا؛ فإنا نرد [ق/ 7 أ] على السباع، وترد علينا" (¬6). ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) سقط من الأصل. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من ب. (¬5) أخرجه ابن ماجة (519) من حديث أبي سعيد الخدري. قلت: ضعفه العلامة الألباني في ضعيف سنن ابن ماجة (519)، وضعيف الجامع (4789)، وهو كما قال. (¬6) أخرجه مالك (45)، والبيهقي في الكبرى (1114)، وعبد الرزاق في المصنف =

فإن كان قليلًا، مثل آنية الوضوء، وما فوقها قليلًا، شرب منه [أما] (¬1) ما يصل إلى النَّتَن، فلا يخلو من أن يتيقن في أفواهها أذى وقت الشرب أم لا؟ فإن تيقن الأذى في أفواهها وقت شربها: فإنه لا يتوضأ بذلك الماء. فإن توضأ به رجل وصلى: فهل يعيد أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يعيد [أصلًا] (¬2) سواء علم أو لم يعلم -وهو مشهور المذهب-. والثاني: أنه يعيد في الوقت، وسواء علم أو لم يعلم -وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" (¬3). والثالث: التفصيل بين أن يتعمد الوضوء به بعد علمه فيعيد، أو لا يتعمد. وإذا علم بعد الصلاة: فلا يعيد إلا في الوقت، وهو قول ابن حبيب (¬4)، وهو ظاهر قول أبي سعيد البراذعي في ["التهذيب" (¬5)]. وسبب الخلاف: الماء القليل إذا وقعت فيه النجاسة [اليسيرة] (¬6)، ¬

_ = (250)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 310). قال الشيخ الألباني: ضعيف. المشكاة (486)، وانظر: تمام المنة. (¬1) سقط من الأصل. (¬2) في جـ: الصلاة. (¬3) المدونة (1/ 5). (¬4) النوادر (1/ 73). (¬5) في جـ: المدونة. (¬6) في أ: القليلة.

ولم تغيره، هل هو طاهر مطهر أو لا طاهر ولا مطهر أو طاهر غير مطهر، وهو شذوذ من القول؟ وأمَّا إن لم يرد في أفواهها وقت شربها أذى، فهاهنا تفصيل وتحصيل: أمَّا الهرة: فلا خلاف في المذهب في استعمال سؤرها وطهارته؛ لقوله عليه السلام: "إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات" (¬1)، [فخرجت] (¬2)، بهذا الدليل من جملة الحيوانات؛ لِعِلَّة الطّواف والملازمة، وما فيها من المنفعة ["للخليقة"] (¬3). أما الكلب: فقد ورد [الخبر] (¬4) بغسل الإناء من وُلُوغه سَبْعًا عمومًا من غير تفصيل بين المأذون وغيره، وبين أواني الماء وأواني الطعام، فبنا نُشَمِّر الذَّيل إلى التفصيل ونتشوف إلى التحصيل. أما أواني الماء: فلا خلاف في وجوب غسلها سبعًا حسب ما ورد في الخبر، ولا يغسل بما فيه من الماء؛ لأنه ورد في حديث مسلم: "فليرق الماء .. " (¬5) ... فهل يبادر إلى غسله في الحال أو عند إرادة الاستعمال؟ قولان، وسبب الخلاف: هل غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا تعبد أو لنجاسته؟ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (75)، والترمذي (92)، والنسائي (68)، وابن ماجة (367)، وأحمد (22022)، ومالك (44). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) في أ: فخرجته. (¬3) في ب: والخليقة. (¬4) في ب: الأثر. (¬5) أخرجه البخاري (170)، ومسلم (279)، واللفظ له.

فمن رأى أنه لنجاسته أجاز التأخير، ومن رأى أنه تعبد منع التأخير أو التعداد؛ إذ لا ينافي أن يكون الغسل لنجاسة؛ لأنَّ القدر الذي يحصل فيه الإنقاء مطلوب لمعنى، والزائد عليه عبادة، كالاستجمار والإقراء؛ إذ الاستبراء يحصل بقرء واحد، والباقي من الثلاثة تعبد، فكذلك أحجار الاستجمار، والتحديد بالسبع من هذا القبيل. وأما أواني الطعام: فهل هي كأواني الماء في لزوم غسل [ق/ 4 ب] الإناء؟ في المذهب قولان، وسبب الخلاف: العموم هل يخصص بالعادة أم لا؟ وهي مسألة اختلف فيها الأصوليون؛ فمن قال: إن العموم لا يخصص بالعادة (¬1)، قال: إن أواني الطعام مثل أواني الماء للعموم، وهو قوله عليه السلام: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم" (¬2)، والإضافة دليل التعريف، والتعريف دليل العموم، إلا أن يقوم دليل على أن المراد بالتعريف العهد. ومن رأي أن العموم يخصص بالعادة (¬3)، فيقول: وجدنا عادة العرب التحفظ بأواني الطعام، ورفعها في محل الصيانة؛ إذ لا تستعمل إلا في وقت مخصوص بخلاف أواني الماء تُبْتَذَلُ في كل ساعة، وصارت مُعَرّضة لملاقاة الكلاب، وأن تكون مولغة لها، فكان ذلك مقصود الشرع، والله أعلم. واختلف في سؤر الكلب، هل هو طاهر أو نجس؟ ¬

_ (¬1) وهذا هو مذهب الجمهور، وهو الحق. (¬2) تقدم. (¬3) وهذا هو مذهب الحنفية.

على أربعة أقوال: أحدها: أنه طاهر في الماء والطعام، وهو ظاهر قول ابن وهب، وأشهب، وابن زياد (¬1)، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" (¬2) لقوله: "لأنه يرى الكلب كأنه من أهل الدار وليس كغيره من السباع، وأيّ [مزية] (¬3) على السباع إن قلنا بنجاسة سؤره، ولاسيما وقد وقع في بعض روايات المدونة: ([والهرة] (¬4) أيسرهما [لأنها] (¬5) مما يتخذه الناس) (¬6)، والضمير فيهما يعود على الكلب المذكور قبله. ولا فرق على هذا القول بين الماء والطعام [وتفريق ابن القاسم في المدونة بين الماء والطعام] (¬7)، استحباب، جار على غير قياس، وإلا لو كان بالعكس أولى؛ لأنَّ الماء يدفع عن نفسه، والطعام لا يدفع عن نفسه، فكان بالطرح أولى، لكن ابن القاسم لاحظ المصلحة، واعتبر الحرمة فقال: "الماء في غالب الأحوال لا قدر له ولا قيمة، والنفوس مجبولة على التسامح [بها] (¬8)، وبذلها بغير عوض؛ لأنه أذل موجود، وبهذا الاعتبار عفا عنه مالك في قاعدة الرِّبا، وجوز التفاضل فيه على مشهور [مذهبه] (¬9). فعلى هذا المنهاج أجرى ابن القاسم [مذهبه] (¬10) في التفرقة بين الماء ¬

_ (¬1) النوادر (1/ 72). (¬2) المدونة (1/ 5). (¬3) في ب: منزلة له. (¬4) في أ: الهر. (¬5) في أ: لأنهما. (¬6) المدونة (1/ 6)، والنوادر (1/ 72). (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من ب. (¬9) في ب: المذهب. (¬10) في ب: جوابه.

والطعام، وأنه ضرب من قياس الشَّبه. والقول الثاني: أن سؤره نجس في الماء والطعام، ويطرح الجميع ولا يستعمل، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه (¬1)، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسل الإناء من ولوغه عمومًا. والثالث: التفصيل بين المأذون في اتخاذه وغير المأذون، فسؤر المأذون طاهر، وغيره نجس. والرابع: التفصيل بين البدوي والحضري، فإن كان [البدوي] (¬2): فسؤره طاهر؛ لأن اتخاذه له مباح، وإن كان [الحضري] (¬3): فسؤره نجس؛ لأنه خاص في اتخاذه، وهو قول عبد الملك. وسبب الخلاف بين من قال بنجاسة سؤره عمومًا [أو بطهارته عمومًا] (¬4)، الأمر بغسل الإناء من ولوغه هل هو تعبد أو لنجاسته؟ وسبب الخلاف بين من يفرق بين المأذون وغيره، وبين من أطلقت اختلافهم في الألف واللام، هل هما للعهد أو للاستغراق، والقول بالتفصيل بين البدوي والحضري لا وجه له إلا أن يقال: [إن] (¬5) البدوي له [ضرورة] (¬6) إلى اقتنائه. وقد وقع لمالك في "المدونة" (¬7) لفظان؛ أحدهما: قوله: [ولا] (¬8) ¬

_ (¬1) النوادر (1/ 72). (¬2) في ب: بدويًا. (¬3) في ب: حضريًا. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من ب. (¬6) زيادة من ب. (¬7) المدونة (1/ 5). (¬8) في ب: وما.

أدرى ما حقيقته، والثاني: قول ابن القاسم: "وكان يضعفه" (¬1) -يعني: مالكًا-. [واختلف] (¬2) المتأخرون في تأويلهما وتنزيلهما على الوقف، فقيل: إنه كان يضعف الحديث [لأنه من أخبار الآحاد] (¬3)، والقرآن يعارضه، والله تعالى يقول: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (¬4). وقيل: أنه كان يضعِّف [العدد] (¬5)؛ لأن الأعداد في غسل النجاسة غير معتبرة. وقيل: إنه كان يضعف [الوجوب -يعني: وجود الغسل] (¬6) - وهو تأويل أبي الحسن القابسي [رضي الله عنه] (¬7)، ويدل عليه تخصيصه بالماء، وأعظم إراقة الطعام. ولو كان الغسل واجبًا لساوى بين الماء والطعام على [مذهبه في] (¬8) "المدونة"، ولا حجة لمن قال: إنه ضَعَّفَ الحديث؛ بقوله: [وما] (¬9) أدرى ما حقيقته [لاحتمال أن يريد بقوله ما أدرى ما حقيقته] (¬10)، أي حقيقة معناه، وحكمة الله في هذه [العبادات] (¬11)، أو يكون هذا على ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 5). (¬2) في ب: فاختلف. (¬3) في ب: لأنه خبر آحاد. (¬4) سورة المائدة الآية (4). (¬5) في ب: الأعداد. (¬6) في ب: وجوب. (¬7) زيادة من ب. (¬8) في ب: مذهب. (¬9) في ب: لا. (¬10) سقط من أ. (¬11) في أ: العبادة.

مذهب من قَدَّمَ القياس على خبر الواحد، وهو مذهب جماعة من الفقهاء الأصولين، ومن [أئمتنا] (¬1) البغداديين، وحكوا أنه مذهب مالك، ويؤيد هذا التأويل قوله في "المبسوط"-: ليس غسل الإناء سبع مرات بالأمر اللازم [والحمد لله وحده] (¬2). ... ¬

_ (¬1) في أ: أئمة. (¬2) زيادة من جـ.

المسألة الثالثة في أحكام المياه

المسألة الثالثة في أحكام المياه فالماء على وجهين؛ مطلق ومضاف. فالمطلق: هو الذي لم يخالطه شيء من الأشياء، فحكمه: أنه طاهر بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. والأصل في المياه الطهارة [والتطهير] (¬1)، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (¬2). والطهور: فعول من التطهير، وهو الطاهر المطهر، ومنه قوله عليه السلام: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" (¬3)، أي: مطهرة؛ لأنَّ التراب كان طاهرًا قبله، وخَصَّ - صلى الله عليه وسلم - وجه الأرض مطهرًا، [أي] (¬4): فيتيمم به. وفي الصحيحين: [أنه] (¬5) عاد مريضًا، فقال: "لا بأس، طهور إن شاء الله" (¬6). يُريد أن [المرض] (¬7) مُطَهِّر من الذنوب، ولم يُرِد أن [المرض] (¬8) ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سورة الفرقان الآية (48). (¬3) أخرجه البخاري (328)، ومسلم (521). (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من ب. (¬6) أخرجه البخاري (3420)، وانفرد به، وليس كما زعم المصنف. (¬7) في ب: المريض. (¬8) في ب: المريض.

طاهر. وأما المضاف: فعلى وجهين؛ مضاف بشيء طاهر، ومضاف بشيء نجس. فأما المضاف بشيء طاهر: لا يخلو من ثلاثة أوجه: مضاف بما لا ينفك عنه غالبًا، ومضاف بما ينفك عنه غالبًا، ومضاف بما ينفك [عنه] (¬1) في بعض الأزمنة. فالجواب عن الوجه الأول؛ وهو المضاف بما لا ينفك [عنه] (¬2) غالبًا كالمضاف بقراره كالماء الجاري على الشَّب [والحديد] (¬3)، والزَّرْنِيخ وغيره من المعادن، أو تغير [مجرى] (¬4) الماء [بالطحلب] (¬5): فلا خلاف أنه طاهر مطهر. والجواب عن الوجه الثاني: وهو المضاف بما ينفك عنه غالبًا كالمضاف بالحبوب والأخباز والجلود وغير ذلك: فلا تخلو من أحد وجهين: إما أن يغيره ذلك أم لا، فإن تغير أحد أوصافه [فهو عندنا طاهر غير مطهر، وإن لم يتغير أحد أوصافه] (¬6)، ولا بعضها: فلا خلاف في المذهب أنه طاهر. [و] (¬7) هل يسلبه التطهير أم لا؟ ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: ممر. (¬5) في أ: والطحلب. (¬6) سقط من أ (¬7) زيادة من ب.

فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" (¬1): أحدهما: أنه طاهر مطهر، وأن ما أضافه لا يسلبه التطهير، وهو مشهور المذهب، وهو ظاهر "المدونة" (¬2)، في رجل أصابته السماء حتى استنقع أنه يتوضأ، وهو مضاف بشيء طاهر؛ لأنَّه ما سال من ثيابه وَمَرَّ على جسده، وهذا على رواية رجل. والثاني: أنه طاهر غير مطهر، وهو نص قوله في "النوادر" (¬3)، وهو ظاهر قول مالك في كتاب الوضوء من "المدونة" (¬4)، حيث قال: "ولا يتوضأ بما قد [بُلَّ] (¬5) فيه شيء من الطعام والشراب، ولا بما وقع فيه جلد فأقام [فيه] (¬6) أيامًا حتى ابتل"؛ فظاهر هذا [ألا] (¬7) فرق بين أن يتغير [أو لا يتغير] (¬8)، إلا أنه شذوذ من القول. وروى مثله عن [الشيخ] (¬9) [أبي الحسن] (¬10) القابسي رضي الله عنه. والجواب عن الوجه الثالث: إذا أضيفت بما ينفك عنه في بعض الأزمنة دون بعض كالمضاف بأوراق الشجر والحشيش، وما في معناه، وهذا (¬11) يتخرج على ثلاثة أقوال [ق/ 3 جـ]: ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 4). (¬2) المدونة (1/ 25). (¬3) النوادر (1/ 76). (¬4) المدونة (1/ 4). (¬5) في جـ: حل. (¬6) سقط من ب. (¬7) في أ: لا. (¬8) في ب: أم لا. (¬9) زيادة من ب. (¬10) سقط من ب. (¬11) في أ: وإنه.

أحدها: أنه يمنع [التوضؤ] (¬1) به كالمضاف بالحبوب؛ لأن ذلك لا يجانس [الماء] (¬2) والاحتفاظ منه ممكن، وهو قول أبي العباس الإبياني. والثاني: أنه لا يمنع [التوضؤ] (¬3) كالمضاف [لما] (¬4) يلازمه من حمأة أو طحلب؛ لأن التكليف [بالمحافظة] (¬5) عن مثل [ذلك] (¬6) مشقة [حافة] ومضرة [ق/ 8 أ] لاحقة، وهو مذهب العراقيين [من أصحابنا] (¬7). و [القول] (¬8) الثالث: التفصيل بين زمان الإمكان من الاحتراز منه، فلا يتوضأ به، وبين الزمان الذي لا يمكن الاحتفاظ منه، فيجوز [التوضؤ] (¬9) به، وهذا القول توسط بين القولين المتقدمين، وهو مُخَرَّج غير منصوص. وأما المضاف بشيء نجس: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: [أن تتغير الأوصاف أو بعضها، والثاني: ألا يتغير له وصف من الأوصاف] (¬10). فالجواب عن الوجه الأول إذا تغيرت [الأوصاف] (¬11) أو بعضها: فإن ¬

_ (¬1) في ب: الوضوء. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: الوضوء. (¬4) في ب: بما. (¬5) في أ: للمحافظة. (¬6) في ب: هذا. (¬7) زيادة من ب. (¬8) زيادة من ب. (¬9) في ب: الوضوء. (¬10) في ب: إما أن يتغير أم لا. (¬11) في ب: أوصافه.

تغيرت الأوصاف الثلاثة [الرائحة] (¬1)، أو اللون، أو الطعم: فلا خلاف في مذهب مالك رحمه الله أنه [ماء] (¬2) نجس, وأنه ليس بطاهر ولا مطهر. وإن تغيرت الرائحة بانفرادها، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه نجس, وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه طاهر ليس بنجس, وهو قول عبد الملك. وسبب الخلاف: الزيادة في الخبر إذا كان راويها ثقة، هل تقبل تلك الزيادة أم لا؟ والأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مختلفة بالزيادة والنقصان؛ فمنها ما [خرَّج] (¬3) أبو داود من طريق أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن بئر بضاعة -وهو بئر تلقى فيه لحوم الكلاب والحيض- فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الماء لا ينجسه شيء" (¬4). وفي حديث آخر: "خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه، أو طعمه" (¬5) وفي حديث آخر: "أو رائحته". فلأجل هذا الاختلاف اختلف في الرائحة، هل هي من الأوصاف ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: خرجه. (¬4) أخرجه أبو داود (66)، والترمذي (66)، والنسائي (326)، وأحمد (10735) من حديث أبي سعيد. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال العلامة الألباني: صحيح. إرواء الغليل (14). (¬5) أخرجه ابن ماجة (521) من حديث أبي أمامة. وقال العلامة الألباني: ضعيف. الضعيفة (2644).

المعتبرة كاللون [والطعم] (¬1) أم لا؟ والجواب عن الوجه الثاني: إذا أضيف بشيء نجس, فلم تتغير الأوصاف: فلا يخلو ذلك من أن يكون كثيرًا مستبحرًا أم لا، فإن كان كثيرًا مستبحرًا: فلا خلاف في مذهب مالك أن الإضافة لا تؤثر، وأن الماء طاهر مطهر. [فإن كان الماء قليلًا دون القلتين التي آنية الوضوء مثله: فاختلف فيه المذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه طاهر مطهر] (¬2) على أصله، وهذا هو مشهور المذهب. والثاني: أنه نجس؛ ومن توضأ به عالمًا وصلى أعاد أبدًا، وهو قول ابن حبيب -متأوَل على قول ابن القاسم في الكتاب- لأنه قال: "ومن توضأ بماء ولغ فيه ما يأكل الجِيَف، فإنه يعيد في الوقت" (¬3). والإعادة في الوقت لغير المتعمد، وهو نقل أبي سعيد. والثالث: أنه مكروه، ويستحب تركه مع وجود غيره. والرابع: أنه ماء مشكوك في حكمه، هل هو طاهر أو نجس. وهذه الأقوال كلها ترجع إلى قولين أصلين: إطلاق الطهارة، وإطلاق النجس. وسبب الخلاف: تعارض الأخبار الواردة في ذلك: فمنها: ما [روى] (¬4) مالك من طريق أبي هريرة أنه قال: قال رسول ¬

_ (¬1) في الأصل: الطعام. (¬2) سقط من جـ. (¬3) المدونة (1/ 6). (¬4) في جـ: خرجه.

الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" (¬1). فيفهم منه أن قليل الماء ينجسه قليل النجاسة. وكذلك يفهم من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه" (¬2). ويعارضه حديث أنس بن مالك: أن أعرابيًا قام إلى ناحية من المسجد فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوه لا تَزْرِمُوهُ" (¬3)، فلما فرغ أَمَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذَنوب من ماء، فصب على بوله" (¬4). فظاهره: أن قليل الماء لا ينجسه قليل النجاسة؛ إذ المعلوم أن ذلك الموضع قد طهر بذلك الذَّنوب. وعلى القول بأنه نجس, هل يتيمم مع وجوده من لم يجد سواه؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يتيمم ويتركه، وهو [قول] (¬5) ابن القاسم. والثاني: أنه يجمع بين التيمم واستعماله، [وبه قال] (¬6) محمَّد بن مسلمة، وعبد الملك. وعلى القول [بالجمع] (¬7) بين التيمم والوضوء كيف يجمع بينهما؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (160)، ومسلم (278)، ومالك (40). (¬2) أخرجه البخاري (236)، ومسلم (282). (¬3) أي: لا تقطعوا عليه بوله. (¬4) أخرجه البخاري (5679)، ومسلم (284). (¬5) في أ: مذهب. (¬6) في ب: وهو قول. (¬7) في ب: بأنه يجمع.

[فالمذهب] (¬1) على قولين: أحدهما: أنه يتوضأ به، ثم يتيمم ويصلي، وبه قال عبد الملك. والثاني: أنه يتيمم ويصلي، ثم يتوضأ ويصلي، ويقدم الصلاة بالتيمم، وهو قول سحنون، قبل أن تتنجس أعضاؤه بذلك الماء، ثم يتوضأ بعد ذلك ويصلي به مراعاة لقول من يقول: أنه [ماء] (¬2) طاهر؛ [فتوقع] (¬3) الصلاة على وجه [مجمع] (¬4) عليه لعدم الترجيح. فإن حضرت صلاة أخرى: فإنه يعيد التيمم، ثم يصلي. فإن [انتقضت] (¬5) طهارته: توضأ بما بقى من ذلك الماء أيضًا. وهنا فصل أخر [في المياه] (¬6): اختلف فيه من أي قبيل هو؟ وهو الماء المستعمل، هل يستعمل في رفع الحدث مرة ثانية أم لا؟ فقد اختلف فيه المذهب على قولين قائمين من "المدونة" (¬7): أحدهما: أنه لا يستعمل أصلًا، ويتيمم من لم يجد سواه، وهو قول مالك في "المختصر"، وفي كتاب ابن القصار، عليه حمل حذاق المتأخرين قول مالك في "الكتاب" [حيث قال] (¬8): "ولا يتوضأ بما قد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: لتقع. (¬4) في ب: مجتمع. (¬5) في أ: انقضت. (¬6) سقط من ب. (¬7) المدونة (1/ 4). (¬8) زيادة من ب.

توضأ به مرة ولا خير فيه" (¬1)، وإن قول ابن القاسم خلاف، ويؤيده قوله فيمن ذكر وهو في الصلاة أنه لم يمسح رأسه، وفي لحيته بلل، فقال: "لا يجزئه أن يمسحه بذلك البلل" (¬2). وظاهره سواء كان البلل يسيرًا أو كثيرًا؛ لأنه ماء مستعمل. ولعبد الملك في غير "المدونة": أنه يمسح به إذا كان الماء كثيرًا، وهو القول الثاني في المذهب: أن الماء المستعمل يستعمل، وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة" إذا كان الذي توضأ به أولًا طاهر الأعضاء. وسبب الخلاف: اختلافهم في هذا الماء هل يطلق عليه اسم الإطلاق أم لا؛ فمن رأى أنه ماء مطلق، وأن [هذا] (¬3) الاسم يتناوله، قال: إنه يستعمل. ومن رأى أنه لا يطلق عليه [هذا] (¬4) الاسم، قال: لا يستعمل ولأصحابنا المتأخرين [على] (¬5) هذه المسألة [توجيهات] (¬6)، أضربتُ عن ذكرها لضعفها، [والله وليّ التوفيق] (¬7) [والحمد لله وحده] (¬8). ... ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 4). (¬2) المدونة (1/ 17). (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من ب. (¬5) في ب: في. (¬6) في أ: توجيه. (¬7) سقط من ب. (¬8) زيادة من جـ.

المسألة الرابعة فيما ينتقض الطهارة

المسألة الرابعة فيما ينتقض الطهارة والطهارة ينقضها ثلاثة أشياء: أحدها: خروج خارج. والثاني: دخول داخل. والثالث: ما ليس [بداخل ولا] (¬1) بخارج، ولكنه سبب لخارج، فالجواب عن الوجه الأول؛ وهو خروج خارج، [فأرشق] (¬2) عبارة [عَبَّرَ بها] (¬3) مُتأخرو المذهب في حصر النواقض أن تقول: الخارج المُعتاد [من المَخْرَج المعتاد] (¬4) على سبيل الاعْتِياد: فهو الذي يوجب الوضوء باتفاق [من] (¬5) المذهب. [وقولنا] (¬6): الخارج المُعتاد: كالبول، [والغائط] (¬7)، والريح، وما يخرج من الذَّكر على اختلاف أنواعه وأسمائه؛ احترازًا من غير المعتاد كالدود، [والحصى] (¬8)، والدَّم من الدُّبر. وقولنا: من المَخْرَج المُعتاد، احترازًا مما يخرج من الفم من دم أو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: وأن. (¬3) في أ: عبرها. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من ب. (¬6) في ب: فقوله. (¬7) سقط من ب. (¬8) في ب: الحصاة.

قيء، أو ما يخرج من جرح من دم أو قيح؛ فإن أبا حنيفة اعتبر الخارج دون المخرج، والشافعي [اعتبر] (¬1) المخرج دون الخارج، وتابعه على ذلك محمد بن الحكم من أصحابنا. وقولنا: على سبيل الاعتياد؛ احترازًا مما ليس بمعتاد كالدُّبر، والدود تخرج عارية عن البَّلَّة، والحصا، وسلس البول، والمذي، والريح، ودم الاستحاضة، فهذا لا يوجب الوضوء عند مالك، ولا ينقضه على تفصيل لنا فيه. والزائد على القدر المعتاد كالسلس والاستحاضة: لا يخلو إما أن يكون دائمًا [مسترسلًا على سائر الأوقات أو يكون منقطعًا يأتي المرة بعد المرة، فإن كان دائمًا] (¬2) متصلًا لا يفتر: فلا خلاف [في المذهب] (¬3) أن الوضوء في حقه لا يجب، لكنه مستحب. فإذا بال بول العادة، أو كانت المستحاضة ممن لها التمييز: فيجب الوضوء على صاحب السلس، والغسل على المستحاضة [فإن] (¬4) كان غير دائم: ففي هذا الوجه يفترق حكم صاحب البول، وصاحب المذي؛ فصاحب البول: لا خلاف أنه يتوضأ لكل صلاة. وهل ذلك على معنى الوجوب أو على معنى [الندب] (¬5)؟ فبين المتأخرين [قولان متأولان] (¬6) على "المدونة"، والظاهر ¬

_ (¬1) في ب: يعتبر. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: ولو. (¬5) في أ: المندوب. وفي ب: الاستحباب. (¬6) في ب: خلاف على قولين متأولين.

منهما: أنه على الوجوب. وأما صاحب المذي فلا يخلو سلسه [منه] (¬1) مرة بعد مرة من أن يكون ذلك [من سببه] (¬2)، أو [من سبب] (¬3) يقدر على رفعه، أو من سبب لا يقدر على رفعه ودفعه، فإن كان ذلك من سببه كالتَّذكر، وكان لا يخرج منه إلا بالتذكر: فهذا يجب عليه الوضوء باتفاق المذهب، ولكن هل يغسل جميع الذكر أو رأس الإحْلِيل خاصة؟ فالمذهب على قولين، وفي "المدونة" ما يدل على القولين جميعًا؛ لأنه قال في موضع: "فإنه يغسل ذكره" (¬4)؛ فظاهره كله. وقال في موضع آخر: "يغسل ما به" (¬5)، وظاهره رأس القضيب [خاصة] (¬6). وهل يفتقر غسله إلى نية أم لا؟ وهذا يتخرج على صفة غسله؛ فمن قال [بغسل] (¬7) جميع الذكر: فقال: يحتاج إلى نية؛ لأن ذلك جنابة الذكر. ومن قال [بغسل] (¬8) مخرج الأذى خاصة، قال: لا يحتاج إلى النية. فإن كان ذلك من سبب يقدر على دفعه بالتَّسَرِّي والنكاح: فهل يجب ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: بسببه. (¬3) في ب: بسبب. (¬4) المدونة (1/ 12). (¬5) المدونة (1/ 12). (¬6) سقط من ب. (¬7) في ب: يغسل. (¬8) في ب: يغسل.

الوضوء ابتداءً بهذا الوصف، أو لابد من اعتبار التذكر معه؟ [فإذا طالت العزبة واستدام التذكر، فيخرج المذي ويجب الوضوء] (¬1). وهل يجب بانفراد العزبة وإن لم يقارنه التذكر؟ ففي "المدونة" روايتان: إحداهما [قوله] (¬2): إن كان ذلك من طول عزبة إذا تذكر خرج منه" (¬3)، فاقتضت هذه الرواية: أن الوضوء لا يجب بمجرد العزبة، وإن خرج مذي حتى يتذكر. [والرواية الأخرى] (¬4): فإن كان ذلك من طول عزبة أو تذكر فكل وصف ["اعتبر على انفراده" (¬5)] (¬6): فالتذكر بانفراده، والعزبة بانفرادها. فقد تبين لك ما بين الروايتين من المعنى. وعلى الرواية باعتبار العزبة على الانفراد، فإن قدر على إزالتها بالشراء أو النكاح: فهل يجب عليه الوضوء لكل صلاة أو يؤمر؟ قولان مخرّجان على المذهب. وسبب الخلاف: من ملك أن يَمْلك قبل أن يُمَلك هل هو كالمالك؟ فإن كان ذلك [ق/ 9 أ] من سبب لا يقدر على دفعه وزواله، كمن به علة دائمة، فإنه يؤمر بالوضوء اتفاقًا، فهل ذلك على معنى الندب أو على معنى الإيجاب؟ ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) المدونة (1/ 10). (¬4) في ب: والثانية. (¬5) المدونة (1/ 11). (¬6) في ب: اعتبر كلا الوصفين على انفراده.

قولان قائمان من "المدونة". [والموجب الثاني] (¬1): وهو دخول داخل كالإيلاج في قُبُل أو دُبُر، فلا خلاف في مذهب مالك [في] (¬2) أنه ينتقض الوضوء ويوجب الطهارة عليهما؛ كان معه إنزال أم لا [على أحد القولين فيمن أكره على الزنا أنه يحد لوجود الانتشار والنشاط منه؛ لأن ذلك ينافي الإكراه فإنه يجب عليه الغسل على هذا القول لاحتمال أن يصدر ذلك عن إرادته واختياره، وأما المرأة فقد روى إسماعيل القاضي عن مالك أنها لا غسل عليها، والقياس وجوبه عليها كان معها إنزال أم لا] (¬3) إذا كان الإيلاج بالاختيار منهما. فإن أُكرها أو أحدهما هل يفسد ذلك وضوءهما، أو وضوء المكرَه منهما أم لا؟ فهذه المسألة لم أرها في [المدونة] (¬4) نصًا، والذي تقتضيه أصول المذهب وفصوله: ألَّا وضوء على المكرَه منهما؛ لأن المكره على مذهب مالك رحمه الله لا ينسب إليه فعل. [والجواب عن الوجه الثالث] (¬5): وهو ما ليس بخارج، ولكنه سبب للخارج كالنوم، والقُبلة، والمباشرة، والملامسة، وأشباهها. فأما النوم: فاختلف المذهب فيه على قولين: أحدهما: أنه حدث في نفسه، وهو قول ابن القاسم (¬6) فيما حكاه أبو ¬

_ (¬1) في ب: والجواب عن الوجه الثاني. (¬2) ساقطة من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: المذهب. (¬5) في أ: والموجب الثالث. (¬6) المدونة (1/ 9، 10).

الفرج [عنه] (¬1) وإليه مال ابن القصار. والثاني: أنه ليس يحدث [في نفسه وهو مشهور المذهب] (¬2)، [وإنما هو سبب للإحداث] (¬3). ولهذا تعتبر حالة النائم، والهيئة التي يغلب بها على الظن أنه يخرج ولا يشعر، وهو على أربع مراتب؛ أقربها إلى انتقاض وضوئه فيها [الاضطجاع] (¬4) [ق/ 4 جـ]، ثم السجود والركوع، ثم القيام، ثم الاحتباء. واختلف في الركوع، فقيل: كالقيام، وقيل: كالسجود. واختلف في الاستناد؛ فقيل: كالجلوس، وقيل: كالاضطجاع؛ فإذا نام الرجل مضطجعًا، فعليه الوضوء بالاستثقال، وإن لم [ق/ 5 ب] يطل، وإذا نام ساجدًا هل يجب عليه الوضوء بمجرد النوم أو لابد من الإطالة؟. في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجب عليه الوضوء إذا نام ساجدًا -قليلًا كان نومه أو كثيرًا- وهو ظاهر "المدونة" (¬5) من قوله: وقد يتوضأ أيسر شأنًا ممن فقد عقله بجنون أو إغماء أو سكر، وهو الذي ينام ساجدًا أو مضطجعًا. وإلى هذا الترجيح مال بعض مشايخ الأندلسيين. والثاني: أنه لابد من اعتبار الوصفين؛ الإطالة والاستثقال، وهو نص ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) زيادة من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) في أ: الإضجاع. (¬5) المدونة (1/ 9).

"المدونة" (¬1). والثالث: أنه يجب بالاستثقال، وإن لم يطل. وقد وقع في بعض روايات "المدونة" بإسقاط الألف في قوله: "من استثقل وطال"، وفي رواية: "أو طال ذلك". فهذا ما يؤيد هذا القول من "المدونة". وكل ما هو مزيل للعقل حتى لا يشعر الإنسان بنفسه: فحكمه حكم النوم. وسواء كان المزيل بإيثار المكلّف، واختياره كالسكْر، أو كان ذلك بغير اختياره كالإغماء والجنون، فهذا مما لا [اختلاف] (¬2) فيه في المذهب. وأما القُبلة مع وجود اللَّذة والقصد [إليها] (¬3)، فاختلف فيها في المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن القُبلة توجب الوضوء بأي وجه كانت على الفم أو على [غير الفم] (¬4) كانت بطوع أو إكراه على الفاعل والمفعول، وهو ظاهر قوله في [آخر] (¬5) باب التيمم من كتاب الوضوء حيث قال: "وإن كانا متوضئين فلا يقَبِّل أحدهما صاحبه إلا أن يكون معهما من الماء ما يكفيهما جميعًا" (¬6)، ولم يفصل بين أن تكون على الفم [أو] (¬7) على غيره. ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 10). (¬2) في ب: يختلف. (¬3) زيادة من ب. (¬4) في ب: غيره. (¬5) سقط من أ. (¬6) المدونة (1/ 49). (¬7) في ب: أم.

الثاني: التفصيل بين [أن تكون على] (¬1) الفم [أو] (¬2)؛ غيره فإن كانت على الفم: وجب الوضوء عليهما جميعًا، وإن كانت على غير الفم: وجب الوضوء على الفاعل، ولا شيء على المفعول به، إلا أن يلتذ، وهو نص قوله في كتاب الوضوء، حيث قال: "أرأيت من قَبَّلْته امرأته على غير الفم -على ظهره أو على رأسه- أتكون هي اللامسة [دونه] (¬3) في قول مالك؟ قال: نعم" (¬4). والقول الثالث: إنه لا شىء عليه إلا أن يلتذ (¬5)، وهي رواية ابن وهب عن مالك، وأشهب عن مالك في كتاب الصيام: أن من قَبَّل امرأته أو باشرها وهو صائم: [أنه] (¬6) لا شيء عليه إلا أن يمذى، فيقضي. وسبب الخلاف: ما يؤدي إلى الشيء، هل هو كالشيء أم لا؟ [فالمباشرة] (¬7)، والملامسة من هذا القبيل، ثم لا يخلو اللمس من أربعة أوجه: أحدها: أن يقصد [إلى] (¬8) اللذة ووجدها، أو لم يقصد إليها ولم يجدها أو قصد، ولم يجد، أو وجد ولم يقصد. فالجواب [على] (¬9) الوجه الأول -وهو أن يقصد إلى الالتذاذ فيلتذ؛ ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) في أ: و. (¬3) سقط من ب. (¬4) المدونة (1/ 13). (¬5) المدونة (1/ 13)، وهو أيضًا رواية ابن القاسم السابقة، فإن تمام كلامه أنه قال: "نعم إلا أن يلتذ الرجل أو ينعظ، فإن التذ لذلك أو أنعظ فعليه الوضوء". (¬6) زيادة من ب. (¬7) في ب: والمباشرة. (¬8) سقط من ب. (¬9) في ب: عن.

و [لا] (¬1) خلاف عندنا في وجوب الوضوء؛ لوجود الملامسة التي سمَّاها الله حِسًا ومعنى. والجواب عن الوجه الثاني -وهو ألا يقصد بها الالتذاذ ولا يلتذ-: فتفترق فيه القبلة والمباشرة والملامسة: أما المباشرة واللمس: فلا يجب عليه فيهما وضوء؛ لعدم الملامسة التي سماها الله بقوله: {أو لامستم النساء} ولا وجد معها لذة. وأما القبلة: فاختلف فيها على قولين: أحدهما: إيجاب الوضوء منها، وهي رواية أشهب عن مالك، وقول أصبغ، وهو ظاهر "المدونة" (¬2)، آخر باب التيمم، وعلة ذلك: أن القبلة لا تنفك عن اللذة، إلا أن تكون صبية صغيرة قبَّلَهَا على سبيل الرحمة. والثاني: أنه لا يجب الوضوء منها كالملامسة والمباشرة، وهو قول مطرف، وابن الماجشون وغيرهما (¬3). وسبب الخلاف: هل الاعتبار بالصور أو الاعتبار بالمعاني؟ والجواب عن الوجه الثالث -وهو أن يقصد بها إلى اللذة [فلا] (¬4) يلتذ- فالمذهب فيه أيضًا على قولين: أحدهما: وجوب الوضوء، وهي رواية عيسى بن القاسم، وهو ظاهر "المدونة" (¬5)؛ لوجود الملامسة التي ذكر الله تعالى في كتابه. فإذا ابتغاها ¬

_ (¬1) في ب: فلا. (¬2) المدونة (1/ 13)، والنوادر (1/ 2، 53)، والبيان والتحصيل (1/ 115). (¬3) النوادر (1/ 52). (¬4) في ب: ولم. (¬5) المدونة (1/ 13).

وطلبها وجب عليه الوضوء -وجدها أم لا- لأن الله تعالى [لم] (¬1) يشترط في الملامسة وجود اللذة. والقول الثاني: إنه لا وضوء عليه، وهو قول أشهب عن مالك، ووجه [ذلك] (¬2)، أن المقصود بالملامسة وجدان اللذة، فإذا عدمت لم يجب الوضوء. والجواب عن الوجه الرابع -وهو أن يجد اللذة ولم يقصدها- فهل يجب عليه الوضوء؟ قولان قائمان من المدونة (¬3). [وسبب الخلاف] (¬4): هل العبرة بوجود المعنى أو العبرة بوجود الصور. والحمد لله وحده. ... ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) المدونة (1/ 13). (¬4) سقط من أ.

المسألة الخامسة مسألة الإنعاظ

المسألة الخامسة مسألة الإنعاظ (¬1) وإنما أفردناها بالكلام عن باب [الملامسة] (¬2) لما فيها من التفصيل الذي لا يمكن تحصيله إلا [إذا أفردت] (¬3)، فلا يخلو ذلك من أربعة أوجه: [أحدها] (¬4): أن ينعظ ويلتذ فيخرج منه الماء. [والثاني] (¬5): أن ينعظ ويلتذ ولا يخرجه منه الماء. [والثالث] (¬6): أن ينعظ وخرج [منه] الماء ولم يلتذ. [والرابع: أن ينعظ ولم يلتذ ولم يخرج منه الماء. فالجواب عن الوجه الأول: إذا أنعظ والتذ وخرج منه الماء فلا خلاف في وجوب الوضوء. والجواب عن الوجه الثاني: إذا أنعظ والتذ ولم يخرج منه الماء هل يجب عليه الوضوء أم لا؟ قولان والمشهور وجوبه. والجواب عن الوجه الثالث: إذا أنعظ وخرج منه الماء ولم يلتذ] (¬7)، ¬

_ (¬1) قال ابن منظور: نعظ الذّكر نَعْظًا وَنَعْظًا ونعوظًا وأنعظ: قام وانتشر، والإنعاظ الشبَقُ، وأنعظت المرأة: شَبقت، واشتهت أن تجامع، وانعاظ الرجل: انتشار ذَكره، وأنعظ: اشتهى الجماع. لسان العرب (7/ 464). (¬2) في أ: المسألة. (¬3) في ب: بالانفراد. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

فالمذهب على قولين أيضًا، والمشهور وجوبه إذ الغالب أن خروج المذي لا يكون إلا عن لذة. والجواب عن الوجه الرابع: إذا لم يكن إلا مجرد الإنعاظ وانكسر عن غير ماء هل يجب الوضوء أم لا؟ قولان قائمان من "المدونة" (¬1) على اختلاف الروايات [فيها] (¬2) في إثبات الألف في قوله: إذا التذ أو أنعظ، وفي رواية أخرى: إذا التذ وأنعظ، وهكذا مذكور في كتاب الوضوء وكتاب الصيام (¬3)، والحمد لله وحده. ... ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 13). (¬2) سقط من ب. (¬3) المدونة (1/ 197).

المسألة السادسة إذا شك في الحدث وأيقن بالوضوء

المسألة السادسة إذا شك في الحدث وأيقن بالوضوء [فقيل] (¬1): الخوض في مقصود المسألة يتعرض لتعاطي البحث عن معنى عبارة تلهج بها ألسنة الحذاق. وقد تلتبس على من لم [يتبحر] (¬2) في دقائق هذا الفن، ويقولون: [إن] (¬3) اليقين لا [يترك] (¬4) بالشك، [ويقرون] (¬5) ذلك، ويجعلونه مراعًا، ومأخذًا لأحد قولي المذهب في جميع مسائل الشكوك، وذلك غير صالح [لإثبات] (¬6) المأخذ ولا مؤيد بدليل سمعي، وإن [وافق] ظاهرها، فإنها عند البحث عن عوارها يتلاشى المتمسك بها، ["وبكع" (¬7)] (¬8) عنها ملتمسها، فنقول في [ترتيب] (¬9) العبارة [وتحريف] (¬10) الطريقة: اليقين إذا تصور معه شك، فضلًا عن ترك اليقين به؛ إذ هما متنافران متدابران فالاستحالة في نفسها ترجع إلى الجمع بين الشيء ونقيضه. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: يستبحر. (¬3) زيادة من ب. (¬4) في أ: يدرك. (¬5) في ب: ويقررون. (¬6) في ب: لاستبانة. (¬7) يقال: بكعت الرجل بكعًا: إذا استقبلته بما يكره. النهاية في غريب الحديث (1/ 149). (¬8) في ب، جـ: يقع. (¬9) في أ: تزيف. (¬10) في ب: وشريف.

وقول القائل: اليقين أولى من الشك يوهم الترجيح عند الاجتماع، وتوهم الاجتماع بين الشك واليقين لا يقابل بالباطل سواء؛ إذ اليقين [تصميم (¬1)]، والشك تجويز، وذلك [في] (¬2) غاية التضاد، ونهاية [التجاسر] (¬3) بل لا يصح أن يناط المثبوت بالمشكوك، والشريعة مثبوتة فلا تناط بهواجس مشكوكة بحقيقة أن الترجيح فرع اعتقاده مصادفة تكون لديها مصادمة والمصادمة لا تتحقق فضلًا عن المصادمة بما أشرنا إليه. فإذا ثبت هذا فليس المعنى بقول القائل: لا يترك اليقين للشك. وجود القطع واليقن حالة الشك والتخمين. ولكن عني بذلك أن ما سبقت استيقانه والقطع به إذا انقضى بذلك وتصرم بطرد الشك. ويقينًا غير مستيقنين بما استبقيناه قاطعين ببقائه على أن القطع الأول بطرد الشك لا يتضمن ارتفاع العلم عما استيقناه أولًا، وهذا في ضرب المثال بمثابة المتطهر إذا شك في الحَدَث فإن هذا الشك مسبوق بالقطع واليقين، واليقين بحصول الأعضاء مغسولة، لكنه غير موجود حالة الشك لو وجد لا يبطل الشك، وهذا مما لا يطرد فيه [القول] (¬4)؛ لأنه تحرم الثقة باليقين لطروء الشك عليه، فقد تعذرت [الدلالة] (¬5) بترك حكم ما سبق عند طروء الشك والالتباس، وذلك [بمثابة] (¬6) من طلق الواحدة من الأربع غير معينة، فإنه لا يساغ له القرب [بالغشيان] (¬7) في واحدة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) هكذا بالأصل. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في جـ: الدلائل. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: في الغشيان.

إلا بعد بيان المطلقة من الجملة، وإن كانت كل واحدة [منهن] (¬1) قد سبقت فيها استيقان النكاح على نعت القطع والتعميم، ولو لم يقع فيها بطلاق. وكذلك إذا كان معه إناء فيه ماء طاهر، فإذا اختلط ذلك الماء بآخران طاهر ونجس, والذي عنده فيما مضى والقضاء، وقد سبقت فيه استيقان الطهارة، وإنما النجاسة طارئة وعارض صالح، ومع ذلك فلا يجوز الاستمساك بحكم ما سبق من اليقين؛ لأنَّه بالشك ارتفع اليقين فيجيء من ذلك أن التمسك بحكم ما سبق في المحل التنويع بحساب قوله اليقين، وذلك موضع [ق/ 10 أ] الإرشاد ومقام الترداد، بل لا يجوز التمسك به في منازل الأدلة إلا أن يقوم الدليل، وهذا مما لابد لنا من بيانه، وسياقه على الإيجاز، والاختصار، والتطويل فيه والإكثار مُحَالٌ على فَنّ الأصول. فليرجع بنا الكلام إلى تحصيل المسألة وتهذيبها؛ لأنها في الكتاب مع ما عليها من الاستكمال في حيز [الاستدلال] (¬2). قال مالك (¬3) رحمه الله: فيمن توضأ ثم شك في الحدث؛ فلم يدر أحدث بعد الوضوء أم لا: إن كان مستنكحا فلا شيء عليه، وإن كان غير مستنكح فليعد الوضوء كالذي يشك في الصلاة، فلم يدر أصلي ثلاثًا أم أربعًا، فإنه يلغي الشك، ويبنى على اليقين. فكأن هذا الاستدلال أتى فجأة في نفسه على ظاهر الصورة؛ لأنه في مسألة الشك في الوضوء، وفي مسألة الصلاة يبنى على اليقين، فالذي يليق بالاستدلال [أن يقال] (¬4) يعيد الصلاة، وإلا لم تصح المناسبة بين ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الإشكال. (¬3) المدونة (1/ 14). (¬4) سقط من أ.

المسألتين. وإلى هذا المعنى أشار بعض المتأخرين، وهو ظاهر، إلا أن مقصود صاحب الكتاب [في الاستدلال] (¬1) بمسألة الصلاة على مسألة الوضوء من طريق المعنى، لا من جهة الصورة؛ لأن اليقين في مسألة الوضوء [ألا تؤدي] (¬2) إلا بطهارة متيقنة ولا تبرأ ذمته إلا بها، وكذلك مسألة الشاك في الصلاة [لأن] (¬3) ذمته معمورة بأربع ركعات مثلًا، فلا تبرأ ذمته إلا بالإتيان بأربع ركعات، فيقال له: الغ الشك، وابْن على يقينك وائت بركعة رابعة، وهذا التشبيه من جهة المعنى، وهو مقصود صاحب الكتاب. وأما التشبيه من جهة الصورة فتوازى مسألة الشك في [صلاة] (¬4) مَنْ شك في أثناء وضوئه في غسل عضو منه، فيقال له: ألق الشك وابن علي اليقين، واغسل ذلك [العضو] (¬5) كما يقال لمن شك أصلى ثلاثًا أم أربعًا: الغ الشك وائت بركعة رابعة. فهذا وجه التمثيل من حيث الصورة، فافهم هذه الدقيقة، فإنها جليلة. ثم لا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يستيقن بحصولهما [جميعًا] (¬6) إلا أنه يشك أيهما كان قبل صاحبه، أو يشك فيهما جميعًا، أو يتيقن في أحدهما، ويشك في طروء ¬

_ (¬1) في أ: قياس. (¬2) في أ: لا يكون. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: الصلاة. (¬5) في جـ: الموضع. (¬6) سقط من أ.

الآخر عليه، أو يتيقن بأحدهما ويشك في فعل الآخر، ويشك بعد ذلك إن كان قبله أو بعده؛ فهذه أربعة أوجه. فأما إن تيقن بهما جميعًا؛ ولم يدر أيهما كان قبل صاحبه فليتوضأ، والوضوء هاهنا واجب؛ لأنه ليس عنده أمر يتيقنه فيبنى عليه. وأما إن تيقن بالحدث وشك في طروء الحدث عليه: فهذا يكون الوضوء عليه واجبًا؛ لأنه على أصل الحدث، ولا ينتقل عنه إلا بيقين. وأما إن تيقن [ق/ 5 جـ]، وشك في الحدث، فلا يدري أحدث بعد الوضوء أم لا؛ قولان قائمان من "المدونة" (¬1): أحدهما: [أنه يعيد] (¬2) الوضوء، وهو نص قوله في هذه المسألة. والثاني: أنه لا وضوء عليه، وهو ظاهر قوله في "كتاب الأيمان" بالطلاق. وعلى القول بأنه يعيد الوضوء على ما نص عليه في الكتاب: هل الإعادة إيجابًا أو استحبابًا؟ وظاهر "المدونة" [ألا إعادة عليه] (¬3) إيجابًا [باستدلاله بمسألة الصلاة] (¬4). وسبب الخلاف: تعارض الأصلين أيهما يقدم على الآخر؛ وذلك أن الصلاة ثابتة في الذمة، فلا تبرأ إلا بيقين وبطهارة متيقنة ولا يقين هنا مع وجود الشك والأصل استصحاب [حالة] (¬5) اليقين، [والحمد لله وحده] (¬6). ... ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 13، 14). (¬2) في ب: أن الإعادة عليه. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: الحالة. (¬6) سقط من ب.

المسألة السابعة إذا رأي في ثوبه نجاسة وهو في الصلاة، أو في غير الصلاة

المسألة السابعة إذا رأي في ثوبه نجاسة وهو في الصلاة، أو في غير الصلاة والمصلي مأمور بأن يناجي ربه بقلب طاهر، وثوب طاهر على موضع طاهر، ولا خلاف في ذلك. وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث المقداد: أنه أمر بغسل المذي من الثوب (¬1). وثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه أمر بغسل المني حيث قال لعمر: " [توضأ] (¬2) واغسل ذكرك [ثم نم" (¬3)] (¬4). إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على وجوب طهارة الثوب والجسد للصلاة. ومن صلى بثوب نجس عامدًا قادرًا على غسله أو على غيره: فإنه يعيد أبدًا [على مشهور المذهب من حديث ابن عمر] (¬5)، ولا خلاف في المذهب في أن المكلف مأمور بغسل [جميع] (¬6) [النجاسات] (¬7) كلها من ثوبه قبل الشروع في الصلاة، من أي نوع كانت تلك النجاسة، قليلة أو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (132)، (176)، (266)، ومسلم (303). (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (286)، ومسلم (306). (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) .......... (¬7) في ب: النجاسة.

كثيرة، إلا الدَّم: فإنه يُحكم [لكثيره] (¬1) بحكم سائر النجاسات، واختلف في حكم القليل منه في الغسل على أربعة أقوال: أحدها: أنه يعفى عن غسله كما يعفى عن الصلاة به جملة، وهو قول الداوودي. والثاني: أنه لا يعفى عن ترك غسل شيء منها جملة، وهو قوله في كتاب "ابن حبيب"، وهو ظاهر قول مالك في "المدونة" حيث قال: "الدماء كلها تغسل وإن كان دم ذباب" (¬2). والثالث: التفصيل بين دم الحيض وغيره، فدم الحيض: يغسل قليله وكثيره، وغيره من الدماء: يتسامح [عن] (¬3) قليله، وهو إحدى الروايتين [عند] (¬4) ابن الجلاب. والرابع: التفصيل بين دم البراغيث [وغيره فدم البراغيث] (¬5) يسامح [عن] (¬6) قليله، وسائر الدماء فلا يسامح بترك غسل قليله، وهو [قول] (¬7) [مالك] (¬8) في "المدونة"، وهو قول ابن شعبان في الزاهي. فإن رآها [بثوبه بعد ما تلبس] (¬9) بالصلاة هل ينزعه، ويتمادى [أو يقطع] (¬10)؟ فهذا محل التفصيل: ¬

_ (¬1) في ب: لكثرته. (¬2) المدونة (1/ 21). (¬3) في ب: في. (¬4) في أ: عن. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: في. (¬7) في ب: قوله. (¬8) سقط من ب. (¬9) في ب: في ثوبه وهو ملتبس. (¬10) سقط من أ.

أما الدم اليسير من غير دم الحيض: فلا خلاف في المذهب أنه لا يجب إعادة الصلاة منه، وإنما يجوز له النزع في الصلاة أيضًا إن كان مما يَخفُّ نزعه كالعمامة باتفاق [من] (¬1) المذهب. وما يشق نزعه كالقميص على الخلاف في المذهب، فإن [الشيخ] (¬2) أبا الحسن القابسي يقول بنزعه، وإن كان قميصًا؛ لأنه شغل [في الصلاة] (¬3) يرجع إلى إصلاح الصلاة مما يخف ولا يعد شغلًا في الصلاة كالعمامة والرداء [واختلف عن مالك في يسير القيح والصديد هل هو كالدم، على قولين: فقال مرة: هو كيسير الدم فهما من جنس ما تدعو الضرورة إليه، وقال في المبسوط: القيح والصديد كالبول والغائط ويتخرج في قليل [البول] (¬4) وكثيره قولان] (¬5). واختلف في القدر المعفو عنه في الدم، فقيل: مقدار الدرهم، غير أن مالكًا سُئِلَ عن ذلك فقال: لا أجيبكم إلى هذه الضلالة؛ [فإن الدراهم تختلف] (¬6) منها الصغير والكبير. وقيل: مقدار الخنصر. [واختلف في اليسير] (¬7) والكثير من الدّم، والقليل والكثير من [سائر] (¬8) النجاسات: هل يجوز فيه النزع إذا رآه [وهو] (¬9) في الصلاة ¬

_ (¬1) ساقطة من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في جـ: الدم. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: فالدراهم مختلفة. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من ب. (¬9) سقط من ب.

مثل قليل الدّم؟. فالمذهب على [ثلاثة أقوال قائمة] (¬1) من "المدونة": [أحدها] (¬2): أنه لا يجوز [له] (¬3) النزع، وأنه متى رآه وهو في الصلاة فليقطع، وهو نص "المدونة" (¬4). والثاني: أن النزع جائز له فيما يتمكن كالدم اليسير، وهو ظاهر قوله في "المدونة"؛ لأنَّه قال: فإن رآه بعد الفراغ من الصلاة، فإنه يعيد في الوقت، [والإعادة] (¬5)، في الوقت استحبابًا، [فجعل] (¬6) ما مضى من صلاته بمنزلة ما مضى وقته، وهو قول مالك في "المبسوط" [إلا أنه قال: فإن لم يقدر على النزع قطع. والثالث: أنه يتمادى ويعيد لذا لم يقدر على النزع، وهو قول عبد الملك] (¬7). وسبب الخلاف: تعارض الأحاديث في ذلك: وقد روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في ثوبه دمًا في الصلاة فانصرف. فحُمل على أنه دم كثير، فهذا يمنع من النزع؛ إذ لو كان سائغًا لفعله [- صلى الله عليه وسلم - وثبت أن] (¬8) النبي - صلى الله عليه وسلم -[نزع نعليه] (¬9) [وهو] (¬10) في الصلاة ¬

_ (¬1) في أ: قولين قائمين. (¬2) في أ: أحدهما. (¬3) سقط من أ. (¬4) المدونة (1/ 33، 34). (¬5) في أ: والصلاة. (¬6) في الأصل: فاجعل. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ. (¬9) في ب: خلع نعله. (¬10) في أ: وبنى.

[وبنى] (¬1) على ما مضى، [من صلاته] (¬2)، فثبت أن النزع مباح. فلتعارض هذه الأحاديث اختلف أصحاب المذهب [في النزع] (¬3)؛ فالمشهور وجوب القطع [فيما عدا الدم اليسير] لأن الأصل وجوب [القطع] (¬4) في اليسير و [الكثير] (¬5) من سائر النجاسات خصص الدليل [من ذلك] (¬6) الدم اليسير، وبقى ما عداه على الأصل. والدليل على تخصيص الدم اليسير: اعتبار الضرورة فيما تعم [به] (¬7) البلوى، وبالله التوفيق، والحمد لله وحده. ... ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من ب. (¬6) زيادة من ب. (¬7) سقط من أ.

المسألة الثامنة [في الماء] إذا ماتت فيه الدابة

المسألة الثامنة [في الماء] (¬1) إذا ماتت فيه الدَّابة فلا تخلو [تلك] (¬2) الدابة من أن يكون لها [دم] (¬3) سائل [أو ليس لها دم سائل] (¬4). فإن كانت مما لها دم كالشاة، والوزغة، والفأرة، وما أشبه ذلك: فلا يخلو ذلك الماء من أن تكون له مادة أم لا. فإن كانت له مادة كالآبار: فلا يخلو من أن تتغير بعض أوصافه أو لا. فإن تغيرت له بعض الأوصاف أو كلها فإنه [يُنْزَفُ] (¬5) منه حتى تَطِيبُ النّفس، وهو ماء نجس ولا يستعمل في العبادات، ولا في العادات، ولا يسقى منه الماشية، ولا زرع على ظاهر المذهب. فإن لم يتغير له وصف من الأوصاف المعتبرة: فينظر إلى حالة الدابة في الماء؛ فإن تغيرت في ذاتها حين أُخْرِجَتْ فينظر إلى حالة البئر، إما أن تكون قليلة الماء [أو كثيرة الماء] (¬6) فإن كانت قليلة الماء: فإنه يُنْزَف ماؤها حتى تُصَفَّى أو تفرغ. وإن كانت كثيرة الماء: فَيُنْزَف منه الماء حتى تَطِيب النَّفس وتسكن النَّفْس إلى استعماله ولا تَنْفِر عنه، وتُغْسَل منه الثياب إن أصابها, ولا ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) زيادة من ب. (¬3) في أ: نفس. (¬4) في ب: أم لا. (¬5) في ب: ينزع. (¬6) في ب: أو كثيرته.

يستعمل أيضًا في العبادات، ولا في العادات، وهو قوله في "النوادر" (¬1). وإنما فرق بين البئر القليلة الماء والكثيرة؛ لأنَّ القليلة الماء مادتها ضعيفة، والميتة قد تَزَلَّعَتْ (¬2) فيها، وأجزاؤها مخالطة لأجزاء الماء، ولم يكن لها من القوة بحيث تدفع عن نفسها، ولهذا قال: ينزف حتى تصفى، والكثيرة الماء بخلافها. فإن أخرجت حين ماتت ولم تتغير: فَيُنْزَفُ منه قدر ما يطيب النفس، ثم يستعمل، ويُجْتَنَبُ استعماله قبل النَّزْف في العادات والعبادات [عند مالك] (¬3) على سبيل الاستحسان. وقد قال مالك في "المدونة" (¬4): ولا بأس أن تسقي الماشية منه. فإن كان الماء راكدًا لا مادة له كالمواجل والمصانع التي يكون [فيها] (¬5) ماء السماء تقع فيه الوزغة، أو الفأرة فتموت فيه: فلا يخلو [الماء] (¬6) من [أحد] (¬7) وجهين: إما أن تتغير له أحد الأوصاف أم لا. فإن تغيرت له أحد الأوصاف فإنه ماء نجس باتفاق المذهب، وينزف كله بالاتفاق، ويغسل منه المحل على الخلاف، إلا ما وقع لابن وهب في كتاب ابن سحنون من أنه ينزع منه حتى يطيب، فإن لم [ق/ 11 أ] يتغير له وصف من الأوصاف، فهل هو نجس أو طاهر؟ ¬

_ (¬1) في النوادر (1/ 77، 78). (¬2) تزلعت: تشققت وتكسرت. (¬3) سقط من ب. (¬4) المدونة (1/ 25). (¬5) في أ: فيه. (¬6) ساقطة من أ. (¬7) في أ: إحدى.

قولان قائمان من "المدونة" (¬1): [أحدهما: أنه نجس ولا يستعمل وهو قوله في المدونة] (¬2): في مراجل برقة: إذا ماتت فيها [الفأرة] (¬3) فلا يتوضأ به، ولا بأس أن تُسْقى منه الماشية، فعلى هذا يستعمل في جميع العادات كالعجين والطبخ [ولا عبرة بتفريق من فرق بين استعمالها في الماشية واستعمالها في العجين والطبخ] (¬4)؛ لأن ما شربته الماشية مستهلك لا يقع به الانتفاع كالكلب في ذاته [ق/ 6 ب]. أصل ذلك العَسَل الذائب إذا ماتت فيه الفأرة؛ إذ ذلك لا تقوم به الحجة؛ لأن الانتفاع به قد حصل على أي وجه أردت، وأدنى حاله أن يكون طاهرًا غير مطهر. والقول الثاني: أنه طاهر، وهو أصل مذهب مالك في الماء القليل إذا وقعت فيه النجاسة اليسيرة، ولم تغيره، غير أن مالكًا رحمه الله فرق بين حلول النجاسة في الماء [وبين] (¬5) موت الدابة في الماء؛ فرأى أن الماء لا يتنجس بحلول النجاسة فيه إلا بعد حصول وصف آخر؛ وهو حصول تغير أحد الأوصاف. ورأى في موت الدابة في الماء أنه نجس من غير اعتبار بتغيير الأوصاف. فإذا بحثت عن المعنى الموجب لنجاسة الماء لم يبق بعد السَّبْر والتَّقْسِيم ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 25) حيث قال: وسئل مالك عن مواجل أرض برقة تقع فيه الدّابة فتموت فيه؟ قال: لا يتوضأ به، ولا يشرب منه، قال: ولا بأس أن تسقى منه الماشية. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: شاة. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

إلا زهوق النفس في الماء خاصة، فانظر هل هو وصف يصلح أن يكون مناطًا للحكم، [وأي] (¬1) مناسبة بينهما؟ [وهو] (¬2) مما ينبغي للناظر أن يتأمله، ولا يُنْتَفَعُ فيه بالتقليد. فالجواب عن الوجه الثاني -وهي أن تكون تلك الدابة مما ليس لها دم سائل من خشاش الأرض وهوامها مثل الزنبور، والعقرب، والخنفساء، وما أشبه ذلك إذا ماتت في ماء أو طعام [هل يؤثر موتها في فساده: أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة بعد الاتفاق أنها إذا ماتت في ماء أو طعام] (¬3)، ولم تنزلع ولا تمزقت فيه أجزاؤها ولا تقطعت أوصالها، ولا طال مكثها فيه: أنه طاهر ويؤكل الطعام، كما لا اختلاف فيه إذا تغير الماء وتزلعت فيه وغلب عليه أن له حكم المضاف، ولا يستعمل في تطهير، وهل هو نجس أم لا؟. فإنه يتخرج من ["المدونة"] (¬4) على قولين منصوصين في المذهب [على ما] (¬5) قدمناه: أحدهما: أنه يتنجس, وهو ظاهر قوله في "كتاب الذبائح". والثاني: أنه لا يتنجس, وهو ظاهر قوله في [أول] (¬6) كتاب الوضوء، وينبني الخلاف على الخلاف فيما ليس له نفس سائلة؛ هل يفتقر إلى الزكاة أم لا؟ (¬7) ¬

_ (¬1) في أ: وإلى. (¬2) في ب: وهذا. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: الكتاب. (¬5) في ب: كما. (¬6) سقط من ب.

وظاهر قوله في ["كتاب الصيد" و"كتاب] (7) الذبائح" أنها تفتقر إلى الزكاة، وظاهر قوله في هذا الكتاب أنها لا تفتقر إلى الزكاة، وإليه ذهب القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب. واختلف في أكل ما عُولِجَ بماء نجس كالزَّرع إذا سُقِيَ بماء نجس أو لبن ماشيته [شربت] (¬1) ماء نجسا، وطهارة بولها: على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يؤكل، وأن بول ما شرب من ذلك الماء طاهر، وهو ظاهر قول مالك في مسألة غَسْل النجس في [كتاب] (¬2) الوضوء (¬3). والثاني: أنه نجس ولا يؤكل، وأن ذلك البول نجس, وهو ظاهر قول مالك في كتاب البيوع الفاسدة (¬4) , لأنه منع هناك بيع العذرة ليزبل به الزرع [وامتنع من البيع منع أكل ما نبت فيه الزرع أو البقل] (¬5) وهو نص المذهب في غير "المدونة". وسبب الخلاف: اختلافهم في متقلبات الأعيان، هل ينقلب الحكم بانقلابها أم لا؟ وعلى هذا الأصل ينبني الخلاف في عرق السكران، وبول الجلالة من الأنعام ولبنها، وبول ماشية شربت ماء نجسًا ولبنها، والحمد لله وحده. ... ¬

_ (¬1) في ب: إذا سقيت. (¬2) سقط من ب. (¬3) المدونة (1/ 21). (¬4) المدونة (9/ 160). (¬5) في ب: والمنع من البيع معنى لا يحل ما ينبت من زرع وبقل.

المسألة التاسعة [فيمن] عجز ماؤه قبل أن يفرغ من وضوئه، فقام يطلبه

المسألة التاسعة [فيمن] (¬1) عجز ماؤه قبل أن يفرغ من وضوئه، فقام يطلبه فقد قال في "المدونة" (¬2): أنه يبني ما لم يطل، ولا يخلو هذا العاجز من ثلاثة أوجه: إما أن يأخذ من الماء ما يكفيه لوضوئه، ثم غُصِبَ منه، أو طرأ عليه ماء يهرقه [وإما أن يتعمد أولًا] (¬3) فأخذ من الماء ما لا يكفيه، [وإما أن] (¬4) يغلب على ظنه أنه أخذ من الماء ما يكفيه لوضوئه، ثم تبين له في أثناء وضوئه أنه أخطأ في اجتهاده، وقد فرغ ماؤه. [فالجواب عن الوجه الأول] (¬5) [ق/ 6 جـ]، إذا أخذ من الماء ما يكفيه قطعًا، ثم غصب أو طرأ عليه ماء يهرقه عليه، فقام لأخذ الماء، فهل هو كالناسي؟ فيبنى وإن طال، وهو تأويل بعض المتأخرين على المدونة، وعليه تحمل رواية ابن وهب، وابن أبي زمنين. أو هو كالعامد ثم لا يبنى -طال أو لم يطل- وهو متأول على المدونة أيضًا. وينبني الخلاف على الخلاف في الموالاة، هل هو فرض أو سنة، أو فرض مع الذكر ساقط مع النسيان؟ ¬

_ (¬1) في أ: من. (¬2) المدونة (1/ 16). (¬3) في أ: أو تعمد أم لا. (¬4) في أ: أو. (¬5) في أ: فأما.

والصحيح: أن له أن يَبْنِي وإن طال؛ لأنه في حكم الناسي. [والجواب عن الوجه الثاني] (¬1): إن تعمد وأخذ ماء لا يكفيه فلا يجوز له البناء طال أو لم يطل؛ لأنه قد تعمد إلى تفريق الطهارة والمتعدي لا يمكن أن يصل بتعديه إلى ما يريد، وينبغي أن يعاقب بنقيض مقصوده [أو لا يجوز له، فالمذهب على خمسة أقوال: أحدها: أنه لا يجوز جملة بناء على أن الموالاة [فرض] (¬2) وهو نقل التونسي، ونقله ابن رشد عن ابن حبيب أيضًا. والثاني: أن تفريقه جائز وهو قول ابن عبد الحكم. والثالث: أنه يجوز فيما بين مغسول، وممسوح، ولا يجوز فيما بين مغسولين، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في الواضحة. والرابع: أنه يجوز فيما بين ممسوحين وهي رواية عليّ بن زياد عن مالك في "المجموعة". والخامس: أنه يجوز في التفريق وهو [نقل] (¬3) القاضي عبد الوهاب في التلقين وهو قول ابن القاسم في النوادر] (¬4). [والجواب عن الوجه الثالث] (¬5): إذا أخذ ما يغلب على ظنه أنه يكفيه. ثم تبين له أنه أخطأ في الاجتهاد، فهل يعذر بالاجتهاد ويبني، وإن طال أو إنما له البناء ما لم يطل؟. فالمذهب يتخرج على قولين، ويحمل قوله في المدونة أنه يبني ما لم ¬

_ (¬1) في أ: وأما. (¬2) في جـ: واجبة. (¬3) في جـ: قول. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ، جـ: وأما.

يطل [على هذا الوجه] (¬1). وسبب الخلاف: المجتهد هل يعذر باجتهاده أم لا؟ [والحمد لله وحده] (¬2). ... ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) زيادة من جـ.

المسألة العاشرة في غسل الجنب في الماء الدائم وفي الماء الجاري

المسألة العاشرة في غسل الجُنب في الماء الدائم وفي الماء الجاري فإن كان الماء راكدًا فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكون كثيرًا جدًا، أو قليلًا جدًا، أو متوسطًا فإن كان الماء كثيرًا جدًا كالماء المستبحر: فللجنب أن يغتسل فيه قبل أن يغسل ما به من الأذى باتفاق. فإن كان الماء قليلًا جدًا كالقصرية ونحوها، فهل يجوز للجنب الاغتسال فيها على الجملة أم لا؟ فعلى قولين قائمين من "المدونة" (¬1): أحدهما: أنه لا يغتسل فيها جملة، سواء غسل ما به من الأذي أم لا؛ لأنه ماء مستعمل. والصورة أنه دخل في القصرية، وفيها الماء، فأخذ يغرف على جسده، ويرجع [إلى القصرية] (¬2)، فهو غسل لم يكن آخره إلا بالماء المستعمل. ولا فرق عند من منع استعماله بين أن يغسل به [جميع] (¬3) أعضائه أو بعضها، وهو قول مالك أول الكتاب. والثاني: أنه يجوز الاغتسال فيه إذا غسل الأذى عن نفسه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" (¬4). ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 25). (¬2) في ب: فيها. (¬3) سقط من أ. (¬4) المدونة (1/ 25).

والقولان متأولان على "المدونة"؛ فالأول تأويل ابن أبي زيد. وسبب الخلاف: [اختلافهم] (¬1) في الماء [المستعمل] (¬2) هل يشبه الماء المطلق أم لا؟ فإن كان متوسطًا بين القلة والكثرة كالصهريج [الفسقية] (¬3) فهل يجوز للجُنب الاغتسال فيها أم لا، وإن لم يغسل ما به من الأذى؟. قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه لا يجوز [الاغتسال فيه حتى يغسل ما به من الأذى في الاضطرار، والاختيار وهو ظاهر قول مالك في الكتاب] (¬4). والثاني: أنه يجوز مع الاضطرار دون الاختيار، وهي رواية عليّ بن زياد عن مالك في الكتاب؛ لأن ظاهر "المدونة" يدل على أن عليّ بن زياد تكلم على هذه المسألة، وإليه يعود كلامه (¬5). وينبني الخلاف: على الخلاف في النجاسة اليسيرة إذا خالطت الماء هل تُسْلُبه التَّطّهير [أم لا]؟ (¬6). فإن كان الماء مُعينًا، وكان كثيرًا فلا خلاف في الجواز. وإن كان قليلًا فقولان منصوصان في المدونة (¬7): ¬

_ (¬1) ساقطة من أ. (¬2) زيادة ليست بالأصل. (¬3) في أ: الجنسقية. (¬4) سقط من أ. (¬5) قال علي بن زياد: قيل لمالك: فإذا اضطر الجُنب؟ قال: يغتسل فيه، إنما كره ذلك إذا وجد منه بُدًا، فأما إذا اضطر إليه، فلا بأس بأن يغتسل فيه إذا كان الماء كثيرًا يحمل ذلك. المدونة (1/ 25). (¬6) سقط من أ. (¬7) المدونة (1/ 25).

أحدهما: أنه لا يجوز حتى يغسل [ما به من] (¬1) الأذى [عن نفسه] (¬2) وهو قول مالك في الكتاب، وظاهره: ألا فرق بين الاضطرار والاختيار. والثاني: أنه يجوز الاغتسال فيه، وإن لم يغسل ما به من الأذى حالة الاضطرار دون الاختيار، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬3) حيث قال: إنما منعه مالك ابتداءً؛ فإن اغتسل فيه، فإنه [يجوز له] (¬4) إذا كان معينًا [والحمد لله وحده] (¬5). ... ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) وهي رواية ابن زياد أيضًا المتقدمة. (¬4) في أ: يجزئه. (¬5) زيادة في جـ.

المسألة الحادية عشر [في] الصلاة في ثوب الكافر، ومن لا يتوقى النجاسة من المسلمين

المسألة الحادية عشر [في] (¬1) الصلاة في ثوب الكافر، ومَنْ لا يَتَوَقَى النجاسة من المسلمين فأما الصلاة في ثوب الكافر: فلا يخلو من أن يكون جديدًا، أو مَلْبُوسًا. فإن كان جديدًا -لم يلبس بعد- فقد قال مالك رحمه الله: لا بأس بالصلاة فيما نسجوه، مع العلم بأنهم يباشرون الأنجاس، ولا يتوقون الأدناس، وهو يقول في "العتبية" (¬2): يَبُلُّون ما نسجوه بالخمر، ويحلونه بأيديهم، ويسقون الثياب قبل أن تنسج. وقال في "المدونة" (¬3) أيضًا: لا يتوضأ بسؤر النصراني و [لا] (¬4) بما أدخل يده فيه. ومع ذلك يقول: تجوز الصلاة فيما نسجوه، وقد مضى الصالحون على ذلك، فترك النظر على الاقتداء والتسليم للسلف الماضي، وإلا فالذي يَقْتَضِيه الدّليل النَّقلي، والنَّظري: أنهم وجميع أمتعتهم نجس؛ كما أخبر الله تعالى في كتابه العزيز (¬5). وأما [إن] (¬6) كان لبيسًا من أمتعتهم، فهل هو كالجديد أم لا؟. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) النوادر (1/ 90)، والبيان والتحصيل (1/ 50). (¬3) المدونة (1/ 14). (¬4) سقط من أ. (¬5) فقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} سورة التوبة الآية (28). (¬6) في ب: ما.

فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه ليس كالجديد، وأنه لا يصلي المسلم به، ولا الكافر إذا أسلم، إلا بعد الغسل، وإن كان جديدًا بعد أن امتهن باللبس، وهو المشهور. والثاني: أنه كالجديد الذي كما نُسج، وأنه يصلي به [وإن لم يغسل] (¬1) وهو قول محمَّد بن عبد الحكم (¬2). وسبب الخلاف: الإجماع المنعقد على غير قياس، هل يقاس عليه أم لا؛ لأن قول مالك: "مضى الصالحون على ذلك" (¬3) إشارة إلى الإجماع. وأما الصلاة في ثوب ما لا يَتَوقَى [النجاسة] (¬4) من المسلمين مثل أن يشتري رجل [ثوبًا] (¬5) من السُّوق على ماذا يحمل؟ فلا يخول بائعه من أن يكون معلومًا أو كان مجهولًا. فإن كان [ق/ 12 أ] معلومًا عند المشتري، وكان علمه فيه [بالصلاحية] (¬6) ومُلَازمة الصلاة، [وَمُجانَبة الخمر] (¬7)، وسائر الأَنْبِذَة: فإن ثيابه محمولة على الطهارة؛ الرِّدَاء والقَمِيص، والعَمَامة. وأما ما يلبسه في الوَسَط كالسروال والمِئْزَر: فلا يصلي به حتى يغسله؛ ¬

_ (¬1) ساقطة من ب. (¬2) النوادر (1/ 90). (¬3) المدونة (1/ 35). (¬4) في ب: الأنجاس. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: بالصلاح. (¬7) في ب: واجتناب الخمور.

لأن كثيرًا من الناس لا يُحسن الاستبراء من البول. فإن كان البائع ممن يتهاون بالصلاة، وقِلّة الاكْتِراث بالدِّين، والمشتري بذلك عالم: فلا يصلي في ثيابه حتى تُغْسَل، ولا فرق بين القميص، والعَمامة، والمِئْزَر. وهذا الذي يقتضيه النظر، غير أن أبا الحسن اللخمي رضي الله عنه قال في عمامته: أنها لا تغسل إن علم أنه لا يشرب الخمر. وأما إن جهل حال البائع: فلينظر إلى الأَشْبَه ممن يلبس مثل تلك الثياب، فإن شك في أمره، فالاحتياط الغسل؛ إذ هو أفضل. فهذا [ما] (¬1) حضر عندي في هذه المسألة [والحمد لله وحده] (¬2). ... ¬

_ (¬1) في أ: مما. (¬2) زيادة من جـ.

المسألة الثانية عشر في الرعاف

المسألة الثانية عشر في الرُّعَاف وهو مأخوذ من قولهم: رَعَف، يَرْعُف: بفتح الماضي، وضم المستقبل، وهي اللغة الفصيحة، وقيل: [رَعُف] (¬1)، بالضم فيهما جميعًا. وأصل الاشتقاق في الرّعاف: من السبق؛ لسبق الدم أنفه منه، ومنه: رعف فلان الخيل إذا تقدمها، وقيل: مأخوذ من الطهور. [والرعاف ليس بحدث ينقض الطهارة عند مالك رضي الله عنه] (¬2) اعتبارًا لأصل مذهبه في الحصر الذي قدمناه. وهو -أعني الرعاف- ينقسم فيما يرجع إلى الصلاة على قسمين: أحدهما: أن يكون دائمًا لا ينقطع. والثاني: أن يكون غير دائم ينقطع. فإن كان دائمًا لا ينقطع: فالحكم فيه أن يصلي صاحبه به الصلاة في وقتها على الحالة التي [هو] (¬3) عليها. والأصل في ذلك أن عمر رضي الله عنه صلَّى حين طُعن، وجرحه يثعب دمًا (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: والرعاف عنده ليس بحدث. (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه مالك (84)، والبيهقي في الكبرى (1/ 357)، والبغوي في شرح السنة (330).

وإن لم يقدر على الركوع والسجود أومأ، وصلى صلاته كلها إيماء، كما قال سعيد بن المسيب [رحمه الله] (¬1). إما لما يخاف من مزيد الرعاف، وإما لما يخشى أن تتلطخ بالدم ثيابه على الخلاف. وكلا الوجهين يباح له معه الإيماء [مع] (¬2) البدل. فإن انقطع عنه في بقية من الوقت: فلا إعادة عليه؛ لأنه صلاها في وقتها، كما وجبت عليه. والقسم الثاني: [وهو أن يكون] (¬3) غير دائم [وينقطع] (¬4): فلا يخلو من أَنْ يُصِيبَه قَبْل الشّروع في الصلاة أو بعد الشّروع فيها، فإن أصابه قَبْل الشّروع فيها: فإنه يؤخرها وينتظر حتى ينقطع ذلك الدّم عنه ما لم يَفُت وقت الصلاة المفروضة القائمة للظهر، والقائمة للعصر، وقيل: ما لم يَخَف فَوَات الخير؛ وهو أن يتمكن اصفرار الشمس للظهر والعصر، فإن خشى [ذلك] (¬5) صَلاَّها على حَسب الإمكان كما تقدم. ولو أصابه ذلك بعد الدخول في الصلاة، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون يسيرًا يذهبه الفتْل (¬6). والثاني: أن يكون كثيرًا لا يذهبه الفّتْل. فإن كان يسيرًا فَتَلَه، وتمادى على صلاته، ولا خلاف في ذلك عند ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) في ب: على. (¬3) في ب: إذا كان. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من ب. (¬6) ما يُفتل بين الإصبعين من الوسخ.

من يقول يُبنى في الرّعاف. وإن كان كثيرًا -قاطرًا أو سائلًا لا يذهبه الفّتْل- فالنظر يوجب أن يقطع [ويذهب] (¬1) فيغسل الدّم [ويبتدأ] (¬2) , لأن الشأن في الصلاة أن يتصل عملها, ولا يتخللها شغل ولا عمل، إلا أنه قد جاء عن جمهور الصحابة والتابعين رضي الله عنهم جواز البناء. واختلف في المختار المستحب: هل البناء أو القطع، بعد اتفاقهم أن البناء من [قبيل] (¬3) الجائز، وليست من قبيل الواجب، إلا شيئًا استخرجه ابن حبيب من مسألة الإِمام إذا رَعَف فَاسْتَخْلَف بالكلام: أن صلاته وصلاة من خلفه باطلة؛ فجعل قطعه [بالكلام] (¬4) بعد الرّعاف يُبْطِل عليه وعليهم وهذا -لعمرك- استخراج صحيح لازم على أصل المذهب: أن الإِمام مهما تعمد إلى فعل ما يفسد الصلاة، فقد أفسد على نفسه وعلى من خلفه، وهذا على مشهور المذهب: أن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة إمامه، فإذا كان [الرعاف لا يخرج] (¬5) المصلي [من] (¬6) صلاته، وأنه باق [على] (¬7) [حُرْمَتِهَا] (¬8) ويمنع من الكلام [عمدًا] (¬9)، فإذا تكلم خرج من الصلاة ومنع من البناء، فينبغي أن يكون الإِمام كذلك فوجه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في الأصل: قبل. (¬4) في أ: للكلام. (¬5) سقط من أ. (¬6) بياض في أ. (¬7) في ب: في. (¬8) في جـ: حكمها. (¬9) زيادة من ب.

الدليل من ذلك أنه إذا منع من الكلام فقد وجب عليه أن يبنى حتى إذا تكلم ابتداء صار عاصيا له تعالى. وعلى القول بالبناء من قبيل الجائز، فما المختار؟ هل القطع هو المختار أو البناء؟ فابن القاسم يقول: القطع أصوب، ومالك رحمة الله عليه يقول: البناء أصوب، وهذا [بناء] (¬1) على أصله أن العمل مقدم على القياس. وهل البناء جائز لكل مُصَلٍ أو إنما هو جائز للإمام، والمأموم [خاصة] (¬2) دون الفّذ؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن البناء جائز [لكل مصل] (¬3)، وهو ظاهر المدونة لقوله: "وكل من رعف في صلاته" (¬4)، و"كل": من صيغ العموم، على القول بأن العموم له صيغة (¬5). والثاني: أن الفّذ لا يبنى. وسبب الخلاف: البناء في الرّعاف هل هو لمعنى أو لغير معنى؟ ¬

_ (¬1) في ب: البناء. (¬2) زيادة من ب. (¬3) في أ: لكل المعلين. (¬4) المدونة (1/ 38). (¬5) قال الشيرازي: "للعموم صيغة بمجردها تدل على استغراق الجنس والطبقة". وقال الأشعرية: ليس للعموم صيغة، وما يرد من ألفاظ الجمع، فلا يحمل على العموم، ولا على الخصوص إلا بدليل. ومن الناس من قال: إن كان ذلك في الأخبار، فلا صيغة له، وإن كان ذلك في الأمر والنهي، فله صيغة تحمل على الجنس ... " التبصرة (105). قلت: الراجح هو الأول، وهو مذهب الجمهور.

فمن رأى أنه لمعنى؛ وهو إدراك فضيلة الجماعة، قال: لا يبنى الفّذ. ومن رأى أنه غير معقول المعنى، قال: [إن الفذّ يبنى] (¬1). والقائلون [بالبناء] (¬2) اتفقوا أنه لا يبنى إلا على ركن؛ لأن لفظة البِّنَاء تشعر بتَسَابق أساس يبنى عليه. واختلفوا في [الإحرام] (¬3) هل هو ركن يبنى عليه أم لا؟ على أربعة أقوال: أحدها: أنه يبنى عليه [جملة] (¬4)، وهذا القول قائم من "المدونة" (¬5)، وهو قول سحنون. والثاني: أنه لا يبنى عليه، بل يستأنف الإحرام والإقامة، وهو قول محمَّد بن عبد الحكم، وهو ظاهر "المدونة"، في مسألة الناعس. والثالث: التفصيل بين الجمعة وغيرها؛ ففي الجمعة يبتدئ، وفي غيرها يبنى على إحرامه، وهي رواية ابن وهب عن مالك، وهو ظاهر المدونة أيضًا. والرابع: [والتفريق] (¬6) بين أن يكون إمامًا أو فذًا؛ فإن كان إمامًا: ابتدأ الإحرام، وإن كان مأمومًا: بني على الإحرام، وهذا أضعف الأقوال. ويبنى الخلاف: على الخلاف في الإحرام، هل هو ركن أو ليس ¬

_ (¬1) في ب: يجوز البناء للفذ وغيره. (¬2) في ب: بجواز البناء. (¬3) في الأصل: الأرجام. (¬4) في أ: في جمعة وغيرها. (¬5) المدونة (1/ 37). (¬6) في ب: التفصيل.

بركن؟ وعلى القول بأنه لا يبنى على الإحرام قال: لأنه ليس بركن، وإنما ينبني على ما يسمى ركنًا. ولا خلاف في الركعة إذا تمت بسجدتيها أنها ركن في جميع المسائل. واختلف في ركعة لم تتم بسجدتيها [ق/ 7 جـ] هل ينبنى عليها أم لا؟ على أربعة أقوال: [أحدها] (¬1): أنه [يصح البناء] (¬2) على ما مضى منها [أيضًا] (¬3) كانت الأولى أو الثانية. والثاني: أنه لا يجوز [البناء] (¬4) على بعض الركعة -كانت الأولى أو الثانية- وهو ظاهر "المدونة". والثالث: التفصيل بين الركعة الأولى والثانية؛ فلا يبنى في الركعة الأولى، ويبنى في الثانية على بعضها بعد أن انعقدت الأولى بسجدتيها, وهو ظاهر المدونة في مسألة الناعس، والمزاحم، وهي رواية ابن القاسم عن مالك في "العتبية". والرابع: أنه إن رعف في الأولى لم يَبْن، فظاهره: وإن تمت بسجدتيها، وإن رعف في الثانية [بني] (¬5) وهو ظاهر "المدونة" في مسألة الناعس، وهذا القول يروى عن ابن الماجشون. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: يبنى. (¬3) زيادة من ب. (¬4) في ب: أن يبنى. (¬5) سقط من أ.

وينبني الخلاف: على الخلاف في الركعة التي هي ركن يبنى عليه في الصلاة، ويكون به المُدْرِك مُدْرِكًا لصلاة الجماعة: هل هو وضع اليدين على الركبتين أو رفع الرأس منهما، وهذان القولان منصوصان في المذهب قائمان من "المدونة" (¬1). واختلف في حكم الرَّاعف إذا خرج ليغسل الدّم، هل هو بَاقٍ في حُكم الإِمام؟ على أربعة أقوال: أحدها: أنه خارج [من] (¬2) حكمه حتى يرجع إليه؛ جملة من غير تفصيل. والثاني: أنه باق في حكمه جملة. والثالث: أنه إن رعف قبل أن يعقد معه ركعة: فهو خارج عن حكمه حتى يرجع إليه، وإن رعف بعد أن عقد معه ركعة: لم يخرج عن حكمه. والرابع: أنه ينظر إلى ما آل إليه الأمر؛ فإن أدرك ركعة من صلاة الإِمام بعد رجوعه إليه: كان في حكمه حال خروجه عنه، وإن لم يدرك ركعة بعد رجوعه: لم يكن في حكمه حال خروجه. وفائدة ذلك وثمرته ما يجب على الإِمام من سجود السهو في [حين] (¬3) غيبته، أو تعمد إلى [إفساد] (¬4) صلاته، أو تكلم هو في [حين] (¬5) ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 37). (¬2) في ب: عن. (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: فساد. (¬5) في ب: حال.

انصرافه ساهيًا: هل يحمل عنه ذلك الإِمام أم لا؟ فعلى القول بأنه باق في حكمه غير خارج عنه: فالإمام يحمل عنه السهو، ويجب عليه ما يجب على الإِمام من سجود السهو [وتفسد] (¬1) صلاته [بفساد صلاة] (¬2) الإِمام، وأنه إن أتم في موضعه ثم تبين له أنه لو رجع لأدرك صلاة إمامه بطلت صلاته. فإن قلنا: إنه خارج [عن] (¬3) حكمه حتى يعود إليه: فلا يحمل عنه الإِمام السهو، ولا تفسد صلاته بفساد صلاة الإِمام، ولا يعيد إذا تم في موضع غسل الدم عنه، ولا يلزمه السهو [عنه] (¬4) إذا سهى الإِمام في غيبته عنه. وهذا فائدة الخلاف وثمرته؛ فإذا غلب على ظنه أن الإِمام قد فرغ من صلاته أو علم ذلك بيقين، فبنى في موضعه: فلا يخلو من أن تكون جمعة أو غيرها؛ فإن كانت جمعة فهل تجزئه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن صلاته باطلة، [ويعيدها] (¬5) ظهرًا أربعًا، وهو مذهب "المدونة" (¬6)؛ وعلل بأن الجمعة لا تكون إلا في [المسجد] (¬7) الجامع. ويتخرج القول الثاني بالجواز من مسألة الإِمام إذا صلى بالناس ركعة من صلاة الجمعة. ثم انفضوا, ولم يبق معه [إلا] (¬8) عدد لا تنعقد به ¬

_ (¬1) في أ: بفساد. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: من. (¬4) ساقطة من أ. (¬5) في أ: ويعيد. (¬6) المدونة (1/ 115). (¬7) سقط من أ. (¬8) زيادة من ب.

الجمعة، فأتم بهم [ق/ 13أ] الجمعة. فالمذهب على قولين: أحدهما: بالإجزاء. والجمع بين المسألتين: أن بعض الشروط التي تصح بها الجمعة قد اخْتَّلت قبل الفراغ منها، وهل ذلك مؤثر أم لا؟ وإلى هذا ذهب الشيخ أبو إسحاق التونسي: أن الجمعة وغيرها في الإجزاء سواء. وسبب الخلاف: الفعل المتعلق بشرط هل [من] (¬1) شرط صحة الحكم استدامة ذلك من البداية إلى النهاية، أو من شرطه أن يكون موجودًا عند البداية؟ فإذا وجب الشروع في العمل لأجله، فقد وجب العمل بمقتضاه من غير اعتبار باستصحاب حاله؛ لأن الفراغ من العمل كالنيّة في الصلاة؛ [لأن] (¬2) من شرطها [حضور] (¬3) النية عند الافتتاح [بالاتفاق] (¬4). وإن عزبت في أثناء الصلاة [فهل الحكم] (¬5) الظاهر ببطلان الصلاة على الظاهر، أو بجوازها فهذا مما جرى فيه قولان، ومن هذا القبيل [إذا شهدت البينة] (¬6) على حد أو على حق وثبت عدالتهم، ثم حكم القاضى بإنفاذ الحكم، فلم ينفذ حتى ظهر التجريح مثل أن يؤخذوا يشربون الخمر. والعدالة شرط في الشاهد، وهل من شرطها استدامته من أول الحكم ¬

_ (¬1) في أ: هو. (¬2) في ب: فإن. (¬3) في ب: حصول. (¬4) على الاتفاق. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: تقديم وتأخير.

إلى آخره أم لا، وأخره نفوذه؟ وقد قال في كتاب القطع في السرقة من "المدونة" (¬1): إن ذلك ليس من شرطه، وأنه ينفذ حكم من غير اعتبار بما ظهر من حال البينة بعد انعقاد الحكم. وهذا أصل متداع في غير ما موضع، وهذا كله إذا كان [ذلك] (¬2) بمعنى الاختيار والإيثار. وأما إن [غلب] (¬3) بوادٍ أو سبع ضارٍ، أو لصوص حالت بينه وبين المسجد هل يصح له البناء في موضعه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يبنى في موضعه ويعيد ظهرًا أربعًا، وهو قول المغيرة. والثاني: أنه يبنى في موضعه، وتجزئه الجمعة، ولا يعيدها. وسبب الخلاف: [ق/ 7 ب] المغلوب بعذرٍ ظاهر هل يُعذَر بِعُذْره أم لا؟ فإن كان في غير [الجمعة] (¬4) فغلب على ظنه أن الإِمام [قد] (¬5) فرغ فبنى في موضعه، ثم تبين له أنه لو ذهب لأدرك الإِمام، فهل تجزئه صلاته أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: الجواز. ¬

_ (¬1) المدونة (16/ 265). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: كان. (¬4) في أ: المسجد. (¬5) زيادة من ب.

فصل

والثاني: [عدمه] (¬1). وله سبب آخر: الراعف هل هو باقٍ في حكم الإِمام أو هو خارج عنه؟ وسبب الخلاف: المجتهد هل يعذر باجتهاده أم لا؟ فصل وللبناء في الرعاف صفات وحالات تختلف باختلاف الحال التي عليها خروج الراعف، وذلك أربع صور: [الصورة] (¬2) الأولى: إذا أدرك مع الإِمام الركعة الأولى ثم رعف في الثانية ثم أدرك الإِمام في الرابعة. والثانية: إذا فاتته الأولى فصلى معه الثانية والثالثة. ثم رعف في الرابعة. ثم وجد الإِمام قد فرغ [من الصلاة] (¬3). والثالثة: أن تفوته الأولى، وأدرك الثانية. ثم رعف في الثالثة. ثم رجع والإمام في الرابعة. والرابعة: أن تفوته الأولى، وأدرك الثانية. ثم رعف في الثالثة، فرجع فوجد الإِمام قد فرغ. وعلى هذه الصور الأربعة تدور أحكام البناء والقضاء في الرعاف. فالجواب عن الصورة الأولى: إذا توسطت الفوائت وتَطَرَّفَت المُدْرَكَات: هل يتصور فيه البناء، والقضاء، أو ليست فيه إلا القضاء؟ فمشهور المذهب: أن البناء لا يتصور فيه إلا مجازًا، وإنما هو القضاء يأتي بركعة بأم القرآن وسورة. ثم يقوم ولا يجلس؛ لأنها ثالثة صلاته، ¬

_ (¬1) في جـ: المنع. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب.

[فيقوم] (¬1) ويأتي بركعة بأم القرآن خاصة [فيجلس] (¬2) ويسلم. وقد وقع لسحنون ما يدل على أن البناء، والقضاء يتصور في هذه المسألة حقيقة، وليس ذلك بصحيح. والجواب عن الصورة الثانية: إذا توسطت المُدْرَكَات وتَطَرّفت الفوائت: فلا إشكال في هذه الصورة أن فيها البناء والقضاء. واختلف هل يبدأ بالبناء [أو] (¬3) بالقضاء؟ على قولين. والجواب عن الصورة الثالثة: إذا أدرك الثانية والرابعة، وفاتته الأولى والثالثة؛ [فالمذهب على قولين] (¬4): أحدهما: أنه يبدأ [بالقضاء] (¬5) بقضاء الأولى، يقرأ فيها بالحمد والسورة، ثم يقوم لأنها ثالثة صلاته. ثم يأتي بالثالثة يقرأ فيها بالحمد [وحدها] (¬6) ويجلس ويتشهد ويسلّم. وهذا الجواب صحيح، ولاسيما على مذهب من يقول بتبدئة القضاء على البناء؛ لأن البناء لما نفذ فيها، ووجب قضاء الركعتين، ووجب أن يبدأ بقضاء الأولى قبل الثانية. وقد وقع لسحنون في "المجموعة" أنه يقضي الثالثة بالحمد وحدها قبل الأولى، وذلك مخالف لأصله، بعيد من قوله. ¬

_ (¬1) في ب: ثم يقوم. (¬2) في ب: ثم يجلس. (¬3) في ب: على. (¬4) في ب: فالمذهب قولان. (¬5) زيادة من ب. (¬6) في أ: وحده.

والجواب عن الصورة الرابعة: إذا [فاتته] (¬1) الأولى، وأدرك الثانية، ثم [رعف] (¬2) في الثالثة، فوجد الإِمام قد سلَّم: فاختلف في هذه المسألة في تبدئة البناء على القضاء على قولين: أحدهما: أنه يبدأ بالبناء على القضاء، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز (¬3)، [وهو] (¬4) ظاهر قوله في "المدونة" (¬5): يأتي بركعة بأم القرآن خاصة. ثم يجلس؛ لأنها ثانية صلاته، إلا أنها ثالثة الإِمام. وإنما قلنا يجلس [لأنه يتبع في الأفعال حكم] (¬6) نفسه [باتفاق] (¬7) من الجميع، وهو معنى قوله في "المدونة" (¬8): ما أدرك فهو أول صلاته؛ لأنه يقضي مثل ما فاته، يريد أنه أول صلاته أنه إن أدرك ركعة أضاف إليها أخرى. ثم يجلس، ولهذا يقال: بأن في الأفعال قاضٍ في الأقوال على [حسب] (¬9) اختلاف عباراتهم في ذلك. ومثل هذا يعتاض على المبتدئ في تنزيله وتمييز بعضه من بعض حتى يتوهم أن ذلك اضطراب، فإذا أتى بركعة بأم القرآن خاصة، فإنه يجلس كما قدمناه. ثم يقوم ويأتي بركعة بأم القرآن خاصة، وهل يجلس أو يقوم؟ فابن المواز يقول: إنه يجلس لأنه [آخر صلاة الإِمام] (¬10)، وإنه ¬

_ (¬1) في ب: فاتت. (¬2) في أ: رفع. (¬3) النوادر (1/ 241 - 247). (¬4) سقط من أ. (¬5) المدونة (1/ 87). (¬6) في أ: لا يتبع في الأفعال إلا حكم. (¬7) في ب: بالاتفاق. (¬8) المدونة (1/ 97). (¬9) سقط من أ. (¬10) في أ: آخر صلاته.

لا يقوم للقضاء إلا من جلوس. وابن القاسم وابن حبيب يقولان: لا يجلس؛ لأنها ثالثة بنائه، وهو الصحيح، ولا يخفى على أحد ضعف قول ابن المواز، ويلزمه على قوله باعتبار صلاة الإِمام أن يقول إذا أتى بركعة تكون ثانية [له] (¬1) ألا يجلس؛ لأنها ثالثة الإِمام، وذلك خلاف قاعدة المذهب. والقول الثاني: أنه يبدأ بالقضاء [على] (¬2) البناء، وهو مذهب سحنون، ومعناه أنه يأتي بركعة بأم القرآن وسورة، فيجلس ثم يقوم ويأتي بأم القرآن خاصة. وسبب الخلاف: اختلافهم في معنى قوله: "ما أدرك [مع الإِمام] (¬3) فهو أول صلاته"؛ هل أراد بذلك أنه أول صلاته في الأفعال والأقوال -وإليه ذهب سحنون- أو في الأفعال دون الأقوال -وإليه ذهب ابن القاسم- وهو تفسير الكتاب [وإلى الله الهداية إلى طريق الصواب] (¬4) [والحمد لله وحده] (¬5). ... ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) في أ: لا. (¬3) زيادة من ب. (¬4) سقط من ب. (¬5) زيادة من جـ.

المسألة الثالثة [عشر] [مسألة] الحيض

المسألة الثالثة [عشر] (¬1) [مسألة] (¬2) الحيض والكلام [في هذه المسألة] (¬3) في [سبعة] (¬4) فصول: أحدها: معرفة الحيض من دم الاستحاضة. والثاني: ما يسمى حيضًا هل تسمى حيضة أم لا؟ والثالث: أقل الطهر. والرابع: معرفة أكثر الحيض. والخامس: [معرفة] (¬5) أقل الحيض (¬6). والسادس: ما الحكم في الاستظهار. [والسابع: معرفة علامة الطهر] (¬7). الجواب [عن] (¬8) الفصل الأول: في تمييز دم المحيض من دم الاستحاضة: فاعلم أن الدماء التي ترخيها الرحم [على] (¬9) ثلاثة أنواع: دم حيضة وحيلة، ودم علة وفساد، ودم نفاس. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: في. (¬3) في ب: فيه. (¬4) في أ: ستة. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: تقديم وتأخير. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: في. (¬9) سقط من أ.

فأما دم الحيضة والحيلة: فهو دم الحيض، وهو شيء كتبه الله على بنات آدم، وجعله حفظًا للأنساب، وعلمًا على براءة الأرحام، ومع ذلك عقوبة عليهن، ونكاية فيهن فيما يرجع إلى العبادات والعادات. فأما كونه عقوبة في العبادات: كونه يؤثر في إسقاط الصلاة عنهن جملة (¬1)، ويؤثر في صحة الصيام، والمنع من فعله في زمانه حتى يكون فعله في حقهن قضاء؛ وذلك مما يؤثر في نقصان الأجر؛ إذ لا يستوي فعل العبادة في وقتها وفعلها بعد وقتها. وإن كان المكلف معذورًا بالتأخير، فالعذر الموجب للتأخير إنما أسقط الإثم مع وجوده خاصة؛ لانر [فعل] (¬2) العبادة في الوقت، وبعده متساوٍ في مقدار الثواب. إذ لا إشكال أن من نام واسْتَرْسَلَ عليه النوم، أو [غلبه] (¬3) السهو حتى مضى [ق/ 8 جـ] وقت الصلاة بالكلية: أنه يقضي الصلاة ولا يكون أجره كأجر من صلاها في وقتها، وهذا لا نزاع فيه. وبهذا الاعتبار نص الشارع على نقصان دينهن، وذلك النقصان مرة يرجع إلى سبب يخل بالصلاة، وتارة يرجع إلى نقصان الأجر والثواب كالصيام الذي تفعله في غير وقته. وأما كونه عقوبة في العادات: فكون المرأة في كل شهر في الغالب ملطخة بالأقذار، ملوثة بالأوطار، مشوبة بالأنجاس، غريقة في لجة الأوساخ والأدناس، كريهة النكهة، والنفس لا تميل إليها [الشهوات] (¬4) ¬

_ (¬1) لقول عائشة رضي الله عنها: "كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" أخرجه البخاري (315)، ومسلم (335). (¬2) في أ: أفعال. (¬3) في ب: غلب عليه. (¬4) في أ: بالشهوة.

بل نفورها عنها أشد من نفورها عن اللبؤة. وأيّ عقوبة ونكاية أشد من ذلك، وهو [إرثهن] (¬1) من أُمِّنَا حواء عليها الصلاة والسلام. وهو دم ينحدر من أعماق الجسم إلى قرار الرحم، فيجمعه الرحم طول مدة الدّهر، ومن ذلك سمى الطهر: قرء، والقرء: الجمع؛ تقول: قرأت الماء في الحوض، إذا جمعته فيه قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (¬2) [{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}] (¬3). على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى تفصيلًا وتحصيلًا في "كتاب العِدَّة". وهو دَم [غَلِيظ] (¬4) أسود منتن، وبهذه الصفات يتميز عما عَدَاه من الدّماء. وأما دم الاستحاضة: فهو دَمُ عِلّة وفَسَاد. والمستحاضة: هي التي لا يَرْقَأ دَمُها بعد مُضِي أيام حيضتها. ولا حكم لهذا الدّم [من] (¬5) طريق الوجوب، ويستحب لها -على مذهب مالك- أن تتوضأ لكل صلاة (¬6). وحكمها حكم [ق/ 14 أ] [الطاهرة] (¬7) في العبادات والعادات ¬

_ (¬1) في أ: إرث. (¬2) سورة القيامة الآية (18). (¬3) سورة القيامة الآية (19). (¬4) في أ: غبيط. (¬5) في ب: في. (¬6) المدونة (1/ 11). (¬7) في أ: الطاهر.

على مذهب مالك، ما لم تر دمًا تَشُك [فيه] (¬1) أنه دم حيض لرائحته ولونه، وتكون ممن لها التمييز، فيكون لها حينئذ حكم الحائض. فإن كانت [ممن] (¬2) لا تمييز لها: فإنها تَسْتَصْحِب هذا الحكم أبدًا. فإذا انقطع دم الاستحاضة [عنها] (¬3)، وقد كانت اغتسلت بعد أيامها المُعتادة: [فهل تعيد] (¬4) الغسل استحبابًا؟ ففي "المدونة" (¬5)، عن مالك روايتان: إحداهما: أنها لا تعيد الغسل. والأخرى: أنها تعيده، وهو الذي استحبه ابن القاسم. وسبب الخلاف: مراعاة اختلاف العلماء؛ فمنهم من يقول: إنها تغتسل استحبابًا، وخرّج البخاري (¬6) أن أم سلمة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تغتسل لكل صلاة. فراعى مالك رحمه الله هذا الخلاف مرة فاستحبه، ومرة لم يراعه، وَرَد نظره إلى أصول الشريعة. وأما دم النفاس: فهو الذي يخرج مع خروج الولد. وقال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب: والنفاس ما كان عقيب الولادة؛ فظاهر قوله أن الدّم الذي يخرج مع خروج الولد لا [يسمى] (¬7) دم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: مما. (¬3) زيادة من ب. (¬4) في أ: فلتعد. (¬5) المدونة (1/ 50، 51). (¬6) أخرجه البخاري (321)، ومسلم (334) من حديث عائشة أن أم حبيبة استحيضت .. إلخ. (¬7) في أ: سيما.

النفاس، وأنه لا حكم له في وجوب الغسل إذا لم يخرج [الدم] (¬1) [عقيبه] (¬2). وهذا الذي قاله خلاف المذهب، إلا إن شهد لما قاله دليل من كلام العرب، فيُصار إليه، وإلا فنصوص المذهب في اعتبار [الدم] (¬3) الذي يخرج [مع] (¬4) الولد. فإن خرج الولد نَقِيًا مِنَ الدّم: فهل [يستحب] (¬5) الغسل عليها أم لا؟ قولان: أحدهما: [مشهور المذهب أنه لا يجب، ولا يستحب، ولمالك في "العتبية" (¬6) قول ثان بأنه يستحب] (¬7) قال: "ولا يأتي من الغسل الأخير"، وهذا إذا لم يخرج الدّم بعد الوَضع. فأما إذا خَرَجَ الدّم بعد الوضع: فلا خلاف في المذهب في وجوب الغُسل عليها إذا انقطع الدّم عنها أو مضى لها مُدّة، تَحْمِل الزّائِد على أنه دَمُ استحاضة. وحكم هذا الدّم -الذي هو دَمُ النِّفَاس- كَحُكم دَم الحيض فيما يَحِل وَيَحرُم. والجواب عن الفصل الثاني: ما يسمى حيضًا هل يسمى حيضة أم لا؟. ¬

_ (¬1) في جـ: الولد. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: فيه. (¬5) في أ: يجب. (¬6) البيان والتحصيل (1/ 397)، والنوادر (1/ 138، 139). (¬7) في ب: تقديم وتأخير.

والحيض في عُرْف الاستعمال: عبارة عن الدّم الذي يَحْرم على المرأة فعل العبادة مع وجوده. والحيضة: عبارة عما يقع به الاعتداد في العِدّة والاستبراء؛ فإذا رأت المرأة لمعة، أو دفعة من دم الحيض. ثم انقطع من ساعته: فلا تخلو رؤيتها ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون قبل طُهْر فاصل. والثاني: أن يكون ذلك بعد طُهْر فاصل. فإن كان رؤيتها قبل طُهْر فاصل: فلا خلاف في المذهب أن له حكم الدم الأول، وأنها حيضة واحدة. وإن كانت رؤيتها بعد طهر فاصل: هل يكون ذلك حيضة مستقلة، ويصح بهذا الاعتداد في الأقراء؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يسمى [حيضًا] (¬1) وحيضة، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب إرخاء الستور" (¬2)؛ لأنه قال في المطلقة: إذا رأت أول قطرة [من دم الحيضة] (¬3) الثالثة: فقد حلَّت للأزواج، وانقضت عدتها، وبَانَتْ مِن زوجها الأول، وهو تأويل أبي عمران الفاسي على المدونة. قال القاضي أبو الوليد بن رشد: وهو مذهب ابن القاسم في أن الحيض لا أقلَّ له، وأن الحيض يسمى عنده حيضة، وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب "الاستبراء" غير أنه هناك أحال على سؤال النساء. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) المدونة (5/ 326). (¬3) في أ: من الدم في الحيضة.

والقول الثاني: أن الحيض لا يسمى حيضة، وأن الحيضة لا تسمى حيضًا، إلا لما استمر من الدم واتصل، وهي رواية ابن وهب عن مالك، وهو [ظاهر] (¬1) قول أشهب في المدونة (¬2)؛ لأنه قال في التي رأت أول قطرة من الدم [من] (¬3) الحيضة الثالثة: إنه يستحب لها ألا تعجل بالنكاح حتى تعلم أن ذلك [حيضة مستمرة؛ لأنها قد ترى الدم ساعة أو ساعتين ثم ينقطع عنها، فتعلم أن ذلك ليس بحيض، وابن القاسم] (¬4) يقول لا يخلو أن تراه بعد طهر فاصل أو قبله. فإن رأته بعد طهر فاصل، فذلك حيضة ثانية، وإن رأته قبل طهر فاصل، فالدم الأول مضاف إلى تلك القطرة، ويكون حيضة واحدة. وسبب الخلاف: الحكم المتعلق بما له أول وآخر من الأسماء. هل يتعلق بأولها أو بآخرها؟ والحيض مما له أول وآخر. والجواب عن الفصل الثالث: في أقل الطهر. وفائدة [ذلك] (¬5) معرفة عدد الأيام التي تكون بين الدمين [طهرًا] (¬6) أو يكون الدم الثاني حيضًا مؤتَنفًا، فالخلاف فيه في المذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن أقل الطهر خمسة أيام، وهو قول عبد الملك بن الماجشون، وروايته عن مالك. وكلما كثر الطهر قَلَّ الحيض، وكلما قَلَّ الطهر كثر الحيض [عنده] (¬7) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) المدونة (5/ 326). (¬3) في أ: في. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: طاهرة. (¬7) سقط من أ.

وهو قول ضعيف عند أهل النظر؛ لما فيه من مخالفة الأثر؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن تحيض المرأة أكثر من نصف [زمانها] (¬1). والثاني: أن أقله ثمانية أيام، وهو قول سحنون، وهو تأويل أبي محمَّد بن أبي زيد على المدونة على ظاهر قول مالك في كتاب الوضوء، وفي "كتاب العِدّة". و [قال] (¬2) في "كتاب الوضوء" في التي رأت الدّم خمسة عشر يومًا، ثم رأت الطهر خمسة أيام. ثم رأت الدم أيامًا. ثم رأت الطهر سبعة أيام: قال: هذه مستحاضة (¬3)، فجعل سبعة أيام في حيز اليسير. وقال في "كتاب العدة" (¬4): لا أرى الأربعة أيام، والخمسة، وما قرب طهرًا، وأرى أن الدم بعضه من بعض إذا لم يكن بينهما من [الطهر] (¬5) إلا أيامًا يسيرة؛ الخمسة ونحوها. وهذا يبين قول الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد، ويعضده في أن أقل الطهر ثمانية أيام؛ لأنه [لم] (¬6) ير السبعة في كتاب الوضوء طهرًا، ونص هناك على السبعة أيام، ولم [يزد] (¬7) ولا قال ونحوها، والنحو هنا: الزيادة [على الخمسة] (¬8) وكذلك ما قرب، غير أن النحو والشبه ¬

_ (¬1) في ب: دهرها. (¬2) سقط من أ. (¬3) المدونة (1/ 52). (¬4) المدونة (5/ 428). (¬5) في أ: الدم. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: يرد. (¬8) ساقطة من ب.

إذا عُطِفَا على واحد، فالمراد بذلك اثنين، كقوله: اليوم ونحوه، والبريد ونحوه؛ إذ لا يصلح أن يريد المتكلم بذلك بعض يوم. وإن [عُطِفَا] (¬1) على الجُملة، فإنه لا يُحمل على أن المراد به عدد المعطوف عليه، وإنما أراد الزيادة عليه ما لم يكون عدد [مثل] (¬2) عدد المعطوف [عليه] (¬3) أو [نصفه] (¬4). وغاية ما قال فيه بعض الأشياخ: الثلث، وهكذا ذكر القاضي أبو الفضل رحمه الله. إلا أن الذي قاله يحتاج إلى [عرف لغوي] (¬5) أو عُرف شرعى فإن عري عنهما كان تحكمًا، فظاهر قوله: الخمسة، وما [قرب] (¬6) والذي [قرب] (¬7) من الخمسة (¬8): اثنان؛ فتكون سبعة، مثل الذي نص عليه في "كتاب الوضوء"، وظاهره أن الثمانية في خير الكثير، وهذا وجه استقراء الشيخ رضي الله عنه. والقول الثاني: أن أقله عشرة أيام، وهي رواية الأندلسيين عن مالك، ورواية أصبغ عن ابن القاسم. [والرابع] (¬9): وهو قول محمَّد بن مسلمة أن أقله خمسة عشر يومًا، وهذا القول [أظهر] (¬10) في النظر وموافق للأثر؛ لأن الله تعالى جعل ¬

_ (¬1) في جـ: عطفهما. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: صفة. (¬5) في أ: نقل اللغوي. (¬6) في أ: قارب. (¬7) في أ: قارب. (¬8) بالمدونة (1/ 52). (¬9) سقط من أ. (¬10) سقط من أ.

عدة الحرائر ذوات الأقراء في الطلاق: ثلاثة قروء بقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1). وجعل عدة اليائسة [من] (¬2) ثلاثة أشهر فقال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬3)، فجعل بإزاء كل شهر قرء، ولا تصح هذه الموازاة والمقابلة إلا على القول بأن [أقل] (¬4) الطهر خمسة عشر يومًا؛ لأن أكثر ما قيل في أقل الطهر [خمسة عشر يومًا] (¬5)، وأكثر ما قيل في أكثر الحيض خمسة عشر يومًا فجاءت القسمة على [الموازاة] (¬6) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن إحداكن تمكث نصف عمرها أو شطر عمرها لا تصلي" (¬7) وما عداه من الأقوال لا حظ لها في النظر، ولا ارتباط لها بالأثر، [والتوفيق بالله] (¬8). والجواب عن الفصل الرابع: في أقل الحيض. والذي يتحصل فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن دم الحيض لا أقل له، وأن الدفعة واللمعة تسمى حيضًا، وهو [قول] (¬9) ابن القاسم، وأن المرأة [متى] (¬10) رأت ذلك، فإنها ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية (228). (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة الطلاق الآية (4). (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: خمسة أيام. (¬6) في أ: الموازنة. (¬7) قال ابن الجوزي: وهذا لفظ لا أعرفه. التحقيق (1/ 263) حديث (306). وقال علي القاري: لا أصل له بهذا اللفظ، ومعناه في الصحيح. المصنوع (96). وقال الزيلعي: هذا حديث لا يعرف. نصب الراية (1/ 192). (¬8) زيادة من جـ. (¬9) في ب: مذهب. (¬10) في أ: مهما.

تدع الصلاة والصيام، ولا يأتيها زوجها إذا رأته بعد طهر فاصل. فإن انقطع الدم عن ساعتها: اغتسلت وصلت، وحلَّ لزوجها أن يطأها. فإن عاودها الدم بعد ذلك، فإنها تدع الصلاة. وإنما أُمرت بالاغتسال إذا انقطع عنها؛ إذ لعله لا يعود إليها، هكذا يكون حكمها حتى تستكمل أيامها المعتادة، فتلفق أيام ما تحيض، وتلغى أيام الطهر. [ويجيء] (¬1) من هذا [وجه] (¬2) مشكل، وهو: إذا انقطع الدم عنها بإثر أمدها، فأمرت بالاغتسال فتصوم وتصلي؛ فيكون لها حكم الطاهر، فإن عاودها الدم رجعت إلى حال [الحائض] (¬3). ووجه الإشكال فيه: [الحكم في] (¬4) الصوم الذي صامته في اليوم الذي رأت فيه الطهر، إن كان رمضان هل [يقع] (¬5) موقع الإجزاء وتبرأ منه الذمة؛ لأنه مفعول في زمان أمرت به بالغسل، وتوجه عليها فعل العبادة -وهذا هو ظاهر المذهب- أو نقول: إنها لما عاودها الدَّم قَبل انقضاء [زمان] (¬6) و [ما] (¬7) يسمى طُهْرًا، وأن حُكْمَ [الحيض] (¬8) مُسترسل عليها فيما رأت فيه الدم، وما لم تره كان صومها غير واقع موقع الإجزاء، والذَّمة [به [ق/ 15 أ، مَعْمُورة] (¬9)، وغاية شأنها أنها لم تكن بذلك ¬

_ (¬1) في ب: ويأتي. (¬2) في أ: فصل. (¬3) في ب: الحيض. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: وقع. (¬6) ساقطة من ب. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: الحاكم. (¬9) في ب: غير بريئة.

حائضًا مع جريان الدم. وهذه مسألة لم أجد فيها نصًا في المذهب، والذي يقتضيه النظر [أن الصوم في ذمتها] (¬1) مُتيقن، فلا تبرأ إلا بيقين. والقول الثاني: أن الحيض ثلاثة أيام في العِدّة والاسْتِبْرَاء، وما دونها يكون حيضًا يمنع الوطء والصيام من غير أن يسقط وجوبه، ويمنع [من] (¬2) الصلاة ويسقط وجوبها، وهو قول محمَّد بن مسلمة. ومعنى قوله: تُمنع من [فعل] (¬3) الصلاة من غير أن يسقط وجوبه إلى وجوب القضاء؛ إذ لا خلاف أن الحائض تقضي الصيام، وإنما [وقع] (¬4) الخلاف بين الأصوليين، هل القضاء عليه بالخطاب الأول أو الخطاب الجديد (¬5). والقول الثالث: أن أقل الحيض في العِدَّة والاسْتِبرَاء خمسة أيام، وهو قول عبد الملك بن الماجشون، وزاد أبو إسحاق [ق/ 9 جـ] بلياليها. و [معنى] (¬6) قوله: يمنع الصلاة ويسقط وجوبها يعني أنه لا قضاء عليها لقول عائشة رضي الله عنها: "كنا نؤمر بقضاء الصيام، ولا نؤمر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) زيادة من ب. (¬5) اختلف في ذلك على مذهبين: أولهما: أن وجوب القضاء ثابت بالخطاب الأول. ذهب إلى هذا عامة الحنفية، والمالكية، وكثير من الشافعية، وهو الصحيح. ثانيهما: أن القضاء ثابت بخطاب جديد. وإلى هذا ذهب أكثر المتكلمين. (¬6) سقط من أ.

بقضاء الصلاة" (¬1). وسبب الخلاف: الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء، أو [بأواخرها] (¬2). والجواب عن الفصل الخامس: في أكثر الحيض. والسادس: في حكم الاستظهار. ولا شك ولا خفاء أن ما تراه المرأة من الدم، وتمادى بها أن المنع مِنْ فِعْل العبادات البدنِيّة، والعادات الاسْتِمْتَاعِيَّة يُسْتصحب مع وجود الدّم إذا كانت ممن تحيض، أو كانت في سِن مَنْ تَحيض، اتصل ذلك [الدم] (¬3) أو انفصل. إذا كان [ذلك] (¬4) الانفصال يحكم له بحكم الاتصال. فإن تمادى بها الدم أيامًا فلا يخلو حالها من أحد وجهين: أن تكون مبتدأة، أو معتادة. فإن كانت مبتدأة: فالذهب [في حكمها] (¬5) على قولين: أحدهما: أنها تنتظر إلى خمسة عشر يومًا، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬6) في كتاب الوضوء. والثاني: أنها تقعد أيام لداتها (¬7) وهي رواية [علي] (¬8) بن زياد عن ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) في الأصل: بآخره. (¬3) في أ: اليوم. (¬4) زيادة من ب. (¬5) في أ: فيها. (¬6) المدونة (1/ 52). (¬7) أترابها: وهذا أسلوب من أساليبهم في تثبيت الصفة وتمكينها. (¬8) سقط من أ.

مالك في الكتاب [المذكور] (¬1). وهذا الخلاف ينبني على الخلاف في المعتادة، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. وعلى القول أنها تقعد إلى خمسة عشر يومًا، هل تستظهر أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها لا تستظهر بشيء، وقد تَبَيَّن أنها مستحاضة، وأنا ما بها من الدم عِلّة وفَسَاد، وهو قول ابن القاسم [وهو مشهور المذهب] (¬2). والثاني. أنها تستظهر بيوم أو يومين، وهو قول مالك في كتاب ابن المواز (¬3). والثالث: أنها تستظهر بثلاثة أيام، وهو قول ابن نافع في كتاب ابن سحنون. وسبب الخلاف: النادر الشاذ: هل يعطى [له] (¬4) حكم نفسه أو يعطي له حكم غالب [جنسه] (¬5)؛ وذلك أن الغالب فيما يعرف بالتجابر أن المرأة لا يتمادى بها الدم أكثر من خمسة عشر يومًا؛ إلا أن تكون مستحاضة؛ ولهذا وقع الاتفاق من الجمهور أنها لا تزيد على ذلك القَدْر لا بالاستظهار [ق/ 8 ب] ولا بغيره. فإن اتفق في العالم أن يكون في امرأة تحيض أكثر من خمسة عشر يومًا كان حكمها حكم الأكثر ولا يُنْظَر إلى شُذُوذها ونُذُورها. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) النوادر (1/ 135). (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: نفسه.

ومن يقول: أنها تستظهر بثلاثة أيام، وتقعد ثمانية عشر يومًا، قال: إن النادر يعطى له حكم نفسه؛ لأن الاقتصار على خمسة عشر يومًا ليس بحد، ولا يقضي [بمنع] (¬1) الزيادة عليه. ومن قال: تستظهر بيومين ولا تزيد عليها. يقول: الأصل ألا تجوز الزيادة على ما علم بالتجربة في أكثر عوائد النسوان إلا أنني وجدت نساء ابن الماجشون يحضن سبعة عشر يومًا, ولهذا زدت [اليومين] (¬2)، وعلى القول أنها تقعد أيام لداتها هل تستظهر عليها بثلاثة أيام أم لا؟ قولان في "المدونة" (¬3): خلاف ماله فيها، والثاني: أنها تستظهر؛ وهو قول ابن القاسم في الكتاب، وهو قول ابن نافع في غير المدونة. [ومثار] (¬4) الخلاف [يأتي] (¬5) بيانه في فصل المعتادة إن شاء الله. فإن كانت معتادة؛ وهي التي لها أيام معلومة لا تكاد تجاوزها إلا وقد طهرت. فإذا تمادى بها الدم على أكثر أيامها المعتادة: فقد اختلف في المذهب [في هذه المسألة] (¬6) على خمسة أقوال: أحدها: أنها تنتظر إلى خمسة عشر يومًا، وهل تستظهر عليها أم لا؟ قولان؛ وقد بيناهما في الوجه الأول. ¬

_ (¬1) في أ: بمعنى. (¬2) زيادة من ب. (¬3) المدونة (1/ 50). (¬4) في ب: المسار. (¬5) في أ: فيما. (¬6) زيادة من ب.

والثاني: أنها تنتظر قدر [أيامها] (¬1) المعتادة، ولا تستظهر. والثالث: أنها تقعد أيامها المعتادة، وتستظهر، وهو [ظاهر] (¬2) قول ابن القاسم في كتاب الحج (¬3)، وقال: المرأة إذا حاضت قبل طواف الإفاضة إن كريهًا يحبس عليها قدر أيامها المعتادة مع ثلاثة أيام الاستظهار. فظاهره: أنه إذا مضى هذا [العذر] (¬4) فلتغتسل، وتطوف، وتصلي، وتكون مستحاضة. والرابع: أنها تقعد أيامها المعتادة. ثم تغتسل، ويكون لها حكم الطاهر في العبادات دون العادات؛ فتصلي وتصوم على معنى الاستحباب، ويجتنبها زوجها على معنى [الاحتياط] (¬5)، وهي رواية ابن وهب عن مالك في المدونة (¬6)؛ حيث قال: وقد كان يقال إن المرأة لا تكون حائضًا أكثر من خمسة عشر يومًا، ثم نظرت في ذلك فرأيت أن ذلك احتياطًا [لها] (¬7)؛ فتصلي وليست عليها أحب إليّ من أن تترك الصلاة، وهي عليها. والقول الخامس: أنها تنتظر أيامها المعتادة. ثم تغتسل، وتصلي، وتصوم. فإن تمادى بها الدم خمسة عشر يومًا: علم أنها مستحاضة، وأن ما مضى من الصلاة، والصيام، وقع موقع الإجزاء في موضعه، ولم يضرها ¬

_ (¬1) في أ: أيام. (¬2) زيادة من ب. (¬3) المدونة (2/ 202). (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: الاحتفاظ. (¬6) المدونة (1/ 53). (¬7) سقط من أ.

امتناعه من الوطء. فإن انقطع عنها دون خمسة عشر يومًا: علم أنها حيضة [انتقلت] (¬1)، ولا يضرها ما حلت وصامت، وتغتسل عند انقطاعه. وسبب الخلاف: بين من قال: تننظر خمسة عشر يومًا وبين من قال: تقعد أيامها المعتادة: معارضة الغالب للأثر؛ فالغالب: أن دم الحيض لا يجاوز خمسة عشر يومًا إلا إذا كانت الحائض مستحاضة؛ فالغالب عندهم أن دم الحيض يمتد أمره إلى هذا القدر؛ فوجب بهذا الغالب أن تتنظر إلى خمسة عشر يومًا. ويُقَابله ما خرّجه مالك في "موطئه" (¬2) أن امرأة كانت تهراق الدماء [في] (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:] (¬4) "لتنظر إلى عدة الليالي، والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها [الدم] (¬5) الذي أصابها؛ فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلَّفت ذلك فلتغتسل. ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصلي". والعجب من قال بنسخ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -[بالعادات، والعادات] (¬6) لا يُعدَدُ بها النَّسْخ، ولا يُقَدّم الحكم بها على أخبار الآحاد بالاتفاق. وإنما وقع الخلاف بين الأصوليين في العموم: هل يخصص بالعادات أم لا؟ ¬

_ (¬1) في ب: انقلبت. (¬2) أخرجه مالك (138)، وأبو داود (274)، والنسائي (354)، وابن ماجة (623)، وأحمد (26176)، والدارمي (780)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله تعالى. (¬3) في ب: على. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: العادة، والعادة.

فصل

وأما أن يقع النسخ به، فلم يَصِر إليه أحد من العلماء، فهذا مما يحتاج الناظر إلى إمعان [النظر] (¬1) فيه. وأما رواية ابن وهب فهي مبنية على الاحتياط للعبادة؛ لأن العبادة تجب عليها على قول من يقول: تقعد أيامها المعتادة، وساقط على قول من يقول: تقعد إلى خمسة عشر يومًا، فتوسط بينهما على طريق الاستحباب. وأما الاستظهار فهو مشهور في المذهب، ضعيف في الحديث، والأصحاب اعتمدوا في ذلك [أثرًا ونظرًا] (¬2). فالأثر ضعيف، والنظر لطيف، وهو قياس الاستظهار على المصرات؛ لأن الشارع جعل هناك أن الثلاثة مما يجعل به التمييز بين اللبن المخزون في الضرع، وبين الحلاب المتم على طبع البهيمة وعادتها في غزارة اللبن، فكذلك ينبغي اعتبار الثلاثة الأيام في حق الحائض حتى يحصل لنا به التمييز بين دم الحيض و [دم] (¬3) الاستحاضة، ويتبين لنا هل ذلك عادة منتقلة أم لا. وهو قيام الشبه، وهو [في نفسه] (¬4) ضعيف عند الأصوليين. فصل وقد قدمنا أن دم الحيض لا يصح فعل العبادة معه، بل المرأة عاصية بفعلها. وهل ذلك في كل عبادة أو [في] (¬5) بعضها دون بعض؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: طاهرًا. (¬2) في ب: على الأثر والناظر. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ.

ولا خلاف فيما عدا قراءة القرآن من العبادات البدنية أن الحائض لا تفعلها. واختلف في قراءة القرآن [ظاهرًا] (¬1) على قولين؛ والمشهور جوازها. واختلف فيما إذا كانت حائضًا جنبًا: هل يبقى حكم الجنابة [مع] (¬2) الحيض، أو الحكم للحيض دون الجنابة. وفائدة هذا وثمرته: إذا اغتسلت ناوية لإحداهما [و] (¬3) ناسية للأخرى، وأرادت أن تغتسل لرفع [الجنابة] (¬4) [عن نفسها] (¬5)، إذ المشهور من مذهب مالك: أن الجنب لا يقرأ القرآن بيد أن أهل المذهب اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يقرأ القرآن جملة، وهو المشهور. والثاني: أنه [يقرأ القرآن] (¬6) جملة. والثالث: التفصيل بين [اليسير] (¬7) والكثير؛ فيقرأ اليسير، ولا يقرأ الكثير، وهذا الخلاف نقله [الشيخ أبو الحسن] (¬8) اللخمي [ق/ 16 أ] و [هو] (¬9) الصحيح عن مالك أيضًا أنه قال: حَرصْتُ [على] (¬10) أن أجد رخصة للجنب في قراءة القرآن فلم أجدها, ولا بأس أن يقرأ اليسير ¬

_ (¬1) في الأصل: طاهرًا. (¬2) في أ: من. (¬3) زيادة من ب. (¬4) في ب: الحدث. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: يقرأه. (¬7) في أ: القليل. (¬8) سقط من ب. (¬9) سقط من ب. (¬10) زيادة من ب.

منه (¬1). وأما إذا اغتسلت لأحدهما ناسية للآخر، [هل يجزئ عنهما]؟ (¬2). فإن اغتسلت للحيض ناسية للجنابة: [فذلك] (¬3) يجزئ عنهما جميعًا، ويتخرج في المذهب قول [ثان] (¬4) بأنه لا يجزئ عن الجنابة. ويجري الخلاف [على الخلاف فيما] (¬5) إذا اتحد المُوجَب وتعدد المُوجِب، هل النظر إلى اختلاف المُوجِب [أو النظر إلى] (¬6) اتفاق المُوجَب؟ ولا شك، ولا خفاء أن الجنابة والحيض كل واحد منهما لو انفرد كان موجبًا للغسل على صفة واحدة، فينبغي إذا اجتمعا أن ينوب أحدهما [عن] (¬7) الآخر [مثله] (¬8) البول والغائط. وهذا الذي يقتضيه النظر الصحيح. فإن اغتسلت للجنابة ناسية للحيض: هل يجزئها عن الحيض؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة (¬9): أحدهما: أنه لا يجزئها، وهو ظاهر قوله في المدونة. والثاني: أنه يجزئها غسل الجنابة عن غسل الحيض، وهو قول أبي ¬

_ (¬1) النوادر (1/ 124). (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: فإنه. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: و. (¬7) في أ: إلى. (¬8) في أوب: أصله. (¬9) المدونة (1/ 28).

الفرج، ومحمد بن الحكم، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" (¬1) أيضًا في مسألة الشجة إذا كانت في موضع الوضوء، إن غسلها بنية [الوضوء] (¬2) يجزئ عن غسل الجنابة. وقال [القاضي أبو الحسن] (¬3) بن القصار: إن الأحداث إذا كان موجبها واحدًا واجتمعت تداخل حكمها. وسبب الخلاف: ما قدمناه، وله مطلع آخر: هل الحيض أصل, والجنابة في [حكم] (¬4) التبع، أو كل واحد منهما أصل في نفسه؛ اعتبارًا بحالة الانفراد؟ فإن أرادت أن تغتسل قبل ارتفاع [دم] (¬5) الحيض لترفع عن نفسها حدث الجنابة لتقرأ القرآن: هل يفيدها ذلك [الغسل] (¬6) شيئًا ويجزئها أم لا؟ فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يطرأ الحيض على الجنابة. والثاني: أن تطرأ الجنابة على الحيض. فأما طروء الحيض على الجنابة: فهل يجزئها أن تغتسل وتقرأ القرآن، ويزول عنها [حدث] (¬7) الجنابة؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 28). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: حيز. (¬5) سقط من ب. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: حكم.

أحدهما: أنها تغتسل وتقرأ القرآن، وهو ظاهر "المدونة" (¬1)؛ حيث قال: لا غسل عليها حتى تطهر من حيضتها إن أحبت. فظاهر قوله: "إن أحبت" [أنها إن أحبت] (¬2) أن تغتسل اغتسلت. والثاني: أنها لا تقرأ القرآن، وإن اغتسلت، وأن غسلها لا ينوب عنها [ذلك المناب] (¬3). وسبب الخلاف: طروء الحيض على الجنابة: هل يَهْدِمُ أمرها ويُزِيل حُكْمها أم لا؟ فمن رأى أن الحيض لا يزيل حكم الجنابة، يقول: لها أن تغتسل للجنابة لتقرأ القرآن على [القول] (¬4) المشهور أن الحائض تقرأ القرآن؛ لأنها مُفَرّطة بتأخير الاغتسال. وإن لم تُفَرِّط أيضًا، فإن حكم الجنابة مُرَتب عليها قبل دخول الحيض عليها. ثم لا سلطانة له في [إسقاط] (¬5) الحكم المُتَقَرِر بالشّرع. أصل ذلك الصلاة التي زال وقتها و [قد] (¬6) تقرر قضاؤها في الذمّة، فإن طُروء الحيض لا يُؤثِّر في [إسقاطها] (¬7). ومن رأى أن الحيض يَهْدِمُ أمر الجنابة ويُزيل حكمها، فيقول: إنها حائض فيجوز لها أن تقرأ القرآن، وإن لم تغتسل. ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 29). (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من جـ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من ب. (¬6) زيادة من ب. (¬7) في ب: سقوطها.

والقول بأنها لا تقرأ القرآن وإن اغتسلت: قول ثالث [في المسألة] (¬1) حكاه القاضي أبو بكر بن العربي، وهو قول لا وجه له، ولا دليل عليه، إلا إذا اعتبرنا حكم الحائض على الجملة؛ فقد قيل في أحد الأقوال فيها: أنها لا تقرأ القرآن، غير أنه أورده في محل التحصيل في الحائض الجنب. وهذا مما يحتاج إلى التأمل والوقوف عليه. وأما طُروء الجنابة على الحيض، كالحائض تحتلم، أو تتلذذ [بملامسة] (¬2) زوجها، أو مِن [جِمَاعِه إياها] (¬3) في موضع يجوز له: وهذا لا خلاف فيه في المذهب نصًا أن الحكم للحيض [ق/10جـ] وأن الجنابة الطارئة لا حكم لها؛ لأن مانع الجنابة صادف محلًا مشغولًا بمانع هو [أقوى] (¬4) منه. والدليل على أنه أقوى منه في القطع: اتفاقهم في الجنب أنه مخاطب بالعبادة مع بقاء [جدته] (¬5)، واختلافهم في الحائض هل هي مخاطبة بالصلاة والصيام في زمان حيضها أم لا. و [لا] (¬6) يتعد دخول الخلاف فيها بالمعنى أيضًا، حتى يقال: إن حكم الجنابة قائم، وأن [الحيض يمنع من قراءة القرآن لأجلها] (¬7)، وأنها تفتقر إلى إحضارها في الذِكْر عند اغتسالها من حيضتها على ما قدمناه. [والجواب عن الفصل السابع: في معرفة علامة الطهر. ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) في ب: من ملامسة. (¬3) في ب: جماع. (¬4) في أ: أقرب. (¬5) في أ: جادته. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: الحائض لم تمنع قراءة القرآن لأجلها.

وللطهر علامتان: الجفوف والقصة البيضاء. واختلف في المذهب أيهما أنقى وأبر للرحم على ستة أقوال: أحدها: أن القصة البيضاء أبرأ فلا تغتسل بالجفوف حتى تراها إلا أن يطول وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن الجفوف أبرأ فلا تغتسل إذا رأت القصة حتى ترى الجفوف إلا أن يطول عنها، وهو قول محمَّد بن عبد الحكم. والثالث: أنها تبرأ متى رأت أحدهما طهرت وهو قول ابن حبيب. والرابع: التفصيل بين المبتدئة والمعتادة. فالمبتدئة لا تطهر إلا بالجفوف ثم تعمل بعد ذلك على ما ظهر من أمرها، وهذا القول حكاه ابن حبيب عن ابن القاسم ومطرف. والخامس: أنها إن كانت ممن ترى القصة فلا تطهر بالجفوف، وإن كانت ممن ترى الجفوف، فإنها تطهر بالقصة. والسادس: بعكس ذلك، والقولان حكاهما اللخمي والحفيد في المذهب، والحمد لله وحده] (¬1). ... ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الرابعة عشر في الحامل: هل تحيض أم لا؟

المسألة الرابعة عشر في الحامل: هل تحيض أم لا؟ [فقد] (¬1) اختلف فيما تراه الحامل من الدَّم، هل هو دَم عِلَّة وفَسَاد أو دم [صِحّة] (¬2) وجِبِلّة أو أنها تحيض؟ فذهب مالك (¬3) رحمه الله إلى أنها تحيض، وهو أحد أقاويل الشافعي، وذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تحيض، وبه قال أحمد والثوري [وهذا ظاهر قول ابن القاسم في كتاب "محمَّد" في المعتدة تعتبد بثلاث حيض ثم ظهر بها حمل حيث قال: لو علم أن الأول حيض مستقيم لرجمتها، فنفى عن الحامل الحيض] (¬4). وسبب الخلاف: تعذر الوقوف على ذلك بالتجربة، [واختلاف] (¬5) الأمرين، فإنه مرة يكون الدم الذي تراه الحامل دم حيض، وذلك إذا كانت قوة المرأة وافرة، والجنين [ضعيف] (¬6). ومرة يكون الدم الذي تراه الحامل [دم علة وفساد] (¬7) لضعف الجنين ومرضه التابع لمرضها، وضعفها [في الأكثر] (¬8) فيكون دَم عِلّة وفَسَاد. ¬

_ (¬1) في أ: و. (¬2) في جـ: حيضة. (¬3) المدونة (1/ 54). (¬4) سقط من أ. (¬5) في جـ: واختلاط. (¬6) في أ: صغير. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

فهذا مَثَار الخلاف بين العلماء. ومذهب من يقول: أن الحامل تحيض، ضعيف جدًا؛ لأنه يكر على أصله بالبطلان؛ وذلك أنا نعتقد أن الحيض دليل على براءة الرّحم في غالب الأمر، وتحصل به النُّقية بذلك، وتتزوج المطلقة إذا حاضت ثلاث قُروء، ويأمر للسيد [بالوطء] (¬1) إذا استبرأت بحيضة. فإذا قلنا أن الحامل تحيض، فذلك يهدم تلك القاعدة، ويسقط النُّقية بحصول براءة الأرحام بالحيض، وهذا معضل، والكلام في هذه المسألة في موضعين: [أحدهما: الحامل إذا ولدت ولدًا، وبقى في بطنها آخر. والثاني: إذا حاضت هل حالها حال الحامل أم حال النفساء. فالجواب عن الموضع الأول] (¬2): الحامل إذا ولدت ولدًا، وبقى في بطنها آخر، هل [حكمها حكم] (¬3) الحامل، أو [حال] (¬4) النفساء؟ [فالمذهب [فيها] (¬5) على قولين منصوصين في "المدونة" (¬6): أحدهما: أن حالها حال النفساء، ولزوجها عليها الرجعة ما لم ينقطع الدم عنها، أو يمضي [عليها] (¬7) زمان لا تكون نفساء إلى ذلك الأمد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: حكمها حكم. (¬4) في ب: حكم. (¬5) سقط من أ. (¬6) المدونة (1/ 54). (¬7) زيادة من ب.

[كشهرين] (¬1) على قول، أو الرجوع إلى عادة [النساء] (¬2) في الغالب [على قول] (¬3). والثاني: أن حالها حال الحامل؛ ترى الدم على حملها على [الاختلاف] (¬4) في ذلك على ما سيأتي بيانه عقيب هذا إن شاء الله. ولا خلاف أنها إذا جلست [بعد وضع] (¬5) الأول أقصى ما يمسك [النفساء] (¬6) النفاس على [حسب] (¬7) اختلاف قول مالك ثم ولدت. الثاني: أنها تجلس له ابتداء مثل ذلك. واختلف إذا ولدت الثاني قبل استيفاء [أكثر] (¬8) ما يجلس النساء، هل تبتدئ له أَمَد [النّفاس] (¬9) أو تبنى على ما مضى؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" (¬10): أحدهما: أنها تستأنف، وهو الأظهر، وإليه ذهب أبو إسحاق. والثاني: أنها تبنى على ما مضى [من الأول] (¬11)، وإليه ذهب الشيخ أبو محمَّد، وأبو سعيد البراذعي. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: النسوان. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: الخلاف. (¬5) سقط من أ، ب. (¬6) سقط من أ، ب. (¬7) في أ: حساب. (¬8) سقط من أ. (¬9) في جـ: النساء. (¬10) المدونة (1/ 54). (¬11) في أ: للأول.

وسبب الخلاف: [كون الحامل] (¬1) تجاذبها وصفان، أيهما يغلب. والجواب عن الموضع الثاني: في الحامل إذا حاضت هل حكمها حكم الحائل أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة" (¬2): أحدهما: أن حكمها حكم الحائل، وهو قول أشهب. والثاني: أن حكمها حكم الحامل الحائض؛ لأن الحيض عند ابن القاسم ينقسمن إلى: حوامل و [إلى] (¬3) حوائل. فالحوائل: قد تقدم الكلام [على حالهن] (¬4)، [والكلام هاهنا] (¬5) في الحوامل، [والحامل] (¬6) إذا حاضت [هل] (¬7) يكون لها حكم نفسها، فعلى قول أشهب -الذي يقول: أنها كالحائل تحيض- هل تستظهر على عادتها أم لا؟ [فاختلف فيه] (¬8) على ثلاثة أقوال، كلها قائمة من "المدونة" (¬9): أحدها: أنها تستظهر، وهو ظاهر قوله في الكتاب حيث قال: "هي كغيرها من النساء". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) المدونة (1/ 54). (¬3) زيادة من ب. (¬4) في ب: عليهن. (¬5) في ب: وأما. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: فالمذهب. (¬9) المدونة (1/ 54).

والثاني: أنها لا تستظهر، وهو [ظاهر] (¬1) قوله في الكتاب أيضًا في آخر [الباب] (¬2): "تقعد حيضة واحدة". قال سحنون في غير المدونة: معناه عدد أيامها المعتادة، وظاهره بغير استظهار. والثالث: التفصيل بين أن تستريب أو لا. فإن استرابت فلا تستظهر، وإن لم تسترب فلتستظهر. وهذا يتخرج على الرواية الصحيحة في الكتاب، إلا أن تكون [استرابت] (¬3) من حيضتها شيئًا من أول ما حملت هي على حيضتها (¬4)، معناه أن الحمل لم يؤثر في زيادة الدم، ولا نقصانه، بل عادتها مستمرة على [عادتها] (¬5) قبل الحمل. [فهذا [هو] (¬6) الذي] (¬7) يقول [فيه] (¬8) أشهب: أنها تستظهر. واختلف الأشياخ هل يخالفه ابن القاسم في هذا الوجه أم لا؟ فذهب أبو عبد الله التونسي إلى أن ابن القاسم لا يخالف أشهب في ذلك [وذهب التونسي إلى أنه] (¬9) خلاف لقول ابن القاسم، وأنها لا تستظهر عند ابن القاسم، وهو الصحيح؛ لانر الناس اختلفوا فيما تراه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الكتاب. (¬3) في الأصل؛ استبرأت، والتصويب من المدونة. (¬4) المدونة (1/ 54). (¬5) في ب: ما كان. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: فهذا التي. (¬8) في أ: فيها. (¬9) سقط من أ.

الحامل: هل هو حيض أم لا؟ وكان أمر الاستظهار في الحيض الذي لا شك فيه: مختلف فيه؛ ففي الحامل أضعف، فلا تستظهر. وأما الرواية: إلا أن تكون [استرابت] (¬1) من حيضتها [شيئًا] (¬2) من أول ما حملت، فقالوا: إنها رواية فاسدة؛ لأنها عكس النظر وضد الصواب. وهو كلام متناقض في نفسه، وعلى قول ابن القاسم الذي يقول: إن حكمها حكم الحامل تحيض. والحامل عنده منفردة بحكمها، وحكمها في الحيض، وحكم الحائل متغايران؛ فقد اختلف المذهب في حكمها على أربعة أقوال (¬3): أحدها: أنها إن رأت ذلك في شهرين تركت الصلاة خمسة عشر يومًا ونحوها. وإن رأت ذلك في ثلاثة أشهر، فكذلك أيضًا. وهو قول ابن اللباد. والثاني: أنها [إن] (¬4) رأته في ثلاثة أشهر تركت [ق/ 17 أ] الصلاة خمسة عشر يومًا ونحوها. فإن رأته في أربعة أشهر تركت الصلاة عشرين يومًا. وهذا قول ابن القاسم في الكتاب. والثالث: أنها تضاعف الأيام تجلس في أول [شهور الحمل] (¬5) أيامها ¬

_ (¬1) في الأصل: استبرأت، والتصويب من المدونة. (¬2) سقط من أ. (¬3) المدونة (1/ 54). (¬4) في ب: إذا. (¬5) في: شهورها.

وتستظهر، وفي الثاني: تُثنَى أيامها، وفي الثالث: تُثَلّثها، وفي الرابع: تَرَبْعها [بلا استظهار] (¬1) حتى تبلغ ستين يومًا ثم لا تزيد. وهذا كأنه يَرى الدّم لَمَّا لَمْ يأت صار كأنه شيء أُحبس، فإذا اندفع حُكم [له] (¬2) بالقَدْر الذي كان يجب أن يأتي به في كل شهر؛ لأنه دم أحتبس ثم خرج، وهو قول [ابن وهب] (¬3). القول الرابع: أن تترك الصلاة الأيام التي كانت تحيض قبل الحمل من أول ما بلغت. وهذا القول حكاه ابن لبابة من رواية أصبغ عن مالك. واختلف في السّنة الأشهر: هل حكمها حكم الثلاثة الأشهر [أم لا] (¬4)؟ على قولين: أحدهما: أن حكمها حكم الثلاثة الأشهر، وهو قول أبي القاسم [بن شبلون] (¬5). والثاني: أن حكم الستة أشهر حكم ما بعدها. وسبب الخلاف: بين قول ابن القاسم وأشهب في أصل المسألة: النادر هل يعطي له حكم نفسه، أويعطي له [حكم] (¬6) غالب جنسه [فأشهب يقول: يعطي له حكم غالب جنسه] (¬7). ¬

_ (¬1) في ب: بالاستظهار. (¬2) في أ: لها. (¬3) في ب: ابن حبيب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في جـ: ابن شعبان. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ، ب.

وابن القاسم [يقول: يعطي له] (¬1) حكم نفسه. وأما اختلافهم في [التفرقة] (¬2) بين أول الحمل وآخره، وكونها تضاعف العدد: إنما هو استحسان جار على غير قياس [تم كتاب الوضوء بحمد الله] (¬3). ... ¬

_ (¬1) في ب: أعطاه. (¬2) في أ: التفريق. (¬3) زيادة من ب.

كتاب الصلاة الأول

كتاب الصلاة الأول

[بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على محمَّد وآله وسلم] (¬1). كتاب الصلاة الأول تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها: أربع عشرة مسألة. المسألة الأولى في معني لفظ الصلاة والصلاة لها تعريفان؛ لغوي، وشرعي. [وهي في "وضع" (¬2) اللغة] (¬3) على وجوه، منها: الدعاء: لقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (¬4). ومنها: الاستغفار والرحمة: والصلاة من الله: الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الآدميين: [الدعاء] (¬5). وقيل: [إن الصلاة] (¬6) مأخوذة من قولك: [أَصّلْت] (¬7) العُود: إذا قومته. وقيل: إن الصلاة مأخوذة من الصّلْوين؛ وهما عِرْقان ينحنيان عند ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) في أ: موضع. (¬3) في ب: فاللغوي. (¬4) سورة التوبة الآية (103). (¬5) في أ: الركوع والسجود. (¬6) سقط من أ. (¬7) في جـ: أصليت.

الركوع. وقيل: إن الصلاة مأخوذة من الصّلة؛ لأنها تصل بين العبد وخالقه. وقيل: إن الصلاة مشتقة من المصلى من الخيل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أول من صلى مع جبريل [عليه السلام] (¬1) فكان تابعًا، وكان كل من بعده مصليًا. وهي في موضع الشرع واقعة على: دعاء مخصوص في أوقات محدودة تقترن بها أفعال مشروعة؛ من ركوع، وسجود، وقيام، وقعود، وهي من معالم الإِسلام، وعماد الدين، وهي من فروض الأعيان، وهي الصلوات الخمس. أوجبها الله تعالى على عباده، وذكر فرضها في غير ما [آية] (¬2) من كتابه العزيز: فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (¬3). وقال جل ذكره: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (¬4). وقال سبحانه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (¬5). وقال عليه السلام: "بُنِيَ الإِسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج بيت الله [الحرام] (¬6) من استطاع إليه سبيلًا" (¬7) [ق/ 9 ب]. ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) في أ: موضع. (¬3) سورة النور الآية (56). (¬4) سورة التوبة الآية (5). (¬5) سورة التوبة الآية (11). (¬6) سقط من ب. (¬7) أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16) من حديث عبد الله بن عمر.

فمن جحد وجوبها: فهو كافر حلال الدم، ويستتاب، فإن تاب وإلا قُتل، وكان قتله كفرًا, ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه ورثته المسلمون، وماله فَيء لجميع المسلمين. فإن أقرَّ بوجوبها وامتنع من فعلها، وقال: هي فريضة عليَّ غير أني لا أصلي: فإنه يستتاب بأنه يؤخر حتى يخرج وقتها، والمراعى هاهنا وقت الاضطرار، وغروب الشمس للظهر والعصر، وطلوع الفجر [ق/11 جـ] للمغرب والعشاء، هذا هو مشهور -المذهب- وذهب محمَّد بن [فويزمنداد] (¬1) إلى أن الوقت في ذلك: القامة في الظهر، والقامتان للعصر -وهو شذوذ من القول-. فإن مضى الوقت ولم يُصلّ: فإنه يُقْتل، وقتْلُه حَد من الحُدُود؛ يُصلَّى عليه، وَيَرِثه وَرَثَته المسلمون. هذا مذهب مالك والشافعي رضي الله عنهما. وشذ ابن حبيب عن الجماعة، فقال: إنه يُقتل كفرًا، واستدل على ذلك بظواهر [لا تقوم بها] (¬2) حجة. وهي تجب بأربعة شروط متفق عليها، وشرط خامس مختلف فيه: هل هو شرط [من شروط] (¬3) وجوب الصلاة أو شرط في صحة فعلها. فأما الأربعة المتفق عليها [فهي] (¬4): البلوغ، والعقل، ودخول الوقت، وارتفاع دم الحيض والنفاس. ¬

_ (¬1) في ب: مسلمة. (¬2) في أ: لا تكون. (¬3) في ب: في. (¬4) سقط من ب.

أما البلوغ والعقل: فالدليل على اعتبارهما: الحديث الذي خرَّجه الصحاح في إسقاط الحرج [عنهما بقوله عليه السلام] (¬1): "رفع القلم عن ثلاثة" (¬2)، فذكر المجنون حتى يفيق، والصبي حتى ["يحتلم" (¬3)] (¬4). ورَفْعُ القلم -هاهنا- عبارة عن رَفعْ المأثم. وأما ارتفاع دم الحيض والنفاس: فلا خلاف في المذهب أنهما يمنعان من وجوب الصلاة، وصحة فعلها؛ بل الإجماع منعقد على ذلك. وإنما وقع الخلاف بين العلماء هل هي مخاطبة في زمان الحيض مع استحالة إيقاع الفعل المخاطب به شرعًا، أو غير مخاطبة، وإنما وقع القضاء بخطاب جديد؛ فهذا على الخلاف (¬5). وأما الشرط الخامس المختلف فيه: هل هو شرط في الوجوب أو شرط في الصحة، فالإِسلام. وهذا يتخرج على الخلاف في الكفار: هل [هم] (¬6) مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ فمن قال: إنهم مخاطبون بالفروع (¬7): عدَّ ذلك الشرط من شروط ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) أخرجه أبو داود (4398)، والنسائي (3432)، وابن ماجة (2041)، وأحمد (24173)، والدارمي (2296) من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الشيخ الألباني: الإرواء (297). (¬3) في الأصل: يحتمل. (¬4) في أ: يحتمل. (¬5) تقدم بيان هذا في القول الثاني من الجواب عن الفصل الرابع من المسألة الثالثة عشر. (¬6) سقط من أ. (¬7) وهو مذهب مالك، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وهو رواية عن الإِمام أحمد، واختاره كثير من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وعامة أهل الحديث، وبعض الحنفية كالكارخي، والجصاص، وهو مذهب أكثر المعتزلة، وهو الصحيح.

الوجوب؛ لأنه وجب عليه أن يسلم ليصلي ويؤدي الفرض، كما وجب عليه إذا دخل الوقت أن يتوضأ ليؤدي الفرض. ومن قال: إنهم غير مخاطبين (¬1): [عدَّ ذلك الشرط من شروط] (¬2) الصحة؛ فكان لا يجب عليهم أن يسلموا ليصلوا، وإنما عليهم الإِسلام على الجملة. وفائدة ذلك وثمرته: هل يعاقبون في الآخرة عقاب من ترك [الأمرين جميعًا] (¬3) أم لا؟. فمن رأى أنهم مخاطبون [بفروع الشريعة] (¬4): قال [إنهم] (¬5) يعاقبون عقاب من ترك الإيمان وفروعه. ومن رأى أنهم غير مخاطبين: قال: إنهم يعاقبون عقاب من ترك الإيمان خاصة. ولا خلاف بين العلماء أنهم مخاطبون بالإيمان. وهذا يحرك سلسلة علم [الكلام] (¬6) ولنثني العنان [إلى] (¬7) ما نحن بسبيله، [والحمد لله وحده] (¬8). ... ¬

_ (¬1) وهو مذهب الإِمام أحمد في رواية عنه، وهو قول للإمام الشافعي، وهو مذهب ابن خويز منداد من المالكية، وهو اختيار أبي حامد الإسفراييني من الشافعية، وهو مذهب كثير من الحنفية، وثم هناك مذاهب أُخَرْ. انظر: غير مأمور في المهذب في علم أصول الفقه المقارن (1/ 346: 366) للدكتور عبد الكريم النملة، وهناك رسالة مستقلة بهذه المسألة من تصنيف الدكتور عبد الكريم النملة. (¬2) في ب: عدة من شرائط. (¬3) في أ: الأوامر. (¬4) زيادة من ب. (¬5) سقط من ب. (¬6) في أ: الكتاب. (¬7) في أ: على. (¬8) زيادة من جـ.

المسألة الثانية في الأوقات

المسألة الثانية في الأوقات وهو الشرط الرابع، ونعني بتسمية هذه الشروط: بشروط الوجوب وجوب الأداء، وإلا فالذِّمة عامرة حين وجد [شرط] (¬1) التكليف الذي هو: العقل. والأوقات: عبارة عن طلوع الشمس وغروبها، ودوران الفلك وحركاته. إلا أنها في الشريعة: عبارة عن حدود مخصوصة في أثناء النهار وأثناء الليل، ويُطَالب العبد بإيقاع العبادة -التي هي الصلاة- عند حصولها؛ فصار ذلك الحد عَلَمًا على توجه الخطاب على المكلَّف بأداء تلك العبادة، والسعي في أسبابها، والأخذ في [أهبتها] (¬2) التي لا تصح إلا بها. ولا خلاف بين الأمة أن الصلاة لا يجوز فعلها قبل الوقت، إلا خلاف شاذ؛ رُوِيَ عن ابن عباس، وما روى أيضًا عن بعض العلماء في [صلاة] (¬3) الجمعة. وذلك في ثلاث صلوات: الظهر، والمغرب، [وصلاة] (¬4) الصبح. فهذه [الثلاث صلوات] (¬5) التي انعقد الإجماع فيها أنها لا [تقدم] (¬6) ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: هيئتها. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من ب. (¬5) في ب: الثلاثة. (¬6) في ب: تقدمن.

على [وقتها] (¬1) بوجه ولا سبب. وما [عداها من الصلوات] (¬2) يصح تقديمها عن وقتها؛ وذلك في العصر والعشاء الآخرة على القول بالاشتراك، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله. فإذا ثبت ذلك، فالأوقات تنقسم [على] (¬3) خمسة أقسام: وقت إباحة، وتوسعة [ووقت اختيار، وفضيلة، ووقت عذر، ورخصة، ووقت تضييق وضرورة] (¬4) ووقت سنة أخذت حظًا من الفضيلة. فأما وقت الإباحة والتوسعة: فهو أن يصلي الصلاة في أول وقتها. ووقت اختيار وفضيلة: وهو أن يصلي قبل أن ينقضي الوقت المستحب الذي هو من أول وقت الإباحة إلى آخر القامة للظهر. وأما وقت عذر ورخصة: فهو أن يصلي الظهر في آخر وقتها المستحب، أو يعجل العصر في أول وقت الظهر المستحب الذي هو وقت الإباحة؛ وذلك في الجمع بين الصلاتين لمن يجوز له الجمع إما لعذر السَّفر، أو لعذر المرض أو لعُذر المَطَر. وأما وقت التضييق والضرورة: فهو أن يُؤخر الظهر والعصر إلى غروب الشمس، أو يؤخر المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر -إما اختيارًا وإما اضطرارًا-[على ما يأتي بيانه بفضل الله إن شاء الله تعالى] (¬5). ¬

_ (¬1) في ب: وقتهن. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: إلى. (¬4) ساقطة من الأصل. (¬5) سقط من ب.

وأما وقت سنة أخذت حظًا من الفضيلة: [فهو أن يجمع] (¬1) بين الصلاتين بعَرَفَة ومُزْدَلِفَة. فهذا بيانها على الجملة، ونحن نتكلم على تفصيلها، وتحصيلها وتنزيلها على أصولها بعون الله، وهو خير معين. فأول [ذلك] (¬2) صلاة الظهر: فتسمية الظهر: مأخوذ من الظهيرة، وهي شدة الحر، وأكثر ما يكون [عند] (¬3) الزّوال. وقيل: سميت بذلك لأنها [مأخوذة] (¬4) من الظُّهور؛ وكأنه وقت ظهور زوال الشمس عن [حال] (¬5) وُقُوفها في كَبِد السّماء. وقيل: سُمِّيت بذلك؛ لأن وقتها أظهر من [سائر] (¬6) الأوقات وأبينها. وتُسَمَّى أيضًا: الهجيرة، وقد جاء اسمها في الحديث (¬7) بذلك [مأخوذ] (¬8) من الهَاجِرَة؛ وهي شِدّة الحَر. [وتُسَمّى: الأولى] (¬9) أيضًا؛ لأنها [ق/ 18 أ] أول صلاة صلَّاها ¬

_ (¬1) في ب: فالجمع. (¬2) في أ: وقت. (¬3) في ب: عليه. (¬4) سقط من ب. (¬5) زيادة من ب. (¬6) سقط من أ. (¬7) وهو ما أخرجه البخاري (522) من حديث سيار بن سلامة قال: دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي المكتوبة؟ فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدهن الشمس .. ". (¬8) سقط من ب. (¬9) في ب: وسميت.

صلّاها جبريل عليه السلام بالنبي عليه السلام. [فأول] (¬1) وقت الظهر زوال الشمس عن كَبِد السّماء، وآخرها المستحب أن يصير ظِل كل شيء مثله بعد الظّل الذي زالت عليه الشمس. وأما صلاة العصر: [فقيل إنها تُسَمَّى العشاء؛ فقيل] (¬2): سميت بذلك؛ لأنها في آخر طرفي النهار، والعرب تسمى كل طرف من النهار عصرًا. وقيل: سُمِّيَت بذلك لتأخيرها. وأول وقتها: إذا صار ظِل كل شيء مثله [بَعْدَ ظِل الزّوال] (¬3). وآخر وقتها المستحب: أن يصير ظِل كل شيء مِثْلَيه. وآخر وقت الظهر والعصر، المختار: إلى الاصفرار. وآخر وقتها للضرورة: إلى غروب الشمس. فعلى هذا يكون للظهر والعصر ثلاثة أوقات، وهو الذي تضمنته ترجمة مالك في "الموطأ" في رواية يحيى بن يحيى حيث قال: وقت الصلاة، والوقوت من أبنية الكثرة؛ [من العشرة] (¬4) فصاعدًا. وإذا أثبتنا لكل صلاة ثلاثة أوقات: جاء من ذلك خمسة عشر وقتًا؛ [وهو ظاهر ترجمته ومقتضاها] (¬5) وهو مشهور المذهب في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: كالعشرة. (¬5) سقط من أ.

وعلى ما تقتضيه رواية ابن بكير في ترجمة موطئه: بباب أوقات الصلاة، يؤذن بأن الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح ليس لها إلا وقتان؛ لأن قوله: [أوقات] (¬1): يدل على التقليل؛ لأنه من أبنية القلة فيما دون العشرة. والمغرب: ليس لها إلا وقت واحد على هذا يتنزل. وأما على رواية ابن القاسم عن مالك في موطئه: فترجمته وقت الصلاة؛ فهي محتملة للمعنيين جميعًا؛ لأن الوقت مصدر، والمصدر [يصلح] (¬2) للقليل والكثير [ويقع عليه] (¬3). واختلف العلماء في الظهر والعصر: هل بينهما اشتراك؟ [فمشهور مذهب مالك أن بينهما اشتراكا] (¬4)، وبه قال أبو حنيفة، وظاهر قول [ابن حبيب] (¬5) نفى الاشتراك، وبه صرح القاضي أبو بكر ابن العربي -أعني نفى الاشتراك- فقال: تالله ما بينهما اشتراك، ولقد زمنت (¬6) فيه أقلام العلماء. فيحمل ما روى في الحديث من صلاة جبريل بالنبي عليه السلام الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى به العصر بالأمس على [أن معنى قوله] (¬7) صلى بمعنى [فرنح] (¬8)، وبه قال الشافعي: وهذا الذي قاله ¬

_ (¬1) في ب: أوقات الصلاة. (¬2) في أ: يقع على. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: أبي حنيفة. (¬6) يقال: رجل زَمِن، أي: مبتلى. مختار الصحاح (116). (¬7) سقط من أ. (¬8) في الأصل: فرع.

ظاهر في المعنى لولا ما ثبت من جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[بين] (¬1) الظهر، والعصر، والمغرب، [والعشاء] (¬2) في غزوته إلى تبوك. وقد قدمنا أن الصلاة قبل وقتها لا يجوز فعلها بالإجماع. وقد اتفقنا مع القاضي [أبي بكر بن العربي أدام الله كرامته] (¬3) -ونفع الله به- أنه يجوز تقديم العصر، والعشاء [الآخرة] (¬4) عن وقتها إلى [أول] (¬5) وقت الظهر أو المغرب تارة للمسافر إذا ارتحل من المنهل عند الزوال [أو] (¬6) عند الغروب، أو للمريض إذا خشى أن يغلب على عقله مع الاتفاق من الكل أنه لا يجوز له أن يقدم الظهر عن الزوال، وما ذلك إلا لوجود الاشتراك وصحته. ولذلك لم [يجمع] (¬7) النبي - صلى الله عليه وسلم -[في سفره] (¬8) بين المغرب والعصر، ولا بين العشاء والصبح؛ فصحَّ القول المختار بهذا الاعتبار وعلى القول بالاشتراك: هل يكون الاشتراك في أول دقيقة من الزوال، أو يكون الاشتراك في آخر الغروب، أو يختص الظهر [بمقدار] (¬9) أربع ركعات [للحاضر] (¬10) وركعتين للمسافر عند الزوال لم يشاركها فيه العصر، [فكذلك يختص العصر بهذا المقدار في آخر الوقت لم تشاركها فيه ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: و. (¬7) زيادة ليست بالأصل. (¬8) سقط من أ. (¬9) سقط من أ. (¬10) في الأصل: للحائض.

الظهر] (¬1). وفائدة هذا وثمرته: إذا قدم العصر على الظهر بمعنى أوجب ذلك كالحائض تطهر وقد بقى من النهار قدر ما تصلي فيه أربع ركعات على غالب ظنها، فصلّت العصر ثم بقى لها من الوقت قدر ما تصلي فيه ركعة أخرى، فإنها تصلى الظهر، [فإن] (¬2) قلنا بالاشتراك في أول الزوال: فلا تعيد العصر، وإن كانت قد صلتها في وقت الظهر؛ لأنَّ ذلك القدر [من الوقت] (¬3) وقع فيه الاشتراك، فصار الظهر مستحقًا له من باب الترتيب خاصة، حتى إذا طرأ ما يُسْقِط حكم الترتيب: سَقَطَ حُكم الاستحقاق؛ فصارت صلاة العصر قد أديت في وقتها بالاختصاص. وإن قلنا: كل واحدة من الصلاتين تختص بمقدار أربع ركعات للحاضر أو ركعتين للمسافر: فلابد مِنْ أَنْ يُعِيد العصر في مسألتنا؛ [لأنها صلتها] (¬4) آخر وقت الظهر. واختلف القائلون بالاشتراك: هل الظهر مشاركة للعصر في ابتداء القامة الثانية، أو العصر مشاركة للظهر في آخر القامة الأولى، أم لا؟ على قولين، والذي اختاره مشايخ أهل المذهب: أن العصر هي المشاركة للظهر في آخر القامة الأولى، واستدلوا على صحة هذا القول بإمامة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى به في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر بالأمس، حتى لو أن رجلين ابتدءا الصلاة في تلك الساعة؛ أحدهما: يصلي الظهر، والآخر: يصلي العصر: لكان كل واحد منهما ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: فإذا. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: لأنه صلاها.

مؤديًا للصلاة في أول وقتها. فهذا حقيقة الاشتراك. [وأما] (¬1) صلاة المغرب: وهي [تُسَمَّى] (¬2) صلاة الشَّاهد [ق/ 12جـ] أيضًا سُمِّيَت بذلك؛ لأنَّ المُسافر لا يقصرها. وقيل: سُمِّيت بذلك؛ لأن نَجْمًا يُسَمِّي الشّاهد يَطْلع عند وقتها. ولا يقال لها: العشاء لا لُغة ولا شَرعًا. وقد جاء في الحديث الصحيح (¬3) النهي عن تسميتها عِشَاء. وأول وقتها: [عند] (¬4) غروب الشمس. والمراد بالغروب: غروب عينها وقُرصها لا ذهاب الضوء. ولا يجوز تقديمها عن ذلك الوقت بالإجماع. ولا خلاف بين العلماء أيضًا أن تقديمها [في] (¬5) أول وقتها في حق كل مصل -فَذًا أو مأمومًا- أفضل وأحسن. واختلف هل يَمْتَد وقتها حتى يكون لها وقت [الاختيار] (¬6) أم لا؟ فالمذهب على قولين؛ والمشهور: أن لها وقت الاختيار، وهو ظاهر قول مالك في "الموطأ" (¬7) و"المدونة" (¬8). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في الأصل: تصلي. (¬3) وهو ما رواه عبد الله بن مغفل المزني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب قال الأعراب وتقول هي العشاء". أخرجه البخاري (538) باب: من كره أن يقال للمغرب العشاء. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: الخيار. (¬7) في كتاب وقوت الصلاة. (¬8) المدونة (1/ 43).

قال مالك: الشفق: العمرة التي تكون في المغرب، فإذا ذهبت العمرة فقد حلَّت صلاة العشاء، وخرجت من وقت المغرب، فجعل وقتها يمتد إلى مغيب الشفق. وأما ما يؤخذ من ظاهر "المدونة" في غير ما موضع [من ذلك] (¬1) قوله في ["كتاب] (¬2) الوضوء": من خرج من قرية يريد قرية أخرى, وهو غير مسافر، وهو فيما بين القريتين على غير وضوء، قال: فإن طمع بإدراك الماء قبل مغيب الشفق، وإلا تيمم وصلى، فأمر له بطلب الماء إلى مغيب الشفق، وهو آخر الوقت. ومن ذلك قوله في "كتاب الجنائز": إن الجنازة لا يصلي عليها بعد الاصفرار، وينتظر بها إلى غروب الشمس، فإذا غربت الشمس: بدؤوا بما أحبوا من صلاة المغرب والجنازة. فهذا الظاهر يكاد أن يكون نصًا في امتداد وقتها. وكذلك أيضًا قوله في كتاب الحج: فيما إذا طاف بعد العصر يؤخر [ركعتي] (¬3) الطواف [إلى] (¬4) (¬5) [غروب الشمس، فإذا غربت الشمس فهو مخير إن شاء بدأ بالغرب، وإن شاء بركعتي الطواف] (¬6). وفي المدونة ظواهر كثيرة غير ما ذكرناه أضربنا عن ذكرها لتسلط التأويل عليها واحتمالها؛ [فاقتصرنا] (¬7) على نقل الظواهر التي في معنى النص. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ: ركعتين. (¬4) في أ: أو. (¬5) في الأصل: أو. (¬6) سقط من أ. (¬7) في الأصل: اختصرنا.

وقيل: إن وقتها وقت واحد غير مُمْتَد، وحدُّه الفراغ منها، وهذا قول أبي محمَّد عبد الوهاب في "التلقين"، وهو قول منصوص في المذهب. ولا يجوز تأخيرها عن أول وقتها إلا لعذر [مثل الجمع لعذر] (¬1) السفر، أو المطر، أو المرض. وفي المذهب قول ثالث: أنها لا تُؤَخّر عن وقتها [لا] (¬2) لعذر ولا لغيره؛ ولأنه إن كان عذر يوجب الجمع، فإن العشاء تُقَدّم إلى المغرب [ويكون الجمع] (¬3) في أول وقتها. وفائدة قولنا: إن لها وقت الاختيار: أنه يجوز تأخيرها إلى مغيب الشفق اختيارًا من غير عذر. وأما صلاة العشاء: فإنها سميت بذلك من الظلام. والعِشاء: بكسر العين ممدود، [وهو] (¬4) أول وقت الظلام، وهو اسمها في القرآن (¬5)، وجاء اسمها في الحديث: "لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا" (¬6). وجاء النهي [أيضًا] (¬7) عن تسميتها عتمة (¬8)، وسميت بذلك: من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في الأصل: إلا. (¬3) في أ: وتكون. (¬4) سقط من ب. (¬5) سورة النور الآية (58). (¬6) أخرجه البخاري (590)، ومسلم (437). (¬7) سقط من أ. (¬8) تقدم.

عتمة الليل؛ وهو ثلثه. وأصلها تأخيرها؛ يقال: عتم القوم إذا صاروا حينئذ، والعتمة الإبطاء؛ فهذا نقل القاضي أبي الفضل رحمه الله والعهدة عليه. وأول وقتها المستحب: مغيب الشفق. واختلف في الشفق، ما هو؟ فقال مالك: وهو الحمرة، وقال أبو حنيفة: البياض، وهذا أحد أقاويل ابن القاسم. وسبب الخلاف: هل الحكم يتعلق بأوائل الأسماء، أو [بأواخرها] (¬1)؟ واختلف المذهب في تأخيرها عن أول وقتها: هل ذلك مباح أو مندوب إليه [للجماعة] (¬2)؟ فقيل: هي كالظهر في جواز التأخير، وقيل: هي آكد من الظهر في التأخير؛ لقوله [عليه السلام] (¬3): "ما أظن أحدًا ينتظرها غيركم" (¬4). وأما آخر وقتها: فاختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: [إلى] (¬5) ثلث الليل. والثاني: [إلى] (¬6) نصف الليل. ويتخرج في المذهب قول ثالث: [أنها لا تبلغ] (¬7) بالتأخير إلى ثلث ¬

_ (¬1) في ب: بآخرها. (¬2) في أ: الجماعة. (¬3) في ب: صلى الله عليه وسلم. (¬4) أخرجه البخاري (541)، ومسلم (638). (¬5) سقط من ب. (¬6) سقط من ب. (¬7) في أ: أنه لا يبلغ.

الليل، وهو ظاهر قول مالك في "المدونة" في أول كتاب الصلاة ["الأول" (¬1)] (¬2). سئل مالك عن أهل [الحرس] (¬3) في الرباط يؤخرون العشاء إلى ثلث الليل؟ فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا؛ فقال: قد صلى الناس قديمًا [وعُرِفَ] (¬4) وقت الصلاة. وسبب الخلاف: تعارض الآثار وتجاذب الاعتبار؛ فمن ذلك إمامة جبريل [عليه السلام] (¬5) للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى في اليوم الأول في ثلث الليل، ويعارضه ما خرَّجه البخاري من طريق أنس بن مالك: أنه أخر صلاة العشاء إلى ثلث [ق/ 19 أ] الليل. وروى أيضًا من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل" (¬6). وحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[أعتم ليلة بالعشاء وذلك قبل أن يفشو الإِسلام، فلم يخرج] (¬7) حتى ناداه عمر: الصلاة؛ نام [النساء] (¬8) والصبيان، فخرج فقال: "ما ينتظرها [أحد] (¬9) من ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 56). (¬2) سقط من ب. (¬3) في الأصل: الحرص. (¬4) في جـ: وعرفوا. (¬5) سقط من ب. (¬6) أخرجه الترمذي (167)، وابن ماجة (691)، وأحمد (7364). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬7) ساقطة من الأصل. (¬8) في ب: الناس. (¬9) سقط من أ.

أهل الأرض غيركم"، قال: ولا [يصلي يومئذ] (¬1) إلا بالمدينة، وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثُلث الليل (¬2). ولهذا أنكر مالك القصد بتأخيرها إلى ثلث الليل؛ لأن ذلك ليس بعادة القوم على الدوام. فمن رَجّح حديث أنس بن مالك قال: تؤخر عن ثلث الليل إلى نصفه، ومن رجّح حديث إمامة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تؤخر عن ثلث الليل إلى نصفه. ويؤيد هذا الترجيح: قول عمر رضي الله عنه فإن أخرت فإلى شطر الليل، ولا تكن من الغافلين (¬3)، فالتأخير إلى شطر الليل. ومعنى قوله: فإن أخرت فإلى شطر الليل: يعني أخرت لضرورة مانعة [للصلاة] (¬4) في الوقت المتقدم، فصل ما بينك وبين شطر الليل، ولا تكن من الغافلين بإعماد التأخير إلى شطر الليل، فتكون من الغافلين. وقيل: إن معنى قوله بتأخيرها عن نصف الليل. وهذا التأويل حكى عن أبي [عمران] (¬5) الإشبيلي رحمه الله والتأويل الآخر: [يؤيد] (¬6) ترجيح من رجح حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما. وأما آخر وقتها [الاضطراري] (¬7): فهو طلوع الفجر. ¬

_ (¬1) في الأصل: تصلي بريد. (¬2) أخرجه البخاري (544). (¬3) أخرجه مالك في الموطأ (8). (¬4) في ب: من الصلاة. (¬5) في أ: عمرو. (¬6) في أ: يريد. (¬7) في الأصل: الاضطرار.

والمشاركة بين المغرب والعشاء كما هي بين الظهر والعصر، وهل يقع الاختصاص لأحدهما ببعض الوقت أم لا؟ فالخلاف الذي قدمناه يجري في الجميع. وأما صلاة الصبح: فإنها سُميت بذلك [لأنها] (¬1) من أول النهار، وهو للصبح والصباح. وقيل: من الحُمرة التي فيه عند ظهورها، [وبها سُمي الصبح] (¬2). وقال ابن فارس: ويقال: إن [صباحة] (¬3) الوجه إنما سُميت بحمرته، والصبح: الحمرة. [وتسمى] (¬4) أيضًا: صلاة الفجر؛ وهو الضياء المعترض في الأفق من نور الشمس أول النهار؛ ويسمى بذلك لتفجره وانتشاره. والفجر فجران؛ الأول منهما: [أبيض] (¬5) مستدير مستطيل [صاعد إلى] (¬6) الأفق، وهو [الفجر] (¬7) الكاذب [وهو الشبه بذنب السرحان، وسُمِيَ بذلك لوقته، والسرحان: الذئب، فهذا لا حكم له في الصوم والصلاة] (¬8). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ: صاحبة. (¬4) في أ: وسمى. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: في. (¬7) سقط من ب. (¬8) سقط من أ.

[والثاني] (¬1): الأبيض الساطع؛ وهو الصادق و [هو] (¬2) المستطيل -أي: المنتشر - وهو الذاهب في الأفق [عرضًا] (¬3) حتى يعم الأفق، وتعقبه الحمرة، وهذا هو الفجر الذي يتعلق به حكم الصلاة عند جميع الأمة، وحكم الصوم عندنا، وعند أكثر الفقهاء. واختلف هل يمتد إلى [الإسفار] (¬4) أو إلى طلوع الشمس؟ على قولين: أحدهما: أنه يمتد إلى [الإسفار] (¬5) الأعلى، وهو قول مالك في "المختصر"، وهو ظاهر قوله في "المدونة" (¬6). والثاني: أن وقته يمتد إلى طلوع الشمس، وهو قول ابن حبيب (¬7). [فمن] (¬8) قال: إن وقت المختار إلى الإسفرار جعل للصبح وقتًا للاضطرار؛ وهو ما بين الإسفار وطلوع الشمس. ومن قال إلى الطلوع: لم يَرَ له وقتًا للاضطرار. وسبب الخلاف: معارضة الأخبار؛ [فمنها] (¬9) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وقت الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس" (¬10). ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: عارضًا. (¬4) في أ: الإصفرار. (¬5) في أ: الإسفرار. (¬6) المدونة (1/ 56). (¬7) النوادر (1/ 153). (¬8) في أ: ومن. (¬9) في أ: منها. (¬10) أخرجه مسلم (612).

وهذا حديث صحيح خرَّجه البخاري ومسلم. ومنها: ما خرجه مالك في "الموطأ" (¬1) عن عطاء بن يسار أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن وقت صلاة الصبح .. الحديث,. فقال: "ما بين هذين وقت". ومنها: حديث ابن عباس [رضي الله عنه] (¬2) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّني جبريل عليه السلام عند البيت، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس .. " الحديث (¬3) [إلى أن] (¬4) قال: "وصلى بي الفجر فأسفر". وحديث ابن عباس، وحديث عطاء يؤذنان بأن الصبح [لها] (¬5) وقت الاضطرار. وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص يؤذن بنفيه؛ لأن وقت الاختيار يمتد إلى طلوع الشمس أو قربه؛ لأنه قال في [حديث] (¬6) أبي هريرة: "ثم صلى الصبح من الغد ثم انصرف، وقائل يقول طلعت الشمس". واختلف [أيضًا] (¬7) هل التغليس بالصبح أفضل [أو] (¬8) الإسفار [به أفضل] (¬9)؟ فذهب مالك والشافعي إلى أن التغليس بالصبح أفضل، وذهب أبو ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (3) مرسلًا. (¬2) سقط من ب. (¬3) أخرجه أبو داود (393)، والترمذي (149). (¬4) سقط من ب. (¬5) في ب: له. (¬6) في ب: الحديث من طريق. (¬7) زيادة من ب. (¬8) في الأصل: و. (¬9) سقط من ب.

حنيفة إلى أن الإسفار [به] (¬1) أفضل. وسبب الخلاف: معارضة الأخبار؛ منها حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [إن] (¬2) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي الصبح، فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس (¬3). وقولها إن كان يشعر بالتكرار، ولا يطلق مثل هذا اللفظ إلا على ما تكرر وقوعه كثيرًا. وعارضه أبو حنيفة بقوله [أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر، وفي رواية: "أخروا"، وأما قوله] (¬4) - صلى الله عليه وسلم - حين سُئِلَ: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الصلاة لأول وقتها" (¬5). فذهب الفقهاء في هذه الأخبار مذهب الترجيح. والإسفار: هو الكشف والبيان، فكأن الصبح كشف عن [خبر] (¬6) النهار بالضياء، وذلك الضياء من مقدمات طلوع الشمس. ولذلك يكون عند طلوع الفجر بيان ساطع، ثم تليها الحمرة، ثم يملؤها البياض الكلي الذي يليه طلوع الشمس؛ فيسمى ذلك الإسفار. ومنه سُمى السَّفر سَفَرًا؛ لأنه يُسْفِرُ عن أخلاق الرِّجال حتى تظهر الأخلاق الكامنة [ق/ 10 ب] فيهم لما فيه من المشقة وضيق الظعن حتى ترى من كان موسومًا بحسن الصحبة، وجميل المعاشرة في الحضر ظهر منه ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) سقط من ب. (¬3) أخرجه البخاري (553)، ومسلم (645). (¬4) سقط من أ. (¬5) أخرجه البخاري (7096)، ومسلم (85) من حديث ابن مسعود. (¬6) في أ: دبر.

الأخلاق الذميمة، والأنفاس الوخيمة في السفر. ولهذا قال عمر [بن الخطاب] (¬1) رضي الله عنه للذي عدَّل الشاهد: هل سافرت معه؟ ولا خلاف [عندنا] (¬2) في المذهب أنه لا يجوز [ق/ 13 جـ] تأخير الصلاة عن وقتها المختار إلى وقت الاضطرار إلا لعذر؛ لقوله [عليه السلام] (¬3): "تلك صلاة المنافقين .. " الحديث. إلى قوله: "لا يذكر الله فيها إلا قليلًا" (¬4). إلا أنه إذا صلاها في تلك الساعة، أو أدرك منها ركعة قبل الغروب ثم صلى ما بقى بعد الغروب: فلا خلاف عندنا في المذهب أنه مأثوم، [ولا استحالة في ذلك] (¬5)؛ لأنه صار بقوله عليه السلام: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر" (¬6) مؤديًا. وفائدة الإدراك: أن يكون مؤديًا لا قاضيًا، ويكون مأثومًا بسبب التضييع [والتفريط] (¬7) [فشبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بالمنافقين، والذي قدمناه كله في أوقات الاستحباب والاختيار] (¬8). فأما [أوقات] (¬9) الاضطرار: [فهي لخمسة] (¬10). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: صلى الله عليه وسلم. (¬4) أخرجه مسلم (622) من حديث أنس. (¬5) سقط من ب. (¬6) أخرجه البخاري (554)، ومسلم (608) من حديث أبي هريرة. (¬7) في أ: الاختيار. (¬8) سقط من أ. (¬9) في أ: وقت. (¬10) في ب: أوقات الاضطرار خمسة.

[المرأة] (¬1): تحيض أو تطهر] (¬2). والصبي: يحتلم، والكافر: يسلم، والمجنون: يفيق، والمسافر: يَخْرج أو يَقْدم. ومن أصحابنا من [يَعُد] (¬3) النائم، وذلك خطأ؛ لأن النائم حاله لا يختلف في صلاته سواء صلاها في الوقت أو بعده بخلاف المسافر؛ فإن صفات صلاته مختلفة باختلاف حالاته، وبخلاف الحائض أيضًا؛ لأن الحائض مخاطبة بما أدركت [وقته] (¬4) من الصلوات. والنائم مخاطب بها في كل زمان أداءً وقضاءً، والناسي كذلك أيضًا. وأما الحائض: [فيعتبر] (¬5) فيها حالة [الطهر] (¬6)، وحالة الحيض؛ فإن حاضت في النهار، وقد بقى فيه [قدر] (¬7) ما تصلى فيه ركعة إلى أربع [ركعات] (¬8) ولم تصل العصر: فإنها لا قضاء عليها [في العصر] (¬9)؛ لأنها حاضت في [وقتها] (¬10). وإن حاضت بمقدار خمس ركعات: فلا قضاء عليها للظهر ولا للعصر؛ لأنها حاضت في وقتيهما، وسقط عنها الخطاب بأدائهما؛ فإذا سقط الخطاب بالأداء سقط القضاء [به] (¬11)؛ بدليل قول عائشة [رضي ¬

_ (¬1) في أ: الحائض. (¬2) في ب: الطاهر تحيض أو الحائض تطهر. (¬3) في ب: عد. (¬4) في أ: وقتها. (¬5) في ب: فإنه يعتبر. (¬6) في أ: الظهور. (¬7) سقط من ب. (¬8) سقط من ب. (¬9) في ب: للعصر. (¬10) في ب: وقته. (¬11) زيادة من ب.

الله عنها] (¬1) كنا نؤمر بقضاء [الصيام] (¬2)، ولا نؤمر بقضاء الصلاة (¬3). وأعتبار أربع ركعات في العصر إذا كانت الحائض في الحضر، ولو كانت مسافرة: لاعتبر ركعتين ركعتين -كما يأت في بابه إن شاء الله-. وهكذا إذا حاضت في الليل، وقد بقى من الليل قدر ما تصلي في خمس ركعات، ولم تصل المغرب والعشاء. ولا خلاف في المذهب في سقوطها [عنها] (¬4)؛ لأن الركعة الخامسة هي من صلاة المغرب. ولو بَقِيَ من اللَّيل قَدْر ما تُصلي فيه ركعة إلى ثلاث: فإن العشاء ساقطة عنها، وتقضي المغرب بالاتفاق. وإن حاضت، وقد بقى من الليل قدر أربع ركعات: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المغرب والعشاء ساقطة عنها، وهو قول ابن القاسم؛ لأن الثلاث ركعات للمغرب، وبقيت ركعة للعشاء، فقد حاضت في وقتيهما جميعًا. والثاني: أنه لا يسقط [عنها] (¬5) إلا العشاء، وعليها قضاء المغرب، وهو قول عبد الملك؛ لأن أربع ركعات وقت للعشاء، ووقت المغرب قد خَرَج؛ فوجب عليها قضاؤها. وسبب الخلاف: [أواخر] (¬6) الأوقات، هل هي لأوائل الصلوات أم ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: الصوم. (¬3) تقدم. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من ب. (¬6) في أ: أوائل.

لأواخرها؟ فمن جعل أواخر الأوقات لأواخر الصلوات: قال تقضي المغرب، وهو الذي يقتضيه النظر والأثر. ومن جعلها لأوائل الصلوات: قال يسقط المغرب والعشاء؛ لأنها حاضت في وقتيهما. وهذا إذا كانت حاضرة. ولو كانت مسافرة فحاضت لثلاث ركعات بقين من الليل، فإنها تتخرج على الخلاف الذي قدمناه؛ فعلى قول عبد الملك: سقط عنها المغرب والعشاء؛ لأنها [ق/ 20 أ] إذا صلّت العشاء ركعتين بقيت ركعة للمغرب. وعلى قول ابن القاسم: تقضي المغرب؛ لأنها لو ابتدأت بالغرب لم يبق [للعشاء] (¬1) شيء، فصار الوقت، وإن فَضَلت منه ركعة [كله للعشاء [وبَقِيَ] (¬2) حكم الرّكعة. وإلى هذا المعنى أشار التونسي رحمه الله] (¬3) واختلف إذا بقى [من النهار قدر] (¬4) ركعة، ولم تصل العصر، فقامت فَصَلّت ركعة، فغربت الشمس، ثم حاضت في الركعة الثانية هل تقضي العصر أم لا؟ [فالمذهب] (¬5) على قولين: أحدهما: أن عليها قضاء [العصر] (¬6)؛ لأنها حاضت بعد خروج ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: وألغى. (¬3) سقط من ب. (¬4) في أ: منها. (¬5) سقط من ب. (¬6) في أ: المغرب.

وقتها. والثاني: أنه لا قضاء عليها؛ لأنها [إذا أدركت منها] (¬1) ركعة كانت كالمُدْركة لجميعها؛ لقول [النبي] (¬2) - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" (¬3). وقد اتفق المذهب أنه ليس بِقَاضٍ، وإن صلى بقيتها بعد [غروب الشمس] (¬4). وسبب الخلاف: هل العِبْرة [بالعِبَر والمَعَانِي] (¬5)، أو العِبْرة بالصّور والمبَانِي؟ فمن رأى أن [الاعتبار بالعبر والمعاني] (¬6) قال: لا [قضاء] عليها (¬7)؛ لأن حكم ما أدركت من الصلاة بعد الغروب كحكم ما أدركت قبل الغروب؛ فكأنه صلى الجميع قبل الغروب لكون الشارع سماه مُدْرِكًا؛ ولأن الصلاة لما كان آخره مُرْتَبطًا بأولها، وأولها مُرْتَبِطًا بآخرها: صار حكمها واحدًا، ما صلى قَبْل وما صلى بَعْد [سواء] (¬8). ومن اعتبر [الصور والمباني] (¬9) قال: إنها تقضي؛ لأنها حاضت في زمان الليل بعد إدبار النهار، ووقت صلاة النهار غاية امتدادها إلى غروب ¬

_ (¬1) في ب: بإدراك. (¬2) سقط من ب. (¬3) تقدم. (¬4) في ب: خروج وقتها. (¬5) في ب، جـ: بالمعاني. (¬6) في ب، جـ: العبرة بالمعنى. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من ب. (¬9) في ب: الصورة والمبنى.

الشمس، وكون الشارع جعل الذي أدرك ركعة قبل الغروب مدرك لجميع الصلاة، فإن صلى بقيتها بعد الغروب لا يجعل جزءا من الليل وقتا للعصر أصلًا، وإنما ذلك تَفَضّل من الله عزّ وجلّ ونعمة ولُطفٌ بعباده ورحمة. ولو [حاضت] (¬1) لثلاث ركعات من الليل، ولم تُصَل المغرب والعشاء لم تقضهما؛ لأنها حاضت في وقتهما؛ ولأن الركعتين للعشاء، وبقى للمغرب ركعة. ولو حاضت بعد أن صَلت ركعة بسجدتيها من الغرب: لم تقض إلا المغرب؛ لأنها حاضت، ولم يبق في الليل إلا قدر [ركعتين] (¬2). ولو حاضت وقد بقى [من النهار] (¬3) قدر ركعة ناسية للظهر، وقد صلت العصر: قال: لا تقضي الظهر؛ لأنها حاضت في وقتها، وبه قال ابن القاسم، ومُطَرِّف وأَصْبَغ، وقال [عبد الملك] (¬4): تقضي الظهر والوقت للعصر. [وهذا] (¬5) يَتَخَرّج على [الاختلاف] (¬6) في الاشتراك هل يقع بين الظهر والعصر أم لا؟ وكذلك إذا صَلَّت العصر، ونَسِيَت الظهر ثم حاضت لمقدار أربع ركعات: ¬

_ (¬1) في أ: سافرت. (¬2) في أ: ركعة. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: ابن الماجشون. (¬5) سقط من ب. (¬6) في ب: الخلاف.

فقيل: تقضي [الظهر] (¬1)؛ لأن هذه الأربع ركعات إنما هي وقت للعصر، وقد خرج وقت الظهر فعليها قضاؤها. وقيل: لا تقضي الظهر؛ لأن هذا الوقت وقتها، والعصر لما [صلتها وهي ناسية للظهر، فكأنها صلتها في وقتها] (¬2)، وهذا مبنى على هذا الأصل، وبالله التوفيق. وأما الحائض تطهر، والصبي يحتلم، والكافر يسلم: [فهل] (¬3) يعتبر ما يبقى في النهار أو [في] (¬4) الليل. ولا خلاف في الحائض أن المعتبر ما بقى بعد فراغها من الغسل [مجتهدة من غير توانٍ، فإن بقى بعد فراغها من الغسل] (¬5) مقدار ركعة إلى أربع، فإنها تصلي العصر. وإن كان إلى خمس: فإنها تصلي الظهر والعصر؛ لأنها طهرت في وقتيهما [جميعًا] (¬6). وينبغي أن يكون الصبي يحتلم، والمغمى عليه يفيق كذلك؛ لأن المعتبر ما بقى بعد الفراغ من الغسل. واختلف في النصراني يُسْلِم: هل هو كالحائض أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنهما سواء، وأن المعتبر في الجميع وقت الفراغ من الوضوء ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: صلاها وهو ناس للظهر، فكأنه صلاها في وقته. (¬3) في أ: فإنه. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) زيادة من ب.

أو [من] (¬1) الغُسل. والثاني: أن الكافر يُسْلِم، والمُغْمَى عليه يفيق: أن المعتبر ما بقى [في] (¬2) النهار -بعد الإفاقة والإِسلام، وهو قول عبد الملك [بن الماجشون وغيره] (¬3). وسبب الخلاف: الكفار هل هم مخاطبون بفروع الشريعة أم لا (¬4)؟. فمن رأى أنهم مخاطبون بالفروع يقول: إن المعتبر ما بقى من النهار بعد الإِسلام؛ لأنه مُتَعَد في ترك الصلاة، ولكونه قادرًا على رفع المانع [وزواله] (¬5)، الذي هو الكفر. ومن رأى أنهم غير مخاطبين [يقول] (¬6): هو [كالحائض] (¬7)، وهو معذور في تركها. وأما المغمى عليه: فالذي يقتضيه النظر أن يكون كالحائض، والصبي؛ لأنه مغلوب ومعذور؛ فإن بقى [في] (¬8) النهار قدر ركعة إلى أربع: سقط الظهر في حق الجميع. وإن بقى قدر خمس ركعات فأكثر: لزمه الظهر، والعصر في حق الجميع. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: من. (¬3) سقط من ب. (¬4) تقدم الجواب على هذا. (¬5) سقط من ب. (¬6) في ب: قال. (¬7) في أ: كالحيض. (¬8) في ب: من.

بَيْدَ أن عبد الملك فَرّق بين الإغماء [الكثير، والإغماء القليل] (¬1)، فقال: إن كان الإغماء يتصل بالمرض قبله أو بعده، فهذا [الذي] (¬2) لا يقضي الصلاة. [فأما] (¬3) الذي يغمى عليه [أمدًا] (¬4) يسيرًا من الفجر إلى طلوع الشمس وهو صحيح: فهذا الذي يقضي الصلاة. وهذا الذي ذهب إليه عبد الملك مخالف لأثر ابن عمر رضي الله عنه أنه أغمى عليه، ولم يقض الصلاة، ولم يذكر أنه اتصل بالمرض لا قبل ولا بعد. فإذا قلنا أن المعتبر ما بقى بعد الفراغ في الحائض على الاتفاق، وفي النصراني [يسلم] (¬5) على الخلاف. فإن [توانوا] (¬6) في الغسل، أو الوضوء أو فرطوا فيه حتى غربت الشمس أو طلعت: [فإنهم يقضون كلهم] (¬7). واختلف [فيهم] (¬8) إذا [أحدثوا] (¬9) وعلموا قبل الصلاة أن الماء الذي كان به الطهر أو الوضوء نجس, ولم يتغير: على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعتبر ما بقي من النهار بعد الطهارة أو الوضوء الأول، ¬

_ (¬1) في أ: والمرض. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: وأما. (¬4) في جـ: زمانًا. (¬5) في ب: إذا أسلم. (¬6) في ب: توانى. (¬7) في أ: فإنها تقضي أبدًا، وكذلك سائر أصحابها. (¬8) سقط من ب. (¬9) في أ: حدثوا.

وهي رواية ابن سحنون [عن] (¬1) أبيه، مساواة بين الماء النجس والحدث؛ لأن الماء لا تجزئ به الصلاة إن خرج الوقت. والقول الثاني: أنه لا شيء عليها في القياس في نجاسة الماء والحدث، وهي رواية [أبي] (¬2) زيد بن أبي العمر عن ابن القاسم. والثالث: التفصيل بين الحدث والماء النجس؛ فيقضوا في الحدث ما وجب عليهم قبل الحدث. وأما الماء النجس: فيعملوا على ما بقى بعد الغسل والوضوء في المرة الثانية، وهو قول ابن القاسم في "المستخرجة". وسبب الخلاف: هل يغلب عليها شائبة التفريط، فتعيد أبدًا، أو تكون معذورة، فيعتبر من حين فرغت من الغسل الثاني؟ وأما الحدث: إن يغلب عليه أو يتعمده، فإنه يعيد أبدًا. فإن غلب عليه الحدث: فالذي يقتضيه النظر أن يعيد أبدًا، وإن كان ابن القاسم في رواية أبي زيد عنه يقول: القياس ألا شيء [عليه] (¬3) بل القياس والله أعلم أن الحدث يعيد منه أبدًا؛ لأنه حين توضأ وجبت [عليه] (¬4) الصلاة؛ لأنه أدرك وقتها، ثم إن أحدث بعد ذلك صار كغيره ممن لم يتقدم له عذر، وربك أعلم. ولو قدرت بعد طهرها خمس ركعات، فلما صلَّت الظهر غربت الشمس: فلتصل العصر. ¬

_ (¬1) في أ: و. (¬2) في الأصل: ابن أبي. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

ولو قدرت أربعًا فصلت العصر، ثم بقى من النهار [قدر ركعة] (¬1) فلتصل الظهر فقط، إلا أن يبقى من النهار بعدها ركعة فأكثر: فَلْتُعِد العصر، وهذا قول مالك في "المجموعة"؛ [وقيل] (¬2): إنها تصلي [الظهر والعصر] (¬3) كما وجب عليها، وذكره ابن حبيب عن مالك (¬4). وهذا يتخرج على الخلاف في الاشتراك، وقد [ق/ 14 جـ] قدمناه. وفي المسألة قول ثالث بالتفصيل بين أن تعلم قبل أن تُسَلِّم من العصر أنه يبقى ركعة أم لا؟ فإن عَلِمَت أعادت العصر، وإن لم تعلم لم تُعِد العصر. وسبب الخلاف: من ذكر صلاة في صلاة هل [يُعيد] (¬5) التي هو فيها أم لا؟ فإذا طهرت الحائض، وقد بقى من الليل قدر خمس ركعات [فلا] (¬6) خلاف في أنها تصلي الصلاتين جميعًا المغرب والعشاء؛ لأن الأربع ركعات للعشاء، وبقيت منها ركعة للمغرب، وإن شئت [قلت] (¬7) فالثلاث ركعات للمغرب، وبقى للعشاء [ركعة] (¬8). وإن بقى بعد طهرها قدر ما تصلي فيه ركعة إلى ثلاث ركعات: فإنها ¬

_ (¬1) في أ: بقية. (¬2) في أ: فقيل. (¬3) سقط من أ. (¬4) النوادر (1/ 271: 273). (¬5) في ب: تبطل. (¬6) في أ: لا. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: ركعتان.

تصلي العشاء، وتسقط المغرب؛ لأنها لم تدرك من وقتها شيئًا. فإن طَهرت وقد بقى من الليل قدر ما تصلي فيه أربع ركعات، فهل تصلي المغرب والعشاء أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تصلي الصلاتين [جميعًا المغرب والعشاء] (¬1) وهو قول ابن القاسم (¬2)؛ لأنا إذا جعلنا الثلاث ركعات للمغرب بقيت ركعة للعشاء. والثاني: أنها تصلي العشاء وتسقط المغرب، وهو قول عبد الملك (¬3). وسبب الخلاف: هل أواخر الأوقات لأواخر الصلوات أو لأوائلها. وحُكم الصبي [يحتلم] (¬4) والمُغْمَى عليه يَفِيق، والكافر يُسْلم كحكم الحائض في جميع ما ذكرنا. وأما المسافر يَخْرُج أو يَقْدُم؛ فإن خرج وقد بقى من النهار قدر [ركعة أو ركعتين، ولم يصل الظهر والعصر، فإنه يصلي الظهر حضرية والعصر سفرية، ولو بقى من النهار قدر] (¬5) ثلاث ركعات: فإنه يصلي الصلاتين سفريتين؛ لأنه سافر في وقتيهما جميعًا. ولو كان صلى العصر دون الظهر ثم خرج لمقدار ركعة: صلى الظهر سفرية، ولا يعيد العصر إلا أن يبقى من النهار [قدر] (¬6) ركعة فليعدها سفرية، وكذلك في صلاتي الليل في الدخول والخروج [و] (¬7) في نسيان الصلاتين أو إحداهما. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) النوادر (1/ 271)، والبيان والتحصيل (1/ 165). (¬3) النوادر (1/ 271). (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

ولو خرج لمقدار ركعة ناسيًا للظهر مصليًا للعصر: [فالمذهب] (¬1) على قولين: أحدهما: أن الوقت للفائتة ويعيد الظهر [ق/ 21 أ] دون العصر، وإلى هذا رجح ابن القاسم، وقاله أصبغ وجماعة من أصحاب مالك (¬2). الثاني: أنه يصلي الصلاتين؛ الظهر حضرية، والعصر سفرية، وهو قول ابن عبد الحكم. وأما إن قدم وقد بقى من النهار قدر ركعة إلى أربع: فإنه يصلي الظهر سفرية، والعصر حضرية. ولو بقى في النهار قدر خمس ركعات: فإنه يصلي الظهر والعصر حضريتين. ولو [قدم] (¬3) وقد بقى من النهار قدر ركعة ناسيًا للظهر: فهو على الخلاف الذي قدمناه في الخروج. فهذا بيان أوقات الاضطرار، وتفسير أحوال ذوي الأعذار، وقد طولنا التفسير في هذا الفصل حتى خرجنا فيه عن حد [هذا] (¬4) الكتاب؛ لأنه مما يعم البلوى وتمس إليه الحاجة [صباحًا ومساءً] (¬5)، واعتمدت فيه على النقل من [كتاب] (¬6) "النوادر"، وغيره من الأُمهات الصحاح، و [الحمد لله وحده] (¬7). ... ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) النوادر (1/ 272، 273). (¬3) في أ: دخل. (¬4) زيادة من ب. (¬5) زيادة من جـ. (¬6) في الأصل: الكتاب. (¬7) زيادة من ب.

المسألة الثالثة في الإحرام في الصلاة والنية فيها

المسألة الثالثة في الإحرام في الصلاة والنية فيها وهذه الترجمة تشتمل على خمسة أسئلة منها: تكبيرة الإحرام: هل [يتعين] (¬1) لها لفظ أم لا؟ ومنها: النية، وهل من شرطها أن تكون مقارنة للفظ التكبير أم لا؟ ومنها: تكبيرة الإحرام هل هي فرض أم لا؟ ومنها: رفع اليدين [مع] (¬2) الإحرام، هل هو مشروع أم لا؟. ومنها: الحكم فيمن نسى تكبيرة الإحرام مِنْ فَذّ [أو إمام] (¬3) أو مأموم. فالجواب عن السؤال الأول: [وهي] (¬4) تكبيرة الإحرام، هل [يتعين] (¬5) لها لفظ [أم] (¬6) لا يتعين ولا ينقل عن معناه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" (¬7). وهذا الحديث خرّجه أبو عيسى الترمذي واستحسنه. ¬

_ (¬1) في أ: يعين. (¬2) في ب: في. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: وهو. (¬5) في أ: يعين. (¬6) سقط من أ. (¬7) أخرجه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجة (275)، وأحمد (1009)، (1075)، والدارمي (687) من حديث علي. قال الترمذي: هذا أصح حديث في هذا الباب وأحسن. وصححه الألباني رحمه الله في الإرواء (301).

فذهب مالك رحمه الله إلى أن لفظ التكبير [يتعين] (¬1) لا يتغير بالزيادة ولا بالمعنى، ووافقه الشافعي في أن ذلك منحصر في جنس التكبير، وخالف فيما [يتعرف] (¬2) منه، ومنه قوله الله [الكبير] (¬3)، والله الأكبر. وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه [إلى] (¬4) أن ذلك يتعدى إلى كل لفظ في معناه مما يتضمن عظمة الله وتعظيمه مثل الله الأعظم، والله الأجلّ. وسبب الخلاف: هل التّعَبّد بالألفاظ أو التعَبّد بالمعاني؟ فمن رأى أن التعَبّد بالألفاظ قال: لا يتغير عن وضعه الذي نَصَّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [ومن رأى أن التعَبّد بالمعنى هو المقصود، ولاسيما أنها أعمُّ من الألفاظ] (¬5) قال: يجوز الإحرام بكل لفظ يَتَضَمَن عظمة الله. وأما [اختلاف] (¬6) مالك والشافعي رضي الله عنهما فإنه يرجع إلى المشاحة في اللفظ، والمعنى متقارب. وأيضًا فقد قالوا: إن الوصف بأكبر أبلغ من كبير والأكبر. والجواب عن السؤال الثاني: النية هل من شرطها أن تكون مقارنة [بالتكبير] (¬7) أو يجوز تقديمها [عليه] (¬8) بزمان يسير بَيْدَ أن العلماء ¬

_ (¬1) في أ: متعين. (¬2) في أ: ينصرف. (¬3) في أ: أكبر. (¬4) في الأصل: إلا. (¬5) في ب: خلط وتقديم وتأخير. (¬6) في ب: الاختلاف بين. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: عليها.

اتفقوا أنه لا يجوز تقديمها بزمان كثير، ولا أن يتقدمها عن لفظ التكبير [بزمان] (¬1) يسير [ولا] (¬2) كثير. فذهب القاضي [أبو محمَّد] (¬3) عبد الوهاب إلى أنه لا يجوز تقديم النية على اللفظ بيسير ولا بكثير، وهو مذهب الشافعي وهو ظاهر قول [الشيخ] (¬4) أبي محمَّد بن أبي زيد في "رسالته" (¬5) [حيث قال:] (¬6) والدخول في الصلاة بنية الفرض فريضة، وذهب القاضي أبو الوليد بن رشد رضي الله عنه إلى أنه يجوز تقديمها على اللفظ بزمان يسير قياسًا على الوضوء [والغسل] (¬7)، ولا خلاف [عندنا] (¬8) في [جواز] (¬9) تقديم النية على الوضوء، والغسل [بيسير] (¬10)، وإن عرفت فيما بينه وبين التلبس بالوضوء أو الغسل. واختلف فيه إذا تقدمت عليه بزمان كثير كمن ذهب إلى البحر أو النهر أو الحَمّام، وبينه وبين هذا الموضع مسافة فعرفت [له] (¬11) النية في أثناء المسافة. وقياسًا على الصيام، فالمتفق عليه عند القائلين بأنه يفتقر إلى النية أنه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أو. (¬3) زيادة من ب. (¬4) زيادة من ب. (¬5) الرسالة مع تحرر المقالة (114). (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من ب. (¬8) في أ: عنده. (¬9) سقط من أ. (¬10) في ب: بزمان يسير. (¬11) في ب: منه.

يجزئه التّبْيِيت أول ليلة؛ إما في أول الليلة الأولى على مشهور مذهب مالك رحمه الله، وإما في أول كل ليلة على مذهب الشافعي رضي الله عنه. ولما لم يكف لمالك نص في المسألة، ولا لأحد من أصحابه المتقدمين: دل ذلك على أنه ليس من فروض الصلاة؛ إذ لو كان من فروضها لَتكَلّمُوا عليه [ولأودعوه] (¬1) في كتبهم، ولا أغفلوا [عن] (¬2) ذكره، ولا وَسِعَ أحد جهله، ولا أجازوا إمامة من جهله كما لا يجيزوا إمامة من جهل [أن] (¬3) القبلة، [والمباشرة] (¬4) تنقضان الوضوء، وغير ذلك مما اعتنوا بذكره؛ فدل ذلك والحالة هذه أن من قام إلى الصلاة، ولم [يجدد] (¬5) النية عند الإحرام [ناسيًا] (¬6) أن صلاته جائزة؛ لأن النية [الأولى] (¬7) متضمنة مع التكبير لقرب ما بينهما. ولو [قيل] (¬8) فيمن خرج من بيته قاصدًا بنيته إلى المسجد [ليصلي فيه] (¬9) ظهر يومه فعدمت له النية عند الإحرام [ناسيًا] (¬10) أن صلاته جائزة لكان أقرب إلى الصواب، لكنني ما رأيت من تكلم عليه. ¬

_ (¬1) في أ: وأودعوا. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: يجرد. (¬6) في أ: قياسا. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: قال. (¬9) سقط من أ. (¬10) سقط من أ، ب.

وسبب الخلاف: ما قارب الشيء هل يعطى له حكمه أم لا؟ وهذا أصْل مُتَدَاعٍ في [أكثر] (¬1) الشريعة. والجواب عن السؤال الثالث: [في] (¬2) تكبيرة الإحرام، هل هي من فرائض الصلاة، أو مِنْ سُنَنِهَا؟ [فقد] (¬3) اختلف فيه العلماء؛ فذهب محمَّد بن شهاب الزهري والأوزاعي [إلى] (¬4) أنها سنة. واختلف عن سعيد بن المسيب، هل مذهبه كمذهب [هذين] (¬5) في أنها سنة أم لا؟ فظاهر قول مالك في "المدونة" (¬6) و"الموطأ" أنها سنة [وذهب مالك إلى أنها فريضة من فرائض الصلاة، وهو مشهور مذهبه، وظاهر رواية ابن وهب عنه أنها سنة] (¬7) على [مذهبه] (¬8)؛ لأنه قال في الكتاب -أعني سعيد بن المسيب-: تجزئ الرجل تكبيرة الركوع إذا نسى تكبيرة الإحرام؛ بناءً [منه] (¬9) على أنها سنة؛ لأنه روى عن مالك أن المأموم إذا نسى تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع: أنه [يجزئ] (¬10) عنه إحرام الإِمام؛ فهذا دليل على أنها سنة؛ لأن الفرض لا يحمله الإِمام عن ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: وقد. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: هؤلاء. (¬6) المدونة (1/ 63). (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: مذهب سعيد. (¬9) سقط من ب. (¬10) في أ: يجزئه.

المأموم كالركعة والسجدة. فعلى القول بأنها فريضة على كل مُصَل: فإن كَبَّر الإِمام، ونَسِيَ من كان خلفه أن يُكَبِّر فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يُكَبِّر للركوع، ويَنْوي بِذَلك تَكْبِيرة الإحرام، أو كَبَّر للركوع، ولم يَنْو بذلك تكبيرة الإحرام، أو لَم يُكَبّر لا للركوع ولا للافتتاح. فإن كَبّر للركوع [ونوى] (¬1) بذلك تكبيرة الإحرام: فإنه [يجزئه] (¬2) باتفاق المذهب. واخْتُلِفَ هل من شرط تكبيرة الركوع التي ينوي بها تكبيرة الإحرام أن يُكَبّرها في حالة القيام أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها لا تجزئه حتى يكبرها في حالة القيام، ومهما كَبّر في حالة الانحطاط لم تجزئه، وهو قول [ابن القاسم] (¬3) وتأوله بعض [المتأخرين] (¬4) على "المدونة". والثاني: أنها تجزئه وإن كبر في حالة الانحطاط؛ لأنه لا ينوي بتكبيرة الركوع تكبيرة الإحرام إلا إذا كَبَّر في حال الانحطاط؛ لأنه لو كَبّر وهو قائم لكان ذلك تكبيرة الإحرام نية وصفة ولا يقال لها تكبيرة الركوع؛ لأن من شرط تكبيرة [الخفض] (¬5) والرفع أن تكون في أثناء الفعل، ولا تُقَدَّم ¬

_ (¬1) في أ: ينوي. (¬2) في أ: يجزئ. (¬3) في جـ: ابن المواز. (¬4) في جـ: الشيوخ. (¬5) في أ: الركوع.

عليه، ولا تُؤَخّر عنه، وإلى هذا القول ذهب أبو الوليد الباجي، وهو ظاهر "المدونة"، بل الذي في "المدونة" (¬1) يكاد أن يكون نصًا؛ لأنه قال: "ولا ينبغي أن يبتدئ صلاته بالركوع، وذلك يجزئ [من خلف الإمام] (¬2). فظاهر هذا أنه يجوز [للمأموم] (¬3) أن يبتدئ صلاته بالركوع. وأما إن كبّر للركوع، ولم يَنْو بذلك تكبيرة [الإحرام] (¬4): فلا يخلو [من] (¬5) أن يكون قادرًا على أن يرفع ويُكَبّر ويُدْرِك الإِمام في الركوع [أم لا] (¬6). فإن كان قادرًا هل يرفع أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يَرْفَع ويُكَبّر [ثم يركع] (¬7) ويُدْرِك الإِمام، وهو قول مالك في كتاب محمَّد. والثاني: أنه لا يَرْفَع؛ لأنه لو رَفَع لكانت خامسة، وهو قول ابن القاسم. وعلى القول بأنه [يرفع] (¬8) فهل يَقْطَع بِسَلَام أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يَقْطَع بِسَلَام. ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 64). (¬2) في ب: للمأموم. (¬3) في أ: للإمام. (¬4) في أ: الافتتاح. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: يرجع.

والثاني: أنه لا يَفْتَقِر إلى سَلَام، ويُكَبّر ويَرْفَع ثم [يعود إلى] (¬1) الركوع، وتُجزئه صلاته؛ لأنه إن كان الحق عند الله [سبحانه] (¬2): إن الإِمام لا يحملها عنه، فهو في غير صلاة فلا يحتاج إلى تسليم، وإن كان الحق عنده: إنه في صلاة، وإن كان الإِمام يحملها. وإن رفع إذا رفع يبطل ما هو فيه فلا يحتاج إلى تسليم أيضًا ولا تكون خامسة. وسبب الخلاف: [اختلافهم في] (¬3) الركعة بماذا تَنْعَقِد؟ هل بوضع اليدين علي الرُّكْبَتين أَم [بالرَّفع] (¬4) منها؟ فمن رأى أن الركعة تَنْعَقِد بوضع اليدين علي الرّكبتين قال: [إنه] (¬5) لا يَرْفَع؛ لأن الرّكعة فَاتَت له، وَجَواز الرَّفعْ له مِنْ باب القضاء [في حُكْم] (¬6) الإِمام، مع اختلاف ركعة القضاء [والركعة التي فيها الإِمام، ذلك لا يجوز، ومن رأى أن الركعة لا تنعقد إلا برفع الرأس، قال: إنه يرفع، ويكبر، ويدرك الإِمام] (¬7) في الركوع. ويكون [حكمه] (¬8) حُكم مَنْ دَخَل في الصلاة، وأدرك الإِمام راكعًا، فإنه [ق/ 15 جـ] يُحْرِم ويَدْخل مع الإِمام، وَيَعْتَد بتلك الركعة. ¬

_ (¬1) في أ: يعيد. (¬2) في ب: تعالى. (¬3) سقط من ب. (¬4) في جـ: برفع الرأس منها. (¬5) سقط من ب. (¬6) في ب: أخلف. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

واختلافهم في كونه يقطع بَسَلَام أو بغير سَلَام على هذا الأصل ينبني. فإن لم يَقْدِر على أن يَرْفَع ويُدْرِك الإِمام: هل يقطع أو يتمادى مع الإِمام ويُعِيد؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يَقْطَع ويُكَبّر، وَيَدْخل مع الإِمام، ويكون الآن داخلًا في الصلاة. والثاني: أنه يتمادى ويُعِيد، وهو قول مالك في "المدونة". وينبني الخلاف: على الخلاف في [خلاف غير] (¬1) المذهب هل يُرَاعَى أو لا يرَاعَى؟ ولاسِيَمَا ما فيه وصف زائد يُراد الخير لأَجْلِه كمسألتنا الآن؛ فإنها صلاة الجماعة والأجر فيه [يزداد] (¬2) على صلاة الفذ حسب ما روى في الخبر (¬3)، ولأنها صلاة جائزة على قول، فعسى أن يتمادى مع الإِمام، ويتحصل له أجر الجماعة، ولئلَّا [ق/ 22 أ] يبطل عمله، والله تعالى يقول: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (¬4)، ثم يُعيده على ما يَقْتَضِيه أصل مذهبه ليخرج من الخلاف. ومن رأى أنها صلاة لا تَبْرَأ بها الذّمة، ولا تَقَع [عنده] (¬5) مَوقع الإجزاء، وأن فَضْل الجماعة يَقْدِرُ على استدراكه بأن يَقْطَع ويُحرم ويَدْخل مع الإِمام مِنْ ساعته مهما بَقِي من الصلاة [رُكن] (¬6) يكون بإدراكه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: يربو. (¬3) وهو ما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمسًا وعشرين درجة" أخرجه البخاري (465). (¬4) سورة محمَّد الآية (33). (¬5) في أ: عنه. (¬6) سقط من ب.

مُدْرِكًا، قال: يقطع، وهو الذي يقتضيه النظر. وعلى القول بأنه يقطع: هل يقطع بسلام أو بكلام؟ قولان: وقد قدمناهما وبَيَّناهُما. وهذا [كله] (¬1) في الركعة الأولى، وأما إن فاتته الأولى، وأدرك الإِمام في الثانية: فإن كَبّر للركوع، ولم يَنْو بذلك تكبيرة الإحرام: فعلى القولين المتقدمين. فإن كَبّر للركوع، ونَوَى بذلك تكبيرة الإحرام: فهل تُجزئه كالركعة الأولى؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، مساواة بين الأولى والثانية، وهي رواية على بن زياد عن مالك (¬2). والثاني: أنه يقطع على كل حال، فرقًا بين الأولى والثانية، وهو قول ابن حبيب (¬3). ولا يخفى على لبيب بُعد قول ابن حبيب. وإن دخل مع الإِمام في الأولى، فنسى تكبيرة الإحرام، وتكبيرة الركوع، وكبر للركوع في الثانية، ولم ينو بها تكبيرة الإحرام: فقال مالك في "موطئه" (¬4): إنه يقطع. والفرق [عنده] (¬5) بين هذه وبين الأولى: تباعد ما بين النية، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) المدونة (1/ 63)، والنوادر (1/ 344). (¬3) النوادر (1/ 344)، والبيان والتحصيل (2/ 187). (¬4) الموطأ، كتاب النداء للصلاة. (¬5) في جـ: عندنا.

والتكبيرة، والله أعلم. وأما إن لم يُكَبّر للركوع، ولا للافتتاح: فهل يقطع أو يتمادى أو يُعِيد؟ ثلاثة أقوال في المذهب: أحدها: أنه يقطع ويدخل مع الإِمام، ويكون الآن داخلًا في الصلاة، وهو قوله في "المدونة" (¬1). والثاني: أنه يتمادى مع الإِمام وتُجزِئه، وهي رواية ابن وهب عن مالك. [وقد قدمناه ونص عليه اللخمي أيضًا] (¬2). والثالث: [ذكره أبو الحسن] (¬3) أنه مُخَيّر، إن شاء قَطَعَ ويُحْرِم، ويَدْخُل مع الإِمام، وإن شاء تمادى [مع الإِمام] (¬4) وهو قول أبو مصعب. وسبب الخلاف: ما قدمناه [في] (¬5) تكبيرة الإحرام: هل هي فرض أو سُنة، والقول بالتَخْيِير لا وَجْه له. فإن شك في التكبير هل كَبّر أم لا: فلا يخلو من أن يكون ذلك قبل الركوع أو بَعْدَه، ولم يكن كَبّر للركوع، وقد كَبّر للركوع. فإن طرأ عليه الشّك قبل الركوع أو بَعْدَه، ولم يكن كَبّر للركوع، فهل يتمادى أو يَقْطع؟ قولان: أحدهما: أنه يقطع. ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 63). (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: من.

والثاني: أنه يتمادى. وعلى القول بأنه يقطع: هل بسلام أو بغير سلام؟ قولان: أحدهما: أنه بسَلَام. وفي "واضحة" (¬1) ابن حبيب: بغير سلام. [فمن] (¬2) قال: [إن القَطع] (¬3) بسلام لاحتمال أن يكون كَبّر. [ومن] (¬4) قال: بغير سلام لاحتمال أن يكون لم يُكَبّر. فهذا وجه قول [من قال] (¬5) أنه يتمادى ويُعِيد احتياطًا للعبادة، فإن أيقن أنه كبر فلا يخلو من [ثلاثة أوجه] (¬6): [أحدها: أن يكبر بعد تكبيرة الإِمام] (¬7). والثاني: أن يُحْرِم قَبْل إمامه. والثالث: أن يُكَبّر مع الإِمام في زَمَان واحد. فإن كَبّر بَعْد تكبيرة الإِمام: فلا خلاف في الجواز؛ لأنه فَعَل ما أُمِرَ به مِنْ مُتَابعة الإِمام والاقْتِدَاء به؛ لقوله عليه السلام: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" (¬8). وأما إن كَبّر قَبل إمامه: فإنه يَقْطَع ويُكَبّر بعد الإِمام. وهل يكون القَطْع بسَلام؟ قولان (¬9): ¬

_ (¬1) النوادر (1/ 345: 347). (¬2) في ب: فوجه من. (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: ووجه من. (¬5) في أ: مالك ومن يقول. (¬6) في أ: وجهين. (¬7) سقط من أ. (¬8) أخرجه البخاري (689)، ومسلم (414). (¬9) المدونة (1/ 63، 64).

أحدهما: بغير سلام، وهو قول مالك. والثاني: أنه يقطع بسلام، وهو قول سحنون. فلو صلى لنفسه بذلك الإحرام: فهل تجزئه صلاته أم لا؟. [فالمذهب] (¬1) على قولين: أحدهما: أنها لا تجزئه، وهو قول مالك، وسحنون في كتاب ابنه. والثاني: أنها تجزئه، وهو قول سحنون أيضًا؛ لأنه عَقَد على نَفْسِه الصلاة بالإحرام، فلم يَسقُط حكم الإحرام. وسبب الخلاف: هل النظر إلى حالة وقوع الإحرام، أو النّظَر إلى ما آلَ إليه حُكمه؟ [فمن] (¬2) نظر إلى حالة الوقوع قال: لا يجوز له أن يصلي بذلك الإحرام وحده؛ لأنه وقع موقع الفساد لمسابقة الإِمام. ومن نظر إلى ما آل إليه حكمه من كونه صلى وحده، وأنه خارج عن حكم الإِمام، وأن إحرامه كان لصلاته وَحْدَه، وقال: [إن] (¬3) صلاته بذلك الإحرام جائزة. وأما إن كَبّر الإِمام والمأموم مَعًا مِنْ غَير أن يَسْبِق أحدهما الآخر، فهل يتساويا [وَيَتسَابَقَا] (¬4) لأن المأموم لا [تخلو حالته] (¬5) مع الإِمام في الإحرام [والسَّلام] (¬6) من هذه الأوجه الثلاثة لا رابع لها؛ أن يسْبِق ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) في أ: ومن. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من ب. (¬5) في ب: يخلو حاله. (¬6) سقط من ب.

الإِمام، وقد تكلّمنا عليه. فالمُسَابِق: أن يَسْبِق الإِمام، وقد تكلّمنا. والمُلَاحِق: أن يَسْبِقه الإِمام، وقد تقدم أيضًا. [والمساوي] (¬1): وهو المُطَابق أن يكَبّر مع الإِمام من غير أن يَسْبِق أحدهما الآخر. واختلف المذهب في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعيد الصلاة، وهو قول مالك في "المجموعة" وبه قال أصبغ. والثاني: أنه يعيد التكبير، فإن لم يفعل أجزأته صلاته، وهو قول ابن القاسم. والثالث: التفصيل بين أن يسبقه الإِمام بشيء من حروف التكبير: فيجزئه [أو] (¬2) لا يسبقه بشيء ولو بحرف واحد: فلا يجزئه، وهو قول ابن عبد الحكم. وسبب الخلاف: اختلافهم فيما يفهم من قوله [- صلى الله عليه وسلم -] (¬3): "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا" (¬4) الحديث. فهل مراده - صلى الله عليه وسلم - مُعَاقَبة الإِمام في أفعاله وأقواله حتى لا يسبق ولا يتأخر عنه بتكبير، وأن يكون فعل المأموم، وقوله عقيب فعله وقوله، ولاسِيّما ¬

_ (¬1) في الأصل: المساوق. (¬2) في أ: و. (¬3) في ب: عليه السلام. (¬4) تقدم.

أن موضوعية الفاء عند العرب للتعْقِيب، فتكون صلاته [مطابقة] (¬1)، وعلى هذا المعنى فاسدة. أو مُراد النبي - صلى الله عليه وسلم -[بذلك] (¬2) اتباع الإِمام واعتقاد [الاقتداء] (¬3) به واستشعار النية بأنه في حكمه وأن أفعاله مَنُوطة بأفعاله، وصلاته مُرْتبطة بصلاته حتى لا يجوز [له] (¬4) أن يتقدم عليه بشيء من أفعال الصلاة وأقوالها، حتى أن المأموم يعتقد أن مطابقة الإِمام في سائر [الأركان] (¬5) أولى وأجدر بالاقتداء، ولم يتعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - بموضوعية الفاء، فتكون صلاة المأموم على هذا جائزة صحيحة، وبالله التوفيق. وهذا كله في حكم المأموم. وأما [حكم] (¬6) الإِمام والفَّذ [إذا نسيا تكبيرة الإحرام أو شكا فكيف] (¬7) إذا نسيها الإِمام وكَبّر من كان خلفه: فحكمهما يجري على التفصيل الذي [فصلناه] (¬8) في حكم المأموم. فإن كَبَّر للركوع، وقَصَد بذلك تكبيرة الافتتاح هل تجزئهما أم لا؟ على ثلاثة أقوال في المذهب: أحدها: [أنها] (¬9) لا تجزئهما، وهو قول مالك، وظاهره: [أنه] (¬10) ¬

_ (¬1) في أ: من طائفة. (¬2) زيادة من ب. (¬3) في ب: الابتداء. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: صلاته. (¬6) سقط من ب. (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: قدمناه. (¬9) في أ: أنه. (¬10) المدونة (1/ 63).

لا فرق بين العمد والنِّسْيَان. [والثاني: أن صلاتهما جائزة جملة، وهو قول أبي الفرج المالكي في "الحاوي". والقول الثالث: التفصيل بين العمد والنسيان] (¬1). فإن [كانا ناسيين] (¬2): جازت [صلاتهما ويسجد السهو بهما] (¬3) قبل السلام، وإن [تركا] (¬4) التكبير [عمدًا] (¬5): بطلت [صلاتهما] (¬6)، وبه قال ابن شعبان في "الزاهي". وسبب الخلاف: [قراءة] (¬7) أُم القرآن هل هي فرض في كل ركعة، أو في [جملة] (¬8) الصلاة؟ فمن رأى أنها فَرْض في كل ركعة [يقول] (¬9): إنها لا تجزئه لترك قراءة أُم القرآن في تلك الرّكعة. ومن رأى أنها فرض في جُملة الصّلاة، وأنه إن قَرَأ في بعضها، فقد أدَّى وظيفة الفرض، وتكون [قراءتها] (¬10) في بقية الصلاة سنة: قال بالإجزاء. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: كان ناسِيًا. (¬3) في أ: صلاته ويسجد لسهوه. (¬4) في أ: ترك. (¬5) في أ: عامدًا. (¬6) في أ: صلاته. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: جُلَّ. (¬9) في ب: قال. (¬10) في أ: قراءته.

وَمَنْ فَرّق بين العَمد والنسيان يقول: المتهاون بالسنن كتارك الفرض [ويعيد الصلاة] (¬1)، وذلك أن القيام من فرائض الصلاة، إلا أنه غير مُرَاد لِعَيْنه، وإنما هو مُرَاد لغيره. وحَد الفرض فيه على الفَذّ والإمام [مقدار] (¬2) ما يُوقِع فيه تكبيرة الإحرام [مع قراءة] (¬3) أم القرآن على القول بأنها واجبة في كل ركعة. وعلى المأموم مِقْدَار ما يُوقِع فيه تكبيرة الإحرام خاصة؛ لأن الإِمام يحمل عنه قراءة أُم القرآن على القول بأن تكبيرة الإحرام [فرض] (¬4)، وهو المشهور (¬5). [وأما إذا] (¬6) شَكّ الإِمام في إحرامه: فالمذهب [فيه] (¬7) على قولين: أحدهما: أنه يتمادى على صلاته، فإذا فرغ سألهم، فإن أخبروه أنه كَبَّر أجزأتهم صلاتهم، وإن أخبروه أنه لم يُكَبّر وشَكّوا كَشَكِه: فإنه يعيد بِهم الصَّلاة، وهو قول سحنون (¬8). والثاني: أنه يَقْطَع [متى] (¬9) ما ذكر ولا يَتَمَادَى. والأصح أنه يَقْطَع مَتَى عَلِمَ، و [على] (¬10) القول بالتَّمَادِي فإنه يَسأَل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: ويقرأ. (¬4) في ب: فريضة. (¬5) المدونة (1/ 62). (¬6) في ب: إن. (¬7) سقط من أ. (¬8) المدونة (1/ 64). (¬9) سقط من أ. (¬10) سقط من ب.

القوم إذا فَرَغ [استحسانًا] (¬1). وهكذا الفَّذ إذا شَكّ في الإحرام: قيل: يتمادى ويُعِيد، وقيل: يَقْطَع، ويَبْتَدِئ. وأما إذا كَبَّر المأموم تكبيرة الإحرام، ونَسِيَها الإِمام: فإن عَلِمَ القَوم أنه لم يُكَبِّر [فإن] (¬2) صلاتهم باطلة، ويُعيد بهم صلاته، وإن لم يَعْلَموا فصلاتهم جائزة على مشهور المذهب في الإِمام إذا صلى بالنّاس [وهو] (¬3) جُنُب نَاسِيًا لجنابته. والجواب عن السؤال الخامس: وهو رَفع اليَدَيْن عِنْدَ تَكْبِيرَة الإحرام. وكان هذا السؤال مِنْ حَقِه في التّرتِيب أن يكون رَابعًا، وهو الذي وقع عليه التَّرتيب في أول القِسْم، إلا أن النِّسيان أَخّره حتى أُخرَّ عن مَحِلِّه، والخَطْبُ في ذلك يَسِير. وهذا السُّؤال يَشْتَمِلُ على ثلاثة فصول: منها: هل الرَّفْع مشْرُوع أَمْ لا؟ ومنها: في كيفية الرَّفع. ومنها: في معنى الرَّفع. فالجواب عن الفصل الأول: في الرَّفع هل هو مَشْرُوع أم لا؟. وعلى القول بأنه مَشْرُوع، هل هو مَشْرُوع في كل خَفْضٍ ورَفع أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال؛ كلها قائمة من "المدونة": ¬

_ (¬1) في أ: استحبابًا. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ.

أحدها: [ق/ 11 ب] أنه يَرْفَع في كُل خَفْضٍ ورَفْع [ق/ 23 أ] وهي رواية ابن وَهْب، وأَشْهَب عن مالك، وهو مذهب الشافعى، وهو قول ابن وَهْب في "كتاب الجنائز" من "المدونة" (¬1). والثاني: أن الرَّفع غير مَشْرُوع لا في أَوَّل، ولا في آخِر، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الصلاة الأول" من "المدونة" (¬2) على ما تأوله الأَشْيَاخ عليه، وهو نَص قوله في بعض روايات "المدونة" في "كتاب الحج الأول" (¬3): وكان رَفع اليَدَين عند مالك ضَعِيف، فقيل له: في تكبيرة الإحرام، قال: نعم، وفي تكبيرة الإحرام. وصَرّح به الشيخ أبو إسحاق بن شعبان عن ابن القاسم في [ق/ 16 جـ] "مُخْتَصَرِه". وأما ما تَأَوَّل عليه [من المدونة من قوله] (¬4): في "كتاب الصلاة الأول": فقد قال: وقد رُؤِيَ مالك رَافِعًا يَدَيْه حِين عَزَمَ عليه الإِمام، فجعل بُطُونهما مِمَا يَلِي الأرض، وظُهُورهما مِمَا يَلِيَ وجهه، فقال ابن القاسم: إن كان الرّفع فهكذا مَثل ما صَنَع مالك، فقوله: "إن كان" يُشْعِرُ بِأنّه غَيْرُ مَشْرُوع عِنْدَه. [وقال] (¬5) في موضع آخر: وكان رَفْعُ اليَدَين عِنْد مالك ضعيفا إلا في تَكبِيرة الإحْرَام. فقيل: إن قوله: "في تَكْبِيرة الإحْرَام": ليس من كلام ابن القاسم، ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 176). (¬2) المدونة (1/ 68). (¬3) المدونة (2/ 398). (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: وقوله.

وإنما هو مِنْ كَلَام سَحْنُون. وقَدْ أَخْبَرَ بذلك ابن وَضَّاح عن سحنون: أن ذلك من قوله لا مِنْ قول ابن القاسم. و [القول] (¬1) الثالث: أنه يَرْفَعُهما في التكبيرة الأولى، ثم لا يَرْفَعْهُما بَعْدَ ذلك، وهو القول المنصوص عن مالك في "المدونة" (¬2)، وهو مشهور المذهب. وسبب الخلاف: اختلاف الآثار [وتجاذب الاعتبار] (¬3) فمنها ما رواه عاصم بن كُلَيْب عن أبيه عن عليّ بن أبي طالب رضيِ الله عنه: أنه كَان يَرْفَع يَدَيْه في أَوَّل [افتِتَاح] (¬4) الصّلاة، ثم لا يَعُود" (¬5)، وهذا [حديث] (¬6) صحيح موقوف عن علي رضي الله عنه. ومنها: ما أرسله مالك عن سليمان بن يسار أن [النبي] (¬7) - صلى الله عليه وسلم -: "كان يرفع يديه في الصلاة" (¬8). ومنها: ما [أخرجه] (¬9) [مالك] (¬10) عن ابن عمر: "أنه كان إذا افتَتَح الصّلاة رَفَعَ يَدَيْه حَذْو مِنْكَبَيْه، وإذا رَفَعَ رأسه مِنَ الرُّكُوع رَفَعَهُما دُون ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) المدونة (1/ 68). (¬3) في أ: وتجاذبها. (¬4) سقط من ب. (¬5) قال ابن القيم: أحاديث المنع من رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه كلها باطلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصح منها شيء. نقد المنقول (128). (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: رسول الله. (¬8) أخرجه مالك (167)، وابن أبي شيبة في المصنف (1/ 234، 235). (¬9) في ب: خرجه. (¬10) سقط من ب.

ذلك" (¬1) فمن رَجَّح حديث عليّ رضي الله عنه قال: إِنّ الرَّفعْ مَشْرُوع في التكبيرة الأولى خَاصّة. ومن رَجَّح حديث ابن عمر: قال [يرفع] (¬2) في كُلِ خَفْضِ وَرَفع، ولاسِيما [أن] (¬3) حديث ابن عمر مُسْنَد من طِرِيق آخر. وهذا تأويل ما أَرْسَله سليمان بن يَسَار. وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَرْفَع يَدَيْه [فإنه دليل] (¬4) على أنه مَشْروع خَاصّة؛ إذ هو الظَّاهر مِنْ ظَاهِر الخَبَر؛ لأنه لم يُبَيِّن فيه [موضعًا] (¬5) هل كان ذلك في أول الصلاة، أو ذلك في كل خفْضٍ وَرَفع؟ وَأمَا مَنْ ذَهَبَ إلى أنَّ الرَّفْع غير مَشْروع، فيُستدل [بظاهر] (¬6) الأخبار المطلقة [منها: ما خرجه مالك] (¬7) من طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكَبّر في الصّلاة كُلما خَفَض ورَفَع، فَلَم تَزَل تِلْك صَلَاته حتى لَقى الله عَزَّ وَجَلَّ" (¬8)، ولم يذكر الرفع. ومنها حديث جابر بن عبد الله: أنه كان يعلمهم التكبير في الصلاة، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (702)، ومسلم (390)، وأبو داود (742)، والترمذي (255)، ومالك (165) من حديث ابن عمر. (¬2) في أ: يكبر. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: موضع الرفع. (¬6) في ب: بظواهر. (¬7) سقط من أ. (¬8) أخرجه مالك (166) والشافعي في الأم (1/ 110) وعبد الرزاق في المصنف (2/ 62) حديث (2497)، والبيهقي في الكبرى (2/ 67). قال البيهقي: هذا مرسل حسن.

ولم يذكر الرفع (¬1). إلا أن الاستدلال بهذا [وأمثاله] (¬2) ضعيف جدًا. والجواب عن الفصل الثاني: في كيفية الرفع ونهايته: وهو أن يرفع يديه إلى منكبيه، وهما قائمان. وهذا هو المشهور عن مالك، وبه قال الشافعي رضي الله عنه. والثاني: أنه يرفعهما إلى صدره. وقال أبو حنيفة: يرفعهما إلى أذنيه. وسبب الخلاف: تعارض الأخبار، فمنها حديث ابن عمر أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه (¬3). ومنها: حديث مالك بن [الحويرث] (¬4) أن الرسول عليه السلام كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه (¬5). فمن ذهب مذهب الترجيح: أخذ بحديث ابن عمر؛ لأنه أصحب من حديث مالك بن [الحويرث] (¬6). ومن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين قال: كان يحاذي بكفيه منكبيه، وأطراف أصابعه عند [ضماختي] (¬7) أو أذنيه. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (170)، وابن أبي شيبة في المصنف (1/ 240)، وعبد الرزاق في المصنف (2/ 64) حديث (2502)، وابن المنذر في الأوسط (3/ 134) بسند صحيح. (¬2) في أ: ومثاله. (¬3) تقدم. (¬4) في الأصل: الجويرية، والمثبت هو الصواب، وهو مالك بن الحويرث أبو سليمان الليثي، توفي سنة (74 هـ) أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. (¬5) أخرجه البخاري (704) ومسلم (391). (¬6) في الأصل: الجويرية. (¬7) في أ: صماخة.

فالجمع بين الحديثين [مع الإمكان] (¬1) أولى من الطرح. والجواب عن الفصل الثالث: في معنى الرفع وفائدته: [فقد] (¬2) اختلف العلماء في معناه اختلافًا كثيرًا (¬3): فقيل: [خلعه عن] (¬4) كل شيء من أمور الدنيا وطرحها وراء ظهر المصلي، ودبر أذنيه. وقيل: هو علم للتكبير ليرى ذلك من قرب ومن بعد. وقيل: بل ذلك من تمام القيام. وقيل: [الاستشعار عظم] (¬5) ما دخل فيه [وأشبه بابه] (¬6)؛ إذا كل من استعظم أمرًا تلقاه [بيديه] (¬7) بتلك الهيئة. وقيل: بل علامة للتذلل والاستسلام. وهذه الوجوه على [مذهب] (¬8) رأى كونهما منتصبتين. وفي انتصاب الأصابع معهما، أو حنوهما قليلًا خلاف بين من اختار إقامتهما. وقيل: بل ذلك إشارة إلى الخضوع والرهب، وهذا [على] (¬9) مذهب من يرى بسطهما، وظهورهما إلى السماء [وهو الرهب، وقيل: ¬

_ (¬1) في أ: تقديم وتأخير. (¬2) في أ: و. (¬3) انظر: خواتم الحكم (2/ 496: 499). (¬4) في ب: خلع الأيدي من. (¬5) في أ: الإشعار بعلم. (¬6) سقط من ب. (¬7) في أ: من يديه. (¬8) سقط من أ. (¬9) سقط من أ.

بل إظهارًا للفاقة والسؤال وطلبًا للرحمة، وهذه عادة من يبسطهما وبطونهما للسماء] (¬1) قبل إرسالهما مع التكبير قبلهما، فيجمع بين الرغب والرهب. وقد ورد في بعض الأخبار العلة الموجبة للرفع، وذلك أن المنافقين في بدء الإِسلام كانوا إذا صلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأبطوا أصنامهم تحت ثيابهم ثم أطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك؛ إذ لا يعلم إلا ما علمه الله بالوحي، فأمره الله [تعالى] (¬2) أن يأمرهم برفع أيديهم عند الإحرام، فلما [رفعوا أيديهم] (¬3) تساقطت الأصنام من تحت أباطيهم فافتضحوا. فإن صح الخبر [كأن يكون] (¬4) هذا من الأحكام الباقية مع عدم العلة الموجبة لها [كالرمل] (¬5) في الطواف، والله أعلم بحقيقة ذلك [والحمد لله وحده] (¬6). ... ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب. (¬3) في ب: رفعوها. (¬4) في ب: كان. (¬5) في ب: كالرمي. (¬6) زيادة من جـ.

المسألة الرابعة القراءة في الصلاة

المسألة الرابعة القراءة في الصلاة فجمهور العلماء على أن القراءة في الصلاة واجبة، وذهب ربيعة و [عبد العزيز] (¬1) بن أبي سلمة إلى أنها غير واجبة (¬2). وروى [مثل] (¬3) ذلك عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. والذي روى عن علي [رضي الله عنه] (¬4) أنه [قال] (¬5): لا إعادة على من ترك القراءة [في] (¬6) صلاته إذا كان الركوع والسجود حسنًا. والذي روى عن عمر [بن الخطاب] (¬7) رضي الله عنه أنه صلى بالناس المغرب، فلم يقرأ فيها، فلما انصرف قيل له: ما قرأت، قال: كيف كان الركوع والسجود؟ [قالوا: حسن] (¬8)، قال: فلا بأس إذًا (¬9). ¬

_ (¬1) في جـ: عبد الرحمن. (¬2) انظر: عيون المجالس (1/ 294، 295)، ومختصر اختلاف العلماء (1/ 207). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: من. (¬7) زيادة من ب. (¬8) سقط من أ. (¬9) قال ابن عبد البر: حديث منكر اللفظ، منقطع الإسناد؛ لأنه يرويه محمَّد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن عمر، ومرة يرويه محمَّد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عمر، وكلاهما منقطع لا حجة فيه. التمهيد (20/ 193). وثم فيه علة أخرى نبه عليها ابن الجوزي فقال: هذا حديث باطل لا يصح، قال ابن حبان: محمَّد بن مهاجر كان يضع الحديث. العلل المتناهية (2/ 944) حديث (1572)، =

وقد أنكر ذلك مالك عن عمر بن الخطاب [وعلى] (¬1) رضي الله [عنهما] (¬2) فقال: أنكر أن يكون فعله، وإنما هو حديث سمعناه، وما أدري حقيقته (¬3). وقد روى أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه دخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين: صليت بنا، ولم تقرأ، فقال: [أجل] (¬4) إني جهزت [قافلة] (¬5) إلى الشام فأنزلتها منازلها، فخرج عمر إلى الناس، فأعاد بهم الصلاة. وهذا الذي رواه وكيع في "المدونة" (¬6) [عن عمر] (¬7) أنه أعاد بهم. وسبب الخلاف: [فعل] (¬8) الصحابي هل تقوم به حجة أم لا؟ فمن رأى أن الحجة تقوم به (¬9) ولاسيما في ترك القراءة [في الصلاة] (¬10) مع مشاهدته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وملازمته إياه، وحضوره الصلاة [معه] (¬11) في كل يوم وليلة خمس مرات، ومثل [هذا] (¬12) لا يكون ¬

_ = وانظر: التلخيص الحبير (1/ 273) حديث (426)، وخلاصة البدر المنير (494). (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: عنه. (¬3) المدونة (1/ 65). (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: فأقبلت. (¬6) المدونة (1/ 65). (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: قول. (¬9) وهذا هو مذهب أكثر الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وكثير من الشافعية، وهو مذهب الشافعي في الجديد والقديم. (¬10) سقط من أ. (¬11) سقط من أ. (¬12) في ب: ذلك.

إلا توقيفًا إن صح ذلك عن عليّ وعمر رضي الله عنهما، قال: إن القراءة غير مشروعة. وعلى القول بأن القراءة واجبة في الصلاة، هل هي واجبة في [جملة الصلاة] (¬1) أو في كل ركعة منها؟ فالشافعي رضي الله عنه [يرى] (¬2) أنها واجبة في كل ركعة. والحسن البصري وغيره يرى أنها واجبة في ركعة واحدة خاصة. وأما أبو حنيفة: فالواجب عنده قراءة أي آية اتفقت أن يقرأها ولو "مدهامتان" (¬3). ومالك رحمه الله تردد مذهبه بين هذه المذاهب على ما سنبينه ونتقنه [اتقان من طب لمن حب] (¬4) إن شاء الله تعالى. وسبب الخلاف: تعارض الأخبار وتجاذب الاعتبار مع معارضة [ظاهر] (¬5) كتاب الله لبعض هذه الأخبار ومساعدته لبعضها: قال الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (¬6) [ق/ 12 ب]. قيل: أراد بذلك الصلاة، وهو أظهر التأويلات. ويوافقه من الأخبار: ما روى أبو هريرة في الحديث الصحيح: أن رجلاً دخل المسجد فصلى، ثم جاء فسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرد [النبي] (¬7) - صلى الله عليه وسلم - وقال له: "ارجع فصل، فإنك لم تصل"، ثم جاء فأمره ¬

_ (¬1) في ب: في الصلاة على الجملة. (¬2) في ب: يقول. (¬3) وقد نكل به الغزالي في المنخول من أجل هذا القول. (¬4) زيادة من ب، جـ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سورة المزمل الآية (20). (¬7) في ب: عليه رسول الله.

بالرجوع حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحق، ما أُحسن غير هذا، فقال عليه السلام: "إذا قمت إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، واستقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" (¬1). [وهذا] (¬2) الحديث موافق لظاهر القرآن، وبه تقوم الحجة للحنفي، وأما المعارض لهذا فحديثان قائمان متفق عليهما: حديث عبادة بن الصامت أنه [قال: قال رسول الله] (¬3): "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" (¬4). وفي حديث آخر: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (¬5). وحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي [خداج خداج] (¬6) خداج غير تمام ثلاث مرات" (¬7). وحديث أبي هريرة وعبادة [ق/ 24 أ] بن الصامت يقتضي أن قراءة أم القرآن شرط في صحة الصلاة. وحديث أبي هريرة في الأعرابي مع ظاهر القرآن يقتضي جواز الاقتصار على ما تيسر ولو آية. وأما مالك رضي الله عنه فقد اضطرب مذهبه اضطرابًا شديدًا، ونحن نحصله تحصيلًا مفيدًا، ونقيد ما أشكل منه تقييدًا حتى يمسك بروابط ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (724)، ومسلم (397). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه البخاري (723)، ومسلم (394). (¬5) اللفظ للبخاري (723). (¬6) سقط من ب. (¬7) أخرجه مسلم (395).

الاختصار، وينحصر ما في سمط الانحصار، فأقول وبالله التوفيق: القدر الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء في الصلاة هي سورة أم القرآن، والزائد عليها متفق على سقوطه عن درجة الوجوب. ثم المصلون على قسمين: إمام ومأموم، والفذ: حكمه حكم الإِمام بلا إشكال. فالمأموم لا خلاف في مذهب مالك رحمه الله أن القراءة لا تجب عليه، ولا يجوز له أن يقرأ فيما بجهر فيه الإِمام بالقراءة لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (¬1). قيل: إن ذلك في الصلاة (¬2)، فأوجب الله تعالى الإنصات على المأموم. ولا شك أن قراءته تشغله عن الإنصات، والتفهم عن الإِمام أيضًا. ويؤيده أيضًا ما رواه أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا" (¬3). وهذا أمر، والأمر [يحمل] (¬4) على الوجوب (¬5). وأما ما يُسِر فيه الإِمام بالقراءة، فهل يندب فيه المأموم إلى قراءة أُم القرآن أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يندب إلى القراءة، وهو مشهور المذهب. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية (204). (¬2) انظر: تفسير القرطبي (7/ 353) وتفسير ابن كثير (2/ 281). (¬3) تقدم مرارًا. (¬4) سقط من ب. (¬5) وهذا هو الراجح خلافًا لمن يقول: إنه يحمل على الندب.

والثاني: أنه لا يندب إليها، وأن المأموم لا يقرأ في الصلاة [أصلًا] (¬1) وبه قال ابن وهب، ورواه ابن المواز عن أشهب (¬2). وسبب الخلاف: معارضة القياس ["لخبر" (¬3)] (¬4) الواحد (¬5)، [والخبر هو حديث] (¬6) عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الظهر أو العصر، ورجل يقرأ خلفه، فلما انصرف قال: "أيكم قرأ بسبح اسم ربك الأعلى؟ " [فقال] (¬7) رجل من القوم: أنا، ما أردت بهذا إلا الخير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد عرفت أن بعضكم [خالجنيها] " (¬8). والقياس يقتضي قراءة المأموم خلف الإمام فيما يُسر فيه الإمام بالقراءة؛ لأن العلة الموجبة للمنع: الجهر مع الإمام، فإذا عدم: جاز. فإن ترك الأموم القراءة فيما يُسر فيه الإمام عامدًا، أو قرأ فيما يجهر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: النوادر (1/ 178: 181). (¬3) في الأصل: للخبر. (¬4) في أ: للخبر. (¬5) اختلف في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: إذا تعارض القياس مع خبر الواحد، فإنه يقدم خبر الواحد. وهذا هو مذهب الجمهور، وهو الراجح. المذهب الثاني: أن القياس يقدم على خبر الواحد. وهذا هو مذهب بعض الحنفية والمالكية. المذهب الثالث: التفصيل بين الرواة. فإن كان الراوي فقيها، فإنه يقدم على القياس إذا عارضه. وإن كان الراوي غير فقيه، فإن القياس يقدم على خبر إذا عارضه. وهذا مذهب بعض الحنفية. (¬6) في أ: ولحديث. (¬7) في أ: وقال. (¬8) طمس بالأصل، والمثبت من رواية مسلم (603).

[فيه الإمام] (¬1) عامدًا: فصلاته في [الوجهين] (¬2) جائزة إلا أنه قد أساء فيما تعمد من ذلك، وإساءته في القراءة فيما يجهر فيه أبلغ. وأما حكم الإمام والفذ في القراءة [فلا يخلو] (¬3) من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقرأ بأم القرآن في جميع صلاته. والثاني: أن يترك القراءة في جميعها. والثالث: أن يقرأ في بعضها، ويترك في بعض. فإن قرأ في جميعها: فلا خلاف في الجواز؛ لأنه أتى بالوجه المتفق عليه. فإن ترك القراءة في جميعها: فالمذهب على قولين: أحدهما: البطلان [وأن] (¬4) صلاته [ق/ 17 جـ] فاسدة، وهو المشهور الذي عليه الجمهور. والثاني: أن صلاته جائزة، وهي رواية رواها الواقدي عن مالك، وهي مهجور المذهب. وسبب الخلاف: فعل الصحابي هل يكون حجة أم لا؟. فإن [قرأها] (¬5) في بعضها [وتركها في بعض] (¬6): فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) في أ: فيها. (¬2) في أ: الوجهتين. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: بأن. (¬5) في أ: قرأ. (¬6) في أ: وترك في بعضها.

إما أن يكون ذلك في صلاة رباعية كالظهر، والعصر، والعشاء. أو في صلاة هي [ثلاث ركعات] (¬1): كالمغرب. أو في صلاة هي ركعتان: كالصبح، والجمعة، و [في] (¬2) صلاة المسافر: فإن كان ذلك في صلاة هي أربع: فإن تركها في أكثرها، مثل أن يترك القراءة في ثلاث ركعات: فالمذهب على قولين: أحدهما: الإعادة، وهو مشهور المذهب (¬3). والثاني: الإلغاء، وهو مذهب أشهب، وابن عبد الحكم، وأصبغ (¬4). فإن تركها في ركعتين: فالمذهب على قولين أيضًا. وإن تركها في ركعة واحدة: فالمذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة" (¬5). أحدها: أنه يلغي الركعة، ويأتي بغيرها. والثاني: أنه يعيد الصلاة. والثالث: أنه يسجد قبل السلام وتجزئه صلاته، وما هو بالبَّيِّن. والرابع: أنه يسجد قبل السلام، ويعيد الصلاة [أيضًا] (¬6)، وهو قوله في "كتاب الوضوء" (¬7). ¬

_ (¬1) في ب: ثلاثية. (¬2) سقط من ب. (¬3) المدونة (1/ 65، 66). (¬4) النوادر (1/ 350). (¬5) المدونة (1/ 65، 66). (¬6) سقط من ب. (¬7) المدونة (1/ 38).

ورام بعض المتأخرين أن يرد قوله في "كتاب الصلاة" بالإعادة إلى ما فسره في كتاب الوضوء، وهو تأويل [الشيخ أبي محمَّد] (¬1) بن أبي زيد وغيره، فقالوا: معناه يسجد ويعيد. ولا فائدة للتأويل مع نصه على المسألة، فإن حمل الكلام على ظاهره، فيتخرج على أربعة أقوال، وإن تأول فيتخرج على ثلاثة [أقوال] (¬2). واختلف أيضًا في اختيار ابن القاسم، فمرة أخذ بالإلغاء، وهو اختياره في [كتاب] (¬3) الصلاة الأول من "المدونة"، ومرة أخذ بالإعادة بعد السجود، وهو قوله في "كتاب الوضوء"، [وفي] (¬4) كتاب ابن المواز. وسبب الخلاف: تعارض الأخبار، فمنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" (¬5). [ومنها] (¬6) قوله [- صلى الله عليه وسلم -] (¬7): "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج غير تمام" (¬8). فهذان [الحديثان] (¬9) مقتضاهما: أنها فرض في جملة الصلاة لا في كل ركعة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) في أ: وفيها. (¬5) تقدم. (¬6) في أ: وهو. (¬7) سقط من ب. (¬8) تقدم. (¬9) في ب: الخبران.

و [يعارضهما] (¬1) حديث: "كل ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلا تصلها إلا وراء الإمام" (¬2). إلا أن هذا [الحديث] (¬3) موقوف، والأول مسند، والمسند [أقوى] (¬4) من الموقوف، فكان تقديم الخبر المسند أولى إلا أن فيه معنى يوجب مساواته مع الموقوف في المرتبة. وقوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" (¬5) هل أراد بذلك لا صلاة جائزة، أو [لا] (¬6) صلاة كاملة. وهذا مما يحتمله اللفظ. فإذا احتمل هذا الاحتمال [فكان] (¬7) فيه ضرب من الإجمال، [فيسقط] (¬8) به الاستدلال. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج [فهي خداج] (¬9) غير تمام ثلاث مرات" (¬10). وهل هذا [النقصان] (¬11) مما يؤثر في بطلان الصلاة، ويمنع من الإجزاء [أو] (¬12) إنما تأثيره في نفي الكمال خاصة، وإليه مال بعض ¬

_ (¬1) في أ: يعارضه. (¬2) أخرجه الترمذي (288)، ومالك (173) من حديث جابر، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: أولى. (¬5) تقدم. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: كان. (¬8) في أ: وسقط. (¬9) سقط من ب. (¬10) تقدم. (¬11) في الأصل: التعصلل. (¬12) في أ: و.

المتأخرين. فبهذا الاعتبار تصح المعارضة بين الخبر وبين حديث جابر رضي الله عنه. وأما إذا تركها في ركعة من صلاة هي ركعتان: فهل هي بمنزلة [من] (¬1) تركها في ركعة من صلاة هي أربع: فيدخلها أربعة أقوال، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" (¬2)، حيث قال: وإنما سألنا مالكًا عن [الصلوات] (¬3) [كلها] (¬4)، ولم يكشف عن الصبح والمغرب. أو هو بمنزلة من تركها في ركعتين من صلاة هي أربع: فيدخل فيها قولان، وهو نصه في الدونة، فالمذهب فيه على قولين قائمين من المدونة كما ترى. وسبب الخلاف: هل النظر إلى قلة السهو وكثرته أم النظر إلى مقدار ما يكون السهو [فيه] (¬5) من الصلاة من نصف أو أقل أو أكثر. وأما إن تركها في ركعة من صلاة هي [ثلاث ركعات] (¬6) كالمغرب [فهل هو] (¬7) بمنزلة من تركها [في] (¬8) ركعة واحدة من صلاة هي أربع ¬

_ (¬1) في ب: ما لو. (¬2) المد ونة (1/ 66). (¬3) في ب: الصلاة. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: ثلاثة. (¬7) في ب.: فهي. (¬8) في أ: من.

[ركعات] (¬1)؟ [فيدخل فيه] (¬2) الأقوال الأربعة، وهو ظاهر المدونة. أو هو بمنزلة من تركها من ركعة واحدة من صلاة هي ركعتان، [فلا يدخلها إلا قولان] (¬3). فالمذهب [فيها] (¬4) على قولين منصوصين [أيضًا] (¬5). وسبب الخلاف: ما قدمناه هل النظر إلى قلة السهو وكثرته أم النظر إلى قدر ذلك من الصلاة، هل هو في حيز الكثير أو حيز اليسير؟ ولا شك أن الثلاث جعلها الشرع في حيز الكثير في غير ما موضع. وأما إن تركها في ركعتين من المغرب فقولان: قول بالإجزاء، وقول بالإبطال؛ وهو الصحيح لأنه ترك القراءة في جُلّ صلاته. والقول الآخر يتخرج على القول بأن القراءة في الصلاة غير مشروعة وهذا كله فيمن كان يحسن القراءة فتركها، إما [عامدًا] (¬6) وإما ناسيًا. وأما الأمي الذي لا يكتب ولا يقرأ ولا ينفع فيه التعليم، ولا يجد من يأتم به، فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقف ويذكر الله تعالى في موضع القراءة، وهو قول [محمد] (¬7) بن سحنون. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فيدخلها. (¬3) في أ: ثم لا يدخلها الأقوال الأربعة. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: جاهلًا. (¬7) سقط من أ.

والثاني: أنه يقف مقدار ما [يقرأ] (¬1) فيه أم القرآن، ولا يلزمه من طريق الوجوب تحميد ولا تسبيح، وهو قول القاضي [أبي] (¬2) محمَّد عبد الوهاب. والثالث: [أنه] (¬3) يكبر تكبيرة الإحرام [قائمًا] (¬4) ويركع متابعة, ولا ينتظر واقفًا؛ إذ لا فائدة لوقوفه وقيامه؛ لأن القيام في الصلاة غير مراد لنفسه، إنما هو مراد لتكبيرة الإحرام في حق المأموم، والتكبير والقراءة في حق الفذ والإمام. فإذا قلنا: يقف وقوفًا ما: فقد تعمد إلى أن يزيد في صلاته زيادة مستغنى عنها، وقول ابن سحنون أن فرضه الذكر أيضًا ليس بظاهر؛ لأن قراءة أم القرآن في الصلاة لا بدل لها، والقرآن لو قرأه كله في الصلاة ما وقع موقع الإجزاء، فكيف يكون الذكر بدلًا منها، والله المستعان. ومن هذا المعنى اختلفوا في الأعجمي الذي لا يحسن العربية: كيف يفتتح الصلاة؟ فقال ابن القاسم في "المدونة" (¬5): لا يفتتح الصلاة بالعجمية ولم يذكر كيف يفعل. وقال أبو الفرج: لا يجزئه غير التكبير [يدخل به] (¬6) أو الحروف ¬

_ (¬1) في أ: يقوم. (¬2) في ب: أبو. (¬3) زيادة من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) المدونة (1/ 62). (¬6) سقط من أ.

التي أسلم بها. وقال أبو محمَّد عبد الوهاب (¬1): من شيوخنا من يقول: يُحْرِمُ بلسانه -يريد بالعجمية- ومنهم من يقول: يعتقد الدخول في الصلاة بقلبه من غير نُطق. فيتحصل من هذه [الجملة] (¬2) ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجزئه إلا التكبير. والثاني: أنه يجزئه أن يُحْرِمُ بالعجمية. والثالث: [يجزئه] (¬3) أن يعتقد الدخول فيها [ق/ 25 أ] بقلبه. وسبب الخلاف: اختلاف الأصوليين في القرآن هل اشتمل على لغة سوى العرب، أم لا؟ (¬4). فمن ذهب إلى أن القرآن نزل بلغة العرب [خصوصًا] (¬5) وخلوصًا، وأنه كله عربي مُبين، ولم يوجد فيه من العجمية شيء: يقول: إنه لا يُحرم بالعجمية؛ لأن الذي فهم من كلام العرب [في] (¬6) لفظ التكبير لم يفهم من إحرامه بالعجمية؛ لأنه لا يدري أنه كما قال، وأنه يسم الله بما لم يسم به نفسه. ولا خلاف بين أهل السنة أن من سمَّى الله عزّ وجلّ بما لم يسم به نفسه ¬

_ (¬1) قال في الإشراف: إذا كان يحسن العربية فلا يجزيه له الإحرام بالفارسية خلافًا لأبي حنيفة؛ لقوله عليه السلام: يقول: الله أكبر، وقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" الإتحاف بتخريج أحاديث الإشراف (1/ 382). (¬2) في أ: المسألة. (¬3) سقط من أ. (¬4) تقدم بيان ذلك. (¬5) في جـ: نصوصًا. (¬6) سقط من أ.

[أن ذلك] (¬1) كفر. ومن ذهب إلى أن القرآن فيه ما ليس [من] (¬2) لغة العرب "كالأبِّ"، و {أَنْ أَدُّوا} (¬3) وأن "الأبَّ" (¬4): كلمة فارسية، و"أن أدوا": كلمة بربرية: يقول: إن [له] (¬5) الإحرام بالعجمية؛ لأن الله تعالى سمى نفسه بكل لسان، [أعلمهم] (¬6) كيف يدعونه بألسنتهم، فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُول إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (¬7). وقال [تعالى] (¬8): {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كلَّهَا} (¬9). [وإلى أن القرآن] (¬10) اشتمل على كلام سوى كلام العرب، وإلى أن قوله: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ الله} (¬11)، لغة بربرية: ذهب الفقيه الأجل الإمام الأنبل أبو زكريا يحيى بن [ملول] (¬12) [الزناتي] (¬13) في تعليقه على "البرهان". وأما السورة التي مع أم القرآن: فقد اختلف [فيها] (¬14) المذهب على ¬

_ (¬1) في ب: فقد. (¬2) في أ: في. (¬3) سورة الدخان الآية (18). (¬4) في قوله تعالى: {وفَاكهَةَ وَأَبًّا} سورة عبس الآية (31). (¬5) سقط من ب. (¬6) في أ: يعلمهم. (¬7) سورة إبراهيم الآية (4). (¬8) سقط من ب. (¬9) سورة البقرة الآية (31). (¬10) في أ: وإذا. (¬11) سورة الدخان الآية (18). (¬12) في ب: منون. (¬13) سقط من ب. (¬14) في أ: فيه.

ثلاثة أقوال. أحدها: أنها واجبة، [فإن] (¬1) تركها عمدًا أو جاهلًا: أعاد الصلاة، وبه قال عيسى بن دينار. والثاني: أنها مستحبة، وإن تركها فلا شيء عليه، ولا سجود عليه، وقاله مالك وأشهب في "مختصر ما ليس في المختصر". والثالث: أنها سنة؛ فإن تركها ناسيًا: سجد قبل السلام، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬2)، فإن نسيها حتى تطاول بها: فلا شيء عليه وهو قوله في العتبية" (¬3)، وإن تركها عامدًا استغفر الله، ولا شيء عليه. وسبب الخلاف: اختلافهم في [المفهوم من] (¬4) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا [بفاتحة الكتاب] (¬5) وشيء معها". وفي حديث آخر: "لا صلاة لمن لم يقرأ ["بفاتحة الكتاب" (¬6)] (¬7) فصاعدًا". فمن فهم منه جواز الاقتصار على أم القرآن، وأن الزائد عليها لا حكم له، وهو كقوله عليه السلام: "القطع في ربع دينار فصاعدًا" (¬8). ¬

_ (¬1) في ب: فمن. (¬2) المدونة (1/ 67). (¬3) البيان والتحصيل (2/ 182). (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: بأم القرآن. (¬6) أخرجه أبو داود (822)، والنسائي (911) من حديث عبادة بن الصامت. قال الشيخ الألباني: صحيح إلا قول: فصاعدًا. (¬7) في ب: بأم القرآن. (¬8) أخرجه البخاري (6407)، ومسلم (1684).

والحكم متعلق بربع دينار [فصاعدًا] (¬1)، والزائد عليه لا حكم له؛ [يقول] (¬2) لا شيء عليه، لا إعادة ولا سجود. ومن فهم منه أن معنى قوله [عليه السلام] (¬3): "لا صلاة" أي: لا صلاة جائزة، قال: بإعادة الصلاة. فمن فهم منه: لا صلاة كاملة، قال: إنها سنة؛ يستغفر الله العامد، ويسجد الساهي [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: لقوله. (¬3) سقط من ب. (¬4) زيادة من ب.

المسألة الخامسة في الناعس والغافل والمزحوم

المسألة الخامسة في الناعس والغافل والمزحوم وأما الناعس والغافل: فالمذهب على [أن] (¬1) [أحكامهما] (¬2) واحدة؛ فإذا نفس المأموم خلف إمامه حتى فاته ركن من صلاته مثل أن يفوته بركوع أو سجود: فهل يتبعه المأموم بالقضاء أو يلغي، ويدخل مع الإمام في الركن الذي هو فيه؟ فالمذهب على [أربعة] (¬3) أقوال كلها قائمة من المدونة: أحدها: أنه يتبعه سواء نابه ذلك في الركعة الأولى أو في الثانية، وهذا إذا نعس في الركوع أو غفل عنه حتى سبقه به الإمام، وهو ظاهر قوله في كتاب الوضوء من "المدونة" في "باب الرعاف" (¬4). والثاني: أنه لا يتبعه، ويلغى تلك الركعة، ويدخل مع الإمام من حيث انتهى، ويقضي إذا سلم الإمام [وهو ظاهر المدونة في غير ما موضع؛ لأن ذلك من باب القضاء في حكم الإمام] (¬5)، ولا فرق بين الركعة الأولى والثانية (¬6). والثالث: التفصيل بين [الركعة] (¬7) الأولى والثانية؛ [فإن نابه ذلك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: حكمهما. (¬3) في أ: ثلاثة. (¬4) المدونة (1/ 38). (¬5) سقط من أ. (¬6) المدونة (1/ 72). (¬7) سقط من ب.

في الركعة الأولى فلا يتبعه] (¬1)؛ لأنه لم يحصل له [معه] (¬2) ركن سوى الإحرام، ويتبعه في الثانية إذا عقد معه الأولى بسجدتيها، وهو قول مالك في كتاب الصلاة [الأول] (¬3) من "المدونة" (¬4). [والقول الرابع: التفصيل بين الجمعة وغيرها فلا يتبعه في الجمعة ويتبعه في غيرها، وهو قول محمَّد بن عبد الحكم] (¬5). وسبب الخلاف: بين من منع الاتباع جملة وبين من جوزه جملة [في الأولى وفي الثانية] (¬6): اختلافهم في المفهوم من قوله [عليه السلام] (¬7): "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه [فإذا ركع فاركعوا] (¬8) " (¬9): هل من شرط [ق/ 18 جـ] فعل [المأموم] (¬10) أن يقارن فعل [الإمام] (¬11) في جميع أجزاء الركعة -أعني القيام والانحناء والسجود-[أو] (¬12) إنما هو شرط في بعضها؟ فمن رأى أنه شرط في كل جزء من أجزاء الركعة الواحدة -أعني أن يقارن فعل المأموم فعل إمامه، وإلا كان اختلافًا عليه فمتى لم يدرك معه من ¬

_ (¬1) في ب: ففي الركعة الأولى لا يتبع الأمام. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) المدونة (1/ 72). (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من ب. (¬7) في ب: صلى الله عليه وسلم. (¬8) سقط من أ. (¬9) تقدم. (¬10) في أ: الإمام. (¬11) في أ: المأموم. (¬12) في أ: و.

الركوع ولو جزءًا يسيرًا: لم يعتد بتلك الركعة. ومن رأى أنه ليس من شرطه، [وأن] (¬1) له أن يتبعه ما لم يعقد الركعة الثانية، [وأنه] (¬2) ليس من شرط فعل المأموم أن يكون بعضه قارن بعض فعل الإمام ولا كله، وإنما من شرطه أن يكون [بعده] (¬3) فقط، ويكون ذلك مفهوم قوله عليه السلام. وسبب الخلاف: بين من فصَّل، ومن أطلق بعد اتفاقهم في جواز الاتباع إذا حصل له معه ركن [من الصلاة] (¬4) الإحرام هل يكون هو ركن يبنى عليه أم لا؟. فمرة رأى أن الإحرام ركن يبنى عليه: [فيجزيه] (¬5) الاتباع، وهو ظاهر قوله في كتاب "الوضوء" في "الرعاف" (¬6). ومرة لم يره ركنا، فمنعه البناء والاتباع، وهو قوله في "كتاب الصلاة [الأول] (¬7) ". [فعلى القول بأنه يجوز له اتباع الإمام يتبعه إلى متى؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من المدونة: أحدها: أنه يتبع الإمام ما لم يرفع رأسه من سجوده وهو قوله في كتاب الصلاة الأول] (¬8). ¬

_ (¬1) في أ: فإن. (¬2) في ب: إذ. (¬3) في أ: بعضه. (¬4) في ب: مع الإمام. (¬5) في أ: فيجوزه. (¬6) في ب: الراعف. (¬7) في الأصل: الأولى. (¬8) سقط من أ.

والثاني: أنه يتبعه ما لم [يرفع] (¬1) الإمام [إلى التي تليها] (¬2) وهو قول مالك، وهو ظاهر قوله في "المزحوم" في "كتاب الصلاة الثاني" من "المدونة" (¬3)، إذا زوحم عن السجود؛ إذ لا فرق بين أن يُزَاحم عن السجود أو عن الركوع، أو ينعس على القول بجواز الاتباع. والثالث: أنه يتبعه ما لم يرفع رأسه من ركوع الثانية. وقاله مالك مرة أخرى، وهو ظاهر المدونة في أن عقد الركعة [إنما هو] (¬4) رفع الرأس منها. [وعلى القول بأنه يتبعه ما لم يرفع رأسه من سجودها فهل المراد بذلك السجدتن جميعًا أو إنما أراد رفع رأسه من السجدة الأولى! قولان: أحدهما: أن المراد السجدتين جميعًا. والثاني: أن المراد السجدة الأولى؛ لأنه إذا رفع رأسه منها فقد حال بينه وبن الاتباع عمل كامل، وهو أداء السجدتين، وهو قول بعض الأندلسيين] (¬5). وسبب الخلاف: اختلافهم في عقد الركعة هل هو الرفع منها، أو هو وضع اليدين على الركبتين؟ وهذا الخلاف أيضًا ينبني على الخلاف في الرفع من الركوع هل هو واجب، أو ليس بواجب؟. فمن رأى أنه واجب يقول: عقد الركعة رفع الرأس منها. ¬

_ (¬1) في أ: يدخل. (¬2) في أ: يدخل. (¬3) المدونة (1/ 146، 147). (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ.

ومن رأى أن الرفع ليس بواجب [يقول] (¬1): عقدها وضع اليدين على الركبتين. وسبب الخلاف: بين من قال: يتبعه ما لم يرفع رأسه من السجود، وبين من قال: يتبعه ما لم يعقد الركعة الثانية: اختلافهم في القضاء الذي لا يجوز في حكم الإمام ويعد [مخالفًا] (¬2). هل المراد بذلك [قضاء] (¬3) ما سبقه به الإمام قبل أن يدخل معه في الصلاة دون ما سبقه به الإمام بعد الدخول في الصلاة لأجل الغفلة [أو] (¬4) النعاس، [و] (¬5) ذلك عام في الجميع؛ لأنه [يسمى] (¬6) قاضيًا؛ إذ القضاء عبارة عن فعل ما سُبق به، وهذا كله إذا نعس في الركوع. وأما إذا نعس في السجود بعد أن عقد مع الإمام الركعة: فلا خلاف أنه يتبعه ما لم يعقد عليه الركعة التي تليها إما بوضع اليدين على الركبتين، [أو] (¬7) بالرفع منها، على الخلاف [الذي قدمناه] (¬8). والغافل كالناسي في جميع ما ذكرناه. والمزحوم [إذا زوحم عن] (¬9) السجود: حكمه حكم الناعس بلا إشكال. ¬

_ (¬1) في ب: يقال. (¬2) في ب: مخالفة. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: و. (¬5) في أ: أو. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: وإما. (¬8) سقط من ب. (¬9) في ب: في.

وإذا زوحم عن الركوع، فالمذهب على قولين [قائمين من المدونة] (¬1): أحدهما: أنه يتبعه قياسًا على الناعس [وهو ظاهر المدونة] (¬2). والثاني: أنه لا يتبعه، ويلغي تلك الركعة، وتكون أول صلاته الركعة التي أدرك فيها الإمام، وهو أيضًا ظاهر "المدونة" (¬3). وينبني الخلاف على الخلاف في المزحوم، هل هو معذور بالزحام كما يعذر الناعس بالنعاس على مشهور المذهب [أم لا] (¬4)؟ فمن ساوى بينهما في العذر لكونهما مغلوبين، بل المزحوم أبين عذرًا؛ لأنه غير مفرط: قال يتبع المزحوم كما يتبع الناعس، وهو نص [قول] (¬5) عبد الملك في كتاب محمَّد. ومن فرق بينهما -وهو قول ابن القاسم (¬6) - يقول: الناعس معذور بالنوم؛ إذ لا يملك الإنسان دفعه عن نفسه، ولا التحرز عنه؛ لأنه خصم ألد أو خطب لا يُرد [فيجوز له الاتباع] (¬7)، بخلاف المزحوم؛ لأنه مفرط؛ إما [في] (¬8) المسابقة [إلى السجود] (¬9) حتى يأخذ مكانًا واسعًا، وإما لكونه قادرًا على الدفع عن نفسه حتى يجد [مكانًا] (¬10) متسعًا؛ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) المدونة (1/ 147). (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من ب. (¬6) المدونة (1/ 172). (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: إلى. (¬9) سقط من أ. (¬10) سقط من أ.

لأن ذلك من جنس مقدوره، وكان التفريط من جهته أظهر من الناعس والغافل [والله أعلم والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب، جـ.

المسألة السادسة الإمامة في الصلاة

المسألة السادسة الإمامة في الصلاة وفيها سبعة أسئلة: الأول: معرفة أحكام الإمامة، ومن هو أولى بها؟ والثاني: إمامة المريض. والثالث: إمامة الفاسق. والرابع: إمامة الأَلْكَن [ومن يلحن] (¬1). والخامس: إمامة الصبي. والسادس: إمام العبد. والسابع: إمامة المرأة. والجواب عن السؤال الأول: [في معرفة أحكام الإمامة] (¬2) وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه" (¬3) الحديث. فمن أحكام الإمامة: الاقتداء بأفعال الإمام، وأقواله ومتابعته [ق/ 13 ب] فيما يفعله ويقوله من غير أن يتقدم عليه، ولا أن يتأخر عنه. وأن يكون الاقتداء حسًا ومعنىً، سرًا وعلانية، ظاهرًا وباطنًا. فإذا فعل ذلك: فقد جعل الاقتداء المأمور به من غير خلاف. فإن خالفه في الأفعال أو في الأقوال: هل تبطل صلاته أو تصح؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) تقدم.

فقد تقدم الكلام عليه. فإن حصل الاقتداء في الظاهر، وخالفه في الباطن، مثل أن ينوي المأموم صلاة، والإمام في غيرها: فهل [تجزئه] (¬1) أم لا؟ فالمذهب على [ثلاثة أقوال كلها قائمة] (¬2) من المدونة: أحدها: أنها تجزئه جملة، سواء كانت إحداهما بدلًا من الأخرى كالظهر [مع] (¬3) الجمعة، أو كانت مستقلة بنفسها كالظهر والعصر [وهو نقل أبي الحسن اللخمي في الظهر والعصر؛ لأنه قال: يعيد في الوقت استحسانًا] (¬4). وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" (¬5)؛ لأنه قال: من أتى [المسجد] (¬6) يوم الخميس يظنه يوم الجمعة، فصلى مع الإمام [ق/ 26 أ] [ظهرًا] (¬7) أربعًا: قال: صلاته جائزة. فقد جوز الصلاة هاهنا مع اختلاف نية الإمام والمأموم. وأي اختلاف أشد ممن دخل على ركعتين، والإمام في صلاة هي أربع؟ فقال: إن صلاته تجزئه عنه، فكذلك ينبغي إذا أتى يوم جمعة يظنه يوم خميس أن تكون صلاته مجزئة عنه [وهو قوله في السليمانية] (¬8) خلاف ما قاله في الكتاب، وعلل فيه بأن الجمعة لا تكون إلا بنية. ¬

_ (¬1) في أ: تجزئ. (¬2) في أ: قولين قائمين. (¬3) في أ: و. (¬4) سقط من أ. (¬5) المدونة (1/ 104). (¬6) سقط من ب. (¬7) في ب: الظهر. (¬8) سقط من أ.

وهذا التعليل الذي علل به ابن القاسم في الجمعة موجود في غيرها؛ إذ لا تجوز الصلاة إلا بنية باتفاق العلماء. وكيف تختص الجمعة عن غيرها بأنها تفتقر إلى النية؟ ويعد ذلك من ابن القاسم اضطرابًا من القول. والثاني: [أنها] (¬1) لا تجزئه صلاته جملة، وهو قول أشهب (¬2). [والثالث: التفصيل بين الصلاتين المختلطي الوقت فلا تجوز، وهذا في الصلاتين، إحداهما: بدل من الأخرى، فيجزئ المأموم على المشهور من المذهب، وصلاة الإمام جائزة اتفاقًا] (¬3). وينبني الخلاف: على الخلاف في صلاة المأموم هل هي مرتبطة بصلاة الإمام أم لا؟ فإن قلنا بالارتباط: فلا ينبغي أن تخالف نية المأموم نية إمأمه؛ لا في الزمان، ولا في المقدار، وهو مشهور المذهب. فإن قلنا [بعدم الارتباط] (¬4) فيجوز مخالفة نية المأموم نية إمامه في الزمان والمقدار. وذلك موجود في أكثر مسائل المذهب، فمن اقتفاها ظهر له ما قلناه، ولاسيما في مسائل المحدث إذا صلى بالناس ناسيًا لحدثه، فقد قال بالإجزاء. وعلى هذا الأصل ينبني الخلاف في إمامة الصبي على ما يأتي [بيانه] (¬5) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) النوادر (1/ 306)، والبيان والتحصيل (2/ 83). (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: بغير ارتباط. (¬5) في ب: في بابه.

إن شاء الله تعالى. وهو ظاهر لمن تأمله. [فإن] (¬1) حصل الاقتداء في الباطن، و [أخل] (¬2) بصورته في الظاهر [و] (¬3) أخل بمعناه في الظاهر مثل أن يصلي أَمَامَ إمامه أو [صلى] (¬4) على ظهر المسجد بصلاة إمامه، [أو صلى في دور وراءه، وبينه وبين الإمام حائل. فأما إذا صلى أمام إمامه، أو على ظهر المسجد بصلاة إمامه] (¬5): [فصلاته جائزة] (¬6) مع الكراهة في ذلك إذا كانت في غير الجمعة. ووجه [الكراهة] (¬7) في ذلك: أن اقتداءه بأقوال الإمام وأفعاله ليس على يقين، وإنما هو على الحرز والتخمين. وأما إذا حال بينه، وبين الإمام حائل من ورائه: فلا يخلو [ذلك] (¬8) من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يرى أفعال الإمام ويسمع أقواله. والثاني: أن [يغيب] (¬9) عنه أفعال الإمام ولا يسمع أقواله. والثالث: أن يغيب عنه أفعاله، ويسمع أقواله. ¬

_ (¬1) في ب: وإن. (¬2) في أ: وأخذ. (¬3) في ب: أو. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من ب. (¬6) في أ: فإنه يجوز. (¬7) في ب: الكراهية. (¬8) سقط من أ. (¬9) في أ: يصب.

فإن كان [شاهدًا] (¬1) للأمرين؛ يرى [الأفعال] (¬2) ويسمع [الأقوال] (¬3): فالصلاة جائزة باتفاق، كان الموضع الذي صلى فيه محجورًا عليه أو مأذونًا [له] (¬4) فيه، غير أنه لا ينبغي له التمادي على ذلك لما فيه من الرغبة عن إتيان المسجد و [تقاعد] (¬5) الهمة عن حصول الأجر الذي ندب الله تعالى إليه وحث عليه في الصف الأول. فإن كان [بموضع] (¬6) لا يرى منه أفعال الإمام ولا يسمع أقواله: فالذي تقتضيه أصول المذهب أن تبطل صلاته [لعدم] (¬7) الاقتداء المقصود شرعًا؛ وقد يكون في السجود والإمام في الركوع، وقد يكون في ركعة، والإمام في أخرى غيرها، فهذه عين المخالفة التي نهى عنه [الشارع - صلى الله عليه وسلم -] (¬8). فإن كان بموضع يرى [منه] (¬9) أفعال الإمام، ولا يسمع أقواله، أو يسمع أقواله، ولا يرى أفعاله: فصلاته جائزة مع [الكراهة] (¬10)؛ لأنه مع الإمام في حرز و [تخمين] (¬11). ¬

_ (¬1) في أ: شاهد. (¬2) في ب: أفعاله. (¬3) في ب: أقواله. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: وتباعد. (¬6) في ب: في موضع. (¬7) في أ: يعدم. (¬8) في ب: الشرع. (¬9) سقط من أ. (¬10) في ب: الكراهية. (¬11) في أ: تمكين.

ولهذا كره مالك الصلاة على أبي قبيس (¬1) وقعيقعان (¬2) بصلاة الإمام في المسجد الحرام؛ لبعده عن أفعال الإمام. وأما الذي هو أولى بالإمامة فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ويؤم القوم أقرؤهم" (¬3). وفي حديث آخر: "يؤم القوم أفضلهم إذا كان أفقههم" (¬4). وفي حديث آخر: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن" (¬5). ومن شرط الضامن أن يكون [عالمًا] (¬6)، [بالمضمون فخرج] (¬7) من هذا أن إمامة الجاهل لا تجوز، وأنه لابد للإمام أن يكو عالمًا بما يصلح الصلاة و [ما] (¬8) يفسدها. وقوله عليه السلام: "يؤم القوم أقرؤهم" (¬9): [يريد] (¬10) أفقههم؛ لأن القراء هم الفقهاء [في ذلك الوقت] (¬11)؛ ¬

_ (¬1) جبل بمكة. (¬2) جبل بمكة. (¬3) أخرجه مسلم (673) من حديث أبي مسعود البدري. (¬4) لم أقف عليه مرفوعًا بهذا اللفظ. (¬5) أخرجه أبو داود (517)، والترمذي (207)، وأحمد (9626) من حديث أبي هريرة. وصححه العلامة الألباني رحمه الله. (¬6) كلمة بالأصل لم أتبينها رسمت هكذا "مليا". (¬7) في أ: فالمضمون يخرج. (¬8) سقط من ب. (¬9) تقدم. (¬10) في ب: يعني. (¬11) سقط من أ.

لأنهم [كانوا] (¬1) يستنبطون الأحكام من كتاب الله تعالى. وأما من يقرأ القرآن، ولا يعلم تأويله: فهو ممن قال الله تعالى فيهم: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (¬2). ولهذا قال مالك (¬3) رحمه الله: قد يقرأ من لا [ق/ 19جـ] [يريد] (¬4) من لا خير فيه. وقال في موضع آخر: من لا يرضى [حاله] (¬5) الناس. فإذا اجتمعت جماعة للصلاة فلا تخلو حالتهم من أن تتفق أو تختلف. فإن اتفقت حالاتهم في الصلاة، والعلم، والسِّن، والجمال، وسائر الأوصاف المعتبرة حتى لا ترجيح: فإنهم يقدمون لأنفسهم من يصلي بهم. فإن وقع التنافس والحرص على الإمامة، وكل واحد يخطبها لنفسه: فإنهم يتقارعون، فمن خرج سهمه كان أحق بالإمامة دون سائرهم. وهذا [دأب] (¬6) الشرع في كل ما يقع فيه التداعي وتساوت فيه الأقدام، [فبابه] (¬7) أن [يقترع] (¬8) فيه. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول ثم ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سورة الجمعة الآية (5). (¬3) المدونة (1/ 85). (¬4) في ب: أي. (¬5) في ب: حالته. (¬6) في ب: أدأب. (¬7) في ب: فشأنه. (¬8) في أ: يقرع.

لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" (¬1). وكما فعل في الغزو حين قرع بين نسائه (¬2). فإن اختلفت حالاتهم في الصفات المحمودة، وبعضهم حائز لبعضها؛ فمن [حصلت فيه] (¬3) أكثر الأوصاف فهو أولى بالإمامة. [والأصل] (¬4): الفقه، وصلاح الحال [فمن] (¬5) كان [عنده] (¬6) العلم والدين [والسن كان أولى بالاتفاق. وإن كان عنده العلم والدين] (¬7) وغيره أسن منه، وهو دونه في العلم: فالفقيه مقدم على المشهور، فهذا مع التنافس والتناحر كما قدمنا. وأما ما يرجع إلى الجواز فمهما قدموا من يصلي بهم، وهو عالم بما يصلح الصلاة وما يفسدها، وهو دونهم في الفقه، فصلاتهم جائزة بالاتفاق. وليس من شرطه أن يستظهر [بالقرآن جميعه] (¬8)، بل تجوز إمامته، وإن كان لا يقرأ إلا من سورة: {والضحى} إلى {من الجنة والناس}، قاله بعض علمائنا إذا كان فقيهًا عالمًا في دينه. والجواب عن السؤال الثاني: في إمامة الجالس: والمراد بالجالس هنا: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (590)، ومسلم (437). (¬2) أخرجه البخاري (2454)، ومسلم (2770). (¬3) في ب: حصل عنده. (¬4) في ب: فالأصل. (¬5) في أ: فيهما. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: القرآن كله.

المريض الذي لا يقدر على القيام. وأما الصحيح السَّوي: فلا خلاف أنه لا يجوز [له] (¬1) أن يصلي الفريضة، وهو جالس، فمهما صلاها جالسًا أعاد أبدًا، ثم لا يخلو [حال] (¬2) الإمام و [المأموم] (¬3) من أحد وجهين: إما أن يتساووا معه في الحال، والعذر ويخالفوه، فإن تساووا في الحال، وعدم القدرة على القيام: فهل تجوز إمامة بعضهم لبعض أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو قول ابن القاسم في [كتاب] (¬4) النوادر (¬5): [و] (¬6) لا بأس بالمرضى والضعفاء والميداء (¬7) في السفينة أن [يؤمهم] (¬8) أحدهم في الفريضة إذا كانوا كلهم جلوسًا. والثاني: أنه لا يؤمهم أحدهم [في الفريضة] (¬9) جالسًا، فإن أمهم أعادوا وأجزأت الإمام صلاته، وهو قول سحنون بن سعيد في الكتاب المذكور (¬10). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: حالته. (¬3) في ب: المأمونين. (¬4) سقط من ب. (¬5) النوادر (1/ 292، 293). (¬6) سقط من ب. (¬7) من أصابهم دوار البحر. (¬8) في ب: يؤم. (¬9) سقط من أ. (¬10) النوادر (1/ 292، 293).

وذكر ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون مثل قول ابن القاسم (¬1). وسبب الخلاف: تعارض الأخبار الواردة عن [النبي] (¬2) - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب: فمن ذلك حديث أنس قال: ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسًا فصرع عنه فجحش (¬3) شقه الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات قاعدًا، وصلينا وراءه قعودًا، فقال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا" (¬4). ويعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَؤُمَنَّ أحد بعدي جالسًا" (¬5). فمن رجح حديث أنس [جوَّز] (¬6) إمامته، ومن رجح حديث الآخر منعها. وأما إذا اختلفت [حالتهم وحال] (¬7) الإمام؛ فإن كان الإمام قادرًا على القيام، ووراءه مرضى لا يقدرون على القيام، فينبغي أن [تصح] (¬8) الإمامة في هذا الوجه بالاتفاق. ¬

_ (¬1) النوادر (1/ 293). (¬2) في ب: رسول الله. (¬3) خدش. (¬4) أخرجه البخاري (657)، ومسلم (411). (¬5) أخرجه ابن حبان (2110)، والدارقطني (1/ 398)، والبيهقي في الكبرى (3/ 80) حديث (4854)، وعبد الرزاق في المصنف (4087) من حديث الشعبي يرفعه. فهذا حديث مرسل، وقد انفرد به جابر الجعفي، وهو أحد الضعفاء. وقد ضعفه الدارقطني، والبيهقي، وابن حبان، والزيلعي، وغيرهم. (¬6) في ب: أجاز. (¬7) في أ: حالاتهم وحالات. (¬8) في أ: تجوز.

وإن كان الإمام مريضًا لا يقدر على القيام، والقوم أصحاء يقدرون على القيام، فهل تجوز لهم الصلاة خلفه [قائمين] (¬1). فأما صلاتهم خلفه جلوسًا: فلا خلاف في المذهب أن صلاتهم فاسدة، ويُعيدُون أبدًا؛ لأنهم تركوا القيام والركوع مع القُدرة على الإتيان [بهما] (¬2) [وذهب] (¬3) أحمد والأوزاعي: أنهم يُصَلّون خلفه جُلُوسًا، وروى ذلك عن أبي هريرة، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين (¬4). وأما صلاتهم خلفه قيامًا: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن صلاتهم وصلاته جائزة، وهو قول مُطَرِّف وابن المَاجِشُون (¬5). والثاني: أنها جائزة للإمام، ويعيد من خلفه، وبه قال أشهب. [وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك] (¬6)، وقال أحمد بن المعذل: لا ينبغي ذلك؛ لأنهم إن جلسوا معه كانوا قد فعلوا خلاف ما فعله الناس خلف [النبي] (¬7) - صلى الله عليه وسلم - حين استخلف أبا بكر رضي الله عنه. وسبب الخلاف: حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ثقل مرضه قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" -أو كما قال] (¬8) - ثم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: ومذهب. (¬4) انظر: مختصر اختلاف العلماء (1/ 270، 271). (¬5) انظر: النوادر (1/ 260). (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: رسول الله. (¬8) سقط من ب.

وجد [من] (¬1) نفسه خفة، فأتى فجلس إلى جنب أبي بكر، فصلى جالسًا و [وأبو بكر] (¬2) والناس قيامًا (¬3). فاختلف العلماء هل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إمامًا، وأبو بكر يُسمع الناس، ويبلغ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو كان أبو بكر [إمامًا] (¬4) والنبى - صلى الله عليه وسلم - هو المأموم؟ فمن ذهب إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إمامًا، وأبو بكر [يسمع الناس] (¬5) قال: تجوز إمامة الجالس، وأن فعله ناسخ لقوله: "لا يَؤمُنَّ أحد بعدي جالسًا .. " (¬6). ومن ذهب إلى أن أبا بكر هو [الإمام] (¬7) يقول: إن إمامة الجالس لا تجوز؛ لقوله [عليه السلام] (¬8): "لا يَؤُمنَّ أحد بعدي جالسًا" (¬9) [ق 27 أ] أو ثبت عنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إمامًا، ويكون ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتعدى إلا بدليل، ولاسيما على مذهب من يقول: إن الفعل لا عموم له. ويندرج تحت هذا السؤال: إذا صلى الإمام على شيء أرفع مما عليه أصحابه، فلا يخلو من [أحد] (¬10) وجهين: ¬

_ (¬1) في أ: في. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (633)، (655)، ومسلم (418). (¬4) في ب: هو الإمام. (¬5) سقط من أ. (¬6) تقدم، وهو ضعيف. (¬7) في أ: المأموم. (¬8) في ب: صلى الله عليه وسلم. (¬9) تقدم، وهو ضعيف. (¬10) سقط من أ.

إما أن يستقل بذلك المكان و [يختص به دون] (¬1) سائر من خلفه، أو يشاركه فيه بعض القوم. فإن اختص [به] (¬2) وحده: فلا يخلو ذلك المكان من أن يكون يسير الارتفاع أم لا. فإن كان يسير الارتفاع مثل الشِّبْر أو عَظم الذِّرَاع: فصلاة الكل جائزة. وإن كان كثير الارتفاع: فصلاة الكُل باطلة. وعلَّل مالك في الكتاب بأنه يعبثون إلى الارتفاع (¬3). ولا شك في فساد صلاة الإمام؛ لأنه قاصد إلى العبث والتَّجَبُّر والتَّكَبُّر، وذلك مُنَافٍ لمقصود الصلاة الذي هو الخشوع والخضوع [والخُنُوع] (¬4) لله تعالى. ولذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الإمام على شيء ["أنْشَز" (¬5)] (¬6) مما عليه أصحابه. وأما فساد صلاة المأمومين؛ إما لكونهم قصدوا ذلك وتعمدوا [إلى] (¬7) ¬

_ (¬1) في ب: ينفرد به. (¬2) في ب: بذلك. (¬3) المدونة (1/ 81). (¬4) سقط من ب. (¬5) أنشز العظم: أي: رفعه، وأعلاه، وأكبر حجمه، وهذا من النَّشَز المرتفع من الأرض، ونَشَزَ الرجل يَنْشِزُ إذا كان قاعدًا فقام. النهاية (5/ 54)، ولسان العرب (5/ 418). (¬6) في ب: أرفع. (¬7) سقط من أ.

الاقتداء [بهذا الإمام] (¬1) [وهو] (¬2) على تلك الحالة من غير حامل [حملهم] (¬3) على ذلك من جهة الإمام إلا حامل الهوى فلا خلاف أيضًا [في بطلان صلاتهم] (¬4). وإن [حملهم] (¬5) على ذلك [داعي] (¬6) الخوف من جهة الإمام -فصلاتهم باطلة أيضًا من وجهين: إما لفساد صلاة الإمام، وصلاة [المأمومين] (¬7) مرتبطة بصلاة [إمامهم] (¬8). وإما لعدم القصد الكلي إلى أدائها لمشاركة ما كان من سبب داعية الإكراه. فكلا الأمرين لهما تأثير في بُطْلان الصَّلاة على الانفراد. فإن لم ينفرد الإمام بالمكان، بل شاركه فيه بعض القوم، ثم ضاق عن الباقين فصلوا في أسفل: فلا شك في هذا الوجه أن صلاة الإمام، ومن صلى معه فوق جائزة بالاتفاق لعدم العلة؛ لأنهم لم يقصدوا إلى العبث. وصلاة الذين صلوا أسفل جائزة مع الكراهية؛ لأنهم غاب عنهم بعض أفعال الإمام، فكرهت لأجل ذلك، وربك أعلم. والجواب عن السؤال الثالث: في إمامة الفاسق ومن كان في معناه. ¬

_ (¬1) في أ: بالإمام. (¬2) سقط من أ. (¬3) في الأصل: جملهم. (¬4) في ب: أن صلاتهم باطلة. (¬5) في الأصل: جملهم. (¬6) في أ: أعني. (¬7) في ب: المأموم. (¬8) في ب: إمامه.

والفسق في أصل اللغة (¬1): الخروج، تقول: فسقت الثمرة: إذا خرجت من غُلفها، وفسقت الفأرة: إذا خرجت من جحرها. وسمى الفاسق فاسقًا لخروجه عن الصراط المستقيم الذي هو الكتاب والسنة، و [ارتكب] (¬2) الفجور، وإدْمَانِهِ على المعاصي، وأنه ضَيَّع أوامر الله ظاهرًا وباطنًا في العبادات والعادات، بل غَلَبَتْه شهواته وَاتَّبَع هواه، وكان أمره فُرُطًا. واختلفت المذهب في إمامته على أربعة أقوال (¬3): أحدها: أن إمامته جائزة، وتستحب الإعادة في الوقت. والثاني: أنها لا تجزئ، ويعيد من ائتم به أبدًا. والثالث: التفصيل بين أن يكون فسقه [بتأويل] (¬4) أو بإجماع؛ فإن كان فسقه بتأويل: أعاد في الوقت. وإن كان بإجماع كمن ترك الطهارة عامدًا، أو شرب الخمر، أو زنا: أعاد أبدًا. وهذا القول حكاه الشيخ [أبو بكر] (¬5) الأبهري عن القاضي أبي الحسن بن] (¬6) القصار ["رضي الله عنهما" (¬7)] (¬8). ¬

_ (¬1) لسان العرب (10/ 308). (¬2) في ب: ارتكابه. (¬3) النوادر (1/ 283: 288)، والمدونة (1/ 84). (¬4) في ب: يتأول. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) عيون المجالس (1/ 370). (¬8) سقط من ب.

والرابع: التفصيل بين [أن يكون] (¬1) مما له تعلق بالصلاة أو يكون مما لا تعلق له بالصلاة. فإن كان مما له تَعَلُق بالصلاة كترك الطهارة، أو تعمد الإخلال بأمر من فرائض الصلاة: فلا يُجزئهم [ويُعِيدُون] (¬2). فإن كان مما لا تعلق له بالصلاة كالزنا وغَصْب الأموال، وقتل النفس: فصلاتهم جائزة. وهو اختيار أبي الحسن اللخمى. وسبب الخلاف في ذلك: أنه شيء مَسْكُوت عنه في الشَّرع، والقياس فيه متعارض: فمن رأى أن صلاة المأموم مُرْتَبِطَة بصلاة إمامه يقول: إن صلاته فاسدة؛ لأنه يُتَّهَم أن يصلي صلاة فاسدة كما يُتَّهَم في الشّهادة أن يكذب. ولهذا فَرَّقَ مَنْ فَرَّق بين أن يكون فِسْقه بتأويل أو بغير تأويل. [ومن] (¬3) رأى أن صلاته غير مُرْتَبِطَه بصلاة إمامه، وأن فساد صلاة الإمام لا يَسْرِي إلى فساد صلاة المأموم، يقول: إن إمامته جائزة. وهذا في المُجَاهِر بِفِسْقِه، المُعْلِن بارتكاب المعاصي، والفواحش , المُصِرُ على الكبائر، والصغائر. وأما من اقتحم جريمة وارتكب كبيرة، ولم يكن ذلك منه عادة قبل؛ مثل أن يشرب خمرًا أو يقتل نفسًا، فإن شرب خمرًا، وتاب منها [وَطَهَّرَ جَوفه] (¬4): فلا خلاف في جواز إمامته. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: ويعيدوا أبدًا. (¬3) في أ: فمن. (¬4) في ب: وظهر من خوفه.

فإن شربها وخرجت من جَوفه ولم يَتُب منها: فهو كالمصرّ، ومن شربها، ولم يَسْكَر فهل تجوز إمامته والخمر في جوفه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن إمامته لا تجوز، ويعيد من صلى خلفه أبدًا، وهو قول مالك في كتاب محمَّد، قال: لأن [النجس] (¬1) في فيه وفي جوفه (¬2). والثاني: أن صلاتهم خلفه جائزة، وهو قول ابن حبيب في الإِمام الذي تُؤَدَى إليه الطاعة [ولا فرق بين الإِمام الذي تؤدي إليه الطاعة] (¬3) وغيره؛ فإن عَلَّلْنَا [بالنجاسة أنه حامل لها] (¬4): فَالعلة شاملة ولا فرق بينهما. وأما الذي يعصرها ويبيعها ولا يشربها: فقد نص سحنون في كتاب الصلاة [الثاني] (¬5) من "النوادر" (¬6) أنه لا ينبغي أن يُتخذ إمامًا [راتبًا] (¬7) وليُزِيلُوه إن قدروا. وكذلك الذي يعمل بالرّبا. وأما قاتل النفس عمدًا: [فمشهور مذهب مالك] (¬8) أن إمامته [لا تجوز] (¬9)، وإن تاب. ¬

_ (¬1) في أ: الخمر. (¬2) النوادر (1/ 284)، والبيان والتحصيل (1/ 440). (¬3) سقط من أ. (¬4) في جـ: بكونه حامل للنجاسة. (¬5) سقط من أ. (¬6) نظر: النوادر (1/ 284). (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: فمذهب مالك المشهور. (¬9) في ب: غير جائزة.

وفي "المدونة" (¬1) قولةٌ ضعيفة أن توبته مقبولة. وسبب الخلاف: معارضة آية النساء (¬2) لآية الفرقان (¬3)؛ أيتهما ناسخة للأخرى؟ فمن رأى أن آية الفرقان ناسخة لآية النساء قال: مقبول التوبة [ق/ 20 جـ] على ما سنبينه بواضح الدليل في كتاب الديات. والجواب عن السؤال الرابع: إمامة الألْكَن وَمَنْ يَلْحَن. وأما الألكن: فقد روى مالك إجازة إمامته إذا كان عَدْلًا (¬4). وأما إمامة مَنْ يَلْحَن [فقد] (¬5) اختلف فيها المذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنها جائزة جملة (¬6). والثاني: أنها ممنوعة جملة (¬7). والثالث: أنه [إذا] (¬8) كان لحنه في أم القرآن لم [تجز] (¬9)، وإن ¬

_ (¬1) النوادر (1/ 285). (¬2) وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} الآية (93). (¬3) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} الآيتان (68، 69). (¬4) النوادر (1/ 282). (¬5) في أ: فيه. (¬6) وهو قول ابن حبيب. (¬7) وهو قول ابن القاسم. (¬8) في ب: إن. (¬9) في أ: يجز.

كان في غيرها جازت (¬1). والرابع: التفصيل بين أن يكون لحنه يغير المعنى: لم تجز إمامته، أو لا يغير المعنى فتجوز إمامته. وإلى هذا التفصيل ذهب [القاضي أبو الحسن] (¬2)، بن القصار. وينبني الخلاف: على الخلاف في [أم القرآن] (¬3)، هل هي ركن من أركان الصلاة [أم لا] (¬4)؛ على حسب ما مضى شرحه. وأما الأعجمي الذي لا يميز بين الضاد والطاء؛ فلا تجوز إمامته ابتداء مع وجود غيره، فإن فعل فصلاته وصلاة من خلفه جائزة؛ لأن لحنه لا يخرجه عن أن يكون قرآنًا. والجواب عن السؤال الخامس: في إمامة الصبي. ولا تخلو إمامة هذا الصبي من أحد وجهين: إما أن يكون في حَد [من] (¬5) يَعْقِل القُرْبَة أو في حَدِ مَنْ لا يَعْقِلُها. فإن كان في سِن من يعقلها ويُنْدَبُ إليها ويَعْرِفُ أنها تَنْفَع وَتَضُر. فالمذهب في إمامته على ثلاثة أقوال: أحدها: [أنها] (¬6) لا تجوز في الفرض والنفل، وهو مذهب المدونة (¬7)؛ لأنه قال في كتاب الصلاة الأول: لا يؤم الصبي في النافلة لا ¬

_ (¬1) وهو قول أبي بكر بن محمَّد. (¬2) سقط من ب. (¬3) في جـ: القراءة. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: أنه. (¬7) انظر: المدونة (1/ 84)، وهو قول ابن حبيب أيضًا.

للرجال ولا للنساء. والثانى: أنها تجوز في الفرض والنفل، وهو قول أبي مصعب؛ لأنه قال: إن أمُّ في الفرض أجزت صلاة من ائتم به. وقال مثله في إمام أحدث فاستخلف صبيًا صغيرًا [فأتم بالقوم] (¬1) فقال: إن عقل الصلاة وأمرها أجزته، وأعاد من خلفه في الوقت، والإعادة في الوقت استحبابًا. والثالث: التفصيل بين النفل والفرض؛ فتجوز في النفل، ولا تجوز في الفرض. وهو قول مالك في "المستخرجة" (¬2). وربما استدل من قال [بجواز إمامته] (¬3) بحديث [أبي جميلة] (¬4): أنه كان يؤم قومه وهو ابن سبع سنين. وسبب الخلاف: اختلافهم في إمامة المُتَنَفِّل بالمُفْتَرِض، وهذا الخلاف أيضًا له مَطْلَع آخر؛ و [هو] (¬5) صلاة المأموم هل هي مرتبطة بصلاة إمامه أم لا؟ وأما إذا كان الصبي في سن من لا يعقل القُرْبَة، [ولا يَعْرِف لها معنى] (¬6) مثل ابن خمس سنين، أو أربع: فإنه لا تجوز إمامته باتفاق المذهب؛ لأنه لا يُنْدَبُ إلى فعل [الصلاة] (¬7) ولا يُثَابُ عليها -لا هو ولا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: النوادر (1/ 286)، والمدونة (1/ 84)، والبيان والتحصيل (1/ 395). (¬3) في أ: بإمامته. (¬4) هكذا بالأصل، واسم أبي جميلة: سُنَيْن بن فرقد. (¬5) في أ: هي. (¬6) سقط من ب. (¬7) في جـ: الطاعات.

وَلِيُّه. والجواب عن السؤال السادس: في إمامة العبد. وقد اختلف المذهب عندنا في إمامة العبد في الفرائض على ثلاثة أقوال، بعد اتفاق الجميع على جواز إمامته في النوافل التي لا أسباب لها كالتهجد بالليل، وقيام رمضان، فاتفقوا على أنه يجوز أن يكون فيها إمامًا راتبًا، فاتفق المذهب على هذا إن كان برضا السيد فَمُسْلَّم. وإن كان بغير إذنه ورضاه، وكان قيامه بالليل يَضُر بالسَّيد في عمل النهار فمشكل. [فإن] (¬1) كنا أسقطنا عن العبد حضور الجماعة في سائر الصلوات، ومنعناه من التَّأَوب إلى المساجد، وحرمناه من سبع وعشرين درجة، وأسقطنا عنه فرض الجمعة [وشهودها] (¬2) مع ورود الأمر على العموم؛ إكرامًا للسيد، وملاحظة لحقه؛ لما يلحقه من الضرر في تعطيل [أشغاله] (¬3) [لسبب ذلك] (¬4) في أضعاف ذلك، فكيف لا يمنع العبد فيما يجب عليه؟ وأحد تلك الأقوال: أنه لا تجوز [ق/ 28 أ] إمامته في الفرائض، ولا في السنن التي لا أسباب [ق/ 14 ب] لها [من قيام الليل وصيام النهار إذا دخل بذلك الضرر على سيده، وقد نص ابن القاسم في كتاب الحج الثالث في العبد المظاهر إذا أراد أن يكفر بالصوم، وكان ذلك يضر بسيده أن له أن يمنعه، وهذا فيما يجب على العبد، فكيف فيما لا يجب عليه، فأحد تلك الأقوال أن لا تجوز إمامته في الفرائض، ولا في السنن التي لا أسباب لها] (¬5) كالعيدين غيرهما، وبه قال ابن القاسم (¬6) أنه لا ¬

_ (¬1) في ب: فإذا. (¬2) في أ: وشهوده. (¬3) في أ: شغله. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) المدونة (1/ 84).

يُتخذ فيها إمامًا راتبًا. ولا فرق عنده بين الجمعة وغيرها في الابتداء. فإن تقدم وصلى بهم، فلا يؤمر بالإعادة في غير الجمعة، وأما الجمعة فيعيد هو ويعيدون. والثاني: أنه يجوز أن يُتخذ إمامًا راتبًا في سائر الصلوات المفروضات، والسنن، ولا يجوز أن يكون إمامًا في الجمعة، وهو قول عبد الملك (¬1). والثالث: أن الإمامة جائزة في الجمعة، وسائر الصلوات، وهو قول أشهب (¬2). وسبب الخلاف: اختلاف الأصوليين في العبد، هل يدخل تحت خطاب الأحرار أم لا؟. فمن [رأى] (¬3) أن العبد غير داخل تحت خطاب الأحرار إلا بدليل فقد أراح نفسه. وذلك العبد [آدمي] (¬4) [صورةً] (¬5) وفرس معنىً لكونه مستغرق في خدمة سيده، [ومنهمكًا في شغل تولَّاه] (¬6) طول عمره؛ فكان شبيهًا بالحيوان [المسرحة في المراح] (¬7). ¬

_ (¬1) النوادر (1/ 287). (¬2) النوادر (1/ 286، 287)، والمدونة (1/ 85)، والبيان والتحصيل (1/ 483). (¬3) في ب: ذهب إلى. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: في الصورة. (¬6) سقط من ب. (¬7) في أ: المصرحة في الصراح.

فمن هذه صفته كيف يتناوله الخطاب العام (¬1). ولا خلاف أن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬2) لا يتناول [العبيد] (¬3). وكذلك قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكاةَ} (¬4). وما ذلك [إلا] (¬5) لعدم استيفاء شروط الخطاب، ولا امتثال بقول من يقول: إن ذلك لحق السيد؛ إذ لو أذن له السيد فحج [أن هذا الحج] (¬6) لا يجزئه عن فرضه إذا عُتق، والزكاة كذلك. ثم قام الدليل القاطع [على] (¬7) أنه مخاطب بالصلاة والصيام، وهو الإجماع. وبه يستدل على أن الخطاب [العام] (¬8) قد تناوله لا من نفس الخطاب [نعلم] (¬9) ذلك، بل بدليل آخر. ومن ذهب إلى أن خطاب الأحرار يدخل تحته [العبد] (¬10) فيقول: لا إشكال أن قوله تعالى: {يَا أَيها الَذِينَ آمَنُوا اركعُوا وَاسْجُدً وا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} (¬11) ¬

_ (¬1) هذا اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر. (¬2) سورة آل عمران الآية (97). (¬3) في ب: العبد. (¬4) سورة البقرة الآية (43). (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ. (¬9) في ب: يعلم. (¬10) في ب: العبيد. (¬11) سورة الحج الآية (77).

وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكرِ اللهِ} عام في الأحرار والعبيد إلا أن هذا العموم [خصص] (¬1) بالعرف، وذلك أن العادة الجارية، والسنة المطردة: أن السيد إنما بذل ماله في شراء العبد [طلبًا] (¬2) لمنافعه، [أداء] (¬3) لخدمته وامتثالًا لأوامره إذا أمره وإذا نهاه، فيستظهر عليه السيد لحق الربوبية، [ويستشعر] (¬4) العبد في نفسه ذل العبودية. فلو أوجبنا على العبد شهود الجمعة والسعى إليها لأدى ذلك إلى الإخلال [بمراد] (¬5) السيد، وفوات لهذه المقاصد. فلأجل ذلك مكنا السيد في المنع، وسلَّطنا هذا العرف على [عموم] (¬6) قوله جل وعز: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله} (¬7). فإذا أذن السيد لعبده بعد ذلك في شهود الجمعة هل يكون من أهلها، ويكمل العدد بحضوره، وينعقد الوجوب به أم لا؟ لأن ذلك نادر وقوعه من السادات لرغبتهم في الدنيا واستعدادهم [لجمعها] (¬8)، ولا تكاد نفوسهم تسمح في أن تتعطل [أشغالهم] (¬9) ساعة من النهار، فكيف لو تعطل أكثر النهار أو كله، ولاسيما إذا كان [العبد ممن] (¬10) حِرفته المحراث والمسحاة -[وهي] (¬11) حرفة أكثرهم- ¬

_ (¬1) في أ: خصوص. (¬2) في أ: طالبًا. (¬3) في أ: وقصدًا. (¬4) في أ: يستشعر. (¬5) في أ: لمراد. (¬6) سقط من أ. (¬7) سورة الجمعة الآية (9). (¬8) في أ: لحبها. (¬9) في أ: شغلهم. (¬10) سقط من أ. (¬11) في ب: وهو.

فلا يكون ذلك في أكثر الأوقات إلا خارج البلد. حتى لو وجد من تطيب نفسه بذلك [فإنما يكون] (¬1) نادرًا والأحكام إنما تبنى على الغالب. فإذا حضرها وصلى مع الناس: نَابَت له عن ظُهر يومه باتفاق المذهب. ولأجل [هذا] (¬2) قال أشهب: إن إمامته [فيها] (¬3) جائزة؛ لأنه لما حضرها صار من أهلها. وابن القاسم يقول: لما كان مخيرًا بين أن يصلي الجمعة أو الظهر كان دخوله فيها [[بالتطوع] (¬4) يشبه المتنفل [والله أعلم]] (¬5). والجواب عن السؤال السابع: في إمامة المرأة، ولا تخلو إمامتها من وجهين: إما [أن تكون] (¬6)، للرجال، وإما [أن تكون] (¬7) للنساء. أما إمامتها للرجال: ففقهاء الأمصار مجموعون على منع إمامتها في الفرض والنفل (¬8). وشذ أبو ثور، والطبري رضي الله عنهما فأجازوا إمامتها على ¬

_ (¬1) في أ: فيكون. (¬2) في جـ: ذلك. (¬3) زيادة من ب. (¬4) سقط من أ، ب. (¬5) زيادة من ب، جـ. (¬6) زيادة من ب. (¬7) زيادة من ب. (¬8) المدونة (1/ 85)، النوادر (1/ 285).

الإطلاق. وإنما صار الجمهور إلى منع إمامتها للرجال؛ لأن الإمامة درجة شريفة، ومرتبة منيفة؛ فلا يتولاها إلا من كان كامل الدين والذات، والمرأة ناقصة الأمرين؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " [إنكن] (¬1) ناقصات عقل ودين"، فقامت امرأة فقالت: يا رسول الله وما نقصان عقولنا؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أليست شهادتكن على النصف من شهادة الرجال؟ " فقالت: وما نقصان ديننا؟ فقال: "تمكث إحداكن شطر [عمرها] (¬2) لا تصلي" (¬3). وأيضًا فإن الأصول مبنية على أن كل مَنْ تلبَّس بنقيصة دنية: فلا حظ له في المراتب العلية. والإجماع على أن المرأة لا تتولى الإمامة الكبري التي قدمناها؛ فالإمامة الصغرى مقيسة عليها؛ ولقوله عليه السلام: "لا يفلح قوم تولى أمرهم امرأة" (¬4). ولقوله عليه السلام: "أخروهن حيث أخرهن الله" (¬5). وقال "أيضًا" (¬6): "خير صفوف الرجال أولها [وشرها آخرها]، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها" (¬7). ¬

_ (¬1) في أ: هن. (¬2) في أ: دهرها. (¬3) أخرجه البخاري (298)، ومسلم (80). (¬4) أخرجه البخاري (4163). (¬5) أخرجه عبد الرازق في المصنف (5115)، وابن خزيمة (1700)، والطبراني في الكبير (9484)، (9485) من حديث ابن مسعود موقوفًا. وقال الشيخ الألباني رحمه الله: صحيح موقوف. وذهب جمع من أهل العلم إلى أنه لا يصح مرفوعًا، وهو الصواب. (¬6) في ب: عليه السلام. (¬7) أخرجه مسلم (440) من حديث أبي هريرة.

ومن طريق المعنى أن المرأة لَمَّا كان صوتها عورة، وتأمل النظر فيها محظور إلا لضرورة: وجب ألا تجوز إمامتها؛ لأن بالمأمومين ضرورة إلى أن تجهر بصوتها ليسمع من خلفها قراءتها -فيما تجهر فيها بالقراءة- وتكبيرها [في الخفض] (¬1) والرفع. وليس لمن خلفها مندوحة [عن] (¬2) النظر إليها [فهي قبلة لأبصارهم ومعرضًا لخواطرهم ولاسيما على القول بأن الإِمام سترة لمن خلفه، فمنتهى نظر المأموم إلى سترته] (¬3)، وذلك غاية الفتنة، واستباحة ما حرم الله تعالى بالكتاب والسنة، فهذا [مما] (¬4) لا يحل لمسلم التدين به. وأما إمامتها للنساء: فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها لا تجوز، وهو مشهور المذهب (¬5). والثاني: جوازها، وهي رواية ابن أيمن عن مالك، وهي من شذوذ المذهب، وهو قول الشافعي. فمن منع إمامتها نظر إلى أن هذا من تفاصيل القواعد أن الذريعة إذا [حميت] (¬6) حمل الباب فيها [حملًا] (¬7) واحدًا. وهذا هو المشهور في المذهب، إلا أنه ضعيف في النظر. والأصح: جواز إمامتها للنساء، مع عدم من يؤمهن من الرجال. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: إلى. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) المدونة (1/ 84). (¬6) في ب: حمت. (¬7) في ب: محملًا.

وهو الذي يعضده النظر والأثر. فالأثر: ما خرَّجه أبو داود من حديث أم ورقة: أن الرسول عليه السلام كان يزورها في بيتها، فجعل [لها] (¬1) مؤذنًا يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها (¬2). إلا أن ظاهر هذا الحديث يدل على أن إمامتها للرجال والنساء جائزة، إلا أن هذا الظاهر يخصصه [ما قدمناه] (¬3) [وأما النظر فهو عدم العلة التي قدمناها وجعلناها مقتضية للمنع، وهي معدومة في إمامتها للنساء، فلم يبق إلا الجواز] والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: لنا. (¬2) أخرجه أبو داود (591)، وأحمد في المسند (26739)، وابن خزيمة (1676)، والحاكم (730)، والدارقطني (1/ 403)، والطبراني في الكبير (25/ 134) حديث (326)، والبيهقي في الكبرى (1768)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 63). وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الإرواء (493). (¬3) في أ: الجواب. (¬4) سقط من أ.

المسألة السابعة [في] إعادة الصلاة [في جماعة]

المسألة السابعة [في] (¬1) إعادة الصلاة [في جماعة] (¬2) [ولا] (¬3) يخلو [المصلي] (¬4) المأمور بالإعادة من [ثلاثة أوجه] (¬5): إما أن يصلي وحده، أو في [ق/ 21 جـ] جماعة. أو [فيما] (¬6) هو مختلف فيه، هل يحكم له بحكم الجماعة أو بحكم الفذ؟ فالجواب عن [الوجه] (¬7) الأول: إذا صلى وحده فلا يخلو من أحد وجهين: إما أن تكون صلاته فذًا في أحد المساجد الثلاثة؛ [مكة، والمدينة وإيليا] (¬8)، أو [في] (¬9) غيرها من المساجد. فإن كانت صلاته في أحد الثلاثة مساجد [مكة، والمدينة، وإيليا] (¬10)، فلا يعيد في جماعة؛ لأن المقصود بالصلاة في الجماعة حصول ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) زيادة من ب. (¬3) في ب: فلا. (¬4) زيادة من ب. (¬5) في أ: أحد وجهين. (¬6) في أ: مما. (¬7) زيادة من ب. (¬8) سقط من ب. (¬9) زيادة من ب. (¬10) زيادة من ب.

الأجر المتضاعف لمن [صلى في جماعة] (¬1)، وفضل من صلى في [أحد] (¬2) هذه الثلاثة مساجد يربو على الفضل الذي يحصل في صلاته في الجماعة في مسجد سواها بأضعاف مضاعفة؛ لأن الصلاة في مسجد الرسول [عليه السلام] (¬3) خير من ألف صلاة في غيره (¬4)، وفي مسجد بيت المقدس بخمسمائة (¬5). واختلف في مسجد الحرام [شرفه] (¬6) الله: فالمالكية [تقول] (¬7): بدون الأَلْف، والشافعية [تقول:] (¬8) بأكثر من ألف، [على حسب] (¬9) ما [تضمنته] (¬10) أدلة كل فريق، ولسنا [نذكرها] (¬11) الآن. فإن كانت صلاته فَذَّا في غيرها من المساجد فلا يخلو من وجهين: ¬

_ (¬1) في أ: فعلها. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب. (¬4) وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" أخرجه مسلم (1394). (¬5) لما روى أبو الدرداء رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " .. وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة .. ". أخرجه البيهقي في الشعب (4140)، وابن عدي في الكامل (3/ 398). ضعفه الحافظ في التلخيص الحبير (4/ 179) حديث (2069)، والألباني في ضعيف الجامع (4211)، (3966). (¬6) في أ: شرفها. (¬7) في ب: يقولون. (¬8) في ب: يقولون. (¬9) في ب: بحسب. (¬10) في ب: تقتضيه. (¬11) في أ: نذكره.

أحدهما: أن يمر بالمسجد ويسمع الإقامة. والثاني: أن يقعد في المسجد حتى تقام الصلاة. فإن مرَّ بالمسجد فسمع الإقامة: فلا خلاف [في المذهب] (¬1) نصًا أنه لا يلزمه الدخول في صلاة الإِمام، وهذا فيه نظر. فإن بَنَيْنَا على تضاعف الأجر، وأنه مقصود الشارع بالأمر: فلا فرق بين من كان داخل المسجد أو من كان خارجه. وإن كان ذلك مراعاة لحق الإِمام؛ لما يقدح في نفسه [ولا يحسن] (¬2) في خاطره ممن رآه خرج من المسجد [في] (¬3) حين الإقامة، فيظهر الفرق بين الحالتين، وهي العلة الظاهرة في المنع من أن يجمع صلاة في مسجد واحد [مرتين] (¬4)، إلا أن متأخري المذهب [رضوان الله عليهم] (¬5) اعتمدوا [على] (¬6) حصول الثواب الجزيل الذي نص [عليه] (¬7) الرسول عليه السلام أن صلاة الجماعة تفضل [على] (¬8) صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة (¬9). ولا جرم أن هذا الإلزام لازم لهم على كل حال، إلا أن يعتمدوا على [تجرد] (¬10) لفظ النبي عليه السلام في قوله: "إذا جئت فصل مع الناس، ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) في ب: ويقع. (¬3) زيادة من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من أ. (¬6) زيادة من ب. (¬7) سقط من ب. (¬8) سقط من أ. (¬9) أخرجه البخاري (619)، ومسلم (650) من حديث ابن عمر. (¬10) في ب: مجرد.

وإن كنت قد صليت" (¬1). وهذا الخطاب يتناول من كان قصده إلى المسجد، ودخل دون المار والعابر. [فإن] (¬2) كان في المسجد ثم أقيمت عليه الصلاة التي صلاها في بيته، فهل يعيدها أم لا؟ أما الصبح، والظهر، والعصر، والعشاء: إذا لم يوتر فلا خلاف في المذهب نصًا أنه يعيدها، ويلزم فيها [ق/ 29 أ] [الخلاف] (¬3) في الصبح، والعصر بالمعنى على ما سنبينه إن شاء الله. وأما المغرب: فلا يخلو من وجهين: إما أن تُقَام تلك الصلاة وهو فيها، أو تقام عليه بعد الفراغ منها. فإن أقيمت عليه وهو فيها: فلا يخلو هذا [من وجهين إما] (¬4) أن يكون قبل أن يعقد منها ركعة بسجدتيها، أو بعد ما صلاها. فإن كان قبل أن يعقد منها ركعة: قطع بسلام، ودخل مع الإِمام. فإن كان بعد ما صلى ركعة كاملة: هل يقطع بسلام أو يشفع؟ [ففي المذهب قولان قائمان] (¬5) من "المدونة" (¬6): ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (857)، وأحمد (15958) و (15960)، ومالك (298)، والحاكم في المستدرك (890) من حديث محسن. وأخرجه أبو داود (577) من حديث يزيد بن عامر. وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (1337). (¬2) في ب: وإن. (¬3) في أ: اختلاف. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: فالمذهب على قولين قائمين. (¬6) انظر: المدونة (1/ 98).

أحدهما: أنه يقطع بسلام، ويدخل مع الإِمام. وهو قول ابن القاسم في كتاب الصلاة [الأول] (¬1) من "المدونة". والثاني: أنه يشفعها بركعة أخرى، ويسلم ويدخل مع الإِمام، وهو قول ابن حبيب في هذا الوجه والذي قبله. إذا أحرم ولم يركع: فابن حبيب يقول: يتم الركعتين أيضًا. ويحتمل قولان في كل وجه. والذي قاله ابن حبيب ظاهر "المدونة". وابن القاسم إنما قال بالقطع على ركعة واحدة، ولم يجزئه أن يشفعها مخافة التنفل قبل صلاة المغرب. وظاهر قوله في "صلاة الجنائز" (¬2) حيث جوز تقديم [صلاة الجنائز] (¬3) على صلاة المغرب: أن يشفعها. وكذلك ما وقع له في "كتاب الحج" (¬4)، حيث قال: أن يقدم ركعتي الطواف على المغرب. وهو الذي يعضده قوله عليه السلام: "بين كل أذانين صلاة" (¬5)] (¬6). يريد الأذان والإقامة. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) المدونة (1/ 190). (¬3) في ب: الصلاة على الميت. (¬4) المدونة (2/ 407). (¬5) في ب: الصلاة. (¬6) أخرجه البخاري (598)، ومسلم (738) من حديث عبد الله بن مغفل المزني.

وإن أقيمت عليه وهو في [الثالثة] (¬1)، فإن كان في الركوع قطع بسلام، ويدخل مع الإِمام. وإن كان بعد الركوع فيها، وبعد الرفع عنه تمادى على تمامها ويسلم ويخرج. وإن كان بعد الركوع وقبل الرفع [منه] (¬2): فقولان منصوصان في المذهب، قائمان من "المدونة" (¬3). أحدهما: قول ابن القاسم؛ أنه [يتمها] (¬4). والثاني: قول أشهب، أنه يرجع إلى الجلوس، ويسلم، ويدخل مع الإمام. وسبب الخلاف: اختلافهم في عقد الركعة: هل هو وضع اليدين على الركبتين، أو الرفع منها؟. فإن أقيمت [عليه] (¬5) تلك الصلاة بعد سلامه منها: هل يعيدها أم لا؟ فالمذهب على قولين (¬6): أحدهما: أنه لا يعيد، وهو قول ابن القاسم [في الكتاب] (¬7). والثاني: أنه يعيدها، وهو قول المغيرة. ¬

_ (¬1) في أ: الثانية. (¬2) زيادة من ب. (¬3) انظر: المدونة (1/ 87، 88). (¬4) في ب: يتمادى. (¬5) زيادة من ب. (¬6) المدونة (1/ 89). (¬7) زيادة من ب.

وأما العشاء: فلا خلاف في المذهب أنه يعيدها إذا لم يوتر. واختلف المذهب [فيما] (¬1) إذا أوتر هل يعيد أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا [يعيدها] (¬2)، وهو قول [مالك] (¬3) في "العتبية". والثاني: أنه يعيدها، وهو ظاهر قول المغيرة؛ مساواة بين المغرب والعشاء، والعلة واحدة. وعلى القول بأنه يعيدها: هل يعيد الوتر أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يعيده، وهو قول سحنون في "المجموعة". والثاني: أنه لا يعيده، وهو قول يحيى بن عمر. واختلف أرباب المذهب في العلة التي من أجلها منع من إعادة المغرب مع الإِمام، وإعادة العشاء بعد الوتر. أما المغرب: فبعضهم يقول: [إن] (¬4) العلة فيها أن [صلاة] (¬5) المغرب هي وتر؛ فلو أعيدت لأشبهت صلاة الوتر مع التي ليست بوتر؛ لأنها كانت تكون لجميع ذلك ست ركعات، فكأنها خرجت من جنسها إلى جنس صلاة أخرى، وذلك مبطل لها. وذلك من باب تخصيص عموم قوله عليه السلام: "إذا جئت فصل مع الناس، وإن كنت قد صليت" (¬6)، وتخصيص العموم بالقياس جائز عند ¬

_ (¬1) في أ: فيها. (¬2) في أ: يعيد. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) زيادة من ب. (¬6) تقدم.

الأصوليين [على] (¬1) الجملة، إلا أن هذا القياس الذي خصص به مالك رحمه الله قياس الشبه، وهو [في أصله] (¬2) ضعيف عند الأصوليين. وهو مع ضعفه في [أصله] (¬3) في هذا الموضع ازداد وهنًا على وهن؛ وذلك أن السلام [فصل] (¬4) بين الأوتار، فكيف [يقال] (¬5) بإضافة أحد الوترين إلى الآخر. ومنهم من سلك في طريق تخريج [المسألة] (¬6) طريق السّبْر [والتقسيم] (¬7)، فيقول: لا تخلو [الصلاة] (¬8) من أن تكون الأولى التي صلى [أولًا] (¬9) وحده فرضًا، والثانية نفلًا، أو بالعكس [فأيهما] (¬10) قدر فقد مُنع؛ لأنه إن كانت الأولى هي الفرض فقد صارت الثانية نفلًا، والتنفل بثلاث ركعات ممنوع -على مذهبنا. وإن كانت الثانية هي فرض، والأولى هي نفل: فقد اجتمع فيه المكروهان: أحدهما: التنفل قبل المغرب. والثاني: [التنفل] (¬11) بثلاث ركعات. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: نفسه. (¬4) زيادة من ب. (¬5) في ب: تقول. (¬6) في ب: المناط. (¬7) سقط من أ. (¬8) زيادة من ب. (¬9) زيادة من ب. (¬10) في أ: فأي ما. (¬11) في أ: نفل.

فخرج من مقتضى السبر [والتقسيم] (¬1) أن العلة التنفل بثلاث ركعات. وهو ظاهر قول ابن القاسم في "الكتاب"، حيث قال: فإن أعادها [مع الإِمام] (¬2) فليشفعها بركعة بعد سلام الإِمام، وتكون أربعًا (¬3). قال الشيخ أبو الحسين اللخمى رضي الله عنه: يريد إذا أعادها بنية النَّفْل. ولو نوى رفض الأولى لتكون هذه فرضه: لم يشفعها؛ لأن الاحتياط لفرضه أولى ليخرج من الخلاف. فعلى التعليل الذي علل به ابن القاسم أن الآخرة نافلة [لتخرج] (¬4) الاعتراض [على القول] (¬5) بألَّا يعيد العصر والصبح أيضًا؛ لأن التنفل بعدها ممنوع، وهو قول عبد الله بن عمر في "الموطأ" (¬6) في صلاة الصبح. وأما اختلافهم في إعادة العشاء إذا أوتر، واختلافهم [أيضًا] (¬7) في إعادة الوتر إذا أعيدت: فينبني الخلاف [على الخلاف في] أيتهما [فرضه] (¬8)؟ فمن جعل الأولى فرضه، والثانية نفلًا قال: يعيد مع الإِمام، والتنفل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب. (¬3) المدونة (1/ 133). (¬4) في ب: يتخرج إلى. (¬5) سقط من أ. (¬6) الموطأ (323). (¬7) زيادة من ب. (¬8) في ب: صلاته.

بعد الوتر سائغ. ومن جعل الأولى نافلة، والثانية فرضه، قال: لا يعيد؛ لأنه بين حالتين ممنوعتين؛ إما أن يعيد الوتر، وذلك [خلاف] (¬1) السنة، وقد قال الرسول عليه السلام: "لا وتران في ليلة" (¬2). وإما ألا يعيد الوتر، وذلك خلاف السنة أيضًا في ترك الوتر عامدًا؛ إذ لا يعتد بالوتر الأول؛ لأنه بمنزلة من أوتر قبل أن يصلي العشاء. واختلافهم هل يعيد الوتر إذا أعاد العشاء؟ على هذه الأسئلة ينبني، فاحفظه تَرشد إن شاء الله. والجواب عن الوجه الثاني: إذا صلى في جماعة هل يعيد في جماعة أخرى؟ فلا يخلو من أن يصليها في جماعة في أحد المساجد الثلاثة أو [في] (¬3) غيرها. فإن صلاها في أحد الثلاثة مساجد: فلا خلاف بين كل مخالف ومؤالف أنه لا يعيدها لحصول [الأجر] (¬4) المقصود وأضعافه. فإذا كنا نقول: من صلاها في أحد الثلاثة مساجد فذًا أنه لا يعيدها في ¬

_ (¬1) في أ: ممنوع في. (¬2) أخرجه أبو داود (1439)، والترمذي (470)، والنسائي (1679)، وأحمد (15854)، وابن حبان (671 - موارد)، والطحاوي في شرح المعاني (1/ 342)، والطيالسي في مسنده (1095)، والطبراني في الكبير (8247) من حديث قيس بن طلق بن علي عن أبيه مرفوعًا. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬3) زيادة من ب. (¬4) سقط من أ.

جماعة غيرها. فإذا صلاها في جماعة فأولى [وأحرى، فإن صلى في جماعة] (¬1) ثم أدرك تلك الصلاة في أحد المساجد الثلاثة فلا إشكال أيضًا أنه يعيدها؛ لأنا نأمره بالإعادة [في الجماعة] (¬2) ليتحصل له [الأجر خمسًا وعشرين جزءًا، فكيف لا نأمره بالإعادة ليتحصل له، (¬3) الأَلْف أو المئون، وهذا لا إشكال فيه. فإن صلاها في جماعة، ثم أدركها في جماعة أخرى في غير المساجد الثلاثة: فهل يعيدها أم لا؟ فهذا مما اختلف فيه فقهاء الأمصار؛ فذهب مالك، وأبو حنيفة، وغيرهما إلى أنه لا يعيد، وذهب أحمد بن حنبل، وداود إلى أنه يعيد. وسبب الخلاف: في أصل المسألة وفي تفاصيلها: تعارض الأخبار، وتجاذب الاعتبار. فمنها: قوله عليه السلام لأبي محجن الثقفي: "إذا جئت فصل مع الناس، وإن كنت قد صليت" (¬4). وهذا الحديث يفيد العموم من وجه، والتخصيص من وجه أفاد العموم في جميع الصلوات، وأفاد التخصيص [فمن] (¬5) صلى وحده، ولم يصل في جماعة [فله أن يعيدها في جماعة] (¬6) لقوله عليه السلام: "ما ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) تقدم. (¬5) في أ: فيما. (¬6) سقط من أ، ب.

منعك أن تصلي معنا؟ ألست برجل مسلم؟ " [قال: بلى، ولكن صليت في أهلي] (¬1) -يريد في بيته. ومعلوم أن من صلى في بيته إنما يصلي وحده. ومنها: ما رواه الأسود، قال: شهدت الصبح مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بمسجد الخيف، فلما انصرف رأى رجلين لم يصليا معه، فقال: "عليَّ بهما" فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟ " قالا: يا رسول الله كنا صلينا في رحالنا، قال: "لا تفعلا؛ إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد [الجماعة] (¬2) فصليا معهم؛ فإنها لكم نافلة" (¬3). أي: زيادة على [الواجب] (¬4) الذي أتيتما به في رحالكما. فيستفاد من هذا الحديث: أن من صلى في جماعة [أنه] (¬5) يعيد في جماعة أخرى. وفيه [دليل] (¬6) أيضًا: أن الأولى فرضه، و [الأخرى] (¬7) نافلة. ومنها: ما روى عنه - صلى الله عليه وسلم -:"لا تصل صلاة واحدة في يوم مرتين" (¬8). ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) في أ: جماعة. (¬3) أخرجه أبو داود (575)، والترمذي (219)، والنسائي (758)، وأحمد (17020). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من ب. (¬6) زيادة من ب. (¬7) في ب: الثانية. (¬8) أخرجه أبو داود (579)، والنسائي (860)، وأحمد في المسند (4675)، (4974). قلت: صححه العلامة الألباني رحمه الله تعالى.

ومنها: ما روى أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ق/ 22 جـ]، ثم يذهب فيؤم قومه في تلك الصلاة (¬1). فيه دليل على جواز من صلى في جماعة أنه يجوز أن يكون إمامًا لغيره. فاختلف العلماء لاختلاف هذه الأحاديث؛ فمنهم من ذهب مذهب الجمع، ومنهم من ذهب مذهب الترجيح. أما من ذهب مذهب الترجيح: فإنه أخذ بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصلي صلاة في يوم واحد مرتين" (¬2)، ولم يستثن من ذلك إلا صلاة المفرد فقط لوقوع الاتفاق عليها. وأما من ذهب مذهب الجمع: فقال إن معنى قوله عليه السلام: "لا تصلي صلاة واحدة في يوم مرتين" (¬3): ألا يصلي الرجل الصلاة [الواحدة] (¬4) بعينها [في يوم] (¬5) مرتين يعتقد في كل واحدة منها أنها فرضه [وقال قوم: بل معنى الحديث إنما هو للمنفرد يعني: ألا يصلي الرجل المنفرد صلاة واحدة مرتين في يوم] (¬6). والذي رجح واستثنى صلاة المنفرد عمومًا لا خصوصًا أصح، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه؛ تمسكًا بعموم الخبر في جميع الصلاة. ثم إليه مذهب من خصص الصبح، والعصر لتعارض العمومَيْن؛ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (679)، ومسلم (465). (¬2) تقدم. (¬3) تقدم. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

فصل

الأمر بالإعادة، والنهي عن الصلاة بعد [هاتين] (¬1) الصلاتين. وأضعف المذاهب [مذهب] (¬2) من خصص المغرب من [بين] (¬3) سائر الصلوات؛ إذ لا دليل على التخصيص إلا قياس الشبه [ق/ 30 أ]. وهو في نفسه ضعيف، والاستدلال به على المسألة أيضًا ضعيف من وجه آخر، وقد بيناه قبل هذا. فصل فإذا [أعاد] (¬4) في جماعة. ثم ظهر له أن إحدى الصلاتين فاسدة؛ إما التي صلى وحده، وإما التي صلى مع [الإِمام] (¬5) فلا تخلو إعادته [في الجماعة] (¬6) من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعيدها بنية الفرض. والثاني: أن يعيدها بنية النفل. والثالث: أن [يكل] (¬7) الأمر فيها إلى الله عز وجل. فإذا أعادها بنية الفرض، ثم تبين له فساد إحداهما؛ فإن تبين له فساد الأولى: فالثانية تجزئه بلا خلاف. وإن تبين له فساد الثانية هل [يجتزئ] (¬8) بالأولى أو يعيد؟ فالمذهب على قولين. وسبب الخلاف: [الصلاة] (¬9) الأولى هل ترتفض بالنية أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب. (¬3) زيادة من ب. (¬4) في أ: أعادها. (¬5) في أ: الناس. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: يكون. (¬8) في ب، جـ: تجزئه. (¬9) سقط من أ.

فمن رأى أنها ترتفض بالنية يقول: لابد من الإعادة. ومن رأى أنها لا ترتفض يقول: لا يعيد. وأما إذا أعادها بنية النفل، فإن فسدت الآخرة فلا يعيدها بالاتفاق. فإن فسدت الأولى هل يعيدها، أو تجزئ الثانية، وتنوب مناب الفرض؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن النفل لا يجزئ عن الفرض، ويعيد الأولى على كل حال وهو مشهور المذهب [ق/ 15ب]. والثاني: أن النفل ينوب عن الفرض، ويجتزئ بالثانية عن الأولى. وهو منصوص في المذهب عن مالك رضي الله عنه وهو ظاهر قوله في "كتاب الحج" (¬1): فيمن نسى طواف الإفاضة [حتى] (¬2) قدم إلى بلده فقال: إنه يرجع ويطوف ويهدي إلا أن يكون طاف بمكة طواف التطوع، فيجزئ عن طواف الإفاضة. وينبني الخلاف: على الخلاف في النفل هل يجزئه عن الفرض أم لا؟ على الخلاف في إمامة المفترض خلف المتنفل هل تجزئ أم لا؟ مثل الإمامة بالصبي، ومثل صلاة معاذ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -[ثم] (¬3) قدم إلي بلده فقال: إنه يرجع ويطوف ويهدي يأتي فيؤم قومه في تلك الصلاة. وإن كان مالك رحمه الله قال: إن صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -كانت نفلًا، وصلاته مع قومه كانت فرضًا، وغيره يقول: لا، بل صلاته مع النبي ¬

_ (¬1) المدونة (2/ 489). (¬2) في أ: ثم. (¬3) سقط من أ.

- صلى الله عليه وسلم - كانت فرضًا، وصلاته بقومه على وجه النفل. وهذا هو الأليق بحرص معاذ رضي الله عنه، وأما أن يجعل صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -[نفلًا] (¬1) في مسجده [وهي] (¬2) أَلْف، فيقصد إلى النفل، وطفف نفسه هذا القدر الجسيم، والأجر العظيم؛ فلا يليق ذلك بأحد من الصحابة رضوان الله عليهم [فكيف بمعاذ مع جلالته وعلو قدره، بل لو عرف ذلك منه أو من غيره بعد ذلك نقص في حقه، وحط عن رتبته، ومعلوم من عادة الصحابة رضوان الله عليهم] (¬3) مهاجريهم وأنصارهم، متقدمهم ومتأخرهم، إلا [المبادرة] (¬4) إلى خير الأعمال، والمسابقة إلى غاية الكمال، والحرص على اكتساب الخير من جميع وجوهه بالأفعال والأقوال؛ فعليهم سلام الله ورضوانه ما طلع هلال، وسُمع إهلال. وأما الوجه الثالث: وهو أن يَكِل الأمر [إلى الله تعالى] (¬5) فيهما لم تكن عليه إعادة لواحدة منهما، وسواء كانت الأولى فاسدة أو [الثانية] (¬6). وهذا قول مالك في "المدونة" (¬7): في الذي يصلي في بيته، ثم أتى المسجد، فأقيمت تلك الصلاة: فلا يتقدمهم فيها، فإن فعل: أعاد من خلفه؛ لأنه لا يدري أيتهما صلاته، وإنما ذلك إلى الله عز وجل. وقد اختلف [فيها] (¬8) قول مالك رحمه الله؛ فمرة يقول: إن الأُولى ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: وهو. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: المثابرة. (¬5) سقط من ب. (¬6) في الأصل: ثانية. (¬7) انظر: المدونة (1/ 87، 88). (¬8) زيادة من ب.

صلاته، ومرة يقول: ذلك إلى الله يجعل أيتهما شاء صلاته، والقولان في "المدونة" (¬1). والجواب عن الوجه الثالث: إذا أعادها فيما هو مختلف فيه، هل يحكم له بحكم الجماعة أم لا؟ ولا خلاف في المذهب في الإِمام الراتب إذا صلى وحده أو [صلى] (¬2) مع رجل واحد بالغ عاقل: أنه لا يعيد واحدة منهما [إلا على قول ابن حبيب الذي يرى فضل الجماعة يختلف، وأنه كلما كثرت الجماعة كان أعظم في الأجر على ما نقله الشيخ أبو الحسن اللخمي في باب فضل الصلاة في كتابه، وهو ظاهر قول مالك في ثمانية أبي زيد] (¬3) أما المأموم فلكونه صلى في جماعة؛ والاثنان وما فوقهما جماعة. وكذلك إذا صلى رجل وحده فلا يعيد مع رجل واحد، إلا أن يكون هذا الرجل الواحد هو الإِمام الراتب فيعيد معه. وأما الإِمام: فلكونه هو وحده جماعة؛ إذ للشرع إيجاد المعدوم وإعدام الموجود، وتقريب البعيد، وتبعيد القريب، ,وإعداد المتحد واتحاد المتعدد. فأما إيجاد المعدوم: فمثل الجنين، فإن الشرع [أعطى] (¬4) له حكم الموجود [معنىً] (¬5) وإن كان معدومًا حسًا. وكالذِّمة؛ فالشرع أوجدها معنى، وجعلها محلًا للإلزام والالتزام ¬

_ (¬1) انظر: السابق. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: جعل. (¬5) سقط من أ.

شرعًا، وإن كانت معدومة حسًا، وكالأعراض على اصطلاح المتكلمين، فإنها صفات للجواهر وقائمة بها، ومع ذلك فليس لها معان قائمة تدرك بالحواس. وأما إعدام الموجود: فهو أن يكون الشيء موجودًا حِسًا، ومع ذلك صار معدومًا في نظر الشرع. و [هذا] (¬1) نقيض [الأول] (¬2) كأفعال المكره على مذهب من أعذره بالإكراه، فإن [الشرع] (¬3) أعذره، وألغاها، وجعلها في خير العدم، وإن كانت مشاهدة بالحس والعيان؛ لكونها لا [تجلب] (¬4) حكمًا. وهذا كالقاتل عمدًا؛ فإن الشارع حكم فيه بحكم العدم؛ فورث من لا يرث مع وجوده. وهذا حكم العدم وفائدته. وأما تقريب البعيد: فهو مثل توريث الأبعد مع وجود الأقرب لا يحجب عن الميراث من سواه؛ كالأب إذا قتل ابنه عمدًا لما كان ممنوعًا من الميراث من أجل القتل. وورث الشارع من كان لا يرث مع وجود الأب كالأخ، والعم، ومن سواهما كان البعيد أقرب الأقرباء معنى، والأقرب أبعد الأبعدين معنى؛ حكمة شرعية وسنة متبعة. وأما تبعيد القريب فكذلك أيضًا، وصورتهما واحدة، فلا نطيل بالتكرار بغير فائدة. ¬

_ (¬1) في ب: هو. (¬2) في أ: الأولى. (¬3) في أ: الشارع. (¬4) في ب: توجب.

وأما إعداد المتحد: فكالإمام، فإنه متحد في رأي العين، لكن [الشرع] (¬1) عدده، وأقامه مقام العدد والجماعة، إذا صلى وحده، فإنه لا يعيد تلك الصلاة في جماعة [ولا تعاد تلك الصلاة في] (¬2) ذلك المسجد بعد صلاته مرة أخرى. و [أما] (¬3) اتحاد المتعدد: كالجماعة إذا تمالوا (¬4) على قتل رجل واحد، فإنهم يقتلون [فيه] (¬5)، ولو كانوا ألفًا؛ فجعلهم الشرع في هذه الحالة كالرجل الواحد، وحكم [فيهم] (¬6) بمثل ما يحكم به في المتحد. وأما المختلف فيه: هل يحكم له بحكم الجماعة الذي هو مقصود الكلام مثل: من صلى مع صبي يعقل الصلاة، أو صلى بامرأته ثم أدرك تلك الصلاة في جماعة: فالمذهب على قولين في الوجهين: فالمشهور: أن من صلى بامرأته أنه لا يعيد. والمشهور: أن من صلى مع صبي [أنه] (¬7) يعيد. وظاهر المسألة لا فرق بين أن يكون الصبي إمامًا أو مأمومًا. وسبب الخلاف: الإناث هل يندرجن تحت خطاب الذكران أم لا؟ فإن قلنا: إن الإناث يدخلن تحت خطاب الذكران: فلا يعيد من صلى ¬

_ (¬1) في أ: الشارع. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب. (¬4) تمالوا: تحازب القوم. (¬5) في أ: به. (¬6) في أ: لهم. (¬7) سقط من ب.

بامرأته في جماعة، وأقل الجمع اثنان -على رأي بعض أهل الأصول (¬1). وإن قلنا: إن الإناث لا يندرجن تحت خطاب الذكران إلا بقرينة أو بدليل: فإنه يعيد في جماعة؛ لأنه بمنزلة من صلى وحده [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سيأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله. (¬2) زيادة من جـ.

المسألة الثامنة [فيمن] أقيمت عليه الصلاة، وهو في تلك الصلاة، أو في غيرها.

المسألة الثامنة [فيمن] (¬1) أقيمت عليه الصلاة، وهو في تلك الصلاة، أو في غيرها. فإن كان في تلك الصلاة التي أقيمت عليه بعينها، فلا يخلو من وجهين: إما أن تقام عليه الصلاة بعد إحرامه، وقبل عقد الركعة، أو [يكون] (¬2) بعد عقد الركعة. فإن كان ذلك بعد الإحرام وقبل عقد الركعة: فلا يخلو من أن يخشى أن يفوته الإِمام بركعة أم لا. فإن خشى فوات الركعة: فإنه يسلّم، ويدخل مع الإِمام بلا خلاف. وإن لم يخش فوات الركعة: فالذي يتخرج [في المذهب] (¬3) في هذه المسألة أربعة أقوال: كلها قائمة من "المدونة" (¬4): أحدها: أنه يقطع بسلام، ويدخل مع الإِمام جملة [بغير] (¬5) تفصيل. وهو قوله في الكتاب في صلاة الرباعيات والمغرب. والثاني: التفصيل بين النافلة والفرض؛ ففي النافلة يأتي بالركعتين إن ¬

_ (¬1) في أ: من. (¬2) سقط من ب. (¬3) زيادة من ب. (¬4) انظر: المدونة (1/ 87، 88). (¬5) في ب: من غير.

كان ممن يخفف (¬1)، والفريضة يقطع بسلام ويدخل. والثالث: [التفصيل بين المغرب وغيرها، فالمغرب يقطع ولا يتمادى إلى ركعتين. وغيرها من الصلوات يأتي بركعتين، وهو ظاهر قوله في الكتاب. والرابع] (¬2): أنه يتمادى إلى تمام ركعتين ويسلم، ويدخل مع الإِمام [جملة] (¬3) بلا تفصيل بين الفرض والنفل، ولا بين المغرب وغيرها. ووجه من قال: يقطع جملة؛ فللنهي عن صلاتين معًا. ووجه [من جوَّز الإتيان] (¬4) بالركعتين: الاستدلال بقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (¬5). ووجه من فرق بين الفرض والنفل [قال] (¬6): لأن النفل إن قطعها لا تلزمه العودة إليها بعد فراغه من صلاة الإِمام، فلهذا أُبِيح له التمادي ليحصل له أجرها. والفرض يعيدها [بعد سلام] (¬7) الإِمام؛ فإنه إن أبطل هذه الفريضة [أتى بها] (¬8) مع الإِمام على أحسن ما كان يصليها وحده؛ فلهذا فرق بينهما [والله أعلم] (¬9). ¬

_ (¬1) أي: يقرأ فيهما بأم القرآن وحدها، ويدرك الإِمام. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: قول من قال بالإتيان. (¬5) سورة محمَّد الآية (33). (¬6) سقط من ب. (¬7) في أ: مع. (¬8) في ب: أعادها. (¬9) زيادة من ب.

ووجه من فرق بين المغرب وغيرها [من الصلوات] (¬1): لأنا إن أمرناه أن يصلي ركعتين ثم يسلم: فلا خلاف أن هاتين الركعتين نفل، والنفل قبل صلاة المغرب ممنوع؛ فتقابل ممنوعان: أحدهما: إبطال العمل. والثاني: التنفل قبل المغرب، فرجح أحد الممنوعين على الآخر. وسبب الخلاف: تعارض العمومَيْن؛ عموم الكتاب، وعموم السنة. فعموم الكتاب: قوله تعالى: {وَلا تبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (¬2). وعموم السنة: نهيه عليه السلام عن صلاتين معًا (¬3). فمن رجح عموم الكتاب: قال بالتمادي إلى تمام ركعتين في الجميع. ومن رجح عموم [ق/ 23جـ] السنة: قال بالقطع في الجميع. ومن فرق: فقد بينا وجه قوله. وللخلاف [فيه] (¬4) سبب آخر، وهو: الإحرام، هل هو ركن أو ليس بركن؟ فمن جعله ركنًا فيقول: [يبنى] (¬5). وينبني [ق/ 31 أ] الخلاف: على الخلاف في العمومين المذكورين. ومن لم يجعله ركنًا قال: يقطع؛ لأن الإحرام ليس بركن يخشى بطلانه. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سورة محمَّد الآية (33). (¬3) تقدم. (¬4) في أ: فيها. (¬5) سقط من ب.

فإن كان ذلك بعد ركعة: فهاهنا يفرق بين المغرب وغيرها من الصلوات. فغير المغرب: يشفعها بركعة أخرى، ويسلم ويدخل مع الإِمام كانت فرضًا أو نفلًا. ولا خلاف في المذهب في هذا الوجه، ويدخل فيه الخلاف بالمعنى وسببه الأصل الذي قدمناه من تعارض العمومين. فأما المغرب فهل يسلم على ركعة، ويدخل مع الإِمام، أو يشفعها؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" (¬1): أحدهما: أنه يسلم على ركعة [ويدخل مع الإِمام] (¬2) وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أنه يشفعها بركعة ويسلم، وهو نص ابن حبيب فيما إذا أقيمت عليه بعد الإحرام، وقبل أن يصلي شيئًا، فقال: يأتي بركعتين ويسلم؛ فمن باب أولى [وأحرى] (¬3) إذا أقيمت عليه بعد أن صلى منها ركعة. وهو ظاهر قوله في المدونة في صلاة النافلة، وهو نص قول ابن القاسم، وأشهب في "المجموعة" (¬4). وقد اختلف قول ابن القاسم [فيها] (¬5). [وأما إذا] (¬6) أقيمت بعد أن صلى منها ركعتين هل يقطع أو يأتي ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 87). (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب. (¬4) انظر: النوادر (1/ 329، 330)، والبيان والتحصيل (1/ 222). (¬5) سقط من أ، جـ. (¬6) في أ: فأما إن.

بثلاث فيسلم؟ فالمذهب على قولين (¬1): أحدهما: أنه يأتي بثلاث ويسلم ويخرج. وهو قول ابن القاسم في بعض روايات "المدونة"، وهي رواية أحمد ابن سليمان، وعليها اختصرها أكثر المختصرين. والثاني: أنه يُسَلِّم ما لم يركع في الثالثة، فإنه يتمها ويسلم ويخرج. وهذا كله إذا لم يخش فوات الركعة كما قدمناه في التقسيم، فإن كان غيرها مثل أن يدخل في صلاة الظهر، ثم أقيمت عليه صلاة العصر، هل يعتبر فيها فوات الركعة، أو فوات جميع الصلاة؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يتمادى ما لم يخش فوات الركعة، فإذا خشى قطع على وتر، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬2) [وغيرها] (¬3). والثاني: [أن المعتبر] (¬4) فوات جميع الصلاة؛ فليتمادى ما لم يخش أن يسلم الإِمام من صلاته، وتفوت جميع الصلاة. وهو قول مالك، وابن القاسم في "العتبية" (¬5). والثالث: أنه يتمادى على صلاته، ويخفف حتى يتمها، فإذا أدرك شيئًا مع الإِمام دخل معه وصلى، فإن لم يدرك شيئًا صلى لنفسه. ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 87). (¬2) المدونة (1/ 87، 88). (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: أن يعتبر. (¬5) البيان والتحصيل (1/ 222).

وهو قول ابن عبد الحكم وسبب الخلاف: تعارض المحظورين وتقابل المكروهين، وذلك أن ترتيب الصلوات واجب مع الذكر، فلا يجوز تقديم العصر على الظهر [مع] (¬1) الاختيار، ومخالفة الإِمام كذلك أيضًا [فإنه] (¬2) لا يجوز أن يُحْرم في فريضة في المسجد [والإمام] (¬3) في تلك الفريضة أو في غيرها من الصلوات [المفروضة] (¬4)؛ لما في ذلك من المخالفة المنهي عنها في الشرع. وهذا يُسْلك فيه مَسَالك الترجيح. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: على. (¬2) زيادة من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: المفروضات.

المسألة التاسعة في الموضع الذي تجوز فيه الصلاة، وما تكره فيه الصلوات

المسألة التاسعة في الموضع الذي تجوز فيه الصلاة، وما تكره فيه الصلوات والمصلي مأمور بأن يتقرب إلى الله بقلب طاهر [وبدن طاهر] (¬1) و [ثياب طاهرة] (¬2)، وبقعة طاهرة. أما طهارة القلب: فمن الكفر، والنفاق، والرياء، والسمعة، وطلب [الغيلة] (¬3) وغير ذلك من الكبائر [الموبقات] (¬4) التي لا تكتسب إلا بالقلب. فمن كانت فيه إحدى هذه الخصال فإن صلاته لا تزيده من الله إلا بعدًا. وكذلك طهارة البدن والثياب: ولا خلاف عندنا أن من صلى بثوب نجس، [أو ببدن نجس] (¬5) عامدًا أنه يعيد أبدًا. وإنما الخلاف عندنا فيمن صلى بذلك ناسيًا، هل يعيد أبدًا، أو [يعيد] (¬6) في الوقت؟ على ما لا يخفى [على] (¬7) من طالع المذهب. وأما طهارة البقعة: فكذلك [أيضًا] (¬8)؛ فقد ثبت نهى رسول الله ¬

_ (¬1) سقط، من أ. (¬2) في ب: ثوبي طاهر. (¬3) في أ: الغيبة. (¬4) في أ: الموبقة. (¬5) سقط من جـ. (¬6) سقط من ب. (¬7) سقط من أ. (¬8) زيادة من ب.

- صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في سبعة مواضع (¬1) [منها] (¬2): المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، ومحجة الطريق، وفي الحمام، و [معاطن] (¬3) الإبل، و [على] (¬4) ظهر بيت الله الحرام. وأما نهيه عليه السلام عن الصلاة في المزبلة؛ فلنجاستها، ولأنها في موضع يقصد فيه إلقاء الأقذار. والمجزرة كذلك؛ فإنها نجسة، وكونها موضع الشيطان أيضًا. وأما المقبرة: فلا تخلو من أن تكون مقبرة للمسلمين أو مقبرة للمشركين. فأما مقبرة المسلمين: فاختلف فيها المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: الجواز جملة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬5)، وإن كانت القبور بين يديه. والثاني: أن الصلاة فيها مكروهة على الجملة. والقول الثالث: التفصيل بين أن تكون جديدة أو داثرة، فإن كانت جديدة: كرهت الصلاة فيها. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (346)، وابن ماجة (746)، والطحاوي في شرح المعاني (1/ 383) والروياني في مسنده (1431)، وعبد بن حميد في المسند (765) وابن عدي في الكامل (3/ 203) من حديث ابن عمر مرفوعًا. وضعفه الحافظ في التلخيص (1/ 215) حديث (320). وقال الترمذي: حديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي. وضعفه العلامة الألباني في إرواء الغليل (287)، وضعيف الجامع (3235). (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ: أعطان. (¬4) سقط من ب. (¬5) انظر: المدونة (1/ 90).

ووجهه: مخافة أن يتفجر منها شيء فيظهر خارجًا، وإن كانت دائرة ولم يكن فيها بشر [جازت الصلاة، وإن لم يكن فيها بشر] (¬1): لم تجز. وهو قول القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب. وسبب الخلاف: اختلافهم في نهيه عليه السلام عن الصلاة في المقبرة، هل هو على عمومه في مقابر المسلمين والمشركين، أو خرج عن العموم، والمراد به مقابر المشركين. وأما مقابر المشركين: فاتفقوا على أن الصلاة فيها مكروهة جملة من غير تفصيل. فإن صلى فيها: فقيل: إن الصلاة جائزة إذا لم تظهر [النجاسة] (¬2) قاله أبو الحسن اللخمي. وقيل: التفصيل بين القديمة والجديدة؛ فإن كانت جديدة: أعاد أبدًا، سواء صلى فيها عمدًا أو [جهلًا] (¬3). فإن كانت قديمة: فصلاته جائزة، وهو قول ابن حبيب. ووجه من جوز الصلاة بعد وقوعها كون البقعة طاهرة، والنهي محمول على الكراهية. ووجه من منع [قال] (¬4): لأنها حفرة من حفر النار؛ ولأن البقعة نجسة لنجاسة أقدامهم [التي تطول فيها تلك البقعة] (¬5) في ترددهم إلى ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: فيها نجاسة. (¬3) في جـ: سهوًا. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من ب.

زيارة تلك القبور. وَمَنْ فَصّل فقد حَصّل. وأما محجة الطريق (¬1): فالنهي [فيها] (¬2) محمول على الكراهة أيضًا؛ لأن محجة الطريق وقارعته لا تخلو في غالب [الأحوال] (¬3) من أرواث الدواب وأبوالها، فيستحب له أن يتنحى عن ذلك قليلًا في حالة الاختيار. وأما حالة الاضطرار: فالصلاة فيها جائزة. وهو قوله في كتاب الصلاة الثاني في صلاة الجمعة [إذا ضاق المسجد بأهله فقال [لا بأس] (¬4) بالصلاة في الطريق الملاصقة بالمسجد، وإن كانت فيها أرواث الدواب، وأبوالها -يريد ما لم يكن للنجاسة عين قائمة] (¬5). وأما الحمام: [فإنه] (¬6) نهى عن الصلاة فيه [لنجاسته] (¬7) أيضًا، إلا أن يكون فيه موضع يوقن طهارته فيصلى فيه. فهذا يصح إذا كان فيه موضع محجوز لا يدخله إلا طاهر، وإلا فالحمام [الأصل فيه] (¬8) النجاسة؛ لما عُلم بالعادة أن الناس لا يتحفظون فيه من البول ولا النجاسات. ¬

_ (¬1) جادة الطريق: وسنَنَهُ. لسان العرب (2/ 228). (¬2) في ب: في ذلك. (¬3) في أ: الحال. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من جـ. (¬6) في أ: فإنما. (¬7) سقط من ب. (¬8) في ب: أصله.

وعلى هذا يحمل عرق الحمامات التي تستعمل في الاغتسال؛ فمنها مياه الحياض النجسة؛ لأنه منعقد الرطوبات التي تصعد مع البخار المتولد من الماء النجس المستعمل في الاغتسال مع ما انضاف إليه من الأبوال. والأنجاس التي لا يتحفظ [منها] (¬1) في الحمام كثير ممن يدخله. ولا شك أن النجاسة ودخانها بعض أجزائها، وإلى هذا ذهب القاضي أبو الفضل. فلو كان المستعمل فيه طاهر، و [أن] (¬2) الناس يتحفظون فيه من البول [والنجاسة] (¬3) لكان العرق الذي يقطر [فيه] (¬4) طاهرًا. وإن أضرم تحته بنجاسة؛ لأن رطوبة النجاسة لا تصعد إلى ذلك العرق؛ ولأن أرض الحمام حائل بينها وبين العرق ودخانها يخرج خارجًا، وإلى هذا ذهب أبو عمران الفارسي، وأما نهيه عليه السلام عن الصلوات في أعطان الإبل: فاختلف في علته: فمنهم من قال: النهي غير معلل، وهو [ظاهر] (¬5) قول مالك في "المجموعة" حيث قال: لا خبر في الصلاة في أعطان الإبل، وإن بسط عليها ثوبا [طاهرًا] (¬6) فلا يصلي فيها. ومنهم من عَلّل بِعِلل كلها لا تَسْلَم من الاعتراض، وأظهر ما فيها أن الناس كانوا يستترون فيها [للذهاب] (¬7). ¬

_ (¬1) في ب: عنها. (¬2) في أ: إنما. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: منه. (¬5) سقط من ب. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب، جـ: للمذاهب.

وهذا في المناهل. وأما [المدينة] (¬1) فلا بأس. وهذا التعليل باطل لمن بسط عليها ثوبًا طاهرًا، ولا خلاف عندنا أن من بسط ثوبه على موضع نجس، والنجاسة يابسة وصلى: أن صلاته جائزة. وهم يقولون في هذه الصورة: إن بسط عليها ثوبًا طاهرًا، وصلى أعاد أبدًا في العمد والجهل. ومنهم من علَّل بأن الفَّحْل يحتلم، والناقة تحيض، وهذا يرجع إلى التعليل الأول. ومنهم من علَّل وقال: إنها خلقت من جان؛ فكأنها تشغلهم عن الصلاة. كما نهى [عليه السلام] (¬2) عن الصلاة في الوادي فقال: "إن هذا وادٍ به شيطان" (¬3). وهذه [العلة] (¬4) أيضًا باطلة؛ لأن ذلك لا يُعلم [بالقياس] (¬5)، وإنما يُدْرَكُ بالتّوقيف من صاحب الشريعة، ولا توقيف. ومنهم من قال: إن نفورها جناية، فيخشى أن تنفر عليه، وهو في الصلاة فتصدمه، وهذا أيضًا باطل بما لو سُرِّحَت، وبقى المنهل خاليًا. ¬

_ (¬1) في جـ: المزبلة. (¬2) في ب: النبي صلى الله عليه وسلم. (¬3) أخرجه مالك (26) من حديث زيد بن أسلم مرسلًا، وهو مرسل صحيح. وقد صححه العلامة الألباني في الهداية (687). (¬4) في أ: فعلة. (¬5) في ب: بالحواس.

فثبت بما ذكرناه أن النهي غير معلّل. وأما الصلاة على ظهر بيت الله الحرام: وهي هذه [التي سنشرع فيها] (¬1) [ق/32]. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة العاشرة في الصلاة إلى الكعبة أو فيها أو عليها

المسألة العاشرة في الصلاة إلى الكعبة أو فيها أو عليها واستقبال القبلة [فريضة] (¬1) من فرائض الصلاة لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬2). وهي تنقسم على ثلاثة أقسام: قبلة عيان، وقبلة قطع [ويقين] (¬3)، وقبلة اجتهاد. فأما قبلة عيان: فهي قبلة أهل مكة؛ [فهذه] (¬4) لا يجوز فيها الاجتهاد أصلًا؛ لأن المصلي بمكة إن صلى [في المسجد] (¬5) أو على شرف مما حولها كالصلاة على أبي قبيس وقعيقعان، فقد شهدها وشافعهها مشافهة العيان، وصلاته صلاة إلى القبلة [بالاتفاق] (¬6) إلا على تأويل من تأول أن الصلاة إنما كرهت على أبي القبيس [وقعيقعان] (¬7)، لكونه صلى إلى الهواء ورد الكعبة إلى أسفل منه، وهذا باطل. وإن صلى في بيته بمكة، وحيث خفي عليه [عينها] (¬8) كان عليه التوجه إليها على وجه القطع لا على وجه الاجتهاد؛ لأنه كان قادرًا على ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة البقرة الآية (144). (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من ب. (¬5) في أ: بمكة. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: تعينها.

أن يحقق [الصوب الذي يؤدي إليه] (¬1)؛ لأنه إذا كان في بيته كان مصليًا إليها بأن يطلع موضعًا مرتفعًا يرى منه [بيته] (¬2) والكعبة حتى يحقق الصوب الذي يؤديها إليه إذا هو في بيته [والاجتهاد فيها] (¬3) مع القدرة على ما وصفناه كالاجتهاد في الحكم في نازلة مع وجود النص فيها، وذلك ممنوع بالاتفاق. وأما القسم الثاني -وهو قِبلَة أهل المدينة- فلا شك أيضًا قبلة [قطعية] (¬4)؛ لأن جبريل عليه السلام أقامها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقطع له بها مع أنه لا يَبْعُد في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تُطْوَى له الأرض من المدينة إلى مكة، ويكشف له عنها حتى يراها مشافهة ويستقبلها في مسجده. وإن كنت لم أر هذا في حديث صحيح، لكني رأيت من أشار إليه من أهل التواريخ. و [يظهر] (¬5) من معجزاته عليه السلام [ق/24جـ] ما يدل على هذا وأكثر منه. فلا يجوز لمن كان في مسجد النبي عليه السلام، ومن كان في مدينته أن يجتهد أيضًا كما لا يجوز ذلك لمن بمكة. وأما القسم الثالث -وهو القبلة [الاجتهادية] (¬6) وهي قبلة أهل الآفاق و [أهل] (¬7) البلاد النائية عن مكة [والمدينة] (¬8) جنوبًا وشمالًا، ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) في أ: بيت. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: قطع. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: اجتهاد. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

ووجهًا ودبورًا، فإن وظيفتهم الاجتهاد؛ إذ لا قدرة لهم على أكثر من ذلك، إلا أن الاجتهاد لا يكون مع عدم الدلائل المنصوبة على القبلة. وقد روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بين المشرق إلى المغرب قبلة" (¬1). وذكر مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال فيه إذا توجه قِبَل البيت (¬2)، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - الجهة التي تطلب فيها القبلة. وقال أحمد بن خالد: إنما ذلك لأهل المدينة، ومن كان مثلهم ممن كانت قبلتهم بين المشرق والمغرب. وهذا الذي قاله صحيح؛ رضي الله عنه. وقول عمر رضي الله عنه: إذا توجه قِبَل [الكعبة] (¬3) يريد أنه لا اجتهاد له في ذلك، وإنما الاجتهاد في تعيين جهة القبلة في هذه الجملة دون سائر الجهات. ثم لا يخلو المصلي من وجهين؛ إما أن يكون من أهل الاجتهاد، أو من أهل التقليد. فإن كان من أهل الاجتهاد، فلا يخلو من وجهين [ق/ 16 ب]. أحدهما: أن تكون [العلامة] (¬4) الدَّالة على القبلة لائحة، والأعلام ظاهرة واضحة. أو تكون الآثار مُنْطَمِسَة، والأعلام مُنْدَرِسَة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (342)، والنسائي (2243)، وابن ماجة (1011). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬2) الموطأ (460). (¬3) في جـ: البيت. (¬4) سقط من جـ.

فإن لاحت الدّلالات، وظهرت العلامات: فيفرض المجتهد حينئذ الطلب في الجهة التي ذكرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهل هو في السَّمْة أو في الجهة؟ على قولين: أحدهما: أن المطلوب الجهة لا العين. وهذا قول أبي محمَّد عبد الوهاب (¬1)، وأكثر المتأخرين استدلوا على ذلك بقوله عز وجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬2). والشّطر: [النحو] (¬3)، [والجهة] (¬4). والثاني: أن المطلوب بالاجتهاد العين؛ فإن لم يلزمنا إصابته فقد لزمنا إصابة الجهة، [والسَّمْت] (¬5). وهو اختيار الباجي. وسبب الخلاف: هل كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد؛ لأن هناك عين مطلوبة و ["الدلائل عليه منصوبة" (¬6)] (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: الإتحاف (1/ 365). (¬2) سورة البقرة الآية (144). (¬3) في ب: الناحية. (¬4) سقط من جـ. (¬5) في جـ: السمة. (¬6) في أ: الدليل عليه منصوب. (¬7) اختلف في هذه المسألة على مذهبين: أحدهما: أن المصيب واحد، وأن لله تعالى في كل حادثة حكمًا معينًا، أصابه من أصابه، وأخطأه من أخطأه. وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو الراجح. والثاني: أن كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله تعالى لا يكون واحدًا معينًا، بل هو تابع لظن المجتهد. =

[فإن] (¬1) قلنا: إن كل مجتهد مصيب: فالجهة هي المطلوبة. وإن قلنا: المصيب واحد: فالمطلوب العين. ولكن لا يعلم المصيب من المخطئ إلا الله تعالى. و [الدلائل] (¬2) المنصوبة أمارة على معرفة القبلة. قال الشيخ أبو محمَّد عبد الله بن أبي زيد (¬3) [في النوادر] (¬4): رأيت لبعض أصحابنا أن الدليل في النهار على رَسْمِ القبلة إلى انتهاء آخر نقصان الظل، وهو أن يأخذ في الزيادة، فإن الظل حينئذ قِبَالَة رَسْم القبلة، وذلك قبل أن يأخذ في الزيادة فيعرض إلى المشرق. واعترض بعض المتأخرين على الاستدلال، وقال: إنما يصح هذا في زمان الصّيف خاصة حيث تطلع الشمس من المشرق، وأما زمان الشتاء الذي تطلع فيه قريب من القبلة فلا. [والذي] (¬5) قاله صحيح، والله أعلم. و [المعترض] (¬6) أبو عبد الله محمَّد بن يونس، ويستدل عليها في الميل بالقطب الذي تدور عليه بنات نعش؛ فاجعله على [ناحية] (¬7) كتفك الأيسر، واستقبل الجنوب فما لقى بصرك فهو القبلة. ¬

_ = وهذا هو مذهب أبي بكر الباقلاني، والغزالي، وأبى الهذيل، وغيرهم. (¬1) في ب: فإذا. (¬2) في أ: الدليل. (¬3) النوادر (1/ 199). (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: والدليل على ما. (¬6) في ب: هو اعتراض. (¬7) سقط من جـ.

[والذي] (¬1) قاله صحيح مُجَرَّب، وقد جَرَّبْنَاه واعتبرناه عند البيت الحرام المطهر [شرفه] (¬2) الله ورزقنا العودة إليه، فجعلنا النجم المذكور على الكتف الأيسر، وقابل الوجه من البيت الحجر، وبعض جدار الكعبة على الخرط. ولم يقابل الوجه الميزاب على الحقيقة، بل عزفت عنه إلى [ركن الشام] (¬3) قليلًا؛ فهذا الذي رأيناه وجربناه. قال الشيخ: والقطب: نجم خفي وسط السمكة التي تدور عليه بنات نعش الصغرى والكبرى وراء السمكة أحد الفردقين وذنبها الجدي. فإذا ثبت أن وظيفة الاجتهاد [أنه] (¬4) لا قدرة له على غيرها، فإذا أتى بالاجتهاد على وجهه، وجدَّ في النظر على صوبه حتى استفرغ [منزع] (¬5) اجتهاده، ثم انزاح الغطاء واتضح الخطأ، فهل تصح صلاته أم لا؟ فذلك على ثلاث صور: الصورة الأولى: إذا انطمست الدنيا وتغيمت السماء، وكانت السماء في الآثار منطمسة، والأعلام مندرسة،، و [لم] (¬6) يمكنه الوقوف على [الآثار] (¬7) الموضوعة، والأعلام الهادية إلى المطلوب في غالب ظنه. والظنون فيما يتصور على وجوه؛ مثل أن يرى ضوءًا في قطر [يظن ¬

_ (¬1) في ب: وهذا الذي. (¬2) في أ: شرفها. (¬3) في ب: الركن الشامي. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: منزوع. (¬6) في أ: هل. (¬7) في أ: الأمارة.

أنه ضوء صبح] (¬1) فيستدل به على القبلة، أو يتحقق مواضع الغروب، فيستدل به على القبلة، فيتضح له الخطأ بعد الفراغ من الصلاة. الصورة الثانية: أن تكون الأعلام ظاهرة، واضحة الإمارات الدّالة على القبلة، بينةً، فاجتهد وصلى، ثم تبين له الخطأ بعد الصلاة. فهاتان الصورتان الجواب فيهما واحد، [والمذهب على قولين] (¬2)؛ الجواز، والمنع [والإجزاء أشهر] (¬3). وسبب الخلاف: المجتهد هل يعذر باجتهاده أم لا؟ فإن قلنا: إنه [يعذر باجتهاده] (¬4): فصلاته مجزئة. وإن قلنا: [إنه] (¬5) غير معذور: فصلاته باطلة؛ فيؤمر بالإعادة في الوقت على طريق الاستحباب. والصورة الثالثة: أن [يصلى] (¬6) في بيت مظلم من غير أن يخرج إلى صحن الدار، فينظر إلى الأعلام والآثار الدالة على القبلة -وهو متمكن من الخروج- فلا خلاف في هذه الصورة [على] (¬7) وجوب الإعادة إذا تبين الخطأ؛ إذ لو خرج لأصاب، فلما لم يفعل وغُرّ [وفرط] (¬8) كان وَبَالَ الغُرور عليه. فأما إن كان من أهل التَقْلِيد الذي هو حكم البَّرية: فوظيفته أن يُقَلِّد ¬

_ (¬1) في ب: فظنه هو الصباح. (¬2) في ب: وفيهما قولان. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: معذور بالاجتهاد. (¬5) سقط من ب. (¬6) في ب: يكون. (¬7) في ب: في. (¬8) سقط من أ.

غيره، ويصلي أبدًا مأمومًا. غير أن تقليده ينقسم [إلى] (¬1) قسمين: أحدهما: أن يُقَلِّد من كان عنده العلْم بالقِبْلَة، ويصلي خلفه، أو يصلى إلى الجهة التي أشار له إليها أن فيها القبلة. فهذا لا إشكال في جواز صلاته إذا كان المقلد ممن يقتدى به [وهو عالم] (¬2). والقسم الثاني: أن يُقَلِّد المساجد والأطلال المُنْدَرسة، وفيها محاريب، فلا تخلو [المساجد] (¬3) من أن تكون في الصحاري، أو الحواضر، والبوادي. فإن كان ذلك في الصحاري، مثل هذه المحاريب التي يحدثها الناس في الطرقات، وينصبونها على قوارع [المسالك] (¬4): فلا إشكال أن الصلاة في هذه المساجد ممنوعة لوجوه: منها: أنها [نصبت] (¬5) على قارعة الطريق، وقد نهى عليه السلام عن الصلاة على قارعة الطريق (¬6). ومنها: أنه ينصبها من لا يعرف القبلة، والصلاة إلى غير القبلة عامدًا تبطل بالاتفاق. ¬

_ (¬1) في ب: على. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: الطرقات. (¬5) في أ: نصب. (¬6) تقدم الحديث.

ومنها: أنا تُنْصَبُ في أرض لم يأذن [له] (¬1) فيها أصحابها، [فيشبه بالصلاة] (¬2) في أرض مغصوبة. وبين العلماء فيها خلاف؛ حتى نسبوا إلى مالك رضي الله عنه أن من صلى فيها أعاد [الصلاة] (¬3). غير أن شيوخ المذهب أنكروا هذه الرواية المعزية إلى مالك، وقالوا: إنها إفك وزور، وأن مالكًا [رحمه الله] (¬4) برىء منها. فإن كان في الحواضر وأُمْهَات البلاد: فإنه يجوز للمُقَلِّد تَقْلِيد ما فيها من المساجد؛ لأن الغالب فيها أن قبلتها مستقيمة؛ إذ لو كانت على خلاف الاستقامة لما وسع من كان فيها من العلماء [ق/ 33 أ] السكوت والتمادي على ترك الإنكار، ووجب عليهم التكاثر، والتظاهر على هدمها، ونقض [بنيانها] (¬5) حتى يُحَوِّلُوا قبلتها إلى القبلة المحمدية، وهذا إذا لم تمكنهم إقامة القبلة على وجهها مع قيام حيطانها وبنيانها؛ لأن ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك واجب عليهم، ولاسيما إذا كان ذلك مما يؤدي إلى إضلال الأمة قرنًا بعد قرن. فإن لم يتهيأ لهم [فعل] (¬6)؛ إما لما يخافون من هيجان الفتنة وفساد الأمة، حتى [تستباح] (¬7) المحارم، وتفسد الأموال، وتسفك الدماء، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: فأشبهت فيها الصلاة. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) في ب: أساسها. (¬6) في ب: ذلك الفعل. (¬7) في أ: استباحوا.

وتضطرب الدهماء. أو يكون المسجد المذكور في حظ ذوي ولاية، ومن له يد قاهرة، وسطوة ظاهرة، يخشى الاصطلاء بناره، ولا تؤمن بوادره. سقط عنهم [فرض] (¬1) الفعل، وتعين عليهم الإنكار باللسان والبيان لعامة المسلمين. ولما لم يُسمع في تلك البلدة [تكبير] (¬2)، ولا يعلم أن فيها مسجدًا على غير الاستقامة: كان للمقلد الصلاة فيها؛ لأن الأمصار الكبار لا تخلو كل زمان وعصر من العلماء والصالحين، ولو كان منهم إنكار في بعض المساجد لسُمع [وانتشر] (¬3) واشتُهر؛ لأنه مما تُوفّر الدَّواعي على نَقْلِه. [فإن] (¬4) كان ذلك في مساجد البوادي هل [يقلد أهلها بقبلتهم أو ماذا يفعل أما إن كان من أهل الاجتهاد فلا خلاف أنه لا] (¬5) يجوز له [تقليد أهلها] (¬6) بل الواجب عليه أن يَعْرِضْهَا على أَدِلّة القبلة، فإن وافقتها، وإلا صلى إلى الجهة التي أَدّاه إليها اجتهاده؛ لأن الذي بناها لا يخلو من أن يكون من أهل الاجتهاد أو لا. فإن كان من أهل الاجتهاد: فالظاهر من مذاهب الأصوليين أنه لا يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر فيما لا يخشى فواته قبل نظره. ¬

_ (¬1) في ب: الفرض من. (¬2) في ب: ذكر. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: وإن. (¬5) سقط من أ، جـ. (¬6) في ب: التقليد.

فإن لم يكن من أهل الاجتهاد: فلا خلاف أنه لا يجوز تقليده، فإذا جهل [أمره] (¬1): أعاد إن صلى فيها أبدًا كما قدمناه. وأما العَامِّي: فإنه يُؤْمَر بالصّلاة في مساجد البوادي وتقليد أهلها في ذلك، فهو أولى من أن يصلي إلى جهة يختارها؛ لأن ذلك وظيفته إذا كان وحده في غير [المسجد] (¬2). وقد اتفق المذهب أنه يصلي إلى جهة يغلب على ظنه أن القبلة فيها. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: لو قيل إنه يصلي إلى الجهات الأربع لكان مذهبنا قياسًا على الأواني المختلطة. فإذا صلى في مساجد البادية كان ذلك أصح من اجتهاد؛ لأن العامي لابد له من بعض الاجتهاد كيف ما كان، فالخطأ يقرب إلى الواحد أكثر من الجماعة. وهذا الذي ذكرته إنما حَكَكْتُه على مَحَكّ النَّظَر واعتبرته، غير أن الشرح تجده صحيحًا لا وصم فيه، ولعل قائلًا يقول: أطْنَبْتَ في هذه المسألة وخَرَجْتَ فيها عن مقصود الكتاب، ولعمري إنه لقليل في جنب ما يحتاج إليه من الشرح والبيان، وهذا حكم الصلاة إلى الكعبة. وأما الصلاة [في الكعبة] (¬3): فاختلف المذهب فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها لا تجوز في الفرض والنفل و [السنن] (¬4)، وهو قوله في "المدونة" (¬5). ¬

_ (¬1) في ب: حاله. (¬2) في أ: المساجد. (¬3) في أ: فيها. (¬4) في ب: السنة. (¬5) انظر: المدونة (1/ 91).

والثاني: أنها جائزة في الفرض و [السنن] (¬1)، وهو قول ابن المواز (¬2). والثالث: [التفصيل] (¬3) بين الفرض و [السنن] (¬4)؛ فيجوز في السنن، ولا يجوز في [الفرائض] (¬5)، وهو قوله في "النوادر" (¬6). وعلى القول بأنه لا يجوز فيها الصلاة -أعني الفرض- فهل يعيد أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: الأول: أنه يعيد [أبدًا] (¬7) وهو قول أصبغ في "النوادر" (¬8). والثاني: أنه لا يعيد أصلًا، وهو قول [ق/ 25 جـ] ابن المواز. والثالث: الإعادة في الوقت، وهو قوله في "المدونة" (¬9). وسبب الخلاف: تعارض الأخبار وتجاذب الاعتبار. أما الآثار: فقد روى في ذلك حديثان متعارضان، كلاهما ثابتان: أحدهما: حديث ابن عباس، قال: لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت دعى في نواحيها كلها، ولم يصل حتى خرج فلما خرج ركع ركعتن في [قبال] (¬10) ¬

_ (¬1) في ب: السنة. (¬2) النوادر (1/ 220، 221). (¬3) في أ: الفرق. (¬4) في ب: النفل. (¬5) في أ: الفرض. (¬6) النوادر (1/ 223). (¬7) سقط من ب. (¬8) انظر: النوادر (1/ 221). (¬9) انظر: المدونة (1/ 91). (¬10) في أ: قبل.

الكعبة، وقال: "هذه القبلة" (¬1). والثاني: حديث عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة هو وأسامة ابن زيد، وعثمان بن طلحة [وبلال] (¬2) فأغلقها عليه فمكث فيها، فسألت بلالًا حين خرج: ماذا صنع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: جعل عمودًا عن يمينه وعمودًا عن يساره، وثلاثة أعمدة وراءه فصلى (¬3). فمن [ذهب مذهب] (¬4) الترجيح، إما [منع] (¬5) الصلاة مطلقًا إن رجح حديث ابن عباس، وإما جوزها مطلقًا إن رجح حديث ابن عمر. ومن [ذهب مذهب] (¬6) الجمع بينهما حمل حديث ابن عباس في المنع على الفّرْض، وحديث ابن عمر على النَّفْل. فالجمع بينهما عَسِير؛ لأن الركعتين اللتين صلاهما النبي - صلى الله عليه وسلم - خارج الكعبة نفل، والقول بالإعادة مراعاة [للخلاف] (¬7). ومن طريق المعنى أنه استقبل بعض القبلة واستدبر بعضها. وأما الصلاة فوقها: فاختلف فيها المذهب على ثلاثة أقوال (¬8): أحدها: [أنها لا تجوز في الفرض] (¬9) وأنه يعيد أبدًا إن صلى وهو قول مالك في "المختصر". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (389)، ومسلم (1330). (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (483)، ومسلم (1329). (¬4) في أ: سلك. (¬5) في أ: لمنع. (¬6) في أ: سلك مسلك. (¬7) سقط من ب. (¬8) انظر: المدونة (1/ 91)، والنوادر (1/ 220، 221). (¬9) سقط من ب، جـ.

والثاني: أنه يعيد في الوقت [وهو قول أشهب] (¬1). والثالث: أن الصلاة جائزة، وهو قول [محمَّد] (¬2) بن المواز. وسبب الخلاف: [هل] (¬3) المقصود في استقبال العين، والبناء، [أو] (¬4) السمة والهواء. فمن رأى أن المقصود العين والبناء فقال: يعيد أبدًا. ومن رأى أن المقصود السمة والهواء فقال: لا إعادة عليه. والقولان بين المتأخرين في المذهب. اللهم إلا أن يكون بين يديه من بنائها [فوقها] (¬5) ما يكون سُترة؛ فيكون الحكم في الصلاة فوقها كالحكم في الصلاة فيها [والحمد لله وحده] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: أم. (¬5) في ب: فوق. (¬6) زيادة من ب.

المسألة الحادية عشرة في اللباس في الصلاة

المسألة الحادية عشرة في اللباس في الصلاة والأصل فيه على الجملة، قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬1). قال مالك في "العتبية" (¬2): ذلك في الصلاة في المساجد، وقال في "شرح الموطأ لابن مزين" في الآية: الزِّينَة: الأَرْدِيَة، والمساجد: الصلوات. ولا خلاف بين الأمة أن ستر العورة فرض على الجملة، وإنما وقع الخلاف بينهم هل هي فرض من فروض الصلاة أم لا؟ فالذي [يُنتخل] (¬3) من المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: [أنه] (¬4) فرض من فروض الصلاة، وهو قول القاضي أبي الفرج في "الحاوي". والثاني: [أنه] (¬5) من سنن الصلاة، وهو قول [القاضي] (¬6) أبي إسحاق بن شعبان، وابن بكير، وأبي بكر الأبهري. ويتخرج في المذهب قول ثالث: [أنه] (¬7) فرض مع الذكر، ساقط مع ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية (31). (¬2) انظر: البيان والتحصيل (1/ 351)، و"النوادر" (1/ 199). (¬3) في جـ: يتحصل. (¬4) في أ: أنها. (¬5) في أ: أنها. (¬6) سقط من ب. (¬7) في أ: أنها.

النسيان [والعذر] (¬1) كزوال النجاسة من الثوب والبدن. وفائدة الخلاف وثمرته: أنَّا إذا قلنا: إنها من فروض الصلاة بطلت إذا [صلى] (¬2) وعورته بادية. وإذا قلنا: إنها سنة: [فقد] (¬3) أثم التارك ولم تبطل الصلاة. وسبب الخلاف: اختلافهم في المفهوم من قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬4). هل الأمر بذلك على الوجوب [أو] (¬5) على الندب؟ فمن حمله على الوجوب قال: المراد به ستر العورة، واحتج لذلك بأن سبب نزول [هذه] (¬6) الآية: أن امرأة كانت تطوف بالبيت، وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا [أحله] (¬7) فنزلت هذه الآية. وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا يطوف بعد هذا العام مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان (¬8). ومن حمله على الندب قال: المراد بذلك الزينة الظاهرة؛ [مثل] (¬9) ¬

_ (¬1) سقط من ب، جـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سورة الأعراف الآية (31). (¬5) في ب: أم. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: أحبه. (¬8) أخرجه البخاري (362)، ومسلم (1347) من حديث أبي هريرة. (¬9) سقط من أ.

الرداء وغيره [من اللباس] (¬1) واحتج لذلك بما جاء في الحديث من: أنه كان رجال يصلون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاقدي أزرهم على أعتاقهم كهيئة الصبيان، ويقال للنساء: [لا ترفعن رؤوسكن] (¬2) حتى يستوي الرجال جلوسًا (¬3). ثم المصلون [ينقسمون] (¬4) [قسمين] (¬5)؛ ذكرانًا وإناثًا. فالذكران لا يخلو حالهم من خمسة أوجه: أحدها: أن يجدوا ثيابًا طاهرة مما يجوز لهم لباسها عرفًا وشرعًا. والثاني: أن يجدوا ثيابًا نجسة. والثالث: أن يجدوا ثيابًا محرمة اللباس. والرابع: أن يجدوا ثيابًا بخسة، وثيابًا محرمة من الحرير. والخامس: ألا يجدوا ثيابًا أصلًا. فالجواب عن الوجه الأول: إذا وجد المصلي ثيابًا طاهرة [مما] (¬6) يجوز لبسها عُرْفًا وشرعًا كسائر اللبالس [سوى] (¬7) الحرير: فإنه يتعين ستر عورته وجوبًا، أو ندبًا؛ على الخلاف الذي قدمناه أول المسألة، ثم يستر ما بقى من جسده بعد العورة على معنى الفضيلة والكمال. واختلف في حَدّ ما يكون عورة من جسده الذي يتعين عليه ستره في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: ألا يرفعن رؤوسهن. (¬3) أخرجه البخاري (355) ومسلم (441) من حديث سهل بن سعد. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من جـ. (¬6) سقط من ب. (¬7) في ب: غير.

الصلاة على ثلاثة أقوال منصوصة في المذهب، قائمة من "المدونة". أحدها: أن جميع جسده عورة، وهو قول [القاضي] (¬1) أبي الفرج، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب النذور"؛ لأنه [قال] (¬2) إن كسا المساكين و [إن] (¬3) كن نساء فدرع وخمار. وإن كانوا رجالًا: فثوب [واحد] (¬4)، وذلك أدنى ما [تجزئ] (¬5) فيه الصلاة؛ لأن مالكًا لا يرى أن يجزئ المئزر المُكْفت، ويؤيد ذلك قوله عليه السلام: "لا يصل الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء" (¬6). لأن الزينة لا تقع على من صلى بمئزر في وسطه [لا غير ذلك] (¬7). والقول الثاني: أن العورة التي يجب عليه سترها: من الصرة إلى الركبتين، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الصلاة الأول" من "المدونة" (¬8) حيث قال فيمن صلى بالمئزر أو بالسراويل، وهو يقدر على الثياب فإن صلاته جائزة، فإن صلى عريانا وهو يقدر على الثياب: أعاد [ق/ 34 أ] أبدًا. والثالث: أن العورة السوءتان خاصة، وهو قول أصبغ في كتاب ابن حبيب، وهو قول مالك في "كتاب الجنائز" من "المدونة" (¬9) [في ستر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) في ب: تجوز. (¬6) أخرجه البخاري (352)، (353)، ومسلم (516). (¬7) سقط من جـ. (¬8) المدونة (1/ 96). (¬9) انظر: المدونة (1/ 184).

عورة الميت أنها السوءتان خاصة] (¬1). ويتخرج في المذهب قول رابع بالتفصيل بين البيوت والمساجد؛ إن صلى في المساجد سترها، وإن صلى في بيته فلا شيء عليه إذا لم يسترها. ولا شك أن سترها عن المخلوقين وعن الملائكة [مستحب] (¬2). وسبب الخلاف: تعارض الأخبار، من ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء" (¬3). ومنها: ما روى أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الفخذ عورة" (¬4). ومنها: حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حسر عن فخذه، وهو جالس مع أصحابه (¬5). والأحاديث كلها ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - -فمن سلك مسلك الترجيح، رجح الحديث الأول: "لا يصلي الرجل في ثوب واحد"؛ [يقول] (¬6): الجسد كله عورة. ومن رجح [الحديث الثاني] (¬7): "الفخذ عورة"، قال: العورة من الصرة إلى الركبتين. ومن رجح حديث أنس، قال: العورة السوءتان خاصة، فإن كان معه ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: فرض. (¬3) تقدم. (¬4) أخرجه البخاري تعليقًا. (¬5) أخرجه البخاري تعليقًا، ثم قال: وحديث أنس أسند وحديث جرهد -الفخذ عورة- أحوط حتى يخرج من اختلافهم. (¬6) في ب: قال. (¬7) في ب: حديث الفخذ.

رداء وقميص، فإنه يستحب له أن يتجمل بهما في الصلاة، سواء صلى في بيته أو في المسجد، وهو الذي [اختاره] (¬1) بعض العلماء لقوله تعالى: {خُذُوا زينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬2) -يريد الصلاة- على [معنى] (¬3) الاستحباب. وأما الجواز فقد قدمنا ما تجوز به الصلاة. وحديث أبي هريرة أيضًا [أنه قال] (¬4): لا أصلي في ثوب واحد، وإن ثيابي لعلى المشجب، وذلك في بيته. وأما الصلاة في [المساجد] (¬5) فينبغي أن يخرج إليها على أحسن [ثيابه] (¬6)، [حتى] (¬7) قال بعض العلماء: لا ينبغي للرجل أن يمشي في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء كما لا ينبغي للإمام أن يصلي بغير رداء، [كأنه] (¬8) يرى ذلك من قلة المروءة. والذي قاله يختلف باختلاف البلدان، فيصح ذلك في البلاد التي جرت العادة [بالأردية] (¬9) على الثياب؛ فيكون من خرج بغير رداء شهرة بين القوم. وأما البلاد التي جرت عادته بترك الارتداء: فلا وصم في ذلك، والله ¬

_ (¬1) في أ: أجازه. (¬2) سورة الأعراف الآية (31). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: المسجد. (¬6) في أ: كمال. (¬7) في أ: كما. (¬8) في أ: كما. (¬9) في ب: بالإرتداء.

أعلم. فإن لم [يجد] (¬1) إلا ثوبًا واحدًا: فلا يخلو من أن يكون قصيرًا أو طويلًا. فإن كان قصيرًا: فإنه يأتزر به، وإن كان طويلًا: كيف يصنع في لبسه؟ وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن اشتمال الصَّمَّاء (¬2). وروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى في ثوب واحد متوشحًا (¬3). والتوشح: ضرب من الاشتمال، فالاشتمال عند العرب على ثلاثة [أوجه] (¬4): [منها] (¬5) اشتمال الصَّمَّاء: وهو أن يلتوي في ثوبه، ولا يدع ليديه مخرجًا إلا من أسفله. وهذه اللبسة التي نهى عنها مأخوذ من الصَّمَم؛ لأنه لا منفذ ليديه إلا من تحت الثوب، فإذا أخرجهما ورفعهما انكشف فرجه. و [الضرب] (¬6) الثاني: الاضطباع: وهو أن يرتدي ويخرج الثوب من تحت يده اليمنى. فقال ابن القاسم: هو من ناحية الصماء. ولا خلاف أن اللبستين ممنوعتان مع عدم الإزار. ¬

_ (¬1) في ب: يكن معه. (¬2) أخرجه البخاري (360)، ومسلم (827) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬3) أخرجه البخاري (347)، ومسلم (517). (¬4) في ب: أضرب. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: الوجه.

ومع وجود الإزار: الكراهة، والإجازة [بغير] (¬1) كراهة. و [الضرب] (¬2) الثالث: التوشح المباح في الصلاة وغيرها؛ أن يأخذ ثوبه تحت يده اليمنى فوضعه على كتفه الأيسر، وأخذ الطرف الآخر من تحت يده اليسرى فوضعه على كتفه اليمنى. فهذه صفة التوشح [المباح] (¬3)، وهو تفسير [القاضي] (¬4) أبي الوليد الباجي [رضي الله عنه] (¬5). والجواب عن الوجه الثاني: [إن] (¬6) لم يجد إلا ثوبًا نجسًا؛ فإنه يصلي به ولا يصلي عريانًا مع وجوده. فإن وجد ثوبًا طاهرًا في الوقت، أو ما يغسله به، فإنه يعيد في الوقت. واختلف في حد الوقت على قولين: أحدهما: [أن آخر الوقت] (¬7) الاصفرار [في الظهر والعصر] (¬8) والمغرب، والعشاء: الليل كله؛ بمنزلة ما لو صلى به ناسيًا. وهو قوله في "المدونة". ¬

_ (¬1) في أ: لغير. (¬2) في ب: الوجه. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: إذا. (¬7) سقط من ب. (¬8) سقط من أ.

والثاني: أن الوقت [فيه] (¬1) بغروب الشمس [في الظهر والعصر] (¬2) والليل كله إلى طلوع الفجر في المغرب والعشاء. وهو قول ابن المواز في الغروب [ق/ 17 ب]. والفرق بين الليل [والنهار] (¬3) أن الإعادة في الوقت استحبابًا، فأشبهت التنفل، فكما لا يجوز التنفل إذا اصفرت الشمس، فكذلك لا يعيد به ما وجب فيه إعادته. ولما جاز التنفل في الليل كله: جازت الإعادة [فيه] (¬4) والله أعلم. و [أما] (¬5) الجواب عن الوجه الثالث: إذا لم يجد إلا ثوب حرير، هل يصلي به أم لا؟. فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يصلي [فيه] (¬6) ولا يصلي عريانًا. وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬7)؛ لأنه قال: يصلي بالحرير [أحب إليَّ] (¬8) مع وجود الثوب النجس. والثانى: أنه يصلي عريانًا ولا يصلي به. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: به. (¬7) المدونة (1/ 34). (¬8) سقط من أ.

وهو قول أشهب في "الموازية" (¬1)، وهو قول ابن القاسم في سماع أصبغ عنه. فوجه القول إنه يصلي عريانًا؛ بناء على أن وجوده كالعدم على سواء؛ لنهيه عليه السلام [الذكور] (¬2) عن لباس الحرير. ووجه [قول] (¬3) من [ق/26جـ]، جوز [الصلاة به] (¬4): بناء على أن النهي لما كان للسرف؛ فإن من اضطر إليه غير قاصد إلى السَّرَف: فيجوز له لبسه. فكيف الصلاة فيه، وقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - لباسه لعبد الرحمن بن عوف لأجل الحَكَّة التي كانت ["به" (¬5)] (¬6)؟. [واختلفوا] (¬7) فيمن صلى فيه [مختارا] (¬8) على ثلاثة أقوال: أحدها: أن صلاته جائزة ولا يعيد، وهو قول ابن عبد الحكم. والثاني: أنه يعيد أبدًا، وهو قول ابن حبيب. والثالث: أنه يعيد في الوقت، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: النهي هل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟ (¬9). ¬

_ (¬1) النوادر (1/ 216). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) أخرجه البخاري (2762)، ومسلم (2076)، ورخص أيضًا للزبير رضي الله عنهم أجمعين. (¬6) في ب: فيه. (¬7) في ب: اختلف. (¬8) فى ب: اختيارًا. (¬9) اختلف في ذلك على مذاهب: أحدها: أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، وهو مذهب أكثر المالكية، والشافعية، والحنابلة، وبعض الحنفية، والظاهرية، وهو الراجح. الثاني: التفريق بين العبادات والمعاملات: وذلك أن النهي عن العبادات يقتضي فسادها، والنهي عن المعاملات لا يقتضي ذلك، =

فمن رأى أن النهي يدل على فساد المنهي عنه، قال: يعيد أبدًا؛ لأنه ارتكب محظورًا في لبس ما حرم عليه لبسه، اتفاقًا في المذهب؛ فصار بمنزلة من صلى عريانًا مع [وجود] (¬1) القدرة على الثياب. ومن رأى أنه لا يدل على الفساد، قال: لا يعيد الصلاة؛ لأنه ليس كالعريان. والمرأة لو صَلّت فيه لجازت صلاتها، وإنما هو عَاصٍ في اللبس مُطِيعًا في الصلاة، كمن صلى بثوب مغصوب، فإن صلاته تجزئه. والجواب عن الفصل الرابع: إذا كان معه ثوبان؛ نجس وحرير [طاهر] (¬2)، هل يصلى بالحرير أو بالنجس؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يصلي بالحرير ويعيد في الوقت إذا وجد ثوبًا طاهرًا أو ما يغسل به [النجس] (¬3) وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬4). والثاني: أنه يصلي بالنجس، ولا يصلي بالحرير، فإن صلى بالنجس: أعاد في الوقت، وإن صلى بالحرير فلا [يعيد أصلًا] (¬5) وهو قول أصبغ ¬

_ = وهو مذهب بعض الشافعية، وبعض المعتزلة. الثالث: التفريق بين ما نهى عنه لعينه كالزنا، والسرقة، فهذا يقتضي الفساد. وما نهى عنه لغيره كالبيع عند النداء فلا يقتضي الفساد. وهذا المذهب منسوب لأبي حنيفة والشافعي. الرابع: أن النهي عن الفعل يقتضي صحة المنهى عنه، وهو مذهب أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن وكثير من الأحناف. (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: المدونة (1/ 34). (¬5) في ب: إعادة عليه.

في "كتاب محمَّد" (¬1). وسبب الخلاف: تعارض العمومين، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحرير محرم على ذكور أمتي" (¬2). [فظاهره] (¬3) العموم في الصلاة وفي غيرها، والنهي يدل على فساد المنهي عنه. والثاني: عموم قوله تعالى: {[يَا بَنِي آدَمَ] (¬4) خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬5). ويعضده الإجماع [على] (¬6) أن ستر العورة واجب جملة في الصلاة، وفي غير الصلاة، وأن المساجد المرادة في الآية هي الصلاة. والإجماع أيضًا على أن من تعمد الصلاة بثوب نجس مع القدرة على ثوب طاهر يجوز [له] (¬7) لبسه: لا تجوز [الصلاة فيه] (¬8) [فنهى] (¬9) النبي عليه السلام عن لباس الحرير يقتضي ألا تجوز الصلاة به عمومًا أصلًا. وانعقاد الإجماع يقتضي أيضًا ألا يصلي بثوب نجس عامدًا عمومًا. ¬

_ (¬1) النوادر [1/ 216]. (¬2) أخرجه أبو داود (4057)، والنسائي (5144)، وابن ماجة (3595) من حديث علي بن أبي طالب. وأخرجه الترمذي (1720)، والنسائي (5148) من حديث أبي موسى. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬3) في أ: فظاهرها. (¬4) سقط من أ. (¬5) سورة الأعراف الآية (31). (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ. (¬9) في أ: لنهى.

ولا شك [ولا خفاء] (¬1) أن الضرورة لها تسليط على [تخصيص] (¬2) العمومين على البدل؛ إذ [يجوز] (¬3) له [لباس] (¬4) الحرير إذا اضطر إليه كما يصلي بالثوب النجس إذا اضطر إليه. [فكل ما] (¬5) جاز لبسه على الضرورة جاز أن يصلي به؛ فإذا وجد ثوبًا نجسًا، وثوبًا حريرًا طاهرًا [هل يصلي بالنجس استصحابًا للحال أو يصلي بالحرير؛ لأنه ثوب طاهر حلال لبسه للذكران على وجه قياسًا على ما لو وجد ثوبًا طاهرًا] (¬6) يباح له على كل الأحوال، [والحمد لله وحده] (¬7). والجواب عن الوجه الخامس: إذا لم يجد المصلي ثوبًا أصلًا [ومن لم يجد ثوبًا يصلي به] (¬8): فإنه يصلي عريانًا لا يسعه ترك الصلاة، بخلاف العادم للماء والتراب، ولا إعادة عليه إن وجد الثوب في الوقت. واختلف إن طلع عليه رجل بثوب [طاهر] (¬9) وهو في الصلاة [هل يقطع أم لا] (¬10) على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في الأصل: لا يجوز. (¬4) في أ: لبس. (¬5) في الأصل: كلما. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من ب. (¬8) سقط من أ. (¬9) سقط من أ. (¬10) سقط من أ.

أحدهما: أنه يقطع. وهو قول [سحنون] (¬1). والثاني: أنه يتمادى ويعيد في الوقت [بالثوب] (¬2) وهو قول ابن القاسم. فجعله ابن القاسم كالمتيمم طلع عليه رجل بالماء وهو في الصلاة. وفرق سحنون بينهما، والفرق أظهر. وإن كان بعض المتأخرين استحسن قول ابن القاسم. والفرق بينهما -على قول [سحنون] (¬3) - أن المتيمم دخل الصلاة بإحدى الطهارتين؛ فلذلك لا ينقض صلاته طروء الماء عليه، والعريان دخل في الصلاة بغير بدل ولا أصل، فكان ينبغي أن يقطع الصلاة إذا وجد ثيابًا بالمعنيين: أحدهما: عام، وهو ستر العورة. والثاني: خاص و [هو] (¬4) الصلاة بثوب. فإن كانوا جماعة، فإنهم يصلون [أفذاذًا] (¬5) قيامًا متباعدين حيث لا ينظر بعضهم إلى [عورة] (¬6) بعض. فهل لهم أن يتجمعوا جماعة في إحدى صلاتي النهار؟ فالمذهب على قولين (¬7): ¬

_ (¬1) في أ: أشهب. (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ: أشهب. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) المدونة (1/ 95).

أحدهما: [أنهم يصلون] (¬1) أفذاذًا ولا يجتمعون، وهو ظاهر [المدونة] (¬2). والثاني: أنهم يجتمعون جماعة ويكونون صفًا واحدًا، وإمامهم في الصف. وهو قول عبد الملك [بن الماشجون] (¬3) في كتاب ابن حبيب. [وإن] (¬4) كانوا في ليل مظلم [فلا خلاف في المذهب] (¬5) أن لهم أن يصلوا جماعة، ويتقدمهم [ق/ 35 أ] إمامهم. ثم إن طلع عليهم القمر في أثناء الصلاة، فإن الإِمام يرجع إلى الصف، ويتم بهم [صلاتهم] (¬6). وإن كانت مع أحدهم ثوب، فإنهم يصلون به أفذاذًا، وهو أولى من أن يؤمهم أحد؛ لأن ستر العورة في الصلاة فرض أو سنة على الأعيان، وصلاة الجماعة سنة على الكفاية. وهو اختيار [القاضي أبي الحسن اللخمي] (¬7)، وما قاله صحيح. فإن كان الثوب مِلكًا لأحدهم، فإنه لا يُجْبَر على أن يُعَرّى منه ليُصَلُّوا به. فإن كان الثوب فاضلًا: وجب أن يجبر على أن يمكنهم من الصلاة به؛ لأن ذلك من باب المواساة، وقد ورد الحديث في الأمر بالمواساة في أمر ¬

_ (¬1) في أ: أن يصلوا. (¬2) في أ: المذهب. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: فإذا. (¬5) سقط من ب. (¬6) سقط من ب. (¬7) في أ: ابن حبيب.

الدنيا، وهو فيما يتعلق [بالدِّين] (¬1) أولى. والجواب عن القسم الثاني [من أصل التقسيم] (¬2) في الإناث: [وقد قلنا: إن المصلين ينقسمون إلى ذكران وإناث، وتكلمنا على الذكران، والكلام هاهنا على الإناث] (¬3). وهن ينقسمن على قسمين، حرائر، وإماء. والحرائر ينقسمن إلى قسمين: بوالغ وغير بوالغ. فالحرائر البوالغ: [لا] (¬4) تصلي [امرأة منهن] (¬5) إلا بدرع سابغ يستر جميع جسدها، وخمار تتقنع به، وذلك أدنى ما تجزئها به الصلاة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة امرأة بلغت المحيض إلا بدرع وخمار" (¬6)، واختلف هل جميع ذلك منها عورة، ويكون ستره فرض أو بعضه فرض وبعضه سنة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها إن صلت عريانة أعادت أبدًا، وإن انكشف صدرها أو رأسها أو ظهور قدميها أعادت في الوقت، وهو قول مالك في "المدونة". ¬

_ (¬1) في ب: بالآخرة. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: فلا. (¬5) في ب: المرأة. (¬6) أخرجه أبو داود (641)، والترمذي (377)، وابن ماجة (655)، وأحمد (24641)، ولم يذكر فيه: الدرع. قال الترمذي: حديث حسن. وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل (196)، وحديث أبي داود (640) الذي ذكر فيه الدرع ضعيف.

والثاني: أن جميع ذلك سنة، وإن صلت عريانة أعادت في الوقت، وهو قول أشهب في [الرجل] (¬1). والثالث: التفصيل بين السوأتين وغيرهما. والخلاف فيها كالخلاف في [الذكور] (¬2) سواء؛ لأن المرأة مساوية للرجل في [ستر] (¬3) السوأتين، ثم لا يكون بقية جسدها أخفض رتبة في السوأة من سوأة الرجل. ولا تنتقب [في الصلاة] (¬4) ولا تتلثم، فإن فعلت لم تعد. وهذا في الحرائر البوالغ. وأما الحرائر غير البوالغ: فلا تخلو من أن تكون مراهقة أو غير مراهقة. فإن كانت مراهقة فصلت بغير قناع، أو كان الصبي [فصلى] (¬5) عريانًا، هل [عليهما] (¬6) الإعادة في الوقت أم لا؟ قولان: أحدهما: أن عليهما الإعادة في الوقت، وهو قول أشهب. والثاني: ترك الإعادة، وهو قول سحنون. وأما من كان منهن دون حد الإرهاق كبنت ثمان سنين: فلا خلاف في المذهب بأنها تستر نفسها بما تستر الحرة البالغة. ولا إعادة عليها إن صلت مكشوفة الرأس أو بادية الصدر. ¬

_ (¬1) في ب: الرجال. (¬2) في ب: الذكران. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من ب. (¬6) في أ: عليه.

وأما الإماء: فينقسمن إلى من لها حرمة الفراش ومن ليس لها تلك الحرمة. فأما من ليس لها تلك الحرمة، فهل حكمها حكم الرجل في الستر، أو حكم [الحرة] (¬1) في الستر؟. فالمذهب على قولين: أحدهما: أن لها حكم الحرائر، وهي رواية ابن نافع عن مالك في "المجموعة" قال: ولا تصلي المرأة في إزار وعمامة على عاتقها -يريد بالإزار: المئزر-. قال ابن القاسم (¬2): وليكن على جسدها ثوب يسترها. و [القول] (¬3) الثاني: أن الأمة تستر [في الصلاة] (¬4) ما يستره الرجل. وهو قول أصبغ، غير أنه يقول: إن صلت الأمة مكشوفة الفخذ أعادت في الوقت، وإن صلى الرجل مكشوف الفخذ لم يعد. وهذا [القول] (¬5) الذي قاله مبني على الاحتياط. وأما من لها تلك الحرمة كأم الولد: فلا خلاف في المذهب أنها تؤمر بما تؤمر به الحرة البالغة من الاستتار، وأنها إن صلت بادية الصدر، أو مكشوفة الرأس: فإنها تعيد في الوقت. ¬

_ (¬1) في جـ: المرأة. (¬2) المدونة (1/ 95). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من ب.

غير أن إعادتها دون إعادة الحرة في الاستحباب؛ ولذلك قال في "المدونة" (¬1): ولا أوجبه عليها كوجوبه على الحرة. وأما الأمة تُعتق وهي الصلاة: فقد اختلف فيها المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تقطع ولا تتمادى، وهي مكشوفة الرأس، وهو قول سحنون. والثاني: أنها تتمادى، ولا تقطع، ولا تعيد، وهو قول أصبغ. والثالث: التفصيل بين أن تقدر على الاستتار في الصلاة فاستترت [وهي في الصلاة] (¬2) فتجزئها صلاتها، [أو أمكنها الاستتار] (¬3) فلم تفعل: أعادت في الوقت. وهو قول ابن القاسم: و [عبد الملك] (¬4). وسبب الخلاف الحكم هل ينتقل بانتقال الحال أم [لا] (¬5)؟ وهذا الأصل متداع في كثير من فروع الشريعة [والحمد لله وحده] (¬6). ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 95). (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: فإن أمكنها ذلك. (¬4) في أ: ابن عبد الحكم. (¬5) سقط من أ. (¬6) زيادة من جـ.

المسألة الثانية عشر في قضاء المأموم ما سبقه به الإمام

المسألة الثانية عشر في قضاء المأموم ما سبقه به الإِمام ثم لا يخلو المدرك لصلاة الإِمام من وجهين: إما أن يدركه في موضع جلوس له: [والثاني: أن يدركه في غير موضع جلوس] (¬1) فإن أدركه في موضع جلوس له كدرك ركعتين من صلاة هي أربع، أو بدرك ركعتين من صلاة هي ثلاث كالمغرب، فإذا سلم الإِمام قام المأموم بالتكبير؛ إذ لو كان وحده لقام بالتكبير. فإن أدركه في غير موضع جلوس كمدرك ركعة واحدة من صلاة الرباعية وغيرها من سائر الصلوات، هل يقوم بتكبير أو بغير تكبير؟ فالمذهب على قولين قائمين في "المدونة" (¬2): أحدهما: أنه يقوم بغير تكبير، وهو نص قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه يقوم بتكبير، وهو قول ابن نافع وعبد الملك في "النوادر" (¬3). وفيه قول ابن القاسم أنه يقوم بغير تكبير؛ لأن ذلك زيادة التكبير عمدًا، والتكبير التي [يرفع] (¬4) منها من السجود هي التي بجب عليه أن يقوم بها إلى القضاء، إلا أن الإِمام حَبَسَه في الجلوس موافقة له، وإن كان ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: المدونة (1/ 96). (¬3) انظر: النوادر (1/ 321). (¬4) في أ: رفعها.

ليس بموضع جلوس له؛ إذ لا يسوغ له القضاء إلا بعد [سلام] (¬1) الإمام. ووجه قول [من يقول: إنه يقوم بتكبير] (¬2)؛ لأنه قام إلى ركن من أركان الصلاة، فيفتقر إلى التكبير. وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" (¬3)؛ إذا أدرك الجلسة الآخرة من صلاة الإِمام حيث قال ابن القاسم: فإنه يقوم بتكبير؛ لأن السنة التكبير في كل خفض ورفع، وهذا من ذلك. فإذا قام إلى القضاء هل يكون ما أدرك هو أول صلاته أو هو آخرها؟ فاختلف فيها المذهب على ثلاثة أقوال (¬4): أحدها: أن ما أدرك هو أول صلاته، وما فاته هو آخرها، وهو مذهب الشافعي (¬5). والثاني: أن ما أدرك هو آخر صلاته، وما فاته هو أولها، وهو مذهب أبي حنيفة (¬6). والقولان عن مالك. والقول الثالث: الفرق بين الأقوال والأفعال؛ فقال: يقضي في الأقوال -يعني القراءة- ويبنى في الأفعال [ق/ 27 جـ]، يعني: الأداء-. وهذا القول الثالث هو قوله في "المدونة"، وهذا هو الصحيح عن ¬

_ (¬1) في ب: فراغ. (¬2) في ب: عبد الملك. (¬3) انظر: المدونة (1/ 96). (¬4) المدونة (1/ 96). (¬5) الأم (1/ 178). (¬6) المبسوط (1/ 35).

مالك، والقولان الآخران حكاهما أبو محمَّد عبد الوهاب [في المذهب] (¬1) عن مالك، [وفائدة الخلاف] (¬2) هل حكم ما يأتي بعد سلام الإِمام حكم الأداء أو حكم القضاء؟. وسبب الخلاف: اختلاف طريق الحديث الوارد عنه - صلى الله عليه وسلم -: "ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" (¬3) والإتمام يقتضي أن يكون ما أدرك هو أول صلاته. وفي بعض طرق الحديث: "فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا" (¬4). [والقضاء يوجب] (¬5) أن ما أدرك هو آخر صلاته. [فمن ذهب مذهب] (¬6) الجمع جعل القضاء في الأقوال، والأداء في الأفعال، وهذا ضعيف [في النظر] (¬7) أن يكون بعض الصلاة أداء وبعضها قضاء. قال القاضي أبو الوليد بن رشد [والحفيد] (¬8): [مع اتفاقهم] (¬9) على وجوب الترتيب في [أجزاء] (¬10) الصلاة، وعلى أن تكبيرة الإحرام ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (609)، ومسلم (603) من حديث أبي قتادة. (¬4) أخرجه مسلم (602)، وأبو داود (573)، وأحمد (7209)، واللفظ له. (¬5) في أ: فوجب. (¬6) في أ: ومن سلك مسلك. (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: وحفيده. (¬9) في أ: فاتفاقهم (¬10) في أ: آخر.

هي افتتاح الصلاة، والسلام تحليلها دليل واضح أن ما أدرك هو أول صلاته. لكن تختلف نية الإِمام والمأموم في الترتيب [في أجزاء الصلاة] (¬1) فتأمل هذا. فيشبه أن يكن آخر ما راعاه من قال ما أدرك هو [آخر] (¬2) صلاته، انتهى قوله. فإذا قلنا: إن الذي أدرك هو أول صلاته، فإنه إذا أدرك ركعتين من صلاة الإِمام، فإنه يقوم بتكبير؛ لأنه وسط صلاته، فجعل الذي أدرك أولها، ثم يأتي بركعتين متواليتين بأم القرآن في كل ركعة [دون السورة] (¬3) وهذا حكم البناء [وهكذا] (¬4) في المغرب [أيضا] (¬5) إذا أدرك منها ركعة، فإنه يقوم إذا سلم الإِمام يأتي بركعة بأم القرآن وسورة، ثم يقوم بعد التشهد، فيأتي بالركعة الثانية بأم القرآن خاصة، ويجلس ويتشهد، ويسلم. وعلى القول بأن ما أدرك هو آخر صلاته، فإنه إذا سلم الإِمام يقوم ويأتي بركعتين بأم القرآن وبسورة في كل ركعة من غير أن يجلس بينهما، وهذا حكم القضاء. وعلى القول الثالث الذي يكون فيه بانيا في الأفعال قاضيًا في الأقوال، فيقرأ فيها بأم القرآن وسورة، فيجلس ثم يقوم إلى الركعة [الباقية] (¬6) يقرأ فيها بأم القرآن وبسورة فيجلس. وهذا الحكم فيما أدرك ركعة واحدة من صلاة هي أربع؛ فقد قال في "الكتاب" (¬7): يقوم ويأتي بركعة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة، ثم يقوم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أول. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: وهذا. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: الثانية. (¬7) المدونة (1/ 96).

ويأتي بركعة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة، ثم يقوم [ولا يجلس] (¬1) ويأتي بركعة يقرأ بأم القرآن خاصة، ويتشهد، ويسلم. وهذا يتخرج على القول بأن الذي أدرك هو أول صلاته، إلا أنه يقضي مثل الذي فاته، كما نص في "المدونة" (¬2)، وأما على القول بأن ما أدرك هو [آخر] (¬3) صلاته فيبنى في الأقوال والأفعال، فإنه يقوم ويأتي بركعة بأم القرآن، وسورة فيجلس ثم يقوم ويأتي بركعتين متواليتين بأم القرآن خاصة في كل ركعة. فهذا فائدة قولهم: ما أدرك هو أول صلاته، أو هو آخر صلاته. وقد قال بعض المتأخرين: [إن] (¬4) ذلك اختلاف في عبارة لا ترجع إلى معنى، وهو قول أبي إسحاق التونسي وغيره، حتى أن الشيخ أبا محمَّد عبد الله بن أبي زيد حكى إجماع أهل المذهب في كتاب "النوادر" (¬5): أن القاضي إنما يفترق من الباني في القراءة [ق/ 36 أ] فقط، لا في قيام أو جلوس، وإن كل فذ أو إمام فبانٍ، وكل مأموم فقاضٍ. فانظر ما حكاه [هذا] (¬6) الشيخ، وانظر [إلى] (¬7) الخلاف الذي [حكيناه] (¬8) في المذهب، وربك أعلم بمن هو أهدى سبيلًا. وعلى هذا [اختلف] (¬9) ابن القاسم وأشهب في الفَّذ يسقط سجدة من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: المدونة (1/ 96). (¬3) في أ: أول. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: النوادر (1/ 321). (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: نقلناه. (¬9) في أ: يختلف.

أول ركعة أو من الثانية. قال ابن القاسم وغيره: يكون بانيًا، وفرق بينه وبن المأموم. وقال أشهب وابن وهب: يكون قاضيًا، ويأتي بركعة بأم القرآن وسورة، ويسجد بعد السلام. وقد قدمنا مسائل البناء والقضاء في باب الرُّعاف [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

المسألة الثالثة عشر في صلاة الصبيان

المسألة الثالثة عشر في صلاة الصبيان قال القاضي أبو الوليد بن رشد: وللصبي فيما دون الاحتلام حالتان: [حال] (¬1) لا يَعْقِلُ فيه مَعْنَى القُربة. و [حال] (¬2) يَعْقِلُ فيه مَعْنَى القُربة. فأما [الحال] (¬3) التي لا يَعْقِل فيه مَعْنى القُربة: فهو فيها كالبهيمة والمجنون ليس بمخاطب بعبادة، ولا مندوب [إلى فعل طاعة] (¬4). وأما [الحال] (¬5) التي يعقل فيه معنى القربة: فاختلف هل هو مندوب فيه إلى فعل الطاعة من الصلاة، والصيام، والصدقة، والوصية عند الممات، وما أشبه ذلك؟ فقيل: إنه مندوب إليه، وقيل: إنه ليس بمندوب إلى شيء من ذلك، وإن وليَّه هو المخاطب [بتدريبه] (¬6) وتعليمه، والمأجور على ذلك. قال القاضي: والصواب عندي [أنهما جميعًا مندوبان إلى ذلك] (¬7) [مأجوران] (¬8) عليه، لقوله عليه السلام للمرأة التي أخذت بعضد صبي ¬

_ (¬1) في ب: حالة. (¬2) في ب: حالة. (¬3) في ب: الحالة. (¬4) في ب: إليها. (¬5) في ب: الحالة. (¬6) في ب: بتدبيره. (¬7) في ب: أنه مندوب إلى ذلك. (¬8) في ب: ومأجور.

فرفعته من المِحَفَّةِ (¬1) إليه، ألهذا حج يا رسول الله؟ قال: "نعم، ولك أجر" (¬2) انتهى قوله. و [قال الشيخ] (¬3): ولا خلاف في [مذهب مالك رضي الله عنه] (¬4) أن الصبيان يؤمرون بالصلاة لسبع سنين -ذكرانًا وإناثًا- بدليل ما رواه ابن وهب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مروا الصبيان بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" (¬5). واختلف متى يفرق بينهم في المضاجع على قولين: أحدهما: أنه يفرق بينهم في المضاجع لعشر سنين. والثاني: أنه يفرق بينهم عند الإثغار، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". وسبب الخلاف: اختلافهم في مفهوم قوله عليه السلام: "وفرقوا بينهم في المضاجع" (¬6)، هل هو عائد على قوله: ["مُروا الصبيان ¬

_ (¬1) مركب من مراكب النساء، وفي رواية: هودج. (¬2) أخرجه مسلم (1336)، وأبو داود (1736)، والنسائي (2648)، وأحمد (1901). (¬3) زيادة من ب. (¬4) في ب: المذهب. (¬5) أخرجه أبو داود (495)، وأحمد (6650)، والحاكم (708)، وابن أبي شيبة في المصنف (3482)، والدارقطني (1/ 230)، والبيهقي في الكبرى (3051)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 26)، وابن عدي في الكامل (3/ 60)، والعقيلي في الضعفاء (2/ 167)، والخطيب في التاريخ (2/ 278)، وابن حبان في المجروحين (1/ 290)، (2/ 158) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا. وصححه العلامة الألباني رحمه الله تعالى في الإرواء (298). (¬6) تقدم.

بالصلاة" أم على قوله:] (¬1) "واضربوهم عليها لعشر"؟. وأما الضرب فإنما يضربون عليها لعشر على مشهور المذهب. وقال أشهب: يؤدبوا عليها عند الإثغار. وقال ابن حبيب: إذا بلغ عشر سنين، فلا يتجرد أحد بين أبويه وبين إخوته، ولا يجتمع [منهم] (¬2) اثنان في ثوب [واحد] (¬3) ذكرانًا كانوا أو إناثًا. و [اختلف] (¬4) في الصيام، هل يؤمر به الصبيان قبل البلوغ كالصلاة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنهم يؤمرون إذا أطاقوه وهو قول عبد الملك [بن الماجشون] (¬5). والثاني: أنهم لا يؤمرون بالصيام حتى يبلغوا، واتفقوا في الاحتلام في الذكران، والحيض أو الحمل في النسوان أنه حَدٌّ للتكليف. و [اختلف] (¬6) في [الإنبات] (¬7) هل هو علامة للبلوغ أم لا؟ على ثلاثة أقوال، كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن الإنبات لا يكون علامة للبلوغ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: اختلفوا. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: اختلفوا. (¬7) سقط من أ.

وهو قول مالك في "كتاب القطع" في السرقة، [في] (¬1) كتاب الرجم والقذف. قال ابن القاسم: وقد أصغى مالك إلى الاحتلام حين [كلمته في (¬2)] (¬3) الإنبات. والثاني: أنه يكون علامة للبلوغ. وهو ظاهر قول ابن القاسم في الكتب المذكورة، وهو ظاهر قوله في "كتاب الجهاد" من "المدونة" أيضًا. والثالث: التفصيل بين ما كان لله تعالى، ولا خصم له فيه: فالمراعى فيه الاحتلام دون الإنبات. وما له فيه خصم ومطالب: فيراعى فيه الإنبات؛ [لأنه] (¬4) [يتهم] (¬5) في نفي البلوغ أن يكون ملاذا لحق الغير. وهذا قول يحيى بن عمر في "النوادر" وهو ظاهر قول مالك في "كتاب القذف والرجم" على تأويل بعض المتأخرين [من أصحاب مالك] (¬6). وسبب الخلاف: معارضة الأثر لظاهر كتاب الله تعالى؛ قال الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُغ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} (¬7)، فظاهر كتاب الله ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) بياض بالأصل. (¬3) بياض في أ. (¬4) في ب: لأنهم. (¬5) في ب: يتهمون. (¬6) سقط من أ. (¬7) سورة النور الآية (59).

تعالى: أن الإنبات لا يكون دليلًا على البلوغ، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل ذراري المشركين، ثم أمر بقتل من جرت عليه المواسي [من الكفار] (¬1) إشارة إلى الإنبات -وكذلك قال أبو بصرة الغفاري، وعقبة بن [عامر] (¬2) الجهني صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغلام [الذي] (¬3) كادت الثائرة أن تكون بين الأنصار وبين ناس من قريش بسببه، ثم قالوا: تختلفون وفينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوهما، فقالا لهم: انظروا إليه فإن أنبت الشعر أسهم له، فنظروا إليه فإذا هو قد أنبت الشعر فأسهموا له. ولا يكون هذا إلا توقيفًا، فهل يخرج مخرج البيان لما ذكره الله تعالى في كتابه، أو [يخرج] (¬4) مخرج التخصيص، [أو مخرج النسخ] (¬5) فمن رأى أنه خرج مخرج البيان [ق/ 18 ب] وأن الله تعالى لم ينف أن يكون الإنبات علامة للبلوغ؛ لأن قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ} (¬6)، لا يقتضي الحصر، ولا يزيل ذكر الله تعالى بعض أمارات البلوغ. فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإنبات [علامة للحكم] (¬7)، وأن الإنبات لا يكون علامة للبلوغ أصلًا، وإنما اعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإنبات فيمن يقتل من الكفار، أو يسهم له من المسلمين، لأن الإنبات فطنة لوجود القوة على القتال، فكان المعتبر هو القوة على المجاهدة والمسابقة، فمن وجد ذلك المعنى فيه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في الأصل: عامري. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من جـ. (¬6) سورة النور الآية (59). (¬7) في أ: لا يكون من علاماته كالحلم.

أنيط به الحكم، أنبت أو لم ينبت. وإنما قصد النبي - صلى الله عليه وسلم -[الفصل] (¬1) بين ما تمحض لله تعالى على العبد وبين ما للعبد فيه حق. وأما النسخ فلم يصر إليه أحد من العلماء، وإنما ذكرناه في معرض [السبر] (¬2). وكذلك إذا بلغ [سنًا] (¬3) لا يبلغه أحد إلا احتلم، فلا خلاف أنه يحكم له حكم البلوغ، وإنما اختلف في حد ذلك السن، ما هو؟ فقيل: خمس عشرة سنة، وقيل: ست عشرة سنة، وقيل: سبع عشرة، وقيل: ثماني عشرة سنة. والفرق بين الصلاة والصيام -على الشهود-: أن الصلاة اشتملت على أقوال وأفعال، وفرائض، وسنن، وفضائل يفتقر تعليمها إلى أمد [طويل] (¬4)، فاحتاج إلى التدرب بها قبل إتيان البلوغ؛ ليأتي عليه البلوغ، وقد أنس [بها] (¬5) وتمكن حبها في قلبه، وراض قلبه بفعلها، وعرف المراد بها ومكانها عند الله تعالى، وعرف فرائضها، ونوافلها. فلو [أهمل إلى بلوغ] (¬6) حد التكليف لأدى ذلك إلى أن يضيع أكثر الصلوات؛ إما لنفوره عنها، والنفس عادتها النفور عما فيه نجاتها آجلًا، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: السؤال. (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: معلوم. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: أهملها إلى.

والركون إلى ما فيه منفعتها عاجلًا، وإما لكون النفس منقادة إلى أن التعليم يصعب عليها لبُعد [فهمها] (¬1)، فيؤدى ذلك إلى أن يمضي أكثر الأوقات لم [يقم] (¬2) فيها صلاته، ولا برئت بها ذمته، فيكون عاصيًا لله بتضييع تلك الصلوات. والصيام بخلاف ذلك من باب الترك، وأوصاف منحصرة لا يتعذر معرفتها، ولا [ينبو] (¬3) [الفاهم] (¬4) عن تفهمها؛ لأنه يؤمر باعتقاد النية أول الليل، أو حيث [تيسر] (¬5) عليه في أجزاء الليل بأن يترك الأكل [والشرب] (¬6) [والجماع] (¬7) من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وذلك يفهمه كل أعجمي، وإن كان كما جلب [من غاية] (¬8) فكيف من كان بين أظهر المسلمين، وهو بعد ذلك [يعلم] (¬9) فيما بينه وبين الله تعالى، إن قال -صمت وهو مفطر، وليس علينا مراقبته، ولهذا كان الصيام من السرائر التي تُبلى يوم القيامة، جعلنا الله وإياكم ممن كانت سريرته أفضل من علانيته. ولأجل [ق/ 28 جـ] هذا [حث] (¬10) الشارع على الصيام، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يقوم. (¬3) في ب: يبين. (¬4) في أ: الفهم. (¬5) في أ: تعين. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: الوطء. (¬8) سقط من أ. (¬9) في أ: يعمل. (¬10) سقط من أ.

[وقال: يقول الله] (¬1): "كل عمل ابن آدم فهو له إلا الصيام فهو لي" (¬2). على ما سنبينه في "كتاب الصيام" بيانًا شافيًا، إن شاء الله تعالى [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) أخرجه البخاري (1795)، ومسلم (1151). (¬3) زيادة من جـ.

المسألة الرابعة عشر [فيما] إذا سلم المصلي قبل تمام صلاته

المسألة الرابعة عشر [فيما] (¬1) إذا سلم المصلي قبل تمام صلاته [وذلك لا] (¬2) يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يسلم ساهيًا. والثاني: أن يسلم شاكًا. والثالث: أن يسلم متعمدًا. فالجواب عن الوجه الأول: إذا سَلَّم ساهيًا ولم يتعمد [إلى] (¬3) السلام: فلا خلاف في المذهب أن ذلك السلام لا يخرجه من صلاته، وأنه ينبني على صلاته من غير تكبير. كان سَلَّم شَاكًا في [كمال] (¬4) الصلاة، و [لا] (¬5) يتيقن بالنقصان ولا بالتمام، [فهذا الذي] (¬6) لا ينبغي أن يسلم. فإن فعل وسلم فصلاته [فاسدة] (¬7) مع تمادي الشك بالاتفاق. [فإن سلم على شك، ثم تبين له أنه قد] (¬8) أتم صلاته فهل تجزئه أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: فلا. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: إكمال. (¬5) في ب: لم. (¬6) في أ: فإنه. (¬7) في ب: باطلة. (¬8) في ب: وإن تبين له أنه.

فالمذهب على قولين: أحدهما: جواز الصلاة وهو مذهب ابن حبيب. والثاني: أنها فاسدة وهو المشهور. وسبب الخلاف: الأمر إذا وقع موقع الفساد ثم انكشف عن السداد وهو يستصحب معه حالة الابتداء أو يستصحب حالة الانتهاء؟ فمن رأى أن صلاته جائزة قال باستصحاب حالة النهاية، ومن قال بفسادها قال باستصحاب حالة البداية. وأما إذا سلم متعمدًا فلا يخلو من أن يتعمد السلام مع علمه بأن صلاته لم تتم بعد أو سلم على ما يغلب على ظنه أن صلاته قد تمت، فإن تعمد السلام مع علمه بأن صلاته لم تتم فإن صلاته باطلة باتفاق، وإن تعمد السلام لما يغلب على ظنه من تمام الصلاة، فهذا الذي يرجع إلى صلاته إن كان قريبًا، وإن تباعدا ابتدأ، وإن انتقض وضوءه على الاتفاق، وإن لم ينتقض فعلى الخلاف عن قول مالك على ما نقله اللخمي ثم لا يخلو هذا الباني من وجهين: إما أن يذكر وهو جالس في موضعه أو ذكره وهو واقف أو انصرف، فإن ذكره وهو جالس في موضعه، فهل يرجع بتكبير أو بغير تكبير؟ فالمذهب على قولين (¬1): أحدهما: أنه يرجع بتكبير، وهو مذهب سحنون. والثاني: أنه يرجع بغير تكبير، وهو مذهب [أشهب] (¬2). وسبب الخلاف: اختلافهم في السلام على طريق السهو هل يخرجه من الصلاة أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ابن القاسم

فمن رأى أنه يخرجه من الصلاة، قال: يرجع بالتكبير. ومن رأى أن السلام على طريق السهو لا يخرجه من الصلاة، قال: يرجع بغير تكبير. فإن ذكر وهو قائم، أو بعد الانصراف ولم يتباعد: فإنه يرجع ويبنى على ما صلى. واختلف هل يرجع إلى الجلوس أو يكبر وهو قائم فيدخل في صلاته؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يرجع إلى الجلوس. والثاني: أنه يشرع في صلاته، ولا يرجع إلى الجلوس، والقولان قائمان من "المدونة" (¬1). وسبب الخلاف: الحركة إلى الأركان هل هي لازمة أم لا؟ فمن رأى أن الحركة لازمة [إلى الأركان] (¬2) قال: يرجع إلى الجلوس ليأتي بالحركة الواجبة عليه؛ وهي النهضة من الجلوس إلى القيام. ومن رأى أن [ق/ 37 أ] الحركة غير واجبة، وإنما الواجب [عليه] (¬3) الإتيان بالقيام كيف تمكن له قال: يدخل في صلاته ولا يرجع إلى الجلوس؛ لأن القيام قد وجد، والرجوع إلى الجلوس زيادة مستغنى عنها في نفس الصلاة. وقد قال مالك رحمه الله فيمن فاته بعض صلاة الإِمام، فَظَنَّ أن الإِمام ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 136). (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ.

[قد] (¬1) سَلَّم فقام يقضى ثم سَلَّم عليه [الإِمام] (¬2) وهو قائم: أنه لا يرجع جالسًا، بل [يبتدئ القضاء] (¬3) قائمًا حين سلم الإِمام، ولا يَعْتّد بما [صلى أو قرأ] (¬4) قبل سلام الإِمام. فإذا فرغ من القضاء هل يسجد أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يسجد، وهو مذهب "المدونة". والثاني: أنه لا يسجد. وعلى القول بأنه يسجد هل [يسجد] (¬5) قبل أو بعد؟ [قولان أيضًا] (¬6): أحدهما: قبل، وهو نص "الكتاب". والثاني: بعد، وهو في غير "المدونة". والقول بأنه لا سجود عليه [أظهر] (¬7) لأن سهوه في حكم الإِمام يحمله عنه؛ ولأنه لو رجع إلى الجلوس قبل أن يسلم الإِمام لحمله عنه. ثم إليه من قال يسجد قبل السلام؛ لأنه [نهض] (¬8) النهضة التي وجبت عليه [بعد سلام الإِمام] (¬9). وأضعف الأقوال قول من قال يسجد بعد [السلام] (¬10). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: يتمادى بالقضاء. (¬4) في ب: قضى. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: على قولين. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ. (¬9) سقط من ب. (¬10) سقط من أ.

وهكذا اختلفوا في مسألتنا إذا رجع إلى الجلوس على قول من [قال] (¬1) لا يرجع، وهو قول ابن نافع. هل تفسد صلاته؛ لأنه زاد في صلاته عامدًا، وهو قول أشهب فيما إذا قام من اثنتين ثم استوى قائمًا، ثم يرجع جالسًا أو تصح صلاته، فيسجد قبل على قول ابن القاسم، أو بعد على قول غيره. وعلى القول بأنه يرجع جالسًا، هل يكبر تكبيرة الرجوع قائمًا ثم يجلس ثم يقوم فإذا استوى قائمًا كبر تكبيرة القيام إن كان سلامه في موضع جلوس، أو لا يكبر حتى يجلس ثم يكبر تكبيرة ينوي بها الرجوع إلى صلاته؟، على قولين. وسبب الخلاف: اختلافهم في [التكبيرة] (¬2) التي يرجع بها [إلى صلاته] (¬3) هل هي بمنزلة الإحرام، ثم يكون محلها القيام كتكبيرة الافتتاح، أو هي سنة على حالها فيرجع إلى حيث وقع السلام فيوقع فيها التكبير، ثم [يرجع] (¬4) بعدها [إلى] (¬5) القيام. على الجملة، فإن مشروعية التكبير للبناء ضعيف لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث البناء، وسحنون يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بني على ما صلى بتكبير، والحمد لله وحده [تم كتاب الصلاة الأول بحمد الله وحسن عونه، وصلى الله على نبينا محمَّد] (¬6). ¬

_ (¬1) في أ: يقول. (¬2) في أ: التكبير. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: يشرع. (¬5) في أ: في. (¬6) زيادة من جـ.

كتاب الصلاة الثاني

كتاب الصلاة الثاني

كتاب الصلاة الثاني [في] (¬1) تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها [أربع] (¬2) عشرة مسألة: المسألة الأولى سجود [التلاوة] (¬3) ولا خلاف في مذهب مالك رحمه الله أن إحدى عشرة [سجدة] (¬4) من العزائم. واختلف المذهب في سجدة "والنجم"، "وإذا السماء انشقت"، "واقرأ باسم ربك" هل هي من العزائم أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها من العزائم، ومن ترك السجود لها يلزمه ما يلزم من ترك السجود في محل الاتفاق، وهي رواية ذكرها أبو محمَّد عبد الوهاب عن مالك (¬5). والثاني: أنها ليست من العزائم، وأن القارئ لا ينبغي له السجود ميها، وهو المشهور عن مالك، ومذهبه في"المدونة" (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ثلاث. (¬3) في ب: القرآن. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: عيون المجالس (1/ 326، 327) والإتحاف بتخريج أحاديث الأشراف (2/ 561: 564). (¬6) انظر: المدونة (1/ 109).

والثالث: أن القارئ بالخيار؛ إن شاء سجد، وإن شاء ترك (¬1). وهذا القول وقع لمالك في المبسوط، وهو اختيار الشيخ أبي بكر الأبهري. وسبب الخلاف: اختلاف الآثار والأخبار في سجوده عليه السلام في الثلاثة مواضع لاتفاق كل مخالف ومؤالف أن النبي عليه السلام سجد في بعضها بمكة؛ فروى عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: لم يسجد النبي عليه السلام في المفصل منذ تحول إلى المدينة (¬2). وروى عن زيد بن ثابت أنه قال [أيضًا] (¬3): قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة والنجم فلم يسجد (¬4). ويعارضه ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة (¬5) أنه قال: سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (¬6). وزاد في حديث مسلم أنه قال: في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (¬7)، سجدة سجدتها خلف أبي القاسم، فلا أزال أسجدها حتى ألقاه (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: عيون المجالس (1/ 326). (¬2) أخرجه أبي داود (1403)، وابن خزيمة (559)، والطبراني في الكبير (11924)، وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه (240)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (752). ضعفه الحافظ في التلخيص الحبير (484)، والفتح (2/ 555)، وابن الملقن في خلاصة البدر المنير (563)، وابن الجوزي في التحقيق (592)، والزيلعي في نصب الراية (2/ 182)، والشيخ الألباني. (¬3) سقط من ب. (¬4) أخرجه البخاري (1022)، ومسلم (577). (¬5) أخرجه البخاري (732)، ومسلم (578). (¬6) سورة الانشقاق الآية (1). (¬7) سورة العلق الآية (1). (¬8) مسلم (578).

فمن رجح حديث ابن عباس، وزيد بن ثابت قال: ليست من العزائم. ومن رجح حديث أبي هريرة فيرى أنها من العزائم، وهو الأظهر؛ لأن أبا هريرة متأخر الإِسلام، وحديثه بعد حديث ابن عباس. ومحمل [حديث] (¬1) زيد بن ثابت أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدة والنجم، فلم يسجد؛ فيحتمل أن يكون في غير إبان النافلة، أو [أن] (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم - على غير وضوء، أو أنه ترك ذلك عليه السلام عمدًا بيانًا أنه ليس بواجب، وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا، إلا أن نشاء (¬3). وكان مالك [رضي الله عنه] (¬4) لا يوجبها، وأخذ في ذلك بقول عمر رضي الله عنه. واختلف المذهب عندنا في سجود [التلاوة] (¬5) على قولين: أحدهما: أنه سنة مؤكدة، وإلى هذا ذهب [أبو] (¬6) القاسم بن محرز، واستقرأ ذلك من قوله في "المدونة" (¬7): إن قارئها يسجد بعد العصر ما لم تصفر الشمس، وبعد الصبح ما لم يسفر كصلاة الجنائز. والثاني: أنه مستحب، وإليه ذهب [أبو القاسم] (¬8) بن الكاتب، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (1027)، ومالك (482) واللفظ له. (¬4) سقط من ب. (¬5) في ب: القرآن. (¬6) سقط من أ. (¬7) المدونة (1/ 190). (¬8) سقط من ب.

واستقرأ ذلك من قول مالك في "المدونة" (¬1): وكان مالك يستحب إذا قرأها في غير [إبان] (¬2) الصلاة ألا يدع سجودها. وسبب الخلاف: قول عمر [رضي الله عنه] (¬3) هل يقع [التخصيص به لعموم] (¬4) فعله عليه السلام؟ أعني بعموم الفعل مداومة النبي - صلى الله عليه وسلم -[على السجود] (¬5) مع التمكن على الدوام، هل يكون قول عمر: إن الله لم يكتبها علينا إلا أن [نشاء] (¬6) بيانًا لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -[أن المراد به الندب الذي لا يتأثم المكلف بتركه عمدًا، ولا يكون ذلك بيانًا؛ لأن ما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬7) وداوم على فعله حتى توفي كانت سُنَّة مؤكدة؛ فمن تركها عامدًا أثم، وأن عمر رضي الله عنه أراد أن يبين لهم أنها ليست بواجبة، وهذا ضعيف لأن الشريعة تقررت، والأقدام على الطريقة المستقيمة استمرت، وإن الدين قد كمل بحجة الوداع حيث قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكمْ دِينَكُمْ} (¬8). ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم لا يشكون أن الشريعة التي شرعها النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت بوحي من الله تعالى؛ فرائضها، وفضائلها، وسننها. وسواء كان فيها قرآن يتلى أم لا، وسواء قلت إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 111). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) في أ: به التخصيص بعموم. (¬5) سقط من أ. (¬6) في الأصل: يشاء. (¬7) سقط من أ. (¬8) سورة المائدة الآية (3).

في بعضِ الأمور أم لا؛ لقوله سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (¬1). لأن [اجتهاده] (¬2) كان بكتاب الله عز وجل، وهذا إذا [اعتبره] (¬3) الناظر لا يكاد [يخالجه] (¬4) فيه ريب إلا أن يكون ضعيف العقيدة، شاغر الحوصلة. [وقد] (¬5) ثبت عند كل عاقل انقطاع الوحي بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكيف يظن بعمر رضي الله عنه أنه إنما ترك السجود ليريهم أنها ليست بواجبة [عليهم] (¬6)، وهل [منهم] (¬7) من يعتقد أن عمر يحدث شريعة، أو يزيد على ما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه [بكلامه] (¬8) من ذلك؟ وقد ثبت وتقرر أن عمر [رضي الله عنه] (¬9) ما [تركها] (¬10) مخافة الوجوب ولا [تركها] (¬11) مع الاعتقاد أنها سنة مؤكدة أيضًا، وإنما تركها لمعنى آخر ينبغي للناظر أن يتفكر فيه، ولعله يعثر عليه، والله يهدي من يشاء إلى طريق الصواب [والحمد لله وحده] (¬12). ¬

_ (¬1) سورة النجم الآيتان (3، 4). (¬2) في ب: الاجتهاد. (¬3) في أ: اعتبر. (¬4) في أ: يداخله. (¬5) سقط من أ. (¬6) زيادة من ب. (¬7) في ب: فيهم. (¬8) في أ، جـ: بكلامهم. (¬9) سقط من أ. (¬10) في ب: ترك. (¬11) في أ: يتركها. (¬12) زيادة من جـ.

المسألة الثانية في معرفة من يجب عليه السجود

المسألة الثانية في معرفة من يجب عليه السجود ولا يخلو قارئ السجدة من ثلاثة أوجه: إما أن يكون في صلاة نفل أو فرض، أو يكون في [غير صلاة] (¬1). فإن كان في نفل: فلا خلاف أنه يسجدها إذا قرأها، فإن نسى أن يسجد لها: فلا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يذكر قبل أن يتطاول في القراءة بعدها. أو [ذكر] (¬2) بعد أن أطال في القراءة بعدها. أو بعد أن ركع ولم يرفع. أو بعد الرفع من الركوع. فإن ذكرها بعد أن جاوزها بالآية والآيتين [يسجد] (¬3) ولا يعد لقراءتها. فإن [ذكر] (¬4) بعد أن أطال القراءة بعدها أعاد قراءتها وسجد، ولكن يعيد قراءة [الآية] (¬5) التي فيها السجدة، ولا يقرأ السجدة وحدها. واختلف إذا ذكرها وهو راكع هل يرفع ويعيد قراءتها في الثانية، أو ¬

_ (¬1) في ب: غيرهما. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: سجد. (¬4) في ب: ذكرها. (¬5) سقط من أ.

يخر إلى السجود؟ قولان قائمان من "المدونة" (¬1): وسبب الخلاف: وضع اليدين على الركبتين، هل هو عقد الركعة أو الرفع منها؟ وأما إن ذكرها [ق/ 29جـ]، بعد الرفع فلا خلاف أنه يتمادى على تلك الركعة، فإذا دخل في الركعة [الثانية] (¬2) أعاد قراءتها و [سجد] (¬3). واختلف المتأخرون هل يقدم قراءة أم القرآن، ثم يقرأ بعدها الآية التي فيها السجدة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه [يقرأ] (¬4) أم القرآن، ثم يقرأ السجدة فيسجد، فإذا رفع رأسه [ق/ 38 أ] منها قرأ السورة. وهو قول [الشيخ] (¬5) أبي محمَّد بن أبي زيد. والثاني: أنه يبدأ بقراءة الآية التي فيها السجدة فيسجد، ثم يقوم بقراءة الآية التي فيها السجدة فيسجد، ثم يقوم فيبتدئ قراءة أم القرآن، وهو قول أبي بكر بن عبد الرحمن. فوجه القول الأول: أنه لا ينبغي أن يقدم على قراءة أم القرآن شيئًا؛ لأن ذلك [مخالف لمشروعية] (¬6) القراءة في الصلاة. ووجه القول الثاني: أنه إنما يكره أن يقدم على أم القرآن ما ليس بقرآن ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 110). (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: يسجد. (¬4) في ب: يقدم قراءة. (¬5) زيادة من ب. (¬6) في ب: مخالفة شريعة.

كالذكر والدعاء، وما أشبه ذلك، فإن نسي أيضًا حتى عقد الثانية، فإنه يتمادى فيها، ولا شيء عليها إلا أن يدخل في نافلة أخرى، فيستحب له أن يعيد قراءتها على ما وصفنا. فإن كان ذلك في صلاة فرض، فهل يقرأها [أم لا] (¬1)؟ [كيف يفعل إن كان فذًا] (¬2)؟ فذلك يختلف باختلاف حالات المصلي؛ فإن كان في جماعة كبيرة [أو] (¬3) في صلاة الجهر، أو في الجماعة اليسيرة في صلاة السر، فإنه يكره للإمام قراءة سورة فيها سجدة فإن فعل فإنه يستحب أن لا يقرأ السجدة، فإن قرأها سجد، ويعلن بقراءة السجدة في صلاة السر ليعلم من خلفه أنه لذلك سجد؛ هكذا ذكره أبو الحسن اللخمي. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا الظهر ويسمعنا الآية أحيانًا (¬4). واختلف إذا كانت الجماعة قليلة، والقراءة جهرًا، أو كان فذًا على قولين: أحدهما: أنه لا يقرأ سورة فيها سجدة لئلَّا يخلط على الناس صلاتهم. وهو قول مالك، ثم قال أيضًا: وكذلك الفذ لا يقرأها، وهذا [قوله] (¬5) في المدونة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه البخاري (725)، ومسلم (451) من حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه. (¬5) سقط من أ.

و [القول] (¬1) الثاني: أنه يجوز [له قراءتها فذًا كان أو إمامًا] (¬2) وهو قوله في "العتبية"، وهو قول عبد الملك [بن الماجشون] (¬3) في "الواضحة". وسبب الخلاف: معارضة القياس بفعله عليه السلام. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من طريق أبي هريرة أنه قال: في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} سجدة سجدتها خلف أبي القاسم. ولا يكون ذلك إلا في الصلاة، ويبينه قوله أيضًا: كان عليه السلام يقرأ في الجمعة بـ {الم (1) تَنْزِيلُ}، و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} (¬4)، في صلاة الصبح (¬5). وما روى أيضًا عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ بسورة الفرقان في صلاة الصبح، ثم أسقط آية فقال: أفي المسجد أبي بن كعب، والفرقان [فيها] سجدة، والقياس يقتضي أن لا يقرأها؛ لأنه إن كان إمامًا خلط على من خلفه، وذلك في صلاة السر، والجهر سواء. وإن كان فذًا خلط على نفسه أيضًا؛ لأن ذلك سبيل للوسواس إن شك في سجوده هل هو للركعة، أو للتلاوة، أو للسهو، فيجعله لصلاته. ويتركب هذا الوجه فروع، وهو إذا قرأ سجدة فركع لها فلا يخلو من أن يكون قصد [إلى] (¬6) الركوع، وترك السجود للسجدة [أو يسهو عن ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: للفذ والإمام. (¬3) سقط من ب. (¬4) سورة الإنسان الآية (1). (¬5) أخرجه البخاري (851)، ومسلم (880). (¬6) سقط من أ.

السجدة فيركع، فإن قصد الركوع، وترك السجود للسجدة] (¬1) فلا إشكال أن الركعة تجزئه لفرضه ونفله إن كانت نفلًا، مع الكراهية في ترك [السجود] (¬2) في محله، ويعيدها في الركعة [الثانية] (¬3) على حسب ما تقدم. فإن سها عن السجود [فركع] (¬4) فلا يخلو من أحد وجهين: إما أن ينوى بانحطاطه من أوله الركوع، أو كانت نيته [للسجود] (¬5) فلما أن انحنى غلب ذلك [عليه] (¬6) فنسى السجدة فبقى راكعًا. فإن نوى الركوع بأول انحطاطه: فلا خلاف أيضًا أنه يتمادى على الركعة حتى يتمها [إن نوى الركوع] (¬7). فإن كان نوى [بأول انحطاطه] (¬8) السجدة، ثم نسى فركع: فقد اختلف قول ابن القاسم، وأشهب في ذلك. فابن القاسم يقول: إن ذكرها وهو راكع فليخر ساجدًا، ثم يقوم ويكبر ويبتدئ بالقراءة. قال ابن حبيب: ويسجد بعد السلام إذا أطال الركوع؛ قال ابن أبي زيد: يريد اطمأن في ركوعه، والله أعلم [ق/ 19 أ]. قال ابن القاسم: فإن لم يذكر حتى أتم الركعة ألغاها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: السجدة. (¬3) في أ: الباقية. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: للسجدة. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: بانحطاطه.

وروى أشهب عن مالك أنها تجزئه عن الركعة، وإن ركعها ساهيًا عن السجدة. وروى علي بن زياد أيضًا عن مالك في "المجموعة"، قال: ويقرأ السجدة فيما بقى من صلاته، ويسجد بعد السلام. وقال المغيرة: لا يسجد. وسبب الخلاف: هل يسجد في زيادة القرآن أم لا؟. وسبب الخلاف: الحركة إلى الأركان هل هي لازمة أم لا [فمن رأى أن الحركة إلى الأركان لازمة قال] (¬1) يعيد تلك الركعة ولا تجزئه؛ لأن الانحناء إنما كان للسجود، لا للركعة، والسجود نفل. ومن رأى أن الحركة ليست [بلازمة] (¬2)، وإنما المقصود الإتيان بالركوع الذي هو ركن متفق عليه، وقد أتى به، فيقول بالإجزاء. وأما إذا قرأها في غير صلاة، فلا يخلو من أن يقرأها في غير إبَّان صلاة النافلة، أو في إبَّانها. فإن كان في إبَّان صلاة النافلة، وكان القارئ على [وضوء] (¬3) فلا خلاف أن [السجود] (¬4) يتوجه عليه في خاصة نفسه [على] (¬5) الجملة، ونحن نبين ذلك إن شاء الله تفصيلًا. ثم لا يخلو القارئ من أحد وجهين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بواجبة. (¬3) في أ: غير وضوء. (¬4) في أ: الوضوء. (¬5) في أ: في.

إما أن [يكون] (¬1) يقرأ لنفسه، أو يقرأ لغيره. فإن كان يقرأ لنفسه: فالحكم كما قدمناه. وإن كان يقرأ لغيره: فلا يخلو من [وجهين إما] (¬2) أن يكون قصد بقراءته الأجر والثواب، [أو يكون قصد بها] (¬3) الرياء والسمعة. فإن قصد بها الرياء والسمعة مثل الذي يقعد في المساجد يوم الخميس فيقرأ، ويقصد إلى الحافل والجوامع، فيتعمد آية من القرآن يختارها موافقة لما يريد من الألحان، والتطريب، ويردد [قراءتها بحسن] (¬4) الصدى والترنم. فلا خلاف في المذهب أن ذلك مكروه، وأمر مالك [رضي الله عنه] (¬5) أن [يقام] (¬6) من هذه صفته [وعادته] (¬7) ويترك ولا يجلس إليه أحد؛ لأن ذلك بدعة مذمومة. فإن قصد بجلوسه الأجر والثواب؛ مثل من يجلس لقراءة القرآن فيجلس إليه الناس، فهذا [الذي يجلس إليه] (¬8) لا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يجلس قصدًا للتعليم. والثاني: أن يجلس إليه على معنى الاستماع للأجر [والثواب] (¬9). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: إما أن يقصد. (¬4) في أ: قراءته بحق. (¬5) زيادة من ب. (¬6) في جـ: يقوم. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من ب. (¬9) سقط من أ.

والثالث: أن يجلس إليه قصدًا للسجود خاصة. فإن جلس إليه على [سبيل] (¬1) التعليم، كالمعلم، والمتعلم: فلا خلاف في المذهب أنه لا يلزمهما أن يسجدا كلما مرا بسجدة؛ لأن ذلك من باب الحرج والمشقة. واختلف في السجدة الأولى هل يسجدانها أم لا؟. على قولين (¬2): أحدهما: أنهما يسجدانها، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنهما لا يسجدانها كالتي تأتي بعدها. وهو قول أصبغ وابن عبد الحكم، [والتوجيه] (¬3) ظاهر. وأما إن جلس إليه على سبيل الأجر والثواب في استماع القرآن: فإن سجد القارئ فلا خلاف أن المستمع يؤمر بالسجود. فإن لم يسجد القارئ هل يسجد المستمع أم لا؟ [فالمذهب] (¬4) على قولين (¬5): وسبب الخلاف: تعارض الأخبار؛ من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما السجدة على من استمعها" (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) المدونة (1/ 112). (¬3) في أ: وموجبه. (¬4) سقط من ب. (¬5) المدونة (1/ 112). (¬6) أخرجه البخاري تعليقًا موقوفًا على عثمان، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (5906)، والبيهقي في الكبرى (3588) عن عثمان موقوفًا، وصححه الحافظ في الفتح (2/ 558).

ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت إمامًا لو سجدت لسجدت معك". وهذا يسلك فيه [مسلك] (¬1) الترجيح، وهذا كله إذا كان القارئ ممن تجوز إمامته. فإن كان ممن لا تجوز إمامته كالصبي والفاسق والمرأة: فالمذهب [في ذلك] (¬2) على قولين: أحدهما: أنه لا سجود على المستمع، وهو قوله في "المدونة" (¬3). والثاني: أنه يسجد [وإن كان القارئ ممن لا تجوز إمامته] (¬4)، و [هي رواية] (¬5) ابن القاسم عن مالك حكاها الحفيد في [كتاب] (¬6) "النهاية". وسبب الخلاف: ما قدمناه. فإن جلس إليه قصدًا للسجود خاصة [دون الأجر والتعليم] (¬7): فقد قال في "المدونة" (¬8): فإن علم أنه أراد قراءة السجدة خاصة: قام عنه، ولم يجلس معه. فظاهر هذا: أنه لا يسجد، سجد القارئ أم لا. وعلى هذا حمله حُذَّاق المتأخرين، وذهب [الشيخ] (¬9) أبو الحسن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) المدونة (1/ 112). (¬4) سقط من ب. (¬5) في ب: وهو قول. (¬6) زيادة من ب. (¬7) سقط من ب. (¬8) المدونة (1/ 112). (¬9) زيادة من ب.

اللخمي إلى أنه يسجد معه [إن سجد] (¬1) وكذا وقع في بعض روايات "المدونة" أيضًا. وأما إذا قرأها في غير إبان صلاة؛ مثل أن يقرأها بعد العصر، أو بعد الصبح، فإذا قرأها بعد الاصفرار أو بعد الإسفار: فلا خلاف أنه لا يسجدها، بل يحظر فيها. واختلف إذا قرأها بعد العصر أو قبل الاصفرار، أو بعد الصبح وقبل الإسفار على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة" (¬2). أحدها: أنه لا يسجد بعد الصبح وبعد العصر أصلًا، وهو قوله في "المدونة" في صلاة النافلة. والثاني: أنه يسجد بعدها ما لم تصفر الشمس أو يسفر [الصبح] (¬3). وهو قوله في "المدونة" قياسًا على صلاة الجنائز. والثالث: أنه يسجد بعد الصبح، ولا يسجد بعد العصر. وهو قول مُطَرِّف، وابن الماجشون. وسبب الخلاف: [اختلافهم] (¬4) في سجود التلاوة، هل هو من السنن أو من النوافل؟ والتفريق بين الصبح والعصر لا وجه له. وهل يكبر لها إذا سجدها، وإذا رفع منها؟ قولان عن مالك في "الكتاب". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) المدونة (1/ 112). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

ولا خلاف [ق/ 39 أ] أنه لا يسلم منها، كما لا يحرم [لها] (¬1) [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في ب: بها. (¬2) زيادة من جـ.

المسألة الثالثة في الجمع بين الصلاتين

المسألة الثالثة في الجمع بين الصلاتين إما لمطر، أو لمرض، أو لسفر. [فأما المطر] (¬1): فالجمع مشروع عندنا بين الصلاتين المشتركتي الوقت من صلاة الليل بالاتفاق إذا كان مطر وطين وظلمة [أو مطر وطين، أو طين وظلمة] (¬2). وهذا لا اختلاف فيه عندنا في مذهب مالك [رضي الله عنه] (¬3) إلا رواية شاذة [رويت] (¬4) عن مالك أنه لا يجوز الجمع إلا في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وحكاها المازري رحمه الله. وظاهر "المدونة" (¬5) على الرواية المشهورة: إذا كان مطر أو طين وظلمة [بإثبات الألف] (¬6) وهذه الرواية التي اختصر عليها أبو محمَّد [وغيره] (¬7): أن المطر بمجرده يجمع فيه، وإن كانت الليلة مُقمرة إذا كان مطر، وهو قول ابن حبيب في "كتاب النوادر" (¬8). ولا خلاف فيه في المذهب إلا متأولًا. واختلف في الطين بانفراده على قولين: ¬

_ (¬1) في أ: فإن كان لمطر. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) المدونة (1/ 115). (¬6) سقط من ب. (¬7) سقط من أ. (¬8) انظر: النوادر (1/ 261، 262).

أحدهما: أنه لا [يباح] (¬1) به الجمع، وهو ظاهر المدونة. والثاني: أنه يبيح الجمع، وهو [ظاهر] (¬2) قول مالك في "العتبية" (¬3) ولخصه بعض المتأخرين فقال: [يجمع في] (¬4) المطر وحده، ولا يجمع في الظلمة بانفرادها. والذي قاله صحيح لا شك فيه؛ إذ لا خلاف أن الظلمة بانفرادها لا تبيح الجمع [إلا بانضمام وصف آخر إليها، إما مطر وإما طين أو ريح شديدة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتخلف عن الجماعة إذا كانت الريح شديدة، والذي يبيح التخلف يبيح الجمع] (¬5) ولا إشكال في ذلك. وقولنا: مشتركتي الوقت؛ احترازًا من الصلاتين اللتين ليس بينهما اشتراك كالعشاء والصبح. وقولنا: من صلاتي الليل؛ احترازًا من صلاتي النهار كالظهر، والعصر -على ما سنتكلم عليه بعد هذا إن شاء الله تعالى. فإذا قلنا بجواز الجمع إذا حصلت الشروط المبيحة للجمع بين المغرب والعشاء، فمتى يجمع بينهما؟ ومن يجمع؟ فأما وقت الجمع: فاختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة" (¬6): أحدها: أنه يجمع بينهما عند الغروب؛ [فتصلى] (¬7) المغرب في أول ¬

_ (¬1) في أ: يجب. (¬2) سقط من ب. (¬3) البيان والتحصيل (1/ 347). (¬4) في ب: الجمع ليلة. (¬5) سقط من أ. (¬6) المدونة (1/ 115). (¬7) في ب: ويصلي.

[ق/ 30 جـ]، وقتها، ويتقدم العشاء عن وقتها، ولاسيما على القول بأن المغرب ليس لها إلا وقت واحد، [وهو] (¬1) الفراغ منها كما قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في التلقين، فيؤذن للمغرب في أول وقتها على صفة الأذان المشروع في الجهر. فإذا فرغ من الأذان أقام الصلاة، وصلى بهم الإِمام المغرب، فإذا [سلم] (¬2) منها أخذ المؤذن أيضًا في الأذان للعشاء الآخرة عند باب المسجد أو في صَحْنه أذان ليس بِعَالٍ، وإذا فرغ منه أقام الصلاة، ثم صلى بهم الإِمام، فإذا سلم انصرفوا، ولا يوتروا في المسجد [ويؤخر] (¬3) حتى يغيب الشفق، ثم يوتروا في بيوتهم. وقولنا: أذانًا ليس بعالٍ، لئلَّا يؤدي إلى التلبيس والتخليط على من لم يحضر في المسجد ممن كان في بيته فظن أن الشفق قد غاب [فيصلي] (¬4) العشاء قبل وقتها. وهذا قول [محمَّد] (¬5) بن عبد الحكم، وهو قول مالك في "المدونة" في المريض إذا كان الجمع في أول الوقت أرفق به، فيجوز له الجمع أول الوقت؛ فكذلك الجمع ليلة المطر، فالجمع في أول الوقت أرفق بالقوم لينصرفوا قبل أن يأتي عليهم جل الظلام. [والقول الثاني: أنهم يؤخرون المغرب قليلًا ثم يجمعون وينصرفون وعليهم قليل، والأذان كما تقدم، وهو قول ابن القاسم في المدونة] (¬6). ¬

_ (¬1) في أ: وحده. (¬2) في ب: فرغ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: ويصلي. (¬5) زيادة من ب. (¬6) سقط من أ.

والثالث: أنهم يؤخرون المغرب ثم يصلون، ثم يؤذن للعشاء، و [ينتظرون] (¬1) حتى يغيب الشفق، أو بعضه ثم يصلون العشاء. [هو قوله] (¬2) في مختصر ابن عبد الحكم. وسبب الخلاف: الجمع بين الصلاتين ليلة المطر، هل هو سنة أو رخصة؟ فمن رأى أنه سنة يقول كما قال ابن القاسم. ومن رأى أنه رخصة يقول كما قال ابن عبد الحكم وابن وهب. واختلف في الأذان هل يصليهما بأذانين وإقامتين، أو بأذان واحد، وإقامتين بلا أذان، [أو لا أذان ولا إقامة] (¬3)؛ على أربعة أقوال؛ ثلاثة منصوصة منها في "كتاب الحج". وعلى القول بأنه يؤذن للعشاء بعد الفراغ من المغرب، هل يجوز التنفل بينهما أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يتنفل بينهما، وهو قول ابن حبيب. والثاني: أنه لا يتنفل بينهما، وهو قول مالك في "مختصر" ابن عبد الحكم. وأما من يباح له الجمع مع القوم، فهو كل من شاركهم في السبب المبيح للجمع، فإنه يجمع [معهم] (¬4) اتفاقًا. ¬

_ (¬1) في أ: يطولون. (¬2) في أ: وهذا قوله أيضًا. (¬3) سقط من جـ. (¬4) في أ: بينهما.

واختلف في المعتكف هل يجمع معهم [أم لا] (¬1)؟ فالمنصوص في المذهب أنه يجمع معهم ليجد من فضل الجماعة. ويؤخذ من المذهب قول آخر أنه لا يجمع معهم، وهو قول أبي عمران الفاسي فيمن كان جار المسجد ولا ضرر [عليه] (¬2) فإنه لا يجمع معهم. وهكذا اختلفوا فيمن صلى المغرب في بيته ثم وجد الناس في العشاء [الآخرة] (¬3)، وقد فرغوا من المغرب هل يصلي معهم العشاء أم لا؟. على قولين قائمين من "المدونة" (¬4): أحدهما: أنه يجمع [معهم] (¬5) وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه لا يجمع وينتظر غيبوبة الشفق، وهو قول مالك في "المختصر" وهو ظاهر "المدونة"، وعلى القول بأن الجمع رخصة. وأما إن وجدهم قد فرغوا من العشاء فلا خلاف أنه لا يصلي العشاء حتى يغيب الشفق. وهكذا اختلف المذهب أيضًا في القوم يصلون المغرب ثم يتنفلون لها، وقد وقع المطر هل يجمعون أم لا؟ فروى أصبغ عن ابن القاسم: أنهم لا يجمعون، وقال محمَّد بن أبي زيد زمنين: إن فعلوا فلا بأس بذلك. قال ابن أبي زيد في "النوادر" (¬6): وأعرف فيها قولًا آخر لا ¬

_ (¬1) سقط من ب، جـ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ: الأخيرة. (¬4) المدونة (1/ 115). (¬5) في أ: بينهم. (¬6) انظر: النوادر (1/ 267).

[أدرك] (¬1) قائله، ولم يبين [مقتضى] (¬2) ذلك القول هل هو جواز تقديم العشاء ابتداء خلاف ما روى أصبغ، أو لا يجزئهم إن فعلوا ردًا على ابن أبي زمنين. فلأجل هذا الاحتمال نقلت المسألة على وجهها، ولم أحصل ما فيها من الأقوال. قال محمَّد بن يونس: [وينبغي] (¬3) على قياس قول محمَّد بن عبد الحكم -الذي يرى الجمع في أول الوقت- أن يجمعوا إذا وقع المطر بعد صلاة المغرب. وسبب الخلاف: الجمع بين الصلاتين ليلة المطر، هل هو عزيمة أو رخصة؟ فمن رأى أنه عزيمة قال: لا يجمع [معهم] (¬4) المعتكف، ولا من صلى المغرب في بيته، ولا يعجل العشاء قبل وقتها إذا نزل المطر بعد الفراغ من المغرب، وهو قول [ابن] (¬5) قسيط في "المدونة"، ونص مالك [فيها] (¬6)، وقد جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المطر للرفق بالناس، وهي سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و [كذلك] (¬7) قال مالك في "المختصر" أيضًا [هو سنة] (¬8). ¬

_ (¬1) في جـ: أذكر. (¬2) في أ: ما اقتضى. (¬3) في أ: وبلغنى. (¬4) سقط من ب. (¬5) في الأصل: ابن أبي، والمثبت من المدونة (1/ 115). (¬6) زيادة من ب، جـ. (¬7) سقط من ب. (¬8) سقط من أ.

ومن رأى أنه رخصة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يجمع هؤلاء كلهم رخصة لهم لإدراك فضيلة الجماعة، وهو ظاهر المدونة، ومشهور المذهب، وهو نص مالك في "كتاب محمَّد". وأما الجمع بين صلاتي النهار، الظهر، والعصر [في الحضر] (¬1) لأجل المطر: فاختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يجمع بينهما، وهو المشهورة لأن الناس ينصرفون حينئذ إلى أشغالهم في أمر دنياهم فكان سعيهم إلى المساجد لصلاتهم أولى. والثاني: أنه يجوز الجمع، وهو قول أشهب في "النوادر" (¬2) أنه يجوز لهم الجمع في الظهر والعصر لغير عذر، فمع وجود العذر أولى [وأحرى] (¬3). وهو نص قول عبد الملك [أنه] (¬4) إذا صلى الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها: جاز الجمع، وهو قول عبد الملك في "كتاب محمَّد". وسبب الخلاف: الرخصة هل تتعدى [بابها] (¬5) أو لا تتعدى؟ فمن [رأى أنها] (¬6) تتعدى قال بجواز الجمع بين صلاتي النهار. ومن رآها أنها لا تتعدى قال: لا يجوز الجمع، والرخصة مقصورة ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) انظر: النوادر (1/ 263). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من ب. (¬6) في أ: رآها.

على صلاة الليل. وهذا [على] (¬1) القول بأن الجمع ليلة المطر رخصة. وللخلاف سبب آخر: [وهو اختلافهم في مفهوم] (¬2) حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر، والمغرب، والعشاء في غير خوف ولا سفر (¬3). وقال مالك: أراد ذلك في مطر. وزاد في حديث مسلم: ولا مطر. فمنهم من حمله على ظاهره، وجوز الجمع في الحضر لعذر ولغير عذر، وهو مذهب أهل الظاهر، وأشهب من [أهل] (¬4) المذهب. ومنهم من قَيَّدَه بالعذر؛ وهو عذر المطر، وهو الشافعي رضي الله عنه. وأما مالك رضي الله عنه فقد فرق بين صلاة الليل وصلاة النهار، وأخذ عليه الشافعي في ذلك؛ لأنه روى حديث ابن عباس رضي الله عنه وخصصه بالقياس، وقال: أراد ذلك في مطر، فلم يأخذ بعموم الحديث، ولا بتأويله -أعني تخصيصه- بل رد بعضه، وتأول بعضه، وذلك شيء لا يجوز بالإجماع؛ وذلك أنه لم يأخذ بقوله في الحديث: "جمع بين الظهر والعصر" (¬5) وأخذ بقوله: "و [بين] (¬6) المغرب والعشاء" وتأوله. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: في. (¬3) أخرجه مسلم (705). (¬4) في أ: أصحاب. (¬5) تقدم. (¬6) سقط من أ.

قال القاضي أبو الوليد [ق/ 40 أ] [وحفيده رحمهما الله] (¬1) وأحسب أن مالكًا رحمه الله إنما رد بعض هذا الحديث لأنه عارضه العمل، فأخذ منه بالبعض الذي لم يعارضه العمل؛ وهو الجمع في الحضر بين المغرب والعشاء على ما روى أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء جمع معهم. والكلام على عمل أهل المدينة هل يكون دليلًا، أو لا يكون دليلًا؟ وهذا محال على فن الأصول. وأما الجمع لأجل المرض: فلا يخلو هذا المريض من [أحد] (¬2) وجهين: إما أن يخاف أن يغلب على عقله أم لا. فإن خاف أن يغلب على عقله هل يجمع بين الصلاتين في [أول] (¬3) وقت الأولى منهما؛ كالزوال، أو الغروب، أو يؤخر؟ فالمذهب على قولين [قائمين] (¬4) من "المدونة" (¬5): أحدهما: أنه يجمع بينهما في أول الوقت، وهو قوله في "الكتاب". والثاني: أنه لا يجمع بينهما ويصلي كل صلاة في وقتها، [وهي رواية] (¬6) ابن نافع عن مالك (¬7). ¬

_ (¬1) في أ: الحفيد رحمه الله. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: المدونة (1/ 116). (¬6) في ب: وهو قول. (¬7) انظر: النوادر (1/ 262).

ووجه من قال يجمع [بينهما] (¬1) في أول الوقت: قال مخافة أن يغلب على عقله فلا يفيق إلا بعد خروج الوقت فتفوت الصلاة، فكان الإتيان بها في [أول] (¬2) الوقت أولى. ووجه القول الثاني: أنه يصلى كل صلاة في وقتها بناء على أن الصلاة لا يجب على المكلف فعلها إلا بعد دخول وقتها، فإن [أغمى] (¬3) عليه قبل دخول الوقت، فأفاق بعد خروج الوقت فلا شيء عليه؛ لا إثم ولا قضاء، وهو الذي يقتضيه النظر، والله أعلم. وسبب الخلاف: الظهر والعصر، هل بينهما اشتراك أم لا؟ وكذلك المغرب والعشاء. [فمن] (¬4) قال بالاشتراك: جوز الجمع في أول الوقت. ومن نفى الاشتراك: منع الجمع، وقال [أيضًا] (¬5): يصلي كل واحدة في وقتها إلا ما خصصه الدليل النظري أو السمعي كجمع المسافر في أول [الزوال] (¬6) إذا ارتحل من المنهل، وذلك أن الضرر هناك لاحقه والمشقة كذلك بتكلف النزول والركوب، وربما يستضر بذلك، إما في بدنه؛ أو لأن النزول والركوب مرة بعد أخرى مما يشق على الراكب، ولاسيما بُعد السفر ومشقة المسافة. وإما بالدابة في إعيائها ليلحق بها القافلة، وما كان في معناه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في جـ: غشى. (¬4) في أ: ومن. (¬5) زيادة من ب. (¬6) في أ: النهار.

فعلى القول بأنه يجمع في أول الوقت إذا خاف أن يغلب على عقله، فإن جمع ولم [يغلب على] (¬1) عقله بعد ذلك، هل يعيد [العصر] (¬2) في وقتها أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" (¬3): أحدهما: أنه يعيد، وهو قول عيسى بن دينار، وهو ظاهر قول مالك في "المدونة" في [التيمم] (¬4). والثاني: أنه لا يعيد. وسبب الخلاف: المجتهد هل يعذر باجتهاده أم لا؟ وله سبب آخر، وهو الأمر إذا وقع موقع السداد، ثم انكشف عن الفساد. فإذا لم يخش أن يغلب على عقله، وكان الجمع أرفق [به] (¬5) لشدة مرض أو بطن منخرق: فإنه يجوز له الجمع. واختلف في الوقت الذي يجوز [له] (¬6) فيه الجمع على قولين قائمين من "المدونة" (¬7). أحدهما: أنه يجمع بين الظهر والعصر في وسط [وقت الظهر] (¬8)، ¬

_ (¬1) في أ: يذهب. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: المدونة (1/ 117). (¬4) سقط من ب، جـ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) انظر: المدونة (1/ 116، 117). (¬8) في ب: الوقت.

وهكذا وقع في بعض روايات "المدونة"، و [عليها] (¬1) اختصر أكثر المختصرين (¬2). والثاني: أنه يجمع بينهما في آخر القامة [الأولى] (¬3)، وهو [قوله] (¬4) في "الكتاب" في المغرب والعشاء أنه يجمع بينهما عند غيبوبة الشفق، وهو مذهب سحنون؛ [لأنه] (¬5) أمر بإسقاط الوسط من "المدونة" وطرحه. وعلى القول بأنه يجمع بينهما في وسط وقت الظهر، فقد اختلفوا في وسط وقت الظهر [ما هو] (¬6) على أربعة أقوال: أحدها: أن المراد بالوسط: وقت الاختيار، وهو نصف القامة، وهو تأويل بعض الشيوخ، وإليه ذهب ابن [أخي] (¬7) هشام. والثاني: أنه ثلث القامة لبطء حركة الظل وزيادة أول الوقت وسرعة ذلك بعده. فالثلث عند هذا القائل في التقدير وسط، وهو قول ابن شعبان [القرطي] (¬8). والثالث: أنه ربع القامة، وهو قول ابن حبيب. والرابع: أن الوسط هو آخر القامة، وهو اختيار أبي عمران الفاسي، ¬

_ (¬1) في ب: عليه. (¬2) انظر: تهذيب المدونة (1/ 286، 287). (¬3) في ب: الثانية. (¬4) في أ: الوسط. (¬5) في ب: إلا أنه. (¬6) سقط من أ، جـ. (¬7) في أ: أبي. (¬8) في أ: المقري.

وهو مذهب سحنون، وهذا القول يرجع إلى الرواية بإسقاط [لفظ] (¬1) الوسط. واختلافهم في ذلك يرجع إلى ارتحال الشمس، ومعرفة منازلها. وليس هو [اختلاف] (¬2) يرجع إلى [الدليل السمعي] (¬3)، وهذا في الجمع بين صلاتي النهار. وأما المغرب والعشاء إذا كان الجمع أرفق به، فإنه يجمع بينهما عند غيبوبة الشفق [على المشهور في المذهب] (¬4). ويتخرج في المذهب قول آخر: أنه يجمع [بينهما] (¬5) أول وقت المغرب على القول بأن المغرب ليس لها إلا وقت واحد. وأما الجمع لأجل السفر: فمنه ما يتفق عليه، ومنه ما هو مختلف فيه. فأما المتفق عليه: فهو الجمع بين الظهر والعصر [بعرفة] (¬6) والمغرب [ق/31جـ] والعشاء بمزدلفة، والاتفاق في [الجمع بين] (¬7) الظهر والعصر عند الزوال. واختلف هل ذلك بأذانين وإقامتين [على حسب ما قدمناه أول المسألة] (¬8). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: اختلافهم. (¬3) في أ: دليل سمعي. (¬4) زيادة من ب. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من ب.

وهكذا المغرب والعشاء أيضًا لا خلاف في جواز الجمع بينهما بالمزدلفة إذا وصلوها بعد مغيب الشفق. واختلف إذا جدوا وعجلوا السير، فوصلوها قبل مغيب الشفق، فهل يجمعون حينئذ [أم لا] (¬1)؟ على قولين [منصوصين في "المدونة" (¬2)] (¬3): [أحدهما] (¬4): أنه يجوز لهم الجمع حينئذ، وإن فرغوا قبل مغيب الشفق، وهو قول أشهب. والثاني: أنهم لا يجمعون وينتظرون مغيب الشفق، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"؛ لأنه سئل فيها عن الإِمام إذا عَجَّل [السير] (¬5) من عَرَفة، ووصل مُزْدَلِفَة قبل مغيب الشفق؟ فقال: ما [أظن] (¬6) ذلك [يكون] (¬7)، فإن كان فلا يجمعوا حتى يغيب الشفق. وسبب الخلاف: الجمع بمزدلفة بعد مغيب الشفق هل هو سنة لا يجوز تقديمها قبل ذلك؟ أو إنما خرج مخرج الغالب لما كانت المسافة بعيدة -وهي ستة أميال- لا يقطعها الإنسان في الغالب إلا بعد مغيب الشفق، فركب الأمور على الغالب حتى لو اتفق أن تقطع قبل المغيب لكان الحكم الجمع حينئذ. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) المدونة (1/ 118). (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: ظن. (¬7) سقط من أ.

وأما المختلف فيه: فهو جمع المسافر في غير عرفة، والمزدلفة؛ فذهب مالك والشافعي إلى جواز الجمع على الجملة، ومنعه أبو حنيفة وأصحابه، ووافقه أشهب -من أصحاب مالك رحمه الله. وسبب الخلاف: اختلافهم في تأويل الآثار [التي رويت] (¬1) في الجمع، والاستدلال بها على وجه الجمع؛ لأنها كلها أفعال وليست أقوالًا. والأفعال يتطرق إليها الاحتمال كثيرًا أكثر من تطرقه إلى اللفظ. وثانيًا: اختلافهم في تصحيح بعضها. وثالثًا: اختلافهم في جواز القياس في ذلك. فهذه الثلاثة الأسباب هي مثار الخلاف. أما الآثار التي اختلف في تأويلها، فمنها حديث أنس، الثابت بالاتفاق، خرجه البخاري [ق/ 20 ب] ومسلم (¬2)، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم ينزل [فيجمع] (¬3) بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر. ومنها حديث ابن عمر خرجه [الشيخان] (¬4) أيضًا قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا عجل به السير [في السفر] (¬5) يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء الآخرة (¬6). ¬

_ (¬1) في ب: المروية. (¬2) أخرجه البخاري (1060)، ومسلم (704). (¬3) سقط من أ. (¬4) بياض في الأصل، لم يظهر منه سوى حرف النون في آخره. (¬5) سقط من أ. (¬6) أخرجه البخاري (1041)، ومسلم (703).

و [الحديث الثالث] (¬1): حديث ابن عباس، خرجه مالك ومسلم، قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا في غير [خوف ولا] (¬2) سفر (¬3). فذهب القائلون [بجواز] (¬4) الجمع في تأويل هذه الأحاديث إلى أنه أخر الظهر إلى وقت العصر المختص بها، وجمع بينهما. وذهب آخرون إلى أنه صلى الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها؛ على ما جاء في إمامة جبريل عليه السلام بالنبي عليه السلام، قالوا: وعلى هذا يصح حمل حديث ابن عباس رضي الله عنه، واحتجوا لتأويلهم أيضًا بحديث [ابن مسعود] (¬5) قال: والذي لا إله غيره ما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قط إلا في وقتها، إلا صلاتين جمع بين الظهر والعصر يوم عرفة، وبين المغرب والعشاء فجمع -يعني بالمزدلفة: قالوا: وأيضًا فإن هذه الآثار محتملة أن تكون على ما تأولناه نحن، أو على ما تأولتموه [أنتم] (¬6)، وقد صح توقيت الصلاة وبيانها في الأوقات، فلا يجوز أن ينتقل عن أصل ثابت بأمر محتمل. وأما الآثار التي اختلفوا في تصحيحها: فما رواه مالك من حديث معاذ بن جبل: أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام تبوك، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر و [بين] (¬7) ¬

_ (¬1) في ب: منها. (¬2) سقط من أ. (¬3) تقدم. (¬4) في أ: بمنع. (¬5) في أ: ابن عباس. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

المغرب والعشاء، قال: [فَأخَّرَ] (¬1) الصلاة يومًا، ثم خرج فصلى صلاة [الظهر والعصر ثم دخل ثم خرج فصلى] (¬2) المغرب والعشاء جميعًا (¬3). وهذا الحديث لو صح (¬4) لكان أظهر من جميع الأحاديث في جواز الجمع؛ لأن ظاهره أنه قدم العشاء إلى وقت المغرب. وأما اختلافهم في إجازة القياس في ذلك فهو أن يلحق سائر الصلوات [في السفر] (¬5) بصلاة عرفة ومزدلفة -أعني أنه يجوز الجمع [قياسًا على تلك المعاني: فيقال مثلًا: صلاة وجبت في سفر، فجاز أن يجمع وأصله الجمع] (¬6) بعرفة والمزدلفة، لكن القياس في العبادات يضعف فحواه. قال سالم بن عبد الله: وهذا تمحيص الدليل فيما بيننا وبين المخالف. وأما حقيقة مذهب مالك في المسألة: فالذي يتحصل عندي ثلاثة أقوال [كلها منصوصة] (¬7): أحدها: أنه يجوز بشرطين [ق: 41 أ] [أحدهما] (¬8) أن يجد به السير، ويخاف فوات أمر. وهو قول مالك في "المدونة" [ومعنى جد السير] (¬9) مبادرة ما يخاف فواته، والمسارعة إلى ما يهمه. ¬

_ (¬1) في ب: فأخروا. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه مسلم (706)، وأبو داود (1206) ومالك (330) والترمذي (553)، والنسائي (587) وغيرهم من حديث معاذ رضي الله عنه. (¬4) تقدم أنه في مسلم. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: منصوصين في المذهب. (¬8) سقط من أ. (¬9) سقط من أ.

والثاني: أنه [يجوز الجمع] (¬1) بشرط واحد؛ وهو جَدّ السير، وإن لم [يخش] (¬2) فوات أمر، وهو قول ابن حبيب، وهو ظاهر قوله في "المدونة" (¬3) آخر الباب أيضًا. والثالث: أن الجمع يجوز في السفر، وإن لم يجد به السير، وهو قول أشهب (¬4). وسبب الخلاف: السبب المبيح للجمع، هل هو مجرد السفر [أو السفر مع الجد بانفراده أو مع فوات أمر، وهل العلة ذات وصف واحد أو ذات أوصاف، فمن جعل العلة مجرد السفر خاصة] يقول: إنها ذات وصف واحد (¬5). ومن جعل العلة مركبة قال: لابد من وصف [آخر] (¬6) يضم إلى السفر، إما جد السير بانفراده -على قول-، وإما جد السير [مع] (¬7) ما [يخشى] (¬8) فواته من أمره. فإذا قلنا بجواز الجمع فإنه يجوز في كل سفر مباح -كانت مسافته تقصر [في مثلها] (¬9) الصلاة أم لا- وهو قول أبي محمَّد عبد الوهاب (¬10). ¬

_ (¬1) في أ: يجمع. (¬2) في أ: يخف. (¬3) انظر: المدونة (1/ 116). (¬4) انظر: النوادر (1/ 263). (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من ب. (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: يخاف. (¬9) في أ: فيه. (¬10) حيث قال: "يجوز الجمع في طويل السفر وقصيره خلافًا للشافعي في قوله: لا يجوز إلا في سفر القصر؛ لأن الصحابة ذكروا أن ذلك كان فعله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقيدوا .. " الإتحاف (2/ 663).

ولست أعرف في المذهب [نص خلاف] (¬1) في ذلك. واختلف في السفر غير المباح، هل يجمع فيه على ما يأتي من تقاسيم السفر في باب قصر الصلاة [إن شاء الله تعالى] (¬2)، وأما بيان الوقت الذي يجوز فيه [الجمع] (¬3) للمسافر: فذلك يختلف باختلاف [حالاته] (¬4)؛ وهي على أربعة أوجه: ["إما" (¬5)]: أن يرتحل من المنهل قبل الزوال، وينزل بعد الغروب، أو [ينزل] (¬6) قبل الغروب وبعد الاصفرار؛ فهذان وجهان. أو يرتحل من المنهل وينزل [بعد الغروب أو قبله] (¬7) وبعد الاصفرار؛ فهذان وجهان آخران: فأما الوجه الأول: إذا ارتحل قبل الزوال، ويكون نزوله بعد الغروب: فهذا يجمع بين الظهر والعصر في آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر؛ إذ لا يجوز تقديم الصلاة [عن] (¬8) وقتها، ولا تأخيرها عن [الوقت] (¬9) الكلي؛ كالغروب في صلاة النهار، ولا خلاف في هذا الوجه. وأما الوجه الثاني: إذا كان نزوله قبل الغروب، وبعد الاصفرار: فإنه يؤخرها إلى [آخر] (¬10) وقت العصر فيصليهما؛ لأن تأخير وقت الصلاة ¬

_ (¬1) في أ: نصًا خلافه. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من جـ. (¬4) في ب: أحواله. (¬5) في أ: أحدها. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: أو بعده قبل الغروب. (¬8) في ب: على. (¬9) في ب: وقتها. (¬10) سقط من أ.

عن وقت الاختيار إلى وقت الاضطرار لا يجوز مع الاختيار. فإذا ارتحل قبل الزوال فقد ارتحل قبل وجوب الصلاة، [فإن] (¬1) زالت الشمس، فلا يكلف النزول لصلاة الظهر ساعتئذ؛ لأنه بين أحد أمرين؛ إما أن يجمع بينهما، أو يصلي الظهر بانفرادها. فإن جمع بينهما أول الزوال فقد قدم العصر عن وقتها، ولا يجوز له أن يقدمها [عن] (¬2) وقتها إلا لضرورة، ولا ضرورة هاهنا [تدعوه] (¬3) إلى ذلك؛ لأنه على النزول في آخر وقت العصر عند الاصفرار فيجمع بينهما في تلك الساعة ولا إثم عليه في ذلك، كما كان يجوز له أن يقدم العصر [عن] (¬4) وقتها ويجمع بينهما وبين الظهر في أول [الزوال] (¬5) عند الرحيل من المنهل لأجل الضرورة، فكذلك [يجوز] (¬6) تأخير الظهر إلى وقت العصر لأجل الضرورة. وأما أن يصلى الظهر [في وقتها] (¬7) وحدها، ويؤخر العصر إلى وقتها، فقد حظر [عليه] (¬8) الجمع الذي أباح له الشرع. وأما الوجه الثالث: إذا ارتحل من المنهل عند الزوال، وكان نزوله بعد الغروب: فإنه يجمع بينهما ساعتئذ، ثم يرتحل؛ وهذا كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -[في الجمع] (¬9) بعرفة ومزدلفة. ¬

_ (¬1) في ب: إذا. (¬2) في ب: على. (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: على. (¬5) في أ: الوقت. (¬6) في ب: لا يجوز. (¬7) زيادة من ب. (¬8) في ب: على نفسه. (¬9) سقط من ب.

فقد [أباح] (¬1) الجمع بعرفة بين الظهر والعصر [وهم نزال] (¬2)؛ لأنهم إذا ركبوا تَلَبَّسُوا بأمر لا يفرغوا منه إلا بعد الغروب -وهو الوقوف- فكذلك المسافر إذا ارتحل تَلَبَّس بأمر لا يفرغ منه إلا بعد الغروب، وهو السّير. فإذا ركب المسافر قبل الزوال، ونيته ألا ينزل إلا بعد الاصفرار: فإنه يؤخر الجمع إلى وقت نزوله؛ لأن الشمس تزول وهو راكب فيمد إلى أقصى مرحلته، كما أن أهل عرفة تغرب عليهم الشمس، وهم ركبان فيصلون قبل ذهاب نصف الليل. وأما الوجه الرابع: إذا ارتحل من المنهل عند الزوال، فنزل عند الاصفرار، فهل يجمع بين الظهر والعصر عند الزوال؟ فالمذهب على القولين: أحدهما: أنه يجمع بينهما ثم يرتحل، وهو مذهب "المدونة" (¬3). والثاني: أنه لا يجمع، وظاهر هذا القول أنه يصلي كل صلاة في وقتها، فيصلي الظهر على هذا القول في المنهل، فإذا نزل في المنزل صلى العصر. وسبب الخلاف: اختلاف الآثار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب، فمنها: حديث أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع [ذلك] (¬4)، وإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: أبيح. (¬2) سقط من ب. (¬3) انظر: المدونة (1/ 116). (¬4) زيادة من ب. (¬5) أخرجه البخاري (1060)، ومسلم (703).

[ظاهر] (¬1) هذا الحديث أنه يؤخر العصر، وهذا الحديث خرجه البخاري ومسلم. والثاني: حديث معاذ [بن جبل] (¬2) قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر، وإذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، [فإذا ارتحل قبل الغروب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء] (¬3)، وإذا ارتحل بعد الغروب عجل العشاء، فصلاها مع المغرب (¬4). فمن أخذ بظاهر حديث أنس: يصلي الظهر وحدها، وإذا ارتحل عند الزوال ويؤخر العصر إلى وقتها. ومن أخذ بحديث معاذ قال: يجمع بينهما عند الزوال، و [هذا] (¬5) مشهور المذهب. واسلك بصلاة الليل في الجمع إذا ارتحل قبل الغروب، وينزل بعد طلوع الفجر أو قبله هذا المسلك ونزله على هذه الوجوه الأربعة، ولا فائدة في التطويل [في ذكره] (¬6) [مع وجود المندوح عنه] (¬7)، والله يهدينا ويلهمنا رشدنا، ويجري الصواب على ألسنتنا [وهو] (¬8) ولينا ومولانا [والحمد لله وحده] (¬9). ¬

_ (¬1) في ب: فظاهر. (¬2) زيادة من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) تقدم. (¬5) في ب: هو. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من ب. (¬8) سقط من أ. (¬9) زيادة من جـ.

المسألة الرابعة [في] قصر الصلاة في السفر

المسألة الرابعة [في] (¬1) قصر الصلاة في السفر والكلام في هذه المسألة [ينحصر] (¬2) [في] (¬3) خمسة فصول: أحدها: في حكم القصر. والثاني: في السفر [الذي] (¬4) يجوز فيه القصر. والثالث: في حد المسافة التي يجب فيها القصر. والرابع: في الموضع الذي يبدأ منه المسافر [بالقصر] (¬5). والخامس: في تقدير [الزمان] (¬6) الذي يجوز فيه للمسافر إذا أقام [في] (¬7) موضع أن يقصر الصلاة. فالجواب عن الفصل الأول: وهو حكم القصر هل هو فرض أو سنة؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال (¬8): أحدها: أنه فرض، وهو مذهب سحنون، ومال إليه ابن المواز، ولم يقدم عليه لما رأى [أن] (¬9) مالكًا وأصحابه لم يختلفوا أن من أتم في السفر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ: إلى. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: بالتقصير. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: من. (¬8) انظر: المدونة (1/ 145)، والإتحاف (2/ 638). (¬9) سقط من أ.

أنه يعيد في الوقت. والثاني: أنه سنة وهي رواية أبي مصعب عن مالك. والثالث: أنه رخصة وتوسعة [ق/ 32 جـ] [وهي رواية أبي جعفر الأبهري عن الشيخ أبي بكر الأبهري] (¬1). واختلف الذين ذهبوا إلى أنه رخصة وتوسعة في الأفضل على ثلاثة أقوال: أحدها: أن القصر أفضل، وهي رواية ابن وهب عن مالك. والثانى: أن الإتمام أفضل. والثالث: [التخيير] (¬2) بين القصر والإتمام، من غير ترجيح. ووجه قول من قال: إن القصر فرض؛ استدلالًا بظاهر قول عمر رضي الله عنه: صلاة السفر ركعتان، وصلاة العيد ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، وقد خاب من افترى (¬3). فإن قيل: فلو كان فرضه ركعتان لما جاز أن يتم خلف المقيم. قلنا: الجواب أن هذا لا يمنع أن يكون فرضه ركعتين، ثم إذا صلى خلف مقيم فيصير فرضه فرض المقيم كالعبد والمرأة فرضهما أربعًا؛ ثم إذا صليا الجمعة خلف الإِمام فصار ذلك فرضهما. وإن كان الأبهري رد هذا الجواب. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه النسائي (1420)، (1440)، وابن ماجة (1063)، (1064)، وأحمد (259)، وعبد الرزاق في المصنف (4278)، والطحاوي في شرح المعاني (1/ 421)، والبزار في مسنده (330)، والطبراني في "الأوسط" (2943)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 354) عن عمر موقوفًا، صححه العلامة الألباني رحمه الله تعالى في الإرواء (638).

ووجه قول من قال: إنه سنة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر [الصلاة] (¬1) في جميع أسفاره. ووجه [قول] (¬2) من قال أنه رخصة وتوسعة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" (¬3). فمن رأى أن القصر أفضل فقال: هذا أمر، والمراد به الندب، والأمر في قوله: "فاقبلوا صدقته" ولا يحمل على الوجوب في هذا الموضع بالإجماع؛ لأن [المتصدق] عليه لا يجبر على قبول الصدقة، غير أنه يحمل على الندب لا على الإباحة؛ لنفرق بين صدقة الله علينا، وصدقة واحد منا؛ لأن رد الصدقة على المتصدق يشعر بالاستغناء، وما يخشى أن يلحق المتصدق عليه من المن والأذى، وذلك لا يتصور في حق الله تعالى؛ لأنه غني ونحن الفقراء، ونحن العبيد وهو المولى. [فمن] (¬4) رأى أن الإتمام أفضل فقال: الإتمام عزيمة، والقصر رخصة. ولا شك أن من حمل المشقة على نفسه، وأتى بالعزيمة على وجهها أفضل. ومن رأى أنه مخير: اعتمد ظاهر قوله عليه السلام "صدقة" فيقول لا شك ولا خفاء أن المتصدق عليه مخير في الشاهد بين الرد والقبول، فيطرد ذلك [غالبًا] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) زيادة من ب. (¬3) أخرجه مسلم (686) من حديث عمر - رضي الله عنه -. (¬4) في ب: ومن. (¬5) في أ: غائبًا وشاهدًا.

وسبب الخلاف: في [أصل] (¬1) المسألة اختلافهم في كيفية فرض الصلاة؛ فمن ذهب إلى حديث عائشة رضي الله عنها: إن الصلاة فرضت ركعتين [ركعتين] (¬2) وزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة (¬3)، يقول: إن القصر [فرض] (¬4) وهو مذهب إسماعيل القاضي و [هو قول] (¬5) أشهب في روايته عن مالك، ومحمد ابن سحنون. ومن ذهب إلى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -[وقوله] (¬6) يقول: إنه سنة، وهو مشهور المذهب. والاستدلال بحديث عائشة رضي الله عنها ضعيف من ثلاثة أوجه: أحدها: ما ذكره الطحاوي (¬7) في "شرح معاني [الأخبار] (¬8) " عن عائشة رضي الله عنها قالت: قصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر وأتم (¬9). وهذا [ق/ 42 أ] الذي روته من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالف لحديثها: إن الصلاة فرضت ركعتين، [ولو] (¬10) صح لما أتم النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (1040)، ومسلم (685). (¬4) في ب: أفضل. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) انظر: "شرح معاني الآثار" (1/ 415). (¬8) هكذا بالأصل والمشهور آثار. (¬9) أخرجه الشافعي في المسند (25) والأم (1/ 179)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 415)، وابن عبد البر في التمهيد (11/ 173). ضعفه الشيخ الألباني كما في الإرواء (3/ 6، 7). (¬10) في ب: فلو.

والوجه الثاني: بكون أكثر الصحابة رضوان الله عليهم على خلاف حديثها، [وأنهم] (¬1) كانوا ويقصرون، بعضهم يتم فلم [ينكر] (¬2) بعضهم على بعض، ولو كان الفرض في البداية كما قالت عائشة رضي الله عنها ما خفى ذلك عن جماهير الصحابة، ولا اشتهر ذلك [عنهم] (¬3)، ولنقل نقلًا شائعًا دائمًا؛ لأن ذلك مما تعم به البلوى، والناس ملجؤون إلى الأسفار تارة للعبادات، وتارة للعادات، فكيف تنفرد عائشة رضي الله عنها بهذا الأمر العظيم، والخطب الجسيم. والوجه الثالث: مخالفتها للحديث؛ لأنه روى عنها أنها كانت تتم في السفر. وقد اختلف الأصوليون في الراوي إذا روى الحديث ثم خالفه هل يكون ذلك وهنًا في الحديث؟ فبعضهم يقول: إن ذلك وهن في الحديث، ويبطل العمل بمقتضاه؛ إذ لا يمكن أن يروي الراوي الحديث ثم يترك العمل به إلا وقد علم [فيه] (¬4) النسخ؛ إذ لو تركه وهو لا يعلم أنه منسوخ لكان ذلك جرحة فيه. وبعضهم يقول: لا يكون ترك الراوي العمل بمقتضى [حديثه] (¬5) دليلًا على بطلانه. و [هذا] (¬6) هو الصحيح لاحتمال أن يكون تركه لتأويل تأوله [فيه] (¬7) فلا يلزم غيره من العلماء اتباعه فيه؛ كتقديم القياس الجلي على أخبار ¬

_ (¬1) في ب: فإنهم. (¬2) في أ: يعبس. (¬3) في ب: عندهم. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: ما رواه. (¬6) سقط من ب. (¬7) سقط من أ.

الآحاد كما هو مذهب أبي حنيفة، وأحد أقاويل المذهب، أو تقديم عمل أهل المدينة على أخبار الآحاد كما هو مذهب مالك رحمه الله. والحجة في السنة لا فيما [خالفها] (¬1). وقال [الشيخ] (¬2) أبو الحسن اللخمي: وما تأول على عائشة رضي الله عنها أنها أم المؤمنين، فحيث ما حلت صلت [بأولادها] (¬3): لا يصح؛ [لأنه] (¬4) لا يختلف أن المرأة لو سافرت إلى أولادها، وهم خمسة، وبينها وبين كل واحد منهم عشرة أميال، وهي تريد أقصاهم: أنها لا يجب عليها الإتمام؛ لأن وطن [الأولاد] (¬5) ليس بوطن لها. وهذا الذي قاله صحيح، وهو نص [قول] (¬6) مالك في "المدونة" (¬7)، فيمن خرج إلى سفر، فمر بقرية فيها أهله وولده، فقال: إنه يتم الصلاة، فإن [انتقل] (¬8) أهله، وبقى فيها ولده: فإنه يقصر الصلاة إلا أنه ينوي إقامة أربعة أيام. والجواب عن الفصل الثاني: وهو السفر الذي يجوز فيه القصر [فللمتأخرين في هذا التفصيل تقسيم، فقالوا: السفر على خمسة أقسام:] (¬9). ¬

_ (¬1) في ب: خالفه. (¬2) زيادة من ب. (¬3) في ب: بأهلها. (¬4) في أ: إنه. (¬5) في ب: أولادها. (¬6) سقط من أ. (¬7) انظر: المدونة (1/ 146، 147). (¬8) في أ: هلك. (¬9) في ب: فالمتأخرون قسموا هذا الفصل على خمسة أقسام.

[سفر] (¬1) واجب: وهو السفر لحجة الفريضة، أو العمرة -على القول بوجوبها- أو الجهاد إذا تعين [النفير] (¬2). أو مندوب إليه: وهو ما [تعلق] (¬3) به طاعة وقربة لله تعالى [كالسفر] (¬4) إلى الغزو، أو العمرة -على مذهبنا- أو لبر الوالدين، أو لصلة الرحم، أو لتنفيس كربة عن مسلم. أو [سفر] (¬5) مباح: [وهو] (¬6) كالسفر للتجارة. والقصر [يجوز] (¬7) في هذه الأسفار الثلاثة. و [سفر] (¬8) مكروه: وهو السفر للصيد على معنى اللهو والتلذذ؛ فقد قال مالك في المدونة: لم آمره بالخروج، فكيف آمره أن يقصر الصلاة؟ فقيل: إنه يقصر، وهو اختيار [الشيخ أبي الحسن] (¬9) اللخمي. والخامس: السفر المحظور: كالخارج محاربًا، أو ليقتل رجلًا مسلمًا ظلمًا وعدوانًا. فاختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يقصر الصلاة، وهو مشهور المذهب (¬10). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: النفر. (¬3) في أ: تعين. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ، جـ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: جائز. (¬8) سقط من أ، جـ. (¬9) زيادة من ب. (¬10) قال ابن حبيب: إنما يجوز أن يقصر في سفر يجوز الخروج فيه، غير باغ ولا عاد، فأما من خرج باغيًا أو عاديًا، ظالمًا أو قاطعًا للرحم، أو طالبًا لإثم، فلا يجوز له القصر =

والثاني: أنه يقصر الصلاة، وهو رواية علي بن زيادة عن مالك، وبه قال أبو حنيفة (¬1). وبالأول قال الشافعي (¬2). وسبب الخلاف: العاصي هل يترخص [له] (¬3) بالرخص أم لا؟ فمن رأى أن العاصي لا يترخص بالرخص، قال: لأنه مأمور بالرجوع عنه، والتمادي فيه معصية، والقصر رخصة، وتخفيف للمشقة عن المسافر، وإعانة له، فكيف يعان العاصي على معصيته؟ قال القاضي [أبو الوليد] (¬4) الباجي: ولما كان للطاعة تأثير في قصر الصلاة في مسافة لا تقصر فيها لغيرها كالحج كان للمعصية تأثير في المنع من قصر الصلاة في مسافة تقصر فيها لغيرها. وهذا الذي قاله القاضي رضي الله عنه [معناه] (¬5) مليح، وهو قياس العكس عند الأصوليين، والقول به ضعيف عندهم. ومن رأى أنه يجوز له القصر [فيقول] (¬6): معنى يصح [أن يرخص له فيه في سفر، فجاز أن يرخص له] (¬7) في سفر المعصية كأكل الميتة، والله أعلم. والجواب عن الفصل الثالث: في حد المسافة التي يجب فيه القصر. ¬

_ = كما لا يباح له الأكل من الميتة عند الضرورة" النوادر (1/ 419). (¬1) تحفة الفقهاء (1/ 255). (¬2) الأم (1/ 184). (¬3) سقط من ب. (¬4) زيادة من ب. (¬5) في أ: معنى. (¬6) في ب: قال. (¬7) سقط من ب.

والله تعالى يقول: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬1). والضرب في الأرض: السفر فيها، ومنه سمى أخذ [مال القراض] (¬2) مضاربة عند بعض العلماء؛ لأنهم كانوا في الجاهلية إذا أخذ أحدهم مالًا [قراضًا] (¬3) خرج إلى الشام أو إلى غيرها ليشتري به أو يبيع هناك. ثم لابد [لهذا السَّفر] (¬4) مِنْ أنْ يُقَيَّد بِحَدٍ وغَاية لا يقصر المسافر دونها؛ لأن السفر في موضع اللغة ينطلق على القليل والكثير، فاختلف العلماء فيه اختلافًا كثيرًا؛ فمنهم من يقول: أقل ما يقع عليه اسم السفر، وهو مذهب أهل الظاهر. وذهب الشافعي وغيره إلى أن الصلاة تقصر في أربعة [بُرَد] (¬5). وذهب أبو حنيفة إلى أن أقل ما تقصر فيه الصلاة مسيرة ثلاثة أيام. وسبب الخلاف: معارضة المعنى المعقول من اللفظ؛ وذلك أن المعقول من تأثير القصر في السفر أنه [لما كانت] (¬6) المشقة الموجودة [فيه] (¬7) مثل تأثيره في [الصوم] (¬8)، وإذا كان الأمر كذلك وجب القصر حيث وجدت المشقة أو ما هو مظنة للمشقة، واللفظ ظاهر يفيد تعلق الحكم به كان مقتضاه مظنة المشقة أم لا. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (101). (¬2) في ب: المال قراضًا. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: للسفر. (¬5) البريد: اثنا عشر ميلًا. (¬6) في أ: لمكان. (¬7) في أ: فيها. (¬8) في أ: السفر.

وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" (¬1). فكل من أطلق عليه اسم مسافر جاز له الفطر، والقصر، وربما أيدوا ذلك بما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (¬2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر الصلاة في [نحو] (¬3) سبعة عشر ميلًا (¬4). ومذهب الثلاثة أيام [أيضًا] (¬5) مروي عن ابن مسعود وعثمان وغيرهما رضي الله [عنهم] (¬6). فأما مالك [رحمه الله] (¬7) فقد اختلف قوله في التحديد اختلافًا أوجب اضطراب مذاهب المتأخرين في التأويل. وأما اختلاف قوله رضي الله عنه [فتحصره] (¬8) أربعة أقوال: أحدها: أنه تقصر الصلاة في يوم وليلة، وهو نصه في المدونة [في] (¬9) الرواية المشهورة. والثاني: أنه تقصر [الصلاة] (¬10) في اليوم التام. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2408)، والترمذي (715)، والنسائي (2274)، وابن ماجة (1667)، وأحمد (18568)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) أخرجه مسلم (692)، والنسائي (1437)، وأحمد (207). (¬5) زيادة من ب. (¬6) في ب: عنهما. (¬7) سقط من ب. (¬8) في ب: فيحصره. (¬9) في ب: وهو. (¬10) سقط من أ.

[قال القاضي أبو الفضل عياض [وقد وقع] (¬1) في بعض روايات "المدونة" اليوم التام، قال:] (¬2) قال أحمد بن وضاح: رد اليوم التام، قال: والرواية اليوم والليلة. قال: والقولان مرويان عن مالك. والثالث: يومان. والرابع: [اعتبار] (¬3) أربعة بُرَد، وهو الذي رجع إليه مالك رحمه الله. واضطربت آراء المتأخرين في تأويل المذهب على هذه الأقوال؛ فمنهم من حمل الكلام على ظاهره وجعله اختلاف قول، وربما أيدوا هذا القول بقوله في "المدونة" (¬4) في أربعة بُرَد، [وهو] (¬5) الذي رجع إليه: والرجوع عن الشيء إلى غيره بعد اعتقاد الأول، ثم تبين له أن الصواب في غيره. وذهب آخرون إلى أن ذلك اختلاف [يرجع إلى حال] (¬6)، وأن الأقوال الأربعة ترجع إلى معنى واحد، وذلك أن اعتبار اليوم التام يرجع إلى يومين، واعتبار اليومين يرجع إلى [يوم وليلة] (¬7)، واعتبار يوم وليلة يرجع إلى أربعة بُرد، وهي ثمانية وأربعون ميلًا؛ لأن اليوم التام إذا استوفاه وواصل مشيه من أوله إلى آخره، فإنه يقدر بالمرحلتين على المشي ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) انظر: المدونة (1/ 145). (¬5) في أ: وهذا. (¬6) في ب: أحوال. (¬7) في ب: اليوم والليلة.

المعتاد من القوافل والمحامل؛ فيكون ذلك من مالك [رحمه الله] (¬1) التماسًا بضبط المسافة، واختيار الأزمان حتى يستقر عنده قدر معلوم يكون حدًا لجواز القصر، ثم إنه رضي الله عنه أراه البحث، والتفتيش، والسير، والتقسيم إلى اعتبار المسافة بالكيل، وهو الذي يستوي فيه طياق المسافرين، ولا يختلف باختلاف [الجلد] (¬2) والقوة، [ورب] (¬3) شخص يقدر على قطع هذه المسافة نهارًا، ورب شخص لا يقطعها إلا بعد [مدة] (¬4) مديدة طويلة، وهذا الذي اعتبره مالك صحيح؛ لأن البريد ينضبط ويتحصل في الشتاء، والصيف، والسريع، والبطىء، وليس اليوم، والليلة كذلك. ومعنى قوله في المدونة: ثم ذكر ذلك مالك، أي ترك التحديد بهذا اللفظ لما هو أبين منه مما لا يختلف باختلاف السير، ولا باختلاف الأزمان بالقصر والطول، وهذا في سفر البر. وأما سفر البحر [ق/ 33جـ]: فقد اختلف فيه مذهبه، فمرة يقول باعتبار أربعة برد في البر والبحر، ومرة يعتبر اليوم التام؛ لأن البحر لا تنضبط فيه الأميال، وهو قوله في "المبسوط"، وهذا الخلاف يرجع إلى الحال. واختلف فيمن قصر الصلاة في أقل من ثمانية وأربعين ميلًا، فقال في "العتبية" (¬5): إن قصر الصلاة في خمسة وأربعين ميلًا أجزته، وقال في "المبسوط" [ق/ 21 ب]. يقصر في أربعين ميلًا. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: الجد. (¬3) في ب: فرب. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: البيان والتحصيل (1/ 429)، والنوادر (1/ 423).

واختلفوا إذا قصر الصلاة في ستة وثلاثين ميلًا على ثلاثة أقوال: أحدها: قول ابن القاسم في "العتبية" (¬1) [أنه] (¬2) لا إعادة عليه. والثاني: أنه يعيد أبدًا، وهو [ق/ 43 أ] قول يحيى بن عمر. والثالث: أنه يعيد في الوقت، وهو قول ابن عبد الحكم، فوجه قول ابن القاسم: أن القصر في ستة وثلاثين ميلًا هو القصر في ثلاثة برد فنفض البريد من [الأربعة] (¬3) وهو الرابع. والأصول موضوعة على أن الربع في حيز اليسير، فلا ينبغي أن يغير الحكم. ووجه قول من قال: يعيد أبدًا؛ اعتمادًا على الأثر. ووجه قول ابن الحكم: ملاحظة الجانبين ومراعاة [الشقين] (¬4). واختلف المذهب فيمن سافر مسافة تقصر فيها الصلاة ثم أسلم في أثنائها إن كان نصرانيًا، أو احتلم إن كان صبيًا، أو كانت امرأة فسافرت -وهي حائض- ثم طهرت في أثناء المسافة: فمشهور المذهب أنهم يتمون الصلاة، ولا يقصرون، ويتخرج فى المذهب قول ثان: أنهم يقصرون. وأما الكافر: فهذا الخلاف فيه يتخرج على الخلاف في الكفار هل هم مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ (¬5). فعلى القول بأنهم غير مخاطبين فلا يقصر الصلاة؛ لأنه كما ¬

_ (¬1) البيان والتحصيل (1/ 429)، والنوادر (1/ 423). (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ: أربعة. (¬4) في ب: السفرين. (¬5) تقدم بيان ذلك.

[وجبت] (¬1) عليه الآن، وقد بقى في المسافة أقل ما تقصر فيه الصلاة. ومن قال إنهم مخاطبون: فإنه يقصر الصلاة؛ لأنه لم تزل [عليه] (¬2) واجبة قبل سفره. وأما الصبي: فلا شك ولا خفاء أنه مأمور بالصلاة من سبع سنين، [وظاهر] (¬3) هذا الأمر لا يختص بالحصر بالاتفاق، بل يؤمر بها في السفر كما يؤمر بها في الحضر، فإذا سافر [فيصير] (¬4) داخلًا في جملة من أبيح له [الجمع و] (¬5) القصر، ثم إن احتلم فاحتلامه لم يحدث عليه أمرًا زائدًا في مقدار الصلاة، ولا في هيأتها، وإنما [أزاد] (¬6) عليه الاحتلام تأكيد الجواب؛ لأنه إن كان يضرب عليها قبل البلوغ [فبعده] (¬7) يقتل عليها، وأما الهيئات والصفات فهي كما كانت أولًا. فإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يقصر الصلاة من غير اعتبار بما بقى في المسافة -قل أو كثر- وهذا هو الأظهر في النظر. وأما الحائض: فينبغي أن ينبني الخلاف فيها على الخلاف في الحائض، هل هي مخاطبة بالعبادة مع وجود الحيض [أو غير مخاطبة] (¬8)؟ فعلى القول بأنها غير مخاطبة -لا بالأداء ولا بالقضاء في الصلاة- والقضاء في الصيام بالخطاب الجديد: فلابد من اعتبار بقية المسافة كما هو ¬

_ (¬1) في ب: وجب. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: صار. (¬5) سقط من ب. (¬6) في أ: ازداد. (¬7) في ب: فبعد البلوغ. (¬8) في ب: أم لا؟

منصوص. وعلى القول بأنها مخاطبة بالخطاب الأول، ويسترسل عليها مع وجود الحيض إلى ارتفاعه: يجب أن تقصر الصلاة إذا طهرت؛ اعتبارًا ببقية المسافة، والله أعلم. [والجواب عن] (¬1) الفصل الرابع: في الموضع الذي يبدأ المسافر منه بالتقصير: [ولا] (¬2) يخلو سفره من أن يكون في البَّر أو البَّحر، فإن كان في البَّر: فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: [أنه] (¬3) إذا برز عن بيوت القرية وخلفها وراء ظهره، ولم يحاذه منها على اليمين والشمال شيء، فإنه يقصر، وهذا نص قوله في "الموازَّية"، وظاهر قوله في "المدونة" (¬4). والثاني: أنه إذا جاوز بيوت القرية، وانقطع [منها] (¬5) انقطاعًا بَيِّنًا [قصر] (¬6) الصلاة، كان أهلها ممن يجمعون أم لا, وهو قول ابن حبيب (¬7). والثالث: أنه إن [كان أهلها] (¬8) ممن [يجمع] (¬9) الجمعة فلا يقصر حتى يجاوزها بثلاثة أميال؛ لأنه كَقَرَارٍ واحد. وإذا رجع إلى أهله قصر إلى حد ذلك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: فلا. (¬3) سقط من ب. (¬4) انظر: المدونة (1/ 147). (¬5) في ب: عنها. (¬6) في أ: قصرت. (¬7) انظر: النوادر (1/ 419، 420). (¬8) في ب: كانت. (¬9) في ب: يجمعوا.

وإذا كانت لا يجمع أهلها: قصر إذا جاوز بساتينها وبيوتها المتصلة، وليست ذلك عليه في مزارعها، وهي رواية مُطَرِّف، و [عبد الملك] (¬1) ابن الماجشون عن مالك (¬2). وسبب الخلاف: معارضة مفهوم الاسم لدليل الفعل، وذلك أنه إذا شرع في السفر فقد انطلق عليه اسم المسافر، فمن راعى مفهوم الاسم قال: إذا خرج من بيوت القرية قصر. ومن راعى دليل الفعل -أعني فعله عليه السلام- قال: لا يقصر إلا إذا خرج عن القرية [ثلاثة] (¬3) أميال؛ لما صح من حديث أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج [من] (¬4) مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ -شك [من] (¬5) الراوي (¬6) - صلى ركعتين (¬7). وأما المسافر في البحر [متى] (¬8) يقصر؟ فقد اختلف فيه في المذهب [أيضًا] (¬9) على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقصر إذا توارى عن البيوت، وهو قول مالك في "مختصر ما ليس في المختصر". والثاني: أنه يقصر إذا خلفها، وهو قول [محمَّد] (¬10) بن المواز. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) النوادر (1/ 420). (¬3) في ب: بثلاثة. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من ب. (¬6) شعبة الشاك. (¬7) أخرجه مسلم (691)، وأبو داود (1201). (¬8) في ب: فمتى. (¬9) زيادة من ب. (¬10) زيادة من ب.

والثالث: [التفصيل بين] (¬1) أن تكون سفينتهم لا تجري إلا بالرياح أو تحري [بالرياح] (¬2) والمقاديف. فإن كانت لا [تجري] (¬3) إلا بالريح: فلا يقصر حتى يبرز عن ["الموضع الذي قلع منه" (¬4)] (¬5) وهو قول ابن المواز أيضًا (¬6). فإن كانت [تجري بالريح وغيره] (¬7): فليقصر حين يبرز [عن] (¬8) قريته. فإن ردهم الريح بعد ما قلعوا، فلا يخلو من أن تردهم إلى وطنهم وقريتهم، أو تردهم إلى الموضع الذي قلعوا منه، وليس بوطن لهم. فإن ردتهم إلى وطنهم: فلا خلاف في المذهب أنهم يتمون الصلاة؛ لأنهم مقيمون. فإن ردتهم إلى غير وطنهم، وإلى غير قرارهم، فهل يتمون أو يقصرون؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة" (¬9): أحدهما: أنهم يتمون حتى يبرزوا ثانية. وهو قول مالك في "المدونة" و"المجموعة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: بالريح. (¬3) في أ: تبرح. (¬4) هكذا في الأصل، ولم أتبينه والذي في النوادر: قلد منه. (¬5) سقط من أ. (¬6) النوادر (1/ 423). (¬7) في أ: تبرح بريح وبغير ريح. (¬8) في أ: من. (¬9) انظر: المدونة (1/ 145).

والثاني: أنه يقصرون، وهو قول سحنون في الكتاب أيضًا. وسبب الخلاف: الإقامة الأولى هل تُرْتَفَض بنفس حدوث السفر، أو لا تُرْتَفَض إلا بعد الانقطاع الكلي؟ فمن رأى أنها لا تُرْتَفَض إلا بعد الانقطاع الكلي بناء على أنه في سفره على شك؛ إذ لا يدري هل يتم له ذلك، أو يتحوله [عنه] (¬1) الريح فيرجع عن قريب. والأصل استصحاب حالة الإقامة حتى يتحقق [السفر] (¬2) قال: يتم الصلاة. ومن رأى أنها مُرْتَفَضَة وأن رجوعه إنما كان غلبة وإكراهًا، قال: يقصر الصلاة؛ كما لو رده غاصب. وعلى هذا الأصل ينبني اختلاف قول مالك في مسألة الحاج إذا دخل مكة، فأقام بها بضع عشرة ليلة، ثم بدا له فخرج إلى الجحفة ليعتمر منه ثم يقيم بمكة اليوم واليومين ثم يخرج، قال: يتم الصلاة؛ لأن مكة كانت له منزلًا، وقد رجع إليها [ورأى أنها] (¬3) لا تُرْتَفَض. ومرة يقول: إنه يقصر الصلاة؛ لأن الإقامة الأولى قد رفضها، وهذه إقامة ثانية. والجواب عن الفصل الخامس: في تقدير الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام بموضع أن يقصر الصلاة، وانتقال نيته عن السفر إلى الإقامة فأما الزمان الذي يحكم فيه للمسافر بحكم المقيم ويتم الصلاة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: وأرى.

فقد اختلف [العلماء] (¬1) فيه اختلافًا كثيرًا، إلا أن الأشهر منها ما عليه فقهاء الأمصار [رضوان الله عليهم] (¬2) ولهم في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إذا عزم المسافر على إقامة أربعة أيام أتم الصلاة، وبه قال مالك والشافعي ["رضي الله عنهما" (¬3)] (¬4). والثاني: أنه إذا عزم على إقامة [خمسة عشر يومًا] (¬5): أتم الصلاة، وبه قال أبو حنيفة، وسفيان الثوري. والثالث: أنه إذا عزم على إقامة أكثر من أربعة أيام: أتم الصلاة، وبه قال أحمد وداود. وسبب الخلاف: تعارض [الأقوال] (¬6)، وتقابل الأحوال المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته بمكة عام الفتح وغيره. فمنها: ما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أقام بمكة ثلاثة [أيام] (¬7) يقصر في عمرته. و [هذا] (¬8) حُجَّة على أن الثلاثة نهاية للقصر، وأن الزائد عليها في حيز الإقامة، وبهذا احتجت المالكية، وربما عضدوه بما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب. (¬3) مختصر اختلاف العلماء (1/ 359، 360)، والمدونة (1/ 125)، والأم (1/ 186). (¬4) سقط من ب. (¬5) في أ: عشرة أيام. (¬6) في أ: الأفعال. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: هذه.

قال: "لا يقيمن مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاثة أيام" (¬1). ومفهومه: أن إقامة ثلاثة أيام لا يَسْلُب عن المسافر اسم السَّفر، وهي النكتة التي يدور [الجميع وراءها] (¬2) وذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم تركوا أرضهم وديارهم، وأموالهم، وأولادهم، وهاجروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وتركوا كل ما تركوه لله، فلما فتحوا مكة، وعادت دار الإيمان، وعادت الصحابة رضوان الله عليهم يترددون إليها للحج، والعمرة، فنهاهم - صلى الله عليه وسلم - أن يطولوا فيها الإقامة إلى حد ما ينطلق عليه اسم [المقيمين] (¬3)، ويَسْلُب عنهم اسم السَّفر كي لا ينتفعوا بسكنى مكة [ويستمتعوا بها] (¬4) بعد ما تركوها لله تعالى؛ لأن من ترك شيئًا لله تعالى فلا ينبغي له الرجوع فيه. وهذا الاستدلال أظهر [ما] (¬5) في الباب، ولكن إنما يطيب جناه للشافعي الذي يقول بدليل الخطاب. وأما نحن -معاشر المالكية- فلا نقول به في مشهور مذهبنا. ومنها: ما روى أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة عام الفتح مقصرًا، وذلك نحوًا من خمسة عشر يومًا. وفي بعض طرق الحديث: سبعة عشر يومًا، وثمانية عشر يومًا، وتسعة عشر يومًا [وما رواه] (¬6) البخاري عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3718)، ومسلم (1352) من حديث العلاء بن الحضرمي مرفوعًا. (¬2) في ب: عليهما الجميع. (¬3) في ب: المقيم. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: رواه.

وبهذا الاحتجاج احتج أبو حنيفة ومن معه. ومنها: ما روى أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة في حجته مقصرًا أربعة أيام. وهذا كله يتطرق إليه الاحتمال إلا قوله [ق/ 44 أ] عليه السلام: "لا يقيمن مهاجر بعد قضاء نسكه [بمكة] (¬1) فوق ثلاثة أيام" (¬2). فمفهومه: أن الثلاثة فما دونها يجوز له فيها الإقامة؛ لأن الخمسة عشر يومًا التي أقامها النبي - صلى الله عليه وسلم -[بمكة عام الفتح إنما أقامها] (¬3) وهو أبدًا ينوي أنه لا يقيم أربعة أيام، وهذا الاحتمال يجري في التحديد بثلاثة أيام وأربعة أيام. والأشبه بوظيفة المجتهد أن يتمسك بأحد أمرين: إما أن يجعل الحكم لأكثر الزمان الذي وقع [عليه] (¬4) الإجماع، وما [روى] (¬5) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أقام مقصرًا أكثر من ذلك الزمان [فيجعل أنه إقامته بأنه جائز للمسافر] (¬6). ويحتمل أن تكون إقامته بنية الزمان الذي يجوز إقامته [فيه مقصرًا] (¬7) باتفاق، ثم عرض له إقامة أكثر من ذلك لأمر أوجبها، وإذا كان الاحتمال وجب التمسك بالأصل، وأقل ما قيل في ذلك يوم وليلة، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأما انتقال نيته فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن ينتقل بنيته من السفر إلى الإقامة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) تقدم. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: فيه. (¬5) في أ: زاد. (¬6) سقط من ب، جـ. (¬7) سقط من أ.

والثاني: أن ينتقل من القصر إلى الإتمام مع استدامة السفر، أو بالعكس. [فأما] (¬1) الوجه الأول؛ وهو انتقال نيته عن السفر إلى الإقامة بموضع من المواضع، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك بعد الحلول بذلك الموضع. والثاني: أن يكون ذلك قبل حلوله ووصوله. فإن كان ذلك بعد الوصول: فلا يخلو من أن يستديم تلك النية، أو ينتزع عنها. فإن استدامها: فلا خلاف في المذهب أنه يتم الصلاة إذا نوى إقامة أربعة أيام فصاعدًا -كما قدمناه- وإنما الخلاف [ق/ 34 جـ] عندنا إذا دخل في بعض النهار هل يعتد به، أو يبتدئ أربعة أيام سواه؟ على قولين: أحدهما: أنه يبنى عليه. والثاني: أنه يبتدئ. والقولان قائمان من "المدونة"، وهذا يجري في مسائل كثيرة كالعدة، والكراء في الرياع، وغير ذلك من المسائل [وكذلك اختلف المذهب أيضًا إذا سافر بعد تلك الإقامة هل يتبع سفره، ويلغى الإقامة، وفائدة ذلك: إذا كان في غاية سفره ما لا تقصر فيه الصلاة. وسبب الخلاف: هل السفر بعزيمة ثانية أو يبنى على عزيمته الأولى] فإن [عدل] (¬2) عن تلك النية، وعاد إلى ما كان عليه من استدامة السفر، ¬

_ (¬1) في ب: فالجواب عن. (¬2) في أ: نزع.

هل هو بمنزلة من تخطر له تلك النية بالليل أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يستديم حكم سفره، ولا تأثير لتلك النية؛ فإنه يقصر الصلاة كما كان يقصرها قبل ذلك؛ لأن تلك النية قد رفضها ولم يقارنها عمل، وهو قول ابن حبيب. والثانى: أن تلك النية لها تأثير بناء على أنه يكون مقيمًا بالنية، وإن لم يقارنها عمل؛ لأن الإقامة أصل، والسفر فرع عنه، والأصل يرجع إليه بالنية، والفرع بخلافه، وهذا هو المشهور. وفائدة الخلاف: أنا إذا أعطينا لتلك النية حكمًا فينبغي أن يتم الصلاة في ذلك المكان، وما بقى فيه لم يرحل منه، فإذا ارتحل وجب اعتبار بقية غاية سفره، فإن بقى فيه أربعة بُرَد [قصر الصلاة] (¬1)، وإلا [أتمها] (¬2). وسبب الخلاف: النية الطارئة -وهي نية الإقامة- هل تُرْتَفَض أو لا تُرْتَفَض؟ فإن نوى الإقامة بموضع من المواضع قبل أن يحل [فيه] (¬3) ثم نزع عن تلك النية، وعاد إلى استدامة السّفر، فلا يخلو ذلك المكان من أن يكون له [فيه] (¬4) أهل أم لا؛ فإن لم يكن [له فيه] (¬5) أهل فإنه يقصر الصلاة من غير اعتبار ببقية سفره؛ كان فيه أربعة برد أم لا. فإن كان له فيه أهل، فلا يخلو من أربعة أوجه: ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: أتم الصلاة. (¬3) في أ: بها. (¬4) في أ: فيها. (¬5) في أ: فيها.

أحدها: أن يكون فيما بينه وبين ذلك الموضع أربعة برد [وبين ذلك المكان وبين أقصى سفره أربعة برد] (¬1). والثاني: أن لا يكون بينه وبين ذلك المكان [ولا بين ذلك المكان وبين أقصى سفره] (¬2) أربعة برد. والثالث: أن يكن بينه وبين ذلك المكان [أربعة برد] (¬3)، ولا يكون بين ذلك المكان وبين أقصى سفره أربعة برد. والرابع: بعكس الثالث. [وأما] (¬4) الوجه الأول: فلا تأثير لنيته؛ لأنه لو ابتدأ السفر إلى ذلك المكان لجاز له أن يقصر الصلاة من موضعه. ولو خرج مسافرًا من ذلك المكان إلى أقصى سفره لجاز له أيضًا أن يقصر الصلاة غير أنه يتم الصلاة أيام كان نازلًا بذلك المكان. و [أما] (¬5) الوجه الثاني: وهو أن لا يكون بينه وبن ذلك المكان أربعة برد، ولا بين ذلك [المكان] (¬6) وبين أقصى سفره أربعة برد فهاهنا ينظر، فإن كان جميع سفره بالإضافة إلى المسافتين [أقل من أربعة برد: فلا تأثير لنيته أيضًا ولا لفعله؛ إذ لا فرق بين أن يدخلها أو لا يدخلها، وإنما الإشكال إذا كان بالإضافة إلى المسافتين] (¬7) ما تقصر فيه الصلاة فنوى ألا يدخلها، ثم رجع إلى أن يدخلها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: فأما. (¬5) في ب: فأما. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من ب.

أما الأول إذا نوى ألا يدخلها، ثم رجع إلى أن يدخلها: فإنه يتم الصلاة بلا إشكال؛ لأن نيته قد تحولت إلى الأصل وهو الإتمام، ثم يتم في سائر سفره، فإذا انتهى إلى غاية سفره فليقصر إذا رجع وقصد إلى مبدأ سفره. وإن قصد إلى المرور بأهله في رجوعه أيضًا: فإنه يتم الصلاة كما لو نوى دخولها [من] (¬1) أول سفره. وفيه قول ثان أنه يقصر حتى يدخلها، وهو قول سحنون: [فأما] (¬2) الثاني؛ وهو أن ينوي أن يدخلها ثم رجع عن تلك النية، فهل يقصر أو يتم؟ قولان: أحدهما: أنه يقصر في بقية سفره. والثاني: أنه يتم. وسبب الخلاف: نية الدُّخول هل تُرْتَفض بنية الرجوع [عنها] (¬3)، أم لا؟ وأما الوجه الثالث؛ [وهو] (¬4) أن يكون بينه وبين ذلك المكان أربعة برد، ولا يكون بينه وبين أقصى سفره أربعة برد، فإن نوى الدخول واستمر عليه فليتم الصلاة في بقية سفره، فإن لم ينو الدخول فليقصر كما تقدم. وأما الوجه الرابع: إذا لم يكن بينه وبين منزله الذي [أراد دخوله] (¬5) أربعة بُرَد، وبين ذلك المكان وبين أقصى سفره أربعة برد فإنه يتم الصلاة إلى ذلك المكان. ¬

_ (¬1) في ب: في. (¬2) في ب: أما. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) في ب: أراد.

فإن ابتدأ السَّفر من ذلك المكان قصر الصلاة ما بينه وبين أقصى سفره. وأما الجواب عن الوجه الثاني: إذا انتقلت نيته في الصلاة من القصر إلى الإتمام، أو من الإتمام إلى القصر؛ كمسافر ابتدأ صلاة المسافر [على] (¬1) ركعتين، ثم بدا له فأتم، أو ابتدأ [صلاة المقيم أربعة] (¬2) ثم بدا له فقصر، ففي كل فصل قولان: أحدهما: أنه يعيد في الوقت. والثاني: أنه يعيد أبدًا. وينبني الخلاف: على الخلاف في المسافر على القول بالتخيير، هل هو مخير بين القصر والإتمام، ما لم [يتلبس] (¬3) بالصلاة؟ أو له الخيار ما لم يفرغ منها؟ وينبني الخلاف: على الخلاف أيضًا في القصر هل هو سنة أو فرض؟ فمن رأى أنه فرض قال بالإعادة أبدًا. ومن رأى أنه سنة قال بالإعادة في الوقت، وهو المشهور الذي عليه الجمهور [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: على الإتمام. (¬3) في جـ: يتشبه. (¬4) زيادة من جـ.

المسألة الخامسة فى قضاء الفوائت بعد خروج وقتها

المسألة الخامسة فى قضاء الفوائت بعد خروج وقتها والأصل في هذه المسألة قوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها" (¬1). ثم لا يخلو من وجهين؛ أن يذكرها في صلاة، أو في غير صلاة. فإن ذكرها في صلاة: فلا يخلو من أن يكون فرضًا أو نفلًا فإن كانت نفلًا فذكرها قبل الركوع وبعد الإحرام فهل يتمادى أو يقطع؟ قولان: أحدهما: أنه يقطع، وهو نص "الكتاب" (¬2). والثاني: أنه يتمادى، ثم يبتدئ الفرض. وهو ظاهر قوله في "كتاب الصلاة [الأول] (¬3) " (¬4)] حيث قال: إن كان ممن يخفف الركعتين: فليصلهما ثم يدخل مع الإِمام. فإن كان بعد ما دخل ركع، فهل يقطع أو يشفعها؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "الكتاب". أحدهما: أنه يقطع. والثاني: أنه يشفع، وهذا الذي استحسنه ابن القاسم. فإن ذكرها في فرض: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون إمامًا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (572)، ومسلم (684) من حديث أنس بن مالك. (¬2) انظر المدونة (1/ 129). (¬3) في أ: الأولى. (¬4) انظر: المدونة (1/ 129).

والثانى: أن يكون مأمومًا. والثالث: أن يكون فذًا. فإن كان إمامًا فإنه يقطع ما هو [فيه] (¬1) من الصلاة، وهل ذلك بسلام أو بغير سلام؟ قولان قائمان من "المدونة" (¬2): وهل تبطل صلاة من خلفه [من المأمومين] (¬3) أم لا؟ [فالمذهب على قولين منصوصين] (¬4) في "المدونة" (¬5): أحدهما: أن صلاتهم باطلة، ويقطعون. [وإن] (¬6) كان بعد الفراغ أعاد [أبدًا] (¬7)، وهو قوله في "كتاب الحج". والثاني: أن صلاتهم جائزة، وهو [نص] (¬8) قوله [في الكتاب] (¬9) أيضًا في "كتاب الصلاة الثاني" من "المدونة" إذا كان ذلك بعد الفراغ، ويلزم مثل ذلك [إذا ذكرها] (¬10) في أثناء الصلاة [و] (¬11) على القول بأن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: المدونة (1/ 132). (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: قولان منصوصان. (¬5) انظر: المدونة (1/ 133). (¬6) في ب: فإن. (¬7) سقط من أ، جـ. (¬8) سقط من ب، جـ. (¬9) سقط من ب، جـ. (¬10) سقط من أ، ب. (¬11) سقط من أ، ب.

صلاتهم جائزة [فإنهم] (¬1) يستخلفون من من يتم [بهم] (¬2) بقية الصلاة كالحدث، وهو قول سحنون في غير "المدونة" (¬3). وسبب الخلاف: [اختلافهم في] (¬4) صلاة المأموم، هل هي مرتبطة بصلاة [إمامه] (¬5) أم لا؟ فإن كان مأمومًا فذكر صلاة نسيها [وهو] (¬6) خلف الإِمام فهل يقطع أو يتمادى مع الإِمام؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يتمادى مع الإِمام، فإذا سلم صلى التي نسى، ثم أعاد التي صلى مع الإِمام إن أدرك وقتها. والثاني: التفصيل بين أن يذكر صلاة خرج وقتها، مثل أن يذكر الصبح في وقت الظهر، فليتمادى مع الإِمام، أو يذكر صلاة [بقى] (¬7) وقتها، مثل أن يذكر الظهر في وقت العصر فإنه يقطع ما هو فيه -كان على شفع منها أو على وتر- لأن الصلاة التي هو فيها مع الإمام نافلة له، والمبادرة إلى فعل الفريضة في وقتها أولى من اشتغاله بالنافلة، وهو مذهب ابن حبيب (¬8). وسبب الخلاف: إذا ذكر صلاة في صلاة هل يؤثر ذلك في [فساد] (¬9) ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) انظر: النوادر (1/ 338). (¬4) سقط من أ. (¬5) في جـ: الإمام. (¬6) سقط من ب. (¬7) في أ، ب: في. (¬8) النوادر (1/ 336). (¬9) في ب: بطلان.

التي هو فيها أم لا؟ فمن رأى أنه يؤثر في [فسادها] (¬1) جاء من ذلك ما قال ابن حبيب. ومن رأى أنه لا يؤثر في فساد التي هو فيها. جاء من ذلك ما قال ابن القاسم من أنه يتمادى مع الإمام. [وعلى القول بأنه يتمادى مع الإمام] (¬2) فإذا قضى الصلاة التي نسيها، فنسى [أن يعيد] (¬3) التي صلى مع الإمام حتى خرج وقتها، فهل يعيدها بعد ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين في "المدونة" (¬4): أحدهما: أنه يعيد أبدًا، وهو قول ابن حبيب، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" في الفَّذ إذا ذكر صلاة [ق/ 45 أ] في صلاة، وهو منها على [ثلاثة] (¬5) حيث قال: يقطع بعد ثلاث أحب إلى، فيكون للذكر تأثير في فساد التي هو فيها. والثاني: أنه لا يعيدها إذا خرج وقتها، وهو قول سحنون، وهو ظاهر قول مالك في "المدونة". وسبب الخلاف: ما تقدم [أيضًا] (¬6). واختلف أيضًا إذا ذكر الوتر في صلاة الصبح، هل يقطع أو يتمادى؟ فعن مالك في "المدونة" قولان. ¬

_ (¬1) في ب: فساد التي هو فيها. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) انظر: المدونة (1/ 129، 130). (¬5) في ب: ثلاث. (¬6) زيادة من ب.

وسبب الخلاف: هل يغلب ثواب الصبح في الجماعة على فضل صلاة الوتر، أو يغلب فضيلة الوتر على فضيلة الجماعة، وهو [الصبح] (¬1) وذلك أن الوتر مختلف فيه، هل هو واجب أو سنة، وصلاة الجماعة مختلف فيها هل هي من الرَّغَائِب أو من السنن؟ فإن كان فَذًا فلا يخلو من أن يذكر صلاة في صلاة، فإن ذكر صلاة في صلاة، فإن كان قبل أن يركع، فهل يقطع أو يأتي بركعتين؟ قولان قائمان من "المدونة" (¬2): أحدهما: أنه يقطع بسلام، وهو نص "الكتاب" [ق/ 22 ب]. والثاني: أنه يأتي بركعتين ويُسَلِّم. [و] (¬3) في المسألة قول [ثالث] (¬4) بالتخريج أنه يتمادى على صلاته حتى يتمها. ووجه القول بالتمادي [إلى آخر الصلاة] (¬5) بناء على أن الذكر لا يبطل الصلاة. ووجه قول من قال: أنه يتمادى إلى ركعتين [ثم يسلم] (¬6) بناء على أن الإحرام ركن يبنى عليه، ومنعه التمادي بناء على أن للذكر تأثيرا في فساد الصلاة. ووجه القول بأنه يقطع؛ بناء على أن الإحرام عنده ليس بركن يبنى ¬

_ (¬1) في جـ: الصحيح. (¬2) انظر: المدونة (1/ 129). (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) سقط من أ، ب. (¬5) سقط من أ، ب. (¬6) سقط من أ، ب.

عليه. فإن كان بعد ما صلى منها ركعة فهل يقطع أو يشفعها؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" (¬1): أحدهما: أنه يقطع [ولا يشفعها] (¬2) وهو قول منصوص [في المذهب قائم من "المدونة"] (¬3) من قوله: إذا ركع يضيف إليها ركعة أخرى أحب إليَّ إشارة إلى جواز القطع فيها بعد ركعة. والثاني: أنه يشفعها بركعة ويسلم، وهو [نصه] (¬4) في "الكتاب". [فإن] (¬5) كان ذلك بعد ثلاث ركعات، هل يأتي برابعة أو يسلم؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أنه يأتي بالرابعة، وهو قول مالك. والثاني: أنه يقطع، وهو قول ابن القاسم. وهذا كله يدور على النكتة التي قَدَّمْنَاها هل للذِّكر تأثير في فساد الصلاة التي هو فيها أم لا؟ فمن رأى أنه لا تأثير له في البطلان قال: يتمها [أربعًا] (¬6). ومن رأى أنه يؤثر في البطلان قال: يقطع بعد ثلاث ركعات ويشفعها إن كان [منها] (¬7) على ركعتين وتكون نافلة؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 130). (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: في المدونة قائم من قوله في المدونة. (¬4) في ب: قوله. (¬5) في ب: وإن كان. (¬6) سقط من ب. (¬7) سقط من ب.

أَعْمَالَكُمْ} (¬1). ويمنع من التمادي إلى آخر الصلاة [فيكون] (¬2) [ق/ 35 جـ] للذكر تأثير، فيركب على كل شائبة مقتضاها. فإن كانت صلوات كثيرة: [فإنه] (¬3) يتمادى على ما هو [فيه] (¬4) على ما سنبينه في التفصيل بين اليسير والكثير [إن شاء الله, وأما إن ذكرها في غير الصلاة: إلا أنه ذكرها في وقت الصلاة، فهل يبتدئ بالحاضرة أو بالمنسية؟] (¬5) فإن فيه تفصيلًا وتحصيلًا [يفسر على تمهيد قاعدة] (¬6) في ترتيب الصلوات: فنقول وبالله التوفيق: ترتيب الصلوات ينقسم [على] (¬7) أربعة أقسام: أحدها: ترتيب ما هو في وقتها من الصلوات. والثاني: ترتيب ما فات وقته [من الصلوات. والثالث: ترتيب ما فات وقته مع ما حضر وقته] (¬8). والرابع: ترتيب ما فات وقته مع ما فعل في وقته. فالجواب عن القسم الأول: وهو ترتيب ما فعل في وقته من الصلوات؛ ¬

_ (¬1) سورة محمَّد الآية (33). (¬2) في أ: ليكون. (¬3) في أ: فلا. (¬4) في أ: فيها. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) فى جـ: إلي. (¬8) سقط من ب.

مثل أن ينسى الظهر [والعصر] (¬1) إلى أن يبقى [للغروب] (¬2) قدر ركعة واحدة، فإنه يبدأ بالظهر على العصر، وإن كان لا يدرك العصر إلا بعد الغروب، وهكذا المغرب والعشاء، ولا خلاف في المذهب في ذلك؛ لأن الترتيب واجب مع الذكر. وهكذا [الجواب في] (¬3) القسم الثاني: في ترتيب المنسيات فيما بينهن إذا صلى الثانية قبل الأولى ناسيًا، فإنه يصلي الأولى [ويعيد] (¬4) الثانية اتفاقًا. فإن فعل ذلك عامدًا، مثل أن يكون نسى الصبح والظهر، أو الظهر والعصر، فيذكر ذلك بعد أيام، فيصلي الظهر وهو ذاكر الصبح. [واختلف في ذلك على] (¬5) ثلاثة أقوال (¬6): أحدها: أنه لا إعادة عليه في الصلاة التي قد [صلى] (¬7)؛ [لأنه] (¬8) إذا صلاها [فقد] (¬9) خرج وقتها فكأنه قد وضعها [في] (¬10) موضعها, ثم لا إعادة عليه بعد خروج وقتها. ولا فرق بين أن يكون [ذكرها] (¬11) قبل الشروع في الثانية أو بعد الشروع فيها. وهذا القول مروي عن ابن القاسم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: للمغرب. (¬3) سقط من أ. (¬4) فى جـ: ولا يعيد. (¬5) في ب: ففي ذلك. (¬6) انظر: المدونة (1/ 131). (¬7) فى جـ: صلاها. (¬8) في أ، ب: فإنه. (¬9) سقط من ب. (¬10) سقط من أ، ب. (¬11) سقط من أ، ب.

والثانى: أنه يعيدها جملة [ولا فرق] (¬1). والثالث: التفصيل بين أن يدخل في الثانية وهو ذاكر للأولى، أو يذكرها بعد الإحرام في الثانية؛ [فإن ذكرها بعد الإحرام في الثانية] (¬2) [فإنه] (¬3) [يعيد] (¬4) أبدًا. [فإن] (¬5) ذكرها قبل الشروع فيها: فلا إعادة عليه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" (¬6)؛ لأنه قال فيمن نسى الصبح والظهر ثم ذكر الظهر فلما دخل فيها ذكر الصبح: [فالظهر فاسدة عليه] (¬7)، وهذا يقتضي [إعادتها] (¬8) أبدًا. وقال فيمن صلى صلوات [كثيرة] (¬9) وهو ذاكر لصلاة: أن صلاته جائزة، ويعيد ما أدرك وقته مما صلى، وهذا [القول صحيح في النقل بعيد في المعنى. وسبب الخلاف: هل الترتيب بين الصلوات المفروضة من شروط صحة الصلاة أم لا؟ فمن رأى أنه من شروط صحتها أوجب أن يعيد أبدًا] (¬10) شرط في صحتها أوجب أن يعيد أبدًا، وهذا الذي ذهب إليه القاضي أبو محمد عبد الوهاب أن الترتيب عنده شرط من شروط [صحة] (¬11) الصلاة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: لأنه. (¬4) فى جـ: يعيدها. (¬5) في ب: وإن. (¬6) انظر: المدونة (1/ 131). (¬7) في ب، جـ: فسدت الظهر عليه. (¬8) في ب: الإعادة. (¬9) سقط من أ. (¬10) سقط من أ. (¬11) سقط من أ، ب.

فمن رأى أنه ليس من شروط صحتها قال: [لأنه] (¬1) ليس في تقديم ما هو في وقتها أكثر من تأخير الثانية عن وقتها، وذلك لا يمنع صحتها، وهي رواية مُطَرِّف وعبد الملك بن الماجِشُون عن مالك. والجواب عن القسم الثالث: في ترتيب ما فات [وقتها] (¬2) مع ما هو في [وقتها] (¬3) هل يبدأ بالفوائت أو يبدأ بما هو في [وقتها] (¬4)؟ فالمذهب على أربعة أقوال (¬5): أحدها: أنه يبدأ بالفوائت على ما هو في [وقتها] (¬6) قلَّت أو كثرت إذا كان يأتي بجميعها مرة واحدة، وهو قول محمد بن مسلمة -من أصحاب مالك [رضي الله عنه] (¬7). والثاني: أنه يبدأ بالتي حضر وقتها، وإن كانت المنسية صلاة واحدة، وهو قول ابن وهب -من أصحاب مالك أيضًا. والثالث: أنه مخير بالتبدئة بالفوائت أو بالتي حضر وقتها، وهو قول أشهب، [قال] (¬8): وذلك واسع لاختلاف أهل العلم في ذلك. والرابع: [بالتفصيل] (¬9) بين أن تكون [المنسيات] (¬10) يسيرة أو كثيرة. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في أ، ب: وقته. (¬3) في أ، ب: وقته. (¬4) في أ، ب: وقته. (¬5) انظر: المدونة (1/ 131, 132) , والنوادر (1/ 337, 338). (¬6) في أ، ب: وقته. (¬7) في ب: رحمه الله. (¬8) سقط من ب. (¬9) في ب: التفصيل. (¬10) سقط من ب.

فإن كانت يسيرة بدأ بهن على الحاضرة وإن خرج وقتها. وإن كانت كثيرة بدأ بالتي [حضر وقتها] (¬1) وهي رواية ابن القاسم عن مالك في "المدونة" (¬2). وعلى القول بالتفصيل بين [اليسير والكثير] (¬3)، [فما] (¬4) حد [اليسير] (¬5) من [الكثير] (¬6): فتحصيل المذهب أن لَّا خلاف في الأربعة أنها في حيز اليسير، ولا خلاف في الستة أنها في حيز الكثير. واختلف في الخمس هل هي في حَيِّز اليَسِير أو حَيِّز الكثير؟ [فالمذهب] (¬7) على قولين: أحدهما: أن الخمس في حيز اليسير، وهو مذهبه في "المدونة" (¬8) لأنه قال: الصلاتين [والثلاثة] (¬9) وما قَرب [من ذلك] (¬10). فما قرب [من ذلك] (¬11) هي [الخمس] (¬12)، وهي رواية ابن سحنون عن أبيه (¬13). ¬

_ (¬1) في ب: حضرت. (¬2) انظر: المدونة (1/ 131). (¬3) في ب: الصلوات اليسيرة والكثيرة. (¬4) في أ: وما. (¬5) في ب: اليسيرة. (¬6) في ب: الكثيرة. (¬7) سقط من ب. (¬8) انظر: المدونة (1/ 131). (¬9) في أ: الثلاث. (¬10) سقط من ب. (¬11) زيادة من ب. (¬12) في أ: الخامسة. (¬13) النوادر (1/ 335).

والثاني: أن الخمس في حَيِّز الكثير، وهي رواية ابن القاسم عن مالك في غير "المدونة" (¬1). فوجه القول الأول: أنه عدد لا تتكرر فيه الصلاة؛ فكان في حيز القليل كالاثنين والثلاث. ووجه القول الثاني: أن الترتيب في [الصلاة] (¬2) مقيس على الترتيب في الركعات، وأكثرها أربعًا. ومن أصحاب المذهب من حكى ذلك إجماعًا؛ فقال: الأصل يقتضي تبدئة الفوائت -قلّت أو كثرت- لقوله [عليه السلام] (¬3): [من نام عن صلاة أو نسيها] (¬4) فليصلها [إذا] (¬5) ذكرها؛ فإن ذلك وقت لها (¬6). و [الصلوات] (¬7) من ألفاظ العموم، إلا أن الإجماع خصص من هذه الصلوات الكثيرة، وبقى الحديث مستعملًا في اليسير. فإن أراد بالصلوات الكثيرة هاهنا، ما إذا اشتغل بقضائها استغرق الزمان حتى لا يتفرغ للتي حضر وقتها؛ مثل من عليه [صلاة] (¬8) أعوام فيسلم له الإجماع. وإن أراد بالكثيرة دون ما [قدرناه] (¬9) [بحيث] (¬10) لو اشتغل بها ¬

_ (¬1) النوادر (1/ 334، 335). (¬2) في ب: الصلوات. (¬3) في ب: صلى الله عليه وسلم. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ، جـ: حين. (¬6) تقدم. (¬7) في أ، ب: الصلاة. (¬8) في ب: صلوات. (¬9) في ب: قدمناه. (¬10) في أ: مما.

لفرغ منها، واستدرك بعد ذلك وقت الحاضرة: فالخلاف فيه في المذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه يبدأ بالحاضرة [إن] (¬1) كان الوقت متسعًا للجميع، فإذا صلاها صلى الفوائت، فإن فرغ منها، وقد بقى من الوقت شيء أعاد التي صلى في الوقت استحبابًا، وهو قوله في "المدونة" (¬2). والثاني: أنه يبدأ بالفوائت إذا كان يفرغ [منها] (¬3) ويدرك [الظهر] (¬4) في وقت الصلاة المفروضة، وهو قوله ابن حبيب. والثالث: أنه يبدأ بالفوائت، وإن كان لا يدرك وقت الحاضرة إلا عند الاصفرار، وهي رواية [ابن] (¬5) أبي زيد عن ابن القاسم (¬6). والرابع: أنه يبدأ بهن، وإن كان لا يدرك وقت الحاضرة إلا عند الغروب، وهي رواية سحنون (¬7). وسبب الخلاف: في أصل المسألة هل يشبه القضاء بالأداء في الترتيب أم لا؟ وهل الترتيب في الأداء مُعتبر بالزمان [أو] (¬8) مُعتبر بالفعل؟ فمن رأى أن الترتيب مُعتبر بالزِّمان قال: لا يفعل إلا مرتبًا؛ لاختصاص [الصلوات] (¬9) بأوقاتها وأزمانها؛ لم يَقِس القَضَاء على ¬

_ (¬1) في ب: فإذا. (¬2) انظر: المدونة (1/ 131). (¬3) في أ: منهن. (¬4) في ب: الحاضرة. (¬5) سقط من ب. (¬6) النوادر (1/ 334، 335). (¬7) النوادر (1/ 335). (¬8) في ب: أم. (¬9) في ب: الصلاة.

الأَدَاء؛ لأن القضاء ليس له وقت مخصوص. ومن رأى أن الترتيب في [الصلوات] (¬1) مُعتبر بالفِّعل، وإن اتَّحد الزَّمان، كالجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما: شَبَّه القضاء بالأداء، أو قَاسَه عليه، ومن رأى وجوب الترتيب من جهة الزمان لا من جهة الفعل, لقوله [عليه السلام] (¬2) "فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقت لها" (¬3) فجعل وقت المنسية وقت الذكر، فذلك طمع في غير مطمع، والحلول بواد غير ذي زرع؛ لأنه إن كان وقت الذكر وقتًا للمنسية فهو بعينه وقت للحاضرة. فلم يبق إلا اعتبار الزمان من جهة الجملة، لا من قوله عليه السلام [ق/ 46 أ] "فإن ذلك وقت لها" (¬4)، فمن ضرورة اعتبار الزمان [وجوب] (¬5) الترتيب؛ كالترتيب الذي يوجد في [أجزاء] (¬6) الصلاة الواحدة. وهذا أشْبَه وَأَبْيَن، وإنما صار الجميع إلى استحسان الترتيب في المنسيات إذا لم يخش فوات وقت الحاضرة -على الخلاف الذى قدمناه في ذلك الوقت ما هو أَبْيَن [على خلاف ما احتج به] (¬7) ابن حبيب وغيره بحديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم الخندق أربع صلوات مرتبًا؛ لأنه صلى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء في وقت العشاء، ثم طاف ¬

_ (¬1) في أ، ب: الصلاة. (¬2) في ب: صلى الله عليه وسلم. (¬3) تقدم. (¬4) تقدم. (¬5) في أ: وجود. (¬6) في أ: آخر. (¬7) سقط من أ، جـ.

فصل

[علينا] (¬1) فقال: "ما على الأرض عصابة يذكرون الله غيركم" (¬2) رضي الله عنهم، وأرضاهم. الجواب عن القسم الرابع: في ترتيب الفوائت مع ما فعل في وقته من الصلوات؛ مثل أن يصلي ثم يذكر صلوات نسيها، فإن فرغ منها بعد الغروب [فلا] (¬3) خلاف في المذهب أنه لا يعيد الظهر. فإن فرغ منها وقد بقى وقت صلاة الظهر: فإنه يعيدها في الوقت. وهل ذلك إيجابًا أو استحبابًا؟ ففي المذهب قولان؛ والمشهور: أنه يعيد على معنى الاستحباب. وهذا الباب فروعه كثيرة ومسائله متشعبة لكنها مذكورات في [شروحات المذهب] (¬4) فأغنى ذلك عن ذكرها، وإنما الغرض في هذا المجموع تحصيل ما يُحتاج إلى تحصيله. فصل [وأما] (¬5) المتروكات عمدًا، فهل تقضى أم لا؟ فمذاهب فقهاء الأمصار: [رضوان الله عليهم] (¬6): أنه إثم، وأن القضاء عليه واجب. ¬

_ (¬1) في أ، ب: عليهم. (¬2) أخرجه الترمذي (179)، والنسائي (622)، وأحمد (4003) من حديث عبد الله ابن مسعود. قال الترمذي: حديث عبد الله ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله. وضعفه العلامة الألباني في الإرواء. (¬3) في ب: ولا. (¬4) في أ، ب: شرح المهذب. (¬5) في أ: و. (¬6) زيادة من ب.

وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنها لا تقضى، وأنه مأثوم. ومثار الخلاف في هذه المسألة ينبني على قاعدتين: إحداهما: [إثبات جواز القياس] (¬1) في الشرع. والثانية: قياس العامد على الناس إذا سلم جواز القياس. وأما جواز القياس في الشرع: فجمهور المسلمين على جوازه ووقوعه، وقد استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم -[و] (¬2) الصحابة [من] (¬3) بعده، والعلماء، إلى هَلُم جَرّا. والرَّدُ على مُنْكريه مُحَال على فَنّ الأصول (¬4). وأما القاعدة الثانية: [وهي] (¬5) قياس العامد على الناسي؛ لأن الناسي محل الإجماع، فهل يقاس عليه العامد أم لا؟ فبين العلماء قولان: وينبني الخلاف: على الخلاف في وجوب القضاء على الناسي هل هو من باب التَّغْليظ أو من باب الرفق والرخصة فمن رأى أنه من باب التغليظ [يقول] (¬6) بجواز القياس؛ لأن العامد أولى بأن نُورد عليه بالتغليظ من الناسي، فيجوز القياس لأن ذلك من باب أولى. ومن رأى أن ذلك من باب الرِّفق والرُّخصة [يقول] (¬7): لا يقاس ¬

_ (¬1) في أ: جواز إثبات القياس. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: وأصحابه. (¬4) انظر: نهاية السول (3/ 5) والمنتهى (173) والإبهاج (3/ 5) والمستصفى (2/ 234) وفواتح الرحموت (2/ 310). (¬5) في أ: وهو. (¬6) في ب: قال. (¬7) في ب: قال.

عليه العامد؛ لأن الناسي معذور بالنسيان والعامد مختار للترك، فلا جمع ولا مناسبة ولا إحالة [بينهما؛ لأن العمد والنسيان ضدان، والضدان لا يصلح الجمع بينهما إنما يقاس الأشبه على الأشبه؛ لأن الشيء يأوي إلى شبيهه] (¬1) وينحو عن ضده، ولاسيما على القول بأن القضاء إنما يجب بأمر متجدد لا بأمر الأداء؛ فعلى هذا يكون العامد مأثومًا ولا يجزئه القضاء؛ لأن قصده إلى ترك الصلاة بغير عذر من أعظم المآثم كيمين الغموس التي هي أعظم من أن تُكَفَّر، والله الموفق للصواب. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة السادسة فى السهو فى الصلاة

المسألة السادسة فى السهو فى الصلاة والسهو في الصلاة ينقسم [على] (¬1) قسمين: السهو عنها جملة، أو السهو عن بعضها. فأما السهو عنها جملة: ففي المسألة التي فرغنا منها آنفًا. وأما السهو عن بعضها، وفي أثنائها فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم منها لا يجوز فيه سجود السهو؛ وهي الفرائض. وقسم منها لا يجب فيه سجود السهو؛ وهي الفضائل. وقسم منها يشرع فيه سجود السهو؛ وهي السنن. وإن قوله عليه السلام [ق/ 36 جـ] "في كل سهو سجدتان" (¬2) ليس على عمومه، والصلاة تشتمل على أفعال وأقوال، فجميع أفعالها فرض [حاشا] (¬3) ثلاثة: رفع اليدين في الإحرام، والتيامن في السلام، والجلسة [الوسطى] (¬4)، واختلف في الرابع، وهو الرفع من الركوع، قيل: إنه فرض، وقيل: إنه سنة. وسبب الخلاف: ما قدمناه [في غير هذه المسألة] (¬5). وجميع أقوالها سنة وفضيلة [حاشا] (¬6) ثلاثة: الإحرام [في الصلاة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه أبو داود (1038) وابن ماجة (1219)، وأحمد (21911)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله تعالى. (¬3) في ب: إلا. (¬4) في ب، جـ: الأولى. (¬5) سقط من ب. (¬6) في ب: إلا.

] (¬1) وقراءة أم القرآن، والسلام، وهذا على المشهور [والساهي لا يخلو من أن يكون إمامًا أو فذًا، فإن كان مأمومًا فهو يحمله عنه الإمام، وسهو الإمام يلزم من شهد معه ممن لم يسه معه] (¬2). وقد حَصَّل بعض المتأخرين القول في هذا الوجه بعبارة سديدة وَمَعَان مُفِيدة، وقال: كل ما يحمله الإمام عمن خلفه فسهوه عنه سهوًا لهم، وإن فعلوه، وكل ما [لا] (¬3) يحمله الإمام، فلا يكون سهوه سهوًا لهم إذا فعلوه إلا في النية وتكبيرة الإحرام؛ لأنهم إذا فارقوه في النية والإحرام لم يدخلوا معه في الصلاة. فإن كان فذًا فلا يخلو سهوه من وجهين: أحدهما: أن يكون سهوًا يوقن به. والثاني: أن يكون سهوًا يشك فيه. فالذي يوقن به على وجهين: زيادة ونقصان، والذي يشك فيه أيضًا على وجهين: زيادة ونقصان، فهذه أربعة أوجه: وقد يجتمع في السهو اليقين بزيادة ونقصان في الصلاة الواحدة، وقد يشك فيهما جميعًا، وقد يشك في الزيادة ويوقن بالنقصان، وقد يشك في النقصان، ويوقن بالزيادة، فهذه أربعة أوجه أيضًا [فصارت المسألة] (¬4) ودارت على ثمانية أوجه: فالجواب عن الوجه الأول: وهو السهو بالزيادة: لا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون في الأفعال. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

والثانى: أن يكون في الأقوال. فإن كان في الأفعال: فلا يخلو أيضًا من وجهين: إما أن يكون من جنس أفعال الصلاة، أو من غير جنسها. فإن [كان] (¬1) من جنس أفعال الصلاة؛ مثل أن يزيد في [عدد] (¬2) ركعات [الصلاة] (¬3) فلا يخلو ما زاده من أن يكون مثل صلاته أو أقل. فإن زاد مثل صلاته؛ مثل أن يصلي الظهر ثماني ركعات، أو صلى صلاة هي ركعتان أربعًا: فلا خلاف -أعلمه- في المذاهب أن صلاته باطلة، وأنه يعيدها, ولا يجزئ عنه السجود [وقد قيل: بجواز صلاته: وهي رواية مطرف عن مالك، ورواية عيسى عن ابن القاسم على ما ذكره الشيخ أبو الحسن اللخمي، والقاضي أبو الفضل واستقرأ بعض المتأخرين فيمن شفع وتره ساهيًا: أنه قال: يسجد بعد السلام، وهذا الاستقراء ذكره أبو الفضل] (¬4) [فإن] (¬5) زاد دون المثل؛ مثل أن يزيد ركعة على أربع، أو على ثلاث: فلا خلاف في المذهب أيضًا أنه يجزئه السجود. واختلف فيمن صلى وزاد نصف صلاته، أو صلى المغرب خمس ركعات، هل يسجد أو يعيد؟ على قولين (¬6): أحدهما: أنه يعيد، وبه قال ابن كنانة، وابن نافع، وعبد الملك. ¬

_ (¬1) في أ: كانت. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ، جـ. (¬5) في ب: وإن. (¬6) النوادر (1/ 361).

والثاني: أن السجود يجزئه ولا يعيد، وهو قول مُطَرِّف، وأشهب، وابن عبد الحكم، وأصبغ، وروى مثله عن ابن القاسم. وسبب الخلاف: [هل] (¬1) الاعتبار بِقلة السّهو وكثرته، أو الاعتبار بعدد الركعات المُزَادَة؟ فمن رَاعَى اعتبار قِلَّة السَّهو وكثرته كان ينبغي له [أن لا] (¬2) يُفَرِّق بين زيادة الرّكعة ولا [الركعتين] (¬3)؛ لأن زيادة الركعة على صلاة هي ركعتان سهو كثير [وزيادة ركعتين على صلاة هي أربعة سهو كثير] (¬4) وإلى هذا ذهب عبد الملك في "النوادر" (¬5). ومن اعتبر عدد الركعات المزادة، ورأى أن النصف في حيز الكثير، فلا فرق عنده بين [النصف] (¬6) [وغيره] (¬7)؛ لأن ركعة من الصبح كركعتين من الظهر مثلًا؛ لأن اعتبار مجرد [الجزئية تقييد] (¬8) محض يفتقر إلى دليل، فلو أن الشَّارع قَيّد الزِّيادة بهذا القَدْر كان علينا الإذعان له سمعًا وطاعة؛ فكيف وهو من أقاويل العلماء المجردة عن المعاني الدالة على غرض [الشارع] (¬9) صاحب الشريعة [- صلى الله عليه وسلم -] (¬10) فإن كان ذلك من [غير] (¬11) ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: ألا. (¬3) في أ: ركبتين. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: النوادر (1/ 362). (¬6) في جـ: الصبح. (¬7) في أ: وغيرها. (¬8) سقط من أ. (¬9) سقط من أ. (¬10) زيادة من ب. (¬11) سقط من أ.

جنس أفعال الصلاة: فلا يخلو أيضًا من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك كثيرًا. والثاني: أن يكون يسيرًا. فإن كان كثيرًا، مثل أن يأكل أو يخيط ثوبه، فيطول ذلك: فصلاته باطلة ولا يجزئه السجود. فإن كان يسيرًا: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: [أحدها:] (¬1) أن يكون مما يجوز له فعله في الصلاة. [والثاني: أن يكون] (¬2) مما يكره له فعله في الصلاة. والثالث: أن يكون مما لا يجوز له فعله في الصلاة. فالأول: مثل أن يَمُر بين يديه الحية والعقرب، فَيُرِيدَاه فيقتلهما وهو ناس أنه في الصلاة: فهذا لا سجود عليه، [وصلاته] (¬3) مجزئة. والثاني: أن يمر بين يديه حية أو عقرب، وهما لا يريدانه، فهل يسجد أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يسجد. والثاني: أن صلاته جائزة، ولا سجود عليه. والثالث: مثل أن ينسى أنه في الصلاة فيأكل أو يشرب، ولا يطول ذلك: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن صلاته فاسدة ويعيدها. ¬

_ (¬1) في أ: إما. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: فصلاته.

[والثاني: أن صلاته جائزة، ويسجد بعد السلام] (¬1). [والقولان] (¬2) قائمان من "المدونة": [فإن] (¬3) كان في الأقوال: فلا يخلو من وجهين أيضًا: أحدهما: أن يكون من جنس أقوال الصلاة. والثاني: أن يكون من غير جنسها. فإن كان من جنس أقوالها: مثل أن يقرأ السورة مع [أم القرآن] (¬4) في الركعتين الأخيرتين، أو يذكر الله فيما بين السجدتين على معنى السهو، فهل يسجد أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" (¬5): أحدهما: أن يسجد، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الصلاة الثاني" من "المدونة": إذا قدم أُمّ القرآن على التكبير في صلاة العيدين. والثاني: أنه لا سجود عليه، وهو ظاهر قوله في [كتاب] (¬6) الصلاة لأول: إذا قدم السورة على أم القرآن [ق/ 23 ب]. فإن كانت من غير جنسها سجد بعد السلام. فهذا حكم الزيادة [في الصلاة] (¬7) على طريق السهو. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فالقولان. (¬3) في ب: وإن. (¬4) سقط من ب. (¬5) انظر: المدونة (1/ 133). (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

وأما الزيادة فيها على طريق العَمْد: فإن كانت من الأفعال التي هي من جنس أفعال الصلاة، أو في الأقوال التي ليست من جنس أقوال الصلاة، مثل أن يزيد في صلاته ركعة أو سجدة عامدًا، أو تكلم عامدًا بغير إصلاح صلاته: فصلاته باطلة بالاتفاق من غير اعتبار بالقلة أو بالكثرة. ولو كانت في الأفعال التي ليست من جنس أفعال الصلاة؛ مثل أن يناول بيده شيئًا، أو دفعه عمدًا: فصلاته باطلة في الكثير دون القليل. وإن كانت في الأقوال التي هي من جنس أقوال الصلاة؛ مثل أن يكبر أو يهلل أو يُسَبِّح في غير محله، فقيل: إن صلاته باطلة، وقيل: إنها جائزة. وأما السهو في النقصان: فلا يخلو من أن يكون في الأقوال أو في الأفعال. فإن كان في الأفعال، مثل نسيان الجلسة الأولى: فإنه يسجد [لها] (¬1) قبل السلام، وتجزئه صلاته. فإن كل في الأقوال؛ كقراءة السورة التي مع أم القرآن، أو ثلاث تكبيرات فأكثر: فإنه يسجد [ق/ 47 أ] قبل السلام [أيضًا] (¬2). واختلف إذا نسى تكبيرة واحدة، أو سمع الله لمن حمده [مرة واحدة] (¬3) أو التشهد، هل يسجد أم لا؟ [فالمذهب (¬4) على قولين منصوصين في "المدونة" (¬5): ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من ب. (¬5) انظر: المدونة (1/ 137).

فصل

أحدهما: أنه يسجد. والثاني: أنه لا يسجد، وتجزئه صلاته. وسبب الخلاف: تكبيرات الصلاة، هل كل تكبيرة سنة على حالها، أو جملة [التكبير] (¬1) سنة واحدة؟ فمن رأى أن كل تكبيرة منها سنة قال: يسجد في الواحدة، وما كثر يعيد منه الصلاة؛ لكثرة السهو. ومن رأى أن جملة التكبير سنة: لم ير السجود على من ترك تكبيرة واحدة. فهذا حكم النقصان على طريق السهو. وأما على طريق العمد: فلا يخلو من أن يترك سنة، أو سننًا. فإن ترك سنة واحدة عامدًا، كالسورة التي مع أم القرآن، أو ترك الإقامة: فقيل: يستغفر الله، ولا شيء عليه، و [قيل] (¬2) يعيد أبدًا. [وقيل: يسجد قبل وهذا القول نقله ابن الجلاب وهو غريب فى المذهب] (¬3). وسبب الخلاف: المتهاون بالسنن، هل هو كتارك الفرض أم لا؟ فإن كانت سننًا: فإنه يعيد الصلاة فصل وأما إذا اجتمعت عليه الزيادة والنقصان: فلا خلاف أن أحد السهوين داخل في الآخر. ¬

_ (¬1) في ب: التكبيرات. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ، ب.

وإنما الخلاف [فيمن] (¬1) يغلب هل قبل أو بعد؟ [فالمذهب] (¬2) على قولين [قائمين] (¬3) من المدونة: أحدهما: أنه يسجد قبل السلام، وهو المشهور من المذهب، وهو قوله في "المدونة" (¬4) فيمن سها فصلى نافلة [أربع ركعات] (¬5) قال: يسجد قبل السلام؛ لأنه زاد ونقص؛ والزيادة: الركعتان، والنقصان: هو الجلوس على ركعتين. والثاني: أنه يسجد بعد السلام، وهي رواية عليّ بن زياد عن مالك، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة فيمن سها فصلى نافلة خمس ركعات، [فقال] (¬6) ابن القاسم: يسجد بعد السلام. والقولان منصوصان عن مالك فى "العتيبة" (¬7). وينبني الخلاف: على الخلاف في أصل سجود السهو، هل السجود كله قبل السلام -وهو مذهب الشافعي (¬8) - أو السجود كله بعد السلام -وهو مذهب أبي حنيفة (¬9) - أو التفصيل بين الزيادة: فيسجد فيه بعد السلام، وفي النقصان: فيسجد فيه قبل السلام -وهو مشهور مذهب مالك رحمه الله. ولأحمد بن حنبل [رحمه الله] (¬10) وأهل الظاهر فيها كلام غير هذا ¬

_ (¬1) في جـ: في أيهما. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: المدونة (1/ 132). (¬5) في ب: أربعًا. (¬6) في ب: حيث قال. (¬7) انظر: البيان والتحصيل (1/ 342)، والنوادر (1/ 362). (¬8) انظر: مختصر المزني (17). (¬9) انظر: الأصل (1/ 225). (¬10) سقط من ب.

وتغالى عبد العزيز بن أبي سلمة حتى قال: يسجد سجودين؛ للنقص سجدتان، وللزيادة سجدتان، والذي قاله مخالف للنقل، وموافق لدليل العقل. وأصح المذاهب في ذلك مذهب مالك رحمه الله؛ لأنه استعمل جميع أحاديث السهو، واستعمال الأحاديث مهما أمكن أولى [من الطرح] (¬1)؛ لأن الطرح فيما لم يثبت فيه نسخ يؤدي إلى تعطيل كلام صاحب الشريعة، ولا يفترق اليقين بالسهو مع الشك فيه إلا في موضعين: أحدهما: إن شك في [الزيادة الكثيرة في أفعال الصلاة] (¬2) فإنه يجزئ فيه [السجود] (¬3) باتفاق. بخلاف الذي يوقن بالزيادة الكثيرة، وقد قدمنا البيان في ذلك في أول المسألة. والموضع الثاني: أن الذي يكثر عليه السهو في الصلاة بخلاف [من] (¬4) يكثر عليه الشك في السهو؛ لأن الذي يكثر عليه السهو لابد له من الإصلاح. وإنما اختلف المذهب في [سجود] (¬5) السهو عليه، فقيل: يسجد، وقيل: لا يسجد. والذي يكثر عليه الشك في السهو يلهى عنه، [ولا ينبني] (¬6) على ¬

_ (¬1) في ب: من طرح بعضها، وفي الأصل: بالطرح. (¬2) في ب: زيادة الكثير في الصلاة. (¬3) في ب: سجود السهو. (¬4) في ب: الذي. (¬5) في جـ: وجوب. (¬6) في ب: وينبني.

يقين، ويسجد للسهو قبل أو بعد على حسب اختلاف [أحوال] (¬1) السهو من زيادة أو نقصان. فهذا تحصيل المذهب في مسائل السهو على الجملة، ونحن نقتفي مسائل الكتاب مسألة بعد مسألة إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة السابعة إن نسي السجود من الأولى والركوع من الثانية، أو نسي السجود من الأولى وذكره وهو في الثانية

المسألة السابعة إن نسي السجود من الأولى والركوع من الثانية، أو نسي السجود من الأولى وذكره وهو في الثانية فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يذكر وهو قائم في الثانية. والثاني: أن يذكر وقد رفع من ركوعها. فإن ذكر، وهو قائم في الثانية: فلا خلاف أنه يرجع إلى إصلاح الأولى. فإن ذكر وقد رفع من ركوعها: فلا خلاف أيضًا أن الأولى باطلة، وعادت الثانية أول صلاته. فإن ذكر وهو راكع [ق/ 37 جـ] في الثانية هل يرجع إلى إصلاح الأولى، أو تكون الأولى فاسدة؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" (¬1): أحدهما: أن الأولى باطلة، والثانية أول صلاته. والثاني: أنه يرجع إلى إصلاح الأولى ويبنى عليها. والقولان عن مالك. قال ابن المواز (¬2): المصلي مخير بين أن يمضي على التي هو فيها، أو ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 137). (¬2) انظر: النوادر (1/ 363).

[يعود] (¬1) إلى إصلاح الأولى. ويعد هذا القول قول ثالث في المسألة؛ فيتحصل فيها ثلاثة أقوال؛ القولان الأولان مبنيان، والثالث تردد. وسبب الخلاف: عقد الركعة هل هو وضع اليدين على الركبتين أو رفع الرأس منها؟ وعلى القول بأنه يرجع إلى إصلاح الأولى ما لم يرفع رأسه من ركوع الثانية، فهذا لا يخلو من أن ينسى سجدة واحدة أو سجدتين. فإن كان نسى سجدتين فهل يخر ساجدًا من الركوع أو يرفع حتى يستوي قائمًا ثم ينحط إلى السجود؟ فالمذهب على القولين: [أحدهما: أنه يخر ساجدًا من الركوع. والثاني: أنه لا ينحط إلى السجود وحتى يستوي قائمًا] (¬2). وسبب الخلاف: الحركة إلى الأركان، هل هي لازمة أو غير لازمة؟ فإن نسي سجدة واحدة: فإنه لا يعود إلى القيام؛ لأنه قد كان انحط إلى السجود من قيام، هكذا قال أبو الحسن اللخمي وغيره من متأخري المذهب؛ فكأنه يرى أن الرجوع إلى القيام بعد الركن زيادة مستغنى عنها، فلا يجوز له التعمد إليها. واختلف هل ينحط إلى السجود أو يجلس ثم يسجد؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": ¬

_ (¬1) في ب: يرجع. (¬2) سقط من جـ.

أحدهما: أنه يرجع إلى الجلوس ثم يسجد السجدة [التي بقيت عليه] (¬1)، وهو قول عبد الملك، وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب الصلاة الثاني" (¬2) في [الذي] (¬3) ترك [السجدة] (¬4) من الركعة، وقد قرأ أو ركع، ولم يرفع من الركعة التي تليها، قال: يرجع فيسجد السجدة التي نسى. قال بعض الشيوخ: هذا يدل على أنه يرجع إلى الجلوس ثم يسجد من جلوس. والثاني: أنه يخر ساجدًا ولا يرجع إلى الجلوس، وهو ظاهر قوله في "المدونة": فيمن ركع في الثانية، وقد نسى السجدة من الأولى، قال: يترك ركوعه الذي هو فيه، ويخر ساجدًا لسجدته التي نسى. وسبب الخلاف: الأصل الذي قدمناه -وهو الحركة إلى الأركان- هل هي لازمة أم لا؟ وأما إذا نسى السجود من الأولى، والركوع من الثانية وأتى بسجودها، هل يضيف سجود الثانية إلى الأولى، وتكون ركعة كاملة يبنى عليها أم لا؟ فعلى قولين قائمين من "المدونة" (¬5): أحدهما: أنه لا يضيف سجود الثانية إلى الأولى؛ وعَلَّل بأن نيته في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: المدونة (1/ 137). (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: السجود. (¬5) انظر: المدونة (1/ 137).

السجود إنما كانت للركعة الثانية، وهو نص ابن القاسم [في المدونة] (¬1). والثاني: أنه يضيف سجود الثانية إلى الأولى، وتصح له ركعة يبنى عليها. وهو قول محمد بن مسلمة فيمن سهى عن سجود [الرابعة] (¬2) وأتى بسجدتين من سهو دخل عليه في صلاته قبل السلام، ثم ذكر أنه [لم] (¬3) يسجد في الرابعة أن سجدتي السهو تجزآنه عن سجود الرابعة، فإذا كانت تجتزئ بسجدتي السهو عن سجدتي الركعة الواجبة كان سجود الثانية أحرى أن يجزئ عن سجود الأولى؛ لأنه فرض عن فرض، [وذلك] (¬4) نفل عن فرض. وسبب الخلاف: هل يفتقر المصلي إلى تجديد النية لكل رُكن من أركان الصلاة، أو النية [الأولى] (¬5) [منسحبة] (¬6) على جميع أركان الصلاة؟ فمرة رأى مالك أن المصلي يفتقر إلى تجديد النية لكل ركن. وهو قوله في هذه المسألة؛ لأن نيته إنما كانت للركعة الثانية. ومرة أخرى أن النية [الواحدة] (¬7) [مُنْسَحِبَة] (¬8) على جميع [أفعال] (¬9) الصلاة. ¬

_ (¬1) سقط من أ، وفي جـ: في الكتاب. (¬2) في جـ: الركعة. (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) في ب: وتلك. (¬5) في أ: الواحدة. (¬6) في جـ: مستصحبة. (¬7) في ب: الأولى. (¬8) فى جـ: مستصحبة. (¬9) سقط من ب.

وهو قوله في "باب قصر الصلاة" (¬1) في المسافر إذا افتتح على الإتمام، ثم بدا له فَسَلّم من ركعتين: لم تجزئه صلاته؛ لأن صلاته على أول نيته، وهذا ظاهر لا إشكال فيه على من شد طرفًا من معاني المدونة. فعلى القول بأنه لا يضيف سجود الثانية إلى الأولى: فإنه يسجد سجدتين يُحيى بهما الركعة الأولى، ويسجد بعد السلام؛ لأنه لم يحل بينه وبين إصلاحها عمل. فإن قرأ وسجد ونسى الركوع، أو ركع وسهى عن الرفع من الركوع، وانحط للسجود، فإن نسى [الركوع] (¬2) وذكر وهو ساجد: فإنه يرجع إلى الركوع. واختلف في كيفية الرجوع على قولين: أحدهما: أنه يرجع قائمًا ثم يركع. وهي رواية أشهب عن مالك. والثاني: أنه يرجع [محدوبًا] فيطمئن راكعًا، ثم يرجع، وتجزئه. وأما إن ركع وسهى عن الرفع من الركوع، وانحط للسجود: فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: جواز الصلاة، ولا يكلف الرجوع إلى القيام، وهو قول مالك [في العتبية] (¬3)؛ بناء على أن الرفع سنة. والثاني: أنه يرجع إلى القيام معتدلًا كالرافع من الركوع، وهو قول ابن حبيب. ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 121، 122). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ، ب.

والثالث: أنه لا يرجع ويتمادى على صلاته ويعيد، وهو قول مالك مرة أخرى، مراعاة للخلاف ولعدم الترجيح. وسبب الخلاف: الحركة إلى الأركان هل هي لازمة أم لا؟ [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

المسألة الثامنة فى الإمام إذا سها فصلى خامسة

المسألة الثامنة فى الإمام إذا سها فصلى خامسة فلا يخلو من معه من ثلاثة أوجه: إما أن يتبعوه كلهم. أو يجلسوا كلهم، ولم يتبعه أحد منهم. أو يتبعه قوم وجلس قوم. فإن تبعوه كلهم: فلا يخلو حالهم من ثلاثة أوجه: حالة يتساوون معه في السهو. وحالة يكونون فيها على يقين من تمام الصلاة كلهم. وحالة يسهو بعضهم كسهوه، وبعضهم على يقين من تمام صلاتهم. فإن سهوا كلهم سهوه [ق/48 أ] فاتبعوه: فلا إشكال في صحة الصلاة وجوازها، وأنهم فعلوا ما يجب عليهم. فإن تمادوا على اتباعه بعد علمهم بتمام صلاتهم: فلا يخلو من أحد وجهين: أحدهما: أن يتبعوه [عمدًا] (¬1) على معنى التأويل، أو [على] (¬2) غير تأويل. فإن اتبعوه على غير تأويل: فلا خلاف في بطلان صلاتهم وصحة ¬

_ (¬1) في أ: عامدًا. (¬2) سقط من أ، ب.

صلاة الإمام. فإنهم متأولون في اتباعه أن عليهم اتباع الإمام: فالمذهب على قولين: [أحدهما] (¬1): أن صلاتهم جائزة، ويعذرون بالتأويل، وهو قول سحنون (¬2). والثاني: أن صلاتهم فاسدة، ولا يعذرون بالتأويل، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "الكتاب" وهو أحد أقاويل سحنون أيضًا. فإن اختلفت أحوالهم؛ فبعضهم سهى لسهوه، وبعضهم اتبعوه عمدًا: فصلاة الساهين جائزة، وصلاة العامدين باطلة -على الخلاف الذي قدمناه في التأويل إذا تأولوا. فإن جلسوا ولم يتبعه أحد منهم: فلا يخلوا جلوسهم من أن يكون على يقين منهم [في تمام] (¬3) الصلاة، أو على شك. فإن [كان] (¬4) على يقين: فلا خلاف في [صحة صلاتهم] (¬5) وأنه لا يجوز لهم الرجوع إلى يقين الإمام [ويتركوا يقينهم. واختلف في الإمام] (¬6) هل يترك يقينه ويرجع إلى يقين القوم أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه [يبنى على] (¬7) يقين نفسه، ولا يرجع إلى يقين القوم، ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) انظر: المدونة (1/ 134)، والنوادر (1/ 388). (¬3) في ب: بتمام. (¬4) في ب: كانوا. (¬5) في ب: جواز الصلاة. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ، ب: يرجع إلى.

وهو المشهور. والثاني: أنه يرجع إلى يقين القوم إذا [كانوا] (¬1) عددًا كثيرًا، وحكاه ابن الجلاب. والأصح أنه لا يرجع إلى يقينهم، إلا أن يُخَالجه رَيْب فيجب عليه الرجوع إلى يقين القوم؛ لأن السهو والغلط من الجماعة أبعد [عنهم] (¬2) من الواحد؛ ولذلك رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يقين القوم [في حديث ذي اليدين لما أخبروه بصحة ما قال ذو اليدين، فَخَالَجَه رَيْبٌ في يقينه فرجع إلى يقين القوم] (¬3). فإذا [كان] (¬4) كل واحد منهم على [بصيرة] (¬5) من أمره [حقيق] (¬6) من شأنه: وجب على كل واحد منهم أن يعمل على ما في يقينه، ولا يجوز لواحد منهم أن يرجع إلى ترك يقينه، والرجوع إلى يقين غيره، ويترك يقينه، وهذا هو الأصل الذي عليه الاعتماد، وهكذا ذكر الشيخ ابن أبي زيد في ["النوادر" (¬7)] (¬8). وإليه يرجع ما في المدونة إذا اعتبرته. فإن جلسوا على شك من تمام صلاتهم: فصلاتهم باطلة باتفاق المذهب. ¬

_ (¬1) في أ: كان. (¬2) في ب: منه. (¬3) سقط من ب. (¬4) زيادة ليست بالأصل. (¬5) في أ: سيرة. (¬6) في أ: حقيقة. (¬7) انظر: النوادر (1/ 387، 388). (¬8) في ب: نوادره.

فإن جلس قوم، واتبعه قوم: فصلاة الجالسين جائزة إن جلسوا على يقين، وصلاة من اتبعه باطلة إن اتبعوه على طريق العمد. فلو أنه لما فرغ من الخامسة، وسلم قال: إنما كنتُ تركتُ سجدة من الأولى: أما من جلس: فإن [جلسوا] (¬1) على يقين: فصلاتهم جائزة، وإن داخلهم الشك بعد ذلك فصلاتهم فاسدة. وأما الذين اتبعوه [وسهوا بسهوه فصلاتهم جائزة؛ لأنهم اتبعوا في ذلك: حكم الإمام وأما الذين اتبعوه] (¬2) على طريق العمد: إن أيقنوا بتمام الصلاة: فصلاتهم فاسدة [إلا أن يتأولوا] (¬3) على الخلاف في التأويل. ولو صلى خامسة فأتبعه من بقيت عليه ركعة: فإن علم أنها خامسة: بطلت صلاته، ويبتدئها من أولها. وإن لم يعلم فإنه يقضي ركعة ويسجد بعد السلام إذا فرغ من القضاء كما يسجد إمامه. ولو قال الإمام كنتُ أسقطت سجدة من الأولى لأجزأت من اتبعه ممن فاته ركعة، وهذا قول مالك في "كتاب ابن المواز" (¬4) [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ، ب: جلس. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: النوادر (1/ 388). (¬5) سقط من أ.

المسألة التاسعة فيمن ذكر سجود السهو

المسألة التاسعة فيمن ذكر سجود السهو فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يذكر ذلك في غير الصلاة. والثاني: أن [يذكرها] (¬1) وهو في الصلاة. فإن [ذكر ذلك] (¬2) في غير الصلاة، وكان السجود قبل السلام أو بعده إذا كان مما لا تعاد منه الصلاة إن نسيه حتى [عاد] (¬3) بعد السلام، فهل يفتقر إلى إحرام أم لا؟ فالمذهب على [ثلاثة أقوال] (¬4): [أحدها] (¬5): أنه يحرم [لهما] (¬6) كانتا [من] (¬7) قبل أو بعد في الأصل، وهو قول مالك، وبه قال ابن الجلاب. والثاني: أنه لا إحرام لهما جملة، وهو قول مالك في كتاب محمد. والثالث: التفصيل بين ما كان [قبل أو بعد] (¬8)؛ فما كان بعد في ¬

_ (¬1) في ب: يذكره. (¬2) في ب: ذكره. (¬3) في ب: كان. (¬4) في أ: قولين. (¬5) في أ: أحدهما. (¬6) سقط من ب. (¬7) سقط من ب. (¬8) في ب: من قبل، وما كان من بعد.

الأصل فيحرم [لما كان عن قبل، ولا يحرم لما كان بعد] (¬1)، وهو قول ابن المواز. وهكذا السلام [منها] (¬2) يبنى على الإحرام؛ لأن السلام تحليل، [والتحليل] (¬3) يفتقر إلى سابقة التحريم. واختلف أيضًا في التشهد لهما؛ فقيل: يتشهد لهما قبل أو بعد، وهو قول ابن القاسم. وقيل: يتشهد فيما [كان] (¬4) بعد، ولا يتشهد فيما [كان] (¬5) قبل. وهو قول عبد الملك [وقيل: يجب التشهد فيما كان بعد ويستحب فيما كان قبل، وهو قول ابن عبد الحكم] (¬6). وسبب الخلاف: مفهوم أحاديث السهو؛ كحديث [أبي] (¬7) جحيفة، وحديث ذي اليدين، فظاهر الأحاديث [ومفهومها] (¬8) أنه لم يتشهد، ولم يكبر؛ لأنه لم يذكره في الحديث. ولا خلاف أنهما يفتقران إلى الطهارة. وهذا الخلاف أيضًا يتخرج على الخلاف في سجود السهو، هل هو فرض أو سنة؛ فالشافعي يرى أنه سنة، وأبو حنيفة يرى أنه فرض خارج ¬

_ (¬1) في ب: ما كان من قبل، ولا يحرم ما كان من بعد. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: وتحليل الصلاة. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في الأصل: ابن. (¬8) في أ: ومفهومهم.

عن شروط صحة الصلاة، وفرق مالك بين سجود السهو للأقوال وسجود السهو للأفعال، وبين الزيادة والنقصان من الأفعال والأقوال. أما سجود السهو الذي بعد السلام: فإنه أصل بلا خلاف في [مذهب] (¬1) مالك [رحمه الله] (¬2) أنه مندوب إليه. [وأما سجود السهو] (¬3) الذي قبل السلام فاختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها سنة واجبة، وأنه إن ترك السجود لهما حتى تطاول: أعاد الصلاة سواء كانت عن فعل أو عن قول، وهو ظاهر قول مالك فى المدونة [وهو نص قول ابن القاسم في كتاب ابن الجلاب ولا خلاف] (¬4) فيمن سهى عن ركعة أو سجدة أو عن سجدتي السهو قبل السلام [فطال] (¬5) ذلك فليعد الصلاة. فساوى بين من نسى سجدتي السهو أو ركعة، ولم يفصل من أي شيء كان سجوده. والثاني: أنهما غير واجبتين ولا إعادة عليه في تركهما -كانتا من قول أو من فعل- وهو قول ابن عبد الحكم. والثالث [ق/ 38 جـ]: التفصيل بين أن يترك الجلوس على ركعتين أو ترك قراءة أم القرآن من ركعة واحدة: فتبطل صلاته. وإن كانتا من غير هاتين: فلا تبطل صلاته، وهو قول مالك في كتاب ¬

_ (¬1) في أ: قول. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: وأما السجود. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: فتطاول.

ابن المواز. وسبب الخلاف: سجود السهو قبل السلام، أو كان بعد السلام هل يجبر بهما الشيء، [أو] (¬1) إنما هو ترغيم للشيطان؟. فمن رأى أنه جبر صلاته قال بوجوبها وتعاد الصلاة بتركها إذا كانتا قبل السلام. ومن رأى أنهما ترغيم للشيطان قال: لا تبطل الصلاة بتركهما، وهو اختيار اللخمي رضي الله عنه. وأما إن ترك سجود السهو وهو في الصلاة: فلا يخلو من أن يكون قبل السلام أو بعد السلام، فإن كان بعد السلام: فإنه يتمادى على صلاته، ولا تأثير للذكر فيها، كانت فرضًا أو نفلًا، كان السجود من فرض أو نفل. وإن كان قبل السلام: فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يكون قبل السلام من فريضة، فذكره وهو في فريضة. أو ولا يكون من نافلة [فذكره] (¬2) وهو في نافلة أخرى. أو من فريضة وهو في نافلة. أو من نافلة وهو في فريضة. والأقسام كلها في المدونة. وأما الوجه الأول: وهو أن يكون قبل السلام من فريضة [فذكره] (¬3) وهو في فريضة أخرى: فلا يخلو من وجهين: ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

أحدهما: أن يذكر ذلك قبل الطول. والثاني: أن يذكره بعد الطول. فإن كان قبل الطول: فهل يرجع إلى إصلاح صلاته الأولى، أو يتمادى؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن يرجع إلى إصلاح الأولى، وينقض ما كان فيه بغير سلام. وهو قول ابن القاسم عن مالك في "المدونة" (¬1). والثانى: أن الأولى باطلة بنفس الإحرام في الثانية، ويقطع ما هو فيه، ويرجع إلى إعادة الأولى، وهو قول مالك في "مختصر ما ليس في المختصر" [فيمن] (¬2) سهى عن شيء من فروض صلاته، ولا فرق بين أن يسهى عن ركعة أو عن سجدتي السهو. وقد قال في المدونة فيمن سهى عن ركعة أو عن سجدة أو عن سجدتي السهو، وقد قال في المدونة قبل السلام، فطال ذلك فإنه يعيد، فساوى بين الركعة أو سجدتي السهو. والثالث: أنه يتمادى على الثانية، ولا تبطل الأولى، فإذا فرغ منها سجد للسهو قبل السلام وهو قول ابن عبد الحكم. وسبب الخلاف: سجود السهو قبل السلام، هل هو فرض أو سنة؟ فمن رأى أنه [فرض أو أنه] (¬3) ركن كالركعة والسجدة: فقال يرجع ¬

_ (¬1) النظر: المدونة (1/ 134). (¬2) في أ: فمن. (¬3) سقط من أ، ب.

إلى إصلاح صلاته [الأولى] (¬1) ما لم يطل. ومن رأى أنه سنة لا تأثير له في بطلان الصلاة: يقول: يتمادى على الثانية. ومن قال: لا يرجع إلى إصلاح [الصلاة] (¬2) وإن لم يطل، بل يقطع ويرجع إلى الإعادة يرى أن الإحرام ركن كالركعة، وهو ظاهر قوله في "كتاب الوضوء" في "الرعاف". وإن كان ذلك بعد الطول في القراءة، أو ركع فهل يتمادى على الثانية [كما قال ابن عبد الحكم] (¬3) أو تفسد عليه الأولى، والثانية، وهو قول ابن القاسم. أما فساد الأولى: فلأجل الطول الحائل بينه وبين إصلاحها. وأما فساد الثانية: فلذكر الصلاة فيها. فإن [ذكر] (¬4) ذلك بعد ما صلى ركعة فهل [ق/ 24 ب] يتمادى إن كانت نفلًا أو يشفعها إن كانت فرضًا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يقطع، وهو نص قول مالك في النافلة في "كتاب الصلاة "الأول"] (¬5). والظاهر من قوله في الفرض فيمن افتتح صلاة الظهر، فذكر صبح ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: الأولى. (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) في أ: كان. (¬5) في الأصل: الأولى.

يومه: أن صلاته فاسدة، فإذا كانت فاسدة فلا يؤمر بأن يشفع إذا كان على وتر منها (¬1). والثاني: أنه يتمها إن كانت نفلًا، ويشفعها إن كانت فرضًا، وهو استحباب من ابن القاسم في كتاب الصلاة الثاني من المدونة. وقول ابن القاسم: يشفعها أحب إلىّ، إشارة إلى الخلاف. وأنه يجوز [له] (¬2) القطع على ركعة واحدة. فإن [كان] (¬3) بعد ركعتين: فإنه يقطع بسلام -على قول- ويتمادى على قول. وإن كان بعد ثلاث ركعات هل يتمها أربعًا، أو يقطع بعد ثلاث؟ قولان منصوصان في "كتاب الصلاة [الثاني من المدونة وإلى المساواة بين هذه المسألة ومسالة "كتاب الصلاة الأول"] (¬4) فيمن ذكر صلاة في صلاة (¬5). ذهب أكثر شيوخ المذهب إلى أن ذلك اضطراب من القول؛ لأن قوله في [ق/ 49 أ] أحد السؤالين يلزم في الآخر، وهذا هو المشهور. وبعضهم يحمل ما في [الكتابين] (¬6) على اختلاف السؤال، وقالوا: لا ينبغي أن يختلف قوله [بعد] (¬7) ركعة في الفرض والنفل، ولا بعد ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 130). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: كانت. (¬4) سقط من أ، ب. (¬5) انظر: المدونة (1/ 129). (¬6) في جـ: البابين. (¬7) في أ: بعقد.

ثلاث في الفرض أنه يشفع في مسألة السهو لاتساع الوقت فيها بخلاف الفائتة التي ذكرها في صلاة؛ لأن تلك قد ضاق وقتها، وهذا الذي قاله ليس بالبين، والأول أظهر [وأجرى] (¬1) على قانون الكتاب. وهكذا الجواب في الوجه الآخر إذا ذكرها من فرض وهو في نفل. والوجه الثالث: إذا ذكرها من نافلة وهو في نافلة، فإن كان قبل أن يتطاول أو ركع: قطع بغير سلام، ويرجع إلى الإصلاح على مذهب ابن القاسم (¬2). وإن كان بعد الطول، أو بعد الركوع، وبعد انعقاد الركعة قولان؛ هل يتمها أو يقطع؟ وبعد الركوع وقبل الرفع قولان. وسبب الخلاف: عقد الركعة هل هو الرفع منها أو وضع اليدين على الركبتين؟، وهو أيضًا في الفرض والنفل. واختلف الأشياخ في حكم الطول على ظاهر "المدونة" أعني طول القراءة -هل هو كما لو ركع؟ فيدخله الخلاف، هل يأتي بركعتين كما لو ذكر بعد ركعة أم لا؟ فذهب بعضهم إلى ظاهر "المدونة": أن الطول كالركوع من كل وجه مما تحتمله المسألة. وبعضهم [يقول] (¬3): لا يتساويان من كل وجه في المسألة؛ وإنما يتساويان من حيث أن ذلك حائل يحول بينه وبين إصلاح الأولى خاصة، ¬

_ (¬1) في أ: وأجدى. (¬2) انظر: المدونة (1/ 142). (¬3) في أ: يقولون.

وهذا أبعد عن ظاهر الكتاب [لمن تأمله] (¬1). وأما الوجه الرابع: إذا ذكر ذلك من نافلة، وهو في فريضة، هل يتمادى على فرضه من غير اعتبار بالطول والقِصر ولا بالركوع أم لا؟ فالذي يتخرج في المسألة قولان: أحدهما: أنه يتمادى على فرضه من غير اعتبار بالطول والقصر، وهو ظاهر قوله في المدونة: إن كان قريبًا رجع إلى صلاته إن كانت فريضة ونقض ما كان فيه. ومفهومه: إن كانت نافلة لا يرجع إليها من الفريضة -قرب أو بعد؛ إذ لا يبطل الأعلى بالأدنى. والثاني: أنه يفصل فيها بين القُرب والبُعد كما فصل في الفريضة، وهو ظاهر قول مالك في "المدونة" أيضًا حيث ساوى بين الركعة وسجدتي السهو، وهو نص ابن عبد الحكم في غير المدونة فيمن ذكر سجدة من نافلة [في صلاة الفرض] (¬2) بعد ركعة أو ركعتين: أنه يعود إليها فيصليها بسجدة ثم يتشهد ويُسَلِّم. وقال القاضي [أبو الفضل] (¬3) في الفرق بين الفرض والنفل (¬4): وهذا مما لا يختلف فيه إن شاء الله تعالى، والخلاف لازم [في] (¬5) المسألة التي أوردناها، والأمر كما ترى وربك أعلم [والحمد لله وحده] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) في جـ: أبو الوليد. (¬4) انظر الفروق (137) لأبي الفضل مسلم بن علي. (¬5) في جـ: من. (¬6) زيادة من جـ.

المسألة العاشرة إذا جهر فيما يسر فيه، أو أسر فيما يجهر به

المسألة العاشرة إذا جهر فيما يُسرُّ فيه، أو أسر فيما يجهر به فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ناسيًا. والثاني: أن يكون عامدًا. فإن كان ناسيًا، وأسر فيما يجهر فيه: فقد نقل أبو الحسن اللخمي في المذهب قولين: أحدهما: أنه يسجد قبل السلام -وهو المعروف- وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬1). والثاني: أنه يسجد بعد السلام، وهي رواية أشهب عن مالك فيما حكاه (¬2). وهذا القول غير معروف في النقل، ولا له وجه أيضًا، إلا أن يقال: إنه زاد الإسرار. فإن جهر فيما يسر فيه ناسيًا: فقد قال في "المدونة" (¬3): فإن كان شيئًا يسيرًا مثل: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، ونحوهما الآية: فلا سجود عليه. وإن كان كثيرًا فإنه يسجد بعد السلام، وهو قوله في "المدونة". فإن كان عامدًا: مثل أن يسر فيما يجهر فيه عامدًا، فهل يعيد أم لا؟ ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 140). (¬2) انظر: البيان والتحصيل (1/ 389)، والنوادر (1/ 354). (¬3) انظر: المدونة (1/ 140).

فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يعيد، وهو قول ابن القاسم في "العتبية" (¬1) فأطلق، وقال عيسى بن دينار: يعيد وإن ذهب الوقت. والثاني: أنه يستغفر الله تعالى، ولا شيء عليه. وإن جهر فيما يسر فيه عامدًا: فعلى القولين: أحدهما: أنه يعيد، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم؛ لأن هذا عابث. وهو ظاهر قول مالك في "المدونة" (¬2)، في الإمام إذا مَرَّ بقرية لا يجمع فيها لصغرها فجمع بهم الجمعة، حيث قال: فأما الإمام ومن معه من المسافرين، فإنهم يصلون ركعتين [فأمر لهم] (¬3) بالإعادة، وهم إنما يعيدونها ركعتين في الصلاة التي صلوها ركعتين، ولم [يذكر] (¬4) هناك شيء يوجب الإعادة سوى زيادة الجهر خاصة. والثاني: أنه لا سجود عليه، ويستغفر الله، ولا شيء عليه، وهو ظاهر قول ابن نافع في المسألة التي استدللنا بها أنهم لا يعيدون؛ لا الإمام ولا المسافرون. وسبب الخلاف: اختلافهم في تارك السنن [عامدًا] (¬5) هل يعاقب [بفساد العبادة التي هو فيها أم لا يعاقب] (¬6) بفسادها ويكون منه مأثومًا، ¬

_ (¬1) انظر: البيان والتحصيل (2/ 34). (¬2) انظر: المدونة (1/ 157). (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: يكن. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ، ب.

[أو] (¬1): يستغفر الله، ولا شيء عليه [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: و. (¬2) زيادة من جـ.

المسألة الحادية عشر إذا قام من [اثنتين فى نافلة]

المسألة الحادية عشر إذا قام من [اثنتين فى نافلة] (¬1) فإنه يرجع ما لم يركع في الركعة الثالثة، ويسجد بعد السلام [وإن ذكر وهو راكع في الثالثة فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما: أنه يرجع إلى الجلوس، ويسجد بعد السلام. والأخرى: أنه يتمادى إلى أربع. وسبب الخلاف: ما تقدم في غير هذه المسألة] (¬2). فإن ذكر بعد أن [رفع رأسه] (¬3) صلى أربعًا ويسجد بعد السلام. فإن سهى حتى صلى خامسة: [فإنه يرجع ولا يأتي] (¬4) بسادسة، ويسجد بعد السلام؛ لأن النافلة في قول بعض العلماء [أربع] (¬5) [وأما في] (¬6) قول مالك: فركعتان، وهذا نص المدونة. وفي رواية [أخرى] (¬7): يسجد ولم يفسر لا قبل ولا بعد؛ فاختلف المفسرون والمتأولون في تأويل ما وقع في المدونة؛ فمنهم من جعله اختلاف أقوال، ومنهم من جعله اختلاف سؤال، ومنهم من جعله اختلاف أحوال، ومنهم من جعله أوهام وأغاليط، لِمَا أدخل على المذهب من ¬

_ (¬1) في ب: تقديم وتأخير. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب، جـ. (¬4) في ب: فلا يأتي. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: وهذا ما في. (¬7) سقط من أ.

الإشكال. [فأما] من جعله اختلاف أقوال: فيحمل عنده على اختلاف من قول مالك في السهو إذا اجتمعت فيه الزيادة [والنقصان] (¬1) على ما له في "العتبية" من القولين: أحدهما: أنه يسجد قبل. والثاني: أنه يسجد بعد. وهي رواية زيادة عنه أيضًا، وبيانه: أن ذلك اختلاف قول أن الزيادة والنقصان في الكتابين؛ لأنه إذا صلى نافلة أربعًا بتسليمة واحدة نقص السلام وزاد ركعتين؛ إذ الواجب عليه أن يسلم على كل شفع. وربما استدل قائل هذا بقول ابن القاسم في الكتاب، وكان يفرق بين الفريضة في هذا والنافلة؟ قال: نعم (¬2). ولا يتبين الفرق بين الفريضة والنافلة في القائم إلى خامسة، وانتهى إلا في نقص السلام [ق/ 39 جـ] خاصة؛ [لأنه في] (¬3) الفريضة معه زيادة محضة، ومعه في النافلة زيادة ونقص وهو السلام من اثنتين. ولو كان لأجل نقص الجلوس -كما قال بعضهم- لما افترقت الفريضة والنافلة، وإلى هذا التأويل ذهب أبو محمد بن أبي زيد في "رسالته" (¬4)، وابن شبلون، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وأما القائلون بأنه اختلاف سؤال: فحملوا على أنه جواب على مذهب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: المدونة (1/ 143). (¬3) في أ: لأن. (¬4) انظر: الرسالة مع تحرر المقالة (131، 132).

من يرى النافلة أربعًا؛ فحمل قوله: إنه يسجد قبل السلام، إذا صلى أربعًا على أنه ترك الجلوس على الركعتين الأوليين؛ لأنه نقص. وفي السؤال الثاني زاد ركعة، وجلس على ركعتين، فاختلف الجواب لاختلاف السؤال. واحتج لتأويله هذا بقوله في الكتاب؛ لأن النافلة إنما هي أربع من قول بعض العلماء، وإلى هذا التأويل أشار ابن أبي زمنين. قال بعض المتأخرين: هذا التأويل لا يصح؛ إذ لا [يصح] (¬1) لأحد أن يفتي على مذهب غيره، وإنما يفتي على مذهب نفسه، أو على الاحتياط بمراعاة [خلاف] (¬2) غيره عند عدم الترجيح، أو خاف فوات النازلة. وأما أن يترك مذهب نفسه، ويفتي بمذهب غيره المضاد لمذهبه، فهذا لا يسوغ. ولو أفتى على مجرد قول المخالف في المسألة لما ألزمه سجود السهو في الخامسة، ولا الرجوع عن السادسة؛ إذ قال الشافعي وغيره: يجوز له التنفل بما شاء من العدد شفعًا ووترًا، وإن كان يستحب له مثنى مثنى، وأما الاحتجاج بقوله: "لأن النافلة أربع في قول بعض العلماء" (¬3)، وإنما هو حجة للتفرقة بين المسألتين في الإتمام والرجوع، فجعله يتم أربعًا إذا قام [إلى] (¬4) الثالثة؛ لأن من أهل العلم من يرى ذلك اختيارًا، وإن كان مالك لا يراه ولم ير له أن يتم ستًا إذا قام لخامسة؛ لأنه لا يقول به ¬

_ (¬1) في جـ: ينبغي. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: المدونة (1/ 143). (¬4) سقط من أ.

من قال بالأربعة ولا يستحسنه، وإن جاز له فعله إذا وقع، [وهكذا ينبني] (¬1) الاحتجاج به، والله أعلم. وأما من جعله اختلاف أحوال فيقول: إن القائم إلى خامسة لم ينقص غير السلام، وقد أتى به [بعد] (¬2) ذلك، وقد جلس على الاثنتين، وليس معه إلا الزيادة المحضة؛ فلذلك [قال:] (¬3) يسجد بعد السلام والمصلي أربعًا، لم يجلس على ركعتين فمعه نقص، وإلى هذا [ذهب] (¬4) إسماعيل القاضي، وأبو الحسن القابس، وابن الكاتب، وابن أبي زمنين. وأما من حمله على الأوهام والأغاليط قال: معنى قوله: يسلم ثم يسجد: وهم وغلط، صوابه: ويسجد ثم يسلم، وهو تأويل أبي محمد اللواتي. وهذا كله على الرواية المشهورة أنه يسلم ثم يسجد. وأما الرواية الأخرى: أنه يسجد لسهوه، ولم يفسر، فلا تفريع عليها، وإنما تحمل على الرواية المفسرة، والله أعلم [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في جـ: وهذا ينبغي. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) فى جـ: نحا. (¬5) زيادة من جـ.

المسألة الثانية عشرة فى السلام من الصلاة

المسألة الثانية عشرة فى السلام من الصلاة والكلام فيه في أربعة مواضع: الأول: ما حكمه؛ هل هو فرض أو سنة؟ والثاني: في تعيين لفظه. والثالث: في عدده. والرابع: في صفة وقوعه. فأما الأول: هل السلام فرض أو سنة؟ فقد اختلف فيه المذهب -عندنا- على قولين: أحدهما: أنه فرض لا يخرج المصلي من الصلاة إلا به، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه ليس بفرض، وأنه يخرج من الصلاة بالحدث وغيره، وهو قول [ق/ 50 أ] ابن القاسم في "العتبية"، وهو مذهب أبي حنيفة، وهذا القول قائم من "المدونة" من "كتاب الوضوء" (¬1) أيضًا. وقد قال في المأموم إذا رعف بعد التشهد، وقبل سلام الإمام: أنه يخرج فيغسل الدم، ثم يرجع فيسلم. فإن رعف بعد سلام الإمام، وقبل أن يسلم هو: فإنه يسلم، وصلاته تامة فأباح له أن يسلم وهو حامل للنجاسة. وسبب الخلاف: تعارض الأخبار وتجاذب الاعتبار. ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 134).

فأما تعارض [الأخبار] (¬1): فمنها حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" (¬2). ويعارضه حديث عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، أن عبد الرحمن بن نافع، وبكير بن سوادة حدثاه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جلس الرجل في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته" (¬3). فمن رجح حديث علي رضي الله عنه قال بوجوب السلام، ولا تصح الصلاة إلا به، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى، ولاسيما أن أبا عمر ابن عبد البر ضعَّف حديث الإفريقي، قال: هو عند أهل [النقل] (¬4) ضعيف؛ لأنه شيء انفرد به (¬5). وأما من جهة الاعتبار: [فلما كان] (¬6) الاتفاق [بين] (¬7) المالكي ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) تقدم. (¬3) أخرجه أبو داود (617)، والترمذي (408)، والدارقطني (1/ 379)، والخطيب في تاريخ بغداد (13/ 149)، والطيالسي في مسنده (2252)، والبزار (2451)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 117)، والبيهقي في الكبرى (2647). قال الدارقطني: عبد الرحمن ضعيف لا يحتج به. وقال البيهقي: ضعيف. وقال ابن الجوزي: لا يصح. العلل المتناهية (1/ 439)، وضعفه العلامة الألباني رحمه الله. (¬4) في جـ: الأصول. (¬5) انظر: التمهيد (10/ 213، 214). (¬6) في أ: فأما إن كان. (¬7) في أ: من.

والحنفي على أن التحريم واجب: وجب أن يكون التحليل كذلك. وأما الموضع الثاني في تعيين لفظه، هل يعرف أو ينكر، فعن مالك فيه روايتان: إحداهما: أنه يعرف ولا ينكر، وأنه إن نكر فصلاته باطلة. وهو ظاهر قوله في "المدونة": ولا يجزئ من السلام إلا "السلام عليكم"، ولا من الإحرام إلا "الله أكبر". والأخرى: أنه يجوز أن يُنَكَّر ويُنَوَّن، ويقول: سَلَام [عليكم] (¬1) وهو سلام أهل الجنة، قال الله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (¬2). [واتفق أهل المذهب] (¬3) أنه لا يجوز أن يقول في الأولى عليكم السلام. وسبب الخلاف: مفهوم قوله عليه السلام: "وتحليلها التسليم" (¬4) هل الألف واللام لبيان الجنس أو للمعرفة؟ فإذا كان بيانًا للجنس: فيجوز نكرة ومعرفة؛ لأن مقصود الشارع ألا يخرج من الصلاة بغير جنس من السلام. وأما من رأى أن الألف واللام للمعرفة، قال: لأن السلام من أسماء الله تعالى، فلا يجوز أن ينكر، وهو المشهور، وهو قول مالك في "السليمانية". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة ق الآية (34). (¬3) في أ: إلا. (¬4) تقدم.

وأما الموضع الثالث: في عدده. وذلك ينقسم بانقسام المصلين؛ وهم ينقسمون إلى فَذّ، وإمام، ومأموم. فأما الإمام: فقد اختلف فيه المذهب هل يسلم واحدة أو اثنتين؛ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يسلم واحدة قبالة وجهه ويتيامن قليلًا (¬1). والثاني: أنه يسلم تسليمتين، وهو [في] (¬2) سماع أشهب عن مالك رحمه الله (¬3). والثالث: التفصيل بين أن يصلي مع الواحد، فيسلم تسليمة واحدة، أو يصلي مع الاثنين، فيسلم تسليمتين، وهي رواية أبي الفرج عن مالك. فإن تأول قول أشهب على رواية أبي الفرج فيكون في المسألة قولان، وإن حملت كل رواية على ظاهرها فيكون في المسألة ثلاثة أقوال: وسبب الخلاف: اختلافهم في سلام النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كان يسلم واحدة أو اثنتين؛ فقد خرج مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم بتسليمتين. قال سعيد: يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خديه. وأما الفَّذ: فهل يُسلِّم واحدة أو اثنتين؟ فعلى قولين: أحدهما: أنه يُسَلِّم واحدة، وهو المشهور. والثاني: أنه يسلم اثنتين؛ إحداهما عن يمينه والأخرى عن يساره، ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 143). (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: النوادر (1/ 189).

وهي رواية ابن وهب عن مالك (¬1). وعلى القول بأنه يُسَلِّم واحدة ويتيامن قليلًا -وهو الموضع الرابع كيف يسلمها- فالمذهب على قولين: أحدهما: أن سلامه مثل سلام الإمام في أنه يسلم واحدة قبالة وجهه ويتيامن قليلًا، ثم قال: والرَّجُل في خاصة نفسه مثل الإمام، وهو ظاهر قوله في "المدونة" (¬2) في الإمام أنه يسلم واحدة ويتيامن قليلًا، والرجل في خاصة نفسه مثل الإمام، وهو ظاهر قول أبي محمد بن أبي زيد في رسالته، فإنه قال: ويسلم تسليمة واحدة؛ يقصد بها قبالة وجهه ويتيامن برأسه قليلًا، هكذا يفعل الإمام، والرجل وحده. وأما المأموم: فهل يسلم تسليمتين أو ثلاثًا؛ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يسلم تسليمتين؛ واحدة يخرج بها من الصلاة. والثانية: يَرُد بها على الإمام، وهو قوله في "المدونة" (¬3). فإن كان على يساره واحد: سَلَّم عليه. وعلى هذا القول: إن الثانية ليست بلازمة على كل حال، وإنما هي على حسب اختلاف الأحوال؛ حالة يصلي على يساره فيسلم ثلاثًا؛ وحالة لا يصلي أحد على يساره، فيسلم تسليمتين، وهو القول المشهور. والثاني: أنه يسلم [ثالثة] (¬4) لابد منها (¬5)، وهو ظاهر قول مالك الأول الذي أخذه عن سعيد بن المسيب: يسلم عن يمينه ثم يسلم على ¬

_ (¬1) وهو قول ابن حبيب في النوادر (1/ 189). (¬2) انظر: المدونة (1/ 143). (¬3) انظر: المدونة (1/ 617). (¬4) في أ: ثلاثًا. (¬5) انظر: النوادر (1/ 189).

يساره ثم يرد على الإمام، ثم تركه إلى فعل ابن عمر رضي الله عنه. وهل يسلم الأولى تلقاء وجهه ويتيامن قليلًا مثل الإمام على الاتفاق. والفذ على الاختلاف فبين المتأخرين قولان: أحدهما: أنه كالإمام، وبه قال [أبو عبد الله] (¬1) ابن سعدون. والثاني: أنه [مخالف] (¬2) للإمام، وبه قال الباجي وأبو محمد عبد الحق [وهذا كله إذا سلم مع الإمام] (¬3). وأما إذا فاته بعض صلاة الإمام: فقضى ما فاته فلا يخلو من وجهين: إما أن يبقى الإمام [والإمام] (¬4) في أماكنهم، لم يبرحوا، وإما أن ينصرفوا. فإن بقوا في أماكنهم ولم ينصرفوا: فلا إشكال أن حكمه حكم مَنْ سَلَّمَ مع الإمام. فإن انصرفوا فهل يرد عليهم أم لا؟ فالمذهب على قولين كليهما عن مالك، وهما قائمان من المدونة: أحدهما: أنه يرد عليهم. والثاني: يسلم واحدة، ولا يرد عليهم. وسبب الخلاف: على الخلاف في الذي يقضي بعد سلام الإمام، هل هو باق في حكم الإمام أو هو خارج عنه؟ فمن رأى أنه باق في حكم الإمام قال: يرد عليهم وهو ظاهر قول ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: يخالف. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، ب: والمأمومين.

مالك في "المدونة" في الذي فاته بعض صلاة الإمام، وقد لزمه سجود السهو بعد السلام: أنه يسجد إذا فرغ من القضاء. ومن رأى أنه خارج عن حكم الإمام قال: إنه لا يرد عليهم، وهو ظاهر قوله في "المدونة" في الذي يقضي بعد سلام الإمام: أنه ينحاز إلى ما قرب من السواري أمامه أو خلفه يستتر بها؛ وهذا بناء [على] (¬1) أنه [خارج عن] (¬2) حكم الإمام؛ إذ لو كان باقيًا في حكمه لما احتاج إلى السترة؛ إذ الإمام سترة لمن خلفه، وسترته سترة لمن خلفه على اختلاف الأقوال في ذلك. واختلف في المصلي إذا سَلَّمَ في آخر صلاته ولا نِيَّة له: على قولين: وسبب الخلاف: هل يفتقر إلى تجديد النية لكل ركن من أركان الصلاة أم النية الأولى [منسحبة] (¬3) [عليها] (¬4) إلى [آخرها] (¬5). واختلف في [المأموم] (¬6) إذا سلم عن يساره، ولم يسلم عن يمينه، هل تبطل صلاته أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن صلاته باطلة، وهو قول [القرطبي] (¬7) من متأخري المذهب. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: خرج من. (¬3) في جـ: مستصحبة. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب، جـ: آخر صلاته. (¬6) في أ: الإمام. (¬7) في ب: ابن القرطبي.

والثاني: أن ذلك جائز -فعل ذلك سهوًا أو عمدًا، فذًا كان أو إمامًا أو مأمومًا. قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد: لأنه إنما ترك التيامن، وهو قول مطرف (¬1). ولو رَدّ على الإمام قَبْل أَنْ يُسَلِّم لنفسه لسجد بعد السَّلام إذا سَلَّم لنفسه ولو تكلم حينئذ لبطلت صلاته، ولو تكلم بعد سلامه لنفسه، وقبل الرَّد على الإمام: لم تفسد صلاته وتجزئه، وهذا قول ابن حبيب (¬2)، وهو المذهب. [وبالله التوفيق وبه العصمة في سلوك سواء الطريق والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (1/ 190). (¬2) انظر: النوادر (1/ 191). (¬3) زيادة من جـ.

المسألة الثالثة عشر فى الاستخلاف

المسألة الثالثة عشر فى الاستخلاف وإذا طرأ على الإمام ما يمنعه [ق / 40جـ] [التمادي على] (¬1) الإمامة: فله أن يستخلف ويرجع إلى الصف إن كان طرأ عليه [شيء] (¬2) مما تجوز [معه الصلاة] (¬3) كالمرض الذي يقدر معه على القيام، أو يستخلف ليخرج ويتوضأ وضوءه الشرعي إن كان حدثًا، أو وضوءه اللغوي إن كان رعافًا. والأصل ألَّا يجوز الاستخلاف أصلًا، إلا أن السنة وردت بجواز بطلان ذلك يؤدي إلى وجود إمامين في صلاة واحدة، وذلك موجود في الاستخلاف. إلا أن استخلاف النبي عليه السلام أبا بكر ورجوعه إلى الصف بعد حضور النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على الجواز إذا فرضنا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام، وأبو بكر في حكم السمع -وهو المشهور- فإن ثبت ذلك فلا يخلو الإمام إذا أحدث من وجهين: إما أن يستخلف ثم يخرج، أو يخرج ولم يستخلف، فإن استخلف: فينبغي له أن يستخلف في الحالة التي طرأ عليه الحدث فيها، ولا يرفع ولا يخفض حتى يستخلف؛ مخافة أن يتبعه القوم في حركاته، وهو محدث فيكون ذلك مما يبطل عليهم صلاتهم [ق/ 51 أ]. ثم لا يخلو الطارئ الموجب للاستخلاف أيضًا من أن يكون مما يصح ¬

_ (¬1) في ب: إتمام. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

البناء معه كالرعاف، أم لا يجوز البناء معه كاللمس وخروج خارج، فإن كان مما يصح له البناء معه كالرعاف، فهل يجوز له الاستخلاف بالقول أو بالإشارة؟ قولان: وسبب الخلاف: هل البناء أولى، أو القطع؟ فإن كان مما لا يجوز له البناء معه كاللمس وغيره: فإنه يجوز له أن يستخلف، أو يقول: يا فلان تقدم فصل بالناس، ولا يضرهم ذلك، وإنما يضرهم أن لو تمادى [ق/ 25 ب] بهم، والاستخلاف في الصلاة من قبيل الجائز، وليس من قبيل الواجب. ولا خلاف أنه لا يجب الاستخلاف على [الإمام في] (¬1) الإمامة العظمى، فمن باب [الأحرى] (¬2) في الإمامة الصغرى، وإنما [يكون ذلك] (¬3) من حسن النظر لهم؛ لأنهم ممنوعون من الكلام. واختلف [في المستخلف] (¬4) هل يكون إمامًا بنفس الاستخلاف أم لا؟. فَبَيْنَ المتأخرين قولان: أحدهما: أنه يكون إمامًا بنفس الاستخلاف، وهو الذي أشار إليه أبو القاسم بن محرز، وأبو محمد عبد الحق. والثاني: أنه لا يكون إمامًا حتَّى يَقْبَل وَيَقْبَلُه القوم بعد ذلك، وهو الذي اختاره القاضي أبو الفضل، قال: وهو مذهب غيرنا من حُذَّاق المتأخرين، وهو بَيِّن من قول سحنون في الإمام إذا قدم رجلًا فتقدم غيره ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) في أ: آخر. (¬3) في أ: كان. (¬4) سقط من أ، ب.

وصلى بالناس أنه يجزئهم. وسبب الخلاف: استخلاف الإمام [هل] (¬1) هو لازم للمأمومين ولا خروج لهم عن ذلك، قال: فإنه يكون إمامًا بنفس الاستخلاف. ومن رأى أنه لا يكون استخلافه لازمًا لهم قال: لا يكون إمامًا بنفس الاستخلاف. وينبغي للإمام أن يستخلف من الصف الذي يليه ولا يستخلف من الثاني و [لا من] (¬2) الثالث. فإن استخلف من الذي يليه: فإن المستخلف يتقدم إلى موضع الإمام الأول. فإن استخلف من غيره: فإن [المستخلف] (¬3) يصلي بهم [وهو] (¬4) في [موضعه و] (¬5) لا يتقدم؛ لأن ذلك شغل في الصلاة مستغنى عنه. وينبغي للمستخلف أن يتبع أفعال الإمام، ويقتفي أقواله. قال ابن القاسم في الكتاب: ويجتزئ بقراءة الأول إن كان قرأ، وبتكبيره إن كان كبر. فإن استخلف وهو قائم: فإنه يخر [بهم] (¬6) إلى السجود، فإن أحدث وهو ساجد: فإنه يستخلف وهو ساجد، ويرفع بهم المستخلَف. فإن أحدث وهو [راكع] (¬7) فهل يرفع ثم يستخلف أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ (¬3) في أ: الإمام. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: موضع. (¬6) سقط من أ. (¬7) في الأصل: رافع.

فبين المتأخرين قولان (¬1): أحدهما: أنه يرفع بغير تكبير ثم يستخلف، وهو قول ابن أبي زيد (¬2). والثاني: أنه يستخلف وهو راكع قبل أن يرفع، وهو الأصح، وهذا القول أسعد بظاهر الكتاب، فإن كان في صلاة الجهر: فليقرأ الثاني من حيث انتهى الأول. فإن كان في صلاة السر: فإن الثاني يبتدئ أم القرآن من أولها، ومن المتأخرين من قال: [يتحرى] (¬3) قراءة الأول. والأول أظهر وأحسن؛ لاحتمال أن يكون المستخلف قد نسى القراءة. فإن استخلف من فاته بعض [صلاته] (¬4)، فلا يخلو من وجهين (¬5): أحدهما: أن يدرك الإحرام خلفه. والآخر: أن يستخلف قبل أن يحرم. فإن استخلفه قبل أن يحرم: فلا خلاف أن ذلك لا يجوز، وأن صلاة القوم فاسدة إن اقتدوا به. فإن أدرك الإحرام خلفه: فلا خلاف -في المذهب- أن استخلافه يصح. فإذا تم به صلاة المستخلف، ثم قام ليقضي ما بقى عليه، هل ينتظره من كان خلفه حتى يفرغ من القضاء فيسلم بهم؟ ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 145). (¬2) انظر: النوادر (1/ 315). (¬3) في ب، جـ: أنه يتوخى. (¬4) في أ: صلاة. (¬5) انظر: المدونة (1/ 145)، والنوادر (1/ 317).

فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ينتظرونه حتى يفرغ ويُسَلِّم بهم، وهو قول ابن القاسم في الكتاب (¬1). والثاني: أنهم يسلمون ولا ينتظرونه؛ قياسًا على أحد الأقوال في صلاة الخوف. والثالث: أنهم يقدمون لأنفسهم من يسلم بهم، وهو قول أشهب (¬2). ومثار الخلاف في هذه المسألة من وجهين: أحدهما: الرخصة هل يقاس عليها أم لا (¬3)؟ والثاني: السلام هل هو ركن من أركان الصلاة أم لا؟ فمن رأى أنه ركن قال: عليهم أن ينتظرونه، فإن سلموا قبله بطلت صلاته؛ لأن الصلاة التي استخلف عليها بقى منها ركن. ومن رأى أنه ليس بركن يقول: يجوز لهم ما فعلوا. وكذلك اختلفوا فيما إذا كان في القوم من فاته من صلاة الأول مثل الذي فات المستخلف على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ينتظرونه حتى يقضي، فإذا فرغ وسلم، فعند ذلك يقومون للقضاء. وهو قول ابن القاسم (¬4). والثاني: أنهم يقومون إذا قام للقضاء، ويقضون لأنفسهم، وبه قال ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (1/ 317). (¬2) انظر: النوادر (1/ 318)، والبيان والتحصيل (2/ 87). (¬3) يجوز إثبات الرخص بالقياس، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم. (¬4) انظر: المدونة (1/ 145).

سحنون في "المجموعة" (¬1) حكايته عن بعض الأصحاب، إلا أنه قال: [ثم] (¬2) يسلمون بسلامه. والثالث: أنه يجوز [لهم] (¬3) أن [يأتموا] (¬4) بالمستخلف في القضاء، قياسًا على الأداء. [وهذا القول] (¬5) حكاه ابن سحنون عن أبيه، قال: ثم رجع فقال: يعيد أحب إليَّ (¬6). وسبب الخلاف: ما قدمناه من السلام هل هو ركن أم لا؟ وسبب آخر: من وجب عليه أن يصلي فذًا فصلى بإمام؛ مثل أن يبتدئ الصلاة وحده فأتمها بإمام، أو ابتداها بإمام فأتمها فذًا، أو وجب عليه أن يقضي فذًا فقضى بإمام، فهل تجزئه صلاته أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه يجوز لمن ابتدأ الصلاة بإمام أن يتمها [فذًا] (¬7)، وهو ظهر قول ابن القاسم في الكتاب فيما إذا خرج الإمام ولم يستخلف فصلوا وحدانًا في غير الجمعة، فقال ابن القاسم: صلاتهم جائزة، وقال سحنون: إذا وجب عليه أن يقضي فذًا، فقضى مأمومًا: إن صلاته جائزة (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (1/ 319). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، ب: يتموا. (¬5) سقط من أ. (¬6) انظر: النوادر (1/ 317). (¬7) زيادة ليست بالأصل. (¬8) انظر: المدونة (1/ 145).

والثاني: أن صلاتهم لا تجزئهم في [الجميع] (¬1). واختلف في المُسْتَخْلِف إذا جاء بعد أن توضأ فخرج المُسْتَخْلَف فأتم بهم المُسْتَخلِف بقية الصلاة على قولين: أحدهما: أن ذلك لا ينبغي ابتداء، فإذا وقع ونزل فصلاتهم جائزة، وينتظره القوم حتى يقضي ويسلم [بهم] (¬2). وهو قول ابن القاسم في "العتبية": والثاني: أن ذلك لا يجوز لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو قول يحيى بن عمر، فظاهره: أن صلاتهم باطلة. وسبب الخلاف: هل ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أم ذلك شريعة عامة؟ وهذا كله إذا اختلف عليهم الإمام قبل أن يخرج فإن خرج ولم يستخلف: فلا [تخلو حالتهم] (¬3) من وجهين: أحدهما: أن يستخلفوا لأنفسهم من يصلي بهم بقية صلاة الإمام، فهذا لا خلاف في المذهب في صلاتهم أنها جائزة. فإن استخلف كل طائفة منهم رجلًا يصلي بهم: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن صلاة كل طائفة منهم جائزة. والثاني: أن صلاة من استخلف أولًا جائزة، والأخرى لا تجوز إلا أن يكون [الثاني] (¬4) أولى بالإمامة، وهو قول ابن عبد الحكم. ¬

_ (¬1) فى جـ: الجمعة. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: يخلو حالهم. (¬4) سقط من أ.

فإن [صلوا] (¬1) وحدانًا فقولان [أيضًا] (¬2): الجواز لابن القاسم، والمنع ["لأشهب" (¬3)] (¬4). وسبب الخلاف: ما تقدم فيمن لزمه أن يصلي بإمام فصلى فَذًا، أو بالعكس [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: صفوا. (¬2) زيادة من جـ. (¬3) انظر: النوادر (1/ 315، 316). (¬4) في ب: لابن عبد الحكم. (¬5) زيادة من جـ.

المسألة الرابعة عشر فى صلاة الجمعة

المسألة الرابعة عشر فى صلاة الجمعة وفيها خمسة أسئلة: الأول: في وجوبها. والثاني: على من تجب؟ والثالث: الشروط التي تجب بها الجمعة. والرابع: في أركانها. والخامس: في أحكامها. [فهذه جملة أسئلتها] (¬1). فالجواب عن السؤال الأول: في وجوب الجمعة. وقد اختلف العلماء في وجوبها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها واجبة على الأعيان، وهو مذهب الجمهور. والثاني: أنها من فروض الكفاية. والثالث: أنها سنة، وهي رواية شاذة رويت عن مالك. وسبب الخلاف: اختلافهم في الأمر المجرد عن القرائن، هل يحمل الوجوب أو على الندب؟ (¬2). قال الله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) مذهب الجمهور أن الأمر المجرد عن القرائن يحمل على الوجوب، وهو الراجح إن شاء الله، ومذهب الأشاعرة التوقف، ومذهب المعتزلة أنها للندب. (¬3) سورة الجمعة الآية (9).

ويؤيد هذا [السبب] (¬1) تعارض الأخبار؛ فمنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعة أو ليختمن الله على قلوبهم" (¬2). وقال في حديث آخر: "من ترك الجمعة [ثلاث "مرات" (¬3)] (¬4) من غير عذر طبع الله على قلبه بطابع النفاق" (¬5). [ويعارضه] (¬6) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا يوم جعله الله عيدًا فاغتسلوا" (¬7). فشبهه - صلى الله عليه وسلم - بصلاة العيد التي هي سنة بالاتفاق. فمن رجح أن الأمر على الوجوب؛ إما بصيغة، وإما بقرينة وعيده [عليه السلام] (¬8): قال بالوجوب على الأعيان، وهو مذهب الجمهور. ومن رجح قوله عليه السلام: "إن هذا يومًا جعله الله عيدًا" (¬9) قال: إنه سنة. ومن [لاحظ] (¬10) الأمرين، وراعى الجانبين: توسط وقال: إنه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه مسلم (865) من حديث عبد الله بن عمر، وأبي هريرة. (¬3) في الأصل: ثلاثة أيام. (¬4) في ب: أيام. (¬5) أخرجه الترمذي (500)، وابن ماجة (1125)، وابن خزيمة (1857)، وابن حبان (258)، والدارمي (1570)، وأبو يعلى (1600)، والطبراني في الكبير (22/ 365) حديث (915)، (916)، وابن أبي عاصم فى "الآحاد والمثاني" (976) من حديث أبي الجعد الضمري، وعد هذا الحديث من الأحاديث المتواترة. انظر: نظم المتناثر (92). (¬6) في أ: ويعارضها. (¬7) أخرجه ابن ماجة (1098)، ومالك (146)، وحسنه الشيخ الألباني. (¬8) سقط من ب. (¬9) تقدم. (¬10) في أ، ب: توسط.

فرض على الكفاية. والجواب عن السؤال الثاني: فيمن تجب عليهم الجمعة؟ فهي واجبة على من وجبت عليه صلاة الخَمْس بزيادة شروط؛ منها [ق/ 52 أ] ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف [فيه] (¬1). فأما المتفق عليه: فالذكورية، والصحة؛ إذ لا تجب على مريض، ولا على امرأة بالاتفاق. فإن شهدها المريض أو المرأة: فالاتفاق أيضًا أنها مجزئة لهما عن الظهر. وأما المختلف فيه: وهو العبد والمسافر. أما العبد: فالخلاف فيه في المذهب؛ فالمشهور: أنها غير واجبة عليه، وظاهر ما حكاه ابن شعبان في "مختصر ما ليس في المختصر" عن مالك أنها واجبة عليه. وقد سبق الكلام في حكمه في "كتاب الصلاة الأول" بما يغني عن [إعادته] (¬2) هاهنا. وأما المسافر: فلا خلاف في المذهب أنها لا تجب عليه، وذهب داود وأصحابه (¬3) إلى أنه تجب عليه الجمعة. والاتفاق من الجميع [أنها] (¬4) [تصح] (¬5) لهما إذا حضراها وتنوب عن الظهر. ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل. (¬2) في أ: إعادتها. (¬3) انظر: المحلى (3/ 252: 255)، وعيون المجالس (1/ 400). (¬4) في أ: أنه. (¬5) في أ: لا تصح.

وسبب الخلاف: اختلافهم في الأثر الوارد في ذلك؛ وهو قوله عليه السلام: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة؛ عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض" (¬1). وفي حديث آخر: "إلا خمسة"، وفيه: "أو مسافر"، هل هو حديث صحيح أم لا؟ والحديث غير صحيح عند أكثر العلماء [فمن] (¬2) كان في أهلية الوجوب [ق/ 41 جـ] فلا يجوز له التخلف عنها إلا لعذر. والأعذار التي يجوز معها التخلف عن الجمعة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يبيح له التخلف [بالاتفاق] (¬3) كالمرض، والشغل بجنازة ميت إذا خشى عليه التغيير، ولم يجد من يكفيه مؤنته، ويشتغل بتغميض الميت، وهو يجود بنفسه. وقسم مختلف فيه، هل هو كعذر أم لا؛ كالجذماء، والبرصاء؛ لما على الناس من الضرر في مخالطتهم في الجوامع. والعروس مختلف فيه أيضًا. فأما اختلافهم في المطر، فذلك يرجع إلى حالة المطر، وليس ذلك باختلاف يرجع إلى فقه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1067)، والبيهقي في الكبرى (5368) من حديث طارق بن شهاب. قال أبو داود: طارق بن شهاب قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه شيئًا. وأخرجه الحاكم (1062)، والبيهقي في فضائل الأوقات (263) من حديث طارق بن شهاب عن أبي موسى مرفوعًا. قال البيهقي: تفرد بوصله عبيد العجل. وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (3111). (¬2) زيادة ليست بالأصل. (¬3) في أ: بآلام.

وقسم ثالث: متفق عليه أنه ليس بعذر؛ وهو الغريم إذا خشى أن يحبسه الطالب إذا خرج، فإن ذلك ليس بعذر؛ إذ لا يخلو من أن يكون موسرًا أو معسرًا؛ فإن كان موسرًا: وجب عليه أن يقضي، ومطله ظلم، وإن كان غريمًا فتبين فلسه: فلا يتعرض له، والله تعالى قد أَنْظَرَه إلى مَيْسَرَة. فإن كان مجهول الحال: فالحاكم يجتهد فيه بما يرى، فأي شيء يمنعه الخروج، وأي شيء يبيح له التخلف. والعجب ممن يشير إلى أن له التخلف إذا لم يكن له مال، ويعيب قول سحنون الذي قال: [لا] (¬1) يجوز له التخلف. فإذا سقط فرض الجمعة عن أصحاب الأعذار وعن عبد أو امرأة أو صبي أو مسافر أو مريض، فإذا حضروها [فهم] (¬2) على ثلاثة أصناف: فصنف إذا حضر تجب عليهم وتجب بهم على غيرهم؛ وهم أصحاب الأعذار من الرجال الأحرار كالمعذور بتجهيز الميت أو بتغميضه ولم يجد من يكفيه مؤنته؛ فإذا حضروا وجبت عليهم كوجوبها [عليهم] (¬3) قبل العذر. فإذا لم يكن في عدد من سواهم: [من] (¬4) تجب عليهم الجمعة إلا بإضافتهم إليهم وجبت عليهم. وصِنْفٌ لا تجب عليهم بعد حضورهم ولا تنعقد بهم؛ وهم الصغار، فإنهم لا تجب عليهم ولا تنعقد بهم على غيرهم إذا لم يكن في عدد من ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: لم.

سواهم من تجب عليهم الجمعة؛ لأنهم غير مخاطبين. وصِنْفٌ لا تجب عليهم، واختلف هل تنعقد بهم؛ وهم النساء والعبيد، والمسافرون على قولين: أحدهما: أنها لا تنعقد بهم، وهو ظاهر قول سحنون (¬1) إذا نَفَرَ الناس عن الإمام فلم يبق معه إلا النساء، والعبيد، والمسافرون: فقد قال: لا [يجمع] (¬2) إلا أن يبقى معه من الرجال الأحرار المقيمين جماعة تنعقد الجمعة بمثلها دون من ذكرنا، وأن الإمام ينتظروهم إذا كان يطمع برجوعهم حتى لا يبقى من النهار إلا قدر ما يصلي فيه الجمعة، وركعة من العصر، على الخلاف في آخر وقت الجمعة، وسنبينه بعد هذا إن شاء الله. والثاني: أنه تنعقد بهم الجمعة، وهو قول أشهب (¬3) في المسألة التي ذكرناها عن سحنون، وقال: ليس بين النساء، والعبيد اختلاف. فوجه قول من قال: تنعقد بهم الجمعة [أن الجمعة] (¬4) لما كانت تصح وتنوب عن ظهرهم صح انعقادها بهم؛ لأنهم لما شهدوها صاروا من أهلها. ووجه قول من [قال أن] (¬5) الجمعة لا تصح ولا تجب إلا بشروط، والشروط معدومة: لا تنعقد بهم، ولا تصح بهم؛ لأن الصحة فرع عن ثبوت الوجوب، والوجوب لم يتعين فلا يصح الإجزاء، وهذا القول أصح وأظهر، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 158). (¬2) في أ: يجمعون. (¬3) انظر: المدونة (455، 456). (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: منع.

والجواب عن السؤال الثالث: وهو شروط الجمعة: ولها ثلاثة شروط؛ منها: شرائط لا تجب إلا بها، وتصح دونها. وشرائط لا تصح إلا بها ولا تجب إلا بها. وشرائط لا [تصح] (¬1) إلا بها. فأما الشروط التي لا تجب [إلا بها] (¬2) وتصح دونها فهي ثلاثة: الذكورية، والحرية، والإقامة؛ لأن العبد، والمسافر، والمرأة لا جمعة على واحد منهم، فمن شهدها منهم أجزأته عن فرضه. وأما الشرائط التي لا تجب إلا بها, ولا تصح دونها، فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: منها: ما هو من شرائط الوجوب خاصة. ومنها: ما هو من شرائط الصحة خاصة. ومنها: ما هو [مختلف فيه هل هو] (¬3) من شرائط الوجوب أو الصحة. فأما ما هو من شرائط الوجوب خاصة: وهو موضع الاستيطان -قرية كانت أو مصرًا- إذا عولوا على الاستيطان في ذلك المكان سنة، فصاعدًا. وأما ما هو من شرائط الصحة خاصة: فهي الطهارة، والنية، والأذان -على المشهور في وجوبه؛ لأنه يتعلق به الفرض كالسعي المنوط ¬

_ (¬1) في أ: تجب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

بسماع النداء أو ترك البيع؛ فما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب في نفسه، وهذا هو الأظهر عند الأصوليين. وأما ما اختلف فيه، هل هو من شرائط الوجوب أو من شرائط الصحة؛ كالإمام، والجماعة، والمسجد. أما المسجد: فقد اختلف فيه متأخرو المذهب؛ فذهب [الباجي] (¬1) إلى أن المسجد من شرائط الوجوب، وذهب ابن رشد إلى أنه من شرائط الصحة دون الوجوب، وهو الصحيح إن شاء الله. وفي المذهب قول ثالث أن المسجد ليس من شرائط الصحة، ولا من شرائط الوجوب؛ [ذكره القرويون] (¬2) عن أبي بكر الأبهري، وهذا القول متأول على المدونة؛ إذ لم يذكر المسجد في صفة القرية التي تجب على أهلها الجمعة وتصح منهم. ونقل أبو القاسم بن محرز عن سحنون ما يؤيد هذا القول في جماعة من الأسارى في بلاد العدو، وبمثلهم تجب الجمعة، وقد خلَّى العدو بينهم وبين شرائعهم: أنهم يقيمون الجمعة، والعيدين -كانوا في سجن أو خلوا عنهم- فهؤلاء لا مسجد لهم، ولا وجدوه هناك. وينبني الخلاف: على الخلاف في المسجد، هل يسمى مسجدًا قبل البناء، وقبل أن يسقف، أو لا يسمى مسجدًا حتى يبنى ويسقف؟ فمن رأى أنه يسمى مسجدًا قبل البناء، وأن البقعة إذا عينت لبناء مسجد تسمى مسجدًا: قال: هو من شرائط الصحة. ¬

_ (¬1) في ب: القاضي أبو الوليد الباجي. (¬2) في ب: ذُكِرَ القولَان.

ومن رأى أنه لا يسمى مسجدًا إلا [ما] (¬1) كان مبنيًا مسقفًا: قال: إنه من شرائط الوجوب؛ إذ قد يعدم مسجد يكون على هذه الصفة. وأما الإمام والجماعة: فالمشهور أنهما من شرائط الوجوب, وقيل: إنهما من شرائط الصحة، والأول أظهر. والفرق بين شرائط الوجوب، وشرائط الصحة: أن [شرط] (¬2) الوجوب لا يجب على المكلّف [السعي في حصوله ليتعين عليه الوجوب، ولا يكون مأثومًا بترك ذلك كما لا يجب على المكلف] (¬3) أن يَسعى في طلب المال ليحصل عنده النصاب، فتجب عليه الزكاة، أو يسعى في الاستطاعة ليجب عليه الحج إن كان ممن يحتاج إلى زاد وراحلة، فكذلك لا يجب على أهل محلة أن [يتآلفوا] (¬4) ليحصل [فيهم] (¬5) عدد تقام به الجمعة، أو يسعوا في طلب إمام يحسن إقامة الجمعة [ليصليها بهم] (¬6)، ولا إثم عليهم إن تركوا ذلك. وأما شرائط الصحة: فإنها تتعين بعد حصول شرائط الوجوب؛ فإذا حصل الإمام، والجماعة والاستيطان: وجب على أهل المحلة أن يبنوا المسجد على القول بأنه من شرائط الصحة، فإن تركوا بناءه صاروا مأثومين بترك الواجب. وكذلك الطهارة، والنية، إنما تجب بعد دخول الوقت، وحصول ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) في أ، ب: شرائط. (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) في أ: يقر القرار. (¬5) في ب: عندهم. (¬6) سقط من أ، ب.

الشروط التي [قدمناها] (¬1). وهذا هو الفرق بين شروط الوجوب وشروط الصحة. فأما إذا قلنا إن الأذان من شروط صحة الجمعة، فقد اختلف فيه في ثلاثة مواضع: أحدها: في عدد المؤذنين. والثاني: في موضع الأذان. والثالث: مَنْ أَوّل مَنْ أُذِّنَ بَيْنَ يَدَيْه؟ فأما الموضع الأول: وهو عدد المؤذنين، فقد اختلف فيه على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه لا يؤذن إلا مؤذن واحد؛ وهو الذي يحرم به البيع والشراء ويجب به السعي. والثاني: أنه يؤذن اثنان فقط. والثالث: أنه يؤذن ثلاثة. والموضع الثاني: موضع [النداء] (¬2). فقد اختلف فيه العلماء أيضًا؛ فذهب [أكثرهم] (¬3) إلى الأذان على الأرض بين يدي الإمام، وذهب بعضهم إلى الأذان على [الشرفات] (¬4) [ق/ 53 أ] وذهب آخرون إلى أن الأذان [إنما يكون] (¬5) على المنار؛ ¬

_ (¬1) في أ: قدمنا. (¬2) في ب: الأذان. (¬3) في أ: بعضهم. (¬4) في الأصل: الشرافات. (¬5) سقط من أ.

يؤذن واحد بعد واحد، وهو مذهب مالك رحمه الله وهو الذي روى ابن حبيب (¬1) أن المؤذنين كانوا [يوم الجمعة] (¬2) على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة. والموضع الثالث: مَنْ أَوّل مَنْ أُذِّنَ بَينَ يَدَيه ونصب عينيه؟ فقيل: إن أول من أُذِّنَ بين يديه رسول الله وهو المشهور في الآثار. قال مالك رحمه الله: هشام بن [عبد الملك] (¬3) هو الذي أحدث الأذان بين يديه، وإنما الأذان [على المنار] (¬4) واحدا بعد واحد إذا جلس الإمام على المنبر، فإذا فرغوا قام [وخطب] (¬5)؛ وهو الذي يحرم به البيع. وقال مالك أيضًا: ولا أحب ما أحدثوا من الأذان على الشرفات حذو الإمام، ولكن الإقامة كذلك، وليقيموا بالأرض، وبعضهم على المنار [لإسماع] (¬6) الناس، وهذا قوله في "النوادر" (¬7). وسبب الخلاف: اختلاف الآثار في ذلك؛ وذلك أنه روى البخارى (¬8) عن السائب بن يزيد أنه قال: كان الأذان يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء. ورُوي أيضًا عن السائب بن يزيد أنه قال: لم يكن يوم الجمعة لرسول ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (1/ 467). (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) في أ، ب: عروة. (¬4) سقط من أ، ب. (¬5) سقط من أ، ب. (¬6) في الأصل: الاستماع. (¬7) انظر: النوادر (1/ 467، 468). (¬8) أخرجه البخاري (870).

الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مؤذنًا واحدًا (¬1). وروى أيضًا عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان الأذان يوم الجمعة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما أذانًا واحدًا حين يخرج الإمام، فلما كان زمان عثمان رضي الله عنه كثر الناس، فزاد الأذان ليتهيأ الناس إلى الجمعة. وروى ابن حبيب أن المؤذنين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا (¬2). ومنهم من ذهب إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له إلا مؤذن واحد. وقيل: إن معنى قوله: فلما كان عثمان، وكثر الناس زاد النداء الثالث: أن النداء الثاني هو الإقامة. وأما الجماعة التي تقوم بهم الجمعة -على القول بأنها من شرائط الوجوب، أو من شرائط الصحة- فقد اختلف العلماء في مقدارها، وعددها على خمسة مذاهب: أحدها: أن أقلها واحد مع الإمام، وهو مذهب الطبري. والثاني: اثنان سوى الإمام (¬3). والثالث [ق/ 26 ب]: ثلاثة دون الإمام، وهو مذهب أبي حنيفة (¬4). والرابع: أن أقل العدد الذي تقوم به الجمعة: أربعون رجلًا، وهو مذهب الشافعي (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (871). (¬2) انظر: النوادر (1/ 467). (¬3) وهو مذهب أبي يوسف. (¬4) انظر: الهداية (1/ 90). (¬5) انظر: الأم (1/ 190).

والخامس: ثلاثون رجلًا، وهي رواية عبد الملك عن مالك (¬1). وفي المسألة قول سادس: بأنه لا يشترط في ذلك عدد، ولكن يرى أنه يجوز بما دون الأربعين، ولا يجوز بالثلاثة والأربعة، وهذا حقيقة مذهب مالك رحمه الله، وظاهره يرجع إلى قول عبد الملك الذي هو القول الخامس؛ فترجع المسألة إلى خمسة أقوال على الصحيح. وسبب الخلاف: اختلافهم في أقل الجمع، هل هو اثنان أو ثلاثة (¬2)؟ وهل الإمام داخل أو ليس بداخل فيه؟ وهل الجمع المشروط في هذه الصلاة هو أقل ما ينطلق الجمع عليه [ق/ 42 جـ] أو ما ينطلق عليه اسم [الجمع] (¬3) في غالب الأحوال، وذلك هو أكثر الثلاثة أو الأربعة. وأما من اعتبر الأربعين فيصير إلى ما روى أن هذا العدد كان في أول جمعة صليت بالناس، وأما من لم يُحَدّد في ذلك حَدًا: فإنه لما كان من شروط الجمعة الاستيطان عنده: حد هذا الجمع بالقدر من الناس الذين يمكنهم السكنى والاستقرار والذَّب عن أنفسهم والدفع عن أموالهم وحريمهم ممن يريد إذايتهم حتى يأتيهم غوث من يليهم من إخوانهم من المسلمين [وجب] (¬4) مراعاة هذا القدر، وهو مشهور مذهب مالك. وأما الوقت: فهو من شروط الأداء. ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (1/ 452). (¬2) اختلف في هذه المسألة على ثمانية مذاهب أرجحها وأولاها بالصواب هو أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة، ولا يطلق على الاثنين والواحد إلا مجازًا. وهذا هو مذهب جمهور العلماء من فقهاء وأصوليين. انظر: أقل الجمع عند الأصوليين وأثر الاختلاف فيه. للدكتور: عبد الكريم بن علي النملة. (¬3) في أ، ب: الجنس. (¬4) في ب: وأوجب.

ووقتها: وقت صلاة الظهر -بعد الزوال- ولا خلاف في ذلك بين علماء المسلمين، إلا ما يروى عن أحمد بن حنبل وبعض أهل الظاهر؛ فإنهم جوزوا أن تصلى الجمعة قبل الزوال؛ واعتبروا [ظاهر] (¬1) ما خرجه البخاري عن سهل بن [سعد] (¬2) أنه قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد الجمعة (¬3). وروى أيضًا أنهم كانوا يصلون وينصرفون وما للجُدُر ظلال؛ ففهموا من ذلك أن الصلاة قبل الزوال، والجمهور فهموا من ذلك التبكير فقط باعتبارين: أحدهما: اعتبار ما ثبت من حديث أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس (¬4)، وحديث الطِّنْفِسَة (¬5) أيضًا (¬6). والاعتبار الثاني: من طريق النظر؛ وذلك أن الإجماع منعقد [على] (¬7) أن صلاة الظهر لا يجوز أن تصلى إلا بعد زوال الشمس، وما روى عن أبي بكر رضي الله عنه غير صحيح عند العلماء؛ فوجب بهذا الاعتبار قياس الجمعة على الظهر؛ لأنها بدل منها، وهذا في أول وقتها الاختياري. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في الأصل: سعيد. (¬3) أخرجه البخاري (897)، ومسلم (859). (¬4) أخرجه البخاري (862). (¬5) بساط له خمل رقيق. (¬6) أخرجه مالك (13). (¬7) سقط من أ.

وأما آخر وقتها: فقد اختلف فيه المذهب على [خمسة] (¬1) أقوال: أحدها: أن [آخر وقتها] (¬2) دخول وقت العصر، وهو قول الأبهرى، فإذا دخل وقت العصر، فقد فات وقت الجمعة، ويصلون الظهر أربعًا. والثاني: أن [آخرها] (¬3) الاصفرار، وهو قول أصبغ. والثالث: أن آخر وقتها ما لم يبق للمغرب بعد الجمعة إلا أربع ركعات للعصر [وهو قول سحنون] (¬4). والرابع: ما لم يبق إلا ركعة للعصر، وهو قول ابن القاسم في [المدونة] (¬5). والخامس: أنها تصلى ما بينهم وبين الغروب، وإن لم تصلي العصر إلا بعد الغروب، وهي رواية مطرف عن مالك رحمه الله وهي قول ابن القاسم] (¬6) في رواية ابن عتاب. وسبب الخلاف: معارضة العمل للقياس؛ وذلك أن القياس يوجب أن تصلى الجمعة في كل وقت يجوز أن تصلى فيها الظهر، ويسمى مصليًا مؤديًا، إلا أن العمل على خلاف ذلك؛ إذ لم يأت بذلك حديث ولا ثبت عن أحد من الخلفاء أنه كان صلاها عند الاصفرار أو عند الغروب. فمن رجح القياس، قال: إنها تصلى ما بينهما وبين الفراغ منها، ويدرك ركعة واحدة قبل الغروب من صلاة العصر. ¬

_ (¬1) في أ: ثلاثة، والمثبت من ب. (¬2) في أ: آخرها. (¬3) في ب: آخر وقتها. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: العتبية. (¬6) سقط من أ.

ومن رجح العمل قال: لا تصلى بعد خروج الوقت المختار للظهر إلا أربعًا. والجواب عن السؤال الرابع: في أركان الجمعة. ولها ركنان: الخطبة، وركعتان بعد الخطبة. فأما الركن الأول؛ الذي هو الخطبة، فهل هو شرط في صحة الصلاة، أو ركن من أركانها؟ فبين العلماء فيها اختلاف؛ فقيل: إنها ركن من أركانها، وقيل: إنها ليست بركن. وسبب الخلاف: هل فرض الجمعة أربع ركعات وأنها حُطَّت منها ركعتان للخطبة، أو فرض الجمعة ركعتان خاصة؟ فعلى القول بأن الخطبة ليست بركن، وإنما هي من الشروط، فهل هي من شروط صحتها، أو من شروط كمالها؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها من شروط الصحة، وهو قول مالك وأكثر أصحابه؛ [ونصُّ المدونة حيث قال:] (¬1) لا تجمع الجمعة إلا [بالجماعة] (¬2) والإمام بالخطبة، وهذا القول هو المشهور. والثاني: أنها سنة، ومن صلى بغير خطبة أجزأه, وهو قول عبد الملك [بن الماجشون] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: ونص الجمعة والصواب ما أثبتناه من ب. (¬2) في ب: بجماعة. (¬3) سقط من أ.

وسبب الخلاف: [اختلافهم] (¬1) في المفهوم من قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} (¬2). ما الذكر المأمور بالسعي إليه؟ هل الذكر الأول الذي هو الخطبة؟ أو الذكر الثاني الذي هو الصلاة؟ فمن رأى أن المراد [بالأمر] (¬3) السّعي أول الذكر حتى يستوعب [الذكرين] (¬4) جميعًا ذكر الخطبة وذكر الصلاة يقول: إن الخطبة واجبة، ولاسيما أن البيع يحرم عند النداء؛ وما ذلك إلا ليسعوا إلى [استماع] (¬5) الخطبة، فلو كانت غير واجبة لم يحرم البيع إلا عند الدخول في الصلاة. ومن رأى أن المراد بذلك الذكر: هو الصلاة؛ لأنه هو الذكر المقصود؛ بدليل أن من [فاتته] (¬6) الخطبة، وأدرك الصلاة أنه أحرز فضيلة الجمعة وفرضها إذا لم يتعمد إلى ترك شهود الخطبة، ويكون معذورًا بالتأخير. وأما من قصد التراخي عند الخطبة [رغبة] (¬7) عنها: [فجمعته] (¬8) ناقصة الفضيلة. [و] (¬9) عكسه إذا شهد الخطبة وفاتته الصلاة، فإنه لا يحصل له من ¬

_ (¬1) سقط من أ (¬2) سورة الجمعة الآية (9). (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: أول الذكر. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: فاته. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: فجمعه. (¬9) في أ: أو.

أجر الجمعة إلا مثل ما يحصل لمن [غُلِب] (¬1) عن السعي إليها، ويبقى متعلق القلب بها. وعلى القول بأنها من شرائط الجمعة، وفرض من فروضها، هل الطهارة من شروطها أو يجوز له أن يخطب بغير طهارة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الطهارة من شروطها، وهي فرض؛ فمن خطب وهو على غير طهارة ثم توضأ للصلاة: لم تجزيهم، وأعادوا أبدًا. وهو قول سحنون، وهو ظاهر "المدونة" (¬2)؛ لقوله: أنه إذا أحدث فيها، فإنه يستخلف من يتمها، ويصلي. ولم يجعله يتمها بغير طهارة؛ كما قال في خطبة العيد. والقول الثاني: [أنها تجوز] (¬3) بغير طهارة، وأنه إن خطب [على غير] (¬4) وضوء، ثم صلى بوضوء: أن صلاتهم جائزة. وهو قول عبد الملك في "ثمانية أبي زيد" (¬5). واستحب [القاضي عبد الوهاب] (¬6) أن تكون الخطبة بطهارة (¬7)، وهذا منه جنوح إلى مذهب عبد الملك. ¬

_ (¬1) في جـ: غاب. (¬2) انظر: المدونة (1/ 155). (¬3) في أ: أنه يجوز. (¬4) في ب: بغير. (¬5) انظر: النوادر (1/ 476، 477). (¬6) في أ: عبد الوهاب القاضي. (¬7) انظر: عيون المجالس (1/ 414، 415).

فوجه قول من قال بوجوب الطهارة لها؛ لاتصالها بالصلاة؛ إذ ليس بجائز أن يتعمد إلى الخطبة بغير طهارة حتى [إذا فرغ فليخرج] (¬1) ليتوضأ وينتظره القوم حتى يرجع؛ لأن ذلك خلاف السنة في الجمعة من وجوه: منها ترك غسل الجمعة، وهو سنة [في المذهب] (¬2). ومنها: مخالفة السلف والخلف في كونه يخطب، وهو محدث عامدًا. ومنها: تأخير الصلاة [عن الخطبة] (¬3) وذلك مخالف [ق/ 54 أ] للسنة. ووجه قول من قال: يجوز أن يخطب على غير وضوء: لأن الخطبة ذكر وثناء وصلاة على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ووعظ، فلا يفتقر إلى الطهارة قياسًا على سائر الأذكار. [وعلى القول بوجوبها] (¬4) فما [العدد] (¬5) الذي يجب منها، ويقع الاجتزاء به؟ فاختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أنه لابد من خطبتين يفصل بينهما بجلسة؛ ويجزئه أقل ما ينطلق عليه اسم الخطبة في كلام العرب [من الكلام] (¬6) المؤلف المنظوم، المبتدأ بالحمد لله، وبه قال الشافعي، إلا أنه اشترط أن تكون فيه الصلاة ¬

_ (¬1) في ب: يفرغ فيخرج. (¬2) في ب: عندنا. (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ، ب: القدر. (¬6) سقط من أ، ب.

على محمد - صلى الله عليه وسلم - ويوصي بتقوى الله العظيم، ويقول شيئًا من القرآن في الأولى، ويدعو في الآخرة. والقول الثاني: أنه يخطب خطبتين، فإن [سهى عن] (¬1) الثانية، أو [حُصر] (¬2) عنها، أو تركها: فالأولى تكفيهم، ولو لم يكن أيضًا أتم الأولى [إلا أنه] (¬3) أثنى على الله، وتشهد، وأمر، ونهى، ووعظ، وقال خيرًا وإن كان خفيفًا جدًا، فذلك يجزئهم عنه. وسبب الخلاف: هل يجزئهم من ذلك أقل ما [يقع] (¬4) عليه الاسم اللغوى، أو الاسم الشرعي؟ فمن رأى أن المجزئ من ذلك أقل ما يقع عليه الاسم اللغوي لم يشترط فيها شيئًا من الأقوال التي نقلت عنه - صلى الله عليه وسلم - فيها: ومن رأى أن المجزئ من ذلك أقل ما يقع عليه الاسم الشرعي: اشترط فيها حصول الأقوال التي نقلت من خطبته عليه السلام. واختلف أيضًا هل من شروطها الجماعة أم لا؟ فالمشهور أن الجماعة من [شروطها] (¬5) وأنها لا تصح إلا بها، وهو تأويل الباجي على "المدونة" في بعض الروايات: ولا تجمع الجمعة إلا بالإمام والجماعة والخطبة. وهذه الرواية إن صحت فهي نص في محل النزاع؛ لأن العراقيين من ¬

_ (¬1) في أ: نسى. (¬2) في جـ: اقتصر. (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) في ب: يطلق. (¬5) في أ: فروضها.

أصحاب مالك قالوا: ليس عن مالك في ذلك نص، ولكن الرواية المشهورة بالخطبة. وعلى القول بأن الجماعة من شروطها، وهل من شروط صحة الصلاة استدامة الجماعة من أول الصلاة إلى آخرها؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: على ما حكاه أبو الوليد بن رشد أن ذلك من شروط صحتها، وأن الناس لو انفضوا عنه قبل السلام حتى لم يبق [معه] (¬1) إلا النساء، والعبيد، ومن لا عدد له من الرجال: لبطلت الصلاة. والثاني: أن الصلاة جائزة إن لم ينفضوا عنه حتى صلى ركعة؛ قياسًا على من أدرك [ركعة] (¬2) من صلاة الإمام أنه [يقضي] (¬3) ركعة، [واحدة] (¬4) وتكون له جمعة. والثالث: أنه إذا أحرم بالجماعة فصلاته جائزة، وإن انفضوا قبل ركعة منها إذا انفضوا بعد الإحرام. وهو ظاهر "المدونة" من [باب] (¬5) الرُّعاف. والأقوال الثلاثة كلها قائمة من "المدونة" [وبالله التوفيق] (¬6). والجواب عن السؤال الخامس: في أحكام الجمعة: ¬

_ (¬1) في الأصل: معهم. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: يصلي. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: كتاب. (¬6) زيادة من جـ.

وأحكامها تنقسم إلى ما كان عبادة، وإلى ما كان عادة. ومن أحكامها العبادية: الغسل: ولا خلاف أنه ليس [من شرط] (¬1) الصلاة، وإنما الخلاف في نفسه؛ هل هو فرض أو سنة؟ فذهب الجمهور إلى أنه سنة، وذهب أهل الظاهر إلى أنه فرض (¬2). وسبب الخلاف: معارضة الآثار؛ منها حديث أبي سعيد الخدري، وهو قوله عليه السلام: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" (¬3) كغسل الجنابة. ومنها حديث عائشة رضي الله عنها كان الناس عمال أنفسهم يروحون إلى الجمعة بهيئتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم (¬4). أو كما قال. فحديث أبي سعيد الخدرى صحيح بالاتفاق، والثاني أخرجه أبو داود ومسلم. ومنها: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونِعْمَت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" (¬5). ¬

_ (¬1) في ب: بشرط في صحة. (¬2) انظر: المدونة (1/ 136)، والأم (1/ 197)، والمغني (2/ 199). قال القاضي عبد الوهاب: غسل الجمعة سنة، وبه قال جميع الفقهاء أنه ليس بفرض، إلا ما روي عن كعب الأحبار رضي الله عنه أنه قال: لو وجدت ماء بدينار لاشتريته به، وهذا يدل على أنه يذهب إلى وجوبه، وبه قال داود رحمه الله. عيون المجالس (1/ 248، 249). (¬3) أخرجه البخاري (820)، ومسلم (846). (¬4) أخرجه البخاري (861)، ومسلم (847) , وأبو داود (352). (¬5) أخرجه أبو داود (354)، والترمذي (497)، والنسائي (1380)، وأحمد (19585)، والدارمي (1540) من حديث سمرة رضي الله عنه. =

وهو نص في سقوط فرض الغسل، إلا أنه حديث ضعيف. ومنها قوله: فبها ونعمت: يعني: فبالسنة أخذ ونعمت الخصلة أو نعمت الفعلة الوضوء؛ لأن سنة المصلي إذا أراد [أن يصلي] (¬1) أن يتوضأ، ولم يرد [بالسنة هاهنا] (¬2) خلاف الفرض، ولا يعتقد ذلك، ويعزيه [إلى أنه الظن] (¬3) إلا جاهل بحدود الشريعة. ومنها حديث [ابن عمر] (¬4) وعثمان رضي الله عنهما [في] (¬5) الوضوء [أيضًا] (¬6) بالمد. فمن حمل حديث أبي سعيد الخدري على ظاهره: فيقول بالوجوب. ومنهم من حمله على أنه كغسل الجنابة في الصفة والهيئة لا في الوجوب، ويستدل على صحة هذا التأويل ببقية الأحاديث حمله على السنة دون الوجوب، وهو الصحيح. واختلف القائلون أنه سنة؛ هل [هو] (¬7) مشروع لمعنى، أو لغير معنى؟ ¬

_ = قال الترمذي: حديث حسن. وحسنه النووي في شرح مسلم (6/ 133). وقال أبو حاتم الرازي: هو صحيح. تحفة المحتاج (644). وصححه الحافظ في التلخيص الحبير (655)، وابن الملقن كما في خلاصة البدر المنير (764)، وحسنه الشيخ الألباني رحم الله الجميع، فلا اعتبار بقول المصنف أنه ضعيف. (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: السنة أخذها هنا. (¬3) سقط من ب. (¬4) في أ، ب: عمر. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من ب. (¬7) سقط من أ.

فبعضهم يقول لمعنى، وهو ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها. ومنهم من يقول: إنها لغير معنى، وهو ظاهر مذهب مالك، وقال في المدونة: إذا اغتسل ثم تغدى أنه يعيد الغسل، ومعلوم [ق/ 43 ب] أن الغسل الذي يفسده الأكل [غير] (¬1) معقول المعنى. ومن أحكامها: معرفة من يجب عليه إتيانها ممن كان خارج المِصْر، ولا خلاف فيمن كان على مرحلتين من المدينة أنه لا يجب عليه [إتيانها] (¬2)، واختلف فيمن [هو] (¬3) دون ذلك على قولين. أحدهما: [أنها تجب] (¬4) على من كان على مسيرة يوم من البلد. وهذا القول حكاه القاضي حفيد ابن رشد عن مالك، وهو قولٌ غريب شاذ. [والثاني: أنها تجب على من كان في ثلاثة أميال أو زيادة يسيرة، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وهو مشهور المذهب] (¬5). وسبب الخلاف: [اختلاف] (¬6) الآثار الواردة في الباب. فمنها: ما خرجه أبو داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة على من سمع النداء" (¬7). ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) في ب: إتيان الجمعة. (¬3) في ب: كان. (¬4) في أ: يجب. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) أخرجه أبو داود (1056) وحسنه الشيخ الألباني في الإرواء (593).

[ومنها] (¬1) ما ورد أن الناس كانوا يأتون من العوالي إلى الجمعة في زمان النبى - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، [هي] (¬3) ثلاثة أميال من المدينة. ومنها: ما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة على من آواه الليل إلى أهله" (¬4). وهو أثر ضعيف. وعلى القول باعتبار ثلاثة أميال، من أين تُقَدَّر؟ على قولين: أحدهما: أنها تقدر من المنار، وهو ظاهر قول مالك في "المجموعة"؛ لأنه قال: "الجمعة على من سمع النداء"، وبه قال [القاضي عبد الوهاب] (¬5). والثاني: أنها تقدر من طرف البلد، وبه قال ابن عبد الحكم، وهو الصحيح؛ إذ قد يكون بين المنار وآخر البلد أكثر من ثلاثة أميال. واختلف إذا وافق يوم العيد يوم الجمعة، هل يجوز للإمام أن يأذن لمن كان [خارج المصر] (¬6) ممن يجب عليه إتيان الجمعة على التخلف يوم الجمعة إذا شهدوا العيد على قولين: أحدهما: أنه لا يجوز للإمام أن يأذن لهم، ولا يجوز لهم التخلف، وإن أذن لهم. ¬

_ (¬1) في أ، ب: ومنه. (¬2) أخرجه البخاري (860)، ومسلم (847). (¬3) في أ، ب: وبينهما. (¬4) أخرجه الترمذي (501) وضعفه، ونقل تضعيف الإمام أحمد له، ووافقه الحافظ ابن حجر في الفتح (2/ 385) وضعفه الشيخ الألباني. (¬5) في أ: عبد الوهاب القاضي. (¬6) في أ: خارجًا.

وهي رواية ابن القاسم عن مالك في "المدونة" (¬1)؛ [لأنه قال: لم يأخذ مالك بإذن عثمان لأهل العوالي وقال: لم يبلغني عن غيره. وروى ابن حبيب عن بعض أصحاب مالك] (¬2) أن مالكًا أخذ [بإذن] (¬3) عثمان لأهل العوالي، وبه قال أكثر أصحاب مالك إلا ابن القاسم، وقد جاء في الحديث (¬4) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في التخلف عن الجمعة لمن كان خارج المدينة من [أهل] (¬5) القراء ممن شهد عيد الفطر، والأضحى صبيحة ذلك اليوم؛ لأن ذلك من باب الرفق بهم لما بهم [فيه] (¬6) من الحاجة إلى مؤانسة أهلهم ذلك اليوم واجتماعهم معهم على ضيافة الله تعالى, ولاسيما ذوي صبيان صغار يحتاجون إلى أن يفرحوهم ويدخلوا السرور عليهم؛ لأنه [بين] (¬7) حالتين: إما أن يقعد في البلد حتى يصلي الجمعة ثم ينصرف إلى أهله. وإما أن ينصرف بانصراف الناس من العيد ثم ينقلب إلى صلاة الجمعة. وكلا الحالتين لا [تُحَصِّل لأهله الغرض] (¬8) المقصود. ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 153). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: بأذان. (¬4) لما في هذا: إلا على أثر عثمان الذي أخرجه مالك (431) والشافعي في الأم (1/ 239)، وفي المسند (77)، وابن حبان (3600)، والبيهقي في الكبرى (6085)، وصححه موقوفًا أن عثمان خطب في يوم عيد وجمعة، فقال: من أحب من أهل العوالي أن ينتظر الجمعة فلينتظر ومن أحب أن يرجع فليرجع. وحديث أبي داود (1173)، وابن ماجة (1311)، وهو صحيح أيضًا. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: يسن. (¬8) في ب: يحصل بهما.

وسبب الخلاف: العموم هل يخصص بأخبار الآحاد أم لا؟ ولا شك أن شهود الجمعة فريضة، وشهود العيد سنة، والآكد لا يسقطه الأضعف. ومن أحكامها: البكور إليها. واختلف في وقتها على ثلاثة مذاهب: أحدها: أن يكون أول النهار، وهو مذهب الشافعي، وبه قال ابن حبيب -من أصحابنا. والثاني: أنه في الساعة السادسة، وهو مشهور مذهب مالك. والثالث: أنه قبل الزوال. وسبب الخلاف: اختلافهم في تأويل قوله عليه السلام: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة" (¬1) إلى أن عدَّد الساعات [خمس ساعات] (¬2) هل ذلك ساعات النهار أم لا؟ فذهب الشافعي ["وابن حبيب" (¬3)] (¬4) إلى أن ذلك في [ساعات] (¬5) النهار من أوله. ومالك رضي الله عنه يرى أن ذلك كله ساعة واحدة [وأنها] (¬6) أجزاء ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (841)، ومسلم (850). (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: تفسير غريب الموطأ (1/ 230، 232) لابن حبيب. (¬4) في جـ: وأبو حنيفة. (¬5) في أ: ساعة. (¬6) سقط من أ.

من الساعة السادسة، ولم ير التبكير لها من أول النهار. رواه ابن القاسم وأشهب عن مالك في "العتبية" (¬1)، والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك رحمه الله من الحديث من وجوه: منها: أن الساعة السادسة من أول النهار لم يذكر عليه السلام فضيلة من راح فيها، وليست بوقت قعود الإمام على المنبر، ولا بوقت استماع الذكر منه. ومنها: أن الحديث عنده يقتضي أنه عند قعود الإمام على المنبر، وترتفع فضيلة الرواح، وتحضر الملائكة للذكر؛ فدل على أنه لم يرد الساعة الخامسة؛ لأن الساعة تفصل بينها وبين الذكر، فإذا ثبت ذلك تيقن أنه أراد به أجزاء من الساعة السادسة، وتلك الساعة [يتم] (¬2) تجزئتها على خمسة أجزاء أو أقل أو أكثر. ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثم راح في الساعة الأولى" والرواح إنما يكون نصف النهار عند الزوال، وهذا الذي صححه أبو الوليد بن خلف [الباجي] (¬3) وابن حبيب، وابن أبي زمنين وغيرهم ممن ينتحل الحديث؛ لأن الرواح في الساعة السادسة وتصلى الجمعة في أول الساعة السابعة [ق/ 55 أ]. وغيرهم يختار مذهب من يرى أن ذلك قبل الزوال وبعد [الغدو] (¬4). والقسم الثاني من أحكامها العادية: البيع وأقسامه، والمعروف ¬

_ (¬1) انظر: البيان والتحصيل (1/ 389) والنوادر (1/ 465). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في الأصل: الغد.

وأنواعه: أما البيع بعد النداء: فلا خلاف في [المذهب] (¬1) أنه يمنع ابتداء، فإن نزل هل يَمْضِي، أو يُرَد؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يمضي بالعقد ولا يرد، فات أم لا. وهي رواية ابن وهب، وعليّ بن زياد عن مالك ويستغفر الله تعالى. والثاني: يفسخ مع القيام ويمضي مع الفوات، وهي رواية ابن القاسم عن مالك في "المدونة" (¬2) وعليها أكثر الأصحاب. والثالث: التفصيل بين أن يكون من قوم اعتادوا البيع [بذلك] (¬3) الوقت، فتفسخ تلك البياعات كلها، وإن لم تكن لهم عادة يزجروا عن ذلك ولم يفسخ. وهو قول عبد الملك في "ثمانية أبي زيد" (¬4). وسبب الخلاف: النهي هل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟ (¬5). وعلى القول بأن البيع يمضي ولا يرد هل يكون الربح سائغًا للمشتري أم لا؟ على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: المدونة (1/ 154). (¬3) في الأصل: ذلك. (¬4) انظر: النوادر (1/ 468، 469). (¬5) تقدم بيان ذلك.

أحدهما: أن الربح له حلال، وبه قال مالك. والثاني: أنه يتصدق به، ولا يأكله على معنى الكراهة، وهو قول ابن القاسم وأصبغ؛ لأن ذلك مال أشغله عن العبادة [فيكره] (¬1) أن ينتفع به، كما فعل سليمان عليه السلام، وكما فعل أبو طلحة الأنصارى بحائطه حين سها فيه لأجل الدبسي. وعلى القول بأنه مفسوخ ويفوت بها ما يفوت به البيع الفاسد من حوالة الأسواق فاعلًا هل يضمن بالقيمة أو بالثمن؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يضمن بالقيمة. وهو قول ابن القاسم وأشهب. والثاني: أنه يضمن [بالثمن] (¬2) وهو قول المغيرة. وسبب الخلاف: هل يجوز قياس البيع على النكاح أم لا؟ وذلك أن النكاح الفاسد لعقده ففيه صداق المسمى، وهل البيع كذلك: وذلك أن البيع وقت النداء فساده في عقده لأجل النهي الذي وقع فيه. وإن انتقض وضوءه فلم يجد الماء إلا بالثمن، فقد قال الشيخ أبو محمد: يجوز أن يشتري ولا يفسخ، والذي قاله صحيح [ق/ 27 ب] وينبغي أن يكون موضع الاتفاق. وعلى القول بأنه يمضي بالقيمة، فقيمته متى؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) في أ: فكره. (¬2) في الأصل: بالقيمة.

أحدهما: أن عليه قيمتها حين قبضها، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن عليه قيمتها بعد صلاة الإمام وحين يحل البيع، وهو قول أشهب. فوجه قول أشهب أن المعتبر في معرفة القيمة وقت يجوز فيه البيع، والبيع وقت النداء لا يجوز فكيف تعرف قيمة السلعة في وقت لا يحل فيه بيعها. ووجه قول ابن القاسم: أن البيع الفاسد، القيمة فيه يوم القبض فيكون عليه في البيع وقت النداء قيمة السلعة ساعة قبضها، وإن كان البيع لا يحل في تلك الساعة غير أنا نقومها على أن لو جاز البيع فيه كما تقوم ما لا يحل بيعه بحال أن لو جاز بيعه كالخرز في الجراح، وجلد الميتة، وأم الولد وغير ذلك. وهذا هو الصحيح عند أهل النظر. وقال الشيخ أبو عمران الفاسي: إن مَنْ فَرَّطَ في صلاة الظهر، والعصر حتى لم يبق للمغرب [إلا مقدار] (¬1) خمس ركعات أنه [إن] (¬2) باع واشترى حينئذ: فسخ بيعه. وقال ابن عبد الحكم في الأخذ بالشفعة والإقالة وأخواتها [أنها] (¬3) كالبيع، وكذلك سائر الإجارات؛ لأنه مما يتكرر وقوعه. وأما المعروف: وأنواعه كالنكاح، و [البيع] (¬4) والهبة، والصدقة، والعارية، هل تفسخ إذا وقعت [بالمعروف] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: غير. (¬2) زيادة ليست بالأصل. (¬3) سقط من أ. (¬4) أظنها زائدة. (¬5) سقط من أ.

فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه كالبيع، وهو قول أصبغ في النكاح، ويلزم على قوله مثل ذلك في الهبة، والصدقة. والثاني: أن ذلك لا يفسخ إذا وقع -لا نكاح ولا هبة. وينبني الخلاف: على الخلاف في العلة التي من أجلها حرم البيع وقت النداء، هل لأجل أن ذلك حق الله تعالى، أو لأجل أن ذلك حق لأهل السوق؟ فمن رأى أن ذلك حق لله تعالى قال: بفسخ البيع، لكونه مشغولًا بالبيع، والشراء، وانعقاد العقود عن السعي الواجب عليه، فيعاقب بنقيض مقصوده، وفوات مراده؛ فيفسخ بيعه وتنقض صفقته، فيقول: إن سائر العقود كالبيع؛ لأن العلة شاملة. ومن رأى أن ذلك حق لأهل السوق ومخافة أن يستبد بعضهم عن بعض [بالغرض] (¬1) في البيع؛ إما في أعيان السلع، وإما في الأرباح، فعاقبه الشرع بنقيض [المقصود] (¬2) فأمر بفسخ بيعه حتى يفوت عليه [الغرض] (¬3) بالكلية، ولذلك لم يجعل الخيار لأهل السوق كما فعل في [التلقي] (¬4) وغيره، فيقول: إن عقد النكاح وغيره من عقود المعارف جائزة؛ [لعزوفها] (¬5) عن العلة المعتبرة، والله أعلم. وهذا الذي يحتاج إلى [تحصيله] (¬6)، [وأما خصائصها التي تتفرد بها ¬

_ (¬1) في أ، ب: في الغرض. (¬2) في ب: مقصوده. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: باقي السلع. (¬5) في أ: لعزوفه. (¬6) في أ: تلخيصه.

من بين سائر الصلوات فخمسة: الغسل، والتطيب، والإِنصات، وتعجيل الرواح وترك التخطي] (¬1) والحمد الله وحده [وصلى الله عليه وسلم] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) سقط من أ.

منَاهِجُ التَّحْصِيلِ وَنَتائجُ لَطائِفِ التَّأْوِيلِ فى شَرْحِ المدَوَّنَةِ وحَلِّ مُشكِلاتهَا تَأليفْ أبى الحَسَن عَلىّ بنْ سَعْيد الرجراجي تَقديم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور علي علي لُقَم اعتَنَى بهِ أبو الفضل الدمياطى أحمد بن عليّ الجُزءُ الثَّانى مركز التراث الثقافى المغربى دار ابن حزم

حُقُوقُ الطَّبعِ محْفوَظة الطّبْعَة الأولى 1428 هـ -2007 م ISBN 9953 - 81 - 431 - 7 الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها مركز التراث الثقافي المغربي الدار البيضاء - 52 شارع القسطلاني - الأحباس هاتف: 442931 - 022 / فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هاتف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

منَاهِجُ التَّحْصِيلِ وَنَتائجُ لَطائِفِ التَّأْوِيلِ فى شَرْحِ المدَوَّنَةِ وحَلِّ مُشكِلاتهَا 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على نبينا محمد وآله. تحصيل مشكلات هذا الكتاب [وجملتها] (¬1) تسع مسائل: المسألة الأولى الصلاة على الجنائز هل هي فرض أو سنة؟ ويقال الجنازة: بالكسر والفتح. وقيل: [بالكسر] (¬2) للميت وبالفتح، وبالكسر: السرير الذي يحمل عليه الميت. واختلف في الصلاة على الجنازة، هل هي فرض أو سنة: على قولين (¬3): أحدهما: أنها فرض، وبه قال ابن عبد الحكم في كتاب محمد. والثاني: أنها سنة، وهو قول أصبغ (¬4). فعلى القول بأنها فرض، هل هي فرض من فروض الكفاية، أو من فروض الأعيان [قولان] (¬5). وسبب الخلاف: اختلافهم في القول بدليل الخطاب، هل يقال به أم لا؟ وذلك أن الله تعالى قال في كتابه العزيز: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) انظر: المدونة (1/ 587). (¬4) قال في النوادر (1/ 587): قال أصبغ: الصلاة على الموتى سُنة واجبة. (¬5) سقط من أ.

أَبَدًا} (¬1). فنهى الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على الكفار إذا ماتوا لعلة الكفر. ومفهومه أنه أمر بالصلاة على المؤمنين. وبعضهم يقول: وإن كنا نقول بدليل الخطاب فلا يفهم من هذه الآية؛ لأن النهي عن الشيء أمر بأخذ أضداده، فإذا كان له ضد واحد، فقد أمر به من طريق المفهوم، وإذا كانت له أضداد فلا يفهم منه الوجوب دون الندب والإباحة؛ لأن النهى عن الصلاة على المشركين إن قلنا إنه أمر بالصلاة على المؤمنين أمر على معنى الإباحة أو الندب أو الوجوب؛ لأن هذه كله أضداد لنهيه عن الصلاة على المشركين، فحمل الآية على أحد المحملين دون غيره مما سواه، والاحتمال يحكم بغير برهان، إلا أنه لم تختلف الأمة أن الناس مأمورون [ق/ 44 جـ] بالصلاة على موتاهم وأنهم لم يسعهم ترك ذلك [لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا على موتاكم" وقوله: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله" وهذا يؤيد مفهوم الآية أنها على الندب لا على الوجوب] (¬2) ويرجع ذلك إلى أن الصلاة على الجنازة سنة، وإن كان الذي اختاره الشيوخ المتأخرون من أصحابنا أنها من فروض الكفاية، ولا فرق بين العبارتين إلا من حيث اللفظ، وأما المعنى فواحد؛ لأن الفرض على الكفاية معناه أنه سنة مؤكدة. فإذا ثبت ذلك فمن سنتها أن تصلى عليها الجماعة بإمام، فإن صلوا عليها أفذاذًا فلا خلاف -فيما أعلم- أن ذلك لا يمنع الجمع عليها بإمام. ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية (84). (¬2) سقط من أ، ب.

واختلف [المذهب أيضًا] (¬1) إذا صلى عليها جماعة هل تمنع صلاة الأفذاذ عليها أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يمنع الصلاة عليها لا جمعًا، ولا أفذاذًا، وهو المشهور. والثاني: أن صلاة الإمام عليها بجماعة لا تمنع الصلاة عليها لمن جاء بعد ذلك لا جماعة ولا فذًا، وذكره ابن القصار عن مالك. وسبب الخلاف: صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على المسكينة هو وأصحابه، وصلاة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - على عبد الرحمن بن عوف، وقد مر بجنازته عليهن، هل ذلك أمر خاص، أو شريعة متبعة إلى يوم القيامة. وفي فعله عليه السلام دليل على الصلاة على القبر، وفي فعل أزواجه دليل على الصلاة على الميت في المسجد، وكلاهما أصلا خلاف. وهذا أيضًا مع التسليم أن المسكينة قد صلى عليها أهلها ليلًا حين دفنوها، وهو الظن بهم؛ لأنها شريعة مقررة بالمدينة، وسائر أمصار المسلمين، وعلى هذا وقع الخلاف عندنا في المذهب [وعلى القول] (¬2) بأنه لا يصلي عليه في القبر. فما الذي يفوت الصلاة عليه إذا دفن؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يفوت الصلاة عليه ولا إخراجه من القبر ليصلى عليه إلا التغيير، فيخرج ما لم يخش عليه التغيير، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: النوادر (1/ 630).

والثاني: أنه لا يفيتُ إخراجه للصلاة عليه إلا رد التراب عليه وتسويته. وهي رواية عيسى عن ابن وهب (¬1)، وبه قال يحيى بن يحيى. والثالث: أنه يفوت [بوضع] (¬2) اللّبِن عليه، وهو قول أشهب (¬3). وسبب الخلاف: ما يمنع من الصلاة عليه ويفوتها، هل التغيير أو الدفن؟ وعلى القول بأن المفوت الدَّفْن، هل النظر إلى أوله أو إلى آخره؟ وهذا الخلاف ينبغي أن يُبْنَى على أصل آخر؛ وهو تغليب [حق] (¬4) أحد الفريقين، هل يغلب حق المصلين، ويخرج ما لم يخش عليه التغيير لما في ذلك من إذَايَتِهِم؟ أو يخرج ما لم يفرغ من دفنه، ثم لا يخرج؛ لأنه لا يدري كيف يطلع عليه، وربما يجدونه على حالة يكره أولياؤه الاطلاع عليها، فيكون ذلك من حق الميت، وفي فضيحته شعيب لأوليائه [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (1/ 631). (¬2) زيادة من النوادر. (¬3) انظر: النوادر (1/ 630). (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من جـ.

المسألة الثانية فى الصلاة على الجنازة فى المسجد -أعني أن توضع فى المسجد-

المسألة الثانية فى الصلاة على الجنازة فى المسجد -أعني أن توضع فى المسجد- وأما الصلاة عليها في المسجد، وهي خارجة المسجد واتصلت [الصفوف] (¬1) إلى داخل المسجد: فلا إشكال في الجواز، وهو نص المدونة. وأما وضعها في المسجد للصلاة عليها، فهل يجوز ذلك؟ فالمذهب على قولين [قائمين من المدونة] (¬2): أحدهما: [أنها] (¬3) لا توضع في المسجد أصلًا. وبه قال سحنون، وابن شعبان، وهو ظاهر قوله في "كتاب الرضاع" من "المدونة" (¬4)؛ لأنه قال: إن لبن [المرأة] (¬5) الميتة نجس بنجاسة الوعاء، [فجعلها] (¬6) نجسًا بالموت. والثاني: أنه يجوز أن توضع في المسجد، ويصلى عليها فيه. وهو قول ابن حبيب (¬7)؛ لأنه قال: لو صلى عليها في المسجد ما كان ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: أنه. (¬4) انظر: المدونة (5/ 411). (¬5) سقط من أ، ب. (¬6) في أ: فجعله. (¬7) انظر: النوادر (1/ 621).

[ضيقًا] (¬1)، وهو ظاهر قول مالك في "المدونة" في "كتاب الجنائز" (¬2): "وكره أن توضع الجنازة في المسجد"؛ وعلَّلُوا تلك الكراهة، وقالوا: مَخَافَة أن يَنْفَجِر المَيِّت، ويَخْرُج منه ما يُؤذِي المسجد. وسبب الخلاف: اختلاف الآثار [وتجاذب الاعتبار، فأما الآثار] (¬3) فما روى أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد (¬4)، وأمر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -[أن يمر] (¬5) عليهن بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد ليصلين عليه، ففعلوا ووقفوا به على حجرهن يصلين عليه. الحديث خرجه مسلم (¬6). وخرج البخاري عن ابن عباس قال: "لا ينجس المسلم حيًا ولا ميتًا" (¬7). وروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" (¬8). وظاهر الحديث يقتضي نجاسة الميت، وهذا منشأ الخلاف في الميت هل يتنجس بالموت أم لا؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: ضيفًا، والتصويب من النوادر. (¬2) انظر: المدونة (1/ 177). (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) أخرجه مسلم (973). (¬5) سقط من أ. (¬6) أخرجه مسلم (973). (¬7) أخرجه البخاري تعليقًا. (¬8) أخرجه أبو داود (3161)، والترمذي (993)، وابن ماجة (1463)، وأحمد (7632) من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: حديث حسن.

فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه نجس على الإطلاق -مسلمًا كان أو كافرًا- وهو مذهب ابن القاسم، وابن شعبان، وابن عبد الحكم وغيرهم (¬1). والثاني: أنه طاهر على الإطلاق. وهو الذي اختاره أبو الحسن بن القصار وغيره من البغداديين، وهو الصحيح الذي يعضده النظر والأثر. والقول الثالث: بالتفصيل بين الميت المسلم والكافر، وهو مذهب بعض شيوخنا المتأخرين، وقال: إنما هذه الحرمة حيًا وميتًا للمسلم، وفيه جاء الأثر. وأما الكافر فقد قد قال القاضي أبو الفضل: لا أعلم متقدمًا من [الموافقين] (¬2) والمخالفين فرق بينهما قبله، ولكن الذي قاله بين، ولعله مرادهم. قلت: وظاهر قوله تعالى يشعر بخلاف ما ذهب إليه هؤلاء المتأخرون؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (¬3). وهذا الإكرام يشمل جميع ولد آدم -مسلمًا أو كافرًا. ومن طريق المعنى أن الشاة مثلًا تعدم منها الحياة بالذكاة، فلا تكون نجسة؛ لأنها حلال وتموت حتف أنفها، [ويكون] (¬4) حكمها نجسة لما كانت محرمة [الأكل] (¬5)، فلم يكن عدم الحياة يوجب كون الحيوان نجسًا إلا أن يكون عدمه على صفة تمنع الأكل ويكون نجسًا. ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (1/ 546). (¬2) في أ: المؤالفين. (¬3) سورة الإسراء الآية (70). (¬4) في ب: فيكون. (¬5) في ب: اللحم.

وتحرم لحوم بني آدم إكرامًا لهم وتشريفًا؛ فكانت حرمته حيًا وميتًا سواء؛ لأن حرمة لحمه بعد موته كحرمته قبل موته، وهو ظاهر لمن تأمله؛ لأن تحريم لحم بني آدم تحريم حرمة، لا تحريم [حرام] (¬1). ¬

_ (¬1) في أ: حلال.

المسألة الثالثة [فى] الصلاة على من قتل فى الحد

المسألة الثالثة [فى] (¬1) الصلاة على من قُتل فى الحد فالأصل وجوب الصلاة على كل مسلم موحد؛ لقوله عليه السلام: "صلوا على من قال لا إله إلا الله" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا على موتاكم" (¬3). فهذا هو الأصل ما لم يمنع من الصلاة عليه مانع؛ والمانع على وجهين: فضيلة في الميت، أو نقيصة فيه. والفضيلة التي تمنع من الصلاة [على الميت] (¬4) إذا اتصف بها يأتي الكلام عليها فيما بعد في مسألة منفردة إن شاء الله. وأما النقيصة التي تمنع من الصلاة على الميت إذا قامت به، فهي على وجهين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه الدارقطني (2/ 56)، والطبراني في الكبير (13622)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 320)، وابن عدي في الكامل (3/ 43)، والخطيب في التاريخ (11/ 293)، وتمام في الفوائد (1034) من حديث ابن عمر مرفوعًا. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن الفضل بن عطية كذاب. مجمع الفوائد (2/ 67)، وقال الدارقطني: ليس فيه شيء يثبت. وضعفه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام. (¬3) أخرجه ابن ماجة (1522)، والطبراني في الأوسط (3236)، والبيهقي في الكبرى (6731) من حديث جابر مرفوعًا. وضعفه الحافظ في التلخيص الحبير (765). (¬4) سقط من أ.

منها ما يرجع إلى فساد العقيدة، ومنها ما يرجع إلى الأخلاق الذميمة. فأما ما يرجع إلى فساد العقيدة كالقدرية، والإباضية، والحرورية: فاتفق المذهب أنه لا يصلى على موتاهم ابتداء، فإذا خيف عليهم أن يضيعوا هل يصلى عليهم أم لا؟ فالمذهب على قولين من المدونة من كتاب الصلاة. أحدهما: أنه لا يصلي عليهم أصلًا، وإن ضاعوا. وهو قول مالك في "مختصر ما ليس في المختصر"، وهو ظاهر قوله في "المدونة" (¬1): ولا يصلي خلف أهل الأهواء لا [جمعة] (¬2) ولا غيرها إلا أن يكون الإمام من أهل الأهواء، واتقيته على نفسك فإنك تصلي، وتعيدها ظهرًا أربعًا. والثاني: أن ترك الصلاة [عليهم] (¬3) أدب لهم، فإن خيف عليهم أن يضيعوا صلى عليهم. وهو مذهب سحنون، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" (¬4) حيث قال: إن صلى خلفه أعاد الصلاة في الوقت. وسبب الخلف: هل يَكفُرُون بمآل قولهم أم لا؟ فمن رأى أنهم ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 84). (¬2) في أ، ب: جماعة. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: المدونة (1/ 84).

يَكفُرُون بمآل قولهم يقول: إنهم لا يصلى خلفهم، ولا يصلى عليهم إذا ماتوا. وقد نص مالك رحمه الله في "مختصر ما ليس في المختصر" فيمن يقول: القرآن مخلوق، إنه كافر فاقتلوه. وقال أيضًا في رجل خطب إليه رجل من القدرية: لا تزوجوه؛ قال الله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّنِ مُّشْرِكٍ} (¬1). وعلى هذا يوارى ولا يصلى عليه. ومن رأى أنهم لا يَكفُرُون بمآل قولهم يقول: إن ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا، وإعادة من صلى خلفهم صلاته في الوقت: أدبًا لهم ينزجرون به. وأما ما يرجع إلى الأخلاق الذميمة: فهو على وجهين أيضًا: أحدهما: منها ما نَصَّب علية الشارع حَدًا، وجعله عقوبة وزَجْرًا. ومنها ما لم يَحد فيه حَدًا, ولا نَصَّبَ عليه [قطعًا] (¬2) ولاجلدًا، ولكن جاء فيه الوعيد، والإرهاب، والتهديد. فأما ما نَصَّب عليه الشارع حدًا، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون المشروع عليه قتلًا. والثاني: جلدًا أو قطعًا، لا قتلًا، فإن كان قتلًا، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يموت بالحد. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية (221). (¬2) سقط من أ.

والثاني: أن يموت ذعرًا حين قُرِّبَ للقتل. فإن مات بالحد الذي وجب عليه كالقصاص والرجم في الزنا، فهل يصلى عليه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الإمام لا يصَلِّي عليه، وهو مشهور المذهب، وهو مذهب "المدونة" (¬1). والثاني: أنه يصلي عليه الإمام، ولا تترك الصلاة عليه، وهو قول [ابن نافع] (¬2) وابن عبد الحكم، وأبي الحسن اللخمي، غير أن هؤلاء اختلفوا في العِلَّة التي لأجلها [لا] (¬3) يصلي [عليه] (¬4) الإمام [فاللخمي يقول: العلة في ترك الصلاة هي] (¬5) الردع، والزجر، وذلك حاصل بقيام الحد [عليه] (¬6). وابن عبد الحكم يقول: بل [العلة] (¬7) الشهادة، والصلاة ثابتة [بالأصالة] (¬8). وسبب الخلاف: اختلافهم في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ماعز والغامدية، هل يصح أنه صلى عليهما أم لا؟ فمن صح عنده أنه صلى عليهما - صلى الله عليه وسلم - قال: يجوز للإمام أن يصلى ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 182). (¬2) في ب: أصبغ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: عليهم. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

على من [قتله] (¬1) في حد، وإلى أن صلاته عليهما [صحيحة] (¬2) ذهب أبو الحسن اللخمي. ومن لم يصح عنده أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على الغامدية، ولا على ماعز، قال: لا يصلي الإمام [عليهم] (¬3). وقد خرج أبو داود (¬4) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على ماعز، ولم ينه عن الصلاة على الغامدية. و [أما] (¬5) إن مات ذُعْرًا حيث قُرِّب للقتل، فهل يصلي عليه [الإمام] (¬6) أم لا؟ [فعلى] (¬7) قولين: أحدهما: أنه يصلي عليه الإمام؛ لأن ترك الصلاة من [توابع] (¬8) الحد. وإلى هذا ذهب الشيخ أبو عمران الفاسي [رضي الله عنه] (¬9). والثاني: أنه لا يصلي عليه الإمام اعتبارًا بما لو قتله [أحد] (¬10) من ¬

_ (¬1) في ب: قُتِلَ. (¬2) في أ: صحيح. (¬3) في ب: عليه. (¬4) أخرجه أبو داود (3186) من حديث أبي برزة الأسلمي، قال ابن الجوزي: فيه مجاهيل. التحقيق (904). (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: فالمذهب. (¬8) سقط من أ. (¬9) سقط من أ. (¬10) سقط من أ.

الناس؛ لأن المحدود يناله من الإمام عقوبتان؛ عقوبة القتل، وعقوبة ترك الصلاة عليه، فإن فاتت إحدى العقوبتين [للإمام] (¬1) لم يكن فواتها مفوتًا [للثانية] (¬2). فإن كان المشروع فيها جلدًا أو قطعًا لا قتلًا كالبكر إذا زنا، ومن سرق نصابًا، أو من [تعدى] (¬3) على يد رجل [فقطعها] (¬4)، فلا يخلو من وجهين: إما أن يموت حتف أنفه قبل أن [يقام] (¬5) عليه الحد. والثاني: أن يموت بعد إقامة الحد وموته من سبب ذلك الحد. فإن مات قبل إقامة الحد عليه: فالمشهور أن الإمام يصلي عليه، والذي اختاره أبو الحسن اللخمي [رضي الله عنه] (¬6) [أنه لا يصلي عليه الإمام، ولا أهل الخير والصلاح أدبًا له، فإن أقيم عليه الحد فمات من سببه، فهل يصلي عليه [ق/ 45جـ] الإمام وأهل الخير أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما] (¬7): أن الإمام يصلى عليه؛ لأن حده الجلد لا القتل، وهو مذهب الكتاب. والثاني: أنه لا يصلى عليه الإمام؛ لأنه من أهل الكبائر، وهي رواية ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، ب: في الثانية. (¬3) في أ، ب: تقدر. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: يقوم. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

ابن وهب عن مالك. وأما إن كان من أهل الأخلاق الذميمة التي لم يُنَصب [عليها] (¬1) الشَّرع حَدًا محدودًا كالمعروف بالغيبة، والنميمة، والإفك، والزّور [والبذاءة باللسان] (¬2)، فهل يصلي عليه الإمام، وأهل الخير، والصلاح إذا مات أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يصلي عليه، وهو المشهور. والثاني: أنه لا يصلى على مَنْ ذَكَرنَا، وهي رواية ابن وهب عن مالك: [في الميت يكون] (¬3) معروفًا بالفسق والشر، قال: لا [تُصَلِّي] (¬4) عليه واتركه لغيرك. وهذا الخلاف ينبني على الخلاف في الأصل الذي قدمناه في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على مَاعِز [والغامدية، والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: عليه. (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ، ب: إذا كان. (¬4) في الأصل: يصلي. (¬5) سقط من أ، ب.

المسألة الرابعة وهى [فى مانع] الفضيلة

المسألة الرابعة وهى [فى مانع] (¬1) الفضيلة وقد قدمنا أن الصلاة تمنع على الميت لأحد وجهين: إما لنقيصة الميت، أو لفضيلته. وقد تقدم الكلام على مانع النقيصة، والكلام هاهنا على مانع الفضيلة: وذلك في الشهداء الذين قتلهم العدو، فلا يخلو حالهم من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقتلوا في [المُعْتَرك] (¬2). والثاني: أن يموتوا بعد ذلك. والثالث: أن [يقتلوا] (¬3) بأرض الإِسلام. فالجواب عن القسم الأول: [ق/ 57 أ] إذا مات الشَّهيد في المعْتَرك [بفور القتل] (¬4) فلا خلاف في مذهب مالك (¬5)، أنه لا يُغَسَّل، ولا يُكَفَّن، ولا يُصَلَّى عليه، و [لكن] (¬6) يُدْفَنُ بثيابه، وبه قال الشافعي (¬7)، ¬

_ (¬1) في جـ: موانع. (¬2) في ب: المعركة. (¬3) في ب: يقتلهم العدو. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: المدونة (1/ 165). (¬6) سقط من أ. (¬7) انظر: الأم (1/ 267).

وقال أبو حنيفة (¬1): يصلي عليه ولا يُغَسَّل. وسبب الخلاف: اختلافهم في الآثار [الواردة في ذلك] (¬2)؛ وذلك أنه خرج أبو داود (¬3) من طريق جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بشهداء أحد فدفنوا بثيابهم ولم يصلي عليهم ولم يغسلوا. ويعارضه ما روى عن ابن عباس مسندًا أنه [- صلى الله عليه وسلم -] (¬4) صلى على قتلى أحد وعلى حمزة، ولم يغسل ولم ييمم (¬5). واتفقوا في الغُسْل أنه لا يُغَسَّل. قال أشهب: ولو كان جنبًا لا يغسل [وقال أصبغ] (¬6): وقد قتل حنظلة بن عامر الأنصاري يوم أحد، وهو جنب فلم يُفعل به شيء، فغسلته الملائكة بين السماء والأرض. وقال سحنون: يغسل (¬7). واختلف إذا لم يمت بفور القتل، وبقى في المعترك حتى مات، فهل يفعل به ما يفعل بالشهداء أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يغسل ويحنط، ويكفن، ويصلى عليه، وهو قول ¬

_ (¬1) انظر: الهداية (1/ 101). (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (1347)، وأبو داود (3138). (¬4) سقط من أ. (¬5) أخرجه أبو داود (3134)، وابن ماجة (1515) بسند ضعيف. (¬6) سقط من أ. (¬7) انظر: المدونة (1/ 183)، والنوادر (1/ 616).

أشهب (¬1). وظاهره أن لا فرق بين أَنْ تَنْفَد مقاتله أم لا، وعليه حمله القاضي أبو الحسن بن القصار، قال: وقول أشهب ليس بالبَّيِّن. والثانى: أنه إن كان منْفُود المقاتل، فإنه شهيد، ويفعل به ما يفعل بالشهداء. وإن كان غير مَنْفُود المقاتل، وكانت به حياة بينة حتى لا يقتل قاتله إلا بقسامة: [فإنه] (¬2) يغسل ويصلى عليه، وهو قول سحنون. وقول سحنون أظهر من قول أشهب؛ لأنه إن كان مَنْفُود المقاتل: دخل في عموم الآية، وإن كان غير مَنْفُود المقاتل: لم يدخل فيها [ق/ 28 ب]. والنبى - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على قتلى أحد وهم سبعون، والغالب أن موتهم مختلف؛ فهم بين من مات بين سَنَابِك (¬3) الخيل، وبين من أثْخَنَته الجِرَاح، ومات بعد ذلك في المُعْتَرَك، ومن حمل إلى داره فمات فيها. والجواب عن القسم الثاني: إذا حمل من المعترك ثم مات بعد ذلك، فهل يحكم له بحكم الشهداء أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يصلى عليه إذا حمل إلى داره فمات أو مات في أيدي الرِّجَال: أنه يغسل ويصلى عليه، وسواء كان مَنْفُود المقاتل أم لا، وهو ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (1/ 616). (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) سُنْبُك كل شيء أَوّله.

قول أشهب. والثاني: التفصيل بين مَنْفُود المقاتل؛ فيحكم له بحكم الشهداء، أو غير منفود المقاتل: فيغسل ويصلى عليه. وهو مذهب "المدونة" (¬1) وهو المشهور الذي عليه الجمهور. والجواب عن القسم الثالث: إذا قتلهم العدو في أرض الإِسلام، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يُقَاتِلُوهم ويُدَافِعُوهُمْ حتى قتلوا، [أو غَايَلُوهُم وهُمْ نِيَام] (¬2). فإن دافعوهم حتى غُلِبُوا وَقُتِلُوا هل يُحْكَمُ لهم بحكم الشّهداء في الصلاة والغسل أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" (¬3): أحدهما: أن المسلمين إذا دفعوهم عن أنفسهم، واشتد القتال بينهم أن من مات منهم، فهو شهيد، ويصنع [به] (¬4) ما يصنع بالشهداء. وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن الشهيد من قتل في بلاد الحرب خاصة، وأما من قتل ببلاد المسلمين فلا. وأما إذا [أبغتهم] (¬5) العدو في قراهم [وقتلوهم] (¬6) وهم على ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 183، 184). (¬2) في جـ: أو غافصوهم وقتلوهم وهم على أسرتهم نائمون. (¬3) انظر: المدونة (1/ 182). (¬4) في أ: بهم. (¬5) في جـ: غامضهم. (¬6) سقط من أ.

أسرتهم نائمون، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهم يغسلون ويصلى عليهم. وهو قول ابن القاسم في "العتبية" (¬1) إذا لم يكن هناك معركة ولا ملاقاة. والثاني: أنهم شهداء وحكمهم حكم من مات في المعركة، وهو قول ابن وهب (¬2) [وأصبغ] (¬3). والقولان قائمان من "المدونة" (¬4) من قوله: ولا يصلى إلا على الشهيد المقتول في المعترك؛ فمفهومه أن المقتول في غير المعركة لا يصلى عليه، وقال في آخر الباب: وكل من قتله العدو بأي قتلة -كانت في معركة أو [غيرها] (¬5) - فهو شهيد. وسبب الخلاف: هل المعتبر في الشهادة القتل بانفراده من غير اعتبار بالمكان كان في أرض الشرك، أو في أرض الإِسلام، أو المعتبر الوصفان جميعًا [فمن اعتبر الوصفين جميعًا] (¬6) فتكون العلة ذات وصفين؟ ومن اعتبر أن [العلة هي] (¬7) القتل خاصة [دون ما عداه اعتبر القتل خاصة] (¬8) كان في أرض الشرك أو في أرض الإِسلام، "بمدافعة كان أو ¬

_ (¬1) انظر: البيان والتحصيل (1/ 298). (¬2) انظر: النوادر (1/ 617). (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: المدونة (1/ 183). (¬5) في أ: غيره. (¬6) سقط من أ، ب. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

مغايلة" (¬1)] (¬2)؛ بدليل أن وقيعة أحد كانت في أرض الإِسلام، وكان العدو هو الزاحف إلى المسلمين. ومن اعتبر الوصفين قال: يصلي عليهم إذا كان القتل في أرض الإِسلام؛ بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شهيدًا، وصلي عليه وكفن؛ وما ذلك إلا لكونه قتل في غير معركة. وقد يحتمل أن يكون إنما لم تُتْرَك الصلاة [على عمر رضي الله عنه] (¬3) لكون ترك الصلاة على الشهداء [مَنْسُوخ] (¬4)؛ لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى قتلى أحد قبل موته، فصلى عليهم صلاته على الميت، أخرجه البخاري (¬5). فإذا قلنا: أن الشهيد لا يكفن، فإنما يصح ذلك إذا كان عليه ما يستر به جميع جسده. وإن كان عريانًا أو كان عليه من اللباس ما لا يستر جميع جسده: فلا خلاف هنا أنه يكفن في ثوب يستره، والأصل في ذلك حديث مصعب بن عمير حين قتل يوم أحد، ولم يترك إلا نمرة، إن غطى بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطى بها رجلاه بدا رأسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر" (¬6). واختلف فيما ينزع [عنه] (¬7) مما هو زائد على ما يستره على ثلاثة ¬

_ (¬1) في جـ: معافصة. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: منسوخًا. (¬5) أخرجه البخاري (1279)، ومسلم (2296) من حديث عقبة بن عامر. (¬6) أخرجه البخاري (1217)، ومسلم (940). (¬7) في أ: منه.

أقوال (¬1): أحدها: أنه ينزع ما كان من آلات الحرب، ويترك عليه ما سوى ذلك من الفرو والخفين والمِنْطَقَة (¬2) والقلنسوة؛ إلا أن يكون للمنطقة خَطْب (¬3). وهذا هو المشهور، وهو مذهب "المدونة". والثاني: أنه لا ينزع عنه إلا الدِّرع، والذي يلبسه [للمناشبة] (¬4)، وهو قول مالك في "مختصر ما ليس في المختصر". والثالث: أنه ينزع عنه الخفان والقلنسوة، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: اختلافهم في المفهوم من قوله عليه السلام: "زملوهم بثيابهم"، هل يفهم منه [أن] (¬5) ما عدا الثياب [في الذي] (¬6) ينزع عنه؛ لأن ذلك من باب إضاعة المال، وإنما خرج مخرج الغالب، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 183). (¬2) وهي ما يُشَد به الوسط. (¬3) انظر: النوادر (1/ 618). (¬4) في أ: للنشاب. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من ب.

المسألة الخامسة في الصلاة على أولاد المشركين إذا ماتوا في ملك [المسلم] قبل أن يسلموا، أو يجبروا على الإسلام إن [كانوا ممن يجبرون] عليه

المسألة الخامسة في الصلاة على أولاد المشركين إذا ماتوا في ملك [المسلم] (¬1) قبل أن يسلموا، أو يجبروا على الإِسلام إن [كانوا ممن يجبرون] (¬2) عليه وعند المذهب في ذلك: أنه لا خلاف في صغار المجوس أنهم [إذا ملكوا أنهم] (¬3) يجبرون على الإِسلام، وفي كبارهم قولان. ولا خلاف في كتاب الكتابين إذا ملكوا أنهم [لا يجبرون على الإِسلام "وهو قول ابن القاسم" (¬4) وفي صغارهم قولان] (¬5). وذلك أن ابن القاسم يقول في صغار أهل الكتاب: لا يجبرون على الإِسلام (¬6)، ويجبرون عليه عند ابن نافع وغيره؛ على ما رواه ابن نافع عن مالك. وأما كبار المجوس: فذهب عبد الملك والمغيرة وابن حبيب [وغيرهم من أصحاب مالك] (¬7) إلى أنهم يجبرون على الإِسلام إذا ملكوا. وقيل: لا يجبرون، قياسًا على كبار الكتابيين. ¬

_ (¬1) في ب: المسلمين. (¬2) في أ: كان مما يجبرون. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من جـ. (¬5) سقط من أ. (¬6) انظر: المدونة (4/ 309). (¬7) سقط من أ.

فإذا [عرفت] (¬1) تفاصيلهم في الجبر، فاعلم أنهم قد اختلفوا فيمن مات منهم في الملك قبل أن يجبروا أو بعد ما جُبِرُوا؛ هل يصلى [عليه] (¬2) أو لا يصلى [عليه] (¬3)؟ اختلف فيه على ستة أقوال كلها مذهبية: أحدها: أنه لا يصلى عليه، إلا أن يسلم ويعرف ما أجاب إليه. وسواء كان معه أبواه، أو لم يكونا [معه] (¬4) اشتراه من حربي، أو صار في سهمانه قدم به، أو توالد في مِلْك المُسْلِم من عَبِيدِه النصرانيين، كان من نِيَّته أَنْ يُدْخِله الإِسلام أم لا، كان [ممن] (¬5) يُجْبَر على الإِسلام بالاتفاق كصغار المجوس أو ممنْ يُجْبَر على الخلاف كصغار الكتابيين، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الجنائز" من "المدونة" (¬6)، وعليه تأول أبو عمران الفاسي كلامه. والثاني: أنه إن اشتراه، وفي نيته أن يدخله الإِسلام: صلى عليه، وهو قول الغير في بعض نسخ المدونة، فقيل [أنه] (¬7) معن بن عيسى. والقول الثالث: التفصيل بين أن يكون معه أبواه أم لا [فإن لم يكن معه أبواه] (¬8) في حين الابتياع، ولم يكن نيته إلى أن يتدين بدينه ومالكه ¬

_ (¬1) في أ: عرف. (¬2) في ب: عليهم. (¬3) في ب: عليهم. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: مما. (¬6) انظر: المدونة (1/ 178). (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ، ب.

مسلم، فله حكم المسلمين في الصلاة [والمؤنة] (¬1) وغير ذلك. وإن كان معه أبواه [أو] (¬2) بلغ حدًا يعقل فيه دينه وتدين به: فإنه لا يُصَلَّى عليه، وهو قول عبد الملك بن الماجشون. والرابع: أنه إن مات بحدثان ملكه وفوره: لم يصل عليه، وإن لم يمت بحدثان ملكه، وقد تشرع بشريعة الإِسلام، وزينه بزينة الإِسلام: فله حكم الإِسلام في الصلاة وغيرها. وهو قول مالك في كتاب ابن حبيب. والخامس: التفصيل بين من ولد [في ملك المسلم] (¬3): فلا يجبر على الإِسلام، ولا يصلى عليه، وإن ولد في أرض الحرب في ملك الكفار: يجبر ويصلى عليه. وهو قول ابن حبيب. والسادس: عكس ما ذكره ابن حبيب؛ أن من ولد في ملك مسلم، فهو على فطرة الإِسلام، ومن توالد في ملك كافر فلا يجبر على الإِسلام، وهو قول أبي مصعب. وسبب الخلاف: اختلاف الآثار وتجاذب الاعتبار؛ فمنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه" (¬4). ومنه قوله عليه السلام لما رمى أهل الطائف بالمجانيق، فقيل له: إن فيهم النساء والصبيان، فقال: "هم من آبائهم" (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: والموازنة. (¬2) في أ: و. (¬3) في ب: في ملكه في أرض الإِسلام. (¬4) أخرجه البخاري (1292)، ومسلم (2658). (¬5) أخرجه البخاري (2241)، ومسلم (1745).

فمن رجح الحديث الأول يقول: إنهم يصلى عليهم؛ لأنهم مسلمون، وعلى ذلك يحملون حتى يبلغوا مبلغًا يعقلون فيه على دينهم. فإذا لم يكن الأب لأب هذا الطفل ذمة، ولا عهد فملكه المسلم ثم مات: فإنه يصلى عليه، ويؤيد هذا الحديث قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (¬1) [ق / 46جـ]. ومن رجح الحديث الآخر [حمله] (¬2) على أن لهم حكم الآباء في الكفر، فإذا ملكوا هل يجيزون على الإِسلام أو يكون على حكم الإِسلام إذا زينهم بِزِيِ الإِسلام، أو لا يكونوا مسلمين حتى يعقلوا الإِسلام, وعرفوا ما أجابوا إليه، أو إنما يصيرون إلى نية المالك؛ فإن نوى أن يدخلهم في الإِسلام كان مسلمًا بنيته ويحكم له به إذا مات ولا يكون مسلما بالنية على الانفراد إلا بعد انضمام [العمل إليها] (¬3) [ق / 58 أ] والعمل هاهنا هو الزي وتلقين الشهادة، وما كان في معناه من معالم الإِسلام , فهذا مثار النزاع بين العلماء في هذه المسألة، وهو منشأ الخلاف بين الأصوليين، فيمن مات قبل [الحُلُم] من أولاد المسلمين، وأولاد المشركين، ومن ضارعهم من أهل الأعذار؛ كمن بلغ وهو مجنون، أو أبكم أو أصم أو أعمى حيث لا يتمكن له حصول العلم بالتكليف، ومن سواهم من أهل الأعذار؛ مثل من مات في الفترة [أو تربى] (¬4) في جزيرة منقطعة حيث يعلم أنه لم تبلغه الدعوة، هل هم من أهل الجنة أو من أهل النار، أو مأواهم بين الجنة والنار؛ لأن هؤلاء لا تنسب إليهم ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية (172). (¬2) في أ: وحملهم. (¬3) سقط من أ. (¬4) في جـ: ترك.

المعرفة، ولا الجحود؛ لأن المعرفة نتيجة النظر في الدليل، والنظر لا يتصور ممن هذه صفته، والجحود ضد المعرفة؛ لأن الإقرار بالألوهية فرع عن ثبوت المعرفة. فإذا لا يتصف بمعرفة الشيء إلا من يجوز عليه الاتصاف بضده، وهذا مطرد شاهد، ولا يتصور ذلك [غائبًا] (¬1) وذلك محال!. فإن قيل: المحال عندكم لا يخلو عن الشيء وضده، وكون الإنسان على هيئة الإنسانية، وعلى صورة الآدمية لا يتصف بإحدى هاتين الصفتين، ولا قام بها أحد هذين العرضين غير معقول. فالجواب: أن يقول: هذه الصفات إنما يعنون من استكملت عنده شرائط التكليف؛ والعقل هو محل التكليف، فإذا لم يكن العقل لم يكن التكليف؛ لأن مناط التكليف ليست هذه الصورة والتراكيب، وإنما محلها القلب. ولم يعن بالقلب اللحم المصور في الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص؛ لأن هذا القلب موجود للبهائم، بل هو موجود للميت. والقلب المعنوي هو الذي [يفقه] (¬2) به الإنسان، ويعرف به حقائق الأشياء، وهو السر الذي وضعه الله تعالى في بني آدم وخصصهم به، وشرفهم لأجله [فمن] (¬3) عدمه؛ فهو بهيمي معنى، وإن كان آدمي صورة، وهذه المعاني لا يفهمها [على وجهها] (¬4) [الخائضون] (¬5) في ¬

_ (¬1) في ب: غالبًا. (¬2) في جـ: يعقل. (¬3) في ب: ومن. (¬4) سقط من أ، ب. (¬5) في جـ: الخالصون.

علم الكلام، وقد [جنح] (¬1) بنا الجواد في هذا الكان، وجاوز بنا رأس الميدان، فنحن نكظمه بالعنان إلى ما نحن بسبيله، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: جد، وفي ب: جمح.

المسألة السادسة في غسل أحد الزوجين صاحبه [بعد موته]

المسألة السادسة في غسل أحد الزوجين صاحبه [بعد موته] (¬1) ولا يخلو من وجهين: إما أن يموت منهما من مات، والعصمة قائمة بينهما ولا طلاق. أو مات بعد الطلاق، وقبل انقضاء العدة، وكان الطلاق رجعيًا أو بائنًا. فإن مات من مات منهما، والعصمة ثابتة: فلا خلاف في جواز غسل الحي الميت منهما. وإنما الخلاف هل يستر عورة صاحبه، أو يجوز له أن يغسله مكشوف العورة؟ قولان قائمان من "المدونة" (¬2): أحدهما: أن كل واحد منهما يستر عورة صاحبه، وهو نصه في "المدونة" في "كتاب الجنائز". والثاني: أنه يجوز للحي منهما، وإن لم يستر عورته، وهو قول ابن حبيب (¬3). وينبني الخلاف: على الخلاف في نظر أحد الزوجين إلى فرج صاحبه في حال الحياة، هل يباح لهما أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: المدونة (1/ 185). (¬3) انظر: النوادر (1/ 549).

فمن نظر إلى أن ذلك مباح في حال الحياة؛ لأن ذلك من تَمَام اللَّذّة، والمنع منه يُنْقِص من قَضَاء الإِرْبَة: فبعد الممات أولى في الإباحة، وهو ظاهر "المدونة"؛ لأنه قال في "كتاب العيوب" (¬1) وغيره: لا [يطلع على] (¬2) الفرج [إلا النساء] (¬3) ومن يجوز له النظر إلى ذلك، فتأوله المتأخرون على أنه الزوج، وهو قول ابن وهب في غير "المدونة": أنه يجوز له النَّظَر إلى فَرْجِ زَوْجَتِه وأن يَلْحَسه بلسانه. ومن نظر إلى أن ذلك ممنوع؛ لأنه ليس من مكارم الأخلاق وشِيَم أهل الفضل يقول: إنه لا ينبغي النظر إليه، ولكنه يبقى له [سائر] (¬4) الجسد على الإباحة. والدليل على [جواز] (¬5) غسل أحد الزوجين صاحبه وإباحته: فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأنه غسل زوجته فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق رضي الله عنه. وقول عائشة رضي الله عنها: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أزواجه (¬6). واختلف هل يقضي بذلك لمن طلبه منهما إذا خاصمه الأولياء أم لا؟ ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (4/ 211). (¬2) في أ: تطلع إلى. (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) أخرجه أبو داود (3141)، وأحمد (25774)، والشافعي في المسند (360)، والحاكم (4398)، وأبو يعلى في مسنده (4495)، وابن الجارود في المنتقى (517)، والبيهقي في الكبرى (6413)، وابن جرير في تاريخه (2/ 239). صححه الحافظ في التلخيص الحبير (1643)، وحسنه الشيخ الألباني في الإرواء (702). قلت: والقول ما قال الحافظ.

ففيه تفصيل [أما الزوج] (¬1) فلا تخلو زوجته من أن تكون حرة أو أمة، فإن كانت حرة قضى له بغسلها باتفاق المذهب. فإن كانت أمة فهل يقضى له [بغسلها] (¬2) أم لا؟ فالمذهب على قولين (¬3): أحدهما: أنه لا يقضى للزوج بذلك وغسلها لسيدها، وهو قول سحنون (¬4). والثاني: أنه يقضى له بغسلها، ويقدم على السيد وهو اختيار اللخمي. فوجه قول من فرق بين الحرة والأمة: أن الحرة غسلها إلى النساء دون أوليائها، فكان الزوج أحق منهن. بخلاف الأمة، فإن غسلها [لسيدها] (¬5)، إلا أن للزوج [منازعته] (¬6) [ويبدي] (¬7) بالزوجية، والسيد [يبدي] (¬8) بالملكية، فلهذا إذا وقع الخلاف فيمن يقدم منهما على الآخر. والذي اختاره اللخمي [أصح و] (¬9) أسعد بظاهر الكتاب، وأحرى على أصول المالكية، وذلك أنها ماتت والعصمة قائمة بينهما، وبين زوجها، وماتت على أصل الإباحة، والسيد لا يحل له الاستمتاع بشيء ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بها. (¬3) انظر: المدونة (1/ 186). (¬4) المصدر السابق. (¬5) في الأصل: سيدها. (¬6) في أ: منازعة. (¬7) في أ: ويدلي. (¬8) في أ: ويدلي. (¬9) سقط من أ.

منها, ولا الالتذاذ بها، وماتت وهي محرمة عليه، [وكونها] (¬1) ماتت [وهي] (¬2) في ملكه [لا يكتفي به] (¬3) في إباحة الغسل حتى ينضم إليه الوصف الآخر؛ وهي الإباحة، وإلا فقد تكون أمته أخته من الرضاعة، فإذا ماتت أيكون الملك يبيح له غسلها إذا ماتت، وذلك لا نقول به. وإن مات الزوج، وكانت زوجته أمة: فاختلف فيها على قولين: أحدهما: أنه يقضى [لها] (¬4) بغسل زوجها -حرًا كان أو عبدًا-[وهو قول محمَّد بن المواز] (¬5). والثاني: أنه لا يقضى لها بغسله، وأولياؤه أولى منها لكونها أجنبية، وهو قول سحنون، والتوجيه ما قدمناه في الزوج. وأما إذا كان للزوج أولياء، وكانوا عجزوا فأرادوا أن يجعلوا ذلك إلى غيرهم من الأجانب: فلا خلاف في هذا الوجه أن الزوجة أحق به ويقضى لها بغسله قولًا واحدًا، ولا اعتبار ببقاء العدة، وانقضائها، وأن ذلك لا يمنع حقها من الغسل، مثل أن [تضع] (¬6) بفور وفاته، وتزوجت من ساعتها، وكذلك إذا تزوج هو أختها حين وفاتها: فلا يسقط ذلك ما وجب له من غسلها, ولا أعرف في المذهب [نص خلاف] (¬7) في ذلك. والوجه الثاني: إذا مات من مات منهما بعد الطلاق فلا يخلو ¬

_ (¬1) في أ: وكونه. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: توضع. (¬7) في أ: نصًا خلافًا.

[الطلاق] (¬1) من أن يكون بائنًا أو رجعيًا [فإن كان بائنًا أو رجعيًا] (¬2)، وقد انقضت العدة: فلا خلاف في المذهب أنه لا يجوز [لواحد] (¬3) منهما غسل صاحبه. وإن كان رجعيًا ولم تنقض العدة: فالمذهب على قولين [قائمين من المدونة] (¬4): أحدهما: [أنه لا يجوز أن يغسل واحد منهما الآخر] (¬5). والثاني: أنهما يتغاسلانه ما لم تنقض العدة. وهي رواية ابن نافع عن مالك. وينبني الخلاف: على الخلاف في الرجل، هل يجوز له أن ينظر إلى محاسن زوجته إذا طلقها طلاقًا رجعيًا أم لا؟ فعلى قولين: أحدهما: أنه يجوز له أن ينظر إلى محاسنها في العدة، ويجوز له أن يغسلها إذا ماتت. والقول الآخر: أنه لا يجوز له النظر إلى شيء منها؛ فلا يجوز له أن يغسلها. والقولان لمالك في "كتاب إرخاء الستور"، و"كتاب العدة" من "المدونة" [والحمد لله وحده] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: أنهما لا يتغاسلان، وهو مذهب المدونة. (¬6) ذيادة من جـ.

المسألة السابعة إذا مات الرجل وليس معه إلا النساء، أو ماتت امرأة، وليس معها إلا الرجال

المسألة السابعة إذا مات الرجل وليس معه إلا النساء، أو ماتت امرأة، وليس معها إلا الرجال ولا يخلو من منع الرجال من النساء إذا مات من أن [يكن] (¬1) أجنبيات، أو ذوات [محارمه] (¬2). فإن كن أجنبيات، فلا خلاف في المذهب المنقول أنهن لا يغسلنه، [ولكن] (¬3) ييممنه. ويتخرج في المذهب قول بأنهن يغسلنه من فوق الثوب، وهو قائم من "المدونة" (¬4)، وإليه أشار القاضي أبو الفضل. واختلف في حد ما يبلغن بالتيمم له؛ قيل: إلى المرفقين، وهو نص "المدونة" (¬5). وقيل إلى الكوعين، وهذا القول يتخرج من الكتاب. وسبب الخلاف: اختلافهم فيما يحل للأجنبية أن تراه من الرجل الأجنبي، هل إنما يحل لها أن ترى منه مثل ما يحل له أن يرى منها؟ ثم لا يجوز لها أن تتعدى الكوعين بالتيمم له، وإنما يجوز لها أن ترى منه مثل ما يجوز لذوات محارمه أن يرينه منه؛ فيباح لهن أن يُيَمِمْنَه إلى المرفقين. فإن كُنَّ ذَوَات مَحَارِمه: فلا خلاف في المذهب المنقول أنهن يغسلنه ¬

_ (¬1) في أ: تكون. (¬2) في ب: محارم. (¬3) في أ: ولكنه. (¬4) انظر: المدونة (1/ 186). (¬5) المصدر السابق.

ويسترنه. ويختلف المذهب فيما يَسْتُرْنَ منه على قولين قائمين من "المدونة" (¬1): أحدهما: أنهن يَسْتُرْنَ عَوْرَتَه خَاصّة، وهو ظاهر قوله في "المدونة": ويَسْتُرنه، أي: يسترن عورته، وعلى هذا التأويل اختصر المسألة أكثر المختصرين، وهو قول عيسى بن دينار (¬2) في غير "المدونة". والثاني: أنهن يسترن جميع جسده. وهو تأويل اللخمي على المدونة لقوله: ويسترنه وظاهر اللفظ [يقتضي] (¬3) ستر جميع جسده وهو نص قول سحنون (¬4) في غير المدونة. فوجه القول الأول [أن] (¬5) ذوات المحارم يجوز أن يرين من الرجل ما يرى الرجل منهن من غير خلاف. ولا يجوز للرجل أن يرى من ذوات محارمه إلا أعاليهن من الرأس، والشعر، والذراعين، وما فوق النحر. وأما قول سحنون فهو مبني على الاحتياط مخافة ما يفرط منهن إلى النظر إلى ما لا يجوز لهن؛ فيمنعن ويؤمرن بأن يسترن جميع جسده. [سدًا للذريعة، وعلى القول بأنهن يسترن جميع جسده] (¬6) فهل يغسلنه من فوق الثوب أو من تحته؟ قولان [قياسًا] (¬7) على غسل الرِّجل من ذوات محارمه. وأما المرأة إذا ماتت وليس معها إلا الرجال: فلا يخلو من معها من الرجال إذا ماتت أيضًا من وجهين: إما أن يكونوا من ذوي محارمها، أو أجانب، فإن كانوا من ذوي ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 186). (¬2) انظر: النوادر (1/ 550: 554). (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: النوادر (1/ 553). (¬5) في أ: في. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

محارمها، فهل يجوز لهم أن يغسلوها [من فوق الثوب] (¬1) وييمومها أم لا] (¬2)؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" (¬3): أحدهما: أنهم يغسلونها من فوق الثوب ويسترون جميع جسدها، وهو نص "المدونة" (¬4). والثاني: أنهم ييممونها ولا يغسلونها، وهو قول أشهب [ق / 59 أ] وابن نافع (¬5) في غير "المدونة" وهو ظاهر "المدونة" في تيمم النساء للأجنبي. وقال القاضي أبو الفضل: يجب أن ييمم الرجل ذوات محارمه، ولا يغسلها كما ييمم النساء الأجنبي إما الغسل في الجميع، وإما التيمم في الجميع، والذي قاله ظاهر. وعلى القول بأنهم يغسلونها من فوق الثوب، هل يصب الماء من فوق الثوب أو من تحته؟ فذهب بعض المتأخرين إلى أن الماء يصب من تحت الثوب لا من فوق الثوب؛ لأنه إذا صب من فوق الثوب التصق الثوب بجسدها فيصفها، ورأى أن ذلك معنى ما في الكتاب، وهو قول [ق / 47 جـ] ابن حبيب (¬6) في غير "المدونة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: المدونة (1/ 186). (¬4) المصدر السابق. (¬5) انظر: النوادر (1/ 550، 551). (¬6) وهو قول أشهب، انظر: البيان والتحصيل (2/ 247)، والنوادر (1/ 551).

ويلزم على هذا التأويل أن [يفعل] (¬1) النساء بالأجنبي مثل ذلك ولا يباشر بعضهم جسد [ق / 29 ب] بعض بيده، ولكن يجعل على يديه خرقة فيحك بها. واختلف فيما إذا كانت [معهم] (¬2) امرأة [كافرة] (¬3) فهل يجوز أن يعلموها الغسل فتغسلها، أو كان مع النساء رجل كافر؛ نصراني أو يهودي هل يجوز لهن أن يعلمنه فيغسله؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك جائز، وهو قول مالك. والثاني: أنه لا يجوز، ولا يلي ذلك كافر، ولا كافرة، ولا يأتمن على ذلك كافر ولا كافرة، وهو قول أشهب في "المجموعة" (¬4). والثالث: أنه [يدعى] (¬5) الكافر والكافرة، فيعلمهما ثم يغسلاهما ثم يحتاطون بالتيمم فيها. وهو قول سحنون في " [كتاب] (¬6) النوادر" (¬7). وسبب الخلاف: غسل الميت هل هو عبادة تفتقر إلى نية، أو لا تفتقر إلى نية؟ فمن رأى أن نيابة الكافر على غسل المسلم الميت جائزة: جعله عبادة لا ¬

_ (¬1) في أ: يفعل. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: النوادر (1/ 552)، والبيان والتحصيل (2/ 282). (¬5) في أ: يراعى. (¬6) سقط من ب. (¬7) انظر: النوادر (1/ 552).

تفتقر إلى نية؛ إذ الكافر لا نِيَّةَ له ولا قَصْد. ومن رأى أنها عبادة تفتقر إلى نية، يقول: لا تجوز نيابة الكافر. ومن قال: يجمع بين غسله والتيمم: فقد لاحظ الجانبين، إلا أن يقال: إن نية الأمر يجتزأ بها عن نية [المباشرة] (¬1). وهذا كله فيه ضعف، وقد وقع لمالك رضي الله عنه مثل هذا أو أشد منه في المدونة: [في المسلم] (¬2) إذا كانت زوجته نصرانية، وقد طهرت من [حيضها] (¬3) حيث قال: فإن زوجها يجبرها على الغسل من حيضتها، ومعلوم أنها لا نية لها. فإذا كان يعتبر صورة الغسل، ويجتزئ به في الغسل من الحيض، فمن باب أولى في غسل الميت [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) في ب: المباشر. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: حيضتها. (¬4) زيادة من جـ.

المسألة الثامنة في خروج النساء [على] الجنازة

المسألة الثامنة في خروج النساء [على] (¬1) الجنازة وخروجهن لا يخلو من وجهين: إما أن تكون متجالة، أو شابة. فإن كانت متجالة: فيجوز لها الخروج على كل [أحد] (¬2) قريبًا كان أو أجنبيًا منها. فإن كانت شابة، فهل تخرج [على] (¬3) جنازة كل [أحد] (¬4) كالمتجالة أم لا؟ فالمذهب على قولين: وسبب الخلاف: معارضة حديث عائشة للعمل [والعمل] (¬5) أن النساء كنا يخرجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الجنائز، وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما زوج الزبير تقود فرس الزبير، وهي حامل حتى [عوتب] (¬6) في ذلك. ويعارضه ما روى عن عائشة رضي الله عنها: لو أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ¬

_ (¬1) في ب: إلى. (¬2) في أ: حال. (¬3) في ب: إلى. (¬4) في أ، ب: واحد. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: عوتبت.

أحدث النساء بعده لمنعهن الخروج إلى المساجد كما [مُنعت] (¬1) نساء بني إسرائيل (¬2). فإذا كن يستوجبن المنع من الخروج إلى المساجد، فبأن يمنعن من الخروج إلى الجنازة أولى. وعلى القول بأن الشابة لا تخرج على جنازة كل [واحد] (¬3)، وإنما تخرج على معينين، وهم من قرابتها، فهذا وقع في "الكتاب" فيه إشكال. وسبب الخلاف: اختلاف الروايات، ونص الكتاب: ولا بأس أن تتبع المرأة جنازة ولدها، ووالدها، ومثلهما زوجها وأخيها إذا كان ممن يعرف أن تخرج مثلها على مثله، ثم قال: [أيكره] (¬4) لها الخروج على غير هؤلاء ممن لا ينكر لها الخروج عليهم من قرابتها؟ [قال: نعم] (¬5). وهذه الرواية الثابتة في "الأمهات" (¬6)، وعليها اختصر ابن أبي زيد وغيره من [القرويين] (¬7)، ووقع في بعض الروايات في بعض نسخ "المدونة" ممن ينكر لها الخروج [عليهم من قرابتها] (¬8) بإسقاط "لا"، وهي في بعض النسخ ملحقة ليست بأصلية. وذكر أبو عبد الله [التونسي] الرواية عنده في "المدونة" مما لا يمكن ¬

_ (¬1) في الأصل: منع، والمثبت من صحيح البخاري. (¬2) أخرجه البخاري (831)، ومسلم (445). (¬3) في ب: أحد. (¬4) في ب: ويكره. (¬5) سقط من ب. (¬6) انظر: النوادر (1/ 574: 578). (¬7) في جـ: المتأخرين. (¬8) سقط من أ.

لها الخروج عليهم، وتأولها على أنه ممن تحتجب عنه من أقاربها في حياته، وأن غير ذوات الأقدار من المنصرفات يجوز لهن الخروج على كل من يحرم لهن في الحياة، ولا يحتجبن منه، ولا يخرجن على من يحتجبن منه من أقاربهن. وهذه الرواية صحيحة في المعنى، ظاهرة في اللفظ لكنها غريبة نادرة الوجود في "الأمهات"، والأحكام [في المشهور] (¬1) الأشهر. وكذلك الرواية التي هي بإسقاط "لا": صحيحة المعنى قليلة الوقوع والوجود. وأما رواية الجمهور: فإنها صحيحة في اللفظ بعيدة في المعنى؛ لأن آخر المسألة يكر على أولها بالبطلان، وما هذا سبيله فهو أولى بالبطلان، غير أن شيوخ المذهب أخرجوا لها وجهًا من التأويل؛ فقالوا: معنى قوله: فيكره لها أن تخرج على غيرها ممن لا يمكن لها الخروج عليهم. وقوله: ممن لا ينكر لها الخروج عليهم: يريد الذين سماهم أولًا، وربما استدلوا على صحة هذا التأويل بما وقع في هذه المسألة في "المبسوط". ونصه: ويكره على غير هؤلاء الذين لا ينكر لها الخروج عليهم، ويكون قوله "الذين" بيانًا لقوله ممن لا ينكر لها الخروج، وهذا التأويل قريب في المعنى بعيد في اللفظ؛ لأن مصرف النفي غير مصرف الإثبات [والله أعلم والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في ب: بالجمهور. (¬2) زيادة من ب، جـ.

المسألة التاسعة إذا ماتت المرأة وكان في بطنها جنين يضطرب، [أو من] ابتلع جوهرة فمات، أو مالا ثم مات، هل يبقر عليهم أم لا؟

المسألة التاسعة إذا ماتت المرأة وكان في بطنها جنين يضطرب، [أو من] (¬1) ابتلع جوهرة فمات، أو مالًا ثم مات، هل يُبْقَر (¬2) عليهم أم لا؟ فهذا يحتاج إلى تفصيل وتحصيل: أما الولد: فلا يخلو من أن يكون في زمان يغلب على الظن أنه لا يعيش في مستقر العادة إذا وضعته: فهذا لا يبقر [عليه] (¬3) بالاتفاق. وإن كان في زمان يغلب على الظن أنه يعيش إذا ولدته كالثامن والتاسع في الأشهر، فهل يبقر أو يعالج؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال (¬4): أحدها: أنه لا يبقر ولا يتعرض لإخراجه جملة وهو قول مالك [في المدونة ويؤيده] (¬5) قوله تعالى: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} (¬6). فلو شرع البقر [على] (¬7) استخراج الأجنة من بطون الأمهات عند موتهن لأدى ذلك إلى أن لا يبقى جنين تضعه [اْمه] (¬8) يوم القيامة لشدة ¬

_ (¬1) في ب: وفيمن. (¬2) أي: تُشَق. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: النوادر (1/ 639، 640). (¬5) سقط من أ. (¬6) سورة الحج الآية (2). (¬7) في ب: في. (¬8) سقط من أ.

الهول، أو لأدى ذلك إلى أن يكون خبر [الله] (¬1) على خلاف مخبره، وهذا لا يسوغ بالإجماع. وهذا الذي قاله لا يلزم، بل يمكن الجمع بين الأمرين، ويكون البقر على من يغلب على الظن أنه يعيش، ويبقى ما عداه مما يغلب على الظن أنه لا يعيش فيتناوله قوله تعالى في الإخبار عن أحوال يوم القيامة. والثاني: أنه يبقر عليه، وهو قول سحنون في بعض نسخ "المدونة"، وهو قول أشهب في غيرها. والثالث: التفصيل بين أن يقدر على إخراجه بالمعالجة فيخرجه بها، وإلا فلا يتعرض له، وهو قول مالك في "المبسوط". وسبب الخلاف: معارضة الحقوق؛ وذلك أن البقرة مثلة بالأم، وحرمتها ميتة كحرمتها وهي حية. ويعارضه حق الولد؛ وهو إخراجه من الظلمات إلى النور، وفي ذلك إحياء، وإحياء النفوس أولى من صيانة مثل ذلك من الميت. ولو ابتلع دنانير أو جوهرة له أو لغيره ثم مات، هل تبقر بطنه وتستخرج أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال (¬2): أحدها: أنه يبقر وتستخرج -كانت له أو لغيره، كانت قليلة أو كثيرة- وهو ظاهر قول سحنون وأشهب في الجنين. والثاني: أنه لا يبقر -كانت له أو لغيره، قليلًا كانت أو كثيرًا- وهو قول ابن حبيب [وهو قول مالك في الجنين] (¬3). ¬

_ (¬1) في ب: الباري تعالى. (¬2) انظر: النوادر (1/ 639، 640). (¬3) سقط من أ.

والثالث: التفصيل بين أن يكون له أو لغيره؛ فإن كانت [له لم يبقر عليه، وإن كانت] (¬1) لغيره [وكان له مال] (¬2) فيؤخذ [مثل ذلك] (¬3) من ماله [ولا يبقر أيضًا] (¬4)، وإن لم يكن له مال أبقر عليه -يسيرًا كان أو كثيرًا-[وإن كان له مال لم يبقر عليه] (¬5). والرابع: إذا كان كثيرًا، وكان له: أبقر عليه. وإن كان يسيرًا لم يُبْقَر عليه. وهو قول ابن القاسم (¬6). وسبب الخلاف: تَقَابُل الحقوق [كما قدمنا] (¬7) [والحمد لله وحده] (¬8). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من ب. (¬6) انظر: النوادر (1/ 639). (¬7) سقط من أ. (¬8) زيادة من جـ.

كتاب الصيام

كتاب الصيام

كتاب الصيام تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ثماني عشرة مسألة: [فأولها] (¬1): من أفطر بعد طلوع الفجر ناسيًا. فلا يخلو صيامه من وجهين: أحدهما: أن يكون تطوعًا. والثاني: أن يكون واجبًا. فإن كان تطوعًا: فإنه يتمادى على الإمساك، ولا شيء عليه، فإن أفطر بقية يومه فعليه القضاء. وإن كان واجبًا: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون صيامه متتابعًا غير معين، أو متتابعًا معينًا. فإن كان متتابعًا غير معين؛ مثل قوله: عليَّ صوم عشرة أيام [متتابعة] (¬2) بغير عينها، فلا يخلو من أن ينوبه ذلك في أثناء صومه في أول يوم منه. فإن نابه ذلك بعد أن صام بعضها، فإنه يترك الأكل في بقية يومه، فإذا فرغ من صيامه قضى ذلك اليوم، وأوصله بصيامه، فإن لم يواصله استأنف الصيام. وهذا إذا تعمد ترك القضاء. واختلف إذا نسى صلة القضاء، هل يجب الاستئناف أم لا؟ ¬

_ (¬1) في ب: المسألة الأولى هي المسألة الثانية. (¬2) سقط من أ، ب.

على قولين: فإن نابه ذلك في أول يوم منه فقد قال [في الكتاب] (¬1) إن شاء أفطره، وإن شاء استأنف، ولا أحب له أن يفطر، فإن أفطره فإنما عليه صوم عشرة أيام [يدخل ذلك اليوم في هذه الأيام "العشرة" (¬2)] (¬3). أحدها: قضاء ذلك اليوم، وهي رواية ابن وَضَّاح، ووقع في رواية غيره [أكره له] (¬4) قضاء ذلك اليوم. واختلف المتأولون والشارحون في [تأويل] (¬5) هذه المسألة أولًا وآخرًا. وأما أولها: فكونه خَيَّره بين التمادي على الفطر والإمساك عنه، ثم قال: [وأوجب إلى أن يمسك] (¬6) ويُعَد ذلك منه تناقضًا من القول؛ لأن مُقْتَضَى التَّخيير الإباحة، واستحباب الإمساك [ق / 60 أ] عن الأكل يقتضي كراهة الفطر. وإلى هذا [صار] (¬7) بعضهم، وهو ظاهر أنه تناقض. وبعضهم يقول: ليس بتناقض [من القول] (¬8)، وإنما أراد أن يفرق بين هذه المسألة ومسألة التطوع؛ لأن التطوع يؤمر بتمامه والوفاء به، و [يُؤَّثَم] (¬9) بالفطر فيه؛ لأنه قد أبطل عملًا يصح له، ولا يلزمه قضاؤه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) بياض بالأصل، والمثبت من المدونة. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) انظر: المدونة (1/ 191). (¬7) في ب: أشار. (¬8) سقط من أ، ب. (¬9) في ب: يأثم.

ومسألة التتابع [لا تصح] (¬1) عما صامه له، ويلزمه قضاؤه، فلا يؤثم في فطره غيره [إن أفطر] (¬2) غير أنه يكره له الفطر من أجل أنه قطع عبادة يصح له أجرها تطوعًا إن أكملها، وإن لم يصح له عما صامه له، ولم يلزم تمامها إذا لم يدخل فيها بتلك النية فيها بخلاف ناوى التطوع. وتخييره إياه بين الإمساك، والتمادي على الأكل لا يَدُل على الإباحة؛ إذ التَّخيير يصح في كلام العرب بين المتفاضلين كما يصح بين المتساويين، والتَّخيير في [الفعلين] (¬3) أيضًا كذلك ما لم يكن أحدهما واجبًا، والآخر غير واجب، وهذا ما قيل في أول كلامه. وأما آخره فهو اختلافهم في [تنزيل] (¬4) هاتين الروايتين؛ فمنهم من يقول: [أن قوله] (¬5) قضاء ذلك اليوم حشو؛ لأن ذمته [معمورة] (¬6) بصيام العدد الذي التزمه بنذره [أداء ووفاء] (¬7)، كيف يقول يقضي ذلك اليوم لا أولًا ولا آخرًا. ومنهم من اعتذر وقال: وإنما [قال] (¬8) يصوم عشرة أيام [أحدها] (¬9) أو آخرها، قضاء ذلك اليوم احترازًا من أن [يقول] (¬10): يلزمه قضاء ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الفعل. (¬4) في ب: تأويل. (¬5) سقط من أ، ب. (¬6) في ب: عمرت. (¬7) سقط من ب. (¬8) سقط من أ. (¬9) في أ، ب: أولها. (¬10) في أ: يقال.

ذلك اليوم زائدًا على العشرة، فيصوم أحد عشر يومًا. وما قاله ظاهر لولا قوله في "الكتاب" (¬1): "عليه صيام عشرة أيام يدخل ذلك اليوم فيها". ولو اقتصر على هذا لكان يغنيه عن قوله: آخرًا [أو أولًا] (¬2) غير أنه موافق للرواية بالحاء. وأما رواية الخاء: فقال بعضهم هي مضادة للصواب، فلو قال أولها قضاء ذلك اليوم لكان صوابًا؛ لأن أول اليوم هو الذي فَسَد، وهو الذي يستأنف بالصيام مكان اليوم في الصوم الصحيح هو قضاء عن اليوم الذي ابتدأ فيه الصيام ثم أفطر فيه. والذي يظهر لي -والله أعلم- أن رواية الخاء أظهر من وجه آخر؛ وذلك أن الصيام المنذور غير المعين يتعين بالشروع فيه، فإذا شرع فيه صار بمنزلة ما لو عينه [أول نذره] (¬3)، ولا شك ولا إشكال أن المعين إذا أفطر فيه أول يومه، فإنه يقضيه آخرًا. ويصله بصيامه، فكذلك هذا لما أن شرع فيه، فقد تعين عليه أن يتابعه بنذره، ويتعين عليه الزمان بالشروع؛ فإذا أفطر اليوم الأول فإنه يقضيه بعد [صيام] (¬4) التسعة الأيام الباقية ويصله بها، فإن لم يصله استأنف [ق/ 48 جـ] وهذا ظاهر لمن تأوله. وأما الوجه الثاني: وهو أن يكون متتابعًا معينًا، إما بِتَعْيين الزَّمَان كرمضان، وإما بتعيين المكَّلف كالمنذور: فإنه يتمادى على صيامه، ويكون ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 191). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: فأنذره. (¬4) سقط من أ.

عليه القضاء، فإن أفطر في القضاء كان عليه أن يقضي يومًا واحدًا. فإن أفطر في قضاء القضاء: فعلى قولين: أحدهما: أنه يقضي يومين. وهو قول ابن القاسم في غير "المدونة" (¬1). والثاني: أنه يقضي يومًا [واحدًا] (¬2)، وهو قوله في "المدونة" (¬3) [والقول لابن القاسم في العتبية على ما نقله الشيخ أبو محمَّد في النوادر]. وكذلك قال ابن القاسم في "الحج" أيضًا فيمن أفسد حجه فقضاه، فأفسد القضاء: فإنه يقضي حجتين. وقال فيمن أفطر في قضاء التطوع: إن عليه قضاء يومين. فانظر ما الفرق بينهما عنده؛ حيث قال في قضاء رمضان: إنه يقضي يومًا، وإنما يقضي يومين من أفطر في قضاء القضاء. وقال في التطوع: يقضي يومين (¬4). ولا فرق بين المسألتين؛ لأن القضاء واجب في التطوع على من أفطر عامدًا، كما أن القضاء واجب في رمضان بالإجماع [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (2/ 57)، والبيان والتحصيل (2/ 339، 340). (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: المدونة (1/ 205). (¬4) انظر: النوادر (2/ 57)، والبيان والتحصيل (2/ 339، 340). (¬5) زيادة من جـ.

المسألة الثانية [إذا] أكل بعد طلوع الفجر [و] شك فيه

المسألة الثانية [إذا] (¬1) أكل بعد طلوع الفجر [و] (¬2) شك فيه وهذه المسألة التي صدرها سحنون "كتاب الصيام" (¬3)، [وكان الكلام عليها أولًا بالترتيب على حسب ما يقتضيه التبويب، لكن الذهول المعتري للبشرية استولى علينا حتى قدمنا [عليها] (¬4) غيرها، والخطب يسير] (¬5). [ونص المسألة] (¬6) قلت لابن القاسم: ما الفجر عند مالك؟ قال: سألنا مالكًا عن الشفق ما هو؟ فقال: الحمرة، وإنه يقع في قلبي، وما هو إلا شيء فكرت فيه منذ قريب أن الفجر يكون قبله بياض ساطع، فذلك لا يمنع الصائم من الأكل حتى يتبين الفجر المعترض في الأفق، فكذلك البياض الذي يبقى بعد الحمرة لا يمنع مصليًا أن يصلي صلاة العشاء. فسحنون رضي الله عنه سأل ابن القاسم عن الحمرة، فقال: سألنا مالكًا عن الشَّفَق، وما هو [في ضرب] (¬7) المثال إلا كقول القائل: من أبوك؟ فقال: خالي شعيب؛ لأنه أضرب عن الجواب اللائق بالسؤال؛ إذ السؤال عن الفجر لا عن الشَّفَق؛ لأن الشفق مقتضاه غير مقتضى الفجر، ¬

_ (¬1) في ب: فيمن. (¬2) في ب: أو. (¬3) انظر: المدونة (1/ 191). (¬4) في الأصل: عليهما. (¬5) سقط من ب. (¬6) سقط من أ، ب. (¬7) في أ: بضرب.

وكيف يصح أن يكون الشَّفَق جوابًا للسؤال عن الفجر؟ فقال بعض متفقهة الزمان: هذه المؤاخذة لازمة لابن القاسم، وليس ما قاله بلازم [فإن] (¬1) ابن القاسم رضي الله عنه جاء بالجواب عن مُقْتَضَى السؤال؛ لأنه سئل عن الفجر ما هو عند مالك، فأخذ يبين له قول مالك فيه ومذهبه واهتمام مالك، وصرف عنايته إلى الوقوف على حقيقته، وحقيقة الشفق؛ لأن [الفجر اسم مشترك كما أن] (¬2) الشفق اسم مشترك، فأراد أن يبين مَنَاط الحكم من هذا الاسم فجعل أحدهما أصلًا، والآخر فرعًا. والأصل في اصطلاح الأصوليين: عبارة عن المسألة المتفق عليها. والفرع: عبارة عن المسألة المختلف فيها. فكان الفجر محل الاتفاق بينه وبين العراقي؛ أعني أن الفجر الأول المسمى [بالكاذب] (¬3) المُشَبَّهة بِذَنَب السَّرْحَان لا يتعلق به حكم؛ لا حظر ولا إباحة، أعني الحظر: الأكل للصائم، والإباحة: صلاة الفجر. فإن الفجر الثاني هو المُؤَثِّر في الحَظْر والإباحة، فأراد أن يقيس الشفق على الفجر؛ لأن المخالف يقول: الشفق: البياض الذي يبقى بعد الحمرة. ومالك يقول: الشفق: الحمرة، فقال: البياض الساطع قيل: الفجر لا يمنع الصائم من الأكل حتى يتبين الفجر المعترض بالأفق، فكذلك البياض الذي يكون بعد الحُمْرَة لا يمنع مصليًا أن يصلي العشاء؛ فيكون ¬

_ (¬1) في الأصل: قال. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) في أ، ب: بالكذاب.

الحكم [للغاربة] الوسطى في الإباحة، كما أن الحكم [للطالعة] (¬1) الوسطى في المنع، وهذا القياس عند الأصوليين يسمى قياس العكس. واختلف هل يقال به أم لا؟ وهذا مُرَاد ابن القاسم أن يفيد سحنون فوائد جمة تَرْبَى على ما يقتضيه سؤاله لعلمه بأنه يحتاج إلى ذلك، وأنه يقوى على حمله ومثله معه، فإذا فهم غرض ابن القاسم فلا يبقى على جوابه اعتراض. فإذا شك الصائم في الفجر، هل طلع أم لا: فإنه لا يأكل، فإن أكل: فعليه القضاء ولا كفارة عليه بالاتفاق. والقضاء في حقه استحباب، وبه قال ابن حبيب، وقوله تفسير للمذهب، والله أعلم. فإن شك في الغروب؛ هل غربت الشمس أم لا: فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" (¬2): أحدهما: أن عليه القضاء والكفارة. والثاني: أن عليه القضاء، ولا كفارة عليه، وهو مذهب البغداديين من أصحاب المذهب كالقاضي أبي محمَّد عبد الوهاب، وكالقاضي أبي الحسن بن القصار وغيرهما [واستقراؤهم] (¬3) من "المدونة" من "كتاب الطهارة" حيث قال: ومن ظن أن الشمس قد [غابت] (¬4) [فأفطر] (¬5) ثم طلعت الشمس: إنه لا كفارة عليه. ¬

_ (¬1) في أ: للطالع. (¬2) انظر: المدونة (1/ 191، 192). (¬3) في ب: واستقراؤه. (¬4) في ب، جـ: غربت. (¬5) في ب: فأكل.

وحملوا الظن هنا على الشك، وغيرهم حمله على اليقين. واختلف الأشياخ في ترجيح [اليقين] (¬1)؛ فمنهم من رجح مذهب البغداديين؛ [لاستظهارهم] (¬2) بظاهر المدونة فساووا بين الطلوع والغروب. ومنهم من رجح القول بالتفريق بينهما، وأن الشك في الغروب بمعنى اليقين. ومنهم: من ذهب إلى الجمع بين القولين، وهو القاضي ابن رشد؛ فقال: لعل البغداديين أرادوا بالشك هاهنا غلبة الظن، [فيستوي] (¬3) الفطر في الوقتين. وقال [القاضي أبو الفضل] (¬4) عياض [بن موسى] (¬5): هذا بعيد؛ لأن الشك شيء وغلبة الظن شيء آخر غيره، وقد اختلفا بالحد والحقيقة. وأما من فرق بين الطلوع والغروب، فقال: الأصل في كل واحد منهما استصحاب الحال، وقد قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬6)، [فساغ] (¬7) له الأكل ولا يحرم إلا بيقين، ولا يصح حكم الانتهاك إلا بتيقن تحريمه عليه، وقد قال تعالى: {[ثُمَّ] (¬8) أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬9)، فأمر المكلّف بإتمام الصيام ¬

_ (¬1) في أ: القولين. (¬2) في ب: لاستدلالهم. (¬3) في ب: فيتساهلوا. (¬4) سقط من أ، ب. (¬5) سقط من جـ. (¬6) سورة البقرة الآية (187). (¬7) في ب: فيبيح. (¬8) في الأصل: و. (¬9) سورة البقرة الآية (187).

إلى الليل حتى يدخل عليه [الليل] (¬1) وهو مُمْسِك [ما لم] (¬2) يتيقن انقضاء النهار. فهذا هو الصحيح الذي عليه الاعتماد؛ لقول عمر رضي الله عنه لما أخبر أن الشمس قد طلعت بعد ما أفطر: الخطب يسير، وقد اجتهدنا (¬3). قال مالك (¬4): يريد بالخطب: القضاء؛ فمفهومه: [أنه] (¬5) لو لم يجتهد لكان عليه [أن يُكَفِّر] (¬6) [والحمد لله وحده] (¬7) [ق / 30 ب]. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: حتى. (¬3) أخرجه مالك (676)، والشافعي في الأم (2/ 96)، والبيهقي في معرفة السنن (3/ 367) بسند ضعيف لانقطاعه، فإنه من رواية خالد بن أسلم عن عمر، وخالد لم يدرك عمر رضي الله عنه. (¬4) الموطأ (676). (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: الكفارة. (¬7) زيادة من جـ.

المسألة الثالثة في الصيام [بالرؤية] أو بالشهادة

المسألة الثالثة في الصيام [بالرؤية] (¬1) أو بالشَّهَادَة والصيام يجب بأحد ثلاثة أشياء: إما [برؤية] (¬2) نفسه، وإما [برؤية] (¬3) غيره، وإما بإكمال [العدد] (¬4) ثلاثين يومًا. فأما الوجه الأول: وهو الصيام برؤية نفسه: فإذا رأى هلال رمضان، ولم ير معه غيره فلا خلاف أن الصيام يجب عليه في خاصة نفسه، فإن أفطر فعليه القضاء والكفارة. وهل يُعْذَرُ بالتَّأوِيل أم لا؟ فالمذهب على قولين (¬5): أحدهما: أنه غير معذور، وهو ظاهر قول ابن القاسم؛ لأن تأويله بعيد، وقد أبطل من التأويل ما هو أقرب من هذا. والثاني: أنه تسقط عنه الكفارة بالتأويل، وأما صيامه برؤية غيره: فلا تخلو تلك الرؤية من أن تكون خاصة أو عامة. فإن كانت خاصة، فلا تخلو من أن تكون واحدًا أو أكثر. فإن صام بشهادة الواحد فقد اختلف المذهب على قولين: ¬

_ (¬1) في أ: بالرواية. (¬2) في الأصل: برية. (¬3) في الأصل: برية. (¬4) سقط من أ، ب. (¬5) انظر: المدونة (1/ 193).

أحدهما: أنه لا يصام برؤيته لا على وجه الوجوب ولا على وجه الندب [ق/ 61 أ] ولا على [وجه] (¬1) الإباحة، وهو قول مالك ومشهور مذهبه. قال سحنون: ولو كان مثل عمر بن عبد العزيز ما صمت [بقوله] (¬2) ولا أفطرت (¬3). والثاني: أنه يجب الصيام برؤيته، وبه قال عبد الملك [بن الماجشون] (¬4). وسبب الخلاف: اختلافهم في قوله عليه السلام: "إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" (¬5). فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أذان بلال لا يمنع من الأكل. وسبب الخلاف: هل طريقه طريق الخبر، أو طريقه طريق الشهادة؟ فمن [حمله] (¬6) على طريق الخبر، فقال: لا يجوز الصيام بخبر الواحد. ومن [حمله] (¬7) [على] (¬8) طريق الشهادة، قال: يجب الصيام بشهادة الواحد. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: النوادر (2/ 9). (¬4) سقط من أ. (¬5) أخرجه البخاري (596)، ومسلم (1093) من حديث ابن مسعود، والبخاري (595) من حديث ابن عمر. (¬6) في أ: جعله. (¬7) في أ: جعله. (¬8) سقط من أ.

ويؤيد ذلك ما أخرجه النسائي من طريق ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه أعرابي فقال: أبصرتُ الهلال الليلة، فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ " قال: نعم، قال لبلال: "قم فأذن بالناس فليصوموا" (¬1). وهذا الحديث نص في الباب -إن صح- وإن كان بعض العلماء قد تأول هذا الحديث [أنه يحتمل أن يكون تقدمت عنده شهادة غيره] (¬2) بمثل ذلك. وأما فطره برؤية نفسه لهلال شوال، فهل [يفطر أو يمسك؟] (¬3). فقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يُقطر جُمْلَة، سَدًا للذَّرِيعَة، وهو ظاهر قول مالك في "الموطأ" [فإن أفطر فلا شيء عليه، وقيل: عليه القضاء، والكفارة، وهي رواية شاذة ذكرها الحميد] (¬4). والثاني: أنه يُمْسِك [عن] (¬5) الإفطار وَينْوِيه بقلبه وهو قول أشهب (¬6). والثالث: التفصيل بين أن يأمن [من] (¬7) العثور عليه [أم فإن أمن العثور عليه] (¬8) مثل أن يسافر سفرًا تقصر فيه الصلاة بحيث يظن أنه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2340)، والترمذي (691)، والنسائي (2112)، وابن ماجة (1652)، والدارمي (1691)، ضعفه العلامة الألباني في "الإرواء" (907). (¬2) في أ: أن يكون قد تقدم كلام غيره. (¬3) في ب: يجوز أم لا. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: على. (¬6) انظر: النوادر (2/ 12). (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من ب.

[إنما] (¬1) أفطر لعذر السفر، [أو كان وحده في سفر لا تقصر "فيه" (¬2) الصلاة] (¬3)، أو كان قاعدًا في قعر بيته حيث يخفى ذلك على غيره: فإنه يباح له الفطر. وهذا كله اختلاف [يرجع إلى] (¬4) حال ليس باختلاف يرجع إلى فقه. فإن عُثِرَ على من أفطر فَادَّعَى رؤية الهلال: فإنه يُعَاقَبُ إن كان غير مَأْمُون، وإن كان مأمونًا عُوتِبَ ويُغَلَّظُ عليه في الموعظة. فإن كانت عامة مثل أن يراه الجَم الغَفِير، والعدد الكثير الذي لا يصح منه التواطؤ على الكذب: فهذا لا خلاف في المذهب في وجوب الصيام بها، وأن العدالة أيضًا لا تشترط فيها، ولا الذكورية، و [لا] (¬5) الحرية. فإن رآه أكثر من واحد؛ مثل أن يراه العدد اليسير؛ كالشاهدين: فلا [تخلو] (¬6) السماء من أن تكون مغيمة أو مصحية. فإن كانت مغيمة: فلا خلاف في المذهب في وجوب الصيام بشهادتهما. فإن كانت مصحية: فلا يخلو من أن يتبين كذبهما [أم لا] (¬7) [فإن تبين كذبهما] (¬8) مثل أن يشهدا على هلال [شعبان] (¬9) فأكمل عدة ذلك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: في مثله. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في الأصل: يخلو. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ. (¬9) في ب: شوال.

الشهر ثلاثين يومًا، فلم ير الناس شيئًا سقطت شهادتهما، ولم يعمل [بها] (¬1) ولم يصم بها. وكذلك أيضًا لا يقضي بشهادتهما إن شهدا على هلال رمضان، فأكمل العدد، ولم ير هلال شوال، والليلة ليلة إحدى وثلاثين يومًا. قال مالك رضي الله عنه: هؤلاء شهود سواء تبين كذبهم في [الحال] (¬2)، وإن لم [يتحقق] (¬3) كذبهم في الحال، إلا أن هناك شبهة تشير بسوء الظن بشهادتهما مثل أن تكون السماء مصحية، وانفرد برؤيته دون عامة الناظرين، هل تقبل شهادتهما أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها مقبولة، وهو قول مالك، وهو المشهور. والثاني: أن شهادتهما مردودة عليهما، وغير مقبولة، وهو قول سحنون؛ قال: وأيُّ ريبة أكبر من هذا. واختلف أيضًا فيما إذا ثبت الهلال عند الإِمام بشهادة رجلين، وأمر أهل محلته بالصيام، والكف عن الطعام، ثم نقل ذلك إلى بلد آخر بخبر الواحد العدل؛ أخبرهم أن الهلال ثبت عند الإِمام، وأن أهل البلد صاموا بالرؤية المستفيضة، هل يجب عليهم الصيام بقوله أم لا؟ على قولين (¬4): أحدهما: أنه يجب عليهم [ق/ 49 جـ] الصيام بذلك، وبه قال أحمد بن ميسر -من أصحاب مالك- وبه قال جماعة من المتأخرين كابن ¬

_ (¬1) في أ: عليها. (¬2) في أ: الهلال. (¬3) في ب: يتبين. (¬4) انظر: المدونة (1/ 195).

أبي زيد وغيره (¬1)؛ فقالوا: كما يجب على أهل مكة الصيام إذا نقل إليهم أن الهلال رؤى، فكذلك يجب على من بلغه الخبر [أن الهلال] (¬2) رؤى في بعض البلدان. والثاني: أنه لا يجب الصيام بذلك؛ لأن ذلك شهادة، وليس ذلك كنقل الرجل إلى [أهله] (¬3) وولده؛ لأنه القائم عليهم ويلزمهم الصوم بقوله. وسبب الخلاف: هل طريقه طريق الشهادة، أو طريقه طريق الخبر. ومن قال: إنه أخبر عن خبر غيره، ومع ذلك يجب العمل بمقتضاه يستدل على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " [فكلوا] (¬4) واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" (¬5)، وكان ابن أم مكتوم رجلًا أعمى لا ينادى حتى يقال له: أصبحت أصبحت، وهذا ابن أم مكتوم يخبر عما أخبره به غيره، ومع ذلك يجب علينا الإمساك بخبره؛ فلا فرق بين خبر وخبر إذا كان المخبر عدلًا. وأما الصيام بإكمال العِدَّة، فلقوله عليه السلام: "صوموا لرؤية الهلال، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يومًا ثم أفطروا" (¬6). وفي حديث آخر: "فاقدروا له" (¬7). والمالكية تقول: "فاقدروا له" معناه: العدد منه ومن الذي قبله. ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (2/ 10). (¬2) سقط من أ. (¬3) في جـ: أهل بيته. (¬4) في الأصل: كلوا. (¬5) تقدم. (¬6) أخرجه البخاري (1810)، ومسلم (1081) من حديث أبي هريرة. (¬7) أخرجه البخاري (1801)، ومسلم (1080) من حديث ابن عمر.

والشافعية وابن حبيب [من أصحابنا] (¬1) معهم يقولون بالحساب، واعتبار منازل القمر، وترحيل الشمس على ما هو معروف من أدلتهم في [مسائل الخلاف] (¬2) [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: مسائلهم. (¬3) زيادة من جـ.

المسألة الرابعة [في] قبلة الصائم، وملامسته إذا قبل أو باشر أو لامس

المسألة الرابعة [في] (¬1) قُبْلَة الصَّائم، ومُلَامَسَته إذا قَبَّل أو بَاشَرَ أو لَامَسَ فلا يخلو [من] (¬2) أن يُنْزِل أو لا يُنْزِل. فإن لم يُنْزِل هل يَفْسَد صيامه أم لا؟ فإنه يتخرج على الخلاف الذي قدمناه في "كتاب الوضوء"، فلا نعيده مرة أخرى. وإن أَنْزَل: فقد قال في "المدونة" (¬3): عليه الكفارة ولم يشترط متابعة القبلة كما اشترط متابعة النظر، فهل يعد ذلك منه اختلاف قول أم لا؟ فقد يحتمل أن يكون اختلاف سؤال [ويحتمل أن يكون اختلاف أحوال] (¬4) ويحتمل أن يكون اختلاف أقوال. وبيان اختلاف السؤال أن باب القُبْلة أشد وأقوى من باب النّظر؛ إذ النّظر في نفسه من دواعي القُبْلة، والقُبْلَة من دواعي الوطء؛ فلذلك كانت أقوى؛ ولأن النظرة الأولى كانت مباحة له؛ إذ الغالب منها أن تكون بغير قصد بخلاف القبلة؛ إذ الغالب منها القصد إلى اللذة، فلأجل ذلك لم يشترط فيها مثل ما اشترط في النظرة، فعلى هذا يحمل على أنه اختلاف سؤال، وبيان احتماله أن يكون اختلاف [أحوال] (¬5): أن يحمل قوله في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: إما. (¬3) انظر: المدونة (1/ 195). (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: أحواله.

القبلة على القصد، فلذلك لم يشترط المتابعة، ويحمل قوله في النظرة على أنه لم يقصد، ولذلك اشترط المتابعة. وبيان الوجه الثالث؛ وهو احتماله أن يكون اختلاف أقوال؛ أن القبلة والنظرة كلاهما من دواعي الوطء واللذة تتعقبهما؛ فيتخرج على هذا الوجه في القُبْلة مع الإنْزَال [في] (¬1) الكتاب ثلاثة أقوال (¬2): أحدها: أن عليه الكفارة سواء تابع القبلة أم لا، وهو قوله في أول الباب. والثاني: التفصيل بين أن يتابعها، فتجب عليه الكفارة، أو لا يتابعها فيقتصر على قبلة واحدة ثم [لا] (¬3) كفارة عليه. وسواء على هذا [القول] (¬4) قصد القبلة أو لم يقصدها، وهو ظاهر قوله في مسألة النظرة. والثالث: التفصيل بين أن يقصد القبلة، فتجب الكفارة، أو لا يقصدها فلا تجب، وإن أنزل أيضًا، وهو متأول على مسألة النظرة، وهو ظاهر "المدونة" ومثله في "العتبية" (¬5) لابن القاسم عن مالك أنه لو نَظَرَ نَظْرَةً واحدة من غير تَعَمُّد فَأَنْزَل فإنه يقضي، ولم يذكر الكفارة. ويتخرج [له] (¬6) أيضًا من الكتاب قولان في النظرة: أحدهما: إن تابع النظرة، فأنزل: فعليه الكفارة، وإن لم يتابع ¬

_ (¬1) في ب: من. (¬2) انظر: المدونة (1/ 195). (¬3) سقط من أ. (¬4) في جـ: الوجه. (¬5) انظر: البيان والتحصيل (2/ 312، 313)، والنوادر (2/ 47). (¬6) سقط من أ.

فالتفصيل بين أن يقصد، فتجب الكفارة، أو لا يقصد ثم لا كفارة. فتخالف النظرة القبلة في هذا الوجه؛ إذ النادر وجود الإنزال عن النظرة الواحدة [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

المسألة الخامسة فيما يفطر الصائم مما يدخل في بعض المنافذ

المسألة الخامسة فيما يفطر الصائم مما يدخل في بعض المنافذ فلا يخلو من أن يكون دخوله في الفم، أو غيره من المنافذ. فإن كان من الفم، فلا يخلو من أن يكون بالطعام أو الشراب المعتادين، أو بغيرهما. فإن كان الفطر بالطعام أو بالشراب المعتادين، فلا يخلو من أن يكون عامدًا، أو ناسيًا. فإن كان عامدًا: فالكفارة مع القضاء باتفاق المذهب. وإن كان ناسيًا: فالقضاء دون الكفارة باتفاق المذهب. فإن كان الفطر بالطعام دون المعتاد مما يغذي أو كالأدوية وسائر العقاقير، أو قليل من الطعام المعتاد كفلقة حبَّة إذا [ابتلعها] (¬1) مع ريقه وكان [غير] (¬2) مغذى، فلا يخلو من أن يكون ناسيًا أو عامدًا. فإن كان ناسيًا [فهل عليه] (¬3) القضاء أم لا؟ [قولان] (¬4): أحدهما: أنه لا قضاء عليه. وهو ظاهر قوله في "المدونة" (¬5)، وهو قول ابن حبيب أيضًا في غير "المدونة". ¬

_ (¬1) في أ: ازدردها. (¬2) سقط من أوب. (¬3) في أ: فعليه. (¬4) في أ: على أربعة أقوال. (¬5) انظر: المدونة (1/ 208).

والثاني: أن عليه القضاء. وهو قول أشهب فيما حكى عنه [أبو محمَّد بن أبي زيد، فإن كان عامدًا. هل تجب عليه الكفارة أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه لا كفارة عليه، وعليه القضاء، وهو قول أشهب فيما حكى عنه] (¬1) ابن عبد الحكم. [والثاني] (¬2): أن عليه القضاء والكفارة. وهو قول مالك [وهو قول] (¬3) أبي مصعب. وفي المسألة قول [ثالث] (¬4): بالتفصيل بين أن يبتلعها من بين أسنانه، أو يأخذ ذلك من الأرض فيبتلعه. فإن كانت من بين أسنانه: فلا شيء عليه بأيّ وجه عمدًا [كان] (¬5) أو نسيًا. وإن أخذها من الأرض: ففي السهو القضاء، وفي العمد الكفارة. وهو قول ابن حبيب، وتفرقته ضعيفة؛ إذ لا فرق بين أن يأخذها من الأرض، أو يكون ذلك في فيه؛ لأنها لم تكن في فيه إلا برفعها إليه فلا يغير الحكم طول إقامتها في فيه. و [هل] (¬6) يعذر في ذلك بالجهل أم لا؟. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: والثالث. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: رابع. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

على قولين: أحدهما: أنه يعذر بالجهل. ولابن حبيب أنه لا يعذر [بالجهل] (¬1) على التفصيل [الذي فصل] (¬2). وسبب الخلاف: هل يحمل ذلك على أنه قصد إلى الانتهاك: فتجب عليه الكفارة، أو لا يحمل أمره على القصد إلى الانتهاك: فلا تجب الكفارة؟ فإن كان الإفطار بما ليس من المأكولات مما يغذي أو لا يغذي؛ وقولنا: يغذي معناه: أنه يكسر عنه كلب الجوع، ولم نرد بذلك مما يغذي الجسم وينميه الذي هو الطعام والشراب المألوف، فإنا قد فرغنا منه في صدر المسألة [ق/ 62 أ] فإذا كان ما ذكرناه مثل أن يبتلع حصاة، أو لؤلوة، أو نواة، أو مذرة، أو عودًا فيحصل [ذلك] (¬3) في جوفه، ففيها في المذهب قولان: أحدهما: أن عليه القضاء في السهو، والكفارة في العمد، وهو قول ابن حبيب. والثاني: التفصيل بين ما يَنْمَاع وَيَنْحَل ويحصل به الغذاء؛ مثل النّواة والمَذِرَة: فعليه القضاء في السهو، والكفارة في العمد. وإن كان مما لا ينماع ولا ينحل: فلا قضاء عليه في السهو، وفي العمد الكفارة. وهذا القول حكاه أصبغ عن ابن القاسم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من جـ. (¬3) سقط من أ.

واختار بعض المتأخرين ما قال ابن حبيب (¬1). وسبب الخلاف: المغذى حسًا هل يقاس عليه المغذى معنى أم لا؟ فمن ألحق المغذى معنى بالمغذى حسًا: أوجب الكفارة في العمد. ومن لم يلحقه: لم يوجب الكفارة. وهذا حكم الداخل من منفذ الفم. وأما الداخل من سائر المنافذ؛ كمن اسْتَسْعَطَ (¬2) بشيء من المائعات أو جعل في أُذُنَيْهِ دواء مائعًا، أو اكتحل أو جعل في رأسه حِنَّاء، أو احتقن من أسفله بدواء مائع أو غير مائع، فإن لم يصل ذلك إلى حلقه: فلا شيء عليه. وإن وصل إلى حلقه وعلم أنه يصل: ليس له أن يفعل، فإن فعل فهل عليه القضاء أم لا؟ قولان: أحدهما: وجوب القضاء، وهو قوله في "المدونة" (¬3). والثاني: أنه لا قضاء عليه، وهو قول أبي مصعب عن مالك، وحكى أشهب عن مالك مثله، ولا أعلم في المذهب نصًا في وجوب الكفارة، بل نص سحنون في "كتاب النوادر" (¬4) على أنه لا كفارة عليه، وإن تعمد ذلك وهو يعلم أنه يصل إلى حلقه، وإنما الكفارة فيما أدخله من الفم إلى الحلق، و [هو] (¬5) الذي يوجبه النظر؛ لأن مناط الكفارة هو الانتهاك، والانتهاك معدوم، والقصد إليه معدوم، إلا أن يقال أن الذي ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (2/ 41). (¬2) هو ما يجعل من الدواء في الأنف. (¬3) انظر: المدونة (1/ 195). (¬4) انظر: النوادر (2/ 45). (¬5) سقط من أ.

يعلم من نفسه وعادته أن ذلك لا يصل إلى حلقه ثم تعمد إلى جعله، فإنه قصد [إلى] (¬1) الانتهاك، فإن تحقق الوصول فقد وجب الانتهاك فتجب الكفارة؛ قياسًا على الصبي إذا استسعط بلبن امرأة فوصل إلى جوفه فإنا نقول: يجب التحريم، فيلزم هذا الاعتراض ولا انفصال عنه. واختلف في الاحتقان بالمائعات إذا وصل ما به احتقن إلى المَعِدَة هل يجب القضاء أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يجب عليه القضاء، وهو قوله في "المدونة" (¬2). والثاني: أنه لا شيء عليه، وهي رواية أشهب [عنه] (¬3) وقال في "كتاب الرضاع" (¬4) في الصبي إذا احتقن بلبن امرأة فوصل إلى جوفه: فإن كان له غذاء وقعت به الحرمة، وإلا فلا. فاشترط في حقن الصبي باللبن أن يكون له غذاء؛ معناه أن يقوم له مقام الرضاع بحيث لو اقتصر عليه لاجتزأ به على ما فسر ابن المواز، ولم يشترط في حقنه الصائم أيضًا أن يكون له غذاء، وظاهره اختلاف قول غير أن بعض المتأخرين [فرق] (¬5) بين المسألتين، وقال: إنما المقصود من الرضاع ما ينشز العظم وينبت اللحم؛ ولهذا أسقطنا حكم رضاعة الكبير. والمقصود من إفطار الصائم ما يهون عليه أمر الجوع، ويكسر حِدَّته، ويرد عنه كلبه، وإن كان ذلك لا منفعة فيه للجسم، وذلك يحصل [بكل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: المدونة (1/ 195، 196). (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: المدونة (5/ 405). (¬5) سقط من أ.

مائع يصل] (¬1) من بعض المنافذ، وبكل مائع وجامد يدخل من الفم. وهذا الحكم فيما يدخل من بعض المنافذ. وأما ما يخرج من الفم من قيء أو لعاب أو بلغم؛ فأما القيء: فإن كان بغلبة واضطرار، فإن لم يرجع إلى حلقه فلا شيء عليه باتفاق المذهب، وكذلك إذا رجع قبل حصوله وفصوله. فأما إن رجع بعد فصوله وحصوله في بعض نواحي الفم، وهو ناس: فقد اختلف المذهب على قولين: أحدهما: أن عليه القضاء، وإن كان مغلوبًا في الرد، وهي رواية [ابن] (¬2) أبي أويس عن مالك في "المبسوط" (¬3). والثاني: أنه لا قضاء عليه مع النسيان، وظاهره أنه [سواء] (¬4) كان مختارًا أو [غير مختار] (¬5) وهو أن يغلب عليه، وهو قول مالك أيضًا في "مختصر ما ليس في المختصر". فإن كان القيء باختيار المكلف؛ مثل أن يستقي فقاء، فإن كان صومه مقطوعًا فقد اختلفوا في القضاء، هل يستحب له أم لا؟ فإن كان في صوم الفرض، فاتفقوا أن عليه القضاء (¬6). واختلفوا هل ذلك على معنى الوجوب أو على معنى الندب، وظاهر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: البيان والتحصيل (2/ 350) والنوادر (2/ 45). (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: مغلوبًا. (¬6) انظر: النوادر (2/ 45).

المدونة أنه على الوجوب، ونص أبو القاسم بن الجلاب أنه على الاستحباب. وذلك عندي يرجع إلى اختلاف أحوال؛ فيجب القضاء إذا عرف أنه يرجع إلى حلقه منه شيء بعد وصوله إلى فيه، ويستحب إذا لم يعلم إلا أنه لا يأمن أن يكون جائزًا إلى حلقه منه شيء في تردده؛ لأنه الذي استدعى ذلك، ورأيت رواية مثل ذلك لابن حبيب. وأما الكفارة: فقد ذكر أبو بكر الأبهري أن [عبد الملك] (¬1) ألزمه الكفارة في تعمد القيء غالبًا، وقال أبو الفرج المالكي: من استقاء متعمدًا لغير فرض ولا عذر، فهذا الذي لو سئل عنه مالك لألزمه الكفارة إن شاء الله (¬2). والذي قالاه صحيح، وهو [وفاق] (¬3) المذهب إن شاء الله. وأما لو قَلَسَ [ق/ 50 جـ] بماء أو بلغم فظهر على لسانه ثم ابتلع منه ناسيًا هل يقضي أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه لا قضاء عليه، وهي رواية ابن نافع عن مالك (¬4). والثاني: أن عليه القضاء إذا قدر على طرحه، وهو قول ابن نافع وابن القاسم (¬5) [والحمد لله وحده] (¬6). ¬

_ (¬1) في ب: ابن الماجشون. (¬2) انظر: النوادر (2/ 45). (¬3) في ب: موافق. (¬4) انظر: النوادر (2/ 46). (¬5) المصدر السابق. (¬6) زيادة من جـ.

المسألة السادسة [في] الصوم في السفر

المسألة السادسة [في] (¬1) الصوم في السفر وتَقَاسِيم السَّفَر فيما يرجع إلى [استعمال] (¬2) الرُّخَص قد بيناها في "باب قصر الصلاة"، فلا نذكرها مرة أخرى. واختلف المذهب عندنا هل الصوم أفضل أم الإمساك أفضل، على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الصوم أفضل لمن قوى عليه، وهو قوله في "المدونة" (¬3). والثاني: أنه مُحَيَّز بين الفِطْر والإمْسَاك من غير أن يكون لأحدهما مزية على الآخر. وهو قوله أيضًا في "مختصر ابن عبد الحكم" في سماع أشهب (¬4). والثالث: أن الفطر أفضل، وهو قول [عبد الملك] (¬5) وهذا كله إذا كان السفر [إلى] (¬6) غير الغزو. وأما إن كان السفر إلى غزو، فالاتفاق من الجل بل الإطباق من الكل أن الفطر أفضل إذا قرب من لقاء العدو ليتقووا [على] (¬7) القتال والحرب. وسبب الخلاف: معارضة المعقول من ظاهر القرآن بالمنقول من حديث ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: المدونة (1/ 201). (¬4) انظر: النوادر (2/ 19). (¬5) في ب: ابن الماجشون. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: إلى.

النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن الله تعالى قال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (¬1)، وقال أيضًا: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (¬2). فكأن هذا يقتضي أن الصوم أفضل، ويعارضه ما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس من البر الصوم في السفر" (¬3). ومفهومه أن الفطر أحسن. ومن قَدَّم ظاهر [القرآن] (¬4) على مفهوم الخبر [يقول] (¬5): الصوم أفضل؛ لأن مفهوم الكتاب مقدم على مفهوم الخبر، فكان المصير إليه أولى، ويشهد لصحته الأثر، والنظر. فأما الأثر: فحديث حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: يا رسول الله [أجد قوة على الصيام في السفر] (¬6) فهل عليّ من جناح؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" (¬7) خرّجه مسلم. فتبين أن الفطر في السفر رخصة لمكان رفع المشقة عنه، وما كان رخصة، فالأصل ترك الرخصة، وهذا جار على قواعد الشريعة. ومن طريق النظر: أن الآيات والأخبار تظاهرت بفضل شهر رمضان؛ فوجب من طريق الاعتبار أن [صوم] (¬8) عينه أولى من صوم غيره؛ إذ لا ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية (184). (¬2) سورة البقرة الآية (148). (¬3) تقدم. (¬4) في ب: الكتاب. (¬5) زيادة ليست بالأصل. (¬6) في أ: أجد في قوتي الصيام على السفر. (¬7) أخرجه البخاري (1840)، ومسلم (1121). (¬8) في أ: صومهم.

يختلف أن الإتيان [بالفرض] (¬1) على وجه الأداء أولى من الإتيان [به] (¬2) على وجه القضاء؛ ولأن براءة الذِّمَّة أفضل من إشغالها. وَمَنْ قَدَّمَ مفهوم الخَبَر على مفهوم الكتاب يقول: إن الفطر أحسن؛ لأن الخبر نص في أن الصوم في السفر ليس بطاعة [فيكون الفطر إذًا أحسن] (¬3) وقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (¬4)، يحتمل العموم؛ إذ للقائل أن يقول [هذا] (¬5) عام في جميع الصيام. وأما من خيره بين الفطر والصيام من غير تفضيل أحدهما على الآخر، فاستدل بما خرجه مسلم من طريق عائشة رضي الله عنها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -[ق/ 31 ب] سأله حمزة بن عمرو الأسلمي عن الصوم في السفر فقال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر" (¬6) الحديث الذي استدل به من قال أن الفطر أحسن قد أخرجه البخاري ومسلم أنه ورد علي سبب؛ وذلك أنه قد رأى رجلًا قد ظُلِّلَ عليه وأجهده الصوم. وزاد مسلم: "قد اجتمع عليه الناس" فقال: "ما هذا؟ " فقيل له: رجل صائم، فقال عند ذلك: "ليس من البر الصوم في السفر" (¬7). وهذه قضية في عين إلا أنها اسم مفرد دخل عليه الألف واللام، والاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام، فإنه يقتضي الاستغراق عند أكثر الأصوليين، وبعضهم يقصره على سببه فساوا بين المستقل وغير ¬

_ (¬1) في ب: الفرائض. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ، جـ. (¬4) سورة البقرة الآية (184). (¬5) زيادة ليست بالأصل. (¬6) تقدم. (¬7) تقدم.

المستقل. وشَذَّت الظَّاهِرِيَة، وقالوا: إن صام في السفر فلا يجزئه صيامه، ولابد له من قضائه في أيام أخر، والجمهور على خلاف ذلك. وسبب الخلاف: اختلافهم في القرآن هل فيه مجاز أو كله حقيقة؛ وعلى هذا ينبني الخلاف الواقع بين الأصوليين في المسافر والمريض هل هما مخاطبان بالصيام أم لا؟ فمن قال: إن القرآن مشتمل على المجاز والحقيقة يقول بجواز صيام المسافر إذا صام؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬1)، تقديره: فأفطر فعدة من أيام أُخَرْ. وهذا الذي يعبر عنه [ق/ 63 أ] الأصوليون بفحوى الخطاب؛ وهو الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به. فإذا سافر فأفطر، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يفطر قبل أن يخرج. وإما أن يفطر بعد خروجه. وإما أن يفطر بعد أن يُبَيِّت الصيام في السفر. فالجواب عن الوجه الأول: إذا بَيَّتَ السفر وبَيَّتَ الصيام أيضًا وَنوَاه في نهاره، ثم أفطر قبل أن يخرج: فلا خلاف في وجوب القضاء. وهل عليه الكفارة أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال: ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية (184).

أحدها: وجوب الكفارة -سافر أو لم يسافر- وهو قول سحنون (¬1). والثاني: أنه لا كفارة عليه -سافر أو لم يسافر- وهو قول أشهب في "كتاب سحنون" (¬2). والثالث: التفصيل بين أن يسافر بعد ما أفطر: فلا كفارة عليه، وإن كَسِلَ عن سفره: فعليه الكفارة، وهو قول سحنون أيضًا (¬3). والرابع: التفصيل بين أن يفطر بعدما أخذ في السفر والاستعداد، إذا كان متأولًا ثم سافر: فلا كفارة عليه، أو أفطر قبل أن يأخذ في أهبة السفر: فإنه يكَفِّر -سافر أو تخلف- وهو قول ابن القاسم وعبد الملك في "كتاب ابن حبيب" (¬4). وسبب الخلاف: بين القولين المتقابلين: هل ينتقل بالنية عن الأصل إلى الفرع [على] (¬5) الانفراد، أو لا ينتقل حتى يقارنها الفعل؟ وذلك أن الإقامة أصل، والسَّفر فرع. فمن رأى أنه يكون مسافرًا [بالنية، قال: لا كفارة عليه. ومن قال: لا يكون مسافرًا إلا بالنية والفعل قال: عليه الكفارة، والقولان بالتفصيل مبنيان] (¬6) على هذا الأصل إذا اعتبرته. والجواب عن الوجه الثاني: إذا سافر فأفطر، هل تجب عليه الكفارة أم لا؟ على قولين بعد الاتفاق أنه لا يباح له الفطر ابتداء والكلام إذا أفطر ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 201). (¬2) انظر: النوادر (2/ 19). (¬3) انظر: النوادر (2/ 23). (¬4) انظر: النوادر (2/ 22). (¬5) في أ: عن. (¬6) سقط من أ.

[على قولين] (¬1): أحدهما: أن الكفارة لا تجب، وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة" (¬2). والثاني: أن عليه الكفارة، وهو قال المخرومي، وابن كنانة [في الكتاب أيضًا] (¬3). وسبب الخلاف: في المفهوم من قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬4)، فالاتفاق في السفر إذا طرأ عليه المرض الذي لا يقوى معه على الصيام في أثناء النهار: أنه يجوز له الفطر. وهل السفر كذلك أم لا؟ فمن قاس السفر على المرض قال: ولا كفارة عليه؛ ولاسيما أن الله تعالى ذكرهما مقرونين وتابع بينهما في نسق؛ فبين أن أحدهما حكمه حكم الآخر في إباحة الإفطار. أو يتأول قوله: "على سفر" على بمعنى: في؛ فيفرق بين اليوم الذي فيه السفر وبين ثانيه، وكأن اليوم الذي سافر فيه لم يتخلص للسفر بكليته؛ بل هو معظمه الذي هو محل انعقاد الصيام فخلص للحضر، فإذا أمعن في السفر وأصبح [فيه] (¬5)، فعند ذلك يكون من أهل التخيير، ويُشَبَّه بالمريض، ويباح له حينئذ أن يُبَيِّت الفطر إن شاء، وعلى أي وجه كان فهو محل خلاف على كل حال. ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل. (¬2) انظر: المدونة (1/ 195). (¬3) سقط من أ. (¬4) سورة البقرة الآية (184). (¬5) سقط من أ.

ولا شك أنا إذا نظرنا إلى حلول الموجب لا بإباحة الأكل، وهو السفر: كان حلوله مُسْقِطًا للكفارة قياسًا على الصلاة أيضًا، وهذا القول أظهر في النظر. والجواب عن الوجه الثاني: وهو إذا أصبح صائمًا في رمضان في سفره، هل يباح له الفطر بقية يومه أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يباح له الفطر، وهو المشهور. والثاني: أنه يباح له الفطر، وهو قول مُطَرِّف (¬1). فعلى القول بأن الفطر غير مباح، فإن أفطر فهل تجب عليه الكفارة أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: وجوب الكفارة جملة، وهو قول [ابن القاسم] (¬2). والثاني: سقوط الكفارة، وهو قول [ابن القاسم و] (¬3) المخزومي وابن كنانة. [والثالث: أن عليه الكفارة إلا أن يتأول أنه مسافر، وأنه يباح له الفطر، وهذه الثلاثة أقوال في المدونة واختلف] (¬4) في قول أشهب هل هو تفسير أم لا؟ والرابع: التفصيل بين أن يفطر بالجماع فيكفر، أو يفطر بالأكل والشراب فلا يكفر، وهو قول عبد الملك (¬5) [بن الماجشون] (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (2/ 24). (¬2) في أ: ابن المواز. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: النوادر (2/ 24). (¬6) سقط من أ.

وسبب الخلاف: فطر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكديد بعد أن بَيَّتَ الصيام هل [فعله] (¬1) دليل على الإباحة [عمومًا] (¬2)، أو هو دليل على الإباحة للمفطر دون المختار؟ والظاهر أنه خصوص للمضطر دون المختار، لكن للقائل أن يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مختارًا للفطر غير مضطر إليه، وقد أفطر، وإن كان في الحديث بيان لفطره عليه السلام، وهو الاقتداء ويريد أن يريهم بالفعل. وهذا لا يقوى؛ لأن الأمة إذا أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب عليها الامتثال، ولا يسوغ الوقوف دون الامتثال، ولاسيما الصحابة رضوان الله عليهم وما علم من سيرتهم في التسارع إلى الامتثال فيما أمروا به مما يشق [ويثقل] (¬3) حمله على النفوس، فكيف ما فيه رفق بالنفس، وربك أعلم. وهذا في الصوم المفروض. وأما في صوم التطوع: فإن كان متطوعًا، أو كان منذورًا غير مُعَيَّن، فأصبح صائمًا ثم سافر فأفطر هل يقضي أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يقضي، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬4). والثاني: أنه لا يقضي، وهو قول ابن حبيب، فإن كان منذورًا معينًا؛ مثل أن ينذر صيام يوم الخميس، فجاء يوم الخميس فسافر فيه، وهو صائم، فهل يقضي أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" (¬5): ¬

_ (¬1) في أ: هو. (¬2) في أ: للفطر. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: المدونة (1/ 196). (¬5) انظر: المدونة (1/ 196).

أحدهما: أنه يقضي، وهو نص "الكتاب" في غير المعين؛ إذ لا فرق، والفطر في الوجهين باختياره. والثاني: أنه لا يجب عليه القضاء، هو ظاهر قول مالك في "المدونة" (¬1)؛ لأنه قال في المرأة إذا نذرت صيام يوم بعينه ثم سافرت فيه فأفطرت، هل تقضي أم لا؟ فتوقف فيه مالك، قال ابن القاسم: فكأني رأيته يستحب لها القضاء [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 196). (¬2) زيادة من جـ.

المسألة السابعة صيام المغمى عليه والمجنون

المسألة السابعة صيام المغمى عليه والمجنون و [المجنون] (¬1) لا يخلو من أن يكون مُطْبِقًا، أو كان يفيق أحيانًا. فإن كان مُطْبقًا فلا خلاف أنه غير مخاطب بالصيام؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث" (¬2)، فذكر المجنون حتى يفيق. واختلف هل يخاطب بالقضاء أم لا؛ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا قضاء عليه سواء بلغ صحيحًا ثم جُن، أو بلغ مجنونًا، قَلَّت السُّنُون أو كثرت، وهو قول مالك وابن القاسم في "المدونة" (¬3). والثاني: التفصيل بين أن يبلغ مجنونًا: فلا يقضي، أو يبلغ عاقلًا ثم جن: كان عليه القضاء، وحكاه ابن الجلاب عن عبد الملك فيما يظن. والثالث: التفصيل بين قِلَّة السِّنين كالخمسة ونحوها: فيقضي [وكثرتها] (¬4) كالعشرة، وما فوق ذلك فلا يقضي. وهذا القول حكاه ابن حبيب عن مالك (¬5). وسبب الخلاف: [هل يجوز] (¬6) قياس المجنون على الحائض أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه أبو داود (4398)، والنسائي (3432)، وابن ماجة (2041)، وأحمد (2041)، وأحمد (24173)، والدارمي (2296)، وصححه الألباني في الإرواء (297). (¬3) انظر: المدونة (1/ 207). (¬4) في الأصل: وكثرها. (¬5) انظر: النوادر (2/ 28). (¬6) سقط من أ، ب.

فمن جوز القياس قال: يقضي الصيام كما أن الحائض تقضي. ومن أسقط [القضاء] (¬1) فيما كثر قاسه على الحائض في أنها لا تقضي الصلاة لتكررها وتقضي الصيام؛ لأنه لا يتكرر. وإذا كثر ما على المجنون من الصيام كان بمثابة الصلاة للحائض. وأما الخلاف في اتصال الجنون بالبلوغ هل يجوز أن يقاس على الصبي؛ لأنه لم تمر [عليه] (¬2) [حالة] (¬3) يتوجه [عليه] (¬4) الخطاب فيها بشيء من الفرائض. [أو] (¬5) لا يجوز قياسه على الصبي؛ لأن الجنون عارض يطرأ ويمكن زواله، وما من [ق/ 51 جـ] زمان يمضي إلا ويجوز فيه زواله، ويبقى العبد مكلفًا. والصبي ليس بعارض سانح؛ بل ذلك أمر جبلي، ولزواله حد لا يتعداه؛ وهو الاحتلام أو ما يقوم مقامه من السنين, وهو الصحيح إن شاء الله. فإن كان يُجَن ويَفِيق: فهو كالمغمى عليه، وان أغمى عليه في رمضان، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون أغمى عليه قبل طلوع الفجر. والثاني: أن يكون أغمى عليه بعد طلوع الفجر. فإن أغمى عليه قبل طلوع الفجر، فلا يخلو من أن ينوبه ذلك في أول ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: به. (¬3) في جـ: وقت. (¬4) سقط من أ. (¬5) في الأصول: و.

يوم من رمضان [أو] (¬1) في [أثنائه] (¬2). فإن نابه ذلك في أول يوم منه فأغمى عليه قبل طلوع الفجر ثم أفاق بعد طلوعه: فلا إشكال في وجوب قضاء ذلك اليوم على القول بأن صيام رمضان يفتقر إلى النية على ما سنعقد عليه مسألة مفردة إن شاء الله تعالى. فإن نابه ذلك في أثناء رمضان فأغمى عليه قبل الفجر ثم أفاق بعد طلوعه: فهل يجزؤه أو يقضي؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا يجزئه صيام ذلك اليوم ويقضيه، وهو نص "المدونة" في "كتاب الصيام". وظاهره أنه لا ينظر إلى المرض هل سبقه أو كان بإثره كما نص عليه ابن سحنون عن أبيه، ويكون قوله تفسيرًا للمدونة. والثاني: أنه إذا تقدم الإغماء مرض، أو بإثره مرض مُتَّصِل [به] (¬3) فيجب القضاء، ويكون صوم ذلك اليوم فاسدًا، وهو قول عبد الملك. وسبب الخلاف: اختلافهم في النية، هل يجب على الصائم تبييتها في كل ليلة أم لا؟ فمن رأى أنه يفتقر إلى التبييت كل ليلة: قال بفساد صيامه، وهو قول منصوص في المذهب. ومن قال: لا؛ بل تكفيه النية الأولى: قال بالإجزاء إلا أن يكن معه مرض. ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل. (¬2) في الأصل: الثانية. (¬3) في أ: فيه.

رأيت أكثر مشايخ المذهب رضوان الله عليهم ذهبوا إلى أن العلة في فساد صيامه زوال عقله؛ فالعقل محل التكليف، والذي قالوه صحيح غير أنه ينتقض عليهم بإغمائه بعد طلوع الفجر أن جعلوا العلة زوال العقل بالإغماء، ومن زال عقله لا يتصف فعله بالصحة، ولا بالفساد؛ لأن الصحة والبطلان من أحكام التكليف. ولا فرق بين الليل والنهار، فلما فرق المذهب بين الليل والنهار، وفرق أيضًا بين أن يستغرق النهار بالإغماء وبين إغمائه أول النهار: دل على أن العلة خلاف ما ذكروه؛ وهو كونه أغمى عليه حتى جاوز الوقت الذي [فيه] (¬1) يحتاج إلى عقد النية بصيامه، فإذا جاوز ذلك الوقت فلا يعتد بصيامه، وإن أفاق عقيبه. ومن تفطن لهذه [العلة] (¬2) فلا يعلل بسقوط الخطاب [ولا بثبوته والله الموفق للصواب] (¬3) فإن كان إغماؤه بعد طلوع الفجر، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يَسْتَغْرِق [ق/ 64 أ] نهاره كله أو أكثره، أو أغمى عليه إلى نصف النهار، أو أغمى [عليه] (¬4) أقل النهار من أوله أو آخره. فإن استغرق نهاره بالإغماء أو أغمى عليه أكثر النهار، هل يلزمه القضاء أم لا؟ على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) سقط من أ.

أحدها: وجوب القضاء، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب" (¬1). والثاني: أن صيامه جائز ولا قضاء عليه. وهو قول مطرف وابن الماجشون على ما حكاه ابن حبيب عنهما (¬2). والثالث: أن عليه القضاء استحبابًا. وهو قول أشهب [في] (¬3) المدونة. وسبب الخلاف: المغمى عليه، هل يقاس عليه النائم أم لا؟ فمن رأى أنه يقاس على النائم يقول: لا قضاء عليه؛ لأن النائم متفق عليه أنه لو نام نهاره كله لجاز حياته، ولا قضاء عليه. ومن رأى أنه لا يقاس عليه يقول: المقصود من الصيام كف النفس عن الملاذ من الطعام والشراب احتسابًا لله تعالى وابتغاء مرضاته ومقاساة ألم الجوع، والصبر على مقاساته، وهذه الصفة لا توجد فيمن فقد عقله بإغماء أو جنون؛ لأنه مغلوب غير مختار، وقال الله تعالى: "يدع طعامه وشرابه من أجلي" (¬4)، وذلك معدوم في حق المغمى عليه، ولا يعترض على هذا بالنائم؛ لأن النوم في جميع النهار أو أكثره نادر الوقوع من وجهين واعتبارين: أحدهما: من طريق المشروع. والآخر: من جهة العرف. أما الشرع: فكون المكلف مطالب بوظائف النهار؛ من صلاة الظهر ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 207). (¬2) انظر: النوادر (2/ 27). (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه البخاري (7054)، ومسلم (1151).

والعصر [تمنعه] (¬1) من التمادي على النوم [عامة النهار] (¬2). وأما العرف: فالنادر وقوع ذلك؛ إذ الغالب على الإنسان السعي والطلب للمعاش، ولا يتركه الباعث المستحث على طلب الدنيا أن ينام نهاره كله، وإن لم يكن هناك وازع ديني، فكيف والمؤمن [يوزعه] (¬3) وازع الشرع من هذا الاسترسال والاتسام بشبهة الإهمال والإغفال، ونعوذ بالله من الاتصاف بهذه الصفات المذمومة. وأما إذا أغمى عليه في نصف النهار، فهل يجب عليه القضاء أم لا؟ قولان: أحدهما: أن صيامه صحيح، ولا وهم فيه، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب" (¬4). والثاني: أن عليه القضاء. وهذا القول حكاه ابن حبيب عن ابن القاسم (¬5). وأما إن أغمى عليه أول النهار: فصيامه جائز ولا قضاء عليه اتفاقًا، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في ب: فيمنعه ذلك. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: يزعه. (¬4) انظر: المدونة (1/ 207). (¬5) انظر: النوادر (2/ 27)، ولذلك قال ابن أبي زيد: هذا خلاف ما رواه عنه سحنون في المدونة.

المسألة الثامنة [في] صيام يوم الشك

المسألة الثامنة [في] (¬1) صيام يوم الشك ولا يخلو صيام يوم الشك -لمن صامه- من وجهين: إما أن يصومه تطوعًا. أو يصومه على الاحتياط. فإن صامه تطوعًا، فهل يجوز أن يصام أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجوز القصد إلى صيامه تطوعًا. وهو قول مالك. والثاني: أن صيامه مكروه جملة. وهذا القول حكاه القاضي عبد الوهاب (¬2) [في المذهب] (¬3). والثالث: التفرقة بين أن يصادف صومًا كان يصومه مثل من يُدِيم الصيام: فإنه يجوز له صيامه، وبين من يقصد صيامه دون صيام قبله فيكره [له] (¬4). وهذا التفصيل حكاه [الشيخ أبو إسحاق] (¬5) [القابس] (¬6) على ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: عيون المجالس (2/ 621). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: التونسي.

المذهب. وسبب الخلاف: اختلافهم في نهيه - صلى الله عليه وسلم -[عن صيام يوم الشك] (¬1) هل هو نهي أريد به العموم، أو نهي أريد به الخصوص؛ وهو صومه على معنى الاحتياط [فإن ضاق على معنى الاحتياط] (¬2) لرمضان، هل يجزئه إن صادف أنه أول يوم من رمضان أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" (¬3): أحدهما: أنه لا يجزئه وعليه القضاء، وهو ظاهر "المدونة" وهو نص قول مالك في غير "المدونة"؛ لأنه إن كان بغمومه بسحاب أو غيرها، فالتحري إنما يكون عند ارتفاع الأدلة، والله تعالى قد جعل الأهلة مواقيت للناس، فإن غُمَّ شهر لم يغم ما قبله. والثاني: أنه يجزئه إن صادف ذلك اليوم أول رمضان. وهو ظاهر قول أشهب في "الكتاب" (¬4) لقوله: لأنه لم ينو به رمضان، وإنما نوى به التطوع. قال ابن لبابة: كأنه يقول: إن نوى به رمضان، وإن كان على شك أنه يجزئه، وهو ظاهر قول مالك في الأسير أيضًا إذا التبست عليه الشهور، فصام تحريًا لرمضان، ثم صادفه: أنه يجزئه، ولا فرق بينهما. وسبب الخلاف: النهي هل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟ وقد أجازت عائشة وأسماء، وعبد الله بن عمر، ومن الفقهاء أحمد ابن حنبل رضي الله عنهم صومه على الاحتياط، وقالت عائشة رضي الله ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) انظر: المدونة (1/ 203، 204). (¬4) انظر: النوادر (2/ 5).

عنها؛ لأن أصوم يومًا من شعبان أحب إليّ من [أن] (¬1) أفطر يومًا من رمضان (¬2). فذهب الشيخ أبو الحسن اللخمي إلى أن صومه على الاحتياط إذا كان الغيم واجب أو مستحب؛ قياسًا على الشك في الفجر [مع] (¬3) الغيم. ولا يختلف المذهب فيه أن الإمساك مأمور به إما فرض وإما ندب [ولا فرق بين السؤالين؛ لأن هذا في الليل بيقين وهو زمان الفطر، وشك هل دخل عليه زمان الصوم، وهل حرم عليه الأكل] (¬4) وهذا في شعبان بيقين وهو زمان يجوز فيه الفطر، وشاك هل دخل عليه زمان الصوم، وأن يكون [السحاب] (¬5) ستر الهلال كما ستر الفجر. والمذهب كله مبني على أنه لا يكره الأخذ بالاحتياط في محرم أو مباح مع وجود الشبهة، إلى آخر ما قال. وهذا الذي قال مع [حالته] (¬6) فيه نظر؛ لأن غداة هذا الفجر بيقين يعلم أنها زمان الصيام، وغداة يوم الشك مشكوك [فيها] (¬7) غير متيقنة، والله أعلم [والحمد لله وحده] (¬8). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل. (¬2) أخرجه أحمد (24424). قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (3/ 148). (¬3) في أ: على. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: ظنونه. (¬7) في أ: فيه. (¬8) زيادة من جـ.

المسألة التاسعة في الأسير إذا التبست عليه الشهور في دار الحرب ولم يعلم [شعبان] من رمضان فيصومه

المسألة التاسعة في الأسير إذا الْتَبَسَتْ عليه الشهور في دار الحرب ولم يعلم [شعبان] (¬1) من رمضان فيصومه ولا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يترجح عنده أنه شهر بعينه. أو يتساوى الشك عنده من غير ترجيح. فإن ترجح عنده أنه شهر بعينه: فإنه يصومه، ولا يحل له الفطر. فإن تساوى عنده الطرفان، فهل يصوم بالتحري أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يصوم بالتحري، وهو [مذهب] (¬2) "المدونة" (¬3) نصًا، وهو قول مالك [وابن القاسم] (¬4) وأشهب وعبد الملك في غيرها (¬5). والثاني: أنه لا يصوم بالتحري حتى يعلم، ورأى أنه غير مخاطب بالصوم لعدم المعرفة بعينه. وهذا القول حكاه ابن الجلاب عن ابن القاسم في بعض نسخ كتابه. والثالث: أنه يصوم السنة كلها اثنا عشر شهرًا؛ قياسًا على من نذر صوم يوم الجمعة يصومه أبدًا ثم نسيه ولم يغلب على ظنه يوم من أيام ¬

_ (¬1) في أ: شهود. (¬2) في ب: مشهور. (¬3) انظر: المدونة (1/ 206). (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: النوادر (2/ 31)، والبيان والتحصيل (2/ 331).

الجمعة: فاختلف فيه هل يصوم يومًا، أو يصوم الدهر كله؟ فإن قَدِمَ بلاد الإِسلام على القول بأنه يصوم بالتحري، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يتبين له صواب فعله. أو يتبين له فساد فعله. أو يبقى الأمر مُبْهَمًا كما كان أولًا. فإن تبين له صواب فعله؛ مثل أن يتبين له أنه صادف رمضان، فهل يجزئه أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين من المدونة: أحدهما: أنه يجزئه، وهو نص "المدونة" (¬1). والثاني: أنه لا يجزئه وعليه القضاء، وهذا القول يؤخذ من "المدونة" من مسألة الذي يصوم يوم الشك على معنى الاحتياط، وهو تأويل ابن لبابة على "المدونة"، وهو تأويل ظاهر. فإذا تَبَيَّن له فساد فعله؛ معناه أنه أخطأه، فلا يخلو من أن يكون [قد صام قبل رمضان أو بعده: فإن تبين له أنه قد صام قبله فلا يخلو من أن يكون] (¬2) صومه كذلك شهرًا واحدًا، أو شهورًا. فإن كان شهرًا واحدًا: فلا خلاف في المذهب أنه لا يجزئه وعليه القضاء. وإن كان شهورًا؛ مثل أن يَتَبَيَّن له أنه صام شعبان ثلاث سنين، فهل ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 206). (¬2) سقط من أ.

يجزئه أو يقضي؟ فالمذهب على قولين: [أحدهما] (¬1): أنه يجزئه وعليه قضاء الشهر الأول، وهو قوله في "المدونة"، ولسحنون مثله في "كتاب ابنه": قال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد في "نوادره" (¬2): يريد بقوله: يعيد الشهر الأول؛ يريد يلغي شعبان الأول فلا يجزئه، ولم يرد بذلك أن يعيد الرمضان الأول؛ لأن [عند] (¬3) وقع شعبان الثاني [وشعبان الثالث] (¬4) عن رمضان الثاني، ويبقى عليه رمضان الثالث فيقضيه. والثاني: أنه لا يجزئه وعليه قضاؤه، وهذا القول قائم من "المدونة" (¬5): إذا صام [رمضان] (¬6) الداخل وعليه رمضان آخر [ونوى به القضاء] (¬7)، قال: لا يجزئه عن واحد منهما. وإذا كان لا يجزئه في هذا الوجه مع نيته، وقصده للقضاء فبأن لا يجزئه إذا لم يقصد به القضاء أولى وأحرى. وكما لو صلى الظهر في يومين قبل الزَّوَال: فإنه يجب عليه أن يُعِيد الصلاتين، ولا تكون الثانية قضاء عن أول يوم، ثم يقضي عن اليوم الآخر، وأيضًا فإن الصوم لم يقصد به القضاء، وإنما ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: النوادر (2/ 31). (¬3) في الأصل: عليه، والمثبت من النوادر (2/ 31). (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: المدونة (1/ 206). (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

قصد أداء كل شهر [بعينه لسنته] (¬1) وذلك ظاهر لا إشكال فيه. فإن تبين له أنه صام بعده؛ مثل أن يتبين أن صومه كان في شوال: فإنه يجزئه، ويكون قضاء. فإن بَقِي الأمر مُبْهَمًا، ولا يدري هل صام قبله أو بعده: فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يعيد كلما صام [حتى] (¬2) يوقن أنه صام قبله أو بعده، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في "العتبية" (¬3). والثاني: أنه يجزئه؛ لأنه فعل غاية المقدور عليه، وهو قول عبد الملك في "المجموعة" (¬4). وسبب الخلاف: التحري هل يقوم مقام العلم حتى يتبين الخطأ، أو التحري شك، وتخمين لا تبرأ به الذمة؟ [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: معين لسنة. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: النوادر (2/ 31)، والبيان والتحصيل (2/ 331). (¬4) انظر: النوادر (2/ 31). (¬5) زيادة من جـ.

المسألة العاشرة [في] النية للصائم

المسألة العاشرة [في] (¬1) النية للصائم وقد اختلف العلماء في صيام رمضان هل يفتقر إلى النية أم لا؟ على ثلاثة أقوال كلها في المذهب قائمة من "المدونة": أحدها: أنه لا يفتقر إلى النية، وأنه متعين بتعيين الزّمان، وهي رواية ابن عبد الحكم [وعبد الملك] (¬2) عن مالك، وهو مذهب الحنفية (¬3)، [وهي قائمة] (¬4) من "المدونة" (¬5) من غير ما موضع؛ منها قوله في الحائض إذا استيقظت بعد الفجر فَشَكَّت أن تكون طهرت قبل الفجر: أنها تصوم وتقضي؛ لأنها يخاف عليها ألا تطهر إلا بعد الفجر، فبهذا علّل ابن القاسم المسألة ولم يُعَلِّل بعدم التبييت [وتأول بعض المتأخرين هذه المسألة على أن صيام رمضان لا يفتقر إلى نية؛ لأن ترك ابن القاسم التعليل بعدم التبييت] (¬6) وعلّل [بغيرها] (¬7) دليل على أن النية [ليست] (¬8) من شرطها. ومنها: ما وقع له في مسألة من صام رمضان الداخل قضاء عن رمضان الفائت، حيث قال: يجزئه وعليه قضاء الآخر، على رواية الآخر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: المبسوط (3/ 59). (¬4) في أ: وهو قائم. (¬5) انظر: المدونة (1/ 206). (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: بطهرها. (¬8) في الأصل: ليس.

بالفتح، فجعله يجزئه مع أن نيته إنما كانت للماضي، وما ذلك إلا لكونه يلزم بالتعيين. والثاني: أنه يفتقر إلى النية في ابتدائه وَتَنْسَحِبُ عليه تلك النية إلى آخره، ولا يحتاج إلى تجديدها كل ليلة ما لم يخالطه فطر غير معتاد، وهو نص "المدونة" في "كتاب الرهون" (¬1) وهي المسألة التي يسميها الفقهاء: غريبة الرهون؛ لوقوعها في غير محلها، وهذا القول هو المشهور، وعليه يناظر أصحابنا. وقولنا: فطر غير معتاد: كالفطر في نهار رمضان؛ إما بوجه جائز كالمرض، وكالحيض، والمسافر. وإما بوجه الانتهاك كمتعمد الفطر. وأما [الفطر] (¬2) المعتاد: فهو ما كان في زمان الليل، فإنه لا يؤثر في قطع النية على مشهور مذهبنا. والثالث: أنه يفتقر إلى التَّبْييت في كل ليلة، وهذا القول نقله ابن عبد الحكم عن مالك، وقد قال مالك: إن التَّبْيِيت ليس على الناس في زمان رمضان، قال: والناس مُجْمِعُون فيه على الصوم. قال: وقال مالك: لا صيام لمن لم يُبيِّت الصيام. قال: وقوله الذي هو موافق للتبييت [أحب إلينا يريد أن عليه التبييت] (¬3) في كل ليلة. وهذا نقله أبو الحسن اللخمي من كتاب ابن عبد الحكم، وهو مذهب ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (14/ 326). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

الشافعي. ويؤخذ هذا القول من "المدونة" من [مسألة] (¬1) المغمى عليه قبل الفجر، ثم أفاق بعده؛ حيث قال: يقضي، وما ذلك إلا لكونه مضى وقت التبييت، ولم يبيت. وسبب الخلاف: الصوم هل هو عبادة معقولة المعنى، أو غير معقولة المعنى؟ فمن رأى أنها غير معقولة المعنى أوجب [النية] (¬2). ومن رأى أنها معقولة المعنى لم يوجب [النية] (¬3)؛ لأن [المعنى] (¬4) المقصود من [الصوم] (¬5) ترك الأكل والشرب [والجماع] (¬6) من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وذلك موجود من طريق المعنى أن الإمساك للصائم من قبيل الترك، والترك لا يفتقر إلى نية. ومن أوجب النية أيضًا احتج بقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" (¬7) والصيام عمل، وقوله عليه السلام: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام" (¬8)، وهذا مثل قوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بوليّ" (¬9)، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: التبييت. (¬3) في ب: التبييت. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: الصائم. (¬6) سقط من أ. (¬7) أخرجه البخاري (1). (¬8) أخرجه أبو داود (2454)، والترمذي (730)، والنسائي (2331)، وابن ماجة (1700)، وأحمد (25918)، ومالك (637)، والدارمي (1698). قلت: صححه العلامة الألباني في الإرواء (914). (¬9) أخرجه أبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجة (1881)، وأحمد (19024). =

و"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (¬1)، "ولا صلاة لمن لا زكاة له". [وقد اختلف الأصوليون في مقصود الشرع في إيقاع حروف نافية على أدوات واقعة، هل ذلك نفي للذات شرع بالإبطال، أو ذلك نفي الفضيلة والكمال، فيتطرق إليه ضرب من الاحتمال ويسقط به الاستدلال]. وأما منشأ الخلاف [الذي] (¬2) بين مالك والشافعي على مشهور المذهب: الفطر في زمان الليل، هل يؤثر في قطع حكم النية المتقدمة أم لا؟ وأما الزمان الذي [يجوز] (¬3) للصائم أن يعقد فيه النية: فلا خلاف في المذهب أنه يجوز [له] (¬4) اعتقادها أول الليلة، ولا يضره بعد ذلك ما كان من الأكل، وذلك من باب الرخصة ورفع الحرج. واختلف هل يجوز له أن يؤخرها حتى يوقعها مع الفجر أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يجوز [له] (¬5) ذلك؛ لأنه من باب التغرير بالصيام، وإنما يقدمها قبله، وهو قول مالك في "مختصر ابن عبد الحكم" (¬6). ¬

_ =صححه العلامة الألباني في الإرواء (1839)، وقال: صححه أحمد وابن معين. (¬1) أخرجه البيهقي في الكبرى (4724)، وضعفه. وقال ابن الجوزي: لا يصح. العلل المتناهية (692). وضعفه الحافظ في التلخيص الحبير (564). وضعفه الشيخ الألباني في الإرواء (491)، وفي ضعيف الجامع (6297). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) انظر: النوادر (2/ 14، 15).

والثاني: أنه يجوز للصائم أن يوقع النية مع الفجر سواء [كان فرضًا أو نفلًا، معينًا أو مطلقًا] (¬1) وهو قول القاضي عبد الوهاب. وسبب الخلاف: اختلافهم في عموم قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬2)، هل يخصص بالعادة التي ركّبَ الله تعالى عليها بني آدم؛ وذلك أن أكثرهم لا يقدرون على إدراك أوائل الفجر؛ لأن ذلك مما يدق ويرق ولا يكاد يدركه إلا آحاد من الناس، وفي ذلك تغرير بالصوم، والعبادات تتنزه عن الإغرار، والأخطار؛ لأنها في الذمة بتيقن، فلا تبرأ إلا بيقين. ومقارنة النية بالفجر محل الخطر، فيحمل قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} (¬3)، على القرب، كما قيل في قوله عليه السلام: "إن بلالًا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" (¬4)، وكان رجل أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت؛ فتأولوه، وقالوا: أي قاربت الصباح. ولكن قد جاء [بما] (¬5) يقطع العذر [فيرفع] (¬6) الاحتمال، [ويسد باب التأويل] (¬7)؛ وهو ما أخرجه البخاري [في] (¬8) هذا الحديث من الزيادة: "فإنه لا ينادي حتى يطلع الفجر" (¬9)، وهذا نص في الباب. ¬

_ (¬1) المثبت من عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب (2/ 605). (¬2) سورة البقرة الآية (187). (¬3) سورة البقرة الآية (187). (¬4) تقدم. (¬5) في ب: ما. (¬6) في ب: ويرفع. (¬7) سقط من ب. (¬8) في أ: و. (¬9) أخرجه البخاري (592) بلفظ: لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت.

وأما الفطر غير المعتاد إذا وجد في خلال رمضان، وكان باختيار المكلف على وجه جائز مباح؛ كالفطر في السفر والمرض، أو على وجه محظور؛ كالفطر عامدًا قاصدًا للانتهاك: فلا خلاف في [وجوب] (¬1) تجديد النية عند العودة إلى الصيام على القول باعتقاد النية أول الليلة، وأن تلك النية [منسحبة الامتداد] (¬2) واختلف فيما إذا كان الفطر بغير اختيار المكلف كالحيض، فهل يفتقر إلى التبييت عند ارتفاع الحيض أم لا؟ فمشهور المذهب: أنها يلزمها التبييت، وقيل: لا يلزمها، وفطرها في زمان النهار على معنى الغلبة والاضطرار كفطرها في زمان الليل لما كانت مغلوبة. وهذا الخلاف قائم من مسألة الحائض إذا شَكَّت بعد الفجر هل طهرت قبل الفجر [أو بعده] (¬3)؟؛ حيث قال: تصوم وتقضي؛ لاحتمال أن تكون طهرت بعد الفجر، ولم يذكر النية. وقد أشار القاضي أبو الفضل ابن الجلاب [إلى الخلاف] (¬4) في المذهب والفرق [بينهما] (¬5) وبين غيرها ممن أبيح له الفطر ظاهر، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: ممتدة. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في الأصل: بينها.

المسألة الحادية عشر في المرأة الحائض إذا رأت الطهر

المسألة الحادية عشر في المرأة الحائض إذا رأت الطهر فلا تخلو من ثلاثة أوجه: إما أن تراه قبل طلوع الفجر، أو بعد طلوعه، أو شكت في أمرها. فإن رأته قبل طلوع الفجر: فلا يخلو من أن يبقى بينها وبين طلوع الفجر زمان متسع للغسل دون تضييق. أو يبقى بينها وبين طلوع الفجر ما لا يسع شيئًا من الغسل. أو يبقى ما يسع بعضه، ولم يسع استكماله. فإن بقى من الزمان ما يسع جميع الغسل: فلا خلاف في المذهب أنها مخاطبة بصوم يومها، وإن لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر، وهو مذهب "المدونة" (¬1)؛ لأنها صارت كالجنب [والجنب] (¬2) إذا أصبح صائمًا، فإن ذلك لا يفسد صومه، وكذلك لو صام نهاره كله، وهو جنب، فلا أعرف في المذهب نص خلاف في [عدم بطلان] (¬3) صيامه؛ لأنه مطيع من وجه وعاص من وجه [آخر] (¬4) فصيامه يجزئه، وهو مأثوم في ترك الصلاة. وإن لم يبق لطلوع الفجر شيء، أو بقى له ما لا يسع غسلها، هل هي كالحائض في يومها أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها طاهر، وأنها مخاطبة بصوم ذلك اليوم، وبه قال ابن ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 206). (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: صحة. (¬4) سقط من أ.

القاسم وأشهب، وهو مذهب "المدونة" (¬1). والثاني: أنها كالحائض في ذلك اليوم، وهو قول عبد الملك (¬2). وينبني الخلاف: على الخلاف في الحائض إذا ارتفع الدم عنها، ورأت علامة الطهر، هل حكمها حكم الحائض في العبادات والعادات [حتى تغتسل بالماء أو حكمها حكم الطاهر في الجميع أو حكمها حكم الطاهر في العبادات ويحكم لها بحكم الحائض في العادات] (¬3) كالوطء وغيره وكالطلاق؟ وهذا مما اضطرب فيه المذهب؛ وذلك أن أهل المذهب اتفقوا فيما إذا علمت أنها طهرت من حيضتها في آخر النهار أنها إنما تقدر ما بقى من النهار بعد فراغها من غسلها لا من حين رأت الطهر وهذا الإجماع حكاه ابن أبي زيد في "النوادر" (¬4)، وأبو الطاهر بن بشير [غير أن ابن بشير] (¬5) أشار إلى [أن] (¬6) المتأخرين تأولوا الخلاف على المذهب كيف يفرق بين الصلاة والصيام، ويجرون عليها حكم الحائض في حق الصلاة حتى تطهر أو يبقى من الزمان ما يمكن أن توقع فيه الغسل لو شرعت فيه، فعند ذلك تخاطب بالصلاة. وقالوا: في الصيام [إنها] (¬7) بنفس ما [رأت] (¬8) الطهر تكون ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 206). (¬2) انظر: النوادر (2/ 26). (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: النوادر (2/ 26). (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: ترى.

مخاطبة إن كانت في زمان ينعقد فيه الصيام، فلو كان بالعكس لكان أولى أن يقال إنها مخاطبة بالصلاة من حين رأت الطهر، وإن كانت لا تفرغ من الغسل، إلا بعد خروج الوقت كما قلنا في المجنون والنصراني على أحد الأقوال، وذلك أحوط للصلاة؛ إذ لا يجب عليها قضاء ما خرج وقته. ويقال في الصيام: إنها لا تخاطب إلا بعد الاغتسال؛ إذ لابد لها من القضاء. فلو كان الدِّين بالقياس لكان الأمر كذلك، ولكنا خوطبنا بالوقوف على الدليل الشرعي، ومن أين لهم هذا التفريق، إن كان ذلك بدليل فنقول: فسمع وطاعة، وإن كان بدليل معقول، فعليهم أن يظهروه ويبرزوه، وإلا فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من كل طريق، وثبت عند كل فريق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (¬1). و [مَنْ] من أدوات العموم، فقال أصحابنا: هذا في أصحاب الأعذار كالحائض إذا طهرت، مثل ما ذكرناه. فانظر هل حد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - حدًا من الاغتسال ومقدار الاغتسال، أو أشار إليه؟ وليس في الأخبار شيء يدل على ذلك؛ فإذا المرجوع إلى قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} الآية (¬2). فقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} فيجوز الوطء، وتخاطب بالعبادات؛ لأن حكمها حينئذ حكم الجنب؛ لأن الغاية من شرطها أن يكون ما بعدها مخالف لما قبلها، وإليه ذهب بعض العلماء. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) سورة البقرة الآية (222).

وبه قال [ابن] (¬1) بكير -من أصحابنا-: فيكون قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} (¬2) تكرر أو يكون حكمها حكم الحائض حتى تغتسل، وهو الأشهر، وهو الذي يشبه أن يكون مثار الخلاف. ومن فرق بين العبادات والعادات لاحظ جانب العبادات؛ إذ لا ضرر على المكلف في ترك العادات؛ إذ له عنه عوض؛ وهو ما أباحه الشرع من الاستمتاع بها بأعلاها. فأما إذا رأت الطهر بعد طلوع الفجر: فلا يلزمها صوم ذلك اليوم باتفاق. فإن شكت هل طهرت قبل الفجر أو بعده: فقد قال في "المدونة" (¬3): إنها تصوم وتقضي؛ فأمرها بالصيام للاحتمال أن تكون طهرت قبل الفجر، وأمرها بالقضاء لاحتمال أن تكون طهرت بعد الفجر، ولم أر فيها في المذهب خلافًا منصوصًا، ولا يبعد دخول الخلاف فيها بالمعنى، وذلك أنهم احتاطوا للعبادات؛ إذ لا يزول الغرض إلا بيقين. وللمعترض أن يقول: إن ذمتها برئت من حيث رأت الحيض، وأنها غير مخاطبة بالأداء، ولا بالقضاء، فلا تَعْمُر إلا بيقين ونية، واستصحاب الحال أصل من أصول الشرع، وهذا لا جواب عنه إذا وقع الإنصاف. واختلف المتأخرون في تأويل ما وقع لابن القاسم في "المدونة" في هذه المسألة كيف علل بالشك في وجوب القضاء، ولم يعلل بالنية، ويقول: إنها لم تُبَيِّت الصيام: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة البقرة الآية (222). (¬3) انظر: المدونة (1/ 206).

فذهب بعضهم إلى أن فطرها وهي حائض لا يؤثر في قطع النية التي بيتتها أول ليلة؛ لأنها مجبورة على الفطر، بخلاف المريض والمسافر. وذهب آخرون إلى أن ذلك منه جنوح إلى مذهب من يقول إلى أنها لا تفتقر إلى النية، وأن صوم رمضان متعين [بتعيين] (¬1) الزمان، وهذا أحد أقاويل المذهب. ومنهم من يقول: إنما غَفَل ابن القاسم عن ذكر النية، واقتصر على ذكر الاحتمال أن تكون طهرت [قبل] (¬2) الفجر [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: بعد. (¬3) زيادة من جـ.

المسألة الثانية عشر في صيام المرضع والحامل و [المستعطش]

المسألة الثانية عشر في صيام المَرْضِع والحَامِل و [المُسْتَعْطِش] (¬1) فأما الحامل: فلا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون قوية على الصيام، ولا يجهدها إذا صامت، ولا يخشى على ولدها؛ مثل أن يكون ذلك في أول شهوره: فهذه يجب عليها الصيام، ولا يباح لها الفطر، فإن أفطرت فعليها كفارة المنتهك، وإما أن تخاف على ولدها إذا صامت، أو تخاف حدوث علة بها: فهذه لا يجوز لها الصيام، وتؤمر بالإفطار. وإما أن يجهدها ويشق عليها، ولا تخشى إن هي صامت شيئًا: فهذه مُخَيَّرة بين الإفطار والإمساك. فإن أفطرت في هذين الوجهين: كان عليها القضاء، ولا خلاف فيها. واختلف هل تطعم أم لا على أربعة أقوال: أحدها: أنها لا إطعام عليها، وهو قوله في "المدونة" (¬2). والثاني: أنها تطعم، وهي رواية ابن وهب في "المدونة" (¬3) أيضًا. والثالث: [التفريق] (¬4) بين أن يكون خوفها على نفسها, ولم تطعم؛ لأنها مريضة، وإن خافت على ولدها أطعمت، وهو قول عبد الملك (¬5). ¬

_ (¬1) في ب: المتعطش. (¬2) انظر: المدونة (1/ 210). (¬3) انظر: السابق. (¬4) في ب: التفصيل. (¬5) انظر: النوادر (2/ 33، 34).

والرابع: أنها إذا خافت على ولدها قبل [أن تمضي] (¬1) ستة أشهر أطعمت، وإن دخلت في الشهر السابع لم تطعم؛ لأنها مريضة يريد أن المرض يسقط الإطعام، وإن شاركها الخوف على الولد، وهو قول أبي مصعب. وسبب الخلاف: هل يغلب حقها على حق الولد، ثم لا تطعم، أو يغلب حق الولد عليها فتطعم؟ فعلى أي وجه كان، فالإطعام [على] (¬2) جنب الحامل ضعيف. وأما المرضع: فلا تخلو من وجهين: إما أن تجد مَنْدُوحَة عن مباشرة الرضاع، أو لا تجده. فإن وجدت مَنْدُوحَة عن الرضاع؛ مثل أن يكون الولد يقبل غيرها من المراضع، وكان للصبي مال تستأجر له به من يرضعه: فهاهنا يجب عليها [الصيام] (¬3)، ولا يباح لها أن تباشر الرضاع وتفطر، فإن [فعلت] (¬4) فعليها كفارة المنتهك. واختلف إذا لم يكن للولد مال ولا أب له، أو له أب معسر، هل يجب عليها أن تستأجر له من مالها أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة" (¬5): أحدهما: أنها تستأجر له من مالها، وتصوم وهو نص "المدونة". والثاني: أن ذلك لا يجب عليها إلا أن تشاء؛ قياسًا على النفقة، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: في. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ل: أفطرت. (¬5) انظر: المدونة (1/ 210).

وهو ظاهر "المدونة". واختلف المتأولون والشارحون [على] (¬1) ما وقع له في المدونة؛ حيث قال: تستأجر له من يرضعه من مالها وتصوم؛ فقال بعضهم: يؤخذ منه أن عليها أن تستأجر له من يرضعه في الحولين إذا لم يكن لها لبن، كما نص [عليه مالك] (¬2) في غير "المدونة"، وهو قول إسماعيل القاضي وغيره. قال أبو عمران الفاسي رضي الله عنه: وهو قولهم كلهم، وإن كان القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب [يقول] (¬3) لا يلزمها ذلك قياسًا على النفقة. وقال بعضهم: لا يلزمها أن تستأجر له، إنما حقه في اللبن، فإذا انقطع بغير سببها [للولد، وقال آخرون: معنى ذلك أن حق الصبي تعين في معين، وهو اللبن. فإذا انقطع اللبن بغير سببها] (¬4) فلا شيء عليها في مالها، وإن كان بسببها فعليها العوض، والأصول موضوعة على أن من أتلف مال غيره [فعليه] (¬5) المثل [فيما له المثل] (¬6)، والقيمة فيما لا مثل له؛ فكأن الأم وجب عليها أن تفطر وتطعم إذا علمت أن الصوم يضر بلبنها، فلما اختارت الصيام بدلًا عن الفطر المباح لها تبين أنها قصدت إتلاف اللبن الذي هو حق الصبي وصانت بذلك مالها -أعني الكفارة التي تجب عليها بالإفطار- لو أفطرت. ¬

_ (¬1) في ب: في معنى. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: يلزمه. (¬6) في ب: في القيمة.

وهذا أحسن ما قيل في هذه المسألة. وأما إذا لم تجد مندوحة عن مباشرة الرضاع: فإنها تفطر إذا لم يقبل الولد غيرها من المراضع، والقضاء واجب عليها. واختلف [في الكفارة] (¬1) على قولين: أحدهما: أنها تطعم، وهو قول مالك في "المدونة" (¬2). والثاني: أنه لا إطعام عليها، وهو قوله في "كتاب ابن عبد الحكم". وعلى القول بأنها تطعم، هل ذلك إيجاب أو ندب؟ قولان: ظاهر "المدونة" (¬3) إيجاب. وقال أشهب (¬4): استحباب. ومتى يكون الإطعام؟ فالذي اختاره [المتأخرون] (¬5) أن يكون الإطعام مع القضاء، وكل يوم قضته أخرجت عنه [الكفارة] (¬6) مُدًا بِمُدِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن قدمت الإطعام على القضاء [أو أخرته عنه] (¬7) فإنه [يجزئها] (¬8). وسبب الخلاف: اختلافهم في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ [مِسْكِينٍ] (¬9)} (¬10)، هل الآية عامة ثم نسخت بقوله تعالى: {فَمَنْ ¬

_ (¬1) في ب: هل عليها إطعام أم لا؟ (¬2) انظر: المدونة (1/ 210). (¬3) انظر: المدونة (1/ 210). (¬4) انظر: النوادر (2/ 33). (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من ب. (¬8) في أ: يجزئها. (¬9) في الأصل: مساكين. (¬10) سورة البقرة الآية (184).

شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬1) وأن الآية نزلت [في الحامل والمرضع] (¬2) والكبير الفاني. فإن قلنا بالتخصيص: كانت الكفارة عليها واجبة بالقرآن، وإن قلنا بالنسخ: فيتركب الخلاف على أصل آخر، وهو الرخص [فهل يقاس عليها أم لا] (¬3). فإن قلنا بجواز القياس عليها: فلا إطعام عليها كالمريض والمسافر. وإن قلنا: إن القياس لا يجوز عليها: قلنا يلزمها الإطعام. ومن استحسن تردد. وأما المستعطش: الذي لا صبر له على العطش، والمتجوع: الذي لا صبر له على الجوع أصلًا، والذي رهقه عطش أو جوع مفرط في بعض النهار لعارض طرأ عليه كالحر الشديد حتى يخاف ذهاب مهجته، واعتلال [بعض] (¬4) حواسه، فهل يباح لهم الفطر أم لا؟ فإذا أبيح لهم الفطر هل يطعمون أم لا؟ وأما المستعطش والمتجوع الذي لا صبر له على الدوام حتى لا يقدر أن يوفي بالصيام في شتاء ولا صيف: فهذا لا إطعام عليه، ولا أعلم في المذهب نص خلاف فيه. وأما القضاء: فإن قدر عليه يومًا ما قضى، وإلا فلا شيء عليه. وأما الذي رهقه جوع أو عطش في بعض النهار: فإنه يباح له الأكل أو ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية (185). (¬2) زيادة ليست بالأصل. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

الشرب. وهل له التمادي على الفطر بجميع أنواع المفطرات [جماعًا] (¬1) أو غيره أم لا؟ [فالمذهب] (¬2) على قولين: أحدهما: جواز التمادي على الفطر بجميع [ما يحل] (¬3) للمفطر [جماع وغيره] (¬4). وهو قول سحنون، وأعاب قول من قال: لا يفعل (¬5). والثاني: أنه يمسك عن الأكل والشرب بعد ذهاب عطشه وجوعه، وهو قول ابن حبيب (¬6). واتفقا أنه لا إطعام عليه، وعليه القضاء. وهذا الخلاف ينبني على الخلاف في المضطر [إذا] (¬7) أكل الميتة، هل يشبع منها ويتزود، أو يأكل منها ما يسد رمقه ولا يتزود؟. وهذا الخلاف ينبني على أصل [آخر] (¬8)؛ وهو: ما حرمه الله تعالى إلا إذا أباحه على وجه الضرورة، هل هو كسائر المباحات [بالنسبة إلى المضطر فيستمتع بها كما يستمتع بسائر المباحات فيما يرجع إلى الاقتيات بها حتى يستغني عنها بغيرها من المباحات] (¬9) إطلاقًا، أو إنما يباح له منها ما ¬

_ (¬1) في أ: جميعًا. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: النوادر (2/ 36). (¬6) انظر: النوادر (2/ 36). (¬7) في أ: إلى. (¬8) سقط من أ. (¬9) سقط من أ.

يَسُد به الرَّمَق خاصة، والزائد عليه [باق] (¬1) على [أصل] (¬2) التحريم؟ [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من جـ.

المسألة الثالثة عشر في قضاء رمضان إذا أفطره أو بعضه

المسألة الثالثة عشر في قضاء رمضان إذا أفطره أو بعضه والكلام فيه على ثلاثة فصول: الأول: الزمان الذي لا يجوز أن يقضي فيه. والثاني: هل هو على الفور، أو على التراخي؟ والثالث: إذا دخل عليه رمضان القابل قبل أن يقضي. فالجواب عن الفصل الأول: في معرفة الزمان الذي لا يجوز فيه قضاء رمضان: أما يوم الفطر، ويوم النحر فلا خلاف بين الأمة أن صيامها لا يجوز بوجه؛ لا قضاء ولا نذر، ولا تطوع. واختلف في اليوم الرابع [في المذهب] (¬1)، هل يصومه من نذره، ومن عليه صيام التتابع فقطع عليه لعذر: فلا خلاف في اليومين اللذين بعد يوم النحر أنه يصومهما المتمتع الذي لا يجد هديًا. واختلف هل يجوز أن يقضي فيهما رمضان أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يقضي فيهما ولا يصومهما أحد إلا المتمتع؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} الآية (¬2). والثاني: أنه يجوز أن يقضي فيهما؛ قياسًا على من نذر صيام سَنَة بعينها، أو نذر صيام ذي الحجة على القول بأنه يصومها على ما سنبينه في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة البقرة الآية (196).

مسألة: من نذر صيام سَنَة بعينها إن شاء الله تعالى. وأما اليوم الرابع هل يحكم له بحكم اليومين اللذين قبله أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة" (¬1): أحدها: أنه لا يجوز صيامه بوجه. وهو قول أشهب، وهو ظاهر "المدونة" في مساواته [بين] (¬2) اليوم الرابع والثالث في الرمي. والثاني: أنه يجوز صومه لكل من صامه، ويقضي فيه رمضان، وهذا القول قائم من "المدونة" (¬3)، [من قوله] (¬4) في ناذر صيام سنة بغير عينها يصوم اثنى عشر شهرًا ليس فيها رمضان [ولا يوم الفطر] (¬5) ولا أيام النحر. ولم يذكر اليوم الرابع، وإلى هذا الاستقراء أشار الباجي، وقد نص فيه على جواز صومه لمن نذره، ويصومه من عليه كفارة اليمين. والثالث: أنه لا يصومه أحد قضاء لرمضان، ولا يبتدئ فيه صيام التطوع، ويصومه من عداهم وهو نص "المدونة" (¬6). وسبب الخلاف: الرُّخَص هل يقاس عليها أم لا؟ وذلك أن الله تعالى رَخَّصَ للمتمتع في صيامهما، فهل يقاس عليه غيره؛ بناء على أن صيامهما يجوز على وجه ما، أو لا يجوز القياس؛ لأنها أيام ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 211). (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: المدونة (1/ 212). (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) انظر: المدونة (1/ 211).

يكون [فيها العبيد] (¬1) في ضيافة المولى كما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو المشهور من المذهب. والجواب عن الفصل الثاني: هل القضاء على الفور أو على التراخي؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه على الفور، وأنه مهما أمكنه القضاء في أول شوال فإنه يجب عليه التلبس به، فإن تركه حتى يمضي منه مقدار ما عليه من عدد الأيام: فإن الكفارة تترتب في ذمته إن مات بعد ذلك أو مرض أو سافر سفرًا متصلًا إلى دخول الرَّمَضان المُقْبِل، وأنه غير معذور بذلك لوجود التَّفْرِيط أولًا. [فإن] (¬2) لم يكن به آقة ولا عذر حتى قضاه في آخر السنة: فإنه قد خاطر وسَلِم، [وقد قيل: الغرور] (¬3) ليس بمحمود [وإن سلم] (¬4). وهو قول [ابن القاسم] (¬5) في "المبسوط" (¬6) وهو أسعد بظاهر الكتاب لقوله في المسألة [إذا مات] (¬7) وقد صح شهرًا أو أقام في أهله شهرًا، وأوصى أن يطعم عنه أن ذلك في ثلثه مُبَدًا ولا يُبَدا إلا الآكد، وَبَدَّاه على نذر المساكين، ونذر المساكين واجب فجعله أوجب منه. ¬

_ (¬1) في أ: العبيد فيه. (¬2) في ب: وإن. (¬3) في ب: وتفريطه قبل العذر. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: أشهب. (¬6) انظر: النوادر (2/ 55، 56). (¬7) سقط من أ.

فلو كان على التراخي أنه لا يجب إلا بخروج شعبان: لكان قد أوصى بما لم يجب عليه، وكان كسائر الوصايا التي لا تبدا [وهذا أبين في المدونة] (¬1). والثاني: أنه على التراخي وأنه لا تجب عليه كفارة التفريط حتى يمكنه القضاء في شعبان، فإن لم يفعل حتى دخل رمضان الثاني، ولم يمرض ولم يسافر في شعبان: فعند ذلك تجب عليه الكفارة، ولا ينظر إلى ما مضى من سائر السنة، هل كان فيه مقيمًا أو مسافرًا [أو صحيحًا] (¬2) أو مريضًا، وبه قال أشهب وابن نافع [ورواه عن مالك أيضًا] (¬3)، وهو ظاهر "المدونة" في مسألة الحائض. ومن مسألة تفريق القضاء أظهر؛ لأنه جوز في الكتاب أن يفرق القضاء، وتفريقه يؤذن بالتراخي على كل حال، وهذا أظهر في الاستقراء. ويتخرج من المدونة قول ثالث: أنه إذا اتصل به المرض [والسفر] (¬4) من رمضان إلى رمضان آخر: أن ذلك لا يخرجه من الإطعام، وهذا القول حكاه أبو عمران عن أشهب، وهو قائم من "المدونة" من مسألة الحامل؛ لأن العلة الجامعة المرض، إلا أنه شذوذ من القول، والله أعلم. وسبب الخلاف: المفهوم من قول عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه البخاري ومسلم (¬5) أنها قالت: كان يكون [عليَّ] (¬6) الصوم من رمضان ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: النوادر (2/ 36). (¬6) سقط من أ.

فما أستطيع أن أصومه إلا في شعبان لشغلي [بحق] (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهل يفهم منه جواز التأخير، وهو الذي فهمه أكثر [الأصحاب] (¬2)، وإنما يفهم منه البدار مع التمكن؛ لأن عائشة رضي الله عنها بينت العذر الذي منعها من البدار، وأوجب [عليها] (¬3) التراخي؛ وهو الشغل بحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولولا ذلك لبادرت إلى القضاء، وهو الأظهر، والله أعلم. ويكون قضاء الصوم على هذا التأويل على الفور على مذهب عائشة؛ كالصلاة إذا نسيها، أو نام عنها أنه يصليها عقيب الذكر، وزوال ما كان به من نوم؛ فيكون مُفَرِّطًا متى لم يفعل. والجواب عن الفصل الثالث: إذا دخل عليه رمضان الثاني، أو الثالث قبل أن يقضي: أما إذا دخل عليه رمضان الثاني: فإنه يقضي عن كل يوم مدًا، ولا خلاف عندنا في ذلك. والدليل على ذلك ما خرجه البخاري عن [أبي هريرة وابن عباس أنه يجب عليه الكفارة وبه قال من التابعين القاسم بن محمَّد وسعيد بن جبير وعطاء وعطاء بن] (¬4) أبي رباح، ومن طريق المعنى: أن هذا صيام وضع في غير محله، وأخر عن زمانه إيثارًا واختيارًا: فتجب عليه الكفارة الصغرى قياسًا على الكفارة الكبرى إذا أفطر متعمدًا، واختلف في الوقت الذي يستحب فيه الإطعام على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: العلماء. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

أحدهما: أنه يجب فيه الإطعام إذا تحقق التفريط، وإن كان في شعبان متمكنًا ففرط، فإنه يستحب له أن يطعم عن الأيام التي مضت. والثاني: أنه يستحب له إذا أخذ في القضاء وهو قول ابن القاسم في الكتاب. وسبب الخلاف: هل كفارة التفريط شرعت لمعنى الجبر، فتقاس على الهدى بالذي وجب لفساد الحج، ثم لا يكون إلا عند القضاء؛ لأن الجبر إنما يكون مقارنًا للمجبور؟ أو إنما شرعت عقوبة لأجل التفريط، كما شرعت الكفارة الكبرى لأجل الانتهاك، فيجوز تقديمها على زمان القضاء؟ وأما إذا دخل عليه رمضان واحد فأكثر هل تكون عليه الكفارة، أو كفارة واحدة تجزئه؟ فلا خلاف في المذهب أعلمه أن عليه كفارة واحدة لا أكثر، وهو قول الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد (¬1)، وهو جواب [عبد الله] (¬2) بن عمر لمن سأله عن ذلك. فإذا أوصى بإخراجها عند موته، أو مات ولم يوص بذلك: فلا يخلو من أن يموت بإثر شعبان أو بعد بزمان. فإن مات بإثره: فلا يخلو من أن يكون أوصى بإخراجها أم لا. فإن أوصى بذلك هل يخرج من الثلث أو من رأس المال؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنها تخرج من رأس المال؛ قياسًا على كفارة العمد في ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (2/ 53، 54). (¬2) في جـ: عبد الملك.

رمضان فمات، ولم يُفَرِّط: أنها تخرج من رأس ماله، ولا فرق بين الكفارتين. وقياسًا على الزكاة على ما قال في "المدونة": إذا مات ولم يُفَرِّط فأوصى بزكاة ماله: أنها تخرج من رأس ماله. والثاني: أنها مصروفة إلى الثلث على كل حال، وهو ظاهر "المدونة؛ لقوله: إذا أوصى به أخرجت من الثلث غير مُبَدَّاة، ولم يفصل، وهو ظاهر ما وقع لمالك في "كتاب أبي الفرج" أن كفارة رمضان في ثلثه، وإن لم يوص بها. فإن مات ولم يوص بها هل يؤمر الورثة، أو يجبرون؟ قولان قائمان من "المدونة" أيضًا: أحدهما: أنهم يؤمرون، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنهم يجبرون، وهو قول أشهب. واتفقا أنها من الثلث. ولو مات بعد شعبان بزمان [كثير] (¬1) لكان خروجها من الثلث إذا أوصى بها. فإن لم يوص بها فلا شيء على الورثة. والقول بأنهم يجبرون إذا لم يفرط أظهر في النظر؛ ولاسيما على أصول المذهب؛ لأن التهمة قد انتفت [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من جـ.

المسألة الرابعة عشر الصيام المنذور

المسألة الرابعة عشر الصيام المنذور ولا يخلو الناذر للصيام من وجهين: إما أن يُعَيِّن يومًا أو شهرًا أو سنة، أو لا يُعَيِّن. فإن عَيَّن: فلا يخلو ذلك اليوم من أن يكون مما ينعقد فيه الصيام، أو لا ينعقد فيه. فإن كان مما لا ينعقد فيه الصيام؛ مثل يوم الفطر، أو يوم النحر، أو أيام الحيض والنفاس: فلا خلاف أنه لا يجوز له الوفاء بذلك في ذلك الزمان. واختلف هل يجب عليه قضاؤها أم لا، على قولين منصوصين عن مالك في الكتاب (¬1). أحدهما: أنه يقضي. والثاني: أنه لا يقضي. وسبب الخلاف: هل تعتبر الألفاظ أو المقاصد أم لا؟ فمن اعتبر الألفاظ قال: لا قضاء عليه؛ لأنه لم يذكره، ولا نذره وإنما نذر يومًا فمنعه الشارع من صيامه. ومن اعتبر المقاصد قال بوجوب القضاء؛ لأنه لما علم أن هذا الزمان لا ينعقد فيه الصوم، وقصده بالنذر فكأنه قصد قضاءه. فإن كان مما ينعقد فيه: فإنه يصومه، فإن أفطره: فلا يخلو من أن ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 214).

يكون فطره لعذر، أو لغير عذر. فإن كان لغير عذر: فلا خلاف في المذهب نصًا في وجوب القضاء. فإن أفطره لعذر: فلا يخلو ذلك العذر من أن يكون له [فيه] (¬1) سبب أم لا. فإن كان له فيه سبب: فالرواية في وجوب القضاء. فإن لم يكن له فيه سبب؛ كالمرض والحيض: فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا قضاء عليه، وهو المشهور، وهو نص "المدونة" (¬2). والثاني: أنه يقضي ولا يعذر بذلك، وهي رواية ابن وهب في "كتاب الصيام" في بعض روايات "المدونة" لابن وضاح، وهي صحيحة في "المبسوط" لمالك. والثالث: التفصيل بين أن يقصد الناذر عين ذلك اليوم لرجاء فضله وبركته: فيلزمه القضاء، وإلا فلا، وهو قول عبد الملك (¬3). ويتخرج في المسألة قول رابع [بالتفصيل] (¬4) بين الحائض والمريض: فالمريض لا قضاء عليه، والحائض تقضي إذا كانت أيامًا أو سنة أو شهرًا؛ لأنها يغلب على ظنها أنها لابد لها أن تحيض في تلك المدة، فكأنها قصدت إلى القضاء، كما لو نذرت صيام أيام حيضتها، فإنها تقضي على الخلاف في ناذر سنة بعينها. ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل. (¬2) انظر: المدونة (1/ 214). (¬3) انظر: النوادر (2/ 67، 68). (¬4) سقط من أ.

والأظهر في المريض قول ابن القاسم: أن لا قضاء عليه. فإن لم يُعَيِّن النَّاذِر زمانًا، وإنما قال: لله عليَّ صوم سنة أو شهر مثلًا: فإنه يصوم سنة كاملة ليس فيها رمضان، ولا يوم الفطر، ولا أيام الذبح؛ أما رمضان: فلكونه مستحق العين، وأما يوم الفطر ويوم النحر: فلنهيه عليه السلام عن صيامهما، وأما اليومان اللذان بعد النحر، واليوم الرابع: فقد قدمنا ما فيها من الخلاف في مسألة قضاء رمضان، فلا نطول بذكره مرة أخرى. وبهذا فارق التعيين الإطلاق؛ لأن الإطلاق يقتضي سنة على وجهها، والتعين يفيد حصر النذر فيه من غير زيادة على ما عين، إلا إذا التفت إلى القصد؛ ولهذا اختلف قول مالك في ناذر سنة معينة، وناذر شهر ذي الحجة هل يقضي أيام الذبح حتى ينوي إلا أن يقضيها، أو لا يقضي حتى ينوي؟ فهذا تردد بين المقاصد والألفاظ، والنذر المعلق لا يدخله شيء من ذلك ولا يحتمله، فظاهر المدونة أنه يصوم الرابع لسكوته عنه؛ لأنه قال: ليس فيها رمضان [ولا يوم الفطر] (¬1) ولا أيام الذبح، واليوم الرابع ليس من أيام الذبح. واختلف في المذهب فيمن نذر صيام اليوم الذي يَقْدمُ فيه فُلان، فقدم ليلًا أو نهارًا، أو نذر صيام يوم بعينه فنسيه. أما إذا نسيه: فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها لسحنون رضي الله عنه (¬2): ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: النوادر (2/ 68، 69).

أحدها: أنه يصوم يومًا أي يوم شاء من أيام الجمعة. والثاني: أنه يصوم آخر يوم من أيام الجمعة، ويكون بمعنى القضاء. والثالث: أنه يصوم أيام الجمعة كلها. وهذه كلها احتياط، والقياس: أنه يصوم الجمعة كلها؛ إذ لا يخلو من ذلك اليوم. وأما من نذر صيام اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم ليلًا: فإنه يصوم صبيحتها إن كان يومًا يجوز صيامه. وإن كان يومًا لا يجوز صيامه سقط نذره، وإن قدم نهارًا فهل يلزمه القضاء أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا قضاء عليه، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬1). والثاني: أنه يقضي، وهو قول أشهب وعبد الملك. وإن قدم يوم الفطر [والأضحى] (¬2): فأشهب يقول: لا يقضي، وعبد الملك يقول: يقضي (¬3). ومن نذر أن يصوم [من] (¬4) هذا الشهر يومًا: قال ابن سحنون عن أبيه (¬5): عليه أن يصوم [منه] (¬6) يومًا واحدًا. ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 215). (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: النوادر (2/ 67). (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: النوادر (2/ 69). (¬6) سقط من أ.

وإن نذر أن يصوم هذا اليوم شهرًا: فليصم مثل ذلك اليوم ثلاثين يومًا [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

المسألة الخامسة عشر فيمن أكره امرأته على الوطء أو على القبلة وهما صائمان في نهار رمضان

المسألة الخامسة عشر فيمن أكره امرأته على الوطء أو على القبلة وهما صائمان في نهار رمضان ولا يخلو هذا الإكراه من وجهين: أحدهما: أن يكون الزوج هو المكره على أن يطأ. والثاني: أن يكره الزوج امرأته على الوطء. فإن كان الزوج هو الذي أكره على أن يطأ وهو صائم، فهل يقضي ويكَفِّر ويحد إن أكره على وطء امرأة ليست بزوجته، ولا ملكها بيمين؟ أما القضاء فلا خلاف في وجوبه عليه. واختلف المذهب في الكفارة والحد على قولين: أحدهما: أنه يُكَفِّر ويُحَد، وهو قول عبد الملك. والثاني: أنه لا حد ولا كفارة عليه، وهو المشهور في المذهب. وسبب الخلاف: هل يعذر بالإكراه أم لا؟ فمن أعذره بالإكراه يقول: لا حد ولا كفارة. ومن لم يعذره بالإكراه: يرى أن له في ذلك إيثارًا واختيارًا؛ لأن العادة المألوفة من المكره الانزواء والانقباض، فوجود الانتشار وعدم الانقباض من الخائف يدل على أن الإكراه لا تأثير له، وهو ظاهر في المعنى، وقد رأيت لبعض المتأخرين نقلًا يخالف ما قدمناه -وهو أكثر أقوال المذهب- أنه لا كفارة عليه، والأكثر على إيجاب الحد عليه.

وهذا الذي قاله ليس بالبين؛ لأن الحد والكفارة حَقَّانِ من حقوق الله تعالى، وموجبهما في هذه الصورة واحد. وهذا بخلاف المرأة إذا أكرهت على الوطء، فلا خلاف أنها لا حد عليها. وإن كان الرجل هو الذي أكره امرأته على الوطء أو القبلة: فلا خلاف في وجوب الكفارة والقضاء عليه عن نفسه. واختلف هل يكفر عنها أم لا على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه يكفر [عنها] (¬1) جملة؛ سواء أكرهها على الوطء، أو على القبلة، أو أتاها وهي نائمة، أو رجل أكره غيره فصب الماء في حلقه وهو صائم. وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" في باب الإكراه على الوطء. ويؤخذ من الكتاب في النائمة أيضًا [من قوله] (¬2) بأي وجه كان ناسيًا أو غير ناس، ورواه عبد الملك وابن نافع عنه. والثاني: أنه لا يلزمه أن يكفر عنها جملة. وهو ظاهر المدونة فيمن أتى نائمة، أو أكرهها فصب في حلقها ماء؛ إذ لا فرق بينهما و [هو] (¬3) مذهب سحنون. والثالث: التفرقة بين القُبلة والوطء، فيكفر عنها في الوطء، ولا يكفر عنها في القُبلة. وهو ظاهر "المدونة" على ما تأوله أبو الحسن القابس [وابن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

شبلون] (¬1) لقوله في "المدونة": إذا قَبَّل امرأته مكرهة حتى يُنْزِلَا: فالكفارة عليه، وعلى المرأة القضاء. ووجه التفرقة: أنه لا انتهاك في مسألة القبلة؛ لأنه لم يكن الإنزال إلا من فعله؛ ولأنه بنفس الإيلاج تجب الكفارة. وأظهر الأقوال: ما ذهب إليه سحنون؛ وذلك أن المذهب اتفق [على] (¬2) ألا كفارة عليها؛ لأنها مكرهة والمكره لا ينسب إليه فعل. فإذا كانت الكفارة لا تجب عليها، فما الذي يحمل عنها؟ وكذلك إن أكره أمته على الوطء: فإنه يكفر عنه وعنها على أحد الأقوال. وقال ابن أبي زيد: قال بعض أصحابنا في كتاب آخر: وإن وطئ أمته: كفر عنها، وإن طاوعته -يريد في الأمة وإن طاوعته كالإكراه للرِّق-. وعلى القول بأنه يكفر عنها، فإن كان معسرًا: كفرت عن نفسها، ورجعت عليه، وهو قول ابن شعبان في "الزاهي". وفي ذلك نظر؛ لأنه يشعر بأن الكفارة واجبة عليها ثم حملها الزوج عنها، ولا قائل به في المذهب. وهل يجب عليها الغسل أم لا؟ فلا تخلو من أن تكون قد التَّذَّت أم لا. فإن الْتَّذَّت: فلا خلاف في المذهب في وجوب الغسل عليها. وإن لم تَلْتَّذ، أو كانت نائمة: فالرواية أن لا غسل عليها، وهي رواية إسماعيل القاضي عن مالك. والقياس يُوجب دخول الخلاف فيها. ¬

_ (¬1) في جـ: وابن شعبان. (¬2) سقط من أ.

واختلف هل تقضي أم لا؟ فالمشهور من المذهب أنها تقضي، وذهب القاضي أبو الحسن بن القصار إلى أنها لا قضاء عليها. وعلى هذا: يتخرج الخلاف في الكفارة عنها هل هو وطء المُكْرِه جِنَايَة أفسدت صيام المُكْرَه أم لا؟ فمن رأى وجوب القضاء عليها: قال بوجوب الكفارة عنها؛ لأنه جنى على صومه وصوم غيره. ومن رأى أنها لا قضاء: يقول لا يكفر عنها؛ لأن جنايته لا تأثير لها في صيامها. وعلى القول [بأنه] (¬1) يكفر عنها: فليكفر عنها بالعتق والإطعام، وإن كانت حُرَّة، يكون الولاء لها. ولا يكفر عنها بالصيام؛ إذ لا يصوم أحد عن أحد عند مالك. وإن كانت أمته: فليكفر عنها بالإطعام خاصة؛ إذ العتق ليس من كفارة العبد [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: بأنها. (¬2) زيادة من جـ.

المسألة السادسة عشر إذا أصبح الصائم ينوي الفطر

المسألة السادسة عشر إذا أصبح الصائم ينوي الفطر فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن ينوي الفطر قبل الفجر فاستمر على تلك النية إلى الغروب، ولم يأكل ولم يشرب حتى غربت الشمس. وإما أن ينوي الإفطار بعد ما أصبح فلم يأكل ولم يشرب حتى غربت الشمس. وإما أن ينوي الفطر قبل طلوع الفجر، وأصبح على ذلك، ثم ينوي الإمساك قبل طلوع الشمس. فأما الوجه الأول: إذا أصبح ونيته الإفطار، ولم يأكل ولم يشرب حتى غربت الشمس، فهل تجب عليه الكفارة أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: وجوب الكفارة، وهو قول ابن القاسم ومالك (¬1). والثاني: أنه لا كفارة عليه، وهو ظاهر قول أشهب في "الكتاب" على تأويل بعضهم، وهو قول مالك في غير "المدونة" على ما حكاه [عنه] (¬2) أبو الفرج القاضي عنه في "الحاوي". ويؤخذ من قول ابن القاسم في هذه المسألة أنه يفتقر إلى تبييت النية في ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 220). (¬2) سقط من أ.

كل ليلة على ما قدمناه في سالف الكتاب. وأما الوجه الثاني: إذا نوى الإفطار بعد ما أصبح، فلم يأكل ولم يشرب حتى غربت الشمس، هل يقضي ويُكَفِّر أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه يقضي ويكَفِّر وجوبًا، وهو قول ابن القاسم في الوجه الأول، وهو نص قول مالك في غير "المدونة"، واستحبه ابن القاسم في "المدونة" (¬1). والثاني: أنه لا قضاء عليه ولا كفارة إلا استحبابًا بالقضاء، وهو ظاهر الكتاب في إسقاط الكفارة. وهو قول سحنون في غير "المدونة" (¬2)، ولابن حبيب مثله؛ أن لَّا شيء عليه. والثالث: أنه يقضي ولا يكفر، وهو قول أشهب في "الكتاب". وأما الوجه الثالث: إذا نوى الإفطار قبل طلوع الفجر، ثم نوى الإمساك قبل طلوع الشمس، فعلى قولين: أحدهما: أن عليه القضاء والكفارة، وهو قول ابن القاسم (¬3) [في الكتاب] (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 220). (¬2) انظر: النوادر (1/ 51، 52). (¬3) انظر: المدونة (1/ 220). (¬4) سقط من أ.

والثاني: أن عليه القضاء، ولا كفارة عليه. وهو متأول على قول أشهب في "الكتاب" وهو في [هذا] (¬1) الوجه لم يكن [منه] (¬2) إلا ترك النية عند طلوع الفجر، وأنه رجع إلى الإمساك بالقرب، والوجه الأول ترك التبييت واستدامة العزم على الفطر إلى آخر النهار، فهل لذلك تأثير أم لا؟ وسبب الخلاف: الصوم هل يرتفض بالنية أم لا؟ وسبب آخر: هل يفتقر الصائم إلى التبييت كل ليلة أم لا؟. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

المسألة السابعة عشر [من] صام رمضان عن رمضان آخر

المسألة السابعة عشر [من] (¬1) صام رمضان عن رمضان آخر وإذا أفطر رمضان لعذر، فلم يصمه حتى دخل عليه رمضان آخر، فصام هذا الداخل ينوي به قضاء الماضي، فهل يجزئه عن أحدهما أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة" (¬2): أحدها: أنه لا يجزئه عن واحد منهما. وهو قول أشهب، وسحنون، وابن حبيب، وابن القاسم في غير "المدونة"، وهو ظاهر قوله في "المدونة" في كتاب "الظهار" (¬3): إذا صام شعبان ورمضان عن ظهاره، فقال: إنه لا يجزئه عن واحد منهما؛ لا عن الظهار، ولا عن رمضان، وهذا القول أظهر في النظر على أصل المذهب؛ وذلك أن هذا الشهر الذي هو فيه لم ينوه، ونوى الأول في زمان مستحق عينه، ولا يصح فيه صوم غيره. والثاني: أنه يجزئه عن الذي هو فيه، وعليه قضاء الأول. وهو تأويل ابن أبي زيد، [وابن شبلون] (¬4) على قول ابن القاسم في "المدونة" لاحتجاجه بقول بعض أهل العلم في ناذر الحج، وهو ضروري إذا خلطهما أنه يجزئه لفرضه، وعليه قضاء النذر، وبه استدل ابن القاسم في "الكتاب"؛ حيث قال: فإنه يجزئه، وعليه قضاء ¬

_ (¬1) في ب: فيمن. (¬2) انظر: المدونة (1/ 221). (¬3) انظر: المدونة (6/ 77). (¬4) في جـ: ابن شعبان.

الآخر؛ لأن بعض أهل العلم يرى أن ذلك يجزئه عن فرضه، ففهم من استدلاله أنه يجزئه عن الذي فيه؛ لأنه مستحق الزمان، ولاسيما على مذهب العراقيين من أصحاب مالك الذين يرون أن الحج على الفَّوْر، وهو الأَشْهَر الذي عليه الحُذَّاق، وعليه يناظرون بالعراق. ويحتمل أن يكون مراد ابن القاسم في الاستدلال بقول بعض أهل العلم أنه يجزئه لفرضه أن هذا الزمان مستحق العين للصوم، فكان صومه له أولى من غيره؛ كما تعين النذر في الحج بالدخول فيه، والفرض على التراخي، والتأويل الأول أظهر، وبهذا القول قال المغيرة، وأشهب، وعبد الملك. والثالث: أنه يجزئه عن الأول، وعليه قضاء الثاني الذي هو فيه. وهذا القول متأول على "المدونة"، وممن تأوله على هذا الوجه فضل ابن سلمة، والقاضي عليّ بن جعفر [التلباني] (¬1)، وهو مذهب سحنون في تأويل المسألة أيضًا، وهو نص ابن القاسم في "العتبية"، وقاله أشهب أيضًا. وسبب الخلاف: اختلافهم في تأويل ما [وقع] (¬2) في "المدونة": من قوله: "يجزئه، وعليه قضاء الآخر"؛ بالفتح أو بالكسر. فمن أخذ برواية الكسر، قال: يجزئه عن الأول الماضي، وعليه قضاء الذي هو فيه؛ لأنه هو الثاني لقوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة الحديد الآية (3).

وربما لاحظ أن نيته إنما كانت للأول؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1). وبهذا قال إذا خلطهما في نية واحدة أنه لا يجزئه عن واحد منهما لتشتيت النية. ومن أخذ برواية الفتح، قال: يجزئه عن الثاني، ويقضي الأول، ويكون معنى قوله: "ويقضي الآخر" يعني: [الماضي] (¬2). والظاهر في الاحتمال أنه إشارة إلى الماضي؛ بناء منه على أن الثاني مستحق للزمان، ويكون هو أولى به من غيره، ولا يضره إصراف النية إلى غيره؛ لكونه لا يفتقر إلى النية على أحد أقاويل المذهب. والقول بأنه لا يجزئه عن واحد منهما: أشهر في النظر. وعلى القول بأنه لا يجزئه عن واحد منهما، هل يجب عليه كفارتان أو أنه يجزئه عن الأول دون الثاني، وهل تجب عليه كفارة الإفطار. أو أنه يجزئه عن الثاني [وهل تجب عليه كفارة] (¬3) التفريط أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا كفارة عليه أصلًا؛ لا صغرى ولا كبرى، وهو قول [أشهب] (¬4). والثاني: أنه تجب عليه [كفارتان] (¬5)؛ علي القول بأنه لا يجزيه عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1). (¬2) في أ: الباقي. (¬3) بياض في الأصل. (¬4) في جـ: ابن القاسم. (¬5) في أ: الكفارة.

واحد منهما. أو واحدة على أحد القولين؛ إما الصغرى، وإما الكبرى على حسب اختلاف الترجيح. وهذا القول نقل عن ابن المواز، وقال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد رحمه الله: هذا شيء بلغني عن ابن المواز، ولم يقع له عندنا في كتاب الصيام. والثالث: أنه يكفر إن لم يعذر بجهل ولا تأويل، وهو قول ابن أبي زيد. وسبب الخلاف: [هل يعتبر] (¬1) وجود الصيام في زمان رمضان وعدم الانتهاك، ثم لا كفارة، أو يعتبر كونه شهر رمضان ولم يصمه: فتجب الكفارة كما لو كان صامه تطوعًا. وكذلك كفارة التَّفْرِيط هل بمضي شعبان تجب الكفارة، أو إنما تجب إذا لم يحتمل بقضائه شيئًا منه أنه يجزئه، هل يعذر بذلك أم لا؟ [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من جـ.

المسألة الثامنة عشر كفارة الفطر في رمضان

المسألة الثامنة عشر كفارة الفطر في رمضان في هذه المسألة ثلاثة أسئلة: منها: معرفة الفطر الموجب للكفارة. ومنها: الكفارة هل هي على الترتيب أو على التخيير؟ ومنها: الصنف الذي يبدا [على الأصناف] (¬1) [على] (¬2) السؤالين [جميعًا] (¬3). فالجواب عن السؤال الأول: في معرفة الفطر الموجب للكفارة: فالإجماع على وجوب الكفارة بالوطء عامدًا. وفي النسيان -عندنا- قولان: أحدهما: سقوط الكفارة، وهو المشهور الذي عليه الجمهور. والثاني: وجوب الكفارة، وهو قول ابن حبيب (¬4)، وهو مذهب أحمد بن حنبل (¬5). ولا خلاف عندنا في وجوب القضاء عليه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: به في. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: النوادر (2/ 49، 50). (¬5) انظر: المغني (3/ 51: 56) والإنصاف (3/ 304).

وذهب الشافعي وأبو حنيفة أنه لا قضاء عليه (¬1). وسبب الخلاف: معارضة القياس للأثر. أما الأثر: فما أخرجه البخاري [ومسلم] (¬2) من طريق أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسى وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه" (¬3). ويشهد لقوة هذا الأثر عموم قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬4). وأما القياس المعارض لهذا الأثر، وهو قياس الصوم على الصلاة، وهو قياس الشبه، ومن شبه [ناسي] (¬5) الصوم بناسي الصلاة: أوجب القضاء لوجوبه بالنص على ناسي الصلاة. وأما الفطر بأكل أو شرب: فإن كان ناسيًا، فعليه القضاء -عندنا- اتفاقًا. وإن كان عامدًا: فلا يخلو [من] (¬6) أن يكون فطره بتأويل، أو بغير تأويل. فإن كان فطره بتأويل: فلا كفارة عليه إلا أن يكون تأويله تأويلًا بعيدًا؛ كالذي اغتاب، أو احتجم فظن أن صومه لا يجزئه فأفطر. فإن كان فطره بغير تأويل قاصدًا للانتهاك: فلا خلاف في المذهب في ¬

_ (¬1) انظر: الهداية (1/ 132)، وروضة الطالبين (2/ 374)، والمجموع (6/ 324). (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (1831)، (6292)، ومسلم (1155) من حديث أبي هريرة. (¬4) صحيح: وقد تقدم. (¬5) سقط من أ. (¬6) زيادة ليست بالأصل.

وجوب الكفارة، وبه قال أبو حنيفة، وخالفهما الشافعي فقال: لا كفارة عليه. وسبب الخلاف: اختلافهم في تنقيح المناط؛ وذلك أن أعرابيًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو ينتف شعره، ويلطم خده، ويقول: هلك الأبعد .. الحديث (¬1). فأوجب [عليه] (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم - الكفارة، فاختلفوا في الوصف الذي أناط به الشارع الكفارة، وجعله عِلَّة؛ لأن [العلة] (¬3) اشتملت على أوصاف عدة، فالشافعي رضي الله عنه يرى عِلَّة الحكم كونه وطئ عمدًا، ومالك وأبو حنيفة يَرَيَانِ بأن عِلَّة الحكم كونه انتهك حرمة رمضان، فأوقع فيه الوقاع، فجعل الانتهاك هو العِلَّة؛ وهي عِلَّة مُتَعَدِّية إلى كل منتهك يأكل أو يشرب. وهذه أحكام العِلَل المستنبطة أن تختلف باختلاف نظر المجتهدين، بخلاف العلل المنصوص عليها؛ فالشافعي يرى أنه عِلَّة قاصرة (¬4)، ومالك يرى أنها عِلَّة متعدية (¬5). وقد اختلف الأصوليون في العلة القاصرة، هل يصح التعليل بها أم لا (¬6)؟ على ما هو مبسوط في فن الأصول. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (661) من حديث سعيد بن المسيب مرسلًا. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: القصة. (¬4) العلة القاصرة: هي التي ثبت وجودها في الأصل فقط، ولا تتعدى إلى الفرع. (¬5) العلة المتعدية: هي التي ثبت وجودها في الأصل والفرع، أي: تتعدى من محل النص إلى غيره. (¬6) العلة القاصرة: يجوز التعليل بها إن كانت منصوصًا عليها اتفاقًا، كتعليل وجوب الكفارة بوقاع مكلف في نهار رمضان. =

والجواب عن السؤال الثاني: الكفارة هل هي على الترتيب، أو على التخيير؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها على التخيير دون الترتيب، وهو المشهور. والثاني: أنها على الترتيب، وهو قول ابن حبيب -من أصحابنا-. وسبب الخلاف: تعارض الآثار وتجاذب الاعتبار؛ [أما الآثار] فمنها حديث الأعرابي (¬1)؛ إذ سأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل تستطيع أن تعتق رقبة"؟ فقال: لا، فقال: "هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " فقال: لا. فقال: "وهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينًا؟ " فقال: لا، إلى آخر الحديث. ويعارضه ما خرجه مالك: أن رجلًا أفطر في رمضان، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكينًا، وهذا على التخيير؛ إذ موضوعية "أو" في كلام العرب للتخيير في غالب الاستعمال. وإن كان ذلك من لفظ الراوي الصاحب أدْيَم وَأَقْعَد بمفهوم الأحوال، وحالات الألفاظ. وأما الأقيسة المتعارضة في ذلك: فتشبيهها بكفارة الظهار [تارة] (¬2) وتارة بكفارة الأيمان، وهي إلى كفارة الظهار أشبه منها بكفارة الأيمان، وعلى المذهب المشهور أنها على التخيير. والجواب عن السؤال الثالث: في الصنف الذي يبدأ به: فقد اختلف فيه ¬

_ = ويقاس عليها العلة المستنبطة كالسفر المبيح للفطر. (¬1) تقدم. (¬2) زيادة ليست بالأصل.

المذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه يبدأ بالطعام. قال ابن القاسم: ولا يعرف مالك في الكفارة غير الإطعام، ولا يأخذ بالعتق، ولا بالصيام، وقال في كتاب الظهار: وما للعتق وما له، فتغالى بعض المتأخرين في تأويل هذه المسألة على ظاهر لفظه حتى قال: إن مالكًا لا يرى غير الطعام. وهذا لا يحل تأويله عليه؛ لأنه خرق الإجماع؛ إذ لم يقل بذلك أحد. وقال أبو محمَّد عبد الوهاب: لم يختلف العلماء أن الثلاثة الأشياء كفارة في الصيام، وإنما اختلفوا هل هي على الترتيب، أو على التخيير. وظاهر هذا القول ألَّا فرق بين أن يكن فطره بجماع أو غيره. والثاني: التفصيل بين الإفطار بأكل، أو جماع؛ فإن كان بأكل: فالبداية بالإطعام، أو على طريق الاستحباب. وإن كان بالجماع: فالبداية بالعتق، وهو ظاهر قول ابن القاسم عن مالك في كتاب ابن مزين. والثالث: إن كان فطره بأكل أو شرب: فليكفر بالإطعام خاصة، وإن كان بجماع: فبالعتق أو الصيام، وهو قول أبي مصعب. والرابع: أنه يبدأ بأي الأصناف الثلاثة شاء؛ جملة بلا تفصيل من أي شيء كان الإفطار، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: معارضة القياس لخبر الواحد؛ وذلك أن الأثر ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[بتقديم العتق وتأخير الإطعام بواو التخيير، فكان

الأصل يقتضي متابعة ما تابعه النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) وإن كان ذلك تخييرًا, ولكن تبدئة النبي عليه السلام بالعتق [وختمه] (¬2) بالطعام لا يخلو من فائدة، غير أن التخيير يشعر بالإباحة أن يبدأ بأيها شاء. وأما القياس المعارض لهذا الخبر، وذلك أن الإطعام قد وقع بدلًا من الصيام في مواضع شتى من الشرع، وأنه مناسب له أكثر من غيره استئناسًا؛ بل القرآن يذكر الإطعام للمفطر في رمضان، ولاسيما على قراءة من قرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (¬3)، ولهذا استحب لمن مات وعليه صوم وأوصى أن يكفر عنه بالإطعام إذا وصى، فرأى مالك تقديم القياس الذي تشهد له الأصول على الأثر الذي لم تشهد له الأصول، وغيره اعتبر محض الإباحة في التخيير [فرأى التبدئة بأي الأصناف شاء، والآخر اعتبر تبدئة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعتق وإن كان في معرض التخيير] (¬4) فقال: يبدأ به؛ إذ لا يصح أن يبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - به إلا لمعنى. وبعضهم يفرق بين الإفطار بالجماع أو بالأكل [فإن كان بالأكل بدأ بالإطعام] (¬5) [وإن كان بالجماع] (¬6) بدأ بالعتق وكفارته بالعتق استئناسًا بقضية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه بالعتق حكم على الأعرابي ابتداء. والإفطار بأكل أو شرب لم يرد فيه حكم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجب حملها على كفارة الأيمان [الثابتة] (¬7) بنص التنزيل، والحمد لله [كما هو أهله وصلى الله على محمَّد نبيه] (¬8). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: وختم. (¬3) سورة البقرة الآية (184). (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من الأصل. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

كتاب الاعتكاف

كتاب الاعتكاف

كتاب الاعتكاف تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها خمس مسائل: المسألة الأولى [مسألة الصائم] (¬1) في الاعتكاف والاعتكاف في اللغة: اللبث والمكث [واللزوم] (¬2)، قال الله تعالى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (¬3)، أي: ملازمون. وقال سبحانه: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} (¬4)، وهو في الشرع على ما هو عليه في الوضع، إلا أنه في الشرع: الإقامة على عمل مخصوص في موضع مخصوص تقترن به أفعال مخصوصة، وأقوال معروفة على شرائط قد أحكمتها السنة. ومن شرطه: الصوم -عندنا- سواء التزمه بالصيام وأوجبه على نفسه أم لا. ولا خلاف في ذلك في مذهب مالك رحمه الله إلا ما ذهب ابن لبابة من أنه لا يلزمه الصيام إلا أن يوجبه على نفسه. وهل من شرطه أن يكون الصيام له؟ أو من شرطه: [أن يكون بالصوم] (¬5) وسواء كان له أو لغيره؟ فهذا مما يحتاج إلى تفصيل ¬

_ (¬1) في ب: في الصوم. (¬2) في ب: والدوام. (¬3) سورة الأنبياء الآية (52). (¬4) سورة الأعراف الآية (138). (¬5) في ب: الصوم.

وتحصيل: فنقول: لا يخلو اعتكافه من أن يكون منذورًا، أو غير منذور. فإن كان غير منذور: فلا خلاف في المذهب أنه يجوز مع كل صوم وجب فعله على [المكلف] (¬1)؛ كان رمضان أو قضاؤه، أو [كفارة] (¬2) قتل نفس، أو ظهار، أو غير ذلك، وأن الصوم لهذا الاعتكاف كالطهارة للصلاة، وأنه مراد لغيره لا لنفسه. وأما إن كان الاعتكاف منذورًا؛ مثل قوله: لله عليَّ أن أعتكف شهرًا، أو سنة، فهل يجوز في صوم غيره أم لا؟ فالمذهب على قولين (¬3): أحدهما: أنه جائز [في] (¬4) كل صوم كالوجه الأول، وهو المشهور. والثاني: أنه لا يجوز أن يعتكف في صوم واجب عليه من رمضان، ولا في قضائه، ولا في صيام الكفارة؛ لأنه لزمه الصوم لنذره للاعتكاف، فلا يجزئه منه صوم قد لزمه بغير ذلك؛ كما لو نذر مشيًا لم يجز أن يجعله في حجة الفريضة، وهو قول عبد الملك، وذهب الشافعي إلى أن الاعتكاف يصح بغير صوم (¬5). وسبب الخلاف: المفهوم من اعتكافه - صلى الله عليه وسلم - في رمضان. فمن رأى أن الصوم المقترن به هو شرط في الاعتكاف، وإن لم يكن الصوم للاعتكاف نفسه، قال: لابد من الصوم مع الاعتكاف. ¬

_ (¬1) في ب: المعتكف. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: المدونة (1/ 225)، والنوادر (2/ 89، 90). (¬4) في ب: مع. (¬5) انظر: الأم (2/ 105)، وروضة الطالبين (2/ 393).

ومن فهم منه أن ذلك اتفاقًا اتفق، لا على أنه مقصود له - صلى الله عليه وسلم - في الاعتكاف قال: ليس من شرطه الصوم. وربما استظهرته المالكية بما يروى عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا اعتكاف إلا بصوم (¬1). وكثير ما يتسارع أهل المذهب إلى الاستدلال على أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬2) , {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬3). ولا دليل في ذلك، غير أنه من باب الاستئناس بالقرآن [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2473)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله تعالى. (¬2) سورة البقرة الآية (187). (¬3) سورة البقرة الآية (187). (¬4) زيادة من جـ.

المسألة الثانية في المعتكف إذا مرض، أو حاضت وهي امرأة

المسألة الثانية في المعتكف إذا مرض، أو حاضت وهي امرأة ولا يخلو ذلك من وجهين: إما أن يكون غير منذور، أو منذورًا. فإن كان غير منذور فمرض فيه المعتكف، أو حاضت المعتكفة: أما الحائض: فإنها تخرج من ساعتها ولا تنتظر؛ لأن المكث في المسجد عليها حرام ما دامت حائضًا. وأما المريض: فإن كان مريضًا لا يقوى معه على الصيام، ويؤمن من إيذائه المسجد: فإنه يلبث، ولا يخرج، ويكون مكثه في المسجد في حرمة الاعتكاف، وإن كان لا يعتد بتلك الأيام أولى من خروجه إلى داره [وهو قول القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب وابن شعبان، وقيل: إنه يخرج ولا يلبث في المسجد، وهو قوله في المجموعة، وهو ظاهر المدونة من مسألة الذي دخل عليه يوم العيد في اعتكافه] (¬1). وإن كان لا يؤمن من أن يكون منه ما يؤدي به المسجد كالمبطون: فإنه يؤمر بالخروج كالحائض. فإذا خرجا فهل ينسحب عليهما حرمة الاعتكاف، ويجتنبان ما يجتنبه المعتكف، ويلزمهما كل ما يلزمه إلا الصوم كما لو كان في المسجد؟ فالمذهب على قولين [متأولين على] (¬2) المدونة (¬3): ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: قائمين من. (¬3) انظر: المدونة (1/ 225).

أحدهما: أن المريض والحائض في حرمة الاعتكاف ويقتصران على عمله، ولا يجوز لهما الخروج عنه إلى مكان يمنعان منه في المسجد. وهو قول مالك (¬1) في "المجموعة" و"الواضحة"، وهو قول سحنون [في الحائض] (¬2): أنها في بيتها في حرمة الاعتكاف، غير أنها لا تدخل المسجد (¬3). والمريض كذلك إذا عجز عن البقاء في المسجد، وهو قول البغداديين تأويلًا على "المدونة"، وهو قول ابن شعبان. والثاني: أن [جميع] (¬4) هؤلاء لا يلزمهم [التمادي] (¬5) على جميع [أحكام] (¬6) الاعتكاف إذا حدث عليهم أمر يوجب إخراجهم [من المسجد] (¬7)؛ إما إباحة كيوم العيد، وإما وجوبًا كالمرض والحيض، وأن لهم التصرف في جميع أمورهم خارجًا وداخلًا؛ إذ لا يصح الاعتكاف إلا بالصوم، وإذا لم يكن الصوم فلا يلزمهم ملازمة مكان مخصوص في بيوتهم حاشا المباشرة، فإنه يمنعون منها؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬8)، وهو قول ابن القاسم في "العتبية" (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (2: 96/ 98). (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: النوادر (2/ 96). (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: أحوال. (¬7) سقط من أ. (¬8) سورة البقرة الآية (187). (¬9) انظر: البيان والتحصيل (2/ 349).

وهكذا اختلفوا أيضًا إذا برئ المريض، أو طهرت الحائض في أثناء النهار، هل يرجعان من ساعتهما إلى موضع اعتكافهما، أو ينتظران إلى الغروب؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنهما يرجعان من ساعتهما [إلى المسجد] (¬1)، ولا ينتظران إلى [المغيب] (¬2). وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو قول ابن نافع في يوم العيد. والثاني: أنه يجوز لهما الانتظار إلى غروب الشمس، ولا يلزمهما الرجوع في بقية النهار الذي تمكن لهما [فيه] (¬3) الاعتكاف. وهو نص ابن القاسم في يوم العيد فيمن اعتكف العشر الأواخر فمرض فيها، ثم صح قبل يوم الفطر، فقال فيه ابن القاسم: لا يلبث يوم الفطر في معتكفه. وفيها رواية: لا يثبت، ورواية أخرى: لا يلبث، وأخرى: لا يبيت. ثلاث روايات؛ [والرواية] (¬4) لا يلبث، ولا يثبت: معناهما واحد، ورواية: لا يبيت: تقتضي أنه يجوز له الخروج إلى بيته [ليلة] (¬5) العيد؛ لأن الليلة مرادة للنهار [فإذا كان النهار] (¬6) لا يصح ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: الغروب. (¬3) في أ: في. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: يوم. (¬6) سقط من أ.

فيه الصوم الذي هو شرط الاعتكاف، ولا يلزمه المكث في المسجد، فكذلك ليلته. وروى ابن نافع عن مالك أنه يخرج إلى العيد مع الناس، ثم يرجع إلى المسجد (¬1). وذهب بعض المتأخرين إلى أن ما وقع في الكتاب ليس باختلاف أقوال، وإنما هو اختلاف سؤال؛ وذلك أن المريض والحائض خرجا لعذر، والذي أدركه العيد هو منهي عن صيام ذلك اليوم، فلو لبث في معتكفه لتوهم أنه صائم، وبذلك أمر بالخروج يوم العيد إلى بيته. وهذا فرق ضعيف، واحتجاج رهيف، والأصح أنه اختلاف أقوال، ولاسيما أن في مسألة يوم العيد قول ثالث: أنه لا يخرج إلى [العيد] (¬2) أصلًا (¬3)، وهو الأصح في النظر. فيتحصل في الذي دخل عليه يوم العيد قبل أن يفرغ من اعتكافه أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة" (¬4): أحدها: أنه يبيت في المسجد ليلة الفطر، فإذا أصبح خرج ليشهد العيد مع الناس، ثم يمضي إلى بيته، فإذا غربت الشمس رجع إلى المسجد، وهو نص ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يخرج ليشهد العيد مع الناس، ثم يرجع إلى المسجد، ولا يذهب إلى أهله، وهو نص ابن نافع في "الكتاب". والثالث: أنه لا يخرج إلى العيد أصلًا؛ قياسًا على صلاة الجنائز، ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (1/ 97). (¬2) في أ: المسجد. (¬3) وهو قول سحنون. (¬4) انظر: المدونة (1/ 226).

وسائر العبادات؛ لأنه وإن كان مفطرًا فلا يخرجه ذلك عن سنة الاعتكاف وملازمة المسجد؛ قياسًا على المريض. وظاهر المدونة: أن المريض لا يخرج من المسجد بنفس المرض حتى يخشى أن يكون منه ما يؤذي به المسجد. وهو الذي قاله البغداديون تصريحًا، وهو قول ابن سحنون عن أبيه (¬1): أنه لا يخرج ويلازم المسجد، وإن كان مفطرًا، وهو أظهر الأقوال. والرابع: أنه يبيت ليلة الفطر في بيته، ولا يفسد ذلك اعتكافه إن فعل، وهو أحد روايات المدونة -ولا [يبيت] (¬2) يوم الفطر في المسجد يريد ليلة الفطر، وهو ظاهر قول ابن القاسم [في المدونة] (¬3) في الذي اعتكف العشر الأواخر، فإذا كانت ليلة الفطر، فقال ابن وهب عن مالك [إذا كان يوم الفطر فإنه] (¬4): يؤتى بثيابه إلى المسجد؛ فظاهر قوله: أنه يبيت ليلة الفطر في المسجد، بل هو كالنص. قال ابن القاسم: فإن رجع ليلة الفطر إلى بيته: فلا قضاء عليه، وهكذا [وقع] (¬5) في بعض نُسَخ "المدونة"، وهو صحيح في غير "المدونة". وهذا القول الرابع [مُخَرَّج] (¬6) غير منصوص عليه: واختلف في الحائض إذا طهرت قبل الفجر، وتطهرت قبل أن تصبح، ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (2/ 96). (¬2) في أ: يلبث. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: تخريج.

ثم دخلت في اعتكافها، فهل يجزئها ذلك أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يجزئها. وهي رواية ابن وهب عن مالك، وهو ظاهر المدونة؛ لأنه قال: ترجع، أي: ساعة طهرت. فإن كان زمانًا ينعقد فيه الصيام اعتدت بذلك الزمان. والثاني: أنه لا يجزئها، وإن طهرت قبل الفجر، ونوت الصيام حتى يكون دخولها من أول الليل كابتداء الاعتكاف، وهو قوله سحنون في "النوادر" (¬1). فهذا تحصيل الخلاف في هذا الوجه وبقى توجيه ما فيه من الأقوال: فوجه القول الأول: أن المعتكف إذا خرج لعذر أنه يبقى في حرمة الاعتكاف؛ وذلك أن الاعتكاف هو اللبث في مكان مخصوص؛ فإذا طرأ عليه عذر يمنعه من الدوام في المسجد: فلا يخرجه عن سنة الاعتكاف [وذلك أن الاعتكاف هو اللبث في مكان مخصوص فلا يجزئه ذلك عن سنة الاعتكاف] (¬2) في اعتبار حقوقه، والوفاء بسائر شروطه؛ كالراعف إذا خرج ليغسل الدم. ووجه قول من قال: إنه يتصرف في جميع أموره داخلًا وخارجًا خلا المباشرة؛ لأن الاعتكاف لما عدم منه الصوم الذي هو أصل الاعتكاف، وركن من أركانه خرج من أن يكون معتكفًا على الحقيقة إلا فيما نص الله تعالى أنه لا يجوز فعله مع بقاء اسم الاعتكاف، وهو المباشرة. ووجه القول: بأنهما يرجعان إلى المسجد -أي: ساعة زال العذر- هل ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (2/ 97). (¬2) سقط من أ.

ملازمة المسجد مع عدم الصيام لازمة للمعتكف إذا تمكن [له] (¬1) اللبث أم لا؟ فمن رأى أن المكث لا يلزمه: لأنه لا يعتد بذلك [اليوم] (¬2)، وهو وجه القول [بأنهما لا يرجعان] (¬3) إذا تمكن لهما في أثناء النهار. ومن رأى أن المكث لازم له، وأنه لا يجوز للمعتكف الإخلال ببعض شروط الاعتكاف التي لا عذر له فيها: قال: يرجع أي ساعة يتمكن له الدخول، وهو وجه القول بأنهما يرجعان. وأما اختلافهم في الحائض إذا طهرت قبل الفجر، هل تعتد بذلك اليوم، إذا [دخلت] (¬4) قبل الفجر، أو لا تعتد به إلا إذا دخلت في أول الليل؛ فإنه يتخرج على اختلافهم في المعتكف ابتداءً متى يدخل في اعتكافه؛ هل ذلك في أول [الليل] (¬5) أو عند الغروب، ولا يجوز له التأخير إلى طلوع الفجر، أو يجوز له التأخير [عند طلوع الفجر] (¬6) على ما سنتكلم عليه بعد هذا إن شاء الله؟ وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كان اعتكافًا منذورًا: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن ينذر أيامًا بأعيانها. والثاني: أن ينذر اعتكاف أيام بغير أعيانها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: طهرت. (¬5) في جـ: النهار. (¬6) سقط من أ.

فإذا نذر اعتكاف أيام بأعيانها: فلا تخلو أن تكون من رمضان أو من غيره. فإن كانت من رمضان [فمرضها] (¬1) أو حاضت فيها المرأة: فإنهما [يقضيانه ويصلانه بما] (¬2) كان [من] (¬3) الاعتكاف سواء كان ذلك في أوله أو في آخره. وإن كان أفطر فيه ناسيًا: [فعليه] (¬4) القضاء. وإن كان عامدًا: [فعليه] (¬5) استئناف الاعتكاف، مع الكفارة [لفطره] (¬6) في رمضان، ولا خلاف أعلمه في المذهب في ذلك. ووجهه: أن قضاء رمضان لابد له أن يبتدئه من حيث يجب عليه أن يقضيه كما لو كان وجب عليه أولًا؛ لأنه كان وجب عليه أن يصومه في الاعتكاف واجبًا؛ أما الصيام فبوجوب الله تعالى أما الاعتكاف فبإيجابه على نفسه أيضًا. وأما إن كانت من غير رمضان فمرضها كلها أو بعضها أو حاضت فيها المرأة، فالمذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة" (¬7): أحدها: أن عليها القضاء جملة من غير تفصيل. وهي رواية ابن وهب عن مالك في بعض روايات "المدونة" في "كتاب ¬

_ (¬1) في الأصل: فمرضت. (¬2) في أ: يقضياه ويصلاه بها. (¬3) في أ: في. (¬4) في أ: فعليهما. (¬5) في أ: فعليهما. (¬6) في أ: لفطرهما. (¬7) انظر: المدونة (1/ 234).

الصيام". والثاني: أنه لا قضاء عليها جملة. وهو مذهب سحنون، وهو ظاهر "المدونة" (¬1) فيمن نذر صيام أيام بأعيانها فمرضها أنه لا قضاء عليه؛ لأنه مغلوب. والثالث: التفصيل بين أن يكون ذلك قبل دخولهما فيه أو بعده. فإن كان قبل الشروع فيه: فلا قضاء. وإن كان بعد الشروع فيه: فليقضيا. وهو تأويل ابن عبدوس على "المدونة". والرابع: التفصيل بين المرض والحيض؛ فالمريض لا يقضي، والحائض تقضي؛ لأنها قصدت إلى البدل حين نذرت اعتكاف أيام يدخل عليها فيها الحيض؛ كناذر صيام ذي الحجة على أحد قولي مالك، وهو ظاهر قوله في "المدونة" في "كتاب الاعتكاف" وبه قال الطحاوي. وسبب الخلاف: هل يجوز أن يقاس صيام المنذور المعين علي صيام رمضان في القضاء إذا أفطر فيه لعذر مرض أو حيض، أو لا؟ فمن جوز القياس: قال بوجوب القضاء في المرض والحيض. ومن منع القياس فقال: [الأصل] (¬2) في الجميع ألا قضاء فخصصت السُّنة من ذلك صيام رمضان؛ لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬3). والسُّنة في الحيض، وما عَدَاه على الأصل. والقول بالتفريق بين أن يكون المرض والحيض [في أول الشهر أو في ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 214). (¬2) في أ: في المرض. (¬3) سورة البقرة الآية (184).

أول أيام المنذور أو كان بعد الشروع فيه أو قبله لا وجه له في النظر والقول بالتفرقة بين المرض والحيض] (¬1) وجهه: ما قدمناه من أن المرض جاءه بغير اختيار ولا عِلْمَ له به، هل يحل به أم لا؟ والحيض عادة معتادة غالبًا، فكأنها دخلت على [القضاء] (¬2). وقال أبو تمام المالكي البغدادي: معنى قوله في "المدونة": "تقضي الحائض": يعني: ما بقى عليها من الشهر بعد طهرها, لا أنها تقضي أيام حيضتها؛ لأن المرأة لا تحيض الشهر كله [وقد يمرض المريض الشهر كله] (¬3). وهذا عندي فرق بين المسألتين في الكتاب، وقوله: تقضي [يعني] (¬4) ما بقى في الشهر كما ذكرنا؛ لأن القضاء يعبر به عن الأداء؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} (¬5) , {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} (¬6). فعلى هذا التأويل ترجع المسألة إلى ثلاثة أقوال. واختلف أيضًا إذا أكل فيه ناسيًا، هل يجب عليه القضاء أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يجب عليه القضاء بشرط الاتصال، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: الفطر. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سورة الجمعة الآية (10). (¬6) سورة البقرة الآية (200).

والثاني: أنه لا قضاء عليه كالمرض، والحيض على أحد الأقوال، وهو قول سحنون، والتوجيه: [ما تقدم] (¬1). وأما الوجه الثاني: وهو أن ينذر اعتكاف أيام بغير أعيانها، فهل يجوز أن يجعلها في الصوم الواجب مثل رمضان وغيره؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يجوز أن يجعلها في الصوم الواجب عليه كيف كان؛ لأن النذر يوجب عليه الصوم، فليس له إسقاطه عن نفسه باعتكافه فيما قد وجب عليه صومه، وهذا هو المشهور. والثاني: أنه يجوز له أن يجعله في صيام نذره، وهو قول ابن عبد الحكم. وإن أفطر فيه [لعذر المرض أو النسيان، فإنه يقضي ويصل ذلك باعتكافه ولا خلاف في ذلك، وإن أفطر فيه] (¬2) متعمدًا أو وجب عليه الاستئناف، فهل يعتكف اعتكافًا لقضائه، واعتكافًا لنذره؟ فالمذهب على قولين. والخلاف فيه ينبني على الخلاف فيمن أفطر في قضاء رمضان متعمدًا، هل يقضي يومين أو يومًا واحدًا؟ وإن نذر اعتكاف يوم وليلة لزمه يوم وليلة، وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة. وهل يلزمه الدخول أول الليل عند الغروب، ولا يجوز له التأخير؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) في جـ: ظاهر. (¬2) سقط من أ.

أحدهما: أنه لا يجوز له التأخير عن أول الليل إلى قرب طلوع الفجر، فإن فعل: فإنه يبتدئ، وهو قول سحنون، وهو ظاهر "المدونة" (¬1). والثاني: أن ذلك على معنى الاستحباب، فإن أخره إلى قرب طلوع الفجر: فإنه يجزئه وهو الذي نقله ابن الجلاب، وبه قال القاضي أبو محمَّد عبد الدهاب. وإن نذر اعتكاف ليلة لزمه يوم وليلة على مذهب "المدونة" (¬2). وفي المسألة قول ثان: أنه لا شيء عليه، وهو قول سحنون. وسبب الخلاف: الليل هل هو مقصود في الاعتكاف بعينه، أو مراد لغيره؟ فإن قلنا: إنه مقصود لعينه: فيجب عليه الدخول عند الغروب. وإن قلنا: إنه مراد لغيره؛ وهو تبييت الصوم للنهار، قال: يجزئه التأخير [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 234). (¬2) انظر: المدونة (1/ 234). (¬3) زيادة من جـ.

المسألة الثالثة في ملازمة المعتكف [اعتكافه] ووظيفته [في العبادات وموضع اعتكافه]

المسألة الثالثة في ملازمة المعتكف [اعتكافه] (¬1) ووظيفته [في العبادات وموضع اعتكافه] (¬2) فهذه المسألة تتضمن ثلاثة [أسئلة] (¬3): منها: الموضع الذي يجوز فيه الاعتكاف. ومنها: وظيفة المعتكف من العبادات. ومنها: ملازمته لموضع الاعتكاف، ومنعه من الخروج والتصرف إلا ما لابُدّ له منه. والجواب عن السؤال الأول: وهو الموضع الذي يختص بالاعتكاف ولا يجوز في غيره: ولا خلاف في مذهب مالك رحمه الله أن الاعتكاف لا يجوز إلا في المسجد (¬4) [على الجملة] (¬5)، إلا خلاف شاذ روى عن ابن لبابة أنه يجوز الاعتكاف في غير المسجد، ولا يحتفل لقوله. وإنما وقع الخلاف عندنا هل يجوز في كل مسجد أم لا؟ فهذا محل التفصيل: أن نقول: لا يخلو اعتكافه من أن يكون أيامًا قلائل تنقضي قبل دخول الجمعة، أو كان أيامًا تدخل عليه فيه الجمعة قبل ¬

_ (¬1) في ب: معتكفه. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) في أ: أشياء. (¬4) انظر: المدونة (1/ 235). (¬5) سقط من أ.

انقضائها. فإن كانت أيامًا تنقضي قبل دخول الجمعة، أو كان ممن لا يجب عليه إتيان الجمعة، فهل يجوز له أن يعتكف في كل مسجد أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يعتكف في كل مسجد -جامعًا كان أو غيره- وهو نص "المدونة" (¬1)، ومشهور المذهب. والثاني: لا يجوز له أن يعتكف إلا في المسجد الجامع، ورواه ابن عبد الحكم عن مالك (¬2). وسبب الخلاف: معارضة العموم بالقياس؛ وذلك أن الله تعالى قال: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬3)، [فعمم جميع المساجد] (¬4) والقياس يوجب ألا يكون الاعتكاف إلا في الجامع، أو بعض المساجد الذي تُشَد الرِّحال إليها لمزيتها على ما عداها من المساجد. أما المساجد الثلاثة فلا يخفى فضلها، وما لها من الحرمة، كما نص عليه المخالفون أنه لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد [النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬5). وأما المسجد الجامع: فلكونه تصلى فيه الجمعة، ولا يعتكف إلا في موضع تصلى فيه الجمعة؛ لأنه يُكَلَّفُ الخروج إليه. وهذا الاعتبار إنما يصح فيمن تجب عليه الجمعة، وأن تكون الأيام التي نذر اعتكافها أيامًا تدخل عليه فيها الجمعة قبل الفراغ منها، إلا أن يقال: ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 235). (¬2) انظر: النوادر (2/ 88)، (100، 101). (¬3) سورة البقرة الآية (187). (¬4) سقط من أ. (¬5) في الأصل: نبي.

هذا خرج مخرج الغالب، وذلك أن الأَشْهَر من قول مالك أن الاعتكاف أقله عشرة أيام (¬1)، وعلى أن هذا خرج مخرج الغالب يصح هذا البناء. فإن كانت أيامًا تدخل فيها الجمعة عليه قبل الفراغ منها: فلا خلاف في الذهب أنه لا يجوز أن يعتكف في غير الجامع، فإن فعل، وجاء يوم الجمعة: فإنه يخرج بلا خلاف؛ لأن فرض الجمعة واجب عليه، وليس الاعتكاف بعذر يسقطه عنه. فإن خرج هل يفسد اعتكافه أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن اعتكافه باطل. وهو قول ابن عبد الحكم في "النوادر" (¬2). والثاني: أن خروجه لا يفسد اعتكافه. وهو قول مالك. والقولان قائمان من "المدونة". فمن رأى أنه يخرج ولا يفسد اعتكافه: قاسه على الخروج لشراء الطعام الذي يجوز له، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. ومن رأى أن اعتكافه يبطل بالخروج: قاسه على رواية ابن نافع [أنه لا يخرج] (¬3) لشراء الطعام. وسبب الخلاف: في الجميع التُّهمة هل تَتَطَرَّق إليه [أم لا؟ فمن رأى أن التهمة تتطرق إليه] (¬4) في تَعَرضه للاعتكاف أيامًا يعلم أنه يجب عليه ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 235)، والنوادر (2/ 88) ومن العتبية: قال ابن القاسم: قال مالك ما أعرف الاعتكاف يومًا ويومين من أمر الناس. انظر: البيان والتحصيل (2/ 306). (¬2) انظر: النوادر (2/ 94، 95). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

فيها الخروج إلى الجمعة، ويقصد ذلك، ويتطرق إليه في ترك الاستعداد لما يخرج إليه، أو لا يُتَّهم أن يجعل ذلك ذريعة إلى الخروج، قال ببطلان الاعتكاف. ومن رأى أن التُّهْمَة لا تَتَطَرَّق إليه، وأنه لا يُتَّهم؛ لأن ذلك ضرورة تَعَرَّضَت له، قال: يخرج ويصح اعتكافه. وعلى القول بصحة الاعتكاف مع خروجه، هل يرجع إلى موضعه أو يتم في الجامع؟ فلا يخلو ما بقى من اعتكافه من أن يكون كثيرًا تدخل عليه فيه الجمعة الأخرى قبل الفراغ منها، أو يكون أقل. فإن كان كثيرًا: فلا خلاف في المذهب أنه يتمه في الجامع؛ لأن رجوعه إلى الموضع [الأول] (¬1) يعرضه للخروج مرة أخرى مع القدرة على الاستغناء عن ذلك. فإن كانت أيامًا قلائل تنقضي قبل الجمعة الثانية، هل يتم في الجامع أو يرجع؟ قولان: أحدهما: أنه يتم في الجامع، وهو قول مالك فيما حكاه عنه ابن القاسم (¬2). والثاني: أنه يرجع ويتمه في موضع ابتدائه، وهو قول عبد الملك أيضًا. ووجه قول ابن القاسم: أنه يتم في الجامع؛ لأن رجوعه إلى الموضع ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: المدونة (1/ 235).

الأول مستغنى عنه كما [لو] (¬1) خرج ابتداء لغير معنى. ووجه القول الثاني: في أنه يرجع إلى موضع الابتداء كما لو خرج إلى حق واجب عليه، على أحد قولي مالك؛ لأن الخروج [واجب] (¬2) في الموضعين. فإذا قلنا: إن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد [فإنه لا يجوز إلا في المسجد] (¬3) ورحابه؛ فيكون في [حُجَرِه]، ولا يعتكف في سقائفه، ولا في بيت القناديل، ولا في المنار، ولا على ظَهْرِ المسجد. على كلا القولين في الظَّهْرِ، هل يطلق عليه اسم المسجد أم لا؟ واختلف في المؤذن المعتكف؛ هل يصعد المنار أم لا؟ على قولين منصوصين في "المدونة" (¬4). والجواب عن السؤال الثاني: في وظيفة المعتكف من العبادات، هل عمله مقصور على نوع من العبادات [مخصوص] (¬5) أم لا؟ بعد الاتفاق أنه لا يجوز له التصرف في شيء من العادات داخل المسجد وخارجه، فاختلف في المدونة على قولين: أحدهما: أن عمله مقصور على الصلاة وقراءة القرآن، وذكر الله تعالى دون غيرهم من أعمال البر، وهو المشهور. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: المدونة (1/ 230) والنوادر (2/ 93). (¬5) سقط من أ.

والثاني: أن عمله عام في جميع أنواع البر المختصة بالآخرة، وهو مذهب ابن وهب؛ لأنه جوَّزَ له أن يُعيد المرضى في موضعه، والصلاة على الجنائز إذا انتهى إليه زحام الناس، ومُدَارَسَة العلم (¬1). وقولنا: المختصة بالآخرة احترازًا من الحكم بين الناس والإصلاح بينهم. وسبب الخلاف: أن هذا شيء مَسْكُوت عنه لم يَرِد فيه حَدّ من جهة الشَّارِع، فمن فَهِمَ من الاعتكاف حَبْس النفس على الأفعال المختصة بالمساجد قال: لا يجوز إلا الصلاة والذكر، وقراءة القرآن. ومن فهم منه حبس النفس على القرب الأخروية [كلها] (¬2) أجاز [غير] (¬3) ذلك مما ذكرناه. والجواب عن السؤال الثالث: في ملازمة موضع العكوف ومنعه من الخروج والتصرف: ولا خلاف في المذهب أن وظيفة المعتكف: اللبث واللزوم في مكان مخصوص، وإنما لا يجوز له التصرف في شيء من أمور الدنيا على وجه الاختيار، سواء كان [ذلك] (¬4) في حقه أو في حق غيره. ولا خلاف أنه يجوز له الخروج للعادة الضرورية؛ كالتبرز لإماطة الأذى، ويكون ذلك في أقرب المواضع إليه، وكذلك الخروج لوضوئه وغسله من الجنابة. ¬

_ (¬1) أجاز مالك أن يكتب الرسالة الخفيفة، ويقرأ مثلها، ويكره الكثير. النوادر (2/ 93). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

واختلف في خروجه لغسل الجمعة (¬1)؛ فإن خرج لحَقِ [غيره] (¬2) على سبيل الاضطرار وتَعَيَّنَ عليه الخروج كالمعتكف في ثغر من الثغور (¬3)، ثم هجم عليه العدو أو يكون قبله حد من الحدود فأخرج ليقام عليه الحد، فحد أو زال الخوف، هل [يبنى] (¬4) على ما مضى من اعتكافه أولًا أو يبتدئ؟ على قولين منصوصين عن مالك [في الكتاب] (¬5). وسبب الخلاف: [هل النظر إلى صورة الخروج، فيبنى عليها أو] (¬6) النظر إلى صورة الدخول في الابتداء؛ لأنه يغرر باعتكافه؛ لأن من كان راصدًا في الثغور مع إمكان هجوم العدو عليه، فقد عَرَّضَ اعتكافه للبطلان. وكذلك من كانت ذمته عامرة بالديون، أو قِبَله حدود لله أو [للعباد] (¬7) فقد يتهم أن يكون قصد باعتكافه اللَّدَد (¬8) والمماطلة فيكون قد عَرَّضَ اعتكافه للبطلان. وقد لا يقصد ذلك فيبنى؛ لأنه غير مختار للخروج إن كانت قبله شهادة فلا يجوز له الخروج لأدائها لإمكان النقل عنه، وهو في موضعه لم يَبرَح كالمريض [والحمد لله وحده] (¬9). ¬

_ (¬1) قال ابن وهب عن مالك: ولا بأس أن يخرج لغسل الجمعة إلى الموضع الذي يتوضأ فيه، ولا بأس أن يخرج يغتسل للحر يصيبه. النوادر (2/ 193). (¬2) في ب: عليه. (¬3) كره مالك الاعتكاف في الثغور. النوادر (2/ 100، 101). (¬4) في أ: يمضي. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ، ب. (¬7) في الأصل: للعبادة. (¬8) شدة الخصومة. (¬9) زيادة من أ.

المسألة الرابعة إذا أحدث المعتكف ذنبا فيه اعتكافه

المسألة الرابعة إذا أحدث المعتكف ذنبًا فيه اعتكافه وقد قال في الكتاب: إذا سكر ليلًا فسد اعتكافه. وقد اختلف المتأخرون في تأويل ذلك، وفي علة البطلان؛ فذهب [البغداديون] (¬1) إلى أن العلة في ذلك معصية كبيرة صدرت منه؛ فحمل على هذا كل كبيرة ارتكبها المعتكف من غيبة، أو نميمة، أو شرب مسكر، وإن لم يسكر. وهذا الذي قاله ظاهر المدونة لاحتجاجه في المسألة بقول ابن شهاب فيمن أصاب ذنبًا أن ذلك يقطع اعتكافه، ولم يرد بذلك أن الأعمال تحبط بالذنوب كما يتوهمه بعض الأغبياء ممن لا دراية له في أصول الشريعة، ولو تفكر وتدبر وأمعن النظر في سر الاعتكاف، وكونه يبطله الاشتغال بأنواع العبادات التي هي فرض على الكفاية مع تلبسه باعتكافه وملازمته لمكانه، ولم يخرج عنه إلى غيره ما خطر له ذلك بالبال، فضلًا عن أن يتفوه [به] (¬2)، مع ما في ذلك من تشويش عقائد أهل السنة. والاتفاق من كل مؤمن بالله تعالى واليوم الآخر أنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة (¬3)، وأن الأعمال لا تحبط بالذنوب. وذهب بعض القرويين إلى أن العلة في بطلان الاعتكاف كونه سكر، وذهب عقله بسببه فأدَّاه ذلك إلى تعطيل عمل الاعتكاف إلى طلوع الفجر، ¬

_ (¬1) في أ: بعضهم. (¬2) سقط من أ. (¬3) ما لم يستحله.

وكذلك [لو شرب] (¬1) كل ما يعلم أنه [يعتبر] (¬2) به ذلك منه لأفسد به اعتكافه. هذا تأويل أبي الحسن اللخمي، وليس في الكتاب ما يدل على تأويله؛ لأنه لم يقل: سَكِرَ أول الليل، إنما قال: سكِرَ ليلًا، [و] (¬3) ذهب منه [قبل] (¬4) الفجر فتحرز بهذا اللفظ وبَيَّن أنه بَيَّتَ الاعتكاف قبل طلوع الفجر؛ لكي لا يظن ظان أن اعتكافه إنما فسد لكونه طلع عليه الفجر، وهو سكران [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: يضر. (¬3) في ب: ثم. (¬4) سقط من ب. (¬5) زيادة من جـ.

المسألة الخامسة العبد والمكاتب إذا نذرا اعتكافا

المسألة الخامسة العبد والمكاتب إذا نذرا اعتكافًا فإن أذن لهما السيد: فلا إشكال. وإن منعهما السيد: فأما المكاتب: فإن كان ما نذر من اعتكافه أيامًا يسيرة لا ضرر فيه على سيده: فليس له أن يمنعه. وإن كان كثيرًا: فله المنع. وأما العبد: فإن منعه السيد فلا يعتكف، ويلزمه ذلك إن عُتق. وكذلك المشي والصدقة إذا نذر ذلك، فلسيده منعه من ذلك، وإن أعتق يومًا لزمه ما نذر من مَشْي أو صدقة إن بقى ذلك المال في يده. وقال في "كتاب العتق" في الأمَة إذا حلفت بصدقة مالها أن عليها في حنثها إخراج ثلثه، وقال ابن القاسم فيه: فإذا رد ذلك السيد بعد حنثها لم يلزمها (¬1). واختلف المتأخرون في ذلك، هل هو اختلاف أقوال، أو اختلاف أحوال، أو اختلاف سؤال؟ فذهب بعضهم إلى أن ذلك اختلاف أحوال، وأن مسألة العتق في مال معين ومسألة الاعتكاف في غير معين، ويدل عليه قوله في الكتاب: إذا كان مالها الذي حلفت عليه في يدها. وكذلك قال سحنون في اعتكاف العبد إذا كان معينًا فمنعه السيد: لم ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (1/ 231).

يلزمه قضاؤه. وذهب بعض الأندلسيين إلى أن ذلك اختلاف أقوال، وإلى هذا ذهب من يريد الراحة، ويصرف العناء في البحث عن نفسه. وذهب آخرون إلى أن ذلك اختلاف سؤال، وأن مسألة العتق تُرَدُّ فيها صدقتها، وهذا منعها من التنفيذ ولم يَرد، وهذا ضعيف جدًا، وقيل: مسألة الاعتكاف تمت عند قوله: لسيدها أن يمنعها. ثم جاء بسؤال آخر: إذا فعلت ذلك ولم يرد السيد، إلا أنفذه في مدة رقها: فأجاب أن ذلك لا يلزمها؛ لئلَّا يظن ظان أن ذلك لا يلزمها بإذن السيد وقت جواز إذنه. وهذا التأويل أسعد بظاهر الكتاب، وأليق بنص "المدونة"، وبالله التوفيق، والحمد لله وحده.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة الأول

كتاب الزكاة الأول تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها تسع عشرة مسألة. المسألة الأولى في اشتقاق الزكاة وهو تطهير النفس من داء البخل، وشكر لمالك الكل. وأصل الزكاة: النماء والزيادة؛ يقال: زكى الشيء يزكو إذا نما بذاته وكثر كالزرع، والمال ونحوه أو لحاله، وفضائله، وكالإنسان في صلاحه وفضله، فسميت صدقة المال زكاة بذلك، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تبارك في المال الذي أخرجت منه وتنميه؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما نقص مال من صدقة" (¬1). وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تزكو عند الله [وتنمو] (¬2) وتضاعف لصاحبها؛ كما جاء في الحديث: "حتى تكون أكبر من الجبل" (¬3). وقيل: لأن صاحبها يزكو بأدائها، كما قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2335)، وأحمد (18060)، والطبراني في الكبير (22/ 341) حديث (855) والخطيب في الجامع (811) من حديث أبي كبشة الأنماري. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (1344) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل". (¬4) سورة التوبة الآية (103).

وقيل: إنها تطهر المال وتطيبه، وقد سماها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أوساخ الناس" (¬1)، ولو بقيت في المال، ولم تخرج عنه أفسدته وأخبثته. وقيل: الزكاة: التطهير؛ وعليه فسر بعضهم: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (¬2)، قيل: تطهر من الشرك، وهذا راجع إلى ما تقدم. وقيل: الزكاة: الطاعة والإخلاص، وقد قيل في قوله تعالى: {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (¬3)، لا يشهدون أن لا إله إلا الله، قال البخاري: لأن مُخْرِجُها لا يُخرِجُها إلا من إخلاصه وصحة إيمانه؛ لما جبلت عليه النفوس من حب المال. ولهذا لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - منعت أكثر العرب زكاتها، وتميز بأدائها الخبيث من الطيب؛ ولهذا قال عليه السلام: "الصدقة برهان" (¬4) أي: دليل على صحة إيمان، وقيل: بذلك سميت صدقة من الصدق، أي: هي دليل على صدق إيمانه، ومساواة باطنه وظاهره. وقيل: إنها سميت بذلك؛ لأنها لا تؤخذ إلا من الأموال المعرضة للنماء والزيادة؛ كأموال التجارة والأنعام، والحرث، والثمار، وسماها الشرع أيضًا صدقة، فقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬5)، وقال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية (¬6)؛ وذلك لأن صاحبها مصدق بإخراجها أمر الله تعالى بذلك، ودليل على صدق إيمانه كما تقدم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1072). (¬2) سورة الأعلى الآية (14). (¬3) سورة فصلت الآية (7). (¬4) أخرجه مسلم (223). (¬5) سورة التوبة الآية (103). (¬6) سورة التوبة الآية (60).

وسماها أيضًا: حقًا، فقال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬1). وسماها أيضًا: نفقة، لقوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2). وسماها أيضًا: عفوًا، لقوله: {خُذِ الْعَفْوَ} (¬3)، على اختلاف بين المفسرين في هذه الكلمات [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية (141). (¬2) سورة التوبة الآية (34). (¬3) سورة الأعراف الآية (199). (¬4) زيادة من جـ.

المسألة الثانية في معرفة نصاب الذهب و [الفضة]

المسألة الثانية في معرفة نصاب الذهب و [الفضة] (¬1) والنصاب: مأخوذ من النُّصُب، وهو العلم، أي: نُصِّبَ لوجوب الزكاة فيه. ومنه النصب: وهي الحجارة نصبت وجعلت علمًا للعبادة. وقيل: مأخوذ من الارتفاع، ومنه: نصائب الحوض، واحدها: نصيبة [وهي حجارة نصبت] (¬2) أي: ترتفع حول الحوض، وكأن النصاب ما ارتفع من المال عن [حد] (¬3) [القلة] (¬4). وهي مأخوذة من النصاب، وهو الأصل، ومنه: نصاب الرجل ومنصبه، أي: أصله. فالمراد به على هذا الأصل [الموضوع] (¬5)؛ لأن الزكاة تخرج منه. والأصل في نصاب الورق في الزكاة قوله عليه السلام: "ليست فيما دون خمس أواق زكاة" (¬6). كذا روى: أواق، مثل جوار، وغواش. وذهب الخطابي في "شرح السفن" إلى تخطئة هذه الرواية, وقيل: صوابه: أواقي؛ مثل أضاحي، وأناس فجمع على لفظة واحدة. ¬

_ (¬1) في ب: الورق. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في جـ: النفقة. (¬5) في جـ: الموضع. (¬6) أخرجه البخاري (1340) من حديث أبي سعيد.

والأوقية: أربعون درهمًا، مضمومة الألف مشددة الياء، وهكذا سمعناه ووجدناه في الكتب الصحاح على مثل ما رويناه. ووزن كل درهم من دراهم الكيل [المذكورة] (¬1): خمسون حبَّة [وخمسا حبَّة] (¬2) من وسط الشعير، فنصاب الزكاة من دراهم الكيل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائتا درهم. واختلف في دراهم زماننا هذا على كم يزكي منها؟ فذهب [ابن حبيب] (¬3) إلى أنه يزكي على مائتي درهم في أي زمان كان، وفي أي سكة كانت؛ اعتبارًا بالعدد الشرعي. والذي قاله بعيد جدًا؛ لأن الشرع لم يعتبر مما هو عدد، وإنما اعتبر الوزن، فاتفق أن ذلك [الوزن يوفى مائتي درهم عددًا، وإن قلنا باعتبار العدد الذي هو تبع، ويلغي الوزن الذي هو متبوع وذلك] (¬4) عكس الشريعة. وذهب ابن رشد وغيره من المتأخرين إلى أن الزكاة في السكة التي كانت في غيرهم ثلاثمائة درهم وستين درهمًا؛ بناء على أن قدر الوزن للدرهم الجاري عندهم في زمانهم من درهم الشرعي: درهمان إلا خمس. ولا أدري هل السكة الجارية بين أيدينا اليوم على وزن سكة الأندلس وغيرهم يومئذ فيزكى اليوم على ثلاثمائة درهم وستين درهمًا، أو مخالفة له؟ لأن الذي جربناه اليوم من وزن درهمنا هذا اليوم [أن وزنه خمس وعشرون حبَّة من شعير وسط وهو النصف من وزن الدرهم الشرعي على ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من جـ. (¬3) في أ: أبو الحسن اللخمي. (¬4) سقط من أ.

سواء، فيجري من ذلك أن الزكاة في أربعمائة درهم من دراهمنا اليوم] (¬1) بالمغرب، والله أعلم. فإذا [كان] (¬2) عنده نصاب في العدد ناقص في الوزن أو مخلوط بنحاس، فلا يخلو نقصانه [في الوزن] (¬3) من وجهين: أحدهما: أن يجوز مع ذلك بجواز الموازنة عددًا. والثاني: ألا يجوز بجواز الموازنة. [فإن جازت في العدد بجواز الموازنة] (¬4): فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها لا تجب فيها الزكاة [وهي رواية حكاها الأبهري عن مالك وهو قول ابن لبابة رضي الله عنه. والثاني: أنها تجب فيها الزكاة جملة] (¬5) وهو قول مالك في الموطأ وفي كتاب محمَّد. والثالث: التفصيل بين النقصان اليسير والكثير. وهو قول ابن القاسم في "العتبية". فإن كانت لا تجوز بجواز الموازنة: فلا تخلو أيضًا من وجهين: أحدهما: أن يكون نقصانًا تتفق عليه الموازين. [والثاني: أن يكون نقصانًا تختلف فيه الموازين، فإن كان نقصانًا تتفق عليه الموازين] (¬6) فلا زكاة عليه اتفاقا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: كانت. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

فإن كانت ناقصة نقصانًا تختلف فيه الموازين: فالمذهب على القولين: أحدهما: وجوب الزكاة. والثاني: نفيه. وسبب الخلاف: هل المعتبر الوزن مع الجريان، أو المعتبر الجريان، ويكون العدد يقوم مقام الوزن؟ فمن رأى أن المعتبر الوزن مع الجريان، قال: لا زكاة عليه إذا كانت ناقصة في وزنها وإن جرت في الأسواق مجرى الوازنة؛ لأن النصاب غير حاصل، والمساواة غير معينة على المالك. ومن رأى أن المعتبر بالجريان، وأن العدد يقوم مقام الوزن: قال بوجوب الزكاة؛ لأن المنفعة المقصودة في النقدين حاصلة [ومواساة] (¬1) الفقراء عليه متعينة. ولا خلاف في نقصان العدد أن الزكاة لا تجب. وإن كانت الدراهم مخلوطة بالنحاس أو غيره: فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يتحرى ما فيها من الفضة، فيزكيها إن كانت نصابًا، أو كان عنده ما إن أضافه [إليه] (¬2) وجبت الزكاة إن كان أقل من نصاب، وهو الأصح. والثاني: أن الأقل تبع للأكثر؛ إن كان النحاس أقل، والفضة أكثر: ¬

_ (¬1) في أ: ومساواة. (¬2) سقط من أ.

زكى، وإن كان النحاس أكثر، والفضة أقل: فلا زكاة. وأما الذهب: فحكمه حكم الفضة في جميع ما ذكرناه إلا في النصاب؛ فإن نصاب الذهب عند مالك (¬1): عشرون دينارًا وازنة، والدينار: الدرهم وثلاثة أسباع الدرهم، وهو سبع العشرة، والعشرة دراهم: سبعة دنانير، ولا خلاف في ذلك. فإذا كان عنده عشرون دينارًا على هذا الوزن: فإن الزكاة واجبة عليه بحلول الحول اعتبارًا بمائتي درهم؛ لأن كل دينار بعشرة دراهم؛ سنة ماضية بمدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -[وقد روى] (¬2) الحسن بن عمارة من حديث علي رضي الله عنه أنه [- صلى الله عليه وسلم -] (¬3) قال: "هاتوا زكاة الذهب من كل عشرين دينارًا نصف دينار" (¬4). وهذا انفرد به الحسن بن عمارة، ولم يثبت صحته عند العلماء؛ ولذلك اعتمد مالك رحمه الله على العمل، وقال في "الموطأ" (¬5): السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين دينارًا، كما تجب في مائتي درهم، ثم ما زاد على نصاب الذهب والورق فبحساب ذلك. واختلف مالك والشافعي رضي الله عنهما في ضم الذهب إلى الورق ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 242). (¬2) في الأصل: وقدر. (¬3) سقط من أ. (¬4) قال ابن عبد البر: كذلك رواه أبو حنيفة فيما زعموا ولم يصح عنه، ولو صح لم يكن فيه عند أهل العلم بالحديث أيضًا حجة، والحسن بن عمارة متروك الحديث أجمعوا على ترك حديثه لسوء حفظه وكثرة خطئه، رواه عن الحسن بن عمارة عبد الرزاق، ورواه جرير بن حازم والحارث بن نبهان عن الحسن بن عمارة، والحديث إنما هو لأبي إسحاق عن عاصم ابن ضمرة عن علي. الاستذكار (3/ 135). (¬5) انظر: الموطأ (246) تحت أثر (583) وبداية المجتهد (1/ 186) والاستذكار (3/ 135).

في الزكاة إذا كمل من مجموعهما نصاب، هل تجب الزكاة أم لا؟ فذهب مالك إلى أنهما يضمان، وأنه إذا كان عنده مائة درهم وعشرة دنانير: فإنه يزكي، ويخرج من كل واحد منهما ربع عشره (¬1). وذهب الشافعي (¬2) إلى أنه لا يضم واحد منهما إلى الآخر. وسبب الخلاف: هل يختلف الحكم باختلاف الأسماء؟ ثم لا يجوز الضم؛ لأن حكم الذهب غير حكم الفضة، كما أن الاسم غير الاسم، أو الحكم يتحد باتحاد المنفعة فيجوز الضم؛ لأن منفعة الدنانير والدراهم واحدة وأنهما أصول الأثمان وقيم للمتلفات، وهي عمدة مالك رحمه الله في هذا الباب، وفي قاعدة الربا. فإذا قلنا بجواز الجمع والضم، فهل يجوز إخراج أحدهما عن الآخر في الزكاة أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة" (¬3): أحدها: أنه يجوز إخراج الذهب عن الورق، والورق عن الذهب، وهو ظاهر قوله في باب إخراج [القسيم] (¬4) في الزكاة في آخر "كتاب الزكاة" من "المدونة" وهو قول منصوص في المذهب، وقد نص التونسي [على إخراج الذهب] (¬5) عن الورق في الزكاة. والثاني: أنه لا يجوز إخراج أحدهما عن الآخر في الزكاة، وهو ظاهر المدونة؛ لاكن ذلك من باب شراء المرء صدقته. ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 242). (¬2) انظر: الأم (2/ 39، 40) وروضة الطالبين (2/ 257). (¬3) انظر: المدونة (2/ 242، 243). (¬4) في الأصل: القم. (¬5) سقط من أ.

والثالث: أنه يجوز إخراج الورق عن الذهب، ولا يجوز إخراج الذهب عن الورق، وهو نص المذهب، وهو ظاهر قوله في "الكتاب" في أول "كتاب الزكاة الأول". فوجه قول من جوز إخراج أحدهما عن الآخر: أنهما عينان منفعتهما واحدة، ويجوز ضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة، فيجوز أن يخرج أحدهما عن الآخر. ووجه القول الثاني: أنه لا يجوز إخراج أحدهما عن الآخر: أن ذلك من باب شراء المرء صدقة ماله، والسنة أن تخرج صدقة كل مال منه. ووجه القول الثالث؛ حيث جوز إخراج الورق عن الذهب، ولم يجوز إخراج الذهب عن الورق: أنه إن أخرج الذهب عن الورق كان أضر بالمساكين في كلفة الصرف، وربما صرفوه بأقل مما أخرجه فيه، فيؤول ذلك إلى أن يخرج أقل مما وجب عليه. بخلاف إذا أخرج الورق عن الذهب: فإن ذلك رفق بالمساكين؛ لأنه كفاهم مؤونة الصرف. وهذا القول أظهر في النظر، والله أعلم. وعلى القول بأنه يجوز إخراج أحدهما عن الآخر، أو إخراج الذهب عن الورق، فهل الاعتبار بالقيمة، أو صرفه في الزكاة؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إن أخرج الذهب عن الورق أخرج قيمة ما وجب عليه من الدراهم بصرف اليوم، وإن أخرج الورق عن الذهب: أخرج قيمة ذلك من الدراهم بصرف اليوم بالغة ما بلغت، وهو مذهب الكتاب. ووجهه: أن المساكين شاركوه بذلك الجزء، فإن اختار شراءه اشتراه

بسعر اليوم، كان أقل من صرف الزكاة أو أكثر. والثاني: أنه يخرج ذلك على صرف الدينار في الزكاة من غير اعتبار بصرف الواقع، [وضع] (¬1) عنه أو ارتفع. ووجهه: أن الدينار مساويًا لعشرة دراهم في الزكاة، فإذا وجب عليه نصف دينار ذهب، فأخرج عنه خمسة دراهم، أو وجبت عليه خمسة دراهم، فأخرج عنها نصف دينار ذهب: فقد فعل ما يجب، وَوَصَّل إلى المساكين ما وجب لهم عليه، ولا مظلمة. والثالث: أنه يخرج القيمة ما لم تكن أقل من [صرف] (¬2) دينار، وهو قول ابن حبيب، وهذا توسط بين القولين [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: اتضع. (¬2) في أ: نصف. (¬3) زيادة من جـ.

المسألة الثالثة إذا قدم النفقة على الشراء

المسألة الثالثة إذا قدم النفقة على الشراء وإذا كانت عنده عشرة دنانير، فحال الحول [عليها] (¬1) ثم اشترى [بها] (¬2) سلعة، فباعها بعشرين أو أنفق خمسة، ثم [اشترى] (¬3) بالخمسة الباقية [فباع بخمسة عشر أو اشترى بخمسة ثم أنفق الخمسة الباقية] (¬4)، هل يزكي أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة" (¬5): أحدها: أنه يزكي سواء قدم النفقة على الشراء، أو قدم الشراء على النفقة. وهو قول المغيرة في الكتاب، وهو قول المخزومي، وهو ظاهر قول ابن القاسم [في الكتاب] (¬6) في السؤال [الأول] (¬7) إذا حال الحول عنده على عشرة دنانير، ثم اشترى بها سلعة، فباعها بعشرين، فقال: يزكي، وحول ربح المال حول أصله. فإذا جعل ابن القاسم أن الربح كأنه لم يزل [كامنًا] (¬8) في المال، فلما ¬

_ (¬1) في أ: عليه. (¬2) في أ: أيضًا. (¬3) في أ: اشتراها. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: المدونة (2/ 243). (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) في جـ: كائنًا.

حركه ظهر وبان، فهذا [الذي] (¬1) يلزمه في مسألة النفقة ملازمة القرط (¬2) للأذن. وحجة الغير أنه يحسب [ما أنفق] (¬3)، قبل الشراء [ويزكي لأنه كما لا يحسب بما أنفق قبل الحول بين الشراء أو بعده، فكذلك لا يترك أن يحسب ما أنفق قبل الشراء] (¬4) أو بعده. فهذه حجة الغير [بقوله] (¬5) في الكتاب، وهو الذي يسميه أهل النظر قياس العكس. ولم يقع لهم في "المدونة" إلا في موضعين خاصة. والثاني: أنه لا زكاة عليه، قدم الشراء على النفقة أو أخره. وهو قول أشهب (¬6) قياسًا على [ولادة] (¬7) الماشية التي جعلها ابن القاسم أصلًا، فجعل حول ربح المال حول أصله؛ وذلك أنه لو كان لرجل ثلاثون شاة، وهو ساعي نفسه، فحال عليه الحول، ثم أكل منها شاة، ثم ولدت فصارت تسعة وثلاثين: لم يكن عليه فيها زكاة. والذي ينبغي على ما قال في العين أنه يزكي؛ لأنه يقدر في الحكم أن الأولاد لم تزل [كامنة] (¬8) مع الأمهات من أول الحول قبل أن يأكل منها ما أكل. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) القرط: الذي يعلق في شحمة الأذن. مختار الصحاح (221). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) انظر: النوادر (2/ 115). (¬7) في جـ: أولاد. (¬8) في ب، جـ: كائنة.

فإذا لم يقدر في الأصل هذا التقدير، فبأن لا يقدرها في الفرع أولى وأحق. والثالث: بالتفصيل [بين] (¬1) أن يقدم الشراء على النفقة: فيزكي، أو يقدم النفقة على الشراء فلا يزكي وهو قول ابن القاسم في الكتاب. فإن أراد ابن القاسم أن العرض المشتري بالخمسة يساوي خمسة عشر، والخمسة [عشر] (¬2) الباقية قائمة عنده قبل النفقة، فيصح ما قال، وإن اعتبر حالة البيع بخمسة عشر، فبعيد ما قال. والقياس ما قاله أشهب، وهو الأصح في النظر، والله أعلم [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الرابعة إذا حال الحول عنده على عشرين دينارا فلم يؤد زكاتها حتى [ابتاع بها سلعة]

المسألة الرابعة إذا حال الحول عنده على عشرين دينارًا فلم يؤد زكاتها حتى [ابتاع بها سلعة] (¬1) فباعها بأربعين دينارًا بعد الحول الثاني، فقد قال في "الكتاب" (¬2): إنه يزكي عن السنة الأولى عشرين دينارًا، ويزكي عن السنة الثانية تسعة وثلاثين دينارًا ونصف دينار، إلا أن يكون عنده عرض يساوى نصف دينار فإنه يزكي عن السنة الثانية أربعين دينارًا. فظاهر هذا [كله] (¬3) أن الكلام كله لابن القاسم. وقد وقع في بعض روايات "المدونة" قال أشهب: إلا أن يكون عنده عرض، فجعل في هذه المسألة أن دين الزكاة مسقط للزكاة [إلا أن يكون له عرض يساوي ذلك الدين، فإن كان الكلام لابن القاسم، فإنه يعد ذلك منه اختلاف قول، وعلى أنه لابن القاسم اختصر الشيخ أبو محمَّد المسألة والذي عرف من قول ابن القاسم في العتبية والسليمانية أن دين الزكاة مسقط للزكاة] (¬4) كانت له عروض، أو لم تكن، وله مثل ذلك في كتاب الزكاة الأول من المدونة في الذي فرط في الزكاة وبيده مائة: أنه لا يزكيها إلا أن يبقى منها بعد إخراج الزكاة ما تجب فيه الزكاة. ومسألة في "كتاب القراض": إذا كان رب المال مديرًا أن رب المال يزكي لكل سنة إلا ما نقصته الزكاة، ولم يذكر في شيء من ذلك أن يكون له عرض كما قال في غيرها من مسائل الديون. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: المدونة (2/ 245). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

فإن كان الكلام لابن القاسم فيتخرج من "الكتاب" قولان في دين الزكاة هل يسقط الزكاة أم لا؟. وإن كان لأشهب فيتحد قول ابن القاسم في "المدونة" وغيرها، ويكون قول أشهب خلافًا له. ومحمل الديون كلها محملًا واحدًا في إسقاط الزكاة. والفرق على مشهور قول ابن القاسم بين دين الزكاة وغيره من مسائل الديون، وذلك أن الأصل يقتضي أن الدين مسقط للزكاة، وأنه لا يقابل بالعروض ما دام العين قائمًا؛ لقول عثمان رضي الله عنه: [هذا] (¬1) شهر زكاتكم من كان عنده دين فليقضه حتى تحصل أموالكم، فتؤدون منها الزكاة" (¬2). ولم يقل: من كان عنده عرض يساوي ما عليه من الدين فيجعله فيه. ثم خصص أهل المذهب هذا العموم بما فهموه من مراد الشارع - صلى الله عليه وسلم - من [المبادرة إلى] (¬3) الطاعات والاحتياط للعبادات، فقالوا: بارتصاد العروض للديون، ويبقى دين الزكاة على الأصل، وهذا أولى ما اعتذر به، وعلل به على مذهب ابن القاسم [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) في أ: ما دام. (¬2) أخرجه مالك (591) والشافعي في الأم (2/ 50)، وعبد الرزاق في المصنف (7086)، وابن أبي شيبة في المصنف (2/ 414)، وأبو عبيد في الأموال (1247) وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل (789). (¬3) في أ: المثابرة على. (¬4) زيادة من جـ.

المسألة الخامسة مسألة زكاة [الحلي] الواقعة في "الكتاب"

المسألة الخامسة مسألة زكاة [الحلي] (¬1) الواقعة في "الكتاب" وهي من مشكلات المدونة، وقد كثر فيها اللغط والتعسف في التأويل، وسببه اختلاف [الروايات] (¬2) واضطراب المقالات حتى ترى الشُّرَّاح كل واحد منهم يثير الغبار في عين صاحبه، وسلك في التأويل مهيعًا غير مهيع غيره. فنحن بحمد الله نتشوف إلى التفصيل، ونشمر الدليل إلى التحصيل، وننزل المسألة أحسن التنزيل، ونقول من حيث التفصيل: لا يخلو الحلي من وجهين فيما يرجع إلى الزكاة: أحدهما: أن يكون للنساء. والثاني: أن يكون للذكور. فإن كان للنساء فلا يخلو من أربعة أوجه (¬3): إما أن تتخذه للباس، أو للإجارة، أو للتجارة، أو لابنة لها. فإن اتخذته للباسها: فلا خلاف في المذهب أنها لا زكاة عليها. فإن اتخذته لابنة لها تلبسه، فإن كان في الحال: فلا زكاة عليها أيضًا. وإن كان في ثاني حال، والابنة موجودة، أو غير موجودة إلا أنها ¬

_ (¬1) في أ: العين. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: تقديم وتأخير الأوجه الأربعة.

ارتقبتها -هكذا نقله في النوادر (¬1) - فهل تجب عليها الزكاة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: وجوب الزكاة. والثاني: [سقوطها] (¬2). وسبب الخلاف: اعتبار الحال والمآل. فمن اعتبر الحال: أوجب الزكاة؛ لأنه كنز. ومن اعتبر المآل: قال: لا زكاة؛ اعتبارًا بما انكسر من حليهن فحبسنه ليصلحنه؛ لأنه في حال تبر. وإن كان عندها للإجارة، فالمذهب على قولين: أحدهما: وجوب الزكاة. والثاني: سقوطها. وهو مذهب المدونة في المسألة. وفي المسأله قول ثالث: بالتفصيل بين المُعَنَّسَة وغيرها؛ فإن كانت مُعَنَّسَة ولا منفعة لها فيه للباس ولا للكراء: فعليها فيه الزكاة (¬3). وهذا القول مخرج غير منصوص [عليه] (¬4). وسبب الخلاف: هل النظر إلى كون الحلي من زينتهن أو لباسهن [ولبسه] (¬5) [متأت] (¬6) لهن إن شئن، ثم لا زكاة عليهن؟ أو النظر إلى ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (2/ 115: 117). (¬2) في جـ: لا زكاة. (¬3) انظر: النوادر (2/ 116). (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: مباح.

فعلهن ونيتهن: فتجب الزكاة؟ فإن كان عندهن للتجارة: فلا خلاف في وجوب الزكاة [عليها] (¬1) ما دامت على تلك النية. فإن نوت به القنية بعد ذلك واستعملته في اللباس: فلا زكاة عليها. وأما الوجه الثاني: إذا كان للذكران: فلا يخلو من أن يكونوا صغارًا، أو كبارًا. فإن كانوا صغارًا: فالمذهب على قولين: أحدهما: وجوب الزكاة. وهو قول أبي إسحاق بن شعبان. والثاني: أنه لا زكاة عليهم فيه. وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الحج" (¬2)؛ لأنه قال: "لا بأس أن يحرموا وعليهم الخلاخل والأسورة". وإذا جاز لهم لباسه لم تكن عليهم الزكاة. فإن كانوا كبارًا: فلا يخلو من أن يكون مما يجوز لهم التحلي به [واتخاذه] (¬3) للباسهم، أو مما لا يجوز لهم التحلي [به] (¬4) [فإن كان مما لا يجوز لهم التحلي به] (¬5) كالمصحف، والسيف، والخاتم. وما يجوز لهم اقتناؤه: فلا زكاة عليهم فيه اتفافًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: المدونة (2/ 369). (¬3) في أ: واتخاذهم. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

فإن كان مما [لا] (¬1) يجوز لهم اقتناؤه للباس؛ فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يتخذوه للقنية. والثاني: أن يتخذوه للتجارة. فإن اتخذوه للقنية: فلا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يتخذوه لزوجته أو لأمته أو لابنته. وإما أن يتخذه لامرأة يتزوجها، أو لابنة [لم تكن] (¬2) له، أو كانت فينتظر به [كبرها] (¬3). وإما أن يتخذه عدة للزمان، فإذا احتاج إليه [أخذه] (¬4). وإما أن يتخذه للإجارة. فهذه أربعة أوجه: فأما الوجه الأول: إذا اتخذه لزوجته، أو لابنته: فلا زكاة عليه [فيه] (¬5) اتفاقًا. وأما [الوجه الثاني] (¬6) إذا اتخذه لامرأة يتزوجها، أو ينتظر كبر ابنة كانت أو لم تكن، هل عليه فيه الزكاة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن عليه فيه الزكاة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: تكون. (¬3) في أ، جـ: إذا كبرت. (¬4) في ب: باعه. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

وهو قول مالك، وابن القاسم. والثاني: أنه لا زكاة عليه فيه. وهو قول أشهب وأصبغ. وسبب الخلاف: هل النظر إلى حصوله في الملك، أو النظر إلى النية والمقصود؟ وأما الوجه الثالث: إذا اتخذه عُدَّةً للزمان لعله يحتاج إليه في المستقبل: فعليه فيه الزكاة اتفاقًا. وأما الرابع: إذا اتخذه للإجارة: فعن مالك قولان، على ما ذكره البغداديون عنه. أحدهما: وجوب الزكاة. والثاني: سقوطها. وبالوجوب قال عبد الملك، ومحمد بن مسلمة، وهو الأشهر، والآخر لا وجه له. وأما إذا اتخذه للتجارة: وهو لباب المسألة، ومقصود الترجمة. ونص المسألة في "المدونة" (¬1): قال مالك في رجل اشترى حليًا [للتجارة] (¬2) وهو ممن لا يدير التجارة، فاشترى حليًا؛ فيه الذهب والفضة والياقوت والزبرجد، فحال عليه الحول، قال: ينظر إلى ما فيه ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 246). (¬2) سقط من أ.

من الذهب [والورق] (¬1) [فيزكيه] (¬2)، ولا يزكي ما فيه من اللؤلؤ والزبرجد حتى يبيعه، إلا أن يكون ممن يدير، فيقوم اللؤلؤ والزبرجد، فيزكي وزن الذهب والفضة. وروى ابن القاسم، وأشهب، وابن نافع، وعلي بن زياد أيضًا عن مالك فيمن اشترى حليًا [أو ورثه فحبسه للبيع؛ كلما احتاج إليه باع، أو للتجارة: زكاه. ورأى أشهب معهم فيمن اشترى حليًا] (¬3) للتجارة، وهو مربوط بالحجارة، ولا يستطيع نزعه: فلا زكاة عليه حتى يبيع. وإن لم يكن مربوطًا: فهو كالعين يزكيه كل عام، وقال أشهب، وابن نافع في روايتهما: [أنه] (¬4) كالعرض، يشتري للتجارة؛ فالمدير يقوِّم جميعه، وغير المدير لا يزكي حتى يبيع، ويزكي ثمنه لعام واحد، فهذا نص المسألة في الكتاب. واختلفت روايات "المدونة" في إثبات لفظة: "زكاة" ولفظة: "معهم"؛ ففي بعضها إثبات لفظة "زكاة" وسقوط لفظة "معهم"، [وهي] (¬5) أصح في المعنى، وأجرى على أصول المذهب. وفي بعضها: إثبات لفظة "معهم"، وسقوط لفظة "زكاة". فاختلفت مذاهب المتأخرين في التأويل والتنزيل، فالذي نقلناه من مذاهبهم فيها أحد وجهين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فيزكي. (¬3) سقط من جـ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: وهو.

أحدهما: أن نقول: لم يختلف قول ابن القاسم في المسألة، وأنها ثلاثة أسئلة؛ [الأول] (¬1) سؤال ابن القاسم وحده في الحلي المنظوم مع المنصوص. والسؤال الثاني: رواية ابن القاسم، وعلي بن زياد في الحلي المحض. والسؤال الثالث: رواية أشهب عن مالك في الحلي المربوط. فإذا نزلت المسألة على هذا التنزيل: سلم قول ابن القاسم في "الكتاب" من الاضطراب، فيرجع جميع ما في المدونة إلى قول واحد، وإلى هذا ذهب أكثر الشارحين من المتأخرين. والوجه الثاني: أن جميع ما [وقع] (¬2) في الباب سؤال واحد، وأن ذلك كله في الحلي المربوط. وإلى هذا ذهب أبو عمران الفاسي وغيره. والذي حملهم على ذلك وأضربهم عن الترتيب الأول لفظة وقعت في الكتاب؛ وهو قوله: وروى ابن القاسم، وأشهب، وعلي بن زياد، وابن نافع أيضًا. وقوله: أيضًا: يشعر باختلاف الرواية؛ إذ معناه: الرجوع [عن] (¬3) شيء إلى شيء، فتكون رواية ابن القاسم مع الجماعة مخالفة روايته وحده؛ فيتخرج [في] (¬4) "الكتاب" اضطراب من قول ابن القاسم في الحلي المربوط، هل حكمه حكم العروض كما قال أشهب أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: من. (¬4) في أ: من.

فإن أثبت في المسألة لفظة: "زكاة": فيتخرج من المدونة في المسألة أربعة أقوال: أحدها: أن الحلي المربوط لا يكون له حكم العُرُوض، وهو قوله أول المسألة؛ لأنه قال: يزكي [وزن] (¬1) ما فيه من الذهب، والفضة -يريد تحريًا- وإن كان مديرًا: قوّم ما فيه من اللؤلؤ والياقوت. وظاهر هذا القول سواء كان [هذا] (¬2) الحلي موروثًا، أو مشترى. والثاني: أن حكمه حكم العُرُوض، وهي روايته مع الجماعة، وظاهره أيضًا: لا فرق بين الموروث والمشتري؛ بدليل قوله: كلما احتاج إليه باع، أو للتجارة: زكاه؛ ظاهره: [أنه] (¬3) إنما يزكي عند البيع إن كان غير مدير، وأنه لا يزكي ما فيه من الذهب والفضة قبل البيع؛ إذ حكمه حكم العرض على هذا الظاهر وهو نص مذهب أشهب. والقول الثالث: بالتفريق بين الميراث والشراء، وأنه لا يحكم له بحكم العروض [في الميراث] (¬4) وأنه يزكي وزن ما فيه من الذهب والفضة إن حال عليه الحول قبل أن يبيع، فإذا باع: زكى مثابة الذهب والفضة، ويستقبل بمثابة ما فيه من الحجارة حولًا من يوم باع. وأما الشرع: حكمه حكم العرض؛ يقوّمه المدير ولا شيء على التاجر غير المدير حتى يبيع. وهذا القول الثالث يؤخذ لابن القاسم من "المدونة" على إثبات ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

[رواية] (¬1) "معهم"، ورواية أشهب، وابن نافع آخر المسألة تفسير لها. والقول الرابع: التفصيل بين أن يكون ما فيه من الذهب، والفضة تابعًا، أو متبوعًا، فإن كان تبعًا: فحكمه حكم العرض. وإن [كان متبوعًا] (¬2): فلكل واحد حكمه. وهو قوله في مسألة السيف المحلى في كتاب الصرف. فإن أسقطنا لفظة: "زكاه"، فيتخرج له من الكتاب ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحلي المربوط ليس كالعرض موروثًا أو مشترى. والثاني: التفرقة بين الشراء والميراث. والثالث: التفصيل بين أن يكون [الحلي] (¬3) تبعًا أو متبوعًا. وعلى القول بأن المدير يزكي ما فيه من الذهب والفضة تحريًا، هل يقوم الصياغة أم لا؟ فبين المتأخرين قولان متأولان على "المدونة": أحدهما: أنه لا يقوم الصياغة، وهو المشهور في النص. والثاني: أنه يقوم، وأنها كعرض معه، وهو أظهر في المعنى، وهو تأويل أبي إسحاق التونسي على "المدونة" [وبالله التوفيق والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: كانت متبوعة. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من جـ.

المسألة السادسة الزكاة في أموال العبيد

المسألة السادسة الزكاة في أموال العبيد قال القاضى أبو محمَّد عبد الوهاب: الزكاة تتعلق بمالك، وملك، ومملوك. فصفة المالك: أن يكون [من أهل الطهارة؛ وهم المسلمون] (¬1)، ذكرانًا كانوا أو إناثًا، صغارًا كانوا أو كبارًا. وصفة الملك: أن يكن تامًا غير ناقص، وفائدته: ألا يكون لغير مالكه انتزاعه من مالكه في أصله، وأن يكون مالكه حرًا لا رق فيه. أما المملوك: فكل عين جاز بيعها جاز تعلق الزكاة بها"، انتهى قوله. وقد اختلف العلماء في العبد هل يَمْلك، أو لا يَمْلك؟ فذهب مالك رحمه الله إلى أنه يملك. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يملك [بحال] (¬2) وأن ما بيده من المال هو للسيد. وذهبت طائفة إلى أن العبد يملك على الحقيقة، وأن الزكاة واجبة عليه فيما بلغ النصاب من ماله. وهذا القول مروي عن ابن عمر، وبه قال عطاء -من التابعين- وأبو ثور -من الفقهاء- وبعض أهل الظاهر. أما الشافعي، وأبو حنيفة: فلا يخفى ضعف مذهبهما؛ وذلك أنهما ¬

_ (¬1) في ب: من المسلمين. (¬2) سقط من أ.

قالا: العبد لا يملك، وأن ماله للسيد، وأن إضافة الملك إليه إضافة مجازية. وذلك مراغم للكتاب والسنة: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬1). ولا يتصف بالغنى والفقر إلا من يصح ملكه. وأما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من باع عبدًا وله مال" (¬2). وقوله: "من أعتق عبدًا تبعه ماله" (¬3). فأضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - المال إلى العبد بلام التمليك التي أضيف بها المال إلى من يصح منه الملك؛ دل ذلك على وجود الملك. ولا يصح أن يحمل الملك على المجاز؛ لأن الكلام لا يخرج عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل، وهذا مذهب مالك رحمه الله أن العبد يملك، ولا خلاف في مذهبه في ذلك إلا ما استقرئ من [مسألة النذور] (¬4)، و"كتاب المأذون له في التجارة" من "المدونة"، وهو استقراء ضعيف، ولا يتعلق به إلا من جهل معاني المدونة، واتبع ظواهر السواد؛ وذلك أنه قال في "كتاب النذور" (¬5)، فيمن حلف أن لا يركب دابة فلان، فركب دابة عبده: قال ابن القاسم: أراه حانثًا، وقال أشهب: لا يحنث في دابة عبده. فحملوا جواب ابن القاسم على ظاهره، وقالوا: ¬

_ (¬1) سورة النور الآية (32). (¬2) أخرجه البخاري (2250)، ومسلم (15443) من حديث سالم عن أبيه مرفوعًا. (¬3) أخرجه الدارقطني (4/ 134) من حديث ابن عمر مرفوعًا، وفيه ابن لهيعة. (¬4) في ب: كتاب الأيمان. (¬5) انظر: المدونة (3/ 138).

كونه [حنثه] (¬1) في دابة عبده بناء على أن العبد لا يملك، وأن ماله لسيده. وليس الأمر كذلك؛ بل إنما حنثه ابن القاسم في ركوب دابة غيره مراعاة للمقاصد؛ لأن مقصد الحالف ألا يقرب شيئًا تلحقه المنة من جهته، والمنة تلحقه من مال عبده، كما تلحقه من مال نفسه. وأشهب [تكلم] (¬2) على الألفاظ، فلذلك لم يحنثه، فلا يخفى على من طالع المدونة اعتبار المقاصد والألفاظ، وهذا ظاهر لا إشكال فيه. وأما مسألة كتاب المأذون: فإنما اعتبر فيها مالك [رحمه الله] (¬3) الشبهة؛ وذلك أنه قال في المأذون [إذا اشترى من يعتق على سيده أن يُعتق على السيد؛ وذلك أن السيد له شبهة في مال عبده؛ لأنه مَلكَ انتزاعه، فقد ملك أن يملك، وهو أصل مختلف فيه؛ فرآه مالك - رحمه الله - أن يعتق عليه؛ لأنه جعله [كالمالك] (¬4). وبهاتين المسألتين استدل من ذهب إلى اضطراب المذهب في العبد، هل يملك أم لا, ولا دليل في ذلك على ما أوضحناه وبيناه ومن الدليل على أن العبد يملك على مذهبنا: جواز [التسرى] (¬5) في ماله. وقد قال مالك: يجوز للعبد أن يطأ بملك يمينه، شاء السيد أو أبى؛ فهذا أول الدلائل على أنه يملك، ولا اعتراض على هذا يكون العبد ¬

_ (¬1) في أ: حنث. (¬2) في أ: حكم. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: بلا ملك. (¬5) في أ: التصرف.

محجورًا عن التصرف في ماله [وكون السيد] (¬1) له عليه سلطانية الانتزاع، فإنا نجد مثل ذلك في الأحرار المتصفين بالملك من غير خلاف؛ مثل الصبي والبالغ السفيه، فإنهما يمنعان من التصرف ما دامت العلة قائمة، ولكن ذلك يرجع إلى حقهما، وإنما وقع التشابه في المنع من التصرف على الجملة، وأن الزوجة ممنوعة من التصرف بالمعارف في أكثر من ثلثها، والمريض كذلك؛ وذلك لحق غيرهما، والعبد مساوٍ لهذين. وأما كون السيد يملك الانتزاع دون من ذكرنا، فإنه عندنا لا يضاهي كون الغرماء يملكون سلطانية النزع لمال غريمهم دون إيثاره واختياره، [وإن كان] (¬2) موجب الانتزاع يختلف ولكن [سلطان] (¬3) الشارع كليهما على النزع لا يختلف، وهذا لا يخفي على من درأ عن قلبه وساوس التشكيك والترديد، وسَلَّ [عن نفسه] (¬4) ربقة التقليد. وأما من اعتمد [على اتباع] (¬5) السواد، واقتنع بالخُشكار عن السميد، فيوشك ألا يستنشق روائح [هذا] (¬6) المسك المنثور, والعنبر، والكافور، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، والمثل صحيح؛ الشمس ظلام الخفافيش، والجبال تميد في عين المراعيش، وإنما الإشكال والغموض في أمر وراء ذلك، وهو كون [المال] (¬7) المملوك لا يزكي بعد زوال المانع الذي هو علة في إسقاط الزكاة مع وجوده؛ ¬

_ (¬1) في أ: وكونه. (¬2) في ب: لكون. (¬3) في أ: سيطر. (¬4) في ب: نفسه من. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: مال.

وذلك أنه قال في الكتاب في العبد إذا أعتق وماله بيده: أنه لا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول من يوم عُتق. والذي ينبغي على أصل مذهبنا القائلين: بأنه يملك أن يزكي بنفس ما عتق لزوال العذر الذي هو حق السيد، اللهم إلا أن يقال: إن هذا يتخرج على أحد الأقاويل في الذي بيده مائة وعليه [مائتان] (¬1) ثم وهب له الدين بعد حلول الحول أنه لا [يزكيه] (¬2)؛ لأنه الآن [كالمالك] (¬3) على الحقيقة. ولو قال: يلزم من هذه المسألة على أصل مذهب مالك أن يكون العبد لا يملك؛ لأنه جعل هذا المال بعد عتقه كفائدة أفادها لما كان استقراءً ظاهرًا. وإنما العجب كون مالك رحمه الله جعله كالفائدة بالإضافة إلى العبد إن أعتق، وبالإضافة إلى السيد إذا انتزعه، ومثل هذا لا يعقل في [المُلاك والمملوكات] (¬4)، وهذا مما نستجير بالله فيه. وربما تكون العودة إلى هذه المسألة بأوضح من هذا في "كتاب المأذون له في التجارة" إن أمد الله في الأجل، ومتعنا ومَنَّ علينا ببلوغ الأمل، إنه أكرم مسؤول، وأَنْعَمَ مأمول، وهو حسبي ونعم الوكيل [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في ب: مائة. (¬2) في أ: يزكي. (¬3) في أ: كمن ملك. (¬4) في ب: المالك والمملوك. (¬5) زيادة من جـ.

المسألة السابعة في العروض المشتراة [للتجارة]، هل فيها الزكاة أم لا؟

المسألة السابعة في العروض المشتراة [للتجارة] (¬1)، هل فيها الزكاة أم لا؟ ولا تخلو نية المشتري لتلك العروض من خمسة أوجه: أحدها: أن يشتري للقنية. الثاني: أن يشتري للتجارة. الثالث: أن يشتري للإجارة. الرابع: أن يشتري للقنية وللإجارة. الخامس: أن يشتري للتجارة وللاستمتاع. فالجواب عن [الوجه] (¬2) الأول: إذا اشتراها للقنية: فهذا لا زكاة [عليه] (¬3) في عينها, ولا في ثمنها، إن بِيعَت بنصاب من العين حتى يحول عليها الحول من يوم باع وقبض الثمن. أما نفي الزكاة من [عين] (¬4) العروض المشتراة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" (¬5). وهذا الحديث اجتمع عليه الموطأ، والبخاري، ومسلم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: السؤال. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: يوم. (¬5) أخرجه البخاري (1394)، (1395)، ومسلم (982)، ومالك (612) من حديث أبي هريرة.

وأما ثمنهم: فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس في المال المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول" (¬1). ولا خلاف عندنا في المذهب في هذا الوجه. والجواب عن الوجه الثاني: إذا اشتراها للإجارة؛ مثل أن يشتري دارًا للكراء، أو عبدًا للغَلَّة، ثم باع بعد عام، أو أعوام هل يزكي الآن، أو يستقبل حولًا؟ [قولان عن مالك] (¬2): أحدهما: أنه يزكي الآن، وبه أخذ ابن نافع. والثاني: أنه [يستقبل] (¬3) الحول كالفائدة، وبه أخذ ابن القاسم. واختلف أيضًا في غلة ما اشترى للكراء، هل يستقبل بها حولًا، أو يبنى على حول العين الذي اشترى [به] (¬4)؟ على قولين؛ قياسًا على غلة ما اشترى للتجارة، وقد اختلف فيها قول مالك على قولين، نقلهما اللخمي وغيره عن مالك. وسبب الخلاف: المشرى للاستغلال، هل هو كالمشتري للتجارة أم لا؟ فمن ساوى بينهما: قال بوجوب الزكاة على حول الأصل، وهو الأظهر؛ لأن طلب الأرباح لا فرق بين أن يكون [باستبدال] (¬5) الأعيان، أو [باستبدال] (¬6) المنافع. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (632) من حديث ابن عمر موقوفا. قال الترمذي: هذا أصح من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وروى أيوب وعبيد الله بن عمر وغير واحد عن نافع عن ابن عمر موقوفًا، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف في الحديث، ضعفه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وهو كثير الغلط. (¬2) في ب: فالمذهب على قولين. (¬3) في ب: يستأنف. (¬4) في أ: بها. (¬5) في جـ: باستدلال. (¬6) في جـ: باستدلال.

ومَنْ فَرَّقَ بينهما: قال باستقبال [الحول] (¬1) كالفوائد. والجواب عن الوجه الثالث: إذا اشتراها للإجارة، وللقنية؛ مئل أن يشتري سلعة يستخدمها لنفسه، ويستأجرها لغيره, فهل يختلف باختلاف قصده ومراده أم لا؟ فإن كان [القصد] (¬2) الباعث على الشراء الاستخدام والاستمتاع، فلولا ذلك لم يشتر، فإن [اتفق] (¬3) [فيما بين] (¬4) ذلك إجارته أو كراه: كان الحكم للقنية. وإن كان القصد في الشراء لأجل الإجارة، ولولاه ما اشترى، فإن احتاج أهله إلى الاستمتاع والاستخدام فيما بين ذلك كان الحكم للإجارة وهذا بَيِّن. والجواب عن الوجه الرابع: إذا اشترى للتجارة: فلا يخلو الشيء المشترى من وجهين: أحدهما: أن يكون الشيء المشترى مما يزكى عينه كل عالم؛ كالأنعام إذا كانت نصابًا. والثاني: أن يكون مما لا يزكي عينه كل عام كالعروض، أو ما يزكى عينه مرة واحدة كالحبوب، والثمار. فإن كان مما يزكى عينه كل عام؛ كالإبل، والبقر، والغنم، وكانت نصابًا: فإن فيها زكاة الرِّقَاب. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: المقاصد. (¬3) في جـ: احتاج. (¬4) في ب: خلال.

فإذا باعها التاجر، فينظر؛ فإن باعها بعدما زكى رقابها: فإنه يبنى حولها على حول الماشية، فإن باعها قبل أن يزكى رقابها، فإنه يبنى [حولها] (¬1) على حول العين الذي اشتراها به. ولا فرق في ذلك بين المدير وغير المدير. فإن كان مما لا يزكى عينه؛ كالعروض: فهذا لا يخلو التاجر المشترى من أن يكون مديرًا، أو غير مدير. فإن كان مديرًا: فلا يخلو من أن يكون ممن يبيع العروض بالعروض؛ أو ممن يبيع بالعروض وبالعين. فإن كان ممن يبيع العروض بالعروض: فلا يخلو من أن يجعل ذلك ذريعة إلى إسقاط الزكاة عن نفسه أم لا، فإن فعل ذلك فرارًا من الزكاة: فإن ذلك لا يجوز له باتفاق المذهب، ويؤاخذ بزكاة ما عنده من المال. فإن فعل ذلك قصدًا في الاستغزار في الأرباح وطلبًا للإكثار: [ورأى أن] (¬2) ذلك أشد تأتيًا وآكد تمكنًا، فهل يجعل لنفسه شهرًا يُقَوِّمُ فيه ما عنده من العروض؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا تقويم عليه حتى يبيع بالعين، ويبقى له في السَّنَة، ولو درهم واحد. وهو قول ابن القاسم في المدونة، وهو المشهور. والثاني: أنه يُقَوِّم ويزكي. [وهي رواية] (¬3) مُطَرِّف، وابن الماجشون عن مالك رحمه الله. وسبب الخلاف: هل الاعتبار بوجود التنمية بحركة المال، فوجب أن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: ويؤخذ زكاة. (¬3) في أ: وهو قول.

يزكي؛ لأن الزكاة إنما وجبت في الأموال المتخذة للنماء، أو المعتبر بوجود العين، فإذا وجد معه العين وجبت الزكاة إن كان دون النصاب؛ لأنه يُتَّهَم أن يقصد إلى إسقاط الزكاة عن نفسه لقدرته على البيع [بالعين] (¬1) فإذا لم يبع بالعين، بل عادته إيلاج العروض. في العروض: قلنا: لا زكاة عليه؛ لقوله عليه السلام: "وليس في العروض شيء حتى يصير عينًا" (¬2). فإن كان ممن يبيع بالعروض، والعين غير أنه لا يكاد يجتمع النصاب في يديه، ولا يقدر على ضبط الأحوال: فهذا يجعل لنفسه شهرًا يُقَوِّمُ فيه ما عنده من العروض، فيزكي ماله، ثم ينظر فإن بقى في يديه ما نض له في سنته من العين أخرجه في الزكاة إن كان فيه ما بقى بما وجب عليه. وإن أنفقه أو صرفه في السِّلَع، هل يبيع من عروضه ويؤدي الزكاة، أو أنه يخرج عرضًا بقيمته؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يبيع من عروضه، ويدفع الثمن للمساكين، وهو قول سحنون. والثاني: أنه يخرج عرضًا بقيمته إن شاء، ويدفعه إلى أهل الزكاة، وهي رواية ابن نافع عن مالك. والقولان في النوادر (¬3): ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/ 406)، والبيهقي في الكبرى (7394) من حديث ابن عمر موقوفًا. وصححه البيهقي في الكبرى (4/ 147)، وابن حزم في المحلى (5/ 234)، والشيخ الألباني في تمام المنة. (¬3) انظر: النوادر (2/ 120، 121).

ولا اعتبار بما نض للمدير من العين في سنته، هل هو نصاب أم لا؟ وقد قال في "المدونة" (¬1): "ولو درهم [واحد] (¬2) "، ولا يعتبر بقاؤه في يديه إلى حين التقويم. وإذا بارت عليه عروضه، ولم يبع منها شيئًا: فلا خلاف في المذهب أنه لا تقويم عليه. وإن بار بعضها، وأسواق بعضها قائمة، فإن كان البائر أكثر: فالأقل تبع للأكثر، ثم لا تقويم، وإن بار الأقل، هل يُقَوِّم أولًا؟ قولان: أحدهما: أنه يقَوِّم [وهو قول ابن القاسم] (¬3). والثاني: أنه لا يُقَوِّم ما بار، وهو قول ابن نافع. وسبب الخلاف: الأتباع هل تراعى أو لا تراعى. وأما ديونه: فلا تخلو من أن تكون من قرض، أو من بيع. فإن كانت عن قرض، فهل يزكيها المدير أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" (¬4): أحدهما: أنه لا يزكيها حتى يقبضها، وهو قول ابن حبيب. ووجهه: أنه مال خرج به عن الإجارة، وحبس عن التنمية، فلا زكاة عليه فيه. والثاني: أنه يزكيه، وهو ظاهر قول ابن القاسم: إذا كان العرض أقل ماله. ¬

_ (¬1) في ب: الكتاب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: المدونة (2/ 256).

ووجهه: ما قدمناه أن الأقل تبع للأكثر. وقد حكى القاضي أبو الوليد الباجي الإجماع في المذهب في هذه المسألة [وغيره] (¬1) حكى فيها الخلاف مثل أبي الحسن اللخمي وغيره. فإن كان ذلك الدَّين من بيع: فلا يخلو من أن يكون على مَلِيّ، أو [على] (¬2) مُعْدَم. فإن كان على مُعْدمَ: فلا يزكيه باتفاق؛ لأنه ثاوٍ (¬3)، والثاوي لا قيمة له. وإن كان على مَلِيٍّ، فهل يزكيه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يزكيه حتى يقبضه، ثم يزكيه لعام واحد، وهو قول المغيرة والمخزومي. والثاني: أنه يزكيه، وهو المشهور. وعلى القول بأنه يزكيه، فهل يزكي عدده أو قيمته؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال [كلها قائمة من المدونة] (¬4): ¬

_ (¬1) في الأصل: وغيرها. (¬2) سقط من أ. (¬3) ثاوٍ: مقيم. قال ذو الرمة: لقد كان في حول ثواء ثويته ... نقضي لبانات ويسأم سائم وقال العجاج: فبات حيث يدخل الثوى وقال آخر: طال الثواء على رسول المنزل (¬4) سقط من أ.

أحدها: أنه يزكي عدده جملة، سواء كان حالًا أو مؤجلًا، وهو قوله في "المدونة" (¬1) فيمن له مائة دينار، وعليه مائة دينار دين، وبيده مائة: قال: فإنه يزكيها, وليجعل ما عليه من الدَّين فيما له [من دين] (¬2). والظاهر أنه يجعل المائة فيما له، ويزكي المائة التي بيده، ونحوه في كتاب محمَّد. والثاني: أنه يزكي قيمته جملة، [سواء] (¬3) كان حالًا، أو مؤجلًا، وهو ظاهر "المدونة"؛ لقوله: "فيها حكم الدَّين حكم العروض"، وقوله أيضًا: "ويُقَوِّمُ ما يرى حجبه" ولم يفصل بين المُعَجَّل والمُؤَجَّل، وعلى هذا اختصر أكثر المختصرين. والثالث: التفرقة بين المُؤَجَّل والمُعَجَّل. فإن كان مُعَجَّلًا: زكى عدده. وإن كان مُؤَجَّلًا: زكى قيمته. وهو ظاهر "المدونة" (¬4)؛ لأنه قال في موضع: "يزكي دينه"، وفي موضع: "يزكي قيمته"، وهو [نص] (¬5) قول ابن القاسم في غير "المدونة" [مثل قوله] (¬6) في "الموازية" وغيرها. ولم يختلفوا في الدين الذي عليه أنه يحسب عدده، ولا يُقَوِّمه، فانظر ما الفرق بينهما. ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 273). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: المدونة (2/ 254). (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

وسبب الخلاف: اعتبار الحال والمآل. ومن اعتبر الحال قال: يزكي [القيمة] (¬1) لأنها المقدور عليها الآن بالبيع إن شاء والعدد، فقد لا [يتيسر] (¬2) له قبضه متى شاء. ولو كان قبضه على الحلول، [وهو] (¬3) مُوسر أعني الذي عليه [الدين] (¬4)، وليس على بصيرة في قبضه مهما أحب على كل حال. فإن صح ذلك [عنده] (¬5)، والحالة هذه كانت القيمة متحققة والعدد مظنون. ومن اعتبر المآل: قال يزكي العدد؛ لأنه هو المملوك؛ إذ هو قادر على قبضه في الحال إن كان الدين حالًا، وإن كان إلى أجل كذلك أيضًا لا تخشى فيه حوالة الأسواق، بخلاف العروض التي قد تختلف أثمانها عند الحلول، والدين لا تختلف أعداده قبل الحلول وبعده. ومن فصل فقد حصَّل، وهو أقوم قيلًا، وأهدى إلى الحق سبيلًا. واختلف فيما إذا مضى له [حول] (¬6)، وجاء الشهر الذي يقوم فيه، ولم ينض له فيه، ولو درهم واحد، ثم نص له بعد ذلك، هل يزكي حينئذ، أو يستقبل [به] (¬7) حولًا؟ على ثلاثة أقوال (¬8): ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: يتصور. (¬3) في ب: والذي عليه الدين. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: أحوال. (¬7) سقط من أ. (¬8) انظر: المدونة (2/ 255).

أحدها: أنه يزكي ساعتئذ، ويكون حوله من يومئذ, وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه لا يزكي حتى يحول عليه الحول من يوم نض له، وهو قول أشهب. ووجهه: أن الحول الأول قد انتقض، وترك فيحتاج إلى الابتداء. والثالث: أنه لا يزكي الآن، و [لكن] (¬1) يحصى كل ما باع به من العين، فإذا تم عشرين دينارًا أو مائتي درهم فليترك، ثم يزكي كل ما ينض بعدها، وإن قلَّ، ولا تقويم عليه، وهو قول ابن نافع. وهذا القول عموم في المدير أنه لا يقوم، [قال: وأحسبه، ولكن يحصي ما ينض له، والله أعلم] (¬2). ولا [يترك] (¬3) ما نض له حتى يستكمل النصاب كاقتضاء الديون، وهذا قول قياسي، وهو قياس صحيح؛ لوجود التهمة في الموضعين، ولكنه خلاف لقول عمر رضي الله عنه حين أمر [نخاسا] (¬4) [بتقويم ما عنده] (¬5) من العروض وهو قول الإِمام الصحابي. وهذا كله إذا كان يدير جميع ماله. وأما إذا كان يدير بعض ماله دون بعض: فلا يخلو المدار وغير المدار من أن يكون على جزأين متساويين كالنصف والنصف، أو على جزأين متفاضلين. ¬

_ (¬1) في أ: لا. (¬2) سقط من جـ. (¬3) في أ: يضم. (¬4) سقط من أ. وهكذا رسمها في ب، جـ. (¬5) في أ: بالتقويم.

فإن كان على جزئين متماثلين: زكى كل مال على سنته، فإن كان أحدهما أكثر من الآخر: فعلى قولين: أحدهما: أن الأقل تبع للأكثر؛ يزكي على حوله وسنته، كان الأكثر هو المدار، أو غيره. والثاني: التفصيل بين كون المدار هو الأكثر: فيزكي معه الأقل زكاة واحدة. وإن كان المدار هو الأقل، وغير المدار هو الأكثر زكى كل مال على سنته. قال الشيخ أبو القاسم بن محرز: والقياس عندي أن يزكي كل مال على حوله، ولا يكون الأقل تبعًا للأكثر إلا أن يشق عليه ضبط ذلك، ويصعب عليه حفظه، فيجعل الأقل تبعًا للأكثر حينئذ. وهذا الخلاف الذي حكيناه يتخرج على اختلاف قول مالك في الحائط فيما إذا سقى في بعض السنة بالنضح، وبعضها بالبَعْل (¬1)، هل يكون الأقل تبعًا للأكثر أم لا؟ وأما الوجه الثاني في التاجر غير المدير: إذا كان التاجر [غير المدير] (¬2) يشتري نوعًا من التجارة يرتصد به الأسواق مثل الحنطة يشتريها في زمان الحصاد، فإذا قامت أسواقها باعها مرة واحدة: فهذا لا زكاة عليه، ولا تقويم حتى يبيع، فإذا باع زكى الثمن على حول الأصل، ولا يستأنف الحول. ¬

_ (¬1) البَعْل: العذي، وهو ما سقته السماء. قال الأصمعي: العذي ما سقته السماء، والبعل ما شرب بعروقه من غير سقي ولا سماء. مختار الصحاح (24). (¬2) سقط من أ.

فرع عن المسألة

فإن بارت عليه السلع [التي] (¬1) اشتراها أعوامًا: فلا يزكي إذا باعها إلا زكاة واحدة. واختلف فيما إذا اشترى سلعة للتجارة، ثم نوى به القنية، هل ينتقل بالنية أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: [أنه] (¬2) ينتقل عن التجارة إلى القنية بالنية، ولا ينتقل عن القنية إلى التجارة بالنية. وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا ينتقل عن التجارة إلى القنية بالنية، وأنه على أصل التجارة، فإذا باع بنصاب زكى على حول الأصل، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: التجارة هل هي أصل في نفسها كما أن القنية أصل، ثم لا يحول واحد منهما عن أصله كما يقول أشهب؟ أو القنية أصل، والتجارة فرع؛ فيحول الفرع بالنية، ولا يحول الأصل إلا بالفعل مع النية، كما يقوله ابن القاسم؟ فرع عن المسألة وإذا اكترى أرضًا للتجارة [واشترى زروعها للتجارة] (¬3) وزرعها للتجارة، فإذا وقع الحب وفيه خمسة أوسق فصاعدًا: فإنه يزكي زكاة حب الزرع، ثم إذا باع الحب بنصاب من العين، هل يستقبل الحول من يوم باع، أو يبنى على حول الزرع من يوم زكاه؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) في أ: الذي. (¬2) في أ: أنها. (¬3) سقط من أ.

أحدهما: أنه يزكى على حول الزرع. وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه فائدة، ويستقبل بالثمن حولًا. وهو قول أشهب في "المجموعة" -مديرًا كان أو غيره- وهذا منه بناءً على أصله في غلة ما اكترى للتجارة. وإن كان القاضي أبو الوليد الباجي حكى في هذه المسألة إجماع المذهب: إذا اجتمعت [الوجوه] (¬1) الثلاثة اكترى [الأرض] (¬2) للتجارة، واشترى الزرع للتجارة، وزرعه للتجارة. والخلاف [فيها] (¬3) كما ترى، ولعله لم يبلغه قول أشهب، والله أعلم. والمسألة على أربعة أوجه: أحدها: هذا الذي قدمناه. والثاني: أن يكتري [الأرض] (¬4) للتجارة، وزرعها [بطعامه] (¬5) للتجارة، أو اكترى الأرض للتجارة، وزرعها بطعامه، أو كانت الأرض [له] (¬6) واشترى القمح وزرعها للتجارة. وأما إذا اكترى أرضًا للتجارة وزرعها بطعام من عنده للتجارة، فعلى قولين متأولين على "المدونة": ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

أحدهما: أنه فائدة، ويستقبل بالثمن حولًا من يوم باع. وهو نص المدونة على رواية الباء: "وزرعها بطعامه". والثاني: أن له حكم التجارة، ويزكي على حول الزرع. وهو ظاهر المدونة على رواية اللام: "وزرعها لطعامه" -يريد لقوته-[بدليل قوله] (¬1) فرفع طعامه، فأكل منه وفضلت [فضلة] (¬2) فباعها. وظاهره أنه لو زرعها بطعامه للتجارة لكان [الحكم للتجارة] (¬3)؛ لأن الحب الذي أخرجه من عنده هو مستهلك في تجاويف الأرض غير مراع، وإلى هذا ذهب إبراهيم بن باز الأندلسي وغيره، وذهب غيره إلى أنه متى كان الزرع من عنده فهو للقنية. والوجه الثالث: إذا اكترى الأرض للتجارة، وزرعها لطعامه، فهذا لا خلاف فيه أنها فائدة يستقبل بها الحول. والوجه الرابع: إذا كانت الأرض من عنده، واشترى الزرع للتجارة وزرعها للتجارة، فهل هي فائدة أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: من "كتاب الشركة": أنه فائدة، وهو نص المذهب. والثاني: أنه للتجارة، وينبني [الخلاف] (¬4) فيه على الخلاف في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: حكم التجارة. (¬4) سقط من أ.

الشركة، هل يكون الزرع فيها رأس المال [والأرض والعمل تبع له أو الأرض رأس المال] (¬1) والبذر والعمل تبع له؟ والجواب عن الوجه الخامس: أن يشتري للتجارة والاستمتاع: فذلك لا يخرج الشيء المشترى من أصل التجارة، وكل من اشترى للتجارة، فكذلك [يشتغل] (¬2) ويستخدم حتى يجد سوقًا يسره فيبيع، وذلك [لا يؤثر] (¬3) في أصل التجارة [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يفعل. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من جـ.

المسألة الثامنة في زكاة الدين

المسألة الثامنة في زكاة الدَّيْن والدين في الزكاة ينقسم على أربعة أقسام: دين من تجارة، ودين من قرض، ودين من فائدة، ودين من غصب. فأما دين التجارة: فقد تقدم الكلام عليه في المسألة التي قدمنا قبل هذه. وأما دين القرض: فقد تقدم الكلام فيه أيضًا [في المدير] (¬1)، هل يقومه أم لا؟ وأما غير المدير، فإنه يزكيه إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من السنين. وأما دين الغصب: إذا غصب منه [نصابًا أو] (¬2) أكثر من العين فرد إليه بعد أعوام كيف يزكيه؟ فنقول: أما ما كان قبل أن يرد إليه: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب نصًا أنه لا شىء عليه [فيه] (¬3). واختلف فيما إذا رد إليه بعد أعوام هل يزكيه الآن، أو يستقبل به الحول؟ فالمذهب على قولين (¬4): أحدهما: أنه يزكيه الآن زكاة واحدة. وهو قول ابن القاسم [في المدونة] (¬5)، ووافقه أشهب، وأكثر ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: المدونة (2/ 338). (¬5) سقط من أ.

[الأصحاب] (¬1)، وهو قول مالك أيضًا. والثاني: أنه يستقبل به حولًا من يوم قبضه، سواء رد إليه بحكم أو طوع. وهو قول حكاه ابن حبيب عن مالك، قال: [وهو] (¬2) بخلاف الدين. وما رواه مالك في "موطئه" (¬3) عن عمر بن عبد العزيز في مال قبضه بعض الولاة ظلمًا؛ أنه كتب إلى عماله أن يزكيه لما مضى من السنين. لم يأخذ به مالك، وإن كان عمر قد تعقب ذلك بكتاب يناقضه، وهو الذي أخذ به مالك. ووجه القول الأول أنه يزكي زكاة واحدة؛ قياسًا على الدين؛ لأنه مال محبوس عن التنمية فأشبه الدين، ولاسيما أن هذا [محبوس] (¬4) عنه بغير اختياره، وإيثاره، فأشبه مالًا وقع منه، ثم وجده بعد أعوام. ووجه القول الثاني: أنه يستقبل به حولًا؛ لأنه مال محبوس عنه، وعن التنمية بغير اختياره، وحيز عنه على معنى الاستيلاء والقهر، فيستقبل به الحول؛ قياسًا على ما فاته من المال، غير أن هذا القياس ضعيف؛ لضعف القول في نفسه. ولو قيل: إن الغصب ينقل الملك لكان [هذا] (¬5) القياس صحيحًا، ولا أعلم في هذا المذهب من يقول ذلك، ويذهب إلى أن الغصب ينقل ¬

_ (¬1) في الأصل: صاحب. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه مالك في "كتاب الزكاة"، باب: الزكاة في الدين: بلاغًا. (¬4) في جـ: منزوٍ. (¬5) سقط من أ.

ملك المالك، وقد سمعت بعض متفقهة هذا الزمان يعلل بذلك، ولا أدري من أين أخذوه، ولا كيف استجازوه، فالله تعالى يلهمنا رشدنا، ويعصمنا بفضله. وقد اختلف ابن القاسم وأشهب في الماشية المغصوبة إذا ردت إليه بعد أعوام؛ فقال ابن القاسم: "لا يزكيها إلا لعام واحد" (¬1) كالعين، ولم يفصل. وأشهب فَصَّلَ بين أن تكون السعاة تركتها عند الغاصب، فيكون كما قال ابن القاسم [وإلا] (¬2) أدى عنها كل عام على ما يوجد عنده. وهذا الذي قاله أشهب شبيه أن يكون تفسير قول ابن القاسم، وإلا كان ذلك اضطرابًا من قول ابن القاسم؛ لما قدمناه في العين أنه مال محبوس عن التنمية، والماشية تنمو بنفسها فيكون الحكم فيها على خلاف العين، والله أعلم. وأما الوجه الرابع: إذا كان الدين من فائدة: فإنه ينقسم إلى أربعة أقسام: أحدها: أن يكون من ميراث أو عطية، أو مهر امرأة، أو ما أشبه ذلك. والثاني: أن يكون من ثمن عرض أفاده بوجه من وجوه الفائدة. والثالث: أن يكون ذلك الدين من ثمن عرض اشتراه بناض عنده للقنية. والرابع: أن يكون الدين من كراء أو إجارة. ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 338). (¬2) سقط من أ.

فالجواب عن القسم الأول: إذا كان من فائدة ميراث أو عطية، أو غيرها: فهذا لا زكاة فيه [حال أو مؤجل] (¬1) حتى يقبضه، ويحول عليه الحول بعد القبض إذا لم يكن عليه هو دين. وإن تركه أعوامًا [فرارًا] (¬2) من الزكاة: فلابد من استئناف الحول. والجواب عن القسم الثاني: إذا كان من ثمن عرض أفاده بوجه من وجوه الفائدة: فهذا لا زكاة عليه [أيضًا] (¬3) حتى يقبض ويحول عليه الحول بعد القبض، وسواء باعه بنقد أو بالتأخير. وقال عبد الملك، والمغيرة (¬4): إن باعه على الحول فإنه يستقبل به حولًا بعد القبض، وإن باع إلى أجل، فإذا قبضه فإنه يزكيه الآن زكاة واحدة. وإن ترك قبضه فرارًا من الزكاة، فهل يزكي لما مضى من السنين أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يزكي إلا زكاة واحدة. وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يزكي لما مضى من السنين، وهو قول عبد الملك والمغيرة. وسبب الخلاف: هل تلحقه التهمة في التأخير مع القدرة على قبضه أم لا؟ ¬

_ (¬1) في ب: كان حالًا أو مؤجلًا. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: النوادر (2/ 148: 150).

والجواب عن القسم الثالث: إذا كان الدين من ثمن عرض اشتراه بناض عنده للقنية [ثم باعه] (¬1)، فهذا إن [باع] (¬2) بنقد: لم تجب الزكاة حتى يقبضه، ويحول عليه الحول من بعد القبض. وإن باعه بتأخير ثم قبضه بعد حول: زكاه ساعة قبضه. وإن ترك قبضه فرارًا من الزكاة زكى لما مضى من الأعوام، ولا خلاف في هذا الوجه. والجواب عن القسم الرابع: إذا كان الدين من كراء، أو إجارة، فهذا إن قبضه بعد [استيفاء] (¬3) العمل كان الحكم فيه كما تقدم في القسم الثاني. وإن قبضه قبل استيفاء [العمل] (¬4) مثل أن يؤاجر نفسه ثلاثة أعوام بستين دينارًا، فقبضها معجلا فهل يزكي إذا حال [عليها] (¬5) الحول من يديه [أم لا] (¬6)؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يزكي بعد الحول عشرين دينارًا، وهو القدر الذي استحقه، واستقر له في السنة الأولى؛ لأنها مكثت في يديه [حولًا] (¬7) من يوم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: كان. (¬3) في أ: استيعاب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: عليه. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

قبضها ثم يزكي بعد ذلك قدر ما ينوب [كل] (¬1) ما مضى من المدة، وهو قول الغير في المدونة في مسألة هبة الدين، وهو ظاهر سماع سحنون عن ابن القاسم. والثاني: أنه يزكي للحول الأول تسعة وثلاثين دينارًا ونصف دينار. وهو قول ابن المواز، ووجهه: أنه إذا مضى الحول فقد ملك العشرين من الستين ملكًا تامًا وتبين أنه لم يزل مالكًا لها من يوم قبضها, فلذلك يزكيها، والعشرون التي هي أجرة السنة الثانية، فقد حال عليها الحول، وهي في يديه، إلا أنه لم يؤد عوضها من المنافع، والمنافع عليه دين، فوجب أن يجعل ذلك الدين في العشرين دينارًا التي هي للعام الأول، غير أنها نقصت نصف دينار الذي أداه في الزكاة فيكمل من أجرة العام الثاني؛ فيبقى منها تسعة عشر ونصف فيزكيها. وهو [وجه] (¬2) قول ابن المواز ومعناه، وهو ظاهر إن شاء الله. والثالث: أنه لا زكاة عليه في شيء من السنين حتى يمضي العام الثاني، فإذا مضى فإنه يزكي عشرين؛ لأن ما ينوبها من العمل دين عليه فلا يسقط إلا بمرور الحول شيئًا بعد شيء؛ فوجب استئناف الحول [بها] (¬3) من يوم تم ملكها له، وهذا هو المشهور، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬4) في مسألة: هبة الدين [والله أعلم والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: على. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: المدونة (2/ 267). (¬5) زيادة من جـ.

المسألة التاسعة في زكاة المديان

المسألة التاسعة في زكاة المديان (¬1) إذا كان عنده نصاب من العين، وعليه من الدين ما يستغرق ما عنده من العين، أو ينقصه عن النصاب، فلا يخلو ذلك الدين من أن يكون متعلقًا بالمال دون الذمة، أو بهما معًا. فإن كان تعليقه بالمال دون الذمة: فلا يخلو من أن يكون ذلك بعوض كنفقة الزوجة، أو بغير عوض كنفقة الولد والوالدين. فإن كان ذلك بعوض كنفقة الزوجة: فإنها تسقط الزكاة -كانت بفرض، أو بغير فرض- إلا أن يكون عنده عرض يساوي ذلك القدر. فإن كان بغير عوض كنفقة الوالدين: فلا يخلو من أن يكون ذلك قبل الابتغاء أو بعده. فإن كان ذلك قبل الابتغاء: فليس ذلك بدين يسقط الزكاة. وإن كان ذلك بعد الابتغاء، وفرض لهم القاضي قدرًا معلومًا، وأخذاه [من] (¬2) ساعتهما: فذلك يسقط عنه الزكاة. وإن فرض [لهما] (¬3) القاضي قدرًا [وتركاه] (¬4) شهرًا فقد قال في الكتاب: إذا حال الحول، وهي عليه، ولم يأخذاها منه لم تسقط عنه الزكاة بذلك. ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 272). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: لهم. (¬4) في أ: وتركوه.

واختلف المتأخرون في تأويله؛ فبعضهم يقول: إن ذلك اختلاف من القول؛ فإن نفقتهم تجب بالابتغاء والفرض، فإذا وجدا فهو دين أخذاها أو أخراها، وهو ظاهر قوله في "الكتاب" [فلا تجب حتى يبتغياها] (¬1)، وهو قول محمَّد في "كتابه" فيتخرج لابن القاسم [في] (¬2) "الكتاب" على هذا التأويل في نفقة الأبوين قولان، وبعضهم يقول: معنى ذلك [أنهما] (¬3) قد تركاها [وأنفقا] (¬4) من عند أنفسهما [بإجارة] (¬5) أو أجرًا أنفسهما في العمل واحترفا بسؤال أو بحيلة حتى أنفقا على أنفسهما، فلذلك قال: يزكي. وأما لو تسلفا أو استدانا دينًا على ذلك القدر الذي فرض لهما القاضي لسقطت به الزكاة إذا لم يكن الوفاء به عنده إلا من النصاب الذي عنده، وهو تأويل الشيخين أبي محمَّد بن أبي زيد، وأبي عمران الفاسي (¬6). فعلى هذا التأويل يرجع ما وقع في "الكتاب" لاختلاف حال ليس باختلاف يرجع إلى فقه. وأما الولد فهل هو كالزوجة أو كالأبوين؟ قولان (¬7): أحدهما: أن الولد كالزوجة، وهو قول أشهب (¬8). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: من. (¬3) في أ: أنهم. (¬4) في أ: وأنفقوا. (¬5) سقط من أ. (¬6) انظر: المدونة (2/ 276)، والنوادر (2/ 156). (¬7) انظر: النوادر (2/ 156). (¬8) قال أبو محمَّد بن أبي زيد: وبه أقول.

والثاني: أن [الولد] (¬1) كالأبوين، وهو قول ابن القاسم (¬2). فظاهر "الكتاب" أن قول أشهب خلاف لقول ابن القاسم، ويحتمل أن يكون اختلاف حال؛ وذلك أن ابن القاسم تكلم في نفقة الولد إذا سقطت ثم عادت فيفتقر الوجوب إلى الابتغاء والقضاء. ويكون أشهب تكلم فيما إذا اتصلت نفقته ولم تسقط فيكون كل واحد منهما تكلم على ما لم يتكلم عليه الآخر، وأبو إسحاق التونسي يشير إلى مثل هذا، والله أعلم. وهذا من الدين الذي تعلق بالمال دون الذمة؛ لأنه إنما يطالب به في اليسر دون العسر. وأما الدين المتعلق بالذمة: فلا يخلو من أن يكون عنده من العروض ما يفي به أم لا. فإن كان عنده من العروض ما يفي بما عليه من الدين هل يقابله بها، ويزكي أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه يجعل دينه فيما عنده من العروض. ثم يزكي عينه، وسواء كان ذلك الدين دين زكاة أم لا، وهو ظاهر "المدونة" في باب زكاة المديان، ونص لابن القاسم أو لأشهب في أول "كتاب الزكاة الأول" فيما إذا حال الحول عنده على عشرين دينارًا، فلم يخرج زكاتها حتى ¬

_ (¬1) في أ: الابن. (¬2) قال أبو محمَّد بن أبي زيد: وفي المدونة في الأبوين خلاف هذا عن ابن القاسم. وفي رواية ابن حبيب عن أشهب أن نفقة الوالد كالوالدين، لا تسقط بها الزكاة إلا أن يكون يقضيه. النوادر (2/ 156).

اشترى بها سلعة ثم باعها بأربعين. والثاني: أن الدين مسقط لزكاة العين علي كال حال، سواء كان عنده عرض أم لا. ولا فرق بين دين الزكاة وغيره من الديون. وهو قول محمَّد بن الحكم -من أصحاب مالك- وهو مذهب الليث ابن سعد، وهو ظاهر قول عثمان بن عفان رضي الله عنه في "المدونة". والثالث: التفصيل بين دين الزكاة وغيره من الديون؛ فدين الزكاة لا يجعل إلا في العين، وغيره يجعل في العروض، وهو نص قول ابن القاسم في غير "المدونة"، وهو ظاهر قوله في "المدونة" في باب زكاة المديان، وفي "باب زكاة [مال] (¬1) القراض" على ما بيناه قبل هذا. وسبب الخلاف: هل يجوز قياس العين علي الماشية، والثمار، والحبوب أم لا؟ فمن جوز القياس، قال: الدين غير مسقط لزكاة العين. ومن منع القياس: قال بالإسقاط. ومن فرق فقد تردد. وعلى القول بأنه يجعل دينه في عروضه، ثم يزكي عينه -وهو المشهور- فإنه يجعل ذلك في كل ما يباع عليه في التفليس إذا قام [عليه] (¬2) غرماؤه. واختلف في المدبر على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) في جـ: أصل. (¬2) سقط من أ.

أحدها: أنه يجعل دينه في قيمة رقبته. وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يجعل ذلك في خدمته على غررها؛ لأنها التي يملكها الآن. وهو ظاهر قول أشهب في [العتق] (¬1) إلى أجل (¬2). والثالث: أنه لا يجعله في رقبته، ولا في خدمته، وهو قول سحنون. وينبني الخلاف: على الخلاف في المدبر، هل يجوز بيعه في حياة سيده أم لا؟ فمن اعتبر قول من قال بجواز بيعه: جعل الدين في رقبته. ومن لم يعتبره: قال: لا يجعل في الرقبة، ولا في الخدمة، وهو أقوى الأقوال. ومن قال: يجعل في الذمة قياسًا على المعتق إلى أجل: فأضعفها. واختلف أيضًا في المكاتب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يحسب قيمة الكتابة في الدين الذي عليه، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يجعله في قيمة المكاتب بقدر ما عليه، وهو قول أشهب. والثالث: أنه يجعله في قيمته على أنه عبد، وهو قول أصبغ. ¬

_ (¬1) في ب: المعتوق. (¬2) انظر: النوادر (2/ 158).

وسبب الخلاف: [هل] (¬1) النظر إلى الحال، أو إلى المآل. فمن اعتبر الحال: قال: يجعل دينه في قيمة الكتابة؛ لأنها التي يملكها الآن؛ إذ له أن يبيعها [ويتعجل ثمنها] (¬2). ومن اعتبر المآل: قال: قد يعجز، ويرجع رقيقًا، فيحكم للحال يحكم المآل، فرأى أن الدين يكون في رقبته على أنه عبد. وأما [قول] (¬3) أشهب الذي يجعل ذلك في قيمة المكاتب بقدر ما عليه: فقد جمع بين القولين الأول والثاني، وهو أضعفهما. وأما الدين الذي له على الناس، هل يجعل الدين الذي عليه في عدده، أو في قيمته، أو يفصل بين الآجل والعاجل، فقد أتقناه [في مسألة المدبر] (¬4) إتقان من طب لمن حَبَّ فلا نعيده مرة أخرى. واختلف في العروض التي يجعل فيها الدين الذي عليه، هل من شرطه أن يحول عليه الحول [وهو في ملكه] (¬5) أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يشترط فيه أن يحول عليه الحول وهو في ملكه، وهو قول ابن القاسم. والثاني: [أنه] (¬6) لا يشترط فيه إلا الملك خاصة، وإن أفاده [في] (¬7) آخر الحول أو بعده، فإنه يزكي ساعتئذ ولا يستقبل به حولًا، وهو قول ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ويجعل ثمنها في الدين. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: من.

أشهب، وأكثر أصحاب ابن القاسم. وهكذا اختلفوا فيما إذا كانت عنده مائة ناقة، وعليه مائة دين، فوهب له الطالب المائة الدين التي عليه بعد الحول، فهل يزكي المائة التي عنده الآن، أو يستقبل بها حولًا؟ فعلى قولين منصوصين في "المدونة" في كتاب الزكاة الأول: أحدهما: أنه يستقبل بها حولًا من يوم وهبت [له] (¬1) مائة الدين، وهو قول [ابن المواز] (¬2). والثاني: أنه يزكي الآن، وهو قول المغيرة، وهو قول [أشهب] (¬3)، وقال بقوله سحنون وغيره. وسبب الخلاف: فيها وفي التي قبلها: هل يعد المالك كأنه لم يزل مالكًا لهذا العرض؛ إذ الدين في الذمة لا في مال معين: فيزكي. أو يعد كالمالك ما عنده من النصاب الآن: فيستقبل الحول. وكذلك الذي وهب الدين، هل يعد كأنه لم يزل مالكًا لهذه المائة ملكًا تامًا، أو كما ملكها الآن ملكًا تامًا، فكأنه كما أفادها. فلو وهبها الطالب -يعني: مائة الدين- لرجل أجنبى فقبضها الموهوب له، هل يزكيها الواهب أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الواهب يزكيها، ويخرج زكاتها منها لا من غيرها، وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: ابن القاسم. (¬3) النوادر (2/ 162).

قول ابن القاسم، وابن المواز (¬1). والثاني: أنه لا شيء [عليه] (¬2) وهو قول أشهب (¬3). واتفقوا أنه لا زكاة فيها على الموهوب له حتى يحول عليه الحول. وسبب الخلاف: هل قبض الموهوب له كقبض الواهب ويده كيده أم لا؟ وإذا كان للمديان طعام من سَلَم [فلا] (¬4) يجوز له أن يجعل دينه في قيمته؛ إذ لا يقدر عليها بوجه. وقال الشيخ أبو إسحاق التونسي: وله أن يجعله فيما كان رأس مال السَّلَم؛ إذ له أخذه على معنى الإقالة أو التولية. والذي قاله فيه نظر [إذ لا] (¬5) يقدر على الإقالة، إلا برضى الذي عليه السلم، وقد لا يرضى، وكذلك في القولية، وقد لا يجد من يوليه، فكيف [يلزمه] (¬6) أن يجعل دينه فيما لا يملكه، ولا [يملك] (¬7) أخذه متى شاء، والذي قاله كما تراه. واختلف في المذهب أيضًا في صداق الزوجة، هل هو كسائر الديون في إسقاط الزكاة، وهو المشهور [أو] (¬8) هو مخالف لسائر الديون؛ إذ ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (2/ 162، 163). (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: النوادر (2/ 162، 163). (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: فلا. (¬6) في أ: يلزم. (¬7) في ب: يقدر على. (¬8) في الأصل: و.

الغالب أن الزوجة لا [تطلبه] (¬1) إلا عند الموت، أو الفراق، وهو قول ابن حبيب (¬2) [والحمد لله كثيرًا كما هو أهله] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: تطلب. (¬2) انظر: النوادر (2/ 155). (¬3) زيادة من ب.

المسألة العاشرة في حكم ما يقتضي من الديون، وكيف إن خالط ذلك الاقتضاء فوائد

المسألة العاشرة في حكم ما يقتضي من الديون، وكيف إن خالط ذلك الاقتضاء فوائد ولا يخلو ما يقتضيه من دينه من أن يكون نصابًا أو دون النصاب. فإن كان ما اقتضاه نصابًا: فلا يخلو من أن يكون قائمًا بيده حتى زكاه، أو فائتًا. فإن كان قائمًا بيده حتى زكاه: فلا خلاف في المذهب أنه يزكي ما اقتضاه بعد ذلك من قليل أو كثير. وإن فات الأول إذا كان فواته بعد أن زكاه، أو بعد أن فرط في إخراج زكاته حتى ضاع [وإن كان فائقًا] (¬1) قبل أن يخرج زكاته بغير تفريط: فلا يخلو [ضياعه] (¬2) من وجهين: أحدهما: أن يكون بتلف. والثاني: أن يكون بإتلاف. فإن كان بتلف؛ مثل أن يأتي [عليه] (¬3) أمر الله تعالى، فهلك بغير سببه، فهل يزكي ما اقتضى بعد ذلك من قليل أو كثير [أم لا] (¬4)؟ [فاختلف فيه] (¬5) على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: فواته. (¬3) في أ: عليها. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: فالمذهب.

أحدهما: أنه لا زكاة عليه فيه حتى يقتضي نصابًا كاملًا، وهو قول ابن المواز. والثاني: أنه يزكي ما يقتضيه من قليل أو كثير، وهو قول ابن القاسم، وأشهب، وسحنون. فإن كان بإتلاف؛ مثل أن ينفقه أو يستهلكه باختيار منه: فهذا لا خلاف فيه في المذهب أنه يزكي ما اقتضى بعد ذلك من قليل أو كثير؛ لأنه في هذا الوجه يتهم في إسقاط الزكاة عن نفسه. وسبب الخلاف: في الوجه الأول؛ إذا ضاع بغير سببه، هل يعد ما أتلف كأنه ما اقتضاه ولا أدخل في ملكه أم لا؟ فإن كان ما اقتضاه أولًا دون النصاب: فلا يخلو أيضًا من أن يكون قد أبقاه بيده، أو هلك. فإن أبقاه بيده حتى أكمل عليه نصابًا من الدين: فلا خلاف في المذهب أنه يزكيه ويزكي ما [اقتضاه] (¬1) بعد ذلك. فإن [هلك] (¬2): فلا يخلو من أن يكون بسببه، أو بسبب سماوي. فإن هلك بسببه: فبين المتأخرين قولان: أحدهما: أنه لا يضم ما اقتضى بعد ذلك إذا كان دون النصاب إلى ما أنفق، وإن كان يتم به النصاب، وإليه أشار بعض المتأخرين. ووجهه: أنه أنفقه قبل أن يخاطب فيه بالزكاة، ويرى أن قول من قال بوجوب الزكاة [فيه] (¬3) مراعاة لقول من يقول: إن الدين يزكي قبل أن ¬

_ (¬1) في أ: اقتضى. (¬2) في ب: فات. (¬3) سقط من أ.

يقتضي، وهو قول أشهب -من أصحابنا- أنه يجزئه إذا زكاه قبل أن يقبضه، وهو مذهب ابن شهاب والزهري. واختلف فيه قول عمر رضي الله عنه. والقول الثاني: أنه يزكيه، وهو مشهور المذهب إذا كمل النصاب بما يقتضيه بعد ذلك. وقد حكى القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب الخلاف في المذهب في هذه المسألة؛ والظاهر أنه أشار إلى قول المتأخر الذي ذكرناه لا إلى متقدم؛ إذ لم يعرف من متقدمي أصحاب مالك في ذلك قول، وإلى ما أشرنا إليه ذهب أبو الحسن اللخمي، وتوجيه هذا القول ظاهر. فإن كان بغير سببه، فهل يضم ما اقتضى بعد ذلك إلى ما تلف؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يضمه، وهو قول ابن المواز. والثاني: أنه يضمه، وهو قول ابن القاسم، وأشهب، وسحنون. وسبب الخلاف: ما قدمناه. وإذا اقتضى نصابًا، ثم ضاع قبل أن يزكيه، فلو كان جملة الدين مثل ثلاثين دينارًا، وحال عليه الحول، فاقتضى منها أولًا عشرة: لم تجب عليه فيه زكاة. فإن اقتضى بعد ذلك عشرة، أو العشرين الباقية كلها: زكاها جميعًا، وكان حول الجميع [من] (¬1) يوم اقتضى الثانية. فإن اقتضى [الأولى]، (¬2) عشرين [فزكاها] (¬3) ثم اقتضى عشرة: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: أولًا. (¬3) سقط من أ.

زكاها أيضًا، وكان حول الأولى والثانية يوم اقتضى، [و] (¬1) يزكى [بعد ذلك] (¬2) كل مال على حوله، ولا يجمعان. وهذا قول ابن القاسم في الفصلين، وخالفه أشهب، ومحمد بن مسلمة في المسألتين. أما خلاف أشهب: ففي اقتضاء عشرة ثم عشرة، أو عشرين، وزكى جميع ذلك: أنه تبقى كل عشرة على حولها من يوم اقتضيت، ولا تضاف العشرة الأولى إلى الثانية. ووجهه: أن الذي ينبغي أن يزكي العشرة الأولى حين اقتضاها غير أنه إنما منعه من ذلك خيفة ألا يقتضي غيرها، فيؤدي ذلك إلى أنه يزكي دون النصاب. ["فإن" (¬3)] (¬4) اقتضى بعد ذلك ما يتم به النصاب تبين أن له حولها من يوم اقتضاها. وقول ابن القاسم في ذلك أظهر [من قول أشهب] (¬5). وأما خلاف ابن مسلمة فهو: [فيما] (¬6) إذا اقتضى عشرين ثم عشرة: فإنه يعود حول العشرين إلى حول العشرة الثانية، ويبتدئ الحول من يوم اقتضاها. ووجهه: أنه لما زكى العشرين الأولى عادت إلى ما لا زكاة فيه، فصار ¬

_ (¬1) في ب: ثم. (¬2) سقط من أ. (¬3) في الأصل: فإلي. (¬4) في ب: فلما. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

بمنزلة من أفاد دون النصاب ثم أفاد بعد ذلك ما إن أضافه إلى الفائدة الأولى وجبت فيه الزكاة: فإنه يضم الأولى إلى الثانية. وقول محمَّد بن مسلمة في هذه المسألة أظهر من قول ابن القاسم، والله أعلم. وأما إن اقتضى عشرة ثم عشرة ثم عشرة: فعلى قول ابن القاسم يكون حول الأولى [من] (¬1) يوم اقتضى الثانية، وحول الثالثة يوم اقتضيت. وعلى قول أشهب: يكون حول كل عشرة يوم اقتضيت، وعلى قول محمَّد بن مسلمة يرجع حول الجميع إلى يوم اقتضى الثالثة. فافهم هذا التدريج، فإنه من غوامض الاقتضاء، يجب صرف العناية إلى فهمه. أما إذا خالط الاقتضاء فوائد: فلا تخلو الفائدة من أن تكون قبل الاقتضاء، أو كانت في أثناء الاقتضاء. فإذا كانت الفائدة قبل الاقتضاء: فلا تخلو من أن يحول الحول على تلك الفائدة [وهي] (¬2) عنده، أو استهلكها قبل حلول الحول. فإن حال الحول عليها، وهي عنده، ثم اقتضى من [الدين ما إذا] (¬3) أضافه إلى تلك الفائدة كان نصابًا: فإنه يزكيه عن الجميع، وسواء بقيت تلك الفائدة بعد الحول حتى اقتضى من الدين [ما اقتضى أو استنفقها، فإن استنفقها قبل حلول الحول عليها، ثم اقتضى من الدين] (¬4) ما يتم به ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

النصاب لو ضم إلى تلك الفائدة: فلا زكاة عليه اتفاقًا؛ لأن الدين والفائدة لم يجمعهما ملك، ولم يجمعهما حول. فلو جمعهما ملك، ولم يجمعهما حول؛ مثل أن يفيد عشرة، ثم اقتضى عشرة، ثم أنفق العشرة الفائدة قبل حولها: فلا زكاة عليه. فإن خلل [الاقتضاء] (¬1) فوائد [مثل أن يقتضي من الدين شيئًا] (¬2) ثم أفاد ثم اقتضى أيضًا: فلا يخلو ما يقتضيه أولًا من أن يكون نصابًا، أو دون النصاب. فإن اقتضى نصابًا: فإنه يزكيه ثم إن أفاد [بعده] (¬3) عشرة دنانير، فحال الحول وهي عنده، فإن بقى بيده النصاب الذي اقتضاه من الدين حتى تم حول الفائدة، فإنه يزكيها اتفاقًا. وإن [استنفقها] (¬4) قبل تمام حول الفائدة: فهل يزكي الفائدة إذا تم حولها أم لا؟ فعلى قولين: أحدهما: أنه لا يزكيها ولا شيء عليه فيها، وهو قول ابن القاسم؛ لأن الحول لم يجمعهما. والثاني: أنه يزكيها؛ لأن الحول قد جمعهما، وهو قول أشهب. فإن كان [ما اقتضاه أولًا] (¬5) دون النصاب؛ مثل أن يقتضي عشرة ثم أفاد عشرة، فإن بقيت العشرة التي اقتضى بيده حتى حال الحول على العشرة الفائدة، فإنه يزكي عن عشرين اتفاقًا؛ لأن الملك والحول ¬

_ (¬1) في أ: القضاء. (¬2) في أ: مثلًا من شيء. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: أنفقها. (¬5) سقط من أ.

جمعهما. وان أنفق العشرة التي اقتضى قبل أن يحول الحول على الفائدة، فهل يزكي أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يزكي، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يزكي، وهو قول أشهب. وعلى القول بأنه لا يزكي؛ لأن الحول لم يجمعهما، فإن اقتضى بعد ذلك عشرة أخرى، فإنه يزكي الآن عن ثلاثين دينارًا؛ لأنك إذا أضفت الفائدة إلى العشرة التي اقتضاها من الدين آخرًا كان نصابًا، وإن أضفت اقتضاء الأولى إلى الثانية كان نصابًا، فخرج عن مجموع ذلك أن العشرة الفائدة تزكي على كل حال؛ لأن الفائدة [التي] (¬1) مع الاقتضاء تضم إلى ما كان آخرًا، ولا تضم إلى ما كان أولًا على المشهور [لأن عبد الملك يقول: أن الفائدة الآخرة ترد إلى ما كان أولًا كفوائد المواشي وهو نقل اللخمي] (¬2). والاقتضاء تضم الأولى إلى الآخرة حتى يكمل النصاب فيزكي [ثم] (¬3) ما اقتضاه بعد ذلك من قليل أو كثير [فإنه يزكيه] (¬4). وهذا محصول هذه المسألة، وبالله التوفيق [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من جـ.

المسألة الحادية عشر في زكاة فائدة العين

المسألة الحادية عشر في زكاة فائدة العين والأصل فيها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس في المال المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول" (¬1). فإن أفاد مالين: فإنه لا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون نصابًا بمجموعهما. والثاني: أن يكون كل واحد منهما نصابًا. والثالث: أن يكون أحدهما نصابًا، والآخر دون النصاب. فالجواب عن الوجه الأول: وهو أن يكون نصابًا بمجموعهما، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يجمعهما الملك والحول. أو يجتمعا في ملك، ولم يجمعهما الحول. أو افترقا، فلم يجتمعا في ملك ولا حول. فإن جمعهما الملك والحول؛ مثل أن يفيد عشرة دنانير، ثم بعد ستة أشهر أفاد عشرة أخرى، فإن بقيت العشرة الأولى بيده حتى حال الحول على الثانية: فإنه يزكيها جميعًا، ولا خلاف في ذلك. فإن جمعها الملك، ولم يجمعها الحول؛ مثل أن يفيد عشرة فأقامت بيده ستة أشهر، ثم أفاد عشرة أخرى، فأقامت عنده ستة أشهر [أخرى] (¬2)، فحال الحول ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) سقط من أ.

على الأولى فأنفقها، ثم أقامت الثانية ستة أشهر فتم حولها، فهل يزكي أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه لا زكاة عليه فيها؛ لأنهما لم يجمعهما الحول، وهو مذهب ابن القاسم وهو المشهور. والثاني: أنه يزكي عن العشرين جميعًا؛ لأنهما جمعهما الملك، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: هل الاعتبار بالملك والحول معًا، أو الاعتبار بالملك خاصة. فمن اعتبر الأمرين: قال لا زكاة. ومن اعتبر الملك: قال يزكي؛ لأنه يتهم في النفقة في إسقاط الزكاة عن نفسه. فإن لم يجمعهما [عنده] (¬1) لا حول ولا ملك؛ مثل أن يفيد عشرة فمكثت عنده حولًا فأنفقها، ثم أفاد عشرة فحال عليها الحول وهي عنده: فلا زكاة عليه باتفاق المذهب. والجواب عن الوجه الثاني: وهو أن يكون كل واحد من المالين نصابًا كاملًا، فهو يدور أيضًا على الأوجه الثلاثة التي قدمناها في الوجه الأول؛ مثل أن يفيد عشرين دينارًا ثم بعد ستة أشهر أفاد عشرين دينارًا أخرى، فإذا تم حول الأولى فإنه يزكيها، فإن تم حول الثانية زكاها، ويزكي كل مال على حوله هكذا حتى يرجع المالان إلى ما دون النصاب على الضم والجمع. فإن اتجر في الفائدتين، أو في إحداهما حتى صار نصابًا: فإنه يزكي ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كل مال على حوله أيضًا [كما كان يزكيه أول مرة] (¬1)؛ والحول فيهما من يوم كمل نصابهما. فإن اتجر في إحدى الفائدتين: فلا يخلو من أن يكون اعتبر في الأولى أو الثانية. فإن اتجر في الأولى وكمل فيها النصاب قبل الحول الذي زكى فيه الفائدة الثانية؛ مثل أن يكون حول الأولى رمضان، وحول الثانية في المحرم، واتجر في الأولى وصارت نصابًا في ذي الحجة: فإنه يزكي كل [مال] (¬2) على حوله كما كان يزكيه أول مرة. فإن اتجر في الفائدة الثانية التي حولها في المحرم، فربح فيها فصارت نصابًا في ربيع الأولى، هل يضم ما بقى من الفائدة الأولى إلى الثانية، فيزكيها على حول واحد أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يضم ما بقى من الأولى إلى الثانية، وهو قول ابن القاسم (¬3) [بأنه إن كان أنقص في الفوائد الأولى، فكيف تزكى مثل أن يحول الحول على الفائدة الثانية التي بها تزكى الأولى وهو أظهر] (¬4). والثاني: أنه يزكي كل مال على حوله، وهو قول أشهب. والتوجيه كما تقدم. والجواب عن الوجه الثالث: وهو أن يكون أحدهما نصابًا، والآخر دون النصاب: فإن كان ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة ليست بالأصل. (¬3) انظر: المدونة (2/ 261). (¬4) سقط من أ، جـ.

[الأول] (¬1) نصابًا، والثاني دون النصاب: فالمذهب على أن كل واحد يزكي [على حوله] (¬2)، ولا يضم أحد المالين إلى الآخر. فإن كان الثاني نصابًا، والأول دون النصاب؛ مثل أن يفيد عشرة، فأقامت عنده ستة أشهر، ثم أفاد عشرين، هل يضم الأولى إلى الأخرى أم لا؟ [فالمذهب] (¬3) على ثلاثة أقوال: أحدها: [أنه] (¬4) يضم الفائدة الأولى إلى الآخرة. وهو مذهب ابن القاسم في "المدونة"، وهو المشهور. والثاني: أنه يزكي كل فائدة على حولها، وهو قول أشهب. والثالث: أنه يزكي العشرين ثم يضمها إلى العشرة الأولى [وتزكى] (¬5) فيما بعد ذلك على حولها. وهو قول محمَّد بن مسلمة. ووجه قول ابن القاسم: لو زكيت العشرة الأولى على حولها لأدى ذلك إلى وجوب الزكاة فيما دون النصاب إذا لم يجمعهما مع المال الثاني حول، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في الأصل: الأولى. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في الأصل: وركبت.

المسألة الثانية عشر في زكاة مال القراض

المسألة الثانية عشر في زكاة مال القراض (¬1) ولا يخلو مال القراض من أحد وجهين: أحدهما: أن يشغله العامل فيما وجبت عليه فيه الزكاة. والثاني: أن يشغله فيما لا تجب الزكاة في عينه. فإن أشغله فيما تجب عليه فيه الزكاة: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون مما تجب عليه الزكاة في عينه وعدده؛ كالأنعام والزرع. والثاني: أن يكون مما تجب عليه فيه الزكاة لأجل عينه، لا لأجل عدده؛ كالرقيق. [فأما] إن كان مما تجب عليه الزكاة في عينه وعدده كالأنعام، مثل أن يشتري [به] (¬2) نصابًا من الماشية أو الزرع، هل تزكى على رب المال أم لا؟ فلا يخلو من أن يكون في المال ربح أم لا. فإن لم يكن في المال ربح: فلا خلاف أنها على ملك رب المال. وإن كان من المال ربح: فالمذهب علي ثلاثة أقوال: أحدها: [أنها تزكى] (¬3) على ملك رب المال، وهو نص ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 277، 278). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: أنه يزكي.

"المدونة" (¬1). والثاني: أن الزكاة تلغي من المالين كالنفقة، وهو ظاهر المدونة أيضًا؛ لأنه شيء وجب [عليه] (¬2) في المال المشترك بينهما، فينبغي أن يلغي مثل النفقة، وهو قول مالك في "مختصر ابن عبد الحكم". والثالث: أن الزكاة تفض، ويكون [على العامل] (¬3) منهما بقدر ربحه من جميع المال. وهو قول أشهب في زكاة الفطر عن عبيد القراض. وسبب الخلاف: اختلافهم في العامل، هل هو شريك أو أجير؟ فمن جعله كالشريك: فقال إن الزكاة تفض عليهما. ومن جعله أجيرًا: قال: الزكاة على رب المال وحده. وعلى القول بأن الزكاة على رب المال في المال، هل يخرجها من رأس [مال] (¬4) القراض، أو من عنده؟ وظاهر "المدونة": أن الشاة المأخوذة من [مال] (¬5) القراض تؤخذ من عينها، [ويوضع] (¬6) مقدار قيمتها من مال القراض، ويكون ما بقى هو رأس المال. وقد اعترض هذا السؤال بأن رب المال إن أخرج الشاة الواجبة عليه من ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 277). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: للعامل. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: ماشية. (¬6) في أ: ويؤخذ.

غير غنم القراض ويكون ذلك استرجاع [بعض] (¬1) مال القراض بعد اشتغاله في السلع، وذلك لا يجوز لرب المال أن يفعله إلا برضى العامل، وان أخرجها من عنده دون مال القراض، فذلك يؤدى إلى الزيادة في مال القراض بعد اشتغال الأول بشرط الخلط، وذلك لا يجوز. وانفصل بعض أصحاب المذهب عن هذا الاعتراض قائلًا: إنه منع رب المال من استرجاع بعض [رأس] (¬2) المال إذا كان استرجعه إلى ملكه، وأما في هذا السؤال، فإنه لم يسترجع إلى ملكه شيئًا، وأن هذا الجزء مستحق، فوجب صرفه لمستحقه كسائر الاستحقاقات. [وهذا] (¬3) الذي قاله لا يظهر؛ لأن الاستحقاق إنما يقع في الأعيان المعينة، والزكاة لم تتعين في [عين] (¬4) هذا المال، ولابد لجواز أن يدفع [الواجب] (¬5) من غيره، ويبقى هذا المال وافرًا؛ فدل ذلك والحالة هذه على [أن ذلك لا] (¬6) يجري مجرى الاستحقاق، والله أعلم. فإن كان مما تجب عليه فيه الزكاة لأجل عينه، لا لعدده؛ كالرقيق يشتريهم العامل بمال القراض، فجاء يوم الفطر، وهم عنده قبل أن يبيعهم، فعلى من تكون زكاة الفطر؟ واختلف [فيها] (¬7) المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الزكاة على رب المال في ماله خاصة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في الأصل: هو. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: الواجبة. (¬6) في أ: ألا. (¬7) في أ: فيه.

وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنهم إذا بيعوا بربح، فالزكاة على العامل، ورب المال على قدر ما يكون الربح من جميع المال. وهو قول أشهب في "الكتاب". [والثالث] (¬1): أن الزكاة كالنفقة، وتسقط من الوسط، ويكون ما فضل من رأس المال بينهما نصفين، وهو قول محمَّد بن مسلمة. وسبب الخلاف: ما تقدم في فصل الماشية. [والجواب عن] (¬2) الوجه الثاني: إذا شغله فيما لا تجب الزكاة في عينه؛ كالعروض: فالكلام في هذا الوجه في أربعة فصول: الفصل الأول: إذا اشترط أحد المتقارضين زكاة الربح على الآخر. والثاني: في الربح هل يزكي على ملك العامل، أو على ملك رب المال. والثالث: في معرفة ما تجب فيه الزكاة على العامل في حظه من الربح. والرابع: في معرفة وجوب إخراجها. فالجواب عن الفصل الأول: إذا اشترط أحدهما زكاة الربح على صاحبه بعد الاتفاق: أنه لا يجوز لرب المال أن يشترط زكاة رأس المال على العامل؛ لأن ذلك غرر، وخطر وهو من أكل المال بالباطل. ¬

_ (¬1) في الأصل: الثاني. (¬2) سقط من أ.

وأما زكاة الربح: فقد اختلف فيها المذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه يجوز، سواء اشترط ذلك العامل على رب المال، أو رب المال على العامل. وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه لا يجوز أن يشترطه واحد منهما على صاحبه، وهو قول مالك في أصل "الأسدية"، وهو ثابت في بعض نسخ "المدونة". والثالث: أنه يجوز لرب المال أن يشترط على العامل ذلك، ولا يجوز للعامل أن يشترطها على رب المال. وهو قول مالك في رواية أشهب عنه في "العتبية" في زكاة ثمر [حائط المساقاة ولا فرق بين القراض والمساقاة] (¬1). وفيها [يتخرج في المذهب] (¬2) قول رابع على عكس القول الثالث. وسبب الخلاف في القولين المتقابلين: اعتبار الحال والمآل. فمن اعتبر الحال: قال بالإجزاء؛ لأن ذلك يرجع إلى جزء مسمى؛ لأن المشترط عليه أن يخرج الزكاة من حصته دخل على أن يأخذ من الربح أربعة أجزاء وثلاثة أرباع الجزء مثلًا، عاملًا كان أو رب المال. ومن اعتبر المآل قال: لا يجوز ذلك لتعاظم الغرر، وتفاقم الخطر، وقد تجب أو لا تجب، وإن وجبت فقد يتفاصلان قبل حلول الحول، وقد يتفاصلان بعده، فإذا كان كذلك كان المنع أولى. وأما القولان المتقابلان على نعت التفصيل، فتوجيههما يرجع إلى هذا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الأصل الذي قدمناه، فلا نطول بتوجيه ما ظهر توجيهه من الأقوال. فعلى القول بأنه يجوز اشتراط أحدهما الزكاة على الآخر، فإذا لم تجب الزكاة في المال، أو اقتسما قبل الحلول، هل يتم للذي اشترط شرطه، ويفوز بذلك الجزء أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن يقتسما ما ظهر لهما من الربح نصفين، ولا يختص الذي اشترط [الزكاة] (¬1) على صاحبه بشيء دون الآخر. ووجهه: أن ذلك الجزء إنما اشترط للمساكين، فإذا لم يتعين [عندهما] (¬2) للمساكين، كان الربح بينهما أنصافًا إن كان قراضهما على النصف، أو على قدر ما اتفقا عليه من الأجزاء. وهذا القول أظهر الأقوال. والثاني: الجزء المشترط للزكاة يكون للذي اشترطها على الآخر، ثم يقتسمان ما بقى إخراجه بينهما نصفين. ووجهه: أن الذي اشترطت عليه الزكاة، إنما دخل على إخراج جزء الزكاة، ولا حظ له فيه، ولا عليه ممن أخذه من المساكين، أو غيره. وهو أضعف الأقوال. والثالث: أنهما يقتسمان الربح نصفين مثلًا، ثم يؤخذ سهم الزكاة من حظه، ويأخذه صاحبه فيضيفه إلى ما أخذ من الربح. ووجهه: أن الذي دخل عند [عقد] (¬3) القراض على أن يأخذ جزءًا ¬

_ (¬1) في جـ: الربح. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

معلومًا ثم [يسترد] (¬1) منه ربع عشر ما اقتسماه من الربح -قَلَّ أو كثر-. وهذا القول دون الأول في الظهور، وأظهر من الثاني، والله أعلم. والجواب عن الفصل الثاني: في الربح، هل هو مزكى على ملك رب المال جميعًا، أو حصة العالم تزكى على ماله؟ أما حصة رب المال من الربح مع رأس ماله فلا خلاف في المذهب أنها مزكاة على ملك رب المال. [واختلف في حصة العامل من الربح هل تزكى على ملكه، أو على ملك رب المال؛ فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يتفاصلا بعد تمام الحول. والثاني: أن يتفاصلا قبل تمامه. فإن تفاصلا بعد تمام الحول: فاختلف فيه في المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مزكى على ملك رب المال، دون الاعتبار بملك العامل. وهي رواية أشهب عن مالك، وهو مذهب سحنون. والثاني: أنه مزكى على مالك العامل دون الاعتبار بملك رب المال، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" على ما سنبينه إن شاء الله. والثالث: أنه مزكى على ملكهما جميعًا، وهو ظاهر "المدونة" على ما أصف. فعلى القول بأن جميع المال مزكى على ملك رب المال، فإنه تعتبر فيه ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الشروط المعتبرة في أصل الوجوب؛ وهي الإِسلام، والحرية، وعدم الدَّين، والنصاب، والحول. والجواب عن الفصل الثالث في معرفة ما تجب فيه الزكاة: على العامل في حظه من الربح على القول بأنه مزكى على ملكه: فهي خمسة شروط؛ ثلاثة متفق عليها، واثنان مختلف فيهما. فأما الثلاثة المتفق عليها؛ وهو أن يكونا جميعًا حُرَّيْن، وأن يكونا مسلمين، وأن لا يكون على واحد منهما دين. وأما الاثنان المختلف فيهما: فإنه لم يختلف في اشتراطهما على الجملة، وإنما الخلاف في وجوه اعتبارهما؛ وهما النصاب، والحول. وأما النصاب: ففيه في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعتبر في رأس المال، وحصة رب المال من الربح خاصة، فإن كان في ذلك ما تجب فيه الزكاة: وجبت الزكاة على العامل في حظه من الربح، وإلا فلا. وهو قول ابن القاسم [في المدونة] (¬1) وهو المشهور من مذهبه. والثاني: أنه يعتبر النصاب في رأس المال وجميع الربح؛ فإن كان [في] (¬2) ذلك ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل في [حظه] (¬3)، وإلا فلا. وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في "العتبية". والثالث: أنه يعتبر النصاب في رأس مال رب المال [وحصته من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: حصته.

الربح] (¬1) وفي [حظ] (¬2) العامل من الربح؛ فإن كان في حظ كل واحد منهما ما تجب فيه الزكاة [وجبت الزكاة] (¬3) على العامل في حظه، وإلا فلا. وأما الحول: فلابن القاسم في وجه اعتباره قولان: أحدهما: أنه يعتبر في رأس مال رب المال، وحصته من الربح دون الاعتبار [بحظ] (¬4) العامل. والثاني: أنه يعتبر في رأس مال رب المال وحصته من الربح وفي حظ العامل؛ فلا تجب الزكاة في حظه من الربح حتى يحول الحول على المال الذي بيده من يوم أخذه؛ لأنه إذا حال الحول على المال بيد العامل فقد حال على رب المال. وهذا قوله في " [كتاب] (¬5) الزكاة الأول" من "المدونة"، والذي [تأول على] (¬6) ابن القاسم على هذا أن يعتبر النصاب في رأس مال رب المال، وحصته من الربح مع مال [هو له] (¬7) إن كان له إفادة قبله أو معه معًا، وهذا لا يوجد له [ولا يعرف] (¬8) من مذهبه، [ويلزمه أن يعتبر النصاب في حصة العامل من الربح مع مال سواه إن كان [ماله] (¬9) قد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: حصة. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: حصته. (¬5) في الأصل: باب. (¬6) في أ: يلزم. (¬7) في ب: لقوله. (¬8) سقط من أ. (¬9) في الأصل: له.

حال عليه الحول، وهذا أيضًا لا يوجد لابن القاسم، ولا يعرف من مذهبه] (¬1)، فلو قال بهذين الوجهين باعتبار النصاب في وجوب الزكاة على العامل في حظه من الربح لاستقام مذهبه، على أن ربح القراض مزكى على ملكهما جميعًا، [ولكنه] (¬2) اضطرب مذهبه كما ترى، وربك أعلم. وسبب الخلاف: اختلافهم في العامل هل هو أجير، أو شريك؟ وللخلاف سبب آخر: الربح متى يملكه العامل، هل يملكه بالظهور، أو إنما يملكه بالنضوض والمفاصلة؟ وأما الوجه الثاني من الفصل الثاني: وهو إذا تفاصلا قبل تمام الحول فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يتفاصلا في رأس المال والربح، أو يتفاصلا في رأس المال ويبقى الربح، أو يتفاصلا في بعض رأس المال، ويبقى البعض إلى تمام الحول، فإن تفاصلا في رأس المال والربح قبل تمام الحول: فقد تقدم فيه البيان. وإن تفاصلا في رأس المال قبل تمام الحول، وبقى الربح في سلعة فباعها العامل بعد الحول، فصار للعامل في حظه من الربح عشرون دينارًا، هل يزكي أو يستأنف الحول؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يستقبل الحول، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". ووجهه: أن الربح قد صار للعامل بالمحاسبة والمفاصلة في رأس المال ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في أ: ولكن.

قبل تمام الحول. والثاني: أن العامل يزكي حينئذ، وهذا القول في "المجموعة". وسببه: أنه قد بقى عليه عمل من سبب القراض، وهو البيع؛ إذ عليه أن يبيع لرب المال حتى ينض جميع المال، ولا يستحق العامل نصيبه [من الربح] (¬1) إلا بذلك. وأما إن تفاصلا في بعض رأس المال، ويبقى البعض؛ مثل أن يكون رأس مال القراض مائة، فقبض منه تسعين، ثم باع ما بقى من متاع مال القراض بعد تمام الحول بثلاثين دينارًا؛ عشرة منها تمام المائة، وعشرون فائدة بينهما: فلا خلاف في هذا الوجه أن العامل يزكي؛ لأن الزكاة وجبت على رب المال في رأس المال وحصته من الربح إذا قدر أن رأس المال تلك العشرة الباقية. فلو بقى في يديه من المائة خمسة دنانير مثلًا، ثم باع بخمسة وعشرين دينارًا بعد تمام الحول، هل يزكي العامل ما أخذ من الربح أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا زكاة عليه حتى يكون فيما بقى لرب المال [ومن رأس المال] (¬2)، وحصته من الربح ما تجب فيه الزكاة من غير اعتبار بما قبض من رأس المال قبل تمام الحول [بلا فرق بين] (¬3) أن يكون بقى في يديه، أو استنفقه، وهو قول ابن القاسم، وهو المشهور. والثاني: أنه ينظر إلى ما قبضه رب المال [من رأس ماله] (¬4) أولًا، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

فإن بقى في يديه حتى يضيف إليه ما قبض بعد ذلك من بقية رأس المال وحصته من الربح: فإن العامل يزكي ما صح له من الربح. وهو تأويل ابن المواز على ابن القاسم. وسبب الخلاف: هل النظر ابتداءً إلى المفاضلة في أصل القراض فيحمل عليه ما كان آخرًا، أو النظر إلى ما وقع عليه الانفصال آخرًا، ويعد كأنه جميع رأس المال. والجواب عن الفصل الرابع: في معرفة وجوه إخراجها، وذلك يفتقر إلى تفصيل وتقسيم؛ إذ لا يخلو العامل من أن يكون غائبًا عن صاحب المال لا يعلم حال ما في يديه [من المال] (¬1) أو كان حاضرًا معه يعلم حال ما في يديه من مال القراض. فإن كان عنه غائبًا: فلا خلاف في المذهب أنه لا زكاة على رب المال فيما بيد العامل من المال حتى يرجع إليه ويعلم أمره، فإن رجع إليه بعد أعوام زكاه لما مضى من السنين، على ما سنبينه [تفصيلًا وتحصيلًا] (¬2) إن شاء الله من حكم المدير، وغير المدير. وأما إن كان حاضرًا معه، وهو يعلم حال ما في يديه: فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يكونا جميعًا مديرين. والثاني: أن يكون رب المال مديرًا، والعامل غير مدير. والثالث: أن يكون العامل مديرًا، ورب المال غير مدير. والرابع: أن يكونا جميعًا غير مديرين. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فأما الحال الأول: إذا كانا جميعًا مديرين، أو كان رب المال غير مدير، والعامل مديرًا -وهي الحالة الثالثة- والذي بيده الأقل، أو الأكثر على قول من يقول من أهل المذهب أن [المال] (¬1) إذا كان يدار بأحدهما: فإنه يزكي المدار على سنة الإدارة كان الأقل أو الأكثر. أو كان رب المال مديرًا والعامل غير مدير -وهي الحالة الثانية- والذي بيده من مال الإدارة أو من غير مال الإدارة، وهو الأقل: فلا زكاة عليه حتى ينض المال وينفصلان، وإن أقام المال بيده أحوالًا، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب القراض" من "المدونة"، ورواه [أبو] (¬2) زيد بن أبي الغمر عن ابن القاسم في كتاب القراض في "ثمانيته"، وفي "واضحة ابن حبيب" [مثله] (¬3). فإذا رجع إليه مال بعد أعوام: زكى قيمة ما بيده من المتاع لما مضى. فإن كان قيمة ما بيده أول سنة: مائة، وفي الثانية: مائتان، وفي الثالثة: ثلاثمائة: زكى للسنة الأولى: مائة، وللثانية: مائتين، وللسنة الثالثة: ثلاثمائة، إلا ما نَقصَتْه الزكاة كل عام [وهذا نص المدونة] (¬4). واختلف إن كانت قيمة ما بيده أول سنة ثلاثمائة، وفي الثانية مائتين، وفي الثالثة مائة، على قولين: أحدهما: أنه يزكي لكل سنة ما كان بيده، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب القراض" (¬5) [إذ قال] (¬6) يزكي ما بيده لما ¬

_ (¬1) في أ: المالين. (¬2) في أ: ابن. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر المدونة (2/ 277). (¬6) في أ: إذا كان.

مضى [ولم يفرق. والثاني: أن يزكي مائة لما مضى] (¬1)، وهو ظاهر قول عبد الملك في "الواضحة" في مال الغائب [عن صاحبه] (¬2) إذا تلف بعد أعوام أنه لا زكاة عليه [فيه] (¬3)، وهو ظاهر المدونة أيضًا؛ إذ لا فائدة لتأخير الزكاة إلى حين المفاصلة مع حضور المال إلا لمخافة النقصان. فأما الحالة الرابعة: إذا كانا غير مديرين، أو كان العامل غير مدير، والذي في يديه الأكثر: فلا زكاة على رب المال فيما [بيد العامل] (¬4) من مال [القراض] (¬5) حتى يرجع إليه، فإن رجع إليه بعد أعوام: زكاه لعام واحد إذا كان في سلع، وهو ظاهر قول عيسى بن دينار في "العتبية". وأما إن كان رب المال مديرًا، والعامل غير مدير والذي بيده الأقل: فإن رب المال يقوّم كل سنة ما بيد العامل، فيزكيه من ماله لا من مال القراض. فهل يزكي رأس المال وجميع الربح، أو يزكي عن رأس المال، وحصته من الربح خاصة؟ [فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يزكي عن الجميع، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. والثاني: أنه يزكي عن رأس المال، وحصته من الربح خاصة] (¬6)، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم. وكذلك إن كان الذي بيد العامل الأكثر على تأويل ابن لبابة على ما في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: بيده. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

المدونة من أن المالين إذا كان يدار أحدهما: فإنهما يزكيان جميعًا على [سنة] (¬1) الإدارة، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الثالثة عشر فيما يؤخذ من تجار المشركين إذا اتجروا في بلاد المسلمين

المسألة الثالثة عشر فيما يؤخذ من تجار المشركين إذا اتجروا في بلاد المسلمين ولا يخلو من تجار المشركين من أن يكونوا أهل ذمة، أو أهل حرب. فإن كانوا أهل ذمة: فلا يخلو من أن يتجروا في بلادهم التي أدوا الجزية عنها، أو خرجوا عنها بالتجارة إلى غيرها من بلاد المسلمين. فإن اتجروا في بلادهم التي أدوا الجزية عنها: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب أنه لا يؤخذ منهم غير الجزية؛ لأنهم دفعوها جزاءً على [ما أمنوا] (¬1) في بلادهم بحيث لا يطول عليهم عدو ولا يركبوا بظلم، ولو اتجروا من أعلاها إلى أسفلها ومن أسفلها إلى أعلاها. فإن خرجوا بالتجارة إلى غيرها من بلاد المسلمين: فلا يخلو متجرهم من أن يكون في منافع [الأعيان] (¬2) أو في أعيانها. فإن كان في المنافع؛ مثل أن يكرى ذمي دوابه للحمل، فهل يؤخذ منه العشر أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يؤخذ منه عُشر الكراء كسلعة باعها جملة من غير تفصيل، وهو قول ابن نافع. والثاني: أنه لا شيء عليه جملة من غير تفصيل، وهو قول أشهب. ووجهه: أن ذلك [غلة] (¬3) وليس كسلعة باعها. ¬

_ (¬1) في ب: أمنهم. (¬2) في أ: الأموال. (¬3) في ب: مظلمة عليه.

والثالث: التفصيل بين أن يكون عقد الكراء من بلاده إلى بلاد المسلمين [فلا شيء] (¬1)، أو عقده من بلاد المسلمين إلى بلاده. فإن عقد الكراء من بلاده إلى بلاد المسلمين: فلا شيء عليه. وإن عقده من بلاد المسلمين إلى بلاده: فعليه العُشر، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". وسبب الخلاف: هل النظر إلى موضع العقد، أو إلى موضع الاستيفاء؟ فمن نظر إلى موضع العقد، قال: لا شيء عليه إن كان العقد في بلادهم، وهو الأضعف. ومن نظر إلى موضع الاستيفاء قال: يؤخذ منه العُشر إذا عقد الكراء في بلاده واستوفاه في بلاد المسلمين؛ لأن به تتم المنفعة كسلعة باعها، وهو الأقوى. فإن كان متجرهم في أعيان أموالهم، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقدموا بالعين ليشتروا [به] (¬2) التجارة. والثاني: أن يقدموا بالعين ليضربوا منها دنانير، أو دراهم، أو بغَزْل ينسجون منه ثيابًا. والثالث: أن يجلبوا متاعًا، أو عروضًا، أو طعامًا للبيع. فأما الوجه الأول: إذا قدموا بالعين ليشتروا به التجارة: فلا شيء عليهم حتى يشتروا، فيؤخذ منهم عُشر تلك السلع التي اشتروها، ولا يؤخذ منهم في عُشر السلع دراهم؛ لأنا لو أخذنا الدراهم فكأنا قد بعنا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

منهم عُشر السلع التي وجبت للمسلمين، [فكان] (¬1) يجب عليهم فيه العُشر أيضًا، وذلك يؤدي إلى التسلسل، وما يتسلسل فلا يتحصل. فلو استحق ما اشتراه الذمي أو رده بالعيب بعد ما أخذ منه العُشر: أما الاستحقاق: فلا خلاف أن العُشر مردود عليه. وأما الرَّد بالعيب: فيتخرج على قولين [قائمين] (¬2) من "المدونة" (¬3): أحدهما: أنه يرد عليه العُشر كالاستحقاق. والثاني: أنه لا يُرَد [عليه] (¬4) ويكون للمسلمين. وسبب الخلاف: الرَّد بالعيب هل هو نقص بيع، أو ابتداء بيع؟ فمن رأى أن الرَّد نقص بيع، قال: يرد عليه العشر، وهو نص قول أشهب في "كتاب الاستبراء" من "المدونة". ومن رأى أن الرد بالعيب بيع مبتدأ قال: لا يرد عليه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "الكتاب" المذكور فيمن اشترى أمة ومثلها يتواضع ثم ردها بالعيب؛ قال ابن القاسم: إن عهدة المواضعة على المشتري. وهذا بناء منه على أن الرد بالعيب بيع مبتدأ. وأما الوجه الثاني: إذا قدموا بالنقد ليضربوا منها دنانير أو دراهم، أو بالغزل لينسجوه، فإن باشروا ذلك بأيديهم: فلا شيء عليهم. وإن استأجروا من يضرب لهم النقد وحائكًا للغزل: فإنه يؤخذ منهم عشر الأجرة؛ لأن الصنعة كسلعة اشتروها. ¬

_ (¬1) في ب: فصار. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: المدونة (2/ 282). (¬4) سقط من أ.

والوجه الثالث: إذا جلبوا سلعًا للبيع: فلا يخلو ما جلبوه من أن يكون طعامًا أو غيره. فإن كان طعامًا كالحنطة والزيت فلا يخلو الجلب من أن يكون إلى أحد الحرمين -مكة أو المدينة- أو إلى غيرهما من بلدان الإِسلام. فإن كان إلى مكة أو المدينة، فهل يؤخذ منهم العشر أو نصف العشر؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يؤخذ منهم نصف العشر، وهو المشهور في النقل. والثاني: أنه يؤخذ منهم العشر كاملًا، وهي رواية عن مالك [أيضًا] (¬1). وسبب الخلاف: اختلافهم في العلة التي لأجلها قبل عمر نصف العشر من أقباط الشام في الحنطة والزيت، هل هي باقية إلى يوم القيامة، أو زالت لاتساع الإِسلام وعمومه، وأن الله تعالى [قد] (¬2) أغنانا بالمسلمين عن الكفار؟ والذي ظهر لي -والله أعلم- أن ذلك مثل سهم المؤلفة قلوبهم في الصدقات، وأن ذلك يرجع إلى اجتهاد الإِمام، فإن دعت الحاجة إلى مثل ما فعل عمر رضي الله عنه فعل، وإلا فلا. فإن جلبوه إلى غير أحد الحرمين من سائر بلدان الإِسلام: فلا خلاف في المذهب أنه لا يؤخذ منهم إلا العشر على الوفاء، وكذلك [إن حملوا] (¬3) سائر أنواع المتاجر سوى الحنطة والزيت إلى أحد الحرمين. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: حمل.

والفرق بين أحد الحرمين، وسائر البلدان في الطعام والزيت: [أن الطعام والزيت] (¬1) أصل القوت، وهو مما تدعو الضرورة إليه بخلاف ما عداه من سائر المتاجر لحاجة الناس إلى الطعام في تلك المواضع؛ لقلة وجوده فيها، وكثرة وجوده في سائر المواضع؛ فمن أجل ذلك خفف عمر رضي الله عنه ليكثر الحمل إلى المدينة ومكة -شرفهما الله تعالى. فإن ادعى الذمي أن عليه دينًا: فقال أشهب: لا يقبل قوله إلا ببينة، غير أنه فرق بين أن يكون الدين لمسلم، أو لنصراني. فإن كان لمسلم: لم يؤخذ منه شيء إذا كان الدين قد أحاط بماله. وإن كان الذمي: فيؤخذ منه العشر. قال الشيخ أبو إسحاق التونسي: إذا كان الدين لمسلم ما الذي يمنع أن يؤخذ منه العشر والمال على ملك الذمي يتعلق بذمته ليس بمتعلق بعين هذا المال الذي بيده. والذي قاله صحيح رضي الله عنه؛ لأن العشر الذي يؤخذ من تجار أهل الذمة لا يشبه الزكاة في شيء من الأشياء، ولا في وجه من الوجوه، وكذلك لا يعتبر فيه النصاب، ولا حول، ولا حر، ولا عبد؛ بل يؤخذ من العبيد كما يؤخذ من سادتهم، فإذا أخذ منهم [العشر] (¬2) عند بيعهم وابتياعهم فلا يؤخذ منهم غير ذلك [وإن أقام يبيع ويشتري] (¬3) سنين حتى يرجع إلى بلاده، فإن رجع [من] (¬4) بلاده مرة أخرى: فإنه يؤخذ منه العشر كلما كرر الرجوع إلينا، ولو كان [مائة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: لبيع ولا لشراء. (¬4) في أ، ب: إلى غير.

ألف] (¬1) مرة؛ لأن العشر المأخوذ منهم بدل من الانتفاع الذي حصل [لهم] (¬2) ببلاد المسلمين؛ ولهذا إذا أراد الرجوع بسلعته إلى بلاده [ولم يرد البيع] (¬3)، فإنه يُمَكَّن، ولا يتعرض له، ولا يؤخذ منه شيء لعدم الانتفاع بخلاف الحربي على ما سنبينه في الوجه الثاني إن شاء الله تعالى، وهذا هو مشهور المذهب. وذهب ابن حبيب إلى أنه يؤخذ منهم العشر كلما باعوا -ربحوا أو خسروا. وكذلك لو باع أو اشترى في بلد غير بلده [من بلاد] (¬4) المسلمين، ثم خرج إلى بلد آخر غير ذلك البلد، فباع أو اشترى، فإنه يؤخذ منه العشر بخلاف الحربي أيضًا؛ لأن الذمي غير ممنوع من التصرف في بلاد الإِسلام؛ على معنى الجَوَلَان، فإن أراد التصرف فيها بالتجارة كان العُشر عليه مهما انتفع وحصلت له المنفعة؛ لأنه مهما جال، ودار البلاد بتجارة حصلت له المنفعة بزيادة الأسواق؛ لأن الأسواق تختلف باختلاف البلدان؛ ولهذا يؤدي الذمي في كل بلد دخلها من بلاد المسلمين إذا باع فيها أو اشترى. والحربي ممنوع من دخول بلاد الإِسلام إلا بعهد، فإذا دخل بعهد فلا يؤخذ منه إلا مرة واحدة، ولو جال البلاد؛ لأنه على الدخول عارض ما لم يرجع إلى بلده، ويصل مأمنه؛ فإن كانوا من أهل الحرب فإنهم يمنعون من الدخول إلا بعهد. ¬

_ (¬1) في أ: ألف مائة. (¬2) في أ: له. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

واختلف في المقدار الذي يؤخذ منهم إذا دخلوا تجارًا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يؤخذ منهم ما [صولحوا] (¬1) عليه -قلَّ أو كثر. وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬2). والثاني: أنه لا يؤخذ منهم إلا العشر كأهل الذمة سواء، وهي رواية علي بن زياد عن مالك في "المدونة" أيضًا. والثالث: التفصيل بين من كان معروفًا بالنزول قبل ذلك على العشر، وبين من لم يتقدم منه النزول قبل ذلك. فإن كان ممن تقدم له النزول على العشر: حمل على ما اعتاد، ولا يزاد عليه. وإن كان ممن لم يتقدم له النزول: فإنه يؤخذ منهم ما [صولحوا] (¬3) عليه -قل أو كثر- وهو قول أصبغ في "كتاب ابن المواز" (¬4). وسبب الخلاف: معارضة القياس لفعل الصحابي؛ وذلك أن الذي يقتضيه القياس ألَّا تحديد فيما يؤخذ من تجار المشركين إذا اتجروا في بلاد المسلمين -كانوا من أهل الذمة أو من أهل الحرب- لعدم الأثر في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ العشر أو نصف العشر من تجار أهل الذمة بمحضر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ولم يكن منهم مُنْكِر لفعله رضي الله عنه، وأن القياس يقتضي نفي التقدير في حد ما يؤخذ منهم، وأن ذلك موكول إلى اجتهاد الإِمام؛ لأن ما طريقه التقدير يفتقر إلى دليل قاطع من جهة الشارع، ولا دليل إلا لفعل عمر ¬

_ (¬1) في أ: صالحوا. (¬2) انظر: المدونة (2/ 281). (¬3) في أ: صالحوا. (¬4) انظر: النوادر (2/ 209).

رضي الله عنه. وللعلماء مجال رحب وبحر صخب في قول الصحابي وفعله، هل يكون حجة ودليلًا أم لا على ما هو مشهور في مذاهب الأصوليين (¬1). فإذا بنينا على القول بأن فعل الصحابي حجة، هل يجوز قياس الحربيين على أهل الذمة أم لا؟ وجواز القياس أليق، وإلحاق المسكوت [عنه] (¬2) بالمنطوق به أحق كما قال علي بن زياد؛ لأن العلة شاملة للجنسين وموجودة في الفريقين؛ وهو الانتفاع في بلاد المسلمين. وفائدة الخلاف وثمرته: أنه إذا صالحناهم على دنانير أو دراهم لم يحل بينهم وبين رقيقهم وأمتعتهم، وإن نزلوا على العشر حيل بينهم وبين [وطء] (¬3) الإماء حتى يبيعوا؛ لأنا شاركناهم بالعشر الذي وجب لنا عليهم بالدخول؛ لأنهم لو راموا الرجوع بسلعهم إلى بلادهم من غير بيع ولا شراء: فلابد من أخذ العشر منهم أو ما صالحوا عليه بخلاف أهل الذمة في هذا الوجه، والفرق بينهما ما قدمناه من أن أهل الذمة غير ممنوعين من التجول في بلاد المسلمين بغير تجارة، فإذا اتجروا فقد انتفعوا، وأهل الحرب ممنوعون من بلاد المسلمين [والحلول] (¬4) [بسواحلنا] (¬5)، فإذا عوهدوا على شيء معلوم يؤخذ منهم من الانتفاع بدخولهم عندنا: فذلك الانتفاع يحصل [لهم] (¬6) بنفس الدخول -باعوا أم لا- لأن البيع إلى اختيارهم، ¬

_ (¬1) والراجح إذا قال الصحابي رأيًا ولم يرجع عنه، ولم يخالف فيه قول صحابي آخر ولم ينتشر، فإن هذا القول حجة مطلقًا أي: سواء وافق القياس أو لا. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في جـ: والتجول. (¬5) في أ: بساحلنا. (¬6) سقط من أ.

وما كان موكل إلى اختيارهم فلا يسقط الحق الواجب عليهم للمسلمين، وهذا قول ابن القاسم عن مالك، وبه قال سحنون في "كتاب ابنه" (¬1). وفي [المذهب] (¬2) قول ثان: أنه لا يؤخذ منهم شيء إذا لم يبيعوا ورجعوا بسلعهم، وهو قول أشهب وابن نافع، وابن عبدوس -من أصحاب [سحنون] (¬3) رضي الله عنه (¬4). وسبب الخلاف: [اختلافهم] (¬5) في المنفعة المعتبرة، هل هي نفس الحصول ببلاد الإِسلام، أو بأمر زائد عليه؛ وهو البيع والابتياع؟. وإذا باعوا أو اشتروا أو أخذ منهم ما [صولحوا عليه] (¬6) فخرجوا إلى بلاد أخر من بلاد الإِسلام: فلا يؤخذ منهم شيء ما داموا في تجرهم حتى يرجعوا إلى بلادهم ويصلوا [إلى] (¬7) مأمنهم، فعند ذلك يخرجون من العهد، [فمن] (¬8) أخذ منهم بعد ذلك فهو فيء ولا رجوع لهم إلى بلاد الإِسلام إلا بعهد جديد. واختلفوا هل يتركون ويدورون في سواحل المسلمين أو يخرجون إلى الأرياف لبيع أو شراء، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنهم لا يتركون في البلاد يدورون، ولا يتعدون الموضع ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (2/ 210). (¬2) في أ: المدونة. (¬3) في ب: مالك. (¬4) انظر: النوادر (2/ 210). (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: صالحوا. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

الذي نزلوا فيه؛ لأن ذلك عورة وتفتيش لموضع [الغرة] (¬1) ينبغي أن لا ينزلوا إلا بموضع تؤمن غرتهم فيه، غير أن لهم الأمان في أنفسهم وأموالهم في بلاد الإِسلام أجمع حتى يفارقوا دار الإِسلام كلها، وهو قول أصبغ في "كتاب ابن المواز" (¬2). والثاني: أنهم لا يمنعون من التصرف، وأنهم يخرجون حيث شاءوا، وهو قول أشهب، والقول الأول أظهر [فى النظر، وبالله التوفيق، والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: الغارة. (¬2) انظر: النوادر (2/ 210). (¬3) سقط من أ.

المسألة الرابعة عشر في جزية أهل الذمة

المسألة الرابعة عشر في جزية أهل الذمة وهي مأخوذة من اسمها، ومشتقة من رسمها، وهي من الجزاء [لأنها جزاء] (¬1) على تأمينهم في بلادهم، وللذب عنهم، وعن حريمهم، والافتيات عليهم، وأن يكون لهم من الحرمة في حريمهم، وأموالهم مثل ما يكون للمسلمين. وشرعت عليهم على معنى الذل والصغار؛ فلذلك وظفت على البالغين الأحرار دون النساء، والعبيد، والصبيان الصغار. والكلام فيها على ثلاثة مواضع: أحدها: معرفة من تؤخذ منه من الكفار. والثاني: معرفة قدرها. والثالث: وقت وجوبها. فالجواب عن الموضع الأول: وهو معرفة من تؤخذ منه [الجزية] (¬2) من الكفار: فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تؤخذ من كل من دان بغير الإِسلام -أعجميًا كان، أو عربيًا، كتابيًا أو لا كتاب له-[لقوله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) في حديث عبد الرحمن بن عوف: "ومن لا كتاب له من المجوس سنوا بهم سنة أهل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

الكتاب" (¬1). وهو قول مالك في "المدونة" (¬2)، وهو المشهور من المذهب. والثاني: أنها تؤخذ ممن دان بغير دين الإِسلام إلا كفار قريش، فإنهم لا تقبل منهم الجزية، ولا يقبل منهم إلا الإِسلام أو السيف. [وهذا القول] (¬3) حكاه القاضي أبو الحسن بن القصار البغدادي عن مالك في المذهب. والثالث: أنها تقبل من العجم دون العرب. وبه قال ابن وهب -من أصحابنا- وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه. وعلى القول بأنها تؤخذ من جميع من دان بغير دين الإِسلام -عربيًا كان، أو أعجميًا- فهل تؤخذ من نصارى العرب باسم الجزية، أو باسم الصدقة، أم لا؟ فالمذهب أنها تؤخذ باسم الجزية، وذهب بعض [العلماء] (¬4) إلى أنها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2987). (¬2) انظر: المدونة (3/ 45، 46). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ، وفي المهذب للشيرازي (2/ 250، 251) ما نصه: فإن امتنع قوم من أداء الجزية باسم الجزية، وقالوا: نؤدي باسم الصدقة ورأى الإِمام أن يأخذ باسم الصدقة جاز؛ لأن نصارى العرب قالوا لعمر رضي الله عنه: لا نؤدي ما تؤدي العجم خذ منا باسم الصدقة كما تأخذ من العرب، فأبى عمر رضي الله عنه، وقال: لا أقركم: إلا بالجزية. فقالوا: خد منا ضعف ما تأخذ من المسلمين. فأبى عليهم، فأرادوا اللحاق بدار الحرب، فقال زرعة بن النعمان أو النعمان بن زرعة لعمر: إن بني تغلب عرب، وفيهم قوة فخذ منهم ما قد بذلوا، ولا تدعهم أن يلحقوا بعدوك. فصالحهم على أن يضعف عليهم الصدقة.

تؤخذ منهم باسم الصدقة [وذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبلها منهم باسم الصدقة] (¬1)؛ وهذا الذي عزاه القائل إلى عمر غير منقول عنه من طريق صحيح (¬2)؛ فوجه القول بأنها تؤخذ من الكفار عمومًا لا خصوصًا: حديث ابن [بريدة] (¬3) عن أبيه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على سرية، وقال: "إذا أنت لقيت عدوًا [من المشركين] (¬4) فادعهم إلى ثلاثة أشياء: فإن هم أجابوك [إلى أحدها] (¬5) فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم [إلى الإِسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم] (¬6) أن يتحولوا إلى دار الإِسلام، فإن [هم] (¬7) أبوا فسلهم إعطاء الجزية، فإن فعلوا فأقبل، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم" (¬8)، ولم يفصل بين كافر وكافر. وسبب الخلاف بين القولين الآخرين: [اختلافهم في] (¬9) العلة التي لا تقبل الجزية لأجلها، هل ذلك لمكانتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومشاركتهم إياه في النسب، ثم لا تقبل من قريش خاصة؛ لأنها أمس رحمًا وأقرب نسبًا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) قال الشافعي: قد حفظه أهل المغازي وساقوه أحسن سياق. انظر: تلخيص الحبير (4/ 128)، وخلاصة البدر المنير (2618)، ونصب الراية (2/ 362). وقال النووي: "ولم يخالف عمر أحد من الصحابة رضي الله عنهم فصار كالإجماع، وعقد الذمة لهم مؤبدًا فليس لأحد نقض ما فعله". روضة الطالبين (10/ 316). (¬3) في أ: مديرة. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) أخرجه مسلم (1731) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه. (¬9) في أ: اختلاف.

من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ الجزية منهم على وجه الذل والصغار مناف لأصلهم، وتقبل من غيرهم من العرب لبعدهم عن ذلك المعنى. وقد قيل: إن ذلك لكونهم مرتدين، و [الجزية لا تقبل من] (¬1)، المرتد إما الإِسلام، وإما السيف؛ لأن العرب أسلمت كلها عام الفتح، فمن وجد منهم على غير دين الإِسلام بعد ذلك فهو مرتد؛ فعلى هذا لا تقبل منهم الجزية أصلًا، وقد قيل أيضًا: أنها تقبل، ورأيت [مثله] (¬2) لأبي الحسن بن القصار. والجواب عن الموضع الثاني: في [معرفة] (¬3) قدرها: وهي تنقسم قسمين: صلحية، وعنوية. فالصلحية لا حد لأقلها عند مالك رحمه الله؛ بل تجوز على ما وقع عليه التراخي مما قلَّ أو جلَّ -وأما الجزية العنوية: فقد اختلف في أقلها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن أقلها أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهمًا على أهل الورق، وعلى أن صرف دينار الجزية عشرة دراهم، وهو مذهب مالك، وأن أقلها دينار واحد، وهو مذهب الشافعي. والثالث: أن أقلها يختلف [باختلاف] (¬4) ماليتهم، وهو مذهب أبي حنيفة، وهي عنده على ثلاثة أقسام: على الفقراء المعينين: اثنا عشر درهمًا، أو دينارًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: نحوه. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: باختلافهم.

وأهل الوسط: أربعة وعشرون درهمًا، أو دينارين. وأهل الغنى منهم [والترفه] (¬1): ثمانية وأربعون درهمًا، أو أربعة دنانير. وهذا منه بناءً على أن صرف دينار الجزية: اثنا عشر درهمًا. وفي المسألة قول رابع: أن أقلها لا حد [له] (¬2) [وهو قول القاضي أبي الحسن بن القصار] (¬3). وسبب الخلاف: اختلافهم في فعل الصحابي، أو قوله، هل يكون حجة ودليلًا أم لا؟ فمن قال: إنه حجة قال: لا تنقص مما فرض عمر رضي الله عنه. ومن قال: إنه ليس بحجة قال: إن عمر رضي الله عنه من آحاد المجتهدين، ولا يلزم مجتهدًا آخر اتباعه. قال المؤلف رحمه الله: وهذا عندي إنما [يكون] (¬4) الاختلاف فيه إذا انفرد الصحابي بقول أو عمل ولم يتابعه عليه بقية الصحابة، وأما إذا فعل ذلك أو قاله بمحضر الصحابة، ولم يكن منهم تغيير، ولا نكير: فإن ذلك يعد إجماعًا منهم، غير أنه يدخله الخلاف في الإجماع السكوتي، هل هو كالإجماع المنطوق به أم لا؟ ومن هذا الوجه وقع الخلاف بين فقهاء الأمصار في المسألة. وعلى مذهب مالك رحمه الله أنها مقدرة بأربعة دنانير ¬

_ (¬1) في الأصل: الترقوة. (¬2) في أ: لها. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: يمكن.

كما فعل عمر رضي الله عنه، وهل يجوز النقصان منه لعسر حدث أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يخفف عن المعسر منهم بقدر ما يراه الإِمام، ولا يزاد على الغني لزيادة ماله؛ لأن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب بالتخفيف عن المعسر من أهل الجزية، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه لا يخفف عن المعسر منهم [ولا يزاد ولا ينقص] (¬1) عن ما فعله عمر فلا يخفف عنه لعسره، ولا يزاد عليه لغنائه، وهو قول ابن القاسم [وإليه أشار الباجي] (¬2)، ووجهه: الجمود على فعل عمر رضي الله عنه حتى يدل الدليل على التخفيف. والجواب عن الموضع الثالث: في وقت وجوبها. وقد اختلف العلماء في وقت وجوبها على مذهبين: أحدهما: أنها تجب بآخر الحول، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه. والثاني: أنها تجب بأول الحول عند تمام العقد، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه. وليس عن مالك رضي الله عنه في ذلك نص. وقد خرج بعض المتأخرين من "المدونة" ما يقتضي المذهبين من موضعين: منها: قوله في "الكتاب" من "كتاب الزكاة" في النصراني: تمضي السنة، ولم تؤخذ منه الجزية من سنته حتى أسلم: أنها توضع عنه؛ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فظاهر هذا أنها تؤخذ منه عند تمام الحول، وهو ظاهر قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في كتابه إلى بعض عماله أن توضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة حين يسلمون؛ لأنه أراد بذلك الماضي لا ما كان مستقبلًا؛ إذ لا يشك أحد أن من أسلم من أهل الذمة لا تثبت عليه الجزية. ومنها: قوله في الكتاب المذكور في تجار الحربيين أنهم يؤخذ منهم ما [صولحوا] (¬1) عليه باعوا أو لم يبيعوا -[ووجهه] (¬2): أنها [معاوضة] (¬3) تجب بعقد [المعاوضة] (¬4) كسائر عقود المعاوضات، وهو مذهب أبي حنيفة، إلا أن هذا استقراء ضعيف، فلو قال بعكسه لكان أولى؛ لأنه لو كان كما تأول لوجب أخذ ذلك بالعقد قبل دخولهم بلاد الإِسلام. واختلف إذا أسلموا، هل يسقط عنهم ما وجب عليهم منها على مذهبين: أحدهما: أنها ساقطة؛ لاستحالة مطالبة المسألة بالجزية، وهو مذهب مالك رحمه الله، وبه قال أبو حنيفة. والمذهب الثاني: أنه يطالب بها بعد إسلامه؛ لأن ذلك حق ترتب في ذمته قبل إسلامه؛ قياسًا على سائر الديون، وهو مذهب الشافعي [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: صالحوا. (¬2) في جـ: وزعم. (¬3) في أ: مواضعة. (¬4) المواضعة. (¬5) زيادة من جـ.

المسألة الخامسة عشر في إخراج الزكاة قبل ["حلولها"]

المسألة الخامسة عشر في إخراج الزكاة قبل ["حلولها" (¬1)] (¬2) ولا يخلو إخراج الزكاة قبل [حلولها] (¬3) من [أحد] (¬4) وجهين: إما أن يخرجها قبل الحول بكثير. أو يخرجها بقرب الحول. فإن أخرجها قبل الحول بكثير: فلا خلاف أنها لا تجزئه. وإن أخرجها بقرب الحول: فلا يخلو من أن يكون قد أخذت منه كرهًا، أو أخرجها باختياره. فإن أخذت منه كرهًا، فهل تجزئه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تجزئه، وهي رواية زياد عن مالك. والثاني: أنها لا تجزئه إذا أخذت منه كرهًا، وهي رواية ابن وهب عن مالك. والقولان في "النوادر" (¬5). فإن أخرجها [باختياره] (¬6) وإيثاره [فهل تجزئه أم لا] (¬7): فالمذهب ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 284)، والنوادر (2/ 190). (¬2) في أ: وجوبها. (¬3) في أ: وجوبها. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: المدونة (2/ 284)، والنوادر (2/ 190). (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

على قولين: أحدهما: أنها تجزئه، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬1): والثاني: أنها لا تجزئه، وهو قول أشهب في غير "المدونة" وهي رواية زياد عن مالك. وقد اختلف المتأخرون في تأويل ما وقع لأشهب في "المدونة" هل هو وفاق لابن القاسم، أو خلاف؛ لأنه قال فيها عن مالك: إذا أداها قبل أن يتقارب ذلك فلا تجزئه؛ لأنه بمنزلة الذي يصلي الظهر قبل الزوال؛ فذهب الشيخ أبو إسحاق التونسي إلى أن ذلك وفاق؛ لأنه لم يقسها على الصلاة قياسًا كليًا، ولكنه جعل المقاربة [في الحول] (¬2) مثل دخول الوقت في الصلاة؛ إذ لو قاسها على الصلاة قياسًا كليًا للزم أن يعرف الوقت الذي أفاد فيه النصاب من ساعات النهار، وذلك حرج ومشقة. وذهب غيره إلى أنه خلاف، وأنه لا يجوز تقديمها على الحول كما لا يجوز تقديم الصلاة على الوقت؛ كما نص في رواية [زياد بن شبلون] (¬3) عن مالك. وسبب الخلاف: ما قارب الشيء هل يعطي له حكمه أم لا؟ وعلى القول بأنها تجزئه إذا أخرجها بقرب الحول بيسير، فاختلف في حد القرب على أربعة أوجه: أحدها: أن الشهر قريب على وقف منه، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 284)، والنوادر (2/ 190). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: شبطون. (¬4) انظر: النوادر (2/ 190).

والثاني: أن خمسة عشر يومًا قريب، وهذا القول حكاه القاضي أبو الفضل عياض، ولم يذكر قائله. والثالث: الخمسة الأيام، والعشرة، وهو قول ابن حبيب عن من لقيه من أصحاب مالك (¬1). والرابع: اليوم واليومان، وهو قول ابن المواز (¬2). وهذا كله [استحسانات] (¬3) لا ترجع إلى قياس. فإن أخرجها قبل وجوبها بيسير، فضاعفت بغير تفريط: فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها لا تجزئه على كل الأحوال؛ لأن القائل بجوازها إذا أخرجها قبل وجوبها بيسير إنما قال بشرط النفوذ ووصولها إلى محلها، وإذا هلكت قبل النفوذ فلابد أن يخرجها ثانية من بقية المال إذا كان فيه نصاب، وإلى هذا ذهب [القاضي أبو الوليد] (¬4) ابن رشد. والثاني: أنها تجزئه ولا يعيدها؛ وهذا يتخرج على القول بأنها تجزئه إذا أخرجها قبل الحول بيسير. والثالث: أنها لا تجزئه، ويخرجها عند تمام حوله مما بقى من المال -كان قليلًا أو كثيرًا- وهو رأي ابن الجهم. فظاهر هذا القول لا يلتفت إلى النصاب في الباقي، والذي قاله القاضي أظهر الأقوال وأولاها بالصواب، وأضعفها ما رواه ابن الجهم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) المصدر السابق. (¬3) في أ: استحبابات. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من جـ.

المسألة السادسة عشر فيمن حال عليه الحول وهو في غير بلده

المسألة السادسة عشر فيمن حال عليه الحول وهو في غير بلده (¬1) ولا يخلو حاله من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون معه جميع ماله من العين. والثاني: أن يخلف جميع ماله في بلده. والثالث: أن يكون معه البعض [وخلف البعض] (¬2). فأما إذا كان معه بعضه أو كله: فلا خلاف في المذهب أنه يزكي ما معه ولا يجوز له التأخير أصلًا. واختلف في الذي خلفه في بلده، هل يزكيه مع ما معه؟ أو كان قد خلفه كله، هل يخرج زكاته إذا وجد من يسلفه أم لا؟ فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يغلب على ظنه أن أهله يخرجونها عنه أم لا. فإن غلب ذلك على ظنه: فليس عليه إخراجها في السفر. وإن تساوى عنده الأمران: فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من المدونة: أحدها: أنه يخرجها حيث هو إذا وجد من يسلفه، ولم يخش الحاجة على نفسه. والثاني: أنه يؤخرها إلى بلده، والقولان لمالك رحمه الله. ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 286). (¬2) سقط من أ.

والثالث: التفصيل بين أن يتسارع إلى إخراجها عند وصوله إلى بلاده بلا توان: فلا يقسمها في سفره، وليؤخرها حتى يقدم، إلا أن يكون بأهل البلد الذي هو به حاجة مقدحة: فليؤد مكانه. وإن كان ممن يكون منه توان وتراخ: فليزك حيث هو، وهو قول أشهب في الكتاب. وسبب الخلاف: هل النظر إلى حيث المال، أو إلى حيث المالك؟ وهذا مثار الخلاف في هذه المسألة [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

المسألة السابعة عشر في حكم ما يخرج من المعدن في الزكاة وغيرها

المسألة السابعة عشر في حكم ما يخرج من المعدن في الزكاة وغيرها (¬1) ولا يخلو ظهور المعدن من ثلاثة أوجه: إما أن يظهر في أرض العنوة، أو في أرض الصلح، أو في أرض الإِسلام. فأما الوجه الأول: إذا ظهر في أرض العنوة: فلا خلاف في المذهب أن الحكم فيه إلى الإِمام يأذن فيه لمن شاء، ويقطعه لمن أحب على النظر لأهل الإِسلام طعمة، ما [عاش] (¬2)، أو إلى وقت يوقته ويأخذ منه الزكاة. وللإمام أن يحوله من رجل إلى رجل، ولا يجوز أن يعطيه عطية تملك للأبد كما لا يقطع أرض العنوة تمليكًا، ولكن قطيعة للانتفاع، والأصل للمسلمين. ولا يزيل ذلك الملك إسلام أهل الأرض؛ لأن أهل العنوة إذا أسلموا كانت أرضهم وأموالهم التي كانت بأيديهم يوم عقدت لهم الذمة فيئًا للمسلمين دون ما [استحدثوه] (¬3) من الأموال بعد ذلك، فإنها ملك لهم، ولا تؤخذ منهم إذا أسلموا. والوجه الثاني: إذا ظهر في أرض الصلح، هل النظر [فيه] (¬4) إلى الإِمام، أو لأهل الصلح؟ ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 287: 290)، والنوادر (2/ 198: 202). (¬2) في أ: شاء. (¬3) في أ: أحدثوه. (¬4) سقط من أ.

فالمذهب على قولين: أحدهما: أن النظر فيه إلى الإِمام كمعادن أرض العنوة على سواء، وهذا قوله في "واضحة ابن حبيب". والثاني: أن النظر فيه لأهل الصلح؛ لأنه [ملك لهم] (¬1) ولا كلام للإمام فيه، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب الزكاة الأول" (¬2) وغيرها، وهو قول ابن نافع أيضًا في "كتاب ابن سحنون"، وهذا هو الصحيح. وعلى القول بأنه يكون لأهل الصلح ممن أسلم منهم، وفي أرضه معدن، هل يستمر ملكه عليه كسائر أرضه وماله أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يستمر ملكه عليه، ولا حكم فيه للإمام ولا غيره، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة [ونص ابن المواز عن مالك في كتابه. والثاني: أن النظر فيه للإمام ويبرأ فيه قوله وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة] (¬3) أيضًا، وهي رواية يحيى بن يحيى عنه في "العتبية" (¬4). وسبب الخلاف: من ملك ظاهر الأرض هل يملك باطنها أم لا؟ وهذا أصل تنبني عليه كثير من مسائل هذا الباب. والوجه الثالث: إذا ظهر في أرض الإِسلام فلا يخلو من وجهين: ¬

_ (¬1) في أ: ملكهم. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: البيان والتحصيل (2/ 395)، والنوادر (2/ 199).

أحدهما: أن يكن ظهوره في فيافي المسلمين. والثاني: أن يكون ظهوره في [أرض] (¬1) مملوكة محوزة. فإن ظهر في فيافي المسلمين وأرض العرب: فلا خلاف [أعلمه] (¬2) في المذهب أن النظر فيه إلى الإِمام؛ مثل ما ظهر في أرض العنوة سواء. وإن ظهر في أرض مملوكة محوزة: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن النظر فيه للإمام، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن النظر فيه لصاحبه، ولا حكم فيه للإمام وهو قول سحنون في "كتاب محمَّد". وسبب الخلاف: من ملك ظاهر الأرض هل يملك باطنها أم لا؟ وعلى القول بأنه يكون ملكًا لصاحب الأرض: فإنه إن شاء تولى العمل فيه بنفسه، وإن شاء عامل فيه غيره، وكيفية المعاملة فيه على ثلاثة أوجه: وجه يجوز بالاتفاق، ووجهان مختلف فيهما. فأما الوجه المتفق عليه: فهو أن يستأجر على [دركه] (¬3) رجلًا بإجارة معلومة، ويكون ما أخرج من المعدن لربه. والوجه الثاني: من الوجهين المختلف فيهما؛ وهو أن يدفعه ربه لمن يعمل فيه بجزء مما يخرج منه، فقد اختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: الجواز؛ قياسًا على القراض والمساقات، وهو قول عبد الملك، ومثله لمالك في كتاب محمَّد، واختاره فضل بن سلمة. والثاني: المنع منه؛ قياسًا على كراء الأرض بجزء مما يخرج منها، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في الأصل: بركه.

وهو قول أصبغ وغيره، واختيار محمَّد بن المواز. والوجه الثالث: إذا استأجره [بإجارة] (¬1) يدفعها العامل لرب المعدن: فالمذهب في الجواز، والمنع على قولين: أحدهما: المنع، وهو المشهور في النظر؛ لأنه إن كان الكراء بالذهب والمعدن معدن الفضة صار صرفًا مستأخرًا. وإن كان الكراء بالورق والمعدن معدن الورق كان فضة بفضة غير مماثلة ولا متقابضة. والثاني: الجواز، وهو المشهور في النقل، وهو قول مالك وأشهب وسحنون، ويكون ما خرج من المعدون للعامل قياسًا على من اكترى الأرض من رجل للزراعة. وسبب الخلاف: المستثناة من أصول فاسدة، هل يجوز القياس عليها أم لا؟ فمن جوز القياس عليها: جوز البيع. ومن منع الجواز: منع القياس؛ لأن ذلك رخصة وردت في عين مخصوص. ولا خفاء على من ذاق طعم [علم] (¬2) الأصول أن المساقات والقراض، وكراء الأرض، وسائر الإجارات أصول مستثناة من قواعد الغرر والجهالة، فهذه تفاصيل المعادن، وبيان أحوالها. وأما أحكامها في الزكاة فيما يرجع إلى معرفة النصاب والحول الذي هو عمدة المسألة: فنحن نبينه بيانًا يزيل اللبس، ويولج الثلج في النفس؛ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

بفضل الله وعونه. اعلم أن العلماء قد اختلفوا في حكم ما يخرج من المعدن في الزكاة؛ فذهب بعض العلماء إلى أنه الخمس. وذهب آخرون إلى أنه يزكي، وهو مذهب مالك، وجميع أصحابه. ولا خلاف في المذهب في اعتبار النصاب كاعتباره في العين. واختلف هل يعتبر حال المالك في الرق، والحرية أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يعتبر، وأنه لا فرق بين الحر والعبد [والمسلم] (¬1) والذمي؛ فإن الزكاة تؤخذ منه، وهو قول ابن الماجشون. والثاني: أنه يعتبر حال المالك، وأنها لا تؤخذ إلا من الحر المسلم كزكاة سائر الأموال، وهو قول ابن القاسم، وبه قال المغيرة. ووجه القول [الأول] (¬2): مراعاة مذهب من يقول: إن حكم المعدن حكم الركاز. ووجه القول الثاني: أنه مال تجب فيه الزكاة فيجب اعتبار شروط الزكاة فيه كسائر الأموال التي تزكى. واتفق المذهب عندنا أن الحول والدين لا يعتبران في زكاة المعدن، ولا تأثير فهما فيه كزكاة الزروع. واختلف في اعتبار الشركة فيه، هل تعتبر أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها لا تأثير لها، ولا اعتبار بحق كل واحد منهما، وهو قول عبد الملك. والثاني: أن الشركة معتبرة ولها تأثير، وأن لا زكاة على من ليس في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

نصيبه نصاب كالزرع، وهو قول ابن القاسم. والتوجيه: ما تقدم. وصفة اعتبار النصاب في المعدن؛ وهو أن يبتدئ نَيْلًا، فإذا حصل له [منه] (¬1) وزن خمس أواق من الفضة، أو وزن عشرين دينارًا إن كان ذهبًا: فإنه يزكي ما استخرج من ذلك النَّيْل بعد ذلك من قليل أو كثير، فإنه [يزكيه] (¬2) ما دام ذلك النَّيْل متصلًا. فإن انقطع وابتدأ نيلًا آخرًا وكان [عمله] (¬3) في معادن مختلفة، هل يضم بعض ذلك إلى بعض أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يضم نيلًا إلى نيل، ولا معدنًا إلى معدن، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يضم [بعض] (¬4) ذلك إلى بعض، وهو قول محمَّد بن سلمة. والقول بالضم أظهر في النظر، والقول بنفي [الضم] (¬5) معارض لأصل المسألة؛ وذلك أن مالكًا رحمه الله نحا بالمعدن ناحية الزرع، وأجراه على حكمه في ترك اعتبار الحول والدين؛ لأنه [شيء] (¬6) يستخرج من تجاويف الأرض [فأشبه الزرع] (¬7). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يزكي. (¬3) في أ: عنده. (¬4) في الأصل: بعد. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

فإن كان [درك] (¬1) القياس يوجب أن يضاف نيل إلى نيل و [يضم معدن إلى] (¬2) معدن كالزرع المفترق في المواضع والبلدان، وهو في ضم المعدن إلى المعدن أشبه من ضم نيل إلى نيل؛ إذ لا يبتدئ [نيل] (¬3) إلا بعد انقطاع [النيل] (¬4) الآخر، وذلك [أنه] (¬5) يشبه الشتوي والصيفي. ولا خلاف أنه لا يجوز [له] (¬6) بيع نيل أدركه للغرر في [لبث] (¬7) مدة الاتصال. واختلف هل يورث عنه إذا مات أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يورث عنه؛ لأنه بنفس موته انقطع ملكه عنه؛ لأنه ليس بملك أصلي، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وفي غيرها. والثاني: أنه يورث عنه؛ لأنه حق ثبت له، وهو قول أشهب. وإلى التوجيه رمزنا في أثناء الكلام. وإن باع تراب المعدن قبل أن يزكيه: لم ينظر إلى الثمن، وينظر إلى ما يخرج من ذلك التراب على ما اختبر قبل ذلك فيزكيه إن بلغ ما فيه الزكاة من ذهب أو فضة، وهو قول سحنون، وابن كنانة. وهذا حكم ما يخرج من المعدن من تِبْر أو تراب. ¬

_ (¬1) في أ: طرد. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: كيفية.

وأما الندرة تخرج من المعدن بعمل أو غير عمل، فيأتي الكلام عليها إن شاء الله في مسألة الركاز [وبالله التوفيق، والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

المسألة الثامنة عشر في مسألة الركاز وحكمه

المسألة الثامنة عشر في مسألة الركاز وحكمه ولا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يوجد في بلاد الإِسلام، أو في بلاد العنوة، أو في بلاد الصلح. فأما الوجه الأول: إذا وجد في أرض الإِسلام فلا يخلو من أن يوجد عليه طبع أهل الإِسلام، أو طبع أهل الكفر. فإن وجد عليه طبع الإِسلام: فلا خلاف في المذهب أن حكمه حكم اللقطة. وإن وجد عليه طبع الجاهلية: فلا يخلو من أن يجده في ملكه، أو في ملك غيره. فإن وجده في ملك نفسه، أو في فلاة من الأرض: فلا يخلو من أن يناله بعمل، أو بغير عمل. فإن ناله بغير عمل، أو بعمل يسير: فلا خلاف أنه ركاز، وفيه الخمس، وأربعة أخماسه لواجده من غير اعتبار بحال واجده من أن يكون حرًا أو عبدًا، أو ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، غنيًا، أو فقيرًا، ومن غير اعتبار بقدره كان نصابًا أو دون النصاب. إلا أن يكون يسيرًا كالعشرة دراهم: [ونحوها] (¬1): فإن قول مالك اختلف فيه على ما حكى عنه ابن نافع في "النوادر" (¬2)، [فمرة] (¬3) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: النوادر (2/ 203). (¬3) في أ: ثم.

قال: إنه ركاز، ويخمس لعموم قوله عليه السلام: "وفي الركاز الخمس" (¬1) ثم رجع فقال: "إن كان يسيرًا فلا شيء عليه". والقول الأول أظهر، وهو أسعد بظاهر [المدونة] (¬2). فإن ناله بعمل ومشقة ومؤنة، فهل يخمس، أو يزكي؟. فالمذهب على قولين من المدونة من كتاب الزكاة الأول: أحدهما: أنه ركاز وفيه الخمس -ناله بعمل أو بغير عمل- وهذا نص قوله، ثم قال في موضع آخر: سمعت أهل العلم يقولون في الركاز: إنما هو دفن الجاهلية ما لم يطلبه بمال، ولا تكلف فيه كبير عمل [وأما ما طلبه بمال أو تكلف فيه كبير عمل] (¬3) فأصيب مرة وأخطئ أخرى: فليس بركاز، وهو الأمر عندنا، وهذا نص قوله. واختلف المذهب -عندنا- في الكلفة المعتبرة ما هي على قولين: أحدهما: أن الحفر الكثير [تكلف] (¬4) يجب أن تكون فيه الزكاة، وهو ظاهر قوله في كتاب محمَّد على ما حكاه أبو إسحاق التونسي. والثاني: أن العمل المعتبر التصفية ليكون ذلك مشابهًا لتخليص الذهب والفضة من التراب بالتسبيل، وإلى هذا ذهب القاضي أبو الوليد الباجي في التأويل. وعلى اختلافهم في هذا التأويل ينبني الخلاف في الندرة المستخرجة من المعدن هل تخمس أو تزكى؟ وسبب الخلاف: اختلافهم في اشتقاق الركاز، هل هو مشتق من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1428)، ومسلم (1710). (¬2) في ب: الكتاب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

الركز؛ وهو الثبات، ومأخوذ من قولك: ركز الرمح في الأرض إذا ثبت فيها؛ فعلى هذا الاشتقاق يؤخذ الخمس من كل مال وجد تحت الأرض بغير كبير عمل -كان معدنًا أو دفن الجاهلية. أو مشتق من الركز؛ وهو الفأس أو ما يحفر به مثل المسحاة وغيرها؛ لقول عائشة رضي الله عنها: ما صدقت بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحتى سمعت وقع الركزان. فيسمى بهذا الاسم تسمية الشيء بما يلازمه؛ لأن الدفن لا يكون إلا بعد الحفر، وعلى هذا الاشتقاق يكون الركاز هو دفن الجاهلية دون ما وجد في المعدن من ندرة أو غيرها، وكل قد قيل. فإن وجده في أرض غيره، هل يكون لمن وجده، أو يكون لرب الأرض؟ [فعلى] (¬1) قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه يكون لمن وجده، ولا يكون لرب الأرض، وهو قول ابن نافع، ومثله في كتاب ابن سحنون، وهو ظاهر المدونة من مسألة الركاز: إذا وجد في دار الرجل في أرض الصلح، ورب الدار ليس من أهل الصلح، قال: ليس رب الدار فيه شيء. والثاني: أنه يكون لرب الدار دون واجده، وهي رواية بن زياد عن مالك، وبه قال عبد الملك، وهو ظاهر قوله في المدونة؛ لأن ما في داخل الأرض بمنزلة ما في خارجها. وسبب الخلاف: بَيِّن، وهو من ملك ظاهر الأرض هل يملك ما في بطنها أم لا؟ وهو أصل ينبني عليه الخلاف في هذا الباب. والوجه الثاني: إذا وجد في أرض العنوة: فلا خلاف -أعلمه- في ¬

_ (¬1) فالمذهب على قولين.

المذهب أنه [لا يكون] (¬1) لمن وجده، إلا ما رواه ابن نافع، ثم لا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يعلم أنه من أموال أهل العنوة، أو يعلم أنه ليس من أموالهم، أو يشك [فيه] (¬2). فإن علم أنه من أموالهم: ففيه الخمس، وأربعة أخماسه لأهل الجيش الذين افتتحوا تلك البلاد إن عاشوا، أو لورثتهم إن ماتوا، أو عرفت أنسابهم. فإن لم يعرفوا تصدق بهم عنهم، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وهو المشهور في المذهب. والدليل على ذلك: رد عمر رضي الله عنه للسفطين اللذين جيء بهما [إلى عمر] (¬3) رضي الله عنه من كسب الحرب، فإن فهم عمر رضي الله عنه للسفطين يقسمه على المسلمين، فلما كان بالليل رأى عمر رضي الله عنه كأن الملائكة تدفع في نحره كالصدود عن قسمته، فلما أصبح قال: هذا ما يصلح، فردها عمر رضي الله عنه إلى الذين فتحوا البلاد فقسمه بين الذرية والمقاتلة والعيال. [وقال مالك] (¬4): ذلك كنز دل عليه بعدما فتحت البلاد وسكنها الناس، واتخذوا الأهلين. فإن علم أنه ليس من أموالهم: فهو لمن وجده، ويؤخذ منه الخمس. فإن شك في ذلك، فلم يدر لمن هو: قال سحنون: فإنه يكون لمن ¬

_ (¬1) في ب: يكون. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: إليه. (¬4) سقط من أ.

وجده مراعاة لرواية ابن نافع الذي يقول: هو لمن وجده على كل حال. وأما الوجه الثالث: إذا وجده في أرض الصلح: فإنه يكَون لأهل الصلح دون من وجده على الخلاف الذي قدمناه لابن نافع في أرض العنوة. فإن وجده في دار أحدهم: فلا يخلو [واجده] (¬1) من أن يكون [هو رب الدار أو غيره. فإن كان هو رب الدار، فإنه يفوز به، وإن كان غير رب الدار فلا يخلو واجده من أن يكون] (¬2) من أهل أرض الصلح، أو من غيرهم. فإن كان من غيرهم: فهو لأهل الصلح على المشهور، ولا خمس عليهم فيه. فإن كان الذي وجده من أهل الصلح: فلا يخلو من أن يكون هو رب الدار، أو غيره. فان كان هو رب الدار: فإنه يكون له. فإن كان غير رب الدار: فالرواية أنه لا يكون لأهل الصلح، ولا يختص به من وجده إذا وجده غيره، وهذا كلام متناقض، والذي يقتضيه قوله في المدونة أن ما في داخل الأرض بمنزلة ما في خارجها أن يكون الذي له الدار يوم الصلح لا يشاركه فيه من صالح معه، وهو قوله في كتاب محمَّد أنه لرب الدار، ولم يفصل. وسبب الخلاف: من ملك ظاهر الأرض هل يملك باطنها أم لا؟ وعلى هذا اختلفوا فيمن باع [أرضًا] (¬3) فوجد فيها المشتري كنزًا أو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: دارًا.

أعمدة أو ألوية، هل تكون للبائع أو للمشتري؟ فابن القاسم يقول: إنها للمشتري. ومالك يقول: إنها للبائع. وفي المدونة ما يدل على القولين جميعًا، وقد نبهنا عليه قبل هذا. وكذلك اختلفوا أيضًا فيمن استأجر أجيرًا يحفر له في داره. ثم وجد كنزًا: فمالك يقول: إنه لصاحب الدار، وابن نافع يقول: إنه للحافر، وهذا كله مبني على هذا الأصل. واختلف قول مالك في الركاز إذا كان ليس بعين كالجوهر، والنحاس، والرصاص، وسائر العروض؛ فمرة يقول: فيه الخمس، ومرة يقول: لا خمس فيه، وبالقول بوجوب الخمس أخذ ابن القاسم. وسبب الخلاف: عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في الركاز الخمس" (¬1) هل هو عموم أريد به العموم، أو هو عموم أريد به الخصوص [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) زيادة من جـ.

المسألة التاسعة عشر في الأصناف الذين تصرف إليهم الزكاة

المسألة التاسعة عشر في الأصناف الذين تصرف إليهم الزكاة وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} (¬1). فهذه ثمانية أصناف يجوز وضع الصدقات فيها، ولا يجوز وضعها في غيرهم؛ لقوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) (¬2)، فأتى بلفظة الحصر، وهذا يقتضي نفي إعطاء الزكاة لغيرهم. فأما الفقراء والمساكين: فاختلف العلماء [فيهم] (¬3)؛ فقال مالك: [إن المسكين أحوج من الفقير] (¬4) لأن الفقير من له البلغة من العيش لا تقوم به. [والمسكين] (¬5): الذي لا شيء له. ولمالك في "العتبية" أيضًا من رواية ابن وهب أن الفقير: الذي يتعفف عن المسألة مع حاجته، والمسكين: الذي يسأل على الأبواب والطرقات فخرج من ذلك أن المسكين أحوج من الفقير، وأنهما اسمان متغايران، ومنه قول الشاعر (¬6): أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال [فلم] (¬7) يترك له سبد ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية (60). (¬2) سورة التوبة الآية (60). (¬3) في ب: فيهما أيهما أحوج. (¬4) سقط من أ. (¬5) في الأصل: المساكين. (¬6) وهو ابن الأعرابي. (¬7) في الأصل: ولم.

والدليل أيضًا لقول مالك في "العتبية": أن الفقير المتعفف الذي لا يسأل؛ لقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (¬1). معناه: أنه لا يفطن لهم، فيتصدق عليهم. إلا أن بعض العلماء قال: ليس في هذه الآية دليل على نفي السؤال [جملة لقوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (¬2) مفهومه أنه يسأل سؤالًا دون الإلحاح، والإلحاح: المبالغة في السؤال. وذهب الشافعي إلى أن الفقير أحوج من المسكين، وربما استدلوا على ذلك بقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} (¬3)؛ سماهم مساكين، ولهم سفينة، وقد قرئت: "لمسَّاكين" بالتشديد للسين (¬4)، وهم [ملاحو السفينة] (¬5). وعلى القراءة المشهورة يمكن أن يتأول إطلاق المسكنة عليهم لعدم القدرة، لا لعدم المال؛ لأنهم لا يقدرون أن يخلصوا أنفسهم من الملك الذي أمامهم، وما أمنوا من أخذ سفينتهم غصبًا، فسماهم مساكين مجازًا واتساعًا. فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن الفقير أحوج من المسكين. والثاني: أن المسكين أحوج. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية (273). (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة الكهف الآية (79). (¬4) قال ابن العربي: ولا حاجة لذلك. (¬5) في الأصل: النوانية.

والثالث: أن الفقر والمسكنة عبارتان عن معنى واحد. والصحيح من ذلك ما اختاره مالك من أن المسكين أحوج من الفقير؛ لأن كل واحد منهما مأخوذ من اسمه، ومشتق من رسمه؛ والفقير مأخوذ من كسر الفقار، وهو سنمة الظهر. والذي يسكن ولا يتحرك أشد ضعفًا من المكسور؛ لأن المكسور يتحرك. واختلف في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (¬1)، هل هو على عمومه، أو على عموم مخصوص، والمشهور من مذاهب العلماء: أنه مخصوص بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحل الصدقة لآل محمَّد، إنما هي أوساخ الناس" (¬2). بيد أن أرباب المذهب عندنا اختلفوا في فقراء آل محمَّد، هل تحل لهم الصدقة أم لا؟ على أربعة أقوال: أحدها: أن [الصدقات] (¬3) كلها -فرضها وتطوعها- محرمة عليهم. وهذا القول رواه ابن حبيب في شرح الموطأ عن مطرف، وابن الماجشون، وابن نافع، وأصبغ. والثاني: أن الصدقات كلها -فرضها ونفلها- حلال لهم، وهذا القول حكاه الشيخ [القاضي أبو الحسن بن القصار] (¬4) عن أبي بكر الأبهري. والثالث: أنها تحل لهم صدقات التطوع، ولا تحل لهم صدقات ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية (60). (¬2) أخرجه مسلم (1072). (¬3) في أ: الصدقة. (¬4) في أ: أبو الحسن القاضي.

الفرض. والرابع: أنها تحل لهم صدقات الفرض، ولا تحل لهم صدقات التطوع؛ لأن المنة تقع فيها. والقولان الآخران حكاهما القاضي أبو الحسن بن القصار عن المذهب. وسبب الخلاف: ما قدمناه. واختلف في ذوي القربى الذين لا تحل لهم الصدقة على ثلاثة أقوال، كلها مذهبية: أحدها: أنهم بنو هاشم، وهو مذهب ابن القاسم، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه استثنى [بنى] (¬1) أبي لهب. والثاني: هم عشيرته الأقربون الذين ناداهم حين أُمر، وهم: آل عبد المطلب [وآل هاشم] (¬2)، وآل عبد مناف، وآل قصي، وبنو غالب، وهو قول أصبغ. والثالث: أنهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب. والأظهر: قول ابن القاسم؛ لأن الآل إذا وقع على الأقارب، فإنما يتناول الآدنين. واختلف في الموالي، هل يدخلون في النهي أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن الموالي لا يدخلون [في النهي] (¬3)، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنهم يدخلون فيهم، وهو قول مطرف، وابن الماجشون، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وابن نافع، وأصبغ؛ على ما حكاه عنهم ابن حبيب في "واضحته". وسبب الخلاف: اختلافهم في معنى قوله عليه السلام: "موالى القوم منهم" (¬1). فمن حمله على ظاهره قال: إن الصدقات لا تحل للموالي. ومن حمل ذلك على البر والإكرام والحرمة قال: تحل لهم؛ كقوله عليه السلام [: "أنت ومالك لأبيك"، يريد به] (¬2) في البِّر والإكرام والطاعة، لا في القضاء واللزوم. فإذا ثبت ذلك، فالقدر الذي يعطي للفقير من الزكاة يختلف باختلاف أحواله وصفاته؛ فإن كان فقيرًا متعففًا عن السؤال، مشتهرًا بحال ذوي العيال والأهل: فإنه يؤثره على غيره من غير إشكال. واختلف هل يعطي له [من الزكاة نصابًا أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يعطى نصابًا. والثاني: أنه يعطى على قدر حاله] (¬3). وإن كان أكثر من النصاب [وهو أبين] (¬4). وهذا الخلاف مبني على الخلاف فيمن له نصاب من المال، ووجبت عليه [فيه] (¬5) الزكاة، هل يعطى من الزكاة أم لا؟ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1650)، والترمذي (657)، والنسائي (2612)، وأحمد (26641)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه العلامة الألباني في الصحيحة (1613)، والدارقطني في العلل (7/ 12) من حديث أبي رافع. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

وحكى ابن المواز عن مالك أنه يعطى من الزكاة من له أربعون دينارًا إذا كان كثير العيال. وروى المغيرة عن مالك أن من له دار يفصل في ثمنها عشرون دينارًا أنه لا يعطى من الزكاة. وسبب الخلاف: هل المعتبر النصاب، أو كثرة العيال، وما عرفت لقول من قال لا يبلغ له في العلماء نصابًا وجهًا، ويؤثر الضعيف في بدنه على الصحيح في جسمه. وما روى عنه - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحل صدقة لغني، ولا لذي مرة سوى" (¬1) ليس على ظاهره. ويقدم الفقير المصلي على غير المصلي [ويؤثر عليه] (¬2)، وقد قال المغيرة: يؤثر الفقير لحسن حاله، ولا يُحرم لسوء حاله. ولم يجز ابن حبيب أن يعطى لتارك الصلاة؛ وقال: إن ذلك لا يجزئ من فَعله، وهذا القول انفرد به، وحكاه عنه أبو محمَّد عبد الله ابن أبي زيد في "النوادر" (¬3): ولا يعطى منها لعبد ولا لذمي، وإن كانا فقيرين [فمن] (¬4) أعطاهما غامدًا: [فلا خلاف أنها لا تجزئه] (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1634)، والترمذي (652)، وأحمد (6530) , (6798)، والدارمي (1639)، وعبد الرزاق في المصنف (7155)، وأبو عبيد في الأموال (1728) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: النوادر (2/ 296). (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: فإنه لا يجزئه.

وإن أخرج زكاته ثم تبين له أن الذي أخذها منه غني أو [عبد] (¬1)، أو ذمي: فلا يخلو من أن تكون قائمة بأيديهم أو استهلكوها. فإن كانت قائمة بأيديهم: فلا خلاف أنه يستردها [منهم] (¬2) ويصرفها إلى مستحقيها. فإن استهلكوها: فإن كانوا مياسير: ضمنوها، وإن كانوا معاسير، فهل يجزئ المزكي أو يعيد؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز. والثاني: المنع [والقولان لابن القاسم. والمنع في المدونة وله الإجزاء في الأسدية على ما نقله الباجي في المنتقى] (¬3). وسبب الخلاف: المجتهد هل يعذر باجتهاده أم لا؟ والفقراء في أخذ الزكاة على وجهين: أجانب للمزكي، وأقارب. فأما الأجانب: فلا خلاف في جواز دفع الزكاة إليهم، وأما الأقارب: فعلى ضربين: ضرب يلزم المزكى [الإنفاق عليهم] (¬4)، وضرب لا يلزمه ذلك عليهم. وأما من يلزم [رب المال] (¬5) الإنفاق عليهم في أصل الشرع، فلا ¬

_ (¬1) في الأصل: عمد. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: عليهم الإنفاق. (¬5) في ب: المزكى.

[يجوز] (¬1) دفع الزكاة إليهم بالاتفاق؛ لأنهم أغنياء بما يستحقونه من النفقة عليهم. وأما من لا يلزمه الإنفاق عليهم: فلا يخلو من أن يكونوا في عياله أم لا. فإن كانوا في عياله: فلا ينبغي له أن يفعل، فإن فعل فقد أساء، ثم لا يخلو من أن يكون قد قطع بذلك الإنفاق [عن نفسه أم لا: فإن قطع ذلك الإنفاق] (¬2) عن نفسه فلا يجزئه. ووجهه: أنه قد انتفع بزكاة ماله حين قطع بها ما التزم من الإنفاق عليهم [والقيام بهم] (¬3). فإن لم يقطع بذلك الإنفاق [عليهم] (¬4): فلا يضمنها، وروى ذلك مطرف عن مالك، وقال ابن حبيب، فإن لم يكونوا في عياله: فلا يخلو من وجهين: إما أن يكون هو الذي يتولى [الصرف] (¬5) إليهم أو غيره. فإن تولى الدفع إليهم غيره: فلا خلاف في الجواز. وإن كان هو الذي تولى الدفع إليهم: فعن مالك قولان: أحدهما: الجواز مع الكراهة، وهي رواية ابن القاسم عن مالك في "المدونة". ¬

_ (¬1) في ب: يجزئه. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: عن نفسه. (¬5) في ب: التصريف.

والثاني: الجواز من غير كراهة، وهي رواية مطرف عنه [وذكر] (¬1) أن مالكًا كان يعطي قرابته صدقة ماله. ووجه قول ابن القاسم: أنه يقصد بذلك المحمدة والثناء، وصرف مذمتهم عنه. ووجه قول مطرف: أن إخراج الزكاة مبني على صرفها إلى من يختص لمن يخرجها ما لم تلزمه نفقته، ولذلك اختصت بأهل البلد. وأما العاملون عليها؛ وهم جباتها، ولا يجوز أن يستعمل عليها عبد أو ذمي؛ لأن الجابي حاكم بين الفقراء والأغنياء، والعبد والذمي لا يجوز حكمهما، ولا ينفذ أمرهما. ويجوز استعمال الغنى عليها، وأجرته على قدر عنائه في قرب البلاد وبعدها، وكثرة الزكاة وقلتها, وليس لذلك حد معلوم. وأما المؤلفة قلوبهم: فقد اختلف فيهم على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المؤلفة قلوبهم [قوم] (¬2) من أعيان المشركين ورؤسائهم، أسلموا فيرشوا ليجلبوا غيرهم إلى الإِسلام، وهذا القول [أمثل] (¬3) الأقوال، كأبي سفيان وغيره. والثاني: أن المؤلفة قلوبهم قوم ضعفاء دخلوا في الإِسلام، فيرشوا ليثبتوا في الإِسلام [وليتمكن في] (¬4) قلوبهم. والثالث: أن المؤلفة قلوبهم [قوم] (¬5) من الكفار يعطون ليدخلوا في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في الأصل: مثل. (¬4) في أ: ولتسكن. (¬5) سقط من أ.

الإِسلام. واختلف المذهب عندنا في سهمهم؛ هل هو باق ويُرد إليهم إن احتيج إليهم، أو هو ساقط إلى يوم القيامة؛ لأن الله تعالى قد [أغنانا بالمسلمين عنهم] (¬1) وقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} (¬2). في "المدونة" (¬3) عن مالك: عبيد يشتريهم الإِمام من الزكاة فيعتقهم، ويكون ولاؤهم لجميع المسلمين. واختلف هل يُفَك بها مكاتب ليحصل له العتق أم لا على قولين: أحدهما: المنع، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬4)، وقال أصبغ في غير "المدونة" (¬5): فإن فعل فليعد أحب إليَّ. واختلف إذا اشترى عبدًا من زكاة ماله، فيعتقه عن نفسه على قولين: أحدهما: أنه لا يجزئه، وعليه أن يخرجها ثانية، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنها تجزئه، وولاؤه للمسلمين كمن أمر أن يعتق عنه عبده، أو يذبح عنه أضحيته، ففعل ذلك عن نفسه، وهو قول أشهب. وكذلك اختلفوا في الأسير، هل يفدى من الزكاة أم لا، على قولين: أحدهما: أنه لا يفدى من الزكاة، وأنه إن فعل أعاد وهو قول أصبغ. والثانى: أنه يجزئه؛ لأنها رقبة قد ملكت بملك الرق، وهي تخرج ¬

_ (¬1) في أ: أغنى المسلمين. (¬2) سورة البقرة الآية (177). (¬3) انظر: المدونة (2/ 299). (¬4) انظر: المصدر السابق. (¬5) انظر: النوادر (2/ 285).

رق إلى عتق؛ بل ذلك أحق وأولى من فك الرقاب التي بأيدينا وأما الغارمون، فقد قال القاضى أبو محمَّد عبد الوهاب: الغارمون: الذين لا يجدون لهم وفاءً لديونهم، ويكون لهم أموال بإزاء ديونهم، فيعطوا من الزكاة ما يقضون به ديونهم، وفي قوله نظر؛ لأنه قد يكون دينهم مائة دينار، وفي أيديهم مائة، فليس يقضى دينه. إن بقى في يده مائة دينار، والغارم يعطى من الزكاة بأربعة شروط: ألا يكون عنده ما يقضي من دينه. وأن يكون الدين لآدمي، وأن يكون فيما يحبس فيه، وألا تكون تلك المداينة في فساد. فقولنا: أن يكون الدين للآدمي احترازًا مما هو لله، مثل كفارة الظهار وقتل النفس. فالذي لا يعطى منها؛ لأن ذمته غير عامرة بشيء يتخذ على اليقين. وقولنا: أن يكون الدين مما يحبس فيه احترازًا من نفقة الوالدين على الاتفاق أو الولد على الخلاف؛ لأن نفقة الوالدين لا يحبس فيها حتى يستبرؤوا أمره إذا ادعى العسرة، وإنما تجب مع اليسر الظاهر. وقد اختلف المذهب عندنا فيمن فرط فيها فلم يخرجها ناسيًا أو عامدًا حتى تلف ماله، فهل يعطى من الزكاة ما يؤدي به ما عليه من الزكاة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يعطي منها لأنه ممن يأخذه السلطان، ويحكم بها عليه ثم يردها إلى مواضع الزكاة، وقد برئت ذمته. والثاني: أنه لا يعطى ولا يقضى من الزكاة دين زكاة؛ لأن هذه غصب، والمغصوب لا يقضى من الزكاة. وهذا مخالف لمسألة كفارة الظهار، وقتل النفس؛ لأن الذمة هاهنا عمرت بشيء بعينه فأشبهت ديون المعاملة من وجه.

واختلف أيضًا في دين الميت، هل يقضى منها أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يقضى منها، وهو قول محمَّد بن المواز. والثاني: أنه يقضى منها، وهو قول ابن حبيب. وقولنا: ألا تكون تلك المداينة في فساد، قد اختلفوا في مداينة الفساد، هل تقضي من الزكاة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يقضي منها، لأن ذلك إعانة له على الفساد. والثاني: أنه يعطى منها، وهو قول محمَّد بن عبد الحكم، وذلك إذا حسنت حالته؛ لأنه دين يلزم ذمته، وهو من جملة الغارمين، وهو دين يحاص به غرماؤه؛ إذ لا تخلو الجناية من أن تكون عمدًا أو خطأ، فإن كانت الجناية خطأ، وهي دون الثلث قضى عنه، وإن كانت أكثر من الثلث لم يعطى؛ لأن العاقلة تحملها عنه، وإن كانت الجناية عمدًا بنيت على الخلاف الذي قدمناه إذا كانت المداينة في فساد؛ لأن ذلك داعية إلى العودة إلا أن تعلم منه توبة وخير. فإن كان ذلك رزق لزوجته، فلا يخلو من أن يكون عن مدة مضت أو لا تستقبل. فإن كانت عن مدة قد مضت، فلا يخلو من أن يكون موسرًا أو معسرًا. فإن كان موسرًا، فهو من الغارمين. وإن كان معسرًا لم يكن منهم؛ لأن النفقة ساقطة عنه في حال عسره، وإن كانت لما تستقبل فليس من الغارمين لأن ذمته غير عامرة بشيء، والحميل إذا كان المحتمل عنه معسرًا أُعطى قولًا واحدًا. وإن كان موسرًا والحميل معسر، فهل يعطى من الزكاة ما يقضي به عن نفسه حمالته أم لا؟ قولان:

وينبني الخلاف على الخلاف في الطلب، هل هو على التخيير أو على الترتيب؟ فعلى القول بالتخيير يعطى، وعلى القول بالترتيب لا يعطى] (¬1). وفي سبيل الله: قال مالك: سبل الله كثيرة، وأرى أن يصرف في الغزو. ولا خلاف في المغازي إذا لم يكن معه ما يكفيه أنه [يجوز له] (¬2) أن يأخذ من الزكاة، وإن كان غنيًا في بلده. واختلف فيما إذا كان معه ما يكفيه، هل يجوز له أخذها أم لا، على قولين: أحدهما: أنه لا [يجوز] (¬3)، وهو قول عيسى بن دينار (¬4). والثاني: أنه [يجوز له] (¬5) أن يأخذ منها، وهو قول أصبغ (¬6). وسبب الخلاف: اعتبار الحال، والمآل. وابن السبيل: هو العابر الطريق: فلا خلاف أيضًا أنه يعطى من الزكاة إذا لم يكن معه ما يكفيه. واختلف إذا كان معه ما يكفيه على قولين: أحدهما: أنه يعطى، وإن كان معه ما يكفيه، وهو [غني ببلده] (¬7) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يجزئه. (¬3) في أ: يجزئه. (¬4) انظر: النوادر (2/ 283). (¬5) في أ: يجزئه. (¬6) انظر: النوادر (2/ 283). (¬7) في أ: في غير بلده.

وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا يعطى من الزكاة إذا كان معه ما يكفيه، وهي رواية [ابن نافع] (¬1) عن مالك أيضًا، وبه قال أصبغ. ووجه القول الأول: قوله تعالى: {وَابْنَ السَّبِيلِ} (¬2)، ولم يفرق، وهو أعلم، ومن جهة القياس أن هذا صنف يجوز صرف الزكاة إليه بمعنى سفره في أي وجه صرفها إليه، وإن كان معه ما يكفيه كالغازي. ووجه القول الثاني: ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم -[أنه قال] (¬3): "لا تحل صدقة لغني [ولا لذي مرة سوى] (¬4) " (¬5) فلم يذكر المسافر. ولا فرق بين أن يكون هذا المسافر الذي هو ابن السبيل مبتدئًا لسفره، أو مستديمًا. ومعنى المستديم: هو الذي في أثناء سفره. ومعنى المبتدئ: هو الغريب يكون بالبلد له فيه مدة ثم يريد الرجوع إلى وطنه. وكلاهما سواء في جواز دفع الزكاة إليهما عند مالك رضي الله عنه [تم بحمد الله وحسن عونه، والحمد لله وحده] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة البقرة الآية (177). (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: إلا خمسة. (¬5) تقدم، وهو صحيح. (¬6) سقط من أ.

كتاب الزكاة الثاني

كتاب الزكاة الثاني تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها: سبع عشرة مسألة. المسألة الأولى في زكاة الإبل وقد جرى في المدونة في ترتيب زكاة الإبل ما فيه كفاية على ما في كتاب ابن حزم، ومثلها في صحيفة كتب بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه -يذكر أنها الزكاة التي أمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحديث على ترتيبه ونظامه [يشتمل] (¬1) على اثنى عشر نصابًا، وهي خمسة، وعشرة، وخمسة عشر، وعشرون، وخمسة وعشرون، وستة وثلاثون، وستة وأربعون، وإحدى وستون، وستة وسبعون، وإحدى وتسعون، وما بعد العشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. واختلف في ثالث عشر، وهو أحد وعشرون ومائة، هل هو نصاب قائم بنفسه، أو لا حكم للواحدة؟ وهذه النصب اشتملت على صنفين من الصدقة؛ غنم وإبل. فالغنم صدقته أربعة نصب؛ [نصاب] (¬2) خمسة [وعشرة] (¬3) وخمسة عشر وعشرون، في كل خمسة شاة. والإبل صدقة ما بعد هذه الأربعة وهي خمسة [أسنان] (¬4): بنت ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

مخاض، وابن لبون، وبنت لبون، وحقة، وجذعة فبنت مخاض، وابن لبون: ذكر صدقة نصاب واحد؛ وهو خمسة وعشرون. وبنت لبون صدقة ثلاثة نصب ستة وثلاثون، وستة وسبعون: ففيهما ابنتا لبون. وما زاد على عشرين ومائة، ففي كل أربعين: [ثلاث بنات] (¬1) لبون. والحقة [صدقة] (¬2) ثلاثة نصب؛ ستة وأربعون، واحد وتسعون: ففيها حقتان، وما زاد على العشرين ومائة في قوله [: وفي كل] (¬3) خمسين حقة، والجذعة صدقة نصاب واحد، وهو واحد [وستون] (¬4) والوقص ما بين الفريضتين، وأقله في الإبل أربعة، وهو ما بين خمسة وعشرة، وأكثره على قول ابن القاسم بالانتقال من الحقتين إلى ثلاث بنات لبون إذا زادت واحدة على مائة وعشرين [إلى تسع وعشرين] (¬5) وهو ما بين أحد وتسعين إلى أحد وعشرين ومائة، وكذلك يأتي على قول [مالك] (¬6) بالتخيير. وأما قول الآخر بالتمادي على الحقتين إلى تسع وعشرين [ومائة] (¬7) فيأتي أكثر الوقص ثمانية وثلاثون. واختلف في هذه الجملة في ثلاثة مواضع: ¬

_ (¬1) في أ: بنت. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في جـ: وتسعون. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

[أولها] (¬1) في خمس وعشرين إذا لم تكن فيها بنت مخاض، ولا ابن لبون ذكر، [والثاني] (¬2) في إحدى وعشرين ومائة، [والثالث] (¬3) في المائتين. وأما الخمسة والعشرون: فإنها لا تخلو من أربعة أوجه: إما أن تكون فيها السنان جميعًا، أو يعدما جميعًا، أو يكون فيها أحدهما على البدل. فإن كان فيها أحد السنين: كان الواجب فيها [الموجود] (¬4) لا غيره. فإن كان فيها السنان جميعًا: كان الواجب بنت مخاض من غير خيار. واختلف إذا تراضيا جميعًا -رب المال والساعي- على أخذ ابن لبون ذكر على قولين: أحدهما: الجواز، وهو قول ابن القاسم في كتاب محمد. والثاني: أنه لا يجوز، وهو قول أشهب. وفي "المدونة" ما يدل على القولين جميعًا؛ لأن أبن القاسم خيره في المائتين بين أربع حقاق أو خمس بنات لبون. ولا فرق في التحقيق بين الموضعين إلا التعلق بقوله: فإن فلم تكون بنت مخاض، فابن لبون ذكر. وسبب الخلاف: هل ذلك من باب البدل، أو ذلك من باب إخراج القيم في الزكاة؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: المأخوذ.

فمن رأى أنه من باب البدل جوزه، ومن رأى أنه من باب إخراج القيمة منع. وإن عدم منها السنان جميعًا، هل يخير الساعي على صاحب الإبل أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا خيار له، ويجبر رب الإبل على أن يأتي بابنة مخاض على ما أحب أو كره، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن الساعي مخير إن شاء كلفه بنت مخاض، وإن شاء بابن لبون ذكر، وهو تأويل ابن المواز على قول ابن القاسم في المدونة؛ لاستشهاده بقول مالك في المائتين. وعلى القول بأنه لا خيار للمصدق فإذا لم يلزمه بنت مخاض حتى أحضر صاحب الإبل ابن لبون ذكرًا، هل يجبر المصدق على قبوله أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يجبر على قبوله، ويكون بمنزلة ما لو كان فيها، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا يجبر، وهو قول أصبغ؛ لأنه لما عدم في الإبل كان الساعي على أمره كما لو كان السنان في الإبل. والحكمة في كون الشارع جعل ابن لبون عوضًا من بنت مخاض إذا عدمت؛ وذلك أن بنت مخاض لها مزية الأنوثية، والإناث في الإبل عند العرب أفضل من الذكران للنسل والدر، وابن اللبون له مزية السن؛ لأنه أكبر من بنت مخاض، فكان ما فات للمساكين من جودة بنت مخاض في الأنوثية استدركوه في كبر [سن] (¬1) ابن لبون وكثرة لحمه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

غير أن الشارحين اختلفوا في معنى قوله في الحديث: "فإن لم يجد بنت مخاض، فابن لبون ذكر" (¬1)، وما فائدة قوله: ذكر؟ لأن قوله: ابن لبون مغني عن زيادة التذكير؛ فقيل: هو تأكيد كما قال تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} (¬2)، والسود هو الغرابيب. وقيل: بل فسره بقوله: ذكر إذ من الحيوان ما ينطلق عليه ابن، على ذكره وأنثاه كابن عرس، وابن آوى، وابن [ميرة] (¬3) ليرفع الإشكال لكي لا يتوهم متوهم أن الذكر والأنثى فيه سواء. والموضع الثاني: إذا زاد واحد على مائة وعشرين من الإبل، هل يتغير الفرض به أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الساعي مخير إن شاء أخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون، وهو قول مالك في المدونة. والثاني: أن فيها ثلاث بنات لبون، ولا خيار للمصدق في ذلك، وهو قول ابن القاسم في المدونة على رأي ابن شهاب. والثالث: أن فيها [حقتين] (¬4) ولا خيار للمصدق، وهو قول مالك في "المبسوط" وغيره، وبه أخذ المغيرة، ومحمد بن مسلمة وأشهب، وابن الماجشون. وسبب الخلاف: اختلاف الأصوليين في الحكم المتعلق بما له أول وآخر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1380). (¬2) سورة فاطر الآية (27). (¬3) في جـ: فترة. (¬4) في ب: حقتان.

من الأسماء، هل يتعلق بأوائلها أو بأواخرها؟ وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بعد مائة فما زاد ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة" (¬1) والزيادة في هذا الموضع أقلها واحد، وأعلاها عشرة. وهل يعتبر الحكم بأقل الزيادة، أو لا يغيرها إلا [عشرة] (¬2)؟ فإن نظرت إلى مجرد قوله عليه السلام: "فما زاد" وجب أن يناط الحكم بأقل ما يقع عليه اسم الزيادة، وإن نظرت إلى المعنى، وأن الفرض بعد المائة والثلاثين لا يتغير [الحكم] (¬3) إلا بزيادة العشرة وجب ألا [ينفي] (¬4) الحكم عن حقتين إلا بزيادة العشرة، وهذا مثار الخلاف في المسألة. وأما القول بتخيير الساعي، فقد اختلف أرباب المذهب في تأويله: أما أشهب فقال: إن أخذ ثلاث بنات لبون، فإنما أخذها عن عشرين ومائة؛ لقوله: "في كل أربعين بنت لبون"، وليس في الواحدة شىء؛ لأنها وقص. وإن أخذ حقتين [فإنما أخذهما عن] (¬5) مائة؛ لقوله عليه السلام: "في كل خمسين حقة"، وليس في أحد وعشرين شىء؛ لأنه وقص. والذي قاله خلاف الظاهر. ومنهم من قال: معنى ذلك أن الساعي لما تعارضت لديه الأدلة وتساوت عنده الاحتمالات؛ لأن المخير كالمجتهد إذا تعارضت عنده الأدلة ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) في ب: أعلاها. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: يتغير. (¬5) في أ: فعن.

، ولم يجد السبيل إلى الترجيح كان مخيرًا إن شاء أخذ بدليل الحظر أو بدليل الإباحة [وأيضًا فتخيير المالك أولى إذا أشكل الأمر من غير استباحة منه للمحارم، وهذا الذي قاله ظاهر] (¬1). قال أبو الحسن اللخمي: هذا التأويل غير صحيح وليس للمصدق أن يحكم في مسألة اختلاف بما يراه؛ لأنه ليس بحاكم، ولا أقيم لذلك، وإنما هو وكيل على القبض، فإذا خالفه المأخوذ منه الذي هو رب المال كان الأمر إلى من يحكمانه [بينهما من فقيه وغيره، فتخيير المالك إذا أشكل الأمر أولى من تخيير الساعي؛ لأنه الغارم، وهذا الذي قاله ظاهر لمن تأمله] (¬2). وأما الموضع [الثالث] (¬3): إذا كانت [مئتان] (¬4) من الإبل فلزكاتها طريقان، فإن زكيت بقوله عليه السلام: "ففي كل خمسين حقة": كان فيها أربع حقاق، وإن زكيت بالأربعين كان فيها خمس بنات لبون. واختلف إذا كانت فيها الحقاق وبنات اللبون على ثلاثة أقوال: أحدهما: أن الحكم في ذلك إلى المصدق، ويأخذ بأي الطريقين شاء، وهو المقدم على صاحب الإبل، وهو قول مالك وابن القاسم في المدونة. والثاني: أن الحكم لصاحب الإبل، وهو مقدم على الساعي -كانت السنان في الإبل أو عدما وهو قول القاضي أبي محمد عبد الوهاب. والثالث: التفصيل بين أن يكون السنان في الإبل، فيكون الحكم إلى ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) في الأصل: ما يعان.

الساعي، وبين أن يعدما فيكون الحكم لصاحب الإبل، وهو قول مالك في كتاب ابن المواز. وسبب الخلاف: هل الساعي مقدم على رب المال؟ أو رب المال مقدم على الساعي؟ وهو الأظهر لحديث ابن مسلمة أنه كان لا يساق إليه شيء فيه وفاء بحقه إلا أخذه. وهذا كله فيما لم تكن الحقاق [قوام] (¬1) ماله وخياره. فإن كانت هي [القوام] (¬2) والخيار: لم يكن للساعي إلا بنات لبون [ولا يجوز للساعي إلا بنات لبون] (¬3)، ولا يجوز للساعي أن يتعدى فيأخذ غير السن الذي [وجب] (¬4) له في الجودة إلا برضاء رب المال كأخذ بنت لبون عن بنت مخاض. واختلف إذا أخذ الساعي الأعلى، وإذا ثمنها وأخذ الأدنى، وزيادة الثمن على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك جائز، وهو قول مالك في "مختصر ما ليس في المختصر". والثاني: أن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثالث: [أنه] (¬5) مكروه. فإن نزل، فإنه يمضي، وهو قول ابن القاسم، وأشهب في "المجموعة". ¬

_ (¬1) في أ: قوائم. (¬2) في أ: القوائم. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: أن ذلك.

وهذا الخلاف ينبني على الخلاف في شراء الرجل صدقة ماله، وسنعقد عليه مسألة [مفردة] (¬1) إن شاء الله، وهو حسبي ونعم الوكيل [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من جـ.

المسألة الثانية في زكاة الغنم

المسألة الثانية في زكاة الغنم والأصل فيها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في سائمة الغنم الزكاة إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإن زادت على عشرين ومائة إلى مائتين كان فيها شاتان، فإن زادت على مائتين إلى ثلاثمائة، ففيها ثلاث شياه، فما زاد على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة [شاة] (¬1) واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها [إخراجها] (¬2) ". أخرجه البخاري في صحيحه (¬3). فَوَقَّتَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أربعة نصب؛ أربعين، وإحدى وعشرين ومائة، ومائتين وواحدة، ثم العدد بالمئين في كل مائة شاة، وأقل وقصها ثمانون، وهي ما بين أربعين إلى أحد وعشرين ومائة وأكثره مائتان إلا اثنتين، وهو ما بين مائتين وواحدة إلى أربعمائة. وأوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - في النصاب شاة، وفي النصابين شاتين، ولم يأت بيان سنها، ولا صفتها من طريق صحيح. واختلف المذهب عندنا في السن المأخوذ في الزكاة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يؤخذ الجذع، والجذعة، والثني والثنية، والضأن، والمعز سواء في ذلك، وبه قال أشهب، وابن القاسم، وهو ظاهر المدونة. والثاني: أنه لا يؤخذ [إلا] (¬4) الإناث من الجذعة، [أو الثنية] (¬5) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) حديث (1380). (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

وهو قول أبي الحسن بن القصار. والثالث: التفصيل بين الضأن والمعز؛ فيؤخذ الجذع [من الضأن] (¬1) [والثنية] (¬2) من المعز، ولا يكون إلا أنثى، ولا يأخذ الذكر؛ لأنه تيس، وهو قول ابن حبيب. وسبب الخلاف: اختلافهم في قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "خذ الجذع والثنية" وذلك عدل بين شرار الغنم وخيارها، وهل ذلك اجتهاد من عمر رضي الله عنه أو ذلك مما مضى عليه العمل في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وأيّ [ذلك] (¬3) كان فإن التساوي بين المعز والضأن أولى؛ لقول عمر رضي الله عنه. والثنية هي التي أسقطت ثنيتها، وهي ابنة سنتين. واختلف في سن الجذعة من الغنم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بنت سنة، وهو قول علي بن زياد في المجموعة. والثاني: أنها بنت عشرة أشهر، وهو قول ابن وهب. والثالث: أنها بنت ستة أشهر، وهي رواية سحنون عن علي بن زياد أيضًا. والجذعة من الإبل ما أوفى أربع سنين، ودخل في الخامس، ومن البقر سنتين. وقال ابن نافع: الجذع من البقر ما أوفى سنتين، ودخل في الثالثة مثل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: والثنى. (¬3) سقط من أ.

الدواب؛ لأن الجذع في الدواب ما دخل في السنة الثالثة. وهذا الذي ذكرناه في الجذعة والثنية إذا كانت الغنم مختلطة؛ صغارًا وكبارًا، جيدةً ورديئةً. واختلف إذا كانت جنسًا واحدًا خيارًا كلها أو رداءً أو [ماخض] (¬1) أو علوفة، أو فحول، أو دنية كلها، [عجاف] (¬2) أو ذات عور، أو سخال على أربعة أقوال: أحدها: أنها كالمختلطة، ويأتى ربها بزكاتها من غيرها، وهو قول مالك في المدونة. والثاني: أن الساعى يأخذ منها، وإن كانت [خيارًا] (¬3) أو شرارًا، إلا أن تكون سخالًا كلها أو مواكل، أو فحولًا كلها فلا يأخذ منها ويأتى بالسن الواجب عليه، أو يكون فيها جذع أو ثنية فيأخذ منها، ويأتي بالسن الواجب عليه، أو يكون فيها جذعة أو ثنية، فلا يأخذ مما فوقها من الخيار مع وجودهما، وهو قول ابن الماجشون في ثمانية أبي زيد. والثالث: التفصيل بين أن تكون الغنم [رديئة] (¬4) كلها أو ماخضًا كلها أو فحولًا كلها، أو سخالًا، فإنه لا يأخذ منها، وبين أن تكون عجافًا أو ذوات عَوَر أو تيوسًا، فإنه يأخذ منها، وهو قول [مطرف] (¬5) في "ثمانية أبي زيد". والرابع: أنه يأخذ من أوساطها واحدة على ما كانت عليه من الشرار والخيار من غير اعتبار بالجذعة والثنية قياسًا على الثمار على أحد الأقوال ¬

_ (¬1) في جـ: مواخض. (¬2) سقط من أ. (¬3) في جـ: جيادًا. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: مالك.

فرع

بناء منه على أن قول عمر إنما خرج مخرج الغالب. وهذا الخلاف ينبني على الخلاف في السعاة هل يبعثون في سنة الجدب أم لا؟ فمن رأى أن السعاة يبعثون في السنة الجدبة قال: إنه يأخذ من الشرار، وهي رواية ابن وهب، ومن رأى أن السعاة لا يبعثون في سنة الجدب، قال: لا يأخذون من الشرار شيئًا، وهو قول أشهب. فرع اختلف أصحابنا في [الرعال] (¬1) وما تولد بين فحول الظباء وإناث الغنم [هل] (¬2) يتم بها النصاب؟ على قولين: أحدهما: أنه يتم بها النصاب [وتزكى] (¬3) وهو قول أبي الحسن بن القصار. والثاني: أنه لا يتم بها النصاب ولا تحسب مع الأمهات، وهو قول ابن عبد الحكم. والأول أبين لكون الولد تبع للأم من غير اعتبار بأن يكون الولد شبيهًا بالأم أو بالفحل. ولا خلاف بينهم فيما تولد بين فحول الضأن، وإناث الظباء أنه لا يزكى، ولا يتم به النصاب من غير اعتبار بالشبه أيضًا؛ لأن الأولاد إنما تضاف في الزكاة إلى الأمهات [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) في أ: الوعول. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من جـ.

المسألة الثالثة في الصنفين إذا اجتمعا في ملك واحد هل يضم بعضها إلى بعض في الزكاة أم لا؟

المسألة الثالثة في الصنفين إذا اجتمعا في ملك واحد هل يضم بعضها إلى بعض في الزكاة أم لا؟ ولا خفاء أن الأجناس إذا تقاربت منافعها، وتشابهت خلقتها أنها يضم بعضها إلى بعض، ويكون حكمها في الربا والزكاة والقسمة حكم واحد؛ ولذلك يضم القمح، والشعير، والسلت في الربا والزكاة، وتضم الجواميس إلى البقر، والبخت إلى الإبل العراب، وكذلك يضم المعز إلى الضأن، والأصول موضوعة على أن الشبيه يلحق بشبيهه، وينحى [به] (¬1) عن ضده. فأما إذا كانت عنده عشرون ضأنية وعشرون معزة، فإن كان أحد النوعين أكثر من الآخر أخذ الشاة الواجبة منه. وإن تساويا -كما ذكرنا- هل يخير الساعي أو يأخذ النصف من هذه و [النصف] (¬2) من هذه؟ فالرواية على أن الساعي مخير إن شاء أخذها من الضأن، وإن شاء أخذها من المعز، والقياس يوجب التشطير نصفين، وذلك عدل بين الساعي ورب الغنم. وإذا كانت الغنم عشرين ومائة ضأنًا ومعزًا، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكون في كل [جنس] (¬3) منهما نصاب وتساويا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: نوع.

أو يكون في كل [جنس] (¬1) منهما نصابًا وأحدهما أكثر من الآخر. أو كان في أحدهما [نصاب] (¬2) والآخر دون النصاب. فإن كان في كل جنس منهما نصاب وتساويا، فقد تقدم الجواب فيه. وإن كان في كل جنس منهما نصاب، وأحدهما أكثر من الآخر؛ مثل أن يكون ثمانين ضأنية، وأربعون معزة، هل الساعي مخير، أو إنما يأخذها من الأكثر؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن الخيار للساعي إن شاء أخذ من الضأن، وإن شاء أخذ من المعز، وهو ظاهر قوله [في الكتاب] (¬3) حيث قال (¬4): "فإن كان للرجل ضأن ومعز، فإن كان كل واحد إذا [انفرد] (¬5) تجب [فيه] (¬6) الزكاة: أخذ من كل واحد". فعلى هذا يكون الساعي بالخيار في مسألتنا. والثاني: أنه يأخذ من الأكثر دون الأقل، وهو نص قول مالك في المدونة. وسبب الخلاف: الأوقاص هل هي مزكاة على النصاب، أو غير مزكاة؟ فمن رأى أن الأوقاص مزكاة: يقول: [إنها تؤخذ من الأكثر. ومن ¬

_ (¬1) في ب: نوع. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: المدونة (2/ 316). (¬5) في أ: فرقت. (¬6) في أ: فيها.

قال: إن الأوقاص غير مزكاة قال] (¬1) بالتخيير على ما تقدم. ومعنى قوله أن الأوقاص مزكاة أو غير مزكاة. وهل الشاة المأخوذة من العشرين ومائة أخذت عن الأربعين خاصة، وبقيت ثمانون وقصًا لا شيء فيها، أو إنما أخذت عن عشرين ومائة جميعًا؟ فإن قلنا: إنها أخذت عن الأربعين خاصة، ويبقى الباقي عفوًا: فنقول بتخيير الساعي؛ لأن الأربعين من المعز لو انفردت لوجبت فيها الزكاة، والأربعون من الضأن لو انفردت [لكانت] (¬2) كذلك أيضًا، [وكانت] (¬3) الأربعون الزائدة عفوًا. فإن قلنا: إنها أخذت عن مائة وعشرين [جميعًا] (¬4) فإنها تؤخذ من الأكثر دون الأقل، وهذا معنى قوله في الأوقاص، هل هي مزكاة أم لا؟ والخلاف فيها [قائم] (¬5) من المدونة من غير ما موضع، وقد نص مالك رحمه الله في باب زكاة الخلطاء فيما إذا كان لأحدهما خمس من الإبل، وللآخر أربعة، فأخذ الساعي من أحدهما شاة، فقال مرة: هي على صاحب الخمسة، ولا شيء على صاحب الأربعة. وقال مرة [أخرى] (¬6): بل يترادان بالسوية قيمة الشاتين على تسعة أجزاء [فعلى صاحب الخمسة خمسة أجزاء، وعلى صاحب الأربعة أربعة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: وكذلك. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

أجزاء] (¬1). وهذا الاختلاف [منه] (¬2) ينبني على هذا الأصل. ومنها: قوله في الكتاب أيضًا فيمن له ثلاثمائة ضانية، وتسعون معزة أن فيها ثلاث شياه من الضأن؛ لأن اثنتين وجبتا في مائة وإحدى وعشرين، فكان الباقي من وقص الضأن أكثر من التسعين من المعز، فلم يلتفت إلى المعز، وهذا فيه بناء على أن الأوقاص غير مزكاة، ومثل هذا في الكتاب كثير. وأما إن كان في أحدهما نصاب، والآخر دون النصاب فلا يخلو من أن يكون لما دون النصاب تأثير في الزكاة أو لا تأثير [له] (¬3). فإن كان لا تأثير له كمائة ضانية وعشرين معزة، وهذا لا خلاف في المذهب أنه لا يؤخذ من المعز شيء؛ لأن الشاة وجبت في الضأن -كانت المعز أو لم تكن. فإن كان لها تأثير في الزكاة: فلا يخلو من أن يكون تأثيرها في وجوبها [أو في الزكاة بعد وجوبها، فإن كان تأثيرها في وجوبها] كالتمام من النصاب من الضأن، والمعز: فقد تقدم الجواب عنه. فإن كان تأثيرها في [الزيادة] (¬4) فلا يخلو من أن تجب فيها الزكاة لو انفردت أم لا. فإن كان لا تجب فيها الزكاة لو انفردت كمائة وعشرين ضانية ومعزة واحدة، فهذا أيضًا لا خلاف فيه أن الشاتين تؤخذان من الضأن. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: لها. (¬4) في أ: الزكاة.

فإن كانت وجبت فيه الزكاة أو انفردت مثل مائة وعشرين ضانية وأربعين معزة، فهل تؤخذ الشاتان من الضأن، أو واحدة من الضأن والأخرى من المعز؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنها تؤخذ الواحدة من الضأن، والأخرى من المعز، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن الشاتين من الضأن، ولا يؤخذ من المعز شيء؛ لأنه إذا أخذ من الأربعين ضانية شاة، وبقيت ستون، وهي أكثر من أربعين معزة، فيؤخذ من الأكثر، وهو قول سحنون، وهو ظاهر قول [مالك] (¬1) في المدونة. وسبب الخلاف: ما قدمناه من الأوقاص هل تزكى أم لا؟ وهكذا [الكلام في] (¬2) اجتماع الجواميس مع البقر، والبخت مع الإبل العراب [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في ب: ابن القاسم. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من جـ.

المسألة الرابعة في تحويل الأموال المزكاة بعضها في بعض

المسألة الرابعة في تحويل الأموال المزكاة بعضها في بعض (¬1) فلا يخلو ذلك من أربعة أوجه: أحدها: أن يحول عينًا في عين. والثاني: أن يحول ماشية في ماشية. والثالث: أن يحول عينًا في ماشية. والرابع: أن يحول ماشية في عين. فأما الوجه الأول: إذا حول عينًا في عين مثل أن يبدل ذهبًا بورق، أو ورقًا بذهب بعد ستة أشهر، أو ثمانية أشهر: فلا يخلو من أن يكون بادل نصابًا بنصاب، أو بادل دون النصاب بالنصاب، أو بادل النصاب بدون النصاب. ففي الوجهين الأولين يبنى على ما خرج من يديه باتفاق المذهب؛ لأنهما مالان يضمان في الزكاة، فيبنى أحدهما على حول الآخر. وأما الوجه الآخر: إذا بادل النصاب بدون النصاب مثل أن يبادل مائتي درهم من عنده بعشرة دنانير أو بالعكس: فلا زكاة عليه فيما أخذ؛ لأنه بادل [ضمانًا بضمان] (¬2) ولا تهمة تلحقه، ولا أعلم في المذهب نص خلاف. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم [وهو] (¬3) تحويل الماشية [في ¬

_ (¬1) انظر المدونة (2/ 320، 321). (¬2) في أ: ضمارًا بضمار. (¬3) في الأصل: وهي.

الماشية] (¬1) فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يحولها في جنسها. والثاني: أن يحولها في غير جنسها. فإن حولها في جنسها كمبادلة غنم بغنم، أو بقر ببقر، أو إبل بإبل على التقسيم الذي قدمناه في العين، فإن بادل النصاب [بالنصاب] (¬2) أو بادل دون النصاب بالنصاب هل يبنى على حول الأول أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه يبنى على حول الأولى فيزكى عليه، وهو قول مالك في المدونة. والثاني: أنه يستقبل حولًا من يوم أخذ الثانية، وهو قوله في كتاب ابن سحنون، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة في الغنم المستهلكة إذا أخذ في قيمتها نصاب غنم، فقد قال فيها [ابن القاسم] (¬3) في أحد الأقوال: أنه لا يبنى على حول المستهلكة. وهذا الترجيح إنما يصح على قول من يقول إن الاستهلاك المراد في هذه المسألة: التغيير الذي يوجب الخيار لصاحبها، وهو تأويل حمديس على المسألة على ما سنبينه بيانًا شافيًا إن شاء الله تعالى. وقد ادعى [ابن المواز] (¬4) في المسألة إجماع المذهب في أنه [يبنى] (¬5) على حول الأولى، وهذا كما تراه، والخلاف منصوص في كتاب ابن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في جـ: محمد بن سحنون. (¬5) سقط من أ.

سحنون، وقد نقله الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في "النوادر"، ونقله اللخمي [وغيرهما] (¬1)، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة أنه يبتدئ الحول من يوم [أفاد] (¬2) الثانية. وسبب الخلاف: مثل الشيء هل هو كعينه أم لا؟ فإن بادل النصاب، وأخذ فيه دون النصاب: فلا خلاف في المذهب أنه لا زكاة عليه. ولا فرق في جميع ذلك بين أن تكون للقنية أو للتجارة. فإن حولها في غير جنسها كمبادلة نصاب غنم بنصاب من الإبل أو البقر، أو كان الجنس الذي دفع دون النصاب، فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يستأنف حول الثانية، ولا يبنى على حول الأولى إن كانت نصابًا، وهو قول مالك في المدونة. والثانى: أنه يبني على حول الأولى، وإن كانت الأولى أقل من نصاب، وهو قول محمد بن مسلمة على ما نقله عنه أبو الحسن اللخمي وغيره. والثالث: بالتفصيل بين أن تكون الأولى نصابًا، فيبنى على حوله، أو تكون دون النصاب، فيستقبل بالثانية حولًا، [وهو قوله في كتاب ابن المواز] (¬3). فوجه القول الأول: أن هذين مالان لا يجتمعان في الزكاة، فإذا بادل أحدهما بالآخر بطل حول الأولى قياسًا على بدل الماشية بالدنانير على أحد الأقوال. ووجه القول الثاني: أن هذين ماشيتان تجب الزكاة في كل واحد منهما، فإذا بادل إحداهما بالأخرى لم يبطل حول الأولى، [وترد] (¬4) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أخذ. (¬3) في ب: وهو قول ابن المواز. (¬4) في أ: وتزكى.

الثانية لحول الأولى كالضأن والمعز. وأما قول ابن مسلمة فلا وجه له؛ لشذوذه. وأما الوجه الثالث: وهو تحويل العين في الماشية مثل أن يكون عنده النصاب من العين، فاشترى به نصاب ماشية بعد ستة أشهر، فهل يبنى على حول العين أو لا يبنى؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يستأنف حول الماشية، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه يبنى على حول العين، ويزكي الماشية إذا تم الحول من يوم ملك العين الذي به اشترى، وهو قول محمد بن مسلمة. وكذلك لو باع الغنم التي اشترى بالعين قبل مجيء الساعي، هل يرجع إلى زكاة العين أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يرجع في الزكاة إلى زكاة العين، وهو قول ابن القاسم في المدونة وغيرها. والثاني: أنه يزكي على حول الماشية، ويحسب الحول من يوم اشتراها، وهو قول مالك في المدونة أيضًا. والخلاف في هذا ينبني على الخلاف في المسألة الأولى التي تفرعت منها إلى سبب الخلاف في التهمة، هل تلحقه في تأخير الزكاة أم لا؟ كما يتهم في إسقاطها إذا باع الماشية بالعين، على مشهور المذهب؟ فمن اتهمه قال بالبناء على حول العين. ومن لم يتهمه قال: يبتدئ الحول لبعد التهمة؛ لكونه حول مالًا كان موكلًا إلى إماتته فيما هو موكل إلى نظر غيره، وهو الماشية.

وأما الوجه الرابع: وهو تحويل الماشية في العين مثل أن يكون عنده نصاب ماشية، فباعه بنصاب من العين، فلا يخلو من أن يبيعها قبل أن يزكيها، أو بعد أن زكاها. فإن باعها بعد أن زكاها، هل يبنى على حول الماشية أو يبتدئ الحول من يوم باعه؟ قولان: أحدهما: أنه يبتدئ الحول من يوم باع، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة. ووجهه: عدم التهمة في التحويل لبيعه بعد الزكاة، وبه قال أشهب، ومطرف، وابن عبد الحكم. والثاني: أنه يزكي العين للحول من يوم زكى الرقاب، وبه قال ابن القاسم، وابن الماجشون، وابن كنانة، وأصبغ. وحكى القولين عن مالك بن حبيب. وهذا كله إذا كانت الماشية للقنية. وإن كانت للتجارة: فإنه يبنى على حول الغنم اتفاقًا، فإن باعها قبل أن يزكيها: فلا يخلو من أن يكون للقنية، أو للتجارة. فإن كانت للقنية، هل يبنى على حول الماشية، أو يبتدئ؟ فعن مالك في المدونة قولان منصوصان، والتوجيه ظاهر. وإن كانت للتجارة: فلا خلاف أيضًا أنه يبنى على حول الماشية. وهكذا الخلاف إذا اشترى بثمنها ماشية أخرى مما تجب الزكاة [في] (¬1) جنسها، هل يبنى أم يستأنف؟ على قولين: ¬

_ (¬1) في أ: من.

أحدهما: أنه يستأنف بالغنم الثانية حولًا من يوم اشتراها، ولا يبنى على حول الغنم الأولى، ولا على حول الثمن الذي بيعت به، وبه قال ابن المواز. والثاني: أنه يزكي الغنم الآخرة على حول غنمه الأولى الذي باع والثمن لغو، ويعد ذلك كالمبادلة، وهو قول عبد الملك بن الماجشون. واختلف في الإقالة إذا باعه ثم استقاله منها فرجعت إليه، هل يبنى على ما مضى من حولها أو يبتدئ الحول من يوم رجعت إليه؟ [على قولين: أحدهما: أنه يستأنف بها حولًا من يوم رجعت إليه] (¬1) وهو قول ابن المواز في كتابه. ويتخرج من المذهب قول ثان أنه يبنى على حولها عنده قبل البيع، وهو ظاهر قول مالك في كتاب الشفعة من المدونة؛ لأنه لم ير فيه الإقالة بيعًا حادثًا لتهمتها أن يكون قد قصدا إلى نقض البيع الأول فرارًا من الشفعة، وهذه المسألة أولى بالتهمة في إسقاط الزكاة عن نفسه. وسبب الخلاف: اختلافهم في الإقالة، هل هي نقض بيع، أو بيع حادث؟ وكذلك اختلف إذا باع نصابًا من الغنم [ثم] (¬2) ردت عليه بعيب، فهل يبنى أو يستأنف؟ على قولين: أحدهما: أنه يبنى على ما مضى لها عند المشتري، وإن ردها بعد تمام الحول، وقبل قدوم الساعي، فالزكاة فيها على البائع. ولو ردها بعد أن أخذ الساعي منه بشاة، فإن ذلك على البائع، ولا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

شيء على المشتري في الشاة التي أخذ المصدق، وهو قوله في كتاب ابن سحنون، وهو ظاهر قول أشهب في المدونة. والثاني: أنه يبتدئ الحول من يوم ردت عليه، وأن الشاة التي أخذها المصدق قبل الرد هي على المشتري لا على البائع. وهذا القول مخرج غير منصوص عليه في المدونة، وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الاستبراء. وينبني الخلاف: على الخلاف في الرد بالعيب، هل هو نقض بيع أو ابتداء؟ وأما الغنم المستهلكة التي التزمنا بيانها فيما سلف فإنها وقعت في المدونة مشكلة. وسبب إشكالها: خلاف المتأخرين في تأويلها؛ وذلك أنه قال في المدونة فيمن استهلك لرجل غنمًا، فأخذ في قيمتها نصابًا من الغنم، قال: لا شيء عليه حتى يحول عليه الحول [عنده] (¬1). ووقع في بعض روايات المدونة، وقد قال عبد الرحمن بن القاسم: يزكي الغنم التي أخذ مكانه؛ لأنه باع غنمًا بغنم والثمن لغو، واختصرها المختصرون كأبي سعيد وغيره: والقيمة لغو؛ فاختلف المتأخرون لاختلاف هذه الروايات. أما أبو محمد بن أبي زيد، فحمل قوله على الخلاف، وقال: قول ابن القاسم قول ثان، وأن القيمة عنده تطلق، ويراد بها الثمن، والثمن يطلق ويراد به القيمة، وهذا موجود في المدونة في غير ما موضع ولا يكاد يخفى على من تتبع ألفاظها، ولولا التطويل لأسردنا منه كثيرًا هاهنا، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ولكن ننبه على ذلك إذا انتهى بنا التحصيل إلى موضعها إن شاء الله وعلى أن قول ابن القاسم خلاف في الغنم المستهلكة يدل قول سحنون في كتاب أبي محمد، والقول الأول أحسن. وذهب أبو الحسن القابسي أن الخلاف في البيع في الاستهلاك، ويدل عليه في إحدى الروايات والثمن لغو، والثمن إنما هو في البيع لا في الاستهلاك، وإلى هذا التأويل نحا أبو الحسن اللخمي وغيره. وذهب آخرون إلى أن الخلاف إنما يتصور إذا لم تفت أعيانها، وإنما فاتت فوتًا يوجب الخيار لربها إن شاء أخذها معينة، وإن شاء ضمنه قيمتها، فيشبه المبادلة. وأما لو فاتت أعيانها حتى تكون القيمة هي الواجبة عليه على كل حال، فلا ينبغي أن يدخلها الخلاف، وهو تأويل حمديس، وهذا التأويل أظهر في النظر [والله أعلم، والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

المسألة الخامسة في فوائد المواشي

المسألة الخامسة في فوائد المواشي (¬1) ولا تخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون الأولى نصابًا، والثانية نصابًا أو دونه. والثاني: أن تكون الأولى دون النصاب، والثانية نصابًا أو دون النصاب، إلا أنهما في الضم والجمع فيهما النصاب. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كانت الأولى نصابًا [والثانية نصابًا] (¬2) أو دون النصاب فحال الحول على الفائدة الأول: فلا خلاف -أعلمه- في [المذهب] (¬3) أن الفائدة الثانية تضم إلى الأولى، فيزكي الجميع على حول الأولى بخلاف [فوائد] (¬4) الدنانير والدراهم على مشهور المذهب. واختلف في تعليل ذلك؛ فقيل: للضرورة في خروج السعاة؛ لأن خروجهم في الحول مرة، فصار ذلك بين إحدى حالتين ممنوعتين؛ إما أن يكلف الساعي الخروج في السنة مرارًا لتمام أحوال الفوائد المستفادة في أثناء السنة، وذلك مما يضر [بالسعاة] (¬5) ومخالف للعمل. وإما أن يخرج مرة واحدة فيزكي ما حال عليه الحول، ويدع الباقي إلى ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 322: 326). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: المدونة. (¬4) سقط من أ. (¬5) في الأصل: السعادة.

قابل، وذلك مما لا سبيل إليه أيضًا؛ لأن ذلك يؤدي إلى إسقاط الزكاة مع وجود النصاب وحلول الحول، فاقتضى النظر والمصلحة أن تزكي الفائدة الثانية على حول الأولى إذا كانت الأولى نصابًا، وهذه العلة مناسبة مخيلة لولا التأثير؛ وهو وجود الحكم، ولا علة على مواضعة الحوليين، وذلك أنه نص في العتبية [فيمن لا سعاة لهم على مثل جوابه فيمن لهم سعاة، وقيل: إن العلة في ذلك أن زكاة الماشية على النصاب فيما] (¬1) زاد عليه [كان وقصًا] (¬2) لا يزكيه حتى يدخل في النصاب الثاني، فيزكي على [هذا] (¬3) الجميع لا على الانفراد؛ فلو كانت بيد رجل أربعون شاة، ثم أفاد بعد أربعة أشهر أربعين شاة، ثم أفاد بعد أربعة أشهر أربعين شاة أيضًا: لم يزك على الأربعين علي الانفراد، ولو كان كذلك لزكى [عن] (¬4) المائة والعشرين ثلاث شياه. وكذلك لو كان بيده مائة شاة وواحدة، ثم أفاد مائة: فإنه يزكي عن الجميع ثلاث شياه. ولو كان [زكى] (¬5) كل مال بانفراده على حوله لزكى شاتين، وذلك خلاف للسُّنة؛ ولهذه العلة وجب أن يضم فوائد الأواخر إلى الأوائل إذا كانت نصابًا، والله أعلم. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كانت الأولى دون النصاب، والثانية نصابًا، أو دون النصاب إلا أنها بالضم والجمع تكون نصابًا: فهذا لا خلاف في المذهب أن الأولى ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: على. (¬5) سقط من أ.

تزكى على حول الثانية [لعدم العلة] (¬1) التي قدمناها. وقد تزكى الماشية في العام الواحد مرتين، وقد تزكى في العامين مرة واحدة؛ وذلك يختلف باختلاف الأحوال، ومثال الأولى: أن يكون عنده نصاب ماشية فزكاها، ثم يبيعها من ساعته فيشتريها من له نصاب ماشية قبل أن [يأتيه] (¬2) الساعي، ثم أتاه الساعي، فإن له أن يزكيها أيضًا مع ما عنده، وإن كانت من يومه أو [بموت الأول] (¬3) بعد أن زكاها، وللوارث نصاب من جنسها، فإنه يزكيها أيضًا. ومثال الثاني: أن يقيم نصاب ماشية بيد الرجل حولًا، ثم يبيعها [أو يموت] (¬4) قبل مجيء الساعي بيوم، والمشتري أو الوارث لا ماشية له، فإنه يستأنف لها حولًا؛ وذلك أن زكاة الماشية لوجوبها ثلاثة شروط؛ النصاب، والحول، ومجيء الساعي، وكل واحد منها يتوقف على وجود غيره من تلك الشروط ما لم يكن رب الماشية ساعي نفسه، فإذا جاءه الساعي فعد عليه ماشيته أو أخبره بعدتها ثم هلكت الماشية أو بعضها قبل الأخذ من غير تفريط، فإنه يسقط عنه زكاة ما هلك، وهو قول مالك في كتاب محمد، وهذا إذا كانت زكاتها [منها] (¬5)، وإن كانت من غيرها كالإبل التي تزكى بالغنم، فإن الزكاة وجبت عليه في ذمته بالسعاية هلكت الإبل، أو بقيت بخلاف التي تؤخذ الزكاة من أعيانها [والحمد لله وحده] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: يطلبه. (¬3) في الأصل: فوت الأولى. (¬4) سقط من أ. (¬5) في الأصل: منه. (¬6) زيادة من جـ.

المسألة السادسة في زكاة الخلطاء

المسألة السادسة في زكاة الخلطاء (¬1) والخليط عند أكثر أصحابنا المالكية هو الذي لا يشارك صاحبه في الرقاب، ويخالطه بالاجتماع والتعاون. والشريك هو المشارك في الرقاب، فكل شريك خليط، وليس كل خليط شريكًا؛ فالشركة أعم من الخلطة، قال الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية (¬2). ولا خلاف في مذهب مالك رضي الله عنه أن الخلطة لها تأثير في الزكاة، وذلك [أن] (¬3) التأثير تارة يكون تخفيفًا، وتارة يكون تثقيلًا، والدليل على ذلك ما خرَّجه البخاري من طريق أنس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة، وما كان من خليطين، فإنهما [يتراجعان] (¬4) بينهما بالسوية" (¬5). واختلف في الشريك في الرقاب، هل يعطى له حكم الخليط في التراجع أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يتصور التراجع بين الشريكين، كذا ذكر أبو الوليد ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 329). (¬2) سورة ص الآية (24). (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: يترادان. (¬5) أخرجه البخاري (1383)، (2355)، وأبو داود (1568)، والترمذي (621)، والطرسوسي في مسند عبد الله بن عمر (52).

الباجي عن المذهب، وهو المشهور في النظر. والثاني: أن الشريك يكون له حكم الخليط، وهو نص قول ابن القاسم في "المجموعة" و"الموازية" عن مالك، وهو استقراء أبي الحسن اللخمي من المدونة. وسبب الخلاف: الأوقاص هل هي مزكاة [على النصاب] (¬1) أم لا؟ فعلى القول بأن الأوقاص مزكاة: فلا ينبغي أن يعطي للشريك حكم الخليط؛ إذ لا مرتفق في ذلك لواحد منهما؛ لأن كل واحد منهما يزكي عن مقدار ما يملك. وعلى القول بأن الأوقاص غير مزكاة: يجب أن يكون التراجع بين الشريكين كالخليطين. مثاله: لو كانت الشركة بينهما في مائة وعشرين من الغنم؛ لأحدهما ثمانون، وللآخر أربعون، فأخذت منهما شاة، وكان يجب على صفة التراجع بينهما أن يرجع صاحب الثمانين على صاحب الأربعين بقيمة سدس الشاة؛ لأن الشاة أخذت عن الأربعين؛ وهو أول نصاب الغنم، [والزيادة] (¬2) عفو لم يؤخذ منها شيء، والأربعون المأخوذ عنها نصفها لصاحب الثمانين، ونصفها لصاحب الأربعين، وقد أخذت من جملة المال. وهذا كلام أبي الحسن اللخمي فقف عليه وتأمله. ولو كانت الأوقاص مزكاة لكانت الشاة المأخوذة بينهما أثلاثا؛ على صاحب الثمانين ثلثاها، وعلى صاحب الأربعين ثلثها. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) في ب، جـ: والزائد.

ولا تخلو مسألة [الخلطاء] (¬1) من أربعة أوجه: أحدها: أن يكون في حظ كل واحد منهما نصاب. والثاني: أن يكون في ماشية أحدهما نصاب، والثاني دون النصاب. والثالث: أن تكون في ماشية كل واحد منهما دون النصاب [إلا أنهما بالجمع نصاب] (¬2). والرابع: أن تعجز ماشيتهما بعد الضم والجمع عن النصاب. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان في ملك كل واحد من الخليطين نصاب، فلا تخلو ماشيتهما من أن تكون مما لا يضم بعضها إلى بعض في الزكاة، أو مما يضم. فإن كان مما لا يضم بعضها إلى بعض كالغنم، والبقر، فلا خلاف أنها لا خلطة بينهما لعدم الارتفاق بالماشية [والجنس] (¬3). فإن كانت الماشية من جنس ما يضم بعضه إلى بعض في الزكاة كالضأن إلى المعز، والجواميس إلى البقر والنحت إلى العراب من الإبل، فلا يخلو [المالكان] (¬4) من ثلاثة أوجه: إما أن يكونا جميعًا مخاطبين بالزكاة، أو غير مخاطبين بالزكاة، أو أحدهما مخاطب، والآخر غير مخاطب. فإن كانا مخاطبين فلا يخلو من وجهين: إما أن يختلطا في جميع ما عندهما من الماشية، أو اختلطا في بعضها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: الفحل. (¬4) في ب: الخليطين.

فإن اختلطا في جميع ما عندهما من الماشية: فلا يخلو ذلك أيضًا من أن تتساوى ماشيتهما، أو تتفاضل. فإن تساوت؛ مثل أن يكون لأحدهما أربعون، وللآخر أربعون، فإن الشاة [المأخوذة] (¬1) بينهما أنصافًا، ومن أخذت من غنمه رجع على صاحبه [بنصف] (¬2) قيمتها ضأنًا كانت الشاة المأخوذة أو معزًا؛ لأنه إن كانت غنم أحدهما المعز وغنم الآخر ضأنًا. فإن تساويا خير الساعي في الأخذ من أي النوعين شاء، وإن تفاضلت أخذ من الأكثر؛ لأن الخليطين إنما يزكيان زكاة المالك الواحد. واختلف في القيمة متى تعتبر على قولين: أحدهما: أن القيمة [المعتبرة] (¬3) في ذلك يوم أخذها المصدق، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن القيمة العتبرة قيمتها يوم الحكم بالتراجع، وهو [ظاهر] (¬4) قول أشهب، ولاسيما على قول أبي محمد؛ لأنه قال بإثر قول أشهب، ولا تكون القيمة على هذا إلا بقيمة نصف الشاة يوم أداء القيمة. وإن تفاضلت ماشيتهما؛ مثل أن يكون لأحدهما أربعون شاة، وللآخر ثمانون شاة، فأخذ المصدق الشاة من غنم أحدهما، هل يتراجعان في الشاة [بينهما] (¬5) أثلاثًا أو أنصافًا على قولين في المذهب قائمين من المدونة. ¬

_ (¬1) في أ: الواحدة. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

وسبب الخلاف: الأوقاص هل هي مزكاة أم لا؟ فإن وجبت عليهما شاتان، وأخذ الساعي من غنم أحدهما؛ لأنها أكثر مثل أن يكون لأحدهما ستون معزة، وللآخر إحدى وستون -ضأنًا ومعزًا- فأخذ الساعي رأسين من المعز؛ لأنها أكثر: فوجب للذي أخذ [الساعي] (¬1) رأسين من غنمه أن يرجع على خليطه، هل يرجع عليه بقيمة الشاة أو بشاة مثلها؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه يرجع عليه بالقيمة لا بالمثل، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الزكاة الثاني" من المدونة في غير ما وضع. والثاني: أنه يرجع عليه بالمثل، وهو الذي يتأتى على مذهب أشهب على ما نقله أبو الوليد الباجي، وهو ظاهر المدونة، ومذهبه: أن من أدى عن غيره ما وجب عليه من سائر الحقوق المتعلقة بالأعيان أنه يرجع [عليه] (¬2) بمثله، ولا يرجع عليه بالقيمة إلا بتراض منهما. وسبب الخلاف: الشاة المأخوذة في الزكاة، هل سبيلها سبيل الاستهلاك، أو سبيلها سبيل السلف؟ فمن رأى أن سبيلها سبيل الاستهلاك قال: إن الرجوع إنما يجب بالقيمة؛ لأن الأخذ غير موقوف على اختيار المالك، وهو مجبور عليه كما لو ترتبت في ذمته للغير بغير اختيار مالكه، فإن الرجوع عليه بالقيمة. [ومن] (¬3) رأى أن سبيلها سبيل السلف، قال: يرجع عليه بالمثل؛ لأن هذه إنما أخذت ممن كانت عنده عن ماشية الآخر، فصار ذلك سلف عليه، ولا يرجع إلى القيمة إلا بتراض منهما؛ لأن ذلك يؤدي إلى ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في الأصل: فمن.

إخراج القيمة في الزكاة، فكما لا يجوز لصاحب الغنم أن يدفع القيمة للساعي عن الشاة التي وجبت عليه فكذلك، يمنع التي أخذت من غنمه أن يرجع بالقيمة، وأيضًا فإن الخلطة توجب التساوي فيما يؤخذ منهما في الصفة والجنس، فإذا أخذ من أحدهما شاة، ومن الآخر قيمة لم يتساويا، وأما إن خالط أحدهما صاحبه ببعض ماشيته دون بعض؛ مثل أن يكون رجل له ثمانون شاة، فخالط منها بأربعين مَنْ له أربعون شاة، فلا يخلو صاحب الثمانين من أن يخالط بالأربعين الباقية رجلًا [آخر] (¬1) أم لا. فإن خالط بالأربعين الباقية رجلًا آخر، فصار جملة الغنم مائة وستين؛ ثمانون له، ولخليطين ثمانون، لكل واحد منهما أربعون، هل يزكون كلهم زكاة الخلطاء أم لا؟ فالمذهب على قولين (¬2): أحدهما: أن عليهم شاتين؛ على صاحب الثمانين شاة، وعلى شريكه على كل واحد منهما نصف شاة، وهو قول ابن عبد الحكم وأصبغ. [والثاني: أن عليهم شاتان إلا ثلث على صاحب الثمانين شاة، وعلى شريكيه ثلثا شاة على كل واحد منهما ثلث شاة] (¬3) وهو اختيار ابن المواز، واتفق عبد الملك، وسحنون مع أصبغ، وابن عبد الحكم في جواب القول الأول، واختلفوا في توجيهه؛ فابن عبد الحكم وأصبغ يقولان: إنهم كلهم خلطاء، وإن صاحب الثمانين خليط كل واحد منهما بجميع غنمه، وإن خليطيه كل واحد منهما خليط لصاحبه؛ لأنه خليط خليطه، فلأجل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: النوادر (2/ 254: 256). (¬3) سقط من أ.

ذلك يكون عليهم شاتان على التجزئة التي قدمناها، وأما عبد الملك وسحنون، فإنهما يريان صاحبي الأربعين ليس بعضهما خليط لبعض، ولا يخالط كل واحد منهما صاحب الثمانين إلا بما معه خاصة دون ما مع خليطه الآخر، وصاحب الثمانين يجمع في زكاة ماله معهما جميعًا، فله ثمانون مع اثنين، فعليه شاة ثم كل واحد من خليطيه يقول له: لك معي أربعون ولي أربعون، فأنت قد أديت شاة، وعليَّ أنا نصفها إلا أني لم أخالطك إلا بالأربعين التي معي خاصة ولا أعد عليك مالك مع خليطك الآخر، ومثل هذا يقول له الخليط الآخر، فصار عليهما شاة جميعًا، وعليه هو شاة. فالجواب متفق [والطريق] (¬1) الموصل إلى الشاتين مختلف، [واختلافهم] (¬2) في التأويل يتخرج على الخلاف في خليط الخليط هل هو كالخليط أم لا؟ وينبني أيضًا على اختلاف المنطقيين في المساوى للمساوي هل هو كالمساوي [أم لا] (¬3). ووجه القول الثاني: الذي هو اختيار ابن المواز (¬4) أن صاحب الثمانين خليطٌ لهما جميعًا، فيكون عليه شاة، ويجعل كل واحد منهما خليطًا له بجميع ما يملكه وهو ثمانون ولا يجعل أحد خليطيه خليطًا لخليطه الآخر، ويصير كل واحد قد خالطه بأربعين، وله هو ثمانون، فكان على كل واحد منهما ثلث شاة. وأما الوجه الثاني: إذا خالط بأربعين وبقيت له أربعون لم يكن له فيها خليط كيف يزكيان؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: والحريق. (¬2) في أ: واختلافهما. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: النوادر (2/ 255).

فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن عليهما شاة واحدة؛ على صاحب الثمانين ثلثاها، وعلى صاحب الأربعين ثلثها. وهو قول مالك في [المدونة وفي] (¬1) كتاب ابن المواز. والثاني: أن عليهما شاة وسدسًا؛ على صاحب الثمانين ثلثا شاة، وعلى صاحب الأربعين نصفها، وهو قول سحنون. والثالث: أن عليهما شاة ونصف؛ على صاحب الثمانين شاة، وعلى صاحب الأربعين نصف شاة. وهو [ظاهر] (¬2) قول عبد الملك في المبسوط، ووجهه: أن صاحب الثمانين لا يزكي مع الخليط إلا على ما خالط به خاصة ولا يضم معه جميع [غنمه] (¬3). ووجه القول الأول: أن صاحب الثمانين يزكي جميع غنمه على سنة الخلطة يضيف غنمه التي لا خليط له فيها إلى غنم الخلطة، فتكون الشاة الواجبة عليهما أثلاثًا. ووجه القول الثاني: أن الأربعين التي لا خليط له فيها لا يضمها إلى غنم الخليط، ولا ينتفع بها خليطه، ولا يتضرر بها، غير أن صاحب الثمانين ينتفع بالخلطة بإسقاط ثلث الشاة، وفي ذلك نظر؛ كيف ينتفع أحد الخليطين بالخلطة، ولا ينتفع الآخر؟ وهذا يقدح في سنة الخلطة. وهكذا اختلف المذهب [أيضًا] (¬4) فيمن له خمسة وعشرون من الإبل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: ماله. (¬4) سقط من أ.

فخالط بخمسة عشر رجلًا له عشرة، وبعشرة رجلًا له عشرة، فعلى صاحب خمسة وعشرين خمسة أتساع بنت لبون، وهو معهما كخليط واحد. واختلف في خليطيه كيف يزكيان على أربعة أقوال: أحدها: أنهما يزكيان على مثل ذلك؛ على كل واحد منهما تُسعا بنت لبون، ويصير ثلاثتهم في حكم رجل واحد، وهو قول أصبغ، وابن عبد الحكم. والثاني: أنه يزكي كل واحد منهما على ملك [خليطه ولا يزكي على ملك] (¬1) خليط خليطه، فيكون على كل واحد منهما [سبعا] (¬2) بنت مخاض، وهذا يأتي على اختيار ابن المواز في الفصل الذي قدمناه في الغنم. والثالث: أنه يزكي كل واحد منهما على ما خالطه به خليطه دون جميع ملكه [فيزكي من خولط خمسة عشر بخمسي بنت مخاض، وإن خالط بعشرة كان فيه الغنم] (¬3) وهو قول سحنون. والرابع: أن صاحب الخمسة والعشرين يزكي مع كل واحد على ما خالطه به خاصة، ولا يجمع بعضه إلى بعض، وهو قول عبد الملك في "المبسوط". وتوجيه كل قول ظاهر، فلا فائدة في التطويل. وأما الوجه الثاني: إذا كان الخليطان غير مخاطبين مثل أن يكونا ذميين أو عبدين فلا خلاف في المذهب أنه لا زكاة على العبيد، ولا على أهل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: تُسعا. (¬3) سقط من أ.

الذمة في شيء من أموالهم عمومًا لا خصوصًا (¬1). وأما الوجه الثالث: إذا كان أحد الخليطين مخاطبًا، والآخر غير مخاطب بالزكاة كالحر المسلم خالط بماشيته عبدًا أو ذميًا، هل يزكي الحر المسلم زكاة الانفراد، أو [يزكي] (¬2) زكاة الخلطاء؟ فالمذهب على قولين: [أحدهما: أن يزكي زكاة الانفراد] (¬3) من غير اعتبار بتأثير الخلطة، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في "العتبية" (¬4) "والموازية"، ولا فرق بين أن يكون عبده أو عبد غيره. والثاني: أنه يزكي زكاة الخلطاء؛ فما نابه أداه، ويسقط ما ناب النصراني أو العبد، وهو قول عبد الملك في كتاب ابن حبيب (¬5). ويلزم على هذا: إذا حال الحول على نصاب أحدهما، ولم يحل على نصاب الآخر أن يجري فيه القولان، ولا فرق. وسبب الخلاف: هل من شروط الخلطة اعتبار الارتفاق من الطرفين، أو الاعتبار بوجود الارتفاق أو فقده على الجملة؛ لأن الارتفاق المعتبر في الخلطة تارة يعتبر في تخفيف مؤونة الزكاة، وتارة يعتبر في تخفيف مؤنة الماشية فيما يرجع إلى: نموها وحسن حالها في نفسها، وتارة يعتبر الأمران جميعًا؛ لأن أصل الخلطة بنيت على الارتفاق؛ ولأجل ذلك اختلف أرباب المذهب في الشروط المعتبرة في الخلطة التي إذا حصلت ثبتت الخلطة بعد ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (2/ 256). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: البيان والتحصيل (2/ 427). (¬5) انظر: النوادر (2/ 256).

اتفاقهم على [اعتبار] (¬1) خمسة أوصاف على الجملة؛ الراعي والفحل، والدلو، والمراح، والمبيت، وقال بعضهم: والحلاب؛ وذلك لاختلافهم في المراح هل هو المبيت أم لا؟ فمن رأى أن المراح هو المبيت عدَّ الحلاب. ومن رأى أن المراح غير المبيت لم يعدّ الحلاب. وقد اضطرب قوله في الكتاب في المراح؛ فمرة جعله غير المبيت، وهو قوله: "إذا كان الدلو واحدًا، والراعي والمراح واحدًا، وإن تفرقوا في المبيت" (¬2). ومرة جعله المبيت نفسه؛ فيتخرج من الكتاب في المراح قولان، وفيه قول ثالث: إن المُرَاح هو المسرح وتأوله بعضهم على المدونة. وفيها قول رابع: أن المراح هو المقيل، وهو تأويل أبي الحسن القابسي على المدونة. وفيها قول خامس: أن المراح المراد في المسألة رواح الغنم؛ وهو سوقها بالعشي إلى موضع مبيتها؛ يعني ثم تفتقر إلى بيوت أربابها، وهذا تأويل الشيخ أبي عمران الفاسي. وفيها قول سادس: أن المراح هو الموضع الذي تروح إليه الماشية [فيه] (¬3) فيها إلَّا للانصراف إلى المبيت، وهذا تأويل القاضي أبي الوليد الباجي. فهذه ستة أقوال في معنى المراح، أو الموضع الذي تجتمع فيه الماشية للانصراف إلى المبيت، فلا يخلو المراح من أن يكون مشتركًا بين أرباب الماشية على الإشاعة، أو لكل واحد منهم جزء معين. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: المدونة (2/ 329). (¬3) في أ: فيها.

فإن كان المراح مشتركًا بين أرباب الماشية على الإشاعة بكراء أو ملك فهو من صفات الخلطة. وإن كان لكل واحد منهم جزء معين، فلا يخلو ذلك الجزء من أن يقوم بماشية صاحبه على الانفراد دون مضرة ولا ضيق، أو لا يقوم بذلك. فإن كان يقوم بماشية صاحبه، فليس من صفات الخلطة؛ لأن الارتفاق لم يوجد بهذه الصفة. وإن كان لا يقوم بها، فهو من صفات الخلطة؛ لأن الارتفاق حصل بها، وإلى هذا ذهب أبو الوليد الباجي. واختلف المتأخرون في الدلو المعتبر في الخلطة على قولين: أحدهما: أن الدلو [الذي] (¬1) تسقى به الماشية، فيشترك فيه الخلطاء فتجب مؤنته على جميعهم، وهذا الذي يقتضيه لفظ الدلو في [وضع] (¬2) اللغة، وهو اختيار الباجي. والثاني: أن الدلو عبارة عن المياه، وهو أن يكون لبعضهم ماء يسقون منه [ويسقى منه غيرهم من أرباب الماشية، فلا يكون ذلك من صفات الخلطة أو يكون الماء مشتركًا بين] (¬3) أرباب الماشية، فيكون ذلك من صفات الخلطة؛ كاجتماعهم على حفر بئر يسقون منها مواشيهم، ويمنعون منها غيرهم، وذلك من باب تسمية الشيء بما يلازمه، وذلك سائغ في الاستعمال، وهو تأويل بعض المتأخرين، وهو أسعد بظاهر المدونة. واتفق المذهب على أنه ليس من شروط الخلطة حصول [جميع] (¬4) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: موضوع. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

هذه الأوصاف، خلافًا للشافعي في اعتبار جميعها. والدليل على ما نقوله أن المراعى في الخلطة إنما هو الارتفاق [في اجتماع] (¬1) الماشية على ما يحتاج إليه؛ وذلك يحصل بحصول بعض الصفات، فيثبت به حكم الخلطة. ولا خلاف بينهم فيما إذا وجد أكثر الصفات أن الخلطة صحيحة ثابتة. واختلف هل تصح بوجود أقل الصفات؛ كالاثنين والواحد؟ على قولين (¬2): أحدهما: أنهما لا يكونان خليطين إلا أن يجتمعا في جل الأوصاف، وهو قول ابن القاسم، وأشهب، وهو ظاهر المدونة، وهو المشهور. والثاني: أن الخلطة تحصل بينهما بحصول الوصف الواحد؛ وهو الراعي، وهو قول [ابن حبيب] (¬3) حكاه عنه [القاضي أبو محمد عبد الوهاب] (¬4) غير أن أكثر الأصحاب تأولوا على [قول] (¬5) ابن حبيب غير هذا فقالوا: إذا اتخذا الراعي، فقد حصلت أكثر الأوصاف إذا جمعهما الراعي، فقد جمعهما الفحل، والمرعى، والمراح، على اختلاف التأويل في المراح. وقد جمعت هاهنا أكثر الأوصاف، والذي قالوه ليس بصحيح؛ لأن المنافع المعتبرة التي تتعين الأحكام بوجودها هي المنافع التي يعم نفعها، ويعظم خطرها [ويمتد وجودها] (¬6)، وذلك مخصوص بالراعي خاصة ¬

_ (¬1) في أ: باجتماع. (¬2) انظر: النوادر (2/ 244: 246). (¬3) في أ: أبي الحسن اللخمي. (¬4) في أ: أبو محمد القاضي. (¬5) سقط من أ. (¬6) في جـ: ويعتد وجوبها.

دون سائر الصفات؛ لأنها صفات عارضة لا دوام لها ولا استمرار؛ كالدلو فإنه صفة عارضة؛ لأن الخلطة قد تصح دونه، والحاجة إليه في بعض السنة، وقد تحل الزكاة قبل حصوله، ولا جرم أنا لا نعتبر استدامة الخلطة عامًا كاملًا، وإنما اعتبرنا جزء العام على ما يأتي إن شاء الله. والمبيت أيضًا يفتقر إلى ما عوهد وأُلِفَ، والفحل أيضًا كذلك؛ بل هو أقل تأثيرًا؛ لأن الحاجة إليه في بعض السنة، وقد لا يحتاج إليه [أصلًا] (¬1)؛ إما لكون الغنم كلها ذكران، وإما لكون غنم أحدهما: ضأن، والأخرى: معز، فلا يكون الفحل واحدًا لما علم من العادة أن فحول المعز لا تطرف الغنم، وبالعكس كذلك، وهو أول نصير، وأقل تأثير، فلم يبق بعد امتحان الأوصاف ما يصلح أن يكون وصفًا معتبرًا إلا الراعي؛ فإن منفعته عامة؛ به تجيء الغنم [وتنمو] (¬2) وباقي الأوصاف تبعة غير مقصودة. فإذا ثبت ذلك فالمُرَاعَى في الخلطة آخر السنة دون أولها، فإن اجتمعا في أول السنة، وافترقا في آخرها أو [افترقا في أولها و] (¬3) اجتمعا في آخرها ذكيا على ما هما عليه في آخرها ما لم يقرب ذلك. واختلف في [حد] (¬4) القرب على أربعة أقوال: أحدها: أن [حد] (¬5) القرب شهران فأكثر لا أقل، وهو قول مالك في المدونة؛ لأنه قال: إن لم يختلطوا إلا [في] (¬6) شهرين من آخر ¬

_ (¬1) في ب: أيضًا. (¬2) في ب: وتنمى. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: حكم. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

السنة. والثاني: أن حد القرب أقل من شهرين، وهو قول ابن القاسم أيضًا في المدونة. لقوله: فإن [اجتمعا] (¬1) في آخر السنة أقل من شهرين فهم خلطاء ما لم يقرب الحول جدًا. والثالث: أن أقله الشهر فما فوقه، وهو قول عبد الملك. والرابع: التفصيل بين أن يقصدا الفرار أم لا؛ فإن قصداه عوملا بنقيض مقصودهما، وإن لم يقصداه زكاها الساعي على ما يجدها [عليه] (¬2) من افتراق أو اجتماع ويقبل قول أربابها أنهم لم يفعلوا ذلك فرارًا إلا بأمارة تقوي التهمة، وهو قول القاضي أبي محمد عبد الوهاب، وذلك كله يرجع إلى اجتهاد العلماء، فكل منهم على حسب ما أداه إليه اجتهاده، والحمد لله وحده. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: وهو أن تكون ماشية أحدهما نصابًا، وماشية الآخر دون النصاب فليسا بالخليطين؛ فالساعي يأخذ الشاة من الغنم التي وجب فيها، فإن أخذها من الغنم التي هي دون النصاب، فلا تخلو الشاة التي أخذها [الساعى] (¬3) [منه،] (¬4) من أن تكون من السنن الواجب في الزكاة أم لا. فإن كانت من غير السن [المأخوذة] (¬5) في الزكاة كانت مظلمة [على ¬

_ (¬1) في أ: اجتمعت. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) في ب: الواجب.

من] (¬1) أخذت من غنمه وبقيت الزكاة على مالك النصاب كما كانت. وإن كان السن المأخوذ من الغنم القليلة مثله يؤخذ في الزكاة: فلا يخلو من أن يدخل على صاحب النصاب مضرة؛ مثل أن يكون الرجل مائة شاة، وللآخر إحدى وعشرون شاة، فأخذ المصدق منهما شاتين، فهل يتراجعان في الشاتين، أو في الشاة الواحدة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهما يتراجعان في الشاتين جميعًا على قدر ماشيتهما، وهو قول ابن القاسم، واختيار ابن المواز (¬2)، وهو ظاهر المدونة (¬3). والثاني: أنهما يتراجعان في الشاة الواحدة، والشاة الأخرى على رب الماشية [وهو قول ابن عبد الحكم] (¬4). وينبني الخلاف: على [الخلاف في] (¬5) خلاف غير المذهب هل يراعى أو لا يراعى. فمن رأى أنه يراعى قال: إنهما يتراجعان في الشاتين جميعًا؛ لأن هذا حكم قد مضى على مذهب بعض العلماء، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه، وجعل الشاتين في المالين [جميعًا] (¬6). ومن رأى أنه لا يراعى قال: إن الشاة الواحدة على رب النصاب، والشاة الثانية لم تجب على واحد منهما، إلا أنها أخذت بتأويل لابتعد؛ ¬

_ (¬1) في أ: ممن. (¬2) انظر: النوادر (2/ 248). (¬3) انظر: المدونة (2/ 334). (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

فيجب أن يتراجعا فيها على قدر ماشيتهما، فإن لم يدخل على صاحبه مضرة؛ مثل أن يكون لأحدهما أربعون، وللآخر ثلاثون، فأخذ الساعي منهما شاة، فإن أخذها من صاحب الأربعين: لم يرجع على صاحبه بشيء، فإن أخذها من غنم صاحب الثلاثين: رجع على صاحب الأربعين بمثلها أو بقيمتها على الخلاف الذي قدمناه بين ابن القاسم، وأشهب في [أول] (¬1) المسألة. فإن أخذ الساعي منها شاتين. فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: يأخذها كلها من غنم صاحب الأربعين، أو يأخذهما كليهما من غنم صاحب الثلاثين أو أخذ واحدة من هذه، وأخرى من هذه [فإن أخذ كليهما من غنم صاحب الأربعين فلا يرجع على صاحبه بشيء؛ لأن الأولى ضمنها بين فرضه، والثانية أخذت منه ظلمًا وعدوانًا] (¬2). وإن أخذهما كليهما من غنم صاحب الثلاثين رجع على صاحب الأربعين بواحدة، والأخرى غصبها الساعي. وإن أخذ واحدة من غنم كل واحد منهما، فلا يخلو من أحد وجهين: إما أن يبتدئ الأخذ من الأربعين، أو الثلاثين. فإن ابتدأ الأخذ من الأربعين: لم يرجع صاحب الثلاثين على صاحب الأربعين بشيء؛ لأن الشاة المأخوذة من الأربعين لا تخلو من أن تكون مما يجزئ في الزكاة، أو مما لا يجزئ في الزكاة. فإن كانت مما يجزئ فذلك ما كنا نبغي. وإن كانت مما لا يجزئ فلا يرجع عليه أيضًا؛ لأنه ابتدأ الأخذ من أربعين ¬

_ (¬1) في ب: أصل. (¬2) سقط من أ.

فقد عادت إلى ما لا زكاة فيه قبل الأخذ من الثلاثين، فسقطت الزكاة منها، ثم أخذ الثانية بعد سقوط الزكاة، وهذا من لطيف الفقه لمن تأمله. فإن ابتدأ الأخذ من الثلاثين: فلا تخلو الشاة التي أخذ منها من أن تكون مما يجزئ في الزكاة أم لا. فإن كانت مما يجزئ في الزكاة، والتي أخذت من الأربعين لا تجزئ في الزكاة: فإنه يرجع [عليه] (¬1) صاحب الثلاثين بقيمة شاته اتفاقًا؛ لأن الشاة المأخوذة [منه] (¬2) إنما غصبها بعد وجود الزكاة وبعد قبضها. فإن كان ما أخذ من الجانبين مما لا يجزئ في الزكاة إلا أنه بدأ بالأخذ من الثلاثين، فقد رأيت لأبي الحسن اللخمي أنه لا يرجع على صاحب الأربعين؛ لأنه قال: فإن كانت التي أخذت من الأربعين مما يجزئ في الزكاة لم يرجع عليه بشيء، ولم يفصل في هذا الوجه، وفصل في غيره. والوجه الذي يقتضيه النظر خلاف ذلك أنه إذا ابتدأ الأخذ من الثلاثين، وأخذ منهما ما يجزئ في الزكاة فكان النظر يقتضي أن يرجع عليه صاحب [الأربعين] (¬3)؛ لأن الأولى أخذت بنية الزكاة، والأخرى أخذت بنية الظلم، والاغتصاب، فلا يجزئ لتقدم الأخذ بنية الزكاة عليه، وهذا ظاهر لمن تأمله [فإن كان مما لا يجزئ، فهذه مظلمة عليه] (¬4). والجواب عن الوجه الثالث (¬5): إذا لم يكن في ماشية كل واحد منهما ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الثلاثين. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: المدونة (2/ 232).

نصاب إلا أنهما بالضم والجمع نصاب؛ مثل أن يكون لكل واحد منهما عشرون شاة من غنم أحدهما هل يتراجعان أم لا؟ فلا يخلو الساعي من أحد وجهين: إما أن يأخذ منهما على التأويل، أو يأخذ بغير تأويل فإن أخذها على التأويل؛ إما لكونه يظن أنها لمالك واحد، أو لكونه تأول مذهب من اعتبر النصاب على الضم والجمع، فإنهما يتراجعان بينهما على السوية إن تساوت الماشية. وإن تفاضلت هل يترادان على عدد الغنم أو على عدد المالكين؟ قولان: [أحدهما: أنهما يترادان على عدد الغنم. والثاني: عكسه] (¬1). وإن أخذها [الساعي] (¬2) على غير تأويل فهي مظلمة على من أخذت من غنمه، ولا يرجع على صاحبه بشيء. والجواب عن الوجه الرابع: إذا لم يكمل النصاب [في غنمهما] (¬3) لا على الانفراد، ولا على الضم، فأخذ الساعي شاة من غنم، أحدهما: فإنها مظلمة [على من] (¬4) أخذت من غنمه؛ قولًا واحدًا (¬5). وهذه المسألة متشعبة الأكناف ممتدة الأطراف، وقد حصلتها تحصيلًا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: فيمن. (¬5) قال مالك: يترادان فيهما على عدد غنمهما. المدونة (2/ 331).

متقنًا ورتبتها ترتيبًا حسنًا ينتفع بها المنتهى [ويستعين] (¬1) بها المبتدى بحمد الله وحسن عونه [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: ويستغني. (¬2) زيادة من جـ.

المسألة السابعة في الهارب بماشيته

المسألة السابعة في الهارب بماشيته (¬1) ولا يخلو الهارب بماشيته من الساعي من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يهرب بنصاب من الماشية ثم ظفر به، أو جاء تائبًا وهي على حالتها. والثاني: أن يهرب بنصاب من الماشية، ثم جاء تائبًا، وقد زادت ماشيته. والثالث: بالعكس؛ مثل أن يهرب بعدد من الماشية ثم جاء، وقد نقصت عن ذلك العدد. والجواب عن الوجه الأول: إذا هرب بأربعين شاة خمس سنين، ثم ظفر به الساعي، أو جاء تائبًا، وهي على تلك الحال، هل يأخذه بزكاة [ما مضى من] (¬2) السنين أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه تؤخذ منها شاة واحدة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬3). والثاني: أنه يؤخذ منه خمس شياه لخمسة أعوام، وهو قول أشهب وعبد الملك (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 335)، والنوادر (2/ 241: 243). (¬2) في أ: ماضي. (¬3) انظر: المدونة (2/ 335). (¬4) انظر: النوادر (2/ 243).

وسبب الخلاف: هل يبتدئ الساعي [بالأخذ] (¬1) بأول عام أو بآخر عام؟ فمن رأى أنه يبتدئ بأول عام قال: يأخذ شاة واحدة، وإذا أخذها تبقى تسعة وثلاثون؛ وهي دون النصاب فلا زكاة فيها؛ إذ الشاة المغصوبة باقية عنده لبقاء الغنم، ولا ينتقل إلى الذمة إلا بهلاك الغنم. ومن رأى أنه يبتدئ بآخر عام قال: يأخذ منها خمس شياه؛ شاة منها عن [العام] (¬2) الآخر، وأربعة في الذمة؛ لأن كل عام مضى كان فيه غاصبًا لزكاة ذلك العام، وصارت دينًا في ذمته، والدين لا يسقط زكاة الماشية. والجواب عن الوجه الثاني: إذا هرب بنصاب ماشية، ثم جاء تائبًا، وقد زادت؛ مثل أن يهرب بأربعين شاة خمس سنين، ثم صارت في العام الخامس ألف شاة بفائدة: فلا تخلو من أن يحول الحول على غنم الفائدة، أو لم يحل. فإن حال الحول على غنم الفائدة، فلا يخلو من أن يعلم ذلك ببينة، أو بمجرد دعواه. فإن علم ببينة أنها صارت ألفًا في السنة الخامسة، فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يؤخذ منها إحدى عشرة شاة، العشرة منها عن السنة الآخرة التي صارت فيها ألفًا، والشاة الواحدة عن أول عام، وهو قول ابن القاسم في المدونة وغيرها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الغنم.

والثاني: أنه يؤخذ منها أربع عشرة شاة؛ العشرة منها على الألف، والأربع عن أربع سنين؛ لأنها في الذمة على ما تقدم في الوجه الأول لأشهب، وعبد الملك. والثالث: أنه يزكي عن الألف للسنين الماضية، ويؤخذ منها على هذا القول خمسون شاة، وهو قول أشهب؛ ونزله منزلة من تخلف عنه السعاة، وهذا قياس لا يصلح؛ لأن الغاصب لا يطالب بأكثر مما غصب، والذي تخلف عنه الساعي أخرج بدليل. وسبب الخلاف: ما تقدم. فإن لم يعلم ذلك إلا بقوله، هل يصدق أنه كما أفادها، أو لا يصدق؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يصدق، وهو قول سحنون في كتاب ابنه. والثاني: أنه لا يصدق، وهو قول عبد الملك في "المجموعة". وسبب الخلاف: هل الجناية التي ارتكبها مما يسقط ثقته وأمانته أم لا؟ فمن رأى أن ذلك مما يسقط أمانته، قال: لا يقبل قوله، والظالم أحق أن يحمل عليه. ومن رأى أن ذلك لا يسقط أمانته؛ لأن المالك يقبل قوله في الحول على أي صفة كان من غير التفات إلى صلاحيته، وطلاحيته قال: يقبل قوله. وعلى القول بأنه يقبل، أو لا يقبل فيجري الخلاف فيما يؤخذ منه على الخلاف الذي قدمناه في تضاعيف المسألة. فإن لم يحل الحول على الفائدة: فعلى الثلاثة الأقوال التي قدمناها؛

قول ابن القاسم: لا يؤخذ منها إلا شاة واحدة على أصله [أنه] (¬1) بالسنة الأولى يبدأ، فإذا أخذت [عن الأولى] (¬2) نقصت عن النصاب، ثم لا زكاة في الفائدة إلا بعد الحول لقصور الأصل عن النصاب. وعلى قول عبد الملك: يبتدئ بالسنة [الأخرى] (¬3) وتزكى الفائدة عن السنة الواحدة؛ لأن النصاب الأول لم ينتقض منه شيء على مذهبه، وعلى [قول] (¬4) أشهب تزكى الفائدة عن السنين كلها كأن الهارب هرب بالألف يوم هرب كالذي تخلف عنه الساعي. والجواب عن الوجه الثالث: إذا هرب بعدد وافر ثم جاء، وقد نقصت ماشيته عن ذلك العدد؛ مثل أن يهرب: بماشيته، وهي ألف شاة خمس سنين، ثم جاء تائبًا في السنة الخامسة، فادعى أنها لم تزل على هذه الصفة منذ هرب بها، وأنها هلكت في السنة التي هرب فيها إلا هذا القدر. فالمذهب أنه لا يقبل قوله، ولا يصدق، وتزكى على ما كانت عليه يوم هروبه، إلا في هذا العام الذي قدم فيه، فإنه يؤخذ منه شاة واحدة؛ لأنه يتهم فيما يدعيه، والظالم أحق أن يحمل عليه [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: أنها. (¬2) في أ: من الغنم. (¬3) في ب: الأخيرة. (¬4) في أ: قدر أصل. (¬5) زيادة من جـ.

المسألة الثامنة في الذي تخلف عنه الساعي سنين كيف يزكي وقد زادت ماشيته أو نقصت

المسألة الثامنة في الذي تخلف عنه الساعي سنين كيف يزكي وقد زادت ماشيته أو نقصت (¬1) فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون مما لا يأتيه الساعي أصلًا، أو مما يأتيه الساعي. فإن كان مما لا يأتيه الساعي أصلًا لبعد [البلاد] (¬2) فإن هؤلاء يزكون كل عام، ولا ينتظرون قدوم السعاة؛ لأنهم انتظروا قدوم من لا يجيئهم، فإن كان عندهم مساكين سلموها إليهم، وإلا فليجلبوها إلى حواضر البلاد، وهو قول مالك في كتاب ابن سحنون. فإن كان ممن يأتيه السعاة في كل زمان، ثم تخلف عنه الساعي سنين، فلا يخلو تخلفه من وجهين: إما أن يكون بإيثار واختيار أو بغلبة واضطرار. فإن كان تخلفه بإيثار واختيار: فإن أرباب المواشي يزكون مواشيهم؛ إذ ذلك من الساعي، ولا يتركون الزكاة؛ لأن حق المساكين قد تعلق بها، ولا يكون ترك السعاة الخروج باختيارهم ما يسقط حقهم، ثم لا ضمان على أرباب الماشية فيما فعلوه إذا سلموها للمساكين، ولا ينبغي دخول الخلاف في هذا الوجه. فإن كان تخلفه بغلبة واضطرار، فلا يخلو ذلك من أن يكون سببه من العباد، أو لا سبب لهم في ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 336: 338). (¬2) سقط من أ.

فإن كان مما لا سبب للعباد [فيه] (¬1) كالمحل وزمان الجدب، هل يبعث فيه السعاة، أم لا [قولان: أحدهما: أنهم لا] (¬2) يبعثون فيه أصلًا حتى يجني الناس؛ لأنهم يأخذون فيه ما ليس له ثمن، فإن جلبوه لم ينجلب لهم، وذلك حق للمساكين، وليس لأهل المواشي. فإذا جنى الناس في العام المقبل أرسل السعاة، وأخذت الزكاة للعامين، وهو قول مالك في كتاب ابن المواز. والثاني: أن السعاة يبعثون، ويأخذون الصدقات من أهلها، وإن كانت عجافًا، فيجلبونها إن كانت تجلب أو يبيعونها، ويسوقون ثمنها، وإن قلَّ، وهي رواية ابن وهب عن مالك (¬3). وإن كان سبب تخلفه من العباد كفتنة هاجت بين الأمراء، فأشغلتهم عن بعثة السعاة حتى مضت الدهور، والأعوام، هل ينبغي للناس أن يخرجوا زكاة مواشيهم أو ينتظرون بها خروج السعاة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهم يخرجون [زكاتهم] (¬4) ويصرفونها إلى المساكين، ولمن [سماهم] (¬5) الله تعالى من الأصناف المنصوص عليها، ولا يؤخرون إخراجها لعدم المصدق كزكاة العين والحبوب، وهذا قول قياس؛ وذلك أن ¬

_ (¬1) في أ: في ذلك. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: النوادر (2/ 241: 244). (¬4) في ب: زكاة مواشيهم. (¬5) في أ: سماها.

الساعي وكيل على الزكاة ليوصلها إلى الفقراء والمساكين، وليس ذلك بحق له، وإنما هو واسطة لغيره، فإذا عدم كان لمن له فيها حق القيام بحقه، ولا يمنع من حقه لعدم وكيله. وقد اختلف المذهب عندنا إذا أخرجها قبل مجيء الساعي وبعد الحول ولم يتخلف [عنه] (¬1) ثم أتاه بعد ذلك هل تجزئه أم لا؟ فهو إذا تخلف عنه أجزأ. والثاني: إنه لا يجزئه، ويأخذها منه السعاة إذا قدموا، وهو قول عبد الملك في كتاب ابن المواز. وعلى القول بأنهم لا تجزئهم، وأنهم ينتظرون السعاة حتى يقدموا، فإذا قدموا عليهم فلا يخلو ما بأيديهم من الماشية من خمسة أوجه: أحدها: أن يكون غنمه أربعين شاة، فغاب عنه الساعي سنين، ثم جاءه وهي أربعون. والثاني: أن يغيب عنه، وهي أربعون شاة، ثم باعها قبل قدوم الساعي. والثالث: أن يغيب عنه وعنده نصاب غنم ثم نقص في بعض السنين ثم جاء الساعي، ووجدها قد عادت عنده نصابًا. [والرابع: أن يغيب عنه وعنده نصاب ثم جاءه وعنده أكثر من النصاب. والخامس: أن يغيب عنه وعنده أكثر من النصاب ثم جاء ووجد عنده ¬

_ (¬1) سقط من أ.

نصابًا] (¬1). فالجواب عن الوجه الأول: إذا غاب عن نصاب غنم خمسة أعوام ثم جاء والنصاب لم ينقص، فإنه يأخذ منه شاة واحدة لا أكثر؛ لأنه إذا أخذ شاة من الأربعين، فقد نقص النصاب، ولا خلاف في هذا الوجه. والجواب عن الوجه الثاني: إذا غاب عنه الساعي، وعنده نصاب، ثم باعها ثم قدم عليه الساعي بعد أعوام، فلا يخلو من أن يبيعها بنصاب من العين أو بدون النصاب. فإن باعها بدون النصاب فلا شيء عليه قولًا واحدًا. وإن باعها بالنصاب فأكثر، فإنه يزكي عن كل سنة نصف دينار حتى يأتي على آخرها، أو يرجع الثمن إلى أقل من عشرين دينارًا، أو أقل من مائتي درهم، وهذا إذا كان الزائد على النصاب هو أحد السنين التي يغيب عنه الساعي؛ مثل أن يغيب عنه خمس سنين، وعنده أربعون شاة. وفي المذهب قول ثان أنه لا يزكي [إلا لعام] (¬2) واحد. والجواب عن الوجه الثالث: إذا غاب الساعي، وعنده نصاب من الغنم خمس سنين، ثم نقصت في بعض السنين، ثم جاء الساعي وهي أربعون بولادتها أو بمبادلة، ثم أفاد إليها ألف شاة، هل يزكي الألف على الأعوام كلها أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يزكي الألف عن الخمس سنين كلها، وهو قول مالك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

"في كتاب محمد" (¬1). والثاني: أنه لا يزكيها عن الأعوام الماضية إلا أن تبقى تلك الأربعون إلى يوم الفائدة، وهو قول ابن المواز (¬2). والقول بأنه يزكي الألف عن جميع تلك الأعوام أصح؛ لأنها إذا عادت نصابًا [بالولادة] (¬3) كانت كالنصاب الأول بالاتفاق. وإن عادت نصابًا بالمبادلة، فيتخرج على الخلاف في مبادلة الجنس بالجنس، وقد قدمناه. وشذ أشهب فقال: إذا كان الأصل دون النصاب ثم صار في العام الخامس نصابًا [فأكثر] (¬4) فإنه يزكيه [عن ما] (¬5) مضى من السنين، وهو قوله في كتاب "النوادر" (¬6) وهو [قول] (¬7) مخالف للأصول -كما ترى. والجواب عن الوجه الرابع: إذا غاب عنه الساعي خمس سنين، وبيده أربعون شاة، ثم صارت في العام الخامس ألفًا، هل تزكى الفائدة عن الأعوام الماضية أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يزكي الألف عن الخمس سنين، وهو قول مالك، وابن ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 336). (¬2) انظر النوادر (2/ 241). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: لما. (¬6) انظر: النوادر (2/ 241). (¬7) سقط من أ.

القاسم في المدونة وغيرها؛ فيأخذ عن أول سنة عشر شياه، وعن الأربع سنين تسعًا. والثاني: أنه يزكي عن الأربع شياه واحدة، وعن السنة الخامسة تسع شياه، ولا يزكى الألف عن الخمس سنين، وهو قول عبد الملك في "كتاب ابن سحنون" (¬1)؛ بناء منه على أن الساعي يبتدئ بأول عام، وهذا عكس مذهبه في [مسألة] (¬2) الهارب. وسبب الخلاف الإجماع إذا انعقد (¬3) على خلاف الأصل، هل تقوم به الحجة أم لا؟ فمن رأى أنه يكون حجة قال: إنه يزكي ما وجد عنده [عما مضى من] (¬4) السنين؛ لأن الفتنة هاجت بين الأئمة رضوان الله عليهم، فقام الناس نحوًا من ست سنين لم تؤخذ منهم الزكاة، فلما استقر الأمر في نصابه، وعاد إلى صوابه، واتفقت كلمة الإسلام، واتخذت البيعة للإمام، وبعثت السعاة، وأمروا بالأخذ عن سالف الأعوام مما وجد بأيدي الملاك من الأنعام ما لم ينقص عن النصاب، فاتفق رأي الجماعة أن ذلك هو الصواب. ومن رأى أن ذلك لا يكون حجة [قال] (¬5) لا يزكى عن سنة إلا ما كان عند رب الماشية منها، ولا يزاد عليها، وكونه يزكى عن سنة بنصاب سنة أخرى هو مراغم للقياس. والأصول موضوعة في الزكاة على أن كل سنة معتبرة بانفرادها ولا تحمل على غيرها [ولا يحمل عليها غيرها] (¬6) ولاسيما أن الملاك لم ¬

_ (¬1) انظر: النوادر (2/ 242). (¬2) سقط من أ. (¬3) تقدم بيان أن الإجماع حجة مطلقا. (¬4) في أ: الماضي. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

تصدر منهم جناية، ولا جربت منهم خيانة؛ بل هم منتظرون لورود السعاة ليصدروا وهم عنهم راضون إلا أن سبب التأني من ولاة الأمر، فليس ذلك مما يوجب التغليظ على أرباب المواشي، وربك أعلم. والجواب عن الوجه الخامس: إذا غاب عنه الساعي خمس سنين، وغنمه ألف شاة، فلما كانت السنة الخامسة رجعت إلى أربعين، ثم جاء الساعي فلا خلاف -أعلمه- في المذهب أنه لا يؤخذ منه إلا شاة واحدة؛ لأن المالك غير متعد، ولا كان منه تفريط ولا تضييع [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

المسألة التاسعة في زكاة الماشية المغصوبة

المسألة التاسعة في زكاة الماشية المغصوبة (¬1) [فإذا] (¬2) غصبت ماشية ثم ردت على صاحبها بعد أعوام، وكانت نصابًا فأكثر، فهل يزكيها ربها لعام واحد، أو لأعوام؟ فلا تخلو من أن تكون قد زُكِّيَت عند الغاصب كل عام أم لا، فإن كان الساعي يأخذ زكاتها من الغاصب كل عام فلا شيء على صاحبها إلا زكاة العام الذي ردت عليه، ولا خلاف في هذا الوجه لبقائها على ملك صاحبها، وعلى ملكه زكيت؛ إذ الغصب لا ينقل الملك. فإن كانت الغنم غير مزكاة عند الغاصب من يوم غصبها إلى يوم ردت على صاحبها، هل يزكيها صاحبها لماضي الأعوام أو إنما يزكيها لعام واحد؟ فالمذهب على قولين منصوصين في المدونة: أحدهما: أنه يزكيها لعام واحد، وهو أحد أقاويل ابن القاسم. والثاني: أنه يزكيها لماضي السنين حتى ترجع إلى ما لا زكاة فيه أو تنقضي السنون، وهو قول ابن القاسم [وأشهب أيضًا] (¬3). وسبب الخلاف: الغاصب هل يرد الغلات أم لا؟ فعلى القولين بأنه يرد الغلات، فعلى رب الماشية زكاتها لماضي السنين على ما تؤخذ عليه عنده؛ لأنها باقية على ملكه بخلاف العين على أحد ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 338). (¬2) في الأصل: وإذا. (¬3) سقط من أ.

الأقوال؛ لأن [الغلة، (¬1) لما ردت مع الأعيان، فكأنها قط لم تزل من يده (¬2). وعلى القول بأن الغاصب لا يرد الغلات، فليس على المغصوب منه أن يزكيها إلا لعام واحد؛ لأنها [أموال] (¬3) محبوسة عن تنمية مالكها، فسقطت عنه فيه الزكاة قياسًا على العين في أحد الأقوال، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في ب: الغلات. (¬2) قال أشهب: والعين ليس له أن يَطْلبَ الغاصبَ بربحه. النوادر (2/ 141). (¬3) سقط من أ.

المسألة العاشرة في شراء المرء صدقته

المسألة العاشرة في شراء المرء صدقته (¬1) ولا يخلو شراء المرء صدقته من وجهين: أحدهما: أن يشتريها قبل أن تقبض منه، أو بعد ما قبضت منه. فإن اشتراها قبل أن تقبض منه، فلا خلاف في المذهب أن ذلك يمنع ابتداء. فإن وقع ونزل وأخذ الساعي عوضًا عما وجب له من الشاة أو حب، فهل يجزئه أو يعيد؟ فلا يخلو ولاة العهد من أن يكونوا ولاة العدل، أو ولاة الجور. فإن كانوا ولاة العدل، فأخذوها عند محلها، وفيما أخذوه وفاء [عما] (¬2) وجب لهم وهم يضعونها مواضعها ويصرفونها لمن يستحقها، فإنها تجزئه، وهو قول ابن القاسم، وأشهب في "الموازية". ولا فرق على هذا القول بين أن يأخذ منهم القيمة طوعًا أو كرهًا. والدليل على جواز إخراج القيمة في الزكاة إذا كان الإمام عدلًا فعل معاذ بن جبل باليمن حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم -[مصدقًا قال لهم: ائتوني بعوض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة، فإنه أهون عليكم وخير لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وإنما كره ذلك من كرهه لعموم قوله عليه السلام: "العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: المدونة (2/ 339)، والنوادر (2/ 222: 224). (¬2) في ب: لما. (¬3) أخرجه البخاري (2449)، ومسلم (6221) من حديث ابن عباس.

وإن كانوا ولاة جور فهل يجزئ ما أخذوا أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يجزئ ما أخذوا طوعًا ولا كرهًا، وهو قول ابن القاسم. والثاني: التفصيل بين الإكراه والطوع؛ فإن أخذ منهم العوض بالإكراه أجزأه، وإن أخذ منهم طوعًا استحبت لهم الإعادة، وهو قول أصبغ، وابن وهب، وغيرهما. ووجه قول ابن القاسم: أنها زكاة أخذت ووضعت في غير محلها، وصرفت لغير مستحقها، فلا تجزئه كما لو دفعها إلى عبد أو نصراني. ووجه قول أصبغ: أن [الفداء] (¬1) إنما وقع عليها بعد أن أخذوها وبرئت منها ذمة المزكي، فكانت جائزة عنه؛ إذ لا يمكن الخروج عليهم إذا كانوا مسلمين لما في ذلك من سفك الدماء، وسبي الحريم، وإثارة الفتنة، وذلك مما لا يحل؛ ولأجل هذا منع القيام على ولاة الجور إذا لم يتوصل إلى عدلهم إلا بعد سفك الدماء، وسبي الأموال، وهتك الحرمات، وبه قال القاضي ابن رشد، والشيخ أبو عمران، وابن عبد البر، وغيرهم من متأخري المذهب، فإن اشتراها بعد ما قبضت منه فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يشتريها من الذي قبضها منه. والثاني: أن يشتريها من غيره. فإن اشتراها من الذي قبضها منه؛ مثل أن يشتريها من المسكين أو المتصدق عليه؛ إن كان تطوع بها، فإن البيع ممنوع ابتداء، فإن نزل هل ¬

_ (¬1) هكذا في أ.

يفسخ أم لا؟ قولان قائمان من المدونة. أحدهما: أن البيع نافذ، ولا يفسخ، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وهو قول القاضي أبي محمد عبد الوهاب. والثاني: أن البيع مفسوخ، وهو قول أبي إسحاق التونسي على ما نقله عنه أبو الوليد الباجي. والقولان قائمان من المدونة في المدير وغيره يخرج في زكاته عرضًا بقيمته، فلا يجزئه عند ابن القاسم، وقال أشهب: يجزئه إذا لم يحابي نفسه، ولبئس ما صنع. وينبني الخلاف: على الخلاف في النهي هل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟ وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم -[نهى عن شراء المرء صدقته] (¬1)، [ولا خلاف] (¬2) في هذا بين الفرق والتطوع. فإن اشتراها من غير الذي قبضها منه؛ مثل أن يقبض زكاة ماله، أو تصدق بصدقة على رجل ثم وجدها بيد غيره، فهل يجوز له أن يشتريها منه أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه يكره له أن يشتريها منه، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن الشراء يجوز له ابتداء من غير كراهة، وهي رواية عيسى عن مالك في المدونة. وسبب الخلاف: اختلافهم في حماية [الذريعة] (¬3) [هل تحمى أو لا ¬

_ (¬1) في ب: نهى عمر رضي الله عنه عن شراء صدقته. (¬2) في ب: فلا فرق. (¬3) في ب: الحماية.

تحمى، ولا خلاف في مذهب مالك أن الذريعة تحمى، وإنما الخلاف في الحماية، (¬1) تحمى أم لا؟ ووقع لمالك في المدونة في مواضع أنها تحمى؛ فمنها قوله في كتاب الآجال فيمن باع [سلعة] (¬2) بثمن إلى أجل ثم وكل غيره على أن يشتريها له بأقل من الثمن نقدًا، قال: لا يجوز ذلك؛ وهذا منه بناء على أن الحماية تحمى، ومثله قوله في "كتاب الزكاة الثاني" وغيره [لا ينبغي له] (¬3) أن يشتري صدقته من [غير] (¬4) الذي تصدق بها عليه؛ وذلك لأن العلة التي من أجلها منع الشراء من الذي قبضها منه مخافة وجود المسامحة في بعض [الثمن من البائع] (¬5) فيؤول ذلك إلى أن يرجع إلى المتصدق بعض صدقته بلا عوض، فمنع من ذلك سدًا للذريعة. وهل يتصور وقوع ذلك من الأجنبي أم لا؟ فمن رأى أن الحماية تحمى قال: يمنع ذلك من الأجنبي كما يمنع من المتصدق عليه نفسه. ومن رأى أن الحماية لا تحمى جَوَّز الشراء من الأجنبي لارتفاع التهمة. فهذه معان رائقة ينبغي للناظر تفهمها، والتشوف إلى معرفتها، [وربما تكون لنا العودة لتقييد هذا الأصل، ووضوحه بموضعه في "كتاب الآجال" إن شاء الله تعالى] (¬6) [والحمد لله وحده] (¬7). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في الأصل: بسلعة. (¬3) في جـ: لا يجوز. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من ب. (¬7) زيادة من جـ.

المسألة الحادية عشر [في زكاة] الثمار والحبوب

المسألة الحادية عشر [في زكاة] (¬1) الثمار والحبوب (¬2) والكلام [في] (¬3) هذه المسألة في خمسة فصول: أحدها: في معرفة ما تجب فيه الزكاة من أنواع الحبوب والثمار. والثاني: معرفة ما يضم [بعضه] (¬4) إلى بعض من تلك الأنواع. والثالث: معرفة المقدار الذي يؤخذ منها. والرابع: معرفة ما يخرص منها مما لا يخرص. والخامس: معرفة الوقت الذي تجب فيه الزكاة في تلك الأنواع. فالجواب عن الفصل الأول: في معرفة ما تجب فيه الزكاة من الحبوب وسائر [أصناف] (¬5) الثمار. والأصل في وجوب الزكاة في الحبوب والثمار على الجملة الكتاب والسنة [وإجماع الأمة] (¬6). أما الكتاب فقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} الآية إلى قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬7). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل. (¬2) انظر: المدونة (2/ 343). (¬3) في أ: على. (¬4) في أ: بعضها. (¬5) في ب: أجناس. (¬6) في أ: والإجماع. (¬7) سورة الأنعام الآية (141).

وأما السنة: فما خرجه [البخاري] (¬1) ومسلم، ومالك في "الموطأ" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليست فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دون خمسة أوسق من حب ولا تمر صدقة" (¬3)، وهذا الحديث انفرد به مسلم. وأما الإجماع: فمعلوم من دين الأمة ضرورة وجوب الزكاة بشروط أحكمتها السنة. وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - مجمل القرآن، فأوجب الزكاة في شيئين الثمر والحب، وأنه لم يبين ذلك الثمر ما هو، ولا جنس ذلك الحب ما هو، ووكل بيان ذلك اجتهاد المجتهد لكي لا يخليه من تعب الاجتهاد، فالله تعالى يقول: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬4)، وأما تفصيل ما وجبت فيه الزكاة من الثمار والحبوب، فإن الزكاة تجب في النخيل، والأعناب، والزيتون قولًا واحدًا؛ لأنها أصول الأقوات المدخرة، وأصل المعاش غالبًا. واختلف فيما كان غالبًا، ويدخر ويراد للتفكه، مثل اللوز، والجوز، والجلوز، والفستق، وما لا يدخر، ويراد للتفكه مثل البلح، هل يزكى إذا كان نصابًا أم لا؟ أما ما يدخر ويراد للتفكه مما ذكرنا: فالمذهب في وجوب الزكاة فيها على قولين: أحدهما: أنه لا زكاة عليه أولًا، وقول مالك، وابن القاسم، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه البخاري (1390) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬3) أخرجه مسلم (979) من حديث أبي سعيد. (¬4) سورة المجادلة الآية (11).

وجميع أصحابه على ما حكاه ابن أبي زيد. والثاني: أن الزكاة تجب في جميع الثمار كلها ذوات الأصول، وما يدخر منها وما لم يدخر؛ لعموم قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬1)، وهو قول ابن حبيب في "الواضحة". وسبب الخلاف: العموم: هل يخصص بالقياس أم لا؟ (¬2) وأما ما لا يدخر، ويراد للتفكه مثل البلح الذي لم يزهو هل تجب فيه الزكاة أم لا؟ فالمذهب فيها يتخرج على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: وجوب الزكاة فيه، وهو قول مالك، وابن القاسم في المدونة في كتاب الزكاة الثاني. ويتخرج القول الثاني بأنه لا زكاة فيه من مسألة الفواكه، والخضروات فقد نص مالك في "المدونة" (¬3) وغيرها أن لا زكاة فيها، وقد اعترض فضل ابن مسلمة [مسألة المدونة] (¬4) فقال: كيف تؤخذ الزكاة من تمر لا يجد إلا بلحًا، ويلزم على هذا أن تؤخذ الزكاة من الفصيل إذا جَدَّ. والاعتراض واقع جدًا، وقد [اعترض] (¬5) حذاق المتأخرين عن هذه [المسألة] (¬6) وراموا الانفصال عن ما اعترض به فضل؛ منهم القاضي أبو ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية (141). (¬2) القياس يخصص العام من الكتاب والسنة؛ لأن الخاص من القياس، والعام من الكتاب والسنة دليلان قد ثبتا، ولا يمكن أن تقدم العام على الخاص؛ لأنه يلزم منه إلغاء الخاص بالكلية، وهذا لا يجوز، أما تقديم الخاص فلا يوجب ذلك؛ بل فيه عمل بالخاص، وعمل بما بقي بعد التخصيص، وهذا فيه جمع بين الدليلين. الجامع لمسائل أصول الفقه (269، 270). (¬3) انظر: المدونة (2/ 294). (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: اعتذر. (¬6) سقط من أ.

الفضل عياض، فإنه قال: لعل معنى قوله: "لا تزهو": أي لا يتم زهوها، ولا ترطب، ولا تتمر، وأنه يبدو فيه الصلاح، ولا يتم على ما يتم عليه مثله، ولا يكون بلحًا كبيرًا، أو بسرًا، ولم يرد البلح الصغير الذي هو علف، فيشبه [الرطب الذي] (¬1) لا يجف ويصير تمرًا، فيكون موافقًا للأصول، ويكون قوله: لا يزهو لفظ غير محصل، ولا وقع موقع التحقيق، وإن لم يكن هذا معناه [وإلا] (¬2) فالقول ما قال فضل. وممن ذهب إلى [مثل] (¬3) هذا التأويل الشيخ أبو عمران الفاسي، فإنه قال: معناه أنها لا تحمر، ولا تصفر، ولكنها تبقى خضراء، وتدخلها الحلاوة، وهذا تأويلهم على المسألة. وعلى تسليم هذا التأويل ينبني الخلاف في المسألة على الخلاف في أنواع الأموال في الزكاة، هل يراعى كل نوع بانفراده، ولا يعتبر سواه، أو الاعتبار بالغالب، ويكون الأقل تبعًا للأكثر، فإن اعتبرنا الأنواع [وجب أن لا زكاة] (¬4) في البلح الذي لا يزهو؛ لأنه ليس مما في الحديث، ولا هو أصل للعيش، والعنب الشتوي من هذا القبيل. وإن اعتبرنا الغالب وجبت الزكاة في البلح والعنب الشتوي؛ لأن الغالب من ثمار النخيل، والأعناب الادخار، والأقل تبع للأكثر، ويحكم له بحكمه. وأما ما تجب الزكاة فيه من الحبوب وسائر القطاني، فلا خلاف في المذهب فيما كان منها مقتاتًا مدخرًا أصلًا للمعاش غالبًا أن الزكاة واجبة ¬

_ (¬1) في أ: المسألة الأخرى التي. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: وجيب الزكاة.

فيه؛ وذلك مثل القمح، والشعير، والسلت، والأرز، والدخن، والذرة، والفول، والعدس، والحمص و [الجلبان] (¬1) واللوبيا، والبسيلة -وهي الكرسنة- وما ثبت معرفته عند الناس أنه من القطاني، والزيتون، والسمسم [إلا أن هذه الحبوب منها ما يراد لزيته كالزيتون والسمسم] ومنها كان في معناهما مما سنذكره تفصيلًا إن شاء الله تعالى. ومنها ما يراد [لعينه] (¬2) لكونه قوتًا في نفسه كالقطاني. واختلف فيما عدا المسميات التي ذكرناها من سائر القطاني، هل تجب فيها الزكاة أم لا؟ مثل الترمس، وفيما عدا الزيتون والسمسم مثل حب الفجل، والسلجم، وبذر الكتان، و [حب] (¬3) القرطم، وهي ذريعة العصفور، وأما الترمس: فقد نص عليه ابن القاسم في كتاب محمد أنها من القطاني، وأنها تزكي، وهو ظاهر قول أبي محمد بن أبي زيد وتأويله لقول مالك أن لا زكاة في الترمس؛ لأنه اشترط الحبوب التي تزكى أن تكون أصلًا للمعاش والترمس ليس بأصل للمعاش. وقد اختلفوا في العلة الجالبة للزكاة في الحبوب، هل الاقتيات والادخار خاصة، فتكون العلة ذات وصفين أو يضاف إليهما وصف ثالث؛ وهو أصل للمعاش غالبًا، فتكون العلة مركبة من ثلاثة أوصاف، [وإلى أن العلة من ثلاثة أوصاف] (¬4) ذهب أبو محمد بن أبي زيد، وإلى أنه ذات وصفين ذهب القاضي أبي محمد عبد الوهاب. وعلى هذا الاعتبار اختلف المذهب في التين، هل تجب فيه الزكاة أم ¬

_ (¬1) غير واضحة بالأصل فأثبتناها من المدونة. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

لا على قولين: أحدهما: نص مالك في المدونة أنه لا زكاة في التين، وهو المشهور في النقل [والمهجور في المعنى] (¬1). والثاني: وجوب الزكاة [فيها] (¬2)، [وهو قول ابن حبيب] (¬3) وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة في كتاب الزكاة الثاني في باب زكاة الفطر على رواية جبلة بن حمود، وعيسى بن مسكين بعد قول مالك: لا يجزئه إخراج زكاة الفطر، وأنا أرى [أن] (¬4) كل شيء من القطنية؛ مثل اللوبيا أو شيء من الأشياء التي ذكرناها أنها لا تجزئه، وإذا كانت عَيْش قَوْم فلا بأس أن تؤدي من ذلك [زكاة الفطر] (¬5)، وتجزئهم. ومن جملة الأشياء التي ذكرها التين، فإذا جاز أن تؤدى منه زكاة الفطر وجب أن تجب فيه [زكاة الوسق] (¬6)، وهذا القول ضعيف في النقل مشهور [في المعنى] (¬7). ولا خلاف عند مالك في وجوب الزكاة في الزيت لكونه مقتاتًا مدخرًا، أصلًا للعيش غالبًا، فالتين أقوى اقتياتا من الزيت، وأنفع للجسم، والتعويل عليه عند من هو عندهم مثل الأندلس وغيرهم من بلاد المغرب أكثر من التعويل على الزبيب والتمر عند أهلها في النفقة، والمؤونة، فما كان هذا [سبيله] (¬8) فكيف لا تجب فيه الزكاة؟. وقد اعتذر القاضي أبو الحسن بن القصار عن قول مالك، وقال: إنما ¬

_ (¬1) في أ: والجمهور في المعتاد. (¬2) في ب: في التين. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: الزكاة. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: ببلده.

تكلم مالك [عن بلده] (¬1) ولم يكن التين عندهم، وإنما كان يجلب إليهم، فلو عاشرها وباشرها لأوجب فيه الزكاة [كما] (¬2) أوجبها في غيره. والذي قاله القاضي صحيح، وقد وقع في كتاب المساقاة والحوائج من المدونة ما يدل على تأويل ابن القصار على ما سنوضحه في موضعه إذا انتهينا إليه إن شاء الله. وأما الجواب عن الحبوب المختلف في وجوب الزكاة فيها: مما يراد للزيت كالقرطم، وبذر الكتان، وحب الفجل، والسلجم: فلابن القاسم في "العتبية" في حب القرطم قولان: أحدهما: أن الزكاة في زيته. والثاني: أنه لا زكاة فيه، [وهو] (¬3) الذي اختاره سحنون. وأما بزر الكتان: فقد روى ابن القاسم عن مالك أنه لا زكاة في حبه، ولا في زيته؛ إذ ليس مما يقتات به، وبه قال المغيرة وسحنون، وقال أصبغ في كتاب ابن المواز: فيه زكاة -يريد في زيته- وهو أعم نفعًا من زيت القرطم. وأما حب الفجل: فقد نص ابن القاسم في "المدونة" (¬4) أن الزكاة تؤخذ من [حبه] (¬5) إذا بلغ حبه خمسة أوسق، والسلجم في معناه، وله في كتاب محمد: لا زكاة فيه. وهذا الاختلاف كله يرجع إلى اختلاف أحوال، وصفات التصرفات في الاستعمال؛ وذلك أن الزيتون لما اتفق وجه العمل [فيه] (¬6) واتحد الانتفاع بزيته في مشارق ¬

_ (¬1) في أ: ببلده. (¬2) في الأصل: كلما. (¬3) في الأصل: هو. (¬4) انظر: المدونة (2/ 349). (¬5) في ب: زيته. (¬6) سقط من أ.

الأرض ومغاربها أطبقت الأمة على وجوب الزكاة فيها، كان مما يعصر أو لا يعصر كزيتون مصر، وكان ذلك مطابقًا لورود النص فيه. وأما السمسم: فهو حب ذو زيت يقتات به على الجملة، فإذا نظرت من حيث التفصيل تجد أحوال [الناس] (¬1) في صفة استعماله تختلف، فأقوام يتخذونه عمدة الأكل ويعولون عليه كما يعولون على زيت الزيتون كأهل الشام واليمن فتجب عليهم فيه الزكاة كما تجب في الزيتون، وأقوام يتخذونه للعلاج ويستعملون منه [الأدهان كالبنفسج] (¬2) والورد والياسمين وغير ذلك كأهل المغرب: فهؤلاء [يجب أن لا زكاة] (¬3) عليهم فيه على القول بأن الزكاة إنما تجب في المقتات الذي هو أصل للعيش غالبًا -يريد في حالة ألاختيار والسعة لا حالة الإقتار والضرورة فإن الناس إذ ذاك لا يستثنون شيئًا من شيء حتى الغاسول، والبلوط، [ونوى] (¬4) الخروب فإنه يقوم عندهم في زمان الشدة مقام سميد القمح حتى صار عندهم أصلًا للعيش، فنسأل الله العافية والسلامة. ولهذا وقع الخلاف في بزر الكتان والقرطم؛ لأنه بالنظر إلى وجود الزيت فيه يقال بوجوب الزكاة فيه وبالنظر إلى أنه لا يعاش به وإن كان [الزيت] (¬5) يخرج منه إلا أن القدر الذي يخرج مه نذر يسير [يقال أن لا زكاة فيه] (¬6) لأن الزكاة شرعت مواساة للفقراء من الأغنياء، ولا تجب إلا في الأموال التي تحتمل المواساة وتسد الخلات، ولا جرم أن النصب موضوعة في الأموال النامية وضعًا لا يحل الزيادة عليها ولا النقصان منها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أدهان البنفسج. (¬3) في ب: فلا تجب الزكاة. (¬4) في جـ: وحب. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

والجواب عن [الفصل] (¬1) الثاني: في معرفة ما يضم بعضه إلى بعض من الحبوب والثمار في الزكاة (¬2). والحبوب في الزكاة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: منها القمح والشعير والسلت: فلا خلاف في المذهب في وجوب ضم بعضها إلى بعض في الزكاة، وأنها صنف واحد في الزكاة وفي قاعدة الربا. واختلف في العلس [وهو] (¬3) الإشقالية: وهو حب مستطيل مصوف يكون باليمن [هل] (¬4) يضم بعضه إلى القمح والشعير [والسلت أم لا] (¬5) على قولين: أحدهما: أنه من جنس القمح والشعير والسلت، وهو قول أكثر أصحاب مالك على ما نقله ابن حبيب في واضحته. والثاني: أنه صنف رابع، ولا يضاف إلى الأنواع الثلاثة، وهو قول ابن القاسم، وبه قال ابن وهب وأصبغ. ووجه القول الأول: أنه تساوى مع القمح في المنفعة ولا يكاد يخلو منه. ووجه القول الثاني: أنه لا يتفق مع الحنطة والشعير في الوجود [فدل ذلك] (¬6) على اختلاف منفعتهما. ومنها: الأرز والذرة والدخن فهل هي صنف واحد، أو كل واحد منهما ¬

_ (¬1) في أ: السؤال. (¬2) انظر: المدونة (2/ 349). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

صنف؟ فالمذهب على قولين: وهل [هذا] (¬1) الخلاف يتخرج على الخلاف في الأرز والدخن والذرة هل هي صنف واحد مع القمح والشعير في [باب] (¬2) الربا أم لا؟ فالمذهب فيها على قولين: أحدهما: أن كل واحدة من هذه الأنواع الثلاثة التي هي الذرة والدخن والأرز صنف [منفرد] (¬3) لا يضاف [إلى شيء ولا يضاف] (¬4) إليه شيء لا من القمح ولا من غيره، وهذا هو نص المدونة في كتاب الزكاة الثاني، وفي كتاب السلم الثالث، وهذا القول هو الأشهر في المذهب. والمذهب: أن القمح والشعير والسلت والدخن والذرة والأرز كلها صنف واحد لا يجوز التفاضل في شيء منها في باب الربا، وهي رواية زيد ابن بشير عن ابن وهب، على ما نقله القاضي أبو الوليد الباجي في "المنتقى" (¬5)؛ فعلى هذا يجب أن تجمع في الزكاة أيضًا، وذلك من باب أولى؛ لأنه يجمع في الزكاة بين ما يختلف [فيه] (¬6) في الربا هل هو جنس واحد أو جنسان، وذلك لا يخفى على من شد طرفًا من المذهب. ومنها: القطاني على تعدد أسمائها: فلا خلاف في المذهب أنها لا تضم ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل. (¬2) في ب: قاعدة. (¬3) انظر: المنتقى. (¬4) في أ: واحد. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

إلى [شىء] (¬1) من القسمين المتقدمين؛ لا إلى القمح والشعير والسلت، ولا إلى الدخن والذرة والأرز واختلف في [الزكاة في] (¬2) [الكرسنة] (¬3) وهي البسيلة على تفسير بعضهم، هل هي من القطاني أو هي صنف منفرد على قولين: أحدهما: أنها من جملة القطاني، وهو قول أشهب في "العتبية"، وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة" إن صح أن [الكرسنة] هي البسيلة. والثاني: أنها صنف على [حدته] (¬4) لا يضم إلى القطاني، وهو قول ابن حبيب في "الواضحة". واختلف في القطاني هل هي صنف [واحد] (¬5) في البيوع أم لا؟ على قولين منصوصين عن مالك في "المدونة" في كتاب السلم. "الثالث"، فمرة قال: إنها صنف واحد لا يجوز التفاضل فيه، ومرة قال: إنها أصناف يجوز فيها التفاضل. واختلف أصحابنا [المتأخرون] (¬6) في ترجيح هذين القولين في الزكاة، فمنهم من قال: إن القولين جاريان في الزكاة كجريانهما في البيوع، وهو قول القاضي أبي محمد عبد الوهاب. ومنهم من قال: إن القولين لا يدخلان في الزكاة [وأن القطاني كلها في الزكاة] (¬7) صنف واحد وفي البيوع قولان، وهو ظاهر قول مالك في ¬

_ (¬1) في الأصل: شدتين. (¬2) سقط من أ. (¬3) في الأصل: الكرسة. (¬4) في ب: حده. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

"الموطأ"، "والمدونة". والذي اختاره أبو الوليد الباجى أن يكون كل [واحد] (¬1) منها صنفًا منفردًا لا يضم إلى غيره في الزكاة والبيوع، قال: لأنا إن عللنا للجنس بانفصال الحبوب بعضها من بعض اطرد ذلك فيها وانعكس وصح. وإنْ عللنا باختلاف الصور والمنافع صَحّ أيضًا، وهذا كُلّه [فيما] (¬2) يجمع من حيث الجِنسِيّة، وأما ما يُجمع من حيث الزَّمان والحَصَاد فلا يخلو من وجهين: إِمَا أنْ يَخْتَلفُ زَمَانهمَا في الحَرْث والحَصَاد، أو يَتَّفِق. فَإنْ اخْتَلَفَ الزَّمَان كالشِّتْوِي والصَّيْفِي فَإنّه يُعْتَبر النِّصاب في كِلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا [قولًا واحدًا] (¬3). وإنْ اتَّفَقَ الزَّمَان فلا يخلو مِنْ وجهين: أحدهما: أنْ يُزْرعَ الثَّاني قَبْلَ حَصَاد الأوَّل. والثاني: أنْ [يزرع] (¬4) بَعْدَ حَصَادِ الأوَّل. فَإنْ زَرعَ الثاني قَبْلَ حَصَادَ الأوَّل: فلا يخلو من أن يرفع مِنْ كُلّ واحد منهماَ نِصَابًا، أو دُونه. فإن رَفَعَ مِنْ كُلّ واحد منهما نِصابًا: فلا [كَلَام] (¬5). وإن وقع من كل واحد منهما دون النصاب إلا أنهما في الضم والجمع ¬

_ (¬1) في أ: صنف. (¬2) في أ: مِمِا. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: يزرعها. (¬5) في ب: إشكال.

يكون النصاب فيهما، هل يضم بعضها إلى بعض، أم لا؟ [فالمذهب] على قولين: أحدهما: أنه [يضم الأول إلى الثاني] (¬1) ويزكى، وهو قول مالك في "كتاب ابن سحنون"، وبه قال محمد بن مسلمة. والثاني: أنه لا يضم بعضه إلى بعض، ولا زكاة عليه حتى يرفع من كل [ما حصد] (¬2) ما تجب فيه الزكاة، وهي رواية ابن نافع عن مالك في [الكتاب المذكور أيضًا] (¬3)، وهذا هو الأصوب؛ لأن الحصاد إذا اختلف اختلافًا متباينًا حتى لا يشبه ما بينهما ما بين البكري والمتأخري، فلا ينبغي أن يجمعا في الزكاة لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬4). فالحق إنما وجب عليه بنفس الفراغ من عمله -أعني وجوب الإخراج. وأما وجوب التكليف فقد تعلق [بطيبه] واستغنائه عن الماء، فإذا كان الزرع في تلك الساعة لا تجب فيه الزكاة لقصوره عن النصاب فلا تجب فيه الزكاة ساعة أخرى. فإن قيل زرع الثاني بعد حصاد الأول: لم يضم الأول إلى الثاني، واعتبر النصاب في كل واحد منهما كالشتوي [مع] (¬5) الصيفي. وعلى القول بأنه [يضم] (¬6) الأول إلى الثاني في الوجه الأول، فإن زرع ثالثًا بعد حصاد الأول وقبل حصاد الثاني: فإنك تنظر، فإن كان الزرع الأوسط ثلاثة أوسق، والأول والثالث وسقان: زكى عن الجميع؛ لأنك إن ¬

_ (¬1) في ب: يضم الثاني إلى الأول. (¬2) في ب: واحد. (¬3) في ب: كتاب ابن سمنون. (¬4) سورة الأنعام الآية (141). (¬5) في أ: و. (¬6) في ب: لا يضم.

أضفت الأوسط إلى الأول كانا خمسة أوسق، وإن أضفته إلى الآخر كان كذلك أيضًا. ولو كان الأوسط وسقان، والأول ثلاثة أوسق والثالث وسقان: لزكى الأول والأوسط دون الثالث. ولو كان الأول وسقين، والأوسط والثالث ثلاثة أوسق: لزكى الأوسط والآخر، ولا يزكى الأول، ولا مجمع بين الأول والثالث أصلًا إلا إذا كان الأوسط ثلاثة [أوسق] (¬1) -كما تقدم- فافهم هذا التحصيل ترشد إن شاء الله تعالى، وهذا كله في الحبوب التي تُراد للاقتيات بنفسها. وأما الحبوب التي يُراد منها الزيت: فإنها أصناف مختلفة ولا يضم بعضها إلى بعض كالزيتون والسمسم وغيرهما من إلأشياء [مما يعصر] (¬2) للزيت لأنها متباينة المنافع، والتفاضل فيها جائز، فيعتبر النصاب من كل واحد من تلك الأجناس على الانفراد. وأما الثمار والأعناب: فكل واحد منهما صنف على اختلاف أنواعها؛ فالتمر كله [صنف] (¬3) على اختلاف أنواعه [وأسمائه] (¬4) وصفاته مما يتمر أو يزهو، أو لا يتمر ولا يزهو، أو لا يتمر [ولا يزهو] (¬5) وإنما يكون بلحًا على القول بوجوب الزكاة [فيه] (¬6) على ما قدمناه في الفصل الأول. وكذلك العنب الشتوي والصيفي فإنه صنف واحد يضاف بعضه إلى ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: وأجناسه. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

بعض، فإذا حصل من ذلك نصاب فليزكه وهذا كله في الحبوب والثمار التي هي في الأماكن [المحوزة] (¬1)، والأراضي [المربوبة]. وأما ما يؤخذ من الجبال من كرم وزيتون وتمر مما لا مالك له: فلا زكاة فيه على من أخذه، وهو قول مالك في "كتاب ابن المواز". والجواب عن [الفصل] (¬2) الثالث: في [مقدار] (¬3) الجزء الذي يؤخذ من نصب الحبوب والثمار في الزكاة. وذلك يختلف باختلاف سقيه وعلاجه؛ فما كان منها يشرب بعروقه أو بسيح (¬4) أو بالعيون والأنهار أو بماء السماء وما أشبه ذلك مما لا يتكلف فيه مؤونة ولا مشقة شاقة: ففيه العشر. وما كان يسقى بالغرف أو بدالية: ففيه نصف العشر لكان ما يتكلف في ذلك من المؤونة بماله أو بنفسه. والدليل على ذلك: ما خرجه البخاري ومسلم مسندًا، وخرجه مالك في الموطأ من طريق بسر بن سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر، وما سقى بالنضح نصف العشر" (¬5). وفي حديث مسلم والبخاري: "أو كان عثريًا" (¬6). فقيل: العثرى: الذي يشرب سيحًا، وقيل: العثرى ما تسقيه السماء، ¬

_ (¬1) في ب: المحازة. (¬2) في أ: الوجه. (¬3) في ب: معرفة. (¬4) السيح: الماء الجاري مثل الغيل، يسمى سيحا لأنه يسيح في الأرض -أي يجري- "الغريب لابن سلام" (1/ 69 - 70). (¬5) أخرجه البخاري (1483) ومسلم من حديث ابن عمر وأخرجه مالك (608) من حديث بسر بن سعيد بإسناد ضعيف. (¬6) تقدم.

وكلا القولين حكاهما ابن فارس في كتاب "فقه اللغة"، وكلاهما مخالف للحديث لأنه ذكر في الحديث: "ما تسقيه السماء والعيون"، والعثرى غيرهما، وهو الذي يشرب بعروقه، والله أعلم. والبعلى: هو ما يشرب بعروقه، وهو قول أبي عبيد في "غريب الحديث" (¬1)، وبه قال أبو داود في "التفسير" أيضًا ومنه قول الشاعر: من الواردات الماء بالقاع تستقى ... بأعجازها (¬2) قبل استقاء الحناجر ومعنى ذلك أن أصولها تصل إلى الماء تحت الأرض فيقوم لها ذلك مقام السقى، ولا تحتاج أن تسقى بما ينزل إلى عروقه من وجه الأرض من مطر أو غيره، وهذا تأويل أبي الوليد الباجي. وقال ابن حبيب (¬3): البعلى ما يشرب بعروقه من غير سقى سماء ولا غيرها. وقال الباجي: وهذا لا أراه إلا بمصر إلا أنها على كل [حال] (¬4) يأخذها سقى النيل. فإذا كان الشرب بالوجهين جميعًا بالنضج أو بالعيون أو بالسماء: فلا يخلو من أن يتساوى السقيان، أو يختلفا. فإن اختلفا: مثل أن يسقى نصف السنة بماء العيون ثم انقطع ويسقى بالنضح في النصف الباقي: كان عليه ثلاثة أرباع العشر، نصف زكاته ¬

_ (¬1) (1/ 67). (¬2) في غريب الحديث: بأذنابها، والبيت من قول النابغة. (¬3) تفسير غريب الموطأ (1/ 308 - 310). (¬4) سقط من أ.

عشر، والنصف الآخر نصف العشر، وهو قول مالك في كتاب محمد فإن اختلف السقيان وكان أحدهما أكثر من الآخر: فقد اختلف في القدر المأخوذ [منه] (¬1) على ثلاثة أقوال: أحدهما: إن النظر إلى الذي [جاء] (¬2) به الزرع فيكون الحكم [له] (¬3) سواء كان قليلًا أو كثيرًا، وهو قول ابن القاسم في "المجموعة". والثاني: أن الأقل تبع للأكثر إن سقى بالعين ثلثى السنة وبالنضح ثلث السنة [كان] (¬4) الحكم للأكثر تقدم أو تأخر، وهو قول مالك في [الكتاب المذكور] (¬5)، وبه قال عبد الملك (¬6). والثالث: أنه يؤخذ من كل واحد منهما بحسابه، وهذا القول خرجه القاضي عبد الوهاب في المذهب. وينبني الخلاف على الخلاف في الأتباع هل تراعى أو لا تراعى؟ فعلى القول بأنها لا تراعى كان الحكم للأكثر، وهو القول [الأول] (¬7). وعلى القول بأنها تراعى [فهل] (¬8) المعتبر بالأخذ الذي جاء به الزرع؛ إذ الغرض كمال الزرع وانتهاؤه إلى حيث ينتفع به، وهو القول [الثاني] (¬9). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: جىء. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: لأن. (¬5) في ب: المجموعة. (¬6) انظر: "النوادر" (2/ 264 - 265). (¬7) في ب: الثاني. (¬8) سقط من أ. (¬9) في ب: الأول.

أو يراعى كل واحد من السقيين إذ بالأول [تتم] (¬1) فائدة السقى الثاني، ولو انفرد الثاني ولم يتقدمه الأول لم ينتفع بالثاني فيكون لكل واحد منهما تأثير فتقسم الزكاة على قدر المنفعة، وهذا القول الثالث، وهو قول قياس، والله أعلم. والجواب عن [الفصل] (¬2) الرابع (¬3): في معرفة ما يُخرص وما لا يخرص من الحبوب وسائر الثمار. أما الثمار التي هي النخيل والأعناب: فعلى ضربين: منها ما يشرع فيه [الخرص] (¬4) بالاتفاق، وضرب ثان اختلف فيه هل يخرص أم لا؟ فأما الضرب الأول المتفق عليه بالتخريص فهو النخل الذي يثمر والعنب الذي يتزبب. والدليل على ذلك فعله عليه السلام بوادي القرى وبعثه عبد الله بن رواحة إلى [الأنصاري] (¬5) إلى خيبر ليخرص عليهم التمر. ومن طريق المعنى: إنها أصول جرت العادة بالتفكه بها وامتداد اليد إليها في أول طيبها لأن النفس تستحليها، والشهوة تستجنيها، والجار [يستمنحها]، والمار يستوهبها، فإذا انحنى لهم ذلك دون خرص أدى ذلك إلى أحد أمرين ممنوعين: إما أن يبسطوا أيديهم في الأكل والاستهلاك إلى الجذاذ فيؤدي ذلك إلى أن يأتي على الثمرة كلها أو جلها فيضر ذلك بالمساكين، أو يمنع أرباب [الأصول] (¬6) من التصرف فيها والتفكه برطبها ¬

_ (¬1) في أ: تتبين. (¬2) في أ: الوجه. (¬3) انظر: "المدونة" (2/ 342) والنوادر: (2/ 266 - 267). (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: الأموال.

إلى يبسها وجذاذها أضر ذلك بهم فاقتضت الحكمة الشرعية بعثة الخراص ليحرز الأموال ويحصى الزكاة ثم يخلى بينهما وبين أربابها ينتفعون بها وزنًا بين الفريقين بالقسطاس المستقيم. وهل يجتزئ في ذلك بالخارص الواحد أو لابد من اثنين؟ فالمذهب يتخرج على قولين: أحدهما: أنه يجتزئ بالواحد، وهو المنصوص في المذهب. والثاني: إنه لابد من اثنين، وهذا القول مخرج غير منصوص [عليه] (¬1)، وهذا أحد أقاويل الشافعي. وينبني الخلاف على الخلاف في الخرص هل طريقه طريق الشهادة، أو طريقه طريق الحكم؟ فإن قلنا: إن طريقه طريق الشهادة فلابد من اثنين. فإن قلنا: إن طريقه طريق الحكم: فإنه يكتفي في ذلك بالواحد، والعدالة والمعرفة بالخرص معتبرتان بالاتفاق من الجميع. وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث عبد الله بن رواحة وحده إلى خيبر ليخرص التمر على اليهود عامًا بعد عام [فهذا] (¬2) أدل الدلائل على إرسال الواحد إلا أن يعارضه قوله عليه السلام لأصحابه إذ مر بامرأة في حديقتها بوادي القرى حين ذهابه إلى تبوك: "اخرصوا" وخرص رسول - صلى الله عليه وسلم - عشرة أوسق (¬3) الحديث. فظاهر هذا أنه لو جاز الواحد ما قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اخرصوا". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (1482) ومسلم (1392).

فإذا ثبت هذا فصفة الخارص. أن يكون من أهل المعرفة، [والعدالة] (¬1) [أن يخرص] (¬2) كل نخلة [على حدة] (¬3) ويحصى خرصها حتى يأتي على جميع الحائط، ثم يضم ذلك ويجمعه، وذلك أحوط له في إحصاء الزكاة، ويحرز ما في كل نخلة من الثمر اليابس عند الجذاذ على ما علم من حال ذلك الثمر وجنسه، وما ألف من حمل ذلك النخل كل سنة عند الإثمار؛ لأن الزكاة إنما تؤخذ منه تمرًا، وهكذا العنب يخرص عنبًا، ثم يقال: [كم] (¬4) ينقص من العنب إذا تزبب فيسقطه، فإن بقى بعد ذلك ما فيه الزكاة زكاه وذلك خمسة أوسق، ثم لا يخلو ذلك [التمر] (¬5) من أن يكون جنسًا واحدًا أو أكثر. فإن كان [جنسًا] (¬6) واحدًا فلا يخلو من أن يكون من أوسط الثمر، أو أعلاه، أو أدناه. فإن كان من أوسط الثمر: أدى منه، وهو قوله في "المدونة" (¬7): فإن كان من [أدنى] (¬8) الثمر كالجعرور ومصران الفأرة فهل يؤدى منه الزكاة أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: إنه يؤدى مما عنده، ولا يكلف غيره، وهو قول ابن القاسم ¬

_ (¬1) في أ: والعد. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: ما. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: لونًا. (¬7) المدونة (2/ 340). (¬8) في ب: ردىء.

في "المدونة"، وبه قال أشهب. والثاني: إنه يكلف أن يشتري الأوسط فيؤديه عن الذي عنده [وهو ظاهر قول مالك في الموطأ ورواه ابن نافع عنه نصًا وبه قال عبد الملك بن الماجشون وهو ظاهر المدونة في المواشى إذا كانت كلها شرارًا. فإن كان التمر جيدًا فإن علاوة الثمر هل يؤدى منها أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن يؤدي مما عنده وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن له أن يأتي مكانه بالأوسط ولا يؤدي مما عنده [وهو ظاهر قول مالك في الموطأ] (¬1). وهو اختيار سحنون وهي رواية ابن نافع عن مالك: وسبب الخلاف: الثمار والحبوب هل قياسها على الماشية، أو قياسها على العين أقرب؟ فمن قاسها على العين قال: يؤخذ منها على ما هي عليه من علاوة أو دناوة. ومن قاسها على الماشية [قال] (¬2): يكلف الإتيان بالوسط في الطرفين. فإن كان الحب أنواعًا والثمر أنواعًا، هل يؤخذ من كل نوع بقدره أم لا؟ أما الحبوب: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب نصًا أنه يؤخذ من كل نوع ما يصيبه من حصته من الزكاة إذا كان مما يجمع في الزكاة؛ مثل: القمح، والشعير، والسلت بالاتفاق، والقطاني على الخلاف، ولا يبعد دخول الخلاف فيها [بالمعنى] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وأما الثمار والنخيل والأعناب إذا كانت أنواعًا فقد اختلف فيها في المذهب على قولين: أحدهما: أن الزكاة تؤخذ من وسطها، وهي رواية ابن القاسم عن مالك في "المدونة". والثاني: أن يؤخذ من كل صنف بقدره، وهي رواية أشهب عن مالك في "كتاب ابن المواز" (¬1). ووجه قول ابن القاسم: اعتبار المشقة اللاحقة في اعتبار إخراج الزكاة من كل جزء منها، وتعذر حساب ذلك وتمييزه، فكان [العدل] (¬2) الرجوع إلى وسط ذلك. ووجه رواية أشهب: أن هذا مال تخرج زكاته بالجزء منه ولا مضرة في قسمته فوجب أن تخرج زكاة كل نوع منه كما لو كان جزءًا واحدًا. وهذا إذا كانت الأنواع متساوية [وأما إذا كانت مختلفة] (¬3)، وكان الواحد أكثر من الثاني فهل تؤخذ من الأكثر أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تؤخذ من الأكثر، ولا يلتفت إلى الأقل، وهو قول عيسى ابن دينار على ما نقله عنه أبو الوليد الباجي. والثاني: أنه يؤخذ من كل صنف بقدره من الكثير ومن القليل بقدره، وهو قول أشهب في كتاب محمد وفي "المجموعة". ¬

_ (¬1) انظر "النوادر" (2/ 263 - 264). (¬2) في ب: القول. (¬3) سقط من أ.

وسبب الخلاف: هل الأقل تبع للأكثر أم لا؟ واختلف المذهب في الخارص هل يخفف عن أصحاب الثمار في الخرص لمكان ما يعرون ويأكلون أم لا؟ على قولين حكاهما أبو محمد عبد الوهاب عن مالك: أحدهما: أنه لا يخفف عنه، ولا يترك لهم لمكان الفساد والأكل شيئًا، وهو قوله في "المدونة". والثاني: أنه يترك لهم لمكان العرايا والأكل والفساد شيئًا، وهو اختيار ابن حبيب. واحتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر [بالتخفيف] (¬1) بالراقطة والساقطة واللاقطة وما ينال العيال وما يأكله المارة وعوافي الطيور، والحديث ليس بثابت. وسبب الخلاف: الزكاة هل تجب بالطيب، أو لا تجب إلا باليبس [والجذاذ] (¬2)؟ فمن رأى أنها تجب [بالطيب] قال: لا يترك لهم شيء لثبوت حق المساكين في ذلك المال [على العموم] (¬3) وتعلقه به تعلقًا يوجب ألا يستثنى رب [الحائط] (¬4) لنفسه شيئًا يستبد به على الخصوص. ومن رأى أنها لا تجب إلا باليبس [والجذاذ] (¬5) قال بجواز التخفيف ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: المال. (¬5) سقط من أ.

والترك لهم بقدر ما يرتفقون للأكل والعرية؛ لأن الزكاة لم تجب عليهم بعد ولا ثبت عندهم للمساكين حق في الحال، وإنما قدم الخرص توسعة على أهل الثمار، على ما سنوضحه في الفصل الخامس إن شاء الله. واختلف في الخارص إذا أخطأ في الخرص، أو كانوا جماعة فاختلفوا في الخرص؛ مثل أن يخرص أحدهم مائة وسق وخرص غيره أقل أو أكثر. وأما الخارص إذا خرص ثم تبين أنه أخطأ في الزيادة أو النقصان؛ مثل أن يخرص أربعة أوسق فوجد فيها ربها أكثر هل يزكى على ما خرص عليه، أو على ما وجد؟ فقد قال مالك في "المدونة" (¬1): "إذا خرص عليه الخارص أربعة أوسق ثم رفع منها خمسة أوسق فقال: أحب إليَّ أن يخرج الزكاة لقلة إصابة الخراصين اليوم". وقال في "كتاب محمد" (¬2): إذا كان الخارص من أهل البصيرة والأمانة فليس عليه إلا ما خرص، وقال أيضًا: إن خرصه عالم فوجد أقل أو أكثر فلا شيء عليه في الزيادة، وإن خرصه غير عالم فليترك الزيادة، وهي رواية علي وابن نافع عنه في "المبسوط" ونحوه في "المجموعة". وقال ابن نافع في رواية: يؤدي زكاة الزيادة؛ خرصه عالم أو جاهل. وقال أشهب في "كتاب سحنون" (¬3): إن خرص عليه أربعة أوسق فأصاب خمسة، فإن كان في زمان العدل عمل على ما خرص عليه. زاد أو نقص -فإن كان في زمان الجور فليخرج [على] (¬4) ما وجد- زاد أو ¬

_ (¬1) المدونة (2/ 342). (¬2) النوادر (2/ 266 - 267). (¬3) النوادر (2/ 266 - 267). (¬4) سقط من أ.

نقص. وهذا غاية ما نقل [في] المسألة من الأقوال. وقد اختلف المتأولون في تأويل ما وقع لمالك في المدونة في قوله: "أحب أن يزكى لقلة إصابة الخراص اليوم"؛ فمنهم من حمل لفظة الاستحباب هاهنا على الوجوب و [أنه] (¬1) ليس على بابه، وليس ذلك ببدع في الاستعمال. وقد وقع لفظ الاستحباب بمعنى الوجوب في المدونة في مواضع معدودة، وعدوا منها هذا الموضع. ومنهم من حمل الكلام على ظاهره، وقال: إن لفظ الاستحباب هنا على بابه، وجعل أن ذلك ظاهر المدونة بقوله: (أحب إليَّ) وبتعليله بقلة إصابة الخراص اليوم، فلو كان على الوجوب لم يلتفت إلى الخراص -أصابوا أو أخطأوا- وهذا تأويل القاضي [عياض] (¬2). فعلى [القول] (¬3) بالتأويل الأول يتحصل في جملة المسألة أربعة أقوال إلا أن ذلك يرجع إلى ما فسره مالك في كتاب محمد. وعلى تأويل القاضي يتحصل منه خمسة أقوال (¬4): أحدها: أنه يعمل على ما وجد وعليه يزكى خرصه عالم أو جاهل، وهو رأى ابن نافع. والثاني: التفصيل بين أن [يزكيه] (¬5) عالم أو جاهل؛ فإن [زكاه] (¬6) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: أبو الفضل رحمه الله. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظرها في "النوادر" (2/ 266 - 267). (¬5) في ب: يخرصه. (¬6) في ب: خرصه.

عالم فلا شيء عليه في الزيادة ويعمل على ما خرص، وإن خرصه جاهل: عمل على ما وجد، وهي رواية ابن نافع [عن مالك وهو قول مالك في كتاب محمد] (¬1). والثالث: التفصيل بين من له الخبرة والأمانة [وغيره. فإن خرصه من له الخبرة والأمانة عمل على ما خرصه وإن خرصه غيره] (¬2) عمل على ما وجد، وهو قول مالك في كتاب محمد. والرابع: التفصيل بين زمان العدل وزمان الجور، وهو قول أشهب في كتاب ابن سحنون. والخامس: أن ذلك على معنى الاستحباب، وهو ظاهر "المدونة" على أحد التأويلين. هذا إذا حملنا الأقاويل على ظاهرها، وإن نظرت إلى التحقيق وسلكت طريق التطبيق تجد الأقوال كلها ترجع إلى ثلاثة أقوال: القول بالاستحباب [والقول بأنه يزكى على ما وجد عنده] (¬3)، وهو ظاهر المدونة. والتفصيل بين زمان العدل وزمان الجور. والتفصيل بين العالم العدل وبين الجاهل. والقول بأنه يزكى على ما وجد جملة، والأقوال كلها ترجع إلى هذه الأقوال [الثلاثة] (¬4). والقول الرابع بالاستحباب على القول بأن الاستحباب قول يرجع إلى أربعة أقوال. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

وسبب الخلاف: حكم الحاكم هل يعذر به المحكوم له أم لا؟ فمن رأى [أنه] يعذر به قال: لا زكاة عليه في الزائد. ومن قال: لا يعذر به قال: يعمل على ما وجد عليه رب الثمر، وهذا هو الأصح في النظر، والبناء على هذا الأصل يجر إلى المذهب العراقي الذي يقول: إن حكم الحاكم يحلل المحكوم به للمحكوم له، وهو خلاف النص المشهور. والثابت من طريق الجمهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أنا بشر مثلكم" الحديث. وأحد أقاويل المذهب في هذه المسألة عين مذهب الحنفي في أن حكم الحاكم يحلل الحرام، وإلا كيف تسقط الزكاة عمن رفع من تمر حائطه نصابًا لخمسة أوسق، وحق المساكين مستحق عليه وثابت عنده؟ ويعد خطأ الحاكم مما يسقط الحق الواجب عليهم ومتى عهد في الشريعة مثل هذا؟ والخارص إنما جعل حقًا لأرباب الأموال لئلا يحال بينهم وبين الانتفاع بأموالهم، وليس بأن يوجب أمرًا [غير] (¬1) ما كان قبل الخرص؛ ألا تراه لو ترك الخرص إذًا لكان ذلك مما يسقط الزكاة؟ وهذا ظاهر لمن أنصف، والحمد لله وحده. وأما إذا كانوا جماعة فاختلفوا فخرص أحدهم نصابًا، وخرص بعضهم دون النصاب: فالحكم في ذلك بما خرصه الأكثر؛ إما إسقاط الزكاة وإما إثباتها؛ لأن الصواب إلى الأكثر أقرب، والخطأ إلى الواحد أقرب. وإن تساوى العددان هل يحكم لمن أثبت أو لمن نفى؟ فالمذهب فيها ¬

_ (¬1) سقط من أ.

يتخرج على قولين. فإن خرص أحدهم مائة وسق وخرص الآخر فيه تسعين، وخرص الآخر ثمانين، قال مالك في "المجموعة" "وكتاب ابن سحنون" إنه يؤخذ من قول كل واحد منهم ثلثه، ولا [يبعث] (¬1) في ذلك إلا أهل المعرفة والأمانة. وأما ما لا يثمر ولا يتزبب من التمر والعنب فهل يخرص كما يخرص الذي يتمر أو يتزبب؟ فالمذهب فيها على قولين: أحدهما: أنه يخرص كما يخرص التمر الذي يثمر والعنب الذي يتزبب، ويقال كم ينقص على تقدير أن ينقص أو [يتصور]، وهو قوله في المدونة. والثاني: أنه يخرص على قدره من غير تقدير نقصان، فإن كان في حبه رطبًا خمسة أوسق وجب عليه فيه الزكاة، وهو قول عبد الملك [بن الماجشون] (¬2) في "المبسوط". والخلاف في هذه المسألة [ينبني] علي الخلاف في زكاة هذا النوع من الثمار، هل تؤخذ من [حبه و] (¬3) عينه أو [تؤخذ] (¬4) من جنس ما [يتمر و] (¬5) ما ييبس من التمر والزبيب؟ فمن رأى أنه يجوز له أن يؤدي الزكاة من حبه قال: يعتبر خمسة أوسق ¬

_ (¬1) في أ: يعتبر. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

في حبه رطبًا من غير تقدير. ومن رأى أنها تؤخذ من التمر اليابس، ويكف رب الحائط الإتيان بها قال: تخرص عليه على تقدير أنه يتمر أو يتزبب. والقولان قائمان من المدونة. وينبني الخلاف فيها على أصل آخر؛ وهو النادر الشاذ، هل يعطى له حكم نفسه أو يعطى له حكم غالب جنسه؟ فمن رأى أنه يعطى له حكم نفسه قال: يخرص حبًا ويخرج زكاته عنبًا. ومن رأى أنه يعطى له حكم غالب جنسه قال: يخرص عنبًا. [ثم] (¬1) يقال كم ينقص إذا يبس وتزبب؛ على تقدير إن تزبب أو يبس إن كان تمرًا. وهناك قول ثالث: أنه يخرج الزكاة من ثمنه إذا باعه وسواء باعه بنصاب من العين أو بدونه، وهو قول مالك في كتاب محمد. فيتحصل فيما لا يثمر ولا يتزبب ثلاثة أقوال: أحدها: أن الزكاة تؤخذ من حبه. والثاني: أنها تؤخذ من غالب الجنس، وهو التمر والزبيب -أكله أو باعه. والثالث: أنه إن باعه أخرج الزكاة من ثمنه [وإن أكله أخرج الزكاة من حبه] (¬2). وأما ما يتزبب ويتمر من النخيل والأعناب والزيتون الذي له زيت إذا باعه صاحبه قبل عصره وتزبيبه وإتماره فهل يخرج الزكاة من [زيت و] (¬3) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ، جـ. (¬3) سقط من أ.

تمر وزبيب، أو إنما يخرجها من الحب؟ فإنه يتخرج في المذهب قولان: [أحدهما: أنه يخرج ما وجب عليه من زيت أو تمر أو زبيب وهو نص المدونة] (¬1). والثاني: إنه [يجوز له أن] (¬2) يخرج ما وجب عليه من الزكاة من الحب، وهو قول مالك في المدونة في مسألة الجلجلان إذا كان قوم لا يعصرونه ذلك شأنهم إنما يبيعونه للذين يزيتونه للادهان [فقال:] (¬3) أرجو إن أخذ من حبه أو يكون خفيفًا. وقد اختلف المتأخرون فيما وقع في المدونة في هذه المسألة. هل ذلك اختلاف أحوال، أو ذلك اختلاف أقوال؟ فمنهم من حمل المسألة على الوفاق ويرى أن ذلك اختلاف حال ويرى أن الجلجلان إنما تجب زكاته زيتًا في البلاد التي عادتهم استعمال زيته واستخراجه وزرعه لذلك؛ وكلامه في المدونة في مسألة الجلجلان على قوم عادتهم لا يعصرونه، فلم يكن لزيته [إذًا] (¬4) اعتبار حتى لو كان في بلد لا يستعملونه [فيها] (¬5) للاقتيات ولا يعصرون منه الزيت لكان لا زكاة فيه على القول بأنها تجب فيما يقتات به ويدخر، وهو أصل العيش غالبًا. أو على أنها تجب فيما [يدخر] من الحبوب، وإلى هذا ذهب أبو الفضل - رحمه الله. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

ومنهم من ذهب إلى أن ذلك اختلاف قول، وأن الذي يلزم في الجلجلان يلزم في سائر الحبوب والثمار. وقد حكى أبو الوليد الباجي عن مالك في المسألة قولين في الجلجلان والزيتون وسائر الحبوب التي يراد منها الزيت، ويقاس على ذلك الثمار من النخيل والأعناب وسائر ما كان في معناها. وأما الزيتون والزرع فلا يخلو الأمر فيها من أحد وجهين: إما أن يكون هناك سبب [يحرك الحزم] إلى خرصها أم لا، فإن لم يكن هناك سبب [يقتضي] (¬1) الخرص [فلا خلاف في المذهب أن الخرص] (¬2) فيها غير مشروع؛ وذلك أن السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخرص إنما كان في النخيل والأعناب دون ما عداهما من سائر الحبوب التي تراد [للاختباز] والزيت إما لكونها شريعة غير معقولة المعنى. وإما لكون النخيل والأعناب مما يتأتى فيه الخرص لبروز الثمرة وظهورها، ويأتي الاحتياط بقدرها للناظر، وذلك المعنى معدوم في الزيتون والقطاني وسائر الحبوب التي يراد منها الزيت؛ لأن ثمارها مستترة بالأوراق مختفية في الأكمام، ويتعذر فيها الخرص على الخارص، وهذه العلة معدومة في الزرع، ومع ذلك الخرص فيه غير مشروع؛ وذلك أن الزرع مساوٍ للثمار في تأتي الخرص وإدراك الكمية؛ ولذلك جاز بيعه في سنبله وهو قائم قبل حصاده لتمكن الإحاطة بمقداره كالثمر. وإما لكون ثمار النخيل والأعناب إنما جرت العادة بامتداد الأيدي إليها في أول بدو صلاحها والانتفاع برطب فواكهها بيعًا وعارية وأكلًا، والزرع والزيتون بخلاف ذلك في غالب الأحوال، وهذه العلة أشبه لأنها أعم ¬

_ (¬1) في أ: يحرك. (¬2) سقط من أ.

للفروع من غيرها، والعلة إذا كانت تعم فروعها مقدمة على التي لا تعم فروعها عند الترجيح. فإن كان هناك سبب يحرك الحزم على الخرص عليهم [أصلًا] (¬1)، إما لحاجتهم [إلى] (¬2) أكلها والانتفاع بها على تلك الحالة كأكل الزرع سويقًا [وفريكًا]، وأكل [القطاني] (¬3) رطبة، والانتفاع بالزيتون أخضر. وإما لأنهم غير مأمونين ويخشى أن يكتموا منه شيئًا، ويخونوا فيه ويضروا بالمساكين، هل يخرص عليهم أو يجعل عليهم أمين؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يخرص عليهم ولا يجعل أمين؛ وذلك ماض إلى أمانتهم [فما] (¬4) أكلوا منه رطبًا أو يابسًا، أو علفوه لدوابهم، أو تصدقوا به على المارة: فإنهم يحسبون ذلك ويحتاطون فيه لحق المساكين، وهو ظاهر المدونة والموطأ. والثاني: أنه يخرص عليهم كما تخرص الثمار؛ وذلك أن الزيتون يخرص [حبه] (¬5)، فإذا بلغ خمسة أوسق أخرج زكاته من زيته من غير التفات إلى كيل الزيت -قلَّ أو كثر- وهو قول عبد الملك [ابن الماجشون] (¬6). والثالث: أنهم إن اتهموا جعل عليهم أمين فإن احتاجوا إلى أخذ شيء ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: الثاني. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

أخذوه وأحصى عليهم وهو قول ابن عبد الحكم. وقول عبد الملك أقيس وأجرى على أصول المذهب. والجواب عن [الفصل] (¬1) الخامس: في معرفة الوقت الذي تجب فيه الزكاة في الثمار والحبوب. قال الله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬2). والحصاد المراد: عبارة عن حصول الزرع والثمر إلى حد يمكن ادخاره ورفعه إلى المخازن، وذلك بعد فراغ مؤونته وتطييبه وتخليصه حتى يصير حبًا وتمرًا وزبيبًا وذلك [وقت] (¬3) الأداء بلا خلاف. واختلف المذهب في وقت الوجوب على ثلاثة أقوال (¬4): أحدها: [أن الزكاة] (¬5) تجب [بالطيب] (¬6) فإذا أزهى النخل وطاب الكرم وحل بيعه وأفرك الزرع واستغنى عن الماء واسود الزيتون أو قارب الاسوداد: وجبت الزكاة فيه، وهو قول مالك - رضي الله عنه - في "المدونة". والثاني: أنها تجب بالخرص لا بالطيب، وأن الخارص في الثمار كالساعي في الغنم، وهو قول المغيرة [المخزومي] (¬7). والثالث: أن الزكاة إنما تجب باليبس والجذاذ، وهو قول محمد بن ¬

_ (¬1) في أ: الوجه. (¬2) سورة الأنعام الآية (141). (¬3) سقط من أ. (¬4) المدونة (2/ 341). (¬5) في أ: أنها. (¬6) في ب: بالطياب. (¬7) سقط من أ.

مسلمة (¬1). وفائدة الخلاف وثمرته: إذا مات المالك فعلى قول من يرى أنها تجب بالطيب؛ فإذا مات بعد طيب الثمار فإنها تزكى على ملكه؛ لأنه مات بعد وجوب الزكاة. وعلى القول بأنها تجب بالخرص؛ فإذا مات الميت بعد الخرص زكيت على ملكه، وإذا مات قبل الخرص زكيت على ملك الورثة فتجب الزكاة على من حصل في سهمه نصاب دون من لم يحصل له. وعلى القول بأنها تجب باليبس والجذاذ؛ فإذا مات قبل الجذاذ واليبس: فإنها تزكى على ملك الورثة. وإنما قدم الخرص توسعة على أهل الثمار، ولو قدم رجل زكاته [بعد] (¬2) الخرص وقبل الجذاذ لم تجزئه؛ لأنه أخرجها قبل وجوبها كزكاة الفطر، وهو قول محمد في "المبسوط". والأقوال كلها قائمة من "المدونة" من كتاب "الزكاة" [الثاني] (¬3) في مسألة زكاة الحوائط المحبسة على ما سنبينه فيها إن شاء الله تعالى ومن "كتاب الحبس" أيضًا. فإن اجتيحت الثمرة فلا يخلو حالها من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تجتاح قبل الخرص. والثاني: بعد الخرص وقبل الجذاذ. والثالث: أن تجتاح بعد الجذاذ والتذرية. ¬

_ (¬1) النوادر (2/ 270 - 271). (¬2) في أ: قبل. (¬3) سقط من أ.

فإن أصابتها قبل الخرص وبعد الطيب: فعلى القول بأن الزكاة لا تجب إلا بالخرص، ولا اعتبار به؛ لأن الخرص لم [يتناوله]. وعلى القول بوجوبها بالطيب: فالكلام فيه كالكلام في الوجه الثاني إذا اجتيحت بعد الخرص وقبل الجذاذ. فإن بقى ما دون النصاب: فإنه يبطل حكم الخرص وتسقط الزكاة؛ لأنها إنما تجب بالطيب وبالخرص بشرط سلامة الثمرة ووصولها إلى أربابها. فإذا أُصيبت ونقصت عن النصاب: سقطت الزكاة فكان بمنزلة أن يخرج الحائط ذلك المقدار. فإن اجتيحت الثمرة أو الزرع بعد الجذاذ أو التذرية فالكلام فيه يأتي بعد هذا في مسألة مفردة إن شاء الله تعالى، وهو حسبي ونعم الوكيل. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة في جـ.

المسألة الثانية عشر في زكاة الأموال المحبسة في سبيل الله

المسألة الثانية عشر في زكاة الأموال المحبسة في سبيل الله (¬1) والأموال المحبسة الموقوفة: فلا تخلو من وجهين: أحدهما: ما تجب الزكاة في غلته. والثاني: ما تجب الزكاة في عينه. فأما ما تجب الزكاة في عينه كالعين والماشية فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يوقفه لينتفع به. والثاني: أن يوقفه ليفرق عينه. فإن أوقفه لينتفع به: فلا يخلو من أن يوقف ذلك على [معنيين] [أو مجهولين فإن أوقفه على معنيين] (¬2)؛ فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون وقفه وإذنه وقفًا يرجع إلى الضمان [أو لا يرجع إلى الضمان] (¬3)؟ فإن كان وقفه وإذنه وقفًا يرجع إلى الضمان؛ مثل أن يوقف مائة دينار ليسلفها من أرادها ويردها إذا قضى وطره بها: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب في وجوب الزكاة فيها في زمان وقفها، وتزكى على ملك [موقفها] (¬4) إلا متأولًا. فإذا تسلفها أحد وصارت في ذمته: فإنها لا تزكى على ملك صاحبها. وهل تزكى عليه إذا نضّتْ عنده ولم يعول على ردها بعد أم لا؟ ¬

_ (¬1) "المدونة" (2/ 343). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في جـ: واقفها.

فقد روى ابن القاسم عن مالك في "المجموعة" (¬1) فيمن حبست عليه مائة دينار يعمل بها: أنه لا زكاة عليه فيها إلا أن يكون عنده عرض يفي بها، وقاله أشهب أيضًا. وكذلك يجب في مسألة السلف أيضًا أن يزكيها إذا كان عنده عرض يفي بها [لوجوب] (¬2) الضمان في السؤالين. ولا فرق في ذلك كله بين أن يكون الموقوف للسلف على [معينيين] أو على مجهولين: فإن ربح فيها نصابًا من العين ثم ردها، فإن ردها قبل الحول: استقبل بالنصاب الذي هو الربح حولًا. وإن ردها بعد الحول: زكى الربح لوقته ولا ينتطر به حولًا آخر، وهو قول مالك في "المجموعة". فإن كان وقفه لا يرجع إلى الضمان؛ مثل أن يعطيه مائة دينار ليعمل بها لنفسه سنة ويأكل ربحها على أن لا ضمان عليه فيها، فهل يسقط ذلك الشرط عنه الضمان أم لا؟ فالمذهب على قولين. أحدهما: أنه لا ضمان عليه فيها إن تلفت، ولا زكاة عليه فيها إن بقيت، وإن كان عنده من العروض ما يفي بها بعد الحول، وهي رواية ابن القاسم في "العتبية"، وهو قول ابن حبيب أيضًا. والثاني: أن عليه فيها الضمان كالسلف أو كالمال المحبس، وهو قول سحنون في الكتاب المذكور. وهل يزكى على ما ربح فيها من المال إن كان نصابًا وحال عليه الحول عنده أم لا. فمن رأى أنه كالسلف قال: يزكى الربح لحول الأصل ويزكى الأصل ¬

_ (¬1) انظر: "النوادر" (2/ 299 - 300). (¬2) في ب: لوجود.

وإن كان عنده عرض يفي به. ومن رأى أن الشرط ينفعه وأنه لا يضمن الأصل: فلا يزكى الأصل وإن كان عنده عرض يفي به، ويستقبل بالربح حولًا من يوم ملكه، وإذا رد الأصل لمالكه: زكى لعام واحد. وأما الماشية: فإنها تزكى على كل وجه إذا كانت نصابًا، وزكاتها على ملك مالكها إذا وقفت لينتفع بغلتها، مثل صوفها ولبنها سواء وقفت على [معينيين] أو على مجهولين. ولم يقع للمعينيين إلا شاة واحدة لأنها موقوفة على ملك محبسها، وهو قول ابن القاسم في "المجموعة". وأما إن سَبَّلَ أولادها لتفرق مع غلتها: فهذا يفصل فيه بين المعينيين والمجهولين: فإن كانت لمعينيين ويقع لكل واحد من أولادها ما فيه الزكاة: زكاها إن كان للأولاد حول من يوم ولدوا وإن لم يقبض. وإن كانت لغير معينيين؛ مثل أن حبس على المساكين أو في السبيل فتأخرت قسمة الأولاد حولًا من يوم الولادة وهي جملة الولادة ما فيه الزكاة. زكيت على ملك المحبسين، وهو قول ابن القاسم في الكتاب المذكور. وأما ما وقفت ليفرق عينه: فلا يخلو من أن يكون عينًا أو ماشية. فإن كان عينًا؛ مثل أن يوقف مائة دينار لتفرق فحال الحول عليها قبل أن تفرق: فلا زكاة فيها - كانت على [معينيين] أو على مجهولين -أو في السبيل- كانت في وصية أو في غير وصية، وهو قول ابن القاسم في "كتاب ابن المواز".

وأما الماشية يوقفها لتفرق وكانت نصابًا، فإن كان الوقف على مجهولين أو في السبيل فهي كالعين باتفاق المذهب: فإن كان الوقف لتفرق على (معينيين) فهل هي كالعين أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهم كالمجهولين ولا زكاة فيها، وهو قول ابن القاسم لأنها تفرق كلها كالعين. والثاني: أنهم كالخلطاء، والزكاة على من بلغ حظه منهم ما فيه الزكاة منها، وهو قول أشهب في كتاب محمد على ما نقله ابن أبي زيد في "النوادر" (¬1). وأما الوجه الثاني: وهو ما تجب الزكاة في غلته دون عينه كالحوائط المحبسة: فلا تخلو من أن يكون محبسة على غير [معينيين]، أو على معينيين. فإن كانت محبسة موقوفة على غير معينيين: فلا خلاف أن ثمرتها تزكى على ملك المحبس، وأن الزكاة تجب في ثمرتها إذا بلغت جملتها ما [تجب] (¬2) فيه الزكاة. وإن كان الحبس والوقف على معينيين؛ مثل أن يحبس ثمر حائطه أو جنانه على قوم بأعيانهم: فلا يخلو من أن يكونوا هم المتولون للسقى والعلاج، أو كان ربها هو الذي يتولى العمل. فإن كان المحبس عليهم هم [الذين] (¬3) يسقون ويعملون لأنفسهم فهل ¬

_ (¬1) انظر: "النوادر" (2/ 187 - 189). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

هم كالشركاء [وينظر إلى ما ينوب كل واحد منهم أم لا؟. فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنهم كالشركاء] (¬1) ويعتبر النصاب في [حظ] (¬2) كل واحد منهم فمن حصل عنده نصاب؛ إما من ثمر الحبس بانفرداها، وإما بإضافتها إلى ثمر جنان له [أُخر] (¬3): فإنه يزكي دون من لم يحصل له نصاب على ما وصفناه، وهو قول أشهب في "كتاب الحبس" من "المدونة" (¬4). والثاني: أنه يعتبر خمسة أوسق في جميع [الحوائط] (¬5)، فإن كان فيها خمسة أوسق أخذت منه الزكاة من غير اعتبار بما يصح لكل واحد من المحبس عليهم، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الحبس" من "المدونة"، وهو ظاهر قول مالك "في كتاب الزكاة الثاني" من "المدونة" (¬6)؛ حيث قال: (وتؤخذ الزكاة من الحوائط المحبسة في سبيل الله أو على قوم بأعيانهم أو بغير أعيانهم). فظاهر هذا الكلام يقتضي اعتبار خمسة أوسق على الجملة. وينبني الخلاف على الخلاف في المحبس عليهم هل [يملكون] (¬7) الثمرة بالإبار، أو لا يملكونها إلا بالطياب؟ فمن رأى أنهم يملكونها بالإبار قال باعتبار النصاب في حظ كل واحد منهم على الصفة المتقدمة، ومن مات منهم بعد الإبار فحصته موروثة عنه، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) "المدونة" (15/ 98). (¬5) في ب: ثمرة الحائط. (¬6) "المدونة" (2/ 341 - 342) وفيها: تؤدي الزكاة. (¬7) في أ: تُملك.

وهو نص قول أشهب في "كتاب الحبس". ومن رأى أنهم لا يملكونها إلا بالطياب قال باعتبار خمسة أوسق في جميع ثمر الحائط فتزكى على ملك [المحبس] الذي هو رب الحائط. فإن كانت ثمرة المحبس دون النصاب: أضافها إلى ما يتم بها النصاب إن كان عنده. فإن كان رب الحائط هو الذي يتولى السقى والعلاج دونهم وإنما يقسم عليهم الثمرة: فإن الثمرة تزكى على ملك المحبس قولًا واحدًا من غير اعتبار بما يحصل لكل واحد من المحبس عليهم [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة في جـ.

المسألة الثالثة عشر في الزكاة إذا ضاعت بعد إخراجها وقبل وصولها إلى مستحقها

المسألة الثالثة عشر في الزكاة إذا ضاعت بعد إخراجها وقبل وصولها إلى مستحقها (¬1) وقد وقع في هذه المسألة إشكال واضطراب في الكتاب وتباينت أجوبة مالك -رحمه الله- فيها لأنه قال مرة: إذا أدخله منزله ضمن. ومرة قال: إذا أخرج زكاته قبل أن يأتيه المصدق فضاعت ضمن. وقال مرة: إذا لم يفرط في الحبوب لم يضمن. واختلف المتأولون والشارحون في مذهب مالك -رحمه الله- في هذه المسألة، وصحيح قوله فيها، وتأويل ما وقع فيها لابن القاسم والمخزومي، ونحن بحمد الله نحصله أي تحصيل وننزلها على أحسن التأويل، ونفصلها أتم تفصيل. ونقول من حيث التفصيل: لا يخلو ضياعها من أن يكون قبل إبرازها من المال، أو بعد إبرازها. فإن ضاع جميع المال قبل إبراز الزكاة منه: فلا ضمان عليه قولًا واحدًا. وإن ضاعت الزكاة بعد الإبراز: فلا يخلو من أن يكون ضياعها في والإندار، أو في الجرين، أو يكون ضياعها بعد أن أدخلها بيته. فإن كان ضياعها في الإندار، أو الجرين، مثل أن يجمع الزرع أو الثمر في الإندار أو الجرين فإن أخرج الزكاة منه وعزلها في الجرين، فإن ضاعت بتفريط وتضييع: ضمن قولًا واحدًا. وإن ضاعت بغير تفريط قبل مجىء الساعي [فلا ضمان عليه] (¬2) لأن ¬

_ (¬1) "النوادر" (2/ 191). (¬2) سقط من أ.

وضعها [في الجرين] (¬1) وجمعها فيه يعود بمنفعة الثمر في تيبسه وكماله وهو مما [لم يلزم] (¬2) رب الحائط فعله، ولا يلزمه فيه ضمان، وقسمة الثمر وإخراج زكاته منها مما له فعله لأنه يريد أن [يحيز] (¬3) حصته ويشرع في الانتفاع بها والاقتيات منها، فلا يجوز أن يمنع منها بتأخير الساعي، فكانت القسمة له مباحة، بخلاف الماشية؛ لأنه لو أبرز زكاة ماشيته قبل أن يأتي الساعي فهلكت: لأخذ الساعي منه الزكاة. والفرق بين المسألتين ظاهر؛ وهو أن الخرص في الثمرة قد قدر عليه ما يجب عليه من الزكاة، وأطلق يده على التصرف فيها بالانتفاع، والماشية بخلاف ذلك. وهذا كله إذا كان ساعي بنفسه. وأما إذا كان ممن يأتيه الساعي فقولان: أحدهما: أنه كالوجه الأول [لا ضمان عليه؛ لكونه مأذونًا له في التصرف -كما قدمنا- وهو ظاهر قول ابن القاسم] (¬4). والثاني: أن الزكاة [تؤخذ] (¬5) مما بقى إن كان نصابًا، وهو قول أشهب، وكأنه يرى مقاسمته على الساعي لا تجوز. فإن كان ضياعها بعد أن أدخلها بيته: فلا تخلو الحالة التي أدخلها عليها بيته من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يدخلها في معنى الحوز والصون. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: يلزم. (¬3) في ب: يخرج. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ.

والثاني: أن يدخلها بيته ليأكلها ويفوتها. والثالث: أن يجهل [الوجه الذي أدخلها عليه، ففي هذا الوجه ينحصر الكلام في المسألة] (¬1). فالجواب عن الوجه الأول: إذا أدخلها على معنى الصون والحوز والخوف عليها في أنادره: فلا يخلو من أن يكون ممن يأتيه الساعي، أو هو ساعي نفسه فإن كان ممن يأتيه الساعي ولا يتكلف عنه، فضاعت بغير سببه: فلا ضمان عليه لا في الذمة ولا فيما بقى عنده من الملك وإن كان نصابًا، وقد قال أبو إسحاق التونسي: وهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه إن شاء الله تعالى. فإن كان ساعي نفسه فضاعت الزكاة [فإن ضاعت بتفريط] (¬2)؛ مثل أن يمكنه الصرف إلى مستحقها فلم يفعل حتى ضاعت: فإنه ضامن لحق المساكين في الذمة -ضاع المال أو بقى. فإن ضاع بغير تفريط: فلا ضمان عليه؛ كما لو ضاع في الأندر. والجواب من [الوجه] الثاني: إذا أدخلها على معنى [الانتفاع] (¬3) فلا خلاف في المذهب أنه يضمنها؛ لأنه على ذلك دخل. والجواب عن [الوجه] الثالث: إذا جهل الوجه الذي أدخلها عليه؛ هل أدخلها للحوز أو للضمان ففي هذا الوجه اختلف المتأخرون في التأويل؛ فمنهم من قال [إن جميع ما في المسألة من الأجوبة المضطربة تسعى إلى معنى حسن أن الرواية المطلقة بالضمان ترد] (¬4) إلى المفسدة بإدخاله ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الضمان. (¬4) سقط من أ.

[في] (¬1) بيته، وأن ابن القاسم بزيادة الإشهاد غير مخالف؛ إذ يحتمل أن يشهد ليسقط الضمان عن نفسه، ثم يأكلها. ومقتضى قول ابن القاسم بالإشهاد سواء كان بالأندر أو بعد أن أدخلها بيته. وأما مالك فساوى الإشهاد وعدمه. والمخزومي يبرئه وإن لم يشهد، وهذا تأويل بعض المتأخرين، وإليه نحا أبو عمران الفاسي. ومنهم من حمل على ظاهرها وخرّجَها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مهما أدخل ذلك بيته لم يضمن. والثاني: أنه مهما لم يفرط: لم يضمن -أدخل ذلك منزله أم لا. والقولان لمالك. والثالث: التفصيل بين أن يشهد، أو لا يشهد فإن أخرجه وأشهد عليه فتأخر عنه المصدق حتى ضاع: لم يضمن. فإن أخرجه بغير إشهاد: ضمن. وهو قول المخزومي، وهو موافق لأحد قولي مالك. وقول ابن القاسم مخالف لهما جميعًا. وسواء ضاع [عنده] (¬2) ذلك كله، أو ضاع العشر، وحده، وهذا تأويل بعض مشايخ الأندلسيين، وإلى هذا التأويل مال القاضي ابن رشد [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من جـ.

المسألة الرابعة عشر فيمن باع زرعه بعد أن أفرك ويبس

المسألة الرابعة عشر فيمن باع زرعه بعد أن أَفْرَكَ (¬1) ويبس (¬2): ولا يخلو البائع من أن يشترط [زكاته على المشتري] (¬3) أو لا يشترطها. فإن اشترطها فلا يخلو بيعه من أن يكون بعد الخرص أو قبله [وقد] (¬4) علم أن فيه [ما تجب فيه] (¬5) الزكاة بأمر لا شك فيه، أو شك، هل تجب فيه الزكاة أم لا؟ فإن باعه قبل الخرص أو بعده وعلم أن فيه [ما تجب فيه] (¬6) الزكاة: فالبيع جائز، ويخرج المشتري الزكاة للمساكين. فإن اجتيحت الثمرة قبل الجذاذ أو بعد الجذاذ ولم يتراخ عن الإخراج: لم يضمن المشتري زكاته. وإن أصيب البعض وبقى ما لا زكاة فيه: فلا يخلو البائع من أن يشترط ذلك الجزء لنفسه، أو للمساكين. فإن اشترط ذلك لنفسه: كان للبائع جزء الزكاة؛ لأنه رجل باع زرعه واستثنى منه ذلك الجزء [لنفسه] (¬7) فإن اشترط ذلك للمساكين: فلا شيء عليه. فإن شك هل فيه نصاب [أم لا] (¬8)؟ ¬

_ (¬1) أفرك السنبل أي: صار فريكًا وهو حين يصلح أن يفرك فيؤكل. "مختصار الصحاح" (ص/ 210). (¬2) المدونة (2/ 348). (¬3) في جـ: تقديم وتأخير. (¬4) سقط من جـ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

فإن اشترط ذلك الجزء بكل حال إن كان نصابًا فللمساكين، وإن كان دون النصاب فلنفسه. وإن اشترطه للزكاة خاصة: لم يجز البيع، لأن ذلك مخاطرة ولا يدرى هل يبلغ النصاب فيصح [الشرط] (¬1)، أو لا يبلغ النصاب فيسقط الشرط. فإن باعه ولم يشترط زكاته على المشتري: فالبيع جائز وتؤخذ الزكاة من مال البائع. فإن اجتيحت الثمرة بعد البيع: لم تسقط الزكاة عن البائع إذا كانت الجائحة بعد اليبس، إذ لا جائحة فيها ساعتئذ؛ لأن البائع لما باع على تلك الحال رضي أن تكون الزكاة مضمونة عليه بدفعها من ذمته. فإن أعسر البائع قبل دفع الزكاة، هل يرجع بها على المشتري أم لا؟ [على قولين منصوصين] (¬2) في "المدونة". أحدهما: أنه يرجع [بها] (¬3) على المشتري فيؤخذ منه مقدار الزكاة، ثم يرجع هو [بقدر ذلك] (¬4) على البائع متى أيسر. وهو قول ابن القاسم. و [القول] (¬5) الثاني: لا يؤخذ من المشتري شيء، وهو قول أشهب. قال [الشيخ] (¬6) أبو إسحاق التونسي: هذا القول حسن؛ وذلك أن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: قولان. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: بذلك. (¬5) سقط من أ. (¬6) زيادة من جـ.

لمن عليه زكاة الزرع أن يخرجها من زرع غير الزرع الذي رفع إذا شاء، وإذا باع فقد رضي أن يخرج من غيره وهو موسر بثمن ما باع فليس عسره، بعد ذلك بالذي ينقض ما كان جائزًا له فعله، كمن أعتق وعنده مال ثم أعسر بعد ذلك بدين كان عليه بعد أن كان عنده [وما] بالقيمة وقت عتقه والذي قاله ظاهر جار على أصول المذهب. وينبني الخلاف على الخلاف في المسبب والمباشر أيهما أولى بالمؤاخذة؟ لأن البائع قد تسبب ببيعه في إتلاف حق المساكين، والمشتري قد باشر تلفه بالاستهلاك والتلف، والله أعلم [وهو الموفق للصواب والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

المسألة الخامسة عشر فيما يلزم [الرجل] أن يؤدي عنه زكاة الفطر

المسألة الخامسة عشر فيما يلزم [الرجل] (¬1) أن يؤدي عنه زكاة الفطر: وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أدوا الزكاة عمن تُمَوِّنُون" (¬2). إلا أن الحديث ليس [بتلك الصحة] (¬3) والعمل بمقتضاه [مذهب الفقهاء] (¬4) ويؤديها الرجل عمن تلزمه نفقته من المسلمين، إلا أن لزوم النفقة على وجهين: منها ما يلزم بالشرع؛ ومنها ما يلزم [بالملك] (¬5). فأما النفقة الواجبة بالشرع كالنفقة على الزوجات، والنفقة على الآباء والأبناء. فأما نفقة الزوجات: فإنها تجب بالدخول أو بالادعاء [والتمكين] (¬6)، أو بالتمكن بانفراده على ظاهر ما [وقع] (¬7) في كتاب النكاح الثاني. فإذا وجبت لها النفقة هل يجب على الزوج [إخراج] (¬8) زكاة الفطر عنها أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه الدارقطني (2/ 141) والبيهقي في "الكبرى" (7474) من حديث ابن عمر مرفوعًا. قال البيهقي: إسناده ليس بالقوي. وكذا قال الدارقطني. وقال الحافظ ابن حجر: إسناده ضعيف. "الفتح" (3/ 369) و"التلخيص" (869). وحسنه العلامة الألباني -رحمه الله- بمجموع طرقه كما في "إرواء الغليل" (835). (¬3) سقط من أوفي جـ: بذلك. (¬4) سقط من أ. (¬5) بياض بالأصل. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه [يؤدي] (¬1) عنها زكاة الفطر، وهو قول مالك وابن القاسم [في المدونة] (¬2). والثاني: أن زكاة الفطر عنها وعن [عبيدها] (¬3) في مالها، لا [في] (¬4) مال الزوج، وهو قول ابن شرس من أصحاب مالك. وسبب الخلاف: النفقة على الزوجات هل هي من باب المعاوضات، أو من باب المواساة؟ فمن رأى أنها من باب المعاوضات قال: لا زكاة على الزوج عنها. ومن رأى أنها من باب المواساة أو أنها وظيفة غير معقولة المعنى قال: إن الزوج يزكى عنها [فعلى القول بأن الزوج يزكى عنها] (¬5). وهل يزكى عن خادمها أو عن خدم إن كان لها أم لا؟ فلا يخلو حال الزوجة من أن تكون ممن تخدم نفسها، أو ممن لا تخدم نفسها. فإن كانت ممن تخدم نفسها: فليس على الزوج إخدامها. وإن كان لها خادم فنفقتها وفطرتها عليها. فإن كانت ممن لا تخدم نفسها فقيل: إن الزوج مخير بين ثلاثة أشياء: إما أن يكرى لها من يخدمها، أو يشتري لها من يخدمها، أو ينفق على خادمها. ¬

_ (¬1) في جـ: يخرج. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: عبيد القراض. (¬4) في أ: من. (¬5) سقط من أ.

وقيل: [إنه] (¬1) مخير بين أربعة أشياء: ثلاثة تقدمت، والرابع: أن يخدمها بنفسه. فإن اختار النفقة على خادمها: كان عليه أن يؤدي عنها زكاة الفطر؛ لأنها تابعة للنفقة بالشرع. فإن كانت ممن تحتاج إلى خادمين فأكثر: فعلى الزوج [نفقتهن] (¬2)، وإخراج زكاة الفطر عنهن، وبه قال أصبغ عن ابن القاسم في "العتبية" (¬3). فأما نفقة الآباء: فإنها نفقة بر وطاعة، فلا خلاف أنها تجب على الولد إذا كانا معسرين بشرط الابتغاء، على ما بيناه في كتاب الزكاة الأول، وإن كان الأبوان قويين على العمل. ويزكى عنهما زكاة الفطر ما داما زوجين، فإن كان الأب زوج غير الأم فهل ينفق عليه وعلى زوجه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه ينفق عليهما ويزكى عنهما جميعًا، وهو مذهب "المدونة"، وبه قال جمهور أهل المذهب. والمذهب: أنه لا يلزمه أن ينفق على زوجة أبيه إلا أن تكون له أم، وهو قول المغيرة على ما نقله. [الشيخ أبو محمد] (¬4) بن أبي زيد في "النوادر" (¬5). وينبني الخلاف على الخلاف في الأب هل له أن [يتزوج] (¬6) من مال ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: النفقة عليهن. (¬3) البيان والتحصيل (2/ 509 - 510) والنوادر (2/ 306). (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر "النوادر" (2/ 305 - 307). (¬6) في ب: ينفق.

ولده أم لا؟ فمن رأى أنه يتزوج [من مال ولده] (¬1) قال: إنه ينفق على زوجته قال: لأنها إن طلقت عليه لعدم النفقة كان له أن يتزوج الأخرى من [مال ولده] (¬2). ومن رأى أنه ليس له أن يتزوج من مال ولده، وهو نص مالك في "المختصر" (¬3)، قال: (لا يلزمه أن ينفق على زوجة أبيه). فإن كان للأب زوجات: فالمنصوص في [المدونة وغيرها] (¬4) أنه لا ينفق إلا على واحدة منهن وعلى خادم واحد من خدمها إن احتاجت إليها. والخلاف في الإنفاق على الزائد يتخرج على الخلاف الذي قدمناه في تزويج الأب من مال ولده إذا احتاج إلى النكاح. وأما النفقة على الأبناء وزكاة الفطر [عنهم] (¬5) من مال أبيهم: فلا يخلو من أن يكونوا صغارًا، أو كبارًا. فإن كانوا صغارًا: فلا يخلو من أن يكون [الولد] (¬6) موسرًا أو معسرًا. فإن كان موسرًا: فنفقته وزكاة فطره [عليه] (¬7) في ماله. وإن كان معسرًا: فالنفقة في مال أبيه وكذلك فطرته. وإن كان بالغًا: فلا يخلو من أن يكون موسرًا أو معسرًا فإن كان ¬

_ (¬1) في أ: منه. (¬2) في أ: ماله. (¬3) المصدر السابق (2/ 305). (¬4) في أ: المذهب وغيره. (¬5) في جـ: عليهم. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

موسرًا: فنفقته [وزكاة فطره] (¬1) في ماله. وإن كان معسرًا: فلا يخلو من أن يكون صحيحًا أو زمنًا. فإن كان صحيحًا: فنفقته عليه وكذلك فطرته. وإن كان زمنًا: فلا يخلو من أن تكون الزمانة طرأت عليه بعد البلوغ، أو بلغ وهو زمن. فإن طرأت عليه بعد البلوغ فهل تعود النفقة على الأب أم لا؟ قولان: أحدهما: أن [زكاة] (¬2) فطرته [ونفقته] (¬3) على نفسه ولا تعود على الأب بعد الإسقاط. وهو قول مالك في "المدونة"، وهو المشهور. والثاني: أنها تعود على الأب. وهو قول عبد الملك، وهذا هو الأظهر في النظر لأنه إن كانت العلة الموجبة للإنفاق عليه إذا بلغ زمنًا كونه عاجزًا عن الاكتساب فالعلة موجودة ومن شرط العلة أن يوجد الحكم بوجودها. فإن بلغ وهو زمن: فنفقته وفطرته في مال الأب لم تزل؛ لأن الزمانة تمنع من الاكتساب كالصغير أو أشد. فأما النفقة الواجبة بالملك؛ كالنفقة على العبيد الأرقاء: فلا يخلو من أن يكون عبدًا أو أمة يملك جميعه، أو عبدًا بينه وبين غيره. فإن كان عبدًا يملك جميعه: فلا يخلو من أن يكون ¬

_ (¬1) في جـ: وزكاته. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من جـ.

ملكه فيه تام وتصرفه فيه [تام] (¬1) نافذ، أو يكون قد عقد فيه عقدًا يمنعه من ذلك. فإن كان تصرفه فيه ماض وملكه تام لا [شرك] (¬2) لأحد معه، ولا عقد فيه عقدًا من عقود الحرية، ولا يعلق به لأحد حق: فلا خلاف في المذهب أن نفقته على سيده وزكاة فطره [هذا في عبيد مسلمين. فأما عبيده النصارى فلا زكاة عليه عنهم على قول ابن القاسم لأنهم غير مخاطبين وروى ابن وهب أنه يزكى عنهم كما يزكى عن عبيد مسلمين] (¬3). فإن كان تصرفه غير نافذ وملكه فيه غير تام إما لعارض اضطراري وإما لعارض اختياري. فإن كان منعه من التصرف التام لعارض اضطراري مثل أن يجنى العبد جناية فيها نفسه فمضى يوم الفطر وهو عنده هل يزكى زكاة الفطر أم لا؟ فإنه يتخرج من الكتاب قولان: أحدهما: [أن سيده] (¬4) يزكى عنه زكاة الفطر لأن عليه نفقته بعد. ويتخرج من "المدونة" (¬5) قول ثان: أنه لا زكاة عليه فيه من قوله في الكتاب: "فيما إذا كان له عبد وعليه عبد مثله، فأتى يوم الفطر وهو عنده أنه لا زكاة على السيد عنه إذا لم يكن له مال"، فهذا نص "المدونة". وقد اختلف في [معنى] (¬6) قوله: [إذا لم يكن معه مال] (¬7)؛ ¬

_ (¬1) في جـ: ماض. (¬2) في جـ: شرط. (¬3) سقط من أ. (¬4) في جـ: أنه لسيده. (¬5) المدونة (2/ 318). (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: ولا مال.

فقيل: معناه: ولا مال يؤدي عنه الدين. وقيل معناه: لا مال له [يؤدي منه] (¬1) زكاة الفطر إلا العبد، وقد استغرقه الدَّين، فعلى التأويل أنه لا مال له يؤدي منه الدين ولكنه عنده ما يؤدى منه زكاة الفطر [يكون قوله خلافًا لما نص عليه في زكاة الفطر] (¬2). وتحرير الجمع بين المسألتين: أن العبد في كلا الموضعين مستحق لكون الدين استغرقه، إلا أنه في أحد الموضعين الحق فيه متعين في عينه، وفي الموضع الآخر [متعين] (¬3) في ذمة سيده، والعبد من جملة الذمة، فلو عكس الجواب لكان أولى؛ لأن العبد الجاني مستحق العين للقصاص فكان ينبغي أن تسقط زكاة فطره عن سيده، فلما لم يسقطها بل أوجبها كان وجوبها على الذي لم يستحق عينه أولى. وسبب الخلاف: اعتبار [الطوارئ] (¬4) واستدامة النفقة وكلاهما أصلان يجوز البناء على كل واحد منهما على الانفراد وأما اعتبار الطوارئ: لجواز أن يعفو أولياء الدم، ويجوز أن يطرأ للسيد مال يقضي منه ثمن العبد الذي عليه فيبقى عبده على ملكه، فهذا أصل معتبر [وقد بني] (¬5) عليه أكثر مسائل المذهب واستدامة النفقة مع انقطاع الملك فهل يؤثر في وجوب زكاة الفطر أم لا؟ وهذا أصل ينبني عليه كثير من مسائل هذا الباب. وأما العارض الاختياري، مثل أن يعقد السيد عقدًا غير أن ذلك لا يخلو من أن يكون حقًا للعبد، أو حقًا للأجنبي، أو كان حقًا للسيد أو حقًا ¬

_ (¬1) في أ: يزكى عنه. (¬2) سقط من أ. (¬3) في جـ: متعلق. (¬4) في جـ: الطارئ. (¬5) في أ: وقدمنا.

يشترك فيه السيد والأجنبي [أو حقًا يشترك فيه السيد والعبد] (¬1). فإن كان العقد حقًا للعبد؛ مثل أن يدبره أو يعتقه إلى أجل، أو كانت أمة فأولدها: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب في وجوب زكاة فطرهم على سيدهم لبقاء ملكه عليهم ووجوب نفقتهم عليه. فإن كان العقد حقًا للأجنبي: فلا يخلو من أن يكون ذلك بعوض أو بغير عوض. فإن كان ذلك بعوض وكان مما يستبد به الأجنبي وحده كالرهن، أو يشترك في منفعة السيد والأجنبي كالإجارة: فهذا لا خلاف أيضًا أن زكاة فطرهم على سيدهم لبقاء ملكه عليهم ووجوب نفقتهم عليه؛ لأن الرهن ثقة للحق وضمانه من الراهن. فإن اشترط السيد نفقة العبد على من استأجره أمد الإجارة، هل تكون الزكاة تابعة للنفقة أم لا؟ فهذا يتخرج على قولين، والخلاف فيها ينبني على الخلاف في العبد المستخدم، على ما سنبينه إن شاء الله. فإن كان ذلك بغير عوض كالإخدام، غير أن الإخدام على وجهين: أحدهما: أن يكون مرجع الرقبة بعد الخدمة إلى ملك. والثاني: أن يرجع إلى حرية. فإن كان مرجعها إلى رق فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الزكاة على من له مرجع الرقبة سواء كان مرجعها إلى السيد أو إلى الأجنبي من الناس، كقوله: عبدي يخدم فلانًا سنة، ثم هو لفلان، وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثاني: أن زكاة الفطر على من له الخدمة، وهو قوله أيضًا في كتاب محمد. والقولان قائمان من "المدونة" على اختلاف الروايات في "كتاب الوصايا الأول" من "المدونة"، هل النفقة على الذي أخدم -بالفتح- أو الذي أُخدم [بالضم] (¬1). والثالث: [التفصيل بين] (¬2) أن تكون المدة [يسيرة] (¬3): فتكون على السيد، أو تكون طويلة: فتكون على من له الخدمة، وهو قول عبد الملك. وهذا الخلاف ينبني على: الخلاف في النفقة على من تكون. وقد اختلف فيها المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها على السيد أو من له مرجع الرقبة. والثاني: أنها على من له الخدمة. والقولان لابن القاسم قائمان من "المدونة" (¬4)، وروى عنه قول ثالث: أن نفقة [العبد] (¬5) المخدم [على نفسه] (¬6) من مال نفسه لا على واحد منهما، فإن لم يكن له مال: فمن كسبه وخدمته، وما بقى من الخدمة بعد النفقة يكون للذي له الخدمة، وهذا القول حكاه ابن الخباز على ما نقله أبو الفضل -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: قصيرة. (¬4) انظر "المدونة" (2/ 352). (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

وسبب الخلاف: اعتبار الحال والمآل؛ فمن اعتبر الحال قال: إن النفقة على الذي له الخدمة؛ لأن المقصود من العبد إنما هي الخدمة لا عين الرقبة، فإذا استغرق صاحب الخدمة تلك المنافع في مدة محصورة كانت عليه [مؤنة] (¬1) العبد في تلك [المدة] لأنه الآن كأنه هو المالك إذ لا يدري هل [يعيش] العبد إلى تمام المدة فيرجع إلى من له [مرجع] (¬2) الرقبة، [وقد لا يعيش] (¬3). فمن اعتبر المآل فقال بأن المؤنة على من له المرجع لأن الرقبة هي الأصل والخدمة فرع عنها، فكان الحكم لصاحب الرقبة وعليه توابع الملك ومؤنته. ووجه قول عبد الملك: أن الخدمة اليسيرة الغالب منها السلامة ورجوعها إلى من له الرقبة فكانت عليه النفقة و [الفطرة] (¬4)؛ لأن النفقة إنما تجب على من له الرقبة. وإن كانت الخدمة طويلة كالأعوام الكثيرة فإنه لا يغلب على الظن سلامتها ورجوعها إليه فكانت النفقة على من يتعجل منفعتها. وأما القول بأن النفقة في ماله وكسبه: فهو توسط بين القولين، وملاحظة للجانبين ومراعاة للخلاف، [وأما إذا] (¬5) كان [مرجعه إلى حريته هل يزكى عنه المخدم وهو قوله في "الموازية". أو لا زكاة عليه ولا على العبد. قولان. وهل تجب النفقة على المخدم أو على العبد في ماله أو في كسبه إن لم يكن له مال، قولان أيضًا. وإن كان] (¬6) ذلك [العفو] (¬7) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: وقد يكون وقد لا يكون. (¬4) في ب: زكاة الفطر. (¬5) في أ: فإن. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

حقًا للعبد وسيده يشتركان في منفعته كالكتابة لأن السيد ينتفع، ولأن المال والولاء يحصل له إن أدى جميع الكتابة، والعبد ينتفع بحصول العتق له وخروجه من قيد الرق: فقد اختلف المذهب في زكاة فطره على من تكون: فقد حكى أبو الوليد الباجي عن مالك في ذلك روايتين: إحداهما: أن الزكاة على السيد [وهو مذهب المدونة. والثانية: أنه لا تلزم السيد] (¬1) ولا شيء عليه. وظاهر هذه الرواية أنها لا تكون على المكاتب وتسقط عنه لأنه عبد بعد. ويحتمل أن يتخرج على الخلاف الجاري في العبد المعتق بعضه من أجل أن كل واحد [منهما قد] (¬2) أحرز ماله عمن له فيه الرق. والأظهر في النظر أن بين المسألتين فرق؛ وذلك أن المعتق بعضه [ملك] (¬3) جزءًا من نفسه، وصار شريكًا لسيده، والمكاتب بخلاف ذلك لأنه لم يحصل له إلا العقد خاصة، وثمرة العقد لا يدري هل تحصل أو لا تحصل. وسبب الخلاف: [المكاتبة] (¬4) هل هي من ناحية العتق، أو من ناحية البيع؟ فعلى القول بأنها من ناحية البيع: فإن السيد يؤديها عن المكاتب. وعلى أنها من ناحية العتق: لا شيء عليه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: يملك. (¬4) سقط من أ.

فإن كان العقد حقًا [للسيد] (¬1)؛ مثل أن يوصى بعبده لمساكين [غير معينين] (¬2): فهذا لا خلاف فيه أن زكاة الفطر: على السيد ما دام السيد حيًا. وأما الوجه الثاني: إذا كان عبدًا بينه وبين غيره: فلا يخلو ذلك الغير من أن يكون هو العبد نفسه أو غيره. فإن كان هو العبد نفسه؛ كعبد أعتق بعضه، ولا شك أنه شريك للسيد في نفسه: فقد اختلف في كيفية أداء زكاة الفطر عنه على ثلاثة أقوال: أحدها: أن السيد يؤدي عما يملك منه ولا شيء عليه فيما أعتق ولا [على] (¬3) العبد، وهو قول مالك في "المدونة" (¬4). والثاني: أن السيد يؤدي عما يملك، والعبد يؤدي عما عتق منه، وهو قول مالك في "المبسوط"، وبه قال أشهب. والثالث: أن المتمسك بالرق يؤدي عنه جميع الفطرة. [ونقل] (¬5) الشيخ أبو الحسن اللخمي قولًا رابعًا: بالتفصيل بين أن يكون للعبد مال أو لم يكن؛ فإن كان له مال أدى السيد عما يملك، والعبد عما يملك [مما] (¬6) عتق منه. فإن لم يكن له مال: أدى السيد جميع ذلك، وعزاه إلى محمد بن مسلمة في "المبسوط"، وهذا قول بين القولين. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: مجهولين. (¬3) سقط من أ. (¬4) انظر: "المدونة" (2/ 350). (¬5) في أ: وقال. (¬6) سقط من أ.

وسبب الخلاف: اعتبار الحال والمآل؛ فمن اعتبر الحال. قال: يؤدي السيد عما يملكه خاصة ولا شيء عليه ولا على العبد فيما عتق؛ أما السيد: فلكونه لا ينفق إلا على القدر الذي يستعمل منه ولا شيء يستعمل منه إلا ما يملك، فعن ذلك القدر يزكى وعنه يخاطب بالفداء أو التسليم في الجنايات. وأما العبد: فلكونه حكم الرق [مستدام] (¬1) عليه إلى الآن في جميع أحواله. ومن اعتبر المآل قال: يؤدي السيد عن الجميع؛ لأنه لو مات كان له جميع ميراثه [بالرق] (¬2) دون الذي أعتق بعضه لأن حكم الرق أغلب. ومن قال: يؤدي العبد بمقدار ما عتق منه يستدل بالنفقة لأن مؤنته في ذلك الجزء على نفسه، وقد جعل مالك زكاة الفطر تابعة للنفقة من غير ما موضع، ولأنه يخدم نفسه ويختص بكسبه بقدر ذلك الجزء من غير اعتبار الموت والجناية لأنها من الطوارئ. فإن كان الشريك غير العبد: فلا يخلو [ذلك] (¬3) الغير من أن يكون حرًا، أو عبدًا. فإن كان [عبدًا] (¬4) كالعبد: يكون بين الحر والعبد؛ فالحر يزكى عما يملك، ولا شيء عليه فيما ملك غيره قولًا واحدًا وهو قول عبد الملك في "كتاب ابن المواز" (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: مسبولًا. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: "النوادر" (2/ 309).

فإن كان حرًا: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن كل واحد منهما يزكى عما ملك ولا يكلف غير ذلك [وهي] رواية ابن القاسم عن مالك في "كتاب ابن المواز" (¬1). والثاني: أن كل واحد من الشريكين يخرج فطرة كاملة، وهي رواية عبد الملك عن مالك في كتاب ابن سحنون. وأبو حنيفة - رضي الله عنه - يقول في العبد المشترك: لا زكاة على واحد من الأشراك. ووجه رواية ابن القاسم: أن الفطرة تابعة للنفقة؛ فلما كانت النفقة [منهما] (¬2) وجب أن تكون الفطرة كذلك وهو الصحيح. ووجه رواية عبد الملك: أن العبد محبوس في حق كل واحد منهما بدليل أنه محبوس في أحكام الرِّق للسيد إذا انفرد ملكه بحقه منه فكانت عليه فطرة كاملة كما لو ملك جميعه. وأما العبد الآبق إباق إياس، والعبد المأسور، أو عبد مغصوب غصبه من لا يدخل تحت ولاية السلطان: فلا زكاة على مالكه لأنه الآن في حكم الميت. افهم هذا التحصيل [واصرف] العناية إلى معرفة هذا التنزيل، فإني لم أسبق إليها ولا زاحمتني أقلام المصنفين عليها، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء [والله ولي التوفيق] (¬3) [ونسأله الموت على دين الإسلام والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "النوادر" (2/ 310). (¬2) في ب: بينهما. (¬3) سقط من ب. (¬4) زيادة من جـ.

المسألة السادسة عشر في الوقت الذي تجب فيه زكاة الفطر

المسألة السادسة عشر في الوقت الذي تجب فيه زكاة الفطر اعلم أيها المسترشد أنه قد اختلفت أجوبة مالك وأصحابه في هذا الباب، واضطربت أقوالهم في الكتاب وغيره من كتب المذهب بحسب اختلافهم في الأصل، ومراعاة الخلاف، وكذلك اختلف كلام الشارحين ومقاصد المتأخرين والتأويل والتنزيل ونحن نوضح من ذلك ما أشكل ونصحح منه ما اعْتل بفضل الله تعالى وعليه أتوكل. فنقول في [تحصيل] (¬1) المسألة: اختلف المذهب في الوقت الذي تجب الزكاة بحلوله على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنها تجب بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، وهي رواية أشهب عن مالك، وهو قول ابن القاسم، وهو ظاهر قول مالك في المدونة في الذي مات عبده قبل انشقاق الفجر من ليلة الفطر على الرواية الصحيحة لأنه مما [اختلفت] (¬2) فيه الروايات في "المدونة" (¬3). ووقع في رواية الدَّبَاغ: مات بعد انشقاق الفجر ويؤكد [ذلك] (¬4) أيضًا من مسألة من مات يوم الفطر أو ليلة الفطر فأوصى بزكاة الفطر أنها تخرج من رأس المال، والثاني: أنها تجب بطلوع الفجر. وهي رواية ابن القاسم، ومطرف، وعبد الملك في كتاب ابن حبيب، وهو قول أكثر أصحاب مالك وكبارهم. وتردد رأى أشهب بين الروايتين. ¬

_ (¬1) في أ: تفصيل. (¬2) في أ: اختلف. (¬3) انظر: "المدونة" (2/ 354 - 355). (¬4) في أ: له.

وعلى هاتين الروايتين تتفرع مسائل الباب؛ وذلك فيمن مات، أو وُلد، أو أسلم، أو أيسر، أو أعسر، أو تزوج، أو طلق، أو باع عبدًا، أو اشتراه، أو أعتقه [أو ورثه أو وهب له] (¬1)، أو وهبه، أو احتلم الولد أو بني الزوج بالابنة البكر (¬2). وهذا فائدة الاختلاف [وثمرته] (¬3)؛ فمن أوجبها بالغروب: ألزمها من مات بعده وقبل الفجر، أو باع عبده بعده، أو كان موسرًا ثم أعسر، أو طلق زوجته؛ لأن هذه الحوادث طرأت بعد الوجوب. ولم يوجبها على من أسلم بعد الغروب، ولا على من احتلم [أو ولد له ولد] (¬4)، ولا من ورث عبدًا [أو وهب له] (¬5) وتصدق به أو ابتاعه أو أُعتق، ولا على من أيسر بعد عسره بعد الغروب؛ لأن هذه الأحداث حدثت بعد الوجوب وعلى القول الثاني: لا يلتفت إلى الغروب، بل المراعى طلوع الفجر في ذلك كله فيلزم المشتري للعبد حينئذ قبل طلوع الفجر دون البائع، والمتزوج حينئذ دون الزوجة، والبكر المبني بها دون أبيها، والمعتق دون سيده، ومن ولد له ولد أو أسلم، والوارث دون الموروث [عنه] (¬6) والموهوب له، والمطلقة دون الزوج، وهذا في سائر الباب، ولا تلزم من مات حينئذ. وقد حكى في المذهب قول ثالث عن القاضي عبد الوهاب: أنها تجب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: "النوادر" (2/ 307 - 308). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

بطلوع الشمس، وقال أبو بكر بن الجهم: وهذا هو الصحيح من المذهب. [فانظر] (¬1) من أن يكون صحيح المذهب وأهل المذهب مطبقون على أن من مات بعد طلوع الفجر لا تسقط عنه زكاة الفطر إذ لو كان هناك خلاف لنقل، فلما لم ينقل لا عن متقدم ولا عن متأخر دل [ذلك على] (¬2) أن الصحيح غير ما صححه ابن الجهم، وإنما الذي يجب أن يقال: هل الوقت من الغروب إلى الفجر موسع الوجوب، أو الوقت من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس موسع الوجوب؟ على القول بأن أول الوجوب طلوع الفجر، فمن أدركه لزمه فرضه؛ كمن أسلم آخر النهار في حق الصلاة، أو الحائض تطهير فيه فعليهما الصلاة لما أدركا بقية الوقت، ويلزمهما [فرضها] (¬3)، فيلزم ذلك في زكاة الفطر لما كان الوجوب يتعين أول الوقت، والخطاب يتحتم لكن لما كان الوقت موسعًا: لزم من أدركه. أو يقال: إن وقت الوجوب في الفطرة غير موسع: فينقضى الوجوب بانقضائه. والقولان قائمان من "المدونة" منصوصان في المذهب، وهو ظاهر قول مالك في "المدونة" في الذي أسلم يوم الفطر: أنه يستحب له إخراج الفطرة [لأن] وقت الوجوب غير موسع ولا ممتد. وقال ابن حبيب: إنما تجب على من أسلم [قبل الفطر] (¬4)، ولفظة: "إنما" موضوعة للحصر. وقال محمد بن مسلمة: لا تجب على من وُلد بعد الفجر. ¬

_ (¬1) في أ: فافطن. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: فرضًا. (¬4) في جـ: بعد الفجر.

وعلى القول بأن وقت الوجوب موسع: اختلف المذهب في حد التوسعة؛ فعلى القول بأنها تجب بغروب الشمس [فيجعل في حد التوسعة] (¬1) أربعة أقوال (¬2): أحدها: أنه يمتد إلى طلوع الفجر. والثاني: أنه يمتد إلى طلوع الشمس، وهو القول الذي حكى عن القاضي أبي محمد عبد الوهاب. والثالث: أنه يمتد ويتوسع إلى زوال الشمس من يوم الفطر، وهو قول عبد الملك في "ثمانية"، أبي زيد على ما [نقله] (¬3) القاضي ابن رشد. والرابع: أنه يمتد إلى غروب الشمس من آخر يوم الفطر. وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي: وجميع هذه الأقوال مروية عن مالك إلا القول [بطلوع الشمس] (¬4) فإنه مروي عن بعض أصحابه، وهو القول الذي حكى عن القاضي [أبي محمد عبد الوهاب] (¬5). وعلى القول بأنها تجب بطلوع الفجر: يكون فيه ثلاثة أقوال: طلوع الشمس، والزوال، والغروب. وعلى هذا [يتخرج] (¬6) اختلاف قول مالك في "المدونة" (¬7) في العبد يباع يوم الفطر هل هي على البائع أو على المشتري، وقد اختلف المذهب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: "النوادر" (2/ 307 - 308). (¬3) في ب: حكاه. (¬4) في ب: الرابع. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: الخروج. (¬7) المدونة (2/ 352).

فيها على أربعة أقوال: أحدها: أنها على البائع، وبه قال ابن القاسم. الثاني: أنها على المشتري. والقولان لمالك في "المدونة". والثالث: أنها على البائع والمشتري معًا وجوبًا، وحكى ذلك عن أشهب. والرابع: أنها على البائع [وجوبًا] (¬1) وعلى المشتري استحبابًا، وهو قول أشهب أيصًا (¬2). وحكى القولين عن أشهب القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه - ويؤخذ من "المدونة" من استحبابه فيمن أسلم يوم الفطر. وفي المسألة قول خامس: أنها على المشتري وجوبًا، وعلى البائع استحبابًا، وحكاه القاضي أبو الفضل. وسبب الخلاف: إما لتعارض الأدلة عندهم في المسألة، وإما مراعاة الخلاف، وإما لأنه يعد في تزكية مال واحد في وقت واحد على ملكين كالماشية إذا ورثت أو اشتريت بعد أن زكيت، على ما قدمناه في باب زكاة الماشية. ولا خلاف فيمن مات أو طلق أو أعسر أو أعتق أو أخرج العبد من ملكه قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، وأنه لا فطرة عليه، وأنها على المطلقة طلاقًا بائنًا، وعلى المعتق والمشتري، ومن أسلم حينئذ، إلا ما وقع لأشهب فيمن أسلم أن زكاة الفطر لا تلزمه حتى يلزمه صوم يوم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: "النوادر" (2/ 308).

من رمضان، وحكى نحوه عن مالك، وقال ابن حبيب: ينتقض عليه بالمولود فإنه لا يلزمه الصيام، ومع ذلك تجب زكاة الفطر، وهذا لازم لأشهب لزوم القرط للأذن وكما أنه لا خلاف أيضًا إذا نزلت هذه النوازل أو حدثت تلك الحوادث بعد غروب الشمس من يوم الفطر أنها لا يوجبها طارئ طرأ من هذه الطوارئ إن لم تجب عليه، ولا يسقطها من وجبت عليه. والخلاف في ذلك كله مبني على الخلاف في معنى قوله عليه السلام: "فرض زكاة الفطر من رمضان" (¬1)، هل هو لأول ما يسمى فطرًا، أو [هو] (¬2) مغيب الشمس من آخره ويكون المراد من ذلك الشكر منا لإكمال عدة رمضان، أو تنعقد قربة الصوم بقربة الصدقة؛ فلذلك وجبت بغروب الشمس، ولا اعتبار بذلك الفطر إذ هو موجود في سائر الشهور، وإنما المراد: الفطر الشرعي المنافي للعبادة المتقدمة من الصوم؛ وهو من طلوع الفجر إلى ما بعد هذا الوقت الذي استحب فيه إخراجها عندنا، ولا يجزئ عند غيرها إلا حينئذ لا بعده، أو يتسع الوقت إلى ما لا اختلاف فيه أنه من النهار وذلك من حين طلوع الشمس فإن الفطر في أيام الصوم [حينئذ] (¬3) مجمع على تحريمه؛ إذ الخلاف فيما قبل ذلك إلى طلوع الفجر هل هو من الليل أو من أول النهار، حتى أن السلف اختلفوا في جواز الأكل للصائم فيه، وبعضهم أجاز ذلك إلى طلوع الشمس، والمراد بذلك الفطر اليوم، وهو من [الغدو] (¬4) إلى زوال الشمس، لأنه الحد الذي تؤخر إليه صلاة العيد، والمراد: سائر النهار الذي هو محل الفطر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1503) و (1504) ومسلم (984) من حديث ابن عمر. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: آخره.

إذا نظرت إلى ما فسرناه وقررناه: ارتفع عنك الإشكال [واضطراب] الأقوال، وعلمت موضع الخلاف في الوجوب والاستحباب وأسبابهما [والله هو الموفق للصواب] (¬1). وأما العبد يباع بيعًا فاسدًا فقبضه المشتري ومضى يوم الفطر وهو عنده: فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن زكاته على المشتري؛ سواء كان قائمًا أو فائتًا؛ لأن ضمانه منه، ونفقته [عليه بنفس] (¬2) القبض، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬3). والثاني: التفصيل بين القيام والفوات؛ فإن مضى عليه يوم الفطر بعد الفوات: كانت زكاة الفطر عنه على المشتري، وإن لم يفت [بشراء] (¬4) فالفطرة على البائع. وهو قول أشهب في "كتاب ابن حبيب" (¬5). [والقول الثالث] (¬6) بالتفصيل بين أن يحكم بينهما بفسخ البيع، أو لا يحكم؛ فإن حكم بفسخ البيع ورد العبد إلى بائعه بالحكم قبل فواته: كانت فطرته على البائع وإن مضى. [يوم] (¬7) الفطر وهو عند المشتري لأنه لم يكن بيعًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: "المدونة" (2/ 352). (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر: "النوادر" (2/ 311). (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

فإن لم يحكم بفسخه حتى فات: ففطرته على المشتري وإن لم يفت إلا بعد الفطر، وهو قول عبد الملك. وسبب الخلاف: بين ابن القاسم وأشهب: البيع الفاسد قبل الفوات هل يفيد شبهة الملك أو لا؟ فمن رأى أنه يفيد شبهة الملك: قال بوجوب الزكاة على المشتري -فات أو لم يفت. ومن رأى أنه لا يفيد شبهة الملك إلا [بالفوات] (¬1): قال بوجوب الفطرة على البائع، والله أعلم [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في ب: بعد الفوات. (¬2) زيادة من جـ.

المسألة السابعة عشر في الصنف الذي تؤدى منه زكاة الفطر

المسألة السابعة عشر في الصنف الذي تؤدى منه زكاة الفطر (¬1)، [وفي حكمها] (¬2)، هل هي واجبة أم لا (¬3)؟ والأصل فيها ما أخرجه مالك من طريق ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر، على الناس من رمضان صاعًا من تمر أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من شعير على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين". وهل هي واجبة وجوب الفرائض، أو وجوب السنن؟ فحكى القاضي أبو الوليد الباجي وغيره الإجماع على وجوبها، إلا ما يحكى عن الأصم وإبن عُلَيَّة. وأبو حنيفة [أنه يقول] (¬4) أنها واجبة وليست بفريضة؛ على أصله في الفرق بين الواجب والفرض (¬5)، وهو مذهب متناقض بالاتفاق منا ومنهم [في] (¬6) أن حد الواجب والفرض واحد. وقد رأيت للقاضي أبي الفضل [عياض] (¬7) ما يدل على وجود الخلاف عندنا في المذهب في زكاة الفطر، هل هي واجبة، أو سنة، قال: وما روي عن أصحاب مالك أنها سنة فقد أطلق هذا اللفظ قوم من أصحابنا وتأولوا فرض: بمعنى قدر، ومشهور المذهب أنها فريضة. [وإنما] (¬8) اختلف المذهب هل هي واجبة بالقرآن، أو واجبة بالسنة، ¬

_ (¬1) انظر: "المدونة" (2/ 352 - 353) و"النوادر" (2/ 300 - 303). (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: "النوادر" (2/ 300 - 301). (¬4) سقط من أ. (¬5) في الأصل: الفرق: وقد تقدم الكلام في هذه المسألة. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: وإذا.

فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما: أنها واجبة بالقرآن. واختلف في الآية التي وجبت [بها] (¬1)؛ فقيل: وجبت بعموم قوله: {وَآتُوا الزَّكاةَ} (¬2)، وهو قول مالك في "المجموعة"، وهذا منه بناءً على أن العموم له صيغة مفردة (¬3). وقيل: بل من قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (¬4)} (¬5)، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن المسيب - رضي الله عنهما. والرواية الثانية: أنها واجبة بالسنة، وهي رواية ابن نافع عنه لقوله عليه السلام: "فرض زكاة الفطر على الناس" (¬6)، و (على): من ألفاظ الوجوب واللزوم ولا يجوز في هذا الموضع أن يكون بمعنى: عن؛ لأن ذلك يخل بفائدة اللفظ. ويزيده بيانًا: ما خرجه أبو عيسى الترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذًا ينادي في فجاج مكة: ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم (¬7). وأما المكيلة: فهي صاع عن كل نفس، والصاع: أربعة أمداد بُمدِّه عليه السلام. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة البقرة الآية (43). (¬3) وهو الراجح عد حذاق الأصوليين. (¬4) سورة المؤمنون الآية (1). (¬5) في ب: قد أفلح من تزكى. (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) أخرجه الترمذي (674) وقال. هذا حديث حسن غريب. قلت: ضعفه الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" (107) وهو كما قال.

والمُد: وزن رطل وثلث. والصَّاع: خمسة أرطال وثلث على مذهب [أهل المدينة وهو مذهب] (¬1) عالم المدينة وهو إمام دار الهجرة [مالك -رضي الله عنه] (¬2)، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: المُد: رطلان، والصاع: ثمانية أرطال. والدليل على الحنفي: المناظرة المشهورة بين مالك وأبي يوسف بين يدي هارون الرشيد بما لا [يخفى] على من شد طرفًا من مسائل الخلاف. وقد رأيت للشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي زيد في "كتاب المكيال والميزان" أنه قال: سافرنا، وعاشرنا، وباشرنا، وفحصنا وبحثنا عن حقيقة مد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاعه في مكة والمدينة وسائر قواعد الأمصار فلم [نقف] على حقيقته، ولا صادفنا من يوقفنا على عينه، وذلك لتبدل المكاييل وتغير الموازين والأواني والأرطال، وسببه: تداول الدول وتحول الملك من ملك إلى ملك، قال: وأحسن ما أخذناه عن المشايخ: أن قدر مد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يختلف ولا يعدم في سائر الأمصار: أربع حفنات بحفنة الرجل الوسط لا بالطويل جدًا ولا بالقصير جدًا، ليست بالمبسوطة الأصابع جدًا ولا بمقبوضتها، إلا أنها إن بسطت فلا [تحمل] (¬3) إلا قليلًا، وإن قبضت فكذلك. وكذلك تسمى قبضة ولا تسمى حفنة، فإذا جعل في الأصابع بعض الانحناء: كان غرفة، ويكون ملؤها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: تسع.

والذي قال رضي الله عنه قد عارضناه بما يوجد بين أيدي الناس اليوم مما يزعمون أنه مد النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدناه صحيحًا لا شك فيه. وقد كان عند سيدنا وقدوتنا شيخ الطريقة وإمام الحقيقة أبي محمد صالح بن بنصارن الدكالي -قدس الله روحه- وبَرَّد ضريحه مد عُيِّر بمد زيد ابن ثابت [رضي الله عنه] (¬1) بسند صحيح مكتوب عنده فعيرناه على هذا التعيير فكان ملؤه ذلك [التقدير] (¬2)، وربك أعلم. وأما الصنف الذي تؤدى منه فقد اختلف فيه المذهب عندنا على أربعة أقوال: أحدها: أنها تؤدى من تسعة أشياء: القمح، والشعير، والسلت، والأرز، والدخن، والذرة، والتمر، والزبيب، والأقط. وهي رواية ابن القاسم عن مالك في "المدونة" وفي "كتاب ابن المواز" (¬3). والثاني: أنها تخرج من كل ما تجب فيه الزكاة إذا كان ذلك من قوته، وهو قول مالك في "المختصر" (¬4)، وعلى هذا القول [فإنها] (¬5) تخرج من القطاني. والثالث: أنها تؤدى من عشرة أشياء، وهو قول ابن حبيب (¬6)، وزاد: العلس إلى التسعة التي قدمناها في القول الأول. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: القدر. (¬3) انظر: "النوادر" (2/ 301). (¬4) انظر: "النوادر" (2/ 303). (¬5) سقط من أ. (¬6) انظر: "النوادر" (2/ 302).

والرابع: أنها لا تؤدى إلا من الأربعة التي في الحديث؛ الشعير، والتمر، والزبيب، والأقط، وهو قول أشهب في "كتاب محمد" (¬1). [قال:] (¬2) ويدخل مع الشعير القمح والسلت لأنها منه، وهو جنس واحد أفضله القمح، وأوسطه السلت وأدناه الشعير، فإذا كان يجزئ إخراج الشعير -وهو الأدنى- فبأن [يجزئ] (¬3) إخراج القمح -وهو الأفضل- والسلت -وهو الأوسط- أولي وأحرى. وفي حديث أبي سعيد الخدري، (كنا نخرج زكاة الفطر من طعام) (¬4)، والطعام في كلام العرب: ينطلق على كل ما يطعم، ولكنه في عرف الاستعمال على قوت الإنسان من البُّر، وهو أيضًا يدل على أن إخراج البُّر في زكاة الفطر جائز. [وأما العلس] (¬5) فيتخرج الخلاف فيه على الخلاف الذي قدمناه في زكاة الحبوب هل تضاف إلى القمح والشعير والسلت أم لا؟ وسبب الخلاف: الأشياء الأربعة المنصوص عليها في الحديث هل هي كالأصول ويقاس عليها ما كان في معناها من الأقوات المدخرات لاشتراكها في العلة، ويسمى هذا القباس قياس علة، أو لا يجوز أن يقاس عليها إلا ما كان من جنسها كالقمح والسلت على ما قدمناه، ويسمى ذلك قياسًا في معنى الأصل، وهو القياس الجلي عند الأصوليين؛ كالعبد في معنى الأمة في الحَدِّ، والأمة في معنى العبد في عتق الشريك. ¬

_ (¬1) انظر: "النوادر" (2/ 301 - 302). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه البخاري (1506) ومسلم (985). (¬5) سقط من أ.

وكذلك أيضًا اختلف في التين هل تؤدى منها إذا كان عيش أهل بلد أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة" على اختلاف الروايات، ويخرجها [المزكي] (¬1) من جُلِّ عيش أهل البلد وغالب ما يستعمل في جهتهم. فإن كان رجل يَقتَات بغير ما يَقْتَات به [أهل بلدِه] (¬2): [فيُنْظَر] (¬3)، فإن اقتات بأفضل من قوتهم فالأفضل له أن يخرجها من قوته، فإن أخرجها من قوت أهل بلده أجزأه؛ لأنه هو الذي يلزمه، وما زاد عن قوت الناس فإنما هو بمعنى الترفه والتفكه فليس عليه إخراجه. فإن كان يقتات بدون قوت الناس: فلا يخلو ذلك من أن يكون من عسر، أو بخل. فإن كان ذلك من عسر: لم يلزمه غير قوته؛ لأنه غير واجد لأكثر منه، وإخراج الزكاة يتعلق بالوجود؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬4). فإن كان يفعل ذلك لبخل: لزمه أن يخرج زكاة الفطر من قوت الناس؛ لأن حق [المساكين في] (¬5) الزكاة يتعلق بذلك فتقصيره في نفسه لا يسقط عنه حق الزكاة، وقد قال ابن حبيب: إن أخرجها من الأدنى وهو يأكل الأعلى فإنه يجزئه. وسبب الخلاف: قوله عليه السلام: "صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير" (¬6)، هل ذلك للتخيير، أو للتقسيم؟ فمن رآه للتخيير قال: يجوز ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: فإنا ننظر. (¬4) سورة البقرة الآية (286). (¬5) سقط من أ. (¬6) تقدم تخريجه.

إخراج الأدنى وهو يأكل الأعلى. ومن رآه للتقسيم قال: لا يجوز إخراجها إلا من وسط عيش أهل البلد، وهو المشهور. وقد حكى القاضي عبد الوهاب أن ظاهر الحديث يفيد التخيير، والحمد لله رب العالمين.

مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها تأليف أبي الحسن علي بن سعيد الرجراجي تقديم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور علي علي لُقَم اعتنى به أبو الفضل الدّمياطي أحمد بن علي الجزء الثالث مركز التراث الثقافي المغربي دار ابن حزم

حُقُوقُ الطبع مَحفوظَة الطبعة الأولى 1428 هـ - 2007م ISBN 99953 - 81 - 431 - 7 الكتب والدراسات التى تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها مركز التراث الثقافي المغربي الدار البيضاء - 52 شارع القسطلاني - الأحباس هاتف: 442931 - 022/ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص - ب: 6366/ 14 هاتف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

منَاهِجُ التَّحْصِيلِ وَنَتائجُ لَطائِفِ التَّأْوِيلِ في شَرْحِ المدَوَّنَةِ وحَلِّ مُشكِلاتهَا 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد (¬1) تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها عشر مسائل: المسألة الأولى [في اشتقاق الجهاد و] (¬2) الجهاد من فروض الكفاية. ولفظته في [الاشتقاق] اللغوي موضوعة على الإطلاق، ولمن بالغ في إتعاب النفس فأجهدها في تحصيل أرب ما. وفي عرف الاستعمال الشرعي كذلك موضوعة لمن أجهد نفسه وغَلَّبَ تقواه على هواه في اكتساب قربة يرجو بها جزيل الثواب وحسن المآب. وهذا الإطلاق سائغ عند العلماء إلا أنها لفظة تعرفت في الشرع لإفادة قربة مخصوصة حتى لا يفهم عند الإطلاقات والاصطلاحات فيما يجري بينهم في المحاورات سواها، وهي [مجاهدة] (¬3) الكفار ومحاربة الأعداء الذين هم أبغض خلق الله إليه، فلتكن مجاهدتهم أحب قرباته إليه. وفضائله لا تحصى وشواهده لا تخفى. وهو من فروض الكفاية يستقل بالقيام [به] (¬4) آحاد الخلق دون أعيانهم كالعلم لا فرق سواء، وقد ألزمهما الله تعالى في قرن وجمعهما في نسق في عموم قوله تعالى: {فَلَؤلا نَفَرَ مِن كُل فِرْقَة مِّنْهُم طَائِفَةٌ ليَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ} (¬5). ¬

_ (¬1) سرت في الترتيب على مخطوط دار الكتب المصرية التي أتبعت الزكاة بالجهاد، بينما في "المدونة" سبق الجهاد الحج. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: محاورة. (¬4) سقط من أ. (¬5) سورة التوبة الآية (122).

وإلى [مثل] (¬1) هذا ذهب بعض المحققين بقوله: قواعد النبوة إنما تأسست وتمهدت لدعاء الخليقة إلى نهج الحقيقة طلبًا للاعتراف بالوحدانية والإقرار بالربوبية [تارة] (¬2) بالسيف والسنان و [تارة] (¬3) بالحجة [والبرهان] (¬4)، فإن أجابوا إلى ذلك قبل منهم، وإلا طلبت منهم الجزية، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

المسألة الثانية في الدعوة قبل القتال هل هي مشروعة أو غير مشروعة؟

المسألة الثانية في الدعوة قبل القتال هل هي مشروعة أو غير مشروعة (¬1)؟ والأصل في وجوبها على الجملة قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (¬2). وقال تعالى: {يَا أَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبَكَ} الآية (¬3). وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (¬4). فاقتضت هذه [الآيات] (¬5) الدعوة إلى الله تعالى وتبشير من أطاعه بالجنة، وينذر ويحذر من عصى بالنار. ثم لا يجوز القتال إلا بعد الدعوة لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬6). والمراد من بعثة الرسل التبليغ. ولا خلاف فيمن قُطِعَ عليه أن الدعوة لم تبلغه -إن تصور أن يكون ذلك، أو يمكن أن يوجد [ذلك] (¬7) في بعض الجزائر وأطراف البلاد النائية من لا يعرف بعثة الرسل- أنه لا يقتل إلا بعد الدعوة، وهذا ممن لا أظنه يكون، والله أعلم. وقد اشتهر من رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وظهور شريعته ما لا يمكن ¬

_ (¬1) انظر: "المدونة" (3/ 2) و "النودار" (3/ 40 - 42). (¬2) سورة البقرة الآية (119). (¬3) سورة المائدة الآية (67). (¬4) سورة سبأ الآية (28). (¬5) في الأصل: الآية. (¬6) سورة الإسراء الآية (15). (¬7) سقط من أ.

[لأحد] (¬1) جهله مع [اتساع] (¬2) الملة وامتداد المدة؛ ولأجل ما ذكرناه اختلف العلماء في وجوب الدعوة قبل القتال على أربعة أقوال: أحدها: أن الدعوة ساقطة غير لازمة لأحد؛ لبلوغ الدعوة كافة الأنام، قاله الحسن البصري وغيره. والثاني: أن الدعوة واجبة قبل القتال في حق كل أحد -قربت داره أو بعدت- وقاله عمر بن عبد العزيز، وأكثر العلماء، وبه قال مالك. والثالث: التفصيل بين من قربت داره أو بعدت؛ فإن قربت داره: قوتل قبل الدعوة لعلمهم بالدعوة، بل تطلب غرتهم بالليل والنهار. فإن بعدت داره: فلا يقاتل إلا بعد الدعوة؛ لأن الدعوة أقطع للشك وأنزه للجهاد - معناه: أنزه عن الإثم. والرابع: التفصيل بين القبط و [غيرهم من] (¬3) الروم؛ فالروم يقاتلون قبل الدعوة، والقبط لا يقاتلون حتى يُدعوا. والأقوال [الأربعة] (¬4) مذهبية، وكلها من "المدونة". وسبب الخلاف: اختلافهم في المفهوم من أمره عليه السلام [بالدعوة] (¬5) قبل القتال هل ذلك لجهلهم بالرسالة والنبوة فتسقط الدعوة في حق من علم بالرسالة، أو ذلك لجهلهم بالسبب الذي نقاتلهم عليه؛ هل ذلك طلبًا للملك والرئاسة، أو ذلك [لتبليغ] (¬6) [أحكام] (¬7) الرسالة؛ وهي أن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: اتباع. (¬3) سقط من أ. (¬4) في الأصول: الثلاثة والصواب ما أثبتناه. (¬5) في أ: في الدعوة. (¬6) في ب: لتبيين. (¬7) سقط من أ.

تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى؛ فعلى هذا لابد من الدعوة قبل القتال، بالإنذار وإن دنت الدار واشتهرت النبوة والرسالة في سائر الأمصار. والتفصيل بين قريب الدار أو بعيدها [حسمًا] (¬1) [لمادة الشك] (¬2) وقطعًا لأعذار أهل الشرك. وتفريق مالك -رحمه الله- بين القبط والروم في وجوب الدعوة على ما في "المدونة": اختلف [المتأولون] (¬3) في تأويله؛ فقال بعضهم: لعله رأى أنهم لا يفقهون ما يدعون إليه، فرأى أنهم يدعون وتبين لهم الدعوة. وقال بعضهم: هذه العلة باطلة؛ لأن القبط من أحذق الناس. وتأول آخرون أن ذلك لحق مارية القبطية أم ولد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي أم ولده إبراهيم. وقيل: إن العلة: أن القبط كان لهم عهد وَرُكبُوا بظلم وتداول الملوك ذلك من أهل الجور [فنقضوا] (¬4) ما كانوا عليه من العهد، فلذلك لا يقاتلون حتى يدعوا ويخيروا أنهم يردون إلى ما كانوا عليه ويسار فيهم بالعدل وطريق الحق، وأما الروم فما كان لهم عهد قط، وهذا أثبت ما قيل في [هذه] (¬5) المسألة. واختلف في تبييت العدو قبل الدعوة على قولين: أحدهما: أنهم لا يبيتون حتى يدعوا، وهو قول مالك في "مختصر" ابن ¬

_ (¬1) في أ: حسن. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: المتأخرون. (¬4) في ب: حتى نقضوا. (¬5) سقط من أ.

عبد الحكم، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أن التبييت جائز [قبل الدعوة] (¬1)، وهو قول ابن المواز، واستشهد بقصة [كعب] (¬2) بن الأشرف وغيره ممن بعث إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من قتله، غيلة على ما ذكر في آثار المدونة في كتاب الجهاد. وفي المسألة قول خامس بالتفصيل بين الجيوش والسرايا؛ فتجب الدعوة على الجيوش دون السرايا، وهو قول أصبغ في "العتبية"، وهو ظاهر "المدونة" (¬3)؛ لقوله: "لأن سيرتهم غير سيرة السرايا لأنهم يقصدون الإظهار على غير اختفاء، وهم أمراء يقيمون الحدود ويقسمون الفىء". قال سحنون: "لا فرق بين الجيوش والسرايا، إن وجبت فعلى الجميع، وإن سقطت فعن الجميع" (¬4). وهو تفسير لأقاويل مالك في المسألة فيتحصل في المذهب أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة". فإذا قلنا بالدعوة، فما صفتها؟ وهل يدعون إلى الإيمان [وفروعه] جملة واحدة؟ وهو ظاهر الحديث على ما رواه ابن حبيب في كتابه - وإن كان العلماء قد طعنوا في أحاديث ابن حبيب، أو يدعوهم إلى الإيمان أولًا، فإن أجابوا إليه فيدعوهم إلى الفروع ثانيًا [وهذا نص المدونة] (¬5). وأما صفة الدعوة: فهي مختلفة باختلاف صفة كفرهم؛ لأن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) انظر: "المدونة " (3/ 12). (¬4) انظر: "النوادر" (3/ 41). (¬5) سقط من أ.

[الصفات] (¬1) التي بها كفر من كفر مختلفة وإن كانت كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو الكفر؛ فكفار قريش مُقِروّن [بالربوبية ولا يقرون] (¬2) بالألوهية وأن الله خلقهم ويجعلون له شريكًا، تعالى الله عن قولهم، وينكرون النبوة فيدعون إلى الرجوع عن [هذين الوصفين] (¬3) بأن يقروا بالوحدانية والرسالة. وأما اليهود: فمن كان منهم مشركًا يقول: عزيز [ابن الله] (¬4)، وينكر أن محمدًا نبيًا ورسولًا -صلى الله عليه وسلم-، فيدعون إلى الرجوع عن [هذين الوجهين] (¬5) ومن كان منهم مقرًا بالوحدانية منكرًا للرسالة فيدعون إلى الإقرار بالرسالة. وأما النصارى: فهم منكرون للوحدانية والرسالة، فيدعون إلى الإقرار بهذين الوجهين [وأما المجوس فقد أنكروا الألوهية والرسالة فيدعون إلى الإقرار بهذين الوجهين] (¬6). وأما الصابئون: فإنهم يعبدون الملائكة وينكرون الرسالة، وهم مقرون بالألوهية وينكرون البعث. فإذا رجع كل فريق من هؤلاء عن الوجه الذي [به] (¬7) كفر إلى ما دعى إليه كان مؤمنًا، [ثم يدعون] (¬8) بعد ذلك إلى فروع الإِسلام على الترتيب. ¬

_ (¬1) في أ: الصفة. (¬2) سقط من الأصل. (¬3) في ب: هاتين الصفتين. (¬4) في أ: ابن عبد الله. (¬5) في ب: هاتين الصفتين. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

واختلف في السلابة هل يدعون قبل القتال أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنهم يدعون إلى أن يتقوا الله ويَدَعُوا ما هم عليه، فإن أبوا فَلْيقَاتَلوا. وهو قول مالك في "المدونة" (¬1). والثاني: أنهم لا يدعون لعلمهم بما يدعون إليه. وهو قول عبد الملك في "كتاب ابن المواز". فإن طلبوا الطعام و [الثوب] (¬2) والأمر اليسير هل يعطون أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنهم يعطون ما طلبوا، وهو قول مالك في "المدونة" (¬3)، وظاهره: أنه يجوز أن يعطوا وإن كان المطلوب قادرًا على الامتناع منه. والثاني: أنه لا يجوز أن يُعْطوا شيئًا إذا كان المطلوب يرجو الظفر بهم والنصرة عليهم لأن إجابتهم على مطلوبهم مع القدرة على مكافحتهم إشلاء لهم على أنفسهم وغيرهم من المسلمين، وقوة لمادتهم وعون لهم على ما هم عليه من البغي والفساد، وذلك ظلم وإثم مبين، وهو قول عبد الملك في كتاب ابن المواز. وسبب الخلاف: قتال المحاربين هل تعين على من لقيهم وعلى غيرهم، أو لا يتعين؟ فمن رأى أن قتالهم لا يتعين قال: يجوز أن يسعفهم بمقصودهم فيما ¬

_ (¬1) انظر: "المدونة" (3/ 3). (¬2) في جـ: الشراب. (¬3) انظر المصدر السابق.

طلبوا. ومن رأى أن قتالهم تعين على من لقيهم قالوا: إنه لا يجوز أن يعطوا لأن جهادهم قد تعين عليهم. والقولان قائمان من "المدونة" (¬1). فعلى قولهم في "كتاب الجهاد": لا بأس أن يعطوا ما طلبوا من الشيء الخفيف: فلا يتعين قتالهم. وعلى قوله في آخر "كتاب المحاربين" من "المدونة": وجهاد المحاربين جهاد تعين قتالهم. والقولان ظاهران، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق.

المسألة الثالثة في حكم الأسارى و [الغنائم]

المسألة الثالثة في حكم الأسارى و [الغنائم] (¬1) وجميع ما نيل من العدو (¬2). وينقسم على خمسة أقسام: ذو القوة من الرجال، والنساء والعيال، وما لا تسرع إليه الأيدي من الأموال وما لا تصبر عنه الأيدي في أكثر الأحوال، وما لا سبيل [إليه من الأموال] (¬3). فالجواب [القسم] (¬4) عن الأول: إذا غُنم من العدو ذوو القوة من الرجال: فإن الإِمام مخير فيهم بين خمسة أشياء: القتل، والجزية، والفداء، والمن، والاسترقاق. فمن هذه الخصال الخمس ما يستوي فيه جميع أنواع الكفار إذا أسروا، [وهو] (¬5): المن، والفداء، والقتل فيمن يجوز أن يؤسروا. وقولنا: "فيمن يجوز أن يؤسروا" احترازًا من رهبان الصوامع والديارات ممن بان بنفسه في مخالطة الكفار، ولا يمدهم برأي ولا بمال، ولا تدبير، فهم الذين نهى أبو بكر -رضي الله عنه- عن قتلهم وأسرهم والتعرض لهم في أنفسهم. واختلف في أموالهم هل تترك لهم، أو تؤخذ منهم على قولين قائمين من "المدونة" (¬6): ¬

_ (¬1) في ب: المغانم. (¬2) انظر: "المدونة" (3/ 9) و"النوادر" (3/ 70). (¬3) في ب: فيه إلى الانتقال. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: وهذا. (¬6) انظر: "المدونة" (3/ 9).

أحدهما: أنهم تؤخذ أموالهم ويترك لهم منها ما يعيشون به، ولا تؤخذ أموالهم كلها [فلا يجدون ما يعيشون به] (¬1)، وهو قول [مالك] (¬2) في "المدونة". والثاني: أنها تترك لهم كلها إن عُرف أنها من أموالهم، ولا يؤخذ منها شيء، وهو قول ابن المواز، وهو ظاهر"المدونة"؛ لأنه قال في الكتاب (لا يتعرض له في نفسه). فكما نهى عن التعرض لنفسه فكذلك ينهى عن التعرض لماله، وهو نص قول مالك في "العتبية" (¬3) أيضًا. وأما من لم يَبِنْ بنفسه ممن يخالط جملة أهل الكفر؛ كرهبان [الكتابيين] (¬4): فإنهم كسائر الرجال المقاتلة [من الكفار] (¬5) يستباحون بالقتل والأسر والاسترقاق؛ فإن منهم الرأي والتدبير والنكاية على المسلمين فهم أنكى ممن يعمل بيده. واختلف في النساء إذا ترهبن هل يسبين أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنهن أحق أن لا يسبين ولا يستبحن، وهو قول أشهب في "مدونته" (¬6). والثاني: أنهن يسبين بخلاف الرجال، وهو قول سحنون. وسبب الخلاف: هل العلة الموجبة للصون كونهم مترهبة فيستوي [في ¬

_ (¬1) في ب: فيموتون بالجوع. (¬2) في ب: ابن القاسم. (¬3) البيان والتحصيل (2/ 526). (¬4) في أ: الكنائس. (¬5) سقط من أ. (¬6) النوادر (3/ 60) والبيان والتحصيل (2/ 558).

ذلك] (¬1) الذكر والأنثى، أو كونه ذكرًا مترهبًا فيفترق الحكم بين الذكر والأنثى؛ وذلك لأن الراهب قد كفى المسلمين بأسه وقمع عن أذيتهم شوكته، فاستحق بذلك أن يعفى في نفسه على الاتفاق، وفي ماله على الاختلاف، بخلاف المرأة لا نكاية لها ولا شوكة ترهبنت أم لا. والتخيير في هذه الأشياء موكول إلى اجتهاد الإِمام فمن كانت منه نكاية وكان قد قاتل المسلمين: فأرى أن شفى صدور المسلمين في قتله وإن كان استرقاقه واستحياؤه غير محرم، وكذلك إن كان لا تؤمن غائلته إن استحيى أو إن نفر إلى موضعه أو أن يصير عينًا على المسلمين فقتله أحسن. وإن لم تتقدم له نكاية وأمنت غائلته فاسترقاقه أو الجزية فيه أحسن والقتل غير محرم. وأما المن: فيحسن لكل من يرجى بردِّه صلاح أو كسر شوكة. وأما الفِّدَاء: [فحسن] (¬2) لمن لا يعرف بالشجاعة وإن أسقط الإمام عن الأسير القتل وأبقاء ليرى فيه رأيه في [أحد] (¬3) هذه الوجوه الأربعة بما سوى القتل لم يجز أن يقتله بعد ذلك. وإن منَّ عليه لم يجز أن يحبسه عن الذهاب إلى بلاده إلا أن يشترط عليه أن يبقى فيضرب عليه الجزية. فإن أبقاه للجزية: لم يجز له أن يسترقه. ويجوز له أن يفدى به برضاه. وإن أبقاه على وجه الاسترقاق: جاز أن ينتقل معه إلى الجزية كذلك ذكر الشيخ أبو الحسن اللخمي، وهذا كله في أهل الكتاب. وأما من لا كتاب له من مشركي العرب هل يخير فيهم بين الخمسة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: فيستحسن. (¬3) سقط من أ.

أشياء كما يخير [في غيرهم] (¬1) من أهل الكتاب أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يخير فيهم كما يخير في أهل الكتاب. والثاني: أنهم بخلاف أهل الكتاب في التخيير. ويبنى الخلاف على الخلاف في الجزية هل تؤخذ من مشركي العرب كما تؤخذ من غيرهم من أهل الكتاب أم لا؟ فمن رأى أنها تؤخذ [منهم] (¬2): قال بالتخيير [للإمام] (¬3) فيهم بين الخمسة [أوجه] (¬4). ومن قال لا تؤخذ منهم الجزية: اختلف هل يخير فيهم بين أربعة أشياء أو بين ثلاثة أشياء على قولين: أحدهما: أنه يخير فيهم بين أربعة أشياء؛ المن، والقتل، والفداء، والاسترقاق. وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: [أن] (¬5) الإِمام مخير فيهم بين ثلاثة أشياء؛ القتل، والفداء، والمن، وليس له أن يسترقهم. وهو قول ابن وهب. وسبب الخلاف: اختلافهم في العرب إذا سبوا هل يُسترقُّون بالسبى كما يسترق غيرهم من أهل الكتاب [أم لا] (¬6)؟ فمن رأى أنهم يسترقون بالسبى: قال فيهم بالتخيير بين أربعة أشياء، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: أشياء. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬1): (إن العرب يسترقون إذا سبوا كالعجم). ومن رأى أنهم [لا] (¬2) يسترقون بالسبى قال: يخير فيهم بين ثلاثة أشياء. وقد أتقنا الكلام في هذا المعنى في "باب الجزية" في "كتاب الزكاة" إتقانًا لا نزيد عليه، والحمد لله وحده. والجواب عن [القسم] (¬3) الثاني: في سبى النساء والعيال والمستضعفين من الرجال. وفي الحديث: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان" (¬4). وفي حديث آخر: "والشيخ الهرم". وفي حديث آخر: "لا تقتلوا ذُرِّيَّة ولا عَسِيفًا" (¬5) والعسيف: هو الأجير. قال ابن حبيب (¬6): وورد النهي عن قتل الفلاحين والأكارين، قال ابن حبيب: وهم الحراثون الذين لا ينصبون حربًا ولا تخشى منهم غورة ولا كيد. ¬

_ (¬1) المدونة (3/ 24). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه البخاري (3015) ومسلم (1744) من حديث ابن عمر. (¬5) خرجه ابن ماجه (2842) وأحمد (15562) و (17158) من حديث حنظلة الكاتب. قال الألباني: حسن صحيح. (¬6) انظر: "النوادر" (3/ 57).

وأما النساء: فلا يخلو حالهن من وجهين: إما أن ينتصبن للقتال، ويعرضن للنزال، أو لا ينتصبن للقتال بل كففن إذايتهن عن المسلمين على كل حال. فإن كفون المسلمين إذايتهن ولازمن عند التحام الحرب قعر بيوتهن حتى لا ينال المسلمين شيء من إذايتهن: فلا خلاف عندنا في تحريم قتلهن؛ لأن الشرع قد تجافى [عن عقوبة النساء] (¬1) على الجملة في القتال [لعجزهن] (¬2) عن مبارزة الرجال ومكافحة الأبطال وتحمل الأهوال، وإنما كلفن حسن التبعل للرجال والتستر بوراء الحجال بخلاف الأحرار البالغين من الرجال الذين عندهم آلة النكاية بالقتال: فليس في جواز قتلهم إشكال. وإن كن يدمن [وسم] (¬3) الفر [بالخنا] (¬4) ويمدحن الكر بالغنا، وذلك أنهن ينشدن في أشعارهن وينثرن في أنثارهن (¬5): نحن بنات طارق ... كالدم في المرافق إن تقبلوا نعانق ... [نفرش] (¬6) النمارق أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق بل هن وسائر الأطفال حشد و [معونة] (¬7) على القتال ومادة كسائر الأموال. وقال عمر -رضي الله عنه: اتقوا قتلهن إذا التقى الزحفان، وعند مزاحمة النهضان، وفي شن الغارات، إلا أن يباشرن الكفاح ويشهرن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) هند بنت عتبة. (¬6) في أ: تفرشوا. (¬7) في أ: مؤنة.

السلاح. وهو الوجه الثاني من أصل التقسيم، فحينئذ ينظر: فإن باشرن القتال بالسلاح، أو كن على [الأسوار] (¬1) يرمين بالحجارة فقتلن أحدًا: فلا خلاف في المذهب -أعلمه- في جواز قتلهن في حين المسابقة [لوجود المعنى المبيح لقتلهن] (¬2)، وكذلك يباح [قتلهن] (¬3) بعد الأسر إذا قاتلن. فإن رمين بالحجارة ولم [يظهرن] (¬4) النكاية ولا قتلن أحدًا: فلا يقتلن بعد الأسر اتفاقًا. وهل [يعرض] (¬5) عنهن في حين المقاتلة ويشتغل بغيرهن أو يقاتلن قتالًا يكفهن من غير أن يؤدي إلى قتلهن، وهذا يتخرج على قولين فإن أشهرن السلاح وباشرن الكفاح فقاتلن ولم يقتلن حتى أسرن، فهل يقتلن بعد الأسر أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنهن يقتلن بعد الأسر كما يقتلن في حين القتال، وهي رواية يحيي بن يحيى عن ابن القاسم في "العتبية" (¬6). والثاني: أنهن لا يقتلن بعد الأسر وإن وجد منهن القتال، وهو قول سحنون في [كتابه (¬7)] (¬8). وسبب الخلاف: اختلافهم في المفهوم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كانت هذه ¬

_ (¬1) في الأصل: الأصوار. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: تظهر. (¬5) في أ: يلهى. (¬6) البيان والتحصيل (3/ 30). (¬7) انظر المصدر السابق. (¬8) في ب: كتاب ابنه.

تقاتل" (¬1)، [فدليله] (¬2) أنها لو كانت تقاتل لقتلت في حين القتال وبعد القتال، وهذا على القول بدليل الخطاب. وقد اختلف المذهب عندنا في القول به. ومن فهم من قوله عليه السلام: "ما كانت هذه تقاتل" (¬3) أن قتلها يجوز في حين القتال للضرورة الداعية إلى الذَّب عن المسلمين، والحرص على إسفاك دم من [صادفهم] من المشركين - ذكرًا كان أو أنثى. فإذا عدم ذلك المعنى عاد الحظر لما كان وصرف بالأسر غنيمة للمسلمين [فلا يقتلن] (¬4). والصبي المراهق [في المشركين] (¬5) في جميع ما ذكرناه كالنساء والعواتق [لا فرق] (¬6) سواء. واختلف في الصبي إذا أنبت الشعر ولم يحتلم هل يقتل أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": فأكثر أصحاب مالك على أنه يقتل. وذهب ابن القاسم وغيره إلى أنه لا يقتل حتى يحتلم. وقد أمر عمر -رضي الله عنه- بقتل من جرت عليه المواسي. وقد ذكرنا [دلائل] (¬7) البلوغ في "كتاب الصيام"، ولعل أن تكون لنا العودة ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في أ: فذلك. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: دليل.

إلي زيادة البيان لهذا المعنى في "كتاب القطع في السرقة" إن شاء الله تعالى. وأما الشيخ [الكبير] (¬1) الفاني الذي لا تخشى منه نكاية ولا يبتغى من رأيه [غائلة] (¬2) ذميمة: فلا إشكال أنه لا يقتل، وهو مذهب "المدونة". ومن قتل من نهى عن قتله من صبي أو امرأة أو شيخ كبير: فلا يخلو قتله إياه من أن يكون بدار الحرب قبل أن يصير في المغنم [أو بعد أن صار مغنمًا. فإن قتله من قبل أن يصير في المغنم] (¬3): فليستغفر الله، ولا شيء عليه [وهو قول سحنون] (¬4). وإن قتله بعد أن صار في المغنم: فعليه قيمته لجعل ذلك في المغنم. وهو قول سحنون أيضًا. واختلف في الأُجَرَاء والحَرَّاثِين وأهل الصناعات إذا لم يخش من جهتهم وأمنت ناحيتهم فهل يقتلون أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنهم [لا] (¬5) يقتلون، وهو قول ابن القاسم في كتاب محمد، وبه قال عبد الملك في الصُنَّاع بأيديهم ويراهم كالأُجَرَاء. وكل من لم يكن من مقاتلتهم إذاية وإنما يجلبون [للكثرة والعمل] (¬6): فحكمهم حكم من ذكرنا عند ذكرهم. والثاني: أنهم يقتلون [كلهم] (¬7) كالأجير وغيره ممن ذكرنا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: غاية. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: لأكثره. (¬7) سقط من أ.

وهو قول سحنون، قال: وما ذكر من النهي عن قتل من ذكرنا فإنه لم يثبت، قال: هم وغيرهم من الكفار سواء (¬1). قال: وأما [ذوو] (¬2) الأعذار من الزمنى، والمرضى، والعميان، [والأشلاء] (¬3) والأعرج: فلا يخلو من أن يخشى منهم في الحال [لما ظهر منهم من الحيل والتدبير أو لا يخشى منهم إلا في المآل فإن خشى منهم في الحال] (¬4) لما يكون من [خيانة] (¬5) غيرهم وعلمهم بمصالح الحرب: فلا خلاف أنهم يقتلون جميعًا وإن كان لما يتوقع منهم في ثاني حال. أما المريض فإن كان شابًا: فالنظر فيه إلى الإِمام كسائر الأسارى: وإن كان شيخًا: فلا يقتل إذا كان صحيحًا، فكيف إذا كان مريضًا. وأما من عداهم من سائر الزمنى وذوى الأعذار: فقد اختلف المذهب في جواز قتلهم على قولين بعد الاتفاق على جواز أسرهم: أحدهما: أنهم يقتلون ولا يستحيون لما يتمكن منهم ويتصور من جر الجيوش وإقامة الرأي والتدبير والمكر والخداع، وهو قول سحنون (¬6). والثاني: أنهم لا يقتلون؛ إذ لا رأي لهم ولا تدبير في الحال [لأنهم كالحشوة ويحملهم على أنهم غير منظور إليهم حتى يتبين أنهم ممن يرجع إلى رأيهم وتدبيرهم وهو قول ابن حبيب] (¬7). ¬

_ (¬1) النوادر (3/ 57 - 58). (¬2) في الأصل: ذوا. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في الأصل رسمها هكذا: حابة. (¬6) النوادر (3/ 59). (¬7) سقط من أ.

وسبب الخلاف: اعتبار الحال والمآل. والجواب عن [القسم] (¬1) الثالث: في [سبى] (¬2) ما لا تسرع إليه الأيدي من الأموال؛ مثل العبيد والحيوان وسائر العروض التي لم تجر العادة بالانتفاع بها بعد الغنيمة إلا بعد القسمة وخروج الخمس منها فذلك موقوف في حوطة [الأمير] (¬3) حتى يقسمه بين الغانمين، ولا سبيل إلى أن يمدوا إليه أيديهم للعدوان، وجائز لمن احتاج إلى دابة يركبها لبعض حوائجه أو فرس يقاتل عليه [أو سلاح يقاتل به] (¬4) أن يأخذ ذلك من الغنيمة قبل القسمة ويرده بعد أن قضى منه وطره، وهذا هو المشهور من المذهب. وقد وقع لعلي بن زياد رواية من مالك في "كتاب الجهاد" من "المدونة" أنه لا يجوز أن ينتفع من الغنيمة بدابة ولا سلاح؛ إذ لو جاز ذلك لجاز أن يأخذ العين ويشتري به. وقال بعض المتأخرين: وهذا الذي قاله لا يلزم ابن القاسم ولا يأباه، ولو لم يجز ذلك في الغنيمة لجاز له أن يأخذ العين ويشتري به عند ابن القاسم. والذي قاله عليّ أظهر في النظر لأنه مال مشترك بين الغانمين، فلا سبيل [إلى] (¬5) أن يختص أحد منهم بشيء دون سائر أصحابه. والذي قاله ابن القاسم أشهر في الرواية، وهو في النظر ضعيف، اللهم إلا أن يكون هناك عرف متقدم يشهد بصحة ما صار إليه فيصار إليه؛ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: قسم. (¬3) في ب: الإِمام. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

كالطعام إذا احتيج إليه، على ما سنبينه في قسمه إن شاء الله تعالى. وأما [ما] (¬1) أخذ من الغنائم على وجه العدوان: فلا يخلو من أحد وجهين: أحدهما: أن يؤخذ منها قبل الحَوْز. والثاني: أنه يؤخذ منها بعد الحَوْز، وبعد أن صارت في حوطة صاحب الغنائم. فأما ما أخذ منها [قبل] (¬2) الحوز مما يستأثر به بعض الغانمين عن بعض مما لم تجر العادة بإحاطة الانتفاع به لأهل الجيش؛ إما لكونه مستغنى عنه، وإما لكونه نفيسًا في قدره: فذلك يسمى غلولًا على الحقيقة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أدوا [الخائط والمخيط] " (¬3) [وقال] (¬4): "الغلول عار ونار وشنار على صاحبه يوم القيامة" (¬5). فأما ما أخذ منها بعد الحوز وبعد أن صارت في [حوطة] (¬6) صاحب المغانم: فذلك يسمى غلولًا وسرقة. وكلاهما محرمان بالكتاب والسنة على الجملة. وقد اختلف في الغنيمة بماذا تملك على أربعة أقوال كلها قائمة من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في الأصل: بعد. (¬3) في ب: الخيط والمخيط. (¬4) في أ: لأن. (¬5) أخرجه أبو داود (2694) والنسائي (3688) وأحمد (6690) ومالك في "الموطأ" (994) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا. وأخرجه ابن ماجه (2850) من حديث عبادة بن الصامت وأخرجه أحمد (16704) من حديث العرباض بن سارية. وهو حديث صحيح. (¬6) في أ: حوز.

"المدونة": أحدها: أنها تملك بالإيجاف والإدراب إلى أرض العدو، ومن مات من أهل العسكر ساعتئذ أو ضلَّ عن أصحابه قبل الغنيمة: فإن الميت يورث [عنه] (¬1) سهمه، والذي ضلّ يأخذ سهمه، وهو ظاهر قول مالك في المدونة فيمن ضل عن أصحابه بعد الإدراب أو ردت الريح بعض المراكب إلى أرض الإِسلام غلبة واضطرارًا وفُقِدَ الباقون فغنموا [الغنيمة] (¬2) أن [الغنيمة] (¬3) بين جميعهم، ولا يحرم من ضل ولا من ردته الريح، وهو قول عبد الملك في غير "المدونة" (¬4). والثاني: أنها لا تملك إلا بالقتال، فمن شهد القتال ثم مات قبل الغنيمة: فسهمه من الغنيمة موروث وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو مشهور المذهب عندهم. والثالث: أنها لا تملك إلا بالأخذ والحوز، وهو قول [ابن نافع] (¬5) في "المدونة" في "كتاب القطع في السرقة" و"كتاب الرجم"، وغيرهما من كتب "المدونة". والرابع: أنها لا تملك إلا بالقسمة، وهو ظاهر رواية ابن القاسم [في المدونة] (¬6): أن من سرق من الغنيمة أو زنا بجارية منها: فإنه يحد ويقطع. وقال غيره وهو ابن نافع: لا يقطع حتى يسرق ما فوق حقه بثلاثة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: القسمة. (¬4) انظر: "النوادر" (3/ 161 - 162). (¬5) في جـ: ابن القاسم. (¬6) سقط من أ.

دراهم على تفصيل سحنون في ذلك في غير "المدونة" (¬1)، على ما سنوضحه إن شاء الله في موضعه. وهذه الأقوال كلها ظاهرة لا مراء فيها، ولا خفاء على من طالع الكتاب. واختلف المذهب -عندنا- فيمن بعثه الأمير لمصالح المسلمين هل يسهم له أم لا؟ فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما: أنه يسهم له، وهي رواية ابن وهب وابن نافع عنه، مثل أن يبعث الإِمام قومًا من الجيش [قبل أن يصل إلى بلاد العدو في أمر من مصالح المسلمين وأهل الجيش من حشد وإقامة أسوار أو غير ذلك فانشغلوا بذلك حتى غنم الجيش] (¬2). والرواية الثانية: أنه لا يسهم له ولا يأخذ معهم شيئًا. وسبب الخلاف: ما روي في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم لطلحة وسعيد بن زيد -وهما غائبان بالشام- وما ثبت عنه أيضًا - صلى الله عليه وسلم - أنه أسهم لعثمان - رضي الله عنه - يوم بدر لتخلفه واشتغاله بابنته - صلى الله عليه وسلم -، هل ذلك من خصوص النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يحل لأحد من الأمراء أن يفعله بعد، أو ذلك شريعة متبعة إلى يوم القيامة؟ وباقي الكلام في قسمة الغنائم يأتي في موضعه إن شاء الله، وإنما قدمنا الكلام هاهنا على [هذا الفصل] (¬3) قبل بلوغ موضعه في الكتاب لضرورة التحصيل وترتيب [الأقسام] (¬4) الكلام. ¬

_ (¬1) انظر: "النوادر" (3/ 161 - 163). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: التفصيل. (¬4) سقط من أ.

والجواب عن [القسم] (¬1) الرابع: فيما لا تصبر عنه الأيدي في أكثر الأحوال؛ مثل الطعام والإدام والعلف: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب أنه لا يدخل في المقاسم إلا ما استغنى عنه أهل الجيش، ومن وجده كان أحق به، ومن احتاج إليه ممن لم يجد شيئًا ليس على من وجد أن يواسيه إلا برضاه، وله أن يأخذ من المغنم بغير إذن الإمام، ويجوز أن يبيع من وجد قمحًا، ممن وجد لحمًا يدًا بيد. وهل يجوز ذلك غير يد بيد؟ قولان. فإن باع ليوفر الثمن: فبيعه ماض ويؤخذ منه الثمن ويجعل في المغانم. وإن أخذ منه طعامًا ينفق منه [إلى بلده] (¬2) ففضلت منه فضلة: قال مالك: "يأكل القليل ويتصدق بالكثير". وقال محمَّد: إن كان كثيرًا حبس منه اليسير الذي [لو] (¬3) لم يبق [منه] (¬4) إلا هو [لأخذه] (¬5)، ويتصدق بالبقية. ولو أقرضه لأحد ما كان يجوز له أن يأخذ منه [شيئًا] (¬6) بعد وصولهم إلى بلادهم، والأصل في ذلك حديث الجراب: أن رجلًا من المسلمين [أخذ] (¬7) جرابًا مملوءًا بشحم يوم خيبر من [شحوم] (¬8) اليهود، فضربه صاحب الغنائم وأراد أن يأخذها منه ويجعلها في الغنائم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "خل بين الرجل وبين جرابه يذهب إلي أصحابه" (¬9). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: لحبسه. (¬6) سقط من أ. (¬7) في جـ: أصاب. (¬8) سقط من أ. (¬9) أخرجه ابن بشكوال في "غوامض الأسماء المبهمة" (ص 402) وقد أشار الحافظ في "الفتح" (6/ 256) إلى أن سنده معضل.

فكان ذلك سنة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطعام [والإدام] (¬1) في كل من دعته الحاجة إليه. وهل يقاس عليه ما عداه من سائر الدواب والعروض إذا احتيج إلى الانتفاع به أم لا؟ فعلى رواية ابن القاسم: يجوز القياس، وعلى رواية ابن وهب: لا يجوز. والجواب [عن القسم الخامس] (¬2) فيما [لا سبيل فيه إلى] (¬3) الانتفاع مثل الدور، والأرضين هل يجوز قسمتها بين الغانمين على سنة الغنائم أم لا؟ فقد اختلف المذهب في ذلك اختلافًا كثيرًا، وتحصيله ما أشار إليه بعض المتأخرين: أن الأرض التي ظهر عليها المسلمون من أرض المشركين لا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون بعيدة من حضرة المسلمين. والثاني: أن تكون قريبة من المسلمين. والثالث: أن تكون بين أظهر المسلمين. أما الوجه الأول: إذا كانت بعيدة عن حضرة المسلمين ولا يستطاع سكناها [للخوف] (¬4) من العدو، ولا يرجى للمسلمين امتداد العمران واتصال السكنى إلى ذلك المكان: فإنه يهدم ويحرق ويقطع منه الشجر المثمر [وغير المثمر] (¬5)؛ لأن ذلك نكاية في العدو. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: لا يجوز. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

وأما الوجه الثاني: وهو ما كان بقرب المسلمين وهم قادرون على عمارتها، إلا أنهم لا يقدرون، إلى الانتقال إليها واتخاذها محلًا للسكنى لكونها على الطرف، وقد لا يؤمن أن يفجأهم العدو بغتة حتى لا يبقى فيها التنافس كثيرًا: فإن الإِمام يقطعها ويخرجها من رأس مال الغنيمة لمن رأى فيه جرأة ونجدة ليكون هناك ركيزة وعدة في نحر العدو [وزورًا] (¬1) للمسلمين، ولا مقال لأهل الجيش في ذلك. وأما [الوجه الثالث: وهو] (¬2) ما كان بين أظهر المسلمين ووقع فيه التشاحح والحرص، وكل واحد من أهل الجيش حريص على حقه فيه فهل تجوز قسمته أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوقف ولا يقسم ولا حق لأهل الجيش فيه خصوصًا، بل هو أسوة للمسلمين وهو قول ابن القاسم وابن نافع في "كتاب التجارة إلى أرض الحرب" من "المدونة". والثاني: أنه يقسم كسائر الأموال، ولا يجوز حبسها عن الغانمين. وهو ظاهر قول مالك في بعض روايات "المدونة" في قوله: (وكل أرض افتتحت عنوة فتركت لم تقسم ولو أرادوا أن يقسموها لقسموها). [فهذا] (¬3) دليل على أنها تقسم إذا طلب الغانمون القسمة فيه. وبه قال بعض العلماء: وهو الأظهر في النظر والأثر. والثالث: أن ذلك موكول إلى الإِمام يجتهد فيه، إن رأى أن يقسمها قسمها، وإن أراد أن يوقفها وقفها. ¬

_ (¬1) في أ: ورداء. (¬2) سقط من الأصل. (¬3) سقط من أ.

وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الزكاة الأول"، و"كتاب الجهاد" من "المدونة". والأقوال [الثلاثة] (¬1) كلها قائمة من "المدونة" لا تخفى على من دقق النظر فيها. وسبب الخلاف: تعارض آية الأنفال لظاهر آية الحشر؛ وذلك أن الله تعالى قال في آية الأنفال {وَاعْلَمُوا أنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأَن لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬2). وهذا العموم يقتضي قسمة كل ما ينطلق عليه اسم شيء مما غنم. وقال في آية الحشر: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِن أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} (¬3) إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا} (¬4). فظاهر هذه الآية يقتضي الوقف دون القسمة. فاختلف العلماء هل وقع بين الآيتين نسخ أم لا؟ على ما هو مشهور في مسائل الخلاف. والصحيح -والله أعلم- أن ليس [بين الآيتين] (¬5) نسخ ولا تعارض؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم النضير بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار منهم أبو دجانة، والحارث بن الصمت, وسهل بن حنيف، وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجميع المهاجرين لحاجتهم [ومسكنهم] (¬6) وخروجهم من ديارهم وتركهم لأموالهم، ولتخف مؤونتهم عن الأنصار. ولم يقسم للأنصار فيها شيئًا إلا الثلاثة المذكورين لحاجتهم ومسكنتهم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة الأنفال الآية (41). (¬3) سورة الحشر الآية (6). (¬4) سورة الحشر الآية (10). (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

ولم يخمسها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها أخذت بغير قتال، ولا أوجف عليها. وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر [وقريظة] وفدك؛ فدل ذلك على أن القسمة جائزة، وأن النسخ بين الآيتين غير صحيح. وقال عمر -رضي الله عنه- (لولا من يأتي لم أدع قرية افتتحت عنوة إلا قسمتها كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر) (¬1). فأخبر عمر -رضي الله عنه- أنه إنما ترك قسمتها باجتهاده وليس بمنع [من] (¬2) النبى - صلى الله عليه وسلم - ولا بنص، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4235). (¬2) سقط من أ.

المسألة الرابعة في الحربى إذا [أخذ]

المسألة الرابعة في الحربى إذا [أخذ] (¬1) فقال: جئتُ لأطلب الأمان (¬2) فقد وقع في الكتاب منها أسئلة وأجوبة، ظاهرها اختلاف واضطراب، ونحن نسردها على حسب ما هي [عليه] (¬3) في الأم. ولقد سئل مالك عن الرجل [الحربى] (¬4) يلقاه المسلمون فيقول: إنما جئت أطلب [الأمان] (¬5)، فيقال: [كذبت ولكنا] (¬6) حين أخذناك اعتللت بهذا. قال مالك: وما يدريهم هذه أمور مشكلة، و [أرى] (¬7) أن يرد إلى مأمنه. ثم قال بعد ذلك: أرأيت الرومى يحل بساحلنا فينزل بغير أن يعطى أمانًا، فيقول: ظننت أنكم لا تعرضون لمن جاء لتجارة حتى يبيع. قال: سمعت مالكًا سأله أهل المصيصة، فقالوا: إنا نخرج في بلادنا ونلق العلج مقبلًا إلينا، فإذا أخذناه قال: إنما جئت أطلب الأمان؟ قال مالك: هذه أمور مشكلة، وأنا أرى أن يرد إلى مأمنه، فأرى هؤلاء إما قبلت منهم ما قالوا، وإما رددتهم إلى مأمنهم أيضًا. وروى ابن وهب عن مالك في قوم من العدو يخرجون بغير إذن الإِمام ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) انظر: "المدونة" (3/ 41 - 42) و"النوادر" (3/ 124). (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: من الروم. (¬5) ساقطة من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: ما يرى.

على ضفة البحر في أرض المسلمين فيزعمون أنهم تجار، وأن البحر لفظهم تعبًا ولا يعرف المسلمون تصديق ذلك إلا أن مراكبهم تكسرت ومعهم السلاح ويشكون العطش الشديد فينزلون للماء بغير إذن إمام المسلمين؟ قال مالك: ذلك للإمام يرى فيهم رأيه، ولا أرى لمن أخذهم فيه [خمسًا ولا دال ولا غيره] (¬1)، ولا يكون الخمس إلا فيما أوجف عليه بالخيل والركاب. ولم يبين في سؤال الملاقاة هل ذلك في بلاد الحرب أو في بلاد المسلمين، ولم يبين أيضًا في السؤال الأول في البحر هل كان معهم السلاح أم لا ولا يبين في السؤال الثاني هل كانت معهم تجارة أم لا؛ فطاشت أحلام ذوي الألباب في تحصيل هذا الباب. والذي يحصره ثلاثة أوجه: أحدها: أن يظهر [معهم] (¬2) دليل التصديق. والثاني: عكسه. والثالث: أن يجهل أمرهم. فالجواب عن الوجه الأول: وهو أن يؤخذوا ومعهم دلائل التصديق؛ مثل أن يلقى [العلج] (¬3) يدعي أنه رسول بعث لأمر بين المسلمين والروم، ومعه مكاتبة [بعثه بها الأمير] (¬4)، أو قال: جئت للفداء، وله في بلاد المسلمين ما يفدي، أو له في بلاد المسلمين قرابة: فإنه يقبل قوله. وكذلك من وجد منهم على السواحل وزعموا أنهم تجار ومعهم التجارة ¬

_ (¬1) في ب: لمن أخذهم فيه خمس ولا غيرهم. (¬2) في أ: عليهم. (¬3) في الأصل: العجل. (¬4) سقط من أ.

التي [من] (¬1) العادة السفر بها إلى بلاد المسلمين: يصدقون ولا يستباحون. والجواب عن الوجه الثاني: إذا ظهر منهم دليل التكذيب؛ مثل أن يدعي أنه رسول، ولا مكاتبة معه وليس مثله يُرْسَل، أو لم يكن له من يفديه ولا قرابة [له] (¬2) في بلاد المسلمين، أو لم تكن عادته السفر إليها أول لا متاجر معهم ومعهم السلاح: فهم فيء ويرى فيهم الإِمام رأيه. والجواب عن الوجه الثالث: إذا أشكل أمرهم وجهلت حالتهم، ولا ظهرت معهم دلائل التصديق ولا دلائل التكذيب: فلا يخلو العلج عن أن يؤخذ ببلاد العدو، أو في بلاد الإِسلام. فإن أخذ ببلاد الكفار وهو مقبل إلينا، فقال: جئت أطلب الأمان، هل يقبل قوله أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يستباح ويرد إلى مأمنه، ولا يكون فيئًا، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أنه يكون فيئًا [ويستباح ولا يقبل قوله] (¬3) وهو قول أشهب في "مدونته". فوجه قول مالك: بأن ذلك أمر مشكوك فيه فلا [يستباح] (¬4) إلا بيقين، والترك أحسن. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: يقبل عليه.

ووجه قول أشهب: أن هذا مشرك أخذ بوجه غلبة بلا عهد [ولا أمان] (¬1) فيجوز استرقاقه؛ كما لو أخذ في المعترك. وإن أخذ بعد أن دخل بلاد الإسلام: فاختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أنه يكون [فيئًا] (¬2) ويرى فيه الإِمام رأيه إلا أن يكون جاسوسًا فيقتل سواء أخذ بحدثان قدومه أو بعد طول، وهو قول سحنون. والثاني: التفصيل بين أن يؤخذ بفور قدومه: فيرد إلى مأمنه. وإن أخذ بعد طول مكثه في البلد ولم يشعر به: فهو فيء، ويرى فيه الإمام رأيه ولا يكون لمن [وجده] (¬3)، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في "العتبية" (¬4). ومعنى قوله: (يرى [فيه] (¬5) الإِمام رأيه): بأن يخير فيه كما يخير في الأساري. وقول سحنون في هذه المسألة كقول أشهب في التي [قبلها] (¬6) والتوجيه واحد. وتفريق ابن القاسم بين القرب والبعد: أنه إذا كان بالقرب كان كالأول، وإذا كان بالبعد كان دليلًا على تكذيبه. وهكذا الحكم في أهل المراكب أيضًا إذا أشكل علينا أمرهم، وهم ممن يختلف إلينا بالتجارة، ولم يدر أكانت [معهم] (¬7) متاجر أم لا؟ أو كانت ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) ساقطة من أ. (¬3) في أ: أخذه. (¬4) البيان والتحصيل (2/ 603). (¬5) ساقطة من الأصل. (¬6) في أ: فوقها. (¬7) سقط من أ.

معهم متاجر وخيف أن [يظهروا بالتجارة] (¬1) خديعة ومكرًا واصطيادًا لغفلة المسلمين، وهذا مما يجري فيه قولان أيضًا، والصحيح من الأقوال أن المسلمين إذا استنكروا أحوال من قدم إليهم من البحر بتجارة من أهل الحرب وتوجس في قلوبهم الخوف منهم، ولاسيما [إن كان] (¬2) نزولهم في موضع [يستضعفونه] (¬3) من بلاد الإِسلام: أن الإِمام يرى فيهم رأيه، ولا ينبغي للمسلمين أن يقبلوا لهم قولًا؛ لأن ذلك أخذ بالحزم في حماية [بيضة] (¬4) الإسلام. وقول يحيي بن سعيد وربيعة في المدونة وفاق للمذهب وقول ربيعة هو نص قول سحنون في كتاب ابنه فإذا نزلوا بأمان فباعوا واشتروا [ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم] (¬5)، فهل لهم الأمان حتى يردوا بلادهم [أو حتى يقربوا مأمنهم؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة أحدهما: أن لهم الأمان حتى يردوا بلادهم] (¬6) وهو نص "المدونة". والثاني: أن لهم الأمان حتى يقربوا [بلادهم] (¬7) ويبعدوا من بلاد الإِسلام، فمن أخذهم [حينئذ] (¬8) من المسلمين من أهل مملكة السلطان الذي أمنهم، أو من غير أهل مملكته: فهم حلال له، وعليه فيهم الخمس. وهو قول عبد الملك في "الواضحة" وظاهر "المدونة" في الحربى إذا أخذ ¬

_ (¬1) في أ: يظهروها. (¬2) سقط من اْ. (¬3) في ب: يستطلعونه. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: ساعتئذ.

ببلاد الإسلام [بوجه] (¬1) مشكل؛ حيث قال: "يرد إلى مأمنه"، ولم يقل حتى يصل إلى بلاده، فإن رجعوا بعد بلوغهم مأمنهم اختيارًا أو اضطرارًا، هل يستباحون أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم حِلٌ لمن أخذهم، وهو قول عبد الملك (¬2). والثاني: أنهم لا يكونون فيئًا، والإمام يرى فيهم رأيه إن شاء أنزلهم وإن شاء ردهم، وهم على مأمنهم حتى يصلوا بلادهم. وهو ظاهر قول مالك في المدونة على إحدى الروايتين أن لهم الأمان ما داموا في بحرهم بالباء، وفي رواية أخرى: ما داموا في تجرهم بالتاء فوقها نقطتين. والثالث: التفصيل بين أن يرجعوا مغلوبين أو مختارين. فإن رجعوا مغلوبين: كان الإمام فيهم مخيرًا. وإن رجعوا مختارين: فهم [على] (¬3) حل، وهو ظاهر المدونة أيضًا لأنهم إن رجعوا غلبة كانوا على الأمان الأول، وإن رجعوا اختيارًا [كانوا] (¬4) كابتداء سفر [آخر فلا يدخلون إلا بأمان] (¬5)، فإذا رجعوا ووقعوا عند غير الإِمام الذي أمنهم، هل يستباحون أو يستصحب معهم ذلك الأمان حيث ما حلوا في بلاد المسلمين؟ ¬

_ (¬1) في ب: فهذا أمر. (¬2) النوادر (3/ 127). (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: كان. (¬5) سقط من أ.

[فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهم على ذلك الأمان الذي أمنهم حيث ما حلوا في بلاد المسلمين] (¬1) ما داموا في تجرهم أو في بحرهم، على اختلاف الروايتين، وهو نص المدونة. والثاني: أنهم لا أمان لهم من غير ذلك السلطان. سواء وقعوا عنده أو لقيهم في البحر بقرب أو بعد وهو قول عبد الملك في "الواضحة". فوجه قول ابن القاسم: أنهم على الأمان [الأول] (¬2) ما داموا في بلاد الإسلام؛ لقوله عليه السلام: "يجير على المسلمين أدناهم" (¬3). فإذا كان أمان العبد والمرأة والصبي [المراهق] (¬4) [يحصن] (¬5) دم الكفار ويمنع من [استحلاله] (¬6)، فما ظنك بأمان السلطان الذي له الأمر والنهي والحل والعقد، وكان أمانه لازمًا لجميع الأنام لاتحاد حرمة [الإسلام] (¬7) وسنة الله في أرضه واحدة، ولن تجد لسنة الله تبديلًا. وعبد الملك يرى أن نظر هذا السلطان لا يلزم غيره من السلاطين؛ إذ كل واحد مستقل بأمره ومشتغل بمصالح دولته وينسج بحسن نظره في حله وعقده، وعلى الاستقلال عقدت له الولاية وسلمت له الرياسة، وكيف يرجع إلى رأى غيره، ويعتد بالعقد الذي عقد غيره، ولكل وجه من النظر [والأول أظهر والله أعلم والحمد لله وحده] (¬8). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه أبو داود (2751) وابن ماجه (2685) وأحمد (6758). وهو حديث صحيح. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: يحقن. (¬6) في ب: استباحته. (¬7) في أ: الإِمام. (¬8) سقط من أ.

المسألة الخامسة فيما يوجد من الغنائم من أموال المسلمين وأموال أهل الذمة

المسألة الخامسة فيما يوجد من الغنائم من أموال المسلمين وأموال أهل الذمة وما يوجد فيها من أحرار المسلمين وأحرار أهل الذمة (¬1). ولا يخلو ذلك المال من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعلم أنه لمسلم بعينه. الثاني: أنه لمسلم مجهول العين والموضع. والثالث: أنه لا يدري هل هو لمسلم أم لا؟ فالجواب عن الوجه الأول: [إذا علم أنه لمسلم بعينه. فلا يخلو من أن يكون حاضرًا أو غائبًا. فإن كان حاضرًا دفع إليه بغير عوض. وإن كان غائبًا فلا يخلو من أن يكون مما يحتاج نقله إلى كلفة ومؤنة أم لا؟. فإن كان مما يحتاج إلى كلفة ومؤنة وربما يأتي الكراء على كثير من ثمنه فإن الإِمام يبيعه ويبعث إليه ثمنه إن كان ذلك الشيء مما يجوز بيعه. وإن كان لا يحتاج فيه إلى كلفة وكان الكراء عليه أفضل لصاحبه فإن الإِمام يكرى عليه ويوصله إلى ربه إلا ألّا يوجد من يتكلف ذلك فيباع ويبعث إليه بثمنه] (¬2). وأما الوجه الثاني: إذا عرف أنه لمسلم لا يعرف بعينه ولا يعلم موضعه هل يتعجل قسمته أم لا؟. فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يقسم ولا يوقف وهو نص مالك في كتاب الجهاد من المدونة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "المدونة" (3/ 12). (¬2) سقط من أ، جـ. (¬3) (3/ 13).

والثاني: لا يقسم ويوقف كاللقطة توجد أو كالضالة توقف لرجاء معرفة [ربها] (¬1). فإن لم يعرف بيع ويصير مغنمًا وهو قول ابن المواز وهو ظاهر المدونة في "كتاب اللقطة". وينبني الخلاف: على الخلاف في الخلاف هل يراعى أو لا يراعى؟ فمن رأى أنه يراعى قال: إنه يقسم؛ لأن الأوزاعي [- رضي الله عنه -] (¬2) يقول: يقسم وإن عرف صاحبه وكان حاضرًا. ومن قال بالاستثناء فقد لاحظ جانبين جانب الخلاف وجانب اللقطة. وينبني الخلاف فيه أيضًا على الخلاف فيما حازه المشركون من أموال المسلمين هل يقطع ملك المسلمين أم لا؟ وقد اضطرب فيه المذهب عندنا؛ فمرة قال -أعني صاحب المذهب- لا يقطع الملك، وأنه إن أدرك شيئه قبل القسمة فهو أحق به بغير شيء. وإن أدركه بعد القسمة فهو أحق به بالثمن ما لم يفوته المشتري على ما سنبينه إن شاء الله تعالى. والذي يقتضيه النظر: أن يكون أحق به بغير ثمن، سواء أدركه قبل القسمة أو بعدها لولا الحديث وما اشتهر من ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أخذها المشركون في سرح المدينة يدل على أن استيلاء المشركين لا يقطع ملك المسلمين؛ لأن استيلاءهم محظور، وأسباب المحظورات لا [تترك] (¬3) عليها أحكام الشريعة، وهذا نص المدونة ¬

_ (¬1) في ب: صاحبها. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: تتركب.

وغيرها. ومرة قال: إن استيلاءهم يقطع الملك، وهو ظاهر قوله في "المدونة" (¬1): (إذا أسلم [الحربى] (¬2) ببلده ثم قدم إلينا وخلف أهله و [ولده] (¬3) في دار الحرب، ثم غار المسلمون على تلك الدار فغنموا أهله وماله وولده: أن ذلك كله يكون فيئًا). وهذا فيه بناء على أن حوز المشركين يقطع الملك، فإذا جعل حوز الدار [يقطع الملك] (¬4) فبأن يقطعه حوز أهل الدار أولى وأحرى، وهذا ظاهر لمن أنصف وتأمل وصفًا كما وصف. والجواب عن [الوجه] (¬5) الثالث: إذا جعل حاله ولا يدري هل هو لمسلم أم لا؟ فهذا لا خلاف -أعلمه- في المذهب أنه يجوز الإقدام على قسمته. فإذا قسمت الغنيمة، ثم جاء من يستحق منها شيئًا بعد القسمة: فلا يخلو المُسْتَحَق منها من أن يكون عروضًا، أو حيوانًا ناطقًا أو صامتًا. فإن كان عروضًا، أو حيوانًا صامتًا: فلا يخلو من أن يكون قائمًا بيده أو فائتًا ببيع. فإن كان قائمًا بيده: فالخيار لربه إن شاء أخذه بالثمن الذي أخذه به [من الغنيمة] (¬6) -شاء مشتريه أو أبى، كان من أهل المغنم أو من غيرهم- وإن ¬

_ (¬1) (4/ 304). (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: ماله. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

شاء تركه [وسلمه] (¬1) لمن أخذه من المغنم. فإن فوته ببيع؟ هل يبقى الخيار لمستحقه في نقض البيع وأخذه بالثمن أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أن ذلك فوت وليس له إلى فسخ البيع الثاني سبيل، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬2) فيما إذا اشتراه من أرض الحرب ثم باعه لغيره بعد قدومه به، أو قتل ثم استحقه [مالكه] (¬3) أنه لا يأخذه [من] (¬4) الثاني. ولا فرق بين أن يشتريه من دار الحرب أو من المغنم، ثم للمستحق أن يأخذ الزائد من المشتري الأول إن باعه بربح. وإن باعه بوضيعة أو بمثل الثمن: فلا درك للمستحق عليه. و [القول] (¬5) الثاني: أن بيعه لا يكون فوتًا وإن تداولته الأملاك لأنه مستحق [له] (¬6) على الحقيقة وإن كان يدفع الثمن وهو قول المغيرة في المدونة أيضًا. وعلى القول بأن البيع الثاني لا يفيت الأول ويبقى الخيار لمستحقه هل له الخيار في أن يأخذ [أي] الثمنين شاء أو لا خيار له في الثمن الآخر؟ قولان قائمان من المدونة. ¬

_ (¬1) في أ: وسلم. (¬2) (3/ 14). (¬3) في ب: سيده. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

أحدهما: أنه مخير في أن يأخذ أي الثمنين شاء -الأول أو الثاني- كالشفعة، وهو ظاهر قول المغيرة في كتاب "الجهاد". وقول ابن القاسم في كتاب "الشفعة" في تخيير الشفيع بأن يأخذ أيّ الصفقتين شاء، وهو بيع جبري مضارع للاستحقاق. واستحقاق ما وقع في المقاسم استحقاق على الحقيقة لبقائه على ملك المستحق وإن كان يؤدي [فيه] (¬1) الثمن فإن ذلك قضية من الشارع. و [القول] (¬2) الثاني: أنه لا يأخذه إلا بالثمن الأول الذي بيع به في المقاسم؛ لأنه إذا جاز بيعه وأراد أخذه من المشتري الثاني سقط حقه فيه بإجازة البيع الأول بخلاف الشفعة؛ لأنه إذا أسلم فيه إحدى الصفقتين بعينها كان له الأخذ بالباقية لأنه شريك في الجميع. والقولان لابن القاسم في كتاب ابن حبيب وغيره، وبالقول الثاني أخذ سحنون. واختلف إذا علم أنه لرجل من المسلمين بعينه، فجهل الإمام [موضعه] (¬3) فوضعه في المقاسم، أو تأول، أو تعمد فبيع ثم جاء ربه هل يأخذه بغير [ثمن] (¬4) أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يأخذ [عين] (¬5) شيئه بغير ثمن كما لو أدركه قبل القسم، ويرجع مشتريه في المقاسم إن أدركها. وهو قول ابن القاسم في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: شيء. (¬5) سقط من أ.

كتاب ابن سحنون. والثاني: أنه لا يأخذه إلا بالثمن، وهي قضيته من الحاكم وافقت اختلافًا من الناس، فقد قال الأوزاعي: إنه يقسم وإن [عرف] (¬1) ربه ولا يأخذه إلا بالثمن، وهو قول سحنون. وإن كان المستحق دنانير أو دراهم: فلا سبيل [لصاحبها] (¬2) إليها بعد القسم لأنه لا يأخذها إلا [بثمنها] (¬3) وإن كان حيوانًا ناطقًا؛ مثل العبيد يُستحقون بعد القسم: فلا يخلو السيد المستحق من أن يكون عقد فيهم عقدًا من عقود الحرية قبل الأسر أم لا؟ فإن عقد فيهم عقدًا من كتابة، أو عتق إلى أجل، أو تدبيرًا، أو إيلادًا إن كانت أمة. [أما الكتابة] (¬4) فلا يخلو المكاتب من أن يعرف أنه مكاتب ولا يعرف ربه بعينه، أو لا يعرف ربه إلا بعد القسم. فإن عرف أنه مكاتب قبل القسم؛ مثل أن يشهد شاهدان على شهادة غيرهما ممن يجوز له النقل عنهما أن مولاه كاتبه فلم يسألاه عق اسمه، أو قالا: ذكره لنا فنسيناه: فإن كتابته تباع في القسم، فإن جاء ربه: كان له [الخيار بين] (¬5) الفداء أو التسليم. ولا تجوز فيه شهادة السماع وإن لم يعرف إلا بعد القسم ثم جاء سيده [بما يستحقه] (¬6): فقد اختلف المذهب في [كيفية] (¬7) تخيير [السيد في ¬

_ (¬1) في أ: عرفه. (¬2) في أ: له. (¬3) في أ: بمثلها. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

الفداء أو] (¬1) التسليم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ينظر إلى المكاتب أولًا، فإن قدر على غرم ما بيع به في المقاسم ويعود مكاتبًا إلى سيده فعل، وإلا فقد عجز، ويخيره بين أن يسلمه عبدًا أو يفديه بما ذكرنا [كالجناية] (¬2) وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن سحنون، وهو ظاهر قوله في كتاب الجنايات من "المدونة". والثاني: أنه يبدأ بالسيد؛ فإن فداه: بقى له مكاتبًا، وإن أسلمه: قيل للمكاتب أما أديت صرت فيه لهذا، وتمضي على كتابتك. وإن لم يقدر: فهو كمكاتب عليه دين فأفلس به: فإنه يعجز، وهو قول ابن سحنون. والثالث: أنه يخير سيده بين أن يفديه بالثمن ويبقى مكاتبًا له، وإلا أسلمه فصار عند مبتاعه مكاتبًا إن عجز فهو رق له، وإن [أدى] (¬3): عتق، وكان ولاؤه لعاقد الكتابة. والقولان لسحنون في كتاب ابنه، على ما نقل الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في "النوادر" (¬4). وكذلك لو فداه رجل من دار الحرب أو ابتاعه منه فهو -كما ذكرنا- إذا وقع في المقاسم على قول ابن القاسم، واختلاف قول سحنون. وأما المدبر إذا علم أنه مدبر بما يعلم به المكاتب: فلا يقسم. فإن لم يعلم أنه مدبر حتى قسم أو فداه رجل من دار الحرب: فسيده مخير بين أن يفديه بما وقع به في المقاسم أو ما اشتراه به من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: في الجناية. (¬3) في أ: فدى. (¬4) انظر: "النوادر" (3/ 144).

دار الحرب، أو يسلمه. فإن فداه السيد: استخدمه حتى يموت السيد أو يعتق من ثلثه ولا يتبع بشيء [مما] (¬1) فداه وإن مات السيد من فوره؛ لأنه إنما أفدى الخدمة لا الرقبة [كجناية] (¬2) سواء. وان أسلم السيد خدمته إلى الذي فداه: فإنه يستخدمه بما فداه به، فإن استوفى والسيد حي: رجع إليه، وإن مات [السيد قبل أن يستوفي] (¬3) والثلث يحمله: فإنه يخرج حرًا. وهل يتبع بما بقى عليه مما فدى به أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يتبع به جملة سواء اشتراه من المغنم أو من أهل الحرب. وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن سحنون. [والثاني: أنه لا يتبع بشيء مما بقى عليه وهو نص ابن القاسم في المعتق إلى أجل والمدبر مثله - قال بعضهم: وهو أصل قول مالك وهو رأيه برواية أبي زيد بن أبي العمر عن ابن القاسم في "ثمانيته"] (¬4). والثالث: التفصيل بين أن يشتريه من [المقاسم] (¬5) [أو من أرض الحرب. فإن اشتراه من المقاسم] (¬6) فلا يتبعه بشيء [كالحر] (¬7)، وإن ¬

_ (¬1) في ب: من. (¬2) في ب: كجنايته. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. والمثبت من ب. (¬5) في ب: المغنم. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

اشتراه من [أهل] (¬1) الحرب: أتبعه بما بقى [عليه] (¬2) مما فداه به. وهو قول عبد الملك في "الموازية" و"الواضحة". وهذا كله إذا حمله الثلث كله، وإن [لم] (¬3) يحمله الثلث كله: فالحكم فيما حمله الثلث كالحكم إذا حمل جميعه. وسبب الخلاف: هل يقاس ما فدى به على الجناية أم لا؟ فمن جوز القياس قال: يتبع؛ لأنه مجبور على الإخدام في كلا الموضعين. ومن منع القياس فرق بين الحالتين؛ وذلك أن الجناية من فعل نفسه، والشارع يقول: العبد فيما جنى، فكان الأصل يقتضي أن يكون العبد ملكًا لأهل الجناية بنفس اقترافه لهذه الجناية [لكن الشارح] (¬4) لاحظ حق السيد وجعل له الخيار بين الفداء أو التسليم، وقدم حقه على حق [أولياء] (¬5) الجناية فيما لم تكن جناية عمد فيها بنفسه على ما سنوضحه في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى. وأما المعتق إلى أجل يشتري من المغنم أو من أرض العدو: فالكلام فيه كالكلام في المدبر سواء. فإن علم أنه معتق إلى أجل: وقفت خدمته لسيده ولا تدخل في المقاسم. وإن لم يعلم حتى قسم ثم جاء سيده واستحقه: فله الخيار بين أن يفديه ¬

_ (¬1) في ب: أرض. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: أهل.

أو يسلمه. فإن فداه: اختدمه حتى يحل الأجل ثم يخرج حرًا، ولا يتبع بشيء اتفاقًا. وإن أسلمه إلى الذي اشتراه من المقاسم أو من العدو: فإنه يختدمه حتى يحل الأجل، فإذا حل الأجل فينظر، فإن استوفى من الخدمة ما اشتراه به: خرج حرًا ولا يتبع بشيء اتفاقًا. وإن حل الأجل ولم يستوف، هل يتبعه بما بقى له أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال على حسب ما حكيناه في المدبر هل يتبع أو لا يتبع، والتفصيل بين أن يُشترى من المغنم أو من دار الحرب. فلو أعتقه من صار في سهمه: فلا يخلو من أن يكون عالمًا أو لا. فإن أعتقه ولم يعلم بأنه معتق [إلى أجل لم يجز عتقه. وإن أعتقه وقد علم بأنه معتق إلى أجل فهل يمضي عتقه أم لا؟. فالمذهب على قولين: أحدهما] (¬1): أن عتقه لا يجوز ويبقى على حاله جملة، وهو قول حكاه ابن سحنون عن بعض أهل المذهب. والثاني: التفصيل بين أن يكون ما اشتراه به أكثر من قيمة خدمته: فيمضي عتقه، أو يكون أقل: فلا [يجوز] (¬2) عتقه، وهو قول سحنون في كتاب ابنه. وقد سكت عن المثل ولم يذكر حكمه إذا كان ما اشتراه به مثل قيمة الخدمة، والذي يوجب النظر على مقتضى مذهبه: ألا يجوز عتقه أيضًا ولا ينفذ؛ لأن العلة التي اعتبرناها معدومة في هذا الوجه كما هي معدومة إذا كان أقل؛ لأنه إذا كان ما اشتراه به أكثر من قيمة الخدمة فكأنه ملك من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يجزئ.

رقبة العبد القدر الزائد على الخدمة، والله أعلم. وأما الإيلاد: فإذا غنم المشركون أمّ ولد لرجل: فلا يخلو من أن [يغنموها] (¬1) بعد الإيلاد، أو بعد الوطء وقبل الإيلاد. فإن غنموها بعد الإيلاد ثم اشتراها رجل من الغنائم أو من أهل الحرب: فلا خلاف أن سيدها مجبور على الفداء، وإن كان [مالك] قد قال في "الموطأ": (إن السلطان يفتديها له، وذلك مع العدل وصلاح الحال؛ لأن أمّ الولد معدة للاستمتاع وفراش للوقاع فأشبهت الحرائر [اللواتي] (¬2) يجب على السلطان فداؤهن وسائر أحرار المسلمين من بيت المال فجعل مالك السلطان يبدى على السيد في الفداء وإن كان مليًا. وإنما اختلف أصحاب مالك هل يعيدها بالثمن ما بلغ [أو بالأقل على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن على السيد أن يفديها بالثمن الذي أخذها به] (¬3) وإن كان أكثر من القيمة، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة"، ونص روايته [عن مالك] (¬4) في كتاب ابن سحنون وكتاب ابن المواز. والثاني: أن على السيد الأقل من قيمتها أو الثمن الذي أخذها به [المشتري] (¬5)، وهو قول أشهب والمغيرة وعبد الملك في الكتابين المذكورين. ويؤخذ [هذا القول] (¬6) لابن القاسم من "المدونة" في "كتاب ¬

_ (¬1) في أ: يغنمها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

الجناية" (¬1) في جناية أم الولد حيث قال: أحسن ما سمعت في جناية أم الولد أن سيدها يفديها بالأقل من قيمتها أو من أرش جنايتها، فإذا كان عليه الأقل في الجناية التي هي فعلها، فبأن يكون عليه في فدائها من الغنائم أولي [وأحرى] (¬2). فوجه القول باعتبار الثمن ما بلغ في الفداء، أما إن أمرناه بدفع الأقل، و [تكون] (¬3) القيمة هي الأقل أدى ذلك إلى الإضرار بالمشتري من كون المشتري أخذ من يده بدون الثمن الذي دفع فيه فصار مضارًا [من] (¬4) الوجهين بخلاف الجناية لأنه إذا أخذ [فيه] (¬5) الأرش وكان هو الأقل: لم يظلم لكونه أخذ أرش جنايته. فإن أخذ القيمة وكانت هي الأقل: لم يظلم [أيضًا] (¬6) لكونها عوضًا من عين أم الولد؛ إذ لا يجوز إسلامها [فيما جنت] (¬7). ووجه القول الثاني: ما أشرنا إليه من باب [الأولوية والأخروية] (¬8) أن الذي يقتضيه الدليل في فصل الأسر أن يأخذها سيدها بلا ثمن؛ جريًا على سنن الاستحقاق، ومتى عهد في الشريعة أن من استحق عين شيئه وقد أخذ من ملكه بغير اختياره أنه لا يأخذه حتى يؤدي [فيه] (¬9) ثمنًا، ولولا ما أحكمته السنة وأوجبته الشريعة المحمدية فيمن أدرك شيئه بعد القسم أنه ¬

_ (¬1) "المدونة" (16/ 362). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: في. (¬5) في ب: قيمة. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من ب. (¬8) في أ: الأولية. (¬9) سقط من أ.

يكون أحق به بالثمن لكان لمستحقه أن يأخذه بغير ثمن، فوجب أن يركب على كل شائبة مقتضاها. فإن كان السيد معسرًا: فإنه يأخذها ويتبع في الذمة. وإن مات قبل أن يحكم عليه بقيمتها: فإنها تخرج حرة ولا شىء عليها [ولا على الورثة. أما هي فلا شيء عليها] (¬1) لأن ذلك ليس من فعلها بخلاف الجناية التي هي فعلها، والورثة لا شيء عليهم لأنهم يؤدون عما لا ينتفعون به. فرع: ولو صارت في سهم رجل بمائتي [درهم] (¬2)، ثم سبيت ثانية [فَتُغْنَم] (¬3) فيصير في سهم آخر بمائة، ثم سبيت ثالثة فَتُغْنَم فتصير في سهم آخر بخمسين [فسيدها] (¬4) أولى [بها] (¬5) يأخذها بالأكثر، وهو مائتان؛ يأخذ [منها] (¬6) من هي في يده خمسين، والذي قبله مائة، وما بقى فللأول وهو ثالثهم الذي وقعت في سهمه أولًا. ولو كانت في سهم الأول بخمسين والثاني بمائة والثالث بمائتين: أخذها السيد من الثالث بمائتين، وسقط الأول، والثاني، وهو قول سحنون في كتاب ابنه. واختلف قوله: إذا كانت أمته غير أمّ ولد؛ [فمرة قال] (¬7) فالذي فداها آخرًا بخمسين أحق بها، والثاني [فداها] (¬8) منه بخمسين، ثم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: دينار. (¬3) في ب: ثم غنمت. (¬4) في الأصل: فسيده. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: فُديت.

[كان] (¬1) للأول أن يفديها بمائة [دون سيدها] (¬2)، ثم لسيدها فداؤها من هذا -وهو الأول- بمائتين فقط. ولو أسلمها الأولان إلى الثالث لكان لربها [فداؤها منه بخمسين] (¬3). ثم رجع عما قال في الأمَة؛ فقال: حكمها حكم [أم] (¬4) الولد، فلو أعتقها من صارت في سهمه: فلا يخلو من أحد وجهين: إما أن يعلم أنها أم ولد لمسلم، أم لا. فإن علم أنها أم ولد [لمسلم فذلك وضعٌ] (¬5) للقيمة عن السيد، ولسيدها أخذها منه [بلا ثمن] (¬6) ويبطل العتق. فإن لم يعلم: فعلى سيدها غرم ما فداها به ويبطل العتق. ولو أولدها الذي فداها من المغنم: لأخذها سيدها بالثمن ورجع على المشتري بقيمة الولد. وأما الوجه الثاني: إذا سبيت بعد الوطء ثم غنمت ومعها ولد: فلا يخلو من أن توطأ بدار الحرب بعد السبى، أم لا. فإن لم توطأ بدار الحرب، وادْعت أن الولد من وطء سيدها: فلا يخلو السيد من أن يدْعي الاستبراء، أو لا يدعيه. فإن ادَّعى الاستبراء: لم تلحق به أم الولد، ويأخذها السيد بما وقعت به في المقاسم. وهل يأخذ الولد [معها] (¬7) أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: بثلاثين. (¬7) سقط من أ.

على قولين: أحدهما: أنه يأخذ الولد [معها] (¬1)، وهو قول ابن القاسم على ما حكاه [عنه] (¬2) سحنون في كتاب ابنه. والثاني: أن الولد فيء ويخير في فدائها متى أن بيعت وتباع مع ولدها [لمالك واحد] (¬3)، وهو قول أشهب. فإن لم يَدَّع الاستبراء، وثبت أنها ولدته منه: فإن الولد به لاحق ونسبه منه ثابت ويأخذهما بعد القسم بالثمن وقبله بغير ثمن، ويجبر على أن يفديهما. وقال أشهب: لا شيء عليه في الولد؛ لأنه حر لا فائدة فيه في المقاسم بخلاف مفاداته من العدو، وهو قول أشهب [على] (¬4) قول سحنون، والله أعلم. فإن وطئت بعد السبى ثم ولد: فلا تخلو من أن يغنمها المسلمون أو يقدم بها الواطئ و [أسلم] (¬5) عليها. فإن غنمها المسلمون ثم أفداها سيدها ومعها ولد، فإن ثبت أنه وطئها بعد أمد يكون فيه استبراء أو جهل وثبت الوطء: فالولد غير لاحق بالسيد ويكون فيئًا من جملة الغنيمة. وإن قدم بها الواطئ [فأسلم عليها، فإن ثبت أن الكافر وطئها بعد زمان يكون في مثله الاستبراء: لحق الولد به، والأمة أمّ ولده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: موافق. (¬5) في ب: يسلم.

فإن وطئها في طهر [واحد] (¬1) فوضعت بما يشبه أن يكون من وطئهما جميعًا: دُعى له القافة (¬2)، فإن ألحقوه بالمسلم لحق به، وجرى فيها حكم أمّ الولد، وإن ألحقوه بالحربى: لحق به، ولا شيء عليه فيها؛ كمن أسلم على عبد بيده لمسلم: فإنه يكون له، ولا شيء عليه فيه. فإن قالت القافة: اشتركا فيه: فقولان: أحدهما: أنهما شريكان فيه، ويوالي [إذا كبر] (¬3) أيهما شاء. قول ابن القاسم في المدونة وغيرها. والثاني: أنه يدعي إلى قافة [[غيرها] (¬4)] (¬5) [أبدًا] (¬6) حتى تلحقه بواحد، وهو قول عبد الملك في كتاب ابن سحنون. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا لم يعقد فيهم عقدًا من عقود الحرية حتى أسرهم العدو ورقوا إليهم ثم غنمهم المسلمون [فوقفوا] (¬7) في المقاسم: فلا يخلو من أن يدركهم سيدهم قبل الفوت أو بعد الفوت. فإن أدركهم قبل أن يفوتهم من صاروا في سهمه: فلا يخلو من أن يكونوا سبوا مرة واحدة، أو مرارًا [مثل أن يسبى عبد لمسلم ثم غنم ثم سبى] (¬8). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) القائف: الذي يعرف الآثار، والجمع القافة، "لسان العرب" (9/ 293). (¬3) سقط من أ. (¬4) في الأصل: غيره. (¬5) في ب: غير هؤلاء. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: فيوقفون. (¬8) سقط من أ.

فإن أسبوا مرة واحدة: فسيدهم بالخيار بين أن يفديهم بالثمن الذي أخذوا به، أو يسلمهم. فإن سبوا مرارًا؛ مثل أن يسبى عبد [الرجل] (¬1)، ثم غنمه المسلمون فصار في سهم رجل، ثم سباه المشركون ثانية فتداولته الأملاك بالسبى والفكاك، فليس لأحد [فيه] (¬2) مقال [إلا] (¬3) الذي يسبى منه أولًا و [لا شيء] (¬4) للذي [يسبى] (¬5) منه آخرًا، إلا أن الذي يسبى، منه آخرًا أحق به من الأول إذا دفع إلى الذي من هو في يديه ما أخذه به من المقاسم. فإن أخذه: فربه الأول مخير؛ إن شاء أخذه بما وقع به في المقسم الثاني لا بما وقع في الأول؛ لأنه جاء ملك ثان أملك به من الأول، وهي رواية سحنون عن ابن القاسم في "العتبية"؛ مثل أن يبتاع رجل عبدًا من المغانم بمائة دينار، [فلم] (¬6) يعرف ربه حتى يسبى ثانية، فاشتراه رجل بخمسين، ثم قدم ربه: فالكلام له [ولا يدري من سبى منه آخرًا غير أن] (¬7) الذي يسبى منه آخرًا مقدم على الأول، ويأخذه إذا دفع إلى من هو في يديه ما وقع به في المقاسم، وهي خمسون، ثم إن شاء الأول الذي سبى منه أولًا أن يأخذه من المشتري الأول الذي فداه بخمسين من الثاني، فلا يأخذه حتى يعطيه مائة وخمسين؛ المائة: للذي اشتراه هو به من المغنم الأول، والخمسين: للذي فداه من الذي اشتراه من المغنم الثاني، إلا أن يشاء المالك الأول أن يدفع المائة للمشتري الأول، وخمسين للثاني فيأخذه بمائة وخمسين ¬

_ (¬1) في ب: لمسلم. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: سبى. (¬6) في ب: ولم. (¬7) سقط من أ.

كان ذلك له وإن أسلمه الأول إلى الثاني، [كان] (¬1) للمالك الأول أن يأخذه من الثاني بخمسين، وهكذا قال ابن المواز في كتابه. ولو ابتاعه الأول من الغنم بمائة ثم ابتاعه الثاني بخمسين من المغنم الثاني، ثم سبى ثالثة فغنم فابتاعه آخر بعشرة، ثم قام ربه الآخر: أن سيده الأول مقدم إن شاء فداه بأكثر الأثمان -وهو مائة- فيدفع عشرة للثالث، وخمسين للثاني وأربعين للأول. ولو كان البيع بعشرة، والثاني بخمسين، والثالث بمائة: فيأخذ الثالث المائة، ولا شيء لمن قبله، وهو قول أشهب في كتاب ابن سحنون. وهذا خلاف ما قاله ابن القاسم في المسألة الأولى، وخلاف لقول سحنون فيما إذا كان [الثالث] (¬2) أقلهم ثمنًا؛ وهو خمسون: أن الثاني مبدى على ربه، فيفديه منه بخمسين، ثم كان للأول أن يفديه منه بمائة دون سيده، ثم كان لسيده ما فداه من هذا، وهو الأولى بما فداه به، وهو مائتان فقط. ولو أسلمه الأولان للثالث لكان لربه أن يفديه منه بخمسين، وهذا قول سحنون في أَمَة غير أُمِّ الولد إذا سبيت. فيتحصل على ما في الأمهات من الخلاف وجملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن الذي اشترى منه آخرًا أحق بالفداء، سواء كان أقلهم ثمنًا، أو أكثر، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". والثاني: أن سيده الأول مقدم على كل حال من غير اعتبار بالمشتري الأول أن يكون أكثرهم ثمنًا، أو يكون أقلهم، وهو قول أشهب في كتاب ابن سحنون. ¬

_ (¬1) في أ: لأن. (¬2) سقط من أ.

و [القول] (¬1) الثالث: التفصيل بين أن يكون المشتري منه آخرًا هو أقلهم ثمنًا؛ فيبدي الفداء على الأول. وإن كان أكثرهم ثمنًا: فالأول هو المبدي. وهو قول سحنون في كتاب ابنه. فعلى القول بتبدئة المالك الأول اختلف بما يفديه به على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يفديه بالأكثر على الترتيب الذي ذكر أشهب. والثاني: أنه يفديه من الذي وقع عنده آخرًا بالثمن الذي أخذه به من المقاسم، وهو قول يحيى بن يحيى في كتاب ابن سحنون. والثالث: أنه لا يأخذه إلا بالثمنين جميعًا؛ مثل أن يُشترى من المغنم أولًا بمائة ثم سبى منه ثانية فاشترى بخمسين، فإن أراد الذي سبى منه أولًا أن يأخذه: فلا يأخذه حتى يدفع المائة للأول، والخمسين للثاني؛ وهو قول [ابن المواز] (¬2) في كتابه. ولو [سبق] (¬3) في رقبة العبد جناية قبل [الأسر] (¬4) ثم غنم وبيع في المقاسم، ثم جاء صاحبه فاختار الفداء، هل يفديه بالاكثر من الثمن، أو [أرش] (¬5) الجناية؟ قولان: أحدهما: أنه يفديه بالأكثر من الثمن الذي اشترى به من المغنم أو من أرش الجناية؛ فإن كان الأرش عشرين وثمنه في المقاسم عشرة: أخذ من صار له في القسمة عشرة وصاحب الجناية عشرة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ابن القاسم. (¬3) في ب: تبين. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

وإن كان الثمن عشرين والجناية عشرة: أخذ من هو بيده عشرين، ولا شيء لصاحب الجناية؛ كما لو سبى ثانية وغنم ففداه ربه بالأكثر، كما تقدم لأشهب، وهذا قول سحنون في كتاب ابنه، وجعل أرش الجناية كبعض الأثمان. و [القول] (¬1) الثاني: أنه إن شاء الفداء فإنه يفديه بما بيع به في المغانم، وبما في رقبته من الجناية، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز. فإن أسلمه المالك الأول هل يبدى المبتاع من المغنم على وليِّ الجناية، أو وليِّ الجناية هو المبدى: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المشتري من المغنم يقال له افده بما بيع به في المقاسم أو أسلمه؛ فإن فداه: كان رقًا له، وإن أسلمه: كان رقًا للذي اشتراه في المغنم، وهو قول ابن المواز. وأما المُدَبَّر يجنى [ثم يؤسر] (¬2): فحكمه حكم العبد على ما وصف؛ وذلك أن سيده مخير في أن يفدى خدمته إما بأكثر من أرش الجناية، أو ما وقع به في المقاسم. وإما بالأمرين جميعًا على الخلاف الذي قدمناه في فصل العبد [فإن أبي: فهل يبدى صاحب الجناية على من صار عنده من المغنم على الخلاف الذي قدمناه أيضًا] (¬3). فعلى القول بتبدئة الجناية يقال لأهله: افدوه بما وقع به في المقاسم، فإن فدوه اختدموه بذلك أولًا، ثم بالجناية آخرًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

فإن [أدى] (¬1) عاد مدبرًا إلى سيده. فإن مات [السيد] (¬2): فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يموت بعد أن أوفى العبد ما عليه. وإما أن يموت قبل الوفاء. [فإن مات بعد الوفاء فلا إشكال أن العبد يبرأ من الجناية. فإن حمله الثلث عتق وإلا عتق منه ما حمله الثلث وباقيه رقيق لورثته. وإن مات السيد قبل الوفاء والثلث يحمل العبد] (¬3) فإنه يكون حرًا، وينظر فإن وفي جميع ما [فداه] (¬4) به وبقيت الجناية أو بعضها: فإنه يتبع بما بقى من الجناية. وإن بقى شيء مما فدى به هل يتبع العبد بما بقى من الثمن مع الجناية أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يتبع بذلك، وهو قول سحنون في كتاب ابنه. والثاني: أنه لا يتبع بما بقى من الثمن، وهو قول عبد الملك، وهو ظاهر قول ابن القاسم في ثمانية أبي زيد؛ قياسًا على المعتق إلى أجل، فإن ابن القاسم قد نص عليه أنه لا يتبع. والقولان متأولان على المدونة. وإن مات [السيد] (¬5) قبل الوفاء ولم يحمله الثلث: فإنه يعتق منه ما حمل الثلث، [ورق] (¬6) ما بقى لأولياء الجناية، ولا خيار للورثة في فداء ¬

_ (¬1) في ب: أوفى. (¬2) في ب: سيده. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: فُدِىَ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: ويرق.

ما رق منه؛ لأن موروثهم قد سلمه أولًا، ثم يقسم عليه ما بقى من الفكاك من الجناية، فيتبع الجزء المعتق بما يقع من ذلك، وهو قول سحنون. فإن أسلمه أولياء الجناية: [أخدمه] (¬1) الذي صار له في السهمين في حقه، فإن وَفَّاهم والسيد حي: [أخدمه] (¬2) أولياء الجناية، فإن استوفوا والسيد حى: رجع إليه وخدمه، فإن مات السيد ولم يستوف من صار له في السهمين حقه وكان الثلث يحمله: عتق وأتبع بما بقى من الفداء وأتبعه أهل الجناية بجنايتهم لأن أهل الجناية إنما أسقطوا حقهم أولًا من الجناية. وإن لم يحمله الثلث عتق منه ما حمل الثلث ثم يقسم ما بقى بما بيع [به] (¬3) في المقاسم على ما رق منه وما عتق [ويتبع ما عتق منه ويبطل ما صار على الرقيق فيرق بما فيه لمن أخذه في القسم وتقسم الجناية أيضًا على ما رق منه وما عتق] (¬4) فيبطل ما قابل الرق منه لأنه صار للذي فداه من المغنم وولى الجناية قد سلم حقه [منه] (¬5) أولًا، ويتبع بما [بقى] (¬6) على العتق منه ويبدأ بالذي وقع له في السهم ولو أدى جميع ما وقع به في المغنم والسيد [حى] (¬7) فأخذه أهل الجناية ثم مات السيد قبل أن يستوفى أهل الجناية أرش جنايتهم ولم يحمله الثلث: عتق [منه ما حمل الثلث] (¬8)، وفض ما بقى من باقي الجناية على ما عتق منه ومارق منه ¬

_ (¬1) في ب: اختدمه. (¬2) في ب: اختدمه. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ، جـ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: وقع. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

على ما قدمناه، ولا خيار [للورثة] (¬1) في ذلك فافهم هذا التفريع، فإنها فروع بديعة انتقيتها من الأمهات وحصلتها في هذه العجالة لتكون مطالعتها تغني عن مطالعة الكتب الكبار على حسب ما [التزمناه] (¬2) في خطبة الكتاب، والله أعلم. وأما إن أدركهم سيدهم بعد أن فوتهم مشتريهم من المغنم، أو من صاروا إليه من أهل الحرب بشراء أو هبة: فلا يخلو من أن يكون فوتهم ببيع أو بعقد من عقود الحرية. فإن فوتهم بالبيع هل [يكون] (¬3) ذلك فوتا يسقط حق السيد من عين العبد أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن البيع فوت، وكذلك الهبة، ويرجع المستحق على البائع بفضل الثمن إن كان فيه فضل عن الثمن الذي اشتراه به، وهو [نص] (¬4) قول ابن القاسم في المدونة فيما إذا اشتراه من دار الحرب أو وُهِبَ له ثم باعه بعد قدومه أن البيع فوت، وقال فيما إذا اشتراه من المغنم فباعه من غيره أن بيعه لا يكون فوتا. وحمل بعض المتأخرين كلام ابن القاسم على التناقض والحق كما قال. والثاني: أن بيعه لا يكون فوتًا، لا في الهبة ولا في البيع، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن سحنون، وهو ظاهر قوله في المدونة من المسألة التي [أوردناها] (¬5). ¬

_ (¬1) في ب: لورثته. (¬2) في ب: التزمته. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: أوردنا.

والثالث: التفصيل بين البيع والهبة، وهو قول [الغير] (¬1) في كتاب الجهاد. وإن فوتهم بعقد من عقود الحرية كالعتق والإيلاد والتدبير والعتق إلى أجل، فهل يكون ذلك فوتًا أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك فوت [كالبيع] (¬2) والهبة، وهو قول ابن القاسم في المدونة وغيرها. والثاني: أن ذلك ليس بفوت ويبطل العتق والتدبير والعتق إلى أجل، [فإن] (¬3) كانت أمة فأولدها فهي كالمستحقة يأخذها، وقيمة الولد على الخلاف المشهور في المسألة في كتاب الاستحقاق وكتاب الغصب من المدونة، وهو قول أشهب في البيع والهبة، وهو قول ابن نافع في الهبة إذا لم يثب الموهوب له عليها، ولو أثاب عليها [لكان] (¬4) كالبيع، وهذا قول أشهب وابن نافع في كتاب ابن سحنون. وسبب الخلاف: اختلافهم في المفهوم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أدركه بعد القسم فهو أحق بالثمن" (¬5) هل ذلك خصوص بما وقع في المقاسم خاصة دون ما اشترى من أهل الحرب وما تداولته الأملاك مما اشترى من المغانم، أو ذلك عموم في الجميع وأموال [أهل] (¬6) الذمة [في جميع ما ذكرناه كأموال المسلمين. وأما ما وجد في المغانم من أحرار المسلمين وأحرار أهل ¬

_ (¬1) في ب: ابن القاسم في المدونة. (¬2) في أ: في البيع. (¬3) في ب: وإن. (¬4) في أ: لكانت. (¬5) أخرجه البخاري (2213) و (2214) و (2257) ومسلم (1608). (¬6) سقط من أ.

الذمة] (¬1) فإنهم لا يقسمون إذا علم أنهم أحرار. وفداؤهم على الجملة ينقسم على قسمين: أحدهما: أن يفدوا من أيدي العدو. والثاني: أن يفدوا من المغنم. فإن فدوا من أيدي العدو: فلا يخلو من أن يكون بين المفتدي والذي افتداه قرابة أو لا قرابة بينهما. فإن كانت بينهما قرابة نسب فذلك على ثلاثة أوجه: أحدها: إن فداه وهو يعرفه وكان بغير أمره فإنه لا يرجع عليه بما فداه به كائنًا ما كان. والثاني: إن فداه فإنه يرجع عليه بما فداه به كائنًا ما كان. والثالث: إن فداه ولا يعرفه ولا كان بأمره. فإنه لا يرجع على من يعتق عليه بالملك ويرجع على من سباه من القرابة الذين لا يعتقون عليه. وهذا التحصيل أحسن ما قيل في هذا الباب فعليك بحفظه تربت يداك. وإن لم يكن بينهما قرابة نسب فلا يخلو من أن يكون بينهما قرابة سبب، أو لا سبب بينهما فإن كان بينهما قرابة سبب؛ كالزوجية، مثل أن يفدى أحد الزوجين صاحبه من أيدي العدو، وهل يرجع عليه بما فداه به أم لا؟ فلا يخلو المفدى من أن يشهد قبل الفداء بالرجوع على صاحبه بما فداه به، أم لا. فإن أشهد عليه: فإنه يرجع عليه قولًا واحدًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وإن لم يشهد: فلا يخلو من أن يفدى أحدهما الآخر بوكالة [منه] (¬1) [أو بغير وكالة] (¬2). فإن كان ذلك بوكالة منه فله [اتباعه] (¬3) بذلك سواء علم بالزوجية أم لا، وهي رواية يحيي بن يحيى عن ابن القاسم في "العتبية"، وبه قال ابن حبيب. وإن فداه بغير وكالة: فلا يخلو من أن يعلم به حين الفداء، أو لا يعلم. فإن علم: فلا يرجع عليه بشيء ولا يتبعه في [الذمة] (¬4). وان لم يعلم: فله اتباعه والرجوع عليه بثمن الفداء. وعلى هذا التحصيل أصحاب مالك: ابن القاسم، وعبد الملك ومطرف، والمغيرة، وغيرهم. فإن لم يكن بينهما قرابة نسب ولا سبب: فلا خلاف أنه يتبعه بما فداه به في اليسر والعسر إذا اتفقا على ذلك القدر [قل أو كثر] (¬5) فداه بإذنه أو بغير إذنه وعلمه. وإن قال: كنت قادرًا على التحيل لنفس والخروج بغير شيء، ويعلم دليل قوله وصدقه: فلا يتبعه بشيء مما فداه بغير أمره وعلمه ويتبعه فيما عدا ذلك، ويكون أحق بما معه من المال في دار الحرب من غرمائه لأنه معه فدى. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: اتباع. (¬4) في ب: ذمته. (¬5) سقط من أ.

واختلف في المال الذي في دار الإسلام، هل يكون أحق به، أو يكون أسوة الغرماء؟ على قولين: أحدهما: أنه يكون أحق به من الغرماء، وهو قول عبد الملك. والثاني: أنه يكون أسوة الغرماء. وينبني الخلاف: على الخلاف في الأسير إذا حاط الدين بماله، هل يقدم حقه على حق غرمائه فيفدى من ماله، أو يقدم حق غرمائه على حقه ويكون الغرماء أحق بذلك المال ويفديه الإمام من بيت المال، أو يكلف المسلمين فداءه من أموالهم وإن لم يكن هناك بيت للمال [وكان السلطان جائرًا] (¬1)، وقد قال مالك [رحمه الله] (¬2): يجب على الناس مفاداة الأسارى من أيدي العدو ولو بجميع أموالهم. فإذا اختلف في مقدار ما [فدى] (¬3) به: فالقول في ذلك قول الأسير مع يمينه من غير اعتبار بالأشياء، وهو قول ابن القاسم في "العتبية" و"الموازية". وقيل: القول قول الذي فداه لأنه هو الذي أخرجه من دار الحرب فهو كالحيازة. وقيل: القول قول من ادّعى ما يشبه منهما. والقولان لسحنون في كتاب ابنه، ولابن القاسم مثل قول سحنون أن القول قول المفدى مع يمينه لأنه كالرهن في يده. ¬

_ (¬1) في أ: ولا السلطان. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: فداه.

وأحرار أهل الذمة في جميع ما ذكرناه كأحرار المسلمين [ولا فرق] (¬1) سواء. واختلف فيما إذا نودى على الحر المسلم من الغنم وبيع هل يتبع بما اشترى به كما لو فدى من أيدي العدو على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يتبع بذلك الثمن جملة، وهو قوله ابن القاسم في كتاب محمد. والثاني: أنه يتبع به جملة، وهو قول أشهب في كتاب ابن سحنون. والثالث: التفصيل بين الصغير والكبير [فالصغير] (¬2) القليل الفطنة [الكثير الغفلة لا يتبع بشيء] (¬3) والكبير [الفطن] (¬4) العارف بما هو فيه يتبع، وهو قول ابن القاسم أيضًا. وعلى القول بأنه لا يتبع [بشيء] (¬5)، هل يرجع من أخذ من يده على أهل الغنيمة بشيء أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يرجع عليهم بشيء أصلًا ويكون ذلك مصيبة نزلت به، وهو قول سحنون. والثاني: أنه يرجع على أهل الجيش ما لم يفترقوا، أو بعد الافتراق إن عرفوا، وهو قوله آخرًا في المذهب. وسبب الخلاف: السكوت، هل يعد كالرضا أم لا؟ والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

المسألة السادسة في [الحربى] الذي يقدم بأمان ومعه أحرار المسلمين [وأموالهم]

المسألة السادسة في [الحربى] (¬1) الذي يقدم بأمان ومعه أحرار المسلمين [وأموالهم] (¬2)، أو أسلم على ذلك (¬3). فإذا قدم بأمان فلا يخلو ما بيده من أن يكون أحرار المسلمين، أو أموالهم. فإن كان أحرار المسلمين وعبيدهم: فقد اختلف المذهب في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم لا يؤخذون منه ولا يشترون إلا باختياره، فإن رام الرجوع إلى بلاده بهم: مكن من ذلك ولا يتعرض له، وهو نص قول ابن القاسم في المدونة وغيرها، وهو المشهور في النقل، ولا فرق في ذلك بين الأحرار والعبيد والمسلمين وبين الذكران والإناث [من المسلمين] (¬4). والثاني: أنه لا يمكن من الرجوع بهم، بل يؤخذون منه بأوفى ثمن، وهو قول عبد الملك. و [القول] (¬5) الثالث: التفصيل بين الذكران والإناث؛ فيجبر على بيع [المسلمات] (¬6)، ولا يجبر على بيع الذكران، وهو قول ابن القاسم أيضًا على ما حكاه عنه سحنون، وظاهر هذا القول: أن لا فرق بين الأحرار والعبيد، وبه قال ابن القصار. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: الإناث.

فوجه القول الأول: ما خرجه البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاضى أهل مكة عام الحديبية على أن يرد عليهم من أتاه [منهم] (¬1) مسلمًا، فكان ذلك مما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وفاء بالعهد. ووجه القول الثاني: أنه لا يجوز ترك المسلم بين يدي الكافر يمتهنه ويستخدمه بين أظهر المسلمين، وإنما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك في أول الإسلام وقبل أن يكثر المسلمون، أما الآن فلا يجوز ذلك لانتشار الإسلام وظهوره في سائر الأمصار. ووجه القول الثالث: في الفرق بين الرجال والنساء: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ. . .} (¬2) إلى قوله: {إِلَى الْكُفَّارِ. . .} الآية. فمفهوم الآية هذه أن الرجال بخلاف ذلك. وأما [من] (¬3) كان بأيديهم ممن عقد فيه عقد عتق [ممن هو على دينهم] (¬4) [فلم] (¬5) أر فيهم نصا، خلاف أنهم لا يمنعون من الرجوع بهم إذا أرادوا ذلك. وإن كان الذي بأيديهم أموال المسلمين [أو لأهل الذمة] (¬6): فلا خلاف أنهم لا [يعارضون] (¬7) فيها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة الممتحنة الآية (10). (¬3) في أ: ما. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: فلا. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: يتعرضوا.

واختلف هل يجوز [لمسلم] (¬1) شراؤها منهم أم لا على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه لا يجوز ذلك، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن ذلك جائز، وهو قول ابن المواز وإسماعيل القاضي، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة فيمن اشترى أمة من العدو حيث قال: لا أحب له أن يطأها اشتراها في بلاد الحرب أو في بلاد الإِسلام -فمساواته بين الشراء في دار الحرب أو في بلاد الإِسلام دليل على جواز الشراء. فوجه القول الأول: بالمنع من الشراء منهم: أن ذلك أغرى لهم ولأمثالهم على سبى أموال المسلمين والجرأة عليهم، فإذا علموا أن المسلمين ممنوعون من الشراء منهم كان ذلك مما يؤدي إلى كفهم عن السبى والغارات. ووجه القول الثاني: بجواز الشراء: أن ذلك مال مسلم قادر على افتكاكه ممن أخذه فيجوز له أن يفديه منهم كما جاز له أن يشتريه ممن اشتراه من أرض الحرب؛ لأنه لو منع لأجل الإغراء لكان المنع [من الشراء] (¬2) بدار الحرب أولى وأحرى. فرع: وقد اختلف [أرباب] (¬3) المذهب في حربى ينزل على أمان فإذا هو مسلم ارتد على قولين (¬4): أحدهما: أنه لا يتعرض له؛ للوفاء بالعهد، ولو استحق بعبودية [وهو مرتد] (¬5) لم يتعرض له أيضًا، وهو قول ابن القاسم في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) المدونة (3/ 20 - 21). (¬5) سقط من أ.

كتاب ابن سحنون أيضًا. والثاني: أنه يستتاب، فإن لم يتب قُتل وإن تاب: لم يرد إليهم ورد إلى سيده إن كان عبدًا؛ لأنا إنما أعطينا لهم الأمان والعهد على أنهم كفار لا على أنهم مرتدون، وهو قول سحنون وأشهب، وابن نافع، وأصبغ، وابن الماجشون، وابن حبيب، قالوا كلهم: ولا يجوز للإمام أن يؤمنهم على ألا يحكم عليهم في هذه الأشياء إن وجدهم كذلك فإن جهل فأمنهم على ذلك: فليس جهله مزيلًا ما أوجب الله تعالى عليه من أحكام دينه في ذلك من استرقاق حر مسلم. وأما إن أسلموا على ذلك: فلا يخلو الذي [أسلموا] (¬1) عليه من أربعة أوجه: أحدها: أن يسلموا وبأيديهم أحرار المسلمين. والثاني: أن يسلموا على أحرار أهل الذمة. والثالث: أن يسلموا على من عقد فيه عقد من عقود الحرية من الأرقاء. والرابع: أن يسلموا على مال المسلمين أو لأهل الذمة. فالجواب عن الوجه الأول: إذا أسلموا وبأيديهم أحرار مسلمون: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب أنه لا حق لهم فيهم، ويؤخذون منهم بغير ثمن. واختلف في أحرار أهل الذمة -وهو الوجه الثاني- على قولين: أحدهما: أنهم أرقاء لهم، وهو قول ابن القاسم في المدونة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثاني: أنهم كأحرار المسلمين يؤخذون منهم بغير ثمن، وهو قول أشهب في كتاب ابن سحنون وغيره. وينبني الخلاف على الخلاف في أحرار أهل الذمة هل هم كعبيدنا أم لا؟ فمن رأى أن حكمهم حكم عبيدنا قال: لا يتعرض لهم، وهم لهم عبيد، وهو نص قول ابن القاسم في كتاب الجهاد: (أن أحرار أهل ذمتنا كعبيدنا) (¬1). ومن رأى أن حكمهم حكم أحرارنا قال: [يؤخذون] (¬2) منهم بغير عوض. وظاهر قول مالك في كتاب الزكاة الأول وكتاب الجهاد وكتاب التجارة إلى أرض الحرب في الذمى إذا أسلم: أن أرضه وماله فيء المسلمين؛ فلو كان عبدًا لكان رقيقًا لهم، كما أن المال الذي عقدت عليه الذمة وهو بيده فيء لهم. والقولان [قائمان من المدونة] (¬3). والجواب عن الوجه الثالث: إذا أسلموا على من عقد فيه عقد من عقود الحرية؛ كالتدبير، والكتابة، والإيلاد، والعتق إلى أجل. أما المدبر: فله خدمته، فإن مات السيد والثلث يحمله: كان عتيقًا، وإن كان عليه دين يغترقه: كان رقيقًا لمن أسلم عليه [وإن لم يكن له قال سواه ولا دين عليه عتق ثلثه وكان ثلثاه رقًا له] (¬4) وأما [المكاتب] (¬5): [فله ¬

_ (¬1) المدونة (3/ 13). (¬2) في جـ: لا يؤخذون. (¬3) في ب: ظاهران. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: الكتابة.

كتابته] (¬1)، فإن أدَّى: كان حرًا، وإن عجز: كان رقيقًا له. وأما أُمُّ الولد: فإنها تنتزع من يده ويأخذ قيمتها. والمعتق إلى أجل: يكون له خدمته، فإذا حلَّ الأجل خرج حرًا. والجواب عن الوجه الرابع: إذا أسلموا على مال للمسلمين أو لأهل الذمة: فقد حكى ابن حبيب إجماع [أهل] (¬2) المذهب أنه أحق بما في يده مما أسلم عليه [من أربابه] (¬3)؛ لقوله عليه السلام: "من أسلم على شيء فهو له" (¬4)، وهذا عموم يخصصه الإجماع؛ لأنه يتناول الأحرار وغيرهم ممن ينطلق عليه اسم شيء، ثم إن الحر خرج بالإجماع. [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في ب: فإنما تكون للذي أسلم عليه. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه أبو يعلى (5847) والبيهقي في "الكبرى" (9/ 113). من حديث أبي هريرة مرفوعًا. قال الهيثمي: رواه أبو يعلى وفيه ياسين بن معاذ الزيات وهو متروك "مجمع الزوائد" (5/ 336). وضعفه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1908). (¬5) زيادة من جـ.

المسألة السابعة في الحرة المسلمة والذمية،

المسألة السابعة في الحرة المسلمة والذمية، أو الأمة المسلمة تُسبى فتوطأ، فتلد، ثم غنمها المسلمون هي وولدها. أما الحرة المسلمة إذا غنمها المسلمون ومعها أولاد صغار وكبار: أما هي في نفسها: فلا خلاف أنها لا تستباح، واختلف في أولادها على ثلاثة أقوال كلها قائمة من المدونة. أحدها: أن الأولاد تبع لها في الحرية والإِسلام؛ لا يباعون ولا يسترقون، فإن أبوا الإِسلام جبروا عليه، وإن تمادوا يريد كبارهم: قتلوا على الكفر كالمرتد، وهي رواية مطرف عن مالك في كتاب ابن سحنون، وقاله ابن وهب، وابن حبيب وقاله أشهب [مرة] (¬1)، وهو قول مالك في "ثمانية أبي زيد" وهو ظاهر قول مالك في كتاب الجهاد من "المدونة" في الصغار، على ما سنبينه آنفًا إن شاء الله تعالى. والثاني: أن أولادها الصغار والكبار فيء، وهو قول أشهب، وعبد الملك، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة في كتاب النكاح الثالث. و [القول] (¬2) الثالث: التفصيل بين الصغار والكبار؛ فمن كان منهم صغيرًا: يكون حكمه حكم الأم؛ فيكون مسلمًا بإسلامها، ومن كان منهم كبيرًا قد بلغ وقاتل فإنه يكون فيئًا، وهو قول ابن القاسم في المدونة وكتاب ابن سحنون. واختلف المتأخرون في هذين الشرطين؛ هل لابد من اعتبارهما مع البلوغ ووجود القتال وهو تأويل الشيخ أبي محمد بن أبي زيد، أو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

[الاعتبار] (¬1) بالبلوغ خاصة -قاتل أو لم يقاتل- وهو تأويل ابن شبلون. وسبب الخلاف: اختلافهم في الصغار هل هم مسلمون بإسلام الأب [خاصة] (¬2)، أو بإسلام من أسلم من الآباء [أولًا] (¬3) -أبًا كان أو أُمِّا- ولا يكونوا مسلمين بإسلام واحد منهما أصلًا؟ والذي يتخرج في المسألة خمسة أقوال كلها قائمة من المدونة: أحدها: أنهم مسلمون بإسلام الأب خاصة، وهو [نص] (¬4) قول مالك في كتاب النكاح الثالث من المدونة؛ حيث قال: (الولد تبع للأب في الدين وأداء الجزية، وهو تبع للأم في الرق والحرية والحضانة) (¬5)، ثم قال: (إسلام الأب إسلام لصغار بنيه). والثاني: أنهم مسلمون بإسلام من أسلم منهم أولًا، وهي رواية ابن وهب عن مالك في غير المدونة، وهو ظاهر قول مالك في كتاب الجهاد من المدونة في الحرة المسلمة تسبى فتوطأ بدار الحرب ثم غنمها المسلمون ومعها أولاد صغار، حيث قال: لا يكونون فيئًا لأنهم مسلمون بإسلامها. والثالث: أنهم لا يكونون مسلمين بإسلام واحد منهما أصلًا، وهو ظاهر قول مالك في كتاب النكاح الثالث أيضًا في الذي أسلم في دار الحرب ثم قدم إلينا، أو قدم إلينا بأمان ثم أسلم، ثم غزا المسلمون تلك الدار فغنموا أهله وولده وماله فقال: إنْ أبت الإِسلام فإنها هي وولده وماله فيكونون فيئًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) المدونة (3/ 56).

قال غيره: ولده [الصغير] (¬1) تبعًا له. وقوله: "فإن ولده يكونون فيئًا" دليل على أن الولد لا يكون مسلمًا بإسلام أبيه؛ لأنه لو كان مسلمًا بإسلام أبيه لكان مسلمًا حيث كان؛ لأن المسلم لو نكح بدار الحرب: كان ولده مسلمًا، وهو قول أبي الفرج أن الولد حيث كان فإنه [لا] (¬2) يكون مسلمًا بإسلام أبيه، وهو ظاهر قول الغير في الكتاب المذكور أيضًا أنهم لا يكونون مسلمون بإسلام الأب أصلًا. قال سحنون: وأكثر [الرواة] (¬3) على أنهم مسلمون بإسلام أبيهم. قال فضل بن سلمة: [هذا يدل] (¬4) على أن من الرواة من يقول: ليس إسلام الأب إسلام [لهم] (¬5) وإن كانوا صغارًا. و [القول] (¬6) الرابع: التفصيل بين الصغار والكبار، وهو ظاهر قوله في [الكتاب المذكور أيضًا] (¬7) فيمن أسلم وله أولاد مراهقون من أبناء اثنتي عشرة سنة وشبه ذلك، قال: لا يجبرون على الإسلام، ولا يكونون مسلمين بإسلام أبيهم ويترك الأمر إلى بلوغهم. و [القول] (¬8) الخامس: التفصيل بين أن يزييهم بزي الإِسلام عند إسلامه وهم صغار، أو يتركهم. فإن زياهم بزي الإِسلام عند إسلامه وهم صغار: فلهم حكم المسلمين ¬

_ (¬1) في أ: الصغار. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: الروايات. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: للأبناء. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: كتاب النكاح الثالث. (¬8) سقط من أ.

بإسلامه. وإن تركهم مهملين حتى راهقوا الاحتلام: فلا يكونوا مسلمين بإسلام الأب، وهو قوله في الكتاب المذكور أيضًا فيمن أسلم وله أولاد صغار فأقرهم حتى بلغوا اثنتي عشرة سنة أو ثلاثة عشر فأبوا الإِسلام، وقال: لا يجبرون على الإسلام، وقال بعض الرواة: يجبرون وهم مسلمون، وهو أكثر مذاهب المدنيين. وقوله: (فأقرهم): دليل على أنه لابد من شيء يصنعه فيهم بعد إسلامه، وليس هناك أمر يصنعه فيهم إلا أن يزييهم بزي الإسلام وأن يؤدبهم بآداب الإيمان ويختنهم ويظهر عليهم دلائل تدل على أنهم مسلمون. فهذه خمسة أقوال كلها ظاهرة. وللذمية حكم المسلمة [في نفسها وولدها] (¬1) في جميع ما ذكرناه [وفي المسألة قول سادس بالتفريق بين الذمية والمسلمة. فأولاد المسلمة لا يكونوا فيئًا والكبار من أولاد الذمية كذلك وهو قول مطرف] (¬2)، وأما الأمة: فإنها ترد إلى سيدها، واختلف في أولادها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأولاد لسيدها -صغارًا كانوا أو كبارًا- وهو قول ابن القاسم في كتاب الجهاد من المدونة. والثاني: أنهم فيء -صغارًا كانوا أو كبارًا- وهو قول عبد الملك بن الماجشون في كتاب ابن حبيب. والثالث: التفصيل بين أن يكونوا من نكاح أو سفاح فإن كانت أمهم قد تزوجت ووطئت بنكاح: فإنهم [يكونون] (¬3) للسيد. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: يكون والمثبت من ب.

وإن وطئت بسفاح: فإن الأولاد فيء للمسلمين، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: هل الحكم للدار أو للمالك؟ فمن رأى أن الحكم للدار قال: إنهم يكونون فيئًا. ومن رأى أن الحكم للمالك لا للدار قال: إنهم يردون إلى السيد ولا يكونون فيئًا. وعلى هذا ينبني الخلاف في الحربى يسلم ثم يخرج إلينا، أو قدم عندنا بأمان ثم أسلم، ثم غزا المسلمون تلك الدار فغنموا أهله وولده وماله هل يكونون فيئًا أم لا؟ وقد اختلف المذهب في ذلك على أربعة أقوال: أحدها: أن جميع ذلك فيء، ولا فرق بين الأولاد وأمهم والمال، وهو قول مالك في كتاب الجهاد وكتاب النكاح من المدونة. والثاني: أن ماله وولده الصغار لا يكونون فيئًا، وهو قول الغير [في المدونة] (¬1) في كتاب الجهاد. والثالث: أن الزوجة والمال فيء دون الولد، وهو قول الغير أيضًا فى بعض روايات المدونة في كتاب الجهاد، وهو قول أبي الفرج في "الحاوي". والرابع: التفصيل بين أن يضم أهل الشرك ماله إلى أملاكهم من أجل إسلامه وخروجه من عندهم، أو يتركوه على حالته. فإن أخرجوه وضموه إلى أموالهم: فإنه يكون فيئًا. وإن تركوه على حالته ولم يتعرضوا له: فإنه لا يكون فيئًا، ويرد إلى ربه. فإن [أُخذ] (¬2) في المقاسم: كان أحق به بالثمن، وهو قول محمد بن حارث في كتاب "الاتفاق والاختلاف" وهذا قول بَيْنَ القولين. ولا خلاف فيما حملت [به] (¬3) من ولد بعد إسلامها أنه لا يكون فيئًا لأنه حر مسلم سُبِىَ فلا يدخل في المقاسم بوجه، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: دخل. (¬3) سقط من أ.

المسألة الثامنة في تحريق العدو بالنار في حصونهم ومراكبهم وفيهم أسارى المسلمين أو ذراري المشركين

المسألة الثامنة في تحريق العدو بالنار في حصونهم ومراكبهم وفيهم أسارى المسلمين أو ذراري المشركين (¬1). وإذا حضر المسلمون العدو في موضع من المواضع: فلا يخلو ذلك من أحد وجهين: إما أن يحصروهم في حصن، أو مركب، فإن حصروهم في حصن من الحصون وأرادوا أن يرموهم بالمجانيق: فإن كان فيهم أساري من المسلمين فقولان: فقيل: يرمون. وقيل: لا يرمون، وهو قول [ابن القاسم] (¬2) في "الواضحة". فإن لم يكن فيهم من المسلمين أحد، وفيهم النساء والذرية من المشركين: فإنهم يرمون بالمجانيق [اتفاقًا] (¬3). وهل يغرقون أو يحرقون؟ فإن كان معهم من المسلمين أحد: فلا خلاف أنهم لا يغرقون ولا يحرقون. وإن لم يكن معهم أحد من المسلمين وفيهم النساء والذرية: فقد اختلف المذهب في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يغرقون ويحرقون جملة إذا لم يقدروا على أخذهم، وهو قول ابن المواز. والثاني: أنهم لا يغرقون ولا يحرقون وإن لم يكن [فيها] (¬4) إلا ¬

_ (¬1) النوادر (3/ 66 - 69). (¬2) في ب: ابن حبيب. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: فيهم.

الرجال المقاتلة خاصة، وهو قول سحنون في "العتبية" (¬1)، وروى عن ابن القاسم مثله. والثالث: التفصيل بين الذرية والعيال والرجال المقاتلة؛ فإن انفرد الرجال المقاتلة عن النساء والذرية: جاز أن يحرقوا. وإن كان معهم النساء والذرية: لم يحرقوا. وهو قول ابن القاسم في المدونة. وإن حصروهم في مركب على ظهر البحر فهل يجوز أن يحرقوا أو يغرقوا [أم لا] (¬2)؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم لا يحرقون ولا يغرقون جملة إذا كان فيهم مسلمون والنساء والذرية. والثاني: أنهم يغرقون ويحرقون جملة وإن كان معهم من المسلمين النفر اليسير أو النساء والصبيان بحيث إن لم يفعل بهم [ذلك] (¬3) ظفروا بالمسلمين وظهروا عليهم، وهو قول اللخمي والتونسي [والثالث: التفصيل بين أن يكون فيهم مسلمون أو ذراريهم. فإن كان فيهم مسلمون فلا يحرقوا. وإن كان فيهم النساء والذرية فإنهم يحرقون ويغرقون] (¬4). وسبب الخلاف: تغليب أحد الضررين على الآخر. ولا إشكال أنه لا يجوز أن يقاتل العدو بالنبل المسموم و [لا] (¬5) بالسلاح المسموم، وقال ¬

_ (¬1) البيان والتحصيل (3/ 44). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

مالك: [وإنما كان] (¬1) ذلك فيما مضى، وقال محمد: لأن ذلك مما يعاد إلينا. وكذلك كره مالك أن يجعل [لهم السم] (¬2) في قلال الخمر أيضًا [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: السموم. (¬3) زيادة من جـ.

المسألة التاسعة في النفل

المسألة التاسعة في النفل (¬1) والنفل زيادة على السهم، أو هبة لمن ليس من أهل السهم يفعله الإمام لرأي يراه، أو يخص به [أيضًا من] (¬2) يرضاه [لحراسة] (¬3) أو [محاربة] (¬4) [أو جرأة] (¬5) أو حسن تحسيس أو زيادة غنى أو حسن بلاء أو ما يؤدي إليه اجتهاد الإِمام. واختلف العلماء هل يخرج من رأس الغنيمة، أو لا يكون إلا من الخمس؟ فجمهور العلماء على أن النفل لا يكون إلا من الخمسه لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬6)، وجعل الأربعة الأخماس للغانمين، ولا يجوز أن يؤخذ لهم منها شيء بالاحتمال. ومن طريق المعنى أنه لو كان النفل مستخرجًا من جملة الغنيمة ما أضر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه البيان عند الحاجة إلى بيانه؛ لأن هذه الآية نزلت في شأن خيبر والنضير، فلم يكن يؤخر بيانه إلى يوم حنين، قال: "من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه" (¬7) بعد أن يرد القتال، فلو كان أمرًا متقدمًا لعلمه أبو قتادة الذي قتل قتيلًا يوم حنين، وهو من فرسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وأكابر أصحابه - صلى الله عليه وسلم - فلم يطلب ذلك حتى أمر - صلى الله عليه وسلم - من ينادي: من قتل ¬

_ (¬1) المدونة (3/ 29 - 30) والنوادر (3/ 221). (¬2) في ب: إنسانًا. (¬3) سقط من ب: وفي أ: لحياصة. (¬4) في أ: محارسة. (¬5) سقط من أ. (¬6) سورة الأنفال الآية (41). (¬7) أخرجه البخاري (3142) ومسلم (1751).

"قتيلًا فله سلبه". ودليل أخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه لأبي قتادة بشهادة رجل واحد بلا يمين، فلو كان يخرج من رأس الغنيمة ما كان يخرج من حق من غنم إلا بما تنتقل به الأملاك [والحقوق] (¬1) قبل البينات أو بشاهد ويمين. وحديث ابن عمر -رضي الله عنه- أيضًا دليل على أن النفل لا يكون إلا من الخمس؛ لأنه قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية إلى نجد فغنموا إبلًا كثيرةً وكانت سهمانهم اثنى عشر بعيرًا، أو أحد عشر بعيرًا ونفلوا [بعيرًا] (¬2) بعيرًا (¬3)، وهذا لا يكون في الذهب والورق -أعني النفل، وإنما يكون في العروض، وهذا مذهب أكثر العلماء، والحكمة في ذلك: أن النفل نعمة أنعم بها الإمام على الذي نفله؛ إما لحسن تدبير، أو لشدة بلائه على حسب ما قدمناه، فيحتاج إلى إظهار تلك النعمة على نفسه ليكون [ذلك] (¬4) تحريضًا للاجتراء على العدو وحرصًا على النكاية عليهم بكل حيلة أمكنته ولذلك حصر النفل بما يظهر من الحيوان والعروض دون ما يخفى من العين وغيره. واتفقوا على جوازه بعد القتال، وعلى منعه قبل القتال. فإن نزل فإنه يمضي إلا أن تمس الحاجة إليه فيجوز، وللضرورة تأثير في إباحة المحظور؛ لأن ذلك يؤدي إلى فساد النيات، [واختلال] (¬5) الطويات، وسفك الدماء على الأمر الفاسد وهتك الأرواح على الغرض الجائر لأن المقصود في مشروعية الجهاد أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (3134) ومسلم (1749). (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: واختلاف.

فيحتاج إلى تخليص النية وتمحيص الطوية، وعلى ذلك يكون الأجر والثواب [من] (¬1) عند رب الأرباب، [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من جـ.

المسألة العاشرة في الأمان

المسألة العاشرة في الأمان (¬1) ولا يخلو أمان المسلمين لأهل الحرب من وجهين: أحدهما: أن يكون من الإمام. والثاني: أن يكون من غيره. فإن كان الأمان من الإمام: فلا خلاف في لزومه له ولسائر رعيته وأهل جيشه، ولا خروج لهم عن ذلك، وسواء أمنهم على مال أو على غير مال. فإن كان الأمان من غيره: فلا يخلو من أن يكون من أهل الذمة، أو من أهل الإسلام. فإن كان من أهل الذمة: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يعلم أنه نصراني [ويعلم أنه لا أمان له أو يعلم أنه نصراني] (¬2)، وقال: ظننت أنه ممن يقبل أمانه، أو يقول: ظننت أنه مسلم. فأما الوجه الأول: إذا علم أنه نصراني، و [يعلم] (¬3) أنه ممن لا أمان له: فقد روى ابن القاسم [عن مالك] (¬4) أن أمانه ليس بشيء، ولا أعلم في المذهب فيه نص خلاف. وأما الوجه الثاني: إذا علم أنه نصراني، وقال: ظننت أنه ممن يقبل أمانه [لمكان ذمته] (¬5)، هل يكون فيئًا أو يرد إلى مأمنه؛ قولان: ¬

_ (¬1) النوادر (3/ 111). (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: علم. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

أحدهما: أنه يكون فيئًا، ولا أمان له، وهو قول ابن المواز. والثاني: أنه لا يكون فيئًا ويرد إلى مأمنه؛ لأن ذلك أمر مشكوك فيه، والدماء لا تستباح بالشك، وهو اختيار أبي إسحاق التونسي، وهو مذهب الأوزاعي. وأما الوجه الثالث: إذا قال: ظننت أنه مسلم، هل يقبل منه ويصح له الأمان أو لا أمان له؛ فالمذهب على قولين. أحدهما: أنه فيء لا أمان له. والثاني: أنه يرد إلى مأمنه ولا يكون فيئًا. والقولان لابن القاسم في كتاب محمد. والأصح في ذلك كله: أن يرد إلى مأمنه؛ لأن ذلك [شك] (¬1) يوجب التوقف عنه. فإن كان الأمان من أهل الإِسلام: فلا يخلو من أن يكون [من] أهلية القتال أم لا. فإن كان من [أهلية] (¬2) القتال كالأحرار البالغين من الرجال؛ مثل أن يؤمن رجال من المسلمين رجلًا من أهل الحرب بغير إذن الإِمام: فلا خلاف في المذهب أن عقده على الإمام وعلى سائر المسلمين يفيد الأمان للحربى في تلك الحالة. واختلف هل ذلك أمر لازم [للإمام و] (¬3) لا خروج له عنه، أو ذلك متوقف على نظر الإمام، على قولين منصوصين في المدونة: ¬

_ (¬1) في جـ: شيء. (¬2) في ب: أهل. (¬3) سقط من أ.

أحدهما: أن أمانه ماض على الإمام، وليس له نقضه ولا خروج له عنه، وهو قول ابن القاسم، في المدونة [وهي رواية] (¬1) معنٍ عن مالك ونحوه لمحمد بن المواز. والثاني: أن ذلك موقوف على نظر الإمام؛ إن رأى إجازته وإمضاءه: أمضاه، وإن رأى أن يرده: رده، وهو قول [المغيرة] (¬2) في المدونة، على المشهور في التأويل أن قوله خلاف لقول ابن القاسم، وهو قول ابن حبيب في "واضحته"، وهو قول سحنون في كتابه. فإن كان ممن ليس بأهلية القتال؛ كالنساء والعبيد والأطفال: فقد اختلف [فيه] (¬3) المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن أمانهم جائز، ولا خروج للإمام عنه، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه موقوف على نظر الإمام واجتهاده، وهو قول الغير في المدونة، فإن رأى إمضاءه أمضاه، وإن رأى أن يرده إلى مأمنه رده. والثالث: أن أمانهم باطل ولا يكتسب به المستأمن حرمة، وهو قول سحنون في الصبي الذي لا يطيق القتال، والعبد والمرأة بمنزلة الصبي، ولا فرق سواء؛ لأن العبد والمرأة أموال وحشوة وقوة على الجهاد كما قدمناه أول الكتاب. وسبب الخلاف: اختلافهم في المفهوم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يجير على المسلمين أدناهم ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم" (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الغير. (¬3) في ب: في أمانه. (¬4) تقدم.

قال ابن حبيب: وأدناهم: الذمى من حر أو عبد أو امرأة أو صبي يعقل الأمان. وقوله: ويرد عليهم أقصاهم: أي ما غنموا في أطرافهم يجعل خمسه في بيت المال، بل ذلك أمر يكون بيد الأدنى ويلزم الإمام أمانه، ولا خروج له عنه، وهذا هو الظاهر [من قوله] (¬1) عليه السلام. " [أو] (¬2) ذلك" أمر متوقف تمامه على إجازة الإِمام وإمضائه؛ إن رأى نفوذه أمضاه، وإن رأى رده إلى مأمنه ولا أمان له إن [وُجد] (¬3) بعد ذلك، وهو الظاهر من قوله عليه السلام [في قصة أم هانئ حيث قال] (¬4): "قد أجرنا [من] (¬5) أجرت يا أم هانئ"؛ إذ لو كان أمانها لازمًا نافذًا لا خروج لأحد عنه لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أجرنا [من] (¬6) أجرت يا أم هانئ" (¬7)، فكان المفهوم من قوله [- صلى الله عليه وسلم -] (¬8): "قد أجرنا [من] (¬9) أجرت" أن جوارها لا يتم ولا [يمتد] (¬10) إلا بجوار النبي - صلى الله عليه وسلم - وبهذا قال عبد الملك وسحنون وابن حبيب [تم الكتاب والحمد لله وحده] (¬11). ¬

_ (¬1) في أ: لقوله. (¬2) في أ: لك. (¬3) في ب: أُخذ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: ما. (¬6) في أ: ما. (¬7) تقدم. (¬8) سقط من أ. (¬9) في أ: ما. (¬10) في ب: ينعقد. (¬11) زيادة من جـ.

كتاب النذور والأيمان

كتاب النذور والأيمان (¬1) تحصيل مشكلات هذا الكتاب [وجملتها] (¬2) ثماني عشرة مسألة: المسألة الأولى (فيما) (¬3) إذا حلف بالمشي إلى مكة: لا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن ينوي حجًا أو عمرة. والثاني: أن ينوي الوصول إلى مكة ويعود، لا أكثر من ذلك. والثالث: أن لا تكون له نية. والرابع: أن يقول: عليه المشي، ولم يذكر مكة ولا شيئًا من حرمها. وأما [الجواب عن الوجه] (¬4) الأول: إذا نوى حجًا أو عمرة: فإنه يمشي حتى يسعى بين الصفا والمروة إن كانت عمرة، وحتى يفيض وحتى يرمي الجمار إن كانت حجة. فإن قدَّم الإفاضة على الرمي هل يركب في رمي الجمار أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يركب في رمي الجمار -أعني في حين سيره لا حين الرمي وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬5)، وهو المشهور في النقل. والثاني: أنه لا يركب في رمي الجمار وإن كان قد أفاض، وهو قول ابن ¬

_ (¬1) المدونة (3/ 76) و (3/ 111). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: منها. (¬4) سقط من أ. (¬5) المدونة (3/ 76).

حبيب (¬1). ووجه قول ابن القاسم: إن الحج قد تم وحلَّ من إحرامه كأن المعنى الذي أراد المشي فيه قد ذهب. ووجه قول [ابن حبيب] (¬2) أنه وإن حلَّ من إحرامه فقد بقى عليه من جملة المناسك التي نذر المشي فيها. فإن أخر الإفاضة وقدم الرمي عليها هل يركب في رمي الجمار أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يركب في رمي الجمار، وهو قول مالك في المدونة. والثاني: أن له أن يركب فيها [قبل أن يفيض] (¬3)، وهو ظاهر قول ابن القاسم في الكتاب أيضًا حيث [قال] (¬4) عقيب قول مالك: (وأنا لا أرى به بأسًا وذلك عندي بمنزلة، ما لو مشى فيما وجب عليه ثم [رجع إلى] (¬5) المدينة فركب في حوائجه أو رجع من الطريق لحاجة نسيها) (¬6). وإن كان المتأخرون قد اختلفوا في تأويل قول ابن القاسم في [الكتاب] (¬7): (ولا أرى به بأسًا): هل يرجع على المسألة الأولى، وهو قول مالك: لا يركب في رمي الجمار، ويكون خلافًا، وإليه ذهب أبو الحسن اللخمي، ويؤخذ منه أيضًا أن الخلاف يدخل في الركوب إلى ¬

_ (¬1) النوادر (4/ 28 - 29). (¬2) في الأصل: إلى. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: أتى. (¬6) المدونة (3/ 76). (¬7) في جـ: المدونة.

الحوائج، أو يعود إلى الركوب في حوائجه وفاقًا، وهو تأويل الشيخ أبي محمد بن أبي زيد (¬1) - رضي الله عنه - فلو ركب المناسك كلها فقد قال في الكتاب أنه يحج الثانية راكبًا، فإذا طاف وسعى خرج إلى عرفات ماشيًا [حتى] (¬2) يفيض، ولم يبين هل كان ركوبه اضطرارًا أو اختيارًا، ونحن نقول من حيث التفصيل: لا يخلو ركوبه في المناسك من [وجهين] (¬3) إما أن يكون على معنى الترفه والاختيار، أو على معنى الغلبة والاضطرار. فإن كان [ركوبه] (¬4) على معنى الترفه والاختيار: كان عليه أن يقضي قابلًا راكبًا، ثم يمشي المناسك على أي وجه كان مشيه منذورًا معينًا أو مضمونًا في الذمة، أو تطوعًا، ولا إشكال في ذلك. وإن كان [ركوبه] (¬5) على معنى الغلبة والاضطرار كالعجز والمرض: فلا يخلو إما أن يكون نذره مضمونًا في الذمة وسمي حجًا، أو كان معينًا. فإن كان مضمونًا في الذمة: فإنه يقضي قابلًا [راكبًا] (¬6) [و] (¬7) قضي المناسك ماشيًا، ولا خلاف في [ذلك] (¬8). وإن [كان] (¬9) المنذور معينًا في عام بعينه. وسمىّ الحَّج أو لم يُسمِّه، أو كان مضمونًا [و] (¬10) لم يَسمِّ حجًا، ¬

_ (¬1) النوادر (4/ 29). (¬2) في ب: ثم. (¬3) في أ: جهتين. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: أو. (¬8) في ب: هذا الوجه. (¬9) سقط من أ. (¬10) في أ: أو.

هل يمشي المناسك في حجة القضاء أو يجوز له الركوب؟ فالمذهب على قولين [قائمين] (¬1) من "المدونة": أحدهما: أنه يجوز له الركوب، ولا شيء عليه، وهو قول مالك في المدونة: في الذي حلف بالمشي إلى بيت الله، فحنث، فمشى في حج، ففاته الحج: "أن المشي يجزئهُ، [ويجعله] (¬2) في عمرة، ويقضي عامًا قابلًا، [ويهدي لفوات الحج، ولا شيء عليه غير ذلك". والثاني: أنَّهُ يمشي المناسك قابلًا] (¬3)، وهو قول ابن القاسم في كتاب "محمد"، وظاهر الكتاب يدلُّ عليه أيضًا، فرأى مالك رضي الله عنه: أنَّهُ [إن] (¬4) [غلب] (¬5) على مشي المناسك، ولم يفته الحج: كان له الركوب ويجزئه وإن فاتهُ الحج: كان قد غلب على الوجهين جميعًا، فقضى الحج ولم يقض [المشي] (¬6) وعلى أصل ابن القاسم، إن [غلب] (¬7) على المشي وحده وشهد المناسك راكبًا: قضى قابلًا ويمشي المناسك. فإن غلب على الوجهين جميعًا الحج [والمشي] (¬8)، حتى فاته الحج يمرض -[أو خطأ] (¬9). قضى المشي والحج جميعًا. وينبني الخلاف على الخلاف: في مراعاة المقاصد والألفاظ: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ويجعلها. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: غلبه. (¬6) في ب: المناسك. (¬7) في ب: غلبه. (¬8) في أ: والعمرة. (¬9) سقط من أ.

فمن اعتبر الألفاظ، قال: لا يلزمه مشي المناسك، لأنه قال: "إلى مكة"، و "إلى": في موضوعية الاستعمال في وضع اللغة، بمعنى الغاية [ومن شروط الغاية] (¬1)، أن يكون ما بعدها [خلافًا] (¬2) لما قبلها. ومَنْ اعتبر المقاصد، قال: لا يلزمه مشي المناسك، لأنَّ المقصود من المشي إلى مكة: عمل المناسك، وهو فائدة المشي وثمرتُهُ. ولهذا فُرِّق بين مشى المناسك ومشي الطريق، فقال: إذا [مشى] (¬3) مثل البريد واليوم لم يلزمه العود ثانية، وعليه الهدى، وقال: إذا ركب المناسك كُلَّها، فإنَّهُ يعود ثانية، فأمرهُ بالرجوع ثانية، وإن كان أقل من يوم، وما ذلك إلا لكونه مقصود المشي ومطلوبه، ولأنَّ الحاج فيها محبوسٌ أيامًا، فأشبه السفر، ولأنَّهُ مدة تقصر [فيها] (¬4) الصلاة أيضًا. والجواب عن الوجه الثاني: إذا [نذر] (¬5) الوصول إلى مكة، ويعود ولا نية له في أكثر من ذلك، فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يرى أنَّ في ذلك فضيلة وقُربة [والثاني: أن يكون عالمًا أنه لا قربة فيه. فإن كان يرى أن فيه فضيلة وقربة] (¬6) فلا شيء، [عليه] (¬7) لا مشي ولا غيره، وهو قول أشهب في كتاب محمد: " [أن] (¬8) من نذر المشي إلى مكة ولا نية له أن لا شيء عليه". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: مخالفًا. (¬3) في أ: ركب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: نوى. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

وإن كان عالمًا أنَّهُ لا قُربة في نذره، ووصوله: كان نذره معصية، وهل يلزمهُ أن يجعل ذلك في حج أو عمرة؟ قولان قائمان من المُدوَّنة: أحدهما: أنّهُ يجعل ذلك في حج أو عمرة [ويلزمه ذلك وجوبًا] (¬1)، وهو قوله في "الكتاب": فيما [إذا] (¬2) نذر أن يحمل فلانًا إلى بيت الله، وقصد بذلك التعب والمشقة على نفسه، حيث قال: "إنَّهُ يحج ماشيًا ويهدي". والثاني: أنَّهُ لا شيء عليه ولا يلزمهُ المشي، وهو قوله في "الكتاب" أيضًا، فيما إذا نذر الشي إلى بيت الله حافيًا [راجلًا] (¬3) قال: فإنَّهُ ينتعل، فإن أهدى فحسن، وإن لم يهد فلا شيء عليه، وجميع ذلك نذر معصية. وينبني الخلاف على الخلاف: فيمن نذر معصية، هل يلزمه أن يعكس نذرهُ [في طاعة] (¬4) أم لا؟ والجواب عن [الوجه] (¬5) الثالث: إذا نذر المشي إلى بيت الله، ولا نية له في حج ولا عُمرة، فهو مخيَّر: إن شاء جعل مشيهُ في حج، وإن شاء جعلهُ في عُمرة. وإن جعله في عمرة، مشى حتى يسعى بين الصفا والمروة. فإن ركب بعد السعي، وقبل الحلاق فلا شيء عليه، لأنه لم يبق عليه شيء. وإن [جعلهُ] (¬6) في حجٍ، فلا يخلو من أن يكون قد أدرك الحجَّ أو فاته: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: جعل مشيه.

فإن أدرك الحج، فلا خلاف أنَّهُ يلزمهُ المشي إلى مكة، وهل يلزمه مشي المناسك أم لا؟ قولان: وقد قدَّمناهما، والصحيح أنَّهُ يلزمهُ مشي المناسك. فإن فاتهُ الحج، ففسخ مشيهُ في عمرة، فإنه يقضي قابلًا ويهدي، وهل يلزمهُ مشي المناسك في حجة القضاء أم لا؟ [فالمذهب] (¬1) على قولين قائمين من "المدونة" على حسب ما قدَّمناه أيضًا. فمن ألزمهُ مشي المناسك، فكأنه رأى أنَّهُ لما أحرم بالحجِّ أوجب على نفسه مشى المناسك. ومن لم يُوجب ذلك عليه، فكأنَّهُ لم يلزمهُ مشي المناسك إلا مع سلامة حجه، فمتى فاتهُ صار عملهُ عمل العُمرة أشبه من ابتداء العُمرة في عمرة، لأنَّ قضاءهُ الحج، ليس من [جهة] (¬2) المشي، لأن المشي قد أتى به، وإنَّما سنة من فاتهُ الحج أن يقضيه، وإن غلب عليه تطوعًا كان [أو] (¬3) واجبًا، وهذا ظاهر "المدونة"، لقولهِ: "فإنَّهُ يقضْي قابلًا ويهدي، ولا شيء عليه غير ذلك"، وظاهرهُ: أنَهُ لا شيء عليه من مشي المناسك، وإلا [فما المشي] (¬4) الذي أشار إليه غيرهُ؟ والجواب عن [الوجه] (¬5) الرابع: إذا قال عليه المشي، ولم يذكر مكة ولا شيء من حرمها، فقد اختلف فيه المذهب على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: حجه. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: فالمشى. (¬5) سقط من أ.

أحدهما: أنه لا شيء عليه، وهو قول ابن القاسم. والثاني: [أن المشي يلزمه] (¬1) إلى مكة [وهو قول أشهب] (¬2) والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: أنه عليه المشي. (¬2) سقط من أ.

المسألة الثانية فيمن نذر إحراما بحجة أو عمرة إن فعل كذا، فلا يخلو من وجهين

المسألة الثانية فيمن نذر إحرامًا بحجة أو عُمرة إن فعل كذا، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أنَّ يقيِّد يمينه بوقت. والثاني: ألا يقيدها بوقت. فإن قيَّدها بوقت غير معين، وكان يمينه [على حج] (¬1)، مثل: أن يقول "يوم [يفعل] (¬2) كذا أو كذا" أو "حين [يُفعل] (¬3) كذا وكذا"، فهو مُحرم، فقد قال في "الكتاب": "إنَّهُ يكون مُحرمًا يوم كلمه"، وكذلك العُمرة. وهل يكون محرمًا بنفس الفعل أو لابد من إحرام يُحرم به، فيصير بإحرامه مُحرمًا؟ فإنه يتخرّج على قولين: أحدهما: أنه لا يكون محرمًا بنفس [الفعل] (¬4)، حتى [يبتدئ] (¬5) الإحرام، وهو ظاهر ما في "كتاب ابن المواز". والثاني: أنه يكون محرمًا بنفس الفعل، وهو ظاهر قول سحنون. فإن تمكن له الخروج [خرج] (¬6) في الحال، وإلا بقى على إحرامه حتى يصيب الطريق، والحج والعمرة في ذلك سواء. فإن لم يُقيد يمينه بوقت، مثل: أن يقول "إن [فعل] (¬7) كذا وكذا فهو ¬

_ (¬1) في أ: بحج. (¬2) في ب: أفعل. (¬3) في ب: أفعل. (¬4) في أ: الحج. (¬5) في ب: يجدد. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: فعلت.

محرم "أو" أنا محرم بحجة وعمرة": أمَّا الحجَّ فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يحنث قبل أشهر الحج. والثاني: أن يحنث في أشهر الحج. فإن حنث قبل أشهر الحج: أمّا في قوله: "فأنا محرم"، فلا خلاف أعلمه في المذهب: أنَّهُ لا يكون محرمًا بنفس الحنث، وإنما يكون محرمًا إذا دخل عليه أشهر الحج، لأنّ أشهر الحج وقتٌ للإحرام، وقبلها لا يجوز. فإذا حنث قبل أشهر الحج: أخَّر، حتى تدخل أشهر الحج إلا أن يكون له نية، فيكون محرمًا يوم حنث، كما قال في "الكتاب"، غير أنَّهُ ينظر: فإن كان أخر الخروج [بعد الحنث] (¬1) إلى دخول أشهر الحج، لم يصل ولم يدرك، لبعد بلده: فينبغي أن يخرج بغير إحرام، فإذا دخلت عليه أشهر الحج في طريقه أحرم. فإن حنث في أشهر الحج، فإنَّ الإحرام يلزمه ويكلف الخروج، للوفاء بعهده وبيمينه. وأمَّا قوله: "فأنا محرم" هل هو مثل قوله: "فأنا أحرم [أم لا] (¬2)؟. فالمذهب على ثلاثة أقوال كُلها قائمة من المدونة: أحدها: [أن قوله "فأنا مُحرم" كقوله "فأنا أحرم"] (¬3)، فلا يكون محرمًا بنفس الحنث، وهو قول [ابن القاسم] (¬4) في "كتاب الأيمان والنذور" لأن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: أمنهما سواء. (¬4) في جـ: النخعي والشعبي.

قوله: "محرم" و"أحرم" سواء اسمٌ للفعل يكون للماضي والحال والاستقبال. والثاني: أن قوله "أحرم" و"محرم" سواءٌ، يكون محرمًا بنفس الحنث، وهو قول سحنون وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب "النكاح الأول" في باب "النكاح إلى أجل"، في قوله: إذا قال لها "إذا مضى هذا الشهر، فأنا أتزوجك، فرضيت ورضى وليُّها"، قال مالك: "هذا النكاح باطل، ولا يقام عليه"، فظاهر قوله: يقتضي أن يمضي الشهر ينعقد النكاح بينهما من غير تجديد عقد، ولذلك قال مالك "النكاح باطل"، وهو تأويل الشيخ أبى محمد [عبد الحق] (¬1) في "النكت"،ولو لم يكن الأمر كذلك لما احتاج أن يقول أنَّ النكاح باطل أو لا عقد هناك، وإنَّما ذلك مواعدة، والمواعدة في النكاح في غير عدة، لا أعرف في المذهب مَنْ منعها. والثالث: أنه يكون محرمًا بنفس الحنث، في قوله: "أنا محرم"، ولا يكون بالحنث في قوله: "أنا أحرم حتى يبتدئ الإحرام"، فيُحمل قوله "أنا مُحرم" أي: صرتُ مُحرمًا، كقولهُ "فامرأتهُ طالق" أي: صارت ذات طلاق. وأما العمرة يحنث بها الحالف، فلا يخلو حين حنثه من أحد وجهين: أحدهما: أن يمكنه الخروج [ووجد أصحابه] (¬2). والثاني: ألا يمكنه الخروج. فإن أمكنهُ الخروج، ووجد الأصحاب، فلا خلاف أعلمهُ في المذهب نصًا أنَّهُ يُؤمر بالخروج، ولا يجوز له التأخير [إلا متأولًا] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

فإن لم يمكنه الخروج، لعدم الصحابة، والطريق منقطعة، هل يلزمهُ الإحرام مع الافتقار، أو لا يلزمهُ إلا مع المشي؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يلزمه الإحرام بالحنث، وينتظر الخروج حتى يتمكن له، وهو قول سحنون، وبه قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب. والثاني: أنَّهُ لا يلزمهُ الإحرام [إلا إذا] (¬1) تمكن [له] (¬2) الخروج فيخرج ساعتئذ، وهو قول مالك. وسبب الخلاف: الأمر المُطلق، هل هو على الفور أو على التراخي؟ فمن رأى أنهُ على الفور، قال: يحرم بنفس الحنث. ومن رأى أنهُ على التراخي، قال: لا يُحرم حتى يخرج، وهو ظاهر فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يحرم حتى تنبعث به راحلته (¬3)، ويتوجه للذهاب، وليس من السنة أن يحرم ويُقيم في أهلهِ، ولأنَّ عقد اليمين لم يتضمن الإحرام بالقول، وإنَّما استحسن تعجيلهُ. وفي السألة وجهٌ رابع: وهو أنَّ [يقول] (¬4) عليه المشي، ولم يذكر مكة ولا المسجد، فقال ابن القاسم: "ولا شيء عليه". وقال أشهب: "عليه المشي إلى مكة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (166) ومسلم (1187). (¬4) سقط من أ.

المسألة الثالثة فيمن عجز عن المشي، فيركب

المسألة الثالثة فيمن عجز عن المشي، فيركب (¬1)، فلا يخلو ركوبهُ من أن يكون اختيارًا أو اضطرارًا: فإن كان ركوبه اختيارًا، فإنه يعود ثانية، ويمشي الطريق كله، ويهدي [و] (¬2) إن كان ركوبه اضطرارًا؛ [إما] (¬3) لكونه عاجزًا عن مشي الطريق كله، [و] (¬4) إمَّا لكونه مريضًا لا يُرجى برؤه، وإما لضعف اعتراهُ، فإنه يخرج [على تلك الحالة] (¬5) ويحج راكبًا ويهدي، ولا عودة عليه [بعد ذلك] (¬6) لأن ذلك [غاية] (¬7) مقدورة. وكذلك إن كان [مريضًا] (¬8) يرجى برؤهُ، إلا أنَّ نذرهُ كان في عام بعينه: فإنَّهُ يحج راكبًا، ويهدي ولا شيء عليه غير ذلك. وإن كان نذرهُ في عام مضمون، مثل: أن ينذر أن يحج ولم يعين سنة، فعجز عن المشي [ففرقه] (¬9)،فلا يخلو تفريقهُ من أن يكون تفريق زمان أو تفريق مكان: فإن فرقه تفريق زمان، مثل أن يمشي أشهرًا ويقعدُ أشهرًا، هل يجزئهُ أو يُعيد؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: ¬

_ (¬1) المدونة (3/ 80 - 83). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ، جـ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: مرضه مرضًا. (¬9) في ب: وفرقه.

أحدهما: أنهُ يجزئهُ، ولا يلزمهُ العودة ثانية، وهو مشهور المذهب، لأنَّه قد مشى الطريق كُلَّهُ. والثاني: أنَّهُ [يُعيد] (¬1) ثانية، ويهدي ولا يجزئهُ الذهاب الأول، وهو قول ابن حبيب، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة"، لأنه قال: فيمن ركب بعض الطريق، "أنه [يعيد] (¬2) ثانية، ويمشي ما ركب، ويهدي لما فرق من مشيه"، وهذا مثل [قول] (¬3) ابن حبيب الذي يقول: "إن تتابع المشي واجب، وهو بمنزلة من عليه [صوم] (¬4) شهرين متتابعين"، وقول ابن القاسم في المدونة، مثل قول ابن حبيب، لأنَّ المشي قد وَفَّاهُ، فلا يُؤمر بالهدى إلا على القول بوجوب تتابع المشي. وسبب الخلاف: المشي، هل يلزم تتابعهُ أم لا؟ فإن فرَّقهُ تفريق مكان، مثل: أن يركب موضعًا، ويمشي موضعًا، فلا يخلو ما ركب من أن يكون يسيرًا أو كثيرًا: فإن كان يسيرًا، مثل: الأميال أو البريد أو اليوم، فإنهُ يهدي ولا عودة عليه ثانيةً. فإن كان ما ركب كثيرًا، فلا يخلو من أن يكون موضعهُ قريبًا من مكة أو بعيدًا منها: فإن كان قريبًا من مكة، مثل: المدينة ونحوها، فهل يعود ثانيةً ويمشي الطريق كله أو يمشي ما ركب خاصة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهُ يمشي ما ركب [خاصة] (¬5)، ويركب ما مشى، وهو قول ¬

_ (¬1) في ب: يعود. (¬2) في أ: يعود. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

ابن القاسم في "المدونة"، لأنه لم يفرق في "الكتاب" بين القُرب والبعد. والثاني: أنهُ يرجع ثانية، ويمشي الطريق كله، وهو قول عبد الملك، وهو قول مالك في "كتاب محمد" أيضًا. وإن كان بعيدًا مثل: مصر [من] (¬1) مكة، فهل يعيد ثانية أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهُ يعيد ثانية، ويمشي أماكن ركوبه، وهو قوله في "كتاب محمد"، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أنه لا يكلف العودة أصلًا، وهو قوله في شرح "ابن مزين"، وهو ظاهر "المدونة" أيضًا، لأنه قال: "إذا علم أنه لا يقدر أن يستوعبه بمشيه ثانية لأجل المشقة، فلا يكلف الرجوع، ولا يكلفه على من كان موضعه أعظم وأصم. وإن كان موضعه بعيدًا جدًا، مثل: إفريقية من مكة والأندلس من مكة، فلا يكلف الرجوع قولًا واحدًا، وهذا تحصيل بعض المتأخرين، ويشبه أن يكون تفسيرًا لما في "المدونة"، وربُك أعلم. واختلف فيما إذا نزل مدينة أو منزلًا، هل له أن يركب في حوائجه أم لا؟؟ [قولان] (¬2) قائمان من المدونة: أحدهما: أن لهُ أن يركب في حوائجه، وهو نصَّ "المدونة". والثاني: أنه لا يجوز له أن يركب في حوائجه ولا في رجوعه لحاجة نسيها وراءه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة، [على اختلاف الروايات ونص ما في الكتاب. قال مالك: إذا أخر طواف الإفاضة لا يركب في رمي الجمار] (¬3)، ولا بأس أن يركب في حوائجه، قال ابن ¬

_ (¬1) في أ: و. (¬2) ساقطة من أ. (¬3) سقط من أ.

القاسم: "وأنا لا أرى به بأسًا، وإنما ذلك عندي بمنزلة ما لو مشى فيما وجب عليه، ثم أتى المدينة يركب في حوائجه أو رجع من الطريق في حاجة فيما قد مشى، فلا بأس أن يركب فيها، وهذا قول مالك الذي أحب أن [آخذ] (¬1) به" (¬2)، وفي رواية ابن عتاب: "يجب ونأخذ به"، ونص هذا في "كتاب الحج": الذي أحب وآخذ به". قال [القاضي] (¬3) أبو الفضل رحمه الله: "في هذا بيان وإشارة إلى الاختلاف من قوله: في الذي ركب في حوائجه أو في رجوعه لحاجته أنَّ لهُ قولًا آخر غير الذي أحب أن يأخذُهُ، وهو ما لهُ منصوص في سماع ابن القاسم، في الذي يركب في المناهل أحب إليّ أن يهدي، قال ابن القاسم: "وبلغني عن مالك [أنه] (¬4) كان يستثقل أن يركب فيها، يعني في الذي سقط بعض متاعه" [أو في حوائجه] (¬5)، فيتحصل له في "الكتاب" قولان: في ركوبه في الحوائج وفي حاجة نسيها، وهذا كله ينبني على الأصل الذي قدمناه في تتابع المشي، هل يجب [أم لا يجب. فافهم هذا التخريج فهو ظاهر لمن تأمل ما في الكتاب فإذا كلف الرجوع ثانية هل يجعل] (¬6) مشيه الثاني [في] (¬7) غير ما جعل فيه الأول أم لا؟ فلا يخلو من أن يكون نذرهُ مطلقًا أو مقيدًا: فإن كان مطلقًا، مثل: أن يقول: عليّ المشي إلى مكة، ولم ينو حجًا ¬

_ (¬1) في الأصل: يأخذ، والمثبت من المدونة. (¬2) المدونة (3/ 76) بتصرف يسير. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

ولا عمرة"، فلا يخلو من أن يجعله في حج أو عُمرة: فإن جعله في عُمرة، فله أن يجعل الثاني في غير ما جعل فيه الأول. فإن جعله في حج، فلا يخلو ركوبه في المناسك أو دون المناسك: فإن كان ركوبه في المناسك، هل يجعل الثاني في غير ما جعل فيه الأول أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من"المدونة": أحدهما: أن يجعل الثاني في غير ما جعل فيه الأول [وهو قول مالك] (¬1). والثاني: أنهُ [لا يجعل الثاني في غير ما جعل فيه الأول] (¬2) [وهو قول ابن القاسم] (¬3). وسبب الخلاف: اختلافهم في ناذر المشي فمشى فجعله في [حجة] (¬4)، ثم فاته الحج، فهل يلزمهُ مشي المناسك قابلًا أو لا يلزمه؟. فابن القاسم يقول: يلزمه، ومالك يقول: لا يلزمهُ فإن كان ركوبُه في غير المناسك، فله أن يجعل الثاني في غير ما جعل فيه الأول. فإن كان نذره مقيدًا، مثل: أن ينوي بمشيه حجة أو عمرة: فإن كان الأول حجًا، فلا خلاف أنهُ لا يجعل الثاني في غير ما جعل فيه الأول. وإن كان الأول عمرة، فهل له أن يجعل الثاني في غير ما جعل فيه الأول؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ليس له ذلك. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: عمرة.

أحدهما: أنهُ لا يجعل الثاني في غير ما جعل فيه الأول، وهو مذهب "المدونة" وهو المشهور. والثاني: أنَّ له أن يجعل الثاني في حج، وإن كان الأول عمرة، لأنَّ عمل [الحج] (¬1) يأتي [على عمل] العُمرة وزيادة، وهو قول ابن حبيب. ¬

_ (¬1) في أ: العمرة.

المسألة الرابعة فيمن قال: أنا أحمل فلانا إلى [مكة]

المسألة الرابعة فيمن قال: أنا أحمل فلانًا إلى [مكة] (¬1) أو: أنا أحج به (¬2)، ففي هذه المسألة ثلاثة أسئلة: فالسؤال الأول: إذا قال "أنا أحملُ فلانًا إلى بيت الله". والثاني: إذا قال "أنا أحج بفلان". والثالث: إذا قال "أنا أحج فلانًا". فالجواب عن [السؤال] (¬3) الأول: إذا قال: "أنا أحمل فلانًا إلى بيت الله"، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن ينوي بذلك حمله [على] (¬4) عنقه. والثاني: أن ينوي بذلك حملهُ في ماله. والثالث: ألا يكون له نية. فأما الوجه الأول: إذا نوى حملهُ على رقبته، فإنه يحج ماشيًا ويهدي، وهل الهدى في حقه واجب أو [مستحب] (¬5)؟ فعلى قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن الهدى عليه واجب، وهو ظاهر قوله في هذه المسألة. والثاني: أن عليه الهدى استحبابًا، وهو قولهُ في الكتاب، فيمن نذر أن يمشي إلى بيت الله حافيًا راجلًا، فإنه ينتعل: ¬

_ (¬1) في ب: بيت الله. (¬2) انظر "المدونة" (3/ 84 - 85). (¬3) سقط من أ. (¬4) ساقطة من الأصل. (¬5) في أ: استحباب.

فإن أهدى: فحسن، وإن لم يهد: فلا شيء عليه وحمل المشقة هو المقصود في كلا الموضعين. وأما [الوجه] (¬1) الثاني: أن ينوي بذلك حمله في ماله دون رقبته، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن [ينوي أن] (¬2) يحج معهُ. والثاني: أن ينوي بذلك حملهُ في مالهِ خاصة. والثالث: ألا يكون له نية أصلًا. فإن نوى أن يحج معه، فلا إشكال أنه يحج راكبًا، ولا هدى عليه. فإن أحب الرجل أن [يحج] (¬3) معه زودهُ، وإن أبى فلا شيء عليه إلا أن يحج بنفسه. فإن نوى إحجاجه [بنفسه من ماله] (¬4) خاصة، دون أن يحج [هو] (¬5) معه، فهذا أيضًا مما لا إشكال فيه: أنه لا شيء عليه، لا حج ولا هدى إلا أن يُزَوِّدُ الرجل من ماله خاصة، فإن أبى الرجل أن يحج: فلا شيء عليه. وهذا معنى قول علي بن زياد في "المدونة". فإن نوى ألا يحمله على رقبته، ولم تكن له نية فيما عدا ذلك، فلا إشكال أنه: يلزمه إحجاج الرجل من ماله إن أحبَّ أن يحج، وهل يلزمه هو الحج في نفسه أم لا؟ فهذا مما اختلف تأويل [حذاق] (¬6) المتأخرين فيه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: يمشي. (¬4) في أ: بذلك. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

في "الكتاب"، لأنه قال في "المدونة": "وإن لم ينو حمله على عنقه، حج هو راكبًا، وحج بالرجل معه، ولا [هدى] (¬1) عليه". فبعض المتأخرين يقول: "إنما ألزمهُ الحج في نفسه لأنهُ نواهُ، ولو لم ينوه لكان لا شيء عليه". وبعضهم يقول: يلزمه الحج، بظاهر لفظه كأنه أراد السير معه إلى بيت الله، ويدل عليه قوله في "الكتاب": "أنا أحج بفلان" أوجب [عليه] (¬2) من قوله: "أنا أحملهُ" -لا يريد على عنقه، وذلك يدل على أنه يلزمه الحج في الأمرين جميعًا، إلا أن أحد اللفظين أظهر من الآخر في الوجوب، لأن قوله: "أحج بفلان"، يفيد السير معه، والمشي في صحبته مع ما يناله من الرفق بماله، وهذا أظهر احتمالات اللفظ. وقوله: "أنا أحمله"، ولم يرد بذلك على عنقه، فأظهر الاحتمالات أن يحمله في ماله، ويزوده منه دون أن يسير معه. ولا شك ولا خفاء أنَّ: لفظة "الحمل" مشتركة بين العرف اللغوي والعرف الشرعي: فالعرف اللغوي: الحملُ على الرقبة، والعرف الشرعي: الحملُ في المال، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حَمَلْتُ على فرس عتيق في سبيل الله (¬3) "، قال الله تعالى: {وَلا عَلَى الّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَوْا ...} (¬4)، واللفظة إذا وردت ولها عرفان: لغوي وشرعي، فإنما تحمل على الشرعي عند كثير من الأصوليين، ولهذا اعتبر ¬

_ (¬1) في أ: شيء. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (1490) ومسلم (1620). (¬4) سورة التوبة الآية (92).

"مالك" نية الحالف، فإذا لم تكن له نية: رجع في ذلك إلى العرف الشرعي. وأما الوجه الثالث: إذا لم تكن له نيةٌ أصلًا، لا في حملهِ على رقبته، ولا في حمله [في ماله]، هل يغلب في ذلك العرف الشرعي خاصة أو لابد من ملاحظة الأمرين؟ فهذا مما يتخرج على قولين: أحدهما: تغليب العرف الشرعي، ويحججه من ماله، ويحج هو راكبًا، وهو ظاهر "الكتاب" على الخلاف الذي قدَّمناه في حجه هو. والثاني: أنهُ لابد من ملاحظة الشقين واعتبار الأمرين، ويحج الحالف ماشيًا، ويحج الرجل من ماله راكبًا. والقولان: مخرجان، والتخرج ظاهر لمن أنصف. والجواب عن [السؤال] (¬1) الثاني: إذا قال أنا أحج بفلان إلى بيت الله، فإنَّ الحالف يحج هو راكبًا، ويحج بالرجل معه من ماله، إلا أن يأبى، وإنما يلزمه الحج في نفسه: لقوله: "أنا أحج"، ولزمه أن يحج بالرجل: لقوله: "بفلان". والجواب عن [السؤال] (¬2) الثالث: إذا قال: "أنا أحج فلانًا إلى بيت الله"، فلا خلاف أنه: لا يلزمه الحج في نفسه، لأنه لم ينذره ولا التزمه، وإنما يلزمه إحجاج الرجل من ماله، فإن أبى: فلا شيء عليه [وعليه أكثر الرواة] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ، ب: الوجه. (¬2) في أ: الوجه. (¬3) سقط من أ.

المسألة الخامسة إذا قال عليه السير أو الانطلاق أو الذهاب إلى مكة

المسألة الخامسة إذا قال عليه السير أو الانطلاق أو الذهاب إلى مكة (¬1)، والكلام في هذه المسألة في فصلين: أحدهما: في معرفة ما يجب عليه المشي من الألفاظ. والثاني: في معرفة ما يلزمه المشي [إليه] (¬2) من المواضع المنذورة. فالجواب عن [الفصل] (¬3) الأول: في معرفة ما يجب به المشي من الألفاظ المنذورة: ولا خلاف في لفظ "المشي" إذا نوى به الحج أو العُمرة: أنَّهُ يلزمه. واختلف فيما لم تكن له نيَّة، فالمشهور أنه يلزمه المشي، ولأشهب في "كتاب محمد": "لا [شيء] عليه"، وقد قدَّمناهُ. وأمَّا ما عداهُ من الألفاظ: كالذهاب والانطلاق والمسير والرُكوب والإتيان والضرب وغير ذلك من الألفاظ التي يفهم منها المشي، فلا يخلو من أن يريد بذلك العمرة أو الحج [أو] (¬4) لا. فإن قال: "عليه الذهاب إلى مكة"، ونوى بذلك حجًا أو عُمرة: فلا خلاف في المذهب أنه يلزمه إتيان مكة بحج أو عمرة إن شاء ماشيًا وإن شاء راكبًا. وكذلك سائر الألفاظ التي ذكرنا. فإن لم تكن له نية، هل يعطى لهذه الألفاظ حُكم المشي؟ ¬

_ (¬1) المدونة (3/ 88). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: بأس. (¬4) في ب: أم.

فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أنه لا يلزمه إتيان مكة في جميع هذه الألفاظ، وهو قوله في المدونة. والثاني: أنه يلزمه الإتيان في جميع [هذه الألفاظ] (¬1) حاجًا أو معتمرًا، وهو قول أشهب، ونص ابن القاسم فيها في الركوب أيضًا. واختلف المتأخرون: هل اختلف قول ابن القاسم في سائر الألفاظ، كاختلافه في الركوب؟ فمنهم من قال: إنما اختلف في الركوب خاصة دون ما عداه، وهو ظاهر تأويل أبي عمران الفاسي، وهو قول ابن المواز (¬2) من متقدمي الأصحاب، وقد سئل أبو عمران الفاسي: "لم اختلف قول ابن القاسم في ناذر الركوب إلى مكة، ولم يختلف قوله في الذهاب والانطلاق ونحوه؟ فقال: "يحتمل أن يحمل على قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} (¬3)، فذكر المشاة والركبان، فكان الركوب في اللفظ أمام المشي، وذلك جيد في المخاطبات، كقولهم: "حافيًا منتعلًا"، ويحتمل أيضًا أن يكون: إنما وجد الخلاف في الركوب منصوصًا، فيقاس عليه باقي الألفاظ. ومنهم من يقول: إن ابن القاسم اختلف في الجميع، وأن له قولة أخرى، مثل قول أشهب، وهو الصحيح، وله في "المدونة" شواهد تدل على ذلك مع ماله منصوص في الأمهات مع ما نقله بعض مشايخ المذهب: منها قوله في "المدونة": "قال سحنون": وقد كان يختلف في هذا ¬

_ (¬1) في أ: ذلك. (¬2) النوادر (4/ 28 - 29). (¬3) سورة الحج الآية (27).

القول على رواية فتح الياء وكسر اللام -يريد ابن القاسم، وفيه رواية أخرى بضم الياء وفتح اللام، وقد وقع مُبينًا في بعض النسخ، وقد كان ابن القاسم يختلف قوله، ثم ذكر قول أشهب. وقد اختلف فيما اختلف فيه ابن القاسم، ويؤخذ من "المدونة" (¬1) أيضًا، من قوله: "أنا أضرب بمالي حطيم الكعبة"، فقال: "يلزمه الحج أو العمرة، ولم يشترط في ذلك نية"، واختصر المسألة حمديس على أن قوله اختلف في جميع الألفاظ، وعليه تأويل ابن لُبابة، وقد حكى القولين [عنه] (¬2) ابن حارث، وقد روى سحنون وابن رشد [عنه] (¬3) مثل قول أشهب. قال [القاضي] (¬4) أبو الفضل عياض: وأكثر المختصرين على أنَّ الخلاف في الركوب وحده. وعلى القول: بأنه يلزمه الإتيان في الركوب، هل يجوز له المشي إذا أراد أن يحمل المشقة على نفسه أو لا؟ [فظاهر] (¬5) قول ابن القاسم: أنه يجوز له أن يؤثر المشي على الركوب إذا اختارهُ، ولأنه اختار الأثقل على الأخف. وأشهب يقول: "لا ينتقل عن الركوب إلى المشي، لأنه خفف عن نفسه مؤنة الكراء والشراء، وهو نفقة وجبت عليه لله تعالى أن يخرجها في طاعة الله تعالى سبحانه [فوجه القول الأول بمساواة هذه الألفاظ أن المقصود منها الوصول إلى مكة فمشى. فهم أن المقصود منها إتيان مكة فأمر بإتيانها كما لو عبر بلفظ المشي والاعتبار بالمعاني لا بالألفاظ] (¬6). ¬

_ (¬1) (3/ 98). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ، جـ.

ووجه القول الثاني: أن لفظة "المشي" [مفهومة مشهورة] (¬1) في عرف الاستعمال، إذ العادة الجارية والسنة المطردة أن من حلف بالمشي إلى مكة، أنه قصد إتيانها، لإحدى العبادتين: إما حجة وإما عمرة. وما عدا هذا من سائر الألفاظ بخلاف ذلك حتى ينوي، وذلك من باب التخصيص بالعبادة. والجواب عن [الفصل] (¬2) الثاني: في معرفة ما يلزم المشي إليه من المواضع، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشد المطي إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس، أو إيليا شك من الراوي" (¬3). ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -:"لا تُستعمل المطى" (¬4) أي: لا [يتكلف] (¬5) السفر، لأن المطايا لا تُستعمل إلا للأسفار البعيدة التي يحتاج فيها إلى استعداد المراكب والأزواد، وسواءٌ كانت معهُ راحلة أم لا. فإذا نذر المشي إلى غير هذه المساجد الثلاثة، فلا يجوز له الوفاء به، لأن ذلك نذر معصية، ويؤمر أن يعكسه في طاعة، إلا أن ينذر المشي إلى ساحل من [السواحل] (¬6)، فإنه يؤمر بالوفاء، وإن كان من أهل مكة والمدينة أفضل [لكون] (¬7) السواحل فيها [الحرس] (¬8) على المسلمين وسدِّ ¬

_ (¬1) في ب: معروفة. (¬2) في أ: الوجه. (¬3) أخرجه البخاري (1189) ومسلم (827) بلفظ: "لا تشد الرحال" وأخرجه أحمد (11901) والبخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 210) وعبد بن حميد في "المسند" (951) والطبراني في "الكبير" (2161) ومسند الشاميين (1538) من طرق بلفظ: "لا تشد المطى". (¬4) لم أفف عليه بهذا اللفظ. (¬5) في ب: يكلف. (¬6) في ب: سواحل الكر. (¬7) في أ: لكن. (¬8) في ب: الحرص.

الثغور، وهو معنى لا يوجد بالمدينة [ولا بمكة] (¬1). فإذا نذر المشي إلى أحد المسجدين، مسجد الرسول أو مسجد إيليا، فلا يخلو من أن يذكر المسجد أو لا يذكره: فإن ذكر المسجد أو لم يذكره، إلا أنه [قصد] (¬2) الصلاة في مسجد ذلك الموضع: فلا خلاف أعلمه في المذهب في وجوب الإتيان [عليه] (¬3)، إلا ما ذكر عن إسماعيل القاضي؛ أنه لا يلزمه شيء إلا أن يشاء [أن] (¬4) يركب. وإنما الخلاف في الركوب، هل يجوز له إذا نذر المشي أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يركب ولا يمشي، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يمشي ولا يركب، وهو قول ابن وهب في "الكتاب" أيضًا. والثالث: التفصيل بين القُرب والبُعد: فإن كان قريبًا، مثل: الأميال اليسيرة، مشى. وإن كان بعيدًا، ركب. وهو قولٌ حكاهُ ابن المواز في "كتابه". وهذا الخلاف ينبني على الأصل الذي قدمناه في التخصيص بالعادة، وذلك أن العادة إنما جرت بالمشي إلى مكة، فيطالب الناذر بمقتضى لفظه، والقضى عن عُهدة لفظه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: نوى. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: و.

وإن لم يذكر المسجد، ولا قصد الصلاة في ذلك الموضع. أما مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسجد بيت المقدس، فلا يلزمه إتيانهما جملة وأما مكة فقد اضطربت أجوبة "الكتاب" وألفاظه في ناذر المشي إلى بعض [مواضع مكة] (¬1)، وقد قال ابن القاسم: "إذا قال عليه المشي إلى مكة والمسجد الحرام أو البيت أو الكعبة أو الحجر أو الركن: لزمه. وإن قال إلى الصفا أو المروة أو الزمزم أو المقام أو مني أو عرفات: لم يلزمه". فألزمه: ابن القاسم المشي إذا قال: إلى مكة، وهي القرية، وأسقط عنه: إذا قال الصفا والمروة، وهما داخلان في القرية، وهما من مشاعر الحج أيضًا، وألزمه: إذا قال المسجد، وأسقطه عنه: إذا قال الزمزم أو المقام، وهما داخلان في المسجد، وهذا كله اضطراب واختلاف وتناقض من القول، وتحصيل في ذلك أنه مهما ذكر البيت أو جزءًا من أجزائه: فلا خلاف في [المذهب] (¬2) في وجوب المشي عليه، من غير اعتبار نية. واختلف فيما كان متصلًا بالبيت، كالحجر والحطيم: على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن له حكم البيت، وهو تأويل أبي محمد بن أبي زيد (¬3) على "الكتاب"، وهو ثابت في الحجر في بعض الروايات [في "كتاب النذور"] (¬4)، ولا يكون المشي إلا على من قال: مكة، إلى أن قال: أو الحجر أو الركن، وهما ثابتان في "كتاب الحج" ونص في "المدونة" في كتاب ¬

_ (¬1) في أ: المواضع. (¬2) في ب: المدونة. (¬3) النوادر (4/ 29). (¬4) في ب: هاهنا.

الصلاة الأول: "أن الحجر حكمه حكم البيت". والثاني: أن الحجر والحطيم لا يلزمه المشي [إليهما] (¬1)، وهو قول ابن حبيب [وقد تأول ما قاله ابن حبيب] (¬2)، على أنه اختلاف حال، ويكون قوله وفاق "المدونة"، ويحمل قوله: على أن الحجر والحطيم من البيت، لأن الحطيم ما بين الباب إلى المقام. فتكلم ابن القاسم على: ما اتصل منه بالبيت. وتكلم ابن حبيب على: أوله مما بان عن البيت. وكذلك الحجر، لأن منه ما هو من البيت، ومنه ما ليس منه، وإنما أدخل احتفاظًا واحتياطًا، كذا ذكر المحدثون والمؤرخون، فكأنه جعل غاية مشيه [إلى] (¬3) أوله، كقوله "إلى الحرم"، ولا شك أن البيت من الحرم، متصل به، وإنما سمي بالحطيم: لتحطم الناس فيه عند الطواف والركوع، وإذا ذكر المسجد: لا [شك أنه] (¬4) يلزمه وكذلك مكة، فكان يجب أن يلزمه المشي متى ذكر شيئًا مما هو داخل المسجد، كما قال في الكعبة، وهو تأويل ابن لبابة على "المدونة"، وهو خلاف منصوص [فيها فيكون] (¬5) فيما إذا ذكر شيئًا مما هو في المسجد: قولان، وكذلك أيضًا في القرية: أن يلزمه المشي مهما ذكر [شيئًا] (¬6) مما هو داخل فيها، كالصفا والمروة أو غيرهما، وهو قول أصبغ. ¬

_ (¬1) في أ: فيهما. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: على. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

وتغالى ابن حبيب حتى قال (¬1): يلزمه المشي، متى ذكر الحرم أو بعض ما هو داخل فيه، كمنى ومزدلفة، ولا يلزمه فيما هو خارج عنه إلا عرفة، فإنه يلزمه المشي إذا ذكرهُ وإن كان في الحل، لأنه من مشاعر الحج، فيتحصل في المسألة على هذا الترتيب أربعة [أقوال] (¬2). أحدها: أنه يلزمه [في الحرم] (¬3) ما حوى ولا يلزمه فيما هو خارج عنه [إلا عرفات] (¬4)، وهو قول ابن حبيب. والثاني: أنه لا يلزمه إلا في القرية وما [حوته] (¬5) دون ما كان خارجًا، عنها، وهو قول أصبغ (¬6). والثالث: أنه لا يلزمه إلا في ذكر القرية [نفسها] (¬7)، ولا يلزمه فيما هو داخل فيها، إلا المسجد وما فيه، وهو تأويل ابن لبابة على "المدونة"، ونص ابن القاسم فيما هو خارج المسجد [وداخل القرية] (¬8). والرابع: أنه لا يلزمه إلا من ذكر مكة أو المسجد أو الكعبة وأجزائها، وهو مشهور قول ابن القاسم في "المدونة" وغيرها. وسبب الخلاف: هل النظر إلى ما يقتضيه مجرد اللفظ أو النظر إلى ما جرت العادة بإتيانه في تلك الأماكن؟ فمن نظر إلى ما يقتضيه مجرد اللفظ، قال: لا يلزمه شيء. ¬

_ (¬1) النوادر (4/ 28 - 29). (¬2) في أ: أوجه. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: داخلها. (¬6) النوادر (4/ 29). (¬7) في ب: بعينها. (¬8) في أ: وداخله.

ومن نظر إلى ما جرت العادة بفعله هناك، قال: يلزمه إذا ذكر ما هو المقصود بالعادة، فكل منهم بناه على ما هو المقصود عنده. وبالله التوفيق والحمد لله وحده.

المسألة السادسة في ناذر الهدى

المسألة السادسة في ناذر الهدى (¬1)، ولا يخلو ناذر الهدى من وجهين: أحدهما: أن ينذر هدى ما لا يصح هديهُ. والثاني: أن ينذر هدى ما يصح هديهُ. فإن نذر هدي ما لا يصح هديهُ، إما عادة وإما شرعًا، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك لحرمتهِ في نفسه. والثاني: أن يكون ذلك لصفةٍ هو عليها. فإن كان ذلك لحرمتهِ في نفسه، ولصفةٍ هو عليها شرعًا كالحُر، فهل يلزمه أم لا؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه يلزمه الهدي، وهو قول مالك: [في المدونة] (¬2) إذا قال [الرجل] (¬3): "أنا أهديك إلى بيت الله، إن فعلت كذا وكذا". والثاني: أنه لا شيء عليه، لأنه نذر معصية، وهو قول [ابن] (¬4) عبد الحكم، وهو أحد قولي مالك في "كتاب الصيام"، فيما إذا نذر صوم ما لا يصح صومه، مثل: صوم يوم النحر ويوم الفطر. وسبب الخلاف: القصد إلى التقرب بما لا تصح القربة به شرعًا، هل هو قصد إلى البدل أم لا؟ فإن كان ذلك لصفة هو عليها في نفسه عادة، فلا يخلو من أن يكون ¬

_ (¬1) المدونة (3/ 89 - 90). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

ذلك في ملك نفسه أو في ملك غيره: فإن كان ذلك في ملك غيره، مثل أن يقول: "عبد فلان [أو داره هدي] " (¬1)، فهل يلزمه إخراج البدل أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يلزمه البدل، وهو نص "المدونة" (¬2). والثاني: أنه يلزمه البدل، ويؤخذ من قوله: في الحر، إذ لا فرق بينهما، لأن معنى قوله: "أنا أهديك"، أي: "أنا أنحرك"، ولا فرق [بين] (¬3) أن يقول ذلك لحرٍ أو لعبدٍ، إلا أن يقال لما كان يصح أن يباع ويشترى بثمنه هدى، فكأنه أراد بالهدي ثمنه، وهو لا يملكه ولا يلزمه شيء، كالقائل، عبد فلان ومال فلان صدقة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم" (¬4). فإن كان ذلك في ملك نفسه، مثل: أن يقول: "عبدي أو داري هدي"، أو ذكر من العروض ما لم تجر العادة بهديه، فإنه: يبيعه [ويشتري هديًا. وهل يجوز أن يمسكه ويخرج قيمته أم لا؟ قولان قائمان من المدونة أحدهما: يجوز أن يمسكه] (¬5)، ويخرج ثمنه، وهو ظاهر في قوله في "الكتاب": "إذا حلف فحنث، أخرج ثمن ذلك كله فبعث به أو اشترى به هديًا، وهو قوله في "كتاب الحج" [أيضًا] (¬6). وقوله "أخرج ثمنه" ظاهره: أنه من عنده، وهو نص المذهب في غير "المدونة"، على ما نقله الشيخ أبو إسحاق التونسي وغيره. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) (3/ 89). (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه مسلم (1641). (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

والثاني: أنه يبيعه ويشتري بثمنه هديًا، وهو نص "المدونة"، وظاهر هذا القول أنه [لا يجوز] (¬1) إمساكه وإخراج قيمته. وقد ذكر ابن المواز القولين عن مالك (¬2)، ولا فرق في جميع ذلك بين أن يكون بيمين أو بغير يمين. وسبب الخلاف: هل ذلك من باب شراء المرء صدقته أم لا؟ فإذا باعه أو أخرج قيمته من عنده، فلا يخلو من وجهين: إما أن يبلغ ذلك ثمن هدى أو لا يبلغ: فإن بلغ ثمن هدي، فإنه يبعث به لمن يشتري به هديًا من حيث يبلغ إلى مكة. فإن عجز عن ثمن هدي أو اشترى هديًا، وفضلت فضلة لا تبلغ ثمن هدى آخر، هل يبعث بها أو يتصدق حيث هو؟ قولان في الكتاب: أحدهما: أنه يبعث بها إلى خزنة الكعبة، وهو قولُ مالك في "الكتاب". والثانى: أن يتصدق بتلك الفضلة حيث هو، ولا يبعث بها، وهو قول ابن القاسم في الكتاب أيضًا. وفي المسألة قول ثالث: وهو أن يتصدق بها على مساكين مكة، وهو اختيار أبي الحسن اللخمي. ووجه قول مالك: أنه شيء نذر صرفه إلى مكة، فعجز عن ثمن هدي، فكان صرفه حيث هو أولى، إذ لاحق إلى الكعبة، كما لو قال: "مالى في طيب الكعبة أو كسوتها". ¬

_ (¬1) في ب: يجوز. (¬2) النوادر (4/ 33).

ووجه قول ابن القاسم: أنه لم ينذر للكعبة شيئًا، ولا بلغ ثمن هدي، فكان صرفه حيث هو أولى لمساكين مكة. ووجه قول أبي الحسن اللخمي: أنه لو اشترى به الهدي، لكان مساكين مكة أولى بلحمه، فهم بذلك الثمن أولى وقال أيضًا: "لو [اشترك به] (¬1) في هدي، لكان وجهًا". وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم. وهو أن ينذى هدي ما يصح هديه، كالإبل والبقر والغنم، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يقصد بذلك مكة. والثاني: أن يقصد به غير مكة من سائر البلدان. فإن قصد به مكة، فلا يخلو من أن يكون بموضع تصل منه الهدايا لقربه أو بموضع لا تصلُ منه: فإن كان بموضع تصل منه لقربه: فلا خلاف أنه ينفذها ويبعث بها. فإن كان في موضع لا تصل منه لبعده: فإنه يبيعها ويشتري بأثمانها أمثالها أو أفضل منها من [موضع] (¬2) [يغلب] (¬3) على ظنه أنها تصل منه ويشتري بثمن الإبل إبلًا، ولا يشتري بثمن البقر بقرًا، حتى يعجز عن الإبل، ولا بثمن الغنم غنمًا حتى يعجز عن الإبل والبقر، لأن ذلك أفضل، ولأن الإبل أعلى الهدايا وأدناها الغنم على ما نص عليه مالك في "كتاب الحج": "أنه إذا نذر هديًا، فإن الشاة تجزئه، يريد وإن قدر على البدنة". فإن قصد بنذره غير مكة، مثل: أن يقول: "لله على هدى لمساكين ¬

_ (¬1) في أ: اشتراه. (¬2) في أ: حيث. (¬3) في أ: تبلغ.

الأندلس أو لمساكين إفريقية" فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يقصد بذلك الرفق لمساكين تلك البلدة أو قصد تعظيمها. فإن قصد الرفق بمساكين تلك البلدة، فهل يجوز له السوق إليها أم لا؟ قولان: أحدهما: أن ذلك جائز، وهو قول مالك في "كتاب محمد". والثاني: أن ذلك [غير] (¬1) جائز، وهو قول مالك في "المدونة" [حيث قال] (¬2) وسوق البدن إلى غير مكة من الضلال. فإن قصد بذلك تعظيم تلك البلدة، [وتفخيمًا] (¬3) لشأنها: فلا خلاف في منع ذلك، لأن ذلك من خصائص مكة [وبذلك] (¬4) وأمثاله شرفها الله تعالى. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: تعجيلها. (¬4) سقط من أ.

المسألة السابعة إذا حلف بصدقة ماله

المسألة السابعة إذا حلف بصدقة ماله (¬1)، فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يعين جميع ماله للصدقة. الثاني: أن يعم جميعه دون تعيين. الثالث: أن يعين البعض [ويهمل البعض] (¬2). الرابع: أن يتصدق [بالبعض] (¬3) ويترك البعض. فالجواب عن الوجه الأول: إذا عين جميع ماله للصدقة، مثل: أن يقول: "داري صدقة" ولا مال له سواها، أو قال: "داري وعبدي [ودابتي] (¬4) "، حتى أتى على جميع ماله هل يلزمه إخراج الجميع أو لا يلزمه؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلزمه إخراج جميع ماله، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أنه لا يلزمه إلا قدر الثلث، وهي رواية رواها ابن الجلاب عن مالك (¬5). والثالث: أنه يخرج منه ما لا يضره إخراجه، على حسب قلة المال وكثرته، وهو قول سحنون. والجواب عن الوجه الثاني: إذا عم جميع ماله دون تعيين، مثل: أن يقول "مالي صدقة في يمين أو في غير يمين"، فإنه يجزئه من ذلك الثلث، ¬

_ (¬1) انظر: "المدونة" (3/ 94 - 95). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) التفريع (1/ 380).

ولا يلزمه أكثر، ولا خلاف في ذلك عندنا، لحديث أبي لبابة. وكان يجب إذا عين، حتى أتى على جميع ماله ألا يلزمه إلا الثلث خاصة من غير خلاف، إذ لا فرق في التحقيق بين أن يعين أو يعم، ولا يعين إلا أن يكون هناك [سنة] (¬1)، فيجب المصير إليها. والجواب عن الوجه الثالث: إذا عين البعض وعم البعض، مثل: أن يقول: "عبدي صدقة، وجميع مالي صدقة"، ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يخرج العبد، وثلث ما بقى من ماله، وهو قول مالك [في الكتاب] (¬2). والثاني: أنه يخرج ثلث العبد، وثلث ما بقى من ماله، وهي رواية ابن الجلاب (¬3) [عنه] (¬4). والجواب عن الوجه الرابع: إذا تصدق بالبعض، وترك البعض، فهل يخرج [جميع] (¬5) ذلك البعض أو يقتصر على ثلثه؟ قولان أيضًا: أحدهما: أنه يتصدق بجميع ذلك البعض، وإن كان أكثر [من الثلث] (¬6)، مثل أن يقول: "مالي صدقة إلا درهمًا"، وهو مذهب "المدونة". والثاني: أنه إذا سمى أكثر من الثلث، اقتصر على الثلث، مثل: أن يقول: "نصف مالي"، وهذا القول حكاه ابن وهب عن مالك في ¬

_ (¬1) في جـ: حجة أو قرينة. (¬2) سقط من أ. (¬3) التفريع (1/ 380). (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

"النوادر" (¬1). وهذه كلها أقوال مجردة لا دليل لها. فرع: فإن حلف بصدقة ماله، فلم يحنث، حتى حلف بثلث ماله فحنث في اليمينين جميعًا: أجزأه ثلث واحد، لأن جميع المال في حين اليمين الثانية على ملكه، وإنما كرر اليمين في شيء واحد. ولو حلف بثلث ماله فحنث: فإنه يخرج ثلث الجميع عن اليمين الأول، ثم ثلث الباقي عن اليمين الثانية. واختلف إذا حلف بصدقة ماله، فحنث [ثم حلف بصدقة ماله فحنث] هل يجزئه ثلث واحد أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يجزئه ثلث واحد، وهو قول ابن كنانة. والثاني: أنه يخرج عن الأولى ثلث جميع ماله، ثم يخرج عن الثانية ثلث الباقي، وهو قول أشهب. وهذا الخلاف داخل في المسألة، التي فوق إذا حلف بثلث ماله فحنث ثم حلف بالثلث مرة ثانية ثم حنث، ولا فرق بين السؤالين. فرع: ولو حلف فحنث، وماله مائة ثم حلف وحنث، وماله مائتان، ثم حلف وحنث، وماله ثلاثمائة، فليس عليه إلا مائة واحدة، ولو حنث أولًا، وماله مائة، ثم حنث ثانية، وماله ستون، ثم حنث ثالثة وهو أربعون، فليس عليه إلا ثلث المائة التي حلف فيها أولًا إلا أن يبقى بيده أقل من ثلثها، فلا شيء عليه غير ما بيده، إلا أن يكون تلف بسببه، فيلزمه وهو دين عليه. فإن حنث في يمينه، وقد زاد المال أو نقص، فلا تخلو زيادته من أن ¬

(¬1) (4/ 35).

تكون اختيارية أو اضطرارية: فإن كانت [اختيارية] (¬1) مثل: أن يقيد [المال] (¬2) بفائدة أو بربح من تجارة اتجر فيها، فعليه ثلثه يوم حلف. فإن كانت زيادته اضطرارية، كالولادة في الحيوانات أو ميراثًا ورثه، فعليه ثلثه يوم حنث، وهو قول مالك في "العتبية" (¬3) وكتاب "ابن حبيب" في الولادة، والميراث كالولادة. فإن نقص المال بعد حنثه [أو نقص بعد اليمين وقبل الحنث. فإن نقص المال بعد حنثه] (¬4)، فلا يخلو ذلك من أن يكون بسببه أو بغير سببه: فإن كان ذلك بسببه، مثل أن ينفقه أو فرط فيه حتى ضاع، فهل يضمن أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه ضامن، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا ضمان عليه، ولا يتبع بذلك دينًا، وهو قول أشهب. والقولان: في كتاب "ابن المواز". فإن كان ذلك بغير سببه ولا تفريط منه، فإنه: لا شيء عليه، ولا يتبع بشيء. فإن نقص بعد اليمين وقبل الحنث، فلا يخلو يمينه من أن تكون على بر أو على حنث: فإن كانت يمينه على بر، مثل قوله "إن فعلت كذا" أو لا فعلت، فلا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) البيان والتحصيل (3/ 218). (¬4) سقط من أ.

ضمان عليه فيما تلف قبل الحنث سواء كان ذلك بسببه أو بغير سببه: فإن كانت يمينه على حنث، مثل قوله: "إن لم أفعل" أو "لأفعلن" فهو كتلفه بعد الحنث، إن كان بغير سببه فلا ضمان عليه، وإن كان بسببه، إما بمباشرة الإنفاق، وإما بتفريط فقولان أيضًا، ونص ابن حبيب في "كتابه" (¬1): أن التفريط غير مؤاخذ به، ونص ابن القاسم وسحنون على أنه: مؤاخذ بالتفريط، مثل الزكاة. فهذه فروع لا يستغنى الناظر عنها في هذا الباب. والله الموفق للصواب [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "النوادر" (4/ 38). (¬2) زيادة في جـ.

المسألة الثامنة إذا نذر أن يذبح ولده أو أجنبيا من الناس أو نذر أن يذبح نفسه

المسألة الثامنة إذا نذر أن يذبح ولده أو أجنبيًا من الناس أو نذر أن يذبح نفسه (¬1): فإن نذر أن يذبح ولده، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك في يمين. والثاني: أن يكون في غير يمين. فإن كان ذلك في يمين، مثل أن يقول: "إن فعلت كذا، فعلى أن أنحر ولدي"، فهل يلزمه الهدى أو لا يلزمه؟ قولان: أحدهما: أن الهدى يلزمه، سواء ذكر المقام أو لم يذكره، قصد بذلك الهدى أو لم يقصده، وهو قول بعض الأشياخ، ومثله في كتاب الأبهري. والثاني: أنه لا هدي عليه، حتى يذكر المقام أو ينوي الهدي، وهو قول ابن المواز، وهو ظاهر "المدونة". فإن كان ذلك في غير يمين، مثل أن يقول "أنا أنحر ولدي" أو "لله على أن أنحر ولدي"، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن ينوي بذلك قربة أو يذكر المقام أو الصفا أو المروة أو لا نية له ولا ذكر المقام: فإن نوى بذلك قربة لله تعالى أو قصد بذلك موضعًا يفهم منه أنه أراد القربة، فلا خلاف في المذهب: أنه يجب عليه الهدي. واختلف هل يهدي بدنة أو يجزئه الكبش؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه يهدي بدنة مع القدرة، وهو ظاهر المدونة. ¬

_ (¬1) المدونة (3/ 99 - 100) و"النوادر" (4/ 31 - 33).

والثاني: أنه يجزئه كبش، وهو قوله في كتاب "ابن المواز" (¬1): فيمن نذر أن يذبح نفسه [ولا فرق بين من نذر أن يذبح نفسه] (¬2) أو نذر أن يذبح ولده. فإن لم تكن له نية، ولا ذكر المقام، فلا يلزمه الهدى، وهل تجب عليه كفارة يمين أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في المدونة: [وقال] (¬3) في "الكتاب": ويلزمه في نحر أبويه، مثل ما يلزمه في نحو ولده. وقال ابن القاسم في كتاب "ابن المواز": "وابنه والأجنبي في ذلك سواء". واختلف فيما إذا قال: "أنا أنحر أولادي"، هل يجزئه هدى واحد عن جميعهم أو عن كل واحد هدى؟ على قولين [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) انظر:"النوادر" (4/ 32). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من جـ.

المسألة التاسعة في لغو الأيمان

المسألة التاسعة في لغو الأيمان (¬1): والله تعالى يقول: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬2). واللغو [من] الكلام يطلق، والمراد به: الهجر والخنا، وهو المراد بقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (¬3)، [وهو قول [ابن دريد] (¬4): أحرز أجرًا وقلى هُجر اللغا] (¬5) ويطلق ويراد به الباطل من الكلام، و [منه] (¬6) قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (¬7)، كذا قال بعض أهل التفسير، ومنه قوله في الحديث: "إذا قلت لصاحبك [أنصت] (¬8)، والإمام يخطب، فقد لغوت" (¬9)، معناه: قال الباطل من الكلام. ويطلق ويراد به: الكلام الذي لا يفيد، ولا يتعلق به حكم من الأحكام، منه قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (¬10). واختلف العلماء في اللغو الذي رفع الله المؤاخذة به من الأيمان عن عباده اختلافًا كثيرًا، يجوز التعرض عنه لصرده [إلى التعريض ¬

_ (¬1) انظر: "المدونة" (3/ 101 - 102) و"التفريع" (1/ 382 - 383). (¬2) سورة البقرة الآية (225). (¬3) سورة القصص الآية (55). (¬4) في ب: ولله در ابن دريد حيث قال. (¬5) سقط من جـ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سورة الفرقان الآية (72). (¬8) ساقطة من الأصل. (¬9) أخرجه البخاري (934) ومسلم (851). (¬10) سورة البقرة الآية (225).

والتطويل] (¬1)، والذي في المذهب عندنا قولان: [أحدهما]: أن لغو اليمين [قول الرجل] (¬2) "لا والله"، "وبلى والله"، وهو مذهب عائشة رضي الله عنها، وقال به إسماعيل القاضي من أصحابنا البغداديين. والثاني: أن لغو اليمين أن يحلف [الرجل] (¬3) على أمر [يظنه كذلك] (¬4)، ثم يتبين له خلاف ذلك، مثل أن يقول: "والله ما لقيت فلانا أمس، ويقينه كذلك، ثم تبين له [أنه لقيه] (¬5)، فهذا لغو اليمين الذي رفع الله تعالى المؤاخذة عن العبد به في اليمين، ولا يكون إلا في الأيمان التي تكفر دون ما لا تكفر من الأيمان. ومعنى الظن "الذي ذكرناه": اليقين، لأنه لا يخلو في حين يمينه من أربعة أوجه: أحدها: أن يحلف على يقين عنده. والثاني: أن يحلف على الظن. والثالث: أن يحلف على الشك. والرابع: أن يحلف على تعمد الكذب. فإن حلف على اليقين، فهو المعنى الذي شرحناه. فإن حلف على الظن الذي هو تجويز الأمرين، أحدهما أظهر من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: يوقنه في ظنه. (¬5) في أ: الخلاف فيه.

الآخر، فلا يخلو من أن يكون قد صادف ذلك كما حلف أو جاء على خلاف يمينه: فإن صادف ذلك كما حلف عليه: بر في يمينه، واختلف في الإثم، هل يلزمه أم لا؟ على قولين متأولين على "المدونة": أحدهما: أنه لا إثم عليه، وقد خاطر وسلم، وهو قول ابن المواز، (¬1) وهو تأويل بعض المتأخرين على "المدونة". والثاني: أنه يكون مأثومًا، لأنه تجرأ باليمين على القطع على غير يقين، وإن جرى أن يكون إثمه أخف من تعمد الكذب في الذي ذكر أنه لقيه. فإن جاء على خلاف يمينه، مثل: أن يحلف على ظن أنه ما لقيه، ثم تبين له أنه لقيه: فإنه يكون مأثومًا، وإثمه دون إثم من تعمد الكذب، وأعظم من إثم من صادف الكذب كما حلف عليه. وكذلك من حلف على الشك الذي هو تجويز الأمرين، من غير أن يكون أحدهما أظهر من الآخر، في جميع ما ذكرناه وأما إذا حلف على تعمد الكذب، مثل: أن يحلف أنه ما لقيه، وهو يعلم أنه لقيه: فهذه يمين الغموس، وهي أعظم من أن تكون فيها كفارة، وسميت غموسًا: لأنها تغمس صاحبها في النار، ونعوذ بالله منها. وقد قالوا: إن الأيمان أربعة: يمينان لا تكفران، ويمينان تكفران: فاليمينان اللتان لا تكفران: هما ما قدمناهما من لغو اليمين [ويمين الغموس] (¬2). واليمينان اللتان تكفران [وهما] ما كان في مستقبل من الأمور، ومثل: ¬

_ (¬1) انظر: "النوادر" (4/ 8). (¬2) سقط من أ.

اليمين التي يكون فيها على حنث، مثل قوله: "إن لم أفعل" أو "لأفعلن": فهاتان يمينان تجب فيهما الكفارة وإذا وجد فيهما الحنث، لأن البر بالموافقة، والحنث بالمخالفة [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

المسألة العاشرة في اليمين [بأسماء الله]

المسألة العاشرة في اليمين [بأسماء الله] (¬1) تعالى وصفاته (¬2): ولا خلاف بين الأمة في جواز اليمين بأسماء الله تعالى، كقوله: "والله" "والرحمن" والرحيم" "والعزيز" "والسميع" "والبصير"، وجميع الأسماء التي سمى الله تعالى بها نفسه، وأذن [في اليمين] (¬3) بها إذنًا مطلقًا، قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (¬4) وقال عز من قائل: {فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ} (¬5)، وقال سبحانه: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (¬6)، فكل يمين بالذات جائزة، وإن اختلفت الأسماء. وأما صفات الله تعالى، "كقدرته" "وعزته" "وإرادته" "وعظمته" وغيرها من الصفات، فقد اختلف المذهب في جواز اليمين بها على قولين: أحدهما: جوازه ووجوب الكفارة على من [حنث] (¬7) بها [وهو قول ابن القاسم في المدونة] (¬8)، وهذا هو المشهور من المذهب. والثاني: أنه لا يجوز اليمين بها جملة، ولا تجب الكفارة على من [حلف] (¬9) بها، وهو ظاهر قوله في كتاب "ابن المواز" فيمن حلف، وقال: "لعمر الله"، قال: لا يعجبني أن يحلف بها أحد، وقال فيمن قال: "وأمانة ¬

_ (¬1) في أ: بالله. (¬2) انظر:"المدونة" (3/ 103). (¬3) في أ: باليمين. (¬4) سورة الأنعام الآية (109). (¬5) سورة المائدة الآية (106). (¬6) سورة النور الآية (6). (¬7) في أ: حلف والمثبت هو الصواب. (¬8) سقط من أ. (¬9) في ب: حنث.

الله" نحن نكره اليمين بها، وروى ابن زياد عن مالك أنه إذا قال: "لا والقرآن" "لا والمصحف": ليس بيمين، ولا كفارة على من حلف به فحنث، والمشهور ما قدمناه أن اليمين بالصفات جائزة، وغيره مهجور. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد (¬1): رواية علي عن مالك في ذلك منكرة، والمعروف عنه غيرها، ويحتمل أيضًا إن صحت الرواية: أن يريد بذلك [جرم] (¬2) المصحف وأوراقه دون المفهوم منه. ويحتمل أيضًا: أن يريد بالقرآن "فعل العبادة من القراءة"، كما قال: "يقطع الليل تسبيحًا وقرآنًا": أي قراءة، كما قال أشهب في العزة والأمانة، إذا قال: "وعزة الله وأمانته": "فإن أراد بذلك العزة التي هي صفة ذاته: فهي يمين، وإن أراد العزة التي خلقها في خلقه فلا شيء عليه، وكذلك الأمانة التي هي مقتضى صفات ذاته، فهي يمين، وإن أراد الأمانة التي جعلها بين العباد: فلا شيء عليه". وعلى القول بأن اليمين بالصفات جائزة، فهل حكم اليمين بها حكم اليمين بالأسماء في اتحاد الكفارة مع تعدد الأسماء أم لا؟ وذلك لا خلاف عندنا أن الأسماء إذا اجتمعت في يمين بالواو أو بغير الواو: أن عليه كفارة واحدة، كقوله: "والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" أو "والله والسميع والبصير والعليم والقدير واللطيف والخبير"، إلى غير ذلك من الأسماء، وإن كان قد وقع في "الكتاب" ما يوهم أن الكفارة تتعدد [بتعدد] (¬3) الأسماء، فيمن قال: "والسميع والعليم"، هذه الأسماء، وما أشبهها، كل واحد منها يمين، أي: أنها أيمان ¬

_ (¬1) انظر: "النوادر" (4/ 15). (¬2) في "النوادر": جسم. تهذيب اللغة (11/ 64). (¬3) سقط من أ.

لا تفترق بعضها من بعض، في أن تلزم الكفارة ببعضها دون بعض، ولم ترد أنها إذا اجتمعت كفر عن كل قسم منها، لأنها راجعة إلى شيء واحد، ولاسيما على مذهب أهل الحق أن الاسم هو المسمى، ولا فرق بين قوله "والله والعزيز والسميع" وبين قوله: "والله والله والله والسميع والسميع والسميع". وهل الصفات فيما ذكرناه كالأسماء على القول بجواز اليمين بها أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الصفات كالأسماء في اتحاد الكفارة، وإن تعددت الصفات، وهو قول ابن حبيب، وهو ظاهر "المدونة" على ما تأوله الشيخ أبو إسحاق التونسي، في قوله: "على عهد الله ومثياقه وكفالته". قال مالك: "هذه كلها أيمان [قال: ألزمه هاهنا في كل واحدة كفارة لأنه لم يجعلها أقسامًا وإنما هي كالنذور ومثل قوله: على أربعة أيمان] (¬1)، وأربعة نذور، فهذا تأويل أبي إسحاق التونسي. والثاني: أن عليه في كل واحدة كفارة، فرقت أو جمعت، وهذا تأويل بعض المتأخرين على المدونة [في] (¬2) المسألة التي ذكرناها، وهو قول مالك: "هذه أيمان كلها"، وهذا التأويل أسعد بظاهر الكتاب من تأويل أبي إسحاق التونسي. والثالث: التفصيل بين الصفات المتفقة المعاني والصفات المختلفة المعاني: فأما الصفات المتفقة المعاني، فتجب عليه فيها كفارة واحدة، كقوله: وعزة الله، وكبرياء الله، وجلال الله" لأن هذه الصفات بمعنى [واحد] (¬3) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: من. (¬3) سقط من أ.

فتجب [في جميعها] (¬1) كفارة واحدة. والصفات المختلفة [المعاني] (¬2)، "كقدرة الله" و"كلام الله" و"علم الله"، فيجب عليه في كل واحدة منها كفارة، لأن كل صفة من هذه تفيد معنى في الموصوف بخلاف معنى الآخر، وهذا تأويل أكثر الأشياخ أيضًا. وسبب الخلاف: اختلاف المتكلمين في جواز القول فيها بالاختلاف أو بالتغاير، وقد أبى جمهور الأشياخ أن يقال فيها أنها غير الذات، ولا خلافها، ولا هي. فأجاز أبو بكر بن الباقلاني، وغيره إطلاق المخالفة وأبى من المغايرة، ولم ينكر الإمام أبو المعالي [المغايرة] (¬3) بين كل شيئين كل التنكير وقال: لا يقطع [بتخطئة] (¬4) من قال ذلك، وأبى إطلاقه في الصفات والذات [وإذا رد] (¬5) الكلام [إلى] (¬6) أحد الغيرين، على مذهب أئمتنا، وهو ما [جرت] (¬7) بينهم المفارقة امتنع إطلاق هذا في الصفات والذات، ويلزم من رتب الكفارة على [تعادد] (¬8) ترتيب الصفات [أن يرتب] (¬9) الكقارة في الأسماء على ذلك. وقد اختلف فيها أيضًا: فذهب جمهور المشايخ إلى أنها راجعة كلها إلى ¬

_ (¬1) في أ: فيها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: على تخطىء. (¬5) في أ: وإدراك. (¬6) في أ: على. (¬7) في جـ: جازت. (¬8) سقط من أ. (¬9) في أ: أن ترتيب.

شيء واحد، وإن اختلفت معانيها. وأما الشيخ أبو الحسن الأشعري: فمذهبه فيها أنها منقسمة إلى ثلاثة أقسام: فمنها: ما يقال أنها هو. ومنها: ما يقال أنها غيره. ومنها: ما لا يقال فيها أنها هو، ولا هي غيره. وأما ما يقال فيها أنها هو: وذلك كل ما دل من الأسماء على الوجود بالله عند من يجعله مشتقًا وقديم ودائم وباقٍ. وأما ما يقال أنها غيره: وهو كل ما دل من الأسماء على صفة فعل كالخالق والرازق. وأما ما لا يقال فيه أنها هو، ولا هي غيره: وهو كل ما دل على صفة [في الذات] (¬1) [كالعليم] (¬2) والقادر والسميع [والبصير] (¬3). والحق في ذلك: أن مدرك العقل في الذات "الوجود والإثبات بما يجب لها من الصفات، وبما يستحيل عليها، وما وراء ذلك من تكييف وتوهيم: فالعقل معزول عنه وممنوع منه، كما قال بعض المحققين: التوحيد إثبات ذات غير مشبهة للذوات، ولا معراة من الصفات، وقد جنحت بنا سوابق العقل في هذا المكان، وأرخينا لها في العنان وطولنا عليها الميدان، وقد حان أن نثني العنان إلى المقصود، و [نعطف] على المطلوب. وإذا حلف باسم من أسماء الله تعالى وكرره، فلا يخلو من وجهين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: كالعالم. (¬3) أ: والعليم.

[أحدهما] (¬1): أن يكرره [على] (¬2) [شيء] (¬3) واحد. والثاني: أن يكرره على أشياء مختلفة. فإن كرر ذلك في شيء واحد، مثل أن يقول: "والله لا أدخل دار فلان" [والله لا أدخل دار فلان والله لا أدخل دار فلان] (¬4) وفلان واحد، فلا يخلو من أن يقصد بذلك التأكيد أو قصد بذلك تعدد الأيمان: فإن قصد بذلك التأكيد، فلا خلاف أنه لا تجب عليه إلا كفارة واحدة. وكذلك الحكم أيضًا إذا لم تكن له نية. فإن قصد بذلك تعدد الأيمان، هل تتعدد عليه الكفارة أو لا تتعدد عليه؟ فإنه يتخرج على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة" (¬5): أحدها: أن الكفارة تتعدد إذا قصد بالتكرار تعدد الأيمان، وهذا تأويل الشيخ [أبي عمران الفاسي] (¬6) على "المدونة"، وهذا الذي قاله ظاهر "المدونة" على إثبات [رواية] (¬7) الألف في قوله: "إلا أن يريد به النذر أو ثلاثة أيمان"، وهو ظاهر اختصار أبي سعيد البراذعي في "التهذيب"، إلا أن ينوي أن عليه ثلاثة أيمان كالنذور. والثاني: أن عليه كفارة واحدة إلا أن يريد مجمل النذور، وهو ظاهر قوله في "المدونة" (¬8)، حيث قال:"أرأيت إن نوى باليمين الثانية غير الأولى ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل. (¬2) في ب: في. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) انظر:"المدونة" (3/ 105) و"النوادر" (4/ 15 - 16). (¬6) في أ: أبي الحسن القابسي. (¬7) سقط من أ. (¬8) (3/ 115).

والثالثة، أعليه ثلاثة أيمان"؟، قال: "لا يكون إلا يمينًا واحدة إلا أن يريد بها مجمل النذور، وهذا التأويل أظهر من الأول. والثالث: أنه لا يلزمه إلا كفارة واحدة، حتى ينوي ثلاث كفارات، وهذا هو ظاهر قوله في "كتاب الظهار" من "المدونة"، في الذي كرر الظهار من زوجته، مثل: أن يقول لها: "أنت على كظهر أمي، أنت علي كظهر أمي، أنت علي كظهر أمي"، في شيء واحد أو في غير شيء، فليس عليه إلا كفارة واحدة، وإن نوى [بقلبه] (¬1) ثلاث ظهارات، [حتى] (¬2) ينوي ثلاث كفارات [وهو ظاهر قوله في كتاب الظهار من المدونة] (¬3)، فكما لا تتعدد عليه الكفارات إذا نوى ثلاث ظهارات حتى ينوي ثلاث كفارات. فكذلك لا تتعدد في اليمين بالله تعالى، وإن نوى ثلاثة أيمان، حتى ينوي ثلاث كفارات. وهذا القول ظاهر في الاستقراء جدًا والحمد لله به يُهتدى. ¬

_ (¬1) في ب: بقوله. (¬2) في ب: إلا أن. (¬3) سقط من أ.

المسألة الحادية عشرة في [النذر]، ولا يخلو [الناذر] من أحد وجهين

المسألة الحادية عشرة في [النذر (¬1)] (¬2)، ولا يخلو [الناذر] (¬3) من أحد وجهين: أحدهما: أن ينذر نذرًا لا مخرج له. والثاني: أن ينذر نذرًا له مخرج. فإن نذر نذرًا لا مخرج له، فلا يخلو من أن يكون نذرًا معلقًا باليمين أو غير معلق به: فإن نذرا وعلقه باليمين، مثل: أن يقول على نذر "إن فعلت كذا، وإن لم أفعل [كذا] (¬4) ". فإن كانت يمينه على بر، فلا شيء عليه حتى يفعل، ويمينه منعقدة، وسواء كانت يمينه على طاعة أو على معصية. فإن حنث في يمينه، كفر كفارة اليمين، وكان مثابًا على فعل الطاعة إن حنث بها، ومعاقبًا على المعصية إن حنث بها، مثل أن يقول: علي نذر إن أعتقت عبدي أو شربت خمرًا" أو ما أشبه ذلك. فإن كان يمينه على حنث، مثل أن يقول علي نذر: "لأعتقن أو لأشربن خمرًا"، فهذا يؤمر بفعل ما فيه طاعة، فيوفي به ويحنث نفسه فيما كان فيه معصية، يكفر ولا يوفى به. فإن اجترأ وفعل فقد سقط عنه اليمين، وهم آثم في شرب الخمر. فإن كان نذره غير معلق باليمين، مثل: أن يقول: علي نذر، ولم يجعل ¬

_ (¬1) انظر: "المدونة" (3/ 111) و"النوادر" (4/ 17 - 18). (¬2) في أ: الناذر. (¬3) في ب: النذر. (¬4) سقط من أ.

له مخرجًا: فالمذهب على أنه يكفر كفارة اليمين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:" [كفارة النذر] (¬1) كفارة اليمين" (¬2) خرجه مسلم. فإن قال: علي نذر لا كفارة له أو قال: "لا يكفره صدقة ولا صيام"، ثم حنث فليستغفر الله، وليكفر كفارة اليمين. فإن نذر نذرًا له مخرج، فلا يخلو ذلك المخرج من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون طاعة. والثاني: أن يكون معصية. والثالث: أن يكون المخرج أمرًا مباحًا، لا طاعة ولا معصية: فإن كان [المخرج] (¬3) طاعة، مثل قوله: "على النذر أن أحج أو أغزو أو أصوم أو أتصدق أو أصلي"، أو قال: [علي نذر] (¬4) حج أو صوم، فحذف "أن" التي مع الفعل، بتأويل المصدر، فتلك الطاعة هي المنذورة، وليس هناك يمين منعقدة تجب عليه الكفارة بالحنث فيها. فإذا حلف: أمر أن يوفى بتلك الطاعة، ولا يلزمه أكثر منها. فإن نذر معصية، مثل: أن ينذر شرب الخمر، فذلك على ستة أوجه: أحدها: أن يقول [عليّ النذر أن أشرب الخمر أو يقول: علي النذر شرب الخمر أو يقول] (¬5) علي النذر ألا أشربها". أو قال: "علي النذر لا شربتها". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه مسلم (1528) وهو بتمامه: "كفارة النذر كفارة اليمين". (¬3) في ب: النذر. (¬4) في أ: النذر. (¬5) سقط من أ.

أو قال: "النذر إن لم أشربها". أو قال: "عليَّ النذر إن شربتها". [أما إذا قال: "عليّ النذر أن أشرب الخمر"، أو "علي النذر شربها"] (¬1)، فذلك سواء، وهو نذر معصية، فلا شيء عليه إن ترك. وإن فعل: فعليه الحد مع الإثم، لأن فعل المعصية ليس مما ينذر. وإن قال "عليّ نذر ألا أشربها"، فقد نذر ترك فعل معصية، وذلك باليمين، ففي ذلك قولان: أحدهما: أن الشرب هو المنذور، فصار بمنزلة ما لو قال عليّ النذر أن أشربها، وهو قول ابن المواز. والثاني: أنه نذر معلق باليمين، ففي ذلك قولان: أحدهما: بمنزلة ما لو قال: عليّ نذر إن لم أشربها، وهو اختيار أبي الحسن اللخمي. فإن فعل سقط نذره، فإن لم يفعل كفر، وهو الظاهر من اللفظ، والله أعلم. وأما الوجهان الآخران، فهما يمينان: أحدهما: على البر، فلا شيء عليه، حتى يشربها، فإذا شربها كفر كفارة اليمين مع لزوم الإثم في ذلك. والثاني: علي الحنث، فيؤمر بأن يحنث نفسه، ويكفر ولا يشربها. فإن اجترأ وفعل: سقط عنه اليمين [ولا يكون] (¬2) آثمًا. فرع: ومن نذر إن رزقه الله ثلاثة دنانير أن يصوم ثلاثة أيام، فرزق ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

ديناران، فصام ثلاثة أيام، فرزق دينار ثالث، فإنه يبتدئ صيام ثلاثة أيام. وقال فيمن قال: إن قضى الله المائة الدينار التي تحملت بها، فعلي صيام ثلاثة أشهر، فقضاها إلا دينارًا واحدًا، فصام ثلاثة أشهر، ثم قضا الدينار ونصف، قال: "أرجو أن يجزئه، [ورأيته عندي ضعيفًا] (¬1)، وهذا تناقض من القول، وهي رواية أبي زيد بن أبي العمر [عن ابن القاسم] (¬2)، في "ثمانيته" في السؤالين جميعًا. فإن كان المخرج أمرًا مباحًا، وليس بطاعة ولا هو بمعصية، مثل: أن يقول "عليّ نذر أن أطلق زوجتي"، أو قال: "عليّ نذر أن أمشي إلى السوق"، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا شيء عليه فعل أو ترك. واختلف فيما إذا قال: [عليّ نذر] (¬3) أن أعتق عبدي، هل يؤمر أو يخير؟ قولان بين ابن القاسم وأشهب: فابن القاسم يقول: يؤمر. وأشهب يقول: يخير، على ما يستقصى عليه الكلام في كتاب "العتق الأول" إن شاء الله [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) في أ: وروايته عنده ضعيفة. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من جـ.

المسألة الثانية عشر في الاستثناء في اليمين

المسألة الثانية عشر في الاستثناء في اليمين (¬1): وحد الاستثناء: استخراج بعض ما تتناوله الجملة، لولاه لكان داخلًا، وهو ينقسم على قسمين: استثناء من غير الجملة. واستثناء من الجملة. فأما الاستثناء من غير الجملة، وهو الذي يقال له: الاستثناء من غير الجنس، فقد اختلف الأصوليون في جوازه: فذهبت طائفة إلى أن الاستثناء من غير الجنس لا يجوز، وهو مذهب مالك -رحمه الله-، وقد قال في كتاب "الصرف" من "المدونة" (¬2) فيمن باع ثوبًا بدينار إلا قفيز حنطة: أن البيع جائز، كأنه باع الثوب، وقفيز حنطة بدينار، فاضطر إلى أن جعل "إلا" بمعنى "مع"، وذلك نادر في كلام العرب، لأن الضرورة دعته إلى ذلك، لما كان الاستثناء من غير الجنس عنده غير جائز، ولو كان جائزًا عنده فكان يقول: يؤخذ من الدينار ثمن القفيز، وما بقى منه فهو ثمن للثوب. [قال] (¬3) الشافعي [- رضي الله عنه -] (¬4): وذهبت طائفة إلى القول بجوازه، وهو الصحيح مذهبًا ونظرًا، وهو قول مالك في "كتاب الغصب" من "المدونة" في قوله: "هذا الخاتم لفلان"، وفصه لي، والدليل على ذلك، قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ}، وإبليس ليس ¬

_ (¬1) انظر: "المدونة" (3/ 109) و"النوادر" (4/ 18 - 19). (¬2) (8/ 409). (¬3) في ب: كما قاله. (¬4) سقط من أ.

من الملائكة، على الصحيح من التأويل، وبه قال ابن مسعود والزهري والحسن وغيرهم: أن إبليس [لم يكن] (¬1) من الملائكة طرفة عين، وأن إبليس هو الجان، وهو أبو الجان، كما يقال آدم هو أصل الإنس، وهو من الإنس، وهو أبو الإنس. قالوا: والجان كلهم عن آخرهم من ولد إبليس، منهم مؤمن وكافر، فالمؤمن منهم جنى، والكافر منهم شيطان. وقال في آية أخرى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (¬2)، وهذا الاستثناء من غير الجنس، لأن [السلام] (¬3) ليس من اللغو ولا من التأثيم، ومنه قول النابغة الذبياني: وما بالربع من أحد إلا الأواري والأواري ليس من أحد. وأما الاسثتناء من الجنس، فإنه ينقسم أيضًا إلى قسمين: أحدهما: استثناء أكثر الجملة [والثاني: استثناء أقلها. فأما استثناء أكثر الجملة] (¬4)، مثل أن يقول: "لفلان عندي عشرة دراهم إلا تسعة"، أو قال لامرأته: "أنت طالق ثلاثًا إلا اثنتين"، فهل يجوز أو لا يجوز؟ فالمذهب عندنا على قولين: الجواز والمنع، والجواز: هو الأشهر. وإن كان ذلك في الكلام قبيح، لأنه يشبه الهزل وأما إذا كان استثناء أقل الجملة: فلا خلاف في جوازه، قال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} (¬5) فهو على وجهين: ¬

_ (¬1) في أ: ليس. (¬2) سورة الواقعة الآيتان (25 - 26). (¬3) في أ: سلامًا. (¬4) سقط من أ. (¬5) سورة العنكبوت الآية (14).

أحدهما: أن يكون الاستثناء بحرفه. والثاني: أن يكون بغير حرفه. فإن كان الاستثناء بحرفه، فإنه أيضًا على وجهين: أحدهما: الاسثتناء "بإلا". والثاني: الاستثناء "بأن" و "بإلا أن". وأما الاستثناء "بإلا"، فهل يجوز دون تحريك اللسان أو لابد فيه من تحريك اللسان، مثل "أن يحلف ما صحب اليوم قرشيًا"، ونوى إلا فلانًا، وما "شرب اليوم شرابًا" ونوى إلا عسلًا، و"ما أكلت اليوم طعامًا" ونوى إلا لحمًا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه تجزئه النية دون تحريك اللسان، كما تجزئه ذلك في محاشاة زوجته في الحرام، إلا أن يكون بمعنى المحاشاة، مثل: "سوى وغير وعدا وحاشا"، وغير ذلك من ألفاظ المحاشاة، وهو قول أشهب وروايته عن مالك، والفرق بين الاستثناء والمحاشاة: أن الاستثناء إخراج بعض ما تناولته الجملة، والمحاشاة: إخراج ذلك قبل اليمين، فإذا عقد الاستثناء قبل اليمين كان ذلك كالمحاشاة. والثاني: أنه لابد فيه من تحريك اللسان، وهو المشهور في المذهب. وعلى القول: بأنه لابد من تحريك اللسان، فهل تجزئه الحركة دون الجهر من القول أو لا تجزئه حتى يجهر؟ فلا يخلو من أن يكون حالفًا لنفسه أو مستحلفًا لغيره: فإن حلف لنفسه، فلا إشكال أن حركة اللسان تجزئه وإن كان الحالف مستحلفًا لغيره، فلا يجزئه إلا الجهر باستثنائه، وهو قول أصبغ وغيره، وبه قال ابن حبيب. وأما الاستثناء بأن وبإلا أن، كقوله: "إن شاء الله"، "إن شاء زيد"، "إن فعل عمر"، وكذا وكذا أو نحو ذلك في قوله "إلا أن يشاء" كقوله "إلا أن

يكون كذا" "إلا أن يفعل فلان كذا"، إلا إن أراد غير ذلك"، "إلا أن يشاء الله"، فهذا لا تجزئ فيه النية ولابد فيه من حركة اللسان. ولا خلاف في ذلك غير أن الاستثناء، لا يخلو أن يكون بمشيئة الله تعالى أو بمشيئة غيره: وأما الاستثناء بمشيئة آدمي، فإنها جائزة في كل يمين، كانت يمينه بالله تعالى، كقوله: "والله لأفعلن كذا إن شاء زيد" أو كانت بغير الله، كقوله: "امرأته طالق أو عبده حر إن شاء زيد". وأما الاستثناء بمشيئة الله، فإنه [ينفع] (¬1) في اليمين بالله تعالى، إذا قصد بقوله: "إن شاء الله" وجه الاستثناء بلا خلاف، وإن قصد بذلك الاستثناء امتثالًا لقول الله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬2)، فلا ينفعه الاستثناء اتفاقًا. وأما اليمين بالعتاق والطلاق إذا استثنى فيه، مثل أن يقول: إن فعلت كذا وكذا، وإن لم أفعل كذا وكذا، فامرأته طالق أو عبده حر أو عليه كذا وكذا من فعل البر إن شاء الله، فهل ينفعه الاستثناء أو لا ينفعه؟ قولان: أحدهما: أنه لا ينفعه جملة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وغيرها. والثاني: [التفصيل بين] (¬3) أن يكون الاستثناء راجعًا إلى الفعل أو راجع إلى اليمين: فإن كان الاستثناء راجعًا إلى الفعل، فإنه ينفعه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة الكهف الآيتان (23 - 24). (¬3) سقط من أ.

وإن كان راجعًا إلى اليمين، فلا ينفعه إذا نوى به الطلاق والعتق وعمل البر، وهو قول ابن الماجشون وأصبغ [في كتاب ابن المواز] (¬1)، وذلك أن الاستثناء ولغو اليمين رخصة من الله تعالى لعباده، قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (¬2)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف واستثنى، عاد كمن لم يحلف" (¬3)، والرخصة إنما يترخص [بها] (¬4) المطيع دون المعاصي، وذلك أن اليمين بالله وجميع أسمائه الحسنى وصفاته العُلى مباحة، ومن حلف بها، فإنه ينتفع فيها باللغو، والاستثناء، إذا استثنى واليمين بغير الله [محظور. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحلفوا بآبائكم من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت". ومن حلف بغير الله تعالى فقد غلط] (¬5)، وهو بها عاص، لأنه عظم غير الله ولا يعظم إلا الله، واليمين بالشيء تعظيم له، والعظمة لله لا لغيره. فإذا ثبت ذلك فهل من شرط الاستثناء أن ينعقد عليه اليمين [أو ليس ذلك من شرطه؟ فالمذهب فيه على قولين: أحدهما: أن من شرطه أن ينعقد عليه اليمين] (¬6) وأنه مهما فرغ من اليمين قبل أن يخطر له الاستثناء بالبال، فاليمين تلزمه ولا ينفعه الاستثناء، وهو قول ابن المواز (¬7) وإسماعيل القاضي، وقالا: "لابد للاستثناء من أن [يأخذ] (¬8) من اليمين ولو الحرف ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة المائدة الآية (89). (¬3) أخرجه ابن ماجه (2105) وصححه الألباني رحمه الله تعالى. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) انظر: "النوادر" (4/ 46).

الأخير، مثل أن يقول مثلًا: "بالله الذي لا إله إلا هو"، فإذا خطر له الاستثناء قبل أن ينطق بالواو، فإن الاستثناء ينفعه. فإن خرج الواو ثم خطر له الاستثناء عقيب اليمين، فإنه لا ينفعه، وهذا نص مذهبهما. والثاني: أنه ينفعه الاستثناء إذا وصله بيمينه من غير صمات ولا كلام، وإن لم يعقد عليه اليمين ولا خطر له إلا بعد الفراغ من جميع حروف اليمين، وهو قول ابن القاسم، ونصه في "المدونة". وسبب الخلاف: اختلافهم في الاستثناء، هل هو رفع أو حل؟ فمن رأى أن الاستثناء هو رفع اليمين، وضعه من الانعقاد، قال لا ينتفع به إلا إذا أخذ بعض حروف اليمين من آخره، لأن اليمين غير منعقدة بعد. ومن رأى أن [الاسثتناء حل] (¬1) لليمين بعد انعقاده، قال: ينتفع به إذا وصله بيمينه، من غير صمات ولا كلام، وهو ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف واستثنى عاد كمن لم يحلف" (¬2)، فقوله: "من حلف": ظاهره أن اليمين قد وقع وكمل. وأما الاستثناء بغير حروفه، فهو أن يفيد العموم بصفة، وذلك يقتضي إخراج من ليس على تلك الصفة من ذلك العموم، وهو استثناء بالمعنى، وله حكم الاستثناء في أنه لا ينتفع [به] (¬3) إلا بحركة اللسان، واتصاله بالكلام، مثل: أن يقول: "والله ما رأيت اليوم قرشيا عاقلًا"، فإن وصل "عاقلًا" بالكلام نفعه، وإلا فلا، وهو أعنى الاستثناء لا يكون إلا في أحد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) تقدم. (¬3) سقط من أ.

وجهين: أحدهما: العدد المسمى. والثاني: اللفظ الذي يقتضيه العموم، وهو يحتمل الخصوص. فأما العدد المسمى، فلا يخلو من أن يكون نص بالتسمية على آحاده أو لم ينص: فإن نص بالتسمية على آحاده وأعيانه، مثل: أن يقول: "والله لأعطين فلانًا وفلانًا وفلانًا بثلاثة دراهم إلا فلانًا منهم": لم ينفعه استثناؤه فإن لم ينص بالتسمية على آحاده وأعيانه، مثل أن يقول امرأته طالق ثلاثًا إلا واحدة، إن فعل [كذا وكذا] (¬1)، هل ذلك من باب المحاشاة ثم لا ينفع فيه الاستثناء إلا إذا عقد اليمين أو يصح فيه الاستثناء وينتفع به، وإن لم يعقد عليه يمينه إذا استدركه به وصله بيمينه أم لا: على قولين في المذهب: وزعم ابن رشد أن القولين قائمين من "المدونة"، ولم يظهر لي من أين استقرأهما من "المدونة". وأما اللفظ الذي يقتضي العموم، وهو يحتمل الخصوص، مثل: أن يقول: "والله لأعطين فلانًا ثلاثة دراهم إن شاء الله" أو "إن شاء فلان"، فهذا ينتفع فيه بالاستثناء على الخلاف بين ابن القاسم وابن المواز فيما قدمناه [بين ابن القاسم وابن المواز] (¬2). ومسألة محاشاة الزوجة إذا قال "الحلال عليه حرام"، تأتي في "كتاب التخيير والتمليك" إن شاء الله [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من جـ.

المسألة الثالثة عشر في البر والحنث

المسألة الثالثة عشر في البر والحنث [هل] (¬1) يقعان بأقل الأشياء فيمن حلف ألا يأكل هذا الشيء [أو من هذا الشيء؟] (¬2). اعلم أنهم قالوا [إن] (¬3) الحنث يقع بأقل الأشياء، والبر لا يقع إلا بأكمل الأشياء، وذلك أن الله تعالى حرم ما نكح الآباء والأبناء، بمجرد العقد في القرآن، فقال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬4)، وقال سبحانه: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} (¬5). قال في المطلقة المبتوتة: "فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره" (¬6) فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النكاح المراد: الوطء، وأنها لا تحل إلا بالعقد دونه، فدل ذلك على أن ما يباح به الشيء أقوى مما يخطر به، ولهذا قال مالك رحمه الله: فيمن حلف ليهدمن هذا البئر، فهدم منها حجرًا لا يبر إلا بهدم جميعه، وإن حلف ألا يهدمه، فهدم حجرًا منها حنث، فهذا نص قول مالك في "المدونة" وغيرها. وإن كان الخلاف يدخل في السؤالين بالمعنى، وقد قال ابن الجلاب فيما إذا حلف ألا يفعل فعلًا ففعل بعضه أنه [يحنث ثم] (¬7) قال: "يتخرج فيها قول آخر أنه لا يحنث إلا بفعل جميعه" (¬8)، وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب العتق الأول فيمن قال لأمتيه إن دخلتما هذه الدار، فأنتما حرتان أو لامرأتيه فأنتما طالقتان، فدخلت إحداهما [فقال] (¬9) لا شيء عليه، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سورة النساء الآية (22). (¬5) سورة النساء الآية (23). (¬6) سورة البقرة الآية (230). (¬7) سقط من أ. (¬8) التفريع (1/ 384). (¬9) سقط من أ.

حتى تدخلا جميعًا. قال بعض المتأخرين: "هذا منه جنوح إلى أن الحنث لا يقع بأقل الأشياء". وقد اختلف فيمن قال لزوجته: "إن وطئتك فأنت طالق، هل يحنث بمغيب الحشفة أو لا يحنث إلا بالوطء التام؟ وهذا الخلاف ينبني على الخلاف في اعتبار المقاصد والألفاظ، وهي قاعدة تُبنى عليها مسائل الأيمان، فيجب علينا التعرض لذكرها، [والاعتبار بتحصيلها] (¬1)، فنقول وبالله التوفيق: لا يخلو الحالف على نفسه من وجهين: أحدهما: أن يحلف بما لا يقضي عليه به [أو بما يقضي عليه به] (¬2)، ولم تقم عليه بيمينه بينة. والثاني: أن يحلف لغيره في حق أو وثيقة. فالجواب عن الوجه الأول: إذا حلف على نفسه بما لا يقضي عليه [به] (¬3) كالمشي إلى بيت الله أو بما يقضى عليه به إلا أنه لم يقم ليمينه بينة، كاليمين بالطلاق أو بالعتاق، وجاء مستفتيًا، فلا يخلو من أن تكون له نية أو لا نية له: فإن كانت له نية، فلا خلاف أنها مقدمة على المقاصد، وإن كانت مخالفة لظاهر لفظه. وإن لم تكن له نية، وكان ليمينه بساط أو عرف من مقاصد الحالفين في ¬

_ (¬1) في ب: وصرف العناية لتحصيلها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

أيمانهم، هل يحمل يمينه على البساط أو ما عرف من مقاصد الناس في أيمانهم أو على ظاهر لفظه، فقد اختلف فيه [المذهب] (¬1) على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يبدأ بالبساط، فيحمل [عليه] (¬2) إن كانت ليمينه بساط، ومعنى البساط: السبب الموجب لليمين. والثاني: أن اللفظ مقدم على البساط، وهو المقصد العرفي. والثالث: أنه يحمل عليهما، فإن اجتمعا [بدأ] (¬3) ببساط يمينه، وإن عدما رجعا إلى العادة. والجواب عن الوجه الثاني: إذا حلف لغيره في حق أو وثيقة، هل يقبل منه [النية] (¬4) إذا ادعى أم لا؟ قولان: أحدهما: أن نيته مقبولة. والثاني: [أنها] (¬5) غير مقبولة. وينبني الخلاف على الخلاف [في اليمين] (¬6): هل [اليمين] (¬7) على نية الحالف أو على نية [المستحلف] (¬8)؟ والقولان مرويان عن ابن القاسم في "العتبية" (¬9) من رواية أصبغ. وإما إذا حلف ألا يأكل هذا الشيء [أو من هذا الشيء] (¬10)، مثل: أن يحلف ألا يأكل هذه الحنطة أو من هذه الحنطة، فقد اختلف فيها المذهب على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب ـ: أن نيته. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: هي. (¬8) في ب: المحلوف له. (¬9) البيان والتحصيل (3/ 321). (¬10) سقط من أ.

أحدها: أنهُ لا يأكل ما تولد منها جملة، سواء قال هذه أو مِن هذه أو نكر، أو عرف أو لم يعرف، وهو مذهبهُ في "المدونة". والثاني: أنه لا شئ عليه في أكل ما تولد منها إلا أن يقول من هذا القمح وهو قول ابن المواز.

المسألة الرابعة عشر فيمن حلف ألا يكلم فلانا أو ليكلمنه

المسألة الرابعة عشر فيمن حلف ألا يكلم فلانًا أو ليكلمنه (¬1): فإذا حلف ألا يكلمه، فلا يخلو الحالف من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقصده بالكلام. والثاني: ألا يقصده بالكلام. والثالث: أن يقصده بما ليس بكلام، إلا أنه يفهم منه معنى الكلام. فالجواب عن الوجه الأول: إذا قصده بالكلام مشافهة، فلا يخلو المحلوف عليه من أن يكون قد سمع كلام الحالف أو هو في حكم السامع، إلا أنه مشغول عنه بغيره أو كان نائمًا أو أصم. فإن سمع كلامهُ وفهم عنه مراده، فلا خلاف أنه حانث. وإن [كان] في حكم السامع، إلا أنه مشغول عنه بغيره أو كان نائمًا أو أصم أو كان المحلوف عليه بمكان بعيد، فمد الحالف صوته، بحيث أن لو استمع به لسمعه، فهل يحنث أم لا؟ قولان في المذهب قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه حانث. والثاني: أنه لا يحنث. والقولان: لابن القاسم في [العتبية] (¬2) و"الموازية". وسبب الخلاف: اعتبار المقاصد والألفاظ: فمرة اعتبر الألفاظ، فقال: يحنث. ¬

_ (¬1) المدونة (3/ 130 - 131). (¬2) في جـ: المدونة.

ومرة اعتبر المقاصد، فقال: لا يحنث، لأن قصده بترك الكلام الهجران والمقاطعة، فإذا كان على تلك الصفة، فلا يخرجه هذا الكلام [عن] (¬1) مقصوده. والجواب عن [الوجه] (¬2) الثاني: إذا لم يقصده بالكلام بعينه، وإنما تكلم لأمر وجب عليه أو لعارض طرأ: فإن كان كلامه لأمر وجب عليه، مثل: أن يسلم عليه وهو [معه] (¬3) في الصلاة: أما التسليمة الأولى: فلا خلاف أنه لا يحنث بها، لأن المقصود بها الخروج من الصلاة. وأما التسليمة الثانية: فإن كان الحالف مأمومًا فرد على الإمام، ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه لا يحنث، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أنه حانث، وهو قوله في "كتاب محمد". وإن كان الإمام [هو] (¬4) الحالف، فسلم تسليمتين على قول، فقيل: يحنث، وقيل: لا يحنث، وهو قول محمد بن ميسر، وهو قول مالك في "المدونة"، وقال: فيمن حلف ألا يكلم زيدًا، فسلم عليه وهو في جماعة، علم به أو لا: حنث، إلا أن يحاشيه [بنيته] (¬5) فعلى هذا يحنث إذا سلم عليه وهو في الصلاة، ويتخرج من "الكتاب" قولان. ¬

_ (¬1) في أ: من. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: بيمينه.

وهذا الخلاف أيضًا مبني على الاعتبار في المقاصد والألفاظ: فمن اعتبر الألفاظ: حنثه. ومن اعتبر المقاصد: لم يحنثه، لأن المقاصد الهجران، وذلك لا يخرجه منه. والجواب عن [الوجه] (¬1) الثالث: وهو أن يقصده بما ليس بكلام على الحقيقة، ولكنه يفهم منه [معنى] (¬2) الكلام، مثل أن يكتب إليه كتابًا أو يرسل إليه رسولًا، هل يبرئه ذلك أو يحنثه أو لا يحنثه أو لا يبرئه ولا يحنثه؟ فالكلام من وجهين: [أحدهما] (¬3): أن يكون له نية. والثاني: ألا يكون له نية. فإن لم تكن له نية، فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه حانث في الكتاب والرسول، وهو نص "المدونة". والثاني: أنه لا يحنث لا في الكتاب ولا في الرسول، وهو قول أشهب في "كتاب محمد" (¬4)، وهو ظاهر "المدونة". في اعتبار الألفاظ. والثالث: التفصيل بين الكتاب والرسول، فيحنث في الكتاب دون الرسول، وهي رواية ابن القاسم وأشهب عن مالك، وقد وقع في "المدونة" لفظ مشكل، وهو قوله: "وإن كتب الحالف للمحلوف عليه ثم استرجع الكتاب قبل أن يصل إلى المحلوف عليه، لم يكن عليه شيء، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) ساقطة من الأصل. (¬4) النوادر (4/ 125).

وهذا آخر قوله. وقوله: "وهذا آخر قوله": مشكل، لأن هذا يشعر بالخلاف، إذا وصل مثل ما ذكر في الطلاق في "كتاب الأيمان بالطلاق"، ولا ينبغي أن يكون الخلاف في رجوع "الكتاب" في "مسألة النذور": لا على اعتبار المقاصد ولا على اعتبار الألفاظ، لأنه لم يسمعه، [ولا رأى] (¬1) "الكتاب" فأشبه ما لو كلمه، وهو غائب عنه بخلاف الطلاق الذي لا يعتبر فيه سماع الزوجة ولا حضورها. فإن ادعي نية، فقال: "إنما أردت ما شفهته" فهل تقبل منه نيته أم لا؟ على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن ينوي في الكتاب والرسول، وهذا أحد أقاويل الكتاب. والثاني: أن لا ينوي فيهما معًا، وهو قوله في "كتاب محمد". والثالث: أنه ينوي في الرسول دون الكتاب، وهو منصوص في "الكتاب"، فالقولان: فيه منصوصان، والثالث: مستقرأ. وسبب الخلاف: اعتبار المقاصد والألفاظ: فمرة اعتبر المقاصد والألفاظ. ومرة اعتبر المقاصد فقال: يحنث لأن المقصد المقاطعة والمهاجرة. فإذا كاتبه أو راسله فقد واصله وزال الهجران وحصل له بهما الأنس. فإن ادعى نية المشافهة فتداعى ما يكذبه العرف والعادة ومن رأى أن من الناس من يقصد هجرانًا دون هجران فيكتب ويراسل ويقف عن المشافهة ولا فرق بين الكتاب والرسول وذلك أن الذي في الكتاب ليس بكلام المتكلم على الحقيقة لأن الإنسان قد يكتب ولا يتكلم ولا ينطق. ولو نطق ما زاد ¬

_ (¬1) في أ: ولأن.

معنى ولا صار ذلك الكتاب كلامه وهذا مذهب [أهل] (¬1) السنة. أن المكتوب في المصاحف ليس بقرآن على الحقيقة لأن القرآن كلام الله تعالى وهو صفة من صفاته التي لا يجوز أن [يتصف] (¬2) بها غيره على ما هو [مبسوط] في كتب المتكلمين. وذلك في الرسول أبعد. لأنه إنما يحكي مثل كلام رسله. ومن فرق بين الكتاب والرسول فقد لاحظ الألفاظ. فكأنه يرى الذي في الكتاب هو لفظ الذي قاله فعبر عنه بالكتاب فأشبه الكلام والرسول يحكي معاني [الألفاظ] (¬3). فليس ما نقله الرسول هي الألفاظ بعينها وهذا كلام بعض المتأخرين كأبي إسحاق وغيره. والذي قاله ليس بصحيح لما قدمناه. وقال ابن حبيب: إذا وصل [الكتاب] (¬4) إلى المحلوف عليه فقرأ عنوانه حنث وإن لم يقرأه وأقام عنده سنين لم يحنث ولا وجه لما ذكر لأنه إذا حنث بالمكاتبة لكونها ضربًا من المواصلة ورفعًا لبعض المقاطعة. فكذلك يقع بنفس وصول الكتاب [من الحالف] (¬5) وإن لم يقرأه. والذي قاله ابن حبيب ظاهر ما أشار إليه في المدونة لقوله: "إذا استرجع الكتاب قبل أن يصل إلى المحلوف عليه، لم يكن عليه شيء، وهو آخر كلامه". فإذا كان ابن حبيب لا يحنثه بنفس وصول [الكتاب] (¬6) حتى يقرأه أو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يوصف. (¬3) في ب: ألفاظه. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

يقرأ عنوانه، فبأن لا [يحنث] (¬1) بنفس الكتابة أولى وأحرى، وقد ظهر لي أن كلام ابن حبيب له وجه، وذلك أن بنفس وصول الكتاب لا يحصل به الإيناس للمحلوف عليه، حتى يفتحه ويقرأ ما فيه أو يقرأ عنوانه، لأنه ربما توحش في نفسه أن الكتاب في سبه، وإظهار [البغض] (¬2) له وزيادة المنافرة فيما بينهما؛ فإذا قرأه أو قرأ عنوانه تبين له أن القصد بالمكاتبة تجديد المواصلة وهجران [المفاصلة] (¬3)، لأن العنوان ترجمة لما في الكتاب، ومنه يظهر انقطاع العنف والإنابة إلى الألفة والمحبة في [جنب] (¬4) رب الأرباب، والله الموفق للصواب. ولو حلف ليكلمنه، فكتب إليه كتابًا أو أرسل إليه رسولًا: لم يبر، لأنه لم يكلمه. وهذا مما يبين [المسألة] (¬5) [أن الأول إذا حلف ألا يكلمه، فكتب إليه أنه لا يحنث] (¬6)، إذ لو كان للكتاب [نفس] (¬7) كلامه لبر فيه، إذا حلف ليكلمنه، [فالخلاف الذي] (¬8) [يجري] (¬9) في تلك المسألة [التي قدمناها] (¬10) يجري في هذه أيضًا. ولو كتب المحلوف عليه إلى الحالف، فلا يخلو من أن يقبل كتابه ¬

_ (¬1) في أ: يحلف. (¬2) في الأصل: البعض. (¬3) في ب: المقاطعة. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من ب. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: فالذي. (¬9) سقط من أ. (¬10) سقط من أ.

أم لا: فإن لم يقبل كتابه: لم يحنث. فإن قبل كلامه وقرأه، فهل يحنث أم لا؟ فقولان عن ابن القاسم: أحدهما: أنه يحنث. والثاني: أنه لا يحنث، وهو الأحسن، لأن الكلام من المحلوف [عليه] (¬1) لا يحنث به الحالف، كما لو اجتمع معه وكلمه، فلم يجاوبه لأنه إنما حلف لا [كلمته] (¬2)، ولم [يحلف] (¬3) لا كلمتني، اللهم إلا أن يكون منه صغو إلى كلامه وميل إليه، فيكون ذلك محل [النظر] (¬4) والله أعلم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: أكلمه. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: النطق.

المسألة الخامسة عشر فيمن حلف ألا يسكن في هذه الدار وهو فيها ساكن أو ينتقل منها.

المسألة الخامسة عشر فيمن حلف ألا يسكن في هذه الدار وهو فيها ساكن أو ينتقل منها. فإن حلف ألا يسكن في هذه الدار وهو فيها ساكن فإنه يمر بالانتقال. وهل يجوز له التراخي في الانتقال أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: إنه لا يجوز له التراخي ويخرج من ساعته. وإن كان في جوف الليل لم يمهل حتى يصبح إلا أن ينوي ذلك وإن لم يجبر الكراء إلا بالغلاء [أو ما لا يوافقه] (¬1) وهو قول [ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه يجوز له التراخي عن الانتقال يومًا وليلة. فإن مكث أكثر من ذلك حنث وهو قول] (¬2) أصبغ وأشهب في كتاب "محمد". وسبب الخلاف: اعتبار المقاصد والألفاظ. فمن اعتبر الألفاظ قال: يؤمر بالخروج من ساعته. ومن اعتبر المقاصد قال: يجوز له التراخي [إلا أن] (¬3) الاعتبار باليوم والليلة، لأنه أقل ما يقع عليه اسم السكنى [فاعتبر ابن القاسم الألفاظ في هذه المسألة] (¬4). وعلى القول بأنه لا يجوز له التراخي في الانتقال، فهل يكلف الانتقال بنفسه ومتاعه ساعة حلف أو يجوز [له] (¬5) تأخير المتاع؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: و. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

فإن انتقل بمتاعه دون عياله: حنث. وإن انتقل بعياله دون متاعه: قولان: أحدهما: أنه يحنث بترك متاعه، إلا أن يترك ما لا حاجة له [به] (¬1)، مثل: الوتد والمسمار، وهو قول ابن القاسم في ["الكتاب" (¬2)] حيث قال: "والرحلة عند مالك أن ينتقل بكل شيء له". والثاني: أنه لا يحنث بترك متاعه، تركه اضطرارًا أو اختيارًا، وهو قول أشهب، وأراه [ذهب] (¬3) في ذلك إلى قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} (¬4)، فنفى [عنها] (¬5) اسم السكنى إذا لم يكن فيها إلا المتاع. وكذلك لو حلف ألا يسكنها، فاختزن فيها: حنث عند ابن القاسم، ولم يحنث عند أشهب. ولو اشتغل بنقل [ما فيها] (¬6) من أشيائه أيامًا: لم يحنث عند الكل، لأن ذلك غاية المقدور. فإذا انتقل منها وسكن في غيرها، لم يعد إليها [أبدًا] (¬7)، لأن يمينه على العموم. وإن كانت يمينه على الانتقال، مثل: أن يحلف لينتقلن من هذه الدار، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: المدونة. (¬3) ساقطة من الأصل. (¬4) سورة النور الآية (29). (¬5) في أ: عنه. (¬6) في أ: قماشه. (¬7) سقط من أ.

لم يحنث بالتمادي في السكنى فيها إلى يوم أو يومين، إلا أن يكون له نية في الخروج ساعة اليمين أو يكون ليمينه بساط، يوجب أن يخرج من فوره، فيكون كالسؤال الأول: إذا حلف ألا يسكنها. وقال ابن المواز (¬1): "فإن أقام ثلاثة أيام يطلب منزلًا، فلم يجد فأرجو ألا شيء عليه، قيل: فإن أقام شهرًا، فقال: إن توانى في الطلب، خفت أن يحنث". ولابن حبيب في "الواضحة" (¬2): "لا يحنث، وإن أخر الانتقال، وهذا هو الأصل فيمن حلف ليفعلن، فإذا انتقل انتقل بكل شيء له"، وهو في هذا أشد من السؤال الأول وإذا انتقل وأقام الشهر كله ونحوه، ثم إن شاء أن يرجع إليها رجع، لأنه حلف على الانتقال، وقد وجد منه، والأول حلف ألا يوجد منه السكنى، فمتى وجد منه حنث. وكذلك إذا حلف ليخرجن فلانًا من داره، فأخرجه: فله رده بعد شهر. ولو حلف ليخرجن من المدينة، فإن لم ينو إلى بلد بعينه، فليخرج إلى ما تقصر فيه الصلاة، فيقيم نحو الشهر. قال مالك: " [وهو استحسان] (¬3)، [لا يحمله] (¬4) القياس [وقيل] (¬5): إنه يخرج إلى موضع يلزمه فيه إتيان الجمعة، فيقيم [فيه] (¬6) ما قل أو كثر، ثم يرجع إن شاء". ¬

_ (¬1) النوادر (4/ 149). (¬2) النوادر (4/ 149). (¬3) في ب: وهذا استحباب. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: فيها.

قال ابن المواز: "والأول أبرأ من الشك، وأحسن في [رأيي] (¬1)، إلا أن يكون ليمينه سبب، [فيجري] (¬2) عليه". وكذلك إن حلف ليسافرن، فليخرج إلى ما تقصر فيه الصلاة ويقيم شهرًا، على قول ابن المواز، وما قل أو كثر على قول مالك رحمه الله. ¬

_ (¬1) في ب: الرأي. (¬2) في ب: فيحمل.

المسألة السادسة عشر فيمن استعار [رجلا]

المسألة السادسة عشر فيمن استعار [رجلًا] (¬1) ثوبًا، فحلف ما يملك إلا ثوبه، وله ثوبان مرهونان (¬2): اعلم أن المسألة اختلفت فيها الروايات في الأمهات اختلافًا متباينًا، واختلفت الأجوبة فيها لأجل اختلاف الروايات، وأنا أورد ما ثبت عندنا من تلك الروايات، وما يتركب عليها من الأجوبة ونص "المدونة" [إن شاء الله وهو حسبي ونعم الوكيل وهذه المسألة تخرج على الكتاب] (¬3). قلت: أرأيت من استعار ثوبًا من رجل، فحلف بطلاق زوجته [ما يملك إلا ثوبه وله ثوبان مرهونان أترى عليه حنثًا. قال: إن كان في ثوبيه المرتهنين كفاف لدينه] فلا أرى عليه حنثًا، وكانت تلك نيته، مثل: ما يقول "ما أملك" أي: ما أقدر على غير ثوبي هذين"، كذا في بعض النسخ. وفي بعضها أيضًا: "أني ما أقدر على ثوبي"، بإسقاط "إلا"، وعلى هذا اختصرها ابن أبي زمنين، ثم قال في بقية الجواب: "فإن لم يكن له نية أو كان في الثوبين فضل، فلا أراه حانثًا". وقال ابن القاسم: أيضًا: "فإن لم تكن له نية، وليس في الثوبين فضل، بإثبات الألف، رأيت أن يحنث"، كذا في بعض الأمهات. وفي بعضها: "وكان في الثوبين فضل، فلا أراه حانثًا" وقال ابن القاسم أيضًا: "فإن لم تكن له نية، وليس في الثوبين فضل، فهو حانث". فهذا ما ثبت [عندي] (¬4) من اختلاف الروايات في المسألة، وبحسب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) المدونة (3/ 137). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

اختلاف الروايات، جاء الخلاف في المسألة على ما نصف إن شاء الله، وهو خيرُ معين. أما قوله: "إني ما أقدر على غير ثوبي هذين"، فهذا لا معنى له، لأن ظاهر هذه الرواية يفيد أنه قادر على افتكاك ثوبي الرهن، وليس ذلك غرضه وأما الرواية التي قال فيها: "إني لا أقدر على غير ثوبي هذا، فهي رواية صحيحة: أراد أنه لا يقدر إلا على الثوب [الذي] (¬1) عليه، ولا يقدر على افتكاك ثوبي الرهن. وقد يحمل قوله في الرواية التي [قال] (¬2) فيها: "لا أقدر على غير ثوبى هذين" على الثياب التي عليه، لأنه أدنى ما يكون عليه لباسه ثوبان، فيحمل [ذلك] (¬3) على ثوبي جسده لا على ثوبي الرهن، فتصح الرواية [عليه] (¬4) على وفق المسألة. وأما الرواية التي قال فيها أيضًا: "إني ما أقدر على ثوبي" بإسقاط "إلا"، فالمراد بذلك ثوبي الرهن [فهذا التنزيل تأويل للروايات] (¬5). وأما الرواية "بإثبات الألف وإسقاطها"، فهي التي يختلف [الحكم] (¬6) باختلافها: فإذا [أثبتنا] (¬7) الألف، فقلنا: "أو كان في الثوبين فضل"، فإنه يحنث بأحد وجهين: إما وجود الفضل، وإما عدم النية، وإن لم يكن فضل، ولم ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) سقط من الأصل. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: ثبت.

تكن له نية: فلا أعلم في المذهب من قال يحنث مع وجود النية إذا تبرأ باليمين، وظاهر الرواية يقتضي الحنث. وأما الرواية بإسقاط الألف فهي صحيحة في نفسها، موافقة للمعنى، وهي مثل قول ابن القاسم الذي قال فيه: "وإن لم تكن له نية، وليس في الثوبين فضل، فهو حانث"، وذلك أنه مهما لم تكن له نية: فإنه يحنث من غير اعتبار بالفضل كان أو لم يكن، لأنه إذا حنث مع عدم الفضل، فبأن يحنث مع وجوده أولى وأحرى. وأما الرواية التي [قال] (¬1) فيها: "لا أراه حانثًا"، [وهي] (¬2) رواية الدباغ، إذا عدمت النية، كان [فيها] (¬3) فضل أم لا، وهي صحيحة في نفسها، ملائمة للمعنى، وذلك إذا اعتبرنا المقاصد: لا يحنث مع عدم النية، كان فيها فضل أم لا، لأن مراد يمينه على ما يقدر على تسليمه. فهذا ترتيب الروايات [وأما تنزيل الأجوبة عليها] (¬4) وتحصيلها بأن تقول: لا يخلو [الحالف] (¬5) من وجهين: أحدهما: أن تكون له نية. والثاني: ألا تكون له نية. فإن كان له نية، فلا يخلو من أن يكون في الثوبين فضل أم لا: فإن لم يكن في الثوبين فضل، فلا خلاف أنه ينوي ولا حنث عليه، وهل يحلف على نيته أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فهي. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

فظاهر "المدونة": أنه لا يحلف، لأن كل من قبلت نيته فيما ينوي فيه، فلا يمين عليه على [أصل] (¬1) "المدونة". ولمالك في "كتاب محمد": أنه يحلف أنه ما أراد ما قدر عليه للعارية، وذلك نيته. وإن كان فيهما فضل، فلا يخلو من أن يكون غير قادر على افتكاكه قبل الأجل أو قادر عليه: فإن كان غير قادر على الفكاك إما لغيره وإما لدين لا يقدر (¬2) على تعجيله إلا برضى صاحبه كالطعام وسائر العروض من بيع فلا إشكال أنه ينوي ولا يحنث. وإن كان قادرًا على الفكاك بتعجيل الدين وهو ذو مال فهل ينوي أو يحنث؟ قولان: أحدهما: أنه ينوي وهو قول يحيى بن عمر. والثاني: أنه يحنث ولا ينوي. وهذا القول مخرج من ظاهر المدونة من قوله: أو كان في الثوبين فضل وما رأيت فيها [نص خلاف] (¬3) إلا أن أبا إسحاق التونسي قال: يحنث. وأظن في ذلك اختلافًا. هذا نص قوله. وإن لم يكن له نية فالذي يتخرج من الكتاب على اختلاف الروايات ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يحنث كان في الثوبين فضل أم لا. وهذا نقل أبي سعيد في "التهذيب". ¬

_ (¬1) في ب: أصول. (¬2) النوادر (4/ 101 - 103). (¬3) في أ: نصًا.

الثاني: أنه لا يحنث كان في الثوبين فضل أم لا وهي رواية الدباغ في المدونة التي قال فيها: لا أراه حانثًا. والقول الثالث: التفصيل بين أن يكون فيهما فضل أم لا فإن كان فيهما فضل حنث وإن لم يكن فيهما فضل لم يحنث لأنه إن لم يكن فيهما فضل فقد ملك ذلك الفضل على الحقيقة وإن لم يكن فيهما فضل والدين مستغرق لقيمتها فملكه [فيهما] (¬1). غير متمحص إلا بعد [الفكاك] (¬2). وهذا [القول] (¬3) أضعف الأقوال وهو قول [بين القولين] (¬4). وسبب الخلاف: اعتبار المقاصد والألفاظ: فعلى مراعاة الألفاظ يحنث بكل حال كان فيهما فضل أم لا لأنهما على ملكه. وقد حلف على ما يملك. وعلى مراعاة المقاصد لا شيء عليه. لأن القصد ما كان عنده مما تيسر تسليمه حينئذ للمستعير وليس القصد ما كان في رهن. والثالث: التفصيل بين أن يعرف أو ينكر: فإن عرف، وقال: من هذ القمح، حنث يأكل ما تولد منه. وإن نكر، وقال: لا آكل قمحًا، لم يحنث بأكل ما تولد منه، وهو قول ابن حبيب (¬5) في [كتابه] (¬6). فوجه القول الأول: ما ذكره في "المدونة"، حيث قال: "لأن هذا هكذا ¬

_ (¬1) في ب: قيمتها. (¬2) في أ: الكفاف والصواب ما أثبتناه من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) في جـ: ابن القاسم. (¬5) النوادر (4/ 99 - 100). (¬6) في أ: حبه.

يؤكل"، وهو من باب مراعاة المقاصد. ووجه القول الثاني: التفاضل بين القمح وما [تولد منه من خبز أو كعك أو سويق أو غير ذلك مباح فكأنه جنس آخر فلا تسرى إليه اليمين كما لو] (¬1) حلف ألا يأكل لحمًا، فإن اليمين لا تتعدى إلى الخبز. ووجه القول الثالث: أنه إن عين، فالصفة لا تخرجه عن أن يكون هو العين المشار إليها، وإن نكر: فذلك إشارة إلى مجهول لا يعرفه، فبأي وجه حنث بأكل الخبز، وإن زرع القمح المحلوف على أكله فلا يحنث بأكل الخبز منه من الحب، إلا أن يريد أن يضيق على نفسه. فإن كان هبة، فأراد رده ودفعه لواهبه، فلم يفعل حتى زرعه، فإنه يحنث بأكل ما رفع منه. وإن حلف ألا يأكل دقيق قمح، فأكل خبز قمح: لم يحنث، لأن هذا اسم خاص. فإن حلف ألا يأكل هذا اللبن أو من هذا اللبن [فعرف أو نكر] (¬2)، فعلى الثلاثة الأقوال التي قدمناها في القمح. فإن حلف ألا يأكل زبدًا فأكل سمنًا، أو حلف ألا يأكل سمنًا فأكل زبدًا، فهل يحنث أم لا؟ قولان وكلاهما لمحمد بن المواز. فمن اعتبر الألفاظ، قال: لا يحنث. ومن اعتبر المقاصد، قال: يحنث. فإن حلف في لبن شاة بعينها، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يحلف ألا يأكل من لبنها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

أو لا يأكل منها لبنًا. أو لا يأكل لبنها. فإن حلف لا يأكل من لبنها، حنث بأكل ما يعمل منه من زبدٍ أو سمن أو جبن. قال ابن القاسم: "كان ذلك مستخرجًا منها قبل يمينه أو بعد يمينه". وأما إن قال: لا أكلت منها لبنًا، لم يحنث بأكل ما عمل منه من زبد أو سمن أو جبن أو أقط. وقال أبو محمد بن أبي زيد: "وقد اختلف أصحابنا فيه" (¬1). وإن قال: "لا أكلت لبنها": جرى على القولين فيما إذا عرف أو نكر بمنزلة من قال: "لا أكلت من هذا اللبن". فإن قال: "لا أكلت من هذه [الشاة] (¬2)، ولم يذكر لبنها: لم يحنث بأكل اللبن منها، لأن [المقصد] (¬3) ألا يأكل من ذاتها، إلا أن يكون ذلك على وجه المنة. واختلف إذا أكل من نسلها، هل يحنث أم لا؟ على قولين، وهذا الخلاف يتخرج على الخلاف في الولد، هل هو غلة أم لا؟ وإن حلف ألا يأكل تمرًا، فله أكل الرطب والبسر والزهو اتفاقًا وإن حلف ألا يأكل البسر، هل له أن يأكل الرطب والتمر أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يأكل التمر أو الرطب إذا حلف ألا يأكل البسر، وهو قول ¬

_ (¬1) النوادر (4/ 100). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: المقاصد.

ابن القاسم. والثاني: أنه لا يأكل التمر، ويحنث بأكلها، كالشحم واللحم، وهو قول ابن وهب، وقال محمد بن المواز (¬1): ولا يحنث بأكل ما تولد عن المحلوف عليه، إلا أن يقول من عند ابن القاسم إلا في [ستة أشياء] (¬2). الخبز من القمح، والمرق من اللحم، والشحم من اللحم، والعصير من العنب [والزبيب من العنب] (¬3) والنبيذ من التمر. [قال التونسي] (¬4) أما الخبز من القمح، لأن العادة جرت أن القمح لا يأكل إلا خبزًا أو دقيقًا، فكان يمينه إنما وقعت على ما يكون منه. والمرق والشحم من اللحم، وعلته أن المرق فيه اللحم والشحم، و [المرق] (¬5) لأن قوة اللحم فيه، فأكل المرق كأنه أكل اللحم. والشحم من اللحم، لأن كل لحم لابد أن يكون فيه دهنية الشحم، فصار أكل الشحم، لأن القائل: "لا آكل لحمًا": إنما يحنث بما يأكل من لحم أو شحم، والحالف على الشحم لا يحنث بأكل اللحم. والعلة في ذلك أن القائل: "لا آكل اللحم" قد دخل تحت هذه الكلمة "الشحم"، لغة وعرفًا، كما لو: أسلم في لحم الضأن" لم يكن للبائع ولا للمبتاع أن يقول هذا لحم لا شحم فيه، لأن له لحمًا وإن كان فيه شحم، لأن ذلك يقتضيه الاسم، كما ذكر الله سبحانه تحريم لحم الخنزير، ومعلوم أن الشحم داخل فيه لأن الاسم جامع لذلك، وكان تحريمه الشحم على بني ¬

_ (¬1) النوادر (4/ 99). (¬2) في أ: ست مسائل. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: الشحم.

إسرائيل ألا يدخل معه اللحم، ولا يدخل تحت هذا الاسم إلا الشحم. فكذلك الحالف على الشحم، لا يحنث بأكل اللحم، لما ذكرناه" (¬1). وفي كتاب ابن سحنون قال: "واللحم اسم جامع للحم والشحم" (¬2). والعصير من العنب: وذلك أن عصير العنب، إنما هو الماء الذي كان في العنب، فكأنه إذا أكل العنب: أكل القشرة والماء والشحم، وإذا شرب العصير: شرب الماء بعينه الذي كان في العنب مع ما تفتت فيه من أجزاء الشحمية، فصار كأنه [أكل] (¬3) العنب، والزبيب من العنب [أيضا] (¬4) كذلك لأنه لم يعدم منه إلا الماء الذي كان فيه، وهو الآن منعقد فيه، فالقشرة والشحم وجميع أجزائه قائمة. قال [أبو إسحاق] (¬5): "وهذه الأشياء كلها بينة". وأما النبيذ من التمر ففيه إشكال، لأن النبيذ إنما يجعل الماء على التمر، فليس الماء من التمر، إلا أن يشبه المرق من اللحم، وفي هذا بعد، وهو يقول أعني صاحب المذهب: "من حلف ألا يأكل رطبًا، فأكل تمرًا أو حلف ألا يأكل تمرًا فأكل رطبًا، فلا شيء عليه، وهذا وما شابهه مما يتولد عن المحلوف عليه فكذلك كان ينبغي أن يكون النبيذ من التمر. وأما إذا قال في هذه الأشياء من اللحم بأكل ما تولد عنها إلا أن يبعد ذلك جدًا مثل أن يقول: لا آكل من هذه الحنطة فزرعت فأكل من الحب الذي نبت. فلم يسر عليه شيئًا إلا أن يكون ذلك على وجه المن كما قدمناه ¬

_ (¬1) من كلام ابن أبي زيد في "النوادر" (4/ 97) بتصرف يسير. (¬2) النوادر (4/ 97). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في جـ: ابن سحنون.

في [صور] (¬1) هذه المسألة ومن هذا الباب إذا حلف ألا يأكل لحمًا فأكل رؤوسًا أو بيضًا هل يحمل يمينه على جميع ما يطلق عليه ذلك الاسم أو لابد من تخصيص. فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يحنث بأكل ما ينطلق عليه اسم اللحم من لحوم الطير والحوت وجميع الأنعام إنسيها ووحشيها وجميع ما ينطلق عليه اسم الرأس من جميع ما يأكل وكذلك البيض فيحنث ببيض الطير وبيض الحوت إلا أن تكون له نية أو ليمينه بساط فيحمل عليه وهو قول ابن القاسم في المجموعة في البيض والرؤوس وفي [الموازية] (¬2) في اللحم. والثاني: التفصيل بين اللحم والرؤوس والبيض. فلا يحنث في الرؤوس واللحم إلا بلحم الأنعام الأربعة ورؤوسها. لأن عليها تقع أيمان الناس إلا أن ينوي في جميع اللحم أو لا يكون ليمينه سبب. وأما البيض فيحنث بأكل كل بيض عمومًا لا خصوصًا وهو قول أشهب في المجموعة. والقول الثالث: أنه لا يحنث كالرؤوس بأكل رؤوس الحيتان والجراد إلا أن ينوي ذلك. وفي البيض يحنث بأكل بيض الطير ولا يحنث بأكل بيض الحوت حتى ينويه وهو قول ابن حبيب في الواضحة. وقال [ابن القاسم] (¬3) في المجموعة أيضًا: والحالف على أكل الدجاج يحنث بأكل الديكة. والحالف على الديكة لا يحنث بأكل الدجاجة. فإن ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) في ب: المدونة. (¬3) سقط من أ.

قال: لا آكل دجاجة لم يحنث بأكل الديك. ولو عكس ذلك فقال: ديكًا لم يحنث بأكل دجاجة وهو قول ابن الماجشون فيما ذكر عنه ابن حبيب. وهذا الخلاف يتخرج على الخلاف في اعتبار المقاصد والألفاظ. ومسائل هذا الباب مجردة لا نظام لها ولذلك سردتها على الولاء وقصدنا منها إلى ذكر ما يحتاج إلى بيانه وتفسيره، والحمد لله وحده.

المسألة السابعة عشر فيمن حلف ألا يبيع من فلان أو لا يشتري منه،

المسألة السابعة عشر فيمن حلف ألا يبيع من فلان أو لا يشتري منه، فباع أو اشترى من وكيله (¬1): فلا يخلو من أن يكون الوكيل من سبب المحلوف عليه أو لا يكون من سببه: فإن لم يكن من سببه و [لا من] (¬2) ناحيته: لم يحنث. وإن كان من سببه وناحيته، فلا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون عالمًا به أو غير عالم: فإن كان عالمًا أنه من سببه، فلا يخلو من أحد وجهين: إما أن يعرفه الحالف أنه لا يبيع من فلان ولا يشتري أم لا. فإن عرفه أنه حلف ألا يبيع من فلان، فقال له المشتري: "أنا أشتري لنفسي"، فلما وجب البيع بينهما، قال له المشتري: "سلم السلعة لفلان، فأنا اشتريت له": قال مالك في "المدونة": وهو حانث، ولا ينفعه ما تقدم له". قال أبو إسحاق التونسي: "لا يحنث الحالف بذلك، ولا يصدق المشتري فيما يدعيه بعد أن قال: لنفسي اشتريت. ولو قال له: إنما أبيع منك بشرط أنك إن اشتريت لفلان فلا بيع بيني وبينك فثبت أنه اشترى لفلان فلا ينبغي أن يحنث ولا ينعقد البيع بينهما وإن لم يعرفه بذلك حتى اشتراه قال مالك: "يحنث". ويتخرج في المذهب قول آخر أنه [لا] يحنث إذا اعتبر المقصد في ¬

_ (¬1) المدونة (3/ 141). (¬2) سقط من أ، ب.

القول الأول. فإذا لم يحنثه ولم يعلم أنه من سببه وناحيته هل يحنث أم لا؟ قولان قائمان من المدونة: أحدهما: أنه مهما كان من [سببه] (¬1) فإنه يحنث من غير اعتبار بعلم الحالف أو بعدم علمه وهو ظاهر المدونة لقوله: فإن كان من سبب المحلوف عليه ومن ناحيته. وهو مفسر في كتاب محمد وهو نص قول ابن القاسم في المجموعة. والثاني: أنه لا يحنث الحالف حتى [لا] (¬2) يعلم أن المشتري من سبب المحلوف عليه ومن ناحيته وهو قول مالك وأشهب في كتاب محمد. وهو ظاهر المدونة أيضًا في قوله في موضع آخر: إن علم أنه من سببه ومن ناحيته. وعلى القول بأن ذلك يفتقر إلى علمه هل يصدق إذا ادعى أنه لم يعلم به بغير يمين أو لابد من يمين. وإن كان المتولي للشراء صارفًا غير معروف في ذمة المحلوف إليه ولا من أصدقائه فلا يمين عليه. وإلى هذا ذهب أبو الحسن اللخمي وهو الصحيح. واختلف فيمن هو من سببه وناحيته على قولين: أحدهما: أن الصديق الملاطف أو من هو في عياله أو ناحيته وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن الذي من سببه وكيله أو أبوه أو ابنه أو من يلي القيام بتدبيره وشأنه وأما الصديق الملاطف والجار الجليس فلا وهو قول ابن حبيب. وكذلك الحكم في اليمين ألا يبيع له ومعناه ألا [يستمر له على سلعة] (¬3) في جميع ما ذكرناه. [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) في ب: يبيع. (¬2) سقط من ب. (¬3) يستثمر له في سلعة. (¬4) سقط من أ.

المسألة الثامنة عشر فيمن حلف ليفعلن فعلا،

المسألة الثامنة عشر فيمن حلف ليفعلن فعلا، ففاته المحل قبل أن يفعل، مثل: أن يحلف ليضربن عبده أو ليركبن هذه الدابة أو ليأكلن هذا الطعام، فأبق العبد أو ماتت الدابة أو سرقت أو هلك الطعام أو سرق: فلا يخلو من أن يكون قد ضرب ليمينه أجلًا أم لا: فإن ضرب ليمينه أجلًا: فلا شيء عليه فيما هلك. واختلف في السرقة، هل يحنث بها أو يبرأ؟ على قولين: أحدهما: أنه حانث، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، إلا أن ينوي إن سرق. والثاني: أنه لا شيء عليه، لأنه على بر. وإن لم يضرب ليمينه أجلًا: فإن بادر إلى الفعل، ففاته محله من غير تفريط، فلا شيء عليه اتفاقًا. فوجه قول ابن القاسم في السرقة: إذا لم تكن له نية أن عين الشيء المحلوف على فعله باقٍ، ولو أمكنه منه السارق ليأكله، فلذلك حنثه [والإباق من هذا القبيل] (¬1). ووجه قول أشهب: أنه مغلوب على ترك الفعل لتعذر فعله، فأشبه الفوات الحسي. وقد قال مالك في كتاب الأيمان بالطلاق: "فيمن حلف ليبيعن هذه الجارية، فألفاها حاملًا [منه] (¬2)، "هو حانث". وقال في "كتاب النذور"، فيمن حلف ليذبحن حمامات ليتيمه، فقام ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

من فوره، فوجدها ميتة، قال: "لا شيء عليه لأنه مغلوب على ترك الفعل". واختلف المتأخرون، هل ذلك اختلاف قول أو ذلك اختلاف حال: فذهب أكثرهم إلى أن ذلك اختلاف قول، وأنه لا فرق بين السؤالين، وأنه لا يحنث في الجميع، لعدم التفريط، وهو قول سحنون، وهو أحد أقاويل ابن القاسم في "العتبية". ومنهم من قال: إن ذلك اختلاف أحوال، وذلك أن الذبح في الحمامات قد فات محله لغة وشرعًا، لأن الميتة ليست بمحل للذكاة أصلًا، لا لغة ولا شرعًا، إذ كلاهما لا يستعملان إلا في الحي دون الميت، فالشرعي منها [عبارة] (¬1) عما اجتمعت فيه الشروط المعتبرة فيها [واللغوي منها ما أحل فيه بالشروط المعتبرة] (¬2). أو المتفق عليها منها، فإذا فهمت هذا تبين لك أن: الذكاة اللغوية لا تستعمل فيما فات بنفسه، لا كما يحتج [به] (¬3) بعض الأغمار من طلبة الزمان. أن الذكاة تستعمل [فيه] (¬4) لغة. والجارية التي حلف ليبيعنها، فألفاها حاملًا منه: فإن البيع يتمكن فيها على الجملة، لأنها قائمة العين، غير أن البيع الشرعي لا يتمكن فيها. والبيع اللغوي فيها متمكن فلذلك: حنثه ابن القاسم على أشهر الأقوال، وإلى هذا التأويل ذهب أبو القاسم بن محرز وغيره. والخلاف في ذلك: يرجع إلى اعتبار المقاصد والألفاظ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: فيها.

فمن اعتبر الألفاظ، قال: يحنث في الجميع. ومن اعتبر المقاصد، قال: لا يحنث في الجميع. فرع: ومن أكل مع زوجته، فحلف بطلاقها لتأكلن هذه القطعة، [فأكلتها] (¬1) الهرة، فأخذت المرأة الهرة فذبحتها، وأخرجت القطعة فأكلتها: فقال ابن القاسم في "ثمانية أبي زيد": "لا يخرجه ذلك عن يمينه، ولكن إن كان بين أخذ الهرة إياها، وبين يمينه قدر ما لو أرادت أخذها لأخذتها، فتوانت حتى أخذتها الهرة: حنث. فإن خطفتها الهرة قبل أن يمكنها أخذها، فلا حنث عليه". ولو حلف ليطأن امرأته، فقطع ذكره من غير تفريط: لم يحنث، وهو قول ابن القاسم في "كتاب ابن حبيب"، وقال أصبغ: "فرط أو لم يفرط لبقاء العين الذي هو محل الفعل"، وهو أحد قولي ابن القاسم في مسألة الجارية. وسبب الخلاف: [مانع] الشرع، هل هو كالمانع العدم أم لا؟ وقد قدمنا فيما سلف من الكتاب أن للشرع إعدام الموجود. فإن وطئها وهي حائض، هل يبر [في] (¬2) يمينه، أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه آثم في فعله [ولا يبرئه ذلك من يمينه وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن حبيب. والثاني: أنه يبرأ في يمينه ويكون آثمًا في فعله] (¬3). ¬

_ (¬1) في ب: فأخطفتها. (¬2) في ب: من. (¬3) سقط من أ.

وهو قول سحنون في كتاب ابنه. وهذا الخلاف ينبني على [خلاف في اعتبار] (¬1) المقاصد والألفاظ أيضًا: فمن اعتبر المقصد، قال: يحنث، لأن [قصده وطء صحيح] (¬2). ومن اعتبر اللفظ، قال: لا يحنث، لأن الوطء موجود، وافق الشرع أو خالفه. ولو حلف [لا وطئتها] (¬3)، حنث بوطئها حائضًا، وهو قول ابن القاسم في "المجموعة" أيضًا. [تم كتاب النذور والأيمان والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: قصد وطئًا صحيحًا. (¬3) في ب: ألا يطأها. (¬4) زيادة من ب.

كتاب الصيد

كتاب الصيد تحصيل مشكلات هذا الكتاب [وجملتها] (¬1) خمس مسائل: المسألة الأولى: الآلة التي يصطاد [بها] وصفة التعليم: أما الآلة التي يباح الاصطياد بها، فتنقسم إلى جوارح وسلاح: والسلاح: كل آله مشحوذة تجرح ولا ترض، فالاصطياد بها مباح، لقوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}، فالذي تناله الأيدي: [الأفراخ] (¬2) في الأوكار، ولا [يفوت] (¬3) بنفسه من سائر الوحوش والطيور، والذي تناله الرماح: ما فات اليد [ونجا] (¬4) بنفسه من جميع السباع وغيرها مما يباح صيده، فذكر الرماح تنبيها على سائر [الآلات] التي يمكن الاصطياد بها، من الحديد وغيره، لقوله - صلى الله عليه وسلم -[للسائل] (¬5): "وما أصبت بقوسك"، وقوله لعدي بن حاتم في المعراض: "ما أصابك بحده، فكل". أما الجوارح: فهي الكواسب، قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}، معناه: أو صيد ما علمتم من الجوارح، هي الكواسب التي يصطاد بها، وهي الكلاب والفهود والبزاة والصقور، وما أشبه ذلك. وأصل التكليب: تعليم الكلاب، الاصطياد، ثم [كثرت] (¬6) حتى قيل لكل من علم جميع جوارح الصيد مكلبا، فتكليبها: تعليمها ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الفراخ. (¬3) في أ: يموت. (¬4) في جـ: وتجافى. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: ذكر.

الاصطياد. وقد اختلف في صفة تعليم الكلاب والبزاة [والصقور] (¬1)، على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعلم منها هو الذي إذا زجر انزجر، وإذا أشلى أطاع، وهذا قوله في الكتاب. والثاني: هو الذي إذا دُعى أجاب مع الوصفين المتقدمين، وهو قول ابن حبيب، ففرق بين الكلاب والبزاة: فجعل لتعليم الكبار ثلاثة شروط، ولتعليم البزاة شرطين [وهما] (¬2): أن تجيب إذا دعيت، وتنشلى إذا أرسلت، ولا يشترط فيها الانزجار، لأنه غير ممكن فيها، وهو قول ربيعة وابن الماجشون: أنه لا يشترط الانزجار في التعليم أصلًا، إما الانشلاء: على قول، وإما الانشلاء والإجابة، على قول. وهذا القول خرجه اللخمي من "المدونة"، من قوله: "إذا أدركه كلبه أو بازه، ولم يستطع إزالة الصيد منه حتى فات بنفسه: فإنه يأكله"، ولو كان الانزجار من شروط التعليم ما جاز أن يأكله، وقد رام بعض المتأخرين تلفيق هذه الأقوال الثلاثة، حتى ترجع كلها إلى قول واحد، فقال: يحمل قول ابن حبيب على الوفاق، لأن الإشلاء يستعمل عند أهل اللغة للمعنيين جميعًا الإغراء والدعاء. كما أن الزجر يأتي لمعنيين: الإغراء والكف، وهو قوله في "المدونة": "إن أفلت الكلب من يدي على صيد فزجرته" كذا الرواية في بعض الأمهات، وفي بعضها: "فأشليته" فوقف التعليم على شرطين. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

ويحمل قوله في "الكتاب" أيضًا: في الذي لم يقدر على إزالته من الجوارح، على أن عصيانها مرة واحدة، لا يقدح في تعليمها، وإنما غالب أحوالها، إنما كانت تنزجر. وتفريق ابن حبيب بين الكلاب والبزاة، يرجع إلى اختلاف حال، وهذا كله قريب. ولا خلاف في المذهب عندنا: أن الأكل ليس من شروط التعليم، وأنه معلم، وإن أكل يؤكل ما بقى خلافًا للشافعي. والدليل على ما نقوله: حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإن أكل، فكل". وقال الشافعي رضي الله عنه: "وإن أكل، فلا يؤكل صيده، لأنه ليس بمعلم، لأنه أمسك على نفسه، والله تعالى يقول: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، وهذا الذي قاله ليس بصحيح، لأن نية الكلب أمر غيبي وخفي لا يمكننا الإطلاع عليها، إذ لا يدري على ما أمسك، هل علينا أو على نفسه؟ وقد يمسك علينا ثم يبدو له أن يمسك على نفسه أو بالعكس. والذي يعلم أن الكلب يصطاد بطبعه، ويستحثه على الصيد الحرص في حق نفسه، ولذلك [يجوعه] الصياد عند إرادة الاصطياد، ليكون ذلك أغرى له على الصيد [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

المسألة الثانية إذا أشلى الكلب على الصيد بغير إشلاء صاحبه ثم أشلاه بعد ذلك، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه

المسألة الثانية إذا أشلى الكلب على الصيد بغير إشلاء صاحبه ثم أشلاه بعد ذلك، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون إرساله من يده. والثاني: أن يكون معه، ولم يكن في يده. والثالث: أن يشلى الكلب بغير إرسال صاحبه. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان الكلب في يده، ثم أثار الصيد، فأغراه عليه: فهذا لا خلاف فيه أنه يؤكل بما يؤكل به الصيد، إن أدرك ذكاته ذكاه. فإن قتلته بتثيب أو جرح أو قطع بعض الأعضاء: فإنه يؤكل. فإن صدقه ومات من غير سبب ولا تدمية، فهل يؤكل أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه لا يؤكل بذلك إلا أن يدرك ذكاته، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يؤكل، وهو قول أشهب فإن مات انبهارًا من غير صدم ولا تثييب: لم يؤكل، ولا خلاف فيه. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان معه تبيعه، ثم أثار سيده صيدًا، فأغراه عليه [فصاده] (¬1)، هل يؤكل بغير ذكاة أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يؤكل. والثاني: أنه يؤكل، والقولان لمالك في المدونة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثالث: التفصيل [بين] أن يكون الكلب منه قريبًا أو بعيدًا: فإن كان بعيدًا منه، فأشلاه عليه، فقتله: فلا يؤكل وإن كان قريبًا منه: أكل، وهو قول ابن حبيب. والجواب عن الوجه الثالث: إذا لم يكن في يد سيده، ثم أثار صيدًا، فأشلى عليه بغير إرسال من صاحبه [ثم أشلاه بعد ذلك] (¬1)، فهل يؤكل أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يؤكل، وهو قول مالك وابن القاسم، إذا كان خروجه من قبل نفسه، ثم أشلاه صاحبه بعد ذلك. والثاني: أنه يؤكل، وهو قول أصبغ. والثالث: أنه يؤكل إذا زاده ذلك قوة وإشلاء، وإلا فلا وهو قول ابن الماجشون. ويبني الخلاف فيها على الخلاف في الحظر والإباحة إذا اجتمعا أيهما يقدم، فيكون الكلب انشلى من [قبل] (¬2) نفسه حظر، وكونه أشلاه صاحبه إباحة، فقد اشتركا في الإرسال، فأشبه تعاون الكلبين: أحدهما بإرسال، والآخر بغير إرسال. فإذا أرسله، فاشتغل بغير ما أرسل عليه، فلا يخلو ذلك من أن يكون اشتغالًا كثيرًا أو يسيرًا: فإن كان كثيرًا: سقط حكم ذلك الإرسال بلا إشكال. وإن كان يسيرًا، مثل: أن يمر الكلب بكلب آخر، فوقف عليه يشمه أو مر بجيفة يشمها فأكل منها، أو عجز الطير فسقط [على موضع] (¬3) أو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ذات. (¬3) سقط من أ.

عطف راجعًا، هل يخرجه ذلك من الإرسال أو لا يخرجه؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن ذلك يخرجه عن الإرسال الأول، ولا يؤكل ما صاده إلا بذكاة، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أنه يؤكل، وإن لم يدرك ذكاته، لأن ذلك لا يخرجه عن الإرسال [الأول] (¬1)، وهو ظاهر قوله في "المدونة": "إذا أرسل كلبه أو بازه على جماعة، ونوى ما أخذ منها، فأخذ اثنين: أنهما يؤكلان جميعًا، وإن لم ير اشتغاله [عن الأول] (¬2) قطعًا للإرسال [عن] (¬3) الثاني، لأن الاشتغال بالشم وأكل الجيفة كاشتغاله بقتل الصيد. وقيل: إنه لا يؤكل الصيد الثاني، وذلك مما يعضد ما استقرأناه من الكتاب. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بالأول. (¬3) في أ: على.

المسألة الثالثة إذا قطع الكلب من الصيد جزءا، فلا يخلو ذلك من وجهين

المسألة الثالثة إذا قطع الكلب من الصيد جزءًا، فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يبين ذلك الجزء منه أصلًا. والثاني: أن يبقى متعلقًا به. فإن أبان [ذلك] (¬1) الجزء منه أصلًا، فلا يخلو الجزء الذي أبانه من وجهين: أحدهما: أن يكون مما يعيش معه. والثاني: أن يكون مما لا يعيش مع زواله. فإن كان مما يعيش مع زواله، مثل: أن يضربه فيزيل يده أو رجله أو جناحه، فمات من ذلك: فلا خلاف في المذهب أنه يؤكل الصيد، ولا يؤكل ما بان منه، لكونه مما يصح وجود الحياة مع زواله، لا لكونه أقل، وإنما راعى الكثرة والقلة أبو حنيفة، [وإن أدرك ذكاته لم يؤكل إلا بذكاة] (¬2). وإن كان مما لا يعيش معه، فلا يخلو من أن ينفد مقابله أو لا ينفدها: فإن أنفدها، مثل: أن يضربه فيجزأه نصفين أو قطع أوراكه أو خرق أمعاءه، فانتشرت حشوته، فإنه يؤكل جميعه، ما بان منه وما بقى، كما لو قطع رأسه، بلا خلاف عندنا في المذهب. وإن لم ينفد بذلك مقابله إلا أنه آيس من حياته، مثل أن يضربه، فأبان وركيه مع فخذيه، وكشف عن حشوته، ولم [يقطع] (¬3) له حشوة ولا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: يخرق.

[كشف] (¬1) له أمعاء، فهل يؤكل ما بان منه من الوركين أو لا يؤكل؟ فالمذهب على قولين [قائمين من المدونة] (¬2): أحدهما: أنه لا يؤكل وهو قول مالك [في كتاب "محمد" ومثله لابن القاسم في "العتبية" في كتاب الصيد] (¬3) من "المدونة". والثاني: أنه يؤكل ما بان مع ما بقى، وهو قول ابن الجلاب، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب الذبائح" في المنخنقة وأخواتها. وينبني الخلاف فيها على الخلاف في المأيوس منه، وهل تستعمل فيه الذكاة أم لا؟ فإن بقى ذلك متعلقًا، فلا يخلو من أن يكون [مما] (¬4) يلتحم ويعود إلى هيئته أم لا؟. فإن كان مما يلتحم إلى هيئته فإنه يؤكل الجميع. وإن كان مما لا يلتحم ولا يعود إلى هيئته فحكمه حكم ما بان وزال فيؤكل الصيد [ولا يؤكل] (¬5) ذلك الجزء والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في ب: قطع. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

المسألة الرابعة فيما ند من الوحشي بعد تأنيسه

المسألة الرابعة فيما نَدَّ من الوحشي بعد تأنيسه أو لا ند من الإنسي أو تأنس من الوحشى، هل يؤكل بغير ذكاة أو لا يؤكل إلا بالذكاة؟ أما الوحش إذا تأنس كالظباء والوعول: فلا خلاف أنها لا تؤكل إلا بالذكاة، لأنها مأسورة مقدور عليها. وأما ماله مثل مما لا يؤكل مثله من الأنس مثل الحمار، فقد اختلف فيه المذهب إذا تأنس، هل يؤكل أم لا؟ على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أنه لا يؤكل، وهو قول مالك في الحمار الوحشي إذا دجن فصار يعمل عليه كما يعمل على الأهلي، فقال: لا يؤكل. [والثاني: أنه يؤكل] (¬1) وقال ابن القاسم: لا أرى بأكله بأسًا. وسبب الخلاف: اعتبار التسمية، هل تراعى أو لا تُراعى؟ أما ابن القاسم، فلم يراع التسميات والألقاب في الأعيان المحللات والمحرمات، فالاعتبار عنده بالأعيان دون التسميات. أما مالك رحمه الله، فقد اضطرب [قوله] (¬2) في ذلك: فتارة يعتبر الألقاب والتسميات. وتارة يعتبر المعاني والأعيان. وقد اعتبر مالك التسمية في هذه المسألة، لمشاركة الإنسي [الوحشي] (¬3) في التسمية، واعتبرها أيضًا في خنزير الماء، فقال: "أنتم تقولون خنزير ¬

_ (¬1) زيادة ليست في "أ، ب". (¬2) في ب: مذهبه. (¬3) في أ: الأهلي والصواب ما أثبتناه من ب.

الماء، فأبقاه لأجل مشاركة الاسم. وأما الإنسي إذا استوحش، هل يخرجه ذلك عن أصله أو لا يخرجه؟ أما الإبل والغنم فلا خلاف عندنا أن التوحش لا يخرجها عن أصلها، وأنها لا تؤكل [بما يؤكل] (¬1) به الصيد من العقر والرمى. واختلف في البقر، هل يخرجها ذلك عن أصلها أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يخرجها عن أصلها، وهو مشهور المذهب. والثاني: أن ذلك يخرجها عن أصلها، وتؤكل بما يؤكل به الصيد من العقر وغيره، وهو قول ابن حبيب، ولا يخفى على لبيب قول ابن حبيب. و [أما] (¬2) إذا نَدَّ صيد الرجل، فأخذه غيره، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يتأنس عند الأول، وأخذه [الثاني] (¬3) قبل أن يتوحش. والثاني: أن يأخذه بعد أن يتوحش، فإذا تأنس عند الأول وأخذه الثاني قبل أن يتوحش، كان للأول قولًا واحدًا. فإن أخذه بعد أن توحش، وقد نَدَّ بعد الاستئناس أو قبل الاستئناس، فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يكون لمن أخذه آخرًا، نَدَّ منه قبل أن يتأنس أو بعد وهو أحد أقاويل مالك، وبه أخذ ابن القاسم، وهو قوله في الكتاب. والثاني: التفصيل بين أن يَند منه بعد أن يتأنس [فإنه يرد على الأول. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: التأنس.

وإن أخذه بعد أن توحش. وإن ند منه قبل أن يتأنس فإنه يرد للثاني وهو أحد أقاويل مالك أيضًا. والثالث: أن للأول وإن ندَّ منه قبل أن يتأنس] (¬1)، ولا يزال ملكه عنه وإن أقام عشرين سنة، لأنه تقرر ملكه عليه بنفس أخذه. وانفلاته لا يزيل ملكه عنه بمنزلة ما لو غصب منه، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، ودليل المذهب أن الثاني صاد صيدًا ممتنع الحق بالوحش على صفة ما كان عليه قبل أخذ الأول، فكان له حكم أصله الأول، وهو كصيد الماء إذا أخذه رجل، ثم أنصب من يده في اليم، فصاده غيره أنه له. وأما ما كان عليه من السيور والحديد والحلى: فلا خلاف أنه للذي نَدّ منه الصيد، ويرده [عليه] (¬2) إن عرفه، ويعرفه به إن جهله، وهو قوله في كتاب تضمين الصناع من "المدونة"، وهذا كله إذا كان في يد الأول بالاصطياد. وأما إذا كان في يده بشراء ثم نَدَّ ثم توحش، ثم صاده آخر، فعلى قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه للآخر، وهو قول ابن المواز. والثاني: أنه للأول، وهو قول أبي القاسم [بن الكاتب] (¬3) من متأخري المذهب وشبهه: لمن أحيا أرضًا مواتًا، ثم تركها حتى دثرت، ثم أحياها آخر أنها للثاني، إلا أن يكون الأول قد باعها، ثم دثرت عند المشتري، وأحياها آخر: أنها تكون للمشتري، ولا شيء عليه للذي أحياها آخرًا بعد الشراء، وهذا قياس صحيح، وهو قياس علة، والفرع أظهر، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: في الكتاب.

وذلك أن الصيد لم يسرحه من أخذه تطوعا، وإنما غلب عليه ففر بنفسه، والموات قد تركه، حتى دثرت اختيارًا، ونحن لا نختلف أنه لو سرح الصيد بنفسه، لكان لمن أخذه ولو غلب [على] (¬1) الموات وحيل بينه وبينها بغصب، حتى دثرت. لم يسقط ملكه عنها، ولم يكن لمن أحياها بعده. وعلى القول بأنه يكون للآخر بعد أن توحش، فإن اختلف صاحبه مع الصائد، فقال صاحبه: نَدَّ مني منذ يومين، وقال الصائد: لا أدري متى نَدّ منك [القول قول من؟] (¬2)، فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن القول قول الصائد، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن القول قول صاحبه الذي نَدَّ منه، وهو قول سحنون، وهو ظاهر المدونة في غير ما موضع، وذلك أن الأصول موضوعة على أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يسوغ في الشرع أن ينقطع ملك الأول بلا بينة ولا شبهة بينة، لأن الصائد لم يدع شيئًا، ولو ادعى ما قبلت منه الدعوى إلا بقرينة التصديق، وكيف يزول ملك الأول بالشك، وهذا غير معهود في الشريعة؟، وهذا ممَّا يُستجار الله فيه. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

المسألة الخامسة في الحمام إذا [خرج] من برج إلى برج

المسألة الخامسة في الحمام إذا [خرج] (¬1) من برج إلى برج: قال مالك: من أمر الناس القديم اتخاذ الأبراج، وإن غمرت من حمام الناس، فلا بأس به، يريد أن من أمر الناس أن كل من بني برجًا، فقد سبقه غيره، فالذي أحدث [برجًا] (¬2) من عشر سنين قد تقدمه [غيره] (¬3) بتاريخ قبل ذلك، والآخر أيضًا تقدمه غيره، وكل واحد لا يبعد أن يصير إليه من برج من تقدمه، وهو أمر لا يقدر الناس على الامتناع منه، وهو مما تدعو إليه الضرورة، وهذا ما لم يحدثه الثاني بقرب الأول، فإنه يمنع، لأن ذلك ضرر عليه. وإذا [دخل] (¬4) حمام برج [في برج] (¬5)، فلا يخلو الحكم فيها من ثلاثة أوجه: إما أن يعرفها ويقدر على ردها. أو يعرفها ولم يقدر على ردها. أو لا يعرفها بعينها. فإن عرفها وقدر على ردها ردها قولًا واحدًا. وإن عرفها ولم يقدر على ردها، ففيها قولان: أحدهما: أنها [لمن] (¬6) صارت في برجه، ولا شيء عليه، وهو قول ¬

_ (¬1) في ب: دخل. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: خرج. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يرد فراخها، ولا شيء عليه غير ذلك، وهو قول ابن حبيب. فإن جهلت ولم يعرفها بأعيانها بين الحمام، كانت لمن ثبتت عنده، ولا شيء عليه فيهم. قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: "وقول مالك إذا عرفها وقدر على ردها [أنه يردها] (¬1) للأول، موافق لقول محمد بن عبد الحكم في الصيد، لأنها في حال كونها في برج على حال التوحش، فينبغي على قول مالك أن يكون لمن صار إليه، بل هو في هذا أضعف، لأن ما في البرج ليس بملك محقق، فكان رد ما يقدر على ملكه أولى. والنحل إذا خرجت من جبح إلى جبح، فاختلطت بما فيه مثل الحمام سواء. فلو خرج فرخ، فضرب في شجرة، ثم خرج فرخٌ آخر لرجل آخر فضرب عليه، قال ذلك للأول، وبه قال سحنون. قال أبو إسحاق: "ولو تلاقيا في الشجرة، فعاشا فيها وأفرخا لوجب أن يكونا، وما أحدثا من عسل بن صاحبي الفرخين، إذ لا مزية لأحدهما على الآخر. وأما نصب الأجباح الفارغة بقرب من أجباح الناس، فلا يجوز [ذلك] (¬2) لأنه كأنه أراد أخذ نخلها، وهو قول ابن كنانة. قال أشهب إن فعل، وليس هناك [إلا] (¬3) محل مربوب، فهم فيها ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

دخل في الأجباح أسوة. وإن كان فيها نحل مربوب ونحل غير مربوب، فلينصب، وما دخل إليه فهو له يريد أشهب أن يحمل على أن الذي دخل إليه غير مربوب لأن [السنة] (¬1) في المربوب أن أصحابه يرصدونه زمان يفرخ فيه، فيأخذونه إليهم إلا أن يتبعه صاحبه بأثره حتى يدخل فيه، فإنه يأخذه ويكون أحق به من صاحب الجبح. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في ب: الشأن.

كتاب الذبائح

كتاب الذبائح بسم الله الرحمن الرحيم [وصلى الله على محمد وآله وسلم] (¬1): تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها أربع مسائل: المسألة الأولى في معرفة ما يحل أكله وما لا يحل أكله من سائر الحيوانات، فالحيوانات ضربان: بري وبحري، فالبحري ضربان أيضًا: ضرب منه لا حياة له في البر أصلًا: فهذا لا خلاف أنه يحل أكله بغير ذكاة. وضرب له حياة في البر، كقرش الماء، فالمذهب فيه على قولين: أحدهما: أنه يؤكل بغير ذكاة، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أنه يفتقر إلى الذكاة، وهو قوله في "مختصر الوقار"، لأن له في البر رعيًا. ولا خلاف في المذهب عندنا أن ميتة البحر تؤكل على أي صفة كانت، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته". واتقى مالك رحمه الله: خنزير الماء وكلب الماء لمشاركة الاسم. وأما التمساح: فلم أجد في المذهب فيه نصًا، ورأيت لسعيد بن المسيب في "النوادر": أنه يؤكل، وإن كان ذا ناب. وأما البري: فإنه ينقسم أيضًا إلى: ما ليس له نفس سائلة، وأعني بالنفس: الدم. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وما له نفس سائلة. وأما ما ليس له نفس سائلة، كالجندب والعقرب والخنفساء والزنبور واليعسوب والذر والنمل والسوس والحلم والدود والبعوض والذباب وجميع الحشرات: فلا خلاف في جواز أكلها لمن احتاج إليها لدواء أو غيره، وهو قول مالك في كتاب "ابن حبيب". واختلف هل يفتقر أكلها إلى ذكاة أو لا يفتقر؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا يفتقر إلى ذكاة، وهو [ظاهر] (¬1) قول مالك في [آخر] (¬2) كتاب الوضوء: "في الخشاش إذا وقع في طعام أو شراب أو ماء، فلا يفسده، وهذا بناء منه على أنها لا تفتقر إلى الذكاة، وهو ظاهر قول القاضي عبد الوهاب في "التلقين". والثاني: أنها لا تؤكل إلا بذكاة، وهو ظاهر قوله في كتاب "الذبائح"، وأن ذكاته كذكاة الجراد، وهو قول مالك في كتاب "ابن حبيب". وينبني الخلاف فيها على الخلاف في الجراد، هل يفتقر إلى الذكاة أو لا يفتقر إليها؟ فمن قال أنه لا يفتقر إلى الذكاة وأن ميتته تؤكل، وهو قول مطرف وابن عبد الحكم، وهو مذهب أكثر السلف قال: لا تفتقر الحشرات إلى الذكاة. ومن قال أنه يفتقر إلى الذكاة، فقد اختلف في ذكاته على قولين: أحدهما: أن أخذه ذكاته، وهو مذهب سعيد بن المسيب وعطاء بن شهاب وربيعة، وبه قال ابن وهب عن أصحاب مالك. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن مات حتف أنفه بعد أخذه: فإنه يؤكل. وعلى هذا القول فإنه يسمى الله عند أخذه. والثاني: أن ذكاته أمرٌ زائد على الأخذ، ولابد من عمل يعمله [فيه] (¬1) بعد الأخذ، وما ذلك العمل الذي إذا عمله [فيه] (¬2) صار ذكاة؟ أما كل ما يموت الجراد منه من فعل، مثل أن يقطع رؤوسها أو يسلقها أو يشويها: فلا خلاف أن ذلك ذكاة لها، ويسمى الله عند ذلك. واختلف في قطع الأرجل والأجنحة، على قولين: أحدهما: أن ذلك ذكاة، وهو قول مالك في المدونة. والثاني: أن ذلك ليس بذكاة، وهو قول أشهب في "مدونته"، وإن ماتت من ذلك. واختلف أيضًا: إذا سلقت الأحياء مع الأموات منها أو سلق ما يتساقط من أرجلها، على قولين: أحدهما: أنه يطرح جميعها ولا يؤكل، وهو قول أشهب في "مدونته". والثاني: أنها تأكل الأحياء وتطرح الأموات، والأفخاذ بمنزلة خشاش الأرض يموت في القدر، وهو قول سحنون في "النوادر". وسبب الخلاف: اختلافهم في الجراد، هل هو من صيد البر أو من صيد البحر؟ والمشهور أنه من صيد البر، لأن مرعاه في البر [وحياته] (¬3) فيه. والحلزون كالجراد في كل ما ذكرناه. ¬

_ (¬1) في أ: فيها. (¬2) في أ: فيها. (¬3) في أ: وفاته.

وأما ماله نفس سائلة مما له لحم ودم، فإنه ينقسم أيضًا إلى حيوان مألوف وحيوان غير مألوف: فغير المألوف ينقسم إلى: ذوات الريش وذوات [الأرجل] (¬1): فذوات الريش: قال مالك رحمه الله في كتاب النوادر: لم أدرك أحدًا ينهى عن أكل شيء من الطير، سباعه وغير سباعه، وما يأكل الجيف وما لا يأكل الجيف إلا أن يتقذر متقذر، وذكر ابن حبيب أن عروة كره أكل الغراب والحدأة لما سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - فاسقين. قال محمد بن الجهم: "ليس ذلك يحرم أكلها، وإنما سماهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فاسقين، لإذايتهما المحرم، والفاسق هو المتعدي"، وروى علي بن زياد عن مالك: "أنه كره أكل الخطاطيف". قال أبو إسحاق: "لم يثبت تحريم كل ذي مخلب من الطير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -". وأما ذوات الأرجل من هوام الأرض كاليربوع والخلد والوبر والفأرة والحيات والوبرل والقنفذ والضب، وغير ذلك من هوام الأرض: أما اليربوع والفنفذ والضب: فلا خلاف أعلمه في المذهب في جواز أكلها، وذكاتها، كذكاة الحيوانات المألوفة على ما نصفه بعد إن شاء الله. وأما الحية: فقد اختلف فيها قول مالك بين الإباحة والكراهة: فمرة: كره أكلها وأكل العقرب من غير تحريم إذا أكلا لغير ضرورة، وما كره ذلك إلا للسم، وهو قوله في "الواضحة". ومرة: جوز أكلها لغير ضرورة ولا كراهة، وهو قوله في "كتاب الحج"، لأنه جوز هناك أكلها، ولم يذكر الحاجة وقال في "كتاب الذبائح": ¬

_ (¬1) في أ: الرجل.

"يجوز أكل الحيات إذا ذكيت في موضع ذكاتها لمن احتاج إليها"، يريد: التداوي. والقولان: قائمان من المدونة جوزه في "الحج" دون كراهة، وفي [الذبائح] (¬1) مع الكراهة. وأما الفأرة، فهل يجوز أكلها مع الكراهة أو دون الكراهة؟ قولان قائمان من المدونة: أحدهما: أن أكلها مكروه من غير تحريم، وهو نص قول مالك في كتاب "ابن حبيب"، وهو ظاهر قوله في "المدونة" في "كتاب الوضوء"، حيث قال: "ويغسل [ما أصابه] (¬2) بول الفأرة"، فلو أباح أكلها دون الكراهة ما أمر بغسل بولها. والثاني: أن أكلها مُباح من غير كراهة، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الذبائح"، حيث قال: لا بأس بأكل الخلد وقال: الخلد فأر أعمى يكون بالحجاز: فقد جوزوا أكل الفأرة في هذا الموضع من غير كراهة، إذ لا فرق بين الأعمى والبصير، وليس المبيح لأكله، لكونه أعمى، ولا يتوهم ذلك عاقل. وأما غير المألوف من ذوات الأرجل من سائر السباع والوحوش، فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ منها لا يحل أكله بالاتفاق، وهو الخنزير، ولا خلاف في لحمه وشحمه، أما اللحم: فالنص عليه، والشحم: داخل في اللحم، على ما تقدم لنا في "النذور والأيمان"، وأما الجلد فلا يخلو من أن يكون مدبوغًا أو غير مدبوغ: ¬

_ (¬1) في أ: الذبح. (¬2) سقط من أ.

فإن كان غير مدبوغ، فهل يجوز الانتفاع به أم لا؟، فالرواية أنه لا يجوز الانتفاع به، ولا يبعد دخول الخلاف فيه بالمعنى، كجلد الميتة سواء، وقد نزلهم الله تعالى في قرن، [فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}] (¬1) [المائدة: 43]. وقد اختلف المذهب عندنا، هل حكمه حكم اللحم أو حكم العرض؟، على ما سنبينه في "كتاب [التجارة إلى أرض الحرب] (¬2) إن شاء الله تعالى. وقال أبو الحسن اللخمي: [حكم الجلد] (¬3) حكم اللحم، لأنه لحم، وقد تؤكل الشاة سميطًا، ويكون ذلك [مما] (¬4) يستطاب منها وإنما يعاف الناس الجلد إذا بان عن اللحم. فإن كان جلده مدبوغًا، فقد اختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أنه ينتفع به بعد دباغه، كجلد الميتة على سواء، وهو قول الشيخ أبي الحسن اللخمي. والثاني: أنه لا ينتفع به أصلًا، وحكمه حكم لحمه، وهو قول الشيخ أبي بكر الأبهري، قال: "بخلاف جلد الميتة"، يريد: لأن النص ورد في جلد الميتة، ولم يرد في جلد الخنزير. وينبني الخلاف على الخلاف في الرخص، هل يقاس عليها أم لا؟ وذلك أن إذنه - صلى الله عليه وسلم - بالانتفاع بجلد الميتة بعد دباغه، رخصة منه لأمته - صلى الله عليه وسلم -. واختلف في الانتفاع [بشعره] (¬5) على ثلاثة أقوال: أحدها: جواز الانتفاع [به] (¬6) للبيع وغيره، وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: حكمه. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

قول ابن القاسم في "العتيبة"، وهو كصوف الميتة عنده. والثاني: أنه لا ينتفع به أصلًا، وليس هو كصوف الميتة، بل هو كالميتة الخالصة، وكل شيء منه محرم حي وميت، وهو قول أصبغ. والقول الثالث: أنه ينتفع به في [مثل] (¬1) [الخرازة] (¬2)، وهو قول مالك في المبسوط، وظاهر قوله أنه لا يستعمل في غير ذلك. وسبب الخلاف: ما قدمناه من الرخص، هل يقاس عليها أم لا؟ ولبن الخنزير كلحمه. وأما ابن آدم: فلا خلاف بين المسلمين أن لحمه حرام أكله، وإنما اختلف العلماء، هل تحريمه تحريم حرمه أو تحريم [حرام] (¬3)؟ فمنهم من قال: إن تحريمه تحريم حرمه، لأن الله تعالى شرفه وكرمه على جميع خلقه. ومنهم من قال: تحريمه تحريم [حرام وهو الصحيح] (¬4). والقسم الثاني: ما يجوز أكله بالاتفاق، وهو ما كان من الظباء وبقر الوحش وحمير الوحش وغير ذلك مما هو معلوم جواز أكله من سائر الوحوش بالذبح والعقر، على حسب ما بيناه في كتاب الصيد. والقسم الثالث: المختلف فيه، وهو أكل السباع العادية وغير العادية، هل هي محرمة أو مكروهة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن أكلها مكروه العادي منها وغير العادي، وهو قول أبي بكر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: الجزازة. (¬3) في أ: تحريم. (¬4) سقط من أ.

الأبهري وابن الجهم. والثاني: التفصيل بين السباع العادية وغير العادية [فالسباع العادية كالأسود والنمور والذئاب والكلاب لم يختلف المدنيون في تحريم لحومها. وأما غير العادية] (¬1)، مثل: الذب والضبع والثعلب والهر الوحشي والإنسي والقرد: فيكره أكلها ولا يبلغ [به التحريم] (¬2) للاختلاف فيها، قاله مالك وابن الماجشون على ما نقله ابن حبيب. وسبب الخلاف: تعارض العمومين، عموم الكتاب وعموم السنة: أما عموم الكتاب: فقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]. وأما [عموم السنة] (¬3): فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل ذي ناب من السباع حرام"، وعلى هذا ترجمة مالك في "الموطأ": "باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع". قال الشيخ أبو إسحاق التونسي: "وفي تحريم أكل كل ذي ناب من السباع" ضعف، لأنها رواية انفرد بها، ورواه غيره ولم يذكر فيه التحريم. وقال اللخمي: "عموم السنة أقوى [وأصوب] (¬4) من عموم المسألة لوجوه: أحدها: أن قوله سبحانه {قُلْ لَا أَجِدُ}، إخبار عن الماضي، ولا يقتضي ذلك أنه لا يجد في المستقبل، ولا أنه لا ينزل عليه تحريم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ما يحرم. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

[غير] (¬1) تلك الأربعة. والثاني: أنه قد وجد تحريم ذبائح المجوس، وهما مطعونان، ولم تتضمن تلك [الآية] (¬2) تحريمها. والثالث: أن الآية مكية، والحديث مدني، والمتأخر يقضي على المتقدم، ولا يعترض أيضًا بحديث ثعلبة في قوله: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب"، لأن النهي يحتمل التحريم والكراهة، وحديث أبي هريرة يفيد بلفظ التحريم، والمطلق يحمل على المقيد. وعلى أن السباع محرمة، هل يجوز أن تذبح لجلودها أو لا يجوز؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يجوز أن تذبح لجلودها، وهو قول مالك في "كتاب الذبائح". والثاني: أن الذكاة لا تستعمل فيها للحومها ولا لجلودها، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الجهاد" من "المدونة"، في جواز أكل شحوم اليهود. وسبب الخلاف: الذكاة، هل تتبعض أو لا تتبعض؟ [فمن] (¬3): رأى أنها تتبعض، وهو قول محمد بن مسلمة أنها تتبعض، قال: بجواز [استعمال] (¬4) الذكاة في السباع المكروهة [الأكل] (¬5)، فجعل أن الذكاة تحل في الجلود دون اللحم، وهذا أغرب شيء يقال. [ومن] (¬6) رأى أن الذكاة لا تتبعض، فقال: بجواز أكل شحوم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: فمرة. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: ومرة.

اليهود، وذلك أن الشحوم محرمة على اليهود، لقوله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146] على ما يأتي عليه البيان في موضعه إن شاء الله. وقد أباح الله تعالى لنا طعام أهل الكتاب، فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، والشحوم ليس من طعامهم. ثم وردت السنة بجواز أكل شحوم اليهود [يوم خيبر] (¬1)، وما ذلك إلا لكون الذكاة تسري في جميع أجزاء الشاة المذكاة وشائعة فيها [ولا يختص بها] (¬2) جزء دون جزء، من غير اعتبار بنية الذابح في الكمال والتبعيض. وأما الحيوان المألوف، فإنه ينقسم إلى الأنعام والدواب: فالأنعام: الإبل والبقر والغنم: فلا خلاف بين الأمة في جواز أكلها إذا حصلت فيها الذكاة بشروطها على ما سنعقد فيه مسألة مفردة إن شاء الله تعالى. وأما الدواب: الخيل والبغال والحمير، فقد قال مالك رحمه الله: لا تؤكل لحومها ولا تشرب ألبانها. أما الحمير: فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن أكلها، وذلك في يوم خيبر أمر بإكفاء القدور، لما أخبر بذبح الناس الحمير. واختلف العلماء، هل النهي فيها على معنى التحريم أو على معنى الكراهة؟ على قولين: مشهور المذهب أنه على الكراهية، وأن الكراهية فيها مغلظة واختلفوا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

أيضًا في النهي، هل هو معقول المعنى [أو غير معقول المعنى] (¬1) على ما هو مذكور في الأمهات؟ والمشهور أن النهي غير معقول المعنى. والبغال: مثل الحمير، وهما جنسٌ واحد، على [ظاهر] (¬2) ما وقع لابن القاسم في كتاب "السلم الأول" من "المدونة". واختلف في لبن الأتن، وهي إناث الحمير، هل يشرب للدواء أو لا يشرب؟ والمشهور أنه يجوز شربه للتداوي، وقد روى عنه ابن حبيب حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أباحه، وأجازه سعيد بن المسيب والقاسم وعطاء، ومالك حدث به الجذامي عن الواقدي، وقال أشهب عن مالك في "العتبية" من غير أن يرونه مذهبهم: "لا بأس بالتداوي بشرب أبوال الإبل، ولا بأس بشرب أبوال الأنعام كلها". وأما أبوال الأتن وأبوال الناس، فلا خير في ذلك، وروى سحنون عن ابن القاسم أنه قال: "لا بأس أن يتداوى بشرب [لبن] (¬3) المرأة، ويشربه الناس". وأما الفرس: فإنه لا يؤكل عندنا إلا أنه لا يبلغ به مبلغ البغال والحمير في التحريم فلا خلاف فيه، نقله ابن حبيب قال ابن المواز: وأجاز ابن المسيب أكل الفرس". وقال ابن شهاب: "ما رأيت أحدًا يأخذ به"، وقد كرههُ ابن عباس. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: بول.

قال مالك: "وقد وصف الله تعالى ما خلقت له، فقال: "لتركبوها وزينة"، وقال أيضًا: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل: 5]، فبين الله تعالى منافع كل جنس، وما خلقت له، وذلك في معرض الامتنان". واختلف في لحم الجلالة من الأنعام ولبنها وعرقها [وبولها] (¬1) فأما اللحم، فقد اختلف فيه بين الإباحة والكراهية: فمالك جوز أكله دون الكراهة. وابن حبيب جوزه مع الكراهة، والجلالة من الطير عنده أخف. ولم يأت فيها كراهة إلا ما رُوى عن ابن عمر [أنه كان يربطها ثلاثة أيام تأكل الحب ثم يذبحها. وأما روثها فنجس والجلالة من الأنعام. روى عن ابن عمر وأبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما] (¬2) أنها كرها لحومها وألبانها وركوبها. وأما اللبن والبول والعرق، فاختلف فيها بين الطهارة والنجاسة، على ما قدمنا من بيانه وإيضاحه في "كتاب الوضوء" وفي "النوادر"، ومما روى عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه [استثقل] (¬3) أكله [في الشاة] (¬4) من غير تحريم، ثم الطحال والمرارة والعروق والعسيب والأنثيين والكليتين والمثانة وأدنى القلب. قال الشيخ أبو محمد: "وسئل أبو محمد عبد الله بن الأبياني عن خصيتي الخصى يردان إلى داخل ويربطان [فيه] (¬5) فيبطل فعلهما ويتغير ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: كان يستثقل. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

خلقتهما، هل يؤكلان؟ وإذا طبختا، هل يؤكل ما في القدر؟ قال: لا بأس بذلك لاتصالهما بالجسد، والحياة تجري فيهما، والغذاء يصل إليهما، وتحصيل ذلك أن الذكاة لم تدع [في الشاة] (¬1) شيئًا محرمًا" والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الثانية في الذكاة

المسألة الثانية في الذكاة: وفي هذه المسألة خمسة أسئلة: السؤال الأول: في معرفة من تصح ذكاته. والثاني: في الآية التي بها يذكى. والثالث: في شروط الذكاة. والرابع: في معرفة ما تصح ذكاته بنحر. والخامس: ذكاة الجنين. فالجواب عن السؤال الأول: في معرفة من تصح ذكاته. والذكاة: تصح من مسلم عاقل بالغ غير مضيع للصلاة، ومن كتابي ذبح لنفسه، فهذه [جملة] (¬1) متفق عليها [ومنها ما هو مختلف فيه] (¬2) فقولنا: "من مسلم" احترازًا من المشرك، ولا خلاف عندنا أن ذبائح المجوس محرمة، وأنها ميتة. وقولنا: "بالغ" احترازًا من غير البالغ، إلا أن غير البالغ ينقسم إلى مميز وغير مميز: فغير المميز: لا خلاف عندنا أن ذكاته لا تصح، لعدم القصد والمعرفة. و [أما] (¬3) من له التمييز: فلا إشكال أن ذكاته مكروهة ابتداء، فإن ذبح وأوقع الذكاة موقعها، فهل تؤكل أو لا تؤكل؟ ¬

_ (¬1) في جـ: خمسة. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) سقط من أ.

قولان: أحدهما: أنها تؤكل، وهو قول مالك في "المدونة" وكتاب محمد. والثاني: أن ذبيحته لا تؤكل على معنى الاستحباب، وهو قول أبي مصعب. وكذلك ذبيحة [المرأة] (¬1) عنده [كان] (¬2) ذبحها على معنى الاضطرار أو الاختيار. قال مالك [في كتاب محمد] (¬3): "وتذبح المرأة أضحيتها، ولا يذبح الصبي [أضحيته] (¬4)، والفرق بينهما [صحة] (¬5) وجود القربة من المرأة وعدمها من الصبي، لأنه غير مكلف". وقولنا: "عاقل"، احترازًا من المجنون والسكران، فإن ذكاتهما ليست بذكاة، لعدم القصد، ولا خلاف عندنا أن الذكاة تفتقر إلى النية، ولا يصحُّ وجودها من السكران والمجنون. وقولنا: "غير مضيع للصلاة" احترازًا من تارك الصلاة ومضيعها، فإن من أكل ذبيحته قولان: أحدهما: قول مالك "أنها تؤكل"، وهو المشهور. والثاني: أنها لا تؤكل، وهو قول ابن حبيب. وسبب الخلاف: هل يكفر من ترك الصلاة أو لا يكفر؟ وقولنا: "من كتابي ذبح لنفسه" احترازًا من أن يذبح لمسلم نيابة عنه، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

وقد اختلف المذهب في أكل ما ذبحه لمسلم، على قولين: أحدهما: أنها تؤكل فيما عدا الأضحية، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أنها لا تؤكل جملة، وهي رواية ابن [أبي] (¬1) أويس عن مالك في "المبسوط". وفي المسألة قول ثالث: أن ذبيحته لمسلم تؤكل، سواء وكله على ذبح شاة لحم أو على أضحية، وهو قول أشهب في "مدونته". قال مالك في "كتاب محمد": ويجوز أكل ذبيحة الأغلف والجنب والحائض". وقال أيضًا: "وتؤكل ذبيحة السارق، لأنه إنما خرج عليه بمعنى السرقة، لا لأجل الذبح". والجواب عن السؤال الثاني: الآلة التي بها يذكى والذكاة تصح بكل مجهز قاطع من حديد أو قصب أو عود أو حجر أو زجاج أو قرن أو عظم، وقد قال: "لا بأس أن يذبح بالليطة [والشريطة] (¬2)، والمروة والمدية، فالليطة: فلقة القصبة، [والشريطة] (¬3): فلقة العصا، وهي الطرر أيضًا، والمروة: الحجر والمدية: السكين. والدليل على جواز الذبح بالأشياء التي ذكرناها حديث رافع بن خديج، خرجه البخاري ومسلم، أنه قال: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدًا، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: والشطيرة. (¬3) في أ: والشطيرة.

وفي حديث آخر: "إلا السن والظفر، وسأحدثكم عنهما، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة". وقد اختلف المذهب في الذبح بهما [في الاتصال والانفصال] (¬1)، على أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز جملة، وهو قول مالك في كتاب محمد. والثاني: أنه يجوز الذكاة بهما، بالاتصال والانفصال، وهو ظاهر قول أبي الحسن بن القصار، لأنه قال: "وعندي أن السن إذا كان عريضًا ممدودًا، أو الظفر كذلك، أن تباح [بهما] (¬2) الذكاة كالعظم، ولكنه مكروه كالسكين [الكالة] (¬3). وبهذا أخذ أبو حنيفة: "إذا كان منفصلًا" [وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي] (¬4)، وظاهر قول أبي الحسن: أنه حمل قول مالك على أنه "لا تصح الذكاة بالسن والظفر بحال، كان منفصلًا أو متصلًا، وأنه هو أجاز ذلك لوجهين، وإن كان متصلًا، لأنه قال: "وبهذا أخذ أبو حنيفة إذا كان منفصلًا". وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي: "الحكم في المتصل والمنفصل سواء، لأن الاستثناء ورد فيها جملة". والثالث: التفصيل بين أن يكونا منزوعين أو مزكيين: فإن كانا منزوعين، ولم يصغرا عن الذبح، حتى يمكن الذبح بهما، فلا بأس به، وهو قول ابن حبيب. ¬

_ (¬1) سقط من ب، جـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: الكليلة. (¬4) سقط من أ.

والرابع: التفصيل بين السن والظفر، فيجوز بالظفر ولا يجوز بالسن، وهذا القول حكاه ابن القصار عن بعض شيوخه، وهو ظاهر "المدونة" لأنه جوز فيها الذكاة بالعظم، ولا فرق بين العظم والظفر. وسبب الخلاف: اختلافهم في المفهوم من تعليله - صلى الله عليه وسلم -: "فأما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة"، هل المفهوم منه أن السن والظفر لا مجهزان أصلًا، فلا يحصل بهما المقصود، وذلك بعيد من الظاهر، والمفهوم منه: أن الذكاة لا تصح بهما أصلًا. ويحمل قوله: "أما السن فعظم" [على أن] (¬1) معناه: لا تصح به الذكاة في شيء يعني، وكون الظفر أيضًا بمدى الحبشة، فلا يجوز أن يذكى بها، وإن تمكن [بهما من] (¬2) الإجهاز والإنهار، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل بكونه لا ينهر الدم لا هو ولا السن، وإنما علل بكون هذا سنًا، وهذا مدى الحبشة، ويكون ذلك شريعة غير معقولة المعنى. وعليه يدل الاستثناء، ولاسيما إذا حملناه على أنه استثناء من الجنس، وهو الأظهر [أو المفهوم منه أن السن والظفر لا يجهز ولا يحصل منه المقصود وذلك بعيد عن الظاهر] (¬3). وفي "النوادر": "لا بأس بالذبح بشفرة لا نصاب لها والرمح والقدوم والمنجل الأملس الذي يجز به، فأما المضرس الذي يحصد به، فلا خير فيه، لأنه يتردد [بها] (¬4)، ولو قطع كقطع الشفرة، فلا بأس به، ولكن ما أراه يفعل. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

والجواب عن السؤال الثالث: في معرفة شرط الذكاة، فالذكاة لها فرائض وسنن وفضائل: ففرائضها ستة: ثلاثة متفق عليها في المذهب، وثلاثة مختلف فيها في المذهب: فأما الثلاثة المتفق عليها في المذهب: النية: وهي القصد إلى الذكاة، ليبيح بها أكل تلك الذبيحة، فإذا لم تكن له نية إلى استباحتها لم تؤكل، وكانت ميتة. ولأجل هذا منعنا أكل ذبيحة المجنون لعدم القصد. وقطع الودجين، لقوله عليه السلام: "ما فرى الأوداج فكلوا". وفي البخاري ومسلم: "ما فرى الأوداج، فكل"، وإن كان السبب في السؤال عن الذي يذكى به، فإنه يتضمن الموضع الذي تقع فيه لاختصاصه بما ينهر الدم، ولم يقل: ويقطع الحلقوم والمرئ، والودجان موضع [ذكاة] (¬1) الدم لا الحلقوم. وفي البخاري عن عطاء، قال: "الذكاة قطع الأوداج". وأما الثلاثة المختلف فيها في المذهب: المرىء والحلقوم والفور: فأما المرئ: فقد اختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أنه ليس من شروط الذكاة، وهو قوله في "المدونة" ولم يذكر مالك المرىء، لأنه قال "والذكاة في الودجين والحلقوم"، ثم قال: "ولم يذكر مالك المريء، وهو الحلقوم الذي يدخل فيه الطعام والشراب"، معناه: لم يذكره في شروط الذكاة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثاني: أنه من شروطها، وهو قول مالك أيضًا في كتاب [أبي تمام] (¬1) البغدادي"، على ما نقله اللخمي. وأما الحلقوم: فهل هو من شروط الذكاة أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن قطع الحلقوم من شروط الذكاة، وهو نص المذهب. والثاني: أنه ليس من شروط الذكاة، وهو قول جماعة من أصحاب مالك، وقد استقرأه اللخمي من "المدونة" من "كتاب الصيد"، من قوله: "إذا أدرك الصيد، وقد أنقذت [الجوارح] (¬2) مقاتله، يستحب له أن يفري أوداجه"، فإن فرا الكلب أو الباز أوداجه: قال مالك: "هذا قد فرغ من ذكاته كلها، ولم يراع الحلقوم"، ولو كان ذلك [من شروطه] (¬3) لقال: "يجهز على الحلقوم"، لأنه يصح أن يعض الكلب بأنيابه الجانبين، فيصيب الودجين دون الحلقوم. ويشهد لصحة هذا الاستقراء، ما وقع لمالك في "المبسوط": في رجل ذبح ذبيحة، فقطع أوداجها ثم وقعت، في ماء حيث قال: "لا بأس بأكلها". واختلف إذا ذبح فقطع الأوداج، ورد [الغلصمة] (¬4)، التي هي الجوزة كلها إلى البدن، هل تؤكل أو لا تؤكل؟ على قولين: أحدهما: أنها تؤكل، وهو قول ابن وهب وأبي مصعب وموسى بن ¬

_ (¬1) في جـ: أبي تمامة. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في جـ: القصبة.

معاوية، وأبي زيد بن أبي العمر. والثاني: أنها لا تؤكل، وهو قول ابن القاسم وأصبغ، [قال أصبغ] (¬1): لأن الحلقوم لم يقطع منه شيء، والذي قاله صحيح، لأن القطع إنما وقع في حد اللسان، وأما أشهب وابن عبد الحكم وسحنون: فقد اضطربت أقوالهم [وما اطردت] (¬2) [فمرة قالوا: أنها لا تؤكل مثل ما قال ابن القاسم] (¬3). ومرة قالوا: تؤكل مثل ما قال ابن وهب. وقال ابن وضاح: لم يحفظ لمالك فيها شيء، ولم يتكلم فيها إلا في أيام ابن عبد الحكم ونزلت [به] (¬4). ولو ذبح الجزار لرجل شاة، فأجاز الغلصمة إلى البدن: يضمن على قول ابن القاسم، ولا يضمن على قول ابن وهب وغيره. وسبب الخلاف: اختلافهم في قطع الحلقوم، هل هو من شروط الذكاة أم لا؟ فلو قطع الأوداج وأكثر الحلقوم، هل تؤكل أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تؤكل إذا قطع من الحلقوم النصف فأكثر، وهو قول ابن حبيب وغيره على ما حكاه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في "النوادر". والثاني: أنه إذا قطع منه الثلث فأكثر، أكلت، وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، على ما رواه عنه يحيى بن يحيى في الدجاجة والحمامة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ.

والعصفور: إذا قطع أوداجه ونصف حلقومه أو ثلثه، قال: "لا بأس بذلك إذا لم يتعمد". والقول الثالث: أنها لا تؤكل حتى يقطع [جميع] (¬1) الأوداج والحلقوم، وهو قول سحنون، فيما حكاه عنه الشيخ أبو محمد في الكتاب "المذكور" أيضًا. وأما الفور، هل هو من شروط الذكاة أم لا؟ أما مع الذكر، فلا خلاف أنه لا يجوز له أن يبعض ذكاته مع اختيار. واختلف إذا رفع يده، ثم أعادها بتردد ذلك، فأوجز ما بقى، هل تؤكل أم لا تؤكل؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنها تؤكل جملة، وهو قول ابن حبيب. والثاني: أنها لا تؤكل [جملة] (¬2) [إذا رفع يده قبل تمام الذكاة، ولو] (¬3) أعادها من ساعتئذ، وهو قول سحنون. والثالث: التفصيل بين أن يرفع يده على معنى الاختبار أو على غلبة الظن: فإن رفعها على معنى الاختبار أو ليرجع، أكلت. وإن كان على غير ذلك، لم تؤكل، وهذا القول تأوله بعض [الأشياخ] (¬4) على سحنون. والرابع: بعكس قول سحنون، أنه إذا رفع يده على معنى الاختبار لم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) في جـ: الأصحاب.

تؤكل، لأنه رفع مع الشك، فكأنه قصد إلى تبعيض الذكاة عامدًا. وإن رفع وهو نوى أنه أتم ذكاته، ثم تبين له غير ذلك، فعاودها، أكلت، وهو أعذر من الذي رفع يده على الشك، وهذا تأويل بعض المتأخرين أيضًا. وسبب الخلاف: هل الفور من شروط الذكاة اضطرارًا واختيارًا أو ذلك مع الاختيار دون الاضطرار؟ أو ما قارب الشيء، هل يعطى له حكمه أم لا يعطى له حكمه؟ وأما إذا اضطربت الذبيحة وترنمت بيد الذابح وزال السكين من موضع الذكاة، ثم ردها من ساعته أكلت، ولا ينبغي دخول الخلاف في هذا الوجه من وجهين: أحدهما: قرب الشيء وتفاهة ذلك. والثاني: كونه مغلوبًا، ولو غلبته الذبيحة قبل تمام الذكاة، فقامت ثم أضجعها، وأتم الذكاة، فهاهنا ينظر: فإن كان الذي فعل بها قبل القيام مما لا تعيش معه [كأن يكون] (¬1) قطع أوداجها أو أحدهما، فهل تؤكل أو لا تؤكل إذا عاود الذبح؟ فهذا يتخرج على الخلاف الذي قدمنا فيما إذا رفع يده اختبارًا أو غلبة ظن. وأما سنن الذكاة: فمنها التسمية واستقبال القبلة: أما التسمية، فقوله "بسم الله، والله أكبر"، ولا يذكر هنا غير الله ¬

_ (¬1) سقط من أ.

تعالى، وليس بموضع الصلاة على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118، 119]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أرسلت عليه كلبك أو بازك، وذكرت اسم الله عليه، فكله". فإن تركها ناسيًا، فإنها تؤكل باتفاق المذهب. وإن تركها عامدًا، فقولان: أحدهما: أنها لا تؤكل، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنها تؤكل [إلا أن يتركها استخفافًا فلا تؤكل] (¬1) وهو قول أشهب، فابن القاسم جعله بنفس التعمد مستخفًا. وسبب الخلاف: المتهاون بالسنن، هل هو كالتارك للفرض أم لا؟ فإن قلنا: إنه كالتارك للفرض، فلا تؤكل بنفس التعمد للترك، لأنه على التهاون والاستخفاف، [يحمل] (¬2)، لأن ترك التعليم دليل على الاستهزاء بأوامر الشريعة، ثم لا يعذر بالجهل، لأنه مما يعم. وقد قدمنا فيما سلف أن العبادات التي تعم ولا تخص [يجب] على كل مكلف معرفة أحكامها، وينبغي أن تكون الذكاة من هذا القبيل، لأن الشارع صلوات الله عليه ندب [كل] (¬3) مكلف مطيق [للذبح] (¬4) إلى ذبح أضحيته، وأمره أن يتولى ذلك بنفسه، ولا يوكل عليها غيره إلا عن عجز، ومن كان هذا حكمه فيندب أيضًا إلى معرفة أحكام الذكاة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يحصل. (¬3) في أ: على. (¬4) سقط من أ.

وهذا كله يدل على أنه لا يعذر بجهل أو يقال التهاون بالفرض ليس كالتهاون بالسنة فيعذر بجهل، وإلى ذلك مال أشهب. وأما توجيه الذبيحة إلى القبلة، فإنه من السنن أيضًا. فإن ترك التوجيه بها إلى القبلة: فإن كان ساهيًا: أكلت اتفاقًا. وإن كان عامدًا: لم تؤكل. فقيل: على معنى الاستحباب، وهو قول ابن المواز. وقيل: على معنى الوجوب، وهو قول ابن حبيب. وأما [فضائلها] (¬1): فمنها جبذ الشاة بالرفق عند الذبح، وأن لا يُريها السكين، وألا يذبحها وأخرى تنظر إليها، وأن يضجعها على شقها الأيسر، لأنه أمكن للذبح، فإن أضجعها على شقها الأيمن عامدًا، أكلت، وكره له ما فعل إلا أن يكون أعسر فيجوز ذلك له، لأن ذلك أشد تأتيًا وآكد تمكنًا. والجواب عن السؤال الرابع: في معرفة [ما يذبح وما ينحر وذلك على ثلاثة أوجه منها] (¬2) ما يذبح ولا ينحر، وهو الغنم وسائر الطيور المقدور عليها والنعام. ومنها: ما ينحر ولا يذبح، وهي الإبل. ومنها: ما يشرع فيه الأمران، وهي البقر. أما الذبح، فبالقرآن. ¬

_ (¬1) في أ: فضيلتها. (¬2) سقط من أ.

وأما النحر، فبالسنة. أما القرآن، فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، وأما السنة: فحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[عن أزواجه] (¬1) البقرة"، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - "أنه نحر في حجة الوداع بضعًا وستين إبلًا"، وأمر عليًا رضي الله عنه: "أن ينجر ما غبر"، يعني: ما بقى، والجملة كانت مائة، [والغابر من الأضداد: يطلق على ما بقى وعلى ما مضى] (¬2). وقال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، والذبح: ما يذبح، وقد كان كبشًا، فثبت [بذلك] (¬3) أن الذبح سنة [في] (¬4) الغنم والطيور. والنحر سنة [في] (¬5) الإبل. والبقر يستعمل فيها الأمران. واختلف إذا ذبح ما ينحر أو نحر ما يذبح، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يؤكل، ولبئس ما صنع، وهو قول أشهب في "مدونته". والثاني: أنه لا يؤكل، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثالث: التفصيل بين ما ينحر فيؤكل بالذبح، وما يذبح فلا يؤكل بالنحر، وهو قول ابن بكير، وهذا كله مع الاختيار. وأما مع الاضطرار، كبقرة أو شاة وقعت في بئر أو بعير، فلم يستطع أن ينحر [البعير] (¬6)، ولا أن يذبح الشاة أو البقرة، فهل يجوز أن ينحر [في] (¬7) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: بمجموع ذلك. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

غير محل النحر أو لا يجوز؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها لا تؤكل بغير الذبح والنحر في محله وذلك ما بين اللبة والمذبح كما قال مالك في المدونة: فإن ما بين اللبة والمذبح منحر ومذبح وإن نحر فجائز وإن ذبح فجائز [ولا يجوز] (¬1) فيما سوى ذلك [الموضع من جنب أو كتف لأن ذلك عقر والعقر لا يكون إلا في الصيد] (¬2). والقول [الثاني]: (¬3) أنه يجوز ذلك في جميع الجسد حيث ما يمكن منه لأنها ذكاة [ضرورة] (¬4) وهو قول ابن حبيب. وسبب الخلاف: هذه الضرورة هل تنقل الحكم [من محله] (¬5) [فيباح في جميع الجسد] (¬6) أو لا تنقله فيبقى كل واحد من النوعين علي أصله. وأما ابن حبيب فقد جعل الضرورة تنقل [الحكم] (¬7) عن محله فيجوز أن ينتقل إلى سائر الجسد ولا تخصيص لموضع دون موضع إلا بدليل وهو قول قياسي. وأما ابن القاسم فلم [يجر] (¬8) قوله على الأصل لأنه اتفق هو وابن حبيب أن الضرورة تنقل الحكم عن محله الذي هو الذبح والنحر وخصص به موضعًا بعينه من غير دليل ثبت عنده وذلك [مخصص] (¬9) الدعوى إليهم ¬

_ (¬1) في ب: يجزئه. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: ضرورية. (¬5) سقط من أ. (¬6) في جـ: فيجوز أن ينتقل إلى سائر الجسد. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: يزل. (¬9) في جـ: محض.

إلا أن يكون هناك أثر فيتبع فسمعًا وطاعة. والجواب عن السؤال الخامس: ذكاة الجنين، ولا تخلو ذكاة الجنين من وجهين: أحدهما: أن يخرج بعد ذكاة أمه. والثاني: أن يخرج وهي حية. فإن خرج بعد ذكاة أمه فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يخرج قبل أن تتم خلقته. والثاني: أن يخرج بعد أن تمت خلقته. فإن خرج قبل تمام خلقته فإنه لا يؤكل باتفاق المذهب ولا تنفع فيه ذكاة أمه لأنه جيفة. فإن خرج بعد تمام خلقته فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يخرج وهو حي. والثاني: أن يخرج وهو ميت. والثالث: أن يشك فيه. فإن خرج بعد ذكاة أمه، وهو حي ثم مات من فوره، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن [يمكنهم] (¬1) ذكاته. والثاني: أن يسبقهم بنفسه. فإن أمكنهم ذكاته وفرطوا فيه حتى فاتهم بنفسه، فلا يؤكل، ولا أعرف في هذا الوجه نص خلاف، ولا هو محل له فإن لم يمكنهم ذكاته وسبقهم بنفسه، وفات بالحضرة بغير تفريط، ففي ذلك قولان: ¬

_ (¬1) في أ: يمكنه.

أحدهما: أنه يؤكل مع الكراهية، وهو قول مالك في كتاب محمد. والثاني: أنه لا يجوز أكله، وهو قول ابن الجلاب، وهو مذهب يحيى بن سعيد. فإن خرج وهو ميت، فإنه يؤكل اتفاقًا في المذهب، غير أنه يستحب له أن يمر السكين على حلقه، [ليجري] (¬1) الدم من جوفه، وهو الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ذكاة الجنين، ذكاة أمه". قال مالك: " [وهذا] (¬2) إذا نبت شعره وتمت خلقته، فإن كان أحد هذين الوصفين، فلا يؤكل، وإن خرج حيًا". وإن خرج وهو مشكوك فيه، هل يعيش أو لا يعيش؟، فلا يؤكل إلا بذكاة، ولا يستباح بذكاة أمه بالشك، وهو قول ابن حبيب. وأما إن خرج وأمه حية، مثل أن تزلقه أمه، فلا يخلو حاله أيضًا من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تزلقه وهو حي حياة، بينة أنه يعيش لو ترك. والثاني: أن تزلقه وهو ميت. والثالث: أن يشك فيه. فأما الوجه الأول: فإنه تصح فيه الذكاة، ويؤكل. وأما الوجه الثاني: فلا يؤكل، إذ لا تستعمل الذكاة في جيفة. وكذلك الوجه الثالث: إذا خرج مشكوكًا فيه، هل يعيش أو لا يعيش؟، فإنه لا يؤكل وإن أدركت ذكاته أيضًا، وهو قول ابن القاسم في "المستخرجة" [وغيرها] (¬3). والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في ب: ليخرج. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

المسألة الثالثة في طعام الذين أوتوا الكتاب وغيرهم من أنواع أهل الكفر

المسألة الثالثة في طعام الذين أوتوا الكتاب وغيرهم من أنواع أهل الكفر: أهل الكتاب: هم اليهود والنصارى. والمجوس: هم قوم يعبدون النيران، وينفون الصانع. والصابئون: هم قوم بين المجوسية والنصرانية. والسامرية: صنف من اليهود، لا يؤمنون بالبعث، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره. وأما طعام أهل الكتاب، فعلى ثلاثة أوجه: [أحدها]: الطعام الذي أبيح لهم. و [الثاني]: الطعام الذي حرم عليهم. و [الثالث]: الطعام الذي حرموه [هم] (¬1) على أنفسهم. فأما الذي أحل لهم: فهو ما عدا ما ذكر الله تعالى في كتابه، وعدده مما حرم عليهم، وهو ينقسم، أعني: ما أحل لهم إلى ما يفتقر إلى الذكاة. وإلي ما لا يفتقر إليها. فما لا يفتقر إلى الذكاة، فهو حلال لمن أكله من المسلمين، إذا سلم من مخالطة الأشياء المحرمة، مثل: الميتة والدم ولحم الخنزير، وذلك مثل: الخبز والزيت والسمن والعسل واللبن. قال: مالك: "أحب إلى غسل آنية [النصارى] (¬2)، وأن تسألهم عما ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: النصراني.

قربوا إليك [من الطعام] (¬1): أَطَبِّب هو؟ ". قال: "وأما القدر الذي يطبخون فيها، فأحب إلى أن يغلي فيها الماء حتى يذهب ودكها، لأكلهم الميتة والخنزير". قال: "وأما اللبن والزبد، فإن كانت آنيتهم نظيفة، فكل، وإن شككت فدع، ولا فرق بينهم وبين المجوس في ذلك". وأما ما يفتقر إلى الذكاة، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يقصد أن يذبح ذلك قربة. والثاني: أن لا يقصد بذلك قربة. فإن قصد بذلك قربة، فلا يخلو من أن يذبح ذلك للصليب أو يذبحه لعيسى أو يذبحه لجبريل أو للكنائس: فأما ما ذبحه لصلبانهم وللأصنام التي كانوا يعبدونها، هل هو محرم أو مكروه؟ على قولين: أحدهما: أنه محرم، لأنه مما ذبح على النصب، وهو قول مالك في النوادر. والثاني: أنه مكروه مثل: ما ذبح للكنائس والأعياد، وهو قول محمد وابن حبيب. وسبب الخلاف: اختلافهم في قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، هل أراد بذلك كل ما ذبح لغير الله، صنمًا كان أو غيره، إذ كل معبود سوى الله فهو صنم، أو المراد بذلك ذبائح المشركين للأصنام التي ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كانوا يعبدونها في الجاهلية؟، وهو قول أصبغ في "ثمانية أبي زيد"، قال: "وأهل الكتاب ليسوا من أصحاب الأصنام". وأما ما ذبح للأعياد والكنائس ولعيسى ولجبريل، فأكله مكروه غير محذور. وقال ابن حبيب: "إن ما ذبح لهؤلاء ليضاهي ما أهل لغير الله به مما ذبح للأصنام، ولكن لم يبلغ به مالك التحريم، لأن الله تعالى أحل لنا طعامهم، وهو يعلم ما يفعلون"، والذي قاله صحيح، ولو كان يحرم ما ذبح باسم المسيح لما جاز أن يؤكل شيء من ذبائحهم إلا أن يُسألوا، هل سموه ذبحًا [للمسيح] (¬1) أو هو ذبح للكنيسة [أم لا] (¬2)؟ بل لا يجوز وإن أخبر أنه لغير ذلك، لأنه غير صادق وإن لم يجب ذلك حلَّت ذبائحهم كيف كانت. وأما ما يذبحونه ولا يقصدون به القربة، مثل شاة لحم ذبحوها لأنفسهم أو لضيف نزل عندهم، فإنه يجوز لنا أن نأكل منها ما كان حلالًا لهم. ونتوقف عما كان محرمًا عليهم إذا ذكروا اسم الله عليها من غير كراهية في ذلك نعلمها في المذهب. وأما ما حرم عليهم من الطعام، فقد نص الله عليه وبينه في كتابه بيانًا شافيًا لعباده، قال جل وعلا: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146]. قال ابن حبيب: {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الإبل وحمر الوحش والنعام والأوز ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وكل ما ليس بمشقوق الخف ولا مفتوح القائمة، ألا ترى أن الدجاج والعصافير انفرجت قوائمها، فاليهود تأكلها"، وقاله كله مجاهد. فلو ذبح اليهود شيئًا من هذا المحرم عليهم، لم يحل أكله. وأما الشحوم المحرمة عليهم، مثل الترب والكشا وهم شحم الكلا وما لصق بالقصبة وشبهها من شحم محض، واستثنى ما حمل الظهور: وهو ما يغشى اللحم من الشحم على الظهر وسائر الجسد أو ما اختلط بعظم. فالحوايا: المباعر، [والمرابض] (¬1) التي تكون فيها الأمعاء تسمى بنات اللبن، فما في ذلك من شحم فهو ما استثنى. فهذه جملة ما حرم الله تعالى عليهم من [الأنعام و] (¬2) الشحوم. واختلف المذهب عندنا في جواز أكل ما حرم عليهم بنص التنزيل: أما [الشحوم] (¬3)، فقلنا [فيها] (¬4) ثلاثة أقوال: أحدها: أنها محرمة، وهو قول مالك في كتاب محمد، وحكى ابن القصار عن ابن القاسم وأشهب أنها محرمة أيضًا، وهو ظاهر المدونة في "كتاب الحج". والثاني: أنها مباحة لنا، وهو قوله في "المبسوط"، وقال ابن نافع أيضًا، وهو ظاهر قول مالك في كتاب الجهاد. والثالث: بالكراهية، وهو قول ابن القاسم. ¬

_ (¬1) في أ: المرابط. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الشحم. (¬4) في أ: فيه.

وسبب الخلاف: الذكاة، هل تتبعض أم لا تتبعض؟ وأما كل ذي ظفر، اختلف المذهب في جواز [أكله] (¬1) على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ليس يذكى، وهو حرام لا يؤكل، وهو مشهور المذهب. والثاني: [جواز] (¬2) أكله، وهو قول [ابن وهب] (¬3) وابن عبد الحكم. والثالث: بالكراهية، وإن شئت جمعت بين الشحم ولحم ذي ظفر في التحصيل، فيتخرج منها أربعة أقوال: [أحدها]: الإباحة في الجميع. [والثاني]: التحريم في الجميع. [والثالث]: الكراهية في الجميع. والقول الرابع: بالتفصيل بين الشحم واللحم، فيجوز أكل الشحم [مع اللحم] (¬4)، لأن الذكاة لا تتبعض، ولا يجوز [أكل] (¬5) ذي ظفر. وسبب الخلاف: اختلافهم في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، هل هو منسوخ بما خوطبوا به من الدخول في الشريعة المحمدية، أو غير منسوخ؟ فمن رأى أن ذلك منسوخ، قال: مضمون الآية الإخبار عما كان محرمًا في التوراة، وقد نسخ [بما خوطبوا] (¬6) به من الدخول في شريعتنا، إذ لا خلاف بين الأمة أن الكفار مخاطبون بالإيمان، وليس من الجائز في الشرع ¬

_ (¬1) في أ: أكلها. (¬2) في أ: جائز. (¬3) في ب: ابن حبيب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: لحم. (¬6) سقط من أ.

أن يخاطبوا بالدخول في الإسلام وتكتنفهم شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهم مع ذلك [فسخت] (¬1) عليهم أحكام التوراة في الحلال والحرام، وذلك غير معقول ولا معقول، بل المنقول أن هذه الشريعة ناسخة لجميع الشرائع، وليس عصيانهم في ترك [امتثال] (¬2) ما أمروا به من الإسلام، مما [يحرم عليهم] (¬3) ما قد نسخ تحريمه. ومن رأى أن ذلك غير منسوخ، قال: لا يصح في الحكمية الشرعية أن توضع منهم الأثقال مع بقائهم على السبب الموجب [لعقابهم] (¬4) ذلك والله تعالى يقول: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} والبغي من أسماء التعدي، فعاقبهم الله تعالى بأن حرم عليهم بعض المحللات، لأجل ذلك التعدي، وقوله تعالى: "ذلك" إشارة إلى العلة والبغي الذي لأجله حرم عليهم. هذه الأشياء مذكورة في "كتاب التفسير"، وفيه كلام مبسوط، وليس هذا موضع ذكره، والذي [زادوه] (¬5) من البغي أكثر مما كانوا عليه، وقد حرمت عليهم الشحوم وغيرها، وقد زادوا تحريف الكتاب المبين وتكذيب النبي عليه السلام المبعوث لإقامة الدين، والله تعالى يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] فالإصر: هو الثقل، وإنما وضعت الأغلال والأثقال [عن] (¬6) من آمن به واتبع ملته، وحلل ما حلله، وحرم ما حرمه، فهم الذين وصفهم الله بالمفلحين. فأما من عصا وطغى وأثر الهوى على التقوى وكذب بالحسنى، كيف ¬

_ (¬1) في جـ: بقيت. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: يجري عليه. (¬4) في أ: لتعقبهم. (¬5) في أ: زاده. (¬6) في أ: على.

توضع عنه الأثقال وتفك عنه السلاسل والأغلال؟ فهذا ما لا [يكون] (¬1) بحال. ومن قال بالكراهة، فقد توسط، والتوسط سوق الاعتدال. فإن ثبت النسخ بما خوطبوا به من الدخول في الإسلام، وقد يعتقدون أن ذلك التحريم باقٍ لبقائهم على الكفر، وأن هذه الذكاة ليست بذكاة، لأنه يشبه أن يكون ذكاة بغير نية، فلما أشكل الأمر فيها تزهد وتورع، فقال بالكراهة. ومن فرق بين اللحم والشحم، فقد [أسلفنا] (¬2) دليله عند ذكره. وأما ما حرموه على أنفسهم اختراعًا منهم وافتراء على الله تعالى، مثل ما ذبحوه لأنفسهم ليأكلوه لا لتعظيم شيء فوجدوه فاسدا [عندهم] (¬3) لأجل الريبة وشبه ذلك، فقد اختلف فيه قول مالك بالإباحة والكراهة، على قولين منصوصين في "المدونة" ولابن القاسم في غير "المدونة" أنها لا تؤكل، وظاهره على التحريم. فيتحصل فيه ثلاثة أقوال: الجواز والمنع والكراهة. وسبب الخلاف: اختلافهم [في المفهوم] (¬4) من قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، هل المراد بذلك جميع ما سوى ما ذكر الله تعالى في كتابه ونص عليه في محكم التنزيل من غير اعتبار بما حللوه وما حرموه، ويكون معنى قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} أي: ما أباح الله تعالى لهم أكله، أو المراد بذلك: ما ¬

_ (¬1) في أ: يؤكل. (¬2) في أ: استقبلنا. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

هو من طعامهم الذين يقتاتون به ويأكلونه دون ما اجتنبوه وحرموه على أنفسهم، لأن ذلك ليس من طعامهم. ومن قال: بالكراهة، فقد توسط. وأما طعام المجوس: فينقسم أيضًا إلى ما يحتاج إلى الذكاة، وما لا يفتقر إلى الذكاة؟ فأما ما يفتقر إلى الذكاة، فلا يخلو من أن يتولى المجوسي ذكاته أو يوكل عليها مسلمًا: فإن تولى المجوسي الذكاة بنفسه، فلا خلاف في تحريم أكله، لأن الأصل ألا تؤكل ذكاة من دان بغير دين الإسلام، فخصص الله تعالى من ذلك طعام الذين أوتوا الكتاب، وبقى ما عداه على الأصل. وأما إن وكل على الذبح مسلمًا، فتولى ذبحها، فلا يخلوا من أن يوكله أن يذبحها لصنمهم أو يوكله على ذبحها ليأكلوها: فإن كان الذبح للصنم، فاستقبل بها القبلة وسمى الله تعالى عليها: أكلت مع الكراهة. وإن كان الذبح للأكل لا للصنم، مثل أن ينزل عنده مسلم فيستضيفه فتولى الذبح، فإنها تؤكل أيضًا اتفاقًا في مذهبنا، إذ ليس فيه خلاف منصوص في هذه المسألة إلا متأولًا، وهذا التفصيل لابن المواز. وأما ما لا يفتقر إلى الذكاة من طعام فهل يجوز أكله أم لا؟ [أما الجنب: فقد نص عليه في "النوادر" وغيرها أنه لا يؤكل لعلمهم فيه أنفحة الميتة إلا ما لم يغيبوا عليه] (¬1). ¬

_ (¬1) النوادر (4/ 366).

وأما ما عداه من سائر أطعمتهم التي لا تفتقر إلى الذكاة، فقد نص في "المختصر" على جواز أكل طعام المجوس كله: "فلا بأس بأكل طعام المجوس كله الذي ليس له ذكاة" وأما ذبيحة الصابئ، فقد اختلف فيها: فقيل: إنها لا تؤكل على معنى الكراهة، وهو المذهب. وقيل: إنها حرام، وهو مذهب الحسن وسعيد بن جبير في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم، وهم قوم بين المجوسية والنصرانية. وأما ذبيحة السامرية: "فإنها تؤكل لأنهم صنف من اليهود لا يؤمنون بالبعث"، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه والحمد لله وحده.

المسألة الرابعة في ذكاة المريضة والمتردية وأخواتها

المسألة الرابعة في ذكاة المريضة والمتردية وأخواتها: قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلى قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]. فالميتة: ما مات حتف أنفه، فلا خلاف في تحريمها إلا للمضطر. والدم: ينقسم إلى مسفوح وغير مسفوح: فأما المسفوح: فهو المحرم بالاتفاق، لأن الدم الذي أطلقه الله تعالى في سورة المائدة، هو الذي قيده في سورة الأنعام بقوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] فحمل فيه المطلق على المقيد، لأن ذلك نسخ كما صار إليه ابن شعبان، فإن سورة الأنعام مكية والمائدة مدنية، ولا خلاف عند أهل [العلم] (¬1) أنه لا تنسخ آية مدنية بآية مكية، لأن النسخ إزالة الحكم الثابت بالشرع المتقدم بالشرع المتأخر عنه، على وجه لولاه لكان ثابتًا، وهذا [حد] (¬2) النسخ عند بعضهم. وأما غير المسفوح، فقد اختلف فيه قول مالك على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الدم كله نجس، دم بني آدم، ودم الحيوان ما يؤكل لحمه منها وما لا يؤكل، ودم الحوت والبراغيث والذباب، وهو قول مالك في "المدونة"، وغيرها، الدم كله يغسل دم الحوت وغيره، ين كان في دم الذباب روايتان: ¬

_ (¬1) في جـ: النظر. (¬2) في أ: حكم.

أحدهما: أنه يغسل، وهو قول مالك في سماع أشهب عنه أيضًا، وإذا كان عنده نجس فهو حرام. والقول الثاني: أنه طاهر وأنه ليس بنجس ولا حرام، وإنما المحرم المسفوح خاصة، وهو قول محمد بن مسلمة، وهو نص قول مالك [في المدونة] (¬1) في اليسير من الدم، أن الصلاة لا تعاد منه، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لولا أن الله سبحانه قال: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} لاتبع المسلمون ما في العروق، كما تبعته اليهود، وقد تطبخ البرمة وفيها الصفرة، ويكون في اللحم الدم، فلا يكون على المسلمين غسله. وقوله: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} قد تقدم فيه الكلام. {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] هو الذبح للأصنام. والمنخنقة: قال ابن حبيب: "ما تختنق بحبل أو غيره أو يقودها برقبتها". والموقوذة، المضروبة في مقاتلها، وحيث لا ترجى لها حياة مما أصابها من ضربة حجر أو عصا أو بندق أو غير ذلك. والمتردية: التي تردت من شيء منيف أو جبل أو شرف أو هوة فيوهنها. والنطيحة: التي تنطح بعضها بعضًا أو تنطح جدارًا أو صخرة، فيبلغ ذلك منها. وأما أكل السبع: ما قطع السبع بطنها وما أصاب مقتلها أو يوهنها. فالمنخنقة وأخواتها، لا يخلو لكم فيها من ثلاثة أوجه: أحدها: أن ينفذ بذلك مقتلًا. والثاني: ألا ينفذ لها مقتلا [ورجيت حياتها والثالث: ألا ينفذ لها ¬

_ (¬1) سقط من أ.

مقتلًا] (¬1)، أنه آيس من حياتها. فالجواب عن الوجه الأول: إذا أنفذ الذي أصابها مقاتلها، فلا خلاف عندنا على المذهب أن الذكاة لا تستعمل فيها إلا متأولًا، لأن الحياة التي بقيت فيها حياة مستعارة، وفي "الأسدية" عن ابن القاسم فيمن أنفذ مقاتل رجل، ثم أجهز عليه [رجل] (¬2) آخر فقتله. قال ابن القاسم: "يقتل الثاني". وقال أشهب: "يقتل الأول، ويعاقب الثاني"، وهو الصحيح، وما قاله ابن القاسم نادر. فعلى قوله: أن الثاني يقتل [ويعاقب الأول] (¬3)، فإن الذكاة تستعمل في المنفوذة المقاتل، والمقاتل عندنا خمسة: انقطاع النخاع وهو المخ الذي في عظم الرقبة والصلب وقطع الأوداج وخرق المصران وانتشار الحشوة [وانتشار الدماغ فهذه المقاتل المتفق عليها على الخلاف في تفسير الاثنين منها: خرق المصران وانتشار الحشوة لأن أهل المذهب جعلوا لهما] (¬4) وجهين من المقاتل: [فقالوا] (¬5) فإن أرادوا بقطع المصران قطعه وإبانه بعضه من بعض، وأرادوا بانتشار الحشوة انتشار الثفل لانخراق المصران، فصحيح أنهما مقتلان، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الديات" أن انتشار الحشوة خروج الثفل من خرق المصران. وإن أرادوا بانتشار الحشوة خروجها عند شق الجوف، فليس بصحيح، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

وقد قاله بعض الشيوخ. وذهبوا إلى انتشار الحشوة خروجها عند شق الجوف [وشق الجوف] (¬1) ليس بمقتل عند جميعهم، لأن الجوف إذا شق [انتشرت] (¬2) منه الحشوة ولم تنقطع منه، وعولجت وردت وخيط الجوف عليها، وهذا مشاهد معلوم، فليس نفس انتشارها بمقتل، ولهذا قال ابن القاسم تؤكل، وإن انتثرت حشوتها. وأما شق المصران فإن كان من أعلاه، فمتفق عليه أنه مقتل. وإن شق من أسفله، فليس بمقتل عند بعض محققي المتأخرين من أصحابنا، كالقاضي أبي الوليد بن رشد وغيره والفرق بينهما أن الشق إذا كان في الأعلى من حيث يجوز الطعام إلى المعدة فالغذاء يخرج منه [ولا ينفذ إلى المعدة و] (¬3) الأعضاء ولا يغذي الجسم فيهلك إذا انقطع عنه الغذاء، ولهذا لما جرح عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرب لبنًا فخرج من جرحه، فقيل له: اعهد يا أمير المؤمنين، لما علم أنه قد أنفذت مقاتله. فإذا كان الشق في أسفل الأمعاء، حيث يكون فيه الثقل، فليس بمقتل، لأن منفعة الغذاء قد صعدت إلى الأعضاء، وحصل منه المقصود، والأثفال لم يبق لها إلا الصرف خاصة، فإن خرجت فلا يضر. واختلف في اندقاق العنق من غير أن تفتح، هل يعد مقتل أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه مقتل، وهو قول مطرف وابن الماجشون عن مالك. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: انتثرت. (¬3) سقط من أ.

والثاني: أنه ليس بمقتل، وهو قول ابن القاسم. وفي انشقاق الأوداج من غير قطع، قولان: أحدهما: أنه مقتل، وهو قول أشهب وغيره من أصحاب مالك. والثاني: أنه ليس بمقتل، وهو قول محمد بن عبد الحكم. والجواب عن الوجه الثاني: إذا لم ينفذ لها مقتل ورجيت حياتها، فلا خلاف أنها [تستعمل فيها] (¬1) الذكاة. والجواب عن الوجه الثالث: إذا لم ينفذ ذلك لها مقتلًا، إلا أنه أيس من حياتها أو شك في أمرها، هل تعيش أو لا تعيش، وهل تستعمل الذكاة أو لا تستعمل؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تستعمل فيها الذكاة، وتؤكل إذا وجدت منها الحركة أو ما يقوم مقامها من استفاضة النفس في الحلق أو أمرًا يدل على وجود الحياة بها ساعة الذبح على ما سنبينه في ذكاة المريضة إن شاء الله، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو قول أصبغ أيضًا في "النوادر". والثاني: أن الذكاة لا تستعمل فيها ولا تؤكل إذا ذكيت، وإن تحركت أو طرفت أو استفاض نفسها في حلقها، وهو قول عبد الملك بن الماجشون ومحمد بن عبد الحكم. وسبب الخلاف: اختلافهم [في الاستثناء] (¬2) في قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}، هل هو استثناء متصل أو استثناء منفصل؟ فمن جعله استثناء متصلًا، قال: تستعمل فيها الذكاة، ويكون معنى قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} من هذه المذكورات بعد حصول ذلك فيها. ¬

_ (¬1) في أ: تعمل بها. (¬2) سقط من أ.

ومن جعله استثناء منفصلًا، قال: لا تستعمل فيها الذكاة، ويكون معنى قوله تعالى: " {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} من غير هذه المذكورات، وهو بمعنى "لكن"، والأصح: أنه استثناء متصل، لأنه لا خلاف أن الآية في المنخنقة وأخواتها ليست على عمومها، ولو كانت على عمومها لم تؤكل. وإن ذكيت وكانت ترجى حياتها، فإذا ترك ظاهر الآية، ولم تحمل على عمومها، فحملها على ما مات منها ولم ندرك ذكاتها أحسن. وإلى هذا المعنى أشار بعض المتأخرين. وأما ذكاة المريضة، فلا خلاف في المذهب أنها تستعمل فيها الذكاة، وإن آيس من حياتها إذا وجد فيها علامات الحياة، وهي علامتان: الحركة وسيلان الدم أو ما يقوم مقام الحركة من استفاضة النفس في حلقها الذي يعلم أنه لا يكون إلا مع الحياة. فإن تحركت ولم يسل [منها] (¬1) الدم، فإنها تؤكل عند ابن القاسم ابن كنانة، وقال محمد: "لا تؤكل إلا بسيلان الدم والحركة بعد الذبح، فإن لم يكن ذلك لم تؤكل إلا أن يكون فيها الحياة بينة كالنفس البين أو العين تطرف. وأما الصحيحة إذا أشرفت على الموت لوجع فيها في جوفها، فبادرها بالذكاة، فسال دمها، ولم يتحرك منها شيء، فقال مالك في "النوادر": "إنها تؤكل فالحركة وسيلان الدم دليلان على الحياة في كل موضع، والحركة بانفرادها دليل على الحياة في المريضة، وسيلان الدم بانفراده دليل على الحياة في الصحيحة". فخرج من هذا التحصيل أن سيلان الدم بانفراده: لا تؤكل به المريضة، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والحركة بانفرادها: لا تؤكل بها الصحيحة، وإنما اعتمدت الحركة من المريضة دون سيلان الدم على انفراده، لأن المرض نقل معه الدم، وربما يعدم البتة إلا الشيء التافه، والحركة لا [تقدم] (¬1) بكليتها إلا مع عدم الحياة، فلذلك اعتبر ما يستمر وجوده مع الحياة دون ما يعدم استمراره مع وجود الحياة. والصحيحة: لا تعتبر فيها الحركة لقوتها عليها، إذا لم يكن بها مرض يوهنها ويضعف قواها عن الحركة، فكان المعتبر غير الحركة الذي هو الدم، لأنه إذا ذبحها وسال دمها علم أنها قد ذبحت، وحياتها فيها مجتمعة. فإذا لم يسل دمها علم أنه قد ذبحها بعد أن بردت وزهقت روحها لمرضها، وإنما يجري مع حرارة الجسد الذي يكون مع بقايا الحياة. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: تقدم.

كتاب الضحايا

كتاب الضحايا

كتاب الضحايا تحصيل مشكلات كتاب الضحايا، وهي أربع مسائل: المسألة الأولى: الأضحية، هل هي واجبة أم لا؟ ولا خلاف في [المذهب] (¬1) أنها ليست بواجبة وجوب الفرائض، مثل الصلاة والصيام والزكاة، وإنما الخلاف في المذهب، هل هي واجبة وجوب السنن أو هي سنة غير واجبة، وعنوا بالواجب المؤكد، وإن كان قد وقع لابن حبيب ما يدل [على] (¬2) أنها واجبة وجوب الفرائض، حيث قال: "في الفقير إن وجد ثمنًا أو وجد من يسلفه فليستلف"، وحكاه عن مالك، إلا أن مثل هذا قد يقوله العالم على معنى التأكيد، كما قيل في زكاة الفطر: إن الفقير يتسلف ويؤديها، وذلك غير واجب عليه، لأن وجوب الأضحية إن وجبت، فإنما يكون على القادر عليها، كسائر العبادات الواجبة في المال، فإنما تجب على من عنده من المال ما يبيع أو يخرج منه ذلك القدر. وأما من يتسلف أو يسعى حتى يحصل [له] (¬3) ما يجب فيه الحق ليؤديه منه، فليس ذلك عليه بواجب باتفاق الأمة قاطبة أنه لا يجب على الحر المسلم أن يسعى في حصول النصاب لتجب عليه الزكاة، فالمذهب في وجوبها [وجوب السنن] (¬4) على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: [أنها] (¬5) واجبة وجوب السنن، وهو مشهور المذهب، وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

قول ابن القاسم في "الكتاب": فيمن حبس أضحيته حتى مضت [أيام النحر فإن لا يضحى بها بعد] (¬1) أيام النحر [إلا] (¬2) أنه آثم" والإثم لا يكون إلا في [الواجب إذا ترك] (¬3)، والسنن المؤكدات يذم تاركها، لما في ذلك من التهاون بقول الشارع صلى الله عليه وسلم أو بفعله. والثاني: أنها من السنن المندوبات التي يثاب عليها فاعلها ولا يذم تاركها، وهو صريح قول مالك في الكتاب [حيث قال] (¬4): "لا أحب لمن يقدر عليها أن يتركها". وسبب الخلاف: تعارض الأحاديث، فمنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم هلال ذي الحجة، فأراد أن يضحي، فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا". فظاهر هذا الحديث يقتضي نفي الوجوب، لقوله: "فأراد أن يضحي"، لأن الواجبات لا تتعلق بإرادة المكلف. ويعارضه ما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر من ذبح [قبله] (¬5) أن يعيد، فقال: [له] (¬6): "ليس عندي إلا جذعة من المعز، فقال: "اذبحها ولا تجزئ أحدًا بعدك" وهو أبو بردة بن نيار. فظاهر هذا يقتضي الوجوب، وبهذا استدل من قال بالوجوب، [وتأول] (¬7) الخبر الأول في قوله: "فأراد أن يضحي"، أن مثل هذا اللفظ يصح أن يؤتى مثله في الوجوب، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء أحدكم الجمعة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: ترك الواجب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: قبل ذبحه. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: وبتأويل.

فليغتسل". وقال بعض المتأخرين: "وهذا الاعتراض غير صحيح، لأنه لا يختلف أن يفسر هذا اللفظ من أراد، ومن جاء لا يتضمن وجوبًا ولا ندبًا، وإنما وجبت الجمعة بنص آخر بالآية، وبما جاء في ذلك من الأحاديث، ولو لم يكن في ذلك إلا قوله "من جاء" لم تجب، والقول بأنها ليست بواجبة أبين، لأن الأصل براءة الذمة وفراغ الساحة، وطريق انشغالها الشرع، ولم يأت من جهة الشرع ما يدل على عمارتها، بل ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أمرت بالنحر وهو لكم سنة"، ففرق بين حكمها عليه وعلى أمته، فلو كانت واجبة عليهم لم يكن للتفرقة وجه [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الثانية في سنها وصفة ما وجب منها، ومن أي حسن تكون؟

المسألة الثانية في سنها وصفة ما وجب منها، ومن أي حسن تكون؟ ولا خلاف: أنها لا تكون إلا من بهيمة الأنعام دون الوحش والطيور. [وسنها] (¬1): الجذع من الضأن، والثنى من البقر وسائر الأنعام واختلف في سن الجذع من الضأن، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ابن سنة، وهو قول أشهب وابن نافع. والثاني: أنه ابن عشرة أشهر، وهو قول ابن وهب. والثاني: أنه [ابن ثمانية أشهر، وقيل] (¬2) ابن تسعة أشهر [وهي رواية سحنون عن علي بن زياد وبه أخذ] (¬3). والجذع من البقر: ابن سنتين [ومن الإبل ابن خمس سنين. والثنى من الغنم ابن سنتين ومن البقر ابن أربع، ومن الإبل ابن ست] (¬4)، [وقد تقدم مثل هذا في "كتاب الزكاة"] (¬5)، وأفضلها عندنا الضأن، ثم المعز. واختلف في الإبل والبقر، على قولين: أحدهما: أن البقر أفضل ثم الإبل، وهو المشهور، وهو قول القاضي أبي محمد. والثاني: الإبل ثم البقر، وهو قول أبي إسحاق بن شعبان في الزاهي. ¬

_ (¬1) في جـ: ومنها. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من ب.

واختلف في ذكور كل صنف وإناثه، على قولين: أحدهما: أن الذكران ثم الإناث، وهو قول مالك في "مختصر بن عبد الحكم". والثاني: أن الذكور والإناث في الهدايا والضحايا سواء، وهو قول مالك في "المبسوط". ولا خلاف أعلمه في المذهب أن الفحل مقدم على الخصي، وقال ابن شهاب في: خصي الضأن: "لا ينقصه الخصي شيئًا".، وقال مالك: في "المختصر" وغيره: "وفحول الضأن في الضحايا أفضل من خصيانها، وخصيانها أفضل من إناثها وإناثها أفضل من ذكور المعز، وفحول المعز أفضل من خصيانها، وخصيانها أفضل من إناثها، وإناثها أفضل من الإبل والبقر في الضحايا". وأما في الهدايا: فالإبل [أفضل] (¬1) ثم البقر. رأيت لبعض المتأخرين: "أن فحول الضأن أفضل من خصيانها وخصيانها أفضل من إناثها، و [إناثها] (¬2) أفضل من فحول المعز، وفحول المعز أفضل من إناثها، وإناثها أفضل من الإبل والبقر [في الضحايا] (¬3). وهذا [الترتيب] (¬4) الذي رتبه هذا المتأخر لا تنافي بينه وبين ما رتبه مالك، لا علم أن الخصى له مزية على إناث جنسه بكثرة اللحم والشحم، وإنما فرق مالك بين الضحايا والهدايا، وذلك أن المقصود في الضحايا: حسن اللحم ورطوبته، لأنها قربة اختص بها أهل البيت. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

والهدايا المقصود منها: كثرة اللحم وفوره، لأنها قربة قربت للمساكين، والمساكين لا يريدون إلا الزائد من الأطعمة، وإنما غرضهم كثرة الشيء [وإشباعه] (¬1)، فالإبل والبقر محل لهذا المقصد، وهذا من طريق النظر. وأما من طريق الأثر، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ضحى بصنفين، وروى [ابن حبيب] (¬2) في "الواضحة": عن عدد من الصحابة والتابعين أنهم يستحبون أن تكون الأضحية بكبش عظيم سمين فحل أقرن أملح ينظر في سواد، ويسمع بسواد ويشرب بسواد، ويؤيده تقديم الضأن على الإبل والبقر ظاهر القرآن في قصة إبراهيم عليه السلام، قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، قيل: فداه بكبش، وهو القربان الذي تقبل من ابن آدم. وأما الصفة التي يجب أن تكون عليها [الأضحية] (¬3) في ذاتها: فهي أن تكون سمينة صحيحة، سالمة من العيوب التي نص الشارع عليها، وقد سئل - صلى الله عليه وسلم - عن ما يتقي من العيوب في الضحايا، فأشار بيده، وقال: "أربع العرجاء البين ضلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي"، فقيل: التي لا شحم فيها، وقيل: التي لا مخ فيها. فإن كان فيها عيب كثير سوى هذه الأربعة المنصوص عليها، هل تجزئ معه أو لا تجزئ؟ قولان: أحدهما: أنها لا تجزئ، وهو قوله في "المدونة" وغيرها، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنها تجزئ، وهو مذهب البغداديين من أصحاب مالك، ¬

_ (¬1) في جـ: واتساعه. (¬2) في أ: ابن وهب. (¬3) سقط من أ.

كالقاضي أبي الحسن بن القصار و [ابن الجلاب] (¬1) وغيرهما. وسبب الخلاف: الأربعة المنصوص عليها، هل هي في معنى الحصر أو في معنى [الأصل] (¬2) فليقاس عليها؟ فمن فهم أن ذلك في معنى الحصر، قال: إنها تجزئ وغير هذه الأربعة لا تؤثر، وهذا هو الظاهر من اللفظ أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل ما الذي يتقي فيها [من] (¬3) العيوب؟ فنص على الأربعة، ولم يكتف بذكرها [وعددها] (¬4) حتى نعتها ووصفها بصفةٍ تخرج [غيرها] (¬5) من العدد المحصور. ومن فهم منه أن ذلك في معرض الأصل، قال: يجوز القياس عليها، لأن مقصود الشارع اجتناب ماله قدر وبال من سائر العيوب، لأن المراد من اجتناب هذه العيوب [المعدودة] (¬6) تأثيرها في نقصان الشاة المضحى بها لا غير ذلك، فمهما وجد عيب يعمل مثل ذلك أو أكثر منه، فما المانع أن يناط به الحكم؟، وهذا أظهر من طريق النظر. فإذا ثبت ذلك، فالعيوب على ضربين: عيب يعم جميع الجسد، وعيب يخص بعض الجسد: ولا يعم فالعيوب التي تعم جميع الجسد كالمرض والعجف والهرم والجرب والجنون: أما المرض والعجف البين، فقد أحكمتها الحسنة، والجرب كالمرض، لأنه ¬

_ (¬1) في ب: أبي القاسم ابن الجلاب. (¬2) في ب: الأصول. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

يفسد اللحم، إلا الجرب القليل [الخفيف] (¬1) الذي لا يؤثر في الهزال [ولا] (¬2) في فساد اللحم. وأما الهرمة فإنها تجزئ إذا كان خفيفًا، وإن كان هرمًا بينًا، فهو كالمرض، وهو قول أصبغ إذا كان هرمًا بينًا، وهو تفسير لقول مالك في "كتاب محمد"، حيث يقول. "تجزئ الهرمة"، فأطلق. وأما المجنونة: فإن كان لازمًا لم يجزئ، ولا يتقرب إلى الله تعالى بمثل هذه. وإن كان يعرض المرة، ثم يذهب فذلك خفيف. وأما العيوب التي تخص ولا تعم، فمنها العور، فإن ذهب الانتفاع بتلك العين، أو أكثرها لم تجزئ، وإن ذهب أيسر ذلك أجزأته، وكذلك إن ذهب الأكثر من كل عين. وأما ما يكون في الأذن، كالشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة والسكاء والجدعاء: [والخرقاء: المثقوبة الأذن] (¬3) والشرقاء: المشقوقة الأذن. والمقابلة: ما قطع من أذنها من قبل وجهها. والمدابرة: ما قطع من قبل قفاها. والسكاء: الصغيرة الأذن. والجدعاء: المقطوعة الأذن. فهذه العيوب ما كان منها يسيرًا، فلا يمنع الإجزاء اتفاقًا، كقطع دون الثلث من الأذن، وما كان منها كثيرًا، هل يؤثر في المنع أم لا؟ قولان، وقد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

قدمناهما. فعلى القول بأنه يؤثر، وهو المشهور إذا ذهب أذناها أو أكثرهما أو واحدة منهما، بكليتها أو أثرها، فإنها لا تجزئ، فالنصف [منها] (¬1) في حيز الكثير، ودون الثلث في حيز اليسير. واختلف في الثلث، على قولين قائمين من "المدونة". أما ابن حبيب قال: "الثلث من الأذن كثير كالثلث من الذنب كثير". وقال ابن المواز: "النصف كثير من غير أن يحد فيه حدًا".، وظاهر قوله: يشعر أن الثلث في حيز اليسير، كما قال في غير ما موضع من "المدونة". قال اللخمي: "والشق أيسر من الشَّيْنِ من القطع، لأن جميعها موجود في الشق، ولم ينتقص من خلقتها شيء بخلاف القطع، وأرى أن تجزئ، وإن بلغ بالشق النصف" انتهى كلامه. [قال المؤلف] (¬2) وأما في ذهاب الأسنان، فلا يخلو ذهابها من ثلاثة أوجه: إما أن يكون بكسر أو بإثغار أو لكبر: فإن كان ذهابها بكسر: فإن كان يسيرًا، كسن واحدة: "فتجزئ". وإن كثر الكسر: فلا تجزئ، وهو قول ابن حبيب في الكسر، وهو قول محمد في السن الواحدة. وقيل: إنها لا تجزئ ولا يضحى بها، وهو قول مالك في "المبسوط". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب.

وإن كان من أثفار: جاز. وإن كان من كبر، فقولان: أحدهما: أنها تجزئ، وهو قول مالك في "كتاب محمد": إذا سقطت أسنانها من أثغار أو هرم أو وجع، فلا بأس بها. والثاني: أنها لا تجزئ، وهو قول ابن حبيب. أما المكسورة القرن: فقد اختلف فيها المذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه يجوز أن يضحى بها، وإن كانت مستأصلة القرنين، وهو قول ابن المواز. والثاني: لا يجوز أن يضحي بعضباء، وهي المكسورة القرن الخارج والداخل، وإن لم يدمي، وإن ذهب الخارج وبقى الداخل صحيحًا: فإنها تجزئ، وهو قول ابن حبيب [في المدونة] (¬1). و [القول] (¬2) الثالث: [بالتفصيل] (¬3) أنه إذا ذهب البعض، وكانت لا تدمى: جاز أن يضحي بها، وإن كان يدمي: فلا يجوز، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والرابع: أنها تجزئ، وإن كان يدمى، وهو قول أشهب في "مدونته"، وهذا [الخلاف] (¬4) ينبني على الخلاف في المرض الخفيف وفي [الشق] (¬5) الخفيف، هل يؤثر أم لا؟ ولا أعلم في المذهب نص خلاف في الجماء أنها تجزئ، فإذا جاز أن [يضحي بها] (¬6)، وقد خلقت بلا قرن. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: السن. (¬6) في ب: تذكى.

فكذلك يجوز أيضًا أن يضحي [بها] (¬1) إذا قطعا، فكما أنها إذا خلقت بغير أذنين: أنها لا تجوز، فكذلك إذا [قطعتا] (¬2). وسبب الخلاف: في جميع ما قدمناه من قطع الأذن والقرن تعارض الآثار: فمن ذلك ما خرجه النسائي عن أبي بردة أنه قال: يا رسول الله: أكره النقص يكون في القرن والأذن، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كرهته فدعه ولا تحرمه على غيرك". ويعارضه ما روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرق العين والأذن ولا نضحي بشرقاء ولا بخرقاء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا بتراء"، وهذا خلاف قصة أبي بردة. وقد يمكن الجمع بين الحديثين، فيحمل ما قال في حديث علي رضي الله عنه على ما كثر من ذلك، وحديث أبي بردة على ما كان يسيرًا. وأما التي يبس ضرعها [كلها] (¬3)، فلا يضحي بها. وإن يبس البعض وسلم البعض: فلا بأس أن يضحي بها، وهو قول مالك في "كتاب محمد" [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: قطعت أذناها. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من جـ.

المسألة الثالثة في وقت ذبح الأضحية

المسألة الثالثة في وقت ذبح الأضحية قال مالك: "الأيام التي يضحي فيها يوم النحر، ويومان بعده إلى غروب الشمس من آخرها". قال محمد: "وقاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر وأنس وكثير من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين". وأما ما روي عن عمر بن عبد العزيز وعن الحسن رضي الله عنهما: أن الأضحية ثلاثة أيام بعد يوم النحر، فقد عيب ذلك. وقد قال يونس أن الحسن قال: "الشهر كله". قال مالك: "يوم الحج الأكبر يوم النحر". قال غيره: "سمى بذلك لأن المشركين كان يقف بعضهم بعرفة، وبعضهم بالمشعر ثم يأتي [من عرفة] (¬1) فيقف يوم النحر [بالمشعر] (¬2)، فصار اجتماعهم فيه، فأمر أن ينذرهم بسورة براءة في أكبر مجتمعهم، وشيء آخر أن ليلة هذا اليوم من طلع عليه فجرها، ولم يقف بعرفة، فقد فاته الحج والليلة من اليوم، وهذه الأيام تنقسم إلى معدودات ومعلومات: قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، وقال سبحانه: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]. فقال علماؤنا: "أيام الرمي معدودات وأيام النحر معلومات". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أيام مني ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، فاليوم الأول معلوم ¬

_ (¬1) في أ: بعرفة. (¬2) في أ: في المشعر.

غير معدود في أيام مني، لأن أوله للمشعر الحرام وآخرها لمنى فلما لم يخلص [بمنى] (¬1) لم يعد"، وقال بعضهم: "الأيام المعلومات والأيام المعدودات أربعة، فيوم منها معلوم غير معدود، وهو اليوم الأول، معلوم بالنحر غير معدود في الرمي، لأنه لا يرمي فيه إلا جمرة العقبة، والرابع معدود غير معلوم، معدود في الرمي لمن لم يتعجل، غير معلوم [بالنحر] (¬2)، و [منها] (¬3) يومان معدودان معلومان، وهما اليومان اللذان بعد يوم النحر، وهذا العقد قريب من الأول، وتسمى أيضًا أيام التشريق. واختلف في سبب تسميتها بهذا الاسم: فقيل: سميت بذلك لأجل الصلاة، لأن الصلاة للعيد تصلى عند شروق الشمس، وسميت سائر الأيام باسم أولها، وقد روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من ذبح قبل التشريق أعاد". وقيل: سمي بذلك لأنهم كانوا لا يذبحون فيها إلا بعد شروق الشمس، وهو قول ابن القاسم: "أن الأضحية لا تذبح في اليوم الأول ولا في الثاني حتى تحل الصلاة". وخالفه أصبغ: في غير اليوم الأول، وقد سميت بذلك لأن الناس يشرقون فيها لحوم ضحاياهم، أي: ينشرونها لئلا تتغير. وقيل: سميت بذلك، لأن الناس يبرزون فيها إلى المشرق، وهو المكان الذي يقوم الناس فيها بمنى. وأما وقت ذبح الأضحية: فوقتها بعد الصلاة، وبعد ذبح الإمام إن كان ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: الذبح. (¬3) سقط من أ.

هناك إمام يجب انتظاره. فإن لم يكن هناك إمام، فليتحروا صلاة أقرب الأئمة إليهم، والإمام الذي أمر بانتظاره، ووجب على الناس الاقتداء به، هو: الإمام الذي تؤدي إليه الطاعة إذا كان متبعًا للسنة والجماعة أو من أقامه في بلده أو بعثه عاملًا على بلد من بلدان مملكته. فمن صلى معه أو مع عامله، فلا يخلو الإمام حينئذ من وجهين: أحدهما: أن يخرج بأضحيته إلى المصلى، ويذبحها بعد فراغه من الصلاة، [والثاني] (¬1) ألا يخرجها: فإن أبرزها وأخرجها إلى المصلى: فهذا لا خلاف أن من ذبح قبله يعيد لأنه لم يقصد إلا [العناد] (¬2). وذبح آخر قبله، فلا يخلو الإمام من أن يبادر بالذبح من غير توان ولا تفريط أو بتوان وتفريط. فإن لم يكن منه توان ولا تفريط، فسبق أحد فذبح قبله، فهذا تجب عليه الإعادة مثل الأول. وإن كان من الإمام توان وتفريط؛ حتى تجاوز ما يذبح [في مثله] (¬3) الإمام، فهل تجب الإعادة على من ذبح قبله أم لا؟ قولان: أحدهما: أنها تجزئه ولا إعادة عليه، وهو قول أبي مصعب وابن الجلاب. والثاني: وجوب الإعادة، وهذا القول مخرج غير منصوص [عليه] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: المعاندة. (¬3) في أ: فيه. (¬4) سقط من أ.

وسبب الخلاف: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الذبح قبل الإمام، هل هو معقول المعنى أو غير معقول المعنى؟ فمن رأى أنه معقول المعنى، قال: لا يعيد إذا كان من الإمام توان، لأن ذلك رضا منه بإسقاط حقه. ومن رأى أنه غير معقول المعنى، قال: إنه يعيد، وإن توانى الإمام. وأما من لم يصل معه، إما لتخلفه عن الصلاة لعذر أو لغير عذر، وإما لكونه من أهل البادية ممن بعد عن الإمام. فأما من هو قريب من الإمام غير أنه لم يشهد الصلاة معه فذبح بالتحري، ثم ظهر له أنه ذبح قبله، فهل تجزئه أو يعيد؟ قولان: أحدهما: أنه يعيد، وهو المشهور. والثاني: أنه لا يعيد وتجزئه، وهو ظاهر قول ابن الجلاب. والصحيح: أنه يعيد، لأنه مخاطب بالصلاة مع الإمام، فيدرك ذلك بالمشاهدة. وأما من كان بالبادية ممن بعد عن الإمام: فإنهم يتحرون صلاة أقرب الأئمة إليهم وذبحه: فإن تبين لهم أنهم أخطؤوا، فهل تجزئهم أو يعيدون؟ قولان: أحدهما: الإجزاء، وهو قوله في "المدونة" وهو المشهور. والثاني: الإعادة، وهو قول أشهب في "كتاب محمد". وسبب الخلاف: المجتهد، هل يعذر باجتهاده أم لا؟ ووقت الذبح: في أيام الذبح من الضحى إلى زوال الشمس، فإن أجزأه ذبح قبل طلوع الشمس وبعد الفجر: أجزأه إذا كان ممن لا إمام له من أهل

البادية أو من غيره، ولم أر نصًا في هذه المسألة أيضًا، والذي ذكرناه هو الذي تقتضيه مسائل المذهب. وأما من ذبح أضحيته بالليل، فهل تجزئه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يعيد ولا يجزئه ما ذبح، وهو قول مالك المشهور [عنه] (¬1). والثاني: أنه يجزئه، وهذا القول حكاه ابن القصار عن مالك في [كتاب] (¬2) "عيون الأدلة". وينبني الخلاف فيها على الخلاف في الأيام والليالي إذا خصصت، بالذكر، هل يفيد ذلك تخصص الحكم بها دون السكوت عنه أو المسكوت عنه يندرج تحتها ضمنًا؟، وقد وقع في "المدونة" مسائل تدل على الأمرين جميعًا. وقد قال في "كتاب الاعتكاف": فيمن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة، وكذلك إذا نذر اعتكاف ليلة: لزمه يوم وليلة، وقد ذكر الله الأيام مع الليالي، فقال تعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر]، فجعل الأيام مندرجة تحت الليالي". وقال في "كتاب الصيام" فيمن نذر أن يصوم [اليوم] الذي يقدم فيه فلان، فقدم ليلًا: أنه يصوم صبيحة تلك الليلة. واختلف إذا زالت الشمس من اليوم الأول قبل أن يذبح، هل التأخير إلى اليوم الثاني أفضل أو بقية هذا اليوم أفضل؟ على قولين: أحدهما: أن بقية هذا اليوم أفضل من التأخير إلى بكرة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

ثانية، وكذلك الثاني أفضل من الثالث، ولا فرق بين أوله وآخره، وهو قول ابن المواز. والثاني: أنه يؤخر إلى بكرة اليوم الذي يليه، وهو قول ابن حبيب، وأما اليوم الثالث إذا زالت الشمس قبل أن يذبح، فإنه يذبح ما بينه وبين العشاء الذي هو غروب الشمس. والحمد لله وحده.

المسألة الرابعة في الأضحية، هل تجب بالتسمية أو لا تجب إلا بالذبح؟

المسألة الرابعة في الأضحية، هل تجب بالتسمية أو لا تجب إلا بالذبح؟ وقد اختلف المذهب عندنا في الأضحية، هل تجب بالتسمية أو لا تجب إلا بالذبح؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنها لا تجب إلا بالذبح، وهو المشهور المعلوم في المذهب. والثاني: أنها تجب بالتسمية والتعيين، فمتى سمى هذه أو عينها، فإنها تجب كالهدى، وهو مذهب البغداديين من أصحاب مالك، على ما نقله أبو الفضل عياض. وفائدة الخلاف وثمرته: إذا أراد [بيعها] (¬1) أو بدلها بغيرها بعد التسمية أو ولدت أو جز صوفها أو حدث بها عيب أو ماتت قبل الذبح أو غير ذلك من [الأحكام] (¬2) التي تعتريها، وتختلف باختلاف التعيين وعدمه. و [قد] (¬3) نص [في] (¬4) "المدونة" وغيرها: أنه يجوز أن يبيع أضحيته ويشتري مثلها أو ما هو خير منها، وكذلك الاستبدال أيضًا: فإذا باعها واشترى من ثمنها ما هو خير [منها من ثمنها] (¬5) واستفضل من ثمنها شيئًا، هل يجوز له ذلك أو لابد أن يشتري بجميع ثمنها؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يشتري بجميع الثمن ولا يستفضل منه شيئًا، وهو قول ابن ¬

_ (¬1) في أ: ذبحها. (¬2) في أ: الأحوال. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يجوز [له] (¬1) أن يتصدق بما بين القيمتين، إذا أبدلها بدونها، [ويفضل] (¬2) الثمن إذا اشترى مثلها أو أفضل منها أو دونها مما تجوز مثلها في الضحايا. فإن شح في الوجهين، صنع بالفضل ما أحب، وهو قول ابن حبيب [قال:] (¬3)، وقال بذلك [جل] (¬4) من لقيت من أصحاب مالك. ومثار الخلاف فيها، الخبر المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أعطي حكيم بن حزام دينارًا يشتري به أضحيته، فابتاعها بدينار ثم باعها بدينارين، فاشترى أخرى بدينار، وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بها وبالدينار، فتصدق به - صلى الله عليه وسلم -، ودعا له بالبركة". فمن صح عنده هذا الحديث: عمل بمقتضاه. ومن لم يصح عنده الحديث: منعه من إصراف الفضلة في غير الوجه الذي قصد بتلك القربة ونواها. ولا جرم أن ابن القاسم قال: "أنكر مالك هذا الحديث"، وقال مالك في الأضحية إذا ولدت: "إن ذبح ولدها معها فحسن" [ثم عرضتها عليه فقال: امحه واترك منها إن ذبح معها فحسن] (¬5). قال ابن القاسم: "وأنا لا أرى ذلك عليه بواجب، فتأمل قوله واترك منها: "إن [ذبح] (¬6) معها فحسن"، فإذا ترك الاستحسان [فكأنه] (¬7) لم يبق ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: ويستفضل. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: ذبحها. (¬7) سقط من أ.

إلا الوجوب. [ويدل] (¬1) عليه قول ابن القاسم: "وأنا لا أرى ذلك عليه بواجب"، فالذي يدل عليه هذا الظاهر: أن ذبح الولد مع أمه واجب، إلا أنه لم يصر إلى ذلك أحد من أهل المذهب"، ولا متقدم ولا متأخر. قال أشهب في كتاب محمد: "لا أرى أن يضحي به ولا يحل". و [قال] (¬2) في "مدونته": "وليس ذلك مثل الهدى، والهدى بمنازلة المدبرة ولدها بمنزلتها"، يريد أن الأضحية لا تجب إلا بالذبح، وكان الولد ملكًا له، ولا يجوز له أن يضحي بدون السن [المشروعة] (¬3)، فإن بعد ما بين الولادة والذبح، ما جاز أن يذبحه على وجه الأضحية، وهو قول مالك: "إن ذبح معها فحسن"، مراعاة القول بأنها تجب بالتسمية، ثم [أنه] (¬4) نظر واجتهد فبقى على صميم مذهبه أنها لا تجب إلا بالذبح، فقال: "امحها واترك ما ذكرت لك من الاستحسان، لأن ذبحه معها ليس [بمستحسن] (¬5) إنما هو أمر مباح، إن شاء فعل وإن شاء ترك". والمحو: عبارة عن ترك العمل بما سمع، لأنه محو من الكتاب، لأن ابن القاسم ما كان يعلق عنه في كتاب، إنما هي أسئلة يلقيها من صدره هو أو يلقيها غيره، فيأخذ [عليها] (¬6) الجواب لا غير والمسائل الممحوات من "المدونة" أربع منها هذه المسألة، والثانية في "كتاب النذور" فيمن حلف لا يكسو امرأته، فافتك لها [ثوبًا] (¬7) من الرهن، قال مالك: "يحنث". ¬

_ (¬1) في أ: ويحمل. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: بمستحق. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: ثيابًا. .

قال ابن القاسم: [ثم] (¬1) عرضتها [عليه] (¬2)، فقال: "امحها، وأبى أن يجيب عنها". قال ابن القاسم: ينوي، فإن كانت يمينه ألا يهب لها ثوبا، ولا يبتاعه لها: لم يحنث، وإن لم تكن له نية: لم يحنث". والثالثة: في "كتاب النكاح الثاني" في نكاح المريض والمريضة، وقد قال مالك: "إن نكاحها مفسوخ، وإن صحا دخل بها أم لا. قال ابن القاسم: ثم عرضتها عليه"، فقال: "امحها، وأرى أنهما إذا صحا ثبتا على نكاحهما". والرابعة في "كتاب القطع في السرقة" فيمن سرق ولا يمين له أو له يمين شلاء: قال مالك: "تقطع رجله اليسرى". قال ابن القاسم: "ثم عرضتها عليه"، فقال: "امحها" [وأرى أن تقطع يده اليسرى] (¬3)، وتأول قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. وأما لبن الأضحية، فقد اختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يشربه، فإن كان معها ولدها: فلا يتعرض له، وإن لم يكن معها ولدها، وكان اللبن يضر بها في ضرعها، وأروى الولد وأضر بها ما بقى بعد ريه، فإنه يتصدق به ولا يأكله، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب الضحايا" و"كتاب الحج". والثاني: أن يصنع به ما شاء [وأن يشربه] (¬4)، ويحرم منه ولدها، وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

قول أشهب في "مدونته". وأما جز صوفها قبل الذبح، فقد اتفق ابن القاسم وأشهب: أنه يمنع من جزه، لأن فيه جمالًا لها في الابتداء، وسحنون: بعد الوقوع. واختلف إذا فعل وجزها، على قولين: أحدهما: أنه ينتفع به ولا [يبيعه] (¬1)، وهو قول ابن القاسم في "كتاب محمد" و"العتبية". والثاني: أنه يبيعه ويأكل ثمنه، وهو قول أشهب في الابتداء، وسحنون بعد الوقوع. [وأما ما بعد الذبح]، فلا خلاف في المذهب أنه لا يجوز [له] (¬2) أن يبيع منها شيئًا لا لحمًا ولا جلدًا ولا صوفًا ولا [شعرًا] (¬3)، لأنها بالذبح صارت قربة لله تعالى، ومن باع شيئًا منها [نقض] (¬4) بيعه مع القيام. فإن فات، فما الحكم في ثمنه؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يتصدق به ولا يأكله، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يجعل ثمن اللحم في طعام يشتريه ويأكله، وثمن الجلد في ماعون أو طعام، وهو قول سحنون. والثالث: أنه يصنع بالثمن ما شاء، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الحج": فيمن نذر هديًا للمساكين وذبحه بعد أن بلغ محله، قال: "يستحب له ترك الأكل منه". ¬

_ (¬1) في أ: يبيعها. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: ولا شيئًا من الأشياء. (¬4) في ب: فسخ.

فإن أطعم منه غنيًا أو فقيرًا أو نصرانيًا: لم يكن عليه شيء، وقد وقع لسحنون في كتاب "النوادر": ما يدل على جواز بيع جلد الأضحية، وهو قوله: وللرجل أن يؤاجر جلد أضحيته"، [وقال: كجلد] (¬1) الميتة". قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد: "إذا دبغ، ولا فرق بين بيع الأعيان وبين بيع المنافع على ظاهر المذهب". وأما من سرقت [رؤوس] (¬2) ضحاياه من الفرن أو ضاع الجلد عند الدقاق أو استهلكه، قال ابن القاسم: "استحببت له [أخذ القيمة] (¬3) وأن يصنع به ما شاء من أكل أو صدقة أو شراء ما يحتاج إليه، كما لو تعدى رجل على لحم رجل، فاستهلكه. فله أن يأخذ من المتعدي ما شاء من حيوان أو طعام"، وهو قول ابن الماجشون أيضًا. وأما ابن القاسم: فاستحب ألا يغرم من جلد الأضحية ولحمها ورأسها شيئًا، [وكأنه رأى أخذ] (¬4) العوض بيعًا، وما قاله عبد الملك أقيس كأم الولد إذا قتلت. وأما إن مات عن أضحيته أو قام عليه الغرماء، فلا يخلو من أن يموت قبل الذبح أو بعده: فإن مات قبل الذبح، كانت ميراثًا وتباع في الدين، إن كان على الميت دين. وإن مات بعد الذبح، فلا حق فيها للغرماء، كالأمة إذا اشتراها وعليه ¬

_ (¬1) في ب: وكذلك جلد. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، جـ: وابتداء.

دين، فإن للغرماء أن يبيعوها في دينهم قبل الإيلاد، فإذا أولدها لم يكن ذلك لهم. فإذا قلنا أنه لا حق فيها للغرماء: فإنها تكون للورثة، يأكلونها، وهل [تكون بينهم] على السواء أو على قدر مواريثهم؟ قولان: أحدهما: أن أكلهم فيها [بالسواء] (¬1)، الذكر والأنثى، [وذو السهم والعاصب] (¬2)، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنهم يقتسمونها على [قدر] (¬3) فرائضهم في الميراث، وهو قول أشهب. واختلف فيمن تصدق عليه بلحم الأضحية أو بجلدها، هل يجوز له بيعه أم لا؟ على قولين: أحدهما: الجواز، وهو قول أصبغ. والثاني: المنع، وهو قول محمد في كتابه. تم كتاب الأضحية بحمد الله [وحسن عونه] (¬4) ويتلوه كتاب النكاح ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: وذووا الأسهام والعصبة. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

كتاب النكاح الأول

كتاب النكاح الأول

كتاب النكاح الأول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها ست عشرة مسألة: المسألة الأولى في اشتقاقه وأصل النكاح في وضع اللغة: الجمع والضم، قالوا: أنكحت البذر في الأرض: إذا حرثته فيه، ونكحت الحصا أخفاف الإبل: إذا دخلت فيها، ثُمَّ استُعمل في الوطء. وهو [عرف الشرع] (¬1) ينطلق على العقد؛ لأنه بمعنى الجمع وما له [في] (¬2) الوطء، وقد جاء في كتاب الله تعالى، قال: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬3)، وقال سبحانه: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (¬4)، وقال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى} (¬5)، وقال جل وعلا: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} (¬6). ويبعد أن يكون "النكاح" المذكور، المراد به: الوطء، إذ الوطء بغير عقد نكاح محرمٌ شرعًا. ¬

_ (¬1) في أ، ب: الشرع عرف. (¬2) في ب: إلى. (¬3) سورة النساء الآية (22). (¬4) سورة البقرة الآية (221). (¬5) سورة النساء الآية (3). (¬6) سورة النساء الآية (25).

وقد يرد والمراد به: الوطء بعينه، قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬1)، وكذلك أيضا قوله سبحانه: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَة} (¬2)، على الخلاف بين العلماء في التأويل. ويُطلق والمراد به: الصداق، قال الله عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬3)، أي: لا يقدرون على الصداق لعُسرهم، وذلك أيضا على أحد التأويلات، وهو من الأسماء المشتركة. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية (230). (¬2) سورة النور الآية (3). (¬3) سورة النور الآية (33).

المسألة الثانية في الشغار وحكمه

المسألة الثانية في الشغار وحكمه - والشِّغَار في اللغة يُطلق ويراد به: الرفع، يقال: شغر الكلب، إذا رفع رجله ليبول، وذلك أنه لا يفعل ذلك إلا إذا كبر وبلغ حد الوثوب على الإناث. - ثم استعلموه: فيما يُشبه، وقال: شَغَر الرجل المرأة إذا فعل بها ذلك للجماع، وشَغَرَت هي أيضا: إذا فعلته. - ثم استعملوه في النكاح لارتفاع الصداق من العقد. - ويطلق أيضا والمراد به: الخلو، يقال: [بلد] (¬1) شاغر: إذا كان [خاليًا] (¬2) من السلطان، ثم استعمل ذلك في النكاح لخلوه [من] (¬3) الصداق. وقد أجمع العلماء [رحمهم الله] (¬4) على تحريم الشِّغار، ثم اختلفوا فيه بعد وقوعه، واختلف مشايخنا في علَّة تحريمه، هل هي لفساد عقده لكون كل يضع صداقا للآخر، فهو للزوج غير تام الملك، [لمشاركته] (¬5) من أصدقته لحقها فيه، فكان كمن زوج وليته من رجلين [أو] (¬6) تزوَّج ¬

_ (¬1) في أ، ب، جـ: له. (¬2) في أ، ب: خليا. (¬3) في أ، جـ: عن. (¬4) زيادة من ب، جـ، ع، هـ. (¬5) في أ: لمشاركة. (¬6) في أ، ب: و.

نصف امرأة أو عقد بيعًا في سلعة من رجلين، على أنَّ لكلّ واحدٍ منهما جميع السلعة، وذلك كله مما لا يصح فيه العقد. وعلى هذا حملوا قوله المشهور بفسخه "قبل وبعد"، إذ هو أصله فيما فسد لعقده، فيما حكاه البغداديون عنه في الأشهر من القول. وعلى ما في "كتاب ابن عبد الحكم" من الخلاف فيما فسد لصداقه. ومنهم من جعل علَّة فسخه لجمعه الفسادين، فساد في الصداق وفساد في العقد. ومنهم من قال: إنما اختلف قولهُ فيه، للاختلاف في النهي هل يدلُّ على فساد المنهي عنه أم لا؟، وهو تأويل أبي عمران الفاسي. ومنهم من قال: إنما اختلف لاختلافهم في معنى الشِّغار، وهو تأويل القاضي [إسماعيل] (¬1)، وهو أضعف التأويلات. ومنهم من قال: أن [علة فساده] (¬2) عروه من الصداق واشتراطهما ذلك، وهو تأويل القاضي إسماعيل. فعلى هذا يأتي القولان المنصوصان له في "كتاب النكاح الثاني" فيمن شرط ألا صداق عليه، وإلى هذا التأويل نحا أبو الوليد الباجي. وقال القاضي أبو الفضل: وتفريق مالك بين صريح الشِّغار ووجه [لا يدلَّ] (¬3) عندي على هذا، إذ لو كان فساده لأجل فساد الصداق مجردًا، لكان جوابه فيهما سواء، إذ العِلَّة موجودة فيهما. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ، ب: علته. (¬3) في ب: يدل.

وإن كان لفساد العقد، فكذلك أيضا يجب أن يكون الجواب فيهما واحد، لمشاركة كل [واحدةٍ] (¬1)، زوج [الأخرى] (¬2) في بضعها. وقد يحمل الخلاف فيهما: إما على الخلاف في فساد الصداق إذ عدمه كفساده، أو على الفساد في العقد إذ خلو العقد عن الصداق أو التفويض فيه، وشرط إسقاطه خلل ببعض أركانه، فأدى ذلك إلى فساده، وبه [علل] (¬3) ابن حبيب. و [قد] (¬4) قال بعض المتأخرين من البغداديين: أن المعقود به إذا كان فاسدًا وجب فساد العقد، ويتخرج [قوله] (¬5) على الوجهين: فمرة غلب فساده للصداق، فقال بإمضائه بعد الدخول [ومرة غلب فساده] (¬6) للعقد [فرده] (¬7) أبدًا، وإن دخل. وقد أشار [أبو محمد] (¬8) عبد الحميد السوسي إلى أنه يتخرج من الكتاب على التعليل، فسخ نكاح الشغار بأنَّ العلة فيه [فساده] (¬9) لعقده، قول فيما فسد لصداقه يفسخه أبدا، كما قال البغداديون، وقال أبو القاسم السيوري: أنَّه يتخرج من قوله: أن فيه الميراث، وأن الفسخ فيه بطلاق قول ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في أ، ب: أخرى. (¬3) في أ، ب: قال. (¬4) سقط من أ، ب. (¬5) في أ، ب: قول. (¬6) سقط من أ، ب. (¬7) في أ: فردًا. (¬8) زيادة من ب. (¬9) في أ: فساد.

ثالث أنَّه يمضي بالعقد، كمذهب المخالف، وخرَّج هذا القول غيره، على أحد قولي مالك فيما اختلف الناس فيه أنه يمضي ولا يرد وإن نزلوه ووقوعه [كحكم] (¬1) حاكم، وهو تخريج بعض البغداديين. وهذا الذي قاله البغداديون [بعيد] (¬2)، وتخريج السيوري أقرب، وذلك أن فوات ما اختلف فيه [بالعقد] (¬3)، إنما هو فيما اختلف فيه ابتداء في إجازته أو منعه. وإذا وقع فهل وقوعه فوت أم لا؟ وأما الشِّغَار فمتفق على منعه ابتداء للنهي الوارد فيه، وقد قيل: إن العقد في [مثل] (¬4) هذا فوات للنكاح، لوقوع [الموارثة] (¬5) والحرمة، وأحكام كثيرة بنفس العقد فيه، فأشبه اختلاف الأسواق المفيتة للعقود الفاسدة في البيوع. فهذا ما قيل في هذه المسألة على الجملة. وأما من حيث التفصيل، فنقول وبالله التوفيق: لا خلاف في نكاح الشِّغَار أنه لا يجوز [ابتداءً] (¬6). فإن وقع ونزل، هل يفسخ أو لا يفسخ؟ على أربعة أقوال كلها قائمة من المدوّنة: ¬

_ (¬1) في أ: حكم. (¬2) في أ: يبعد. (¬3) في أ: بعد العقد. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: الموازنة. (¬6) سقط من أ.

أحدها: أنَّه يفسخ قبل البناء وبعده، ولا فرق بين صريح الشغار ووجهه، وهذا على القول بأنَّ فساد الصريح في صداقه، ولاسيما [على] (¬1) تخريج السيوري وغيره من البغداديين. والثاني: أنه يمضي بالعقد دون الدخول، وهو تأويل أبي القاسم السيوري، ولا فرق بين الصريح ووجهه. والثالث: التفصيل بين الصريح والوجه، وهو نص [قوله في] (¬2) الكتاب. والرابع: أنه يفسخ قبل البناء ويثبت بعده، وهو نص "المدونة" في وجه الشِّغَار، ولا فرق بين صريحه ووجهه، على القول بأنَّ العلة في [وجه] (¬3) الفساد في الصداق، وهذا الكلام في فساد النكاح وصحته. وأما الصداق: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يدخل بهما جميعا. أو لم يدخل بواحدة منهما. أو دُخل بواحدة دون الأخرى. فإن دخل بهما جميعا، فلا يخلو من ثلاثة [أوجه]: إما أن لا يُسميا لواحدة منهما. أو سُميا لكل واحدة منهما. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

أو سميا لواحدةٍ دون الأخرى. فإن لم يُسم لواحدة منهما، فلكل واحدة منهما صداق مثلها، ولا خلاف في ذلك. وإن سميا لكل واحدة منهما، هل يكون لهما صداق المِثل أو الأكثر؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنّ لكلِّ واحدة صداق مثلها بالغا ما بلغ، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة"، ولا يلتفت إلى ما سميا، إن كان أقل من صداق المثل، وهو نص ما وقع لابن القاسم في "كتاب ابن أبي العمر" ومن قوله: "فإن بني بها كان لها صداق المثل، كان أقل من التسمية أو أكثر"، وهو أحد الأقوال في البيع والسَّلَف. والثاني: أن لها الأكثر من المسمى أو صداق المثل، وهو قول سحنون في بعض روايات "المدونة" [وهي رواية صحيحة] (¬1)، وهو قوله: "إلا أن يكون ما سميا أقل فلا ينتقصان من التسمية"، ثبت هذا اللفظ من قول سحنون في الأصل. واختلف: في تأويله: فمنهم: من جعله تفسيرًا لقول ابن القاسم، فيكون له في المسألة قولان، ويدل على ذلك تمثيل ابن القاسم [المسألة] (¬2) بالتي تزوجت بمائة، [وبثمرة] (¬3) لم يبدو صلاحها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: وثمره.

ومنهم من [جعله] (¬1) خلافًا، وأنَّ ابن القاسم لا يقول به، إذ هو عقد فاسد عنده، [ففات] (¬2) بالدخول، فيكون فيه صداق المثل ما بلغ، كسائر العقود الفاسدة. فعلى القول الثاني: أنَّ لهما الأكثر، إذ لم يبق للزوجين حجَّة، وإنَّما الحجَّة للنساء، تقول كل واحدة: جُعل مهري ما سمي لي ونكاح الثانية، فكان البضع بعض الصداق، فتبلغ مهر مثلها، والزوج وإن سمَّى أكثر من صداق المثل، ويحتج بأنه سيقول: إنما فعلت ذلك لرغبتي في تزويج وليَّتي، فيقال له: قد وصلت إلى غرضك، إذ قد ثبت لك ما أردت بالدخول، فلا حجة لك في ذلك. وإن سمَّى لواحدةٍ منهما دون الأخرى، [فللتي] (¬3) لم يُسم لها صداق المثل [بالغًا] (¬4) ما بلغ، ولا خلاف في ذلك. واختلف في التي سمى لها، هل يكون لها الأكثر أو صداق المثل؟ على قولين متأولين على "المدونة": أحدهما: أنّ لها صداق المثل بالغا ما بلغ، وعلى هذا اختصر الشيخ أبو محمد المسألة، قال: "ولكلِّ واحدة صداق المثل"، فسوَّى بينهما، وكذلك نقل ابن لبابة في المسألة على "المدونة"، وهو [قول] (¬5) عيسى بن دينار في ¬

_ (¬1) في جـ: جعل ذلك. (¬2) في جـ: وفات. (¬3) في أ: والتي. (¬4) سقط من أ. (¬5) في جـ: نص.

"المبسوط"، [كذا] (¬1) [فسرها] (¬2) في سماع يحيى بن يحيى بن القاسم، وهذا على الأصل المتقدم، لأنا لو فسخنا نكاح التي لم يُسَّم لها بكل وجه بقيت حجة للزوج، فيما زاد، إذ لم يتم له غرضه في إمضاء نكاح وليته. والثاني: أنها يكون لها الأكثر، وهو تأويل بعض المتأخرين على "المدونة"، وقالوا: هو مراد الكتاب. وإن لم يدخل بواحدة: فلا صداق لها لا نصف ولا غيره، سمّى أو لم يُسم. وإن دخل بواحدة منهما دون الأُخرى، كان للمدخول بها صداق المثل. وعلى القول بأن النكاح يفسخ قبل البناء ويثبت بعده، هل يكون الفسخ فيه بطلاق أو بغير طلاق؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الفسخ في ذلك بغير طلاق، وهو ظاهر قول ابن القاسم في رواية البلّاغ. والثاني: أن الفسخ فيه بطلاق، وهو قول ابن القاسم أيضًا في، "المدونة" في قوله: "وأكثر الرواة [وعلى] (¬3)، أن كل نكاح كانا مغلوبين علي فسخه، مثل: نكاح الشِّغَار ونكاح المحرم، وما كان صداقه فاسدًا، فأدرك قبل البناء: فالفسخ في ذلك [كله] (¬4) بغير طلاق". والقول بأن الفسخ في ذلك بطلاق أصح، لأن الفسخ فيه على معنى ¬

_ (¬1) في جـ: كما. (¬2) في أ: فسر ما. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

الاستحباب لا على معنى الوجوب، لأن العقد لا يخلو من أن يقع صحيحا [أو فاسدًا، فإن وقع صحيحًا] (¬1) كيف يفسخ قبل البناء؟ وإن وقع فاسدًا كيف يصحِّحه البناء؟ لأن العقود الفاسدة لا يصحِّحها البناء، يدل ذلك، والحالة هذه: أن الفسخ استحباب. وقال بعض المتأخرين: "وفائدة الفسخ قبل البناء بطلاق عقوبة على الزوج، لئلا يعود إلى مثل هذا، وبيان العقوبة تفويت الغرض المقصود بالطلاق [والواقع] (¬2) [فقيل له] (¬3)، وقد يراجعها بنكاح جديد، فأجاب بأن قال: وقد لا ترضى بذلك إلا بزيادة المهر، وإن اتفق أن ترضي بذلك القدر أو بدون صداق المثل، فالطلاق في نفسه عقوبة، لاحتمال أن تكون بقيت عنده تطليقة [واحدة] (¬4). فإذا فسخ [نكاحه] (¬5) بطلاق حرمت عليه إلا بعد زوج، وقد [لا] (¬6) يتقدم [منه] (¬7) فيها طلاق إلا هذه التطليقة، فيتم [بها] (¬8) العدد، ويدخل عليه بذلك ضرر على كلِّ حال، وإلى هذا ذهب أبو القاسم بن محرز. فإذا قلنا: أنَّ الفسخ فيه بطلاق، فهل يُشطر الصداق إذا كان مما يصح فيه الملك أم لا؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: قبل وبعد. (¬4) زيادة من ب، ع. (¬5) سقط من أ، جـ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ع: له. (¬8) في أ: عليه بهذا.

أحدهما: أنه لا يُشطر ولا يكون لها من الصداق شيء، وهذا نص المذهب. ويتخرج فيه قولٌ ثان: أنه يُشطر، ويكون لها النصف؛ لأنه طلاق وقع قبل البناء، ولا يُعترض على هذا القول بأن يقال: طلاق وقع [بغير] (¬1) اختياره، وإيثاره ولا يلزمه فيه الصداق، كما لو كان مجمعا على تحريمه، لأن الفسخ فيه على الاستحباب، والزوج قادر على تصحيحه بالدخول الذي هو من جنس مقدوره، فأشبه طلاق المعسر بالنفقة على أحد الأقوال، وهو ما لابن القاسم في "العُتبيَّة"، وهو إذا كان الصداق مما يمتلك، ويمكن تشطيره كما قَدَّمناه، مثل: أن يتزوجها بمائة دينار إلى أجل مجهول. وسبب الخلاف: اختلافهم في المرأة، بماذا تملك الصداق؟، هل تملكه بالعقد أو لا تملك بالعقد شيئًا، وإنما تملكه بالدخول أو نصفه بالعقد ونصفه بالدخول؟، على ما يأتي عليه البيان في كتاب "النكاح الثاني" إن شاء الله تعالى [وهو حسبنا ونعم الوكيل] (¬2) [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب، ع. (¬3) زيادة من جـ.

المسألة الثالثة في الولاية في النكاح

المسألة الثالثة في الولاية في النكاح ولا خلاف في مذهب مالك - رحمه الله: أن الولاية مشروطة في النكاح، وأنها من شروط الصحة لا من شروط التمام إلا شيئا تأول على ابن القاسم: أن الولاية من شروط التمام، من قوله: أن الميراث بين الزوجين بغير ولي، ومن قوله في الدنية: يجوز أن تستخلف على نفسها أجنبيا يزوجها، وبمذهب مالك قال الشافعي خلافا لأبي حنيفة، والدليل على ما نقوله [ظاهر] (¬1) الآي والأخبار، على ما [لا] (¬2) يسع هذا المجموع إيراده، وهي عندنا أعني، الولاية تنقسم إلى ولاية جبر وإلى ولاية إذن: فأما ولاية الجبر، فهي مختصة بالسادات في العبيد، صغارًا [كانوا] (¬3) أو كبارًا، [أو] (¬4) بالآباء في صغار بنيهم الذُّكور: من غير خلاف، والإناث: على الخلاف. وفي بنيهم الكبار الذكور [والإناث] (¬5) على تفصيل وتحصيل، وبمن أقاموه مقام أنفسهم بعد وفاتهم. أما ولاية السادات في العبيد، فلا يخلو من وجهين: ¬

_ (¬1) في أ: بظاهر. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ، ب، ع. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

أحدهما: أن يكون السيد قد سبق فيهم [منه] (¬1) عقد من عقود الحرية أم لا، فإن سبق من السيد فيهم عقد من عقود الحرية، مثل: التدبير والكتابة والإيلاد والعتق إلى أجل، فهل [له إجبارهم] (¬2) على النكاح أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن له إجبارهم جملة، لأنهم إلى الآن على الرق، ولم يصيروا بعد الحرية. والثاني: أنه ليس له إجبارهم، [لأجل الشبهة] (¬3) التي حصلت لهم من الحرية [بالعقد] (¬4) الذي عقد لهم. والثالث: أن له جبر من له أن ينتزع ماله دون من ليس له أن ينتزع ماله، فيمنع من إجبار الكاتب والكتابة ومن إجبار أم الولد، والمُدَبَّر إذا مرض، ومن المعتق إلى أجل إذا قرُب الأجل، لأنه إذا لم يملك أن ينتزع ماله، فأحرى ألا يعقد عليه فيما يتعلق بالجبر. والرابع: أن له إجبار الذُّكران دون الإناث، لأن الذكران بأيديهم الطلاق، فيحلون عن أنفسهم، إذا صاروا إلى العتق بما عقد عليهم، وتوجيه كل [قول] (¬5) مشار إليه عند الإيراد. فإن لم يسبق من السيد فيهم عقد من عقود الحرية، فلا يخلو من أن ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: لهم إجبار. (¬3) في أ: لأن النية، وفي جـ: لأن التهمة، والمثبت من ب، ع. (¬4) في أ، جـ: قد حصلت من العقد. (¬5) سقط من أ.

يقصد بذلك الضرر [بهم] (¬1) أم لا: فإن قصد السيد بعقد النكاح عليهم ضررًا، مثل الجارية المرتفعة [لها] (¬2) الحال، يزوجها من عبد له أسود على غير وجه الإصلاح، فهذا لا يجوز، وهو قول مالك في "كتاب محمد". فإن لم يقصد بذلك ضررًا، فلا خلاف في مذهبنا أنّ للسيد أن يُجبرهم على النكاح، ذكرانًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا؛ لأنها ولاية صحيحة لأجل الرق. وأما ولاية الآباء في الجبر، فإنها صحيحة في صغار ذكور أولاده جملة من غير تفصيل، حتى يبلغوا. فإذا بلغوا وظهر منهم الرشد سقطت عنهم ولاية الجبر بلا خلاف. فإن بلغوا وظهر منهم السفه، هل يسقط عنهم الإجبار أم لا؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنهم يجبرون ما دام السَّفه قائما بهم، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنهم لا يجبرون ولا ينكحون إلا برضاهم، وهو قول ابن الماجشون. فإذا قلنا: أن الأب يجبر ولده على النكاح، هل يحمل ذلك على المصلحة والسداد من [غير] اعتبار بظهور دلائل الصحة [أو لابد من ظهور دلائل الصحة] (¬3)؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

فظاهر المذهب: أن فعل الأب يُحمل على المصلحة [والسداد] (¬1) سواء ظهرت لنا أو خفيت، وإن [كان قد وقع في كتاب "إرخاء الستور" في "باب الخلع": إذا كان فيه الغبطة والسرور، كنكاحه من المرأة الموسرة، فظاهر] (¬2) هذا [التقييد] (¬3) يشعر بالخلاف. وأما صغار الإناث، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون بكرًا. والثاني: أن تكون ثَيبًا. فإن كانت بكرًا، فلا خلاف في المذهب [في] (¬4) جواز الجبر، كصغار الذكور على سواء. وإن كانت ثيِّبًا، مثل: أن تكون قد تَأَيَّمت من زوج، وانقضت عدَّتها قبل [بلوغها، فهل يملك الجبر عليها أم لا؟ المذهب] (¬5) على ثلاثة أقوال: أحدها: أن له إجبارها قبل البلوغ وبعده، ولا اعتبار لثبوتها، وهو قول سحنون. والثاني: أنها لا تجبر أصلًا، بلغت أم لا، وهو قول أبي تمام البغدادي. والثالث: أنها تجبر قبل البلوغ، فإذا بلغت سقط الجبر عنها، وهو قول ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: التعليل. (¬4) في أ: على. (¬5) بياض في جـ.

أشهب في كتاب محمَّد. وسبب الخلاف: استنباط القياس من موضع الإجماع، وذلك أنهم لما أجمعوا على أن الأب [يجبر] (¬1) البكر [غير] (¬2) البالغ، وأنه لا يجبر الثيب البالغ، إلا خلافا [شاذًا] (¬3) روي عن الحسن، ثم اختلفوا في موجب الإجبار، هل هو البكارة أو الصغر؟ فمن قال: الصغر قال: لا تُجبر البالغ كما صار إليه الحنفي. ومن قال: البكارة قال: تجبر البكر البالغ، ولا تجبر الثيب الصغيرة. ومن قال كل واحد منهما يوجب الإجبار إذا انفرد، قال: تجبر البكر البالغ والثَّيِّب غير البالغ. وأما كبار الأولاد، الذكور والإناث: أما الذكور، فلا يخلوا من أن يكونوا رشداء أو سفهاء. فإن كانوا رشداء، فلا خلاف أنهم لا يجبرون؛ لأنهم مالكون أمر أنفسهم وأموالهم. وإن كانوا سفهاء، فهل يزيل الجبر عنهم البلوغ [أو لا يزيله] (¬4)؟ قولان: وأما الإناث البوالغ، فلا يخلوا حالهن من أن يكن أبكارًا أو ثيبات: فإن كن أبكارًا، فلا يخلوا من ثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) في أ: الإجبار في. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: أم لا.

أحدها: أن تكون بكرًا في خدرها. [والثاني] أن: تكون بكرًا تأيمت من زوج. [والثالث] أن: تكون بكرًا معنَّسة. فإن كانت بكرًا في خدرها، غير معنَّسة في حالها، فلا خلاف في المذهب أن للأب أن يجبرها على النكاح، وهل يندب الأب إلى مؤامرتها أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يندب، وهو قوله في "كتاب محمَّد". والثاني: أنَّه لا يندب وأن ذلك أمر مباح [له] (¬1)، إن شاء فعل وإن شاء ترك، وهو ظاهر "المدونة". وسبب الخلاف: تعارض القول والفعل: أما القول، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "البكر يستأذنها أبوها" (¬2) خرجه مسلم. وأما الفعل، فما روي عنه [- صلى الله عليه وسلم -] (¬3) أنه زوج ابنته [من عثمان] (¬4) ولم يستشرها على الرواية الصحيحة في الحديث، وفي بعض طرقه [ابنتيه] (¬5)، والاستئمار أحسن، ليخرج من الخلاف، ويعقد نكاح ابنته، على وجه متفق عليه، وقد يكون بها من العيوب ما يخفى على الأب، بحيث لو أخبرها أو استأمرها، لأعلمته بذلك [العيب] (¬6)، إما بواسطة أو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه مسلم (1421). (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: لعثمان. (¬5) في ب: لم يستأمرها. (¬6) سقط من أ.

بمباشرة. وإن كانت بكرًا قد تأيمت من زوج بطلاق أو موت، فهل للأب أن يجبرها على النكاح [أو ليس له أن يجبرها] (¬1)؟ فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون قد تأيمت بقرب البناء. والثاني: أن تتأيم بعد طول. فإن تأيمت بقرب البناء وأنكرت المسيس، وادّعت بقاء البكارة وكذبها الزوج: فالقول قولها في بقاء البكارة، ولأبيها أن يزوجها كما يزوج البكر، لأنها أقرت بأن صنع الأب جائز لها، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" [ومعناه أن الأب صدقها فلو كذبها الأب لكان القول قوله، وهذا الذي قاله ابن القاسم] (¬2) فيه نظر، وكيف يقبل قولها وقد تتهم [في بقاء نفقتها] (¬3) على أبيها بما تدعيه من بقاء البكارة. فإن طالت المدة، فالمذهب [على قولين: أحدهما] (¬4) أنها تجبر و [الثاني] (¬5) أنها [لا تجبر وأنها] (¬6) كالثيب على سواء. واختلف في حد الطول، على قولين: أحدهما: أن السُّنة طول الإقامة، وهو قول مالك في "المدونة". إذا طالت إقامتها معه، وشهدت مشاهد النساء، فلا يزوجها الأب إلا برضاها، وهل السُّنة طول بمجردها أو بإضافة مشاهد النساء إليها؟ [وظاهر "المدونة": ¬

_ (¬1) في أ: أم لا. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: بقائه فيها. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

أن السُّنة طول، بإضافة مشاهد النساء إليها] (¬1). والثاني: أن حد الطول زوال الحياء والانقباض. والقولان حكاهما القاضي عبد الوهاب في المذهب، وسواء في جميع ذلك وافقها الزوج على [عدم] (¬2) المسيس أو ناكرها، وهذا من المسائل التي جعل فيها طول [المكث] (¬3) يقوم مقام الدخول. ومنها امرأة العنين [فإن] (¬4) طول المكث تستحق به جميع الصداق كالدخول، وهذا مما لا دليل عليه أصلًا، وإنما الإتباع لمالك - رحمه الله. وقد جعل في هذه المسألة أن علة الجبر الحياء والانقباض من غير اعتبار بالبكارة. [فإن] (¬5) كانت بكرا معنسة، ففي إجبارها على النكاح قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنها تُجبر. والثاني: أنها لا تُجبر. والقولان: عن مالك قائما من "كتاب الكفالة". وسبب الخلاف: هل الاعتبار بالبكارة أو بالحياء والحشمة: ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: المدة. (¬4) في أ، جـ: أن. (¬5) في أ: وإن.

فمن اعتبر البكارة، قال: تجبر. ومن اعتبر الحياء، قال: لا تجبر. وقد اضطرب المذهب في ذلك: [فمرة] اعتبر البكارة على الانفراد [ومرة اعتبر الحياء على الانفراد] (¬1)، ومرة اعتبر الوصفين على الضم والجمع، ومشهور مذهبه أن الاعتبار بالحياء على الانفراد. فإن وجدت معه البكارة كان وإلا فيجتزئ بالحياء على الانفراد، وهو ظاهر قوله في الثيب الصغيرة، وفي التي طالت إقامتها مع زوجها، وفي التي زنت مرة واحدة، وفي المعنسة على أحد الأقوال، وذلك [أن] (¬2) ولاية الجبر فائدتها اختصاص الولي بالنظر، واستبداده بالاختيار، فيما يراه سدادًا وصلاحا لوليته من غير أن يشاركها في رأي أو يطالعها في أمر، لا في تعين الزوج ولا في تقدير [المهر] (¬3) [لقصور] (¬4) عقلها عن إدراك مصاحلها وقلة خبرتها بأحوال الرجال، ولا جرم [فقد] (¬5) وكل الشرع أمرها إلى من هو أشفق الناس عليها وأكثرهم بها حنانا ورأفة ورحمة، وهو الأب في بنيه الصغار، والسيد في عبيده عن فإذا ذهب جلباب الحياء عن وجهها، وباشرت الأمور بنفسها، وعرفت مصالحها وما يُراد منها وبها، فقد زال الجبر عنها لزوال علته، وهذا [معنى] (¬6) مناسب للحكم مخيل له. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بأن. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: لقصر. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

وأما النساء [الثيبات] (¬1) فلا يخلوا حالهن من وجهين: أحدهما: أن تكون ثيبا بنكاح. والثاني: أن تكون [ثيبا بزنا] (¬2) أو غصب. فإن كانت، ثيبا بنكاح، فلا يخلوا [حالها] (¬3) من وجهين: أحدهما: أن تكون مصلحة في نفسها، [مرضية] (¬4) في أحوالها. والثاني: أن تكون سفيهة في نفسها مضيعة لأمرها. فإن كانت صالحة في نفسها مدبرة لضيعتها، عارفة بمصالح حياتها، فلا خلاف في زوال الجبر عنها. وإن كانت سفيهة في نفسها، غير رشيدة في حالها مضيعة لأمرها، فخشى عليها الفساد والضيعة، هل تجبر على النكاح أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّها لا تجبر على النكاح، ولا يجبرها أحد من أوليائها لا أب ولا غيره، وهو قول ابن القاسم في المدونة، إلا أن للأب أو الولي أن يضمها إلى نفسه إذا خاف عليها الهوى والضيعة. والثاني: أن وليها يجبرها على النكاح [بغير رضاها] (¬5) إذا رأى ¬

_ (¬1) في أ: الثيب. (¬2) في أ: بزنًا ثيبًا. (¬3) في أ، ب، ع: حالهن. (¬4) في ب: مدبرة. (¬5) سقط من أ.

[في] (¬1) ذلك نظرا ومصلحة لها، وسواء كان وليها أبًا أو غيره من الأولياء، وهو قول ابن القصَّار، ووافقه على ذلك حُذَّاق المشايخ، والذي قاله أبو الحسن يشير إلى ما تقدم من اعتبار المصالح في علة الجبر. وإن كانت ثيوبتها بالغصب والزنا، فلا يخلوا من أن يتكرر ذلك [منها] (¬2) أو لا: فإن تكرر الزنا منها حتى استأنست به، وعاد لها حرفة، فهذا محل الاتفاق أنها لا تجبر على النكاح لوجود الوصفين، زوال البكارة وقلة الحياء [وبروز وجهها] (¬3) في الخلا والملا. فإن لم يتكرر ذلك منها، وإنما كان [ذلك] (¬4) منها زلة [وفلتة] (¬5)، فهل يزيل ذلك الجبر عنها أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن للأب أن يجبرها على النكاح؛ لأن ذلك لا يزيد إلا حياءً لها وحشمة [لرذيلة] (¬6) الفاحشة التي أتت بها، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أنها لا تجبر على النكاح؛ لأن الثيب بالزنا كالثيب بالنكاح، وهو قول حكاه ابن الجلاب بناء منه على أن البكارة علة للجبر. والثالث: أن لها حكم الثيب بالنكاح، في عدم الإجبار، لوصول العلم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: وبروزها. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: واحدة. (¬6) في ب: لرذالة.

إليها بما يراد لها من ذلك، ولمباشرتها [أمور الوقاع] (¬1) ومقدماته، ولا فرق [بين] (¬2) أن يكون ذلك عن حلال أو حرام، وأن لها حكم البكر في صفة الإذن، ويكون إذنها صماتها؛ لأنها تستحي أن تنطق بالرضا، لما [تراكم] (¬3) على وجهها من الحياء، لإتيانها فاحشة الزنا، وهذا القول حكاه ابن رشد، وهو قول بُيْنَ القولين. وسبب الخلاف: ما تقدم. وأما الوجه الثاني: الذي أقامه الآباء مقام أنفسهم، كالوصي، فلا يخلو ذلك من خمسة أوجه: أحدهما: أن يقول [فلان] (¬4) وصى على تزويج ابنتي فلانة لفلان. والثاني: أن يقول [فلان] (¬5) وصى على تزويج ابنتي فلانة ممن أحب. والثالث: أن يقول: [فلان] (¬6) وصي على أبضاع بناتي. والرابع: أن يقول: فلان وصي [ولم يزد] (¬7). والخامس: أن يقول: فلان وصى على بيع تركتي، واقتضاء ديوني. فالجواب عن الوجه الأول: إذا عين الزوج، وقال: فلان وصَّى على ¬

_ (¬1) في ب: ولوقوع الوطء. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: يزاحم. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

تزويج ابنتي فلانة من فلان، فهذا له الجبر بلا خلاف في المذهب؛ لأن العقد كأنه صدر من الأب لما عين الزوج واختاره، وقد حكى ابن بشير الخلاف في الوصي على النكاح: أنه لا مدخل له [مع] (¬1) الأولياء في البكر أصلا. والجواب عن الوجه الثاني: إذا قال: فلان وصى على تزويج ابنتي فلانية ممن أحب من غير أن يعين الزوج، ولا سمَّاهُ، هل له الجبر وإنكاحهن قبل البلوغ أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن للوصي إجبارهنَّ وإنكاحهنَّ ممن يراه نظرًا لهن، قبل البلوغ وبعده، وهو المشهور من قول مالك. والثاني: أنه ليس له إجبارهن ولا يعقد على البوالغ منهنَّ إلا بإذنهنَّ؛ لأنَّ الأب إنما ملك ذلك لأمر هو عليه، لا يوجد في غيره، وذلك ما ركب الله في الآباء من الشفقة والحنان والرفق والرأفة [بأولادهم] (¬2) وهو [قول] القاضي أبي محمَّد [عبد] الوهاب. وسبب الخلاف: اختلافهم في الوصي، هل يقوم مقام الأب في جميع تصرفاته أم لا؟ وقد قال يحيى بن سعيد في بعض آثار "المدونة": الوصي العدل كالأب. الجواب عن الوجه الثالث: إذا قال: فلان وصى على [أبضاع] (¬3) ¬

_ (¬1) في ب: على. (¬2) سقط من أ، جـ. (¬3) في أ: بضع.

بناتي، فهذا لا أعلم له في المهذب نص خلاف: أنه لا [حق] (¬1) له في التصرف في المال، وإنما يتصرف في الأبضاع؛ لأنها وصية مخصوصة على شيء معين، ثم لا يخلوا أمر بناته من [أحد] (¬2) وجهين: إما أن يكُنَّ أبكارًا أو [ثيبات] (¬3). فإن كُنَّ أبكارًا، فالعقد للوصي دون سائر الأولياء، ويستحب أن يشاورهم تطييبا لأنفسهم، لأنه أجنبي عنهم. واختلف هل له أن يجبرهن على النكاح أم لا؟ على قولين: وهو الخلاف حكاه بعض المتأخرين، فإن اجترئ الولي وعقد نكاح البكر بغير إذن الوصي، فهل للوصي فسخه، أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن للوصي فسخه، وهو ظاهر المدونة، ونص ما في كتاب محمَّد. والثاني: أن السلطان ينظر في ذلك، فإن رآه نظرًا وسدادًا منع الوصي من فسخه، وهو قول بعض المتأخرين على ما نقله القاضي أبو الفضل [عياض -رحمه الله] (¬4). وسبب الخلاف: هل ذلك حق للوصي، وأنه لا ولاية للولي معه فيها، كما ليس له ذلك مع الأب الذي أنزله منزلة نفسه، فينقضه على كل حال، أو ذلك حماية للأوصياء لئلا يقتات [عليهم] (¬5)، ويتفاقم الأمر فيؤدي ¬

_ (¬1) في ب: حكم. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: ثيبا. (¬4) زيادة من ب. (¬5) في أ: عليه.

ذلك إلى إسقاط ما بأيديهم، فيكون النظر في ذلك للسلطان، ولا خلاف في الأب أن له فسخ ما عقده غيره في ابنته البكر بغير وكالة منه، وكذلك السيد في أمته، وإنما الخلاف في الإجازة، إذا أجازه الأب أو السيد هل تلحقه الإجازة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن العقد وقع على نعت النساء، فلا يجاز بإجازته أصلا، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن الإجازة تلحقه أن أجيز، وهو قول مالك في الأمة، على ما نقله أبو محمَّد عبد الوهاب إذا أجازه السيد، وعلى هذا تجوز في البكر أيضا، ولا فرق. وعلى هذا أن الوصي إذا أجاز النكاح الذي عقده غيره من [غير] (¬1) الأولياء أنه يجوز، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق التونسي؛ لأنه أخفض رتبة من الأب على كل حال. وإذا كان الخلاف في إجازة الأب، فبأن يجوز في الوصي أولى وأحرى. وسبب الخلاف: ولاية الجبر في النكاح، هل هي حق لله تعالى، ثم لا يجوز وإن أجازه الأب أو السيد أو هو حق لهما؛ فيجوز بإجازتها؟ وهذا كله إذا كُنَّ أبكارًا. وأما إن كن ثَيِّبات، فهل للولي الدخول مع الوصي في عقد نكاحهن، فمن سبق منهما إلى العقد، كان أولى به، أو لا مدخل له في ذلك؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أحدهما: أن له الدخول في الولاية، فمن سبق منهما إلى العقد كان أولى به، وهو ظاهر "المدونة" لأنه أطلق فيها ولم يفصِّل. والثاني: [أنه] (¬1) لا مدخل له مع الوصي في الثيب، كما لا مدخل له معه في الأبكار، وهو قول أبي الوليد بن رشد، ففرق بين قوله: "فلان وصى، ولم يزد، وبين قوله: وصي على أبضاع بناتي"، [فإذا قال: على أبضاع بناتي] (¬2) كان أولى على كل حال، وهذا الذي قاله [ظاهر في اللفظ بعيد في المعنى] (¬3) وذلك أنه غاية ما فيه أنه أنزله منزلة نفسه [في الأبضاع] (¬4)، وقد وجدنا بعض الأولياء يجوز أن يتقدم على الأب في إنكاح ابنته الثيِّب، وهو قوله في "الكتاب": في الأخ يزوج أخته الثيِّب برضاها، وثم أبوها. قال مالك: النكاح جائز ما للأب، وما لها على ما تأول على "الكتاب": أن ذلك يجوز ابتداء، على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. فإذا جاز ذلك في الأب الذي يدلى به الوصي، وهو أصل فما ظنك بالوصي الذي هو فرع عنه، وذلك ظاهر. والجواب عن الوجه الرابع: إذا قال: فلان وصى، ولم يزد، فهذا مما اختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أن الوصي أولى بالنظر في المال والأبضاع وسائر ما كان ينظر فيه الموصي في حياته، وله تزويج الأبكار بعد البلوغ بمؤامرتهن، ولا مدخل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: بعيد في اللفظ ظاهر في المعنى. (¬4) سقط من أ، جـ.

للأولياء معه في أمرهن، وهو قول مالك وابن القاسم في "المدونة" وغيرها. والثاني: ألا تزويج للوصي مع الأولياء إلا أن يكون وليا، وهو قول عبد الملك في "مختصر ما ليس في المختصر"، وهو قول محمَّد بن عبد الحكم أيضًا. وأما الثيِّب منهنَّ، فلا تخلو من أن تكون سفيهة أو رشيدة: فإن كانت سفيهة، فهل هي كالبكر في استقلال الوصي بإنكاحها أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الرشيدة والسفيهة في ذلك سواء، وأن من سبق إلى العقد مِنْ ولي أو وصي: كان جائزًا، وهو ظاهر "المدونة"، وكونها سفيهة لا يخرجها عن أحكام الثيب، وإنما يؤثر السفه في المال لا في الأبضاع. والثاني: أنها كالبكر، ولا كلام للولي فيها مع الوصي، إلا أن رضاها [بالنطق] (¬1) دون الصمت، وهو تأويل بعض المتأخرين على "المدونة"، ووقع لأصبغ نصًا في "كتاب فضل بن سلمة"، و"كتاب ابن مزين". وسبب الخلاف: هل التخصيص بالنظر في المال يقتضى التخصيص بالنظر [في] (¬2) البضع أم لا؟ وأما الثيب الرشيدة: فهل يقع الاشتراك في جواز العقد عليها بين الوصي وسائر الأولياء أو بعضهم أولى؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدهما: أن الوصي أولى ولا مدخل للأولياء معه، كما لا مدخل لهم مع الأب في عقد نكاحها وهو قول ابن حبيب، وذكر أنه قول ¬

_ (¬1) في أ: بالقول. (¬2) في أ: إلى.

مالك وأصحابه المدنيين والمصريين. والثاني: أن الوصي لا ولاية له مع الأولياء في الثيب الرشيدة وهو قول سحنون [رضي الله عنه] (¬1). والثالث: أن الوصي في الثيب ولي من الأولياء، إن زوجها الوصي والأولياء ينكرون جاز [وإن زوجها الأولياء والوصي ينكر جاز] (¬2) وهو مذهب "المدوَّنة". وسبب الخلاف: هل الوصي كالأب أم لا؟ فمن رأى أنَّ الوصي كالأب، قال: لا مدخل للأولياء معه إلا كمدخل الأبعد مع الأقرب، إذا سبقه بالعقد، فإنه يأتي إن شاء الله، وإليه أشار ابن حبيب أو أنه من جملتهم. فمن سبق كان فعله جائزًا على غيره، وهو ظاهر "الكتاب"، وهو تأويل فضل بن سلمة: أنه أقامه مقام الأب، وكذلك قال أشهب. وقول من قال: لا ولاية له مع الأولياء في الثيب الرشيدة، لا أعلم له وجهًا، وهذا في الإناث. وأما الذكور: فلا يخلوا من أن يكونوا كبارًا أو صغارًا: فإن كانوا كبارًا، فلا يخلوا من أن يكونوا كبارًا يلون أنفسهم أو كبارًا محجورًا عليهم. فإن كانوا كبارًا يلون أنفسهم، فلا خلاف أنه لا حكم للوصي عليهم، لا في النفس ولا في المال. ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) سقط من أ.

وإن كانوا كبارًا محجورًا عليهم، هل يجوز للموصي أن يجبرهم على النكاح أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن للوصي أن يجبرهم على النكاح، إذا كان ذلك نظرًا، وهو قول المخزومي، وهو ظاهر [المدونة] (¬1) من غير ما موضع، منها قوله: ولا يجبر أحدٌ أحدًا على النكاح إلا الأب، إلى أن قال: والولي في يتيمه. والولي هاهنا هو الوصي، إذا لا يجبر الصغير على النكاح إلا الوصي على مشهور المذهب، وإن كان [قد] (¬2) وقع في كتاب يحيى بن إسحاق لابن كنانة في أخ زوج أخا له صغيرًا يليه، وليس بوصي عليه أن النكاح يمضي ويلزم الصغير. وروى عن مالك فسخه إلا أن يطول بعد الدخول وظاهر الكتاب: ألا فرق بين الصغير والكبير، لأن الاسم يجمعهما. واسم اليتيم: له عُرفان، لُغوي وشرعي: فهو في اللغة: عبارة عن الانفراد [عن] (¬3) أبيه، وقد ينطلق على المنفرد [عن] (¬4) أمِّه، والأول أظهر لغة، وعليه وردت الأخبار، لأن الذي فقد أباه عَدِم النُصرة، والذي فقد أمه عَدِم الحضانة، وقد تنصر الأم ولكن الأب أكثر نصرة، وقد يحضن الأب ولكن الأم [أرفق] (¬5) حضانة منه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: من. (¬4) في أ: من. (¬5) في أ: أكثر.

وهو في الشرع: عبارة عن عدم الرشد، وذلك يعتبر بعد البلوغ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اليتيمة تستأمر في نفسها، ولا إذن إلا للبالغة" (¬1)، ولقول ابن عباس - رضي الله عنه - في جوابه لنجدة الحروري حين سأله عن خمس خصال، منها: يتم اليتيم متى ينقضي؟ فكتب إليه ابن عباس - رضي الله عنهما -: ولعمري لتنبت لحية الرجل، وإنه لضعيف العقل حتى يأخذ لنفسه من مصالح ما يأخذ المسلمون" (¬2). وعلى هذا لا فرق بين الصغير والكبير، ويؤخذ من "المدونة" من قوله: في الذي زوج ابنه الذي قد بلغ، فقال: لا يلزمه النكاح، ثم قال في آخر المسألة: إذا كان الابن قد ملك [نفسه و] (¬3) أمره، ومفهومه: أنه إذا لم يملك أمره أن للأب أو الوصي أن يجبره على النكاح، [والقول الثاني أن الوصي لا يجبره على النكاح] (¬4) وهو ظاهر قول مالك في "كتاب إرخاء الستور": إذا زوّج الوصي يتيمه البالغ بأمره، وهو نص ما في [المدوَّنة] (¬5) وهو المشهور: ألا يجبره؛ لأن النكاح [ملاذ] وشهوات، فليس ذلك مما يجبره عليه الوصي. وإن كانوا صغارًا، هل يجبرون على النكاح أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهم يجبرون عليه، إذا كان في ذلك نظر وسداد وسرور ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2100)، والنسائي (3261)، وأحمد (2365)، من حديث ابن عباس، وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله تعالى. (¬2) أخرجه مسلم (1812). (¬3) سقط من أ، جـ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب، ع: الموازية.

وغبطة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنهم لا يجبرون، ولا نظر له في تزويجهم أصلًا، وهو قول مالك في كتاب محمَّد، وهذا اختلاف حال، والله أعلم. وذلك أن من جوَّز الإجبار إنما جوزه بشرط الغبطة والسرور. كتزويجه إياه ذات الشرف والمال. ومن منعه إنما منعه لعدم النظر، فإذا ثبت هذا النظر المصلحي ووجد الغرض الكلي كان النكاح جائزًا والجبر صحيح باتفاق من الجميع، والله أعلم. والجواب عن الوجه الخامس: إذا قال: [فلان] (¬1) وهي على بيع مالي، أو قال: على بيع تركتي واقتضاء ديوني، فإنَّ تصرُّفه ماضٍ فيما تضمنه إطلاق الوصية من التصرف، في المال، واختلف هل تضمنت وصيته جواز التصرف في تزويج البنات والبنين الصغار والكبار الضعفاء العقول أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها لا تتضمن شيئًا من ذلك، وهو قول مالك في كتاب الوصايا من "المدونة". والثاني: أن الوصية تتضمن التصرف في المال والأبضاع، إلا أن ينص الميت على أنه ليس بوصي على الأولاد، وهو قول ابن القاسم في "كتاب ابن الموّاز"، وبه قال أشهب في "مدونته". وعلى القول بأنها لا تتضمن النكاح إن زوّج الوصي على المال البنات، قال مالك: نكاحه جائز، ولو رُفع إلى الإِمام، كان أحب إلى، وهذا منه ¬

_ (¬1) سقط من أ.

جنوح إلى قول أشهب الذي يقول: أن النكاح داخل في الوصية. وأما ولاية الإذن: فهي لمن عدا من [ذكرنا] (¬1) من سائر الأولياء، على اختلاف أنواعهم وترتيب منازلهم، على ما سنبينه [فصلا فصلا] (¬2) إن شاء الله تعالى [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: ذكر. (¬2) زيادة من ب. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الرابعة في تزويج [الأب] [ابنته] البكر بأقل من صداق مثلها

المسألة الرابعة في تزويج [الأب] (¬1) [ابنته] (¬2) البكر بأقل من صداق مثلها وقد قدمنا فيما سلف من هذا الباب: أن الأب هو الناظر لابنته الصغيرة، وأن نظره مقدم بالطبع الجلي على [نظر] (¬3) غيره من شفقته وحنانه عليها، وإرشاده لها بحال الارتفاق، واختياره لها من الأزواج مكان الوفاق، فلذلك ملك الجبر عليها، على حسب ما فُهم من الجبر، وهو مع ذلك مأمور بأن لا يُزِّوجها إلا ممن يساويها في الحال والجمال، ويكون كفؤا لها في كل حال. وقد كره عمر - رضي الله عنه - أن يزوج الرجل وليته للرجل القبيح، وقال: يعمد أحدكم، فيزوجهن الشيخ والذميم، إنهن يحببن لأنفسهن ما تحبون لأنفسكم، يريد: ألا يكون ذلك برضاها، ولا يزوجها ممن هو موسوم [بالشقاق] (¬4) كثير الأيمان بالطلاق، لأن ذلك من علامات الفساق. واختلف المذهب، هل يجوز أن يزوجها بأقل من صداق مثلها إذا صادف من هو لها كفؤ في الحال والجمال [أم لا] (¬5)؟ على قولين من ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) في أ: الابنة. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: بالنفاق، وفي جـ: بالفسق. (¬5) سقط من أ.

"المدونة": أحدهما: أن ذلك جائز إذا كان على وجه النظر، وهو نص قول مالك في "كتاب النكاح الأول". والثاني: أن ذلك جائز، وإن لم يكن نظرًا، وهو قوله أيضًا في "كتاب النكاح الثاني" في [باب] (¬1) "نكاح التفويض". وسبب الخلاف: فعل الأب هل يحمل على السداد ولا يتعقبه نظر إلا أن يتبين الفساد أو يتعقبه النظر وإن لم يتبين الفساد؟، فإن كان مصلحة مضي وإلا رد. وهذا الخلاف مبني على اختلاف الروايات، في مسألة المطلقة التي أتت إلى مالك، وقالت له: إن لي ابنة موسرة مرغوبٌ فيها، وقد أصدقت صداقًا كثيرًا، فأراد أبوها أن يزوجها ابن أخ له معدما لا شيء له، أفترى لي [أن] (¬2) أتكلم في ذلك؟، وفي بعض روايات "الكتاب" (¬3)، قال: نعم إني أرى لك في ذلك متكلما، وفي بعضها: إني لا أرى لك في ذلك متكلما، مع إثبات "نعم"، وفي بعضها إسقاط "نعم"، فأثبت لها الكلام في رواية وأسقطه في رواية فصار الخلاف فيها في موضعين في إثبات نعم وفي نفيه، والموضع الثاني في إثبات "الألف" وإسقاطه، فاختلف [المتأخرون] (¬4) في الرواية التي [قال] (¬5) فيها: نعم إني لأرى لك في ذلك متكلما. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) المدونة (2/ 100). (¬4) في ع: المتأولون. (¬5) سقط من أ.

فأكثرهم يقول: [إن] (¬1) هذا كلام متناقض؛ لأنه أثبت ونفى، فقوله: نعم إثبات، إذ لو اقتصر عليه لاستقل الكلام بعده، و [هو] (¬2) قوله: "إني لأى" بالنفي، و [بمد] (¬3) لا نفى، وذلك لا يستقيم. وقال بعضهم: الرواية غير صحيحة في نفسها، [فاسدة] (¬4) في وضعها، فكيف يتكلم عليها، [وهذا كله] (¬5) عندي غير صحيح؟ أما الرواية: فهي ثابتة مروية عن المشايخ. وأما الاضطراب: في إثبات "نعم" وإثبات "لا" على النفي، فلا شك أن ظاهر [هذا] (¬6) الكلام يشعر به إلا أنا إذا وجدنا للكلام تأويلا يصح حمله عليه، ودليل الاستعمال: يشهد له، فكيف يسوغ [لنا حمله] (¬7) على تناقض واضطراب؟، وذلك أن قوله: "نعم" الواقع بعد [السؤال] (¬8)، يصلح أن يكون جوابا [له] (¬9)، [وذلك] (¬10) لو اقتصر عليه واجتزأ به، فلما عقبه بالنفي دل، والحالة هذه: أنه لم يرد به جوابا، وإنما قصد به ابتداء الكلام، كما تقول: "نعم مالك كذا ما يصلح لك كذا"، وذلك جائز في عرف الاستعمال وأما الرواية بإثبات "نعم" وإسقاط ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: ولا مستقيمة. (¬5) في أ، جـ: وهو. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: له حكمه. (¬8) في أ: سؤال. (¬9) سقط من أ. (¬10) سقط من أ.

"الألف"، فلا إشكال فيها، لأنه أوجب لها الكلام، وإسقاط "نعم" وإثبات "الألف" لم يثبت لها الكلام. وفي كثير من النسخ: "إني أرى لك في ذلك متكلما، وهذه رواية صحيحة، وبها يرتفع الإشكال، وعليها اختصر أكثر المختصرين. وفائدة اختلاف الروايات، يرجع إلى ما قدمناه في فعل الأب، هل يتعقبه النظر أم لا؟ واختلف تأويل المتأخرين في قول ابن القاسم في المسألة، حيث قال: وأنا أراه ماضيا، إلا أن يأتي من ذلك ضرر، فيمنع، هل هو وفاق أم خلاف؟ فمنهم من يقول إنه خلاف قوله، وأن الضرر الذي أراد ابن القاسم ضرر البدن، كالجنون والجذام والبرص، وهو مذهب سحنون، وبه قال ابن حبيب، وهذا الخلاف إنما يكون على رواية الإيجاب. وأما على رواية النفي فهو وفاق واتفاق، [ومنهم من يقول إنه وفاق والقائلون بالوفاق] (¬1) اختلفوا في التعليل. فبعضهم يقول: أن ابن القاسم لم يتكلم على الفقر الفادح المضر بها، وإنما تكلم على فقر ابن الأخ بالإضافة إلى مالها، [فهو فقير بالإضافة لسعة مالها]، كما أن صاحب المائة فقير بالنسبة إلى صاحب الألف. وبعضهم يقول: أن الضرر المعتبر عند ابن القاسم: الفقر الذي لا دين معه، فإذا كان [الفقير] الذي لا دين له، ولا عنده وازعٌ من تقوى الله يوزعه من أكل مالها، فهذا الذي يكون للأم فيه متكلم. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وأما الفقير الصابر الديِّن الذي عنده من تقوى الله ما يصده عن أكل مالها ومد يده فيه بالعدوان ففعل الأب في ذلك ماض، ولا يعترض عليه فيه، وقال ابن محرز وغيره: وهذا إحالة للمسألة، إذ لا معنى لذكر الفقر، و [إنما] (¬1) المانع الخوف منه وعدم الأمانة، وكلام سحنون يدل على خلاف هذا. وسبب الخلاف: الكفاءة المعتبرة، هل هي الكفاءة في الدِّين أو الكفاءة في المال والنسب؟ فمن رأى أن الكفاءة المعتبرة، "المال والنسب"، قال: الفقر عيب، وهو قول مالك في هذه المسألة، على أحد الروايات، وهو مذهب الموثقين كأبي حفص العطار وغيره، وهو ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس: "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، انكحي أسامة ابن زيد" (¬2)، فبين - صلى الله عليه وسلم -: عيب كل واحد، وجعل الفقر عيبًا، ومعلوم أن معاوية لا تخشى فاطمة من جهته، وإن كان فقيرًا، فثبت أن العلة: كونه فقيرًا لا غير. ومن رأى أن الكفاءة المعتبرة: الدين لا المال، قال: لا كلام للأم إذا كان فقيرًا صالحًا صابرًا، تؤمن ناحيته، كما تأول على ابن القاسم في هذه المسألة، وهو نص مالك في هذا "الكتاب"، في "نكاح الموالي في العرب"، وهو قوله: وإذا رضيت ثيب بكفؤ في دينها، وهو دونها في الشرف والمال، أو رضيت بمولى ورده أب أو ولي زوجها إياه الإِمام؛ لأن نكاح الموالي في العرب لا بأس به. ¬

_ (¬1) في أ، ب: لا. (¬2) أخرجه مسلم (1480).

قيل: فإن رضيت بعبد، قال [مالك] (¬1): المسلمون بعضهم لبعض أكفاء، فقيل له: إن بعض هؤلاء القوم [قد] (¬2) فرقوا بين عربية ومولى، فاستعظم ذلك إعظامًا شديدًا، وقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬3)، قال غيره: ليس الولي بعاضل في منعه ذات القدر نكاح العبد ومثله؛ لأن الناس [مناكح] (¬4) قد عرفت لهم وعرفوا بها. وقول الغير هذا مثل قول مالك في السؤال أن الكفاءة في المال والنسب، فيتحصَّل لمالك في الكفاءة قولان في "الكتاب". وقد اعترض أبو الحسن اللخمي على ما استدل به مالك في الآية، وما كان من نكاح بلال وصهيب وأسامة وغيرهم من الموالي في العرب، فقال: إن الآية لا مدخل لها هاهنا، لأن تضمنها الحال عند الله تعالى، وعلى ما يكون عليه في الآخرة، ومنازل [الدنيا] (¬5)، وما يلحق منه معرة غير ذلك، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه خير بريرة في زوجها حين عتقت، ولم يختلف المذهب أن ذلك لنقصه [عنها] (¬6)، وأنه ليس بكفؤ لها [وأنها] (¬7) لا خيار لها إذا كان حرًا. فبان بهذا أن العبد ليس بكفؤ للحرة، عربية [كانت] (¬8) أو بربرية، حديثة العهد بعتق، وهي في عدد [الدنيات] (¬9). ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة الحجرات الآية (13). (¬4) في أ: منافع. (¬5) في أ: الدين. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: أنه. (¬8) سقط من أ. (¬9) في أ: الدناة.

و [لأنه] (¬1) لا خلاف في العبد يتزوج الحرة، وهي لا تعلم أن ذلك عيب يوجب لها الرد، وإن كانت دنية. وأما ما ذكر من نكاح أسامة وغيره، فقد كان ذلك في أول الإِسلام، وقد رفضوا ما كان من الافتخار في الجاهلية، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أذهب عنكم [بالإِسلام] (¬2) عبية الجاهلية وفخرها [بالآباء] (¬3) وعبيتها تحولها" (¬4)، إلى آخر ما قال. وما اعترض به غير لازم، وذلك أن [الله تعالى قال] (¬5): {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فإذا كان المتقي [هو] (¬6) المكرم عند الله في الآخرة، فبأن يكرم في الدنيا أولى؛ لأن إكرامه في الدنيا تعظيم لأمر الله تعالى، وإكراما لمن أكرمه، ومن إكرام التقي في الدنيا إسعافه بمطلوبه، وقضاء مآربه على أحسن مرغوبه، ويدل على ما ذكرناه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه"، قالوا: وإن كان عبدًا يا رسول الله؟ قال: "نعم، وإن كان عبدًا، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" (¬7). فقوله: "إذا جاءكم" يستغرق عموم الأزمان من غير تخصيص، ومن أين للمعترض أن ذلك كان في أول الإِسلام، وما ذكر أيضًا من خيار بريرة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: قوله. (¬5) سقط من أ. (¬6) أخرجه البخاري (3270)، (3955)، وأحمد (8721)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬7) أخرجه الترمذي (1084)، وابن ماجه (1967)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.

حين عتقت تحت عبد، فلا حجة فيه لاتفاق المذهب أنَّ الأمة إذا عتقت تحت عبد، فاختارت المقام معه أن النكاح جائز، ولا كلام [فيه] (¬1). فإذا جاز النكاح إذا رضيت [به] (¬2) بعد عتقها وبعد عقد النكاح، فبأن يجوز النكاح إذا رضيت به، وهي حرة عربية في حين [العقد] (¬3) أولى، إذ ليس هناك إلا إسقاط حقها لمن بقي في قيد الرق خاصة، وقد اتفقنا على أنه لو خطبها رجل مصل من صميم العرب، وهي أمة حبشية مشقوقة القدمين قسطا كبيرة الشفتين، أو هي مولاة أنها لا تجبر على نكاحه، فدل ذلك على أن الاعتبار بالرضا [خاصة] (¬4)، فثبت أن الاعتراض ساقط في نفسه، باطل في أصله. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) سقط من أ، جـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

المسألة الخامسة في العقد إذا تقدم على الرضا، وكيف إذا تراخى عنه أمدا بعيدا؟

المسألة الخامسة في العقد إذا تقدم على الرضا، وكيف إذا تراخى عنه أمدًا بعيدًا؟ وقد تنازع علماؤنا في هذه المسألة تنازعًا كثيرًا، وتجاذبوا فيها [طرف] (¬1) التأويل. وسبب اختلافهم: اختلاف الأسئلة واضطراب [الأجوبة] (¬2) الواقعة في الكتاب، فهو الذي أثار بينهم عجاج اللجاج، وأوجب خوضهم في كل مسلك ومنهاج، وذلك [أنه] (¬3) قال: في الذي زوج وليته أو ابنه الكبير البكر، وهما غائبان [عنه] (¬4) فبلغهما ذلك، فرضيا: لا يقام على هذا النكاح. وقال في الذي زوج أخته ولم يستشرها فبلغها [ذلك] (¬5) فرضيت: بلغني أن مالكا مرة كان يقول: إن كانت في غير البلد أو فيه فتأخر إعلامها لم يجز، وإن قرب جاز. و [قال] (¬6) في المسألة التي نزلت [في المدينة] (¬7) في رجل زوج أخته، فقالت حين بلغها ذلك: ما وكلت ولا أرضا، ثم كلمت فرضيت، ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: أنهم. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ، ع: بالمدينة.

فقال: لا يجوز هذا النكاح، ولا يقام عليه حتى يأتنفا نكاحًا جديدا إن أحبا. فإذا نظرت إلى هذه [الأجوبة] (¬1) تجد منها ما يتشابه ويتشاكل وتجد منها ما يتباين ولا يتماثل، كسؤال الأخت التي قالت فيه: "ما وكلت ولا أرضا"، لأن هذه ردَّت الأمر وأبطلته ولاسيما ما وقع في سماع ابن القاسم: "ما وكلت ولا رضيت"، معناه: إذا بلغني. والسؤالان فيهما الرضا بما فعل الولي إلا أن سؤال الأخت يعارضه سؤال العبد إذا تزوج بغير إذن سيده، فأبا السيد أن يجيزه ثم كُلِّم في ذلك فأجازه، قال في "الكتاب": فإن أراد بقوله: الأول فسخًا تم الفسخ، وإن لم يرد الفسخ تم النكاح، وقد يحتمل أن يكون ذلك اختلاف سؤال، وقد يحتمل أن يكون اختلاف أحوال، ويحتمل أن يكون اختلاف أقوال. فبيان [الاحتمال في] (¬2) اختلاف السؤال: وذلك أن نكاح الأخت على الرد حتى تجيزه، ونكاح العبد على الجواز حتى [يرده] (¬3) السيد، والدليل على ذلك أن السيد لو لم يعلم بنكاحه حتى [أعتق] (¬4) العبد أن النكاح جائز، وهذا على مذهب "الكتاب". وبيان اختلاف الأحوال: أن السيد ينوي لما يعلم من عادة السادات أنهم يقولون مثل ذلك تأديبًا للعبيد لئلا يسارعوا إلى [جناية] (¬5) النكاح [التي ¬

_ (¬1) في أ: الأسئلة. (¬2) سقط من أ، جـ. (¬3) في أ: يرد. (¬4) في أ، جـ: عتق. (¬5) سقط من ب.

يستضر بها السادات] (¬1) ردعًا وزجرًا، ولا يقصدون بذلك فسخ النكاح، فإذا ادعى السيد في ذلك نية فالقول قوله؛ لأن العرف يشهد به. بيان اختلاف الأقوال: وذلك أنه عقد تقدم على الرضا في كلا المسألتين، فأنكر ثم أجيز، فقال بالجواز في أحد الموضعين ولم يقله في الآخر. والأصح والله أعلم: أنه اختلاف [أسئلة] (¬2). وأما [بقية] (¬3) الأسئلة: فإنها كلها أسئلة متشابهة متشاكلة. اختلف المتأخرون، في تأويل هذه المسألة بين ملفق ومفرق: أما الشيخ أبو عمران الفاسي: قد سلك فيها التلفيق. وأما المسألة التي فرق فيها بين القرب والبعد فتفسير التي قال فيها لا يقام على هذا النكاح، وأنها تمضي عليها، ومسألة الابن الغائب: يريد بعيد الغيبة ومسألة التي قالت: "لا أرضى": [بأنها] (¬4) ردت الأمر وأبطلته. وأن معنى قوله: كان مالك مرة يقول. أي لم يتكلم بهذا التفسير [والبيان] (¬5) إلا مرة واحدة، وفي غير ذلك أجمل الجواب، فترجع الأسئلة كلها عنده إلى معنى واحد. وذهب غيره إلى أن ذلك اختلاف قول، وأن ما في "الكتاب" ¬

_ (¬1) في ب: المضر بالسادات. (¬2) في ب: سؤال. (¬3) في أ، جـ: كيفية. (¬4) في ب: لأنها. (¬5) في أ، جـ: باللسان.

[يتخرج] (¬1) على ثلاثة أقوال: أحدها: أن النكاح لا يجوز، وإن أجيز، ولا فرق بين القُرب والبُعد، وهو ظاهر قوله في الذي زوج ابنته الثيب وابنه الكبير المنقطع عنه، وهما غائبان، فبلغهما فرضيا، فقال: لا يجوز هذا النكاح ولا يقام عليه لأنهما لو ماتا لم يتوارثا. وظاهر الكلام: أنهما [كانا] (¬2) غائبين عن المجلس. والثاني: أن النكاح جائز إن [أجيز] (¬3) قربت [الغيبة] (¬4) أو بعدت، وهو ظاهر قوله في "الكتاب" أيضًا، حيث قال: كان مالك مرة يقول. وذكر [تفريقه] (¬5) بين القُرب والبُعد. ومرة أخرى أبين؛ لأن قوله مرة يشعر بأنه قال مرة أخرى غير ذلك، ويشعر به قوله آخر المسألة: وإن بعدت الغيبة أو تأخر إعلامها لم يجز، وإن رضيت، وهذا قول مالك الذي عليه [أكثر] (¬6) أصحابه، وهذه الرواية أصح من التي قال فيها: "عليه أصحابه"، وقوله الذي عليه أصحابه أكثر، ويدل على أن هناك قولة أخرى عليها أقل أصحابه، وهو قول منصوص عليه لأصبغ وغيره في "كتاب محمد" وغيره. والثالث: التفصيل بين القُرب والبُعد، وهو نص قوله مرة في "الكتاب". ¬

_ (¬1) في أ: يترجح. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: أجيزت. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: تفرقته. (¬6) سقط من أ.

وهذه الأقوال الثلاثة: كلها قائمة من "المدونة" منصوصة في المذهب في "كتاب محمَّد". وحد القُرب: [عند] (¬1) سحنون، مثل ما بين مصر والقلزم، وهو مسيرة ثلاثة أيام. وقيل: حد القُرب: ما بين المسجد والدار. وحد البُعد عنده: ما بين مصر والأسكندرية، وذلك أربعة أيام أو خمسة. وسبب الخلاف: اختلافهم في الخيار الحكمي، هل هو كالخيار الشرطي أم لا؟ فمن جعل الخيار الحكمي كالخيار الشرطي [قال]: لا يجوز النكاح قُرب أو بُعد، وهو مذهب البغداديين من أصحابنا، لأن العقد المتقدم على الرضا والإذن، ويرجع فيه الأمر إلى اختيار المرأة [بين] (¬2) الإجازة والرد. ومن جعل الخيار الحكمى ليس كالشرطي، قال: يجوز النكاح قرب أو بعد، وذلك أتى ما يوجبه الحكم خلاف ما يوجبه الشرط. والتفرقة بين القرب والبعد استحسان لاستحقاق الشيء اليسير في [الوصول] (¬3)؛ لأن القرب لا يبيح ما كان محظورًا كما أن البُعد لا يحرم ما كان مباحًا. وإلى هذا المعنى أشار القاضي أبو الفرج المالكي في "الحاوي" أن ¬

_ (¬1) في أ: عن. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: الشريعة.

التفصيل بين القرب والبعد لا يصح، لأنه لم يلزم [منه] (¬1) تجديد كل عقد ممنوع، قال: وإنما معنى ذلك [عندي] (¬2) في تجويزه في القرب أنها علمت [فعل وليها] (¬3) ولم تنكره ثم رضيت، وأما لو لم تعلم حتى أُعلمت، كانت كمسألة الأخت، وهذا الذي قاله القاضي يشبه [أن يعد] (¬4) قولا رابعًا في المسألة. ووجهه أنها إذا علمت بفعل وليها، فلم تنكره حتى كلمت فرضيت، فكأنَّها لم تزل راضية في حين العقد، وصار النكاح معقودًا على رضاها، وإن كان يمكن ألا ترضى حين علمت، ثم رضيت إذ سألت، فيكون هذا النكاح لم يخرج عن الخيار من كل وجه. فعلى القول: بأن النكاح لا يجوز ويفسخ، هل قبل أو بعد أم لا؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه يفسخ قبل البناء ويثبت بعده، وهو قول ابن القاسم؛ لأن جُلّ الناس على إجازته. والثاني: أنه يفسخ قبل [البناء] (¬5) [وبعده] (¬6)، وهو قول أصبغ. وفي المسألة قول ثالث: يؤمران بالفسخ والترك من غير حكم حاكم، لاختلاف العلماء [فيه] (¬7) وعلى القول بالفسخ، هل هو بطلاق أو بغير ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: ويعود. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: وبعد. (¬7) سقط من أ.

طلاق؟ قولان قائمان من "المدونة"، وقد قدمنا [بيان] (¬1) موضعهما. وعلى القول بأن النكاح لا يجوز ويفسخ، هل يقع [فيه] (¬2) التحريم أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقع [فيه] (¬3) التحريم بين الآباء والأبناء، وهو نص قول ابن القاسم لقوله: كل نكاح اختلف الناس فيه فالحرمة تقع فيه كحرمة النكاح الصحيح الحلال. والثاني: أنه لا تقع به الحرمة جملة. والثالث: التفصيل بين أن يفسخ قبل الإجازة أو بعدها: فإن فسخ قبل الإجازة فلا يقع به التحريم بين الآباء والأبناء. وإن فسخ بعد الإجازة، فيقع به التحريم، وهكذا نقله اللخمي. والأقوال كلها متأولة على "المدونة". وسبب الخلاف: اختلافهم في العقد الفاسد، هل يفيد شبهة العقد الصحيح أم لا؟ فمن رأى أنه يفيد شبهة العقد الصحيح، قال: يقع به التحريم. ومن رأى أنه لا يفيدها، قال: لا يقع به التحريم، وسنزيد لهذا الفصل بيانا في "كتاب النكاح الثالث" إن شاء الله [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) في أ، ع: به. (¬3) في أ، ع: به. (¬4) زيادة من ب، جـ، ع.

المسألة السادسة في وضع الأب من صداق ابنته البكر قبل البناء

المسألة السادسة في وضع الأب من صداق ابنته البكر قبل البناء ولا يخلو ذلك الوضع من وجهين: إما أن يكون بطلاق أو بغير طلاق: فإن كان بطلاق، مثل أن [يطلق] (¬1) الزوج قبل البناء، فعفى الأب عن النصف الذي وجب لابنته بالطلاق، وذلك جائز باتفاق المذهب عندنا، لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} (¬2) يريد: الثيب، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}، وهو الأب في ابنته البكر والسيد في أمته، على تأويل مالك الآية، إذ له الجبر. وعلى مذهب المخالف أن الذي بيده عقدة النكاح: هو الزوج؛ لأنه [هو] (¬3) الذي [يملك] (¬4) حلها، والحكمة في ذلك الحث [على] (¬5) الإحسان ومكارم الأخلاق؛ لأن الزوج حين طلقها، [قبل أن] (¬6) يصل منها إلى مرغوبه، فمكارم الأخلاق تقتضي ألا تأخذ منه شيئًا مما كان بدل لها مما فاته منها، بل تتركه كما تركها؛ لأنه إنما عوض ليستمتع، لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} (¬7)، وهن: الزوجات، إذ ذلك صيغة العموم ¬

_ (¬1) في ب: يطلقها. (¬2) سورة البقرة الآية (237). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: ولم. (¬7) سورة البقرة الآية (237).

في جميعهن، والمراد [به] (¬1) والله أعلم: المالكات لأمورهن، على تأويل مالك -رحمه الله- ثم قال: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}، وهو الأب والسيد كما قدمناه. وعلى مذهب المخالف الذي يقول أن الذي بيده [عقدة النكاح هو الزوج، فالحكمة فيه [أيضًا] (¬2) مطردة، وأن الأزواج ندبوا بذلك إذا طلقها وفوّتها ما رجت منه من حسن الصحبة وجميل العشرة واستدامة الاستمتاع، فكان من مكارم الأخلاق أيضًا إذا طلقها: ألا يسترد منها ما أسقطه الشرع، مما كان يدل على معاشرتها التي [يدعها] (¬3) من قبله، ويشهد لهذه الحكمة التي ذكرناها، قوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، وذلك يشعر بالندب إلى الوضع، والأمر بفعل الإحسان ممن ملك، وذلك يشمل تعليلنا وتأويل المخالف. فإن كان الوضع بغير طلاق، مثل أن يضع الأب من صداق ابنته البكر قبل البناء من غير أن يطلقها زوجها، هل تجوز وضيعة الأب وتلزم الابنة أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه لا يجوز للأب أن يضع منه شيئًا، كان ذلك لنظر أو لغير نظر، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب النكاح الأول"، لقوله: ولا يجوز لأحد أن يعفو عن [شيء من] (¬4) صداق ابنته [البكر] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: بذلك. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: ترك. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من ب.

والثاني: أنه جائز كان لنظر أم لا، وهو قوله في "باب نكاح التفويض" حيث قال: يجوز للأب الرضا بأقل من صداق المثل بعد الدخول، ولم يذكر النظر قياسًا منه على أحد الأقوال في جواز إنكاحه إياها بأقل من صداق مثلها [من غير نظر وهو نص قوله في باب نكاح التفويض أنه لا يجوز للأب أن يزوجها بأقل من صداق مثلها] (¬1)، فظاهره: "وإن كان [لغير نظر] (¬2) ". والثالث: التفصيل بين أن يكون لنظر أو لا يكون لنظر: فإن كان لنظر: جاز، مثل: أن تعسر بالمهر ويسأل التخفيف ويخشى أن يطلق. وإن كان لغير ذلك: فلا يجوز، وهو قول ابن القاسم في "كتاب النكاح الأول". ولا فرق في هذه الأقوال الثلاثة بين رضاها وعدمه. والرابع: التفصيل بين أن ترضى فيجوز أو لا ترضى فلا يجوز، وهو قول ابن القاسم في "كتاب النكاح"، على اختلاف المتأخرين في تأويل قوله: في "كتاب النكاح الثاني": إذا رضيت، هل هو عائد على ذات الأب؟ وهو تأويل بعض المتأخرين على "المدونة"، أو [هو] (¬3) عائد على ذات الوصي في البكر والثيب السفيهة، وهو تأويل [بعض المتأخرين] (¬4) أيضًا، وهو نص قول ابن الجلاب في كتابه [التفريع] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: لنظر. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، جـ: بعضهم. (¬5) سقط من أ، جـ، ع.

فإن ثبت أن ذلك عائد على ذات الأب، صح في المسألة أربعة أقوال، ثم لا خلاف في وضيعة الوصيك: أنها لا تجوز بإذنها أو بغير إذنها. [فإن] (¬1) ثبت أن الكلام عائد على ذات الوصي، فيتحصل في ذات الأب ثلاثة أقوال، وفي الوصي: لا خلاف أن وضيعته قبل الإذن والرضا أنها لا تجوز، وبعد الإذن والرضا قولان: الجواز والمنع لمالك، و [هو] (¬2) نص الجواز لابن القاسم. وسبب الخلاف: الأب، هل يجوز له أن يزوج ابنته البكر بأقل من صداق مثلها لغير مصلحة ولا نظر، أو لا يجوز إلا لنظر؟ فمن قال يمنع النكاح: منع الوضيعة. ومن قال بجواز النكاح، قال: بجواز الوضيعة أيضًا، إذ لا فرق بين أن يترك من بعض ما استحقت أو يضع من بعض ما استحقت. ووجه القول الثالث: اعتبار المصلحة في أفعال الأب وأن النظر يتعقب صنيعه. ووجه القول الرابع: في اعتبار الرضا، تطييب النفس، وذلك منه استحسان جار على غير قياس [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ، جـ: وإن. (¬2) سقط من ع. (¬3) زيادة من ب، جـ، ع.

المسألة السابعة في اختلاف درجات الأولياء في القرب والبعد، وكيف إن زوج الأبعد مع وجود الأقرب؟

المسألة السابعة في اختلاف درجات الأولياء في القرب والبعد، وكيف إن زوج الأبعد مع وجود الأقرب؟ وقد قدّمنا أن الولاية مشروطة في النكاح عندنا، ولها شروط: وهي أن يكون الولي مسلما، حرًا بالغًا، ذكرًا عاقلًا. واختلف في الشرط السادس، وهو العدالة، هل هي مشروطة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ولاية الفاسق في النكاح جائزة، وهو قول ابن القصار. والثاني: أن ولايته وعقده لا يجوز، [ولا يعقد السفيه الفاسق النكاح] (¬1) وهو قول أشهب في "العتبية". فعلى القول بأن عقده لا يجوز، فإن وقع ونزل، فهل يفسخ أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يفسخ ويرد قبل الدخول وبعده، وهو قول أبي مصعب، ولمالك في "كتاب ابن أشرس": أنه لا يعقد ولا يستخلف من يزوجها، لأنه لا نكاح لسفيهه، وهذا يفسخ كما قال أبو مصعب. والقول الثاني: أن ذلك مكروه مع وجود عدل، فإن عقد جاز، وهو قول القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب. وقولنا: مسلمًا، احترازًا من الكافر، ولا خلاف عندنا أن ولاية الكافر ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ.

لا تجوز على مسلمة لمسلم [عند] (¬1) نكاحها أو لكافر، وله أن يعقد نكاح ابنته النصرانية لمسلم [إن شاء] (¬2). وقولنا: حرًا، احترازًا من ولاية العبد، ولا خلاف عندنا في منع ولايته، وعقده على الإناث الحرائر [والإماء] (¬3). وقولنا: ذكرًا، احترازًا من الإناث، ولا خلاف عندنا في المذهب: أنه لا يجوز للمرأة أن تعقد النكاح [على امرأة] (¬4)، وإن كانت [هي] (¬5) وليتها، كأمتها أو مولاتها أو [وصية عليها] (¬6): فإنها لا تباشر العقد بنفسها، ولكنّها تُوكِّل من يتولاه دونها. واختلف في عقدها على الذكران، هل يجوز أم لا؟ على قولين: أحدهما: لا يجوز عقدها عليهم، وهو ظاهر "المدونة" في قوله: ولا تعقد المرأة النكاح على أحد، وهو قول حكاه القاضي أبو محمَّد وغيره في المذهب. والثاني: أنه يجوز أن تعقد النكاح على الذكران ممن تلي عليه بملك أو إيصاء أو وكالة، وهو قول منصوص عن مالك في "العتبية" و"الواضحة"، والعبد النصراني كالمرأة في ذلك. فوجه القول الأول: أنها لا تعقد على أحد، بناء منه على أن العقد لا ¬

_ (¬1) في أ: عقد. (¬2) زيادة من ب. (¬3) سقط من ب، ع. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ، جـ: وصيتها.

يكمل ولا يتم إلا إذا انعقد من الطرفين، إذ لا يتم ولا يطلق عليه اسم العقد إلا كذلك. ووجه القول الثاني: أن الولاية إنما اشترطت في الإناث دون الذكران؛ لأن ابتداء العقد إنما يكون على المرأة، فإذا عقد عليها كان القبول من جهة الزوج خاصة ولا فرق بين أن يتولاه الرجل أو تتولاه المرأة أو العبد، وهذا هو المعروف في المذهب على ما ذكره بعض حُذَّاق المتأخرين. وقولنا أيضًا: بالغًا احترازًا من غير البالغ، وغير البالغ لا يخلو من أن يكون مراهقًا أو غير مراهق. فإن كان غير مراهق فلا خلاف [أن عقده] (¬1) لا يجوز وهو كلا عقد وسواء عقد على نفسه أو على غيره. وإن كان مراهقًا فلا يخلو من أن يكون أنبت أم لا؟ فإن أنبت الشعر فقولان: أحدهما: أن عقده جائز كالمحتلم وعليه نص بعض المتأخرين. والثاني: أن عقده لا يجوز، والقولان قائمان من "المدونة". وسبب الخلاف: الإنبات هل هو علامة للبلوغ أم لا؟ وظاهر ما قال [مالك] (¬2) في "كتاب القطع في السرقة" أن الإنبات من علامات البلوغ. وأما المراهق الذي لم ينبت الشعر فالذي تقتضيه "المدونة"، وظواهرها ونصوص المذهب أن المراهق لا يحكم عليه ولا له بحكم البالغ، ومن أعجب ما رأيت بعض متفقهة الزمان يلهثون في المجالس بحكاية الخلاف ¬

_ (¬1) في أ: أنه. (¬2) سقط من أ.

في المراهق هل هو كالبالغ أم لا؟ وقد مارست المجالس وأفنيت [عمري في المدارس] (¬1) وطالعت الأمهات [الكبار] (¬2) في الفقه والآثار "كالنوادر" "والاستذكار" [و"البيان] (¬3) والتحصيل" وكتاب "الاستيعاب للأقاويل" و"كتهذيب الطالب" وكتاب "أسنى المطالب"، وطالعت كثيرًا من كتب الحديث وشرحها وتفاسير القرآن ككتاب "قانون التأويل في شرح علوم التنزيل" مع بسطه وكثرة بحثه واستقصائه حتى أربى على جميع المصنفين في تلك الطريقة؛ لأن صاحبه جمع فيه بين تفسير الظواهر والبواطن فما سمعت ولا رأيت فيما رأيت من يقول أن المراهق له حكم البالغ. والذي لم أطالعه من الأمهات ولا وقعت عيني عليه أكثر من الذي رأيته وطالعته، والذي نسيته من الذي طالعته أكثر [مما] (¬4) عقلته عليه، لأن الكلام على ما هو متداول بين أيدي الناس إلا شيئًا ذكره مالك في "المختصر الكبير" لأبي بكر الوقار إذ قال: من ناهز الحلم فلانة طالق إن تزوجتها فتزوجها فرق بينهما ولم يذكر متى تزوجها هل بعد يمينه أو بعد أن بلغ ولم يذكر هل أنبت أم لا؟ أو لعله تزوجها بعد أن بلغ على القول بأن النظر في اليمين إلى يوم الحنث. وهو [قول مالك] (¬5) في المبسوط في الصبي يحلف ثم يحنث [وهو ¬

_ (¬1) في أ، ب: في المدارس عمري. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: من الذي. (¬5) سقط من أ.

بالغ] (¬1) أنه يلزمه ما [حنث] (¬2) فيه وهو نص مالك في المدونة (¬3) أن من زنا وقد ناهز الحلم وأنبت ولم يحتلم [ألا حد عليه] (¬4)، ولو كان [في المسألة] (¬5) نص منصوص عليه: "أن المراهق له حكم المحتلم"، لما قال اللخمي مع جلالة قدره، وغزارة علمه، وكثرة لجته، وذكاء عقله [وحدة] (¬6) فطنته: ولو قيل: "فيمن ناهز [الحلم] (¬7) أن عقده ماض"، لم يبعد، ويحتمل أن يريد بالمناهز: الذي قد أنبت، كما نص عليه مالك في "المدونة". فنسأل الله تعالى أن [يلهمنا رشدنا] (¬8) وأن يرزقنا علم ما جهلنا والعمل بما علمنا. فإذا حصلت هذه الشروط التي ذكرناها صحت الولاية لمن حصلت فيه. وهي تنقسم -أعني الولاية- إلى: ولاية خاصة وإلى ولاية عامة. فولاية الخاصة: ولاية القرابة، قال الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (¬9)، [وهي أيضًا] (¬10) على وجهين: أحدهما: أن يتساووا في المرتبة. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) في أ، ب: حلف. (¬3) المدونة (4/ 491). (¬4) في أ، ب، جـ: أن عليه ألحد. (¬5) سقط من أ، ب. (¬6) في باقي النسخ: ووفور. (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: يرشدنا. (¬9) سورة الأنفال الآية (75). (¬10) في ب: والأولياء.

[والثاني: أن تختلف مراتبهم، فإن تساووا في المرتبة] (¬1) بنون أو أخوة أو بنوهم أو أعمام أو بنوهم. فإذا اتفقوا وسلَّموا النظر إلى واحد منهم: جاز ذلك بغير خلاف. وإن اختلفوا فقال في "المدونة": ينظر السلطان في ذلك. وقال عبد الملك بن حبيب: ذلك إلى أفضلهم، فإذا استووا في الفضل كان إلى أسنَّهم. وإن استووا في الفضل والسن كان ذلك إلى جميعهم. فأما لو فوضت إلى واحد لكان ذلك إليه دون أصحابه. وإن اختلفت مراتبهم كالأب والابن، وكالأخ وابن الأخ، والعم وابن العم: فإنه يقدم الأولى فالأولى، لأن الولي مأخوذ من الولاء، وهو القرب، ومنه [قول] (¬2) مجنون بن عامر (¬3): أحن إلى ليلى، وإن شط وليها ... كما حن في الكف اليراع المثقب فإذا زوج الأبعد مع وجود الأقرب [من ولاية] (¬4) الخاصة، هل [للأقرب] (¬5) فيه كلام أم لا؟، وهل يجوز له الإقدام على العقد ابتداء مع حضور الأبعد أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجوز له الإقدام على العقد مع وجود الأقرب، وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) هذا من شعر خارجة بن فليح المللي، أما مجنون بني عامر فقال: أحن إلى ليلى وإن شطت النوى ... بليلى كما حن اليراع المثقب (¬4) في أ: بالولاية. (¬5) في أ: للأب.

نص قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يجوز له الإقدام عليه ابتداء، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" من مسألة: تزويج الأخ أخته الثيب مع وجود الأب، حيث قال [قال مالك] (¬1): ما للأب ومالها [وهي] (¬2) مالكة أمر نفسها، وهو قول ابن القاسم أيضًا في ذي الرأي من أهلها: أنه يجوز تزويجه مع وجود الأخ وابن الأخ والجد، وهو نص قوله " [كتاب] النكاح الأول"، وهذا يكاد أن يكون نصًا في الباب، والدليل [عليه] (¬3) قول عمر - رضي الله عنه -: لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان (¬4)، و "أو" هاهنا على أصلها، وليست بمعنى "الواو". واختلف في ذي الرأي من أهلها، على قولين: أحدهما: أنه الرجل الذي له الصلاح والفضل. والثاني: أنه الوجيه الذي له رأي، ومن يرجع إليه في الأمور. قال اللخمي: وكلا القولين يحتمل أن يكون هو المراد. واختلف: أيضًا في معنى قوله: "من أهلها"، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الرجل من العُصبة، وهو قول ابن نافع عن مالك. والثاني: أنه الرجل من العشيرة، وهو قول ابن القاسم عن مالك. والقولان: منصوصان في "المدونة". والثالث: أنه الرجل من البطن، وهو قول ابن الماجشون في ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) في أ، ب: فهي. (¬3) سقط من هـ، ع. (¬4) أخرجه الدارقطني (3/ 228)، والبيهقي في "الكبرى" (13418)، بسند ضعيف.

" [واضحة] (¬1) ابن حبيب". وفائدة اختلافهم: في ذي الرأي من أهلها، من هو؟ أي أنه ليس من العصبة؛ لأن عصبة الرجل أقاربه من قبل الرجال، فإن ذوي الرأي آخر درجات أولياء الخاصة [العشيرة] (¬2). فعلى قول ابن القاسم: آخر [درجات] (¬3) الأولياء الخاصة: العشيرة، وأنهم على قول عبد الملك: البطن، وعلى قول ابن نافع: العصبة. فعلى قول ابن القاسم أنه من العشيرة، فالمولى الأسفل داخل في العشيرة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مولى القوم منهم"، ولدخوله في جماعتهم وعقلهم وأوقافهم. وعلى القول بأنه من العصبة أو البطن، فلا يدخل الأسفل. و [القول] (¬4) الثالث: التفصيل بين الأخوة وغيرهم، فإنه يجوز للأخ للأب أن يزوِّج أخته ابتداء وثم أخوها لأبيها وأمها حاضر، إلا أن يكون الأب أوصى بها إلى الشقيق، فلا ينبغي لغيره من الأولياء أن ينكح، وثم أولى منه حاضر إذا لم يكونوا إخوة، وهذا نص رواية علي ابن زياد عن مالك في "المدونة". وإلى أن قوله خلاف ذهب فضل بن سلمة وسحنون وغيرهما من شيوخ المذهب، وحملوه على [أنه] (¬5) قولة على حيالها، وهو الصحيح. ¬

_ (¬1) في أ، جـ: كتاب. (¬2) سقط من أ، جـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: أنها.

فعلى القول: بأنه لا يجوز له الإقدام ابتداء على العقد، فإذا وقع ونزل هل يتعقبه النظر أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن النكاح ماض لا يتعقبه النظر، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه يتعقبه، وهو قول الرواة في "الكتاب". وسبب الخلاف: [اختلافهم] (¬1) في تقديم الأقرب على الأبعد، هل هو من باب الأولى أو ذلك من باب [الولاية] (¬2)؟ فمن رأى أن ذلك من باب [الأولى] (¬3)، فلا يتعقبه النظر. ومن رأى أن ذلك من باب [الولاية] (¬4)، قال: يتعقبه النظر. فعلى القول [بأن النظر] (¬5) يتعقب فعله وعقده، هل النظر إلى الولي [الأبعد] (¬6) أو النظر إلى السلطان؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن النظر في ذلك إلى السلطان، وهو قول أكثر الرواة في "المدونة". والثاني: أن النظر في ذلك إلى الأقرب [بين] (¬7) الإجازة والرد، وهو قول [آخرين] (¬8) في الكتاب أيضًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: الولاء. (¬3) في أ: أولى. (¬4) في أ، جـ: الولاء. (¬5) في أ: بالنظر. (¬6) في جـ، ع، هـ: الأقعد. (¬7) في أ: من. (¬8) في ب: آخر.

وسبب الخلاف: اختلافهم [في تعقب النظر هل هو لمعنى أو لغير معنى فإن قلنا أنه لمعنى كان النظر للسلطان وهو الذي كلفه الشرع الكشف] (¬1) عن الأسرار وإزالة الأضرار. وإن قلنا أنه لغير معنى، [ثم لا] (¬2) يتعقبه النظر على قول، ويتعقبه على قول، ولا تتعجب من فعل يتعقبه النظر [من غير] (¬3) معنى وتبادر بالإنكار، وتعتبر بالمألوف [المعهود] (¬4)؛ لأن الحكمة في نظر الولي مخافة أن [تضع] (¬5) وليته نفسها تحت من لا يكافئها، لما علم من ميلهنَّ إلى الرجال، وغلبة شبق [شهوة] (¬6) النكاح عليهن، فيكون ذلك من العار الذي إذا نزل لم يزل، فكانت الحكمة تقتضي نظر الولي إلى صنعها. فإنك إذا أمعنت النظر في "الكتاب"، وتفطنت لما قاله مالك فيه نصا، [يتبين] (¬7) لك أن تعقب النظر قد يكون بغير معنى، وذلك أنه قال في "كتاب النكاح الأول" في المرأة ذات الشَّرف والدِّين يزوجها رجل من قريش ذو شرف ودين بغير إذن وليها، استخلفت على نفسها رجلًا يزوجها، فقال: النظر في ذلك إلى الولي، إن شاء أجازه، وإن شاء فسخه. فانظر كيف جعل له النظر في فعلها، وإن لم تضع نفسها في دناءة، ولا فيما تلحقه منه معرَّة، ولا فخر أعظم من تزويجها قرشي، ومع ذلك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: فلا. (¬3) في أ، ع: لغير. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ، جـ: تضيع. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: فتبين.

جعل له النظر كما ترى. وربك أعلم. والجواب عن [الوجه] (¬1) الثاني: في الولاية العامة، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬2)، ولا خلاف عندنا أنها ولاية تطالب بها المرأة عند عدم ولاية النسب، فيصح النكاح لوجودها ويفسد لعدمها إذا باشرت العقد بنفسها ولم تستخلف رجلًا. واختلف إذا تزوجت المرأة بولاية الإِسلام، مع وجود الولاية الخاصة، على ستة أقوال: أحدها: [جوازه] (¬3) بعد الوقوع، وهي رواية حكاها أبو محمَّد عبد الوهاب في المذهب، [واستخرجه] (¬4) بعض المتأخرين، [من] (¬5) توقف مالك في "المدونة" عن فسخه، وهو جنوح منه إلى القول بجوازه بعد الوقوع. والثاني: أنه جائز إن أجازه الولي، دخل بها أم لا؟ وهو قول ابن وهب. والثالث: أنه يفسخ، وإن أجازه [الولي] (¬6)، وهو قول غيره في "المدونة". والرابع: التفصيل بين الدخول وعدمه، فيفوت بالدخول، وهو تأويل إسماعيل القاضي على قول مالك في "المدونة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة التوبة الآية (71). (¬3) في ب: الجواز. (¬4) في ب: واستخرجها. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

والخامس: أن للولي أن يجيزه أو يرده، ما لم يطل ذلك بعد الدخول، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب" أيضًا. والسادس: التفصيل بين الدَّنية والشَّريفة وهو قول ابن القاسم أيضًا في "المدونة". وفي المسألة قول سابع في الكتاب بالوقف، على القول بأن الوقف يعد قولا؛ لأن قول مالك - رضي الله عنه - اضطرب في [التوقيف] (¬1): فتارة توقف عن فسخه، وذلك جنوح منه [إلى] (¬2) ما حكاه القاضي عبد الوهاب في [المذهب] (¬3) كما قدمناه. وتارة توقف عن الإجازة إذا أجيز، وذلك منه جنوح إلى القول أنه يفسخ على كل حال. وتفصيل ابن القاسم بين الطول وعدمه، ووجود البناء وعدمه استحسان جار على غير قياس. فعلى القول بأن النظر يتعقبه، هل نظر السلطان أو نظر الولي؟ قولان قائمان من "المدونة" كما تقدم في ولاية الخاصة. وسبب الخلاف: الولاية في النكاح، هل هي حق لله تعالى أو حق للولي؟ فمن رأى أنها حق لله تعالى، قال: [بفسخ] (¬4) النكاح على كل حال. ¬

_ (¬1) في ب: التوقف. (¬2) في أ: على. (¬3) في أ: المدونة. (¬4) فى أ: صح.

ومن رأى أنها حق للولي [قال يتوقف على النظر] (¬1)، فعلى القول بأن النظر لمعنى: كان إلى الإِمام. وعلى القول بأنه لغير معنى: كان للولي. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ.

المسألة الثامنة فيمن غاب عن ابنته

المسألة الثامنة فيمن غاب عن ابنته فلا تخلو غيبته من أحد وجهين: أحدهما: أن تكون غيبته غيبة انقطاع. والثاني: أن تكون غيبته غيبة ارتجاع. فإن كانت [غيبته] (¬1) غيبة انقطاع، فلا تخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون على معنى الغلبة والاضطرار. والثاني: أن تكون على معنى [الترفه] (¬2) والاختيار. فإن كانت غيبته على معنى الغلبة والاضرار، كالأسير، فلا تخلو حالة ابنته من أن تكون في حرز وصيانة والنفقة جارية عليها أم لا: فإن كانت في حرز وتحصين، والنفقة جارية عليها، ولم تدع إلى النكاح، فلا إشكال أنها لا [تزوج] (¬3) وتنظر قدوم أبيها، إذ لا يجبرها أحدٌ سواه. وإن [كانت قد] (¬4) دعت إلى النكاح: فإنها [تزوج] (¬5) إن كانت بالغة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: الرأفة. (¬3) في أ، جـ: تتزوج. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: تتزوج.

[فإن] (¬1) كانت في غير حرز وتحصين، أو كانت في حرز ولا كفاية [ولا مؤنة] (¬2) معها: فإنها [تزوج] (¬3) أيضًا، إذا خُشي عليها الفساد والضيعة، دعت إلى النكاح أو لم تدع [إليه] (¬4). وإن كانت غيبته على معنى [الترفه] (¬5) والاختيار، فلا تخلو من أحد وجهين: إما أن تُعلَم حياته أو جُهِلَت: فإن علمت حياته، فلا يخلو موضع غيبته من أن يكون قريبًا أو بعيدًا: فإن كان قريبًا، فلا خلاف في المذهب أنه لا يفتات عليه في إنكاح بناته، دعون إلى النكاح أم لا، إلا أن يتبين ضرر الأب بهن، فيكون كالعاضل الحاضر، فإن الإِمام يتقدم إليه: إما أن يزوجها، وإلا زوَّجها عليه الإمام. وإن [كان بعيد الغيبة] (¬6)، مثل الأندلس وطنجة من المدينة، فهل يجوز أن تزوج أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تزوج [جملة] (¬7) بلا تفصيل وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أنها لا تزوج إلا أن يخشى عليها الفساد والضيعة، وهو قول ¬

_ (¬1) في أ: وإن. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: تتزوج. (¬4) زيادة من جـ، ع، هـ. (¬5) في ع، هـ: الرأفة. (¬6) في هـ: كانت غيبته بعيدة. (¬7) سقط من أ.

مالك في كتاب "محمَّد". وإن جُهلت حياته، ولم تعلم جهته، كالمفقود، فإن الإِمام ينظر في أمر بناته كما ينظر في أمر ماله، ولا يكون المال أسوأ حالًا من البضع، وهذا ظاهر قول مالك في "المدونة"، لأن الإِمام ينظر لها ويعقد النكاح عليها. ولمالك في "كتاب محمَّد" قول آخر: أن للأخ أن يزوجها برضاها، وهذا الخلاف يبنى على الخلاف في المفقود: هل حكمه حكم الحي أو حكمه حكم الميت؟ فمن رأى أن حكمه حكم الميت، قال: النظر في ذلك إلى الأخ لأنه ولي وارث. ومن رأى أن [حكمه حكم الحي، قال] (¬1): النظر في ذلك إلى الإِمام؛ لأنه من باب النظر للغائب. وأما الوجه الثاني: إذا كانت غيبته غيبة ارتجاع، كمن خرج لتجارة أو لطلب حاجة: فلا إشكال في هذا الوجه أنه لا يتعرض للنظر في أمور بناته، على آية حالة هن عليها كما لو كان حاضرًا، [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة التاسعة في وكالة المرأة على النكاح من يزوجها

المسألة التاسعة في وكالة المرأة على النكاح من يزوجها ولا يخلو توكليها من وجهين: إما أن تعين الزوج أم لا. فإن عينت الزوج، مثل: أن تقول: زوجني من فلان، فلا خلاف في جواز النكاح إذا كان الزوج الذي عينته [كفؤًا لها على حسب ما قدمناه] (¬1). وإن لم تكن عينته، ولكن فوضت أمرها إلى من أسندت إليه، فلا يخلو من وجهين: إما أن تفوض ذلك إلى واحد، أو تفوض إلى أكثر من واحد: فإن فوضت أمرها إلى رجل واحد، مثل أن تقول له: زوجني ممن أحببت، ثم زوجها من نفسه أو من غيره، فلا يخلو من وجهين: إما أن يطالعها بذلك ويعرفها أم لا: فإن طالعها بذلك وعرفها اسم الرجل الذي زوجها إياه كان هو أو غيره، فرضيت به، فلا خلاف في جواز النكاح. وإن كرهت ذلك، فهل يلزمها فعله، ولا خروج لها عما عقد عليها أم لا؟، فلا يخلو من وجهين: إما أن يزوجها من نفسه أو يزوجها من غيره: فإن زوجها من نفسه، فقولان قائمان من "المدونة": ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أحدهما: أن النكاح لا يجوز، وهو نص قول ابن القاسم، وهل يجوز إن أجازته؟ قولان قائمان من "المدونة" أيضًا، وقد قدمناهما في تقديم العقد على الرضا. والثاني: أن النكاح جائز لازم لها، ولا خيار لها فيه إذا كان الزوج كفؤًا لها، وهذا القول حكاه ابن القصَّار على المذهب، وهو قائم من "المدونة": من مسألة القاضي إذا زوجها من نفسه، إذ لا فرق بين الولي والقاضي، مع سلامة حاله وإصابته في فعله. وسبب الخلاف: اختلافهم في الوكيل، هل هو معزول عن العقد من نفسه لنفسه بما تضمنته الوكالة أو هو داخل فيها وهو من جملة ما اقتضته الوكالة؟ فمن رأى أنه معزول عن العقد من نفسه، قال: لا يلزمه العقد، ويتوقف على رضاها، فيجوز إن أجازته على قول، ولا يجوز على قول. ومن رأى أنه غير معزول، قال بجواز النكاح ولزومه. وهذا الخلاف ينبني على أصل آخر: وهو تخصيص العموم بالعادة، وذلك أن قولها: زوجني ممن أحببت. وهذا العموم يعم نفسه وغيره والعادة الجارية، وذلك أن المرأة [إن] (¬1) كان لها غرض في [عين] (¬2) رجل، فإنها تجعل سفيرا [إليه] (¬3) وتقصده بذلك [و] (¬4) لا توكله لينظر [لها] (¬5) غيره. ¬

_ (¬1) في أ: إنما. (¬2) في باقي النسخ: غير. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: إليها.

فإذا وكلته علم أن المقصود غيره لا عينه. ومن رأى أن العموم يخصص بالعادة، قال: لا يلزمها النكاح. ومن رأى أنه لا يخصص بالعادة، قال: إنه يلزمها، وهي مسألة اختلف فيها الأصوليون. والبيع في جميع ما ذكرناه مثل النكاح. وإن زوجها [من غيره] (¬1) من غير مطالعتها [ولا عرفها] (¬2)، فهل يلزمها النكاح أم لا؟. قولان منصوصان في [المدونة] (¬3): فمرة ألزمها النكاح، ومرة لم يلزمها النكاح، وكل عن مالك. فوجه القول بالجواز واللزوم: عموم الوكالة، وتفويضها الأمر إلى اجتهاده. ووجه القول الثاني: أن المرأة لها غرض في عين الزوج وتسميته، ثم لا يلزمها النكاح إلا برضاها. وأما الوجه الثاني: إذا فوضت أمرها إلى أكثر من واحد، مثل أن تفوض أمرها إلى رجلين فزوجها هذا من رجل، وهذا من رجل، فلا يخلو [ذلك] (¬4) من وجهين: إما أن يعقدا معا أو تقدم أحدهما بالعقد على الآخر: ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) سقط من أ، جـ. (¬3) في أ، جـ: الكتاب. (¬4) زيادة من هـ.

فإن عقدا عليها معا، فلا خلاف في المذهب في فسخ النكاح من غير اعتبار بالدخول. وإن تقدم أحدهما بالعقد على الآخر، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يعلم الأول منهما. والثاني: أن يجهل ولا يعلم. فإن علم الأول منهما، فلا يخلو من أن يدخل بها الثاني أم لا: فإن لم يدخل بها الثاني، فلا خلاف أنها للأول، ويفسخ نكاح الثاني. فإن دخل بها الثاني، هل يكون دخوله بها فوتا أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الدخول فوت، ويكون الثاني أحق بها، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن الأول أحق بها، ويفسخ نكاح الثاني، وهو قول محمَّد بن عبد الحكم، وهو ظاهر "المدونة" في كتاب "الوكالات" وكتاب "الشركة". وسبب الخلاف: اختلافهم في الفسخ، متى يستعمل؟ هل بنفس الورود أو بالبلوغ؟ فمن رأى أن الفسخ والعزل يستعملان بنفس الورود، قال: بفسخ نكاح الثاني، دخل أم لا؛ لأنه يعقد الأول عزل الآخر عن الوكالة؛ لأن الأمر المقصود بالوكالة قد حصل، فصار الثاني قد عقد من غير توكيل. ومن رأى أنهما لا يستعملان إلا بعد البلوغ والعلم، قال: الثاني أحق بها من الأول إذا دخل بها، لأنه دخل بوجه جائز في ظاهر الأمر.

وإن جهل الأول منهما، فلا يخلو من أن يدخل بها أحدهما أو لم يدخل بها واحد منهما: فإن دخل بها أحدهما، هل يكون أحق بها أم لا؟، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه أحق بها، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أنه لا يكون أحق بها، وأن الدخول لا تأثير له في ثبوت النكاح؛ لأنه على شك، إذ قد يكون هو الآخر، فلا يصلح له المقام على هذا النكاح، وهو قول ابن عبد الحكم. وجمهور العلماء: على أن النكاح مفسوخ من غير اعتبار بالدخول، كما قال ابن عبد الحكم، وما قاله مالك رحمه الله - استحسان لا يحمله قياس، والله أعلم. فإن لم يدخل بها واحد منهما، فلا خلاف في المذهب أن نكاحها مفسوخ. واختلف إذا أقرت الزوجة أن هذا هو الأول، هل يقبل قولها أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يقبل، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أن قولها مقبول، وهو قول أشهب في "الواضحة". فإذا قلنا بفسخ النكاح إذا لم يدخل بها واحد منهما: فظاهر المذهب أن الفسخ في ذلك بغير طلاق؛ لأنه نكاح فسخ بالغلبة. وقيل: بطلاق، وهو المنصوص في المذهب. فإن تزوجها أحدهما بعد الفسخ، هل ترجع عنده على جميع الطلاق أو على ما بقي من طلاق الملك؟

فقد ذكر بعض المتأخرين عن ابن الموَّاز كلامًا متناقضًا في نفسه، وقال: لا يخلو الذي تزوج منها من أن يكون تزوجها قبل زوج أو بعد زوج: فإن تزوجها قبل زوج، فإنها ترجع عنده على جميع الطلاق؛ لأنه إن كان هو الأول [فنكاحه] (¬1) الثاني، كلا شيء؛ لأنه رجعت إليه امرأته، وهو لم يطلق. وإن كان هو الثاني فكذلك أيضًا، لأن نكاحه بعد الأول، كلا نكاح، لأنه تزوج امرأة غيره، [فإن تزوجها بعد الفسخ فإنها ترجع عنده على جميع الطلاق] (¬2). فإذا تزوجها [أحدهما] (¬3) بعد زوج، فإنها ترجع عنده على تطليقتين، وهذا كلام [متناقض] (¬4) لأن الفسخ الذي فسخ به نكاحهما إن كان بطلاق، فكيف ترجع [عند] (¬5) الذي تزوجها منهما بعد ذلك على جميع الطلاق، لأنه فسخ [وقع] (¬6) بحكم حاكم، والأول منهما مجهول. وإن كان بغير طلاق، فكيف [يلزمه] (¬7) الطلاق بتزويج غيره إياها بعد الفسخ من غير [طلاق] (¬8) يوجبه عليه حكم حاكم. وهذا الكلام كما تراه، وربك أعلم بمن هو أهدى سبيلا. ¬

_ (¬1) في أ: فنكاح. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أع، هـ: مدخول، وفي جـ: مجهول. (¬5) في أ: إلى. (¬6) في أ: لو وقع، وفي ب: لو رفع. (¬7) في أ، جـ: يلزم، وفي ع: يلزمهما. (¬8) في أ: أن.

فإن عثر على هذا النكاح بعد دخول أحدهما، وعلم أنه الثاني، وقد كان الأول قد مات أو أطلق، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: [أحدهما]: أن يكون عقد ودخل قبل موت الأول أو طلاقه. والثاني: أن يكون عقد ودخل بعد موت الأول أو طلاقه. والثالث: أن يكون عقد قبل موته أو طلاقه، [ودخل بعد موته وطلاقه] (¬1). فأما إن عقد ودخل قبل [موت الأول] (¬2) أو طلاقه: فإن نكاحه صحيح ثابت بمنزلة ما لو كان حيًا ولم يطلق، على قول ابن القاسم. وأما على قول ابن عبد الحكم، فينفسخ نكاحه كما قدمناه في صدر المسألة. وأما إذا عقد ودخل بعد موت الأول أو طلاقه، فلا يخلو الأول من أن يكون مات أو طلق: فإن مات: فإن نكاح الثاني مفسوخ، لأنه نكاح في عدة [وترث الأول، وإن طلق فالمذهب على قولين: أحدهما: أن نكاحه صحيح؛ لأنه نكاح في غير عدة] (¬3) وهو قول ابن القاسم. والثاني: التفصيل بين أن يكون العاقد لنكاحها آخرًا بعد طلاق الأول ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: موته. (¬3) سقط من أ.

هو الأب: فلا يفسخ نكاحه، وإن لم يدخل. وإن كان العاقد آخرًا بعد طلاق الأول هو الوكيل: فإنه يفسخ، إلا أن يدخل، وهو قول ابن الماجشون. والفرق بينهما على قول [عبد الملك] (¬1): أن الأب مطلق على النكاح على الاسترسال، والوكيل تنفسخ وكالته بتزويج الأب قبله. وأما إن عقد قبل الموت أو الطلاق، ودخل بعد ذلك، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه كالذي عقد ودخل قبل الموت أو الطلاق، [في أن نكاحها] (¬2) ثابت ولا ميراث لها من الأول، ولا عدة عليها منه، وهو قول [مالك] (¬3) حكاه ابن الموَّاز. والثاني: الفرق بين الوفاة والطلاق: ففي الوفاة: يكون متزوجًا في عدة، بمنزلة امرأة المفقود، تتزوج بعد ضرب الأجل وانقضاء العدة ودخل بها [زوجها] (¬4)، ثم تبين أنها تزوجت قبل وفاة المفقود ودخلت بعد وفاة المفقود وقبل انقضاء العدة: أنه يكون متزوجًا في عدة، وفي الطلاق، ولا يكون متزوجا في عدة، وهذا قول بعض المتأخرين، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في ب: مالك. (¬2) في أ، جـ: فإن نكاحه. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

المسألة العاشرة في تعدي الوكيل في النكاح، واختلافه مع الأمر

المسألة العاشرة في تعدي الوكيل في النكاح، واختلافه مع الأمر ولا يخلو اختلافهما من وجهين: أحدهما: أن يختلفا في الوكالة [والتسمية] (¬1). والثاني: أن يتفقا في الوكالة، ويختلفا في التسمية. فالجواب عن الوجه الأول: إذا اختلفا في الوكالة والتسمية مثل أن يدعي رجل على رجل أنه وكله على تزويج امرأة بكذا وكذا مهرًا، [فادعى] (¬2) أنه قد فعل [وحمل] (¬3) عنه الصداق، وأنكر الزوج أن يكون [قد] (¬4) وكله ولا أمر [له] (¬5) بذلك: فالقول في ذلك قول الآمر، وهل ذلك بيمين أو بغير يمين؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه لا يمين عليه، وهو ظاهر المدونة، وهو قول سحنون في غيرها. والثانى: أن قوله مقبول مع يمينه، وهو قول ابن القاسم في "الأسدية"، وهو ثابت في بعض نسخ "المدونة". فإذا قلنا بفسخ النكاح، هل فسخه بطلاق أو بغير طلاق؟ قولان قائمان ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ، جـ: ضمن. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

من "المدونة": أحدهما: أن الفسخ فيه بطلاق، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه فسخ بغير طلاق. والقولان في بعض نسخ "المدونة"، وبالفسخ بطلاق أخذ سحنون - رضي الله عنه -. فعلى القول بأن الفسخ فيه بطلاق، هل يكون على الرسول نصف الصداق مما ضمن أم لا؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن الرسول لا يضمن شيئًا من الصداق، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه يضمن نصف الصداق، يغرمه للزوجة، وهو قول علي بن زياد في بعض روايات "المدونة". وسبب الخلاف: المخير بين شيئين، هل يعد مختارًا لما ترك أم لا؟ فمن رأى أنه يعد مختارًا لما ترك قال: يكون الفسخ طلاقا، ويغرم الوكيل نصف الصداق. ومن رأى أنه لا يعد [الوكيل] (¬1) مختارًا لما ترك، قال: يكون الفسخ بغير طلاق ولا صداق ولا نصف صداق. وظاهر قول ابن القاسم في [الكتاب] (¬2): ألا شيء على [الوكيل] (¬3)، فسخ بطلاق أم لا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: المدونة. (¬3) في أ، جـ: الرسول.

والجواب عن الوجه الثاني: إذا اتفقا في الوكالة، واختلفا في التسمية، مثل أن يدعي الوكيل أن النكاح بمائتين، وبذلك أمره الآمر، وقال الآمر: ما أمرته إلا بمائة، فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يكون لكل واحد منهما بينة. والثاني: ألا بينة لواحد منهما. والثالث: أن يكون له بينة دونها. والرابع: أن يكون لها بينة دونه. فإن كان لكل واحد منهما بينة، للزوج [بينة] (¬1) أن الوكالة كانت بمائة، وللزوجة [بينة] (¬2) أن العقد كان بمائتين، فلا يخلو [ذلك] (¬3) من وجهين: أحدهما: أن يعثر على ذلك قبل الدخول. والثاني: أن يعثر عليه بعد الدخول. فإن عثر على تعدي الوكيل قبل الدخول: فإن تراضيا الزوجان على إثبات الزيادة أو إسقاطها ثبت النكاح بينهما، مثل أن يرضى الزوج على إمضاء النكاح بمائتين أو رضيت هي [على] (¬4) أن تسقط عنه المائة. فإن لم يتراضيا بذلك، فسخ النكاح بينهما، وهل فسخه بطلاق أو بغير ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

طلاق، قولان قائمان من "المدونة". وسبب الخلاف: ما تقدم، [في] (¬1) المخير بين شيئين، هل يعد مختار لما ترك أم لا؟ لأن الزوج كان قادرًا على إثبات النكاح بالرضا بما ادعت الزوجة. وإن عثر على ذلك بعد الدخول، [ولم] (¬2) يعلم الزوج بزيادة الوكيل إلا [بعد الدخول]، ما الذي كون للمرأة من الصداق؟ فقد اختلف المذهب فيها على ثلاثة أقوال، كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن للمرأة أن تأخذ المائتين، مائة من الزوج لإقراره بها، ومائة من الوكيل لتعديه، وهو ظاهر قوله في "المدونة": أن الرسول ضامن إذا أقر بالتعدي، وقيام البينة عليه بالتعدي، كإقراره. والثاني: لا شيء لها إلا مائة واحدة، ولا شيء على الرسول، وهو قول مالك في "مختصر ما ليس في المختصر"، وهو ظاهر "المدونة" أيضًا، من قوله في الكتاب: أن الرسول ضامن إذا أقر بالتعدي، وهو لم يقر بالتعدي، و [قال: إن] (¬3) المرأة فرَّطت حين [مكنته] (¬4) من نفسها، ولم تستخبر عن مقدار الصداق وتصحيح، ما أقر به الوكيل. والثالث: أن الذي يلزم الزوج من ذلك صداق المثل، وما زاد فعلى الرسول، فإن كان صداق المثل مائة وخمسين: غرمها الزوج، وغرم الرسول خمسين. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فلم. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، ب: مكنت.

فإن كان صداق المثل مائتين: غرمها الزوج، ولا شيء على الرسول، وهو قول عبد الملك في "كتاب محمد"، وبه قال ابن حبيب، وهو ظاهر "المدونة" أيضًا. وإن لم تكن لكل واحد منهما بينة لا للزوج ولا للمرأة إلا مجرد الدعاوي، فلا يخلو من أن يكون اختلافهما قبل الدخول أو بعده: فإن كان اختلافهما قبل البناء، فالقول قول الزوجة، ويخير الزوج بين أن يغرم مائتين أو يفارق. فإن نكلت عن اليمين: حلف الزوج وفسخ النكاح بينهما، وكان الفسخ في ذلك بطلاق [وهو قول ابن القاسم] (¬1) وقيل بغير طلاق، وهو قول غيره من أهل المذهب. فإن نكل الزوج عن اليمين [لزمته المائتان] (¬2) وثبت النكاح بينهما، فإن رضي الرسول قبل الدخول أن يغرم المائة التي زادها ويثبت النكاح، وكره ذلك الزوج: كان القول قوله؛ لأنه يقول: "لا أرضى أن يكون نكاحي بمائتين". واختلف المتأخرون في [علة ذلك] (¬3): فقال بعضهم: العلة في ذلك: قبول المائة، لأن الوكيل يمن عليه بما دفع عنه من الصداق. وقال بعضهم: العلة في ذلك: كثرة التوابع، لأن الصداق مهما ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: تأويل ذلك وعلته.

[كثر] (¬1) كثرت توابعه ويستضر بذلك الزوج. وهذه العلة: أسعد بظاهر [الكتاب] (¬2)، لقوله: لا أرضى أن يكون صداقي ألفين، وذلك يشعر بكثرة المؤنة لا [تقليل] (¬3) المنة. وإن كان اختلافهما بعد الدخول، فلا يخلو ذلك من خمسة أوجه: أحدها: أن يعلما جميعًا، الزوج والمرأة، وعلم كل واحد منهما بعلم صاحبه. والثاني: أن يعلما جميعًا، ولم يعلم كل واحد منهما بعلم صاحبه. والثالث: ألا يعلم واحد منهما بفعل الآخر. والرابع: أن يعلم الزوج بزيادة الألف، وأنها ما رضيت إلا بألفين. والخامس: أن تعلم المرأة أن الزوج لم يرض إلا بالألف، وبه أمر الوكيل. [فأما] (¬4) الوجه الأول: إذا علما جميعًا، وعلم كل واحد منهما بعلم صاحبه، مثل أن يعلم الزوج أن المرأة ما رضيت إلا بألفين، وعلم أنها علمت بعلمه، وتعلم الزوجة أن الزوج لم يرض إلا بالألف، وعلمت أنه علم بعلمها: كان لها ألفان؛ لأن الزوجة تقول: "أنا قد علمت أنه ما أمره إلا بالألف، ولم أرض [أنا] (¬5) أن أبيع سلعتي إلا بألفين، وهو بذلك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: المدونة. (¬3) في جـ: قلة، وفي ب، ع: تقليد. (¬4) في أ: وأما. (¬5) سقط من أ.

عالم، فرضي بذلك ودخل". وكذلك الجواب عن الوجه الثاني: إذا علمنا جميعًا، ولم يعلم واحد منهما بعلم الآخر حتى دخل بها: أنه يكون لها الألفان أيضًا، وهو ظاهر "المدونة"؛ لأنه علم بزيادة المأمور وتعديه قبل الدخول. فإذا دخل بعد العلم، كان ذلك منه رضا بتلك الزيادة، من غير اعتبار بالمرأة أن تكون عالمة بعلمه. وقال بعض المتأخرين: والقياس أن يكون لها الألف وخمسمائة [لأن علمها] (¬1)، بانفرادها إذا لم تعلم بعلمه يوجب [لها] (¬2) الألف، وعلمه بانفراده إذا لم يعلم بعلمها يوجب لها الألفين؛ لأنها تقول: إنما رضيت بالألف، ولا علم لي برضاه بألفين، ولو علمت ذلك لم أرض بألف، والزوج يقول: رضيت بألفين ولا علم عندي برضاها بألف، ولو علمت ذلك لم أرض بألفين، فتساوت الدعاوى [فوجب] (¬3) أن تقسم الألف بينهما، والذي قاله فيه نظر. وأما [الجواب عن] (¬4) الوجه الثالث: إذا لم يعلم واحد منهما بفعل الآخر، لا الزوج علم بزيادة وكيله، ولا الزوجة علمت بأن الزوج إنما أذن بالألف خاصة حتى دخل، فليس لها على الزوج إلا الألف خاصة، لأنه على ذلك دخل، ولا عنده بالزيادة [علم] (¬5)، وقال في "المدونة": ولا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: ووجب. (¬4) سقط من أ، ع. (¬5) في أ: علم عليه.

شيء لها على الوكيل؛ لأنها [صدقته] (¬1)، والزوج جحدها الألف الزائدة. فإن أقر المأمور بالتعدي بعد البناء بها: غرم الألف الزائدة للزوجة، ثم لا يرجع بها على الأمر. وأما [الجواب عن] (¬2) الوجه الرابع: إذا علمت المرأة قبل الدخول أن وكالة الزوج كانت بألف، ولم يعلم الزوج بزيادة الوكيل حتى دخل بها، لم يكن لها إلا ألف. وأما [الجواب عن] (¬3) الوجه الخامس: إذا علم الزوج أنها لم ترض إلا بألفين والزوجة لم تعلم بما أمر به الزوج: كان لها ألفان؛ لأن الزوج على ذلك دخل. وأما الوجه الثالث من أصل التقسيم: إذا كان للزوج بينة دونها، مثل أن يدعي الزوج ألفا، وشهدت له البينة بذلك، وساعده الوكيل، والزوجة تدّعي ألفين، ولا بينة لها عليه، وكان ذلك قبل [الدخول] (¬4): فإنها تبدأ باليمين وتحلف على ما قالت، ويكون [الزوج] (¬5) بالخيار بين أن يغرم ألفين أو يفارق. فإن نكلت وحلف الرسول: كان لها ألف. [فإن] (¬6) نكل الرسول فرق بينهما إلا أن يرضى الزوج [بالألفين] (¬7). ¬

_ (¬1) في أ: صدقة. (¬2) سقط من أ، ع. (¬3) سقط من أ، ع. (¬4) في ب: البناء. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: وإن. (¬7) سقط من أ.

[فإن] (¬1) لم يعلم حتى دخل بها: كان لها صداق المثل. وإن كان صداق مثلها ألفا: لم يكن لها على الزوج ولا على الوكيل غير ذلك. وإن كان صداق مثلها ألفين: حلفت واستحقت، لأن الرسول أتى بما لا يشبه. واختلف فيمن يستحق الألف الزائدة، على قولين: أحدهما: أنها تستحقها على الوكيل، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنها تستحقها على الزوج، وهو قول عبد الملك. فإن نكلت عن اليمين، سقطت مقالتها عن الزوج، لأن يمينها على الزوج [يمين] (¬2) [يهمه] (¬3) لا [ترد] (¬4)، وترجع مقالتها على الرسول؛ لأنها تدعي عليه التحقيق. فإن حلف برئ، [وإن] (¬5) نكل غرم الألف الزائدة. وأما الوجه الرابع من أصل التقسيم: إذا شهدت البينة [للزوجة] (¬6) بألفين، وقال الرسول: بذلك أمرني، وقال الزوج: إنما أمرته بألف، ولا بينة [له] (¬7)؛ فإن الزوج يحلف، وتكون الزوجة بالخيار بين أن ترضى ¬

_ (¬1) في أ: وإن. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: شبهة. (¬4) في أ، جـ: ترجع. (¬5) في أ: فإن. (¬6) في أ: للزوج. (¬7) سقط من أ.

بالألف أو تفارق. فإن نكل الزوج: لزمه ألفان. وهذا فيما بينه وبين الزوجة، لأن يمينه [لها] (¬1) يمين تهمة [لا ترد] (¬2). واختلف هل للزوج أن يُحلِّف الرسول أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن له أن يحلفه فإن نكل غرم الألف الزائدة، وهو قول أصبغ. والثاني: أنه لا يمين له عليه؛ لأنه أقر أنه تعدى وافتات عليه في الزيادة، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

المسألة الحادية عشرة في النكاح الذي يفسخ بطلاق وبغير طلاق

المسألة الحادية عشرة في النكاح الذي يفسخ بطلاق وبغير طلاق النكاح ينقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد. فالصحيح: [ما جوزه القرآن والسنة] (¬1). والفاسد: ينقسم إلى ثلاثة أقسام: نكاح فسد لعقده، ونكاح فسد لصداقه، ونكاح فسد لشروط فاسدة اقترنت به. فأما ما فسد لعقده: فينقسم إلى قسمين: قسم متفق على فساده، وقسم مختلف في فساده: فالمتفق على فساده: مثل نكاح من لا يحل نكاحه، من ذوات المحارم، من نسب أو رضاع أو نكاح المرأة في عدتها [أو على ابنتها أو على أمها] أو على أختها أو ما أشبه ذلك. فهذا القسم يفسخ قبل البناء وبعده، وفيه الصداق المسمَّى إن وقع الدخول. وأما المختلف في فساده: مثل نكاح الشغار، ونكاح المحرم، [ونكاح المريض] (¬2)، والناكح والإمام يخطب يوم الجمعة، ونكاح من خطب على خطبة أخيه، وما أشبه ذلك. فهذا مما اختلف فيه المذهب، على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

أحدها: أن الفسخ فيه بغير طلاق، قبل الدخول وبعده، وهي رواية السماع. والثاني: أن الفسخ في ذلك [كله] (¬1) بطلاق، وفيه الميراث، وهي رواية البلاغ. والثالث: التفصيل بين أن يعثر على ذلك قبل البناء أو بعده: فإن عثر عليه قبل البناء، فالفسخ فيه بغير طلاق. وإن كان بعد البناء، فالفسخ فيه بطلاق، وهو أحد أقاويل مالك -رحمه الله- في الذي يتزوج امرأة على ألا صداق [لها] (¬2). وينبني الخلاف على الخلاف في الخلاف، هل يراعي أو لا يراعى؟ فمن رأى أنه يراعي، قال: الفسخ فيه بطلاق. ومن رأى أنه لا يراعى، قال: الفسخ فيه بغير طلاق. والتفرقة بين البناء وعدمه: استحسان، جار على غير قياس. وأما ما فسد لصداقه: مثل: أن يتزوج الرجل المرأة بحرام، مثل: الخمر، والخنزير أو بغرر، كالثمرة التي لم يبد صلاحها، والعبد الآبق والبعير الشارد، والجنين في بطن أمه أو تزوجها بصداق [إلى أجل] (¬3) مجهول أو ما أشبه ذلك. فهذا قد اختلف فيه المذهب أيضًا، على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يفسخ قبل الدخول، ويثبت بعده، ويكون فيه صداق المثل، وهو المشهور من المذهب، وهو نص "المدونة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

والثاني: أنه يفسخ قبل الدخول وبعده، وهذا القول مروي عن مالك، وهو قائم من "المدونة" من مسألة نكاح الشغار، وقد أتقناها إتقانًا كليًا. وأما ما فسد لشروط افترقت [به] (¬1): [وهي] (¬2) كثيرة لا تحصى، ولهذا قال مالك في "الكتاب": "وليس لما [يفسد] (¬3) به النكاح من الشروط حد"، مثل أن يتزوجها على ألا صداق لها [أو على أن لا نفقة لها أو على أن لا مبيت لها] (¬4) أو على أن لا ميراث بينهما، أو تزوجها على أن تكون نفقتها على غير زوجها، كالأب وغيرها، [والزوج] (¬5) صغير أو كبير أو على أنه إن لم يأت بالصداق إلى أجل كذا، [وإلا] (¬6) فلا نكاح بينهما أو على أن أحدهما بالخيار. فالحكم في هذه الشروط يختلف: فمنها: ما يفسخ به [النكاح] (¬7) قبل [وبعد، ومنها ما يفسخ به قبل] (¬8) ويثبت بعد. ومنها: ما يمضي بالصداق المسمى. ومنها: ما يرد إلى صداق المثل. وذلك يختلف على حسب اختلاف الصور، وقد عقد [فيه] (¬9) بعض ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فهي. (¬3) في ع، هـ: يبطل. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: أو تزوج. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ. (¬9) سقط من أ.

[حذاق] (1) المتأخرين عقدًا ضابطًا، وقيد فيه قيدًا رابطًا، وقال: كل شرط ترك لأجل شيء لولاه، لكان واجبا، فإنه يفسخ به النكاح، وكل شرط [كان] (2) لأجل ترك شيء لولاه لكان مباحًا فهذا الشرط لا يفسد به النكاح. وهذا العقد إذا تدبرته تجده صحيحا و [كان] (3) كلامًا فصيحًا. واختلف في لزوم الطلاق وثبوت الميراث في الأنكحة الفاسدة، على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن كل نكاح كانا مغلوبين على فسخه، فلا طلاق فيه ولا ميراث، مثل: نكاح الشغار، ونكاح المحرم، وما كان صداقه فاسدا فأدرك قبل البناء، وهي رواية ابن القاسم عن مالك في "المدونة". والثاني: أن كل نكاح يفسخ قبل البناء ويثبت بعده، ففيه الطلاق والميراث، قبل الدخول وبعده. وما [كان] (4) يفسخ قبل الدخول وبعده: [وإن] (5) كان مختلفا فيه، فلا [صداق] (6) فيه ولا ميراث، لا قبل الدخول ولا بعده، وهو ظاهر "المدونة". والثالث: أن كل نكاح اتفق على تحريمه، فلا [صداق] (7) فيه ولا

_ (1) سقط من أ. (2) سقط من أ. (3) سقط من أ. (4) سقط من أ. (5) في أ: فإن. (6)، (7) في جـ، ع، هـ: طلاق.

ميراث، وكل نكاح اختلف في تحريمه وإن غلبا على فسخه قبل الدخول وبعده: ففيه الطلاق والميراث قبل الدخول وبعده. وهذا الذي قاله ابن القاسم برواية بلغته عن مالك على ما نص عليه في "كتاب النكاح الثاني"، وفي بعض روايات كتاب "النكاح الأول" لرواية بلغته ولم يذكر مالك. واختلف في الخلع: إذا خالعها ثم تبين أن النكاح فاسد، هل يرد الزوج الخلع أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدهما: أن الخلع تابع للطلاق، فحيث ما لزم الطلاق [لزم] (¬1) الخلع، وحيث ما لم يلزم الطلاق [لم يلزم] (¬2) الخلع، وهو قول ابن القاسم في كتاب "النكاح الأول"، خلاف ما قاله في "كتاب الخلع"، وقد قال في " [كتاب] النكاح الأول": [في] (¬3) التي تزوجت [بغير إذن وليها] (¬4)، [و] (¬5)، استخلفت على نفسها رجلًا، يزوجها، ثم خالعها زوجها على مال أخذه منها، قبل أن يجيز الولي نكاحها، فقال ابن القاسم: الطلاق واقع والخلع لازم، ويحل للزوج ما أخذ منها. وقال في "كتاب الخلع": "أن [الخلع ماض و] (¬6) المال مردود" (¬7). لكن المتأخرون اختلفوا فيما وقع في "كتاب الخُلع"، هل هو لابن القاسم أو لعبد الملك؟. ¬

_ (¬1) في أ: ثبت. (¬2) في هـ: سقط. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ع، هـ: بغير ولي. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ، جـ، ع، هـ. (¬7) المدونة (2/ 253).

فإن كان لابن القاسم: فهو تناقض منه. وإن كان لعبد الملك: فهو وفاق لمذهبه على ما نصف. والقول الثاني: أن الخلع ماضٍ في كل ما لأحدهما المقام عليه مما يرجع إلى اختيارهما وإيثارهما، ويرد في كل نكاح لا يقران عليه، ولا خيار لهما فيه، وهو قول ابن الموَّاز. والثالث: التفصيل بين أن يكون الخيار له أو لها: فإن كان الخيار للزوج في رد النكاح أو إجازته: مضى الخلع له. وإن كان [الخيار] (¬1) لها عليه رد المال عليها، وهو قول عبد الملك، ومثله في "كتاب ابن سحنون". واختلف هل يقع به التحريم أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن التحريم يقع بكل نكاح لم يتفق على تحريمه، وهذا هو مشهور المذهب. والثاني: أن التحريم جار على مجرى الطلاق والميراث، فحيثما لزم [الطلاق] (¬2) وثبت فيه الميراث: ثبت فيه التحريم على الآباء والأبناء، وحيث [ما لم] (¬3) يلزم الطلاق ولا يثبت فيه الميراث: لم يثبت فيه التحريم، وهو قول [ابن وهب] (¬4). وروى مثله عن ابن القاسم. فهذا تحصيل وتفصيل شاف، [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: ابن حبيب. (¬5) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الثانية عشرة في الأمة بين الشريكين، يزوجها أحدهما بغير إذن شريكه

المسألة الثانية عشرة في الأمة بين الشريكين، يزوجها أحدهما بغير إذن شريكه ولا يخلو [ذلك] (¬1) من وجهين: أحدهما: أن يعثر على ذلك قبل البناء. والثاني: أن يعثر على ذلك بعد البناء. فإن عثر عليه قبل البناء: فإن النكاح يفسخ، والفسخ فيه بغير طلاق ولا صداق فيه، لا نصفه ولا غيره. فإن عثر عليه بعد البناء: فالنكاح مفسوخ أيضًا. وأما الصداق: فلا يخلو من أن يجيز الشريك نكاحه أم لا. فإن أجازه ورضي به: كان [لها] (¬2) [نصف] (¬3) المسمى. وإن لم يجزه ولا رضي به، هل يكمل [لها] (¬4) صداق المثل أم لا؟ مثل أن يزوجها الشريك الحاضر بعشرين، وصداق [مثلها] (¬5) ثلاثون، هل يكمل [لها] (¬6) صداق المثل أم لا؟ قولان: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، ب، جـ: له. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، ب: له. (¬5) في أ، ب: المثل. (¬6) في أ، ب: له.

أحدهما: أنه يكمل [لها] (¬1) صداق المثل، وهو [قول] فضل بن سلمة. والثاني: أنه لا يزاد على المسمى، وهو قول أشهب. فعلى القول: بأنها يكمل لها صداق المثل، فلا يخلو الزوج من أن يكون عالمًا أن فيها شريكًا لغير من زوجه أم لا: فإن كان عالمًا أن فيها [شركا لغيره] (¬2) لم يكن له على الذي زوجه مقال في العشرة [التي] (¬3) أكمل بها صداق المثل، لأن خمسة منها للغائب وخمسة أكملت لحق الغائب. وقيل: إنه يزاد على صداق المثل خمسة حق للغائب، والحاضر قد رضي بنصف المسمى. وهذا خلاف ينبني على اختلافهم في قسمة هذا الصداق، هل هي موقوفة على تراضيهم واجتماعهم عليها، أو ذلك لمن دعي إلى القسمة منها؟ فمن رأى أن الصداق نحلة لها، [لا أنه] (¬4) عوض عن معوض، قال: لا يقسم إلا باجتماعهما، وأن [عليه] العشرة التي [كمل] (¬5) بها صداق المثل تزاد على العشرين لحق الغائب، وهو قول فضل بن سلمة. ومن رأى أن الصداق ثمن للرقاب أو ثمن للمنافع، أي ذلك كان، فإنه ¬

_ (¬1) في أ، ب: له. (¬2) في ب: شريك غيره. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: لأنه. (¬5) في أ: أكمل.

يكون [حقًا] (¬1) للسيد. ومن دعا منهما إلى القسم كان ذلك له، وهو ظاهر قول ابن القاسم على القول بأن الزوج يخرج جميع العشرة، ويدفعها للأمة مع العشرين دينارًا، فلا يخلو ساعتئذ من ثلاثة أوجه: إما أن تعتق، أو تباع، أو تموت. فإن عتقت تبعها مالها ولا يرجع الزوج عليها، و [لا] (¬2) على الشريك بشيء. وإن بيعت فلا يخلو من أن تباع بمالها أو [أن تباع] (¬3) بغير مالها. فإن بيعت بمالها، كان للزوج الأقل من الخمسة، وما زاد المال في ثمنها. وإن بيعت بغير مالها: أخذ الزوج خمسة، وهي التي تنوب الحاضر. وإن ماتت أخذ خمسة من نصيب الحاضر. وإن كان الزوج غير عالم أن فيها شركًا لأحد كان له الرجوع على من زوّجه بجميع [المسمى] (¬4)، إن أجاز الغائب أو بجميع صداق المثل إن لم يجز، وهل يترك لها ربع دينار أو لا يترك شيئًا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يترك لها شيئًا، وهو ظاهر المدونة، بخلاف الغارة التي ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: بيعت. (¬4) في أ: المسلمين.

يترك لها ربع دينار لئلا يخلو البضع عن العوض. والثاني: أنه يترك لها ربع دينار، كما يترك للزوجة، وهذا ضعيف. وربك أعلم. [بمن هو أهدى سبيلا والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ، هـ.

المسألة الثالثة عشرة في أحكام العبد في النكاح وغيره، مما يفتقر في ذلك إلى حد وعدد وغاية

المسألة الثالثة عشرة في أحكام العبد في النكاح وغيره، مما يفتقر في ذلك إلى حد وعدد وغاية وأمر العبد في أحكام الشريعة على أربعة أقسام: قسم منها هو فيه على المساواة بينه وبين الحر بلا خلاف. وقسم منها يكون العبد [فيه] (¬1) على النصف من الحر، بلا خلاف. وقسم منها مختلف فيه، هل العبد فيه على النصف أو على المساواة؟ وقسم منها العبد فيه مخالف للحر، يجب على الحر ولا يجب على العبد. فأما القسم الأول: الذي كان العبد فيه على المساواة مع الحر: [وذلك في] (¬2): الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان، ولا خلاف بين المسلمين في ذلك، وجميع ما يجوز للعبد أن يكفر به على ظاهر المذهب. وأما القسم الثاني: الذي [كان] (¬3) فيه العبد على النصف من الحر، مثل: حد الزنا، فلا خلاف [فيه] (¬4) بين العلماء أن العبد فيه النصف من الحر، لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬5)، والعبد ¬

_ (¬1) في أ: منها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سورة النساء الآية (25).

مساوٍ للأمة في ذلك [بلا خلاف] (¬1) ومثل: الطلاق والعدة [عندنا] (¬2) أيضًا، لأن طلاق العبد عندنا على النصف من طلاق الحر، إلا أن الطلقة لا تتبعض [فكملت] (¬3) عليه تطليقتان. وكذلك العدة في ذوات الحيض، لما كانت الحيضة لا تتبعض، [كملت عليه حيضتان] (¬4). وأما القسم الثالث المختلف فيه: هل العبد مساوٍ للحر أو مخالف له [فمثل ما يباح له] (¬5) من عدد النساء في النكاح، فقد اختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أن العبد يتزوج أربعًا حرائرًا كُنَّ أو إماءً، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه لا يتزوج إلا اثنتين على النصف [من الحر] (¬6)، وهي رواية ابن وهب عن مالك في كتاب ابن المواز، وهو مذهب الليث بن سعد. واختلف أيضًا في الأجل إذا آلي أو اعترض عن زوجته أو فقد، وفي [عدد] (¬7) حده إذا قذف [رجلًا] (¬8)؟ على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: على مذهبنا. (¬3) في أ: وكملت. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: أقل. (¬8) في هـ: حرًا.

أحدهما: أن العبد في [جميع] (¬1) ذلك على النصف من الحر، أجله في الإيلاء شهران، وفي العنة ستة أشهر [وفي الفقد سنتان] (¬2)، وفي قذف الحر أربعون [جلدة] (¬3)، وهو المشهور، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أن العبد في جميع ذلك مساوٍ للحر، وهو القول الذي حكاه ابن شعبان في [كتاب] (¬4) "الزاهي". وسبب الخلاف: اختلافهم في هذه التحديدات، هل شرعت لمعنى أو لغير معنى؟ فمن رأى أن ذلك لمعنى قال: لا فرق بين الحر والعبد لوجود ذلك المعنى [في الجميع وذلك] (¬5)، أن أجل العنة إذا قلنا إنما قيد بسنة ليعالج نفسه في الأزمنة الأربعة، لإمكان أن يكون أحد الفصول [أرفق] (¬6) له في العلاج وأنجح للدواء. وقيد أجل المولى بأربعة أشهر، لأنها مدة يلحق فيه الضرر بالزوجة، ويتبين [فيه] (¬7) الصبر عليها، [ولا] (¬8) يختلف حالها في ذلك، [وإذا] (¬9) كان الزوج حُرًا أو عبدًا، فكان من حقه ألا يطلق عليه قبل الوقت الذي ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: أوفق. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: فلا. (¬9) سقط من أ.

يلحقه الضرر فيه. وقيدت المدة بأربع سنين في الفقد؛ لأنها مدة يبلى فيها أمر الزوج، فكان من حقه إذا كان عبدًا ألا يقصر به عن ذلك، ويحد ثمانين إذا قذف حرًا؛ لأن ذلك من حق المقذوف [الحر] (¬1) حماية، وليس كذلك إذا كان المقذوف عبدا، والأصول موضوعة على أن المعتبر في الحد: حُرمة المقذوف [لا حرمة القاذف] (¬2)، ولذلك لا حد على من قذف صبيًا أو عبدًا أو كافرًا. فإذا كان الأمر هكذا، وجب ألا ينقص العبد عن ثمانين إذا قذف حرًا مسلما [وانتهك] (¬3) حرمته. وأما القسم الرابع: الذي يجب على الحر، ولا يجب على العبد، كالزكاة والحج، فلا خلاف أن العبد غير مخاطب [بالزكاة ولا بالحج، وإن كانت عنده أموال وافرة ما دام في قيد الرق وكذلك العتق في الأيمان عندنا أيضًا فإنه غير مخاطب] (¬4) به أيضًا، فهذا مما يجب على الحر ولا يجب على العبد، [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: وهتك. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من: ع، هـ.

المسألة الرابعة عشرة في نكاح الإماء، ونكاح الحر الأمة

المسألة الرابعة عشرة في نكاح الإماء، ونكاح الحر الأمة لا يخلو من أحد وجهين: أحدهما: أن تكون الأمة ممن يعتق ولده منها. والثاني: أن تكون ممن يرق ولده [منها] (¬1). فإن كانت الأمة ممن يعتق ولده منها، كأمة الأب والأم والجد والجدة: فإنه يجوز له أن يتزوجها من غير اعتبار الشرطين، لأن العلة التي من أجلها منع من نكاح الحر الأمة معدومة، وهي استرقاق الولد، وقد نص عليها مالك -رحمه الله- في "المبسوط" للقاضي. وعلى هذا المعنى حمل حُذَّاق المتأخرين مسألة "الكتاب" في تزويج الابن أمة أبيه: أن ذلك جائز ابتداءً، مع وجود الطَّوْل وأمن العنت. ولا يعترض على ذلك بمنعه الأب من تزويج أمة ابنه. وإن كانت العلة التي هي استرقاق الولد معدومة، لكنه منعه لعلة أخرى، وهي الشبهة التي تثبت للأب في مال ولده، ألا ترى [أنه] (¬2) لا يحد إذا وطأ أمة ولده، ولا يقطع إذا سرق [منه] (¬3)، وقد ثبت من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك" (¬4) ما يقطع العذر. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: أن الأب. (¬3) في هـ: مال ابنه. (¬4) أخرجه ابن ماجه (2291) وأحمد (6902)، وصححه الألباني رحمه الله تعالى.

وإن كانت الأمة ممن [يرق] (¬1) ولده منها: فهل يجوز للحر أن يتزوجها أم لا؟ المذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه لا يجوز إلا بشرطين: عدم الطول، [وخوف] (¬2) العنت، وهو مشهور قول مالك. والثاني: أنه يجوز مع عدم الطول والأمن من العنت، وهو مشهور قول ابن القاسم، وأحد قولي مالك. والقول الثالث: الكراهة. والقول بالمنع أنه منع تحريم، وبه قال أشهب وابن عبد الحكم، وهو قائم من "المدونة" من قوله: يفسخه. والقول بالإباحة ابتداء من غير اعتبار الشرطين [قائم من المدونة من قوله: إن نكاح الأمة على الحرة جائز، وقال ابن القاسم] (¬3) في "كتاب الأيمان بالطلاق" حيث قال: آخر ما فارقنا عليه، مالكًا [رحمه الله] أن نكاح الأمة على الحرة جائز، والخيار للحرة. والقول بالكراهة قائم من "المدونة" من رواية ابن القاسم وابن وهب، ولا ينبغي للحر أن يتزوج أمة، وهو يجد طولا لحرة، فحمله على الكراهة. وسبب الخلاف: معارضة دليل الخطاب للعموم: أما دليل الخطاب، فقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ ¬

_ (¬1) في هـ: لا يعتق. (¬2) في هـ: خشى. (¬3) سقط من أ.

الْمُحْصَنَاتِ} (¬1)، [يقتضي أنه لا ينكح الأمة إلا بشرطين عدم الطول وخوف العنت] (¬2) وأما العموم، فقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (¬3)، وذلك يقتضي إنكاحهنَّ لحر وعبد، كان الحر واجدًا أو غير واجد، خائفا العنت أو غير خائف. فمن رجَّح دليل الخطاب قال: لا يجوز إلا باعتبار الشرطين. ومن رجح العموم قال: يجوز من غير اعتبار الشرطين، وعليه يدل قول مالك في "الكتاب" حيث قال: لو [لا] (¬4) ما قالته العملاء قبلي -يريد سعيد بن المسيب وغيره-، لأجزأته، لأنه حلال في كتاب الله تعالى. قال محمَّد: أراه يعني هذه الآية: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}. والطول المعتبر عند مالك: المال، قال الله تعالى: {اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ} (¬5)، يعني: أصحاب الأموال. واختلف المذهب عندنا في الحرة إذا كانت تحته، هل هي طول تمنعه نكاح الأمة إذا خشي العنت على نفسه أم لا؟ على قولين منصوصين في المذهب قائمين من "المدونة": أحدهما: أن للحرة تحته ليست بطول، وهو المشهور في الرواية. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (25). (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة النور الآية (32). (¬4) سقط من أ. (¬5) سورة التوبة الآية (86).

والثاني: أن الحرة طول يمنعه نكاح الأمة، [وهو ظاهر المدونة في قوله: ولا يجوز له أن يتزوج أمة] (¬1)، وهو يجد طولا لحرة على رواية الباء وهو نص ما في كتاب "محمد" في سماع عيسى عن ابن القاسم أيضًا: أن الحرة طول، وفي رواية أخرى، وهو يجد طولا لحرة "باللام"، وهي رواية ابن نافع في "الكتاب"، حيث قال: لأنها لا تتصرف [تصرف] (¬2) المال. وسبب الخلاف: هل النظر إلى كونه غير عزب الذي لا يخشى عليه العنت، إذا كانت عنده زوجة، ثم لا يجوز [له] (¬3) نكاح الأمة، أم النظر إلى خوف العنت جملة، سواء كان عزبا أو متأهلا؛ لأنه قد لا تكون الزوجة الأولى مانعة من العنت، وهو لا يقدر على حرة أخرى تمنعه من العنت، فكان له أن يتزوج الأمة، لأن حاله مع هذه الحرة في خوف العنت، كحاله قبلها، [وتحاصنه] (¬4) إذا خشى العنت من الأمة التي يريد نكاحها. وعلى القول بأن الحرة ليست بطول، وأن المال هو الطول. فإذا قدر على صداق الحرة، وعجز عن نفقتها، هل هو واجد للطول أو عاجز عنه؟ قولان: أحدهما: أنه واجد للطول، وأن نكاح الأمة لا يجوز له، وهو قول مالك في "كتاب محمَّد" على ما نقله [ابن أبي زيد] (¬5) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: كمصرف. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، جـ: وتخاصمه. (¬5) في ع، هـ: أبو محمَّد.

في "النوادر". والثاني: أنه لا يكون واجدًا حتى يقدر على الصداق والنفقة وسائر مؤن النكاح وكلفه، وهو قول أصبغ في "الواضحة". واختلف في القدرة على نكاح حرة كتابية، هل هو طول يمنعه [من] (¬1) نكاح الأمة [أم لا] (¬2)؟ على قولين: أحدهما: أن الحرة الكتابية مقدمة على نكاح الأمة، وأنها طول. والثاني: أن الأمة مقدمة على الحرة الكتابية، وأنها ليست بطول، والقولان مخرجان في المذهب. وسبب الخلاف: معارضة دليل الخطاب لعموم الإباحة: ودليل الخطاب قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ [أَيْمَانُكُمْ] (¬3)} (¬4)، فمفهومه: أن ما عدا الحرائر المؤمنات لا يمنعه من نكاح الإماء، لتخصيص الله لهن في الآية. وأما عموم الإباحة فقوله له تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬5) فساوى الله تعالى بينهم. فمن رجح العموم على دليل الخطاب قال: تقدم الحرائر الكتابيات على الإماء المسلمات، وإليه مال حُذَّاق الشافعية. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة النساء الآية (25). (¬4) زيادة من ع، هـ. (¬5) سورة المائدة الآية (5).

ومن رجح دليل الخطاب على العموم قال بتقديم الأمة على الحرة الكتابية. والأول أظهر؛ لأن العلة إرقاق الولد وذلك معدوم في الحرة الكتابية. وعلى القول بأنه لا يتزوج الأمة إلا مع عدم الطول وخشي العنت. فإذا تزوجها بوجود الشرطين ثم أمن من خوف العنت فلا خلاف أعلمه في المذهب أنه لا يلزمه أن يطلقها إذ لا تؤمن عودة [العلة] (¬1) وقد يطلقها ثم يعود عليه العنت [فيتزوجها] (¬2)، فيكون ذلك من باب الضرر [به] (¬3). وأما إن قدر على صداق حرة، هل يلزمه أن يطلق الأمة التي تحته [أم لا يلزمه] (¬4)؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يلزمه، وهو قول مالك [رحمه الله] (¬5). والثاني: أن ذلك يلزمه، لأنه بتزويج الحرة حرمت الأمة، وهو قول ابن حبيب. وسبب الخلاف: الاستدامة، هل هي كالإنشاء أم لا؟ فمن رأى أن الاستدامة كالإنشاء [قال: يجبر على الفراق، ومن رأى أن الاستدامة ليس كالإنشاء] (¬6)، قال: لا يجبر على الفراق. فعلى القول بأنه لا يلزمه أن يطلق، وأنه يجوز له أن يتزوج الأمة ¬

_ (¬1) في هـ: العنت. (¬2) في ع، هـ: ثم يتزوجها. (¬3) في ع، هـ: له. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من ع، هـ. (¬6) سقط من أ.

ابتداء، من غير اعتبار الشرطين، كما هو مشهور قول ابن القاسم. فإذا تزوج حرة على أمة، ولم تعلم الحرة بها، هل لها الخيار أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا مقال لها؛ لأنها دخلت على أن الأمة من نسائه. والثاني: أن للحرة الخيار في نفسها لما يلحقها من المعرَّة في كونها ضُرَّة الأمة، وذلك بَخْسٌ في حقها، وضرر لاحق بها، وهو تأويل التونسي، وهو ظاهر قول مالك في العبد يتزوج أمة على حرة: أن للحرة الخيار مع علمها أن الأمة من نسائه، ومع ذلك جعل لها الخيار، وما ذلك إلا للمعرَّة التي تلحقها في مشاركة الأمة. فإذا أبيح له نكاح الأمة بوجود الشرطين، هل يجوز له الزيادة على واحدة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يجوز له أن يتزوج من الإماء ما بينه وبين أربع، وهو قول مالك في "المدونة" و"الموَّازية". والثاني: أنه لا يتزوج أكثر من واحدة ولا يزيد عليها إلا إن دعته الحاجة إلى ذلك، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". وسبب الخلاف: اختلافهم في نكاح الإماء، هل هو أصل في نفسه أو مستثنى من الأصول المحظورة؟ فمن رأى أنه أصل في نفسه، وأن دليل الإباحة [قد تناوله] (¬1) قال ¬

_ (¬1) سقط من أ.

[بجواز] (¬1) الزيادة على واحدة، لأن الحظر إذا رفع رجع الشيء إلى أصله، حتى كأنه لم يتقدم فيه الحظر قط، وكيف لا، وقد قالت جماعة [من] (¬2) العلماء بجواز نكاح الأمة ابتداء، من غير أن يتوقف جوازه على حصول شرط. ومن رأى أنه من الأصول المستثناة قال: لا يجوز الزيادة على الواحدة إلا للضرورة. وعلى القول: بأنه لا يجوز للحر أن يتزوج حرة على أمة أو أمة على حرة [إلا بشرطين، وإذا تزوج الرجل أمة على حرة أو حرة على أمة] (¬3)، هل يكون الخيار في ذلك للحرة [أم لا] (¬4)؟ فالمذهب على خمسة أقوال: أحدها: أن الحرة بالخيار في نفسها، كانت أولًا أو آخرًا، وهو أحد قولي مالك في "المدونة" وغيره. والثاني: أنها إن كانت آخرا: فلها الخيار في نفسها، وإن كانت أولًا فلها الخيار في الأمة، وهو قول المغيرة وابن دينار وابن الماجشون، وابن نافع. والثالث: أنها إن كانت الأمة هي الداخلة عليها فلها الخيار في نفسها، وإن كانت هي الداخلة على الأمة فلا خيار لها، وهو ظاهر قول مالك في "المدونة" أيضًا. ¬

_ (¬1) في ع، هـ: تجوز. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ع، هـ: أو لا خيار لها.

وذلك أن التفريط من جهة الحرة في الاستقصاء والكشف عن حاله، هل كانت تحته أمة أم لا؟ فلما كان التفريط من جهتها كان وبال الغرور عليها، وإلى هذا التعليل ذهب بعض المتأخرين، وزيفه بعضهم، وذلك أن تزويج الحر الأمة نادر، والنادر لا حكم له. والرابع: أنها إن كانت الأمة هي الداخلة عليها: فسخ نكاحها ولم يجز. وإن كانت هي الداخلة على الأمة: فسخ نكاح الأمة أيضًا، فنكاح الأمة على هذا القول مفسوخ من كل وجه، وهذا على القول بأن الحرة طول، وهو أحد قولي مالك في "العتبية" وغيرها: إذا كانت الأمة هي الداخلة [على الحرة أن نكاحها مفسوخ وهو قول مالك في أول كتاب النكاح الثالث، فإن كانت الأمة هي الداخلة] (¬1) عليها: فسخ نكاح الأمة لوجود الطول، وهو نص [قول] (¬2) ابن حبيب في "واضحته"، وحكاه عن أكثر أصحاب مالك: أن الحرَّ إذا تزوج حرة وتحته أمة: أن نكاحها مفسوخ. والخامس: أنها إن كانت الأمة هي الداخلة على الحرة: فسخ نكاحها، وإن كانت الحرة هي الداخلة على الأمة: لم. يفسخ نكاح الأمة، وهو قول مالك. وفي المسألة قول سادس: أن الحرة تخير بين أن ترضى بالمقام مع الأمة أم لا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن رضيت فلا كلام. وإن لم ترض: كان الخيار للزوج يطلق أيتهما شاء، وهو اختيار اللخمي. وسبب الخلاف: اختلافهم في الجمع بين الحرة والأمة في عصمة النكاح، هل ذلك على معنى التحريم أو على [معنى] (¬1) الكراهة؟ فإن قلنا: أن ذلك على معنى التحريم فلا خيار في ذلك للحرة، لأن ذلك حق لله تعالى. وإن قلنا: أن ذلك على معنى الكراهة: كان ذلك حق [للحرة] (¬2)، من حيث إنه نكاح منعقد على انحلال أحد العقدين، إما الأول وإما الثاني، بعقد يؤثر في وهن نفسه أن يكون مكروها. وكون الحرة تارة يكون لها الخيار في نفسها على قول، وتارة يكون لها الخيار في الأمة على قول، وتارة فرق بين أن يكون أولًا أو آخرا على قول، وذلك كله استحسان [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ، جـ: وجه. (¬2) في أ، جـ: للزوجة. (¬3) زيادة من ع، هـ.

المسألة الخامسة عشر في الغارة

المسألة الخامسة عشر في الغارَّة وإذا تزوج امرأة على أنها حرة فإذا هي أمة فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون الغرور منها. والثاني: أن يكون الغرور من غيرها. فإن كان من غيرها، مثل: أن يغره رجل [فيزوجه امرأة على] (¬1) أنها حرة، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يغره بالقول والفعل. والثاني: أن يغره بالقول دون الفعل. والثالث: عكس الثاني. فإن كان غرورًا بالقول والفعل، مثل أن يخبره بأن هذه حرة وعقد له نكاحها، فلا خلاف أعلمه في المذهب أن هذا الغرور يلزم الغار، ويرجع الزوج عليه بالصداق، وإن كان بعد البناء. واختلف هل يترك له ربع دينار أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يرجع عليه بجميع الصداق، ولا يترك له شيء لا ربع ولا غيره، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب النكاح الأول"، ونص قوله في "كتاب الاستحقاق". والثاني: أن يترك له ربع دينار، كما يتركه لها لو كانت هي الغارة وهو ¬

_ (¬1) في أ: فيخبره.

قول بعض المتأخرين. ولا وجه لما قاله: لأن الغار [إنما يترك لها ربع دينار] (¬1) لئلا يخلو البضع [عن] (¬2) العوض، وذلك المعنى معدوم في الغار. وأما إن كان غروره بالقول دون الفعل، مثل أن يخبره بأنها حرة، وتولي [غيره] عقد نكاحها، فهل يرجع على الغار بالصداق أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا يرجع عليه بشيء، وهو نص قوله في "كتاب النكاح [الثاني] (¬3) " في هذه المسألة، ونص قوله [أيضًا] (¬4) في "كتاب تضمين الصُنَّاع". فيمن سأل خياطًا قياس ثوب، فزعم أنه يقطع قميصا، فابتاعه بقوله، فلم يقطع قميصا [منه] (¬5)، أو أرى دراهم للصيرفي، فقال: هي جياد، فتلفا ردية، فقال ابن القاسم: فإن غرَّ من أنفسهما عوقبا، ولم يغرما. والقول الثاني: أنه يرجع عليه بما غرم من الصداق، وهو ظاهر قوله في "كتاب النكاح الثاني"، في مسألة الأخوين إذا تزوجا أختين، فإن دخلت امرأة كل واحد منهما إلى غير زوجها، حيث قال: لكل واحد منهما صداقها على الذي وطئها، ويرجع به الواطئ على الذي غرّه، فهذه قوله في "الكتاب": بالغرم بالغرور بالقول، إذْ ليس هناك إلا القول خاصة، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: من. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

وكل واحدة منهما أرشدت إلى من تدخل عنده وتنحو نحوه. وعلى هذا الاستقراء عقد بعض حُذَّاق المتأخرين في استخراج الغرم بالغرور بالقول من "الكتاب". والقولان منصوصان في المذهب، والصواب: القول بالغرم به عند أكثر شيوخ المذهب. -ويؤخذ أيضًا الغرم بالغرور بالقول من "كتاب الجعل والإجارة"، ومن "كتاب الرواحل والدواب": إذا غر [الجمال] (¬1) بضعف الجبال وعثور الدابة، ولم يبين للمكترى، حيث قال: إنه يضمن ما كان من سبب ذلك، وإن لم يباشر [الجمال ذلك] (¬2) بيده. وينبني الخلاف على الخلاف [في الغرور] (¬3) بالقول، هل يلزم أم لا؟ وإن كان غروره بالفعل دون القول: فمنصوص [المذهب على] (¬4) أنه يلزم الغرم به. وينبغي ألا يختلف في هذا الوجه، كاجتماع الفعل والقول، إلا أن بعض المتأخرين أشار إلى دخول الخلاف في ذلك، كالقاضي أبي بكر بن العربي وغيره، وما أظن ذلك إلا وهمًا من قائله أو غلطا من ناقله. وإن كان الغرور منها، مثل: أن يأذن لها سيدها، فتخبر بأنها حُرَّة، فتزوجها رجل حر [أو عبد] (¬5)، ودخل على ذلك، ثم جاء السيد ¬

_ (¬1) في أ، جـ: الحار. (¬2) في أ، جـ: ذلك الجمال. (¬3) في أ، جـ: بالغرور. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

فاستحقها: فلا يخلو من أن يكون ذلك قبل البناء أو بعده: فإن كان قبل البناء: فالخيار للزوج، حرًا كان أو عبدًا، إن شاء طلّق وإن شاء أمسك. وإن كان بعد البناء: فلا يخلو الزوج من أن يكون حرًا أو عبدًا: فإن كان حرًا: فهو بالخيار، إن شاء أمسكها وإن شاء [طلَّقها] (¬1): فإن أمسكها: كان لها [الصداق] (¬2) المسمَّى. وإن [فارقها] (¬3): فاختلف ما الذي يكون لها من الصداق؟ على خمسة أقوال: أحدها: أنه يكون لها الأقل من المسمى أو صداق المثل، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أن لها الأكثر، وهو قول أشهب في "الموازية"، ولابن القاسم مثله في "العتبية". والثالث: أن لها صداق المثل، ويكمل لها على المسمى، وهو قول ابن القاسم وأصبغ ومحمد في "النوادر". و [القول] (¬4) الرابع: أنه ليس لها إلا ربع دينار خاصة، وهو قول ابن الموَّاز. والخامس [من الأقوال] (¬5): إن كان المسمَّى مثل صداق مثلها أعطيت ¬

_ (¬1) في ع، هـ: فارقها. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع، هـ: اختار الفراق. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من ع.

ما بين صداق حرة وأمة، نصف صداق أمة ونصف صداق حرة، وهذا القول حكاه سحنون عن ابن القاسم في "النوادر"، ولم يسم قائله. فوجه القول الأول: أن لها الأقل؛ لأن ذلك عدل بين الزوج والسيد. فإن كان المسمى أقل: فقد رضي به الزوج أولًا. وإن كان صداق المثل أقل: فقد دخل السيد على ذلك حين أذن لها ببيع سلعتها [في النكاح] (¬1). فإذا باعتها بقيمة أمثالها، فلا مقال لسيدها. ووجه القول الثاني: أن لها الأكثر، بناء على تغليب حق السيد، والتفريط جاء من جهة الزوج لترك الاستقصاء؛ لأن السيد وكَّلها على بيع تلك المنافع كبيعها لخدمتها. فإن خانت كان للسيد أن يرد محاباتها؛ لأنها حابت في ملك. وهذا القول والأول هما أمثل الأقوال وأقربهما إلى الصواب. ووجه القول الثالث: أن ليس لها إلا المسمى، قال كما لو زنا بها طائعة، وبهذا استدل قائل هذا القول -الذي هو أشهب- إلا أنه توجيه ضعيف وقياس رهيف، لأن قياس النكاح على الزنا قياس فاسد. والزنا: إنما يعتبر فيه ما نقص منها، فإن لم ينقصها فلا شيء لسيدها. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ووجه القول الرابع: [أن ليس لها إلا ربع دينار] (¬1) لأن الغرور من جهة السيد حين لم يعرف بحالها، ولا أشهر أمرها، فكان التفريط من جهته. وأما القول الخامس: الذي جعل لها نصف صداق أمة ونصف صداق حرة: فلا وجه له فيما ظهر لنا. فإن اختلف الزوج والسيد، فالسيد يدعي أن الزوج علم أنها أمة، والزوج يقول: إنما ظننت أنها حرة، فالقول قول الزوج، وعلى السيد البينة [على] (¬2) ما يدعيه، وهو قول أصبغ عن ابن القاسم في "العتبية". [قال أصبغ] (¬3) ولو أقرَّ الزوج [الآن] (¬4) أنه عالم أنها أمة، وقد فشا [وعُرف] (¬5) [في السماع] (¬6) أنها غرَّته بأنَّها حرة، فلا يصدق [إلا] (¬7) على ما يدفع عن نفسه، من غرم قيمة ولده، ولا يقبل فيما يريد من [إرفاقه] (¬8)، وإن صدقه السيد على ذلك. ولا فرق في جميع ما ذكرناه من الخلاف في الصداق وغيره، من أن تكون [الأمة] (¬9) الغارة ممن سبق فيها عقد من عقود الحرية، كالإيلاد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ع، هـ: واشتهر. (¬6) سقط من أ. (¬7) في جـ، هـ: الآن. (¬8) في ع، هـ: إرفاقهم. (¬9) سقط من أ.

والتدبير [والكتابة] (¬1) والعتق إلى أجل، [أولا] (¬2) فيها كالأمة القنية، وإنما تختلف أحكام هذه الأشياء في قيمة الولد، إن كان هناك. فإن ولد الزوج مع هذه الأمة التي غرته بالحرية ولدًا، فلا يخلو سيد الأمة من أن يكون ممن يعتق عليه ما ولدته [أمته] (¬3) من زوجها أم لا: فإن كان ممن يعتق عليه بالملك إذا ملكه، كأمة الأب والابن يغران من أنفسهما: فعلى الابن صداق أمة أبيه، على الخلاف الذي قدمناه في مقداره [و] (¬4) على الأب قيمة أمة ولده، ولا شيء عليها من قيمة الولد اتفاقا؛ لأن ولد أمة الأب عتق على حدة، وولد أمة الابن عتق على أخيه. وإن كان السيد ممن لا يعتق عليه ما ولدته هذه الأمة من زوجها، وكانت أمة قنية لا حرية فيها، فإنَّ الزوج يغرم قيمة الأولاد. واختلف المذهب، هل يغرم قيمتهم يوم الولادة أو يوم الحكم؟ على قولين: أحدهما: أنه يغرم قيمتهم يوم الولادة، وهو قول المغيرة في "كتاب ابن حبيب". والثاني: أن [عليه] (¬5) قيمتهم يوم الحكم، وهو مشهور المذهب، وهو مذهب "المدونة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ولم. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: عليهم.

فعلى القول بأنه يغرم قيمتهم يوم الولادة، فإن ماتوا بعد ذلك أو قتلوا عمدًا، فلا يسقط موتهم ما وجب عليه من القيمة. وعلى القول بأن القيمة لا تجب عليه إلا بالحكم، فإن ماتوا قبل الحكم أو قتلوا عمدًا: فلا شيء على الأب من قيمتهم. فإن قتلوا خطأ أو صالح [الأب] (¬1) في العمد على مال فأخذه من القاتل، فإنه يغرم الأقل من القيمة أو ما أخذ من الدية. فإن كان الولد يوم الحكم حيًا، فإنه يقوم على ما سوى ذلك اليوم: أن لو كان [عبدًا فيئا]، يجوز بيعه ويغرم الأب تلك القيمة، وإن كانت أكثر من الدية. واختلف هل يُقَّوم [الولد] (¬2) بماله [أم لا] (¬3)؟ على قولين: أحدهما: أنه يقوم بغير ماله، وهذا القول قائم من "المدونة"، من قوله: إن كان الأب معسرًا والابن موسرًا غرم الابن القيمة من ماله، ثم لا يرجع بذلك على أبيه. فلو كان الابن يقوَّم بماله لما أمكن أن يكون في أموالهم قيمتهم بأموالهم، لأن ذلك يقتضي أن يخرج من أموالهم أكثر من أموالهم، وذلك محال على كل حال. والثاني: أن الولد يقوَّم بماله، وحكاه بعض المتأخرين رواية، ولم يوقف عليها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع، هـ: أم يقوم بغير ماله.

فإذا قوم بماله أو بغير ماله على الخلاف، فلا يخلو [حينها] (¬1) من ثلاثة أوجه: إما أن يكونا معا موسرين. أو معسرين. أو أحدهما معسر والآخر موسر. كانا موسرين معا الأب والولد [أو الأولاد إن كانوا عددًا، فإن القيمة تؤخذ من مال الأب باتفاق المذهب ثم لا يرجع بذلك على الابن وكذلك إن كان الأب موسرًا والابن معسرًا الجواب واحد، فإن كانا معسرين] (¬2) فالقيمة تؤخذ من أولهما يسرًا [إن كان] (¬3) الأب على [الاتفاق] (¬4)، و [إن كان] (¬5) الابن علي الخلاف. وإن كان الابن موسرًا والأب معسرًا، فهل تؤخذ القيمة من الابن أم لا؟ قولان منصوصان في "المدونة": أحدهما: أن القيمة تؤخذ من مال الابن، لأنها عنه أديت، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه لا شيء على الولد، ولا يؤخذ من ماله شيء، ويتبع بذلك الأب، وهو قول الغير في "كتاب الاستحقاق". وكذلك من كانوا جماعة أولاد، فإن الموسر منهم لا يؤدي عن المعسر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: من. (¬4) في أ: الوفاق. (¬5) سقط من أ.

باتفاق من ابن القاسم والغير. وإيجاب المسألة بجميع أصولها وفصولها يأتي في "كتاب الاستحقاق" إن شاء الله تعالى. فإن كانت الغارة هي أم ولد، ولها من زوجها الذي غرته، فلا يخلو الولد من أن يكون حيًا أو ميتًا. فإن كان حيًا، فقد اختلف في قيمته على أربعة أقوال: أحدها: أن الأب يغرم قيمة الولد لسيد الأمة على الرجاء والخوف، وهو نص "المدونة". والثاني: أنه يغرم قيمة عبد لا عتق فيه، بمنزلة ما لو قتلت [أمه] (¬1)، وهو قول ابن الماجشون. والثالث: أن على الأب قيمته يوم ولد، وهو قول المغيرة. والرابع: التفصيل بين أن يكون الولد صغيرًا أو كبيرًا. فإن كان صغيرًا لا خدمة فيه: فلا شيء على الأب حتى يطيق، فإذا أطاق الخدمة: غرم أجرة كل يوم، وكلما كبر زاد الأب أجرته، وهو قول مالك في "ثمانية أبي زيد"، ولمطرف عن مالك في "الواضحة" مثله. وهذا كله في حياة السيد. فإن مات السيد سقطت القيمة عن الأب وعن الابن باتفاق جميع الأقوال إلا المغيرة؛ لأن القيمة عنده وجبت بنفس الولادة، من غير التفات إلى من مات بعد ذلك من سيد أو أب أو ولد. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فعلى القول بأن الأب يغرم قيمة الولد على الرَّجاء والخوف، فقد اختلف المتأخرون في الرَّجاء المعتبر، ما هو؟ على قولين: أحدهما: أن الرَّجاء فيهم أن تطول حياتهم، ويعيشون ويعيش سيدهم، وتحصل بالخدمة الكثيرة لمشتريهم أن لو جاز بيعهم على هذا. والخوف ما يخشى أن تخترمهم المنية أو تخترم سيدهم بفور عقد البيع، وقبل أن ينتفع المشتري بخدمتهم. وهذا تأويل ابن أبي زمنين وغيره، وهو أسعد بظاهر "الكتاب". والثاني: أن الرَّجاء المعتبر أن الولد المشترى لعله يقتل فيأخذ المشتري [قيمة عبد] (¬1)، أن لو جاز بيعه على هذا المعنى، وهو تأويل فضل بن سلمة. والأول أظهر. فعلى تأويل ابن أبي زمنين: إذا قتل الولد، فأخذ أبوه ديته أنه يُقَوِّم عليه السيد الأمة [قيمة عبد] (¬2)، لا على الرَّجاء والخوف [وكذلك قال حمديس] (¬3)؛ لأن الرَّجاء قد انقطع بموت الولد، [وكذلك قال أحمد بن مزين] (¬4) وإلى هذا ذهب بعض الشيوخ. وإن كان أبو محمَّد بن أبي زيد قال في "المختصر" يريد على الرَّجاء والخوف. ¬

_ (¬1) في ع، هـ: قيمته عبدًا. (¬2) في ع، هـ: قيمته عبدًا. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب.

ووهم الشيخ أبو عمران قوله في ذلك جدًا، وصوبه غيره من المتأخرين. وإن كان الولد ميتا، فلا يخلو من أن يموت حتف أنفه أو مات مقتولا: فإن مات حتف أنفه قبل الحكم، فلا شيء على الأب من قيمته، إلا على قول المغيرة القائل [بأن القيمة تجب بالوضع وقد قدمناه. فإن كان عمدًا فلا شيء على الأب أيضًا. وإن كان خطئا فعليه الأقل مما أخذ من قيمته على الخلاف الذي قدمناه. فإن كانت هي التي عزت من نفسها رجلًا فتزوجها وولد] (¬1) "معها أولادًا"، فلا يخلو من أن يكون النظر في ذلك في حياة السيد أو بعد وفاته: فإن كان النظر في حياته، فقد اختلف في صفة القيمة في الأولاد، على قولين: أحدهما: أن الولد يقوم على الرَّجاء والخوف، خوف الرق إن مات العبد في حياة السيد أو مات السيد وعليه دين [يغترقه] (¬2)، ورجاء العتق إن حمله الثلث، وهو قول مالك في "المدونة" وفي "كتاب محمد". والثاني: أنه يقوم عبدًا لا عتق فيه، كمن ابتاع مُدَبَّرا فأعتقه، وهو اختيار ابن الموَّاز. وإن كان النظر بعد موت السيد، فلا يخلو من أن يكون عليه دين أو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: يرقه.

لا دين عليه. فإن كان عليه دين، فرَّقهما، كانت قيمته قيمة عبد لا عتق فيه. وإن كان لا دين عليه، فلا يخلو من أن يكون له مال سواه أم لا. فإن كان له مال يحمل ثلث قيمة الأم وقيمة الأولاد، فلا شيء على الأب؛ لأن الولد قد عتق قبل أن يجب على الأب من قيمته شيء. وإن لم يكن له مال سواهما، كانت على الأب قيمة ثلثي الولد، وسقطت قيمة الثلث التي عتقت [منه] (¬1). فإن كانت مكاتبة، فقد اختلف في قيمة ولدها على قولين: أحدهما: أنه يؤخذ من الأب قيمته عبدًا، فتوقف، فإن زقوا بالعجز أخذها السيد، وإن عتقوا [رجعوا] (¬2) إلى الأب، وهو قول ابن القاسم في "كتاب محمَّد". والثاني: أن المكاتبة أحق بقيمتهم، فإن [كانت] (¬3) فيها وفاء بباقي الكتابة، دفعت إلى السيد وعجّل عتقهم. وإن لم يكن فيها وفاء، حسبت من آخر الكتابة كالجناية عليها، وهو قول ابن الموَّاز. فإن كانت معتقة إلى أجل، ففي قيمة ولدها قولان: أحدهما: أنه يقوم على الرَّجاء والخوف، رجاء العتق إن عاش إلى انقضاء الأجل، وخوف الرق إن مات قبل انقضائه، وهذا على قول مالك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: رجعت. (¬3) في ع، هـ: كان.

بتقديم الخدمة في "ثمانية أبي زيد". والثاني: أن الأب يغرم قيمة عبدٍ لا عتق فيه، بمنزلة ما لو قتلت أمه، وهو قول عبد الملك. وكل ما ذكرناه في هذا الباب من أن الأب يغرم قيمة الولد، فإنه لا يرجع بذلك على الذي غره باتفاق المذهب، بخلاف الصداق؛ لأنه لم يغره بالولد. وأما إن كان الزوج عبدًا غرته أمة بأنها حرة، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يشترط أنها حرة لو نسبت له أو لعزله بوجه يعلم بأنه [عمل] (¬1) على أنها حرة. والثاني: أن لا يشترط شيئًا، ولا قامت له قرينة تدل على الاشتراط. فإن اشترط الحرية أو قامت له قرينة تدل على الاشتراط: فإنه يرجع بالصداق على من غره، إن كان غره أحد، ثم لا يرجع من غره عليها بشيء كالحر على سواء، ومن حجته أن يقول: دخلت على حرية أولادي، لأن أولاد العبد من الحرة أحرار، ولا يسترق السيد الولد منها، وهو قول ابن الموَّاز. وإن لم يشترط حريتها، ولا قامت له قرينة تدل على الشرط، فهذا لا يرجع بشيء من الصداق، بخلاف الحر في هذا الوجه، لأن الحر له الخيار، اشترط الحرية أم لا، إلا أن يعلم أنها أمة، فدخل على ذلك. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة السادسة عشرة في العيوب التي توجب الرد في النكاح

المسألة السادسة عشرة في العيوب التي توجب الرد في النكاح والعيوب التي يرد بها الزوجان أو أحدهما في النكاح، تنقسم على ثلاثة أقسام: فسم منها يوجب الخيار لمن اطلع عليها، سواء اشترط السلامة أم لا. قسم منها لا يوجب الرد، إلا أن يشترط السلامة. وقسم مختلف فيه، هل يلحق بالأول أو الثاني؟ فالجواب عن القسم الأول: في العيوب التي توجب الرد، اشترط السلامة أم لا، وهي العيوب التي نص عليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهي: الجنون والجذام والبرص وداء الفرج. أما الجنون: فإنه يرد به من به ذلك منهما؛ لأن ذلك علة لا يطيب للزوج [عيش] معها، ولا يستلذ معها بالجماع. وكذلك الجذام والبرص أيضًا، لأنهما علتان تنفر النفس منهما، ويمنعان أحدهما من الإلمام بالوقاع، ولاسيما مما يخاف من عاقبة أمرهما، من أن يتعد ذلك إلى الأولاد والأحفاد. وداء الفرج كذلك أيضًا: لأنه يمنع من الوقاع أو من استيفاء الشهوة. ثم لا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون بأحدهما أو بهما جميعًا. فإن كان بأحدهما، فلا يخلو من أن يكون بالزوج أو بالزوجة.

فإن كان بالزوج: أما الجنون: فلا يخلو من أن يؤذيها ولا يعفها من نفسه أو لا يؤذيها. فإن كان يؤذيها من نفسه ولا يعفها: فلا خلاف في المذهب أنه يحال بينه وبينها، ويؤجل سنة، فإن برأ، وإلا فرق بينهما وكان لها جميع الصداق، ولا فرق في ذلك بين أن يكون قبل البناء أو بعده، ولا بين أن يكون أمر حدث بعد العقد أو كان قبل العقد، وسواء كان يجن مطبقا أو يجن عند رأس كل هلال. فإن كان يعفها من نفسه ولا يؤذيها، هل يكون لها الخيار أو لا خيار لها؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن لها الخيار بعد أجل سنة، فإذا [مرت] (¬1) السنة ولم يبرأ، كان لها الخيار، وهو قول مالك في "المدونة" و"كتاب محمد". والثاني: أنها لا خيار لها إذا أعفاها من نفسه، وهو قول ابن الموَّاز في "كتابه"، وهو قول مثل قول ربيعة في "الكتاب". وأما الجذام: فلا يخلو من أن يحدث قبل الدخول أو بعده: فإن حدث قبل الدخول، فإن تبين أنه جذام لا شك فيه: كان لها الخيار اتفاقا [ووفاقا] (¬2) من غير تفصيل بين القليل والكثير، وهو ظاهر "المدونة" وتفسير ابن وهب في "العتبية". وإن شك في أمره ولم يتبين لها أمره: فلا خيار لها بالشك. وإن كان بعد الدخول: فلها الخيار في كثيره اتفاقا، وهل لها خيار في ¬

_ (¬1) في ع، هـ: مضت. (¬2) سقط من أ.

يسيره؟ قولان: أحدهما: أن لها الخيار في يسيره، كما كان في كثيره، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أنها لا خيار لها في يسيره، وهو ظاهر قول أشهب في "النوادر"؛ لأنه قال: وليس للجذام حدًا إلا أنه إذا كان متفاحشًا، لا يحتمل النظر إليه، وتغض الأبصار دونه فلها الخيار، فظاهر هذا: أنه إذا كان شيئًا يسيرا [مما] (¬1) لا يصل إلى هذا الحد، فلا خيار لها، وكذلك نقل اللخمي: أنه لا يفرق من قليله، حتى يتناهى ويتفاحش، لأنه قد اطلع عليها، فلا يعجل بالفراق. وأما البرص: فقد اختلف المذهب في الرد به على أربعة أقوال: أحدها: أنه عيب يوجب الخيار للزوج، يسيرًا كان أو كثيرًا، حدث بعد العقد أو قبله أو بعد الدخول، وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب النكاح الأول"، وهو ظاهر قول عمر - رضي الله عنه -. والثاني: أنه لا يرد به الزوج، ولا يوجب الخيار للزوجة، سواء كان قبل العقد أو حدث قبل الدخول، وهو قول أشهب عن مالك في "كتاب ابن الموَّاز"، وهو قول ابن القاسم في كتاب "بيع الخيار" من "المدونة". والقول الثالث: أنه يرد به إذا كان قبل العقد، ولا يرد به بعد الدخول إن حدث، وإن كان شديدًا، وهو قول ابن القاسم في "النوادر"، وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب بيع الخيار"، على تأويل بعضهم. والرابع: أنه يرد به [قبل] (¬2) العقد والدخول، وإن كان خفيفا، ولا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بعد.

يرد بما حدث بعد الدخول إلا أن يكون شديدًا فاحشًا لا صبر لها معه، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في "العتبية"، وهو قول ابن حبيب في "الواضحة". والخلاف: الذي أوردناه في هذه المسألة لا مستند له ولا مأخذ على الحقيقة، ولا بأس أن يقول القائل: إن الخلاف ينبني على الخلاف في قول عمر - رضي الله عنه -، هل هو معلل أو غير معلل؟ فمن قال: إنه معلل بالإذاية وما يخشى من الترامي في الأولاد والأحفاد، قال: بوجوب الخيار [لها] (¬1) فيما كان يخشى ذلك منه مما يسري إلى الأبدان، وما يسري إلى إسقاط الاستمتاع وإلي منع استيفائها. وإن كان قبل البناء، فلا ضرر عليها في الفراق. وإن كان بعد البناء، فإن كثرت الإذاية، آثر الشرع إزالتها على الضرر الذي يلحقها في كشف الزوج عنها وإن قلت الإذاية: كان موضع [الترجيح] (¬2) لذي النظر. ومن رأى أنه غير معلل، قال: لا فرق بين اليسير والكثير. وأما داء الفرج: كالجبة والعنة وما كان في معناهما من الخصي والاعتراض. فأما المجبوب الممسوح [أو] (¬3) المقطوع الذكر أو الحشفة أو الحصور أو عنينا الذي آلته كالزر على تفسير أهل اللغة، دون تعارف الفقهاء أو من لا يتأتى منه الاستمتاع أصلًا: فلا خلاف في وجوب الخيار. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الترجي. (¬3) سقط من أ.

وأما المعترض: فإن لها فيه الخيار غير أنه يؤجل سنة، فإن برأ سقطت حجتها، وإن لم يبرأ فلها الرد، وكان لها جميع الصداق. وتمام المسألة المعترض في "كتاب النكاح الثاني" إن شاء الله. واختلف في الخصي القائم الذكر، على قولين: أحدهما: أن لها الرد، وهو قول مالك. والثاني: أنه لا يرد به، لأنه بمنزلة من كان عقيما؛ لأن ذلك لا ينقص من جماعه. فإن كان ذلك بالزوجة: أما الجنون والجذام: فلا خلاف أعلمه في المذهب أنها ترد بهما من غير تفصيل بين القليل والكثير. وكذلك ترد من كثير البرص، واختلف في قليله، على قولين: أحدهما: أنها ترد منه، كما ترد من الكثير، وهو قول مالك في "العتبية"؛ لأنه سئل عن قليل البرص، قال: ما سمعت إلا ما جاء في الحديث. وما الفرق بين قليل ولا كثير. والثاني: أنها لا ترد من قليله الذي أحيط به علمًا أنه لا يزيد، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". وأما داء الفرج: فإنه ينقسم قسمين: قسم يمنع الجماع: كالرتق والقرن. وقسم لا يمنعه: كالعفل والنتن والاستحاضة والإفاضة وحرق النار. والعفل: بفتح العين المهملة وفتح الفاء في النساء، كالإردة في الرجال، وهي بروز اللحم من الفرج.

والقرن: بفتح القاف وسكون الراء، مثله لكنه: قد يكون لحما، وقد يكون عظما. والرتق: بفتح الراء والتاء، تضايق المحل والتحامه. فإذا وجد الزوج شيئًا من هذه العيوب كان مخيرًا بين الإمساك والفراق، إذا كان ذلك شيئًا لا يقبل العلاج، على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى. واختلف فيما خف من تلك العيوب، هل يرد به أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها ترد به، وهو قول مالك في "المدونة" وغيرها. والثاني: أنها لا ترد إلا أن يكون عيبا يمنع اللذة، وهو قول ابن حبيب. وسبب الخلاف: هل المراعى في ذلك ما [يمنع] (¬1) اللذة كلها أو ما يمنع من استيفائها؟ ولا شك أن الجنون والبرص توجد اللذة معهما، ولكنهما يمنعان من استيفائها. فإذا دعا أحدهما إلى المعالجة وامتنع الآخر، فهل يجبر عليها من أباها؛ فلا يخلو ذلك من أربعة أوجه: أحدها: [أن لا] يكون عليها ضرر في المعالجة، ولا عيب بالإصابة بعد العلاج. والثاني: أن يكون عليها ضرر في المعالجة، وفي الإصابة عيب. والثالث: أن يكون عليها ضرر في المعالجة، ولا عيب في الإصابة. والرابع: ألا ضرر عليها في المعالجة، وفي الإصابة عيب. ¬

_ (¬1) في ع، هـ: يقطع.

فإن كان لا ضرر عليها في معالجة الداء وقطعه ولا عيب يستضر به الزوج في الإصابة بعد العلاج: فالقول قول من دعى منهما إلى القطع والعلاج، ويجبر عليه من أباه منهما. فإن طلق الزوج بعد رضاها بالعلاج وقبل أن تفعل: لزمه نصف الصداق. فإن كرهت العلاج، فطلقها الزوج لأجل ذلك: فلا شيء لها؛ لأنه لأجل العيب طلق. فإن كان عليها ضرر في المعالجة وفي الإصابة [عيب] (¬1) بعد ذلك: كان لكل واحد منهما مقال. فلها أن تأبى من العلاج إن دعا إليه الزوج للضرر اللاحق بها. وله ألا يرضى، وإن رضيت بالعلاج لأجل بقاء العيب. فإن كان عليها ضرر في المعالجة، ولا عيب في الإصابة [بعده كان الخيار للمرأة دون الزوج. فإن رضيت بالعلاج سقطت مقالته وإن كرهت فارق ولا شيء عليه. فإن كان لا ضرر عليها في القطع والعلاج وفي الإصابة] (¬2) بعد ذلك [عيب] (¬3)، كان المقال له دونها، إن أحب ألزمها القطع، وإن أحب فارق، ولا شيء عليه. وإذا رد الزوج المرأة بشيء من هذه العيوب، فينظر: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

فإن كان قبل البناءة فلا شيء لها من الصداق ولا نصف ولا غيره. وإن كان بعد البناء: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون الغرور منها. الثاني: أن يكون من وليها. فإن كان منها، فإنها ترد جميع الصداق، إلا ربع دينار. فإن كان الغرور من وليها، فالأولياء في ذلك على ثلاثة أوجه: [وجه]: يحمل فيه جميعهم على العلم بها. ووجه يحمل فيه جميعهم على الجهل بها. ووجه يحمل فيه بعضهم على العلم دون بعض. فأما الوجه الذي يحمل فيه جميعهم على العلم بعيوبها كالجنون والجذام، والبرص إذا كان بموضع لا يخفى من جسدها، كالوجه والذراع والساق، لأن هذه العيوب لا تخفى على الأقارب والجيران، بل لا تخفى على الأباعد؛ لأن الحديث عنه من نساء الأقارب يكثر، حتى ينمو العلم بها إلى الأجانب، فيكون الرجوع في هذا الوجه على الولي دون الزوجة. وأما الوجه الذي يحمل فيه جميع الأولياء [على] (¬1) الجهل، مثل العيوب الكامنة في الفرج، التي لا يتأتي الاطلاع عليها لأحد من الأولياء حتى الأب، مثل أن يكون العيب لا يتميز للأم أو تكون لا أم لها، لموتها قبل ظهور ذلك العيب أو يكون الأب ممن لا ترفع إليه الأم [مثل ذلك] (¬2)، وإن عاشت لقدره وسؤدده، ففي هذا الوجه يكون الرجوع عليها، لكون ¬

_ (¬1) في أ، جـ: في. (¬2) سقط من أ.

الغرور من جهتها دون سائر الأولياء. وأما الوجه الثالث: وهو الذي يحمل فيه بعضهم على العلم وبعضهم على الجهل، كالعيوب التي تواريها الثياب، فهذا مما لا يحمل الأب والأخ على العلم فيه دون سائر الأقارب، وما ذلك إلا لمخالتطهما إياها في الدار، وقلة احتراسها والتحفظ عنهما في كل الأزمان، ولابد لا من غفلة: يكون للزوج الرجوع [عليهما] (¬1) بالصداق إذا عثر على ذلك بعد الدخول، ولا يصدقان إن ادعيا الجهل بذلك. وإن كان الغرور من جهة الولي، وكان معسرًا، هل للزوج الرجوع عليها أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه لا رجوع له عليها، إذ لا يجب عليها أن تخرج فتخبر بعيبها، ولا أن ترسل به إليه، وهو قول مالك. والثاني: أن للزوج الرجوع [عليها] (¬2)، في عدم الولي، ثم لا ترجع عليه هي غرمت، وهو قول ابن حبيب؛ لأنها مدلسة بالعيب. فإن كان [الولي] ممن يمكن أن يعلم بالعيب ويمكن ألا يعلم به، كالعم وابن العم أو هو من العشيرة، فادعى الزوج عليه العلم بالعيب، فأنكره أن يكون قد علم به، فقد اختلف فيه على قولين: أحدهما: أن الولي يحلف، فإن نكل الزوج أنه علم وغر فيما استقر عنده، فإن نكل فلا شيء على الولي ولا على المرأة [لأنه قد] (¬3)، أسقط ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

تباعته على المرأة بدعواه على الولي، وهو قول ابن الموَّاز في كتابه. والثاني: أنه إن حلف الولي رجع الزوج على المرأة، وكذلك إن نكل عن اليمين فللزوج أن يرجع على الولي، ويرجع الولي عليها؛ لأن سلعته المبيعة قد ردت بعيب، وهي مدلسة معه، وإن قدمت إليه في أن يعلم بعيبها، فلم يفعل، رأيت أن يرجع عليها بما بين الصحة والداء وليس [لها] (¬1) أن تبيع معيبا وتأخذ الثمن كاملا، وهو قول ابن حبيب. فإن كانت العيوب بهما جميعًا الزوج والمرأة، فاطلع كل واحد منهما من صاحبه على عيب، وكان ذلك العيب من جنس عيب صاحبه أو [مخالفه] (¬2)، كان لكل واحد [منهما] (¬3) القيام بما اطلع عليه ويظهر له. والجواب عن القسم الثاني: وهو ما لا يوجب الرد من العيوب إلا أن يشترط السلامة، مثل أن يصيبها عمياء أو عوجاء أو مقعدة أو شلاء أو قد ولدت من الزنا أو وجدها بغية أو وجدها ثيبًا أو سوداء أو ما أشبه ذلك، فلا خلاف في المذهب عندنا أن الزوج لا رد له ولا مقال إلا أن يشترط السلامة. فإذا اشترط السلامة، ثم وجد خلاف ذلك، كان له الخيار. فإن اشترط البكارة، فلا يجوز له الإقدام على الدخول إلا على أمر ثبت عنده، مثل أن ينظر إليها النساء، فإن قلن: إنها قائمة البكارة، فلا يقبل للزوج كلام بعد ذلك. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: مخالف له. (¬3) سقط من أ.

وإن قلن: إنها [ذاهبة البكارة] (¬1)، كان الزوج بالخيار في ذلك، ولا أظنهم يختلفون في قبول قول النساء في هذا الوجه، وقبول شهادتهن إذا كن ممن تجوز شهادتهن، بخلاف مسألة "إرخاء الستور"، ومسألة "كتاب الرجم". فإن اشترط البكارة، ودخل بها، وقال: وجدتها ثيبا، فلا يقبل قوله، ولها عليه جميع الصداق. واختلف إذا صدقه الأب أنها قد زالت بكارتها، فأخذ الزوج جميع الصداق، هل للأب أن يسترجعه من الزوج؟ على قولين: أحدهما: أن للأب أن يسترجع منه جميع الصداق، ولا شيء للزوجة، وهي رواية أصبغ عن أشهب في "العتبية"، وظاهر قوله أنه لا شيء للزوج على الأب ولا على الزوجة. والثاني: أنه لا يكون للأب الرجوع على الزوج [بشيء] (¬2) من وجهين: أحدهما: أنه شرط أنها بكر. والآخر: لو لم يشترط، فإن للأب رد الصداق طائعًا، فليس جهله حجة ولا يصدق، ويحمل على أنه أراد الستر، وصار كالفرية وترجع به المرأة على الأب، وهو قول أصبغ في الكتاب المذكور. والجواب عن القسم الثالث: وهو المختلف فيه، هل هو من العيوب ¬

_ (¬1) في أ: ذهبت البكارة منها. (¬2) سقط من أ.

التي توجب الرد مع الجهل به أو من العيوب التي لا توجب الرد إلا أن يشترط السلامة؟ وذلك في أربع: السواد، والقرع، والبخر في الفم، والخشم، وهو نتن الأنف، فقد اختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أنها لا ترد بشيء من ذلك، وهو ظاهر قول مالك. والثاني: أنها ترد من السواد، إذا كانت من بين لا سواد فيهم، وهو كالشرط. وترد بالقرع؛ لأنه مما يستتر [باللفافة] (¬1)، وهو قول ابن حبيب. وترد أيضًا من بخر الفم والخشم وهو ظاهر قول مالك في "مختصر ما ليس في المختصر"، وفي "كتاب ابن الجلاب"، لأنه نص هناك على أنها ترد من نتن الفرج، فبأن ترد من بخر الفم والخشم أولى لقرب مضرته وبعد الآخر. وسبب الخلاف: اختلافهم في قول عمر - رضي الله عنه -: ترد المرأة من أربعة، هل ذلك لمعنى أو لا لمعنى؟ فمن رأى أن ذلك لمعنى قال: بجواز القياس عليها. ومن رأى أن ذلك لغير معنى قال: لا يجب له الرد من سوى الأربعة إلا أن يشترط السلامة، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في ع، هـ: بالعمامة.

كتاب النكاح الثاني

كتاب النكاح الثاني

كتاب النكاح الثاني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [وصلى الله على محمَّد] (¬1). تحصيل مشكلات هذا الكتاب [وهي] (¬2) ست عشر مسألة: المسألة الأولى في اجتماع نكاح وبيع اختلف أرباب المذهب في النكاح والبيع، هل يجوز اجتماعهما في العقد أم لا؟ مثل أن يزوج الرجل المرأة بمائة دينار على أن أعطته عبدًا أو دينارًا أو تزوجها بعبد أو دار على أن أعطته دنانير أو دراهم. ولا شك ولا خفاء أن الذي أصدقها الزوج وسماه بعضه ثمن البضع، وبعضه عوض عما أعطته الزوجة، والقدر الذي [هو] (¬3) عوض للبضع مجهول في الحال. واختلف المذهب عندنا في جواز العقد ابتداء، على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن العقد الواقع على هذا [الوجه] (¬4) صحيح، لا وهم فيه، وهو قول أشهب، وهو ظاهر قول ابن القاسم في مسألة الموضحتين في كتاب الصلح من "المدونة"، لأنه قال هناك: إن النقص المصالح به ينقسم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ع، هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، جـ: النعت.

بين الموضحتين على نصفين، فساوى فيه بين المعلوم الذي هو دية الخطأ، والمجهول الذي يعود به العمد، فكذلك ينبغي أن يكون الحكم عنده في النكاح والبيع. فينقسم الذي سماه الزوج على البضع والعبد الذي أعطته المرأة، على نصفين. فما ناب السلعة فمعلوم؛ لأن قيمتها معلومة، وهي كجناية الخطأ. وقيمة البضع مجهولة، وهي كجناية العمد. فهذا الذي قلناه لازم لابن القاسم. فإن جعلناه من باب جمع السلعتين في البيع جاز أيضًا، إذ لا خلاف أعلمه في المذهب نصًا أنه يجوز الجمع بين السلعتين في البيع إذا كانا لملك واحد، اتفقت قيمتهما أو اختلفت، إلا متأولا وذلك أن المرأة جمعت بين بضعها [وعبدها] (¬1) في صفقة واحدة، فباعت الجميع بمائة دينار. والقول الثاني: أن العقد لا يجوز، فإن وقع ونزل هل يفيته العقد أو لا يفيته إلا بالدخول؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه يمضي بالعقد، وإنما منع ابتداء حماية، وهو أحد قولي مالك في وجه الشغار وصريحه، وما كان صداقه فاسدا في لزوم الطلاق وثبوت الميراث، وهو نص قول مالك في "ثمانية أبي زيد". والثاني: أنه يفوت بالدخول أو يكون لها صداق المثل، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثالث: أنه يوقف حتى ننظر، فإن بقي بعد قيمة السلعة ربُع دينار: فالنكاح جائز، وهو قول عبد الملك في "كتاب محمَّد"، ومثله للغير في "المدونة" في "كتاب النكاح الثاني" من "المدونة"، والزيادة المعتبرة عند الغير إنما هي يوم الصفقة، كذا فسرها ابن حبيب عن مطرف. واختلف أئمتنا -رحمة الله- عليهم في العلة التي لأجلها منع [اجتماع] (¬1) النكاح والبيع في صفقة واحدة: فمنهم من يقول: العلة في ذلك تنافر العقدين وتضادهما؛ لأن البيع مبني على المكايسة والمشاححة، والنكاح مبني على المكارمة والمسامحة. وكل عقدين متضادين وضعا: لا يجوز أن يجتمعا شرعا، فعلى هذا يفسخ من غير اعتبار بالتسمية أن يكون سما لكل عقد منهما عوضا أم لا، خلاف ما ذهب إليه جماعة من مشايخ المذهب: في أنه إذا سمى حين العقد أو لم يسم ووقع الاختيار قبل الدخول، وعلم أنه أبقى للبضع ما تستحل به السلعة: أنه جائز على كل الأقوال. ومنهم من قال: العلة في ذلك [عرو] (¬2) البضع [عن] (¬3) الصداق، وإن استغرقت السلعة جميع ما سمي الزوج من الثمن أو يجهل ما وقع للبضع منه، على قول من يقول بالوقف. وقد أجرى الشيوخ العمل في المسألة على قول الغير على الاختلاف في عمل مسألة الموضحة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: خلو. (¬3) في ع، هـ: من.

وقول الغير: في هذه المسألة [يضاهي] (¬1) قول المخزومي في "مسألة الموضحتين"، وذلك أنه جعل العوض كله للمجهول إلا ما نقص [منه] (¬2) المعقود، وهكذا يظهر مراد الغير في مقتضى قوله في مسألة النكاح والبيع إذا تدبرته. والحمد لله وحده [وصلى الله على محمَّد وآله] (¬3). ¬

_ (¬1) في هـ: أيضًا هو. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الثانية في النكاح بصداق فيه غرر

المسألة الثانية في النكاح بصداق فيه غرر مثل أن يتزوجها على عبد آبق، أو بعير شارد، أو جنين في بطن أمه، أو على ثمرة لم يبد صلاحها، أو على خمر أو خنزير، أو دار فلان، أو بمال على غائب، أو بصداق إلى أجل مجهول: فلا خلاف عندنا في المذهب أنه لا يجوز الإقدام على هذا ابتداء، فإن وقع ونزل ما الحكم فيه؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه يمضي بالعقد من غير اعتبار الدخول، ولا يدخل حتى يفرض لها صداق مثلها، فإن دخل بها: كان لها صداق مثلها، وإن طلق قبل البناء: فلا شيء عليه من الصداق كالتفريض، وهذا أحد الأقاويل، وهو ظاهر قوله في "المدونة" في "كتاب النكاح [الأول] (¬1) "، وقد بيناه كل البيان في "مسألة الشغار". والثاني: أنه يفسخ قبل البناء ويثبت بعده، ويكون لها صداق المثل، وهو نص قوله في "المدونة". الثالث: أنه يفسخ قبل البناء وبعده، وهو قول مالك في "كتاب محمد" وغيره، وهو أحد قوليه أيضًا في "المدونة" فيما كان فساده في صداقه. على هذه الأقوال كلها فإن المرأة ترد ما قبضت مما سمى لها من الغرر والمجهول إن قبضته. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فما كان قائمًا بعينه لم يفت فإنها ترد عينه. وما كان فائتا فإن كان فواته من سببها: فإنها ترد المثل فيما له مثل وترد قيمة ما ليس له مثل، والقيمة في ذلك يوم القبض. فإن كان الفوات من غير سببها، كذهاب العين أو الفوات بحوالة الأسواق فقيل: يكون الضمان منها أو من الزوج؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الضمان منها، وهو نص الكتاب. والثاني: أن الضمان منه، ولا شيء [له] (¬1) عليها وهو قول ابن حبيب، كما لو طلقها قبل البناء والصداق غرر [على] (¬2) أن الطلاق يلزم على مشهور المذهب. واختلف المذهب في النكاح الصحيح، متى تستحق فيه المرأة الصداق؟، على ما سنعقد فيه مسألة مفردة إن شاء الله تعالى بعد هذا، فكيف في النكاح الفاسد؟ وقوله في "الكتاب": إلا أن يقبض الجنين بعدما ولد، ثم قال: ويحول في يدها باختلاف الأسواق أو نماء أو نقصان، يفيد أن بيع التفرقة، يفيته حوالة الأسواق، وقد نبه عليه بعض المتأخرين، والذي قاله صحيح ظاهر. وأما الثمرة التي لم يبد صلاحها، فلا تخلو من وجهين: أحدهما: [أن يعقدا] (¬3) في ذلك على الجد. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ، جـ: أن العقد.

والثاني: أن يعقدا فيه على البقاء، فإن عقدا فيها على الجذ، مثل أن يتزوجها على ثمرة لم يبد صلاحها على الجذ، فإن جذتها في الحال: فالنكاح جائز والصداق صحيح. وإن تأخرت عن الجذاذ حتى طابت الثمرة، لم يفسخ النكاح وإن لم يدخل؛ لأن العقد وقع على نعت الجواز، إذ لا يتهمان أن يكونا عملا على ذلك، ويفسخ النكاح وترد [الثمرة] (¬1) للزوج، ما عرفت مكيلته ردت فيه، وما جهلت فيه المكيلة ردت قيمته يوم قبضه، ولها على الزوج قيمة ذلك البلح مجذوذًا قيمته يوم النكاح. وهكذا نقل أبو محمَّد بن أبي زيد في "النوادر" ولم يذكر قائله. فإن عقد فيها على البقاء، فهاهنا يكون النكاح فاسدًا على الخلاف الذي قدمناه. ثم لا تخلو الثمرة من أن تكون مقبوضة أو غير مقبوضة: فإن [قبضته] المرأة، فإنها تردها على الزوج إن كانت قائمة بعينها. فإن فاتت، فإنها ترد المكيلة، إن عرفت، أو القيمة إن جهلت المكيلة. فإن جذتها [في الحال] (¬2) رطبا: فإنها ترد القيمة ويقبل قولها فيما أقرت به من المكيلة. فإن لم تقبضها الزوجة حتى تلفت على الشجر، فلا ضمان عليها، والضمان في ذلك على الزوج، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب"، حيث قال: وهذا في غير الثمرة التي لم يبد صلاحها على الرواية الصحيحة، وفي بعض روايات "المدونة" قال سحنون: وهذا في غير ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الثمرة التي لم يبد صلاحها. والفرق بين الثمرة وغيرها: أن الثمرة في أصول البائع، فلا يتهيأ فيها للمشتري قبض. وإذا لم يتهيأ له ذلك حتى فاتت لم يتعلق به ضمان، بخلاف ما جذت منها وحصل في ضمانها. وقوله: وعليها ما جذت من الثمرة وما حصدت من [الحب] (¬1) فألزمها رد المكيلة فيما بيع جزافًا بيعًا فاسدًا، ولم يجعل حوالة الأسواق فيه فوتًا. وذهب بعض الشيوخ إلى أن ذلك خلاف لما في "كتاب ابن الموَّاز" في أن المكيل والموزون إذا بيعا جزافًا بيعًا فاسدًا: أن حكمه حكم العروض، وذكروا أن قوله اختلف هناك، والذي قاله في "المدونة"، [وهو] (¬2) أحد قوليه، وهذا كله غرر. وأما إذا كان بعضه غرر وبعضه صحيح، مثل أن يتزوجها بدراهم وبثمره لم يبد صلاحها أو بمال بعضه نقدا وبعضه [مؤجل] (¬3) إلى أجل مجهول: إن رضيت المرأة بإسقاط الغرر وأخذ الصحيح منه: لم يفسخ قبل البناء إذا كان في الصحيح [منه] (¬4) رُبع دينار فصاعدًا [وإن لم ترض بذلك فسخ ما لم يبن بها وكذلك أن رضيت بإسقاط المؤجل وكان في المعجل ربع دينار فصاعدًا أو رضي الزوج بتعجيل المؤجل أو تراضيا جميعًا على] (¬5). ¬

_ (¬1) في ع، هـ: المكيلة. (¬2) في ع، هـ: فهذا. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

أن جعلا بدلا مما يسمى من الغرر شيئًا معلومًا صحيحًا، تم النكاح. ولو لم يكن مع الغرر شيء وتراضيا بإسقاطه على أن يجعلا بدله صداقًا صحيحًا قبل البناء، فلا يجوز ذلك ولابد من فسخه على القول بأنه لا يفوت بالعقد. وأما على القول بأنه يفوت بالعقد فلا إشكال في صحته وجوازه [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ع، هـ.

المسألة الثالثة في الصداق إذا [استحق] أو وجد به عيبا

المسألة الثالثة في الصداق إذا [استحق] (¬1) أو وجد به عيبا [فإذا] (¬2) تزوجها على صداق ثم وجدت به عيبا، مثل: أن يتزوجها على قلال خل، [فوجدتها] (¬3) خمرًا أو على عبد فاستحق أو وجدت به عيبا: فإذا تزوجها على قلال خل، [فوجدتها] (¬4) خمرًا أو على عبد فاستحق بحرية، فلا يخلو من أن يعثر على ذلك قبل البناء أو بعده: فإن عثر على ذلك قبل البناء، هل يصح النكاح أو يكون فاسدًا؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن النكاح صحيح، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن النكاح فاسد، وهو قول سحنون في العبد والخمر، وقول محمَّد بن عبد الحكم في الخمر، وهو ظاهر "المدونة" في غير ما موضع إذا تزوجها على صداق فاسد من غير اعتبار بالعقد. وسبب الخلاف: اختلافهم في الأمر إذا وقع موقع السداد، ثم [انكشف] (¬5) على الفساد، أو وقع موقع الفساد، ثم انكشف عن السداد، ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) في أ، جـ: أو. (¬3) في ع، هـ: فأصابتها. (¬4) في ع، هـ: فأصابتها. (¬5) في أ: تكشف.

هل يستصحب معه حالة الابتداء أو تستصحب معه حالة الانتهاء؟ ومثل الأول ما ذكرناه في أصل المسألة. ومثل الثاني إذا وقع موقع الفساد ثم انكشف عن السداد، مثل أن يتزوجها على قلال خمر فوجدتها خلا أو تزوجها على أنها في عدة ثم تبين أنها في غير عدة أو تزوج امرأة رجل غائب على أنها باقية في عصمته، ثم تبين أنه مات قبل ذلك وانقضت العدة، وأمثلة ذلك كثيرة. فعلى القول بأن النكاح جائز إذا كان قبل البناء، وعثر على ذلك بعد البناء على القولين هل ترجع على الزوج بالمثل في الخل أو بقيمة؟ المذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنها ترجع عليه بالمثل، لأن ذلك مما يتوصل إلى معرفة مقداره بملء القلال بعد تطهيرها إن تطهرت أو معرفة قدر ما تحمل من الماء ثم تطهر به، ثم يكال ذلك الماء، ويدفع لها الزوج من الخل قدره، وهو ظاهر "المدونة"، حيث قال: إنها ترجع [بالمثل] (¬1) فيما يوجد مثله. والثاني: أنها ترجع عليه بقيمة الخل لا بالمثل، لأنها على الجزاف دخلت لا على الكيل، لأن الكيل إنما يكون بالقسط، والمكايل التي جعلها الوالي للناس في الأسواق لا بالقلال والجرار، وهو قول سحنون، وهو تأويل بعض المتأخرين على "المدونة"، وحملوا قوله في "الكتاب": وتأخذ مثله [إذا كان يوجد مثله] (¬2) أو قيمته إن كان لا يوجد مثله على التفصيل والتقسيم، أي: إن كان على الكيل فمثله أو على الجزاف فقيمته. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وقال بعضهم: إن كان اشترط الكيل، فلابد من المثل وإن كان لم يشترطه: فهو من باب الجزاف لكونه يتوصل إلى معرفة حقيقته، فلا معنى للقيمة. وقال آخرون: بل الصواب القيمة إذا وقع العقد على ما لا يصلح العقد فيه، إلا أن يقال: إن مثل ذلك لا يراد لعينه، حتى لو استحق لزم البائع أن يأتي بمثله كالدنانير. والخلاف في هذه المسألة ينبني على الخلاف في المكيل والموزون، هل يراد لعينه كالعروض أو يراد لغرضه [كالدنانير والدراهم؟ فمن رأى أن المكيل والموزون مراد لعينه، فيقول في ذلك بالقيمة، لأن الأغراض تتعلق بالأعيان لخصائص الصفات. ومن رأى أنه مراد لغرضه] (¬1)، قال في ذلك بالمثل، لأن مثل الشيء يقوم مقامه ويَسُدُّ مَسَدَّه. والقولان في المذهب منصوصان قائمان من "المدونة"، وقد قال في "كتاب الوديعة" فيمن أودعت عنده فاستسلفها ثم ادعى الرد والتلف، فإن كان التلف بعدما ردها، فقال: إن كانت الوديعة دنانير أو دراهم أو مكيل أو موزون فالقول قوله، وإن كانت من غير المكيل والموزون فلا يقبل قوله في دعوى الرد. وذلك جنوح منه إلى أن المكيل والموزون مراد لغرضه لا لعينه. فافهم هذا فإنه أصل يبنى عليه كثير من مسائل "المدونة"، مثل اختلافهم ¬

_ (¬1) سقط من ب.

في النقود، هل تتعين [لذي] (¬1) العقود أم لا؟، والعروض هل يقضي بها بالمنكر في الاستهلاك أم لا؟، وغير ذلك مما لا يُحصى كثرة. وقد اعترض بعض حُذَّاق المتأخرين على هذا السؤال باعتراض لازم يتعذَّر الانفصال عنه كما يجب، أعني: سؤال الخل أو وجد خمرا، وقال: فانظر النكاح على هذه القلال، وقد قال بأعيانها. فإن كانت حاضرة، فكيف لم يوقف عليها حتى يعلم هل خمرًا أو خلًا، والصفة مع حضورها في المجلس لا تصح على رأى محمَّد في جواز بيع الثوب المطوي في جرابه. وإن كانت غائبة عن المجلس، حاضرة في البلد، وقدر إياها قبل ذلك، على الخلاف المشهور في جواز البيع على هذا النعت أيضًا، أو كانت غائبة عن البلد، فاشتريت على صفة أو رؤيت متقدمة. فالمسألة على هذين الوجهين ممنوعة أيضًا، إذ لا يرجع الخل خمرًا أبدًا، فالاعتراض واقع جدًا، غير أن المعترض به انفصل عنه بانفصال لا يرفع شغب الاعتراض قال: يحتمل أن تكون القلال حاضرة بأعيانها ورأياها وظناها خلا مما يشتبه عليهما في أعلاها من الغبار الذي يعلوه أو شبه عليهما بالرائحة التي فاحت منها عند فتحها ثم استبان بعد ذلك أنها خمرًا. أو تكون جماعة قلال اطلع على بعضها وهو خل، فحمل بقيتها على ذلك، فإذا هي لم تخلل أو كانت [مغطاة] (¬2) أو مغلقة بما يعسر حله، ويخشى فسادها بحلها، فاستغنى بما اطلع عليه من غيره واستدل به على بقيتها، وهذا إذا وجد الصداق على صفة لا يجوز الرضا بها، كالخل يوجد ¬

_ (¬1) في أ: إذا. (¬2) في ع، هـ: غير معقصة.

خمرًا أو عبدًا استحق لحرية، على ما قدمناه. وأما إذا وجدت به عيبا مما يجوز لها الرضا به أو لوليها إن كانت محجورًا عليها، فهل يرجع [بالقيمة] (¬1) أو بصداق المثل إذا اختارت الرد أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: ترجع بقيمة ما ردت من يدها، وهو نص "المدونة" في "كتاب النكاح"، وفي "كتاب الاستحقاق". والثاني: أنها ترجع على الزوج بصداق المثل، قياسا على البيع؛ لأن من باع عرضا بعرض، فاستحق أحدهما أو وجد به عيبا: فإنه في العرض الذي خرج من يده إن كان قائمًا، أو بقيمته إن كان فائتًا، فكذلك النكاح، وقد قال مالك في هذا "الكتاب": أشبه شيء بالبيوع النكاح. والثالث: أنها ترجع على الزوج بمثل ما استحق من يدها إن كان عبدًا ترجع عليه بمثله، وهو قول ابن كنانة في "كتاب المدنيين"، وهذا على أحد الأقوال: أن العروض يقضي فيها بالمثل، وهذا القول قائم من "المدونة" و"كتاب التجارة إلى أرض الحرب"، وفي غير ما موضع منها: أن من استهلك لرجل جلدًا: أن عليه شراء جلده أي مثله، والجلدة: عرض من العروض. ويؤخذ أيضًا من كتاب "تضمين الصُنَّاع" من قول [الغير] (¬2) في الغزل: إن على الحائل مثله، خلافًا لقول ابن القاسم الذي قال فيه: عليه القيمة كما لو استهلك ثوبا. ¬

_ (¬1) في أ، جـ: على القيمة. (¬2) سقط من أ.

والقول الرابع: التفصيل بين أن يكون ذلك قبل البناء أو بعده، فإن كان قبل البناء فسخ النكاح، وكانت هي أحق بسلعتها. وإن كان بعد البناء فلها صداق المثل قياسا على البيع أيضًا، وهذا القول مخرج غير منصوص فيما رأيته. فوجه القول الأول: أنها ترجع بقيمة ما خرج من يدها [لأن العرض الذي رضيت به بدلا عن بعضها فإذا خرج من يدها] (¬1) باستحقاق أو رد بعيب، فقيمته تقوم مقامه؛ لأن الرجوع إلى قيمة ما استحق من يدها أقرب من الرجوع إلى صداق مثلها؛ لأن القيمة معلومة وصداق المثل مجهول. ووجه القول الثاني: أنها ترجع بصداق المثل، لاحتمال أن يكون رضاها بذلك العبد مثلًا عوضًا عن صداقها لغرض لها في عينه، فإذا استحق من يدها أو ردته بعيب فقد فات لها مقصودها، ولم يحصل لها غرضها، فوجب لها أن ترجع إلى قيمة سلعتها الذي هو صداق المثل بالغا ما بلغ. وقد تكون قيمة العبد الذي رضيت به أقل من صداق المثل، لكنها اغتفرت في ذلك لغرضها في عين العبد. وعلى هذا الأصل أسس مالك -رحمه الله- قاعدة المذهب في البيوع. ووجه القول الثالث: أنها ترجع بمثل ما استحق من يدها، وذلك منه بناء على أحد أمرين: إما أنه [بني] (¬2) على أحد قولي المذهب أن العروض مرارة لأغراضها، وهو قول ضعيف في المذهب. وإما على أن النكاح يسامح فيه ما لا يسامح في البيع، ألا ترى أنه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

جوزه على عبد غير موصوف، وعلى شوار بيت: وذلك لا يجوز في البيع باتفاق، وهذا الوجه أشبه [من الأول] (¬1). ووجه القول الرابع: أنه إذا كان قبل البناء فسخ النكاح؛ لأن العوض الذي عليه عاوضت، لم يحصل لها على مرادها وسلعتها بيدها إلى الآن لم تفت، فكانت أحق بها كالبيع، وهذا قول قياسي. وربك أعلم [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ع، هـ.

المسألة الرابعة في الحطيطة من الصداق على شروط اشترطتها المرأة على الزوج

المسألة الرابعة في الحطيطة من الصداق على شروط اشترطتها المرأة على الزوج مثل أن يتزوجها على صداق مسمى، فوضعت منه على ألا يتزوج عليها أو على ألا يخرج بها من بلدها وغير ذلك مما كان مباحًا للزوج أن يفعله. ولا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن تكون الحطيطة والشرط في عقد النكاح. والثاني: أن يكونا بعد العقد. فإن كان ذلك في عقد النكاح، فرضيت بمائة على ألا يتزوج عليها ولا يتسرى عليها، ففعل شيئًا مما شرطت عليه ألا يفعله، هل ترجع عليه بما وضعت أو لا ترجع؟ فلا تخلو الوضيعة من أن تكون مما ناف على صداق المثل أو من صداق المثل. فإن كانت الوضيعة مما ناف على صداق المثل، فاتفاق المذهب على أنها لا ترجع عليه بشيء. وإن كانت الوضيعة من صداق المثل، فقولان منصوصان في "المدونة": أحدهما: أنها لا ترجع عليه بشيء، وهو قول ابن الموَّاز. والثاني: أنها ترجع عليه بما وضعت، وهو قول علي بن زياد، وفي بعض نسخ "المدونة": أن ذلك قول علي نفسه، وفي بعضها: أنها رواية عن

مالك، وقد ذكر سحنون آخر [الكتاب] (¬1) أنها رواية ابن نافع عن مالك. وسبب الخلاف: اختلافهم في الشروط في النكاح بمثل ذلك، هل يجب الوفاء بها أو يستحب؟ فمن رأى أنه يجب الوفاء بها قال: لها الرجوع على الزوج بما وضعت، وإلى أن الوفاء بها واجب ذهب ابن شهاب وغيره. ومن رأى أن الوفاء بها مستحب ليس بواجب قال: لا ترجع على الزوج بشيء؛ لأن الصداق ما وقع به النكاح. فإن كان الشرط والوضيعة بعد العقد، [مثل أن يعقد النكاح بينهما على مائتي دينار ثم وضعت عنه بعد العقد] (¬2) مائة على أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى أو لا يخرجها من بلدها، فهل يجوز [هذا] (¬3) الشرط ابتداء أو لا يجوز؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك جائز اشتراطه والمعاوضة [عليه] (¬4) جائزة أيضًا، ولها الرجوع على الزوج بما وضعت عنه، إن لم يف لها بشرطها، وهذا قول ابن القاسم في "المدونة"، واتفق فيه ابن القاسم وعلي بن زياد؛ لأنه جعل لها الخيار في ذلك ولا يكون الخيار بين الفعل والترك إلا فيما يجوز فعله. والقول الثاني: أن ذلك لا يجوز اشتراطه بشرط الوضيعة، لأنه من تحريم ما أحل الله، وأن الذي أعطته على مذهبه في "المدونة": إن ¬

_ (¬1) في أ: الباب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

وفي بشرطها صح له، وإن لم يف رده، فمرة يكون بيعا، ومرة يكون سلفا، وهذا قول ابن كنانة ومثله في "المختصر" و"السليمانية" و"المبسوط" و"المدونة"، وقد [وقع] (¬1) مثل هذا في غير ما موضع من "المدونة". وقد وقع في هذه المسألة سؤالان، اختلف المتأخرون فيهما، هل ذلك اختلاف سؤال أو ذلك اختلاف أقوال؟ وذلك أنه قال: فيمن تزوج امرأة على ألف، فإن كانت له [أخرى] (¬2) فصداقها ألفان، فقال: لا يجوز هذا النكاح لأنه غرر [ولا تدري] (¬3) هل عنده امرأة أخرى في حين العقد، فيكون صداقها ألفان أو ليست عنده فلا يكون صداقها إلا ألف واحدة، فهذا من الغرر كالعبد الآبق والبعير الشارد. ثم قال في سؤال آخر بعده: فإن تزوجها بألف على [أنه] (¬4) إن أخرجها من بلدها فصداقها ألفان، قال: لا شيء عليه [وله] (¬5) أن يخرجها، ولا شيء لها غير الألف. فذهب بعضهم إلى أنه اختلاف سؤال قال: والفرق بينهما أن الأولى لا تدري وقت العقد، هل عنده امرأة أخرى [فيكون صداقها ألفان] (¬6) أو ليست عنده، فيكون لها ألفًا واحدًا. وأما الثانية فصداقها ألف واحد، لا شيء لها غيره، حتى يحدث عقدًا آخرًا على امرأة أخرى، فعند ذلك يكون لها ألفا أخرى، ¬

_ (¬1) في ب: منع. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

وإلى هذا ذهب فضل بن سلمة. وذهب هو وغيره أيضًا إلى أن ذلك اختلاف قول، فإن السؤالين سواء، وترجع المرأة في جميعهما إلى أنها لا تدري، هل صداقها ألف أو ألفان؟ وهذا التأويل أسعد بظاهر الكتاب. وذهب الشيخ أبو عمران الفاسي [- رضي الله عنه -] (¬1) إلى أن قوله في هذه المسألة لا شيء عليه، أي: لا يقضى عليه بهذه الزيادة؛ لأنه خرج منه مخرج اليمين، لا مخرج التبرع [والتقرب] (¬2) الذي يقضى به. وتأويل فضل [بن سلمة] (¬3) في الوجهين أقرب من تأويل أبي عمران الفاسي [والحمد لله وحده"] (¬4). ¬

_ (¬1) زيادة من ع، هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من ع، هـ.

المسألة الخامسة في الأب إذا زوج ابنه أو ابنته وضمن الصداق

المسألة الخامسة في الأب إذا زوج ابنه أو ابنته وضمن الصداق وإذا زوج ابنته وضمن صداقها، فلا يخلو من وجهين: [أحدهما: أن يكون ذلك في صحته. والثاني: أن يكون في مرضه، فإن كان ذلك في صحته فلا يخلو من وجهين] (¬1): أحدهما: أن يكون ذلك [بإذنها] في العقد. والثاني: [أن يكون ذلك بعد العقد، فإن كان ذلك في العقد فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك بإذنها. والثاني]: (¬2) أن يكون ذلك بغير إذنها. فإن كان ذلك بإذنها، فلا يخلو الأب من وجهين: أحدهما: أن يكون حيًا. والثاني: أن يكون ميتًا. فإن كان حيًا، فلا يخلو من أن يكون موسرًا أو معسرًا. فإن كان الأب موسرًا فللزوج الدخول، وترجع الزوجة على أبيها بصداقها تأخذه به إن كان نقدًا، أو تتبعه به إن كان إلى أجل، غير أن الزوج ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

يستحب له إذا كان الصداق إلى أجل: ألا يقدم على الدخول حتى يقدم ربع دينار مخافة مما يطرأ، فيؤدي ذلك إلى استباحة البضع بغير صداق. فإن كان الأب معسرًا، فلا يخلو من أن يكون الصداق نقدًا أو إلى أجل. فإن كان الصداق نقدًا، فالزوج مخير بين أن يدفع الصداق من ماله ويدخل، أو يطلق ولا شيء عليه: فإن أدى الزوج الصداق، ودخل: كان له الرجوع على الأب، ويتبعه متى أيسر. فإن اختار الطلاق وطلق، هل تتبع أباها بنصف الصداق متى أيسر أو لا تتبعه بشيء؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تتبع بذلك ذمة أبيها [متى] (¬1) ظهر له مال، وهو قول ابن القاسم. والثاني: لا تتبعه بشيء، وهو قول ابن نافع. ووجه قول ابن القاسم: أنها مطلقة قبل البناء، فكان لها أن تتبع بنصف الصداق من كان لها أن تأخذه بجميع الصداق ولو وقع البناء أصل ذلك الزوج. ووجه قول ابن نافع: أن الأب إنما ضمن الصداق بشرط استمرار النكاح، ووجود الاستمتاع، فإذا وقع الطلاق بسبب امتناعها عن [إمكان] (¬2) الزوج من الدخول، كان ذلك خروجا عن مقصود الأب، بخلاف الزوج إذ ¬

_ (¬1) في أ، جـ: مهما. (¬2) سقط من أ.

السبب هناك من جهته. فإن كان الصداق إلى أجل، فللزوج الدخول، وتتبع الزوجة أباها بالصداق إذا حل الأجل، غير أنه يستحب له أن يقدم [لها] (¬1) ربع دينار قبل أن يدخل كما قدمناه. فإن كان الأب ميتا، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يموت بعد البناء. والثاني: أن يموت قبل البناء. فإن مات بعد البناء: فلا شيء لها على الزوج من الصداق، وإنما ترجع على ذمة أبيها. فإن ترك لها ذمة: أخذت منها صداقها. وإن لم يترك شيئًا: فلا شيء لها. وإن مات قبل البناء، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يترك ما فيه وفاء الصداق. والثاني: أن يترك دون الوفاء. والثالث: ألا يترك شيئًا أصلًا. فإن ترك مالًا فيه وفاء أخذت منه جميع صداقها، مؤجلًا كان أو معجلًا، ولا يقاصصها الورثة بما أخذت من ميراثها، بل تأخذ صداقها من التركة، فإن بقي منها شيء أخذت منه ميراثها. وإن ترك الأب دون الوفاء، لا يخلو صداقها حينئذ من ثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أحدها: أن يكون كله معجلًا. والثاني: أن يكون كله مؤجلًا. والثالث: أن يكون بعضه مؤجلًا وبعضه معجلًا. فإن كان الصداق كله معجلًا: فلها أن تأخذ تركة أبيها، وتنفرد بها دون سائر الورثة، إذ لا ميراث [لها] (¬1) إلا بعد قضاء الدين، ثم لها أن تمنع نفسها من الزوج حتى تقبض بقية صداقها، فيكون الخيار للزوج إما أن يكمل لها بقية الصداق من ماله، فيدخل ويتبع بما دفع ذمة الأب مهما ظهرت. أو يفارق. وإن اختار [الفراق] (¬2)، فهل لها أن تحبس قدر نصف الصداق مما قبضت من تركة أبيها أم لا؟ على قولين: وقد قدمناهما لابن القاسم وابن نافع، اللهم إلا أن يكون على الميت دين، فإنها تحاصص الغرماء بجميع صداقها؛ لأنها من جملة غرمائه. وإن كان الصداق كله مؤجلا، كان لها أن تقبض التركة وتتبع ذمة الأب بما بقي لها مهما ثبت له مال، ويكون للزوج الدخول، ولا شيء لها عليه؛ لأنها على ذمة الأب دخلت. وإن كان مديانًا حاصصت الغرماء أيضًا، كما قدمناه آنفًا. وإن كان [الصداق] (¬3) بعضه معجلًا وبعضه مؤجلًا، مثل أن يكون ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: الطلاق. (¬3) سقط من أ.

الصداق مائة، وخمسون منها معجلة [وخمسون منها مؤجلة] (¬1) فلا يخلو من أن يكون عليه دين أو لا دين عليه: فإن لم يكن على الميت دين: فإنها تقبض التركة أيضًا، فإن [كان] (¬2) فيها ما بقي من المعجل: كان للزوج الدخول، وتتبع الأب بما بقي لها. وإن لم يكن في التركة ما يفي بالمعجل كان الزوج مخيرًا إن شاء كمل لها المعجل ودخل، وإن شاء فارق. وإن كان على الميت دين كان لها المحاصصة بجميع الصداق، ما حل منه وما لم يحل؛ لأن بموت الميت حلت [جميع] (¬3) الديون التي عليه. فإن نابها في المحاصصة خمسون: فإنها تقبض على المعجل والمؤجل، فيكون منها للمعجل خمسة وعشرون، ويخير الزوج بين أن يكمل المعجل فيدخل أو يفارق. فإن كمله كان له أن يتبع ذمة الأب مهما ظهرت؛ لأنه فيها ودي، وتتبعه الزوجة بما بقي لها من المؤجل. فإن اختار الفراق فلا شيء عليه. واختلف في الخمسين التي أخذتها الزوجة في المحاصصة، هل يكون جميعها للزوجة أو تنقض المحاصة الأولى؟ على قولين: أحدهما: أن المحاصة الأولى منتقضة، وأن الزوجة ترد مما قبضت ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

خمسة وعشرين، وتضرب فيها مع الغرماء بما بقي لها، وهي خمسة وعشرون؛ لأنها تبين بالآخرة أن جميع دينها خمسون. والثاني: أنها لا ترد شيئًا من الخمسين التي قبضتها، وأن المحاصة الأولى صحيحة لا ترد. والقولان قائمان من "المدونة": وينبني الخلاف على الخلاف في المرأة بماذا تستوجب جميع الصداق، هل بالعقد أو بالدخول أو ما يقوم مقامه من طول مكث؟ فمن رأى أنها لا تملك جميع الصداق إلا بالدخول، قال: ترد خمسة وعشرين من الخمسين التي قبضت. ومن رأى أنها بالعقد تملك جميع الصداق قال: لا ترد شيئًا. فإن لم يترك الأب شيئًا: فإن كان الصداق كله معجلا أو بعضه مؤجل [وبعضه معجل] (¬1): كان الزوج بالخيار بين الفراق والدخول. وإن كان الصداق كله مؤجلا كان للزوج أن يدخل بها، وتتبع ذمة الأب حيثما ظهرت. وهذا كله إذا كان ذلك بإذن الزوجة ورضاها. فإن كان ذلك بغير إذنها ورضاها، فلها ذمة الزوج، ولا تنتقل إلى ذمة الأب إلا أن تشاء. فإن كان الصداق معجلا كله أو بعضه: فلها أن تمنع نفسها من الزوج ¬

_ (¬1) سقط من أ.

حتى تقبض جميع صداقها أو ما حل منه. فإن كان جميعه مؤجلًا فليس لها أن تمنع نفسها من الزوج حتى يحل الأجل، وكره للزوج أيضًا أن يدخل حتى يقدم شيئًا، فإن لم يفعل فلا شيء عليه، وهي رواية أشهب عن مالك في "كتاب ابن الموَّاز". فإن [عجل الزوج] (¬1) ربع دينار ليدخل بها، فأبت حتى تقبض الجميع، فإنها تجبر على الدخول إلا أن يتراخى ذلك إلى حلول أجله، فلها أن تأبى ذلك حتى تقبض جميعه أو ما حل منه، وهو قول أشهب. فإن كان ذلك بعد العقد، مثل أن يتزوجها رجل بصداق معلوم، ثم يضمنه الأب بعد العقد، هل لها أن تستوفي ذلك، من مال أبيها أو يكون الحكم فيه كما لو كان في العقد أو ليس لها في مال أبيها شيء؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا شيء لها في ذمة الميت، وإنما ترجع على الزوج بصداقها، فكأنه لم يتحمل به أحد، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب النكاح الثاني". [والثاني] (¬2) أنها تأخذ صداقها من تركة أبيها إن ترك وفاء، وإن لم يترك شيئًا: كان الحكم فيه كالحكم [الأول] (¬3) في [الوجه الأول] (¬4) إذا كان الضمان في العقد، وقد قدمناه وهو ظاهر قوله في كتاب الحمالات في قوله: ما زاد لك قبل فلان، فأنا به كفيل، فمات [قائل] (¬5) ذلك قبل أن ¬

_ (¬1) في أ، جـ: بقي للزوج. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ع، هـ. (¬4) في ع: الوجوه الأولى. (¬5) سقط من أ.

يأخذ من ذمته فإنه يؤخذ من تركته. وهذا كله إذا كان في صحة الأب. فإن كان ذلك في مرضه، مثل أن يزوج ابنته في مرضه، وضمن الصداق عن الزوج، هل يجوز هذا النكاح أو لا يجوز؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن النكاح جائز. والثاني: أن النكاح لا يجوز، وهو الأظهر في النظر. والقولان مخرجان في المذهب غير منصوص عليهما. فوجه القول بالجواز: أنه نكاح سلمت أركانه من الغرر والحظر، وكون الصداق متردد بين ذمة الأب وذمة الزوج أمر يسير مغتفر. ووجه القول بالمنع: أنه نكاح فيه غرر، وذلك أن الصداق لا يخلو من أن يكون في ذمة الأب أو ذمة الزوج. فإن كان في ذمة الأب، فذلك موقوف على الثلث، والثلث لا يدري هل يحمل جميع الصداق أو بعضه؟ وهذا عين الغرر، وهذا حكم نكاح الموقوف الذي منعه مالك في أحد قوليه. فإن كان في ذمة الزوج، فقد يكون معسرًا لا مال له إلا ما تجوزه من جهة الحامل للصداق، وقد يصح كله أو بعضه، وقد لا يصح منه شيء لطرآن الغرماء أو أمر طرأ على ماله، فيذهب به قبل النظر في الثلث، فهذا من وجه الغرر. وعلى القول بأن النكاح جائز، وهل الصداق عطية للابنة أو عطية

للزوج؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها عطية للزوج من الثلث، وهو قول مالك. والثاني: أنها عطية [للابنة] من الثلث، ولا شيء له منه، وهو قول أشهب وابن القاسم، قالا في "العتبية": ويقال للزوج: أد الصداق من مالك ويتم النكاح، وإن أبى فارق ولا شيء عليه. وعلى القول بأنها عطية للزوج، فإن طلق قبل البناء، فهل يكون لها نصف تلك الهبة أم لا؟ وذلك على قولين: أحدهما: أن لها نصفها من الثلث، ولا شيء للزوج في النصف الباقي، وهو قول مالك وابن الماجشون. والثاني: أنها لا شيء لها؛ لأن الأب أعطى [على] (¬1) إن هي دخلت ثبت لها ما أعطى، وهو قول ابن دينار. والجواب عن الوجه الثاني: إذا زوج ابنه صغيرًا والبالغ السفيه، وذلك لا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك في الصحة. والثاني: أن يكون في المرض. فإن كان في الصحة، فلا يخلو الأب في أمر الصداق من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يشترطه على نفسه. والثاني: أن يشترطه على ولده. والثالث: أن يطلق العقد ولا يشترط. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن اشترط الأب الصداق على نفسه، لم يؤاخذه الابن موسرًا كان أو معسرًا، صغيرًا كان أو كبيرًا، لأن ذلك من الأب على وجه الحمل من غير التفات إلى لفظ الأب إن قال: أنا أحمله وأضمنه؛ لأن العادة في ضمانه لذلك أنه على وجه الحمل. وإن اشترطه على الابن، فلا يخلو من أن يكون الابن موسرًا أو معسرًا. فإن كان الابن موسرًا كان على الابن [اتفاقا ووفاقا] (¬1). وإن كان معسرًا، هل يكون على الأب أو على الابن؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يكون على الأب، وهو قول مالك وابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يكون على الابن كما شرطه الأب، بمنزلة ما لو اشترى له سلعة باسمه وكتب عليه الثمن، وهو قول أصبغ وابن الموَّاز، وهو ظاهر قول ابن زياد في "المدونة". فإذا بلغ الابن وعلم قبل البناء كان له الخيار بين أن يلزمه نفسه أو يفارق، وإن بني قبل أن يعلم لزمه وسقط عنه ما جاوز صداق المثل. فإن أطلقه الأب ولم يشترطه على نفسه ولا على الابن، فلا يخلو من أن يكونا موسرين أو معسرين أو أحدهما موسر والآخر معسر. فإن كانا موسرين أو كان الابن موسرًا والأب معسرًا: فالصداق على الابن، عاش الأب أو مات. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن كانا معسرين، فالصداق على من أيسر منهما أولًا ما لم يبلغ الصبي. فإن بلغ كان له الخيار، إن شاء أن يتقبل الصداق ويثبت النكاح، وإن شاء فارق. فإن كان الابن معسرًا، والأب موسرًا فالصداق [من] (1) مال الأب حيًا أو ميتًا، وتأخذ ذلك من رأس ماله بعد مماته. وهذا كله إذا كان الابن صغيرًا أو بالغًا سفيهًا. فإن كان الابن بالغًا رشيدًا، فزوجه الأب برضاه، فلا يخلو الصداق أيضًا من ثلاثة أوجه: إما أن يشترطه الأب على نفسه، أو على ولده، أو أبهم الأمر. فإن اشترطه على نفسه: كان ذلك حمل، والتباعة على الأب لا على الابن. فإن طلق الابن قبل البناء، فلا يخلو طلاقه من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك بمعنى الخلع. والثاني: أن يكون على غير وجه الخلع. فإن كان طلاقه على غير وجه الخلع رجع نصف الصداق إلى الأب. فإن كان الطلاق على وجه الخلع، مثل أن يطلقها على أن ترد عليه جميع صداقها، هل يكون جميعه للابن أو يشطر بينهما؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن جميع الصداق للأب، ولا شيء فيه للابن، وهو قول ابن القاسم في "كتاب ابن حبيب".

والثاني: أن الصداق بينهما أنصافًا، فنصفه للأب ونصفه للابن، وهو قول ابن الماجشون، وهذا هو الأظهر في النظر، وذلك أن الزوجة ملكت نصف الصداق بالطلاق، فإذا خالعت بجميعه، فكأن النصف الذي لها عاوضت به الزوج، والله أعلم. فإن اشترطه الأب على الابن: فلا صداق عليه موسرًا [كان] (¬1) أو معسرًا , ولا خلاف في هذا الوجه. وإن أبهم الأمر، ولم يشترطه على نفسه ولا على ولده، وقال الأب: إنما أردت أن يكون الصداق على الابن. وقال الابن: إنما ظننت أن ذلك على أبي، فلا أغرم شيئًا. فلا يخلو من أن يعثر على ذلك قبل البناء أو بعده. فإن عثر على ذلك قبل البناء، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن النكاح مفسوخ ولا شيء على واحد منهما، وهو قول مالك، قال محمَّد: بعد أن يحلف كل واحد منهما، فمن نكل منهما لزمه. والثاني: أن النكاح ثابت ويغرم كل واحد منهما نصف الصداق، وهو اختيار اللخمي. فإن عثر على ذلك بعد البناء، حلف الأب وبرئ، ثم ينظر في الصداق المسمى وصداق المثل. فإن كان صداق مثلها مثل المسمى فأكثر: غرمه الزوج بغير يمين. فإن كان المسمى أكثر حلف الزوج، وغرم صداق المثل. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن زوجه الأب في مرضه، وهو صغير وضمن عنه الصداق، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يعثر على ذلك في مرضه. والثاني: أن يعثر عليه [في] (¬1) صحته. فإن عثر على ذلك في مرض الأب فإن الضمان لا يجوز إلا بإجازة الورثة إما بعد الموت بالاتفاق، وإما قبل الموت على الخلاف في تسليم الشيء قبل وجوبه على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله. واختلف قول مالك في جواز هذا النكاح، على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أن النكاح لا يجوز، وهو معنى قوله في "الكتاب": لا يعجبني هذا النكاح، يريد ويفسخ. والثاني: أن النكاح جائز، ويخبر الزوج إن كان كبيرًا بين أن يدفع الصداق أو يطلق. وإن كان صغيرًا، فالنظر في ذلك إلى وليه. فإن رأى أن ذلك صلاحًا وغبطة وسرورًا دفع الصداق من مال الولد، وإلا فسخ النكاح. فإن لم ينظر في هذا النكاح حتى بلغ الصبي، فاختار أن يدفع الصداق من ماله، فجواز النكاح يتخرج على قولين قائمين من "المدونة". فإن مات أحدهما قبل النظر فيه، فهل يتوارثان أم لا؟ ¬

_ (¬1) في أ: بعد.

قولين قائمين من "المدونة" أيضًا. فإن عثر على ذلك بعد صحة الأب: فإن النكاح صحيح، والضمان ثابت لزوال العلة التي لأجلها منع، وذلك وصية لوارث. وينبني الخلاف على الخلاف: في الخيار [الحكمي] (¬1) هل هو كالخيار الشرطي أم لا؟ وعلى هذا الأصل انبنى كثير من مسائل هذا الكتاب [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من جـ، هـ.

المسألة السادسة في الصداق

المسألة السادسة في الصداق والكلام فيه في أربعة مواضع: أحدها: الكلام في اشتقاقه. والثاني: الكلام في حكمه. والثالث: الكلام في حده. والرابع: الكلام في جنسه. الموضع الأول: [وهو] الكلام في اشتقاق الصداق. والصداق بفتح الصاد وكسرها، ومعناه مشتق من الصدق والصحة، ومنه: فرس صدوق، وكلام صدق أي: صحيح متساوي الباطن والظاهر. وكذلك النكاح الشرعي بشرط الصداق مستوى الظاهر والباطن، بخلاف السفاح. ويقال للصداق أيضًا: فريضة ونحلة وأجرًا: قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬1)، [وقال:] (¬2) {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬3)، وقال: {اللَّاتِي آتَيْتَ أَجُورَهُنَّ} (¬4). وقد سمى في الحديث أيضًا "عفوا"، وكذلك ذكره في "كتاب أمهات ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (4). (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة البقرة الآية (237). (¬4) سورة الأحزاب الآية (50).

الأولاد" من "المدونة". وقد سمى أيضًا نفقة، قال الله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا} (¬1). وسمى أيضا: مهرًا. وسمى أيضًا: بضعًا. والموضع الثاني: الكلام في حكمه، ولا خلاف بين الأمة في أن الصداق شرط من شروط صحة النكاح، وأنه لا يجوز التراضي على تركه، لقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬2)، وقوله: {[فَانكِحُوهُنَّ] بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} (¬3). والنكاح بغير صداق لا يخلو من أن يكون على صفة السفاح أو وجد فيه شرط من شروط النكاح. فإن وقع على صفة السفاح، مثل أن يذكراه بلفظ النكاح من غير ولي ولا إشهاد، فذلك سفاح لا نكاح. فإن وجد فيه بعض الشروط، مثل أن يكون فيه ولي وإشهاد وشرط إسقاط الصداق فذلك لا يجوز؛ لأن ذلك في معنى الهبة التي خص بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ [إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ]} (¬4) الآية. ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة الآية (10). (¬2) سورة النساء الآية (5). (¬3) سورة النساء الآية (25). (¬4) سورة الأحزاب الآية (50).

وقد اختلف المذهب عندنا إذا تزوجها على ألا صداق [لها] (¬1) هل [يصححه] (¬2) البناء؟ على قولين منصوصين عن مالك في كتاب النكاح [الثالث] (¬3) من "المدونة". والموضع الثالث: وهو الكلام في حده وقدره. وقد أجمع العلماء قاطبة [على] (¬4) أنه لا حد لأكثر الصداق، وهو على ما يتراضيان عليه، وقد أمهر النجاشي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة آلاف، وكل بنات عبد الله بن عمر وبنات أخيه يصدقهن ألف دينار، كل واحدة أو عشرة آلاف درهم. وكان ابن عمر يجعل [لهن] (¬5) قريبًا من أربعمائة دينار حليًا، وتزوج ابن عباس [- رضي الله عنه -] (¬6) على عشرة آلاف، وتزوج القعقاع بن [شدر] بنت قبيصة بن هانئ على أربعين ألفا في [أيام] (¬7) الإِمام علي - رضي الله عنه -، إلا أن المباشرة في الصداق أفضل من المغالاة. وكان صداق النبي - صلى الله عليه وسلم - أزواجه: خمسمائة درهم، وذلك اثنا عشر أوقية ونش، والأوقية: أربعون درهما، والنش: عشرون درهما. وتزوج عبد الرحمن على وزن نواة من ذهب، وهي خمسة دراهم ولم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: يصححها. (¬3) في ع، هـ: الثاني. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ، جـ. (¬6) زيادة من ع، هـ. (¬7) سقط من أ.

يكن ذهبا، وكانوا يسمون الخمسة دراهم "نواة"، كذا ذكر الشيخ أبو محمَّد في "النوادر" فاستكثر النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل مائتي درهم. وزوج سعيد بن المسيب ابنته على [صداق] (¬1) ثلاثة دراهم على [سموه] (¬2) وجلالة قدره. وأما أقله، فقد اختلف العلماء فيه. فمنهم من يقول: أنه محدود بربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من [الورق] (¬3) أو ما يساويهما من سائر العروض، وهو مشهور مذهب مالك -رحمه الله. ومنهم من يقول: لا حد لأقله، وكل ما جاز أن يكون ثمنا أو قيمة [من المتمولات] (¬4)، جاز أن يكون صداقًا، من قليل الأشياء وكثيرها، وهو مذهب الشافعي وغيره، وبه قال ابن وهب من أصحابنا. وسبب الخلاف: اختلافهم في الصداق، هل هو من [قبيل] (¬5) العادات أو من قبيل العبادات؟ فمن رأى أنه من قليل العادات وأنه عوض من الأعواض قال: يجوز بما وقع عليه التراضي من قليل الأشياء أو جليلها. ومن رأى أنها من قبيل العبادات، قال: أنه مؤقت بحد [لا يجوز ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: سمو أمره. (¬3) في ع، هـ: الفضة. (¬4) في أ: للمتمولات، وفي جـ: في المتمولات. (¬5) سقط من أ.

النقصان منه وربما يعضد هذا المذهب اتفاق الجميع على أنه لا يجوز التراضي على إسقاط الصداق] (¬1)، فثبت بهذا أنه ليس من قبيل المعاوضات. وربما استدل من نفى التحديد بحديث سهل بن سعد الساعدي [المتفق على صحته] (¬2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله، قد وهبت نفسي لك، فقامت قياما طويلًا، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل معك من شيء تصدقها إياه؟ " فقال: ما عندي إلا إزاري، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أعطيتها إياه بقيت ولا إزار لك، التمس شيئا"، فقال: ما أجد شيئًا، فقال عليه السلام: "التمس ولو خاتما من حديد" فالتمس فلم يجد شيئًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل معك شيء من القرآن؟ " قال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا، [لسور] (¬3) سماها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنكحتكها بما معك من القرآن" (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولو خاتمًا من حديد"، دليل على أنه لا حد لأقله، وإنما يجوز بأقل ما يقع عليه اسم الأقل، إذ لو كان لأقله حد محدود لبينه - صلى الله عليه وسلم -، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. والانفصال عن هذا الاستدلال من وجوه: منها معارضته القياس ومصادمته إياه؛ لأن الحديث آحاد والقياس ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه البخاري (4741)، (4742).

معارضة. [ومنها: أن يقال أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "التمس ولو خاتما من حديد" يحتمل أن يكون الخاتم المراد هي البيضة التي هي الخوذة، وقد قيل ذلك] (¬1). ومنها: أن يقال: إن ذلك قضية في عين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أنكحتكها بما معك من القرآن"، وذلك خلاف الأصول؛ لأن القرآن لا يتصور أن يكون حفظه صداقًا، وقضاء الأعيان لا يصح به الاستدلال في كل الأحوال. وللخصوم عن هذا الانفصال أجوبة: منها: أنه ورد في بعض طرق الحديث أنه قال: "قم فعلِّمها" بما ذكر أنه معه من القرآن، فقام فعلمها، فكان نكاحًا بإجارة. ومنها: أن القياس الذي عورض به دليلهم انبنى على مقدمتين، وبعدهما كانت النتيجة إحدى المقدمتين [كون] (¬2) الصداق عبادة، والثانية: كون العبادة مؤقتة، وفي كليهما نزاع للخصم، وذلك أنه قد [يلغي] (¬3) في الشرع من العبادات ما ليست مؤقتة، بل الواجب فيها أقل ما ينطلق عليه الاسم، كالركوع عند من يرى الطمأنينة واجبة، وغير ذلك مما لا يحصى كثير. والقياس لا يصح إلا بتسليم مقدمتيه. وعند من يقول بمقدمتين من الجدليين من المنطقيين، [واستدل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: لأن. (¬3) في ع، هـ: يبقى.

القائلون] (¬1) بنفي التحديد أيضًا بما خرجه أبو عيسى الترمذي: [أن] امرأة تزوجت على نعلين، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ملكتيه نفسك ومالك بنعلين؟ " فقالت: نعم (¬2) فجوَّز نكاحها وقال فيه: هذا [حديث] (¬3) حسن صحيح، وهذا نص في محل النزاع. فأما القائلون بالتحديد للصداق بربع دينار: فإنهم التمسوا أصلًا يقيسون عليه، فلم يجدوا شيئًا أشبه به من نصاب القطع وحددوا، وقالوا: عضو يستباح بمال فوجب أن يكون مقدرًا بربع دينار [فإنهم يلتمسون أصلًا يقيسون عليه فلم يجدوا شيئًا أشبه به من] (¬4)، أصل القطع في السرقة. واعترض بعض أئمتنا على هذا القياس، كالفقيه ابن النجار وغيره، وقالوا: هذا قياس ضعيف من قبل أن القطع غير الوطء، وإن جمعتهما لفظة الإباحة، فإن القطع استباحة على وجه العقوبة والمثلة، والنكاح استباحة على وجه اللذة والمودة. ومن شأن قياس الشبه، على ضعفه أن يكون الذي تشابه به الفرع والأصل شيئًا واحدًا، لا باللفظ بل بالمعنى، وأن يكون الحكم إنما وجب في الفرع من جهة الشبه، وهذا كله معدوم في هذا القياس. ومع هذا فإنه من الشبه الذي لم ينبه عليه اللفظ، وهذا النوع من القياس مردود عند المحققين من الأصوليين. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه الترمذي (1113)، وأحمد (15717) والطيالسي (1143) وأبو يعلى (7194)، والبيهقي في "الكبرى" (13567)، وابن الجعد (2265)، وضعفه الألباني والبيهقي. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

وعلى القول بأن أقله مقدر بربع دينار، فإن وقع النكاح [بينهما] (¬1) [مقدرًا] (¬2) بأقل من ربع دينار تزوجها بدرهمين ثم عثر على ذلك قبل البناء أو بعده، هل يفسخ النكاح أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن النكاح مفسوخ قبل البناء وبعده، ولها بعد البناء صداق المثل، وهو قول غير ابن القاسم في بعض روايات "المدونة"، وعليه اختصر ابن أبي زمنين وغيره. والثاني: التفصيل بين أن يعثر على ذلك قبل البناء أو بعده. فإن عثر على ذلك بعد البناء أجبر على أن يكمل لها ربع دينار، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". فإن عثر على ذلك [قبل] البناء خير الزوج بين أن يكمل لها ثلاثة دراهم، وإلا فرق بينهما. وقيل: يكمل لها صداق المثل، وهو قول عبد الملك. فإن اختار الفراق، هل يكون لها نصف الدرهمين أو لا شيء لها؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن لها نصف الدرهمين، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: لا شيء لها، وهو قول ابن حبيب. وسبب الخلاف: في الفصل الأول ما كان فساده في صداقه، هل يصححه البناء أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ع، هـ.

وفي الثاني ما كان فساده أيضًا في صداقه، فإذا فسخ قبل البناء، وكان من مال الزوج أن يجيزه، هل يشطر فيه الصداق أم لا؟ والقولان قائمان من "المدونة". فوجه القول الأول: بأنه إذا عثر على ذلك بعد البناء، ثبت النكاح، وكان لها ربع دينار، وذلك أنها كما رضيت بدرهمين، فقد وهبت مما هو حق لها وحق لله تعالى، [فردت هبتها فيما هو حق لله تعالى] (¬1) ومضت هبتها فيما هو حق لها. والموضع الرابع: في جنسه وكل ما يجوز أن يتمول ويقع الاعتياض عنه في البيع والشراء من سائر الأعيان الممتلكات فإنه يجوز النكاح عليه، وهل من شرطه جريان الملك عليه واستدامته أو ليس من شرطه؟ مثل أن يتزوجها بمن يعتق بالملك إذا ملكته، على ما سنعقد عليه مسألة مفردة إن شاء الله تعالى. واختلف في النكاح بما يتمول وليس بعين قائمة، كالنكاح على استيفاء المنافع منه أو من غيره، مثل أن يتزوجها على أن يبني لها دارًا أو يحفر لها بئرًا أو يرعى لها غنمًا مدة معلومة أو على أن تستخدم عبده أو دابته مدة معلومة، فهل يجوز هذا النكاح أو لا يجوز؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن النكاح جائز، فإن كان مع الإجارة ربع دينار أو ما يساويه: جاز له الدخول، وإن لم يقدم لها شيئًا كره له الدخول، وهو قول أصبغ في "العتبية". والثاني: أن النكاح لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في "العتبية" فيمن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وقع له صبي في جُبِّ فقال لرجل: إن أخرجته فقد زوجتك ابنتي، أو أنا أزوجكها فأخرجه فقال: لا يجوز، ولا يكون النكاح جُعلا، وأرى له أجر مثله في إخراجه إياه، حيا أو ميتا. والثالث: الكراهة، وهو قول مالك في "كتاب محمَّد"، وكذلك النكاح على الحج، أعني على أن يحججها، فالكلام فيه كالكلام في الإجارة سواء، كرهه مالك في الجميع، وقال: لأنه ليس من عمل الناس، فكرهه في الجميع، ولم يقل في شيء منه أنه يفسخ. وابن القاسم اضطرب قوله في جميع ذلك؛ لأنه إذا طلق قبل البناء أتبعته بنصف الحج، ذكر عنه أصبغ معناه: نصف قيمة ذلك. وسبب الخلاف: شرائع من قبلنا، هل هي لازمة لنا أم لا؟ فمن رأى أن شرائع من قبلنا لازمة لنا، قال بجواز النكاح اقتضاء بقصة موسى مع شعيب صلوات الله عليهما وعلى نبينا وعلى جميع النبيين والمرسلين. ومن رأى أنها غير لازمة لنا، قال: لا يجوز النكاح، والقول بالكراهة تردد ومراعاة للخلاف [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ع، هـ.

المسألة السابعة في هبة المرأة صداقها لزوجها أو لأجنبي

المسألة السابعة في هبة المرأة صداقها لزوجها أو لأجنبي وهبة المرأة ذات الزوج صداقها لا يخلو من وجهين: أحدهما: أنها تهب لزوجها. والثاني: أنها تهب لأجنبى. فإن وهبت لزوجها، فلا يخلو من أن [تكون] سفيهة أو رشيدة: فإن كانت سفيهة: فالهبة مردودة. وإن كانت رشيدة: فالهبة جائزة باتفاق المذهب، وإن كان جميع مالها؛ لأن هبة المرأة مالها لزوجها جائزة، وإن أتت على جميع مالها. وإن وهبت ذلك لأجنبي، فلا يخلو ما وهبت من أن يكون مثل الثلث فأدنى أو [يكون] (¬1) أكثر من الثلث. فإن كان مثل الثلث فأدنى: جاز اتفاقا [ووفاقا] (¬2) في المذهب. وإن كان أكثر من الثلث: فذلك موقوف على إجازة الزوج أو رده. واختلف هل له الخيار في رد الجميع أو في رد ما زاد على الثلث خاصة؟ على قولين منصوصين في "المدونة" في كتاب "الكفالات": أحدهما: أنه يرد الجميع، إلا أن يكون الزائد على الثلث أمر يسير، كالدينار ونحوه فيجوز الجميع، وهو قول ابن القاسم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

والثاني: أنه يرد الزائد على الثلث خاصة، وهو قول المخزومي. فإذا قلنا بجوازها إذا كان مثل الثلث فأقل، فلا يخلو الموهوب له من وجهين: أحدهما: أن يكون قبض الهبة قبل الطلاق. والثاني: أن يطلقها الزوج قبل أن يقبضها. فإن قبضها قبل الطلاق ثم طلقها الزوج بعد ذلك قبل البناء بها، فلا يخلو من أن تكون الزوجة في حين [الطلاق] (¬1) موسرة أو معسرة. فإن كانت موسرة: فإن الزوج يرجع بنصف الصداق عليها، وهل لها هي الرجوع على الموهوب له بقدر ما استرد منها الزوج أو لا رجوع لها عليه [فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا رجوع لها على الموهوب له بشيء مما أخذ منها الزوج وهو المشهور. والثاني: أن لها الرجوع عليه] (¬2)، وهو قوله في "كتاب محمَّد". والقولان قائمان من "المدونة". وهذا الخلاف يتخرَّج على الخلاف في [أصل] (¬3) الصداق، هل تملك المرأة جميعه بالعقد أو أنها [لا] (¬4) تملك [إلا] (¬5) نصفه ¬

_ (¬1) في ب: الهبة. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

بالعقد ونصفه الآخر بالموت أو الدخول أو ما يقوم مقامه من طول المكث؟ فمن رأى أنها تملك جميعه بالعقد، قال: لا ترجع على الموهوب له بشيء؛ لأنها وهبت ما تملك، وتملك التصرف فيه كيف شاءت، وكون الزوج ملك الرجوع عليها بنصف الصداق، وإنما هو أمر طرأ بعد الهبة وقبضها. ومن رأى أنها لا تملك بالعقد إلا النصف خاصة قال: لها الرجوع على الموهوب له بقدر ما أخذه الزوج منها، بمنزلة من وهبت شيئًا ثم جاء من يستحقه فإن للمستحق اتباع الواهب، وللواهب اتباع الموهوب له، على تفصيل وتحصيل في ذلك يأتي في "كتاب الغصب والاستحقاق" إن شاء الله تعالى. فإن كانت الزوجة معسرة بنصف الصداق، فلا تخلو الهبة من أن تكون قائمة بيد الموهوب له أو تكون فائتة. فإن كانت الهبة قائمة، فهل للزوج أخذها أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن للزوج الرجوع على الموهوب له، وأخذ عين شيئه من يده؛ لأن ذلك من باب الاستحقاق، وهذا يتخرج على القول بأنها لا تملك بالعقد إلا النصف خاصة. والثاني: أن الزوج لا رجوع له على الموهوب له، وإنما تتبع الزوجة في اليسر والعسر [وهو قول ابن القاسم في الكتاب] (¬1). ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وهذا بناء منه على أنها تملك بالعقد جميع الصداق، وكون الزوج يملك الرجوع عليها بنصف الصداق، وليس ذلك بمعنى الاستحقاق، وإنما هو شيء أوجبته الأحكام [وهذا كله إذا جهل الزوج حال الزوجة ولم يعلم بالهبة، وأما إذا علم بحالها وعلم بالهبة فلا رجوع له على الموهوب له قولًا واحدًا؛ لأنها إن كانت موسرة وعلم الزوج بالهبة فالزوج مجبور على دفع الصداق إن كانت معسرة فقد جوز لها فعلها ورضي بإسقاط حقه فباتت الهبة بيد الموهوب له، فإن الزوج لا يرجع على الموهوب له بشيء جملة بلا تفصيل لأن [السقيط] جاء من قبله ولا يدخل فيه من الخلاف والتفصيل ما دخل مسألة الاستحقاق إذا وهبت شيئًا ثم استحقه رجل بعد فواته بيد الموهوب له فافهم ذلك] (¬1). فإن طلقها الزوج قبل أن يقبض الموهوب له هبته، وكان الطلاق قبل البناء، فلا يخلو حالها من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون موسرة يوم الطلاق. والثانى: أن تكون موسرة يوم الهبة. والثالث: أن تكون معسرة في الزمانين. فإن كانت موسرة يوم الطلاق فالهبة ثابتة للموهوب له، وله مطالبة الزوج بها إن كانت الزوجة لم تقبض صداقها منه بعد، وسواء كان الصداق عينا أو عرضًا، ويرجع الزوج عليها بنصف ما أخذ منه من غير اعتبار بيوم الهبة، كانت فيه موسرة أو معسرة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وهذا بناء منه على أنها ملكت جميع الصداق بالعقد. وأما على القول بأنها [لا تملك] بالعقد إلا النصف خاصة فلا يكون للموهوب له إلا النصف الذي يصح لها خاصة؛ لأنه بمنزلة من وهب له شيء، فلم يقبضه حتى استحق أو تلف بسبب سماوي، فإنه لا شيء [له] (¬1). فإن كانت يوم الهبة موسرة ويوم الطلاق معسرة، فهل تصح جميع الهبة للموهوب له أو للزوج في ذلك مقال؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أن للموهوب له قبض جميع الهبة، إما من الزوج إن لم تقبض الزوجة من غيره شيئًا، وإما من الزوجة إن كانت قد قبضت، ولا مقال للزوج في ذلك، وهو قول الغير في "المدونة". والثاني: أن للزوج أن يتمسك [به بنصف الصداق، ويدفع النصف الآخر للموهوب له، وإن كانت قد قبضت جميع الصداق من الزوج، فإنها تدفع نصف الصداق للزوج] (¬2) ونصفه الآخر للموهوب، وهو قول ابن القاسم في "كتاب [النكاح] الثاني" من "المدونة". وسبب الخلاف: اختلافهم في الصداق، هل بالعقد تملك المرأة جميعه أو إنما تملك نصفه بالعقد؟ فمن رأى أنها تملك جميعه بالعقد قال: لا مقال للزوج؛ لأن نصف الصداق إنما ثبت له بعد الطلاق، وهو دين عليها من يومئذ، وقد كانت ¬

_ (¬1) في أ، جـ: عليه. (¬2) سقط من هـ.

هبتها ولا دين عليها، والدين الطارئ بعد الهبة لا يؤثر في سقوطها، ومن وهب دينا فلم يقبضه الموهوب [له] (¬1) حتى طرأ على الواهب دين لم ترد هبته. ومن رأى أنها لا تملك بالعقد إلا النصف خاصة قال: للزوج مقال؛ لأنها وهبت ما لا تملك، ومن وهب ما لا يملك وقد تقدم له فيها إباحة التصرف، ولم يكن عنده من المال ما يفي بذلك إن طرأ من يستحق ذلك الشيء فإن هبته مردودة بلا كلام. والجاري على أصول المذهب [أن] (¬2) للزوج مقال في عين شيئه وإن كانت موسرة؛ لأن الأغراض تتعلق بأعيان العروض، وما قاله في هذه المسألة مخالف لذلك اللهم إلا أن يقال: إن ذلك منه جنوح إلى القول بأن العروض مرادة لأغراضها لا لأعيانها كالعين. ولهذا الخلاف مطلع آخر وهو حوز الغير ما وهب له من غير رضا الحائز، هل يكون حوزًا ينتفع به الموهوب [له] (¬3) أم لا؟ وهذا مما اضطرب فيه قول ابن القاسم في "المدونة". فمرة يقول: لا يكون ذلك حوزًا إلا برضا الحائز، وهو ظاهر قوله في "كتاب النكاح الثاني [في هذه المسألة] (¬4) " وهو ظاهر قوله في "كتاب الرهون [أيضًا] (¬5) "، فيمن رهن فضلة الرهن، حيث اشترط هناك أن يكون ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

[ذلك] (¬1) برضا المرتهن الأول. ومرة رأى أن ذلك حوز ينتفع به الموهوب له، وإن لم يرض بذلك الحائز ولا علم، وهو ظاهر قوله أيضًا في موضع آخر منه، وهو ظاهر قوله في ["كتاب الهبات"، على ما سنبينه هناك إن شاء الله تعالى، وهو ظاهر قول الغير في] (¬2) "كتاب النكاح"، وذلك أن الغير اعتبر حالتها يوم الهبة. فإذا كانت موسرة فالهبة جائزة، لأنها هبة [محوذة] (¬3) في ذمة الزوج تجوز، وإن لم يعلم [بذلك] (¬4) ولا رضي. وما يطرأ بعد ذلك من الدين فقد طرأ على هبة محوزة، كمن وهب دينًا في ذمة غيره، فلا يتصور فيه قبض ولا حوز إلا قبض الوثيقة إن كان الدين بكتاب أو القبول إن كان الدَّين بغير كتاب. وابن القاسم في أحد قوليه اعتبر حالتهما يوم الطلاق. فإن كانت معسرة: فالهبة غير جائزة؛ لأنها هبة غير مقبوضة ولا محوزة حتى طرأ من الدين ما يفترقها، وذلك مما يبطل الهبة ويوهن العطية. [وأما الوجه الثالث: إذا كانت المرأة معسرة في الزمانين فلا يخلو من أن تكون قبضت صداقها من الزوج قبل الطلاق أو لم تقبضه. فإن قبضته واستهلكته فلا شيء للموهوب له قولًا واحدًا. فإن لم تقبض حتى طلقها فلها النصف الذي تقبضه الزوجة من الزوج بعد الطلاق؛ لأنه قبضٌ ما وجب له، والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

المسألة الثامنة في الزوجة بماذا تستوجب الصداق؟

المسألة الثامنة في الزوجة بماذا تستوجب الصداق؟ ولا خلاف بين الأمة أن المرأة تستوجب جميع الصداق بالدخول والاستمتاع أو بالموت: فأما وجوبه بالدخول فقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتم بِهِ مِنْهُن فآتوهنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬1)، وقال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬2)، إلى قوله سبحانه: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكمْ إِلَى بَعْضٍ} (¬3). وأما وجوبه بالموت: فليس فيه دليل مسموع من كتاب ولا سنة إلا انعقاد الإجماع. واختلف المذهب عندنا في طول المكث، هل يقوم مقام الدخول؟ على قولين، وقد قدمنا الكلام في الاعتراض عليه فيما سلف من هذا "الكتاب". واختلف [المذهب] (¬4) عندنا [أيضًا] (¬5) هل تملك بالعقد شيئًا من الصداق أم لا؟، على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنها بالعقد تستوجب جميع الصداق، وهو قول مالك في "كتاب الرهون"، حيث قال فيمن رهن لامرأته رهنا [قبل بنائه بها، فقال ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (24). (¬2) سورة النساء الآية (20). (¬3) سورة النساء الآية (21). (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

مالك: ذلك جائز؛ لأنها تملك بالعقد جميع الصداق، وهو قول [الغير] (¬1) في "كتاب النكاح الثاني" في باب هبة المرأة] (¬2) صداقها لزوجها أو لأجنبي وفي [باب] (¬3) غلات [الصداق] (¬4). والثاني: أنها لا تملك بالعقد شيئًا من الصداق، وهو ظاهر قول مالك في "المدونة" فيما يفسخ قبل البناء ويثبت بعده وكان فساده في عقده أو لشروط اقترنت به إذا طلق قبل الفسخ أن الصداق لا يشطر بينهما على مشهور المذهب. والقول الثالث: أنها تملك بالعقد نصف الصداق، و [يستقر] (¬5) لها النصف الآخر بالموت أو الدخول، وهو قول مالك في "كتاب النكاح الثاني" من "المدونة"، وفي "كتاب الزكاة الثاني" من "المدونة" إذا تزوجها على غنم بأعيانها، فحال الحول عليها، وهي في يدها أو في يد الزوج، ثم طلقها فجاء [المصدق] فقال: إن كان في [حظ] (¬6) كل واحد منهما ما تجب فيه الزكاة، فإنهما يزكيان زكاة الخليطين؛ لأنه لم يزل في ذلك شريكا في النماء والنقصان. فإذا وقع الطلاق فإن الصداق يشطر بينهما، لقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتمُوهنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬7)، وهو ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) في هـ: المغيرة. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من هـ. (¬5) في أ، جـ: يتقرر. (¬6) سقط من أ. (¬7) سورة البقرة الآية (237).

ينقسم -أعنى الطلاق- قبل البناء إلى ما كان باختيار من أحد الزوجين، وإلى ما كان بغير اختيار منهما. فأما ما كان بغير اختيارهما وإيثارهما، مما يوجب الفسخ قبل البناء، إذا طلق فيه قبل أن يحكم الحكم بفسخه، وكان موجب فسخه غير صداقه، هل يشطر فيه الصداق أم لا؟ على قولين. وأما إذا كان باختيار من أحدهما، فلا يخلو [من أن يكون] (¬1) ذلك باختيار منهما أو باختيار منه. فإن كان ذلك باختيار منها كقيامها بعيب يوجد فيه أو كانت أمة تحت عبد فعتقت، ثم اختارت نفسها أو ما كان في معناه مما لا سبب فيه للزوج، واختارت الزوجة الفراق، فلا شيء لها من الصداق، لا نصف ولا غيره؛ لأن الطلاق جاء من جهتها. وأما ما جاء باختيار من الزوج، ولا سبب فيه للزوجة، فلا خلاف في المذهب أن لها نصف الصداق. فإن اشتركا في السبب، مثل: أن يكون الطلاق لعدم الصداق أو لعجزٍ عن النفقة، فالمرأة تسببت في الطلاق بطلبها ما يؤدي إليه، والزوج تسبب فيه أيضًا لإظهاره العجز عما طلبته المرأة مع الإمكان أن يكون قد أخفى ماله، وأظهر الفقر، إلا أن سبب الزوجة في ذلك أظهر من سبب الزوج، فقد اختلف المذهب في ذلك على قولين: أحدهما: أن لها نصف الصداق، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثاني: أنها لا شيء لها من الصداق [كما للرجل] (¬1)، وهو قول ابن نافع، ولا فرق عنده بين قيامها بحدوث فقر أو حدوث عيب، وهذا هو الأظهر. فإن كان الفراق بغير تسبب واحد من الزوجين، وكان ذلك من غيرهما، كمن تزوج كبيرة ومرضعتين، فأرضعتهما الكبيرة قبل البناء، فنكاح الكبيرة منفسخ على كل حال؛ لأنها من أمهات نسائه، ولا شيء لها من الصداق؛ لأن الفسخ جاء من قبلها, وله أن يختار إحدى المرضعتين. واختلف في التي يفارقهما منهما، هل لها شيء من الصداق، أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها لا شيء لها من الصداق، لا نصف ولا غيره، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن لها ربع صداقها؛ لأنه لو فارقها قبل أن يختار كان النصف بينهما. والثالث: أن لها نصف صداقها، كما لو طلقها طوعًا؛ لأنه طلاق لا سبب لها فيه، وهو قول ابن حبيب في "واضحته". وسبب الخلاف: المخير بين شيئين هل يعد مختارًا [لما ترك] (¬2) أم لا؟ وذلك أن الزوج قادر على أن يطلق التي أمسك، ويمسك التي طلق. ومن رأى أنه لا يعد مختارًا [لما ترك] (¬3) قال: لا شيء عليه؛ لأنه مغلوب على الفراق. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: لأحدهما. (¬3) سقط من أ.

وعلى القول بأن الزوج يغرم لها نصف الصداق، وهل يرجع الزوج بذلك على الكبيرة، أو هل ترجع عليها الصغيرة بنصف صداقها على القول بأنها لا شيء لها على الزوج؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الزوج يرجع عليها بما غرم على المرضعة؛ لأنه بسببها غرم، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب القطع في السرقة": في الشاهدين إذا شهدا على رجلٍ أنه طلق زوجته قبل البناء، ثم رجعا عن شهادتهما بعد الحكم بها فقال ابن القاسم: يغرمان نصف الصداق، فظاهره أنهما يغرمانه للزوج على الخلاف في ذلك. والثاني: أن الزوج لا يرجع على الكبيرة بشيء مما غرم [وهو قول أشهب] (¬1) في مسألة السرقة. وسبب الخلاف: الغرور بالفعل، هل يلزم أو لا يلزم؟ فمن رأى أن الغرور بالفعل يلزم، قال: يرجع عليها؛ لأنها تسببت بفعلها إلى أن غرم الزوج نصف الصداق. ومن رأى أن الغرور بالفعل لا يلزم قال: لا يرجع عليها بشيء. وهكذا الخلاف في الصغيرة، وهل يرجع على الكبيرة [على القول] (¬2) بأنها لا شيء لها على الزوج أم لا؟ على قولين. وسبب الخلاف: ما قدمناه [آنفا] (¬3). ومن رأى أنها ترجع عليها بنصف صداقها، قال: لأنها فوتت عليها دينًا وجب لها على زوجها بفعلها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع، هـ: أيضًا.

ومن رأى أنها لا ترجع عليها بشيء، قال: لأنها لم تفوت عليها بفعلها شيئًا، لكون سلعتها معها؛ ولهذا أخذ العوض التام عنها مهما أحبت، على الوجه الذي يكون الصداق بينهما نصفين. وإذا وقع الطلاق بينهما قبل [البناء] (¬1) باختيار من الزوج، فلا يخلو الصداق من أن يكون قائمًا بيدها أو فائتًا. فإن كان قائمًا أخذ الزوج نصفه، واختلف هل يرجع الزوج بالغلة إن كان الصداق مما له علة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها ترد نصف [الغلة وتحاسب فيها بما أنفقت ما لم تكن النفقة أكثر من الغلة، وهو قول ابن القاسم في "كتاب النكاح الثاني" من "المدونة". والثاني: أنها لا ترد الغلة] (¬2)؛ لأن الغلة بالضمان ولأن الصداق لو هلك كان الضمان منها، وكان للزوج أن يبني بها، وهو قول عبد الملك في "كتاب المذكور"، وهو قول الغير المذكور [فيه] (¬3)، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" أيضًا. وسبب الخلاف: اختلافهم في المرأة هل تملك جميع الصداق بالعقد أم لا تملك إلا نصفه خاصة؟ فإن كان الصداق فائتا فلا يخلو ذلك من أربعة أوجه: أحدها: أن يكون سببا للفوات من جهتها. والثاني: أن يكون من قبل الله تعالى. ¬

_ (¬1) في ع، هـ: الدخول. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

والثالث: أن يكون من [قبل] (¬1) آدمي أجنبي. والرابع: أن يكون ذلك [بسببها] (¬2) من [قبل] (¬3) الصداق نفسه. فأما الوجه الأول: إذا كان سبب الفوات من جهة الزوجة، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن يكون تفويتا معنويا، مثل: أن تهب أو تعتق [أو يكون تفويتها تفويتا يرجع إلى أن تختص هي فيه من منافعها الخاصة أو في منافعهما جميعا وزوجها] (¬4) أو تبيع. فإن كان تفويتها تفويتا معنويا، مثل أن تهب الصداق أو تتصدق به أو تعتق إن كان عبدًا أو أمة فلا تخلو الزوجة من أن تكون موسرة أو معسرة: فإن كانت موسرة يوم الطلاق فلا إشكال في نفوذ ما فعلت وتغرم للزوج نصف القيمة. واختلف في القيمة متى تعتبر؟ على قولين: أحدهما: أن عليها القيمة يوم الهبة أو العتق، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أن القيمة يوم القبض، وهو قول عبد الملك. وإن كانت يوم الطلاق معسرة، فلا تخلو من أن تكون يوم الهبة موسرة ¬

_ (¬1) في ع، هـ: سبب. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ، جـ: سبب. (¬4) سقط من أ.

[أو معسرة. فإن كانت معسرة فللزوج الرجوع في عين شيئه إن كان قائما واتباع ذمة زوجته إن كان فائتا، فإن كانت يوم الهبة موسرة] (¬1) ويوم العتق معسرة فقولان، وقد قدمناهما بشرحٍ كافٍ. [والحمد لله وحده] (¬2). فإن فوتته فواتا يرجع إلى منفعتها الخاصة بها، مثل أن تشتري بصداقها ما لا يصلح لجهازها، فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن تشتري ذلك من زوجها. والثاني: أن تشتري من أجنبي. فإن اشترت ذلك من زوجها مثل: أن تشتري [منه] (¬3) عبدًا أو دارًا، ثم طلقها قبل البناء بها، فهل يرجع عليها بنصف ما اشترت أو بنصف ما أصدقها؟ على قولين: أحدهما: أنه يرجع عليها بنصف ما اشترت، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يرجع عليها بنصف ما أصدقها، كما لو اشترت ذلك من أجنبي، وهو الأظهر. وما رأيت لقول ابن القاسم في "المدونة" وجهًا إلا شيئًا ذكره إسماعيل القاضي وذلك بأن قال: إنما جوز للزوج الرجوع عليها بنصف ما اشترت منه، لاحتمال أن يكون حابته في الشراء فإذا رجع عليها بنصف ما أصدقها: كان ذلك ظلما عليها، فوجب له الرجوع عليها بنصف ما اشترت ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من أ، ع. (¬3) سقط من أ.

[منه؛ لأن الزوج على ذلك دخل فكأنه الذي أصدقها، فإن اشترت ذلك من أجنبي فلا خلاف في المذهب أنه يرجع عليها بنصف ما اشترت به] (¬1)، الذي هو الصداق. فإن فوتته فواتا ترجع منفعته إليهما جميعًا مثل أن تشتري به ما يصلح لجهازها مما جرت به العادة لأمثالها: فلا خلاف في المذهب عندنا أيضًا أنه يرجع عليها بنصف ما اشترته، لأن الزوج على ذلك دخل. والوجه الثاني: إذا كان الفوات من قبل الله تعالى فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يكون فواتًا للكل. والثاني: أن يكون نقصانًا. والثالث: أن يكون زيادة. والرابع: أن يكون زيادة ونقصانًا. فإذا فات فوات الكل، ولها على ذلك بينة، فالضمان [منهما] (¬2) جميعًا، ولا يرجع عليها الزوج [بشيء] (¬3)، سواء كان مما يغاب [عنه] (¬4) أو مما لا يغاب [عنه] (¬5). فإن لم يقم لها على الفوات بينة فإن كان مما لا يغاب [عنه] (¬6) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: عليه. (¬5) في أ: عليه. (¬6) في أ: عليه.

كالحيوان والعبيد فالقول قولها ما لم يتبين كذبها. وإن كان مما يغاب عليه فلا يقبل قولها في الفوات. وإن كان نقصانًا فذلك بينهما ولا ضمان عليها فيما نقص. فإن كان زيادة أو زيادة ونقصانًا: فذلك بينهما أيضًا إنصافا على ما هو عليه من نماء أو نقصان. والوجه الثالث: إذا كان التفويت من سبب أجنبي مثل أن يكون الصداق عبدًا فجنى عليه أجنبي جناية، [فإنهما يتبعان به بما] (¬1) نقصته الجناية، ويكون بينهما نصفين، فمن عفا منهما سقط حقه وأتبعه الآخر بقدر حقه. والوجه الرابع: إذا كان سبب الفوات من قبل الصداق نفسه مثل أن يكون عبدًا فيجني عليه جناية فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن [يسلمه] (¬2) من هو في يديه منهما من الزوج أو الزوجة. والثاني: [أن يفتديه بأرش تلك الجناية] (¬3). فإن أسلمه من هو في يديه منهما [على القول أن المرأة تملك نصف الصداق بالعقد خاصة] (¬4) فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يحابي في الدفع. ¬

_ (¬1) في ع، هـ: فإنما يتبعاه بقدر ما. (¬2) في أ، جـ: يفتديه. (¬3) في أ، جـ: أن يسلمه إلى المجني عليه. (¬4) سقط من أ، جـ.

والثاني: أن يسلم من المحاباة [فإن سلم من المحاباة فلا شيء للآخر علي العبد ولا له على صاحبته شيء وهو نص مالك في الكتاب في المرأة] (¬1). فإن [حابت] (¬2) في الدفع [من دفعه] (¬3) منهما، فلا يخلو العبد من أن يكون قائمًا بيد المجني عليه أو فائتًا: فإن كان قائمًا كان الخيار للآخر منهما بين أن يدفع نصف الجناية [ويسترجع] (¬4) نصف العبد أو يرضى بفعل صاحبه [بالتسليم] (¬5). فإن كان العبد قائمًا، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون فواته فواتًا حسيًا. أو يكون فواته فواتا معنويًا. فإن كان فواته فواتا حسيًا مثل أن يموت عند، فلا يخلو موته من أن يموت حتف أنفه أو مات مقتولًا. فإن مات حتف أنفه، هل يرجع الآخر على الذي حابى في الدفع بقدر نصيبه [في] (¬6) المحاباة أم لا؟ على قولين في المذهب: ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) في أ، جـ: حابى. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، جـ: ويرجع. (¬5) في أ، جـ: في التسليم. (¬6) في أ، جـ: من.

أحدهما: أنه يرجع عليه بحقه من المحاباة، وهو قول محمَّد بن الموَّاز. والثاني: أنه لا يرجع عليها بشيء إن كان الدفع من الزوجة؛ لأنها تقول: لم يكن عليَّ أن أفتديه وكرهت أن أدفع ثمنًا من عندي [وكرهت بقاءه عندي] (¬1) خوفًا أن يعود لمثل ذلك، إلي هذا أشار أبو الحسن اللخمي - رضي الله عنه -. فإن مات مقتولا فلا يخلو المجني عليه من أن يأخذ فيه أرشًا أم لا؟ فإن أخذ فيه أرشًا، فللذي لم يسلمه من الزوجين خيار بين أن يأخذ نصف المحاباة من صاحبه أو يدفع نصف الأرش للمجني عليه أو لا يشاركه فيما أخذ من قيمة العبد من الذي قتله، وإن لم يأخذ فيه، فالحكم فيه كالحكم أن لو مات حتف أنفه، وقد قدمناه. فإن كان فواته فواتًا معنويًا، مثل أن يفوت بحوالة سوق فاعلا، فللذي لم يسلمه من أحد الزوجين الخيار أيضًا بين أن يرجع على صاحبه بنصف المحاباة أو يدفع للمجني عليه نصف الأرش، ويكون العبد بينهما نصفين [فإن فداه من هو في يديه منهما بأرش تلك الجناية فلا سبيل للآخر إلى أخذ نصفه حتى يدفع له نصف ما فداه] (¬2) والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

المسألة التاسعة إذا تزوجها على من يعتق عليها

المسألة التاسعة إذا تزوجها على من يعتق عليها ولا يخلو ذلك من أربعة أوجه: إما أن يتجهلا جميعًا، أو يعلما جميعًا، أو يجهل الزوج وتعلم المرأة، أو تجهل الزوجة ويعلم الزوج. فإن جهلا جميعًا الزوج والزوجة، ثم علما بعد ذلك، وقد [طلقها (¬1) أو لم يطلق فإنه يعتق عليها بالعقد، ويكون التراجع بين الزوجين إن طلق فليرجع عليها بنصف قيمته أو يرجع في نصف العبد ويكون معها شريكا. وإن [لم] (¬2) يطلَّق فلا ترجع عليه بقيمته؛ لأن العقد وقع على عوض مملوك تجوز المعاوضة به وعليه، واستمرار الملك بعد ثبوته أمرًا آخر. فإن علما جميعًا الزوج والزوجة فإن العبد عتيق، ويكون ولاؤه لها، ولا رجوع لها على الزوج بشيء. واختلف في الزوج إذا طلقها هل يرجع عليها بنصف قيمته أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن يتبعها بنصف قيمة العبد. والثاني: أنه لا يرجع عليها بشيء. ¬

_ (¬1) في أ، جـ: طلق. (¬2) سقط من أ.

والقولان لمالك -رحمه الله [ولا خلاف عندنا] (¬1) في المذهب، أنه لا سبيل له إلى رد العتق في العسر واليسر. فإن جهل الزوج وعلمت المرأة فللزوج الرجوع عليها إن طلق في نصف العبد إن كانت معسرة أو بنصف قيمته إن كانت موسرة. فإن جهلت الزوجة بأنه أبوها أو من يعتق عليها، ففي رجوع الزوج [عليها إن طلق] (¬2) قولان وقد قدمناهما. واختلف في رجوعها على الزوج على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن لها أن ترجع عليه بقيمة جميعه [إن أمسك] (¬3) أو بقيمة نصفه إن طلِقَّ؛ لأن ذلك غرور [في القول] (¬4) والفعل، وهو ظاهر "المدونة" في غير ما موضع، وهو نص قوله في "كتاب محمَّد" وفي "المبسوط". والثاني: أنها لا ترجع [عليه] بشيء، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الفرائض" من "المدونة" في العامل إذا اشترى من يعتق على رب المال أو على العامل، وظاهره لا فرق بين أن يعلم البائع أو لا يعلم، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب العتق الثاني" من "المدونة" [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، جـ: بالقول. (¬5) زيادة من ب.

المسألة العاشرة في نكاح التفويض

المسألة العاشرة في نكاح التفويض ونكاح التفويض: هو أن يتزوج الرجل المرأة ولم يذكر الصداق لا إثباتا ولا إسقاطا. ولا خلاف بين الأمة في جوازه لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬1) [معناه ولم تفرضوا لهن فريضة] (¬2) فأباح الله تعالى الطلاق قبل البناء وقبل التسمية، فكان ذلك دليلًا على نكاح التفويض؛ لأن الطلاق لا يلزم إلا في نكاح صحيح، فدل ذلك على جوازه. فإذا ثبت ذلك فالزوج بين خيارات ثلاث: إما أن يطلق ولا يفرض، وإما أن يفرض صداق المثل، وإما أن يفرض ما يطلبه إليه من له الرد والقبول. فإن طلَّق ولم يفرض لها فليس لها من الصداق شيء وإنما لها المتاع، وهذا هو المشهور عند العلماء [ومنهم] (¬3) من ذهب إلى أنها إذا طلبت الفريضة لزم الزوج أن يفرض لها صداق المثل، ولا خيار له في ذلك. فإن طلق الزوج قبل الفريضة لزم [على] (¬4) ما قال هذا القائل أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية (236). (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: ومن العلماء. (¬4) سقط من أ.

يكون لها نصف الصداق، وذلك بعيدٍ جدًا، ومراغم لكتاب الله تعالى، لأن الله تعالى لم يثبت لها إذا طلقت قبل البناء إلا المتاع. فإن فرض لها الزوج صداق المثل، فلا كلام لأحد في ذلك، لا لها ولا لأوليائها. واختلف في المثلية المعتبرة، ما هي؟ فقال قائل: المثلية نساء عصبتها خاصة، وهو مذهب الشافعي. وقائل يقول: يعتبر في ذلك نساء قرابتها من عصبتها وغيرهم، وهو مذهب أبي حنيفة. وقائل يقول: تعتبر المثلية بذوات الأرحام خاصة، وهو مذهب ابن أبي ليلى. وقائل يقول: تعتبر في المثلية الحال والمال [والجمال] (¬1) والشطاط، من غير التفات إلى نساء قومها ولا إلى قرابتها، وهو مذهب مالك - رضي الله عنه -. وسبب الخلاف: هل المماثلة في [المنصب] (¬2) فقط أو [في المنصب] (¬3) في المال [والجمال] (¬4)؟ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تنكح المرأة لدينها وجمالها ومالها، فعليك بذات الدين تربت يداك" (¬5). فإن فرض ما طلبه به من له الرد والقبول، فلا يخلو من أن يطلب إليه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: الصنف. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، جـ: والحال. (¬5) تقدم.

صداق المثل أو [فرضه هو ابتداء قبل أن يسأله فرضيت به أو رضي به الولي أو] (¬1) طلب إليه أقل من صداق المثل. فإن طلب إليه أقل من صداق المثل: ففعل، فلا كلام لواحد منهما في ذلك. فإن طلب إليه أقل من صداق المثل أو فرضه هو ابتداء قبل أن يسأله فرضيت به أو رضي به الولي، فلا يخلو حالها من ثلاثة أوجه: إما أن تكون ذات أب، أو ذات وصي، أو مهملة. فإن كانت ذات أب فلا تخلو من أن تكون مالكة أمر نفسها أو غير مالكة. فإن كانت مالكة أمر نفسها فالرضا بالصداق إليها دون الأب. فإن فرض أقل من صداق [المثل] فرضيت به جاز ذلك، ولا كلام في ذلك لأبيها. وإن كانت غير مالكة أمر نفسها فالرضا في ذلك إلى الأب. فإن فرض لها الزوج أقل من صداق مثلها، وكان ذلك قبل البناء أو بعده فرضي بذلك الأب، فهل يجوز ذلك على الابنة أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك جائز عليهما، وهو قول مالك في "كتاب النكاح الثاني". والثاني: أن ذلك [غير] جائز، وهو قوله في "كتاب النكاح الأول" ¬

_ (¬1) سقط من أ.

[من المدونة] (¬1). وقد أتقنا هذه المسألة في "كتاب النكاح الأول" إتقانًا لا مزيد عليه. فإن كانت ذات وصي فلا تخلو من أن تكون رشيدة أو سفيهة. فإن كانت رشيدة: فالرضا إليها دون وصيها. فإن فرض لها أقل من صداق مثلها فرضيت به جاز ذلك ولا كلام للوصي. فإن رضي به الوصي دونها لم يجز. فإن كانت سفيهة، فرضى لها الزوج صداق مثلها جاز ذلك ولا كلام لها ولا للوصي. فإن فرض لها أقل من صداق مثلها، فرضيت بذلك دون الوصي لم يجز. وإن رضي بذلك الوصي دونها، فقولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن ذلك جائز عليها ولازم لها؛ لأن النظر في المال إلى الوصي لا إليها، وهو ظاهر قوله في "كتاب ابن حبيب" وهو اختيار شيوخنا المتأخرين. والثاني: أن ذلك لا يجوز إلا باجتماع منهما على الرضا، وهو ظاهر ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قول مالك في "باب نكاح التفويض" من "المدونة". وفي المسأله قول ثالث: أن ذلك لا يجوز وإن تراضيا؛ لأن رضاها لا يعد رضا، لكونها محجورًا عليها، ومحاباة الوصي في مالها لا يجوز أيضًا، فلم يبق إلا المنع، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة". فإن كانت مهملة وكانت ثيبًا: فالرضا بالصداق إليها دون وليها. وإن كانت بكرًا ففرض لها الزوج أقل من صداق مثلها، فهل يجوز لها الرضا بما فرض لها أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن رضاها بذلك لا يجوز، هو ظاهر قول مالك في "المدونة". والثاني: أن رضاها بأقل من صداق المثل جائز، وهو وقل الغير في بضع روايات "المدونة"، وعليها اختصر أكثر المختصرين، كأبي سعيد وغيره. وسبب الخلاف: هل البلوغ علامة الرشد [حتى يظهر السفه؟ أو يحمل بعد البلوغ على السفه حتى يتبين الرشد؟ وإلى أن البلوغ دلالة على الرشد] (¬1) في الذكران والإناث. ذهب زياد شبطون فيما رواه عن مالك، وهو ظاهر قول ابن القاسم في الذكران في "كتاب النكاح الأول" من "المدونة" في قوله: وإذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء إلا أن يخاف عليه من ناحية السفه، فللأب أن يمنعه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ومشهو [المذهب] (¬1): [أن] (¬2) الاحتلام لا يكون دلالة على الرشد لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رشْدًا فَادْفَغوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ...} الآية (¬3). وقد ينبني فيه الخلاف على الخلاف في أفعال السفيه غير المحجور عليه، هل هي على الجواز حتى ترد أو على الرد حتى يجاز؟ ومشهور المذهب: أنها على الجواز حتى ترد وما أظن خالف في ذلك من أصحاب مالك إلا ابن القاسم [فإن مات أحدهما فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يموت قبل البناء وقبل التسمية. والثاني: أن يموت قبل البناء وبعد التسمية. والثالث: أن يموت بعد البناء] (¬4). فإن مات أحدهما قبل البناء وقبل الفريضة، فلا خلاف في مذهب مالك -رحمه الله- أنها لا شيء لها من الصداق وأنهما يتوارثان بينهما. وذهب أبو حنيفة إلى أن لها [صداق المثل] (¬5)، وهو أحد قولي الشافعي. وسبب الخلاف: معارضة القياس للأثر. أما الأثر فما أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود أنه ¬

_ (¬1) في أ، جـ: المدونة. (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة النساء الآية (6). (¬4) سقط من أ. (¬5) في ع، هـ: الصداق.

سئل عن هذه المسألة، فقال: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني، أرى لها صداق امرأة من نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن يسار الأشجعي، فقال: "أشهد لقضيت فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بروع بنت واشق" (¬1). فأما القياس [المعارض] لهذا الأثر: فهو أن الصداق عوض، فلما لم يقبض العوض لم يجب العوض قياسًا على البيع، ولا يعترض على هذا القياس بالمتوفى عنها [قبل البناء وقبل التسمية؛ لأن الأصل كان ألا شيء لها من الصداق أيضًا؛ لأنها خرجت بالإجماع وقال المزني من أصحاب الشافعي - رضي الله عنه -] (¬2): إن ثبت حديث بروع فلا حُجَّة لأحدٍ مع السنة والذي قاله هو الصواب. والله أعلم. فإن مات أحدهما قبل البناء وبعد التسمية، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون التسمية في المرض. والثاني: أن تكون في الصحة. فإن كانت التسمية في الصحة، فلم يدخل بها حتى مات أحدهما فلا خلاف أن لها جميع الصداق الذي فرض لها والميراث بينهما. فإن كانت التسمية في المرض، فلا تخلو من أن تكون هي المريضة أو الزوج هو المريض. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2116) والترمذي (1145)، والنسائي (3354)، وأحمد (4276)، وابن حبان (4100)، وصححه الألبانى. (¬2) سقط من أ.

فإن كانت الزوجة هي المريضة، ففرض لها وهو صحيح، فلا تخلو من أن تموت من مرضها وهو صحيح أو تموت وهو مريض. فإن ماتت وهو صحيح فالصداق لورثتها، ميراثًا بينهم وبينه. وإن ماتت وهو مريض، فلا يخلو من أن يموت من ذلك المرض أو يصح بعد موتها. فإن مات من ذلك المرض، فلا صداق لها ولا لورثتها , لا في الثلث ولا في رأس مال؛ لأن ذلك من باب "لا وصية لوارث". فإن صحَّ من مرضه، فهل يكون ما فرض لها ميراثًا بينهم وبينه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا شيء [عليه] (¬1) مما فرض وهو مريض، وهو ظاهر قوله في كتاب النكاح [الثاني] (¬2) من "المدونة" في "نكاح المريض". والثاني: أن ذلك لازم له أو لورثته، وهو قول أصبغ، لأنه إذا صح تبين أن ذلك المرض مما لا يخشى عليه منه الموت. فإن كان الزوج هو المريض، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يفرض ويدخل. والثاني: أن يفرض ولم يدخل. فإن فرض في المرض ودخل بها فيه كان لها الأقل من المسمَّى أو صداق المثل من رأس ماله؛ لأن العقد في الصحة، والدخول في المرض بوجهٍ جائز ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

يفارق النكاح في المرض. فإن مات بعد البناء وقبل التسمية، فلها صداق المثل من رأس المال، والله أعلم [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الحادية عشرة في نكاح التحكيم

المسألة الحادية عشرة في نكاح التحكيم واختلف في نكاح التحكيم، هل هو مثل نكاح التفويض، وهو أن يتزوجها على حكمه أو على حكمها، أو على حكم فلان لوليها، أو على حكم أجنبي من الناس مستقل بذلك أو شارك أحد الزوجين فيه، أو نكاح التحكيم على خلاف نكاح التفويض؟ على أربعة أقوال: أحدهما: أن نكاح التحكيم مثل نكاح التفويض في الجواز إطلاقا، وهو قول ابن حبيب. والثاني: المنع مطلقا ما لم يفت بالدخول، وهو قول الغير في "المدونة". والثالث: التفصيل بين تحكيم الزوج فيجوز، وبين تحكيم غيره فيمنع، زوجة كان [المحكم] (¬1) أو غيرها، وهو قول [ابن عبد الحكم] (¬2) في "كتاب محمَّد". والقول الرابع: بالتفصيل بين أن تحكم الزوجة فيمنع، وبين غيرها فيجوز، زوجا كان أو غيره، وهو قول عبد الملك [أيضا] (¬3). فعلى القول بجوازه مطلقا، هل الحكم فيه على الحكم في التفويض أو على عكسه؟ فالمذهب على خمسة أقوال: ¬

_ (¬1) في أ: الحكم. (¬2) في ع، هـ: عبد الملك. (¬3) سقط من أ.

أحدها: أن الحكم فيه على الحكم في نكاح التفويض، وأن الغرض في ذلك إلى الزوج، سواء كان الحكم إليه أو إليها أو إلى أجنبي، وهذا القول حكاه ابن حبيب عن ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ. والثاني: أن الحكم فيه على عكس نكاح التفويض، وأن المحكم هنا كالزوج في التفويض، فإن فرض صداق المثل لزمها. وإن حكم بأقل من صداق المثل لزم الزوج، وكانت المرأة بالخيار، وإن فرض أكثر من صداق المثل لزم المرأة، والزوج بالخيار، ويجعل هذا معنى قوله في "الكتاب": إن رضي بما حكمت أو رضيت بما حكم فلان أجاز النكاح، وإلا فرق بينهما، فلم يكن عليه شيء بمنزلة التفويض، إذا لم يفرض لها صداق المثل، وهذا تأويل أبي الحسن القابسي على "المدونة". والقول الثالث: أن الحكم لا يلزم إلا بتراضي الزوج والمحكم زوجة كانت أو غيرها. فإن فرض الزوج صداق المثل فأكثر ولم ترض بذلك المحكم، زوجة كانت أو غيرها لم يلزم. وإن فرض الحكم صداق المثل فأقل برضاها لم يلزم الزوج إلا أن يشاء، وهو تأويل أبي محمَّد. والرابع: أنه لا يلزم إلا بتراضي الزوجين، وهو قول عبد الملك في "كتاب محمَّد". والخامس: أنه لا يلزم إلا بتراضي الزوجة، وهو قول عبد الملك. وسبب الخلاف: [اختلافهم] (¬1) في الرخص هل يقاس عليها أو لا يجوز القياس عليها؟ وذلك أن نكاح التفويض رخصة من الله تعالى ورفقا بعباده. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الثانية عشر في نكاح المريض والمريضة

المسألة الثانية عشر في نكاح المريض والمريضة ولا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن تكون المرأة هي المريضة. والثاني: أن يكون الزوج هو المريض. فإن كانت الزوجة هي المريضة، فتزوجها في مرضها، فلا يخلو من أن يعثر على ذلك قبل الصحة أو بعد الصحة. فإن عثر على ذلك بعد أن صحَّت، هل يثبت النكاح أو يفسخ بينهما؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أنه يفسخ وإن صحَّت، وهو الذي رجع عنه مالك. والثاني: أنها إن صحت ثبت النكاح بينهما، وهو الذي ذهب إليه مالك. وعلى القول بأنه يفسخ وإن صحت، فلا يخلو من أن يعثر على ذلك قبل الدخول أو بعده. فإن عثر عليه البناء، فلا صداق لها , لا نصف ولا غيره. وإن عثر على ذلك بعد البناء، كان لها المسمى على أشهر المذهب، ولا ميراث بينهما. وإن ماتت هي فلا يرثها، وإن كان أبوها هو الذي زوجها ولا وارث لها غيره، وهذا نص قول ابن القاسم في "كتاب محمَّد" [فإن عثر عليه في

المرض فهل يجوز أن يفسخ وهو المشهور؟ قولان] (¬1): وإن كان الزوج هو المريض، فلا يخلو مرضه من أن يكون مرضًا مخوفًا منه أو غير مخوف منه. فإن كان غير مخوف ويده مطلقة بالتصرف في ماله فحكمه حكم الصحيح في جميع أموره ولا إشكال في ذلك. وإن كان مرضه مرضًا يخاف عليه منه حتى يمنع من التصرف في جميع ماله بالتعارف، فهل يجوز نكاحه أو لا يجوز؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن النكاح فاسد ويفسخ، متى عثر عليه ولا ميراث فيه، وهو مشهور المذهب. والثاني: أن النكاح جائز جملة بلا تفصيل، وهو قول مطرف. والثالث: التفصيل بين أن [يكون] (¬2) نكاحه للحاجة [والإصابة] والقيام بحقوق الزوجة فيجوز، أو يكون غير قادر على الإصابة وقصد الإضرار بالزوجة فلا يجوز، وهذا القول حكاه ابن المنذر عن مالك وابن القاسم. وعلى القول بفساد النكاح، فإن صحَّ فهل يثبت النكاح أم لا؟ على قولين [منصوصين في المدونة. وعلى القول بأنه يفسخ إن عثر عليه في المرض، هل يكون فسخه بطلاق أو بغير طلاق فالمذهب على قولين قائمين] (¬3) من "المدونة": ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

أحدهما: أنه يفسخ بطلاق، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يفسخ بغير طلاق، وهو قول أشهب. وهكذا اختلفوا أيضًا إذا مات من مرضه ذلك، هل عليها عدة الوفاة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها تعتد عدة الوفاة، وهو أحد قولي ابن القاسم على ما حكاه عنه أبو محمَّد في "النوادر". والثاني: أن عدتها ثلاثة قروء، وهو قول أشهب، وإليه رجع ابن القاسم. وسبب الخلاف: في جميع ما قدمناه [اختلافهم] (¬1) في العلة التي لأجلها منع نكاح المريض، هل العلة فيه استدخال الوارث على الورثة [أو] العلة الغرر الحاصل في الصداق؟ فمن ذهب إلى أن العلة المؤثرة في نكاح المريض استدخال الوارث على الورثة؛ لأنه كما منع من استخراج الوارث كذلك يمنع من استدخاله، وإلى هذه العلة مال [جمهور] (¬2) متفقهة الزمان. واختلف على موجب هذه العلة إذا تزوج أمة أو نصرانية، هل يجوز نكاحه أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يجوز نكاحه أيضًا، وهو قول محمَّد بن الموَّاز. والثاني: أن النكاح جائز، وهو قول أبي مصعب. وسبب الخلاف: اختلافهم في الطوارئ هل تراعى أو لا تراعى؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فمن اعتبر الطوارئ قال: لا يجوز لأن الأمة قد تعتق والكتابية قد تسلم. ومن لم يعتبرها قال: بالجواز لأن الإِسلام [والعتق] (¬1) [يقل] (¬2) وقوعه. وهكذا [اختلفوا] (¬3) أيضًا إذا تزوج حرة مسلمة بإذن ورثته، هل يجوز النكاح أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز لإمكان أن يموت الآذن ويصير الميراث لغيره، وهو قول محمَّد في كتابه. والثاني: أنه جائز وهو اختيار بعض المتأخرين، وهذا مبني على الأصل الذي قدمناه. ومنهم من ذهب إلى أن العلة المؤثرة في فساد النكاح الغرر الحاصل في الصداق، إذ لا يدري هل يصح من مرضه فيكون الصداق من رأس المال أو يموت فيكون من الثلث؟ فإذا صرف إلى الثلث لا يدري ما يحمل الثلث منه هل كله أو بعضه؟ وهذا غاية ما يكون من الغرر. وهذه علة صحيحة يشهد [لها] (¬4) الاطراد والانعكاس. والعلة الأولى ضعيفة في نفسها لوجود الحكم [مع عدمها] (¬5)، وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع: مما، وفي هـ: مما يندر. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: لصحتها. (¬5) في أ، جـ: بعدها.

عدم التأثير عند الأصوليين، وقد قال مالك في "كتاب الأيمان بالطلاق" فيمن طلق امرأته في مرضه قبل البناء بها ثم تزوجها قبل صحته انفسخ [نكاحه] (¬1) معها، إلا أن يدخل بها، فيكون كمن [تزوج] (¬2) في المرض وبنى فيه. فقد فسخ نكاح المريض في هذه المسألة مع عدم العلة التي هي استدخال الوارث؛ لأنها ترثه على كل حال إن مات من ذلك المرض، لأنها مطلقة، فثبت أن العلة التي يصح أن يعلل بها الحكم الغرر في الصداق، كما قدمناه. فإذا ثبت أن العلة الغرر في الصداق، فإن وقع الدخول، هل يكون صداقها من الثلث أو من رأس المال؟ قولان: أحدهما: أن الصداق يخرج من رأس المال، وهذا القول مروى عن المغيرة، وهو شاذٌ جدًا. والثاني: أنه يخرج من الثلث، وهو المشهور، والذي عليه الجمهور. وعلى القول بأنه يخرج من الثلث، هل يجعل في الثلث صداق المثل [أو الأقل؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال. أحدها: أنه يجعل في الثلث صداق المثل] (¬3) بالغ ما بلغ, هو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب النكاح الثاني" من "المدونة"، وعلى ما تأوله الشيخ أبو عمران الفاسي، وهو قول ابن حبيب في "واضحته". ولا فرق ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: نكح. (¬3) سقط من أ.

في ذلك بين أن يتزوجها [بتفويض] (¬1) أو على صداق سمى. الثاني: أنه يجعل في الثلث الأقل من التسمية أو صداق المثل، وهو ظاهر [قول ابن القاسم أيضًا] (¬2) في كتاب "الأيمان بالطلاق" من "المدونة"، وهو [ظاهر] (¬3) قول سحنون في "كتاب النوادر"، وعزاه إلى عبد الرحمن ابن القاسم. والقول الثالث: بالتفصيل بين أن يكون تفويض أو تسمية. فإن كان تسمية فجميعه مصروف إلى الثلث. وإن كان بتفويض فإن الزائد على صداق المثل ساقط، وهو قول محمَّد واختياره. وعلى القول بأن صداق المثل مصروف إلى الثلث، هل يُبدا على المدبر في الصحة أو المدبر في الصحة يُبدا عليه؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن صداق المنكوحة في المرض مُبدا على جميع الوصايا وعلى المدبر فى الصحة، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب النكاح الثاني" من "المدونة"، وهو قول ابن القاسم في "النوادر" أيضًا. والثاني: أن المدبر في الصحة مُبدا على صداق المنكوحة في المرض، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الزكاة" و "كتاب الوصايا" من "المدونة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: قوله. (¬3) سقط من أ.

والثالث: [أنه] (¬1) يُبَدَّا بقدر صداق المثل على الوصايا والزائد، ويحاصص [به] (¬2) مع [أهل] (¬3) الوصايا، وهو قول أصبغ. والرابع: أن المدبر في الصحة وصداق المنكوحة في المرض يتحاصان. فوجه قول من قال بتبدية الصداق على المدبر، أن الصداق قد يكون من الثلث إن مات من ذلك المرض، وقد يكون من رأس المال إن صح، والمدبر مصيره من الثلث على كل حال، فكان الصداق [أولى و] (¬4) أقوى. ووجه قول من قال بتبدية المدبر، عقدٌ عقده في الصحة والمنكوحة في المرض عقد عقده، وفعل الصحة أبدًا [مقدم] (¬5) على فعل المرض. ووجه قول من قال أنهما يتحاصان، لقوة أمرهما وعدم الترجيح لأحدهما، فلم يبق إلا التحاصص بينهما، [والحمد لله وحده] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ع، هـ: مبدي. (¬6) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الثالثة عشر في دعوى الأخوة بين الزوجين

المسألة الثالثة عشر في دعوى الأخوة بين الزوجين ولا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يدعى ذلك الزوجان فيما بينهما. والثاني: أن [يدعي ذلك] (¬1) الأبوان أو أحدهما. والثالث: أن يدعى ذلك الأجنبيون. فالجواب عن الوجه الأول: إذا ادعى ذلك أحد الزوجين، فلا يخلو من أن يدعيه الزوج أو الزوجة. فإن ادّعا الزوج أنها أخته من الرضاعة، فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن تصدقه. والثاني: أن تكذبه. فإن صدقته، فلا يخلو من أن يكون ذلك قبل العقد أو بعده. فإن كان قبل العقد: فلا يجوز النكاح بينهما لتقاررهما على أنفسهما بالأخوة فيما بينهما. وإن كان بعد العقد، فلا يخلو من أن تكون الزوجة مالكة أمر نفسها أو غير مالكة. فإن كانت مالكة أمر نفسها، فالنكاح بينهما مفسوخ، ولا شيء لها من ¬

_ (¬1) في أ: يدعيهما.

الصداق. إن كانت غير مالكة أمر نفسها، فالصداق واجب لها على زوجها إن كان بعد البناء أو نصفه إن كان قبله، والنكاح بينهما مفسوخ كما تقدم. فإن تكاذبا، مثل أن يدعي ذلك أحدهما ويكذبه الآخر، فلا يخلو من أن يكون الزوج هو المدعي ذلك أو الزوجة. فإن كان الزوج هو مدعي [الأخوة] (¬1) وأنكرت المرأة ما ادعاه، فالقول قولها ويؤاخذ الزوج بمقتضى قوله، ويحكم عليه بطلاقها ويكون لها جميع الصداق إن كان بعد البناء أو نصفه إن كان قبل البناء. فإن كانت هي المدعية لذلك والزوج منكر، فلا يحكم عليه بفراقها بمجرد دعواها، وينظر. فإن كان ذلك بعد البناء، فإن شاء الزوج طلق أو ردت عليه جميع الصداق لأنها أغرته. وإن شاء أمسك ولا شيء عليه من قولها؛ لأنها متهمة في إرادة الفراق. والجواب عن الوجه الثاني: إذا ادعى ذلك الأبوان أو أحدهما. فإن ادعى ذلك الأبوان أو أحدهما أبو الزوج وأبو للمرأة، فلا يخلو الزوج من أن يكون ممن يلزمه عقد الأب أو لا يلزمه. فإن كان ممن يلزمه عقد الأب في النكاح لصغره، فلا إشكال [أن إقرار] (¬2) الأب في ذلك كإقراره إن كان بالغًا رشيدًا، وذلك أن عقدة النكاح ¬

_ (¬1) في ع، هـ: لأخوة الرضاع. (¬2) سقط من أ.

بيد الأب، كما أن عقدة النكاح بيد الابن. فإن كان ذلك قبل العقد، فلا يجوز للأب الإقدام على العقد. فإن كان بعد العقد، فلا يلزم الولد إقرار الأب؛ لأنه يتهم في حل ما عقده عليه من النكاح. وإن كان الولد ممن لا يلزمه عقد الأب، مثل أن يكون الولد بالغًا رشيدًا، فلا يخلوا الأبوان من أن يكونا عدلين أو غير عدلين. فإن كان عدلين أبو الزوج وأبو المرأة، فلا خلاف في قبول شهادتهما وثبوت [المحرمية] (¬1) بالرضاع بينهما. وإن كانا غير عدلين أو أحدهما، فلا يخلو من أن تقارن شهادتهما الفشو والعرف أم لا. فإن قارنها الفشو والعرف أوجبت شهادتهما [المحرمية] (¬2) بينهما. وإن لم يقارنها أوجبت التنزه، فهل يوجب التحريم أم لا؟ قولان: فإن ادعى ذلك أحد الأبوين، فلا يخلوا من أن يكون الذي ادعى ذلك أو الزوج أو أبو المرأة. فإن ادعى ذلك أبو الزوج، فعلى التفصيل الذي قدمناه إن ادعاه الأبوان. فإن ادعى ذلك أبو الزوجة: فالحكم فيه كالحكم في دعوى الأجانب، ونحن نذكره أيضًا إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) في ع، هـ: الحرمة. (¬2) في ع، هـ: الحرمة.

واختلف في الأم [هل هي كالأب] (¬1) فيما تدعيه، أعني أم الزوج أو أم الزوجة، على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الأم كالأجنبي، وهو ظاهر قوله في "المدونة" في "كتاب الرضاع"، وهو المشهور. والثاني: أن الأم كالأب، وهو قوله في "كتاب محمَّد" و"كتاب ابن حبيب" وهو ظاهر "المدونة" على إحدى الروايتين في كتاب [الرضاع] إذا قالت امرأة مكان أم المرأة. وقال بعض المتأخرين: لعل معنى ذلك إذا كانت الأم وصية على عقد النكاح، فكانت كالأب. وقال بعضهم: لا فرق بين الوصية وغيرها، بخلاف الأب، وهو الصحيح، والله أعلم. والجواب عن الوجه الثالث: إذا ادعى ذلك الأجنبيون فلا يخلو من أن يكون ذلك لشهادة قاطعة أم لا. فإن ثبت بشهادة قاطعة، فلا إشكال في العمل بمقتضاها. وإن كان ذلك بغير شهادة قاطعة، مثل أن يسمع ذلك بشهادة النساء، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك بشهادة امرأتين. والثاني: أن يكون بشهادة امرأة واحدة. فإن سمع ذلك بشهادة امرأتين، فإن كانتا [غير] (¬2) عادلتين أوجبت ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من هـ.

شهادتهما التنزه عنها ولا توجب التحريم. وإن كانتا عادلتين، فإن [قارنها] (¬1) الفشو [أوجبت التحريم، وإن لم يقارنها الفشو] (¬2)، فهل يوجب التحريم أو التنزه دون التحريم؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها توجب التحريم [وإن لم يقارنها الفشو] (¬3)، وهو قول مطرف وابن الماجشون وابن وهب وابن نافع وأصبغ في "كتاب ابن حبيب". والثاني: أنها توجب التنزه دون التحريم، وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب النكاح الثاني"، و"كتاب الرضاع" من "المدونة"، وهو قول مالك وابن القاسم. فإن سمع ذلك بشهادة امرأة واحدة [وإن لم يقارنها الفشو فهل تفيد التنزه أم لا؟ قولان:] (¬4) فإن قارنها الفشو: فلا خلاف أنها توجب التنزه، وهل توجب [المحرمية] (¬5) أم لا؟ قولان قائمان في "المدونة" منصوصان في المذهب: أحدهما: أنها توجب التنزه دون التحريم، وهو المشهور. والثاني: أنها توجب التحريم، وهو ظاهر قوله في كتاب "النكاح الثاني" من "المدونة" في قوله: شهادة المرأة [الواحدة] (¬6) في الرضاع لا ¬

_ (¬1) في جـ: قارئهما. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ع، هـ: التحريم. (¬6) سقط من أ.

يقطع بها شيء، إلا أن يكون أمرًا قد فشا وعرف. وهو نص قوله في كتاب ابن الموَّاز. وسبب الخلاف: اختلافهم في [تأويل الأثر] (¬1) المعارض للإجماع، وذلك أن الإجماع انعقد على أنه لا يقبل من الرجال أقل من اثنين، ثم لا يخلو حال النساء من أحد وجهين: إما أن تكون أضعف حالًا من الرجال. وإما أن تكون أحوالهن في ذلك متساوية للرجال. والإجماع منعقد على أنه لا يقضي بشهادة، [امرأة واحدة]، والأثر الوارد في ذلك حديث عقبة بن الحارث أنه قال: يا رسول الله إني تزوجت امرأة، فأتت امرأة فقالت: إني أرضعتكما، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف وقد قيل دعها عنك" (¬2). فذهب بعضهم إلى أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دعها عنك" أنه على الندب جمعًا بينه وبين الأصول. ومنهم من يحمل ذلك على الوجوب. والقولان عن مالك - رحمه الله، [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ، جـ: التأويل. (¬2) أخرجه البخاري (2516، 2517، 4816). (¬3) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الرابعة عشرة في الأخوين إذا تزوجا أختين، وأدخل على كل أخ زوجة أخيه

المسألة الرابعة عشرة في الأخوين إذا تزوجا أختين، وأدخل على كل أخ زوجة أخيه فالحكم في ذلك أن ترد كل واحدة منهما إلى زوجها , ولا يطأها إلا بعد الاستبراء. والحد في ذلك على من علم منهما من رجل أو امرأة. واختلف في ذلك في موضعين: أحدهما: في نفقتها في مدة الاستبراء، على من تكون؟ والثاني: في الصداق هل يرجع به على الذي وطئها أم لا؟ وأما الموضع الأول: في نفقتها أمد الاستبراء، هل هي على نفسها أو على واطئها؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن نفقتها في مدة الاستبراء على الوطء؛ لأنها احتبست من أجله. والثاني: أن نفقتها على نفسها، فإن ظهر منها حمل رجعت على الواطئ بما أنفقت. وإن خرجت من الاستبراء، لم يكن [لها] (¬1) عليه شيء؛ لأنه وطء بوجه شبهة، وإلى هذا المذهب ذهب الشيخ أبو عمران الفاسي، واتفقوا أنها: لا نفقة لها على زوجها في مدة الاستبراء؛ لأن النفقة إنما تجب على ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الزوج بالادعاء و [التمكن أو] (¬1) بالتمكين على الانفراد على ظاهر "الكتاب". وأما الموضع الثاني: في الصداق، هل يثبت لها على الذي وطئها أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن لكل واحدة منهما صداقها على الذي وطئها، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". [والثاني]: أنه لا صداق [لها] (¬2) عليه ولا تعمر ذمته بشيء، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب تضمين الصناع" فيمن اشترى ثوبا [فغلط] (¬3) البائع [فدفع إليه] (¬4) غيره فقطعه: فلا شيء عليه في القطع. وسبب الخلاف: [اختلافهم في] (¬5) المخطئ في مال نفسه هل هو كالمخطئ في مال غيره أم لا؟ فمن رأى أنه كالمخطئ في مال غيره، قال يكون لها الصداق على الواطئ، وهو قوله في "كتاب محمد" في البائع الذي أخطأ، فدفع للمشتري غير الثوب الذي اشترى منه. ومن رأى أنه كالمخطيء في مال غيره، قال: لا صداق على الواطئ. لأنها جنت على نفسها باستعجالها في الدخول ومبادرتها قبل التثبت ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع، هـ: فأخطأ. (¬4) في ع، هـ: فأعطاه. (¬5) سقط من أ.

بزوجها وبمن تحل لها الخلوة معه، فكان الغرر من [جهتها ووبال الغرر عليها، وعلى القول بأن لها الصداق على الواطئ فهل يكون لكل واحدة منهما] (¬1) صداق المثل [أو المسمى] (¬2)، فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: لكل واحدة منهما صداق مثلها على [الواطئ] (¬3)، وهكذا ذكره أبو القاسم بن محرز أنه وجده لابن القاسم، وظاهر هذا القول ألا فرق بين أن يتساوى الصداقان أو يختلفا. والثاني: أن لكل واحدة منهما ما سُمي لها مع الزوج الأول، وهو قول سحنون، وظاهره ألا فرق بين المساواة وعدمها. والقول الثالث: التفصيل بين أن يتفق الصداقان، فيكون [كما قال سحنون الصداقان فيكون] (¬4) كما قال ابن القاسم، وهو قول ابن لبابة [أيضًا] (¬5). فوجه القول الأول: لأن كل واحدة مهما دخلت على ذلك، وبه سلمت بضعها. ووجه القول الثاني: أن الواطئ وطئ بوجه شبهة، فيكون الرجوع فيه إلى صداق المثل من غير اعتبار بالتسمية، ولا يتساوى الصداقان لأن للزوج مقالا [في] (¬6) أن يقول: إنما بذلت هذا الصداق لزوجتي لجمالها أو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: واطئها. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

لدينها، وأما هذه فما كنت أبذلت لها, ولا أرضى أن تكون من نسائي، فضلا من أن أبذل لها ما بذلت لغيرها، وصداق كل واحدة منهما ثابت [لها] (¬1) على زوجها، وهل يحط عنه شيء لما كان استمتع بها غيره وأخذت منه العوض أم لا؟ فلا يخلو من أن تكون بكرًا أو ثيبًا. فإن كانت بكرًا، هل يحط عنه شيء لمكان البكارة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يحط عنه مما سمي من الصداق قدر ما يزاد فيه لأجل البكارة؛ لأنها أخطأت فيما باعته [من الأول] (¬2) بثمن، فأهلكته بتسليمها لغير المشتري. والثاني: أنه لا يحط عنه شىء لأجل البكارة؛ لأنها فعلت ما يجب عليها من التسليم جبرًا كما لو غصبت. فإن كانت ثيبًا، فلا يوضع عنه من المسمى شيء لأن وطء الواطئ لم ينقص منها شىء. [والقولان [مخرجان غير] (¬3) [منصوص عليهما] (¬4) والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ع: منصوصين. (¬5) سقط من جـ.

المسألة الخامسة عشرة في ملك أحد الزوجين صاحبه

المسألة الخامسة عشرة في ملك أحد الزوجين صاحبه وإذا ملك أحد الزوجين صاحبه، فالنكاح مفسوخ بينهما بالاتفاق، للإجماع على أنه لا يجوز للسيد أن يتزوج أمته. فإن فعل، فلا يجوز النكاح، ويكون له أن يطأها بملك اليمين. ويفسخ [النكاح] (¬1) إن هي اشترت زوجها للإجماع أيضًا على أنه لا يحل للمرأة أن تتزوج عبدها، [لما] (¬2) في ذلك من تعارض الحقوق، ولا فرق في ذلك بين أن يملك أحدهما جميع صاحبه أو بعضه. واختلف في المكاتب إذا اشترته زوجته أو اشتراها الزوج وهي مكاتبة، فهل يفسخ النكاح بينهما من الآن أو لا يفسخ إلا بعد العجز؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن النكاح مفسوخ لأن ذلك ملك الرقبة. والثاني: أنه لا يفسخ إلا بعد العجز؛ لأن الشراء الآن إنما وقع على الكتابة. وسبب الخلاف: اعتبار الحال والمآل. فإذا قلنا باعتبار المآل يفسخ النكاح بينهما من الآن، فهل يكون الفسخ بطلاق أو بغير طلاق؟ فلا يخلو ملك أحدهما لصاحبه من أن يكون بإيثار واختيار أو يكون باضطرار: ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ.

فإن كان باختيار [وإيثار] (¬1) كالشراء والهبة، وما كان في معناهما مما يرجع قبوله إلى خيرة المشترى، هل يكون فسخًا بطلاق أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه فسخ بغير طلاق , وهو مذهب المدونة. والثاني: أنه فسخ بطلاق، وهي رواية ابن وهب عن الليث. فوجه القول بأنه يفسخ بطلاق: أنه لما كان الملك باختيار المالك منهما، فكأنه أراد الطلاق واختاره، وهذا يتجه إذا كان الزوج هو المالك. وأما إن كان هو المملوك فلا؛ لأن الطلاق بيد الزوج لا بيدها، وإن اختارت الملك. ووجه قول من قال أنه فسخ بغير طلاق: أن الملك الطارئ على النكاح بوهن قواعده ويهدم أمره، فبنفس عقد الشراء انفسخ النكاح, لاستحالة اجتماعهما. وعلى هذا الخلاف يتركب الخلاف في نصف الصداق: فمن رأى أنه فسخ بطلاق قال: لها نصف الصداق. ومن رأى أنه فسخ بغير طلاق قال: لا شيء لها من الصداق. فإن كان ذلك على معنى الاضطرار مثل: أن يرث أحدهما صاحبه، فهذا لا خلاف فيه أنه فسخ بغير طلاق. فرع: في عبد زوجه سيده، وضمن عنه الصداق، ثم دفع السيد العبد إلى زوجته فيما ضمن من صداقها برضاها قبل أن يدخل بها , فلا يخلو ¬

_ (¬1) سقط من أ.

[السيد] (¬1) من أحد وجهين: إما أن [يغترى] (¬2) بذلك فسخ النكاح أم لا: فإن [اغترى] (¬3) السيد بذلك فسخ النكاح، ليفرغ بذلك عبده، فالنكاح ثابت بينهما، لقيام التهمة بينهما. فإن لم يغير السيد بذلك فسخ النكاح بينهما، فالنكاح بينهما مفسوخ. واختلف في العبد، هل يرجع إلى السيد أو يكون الخيار للزوجة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن العبد يرجع إلى السيد، ولا خيار للزوجة في ذلك، ولا شيء لها من الصداق؛ لأنه فسخ بغير طلاق، وهو [قول] (¬4) ابن القاسم [في المدونة] (¬5). والقول الثاني: أن الخيار في ذلك للزوجة إن أحبت أن تدفع الصداق للسيد ويكون لها العبد كان ذلك لها، ويعد ذلك منها شراء للعبد. وإن كرهت، رجع العبد إلى السيد ويفسخ النكاح، وذلك أنه بنفس قبولها للعبد انفسخ النكاح، وإذا انفسخ النكاح بينهما رجع العبد إلى مولاه؛ لأن الفراق من سببها لقبولها العبد ورضاها به [والحمد لله وحده والصلاة على محمَّد النبي الكريم] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ. يعتري. (¬3) في جـ. اعترى. (¬4) في أ: مذهب. (¬5) سقط من أ. (¬6) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة السادسة عشرة في نفقة الزوجات

المسألة السادسة عشرة في نفقة الزوجات والأصل في وجوب نفقة [الزوجات] (¬1) وثبوتها على الجملة الكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَولودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2). وأما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -[: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (¬3)] (¬4)، ومنها ما خرجه البخاري ومسلم من حديث هند حين جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل مسيك لا يعطيني أنا وولدي من النفقة ما يكفيني، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬5). وأما الإجماع: فمعلوم من دين الأمة ضرورة أن الزوجة [إذا] (¬6) [مكنت] (¬7) نفسها من زوجها [و] (¬8) ارتفعت الموانع من جهتها، وجبت ¬

_ (¬1) في أ: الأزواج. (¬2) سورة البقرة الآية (233). (¬3) أخرجه مسلم (1218). (¬4) سقط من أ. (¬5) تقدم. (¬6) سقط من جـ. (¬7) في أ: ملكت وفي جـ: أمكنت. (¬8) سقط من أ.

لها النفقة على زوجها، [إن] (¬1) كان مثله يطأ. فإذا ثبت ذلك، فلا يخلو الزوج من أن يكون حرًا أو عبدًا: فإن كان حرًا، فلا تخلو زوجته من أن تكون حرة أو أمة: فإن كانت حرة، فلا يخلو الزوج من أن يكون بالغًا أو غير بالغ: فإن كان غير بالغ إلا أنه قادر على الوطء، هل تجب عليه النفقة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا تجب عليه النفقة ولا الصداق حتى يحتلم، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: [أنه] (¬2) إذا بلغ [حد] (¬3) الوطء وقوى عليه، فالنفقة والصداق عليه، وإن لم يحتلم، وهو قوله في "مختصر ما ليس في المختصر". وسبب الخلاف: ما قارب الشيء، هل يعطى [له] (¬4) حكمه أم لا؟ فإن كان الزوج بالغًا [واحتلم] (¬5)، فلا تخلو الزوجة من أن تكون متمكنة للاستمتاع أو غير متمكنة. فإن كانت متكنة للاستمتاع، فإن النفقة تجب على الزوج بالادعاء والتمكين أو بالتمكين على الانفراد، على اضطراب من قول مالك ¬

_ (¬1) في جـ: إذا. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

في "الكتاب". ففي "كتاب الزكاة الثاني" ما ظاهره: أنها تجب عليه بالتمكين خاصة، وهو قول سحنون في غير "المدونة". وظاهر قوله في "كتاب النكاح الثاني": أنها لا تجب إلا بالأمرين. فإن كانت الزوجة غير متمكنة [من] (¬1) الاستمتاع، فلا يخلو من أن يكون ذلك بسببها أو بغير سببها. فإن كان ذلك بسببها [كالنشوز] (¬2)، فهل لها النفقة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها لا نفقة لها، وهو المشهور، وهو الذي عليه الجمهور، وهو المذهب المنصور عند النظار من أصحابنا العراقيين، وهذا القول قائم من "المدونة" من كتاب "العدة وطلاق السنة" في المطلقة التي غلبت زوجها وسكنت في موضع غير بيتها الذي طلقها فيه أنها لا كرى لها على الزوج. فقال بعض المتأخرين: هذا من أدل الدلائل على أن الناشزة لا نفقة لها، وخالفه غيره من المتأخرين في [هذا] (¬3) الاستقراء. والقول الثاني: أن الناشزة لها النفقة، وهو قوله في "كتاب ابن الموَّاز"، ونصه: وإذا غلبت امرأة زوجها، وخرجت من منزله، وأبت أن ترجع إليه، وأبى أن ينفق عليها حتى ترجع، فأنفقت من عندها، فقال مالك: فلها اتباعه بذلك. وفي "كتاب ابن سحنون": ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: فهو النشوز. (¬3) سقط من أ.

سأل ابن حبيب سحنون: عن المرأة تهرب من زوجها إلى تونس وتنشز عن زوجها الأيام، ثم طلبت النفقة فقال: إن نشزت عنه؛ لأنها تدعي أنه طلقها، فلا نفقة لها، وإن قالت: إنها فعلت ذلك بغضة فيه، فلها النفقة كالعبد الآبق نفقته على سيده. وسبب الخلاف: النفقة هل هي بإزاء العوض أو ليست؟ فمن رأى أنها بإزاء عوض قال: لا نفقة [للناشزة لأنها غصبت المنافع التي عنها يعوض الزوج ولهذا يكون للحائض والمريضة] (¬1) لأن المنع ليس من سببها. وأما من رأى أنها ليست لأجل العوض قال: لها النفقة. وإن كان المانع من غير سببها، فلا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون له غاية ينتهي إليها. أو لا غاية له. فإن كان لهذا المانع غاية ينتهي إليها كالصغر، فإنه يزول بالبلوغ فلا نفقة لها حتى تبلغ حدًا يتأتى الزوج الاستمتاع بها. فإن لم يكن له غاية معلومة، ولا حد معلوم في مستقر العادة، فلا يخلو من أن يكون لها قدرة على زواله ورفعه كالرتق أو لا قدرة لها على رفعه كالمرض. فإن كان مما لها قدرة على رفعه كالرتق وغيره من موانع الوطيء، فهي مخيرة بين أن تداوي نفسها حتى يتمكن الزوج [من] (¬2) الوصول إلى ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الاستمتاع فيلزم ذلك الزوج. أو تأبى وتمنع من المعالجة، فليخير الزوج بين أن يدفع الصداق ويعقد معها على [ذلك] (¬1) أو يطلق ولا شيء لها من الصداق. فإن كان المانع مما لا قدرة لها على رفعه وزواله كالمرض، فلا يخلو ذلك المرض من أن يكون يقدر الزوج على الجماع معه أم لا. فإن كان مما يقدر معه على الجماع فلها النفقة على الزوج. وإن كان مما لا يقدر الزوج معه على الجماع ودعا إلى البناء، فلا يخلو من أن تبلغ حد السياق أو لا تبلغ. فإن بلغت حد السياق: فلا خلاف أعلمه في المذهب أنه لا تلزمه [النفقة] (¬2)؛ لأن التمكين غير موجود. وإن لم تبلغ حد السياق، فهل تجب [عليه] (¬3) النفقة عليه أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا نفقة عليه، وهو قوله في "المدونة"، وهو قول سحنون في "السليمانية". والثاني: أن النفقة تلزمه ما لم تقع في السياق، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". وسبب الخلاف: اختلافهم في المانع المعتبر، هل هو المانع من الاستمتاع [التام أو المانع من الاستمتاع] (¬4) على الجملة؟ ¬

_ (¬1) في ع، هـ: بتلك الحالة. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

فمن اعتبر الاستمتاع التام قال: لا نفقة لها؛ لأن المرض معلوم أنه لا يستمتع معه كل الاستمتاع. ومن اعتبر الاستمتاع على الجملة قال: لها النفقة؛ لأن الاستمتاع متأت له على الجملة. وإذا تمكن له الدخول ولم يفعل، هل تجب [عليه] (¬1) النفقة بنفس التمكين أو لا تجب إلا بعد الحكم؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تجب بنفس التمكين من غير حكم حاكم، وهو قول مالك، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أنها لا تجب لها النفقة إلا بعد الحكم والفرض من الحاكم، وهو قول أشهب في "كتاب محمَّد". وأما إذا كانت زوجته أمة والزوج حرا أو عبدًا، هل لها النفقة على الزوج أم لا؟ فلا يخلو من [وجهين] (¬2): أحدهما: أن يشترط السيد على الزوج النفقة أو اشترط الزوج على السيد أن تكون عنده. والثاني: ألا يشترط واحد منهما على الآخر شيئًا. فإن اشترط أحدهما على الآخر شرطا، مثل: أن يشترط السيد النفقة [على الزوج] (¬3) أو اشترط الزوج التبوء معها على السيد، فالنفقة على الزوج في هذا الوجه اتفاقا [ووفاقا] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ثلاثة أوجه. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

وإن لم يشترط واحد منهما على الآخر شيئًا، هل تكون النفقة على الزوج أم لا؟ فالمذهب على خمسة أقوال: أحدها: أن لها النفقة [على الزوج] (¬1) لأنها من الزوجات، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أنها لا نفقة لها وإن كانت تأتي زوجها، وهو قوله في "كتاب محمَّد". والثالث: التفصيل بين أن يأتيها أو تأتيه هي: فإن كان يأتيها فلا نفقة لها. وإن كانت هي التي تأتيه فلها النفقة , وهو قول مالك أيضًا. والقول الرابع: أن لها النفقة في الوقت الذي تكون عنده، وهو قول ابن الماجشون. والخامس: أن نفقتها وكسوتها على سيدها وعليه أن يرسلها في كل أربع ليال ليلة، وعلى الزوج نفقة تلك الليلة [ويومها] (¬2) وإن ردها في صحبها ولا كسوة لها في تلك الليلة، وهو قول ابن حبيب. وسبب الخلاف: معارضة العموم للقياس، وذلك أن العموم يقتضي أن لها النفقة؛ لأنها داخلة في عموم الآية، والقياس يقتضي ألا نفقة لها إلا على سيدها الذي يستخدمها، وتكون النفقة بين السيد والزوج على قدر انتفاعها؛ لأن كل واحد منهما ينتفع ضربا من الانتفاع. وإلى هذا أشار من قال: عليه نفقة اليوم الذي تأتيه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: وقوتها.

فإن كان الزوج عبدًا والزوجة حرة، هل تجب لها على الزوج النفقة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن عليه النفقة وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أنها لا نفقة لها [عليه] (¬1) وهو قول أبي مصعب، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب محمَّد": وأحب إليَّ إذا نكح أن تشترط عليه النفقة بإذن سيده، وقد حكى في ذلك ابن المنذر ومحمد بن الموَّاز إجماعا: أنها لا نفقة لها. والخلاف موجود في المذهب كما ترى، فكيف عنك في [المذاهب] (¬2). وسبب الخلاف: الإذن في النكاح، هل هو إذن في توابعه أم لا؟ فمن رأى أن الإذن في النكاح إذن في النفقة قال: لها النفقة. ومن رأى أن الإذن في النكاح لا يكون إذنًا في النفقة، قال: لا نفقة لها؛ لأن العبد محجورٌ عليه، والمحجور عليه الإذن في حقه مقصور على عين ما أذن له فيه، خاصة والزائد عليه بقى على أصل التحجير، والله أعلم. فإذا طلبت الزوجة [النفقة] (¬3) وقام لها دليل على صحة الطلب، فلا يخلو الزوج من أن يكون حاضرًا أو غائبًا. فإن كان حاضرًا، فلا يخلوا من أن يكون موسرًا أو معسرًا. فإن كان موسرًا، فطلبت الزوجة الفريضة، فإن السلطان يفرض لها ما ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: غير المذهب. (¬3) سقط من أ.

تستحقه من النفقة والكسوة والغطاء والوطاء وما تميط به الأذى وتزيل الشعث وتطيب النكهة، وذلك على قدر ماله وحاله، وذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وليس في ذلك قدر معلوم ولا شرع محتوم، وإنما ذلك على قدر اجتهاد الحاكم. والكلام في هذا الفصل في موضعين: أحدهما: في مقدار ما يفرض لها. والثاني: في مقدار المدة التي يفرض لها فيها. فأما الموضع الأول: وهو معرفة مقدار ما يفرض لها، فقد اختلف المذهب فيه على قولين: أحدهما: أنه يفرض لها مد هشام للغداء والعشاء، وهو مدان إلا ثلث بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - على مذهب "المدونة"، وهو قول مالك في "كتاب محمَّد" من قمح أو شعير أو ذرة أو تمر مما هو عيش أهل ذلك البلد أو جلّهُ. والثاني: [أنه] (¬1) يفرض [لها] (¬2) في الشهر [وَيْبَتَيْنِ] (¬3) ونصف مكفأ، وهو قول ابن القاسم في "كتاب ابن الموَّاز". قال ابن حبيب في الويبة: اثنا وعشرون مدا بمد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما قاله ابن القاسم قريب من قول مالك - رضي الله عنه - إلا أن يعجز عن ذلك، فينظر الإِمام في ذلك بما هو الصلاح لهما , وليضم لها إلى ذلك دراهم لطحين [وخبيز] (¬4) ¬

_ (¬1) في أ: أنها، وفي ع: أن. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: ويبتان. (¬4) في أ، جـ: وخبز.

[وحطب] (¬1) وماء وزيت، والطبخة بعد الطبخة من اللحم، وإن وجد سعة زيد عليه بقدر سعته وبقدر ما هي وفي "كتاب ابن حبيب": ومن اللحم على الملي بدرهم في الجمعة ودرهمين أو ثلاثة في صرفها في ماء وغسل ثوب وطحين وخبيز وغيره، ولا يفرض لها فاكهة ولا عسل ولا الجبن ولا يتقلل من هذا لفقره، ولا يزاد عليه لغنائه، وهذا في تشاححهما انتهى قوله. ومن "كتاب محمَّد": ولا يفرض العسل ولا السمن ولا الجالوم ولكن الخل والزيت وما لا غنى عنه على قدر الرجل والمرأة، وبمشط رأسها ودهنه، وهذا للموسر والمعسر، إلا أن الموسر يزاد [عليه] (¬2) بقدرها من قدره. فإن كانت ترضع فرض لها ما يقوم بها في رضاعها. واختلف فيما يجب لها عليه من قمح وغيره، هل يجوز فيه في دفع القيمة أو لا يجوز؟ على قولين: أحدهما: الجواز، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب النكاح الثاني" من "المدونة"، حيث جوز [المقاصة] (¬3) للزوجين: إذا كان لها عليه دين وكانت موسرة، فأراد أن يقاصها بالذي لها عليه من النفقة فيما له عليها من دين، وهو قول أبي محمَّد في "النوادر". والثاني: أنه لا يجوز ذلك؛ لأنه يؤدي إلى بيع الطعام قبل قبضه؛ لأن الواجب لها عليه طعام وثمن توابعه، وهذا هو المشهور. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: عليها. (¬3) سقط من أ.

وقد اختلف في المقاصة، هل يجبر عليها من أباها [أم لا] (¬1)؟ [على قولين: أحدهما: أنه يجبر عليها من أباها وهو قول مالك في "كتاب المكاتب" من "المدونة". والثاني: أنه لا يجبر عليها من أباها] (¬2) وهو قوله في "كتاب الصرف" في الذي صارف من عند الصراف عشرين درهما بدينار، فأراد الصراف أن يقاصصه في دينار الصرف بدينار كان له عليه على اختلاف [بين] المتأخرين في تأويل ما وقع [في كتاب الصرف] على ما سنبينه هناك إن شاء الله. وأما ما وقع في "كتاب النكاح الثاني" فقد اضطرب فيه قوله، وفصل فيه بين أن تكون الزوجة موسرة أو معسرة: فإن كانت موسرة قال: تجوز المقاصة. وإن كانت معسرة قال: لا تجوز المقاصة إلا برضاها، وهذا كما تراه، فإن جاز أن يجبر على المقاصة من أباها كيف يعتبر رضاها مع العسر؟ وأما الموضع الثاني: في مقدار المدة التي يفرض لها فيه، وذلك يختلف باختلاف حالات الزوج في عُسره ويُسره. فإن كان الزوج موسرًا، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يجوز أن يفرض لها سنة، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا يفرض لها سنة؛ لأن الأسواق تحول، وهو قول سحنون. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

والذي قاله سحنون - رضي الله عنه - أقرب، والصحيح أن ذلك يختلف باختلاف حالات الزوج. فإن كان الزوج موسرًا وسع في المدة إذا لم يؤد إلى ضرورة؛ لأن الشأن الفرض بين الزوجين عند المقابحة وقلة الإنصاف ولدد الزوج وفي تقليل المدة عليها ضرر في تكرير الطلب عند لدده وقصده لإتعابها. فإن كان الزوج موسرًا، فالثلاثة الأشهر والأربعة. وإن كان متوسطًا، فالشهر والشهران. وإن كان ذا صنعة، فالشهر. فإن لم يقدر فعلى ما يرى أنه يستطيع أن يغرمه. وهذا الذي ذكرناه رأيته لبعض المتأخرين. وأما الكسوة، فإنها يفرض لها الغطاء والوطاء والكسوة، فيفرض لها مرتين في الصيف والشتاء، فيفرض لها في اللباس: القميص والوقاية والقناع، وهي في الجودة والدناءة [والزيادة] (¬1) على قدرهما وإيسار الزوج. وقال ابن القاسم في "كتاب محمَّد": ولا يفرض لها الخز ولا حرير، وإن كان متسعا. وقال القاضي أبو الحسن بن القصار: إنما قال مالك لا يفرض لها الخز والحرير والعسل؛ لأن مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها القناعة، فأما سائر ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الأمصار فعلى حسب [أحوالهم] (¬1) في النفقة. واختلف في ثياب [خروجها] (¬2) كالثياب التي جرت العادة أن تخرج بها كالملحفة والعمامة وغيرها، على قولين: أحدهما: لا شيء لها وهو ظاهر المذهب. والثاني: أنه يفرض على الغني [ثياب] (¬3) [مخرجها] (¬4)، وهو قول مالك في "المبسوط". ويزاد لها في كسوة الشتاء ما تقى به البرد، مثل: القبطية وغيرها. وأما الغطاء والوطاء، ففراش [ووساد] (¬5) ولحاف. قال ابن القاسم: والسرير في الوقت الذي يحتاج إليه [لخوف] (¬6) العقارب وشبهها. قال ابن حبيب: أو براغيث أو فأر، وإلا فلا. قال محمَّد: وما تزيل به الشعث كالمشط والمكحلة والنضوح ودهن وحناء رأسها. وقال ابن وهب في "العتبية": الطيب والزعفران وخضاب اليدين والرجلين ليس ذلك على الأزواج. وقال محمَّد في الصبغ: وينفق الزوج على خادم واحد من خدمها ¬

_ (¬1) في ع، هـ: اختلافهم. (¬2) في أ، جـ: فخرجها. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ع، هـ: خروجها. (¬5) في ع، هـ: ووسائد. (¬6) في أ: لتخويف، وفي هـ: لتخوف.

لا أكثر. واختلف إذا كانت ممن لا يصلحها إلا أكثر من واحد على قولين: أحدهما: أنه ينفق على أكثر من واحد، ويزكي عنهما زكاة الفطر، وهو قول مالك في "المبسوط". والثاني: أنه لا ينفق على أكثر من واحد، وهو ظاهر "المدونة". وهل عليها من [خدمة بيتها] (¬1) شيء أم لا؟ فلا تخلو من أن تكون الزوجة من ذوات الشرف واليسار أو دون ذلك: فإن كانت من ذوات الشرف، فالخدمة الظاهرة والباطنة على الزوج، وليس عليها [شيء] (¬2) من الخدمة قليل ولا كثير، إلا الأمر والنهي في الخدمة الباطنة خاصة، من غير التفات إلى الزوج كان من ذوي الشرف أم لا، وإذا كان الزوج موسرًا. وإن لم تكن الزوجة من ذوات الشرف، فلا تخلو من أن يكون في صداقها ما تشتري به خادمًا [يخدمها فتشتري من يخدمها وإن لم يكن في صداقها ما تشتري به خادما] (¬3): فعليها الخدمة الباطنة كالعجين والطبيخ والكنس والفرش والرش واستقاء الماء، يريد: إذا كان داخلًا، وهو قول عبد الملك بن الماجشون وأصبغ قال: وكذلك إن كان الزوج مليًا، إلا أنه كان في الحال مثلها أو أيسر منها ولم يكن من أشراف الرجال الذين لا يمتهنون نساءهم في الخدمة. ¬

_ (¬1) في أ: خدمتها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

واختلف إذا كان الزوج معسرًا والمرأة من ذوات الشرف ولم يكن في صداقها ما تشتري به الخادم، هل عليها من [خدمة بيتها] (¬1) شيء أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها لا شيء عليها من خدمة بيتها، وهو ظاهر قول مالك في "المدونة". والثاني: أن عليها الخدمة الباطنة كما هي على الدنية، وهو قول عبد الملك وأصبغ. فإن قبضت الزوجة نفقتها ونفقة ولدها، فلا تخلوا من أن تدعى ضياع ذلك قبل المدة أو ادعت فراغه. فإن ادعت ضياع ذلك قبل المدة، فلا تخلوا من أن يقوم لها بينة أم لا. فإن لم تقم لها على ذلك بينة، فلا يقبل لها قول لا في نفقة نفسها ولا في نفقة ولدها. فإن قامت [لها] (¬2) بينة على ذلك: أما نفقة الولد فلا ضمان عليها فيها؛ لأنها [عندها] (¬3) في معنى الرهن [والعارية] (¬4) لا في معنى الوديعة، إذ ليس قبضها بمحض الأمانة. وأما نفقة نفسها إذا قامت لها بينة على تلفها، هل تضمن أم لا تضمن؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنها ضامنة لها، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة"، ¬

_ (¬1) في أ: خدمتها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

وهو نص في "كتاب محمَّد بن الموَّاز". [والثاني: أنها لا ضمان عليها] (¬1)، وهو ظاهر قول مالك [في المدونة] (¬2) في "كتاب النكاح الثاني" في الصداق إذا قبضته ثم طلقها قبل البناء وادَّعت ضياعه، وكان الصداق مما يغاب [عنه] (¬3)، حيث [قال:] (¬4) لا ضمان عليها؛ لأن الذي هلك من النفقة قبل تمام المدة التي فرضت لها لم تستحقه بعد، فكان الواجب أن يكون الضمان من الزوج كما لو ماتت. وقد قال في "كتاب القذف" من "المدونة": أن الزوج يسترد النفقة والكسوة على تفصيل ابن القاسم هناك في قرب المدة وبعدها. وسبب الخلاف: اختلافهم فيما قبضته المرأة من ذلك، هل قبضته على معنى الملك أو قبضته نفقة لحقها. فإن ادعت فراغ الذي فرض لها ونفاده قبل تمام المدة، فلا يخلو من أن يثبت ذلك ببينة أو مجرد دعواها. فإن كان ذلك بمجرد دعواها: فلا يقبل قولها , ولا لها على زوجها شيء حتى تنقضي المدة. إن ثبت ما تدعيه بما ثبت به أمثاله، فهل لها الرجوع بنفقة المدة على الزوج أم لا؟ فإنه يتخرج في المذهب قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنها لا ترجع عليه بنفقة باقي المدة؛ لأنه قد تبين خطأ الحاكم ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ، جـ: عليه. (¬4) سقط من أ.

في التقدير؛ لأن الثياب قد بليت والنفقة قد [فرغت] (¬1) قبل حلول الوقت الذي قدر لها. الثاني: أنها لا ترجع عليه بشيء حتى تنقضي تلك المدة، لأن ذلك حكم قد مضى، وهو ظاهر قول مالك في كتاب "الزكاة الثاني" من "المدونة" في الخارص إذا أخطأ في التقدير. وسبب الخلاف: اختلافهم في المجتهد، هل يعذر باجتهاده أم لا؟ فمن رأى أنه يعذر باجتهاده، قال: لا شيء لها على زوجها. ومن رأى أنه لا يعذر باجتهاده، قال: لها الرجوع على زوجها بما بقي من المدة. وأما إذا كان الزوج معسرًا، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون الزوجة عالمة بحاله، ودخلت على ذلك. والثاني: أن تكون جاهلة بحاله، أو طرأ العسر عليه بعد اليسر. فإن كانت الزوجة عالمة بحاله ودخلت على فقره، فلا يخلو من أن يكون من أهل الصفة أو كان فقيرًا ممن يسأل ويبذل وجهة في السؤال. فإن كان من أهل الصفة وممن لا يسأل أحدًا، وإنما قعد على بساط الفتوح فلا مقال لزوجته، ولا حجة إذا طلبت النفقة أو الفراق لعدمه؛ لأنها عرفت ما عليه دخلت. وإن [كان] (¬2) من عادته السؤال [فإن تمادى على صنعته وحرفته في ¬

_ (¬1) في أ: فنيت. (¬2) في أ، جـ: كانت.

السؤال] (¬1) فلا حجة لها [أيضًا] (¬2) أعطى أو خاب؛ لأنها على ذلك دخلت. وإن ترك السؤال الذي هو حرفته كان [لها] (¬3) القيام بالفراق. وعلى هذا التنزيل يتنزل ما في "كتاب محمَّد" وما في "المبسوط" إن شاء الله تعالى. فإن كانت الزوجة غير عالمة بحاله أو كان غنيًا وقت العقد ثم طرأ عليه العسر بعد ذلك: فلا خلاف في المذهب في هذا الوجه أن لها القيام على الزوج في طلب الرزق، إما أن ينفق أو يطلق، فهل يطلق عليه الحاكم بنفس الرفع أو لابد له من التلوم؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لابد من التلوم، وهو المشهور. والثاني: أنه يحكم عليه بالطلاق بنفس الرفع، وهو ظاهر قول مالك في كتاب "ابن الموَّاز"، حيث قال: قال مالك: إذا لم يجد النفقة يطلق عليه. ووجه القول الأول: أنه لابد من التلوم؛ لأنه مما يفتقر إلى الاجتهاد مخافة أن يخبئ ماله، فيجب على الحاكم البحث عنه وعن حاله. ووجه القول الثاني: أن التلوم والبحث ضرر على المرأة؛ لأنها ما استعدت وما فضحت نقسها بالرفع إلى الإِمام إلا بعد [ما] (¬4) بلغها الجهد بزيادة التلوم بعد الرفع عليها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

وعلى القول: بأنه لابد من التلوم، فما مقدار مدتها؟ فالمذهب على خمسة أقوال: أحدها: أنه يتلوم له شهر ونحوه مما يضر به الجوع، وهو قول مالك في "المبسوط". والثاني: أنه يتلوم له الأجل الأيام، وهو قول مالك في كتاب "محمَّد". والثالث: أنه يتلوم له الشهر ونحوه، وهو قول أصحاب مالك على ما حكاه ابن الموَّاز. والرابع: أنه يتلوم له الشهر والشهران. والخامس: أنه إن لم يطمع له بمال فإنه يتلوم له [الشهر] (¬1) إذا لم تجد هي ما تنفق، وهو قول أصبغ. وفي المسأله قول سادس: أنه يؤخر الشهر إذا كانت فقيرة، والشهرين إذا كانت موسرة، وهو قول قياسي. فإذا حل أجل التلوم، فإن قدر على النفقة والكسوة، وإلا فُرِّق بينهما. فإذا ثبت ذلك، فما المقدار الذي إذا قدر على إيصاله إليها لم يقض عليه بفراقها؟ فإن وجد القوام من خبز الشعير والإدام والوسط من الكسوة مما لا يستهجن في حق الشريفة، والزوج لا يقدر على غير ذلك فلا يطلق عليه. فإن لم يجد إلا غليظ الطعام والخشن من الثياب، وكان ذلك مما يستر عورتها ويسد خلتها. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن كانت من غير ذوات الشرف واليسار فلا مقال لها إذا استمر ذلك بها، وإنما كلامها إذا قطع ذلك عنها. فإن كانت من ذوات الشرف ولم تجد إلا الخشين من الثياب مما يستهجن لها ولأمثالها لباسه، وتلحقها في لباسه معرة، والغليظ من الطعام الذي [تأنفه] (¬1) ولا يساغ لها، وإن جاعت هل تطلق عليه مع القدرة علي ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه [لا] (¬2) يحكم [عليه] (¬3) بالطلاق مع القدرة على ذلك، وهو قول مالك في "كتاب محمَّد". والثاني: إنما يحكم عليه بالطلاق إذا لم يقدر [إلا على ذلك] (¬4)، وهو قول مالك في "الكتاب المذكور" أيضًا. وعلى القول بأنها تطلق بالعجز عن النفقة: فإنها تطلق عليه طلاقا [رجعيًا] (¬5)، ولا خلاف عندنا في المذهب [في ذلك. واختلف في المذهب] (¬6)، هل يكون لها نصف الصداق إذا كان الطلاق قبل البناء؟ على قولين وقد قدمناهما. فإذا قلنا: [إن طلاقها] (¬7) طلاق رجعي، هل تصح للزوج الرجعة كما ¬

_ (¬1) في ع، هـ: لم تألفه. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من هـ. (¬6) سقط من هـ. (¬7) سقط من أ.

تصح له في غير هذا الوجه أم لا؟ فالذي عليه المذهب عندنا أن رجعته موقوفة على وجود النفقة في العدة. فإذا قدر على النفقة في العدة صحت له المرجع التي ارتجعها. فإن لم يقدر حتى انقضت العدة فليست رجعته برجعة. وكذلك رجعت المولى متوقفة على وجود الوطء في العدة؛ ولذلك قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب: الرجعة تهدم العدة إلا في مسألتين. والذي قاله صحيح لا خلاف فيه في المذهب. واختلف في القدر الذي إذا قدر عليه تصح له الرجعة، على قولين: أحدهما: أن لا رجعة إلا إذا وجد النفقة شهرًا، وأما العشرة أيام والخمسة عشر يومًا فليس ذلك له، لأن عليها في ذلك ضرر ثم ترتجع ثم تطلق عليه إلى أيام، وهو قول مالك، رواه عيسى عن ابن القاسم. والثاني: أنه ينظر إلى من كان فرضه الشهر. فإذا أيسر لنفقة الشهر صحت له الرجعة. وإن كان ممن فرضه يوم بيوم أو بالأيام فله الرجعة بوجودها لوجوده أولًا، ثم تطلق عليه وهو قول ابن الماجشون، وبه قال ابن حبيب. وأما الوجه الثاني: إذا كان الزوج غائبا، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون قيامها بعد الغيبة. والثاني: أن يكون عند [عقد] (¬1) سفره. ¬

_ (¬1) سقط من هـ.

فإن كان قيامها بعد الغيبة، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يترك لها النفقة. والثاني: أن يتركها بلا نفقة. فإن ترك لها النفقة واعترفت بذلك، فلا كلام لها. وإن تركها بلا نفقة على زعمها، فلا يخلو من أن ترفع أمرها إلى الإِمام في غيبة الزوج أو لم ترفع. فإن رفعت، فإن السلطان يكلف لها ثبوت الزوجية وثبوت الغيبة [وثبوت المال] (¬1). فإن أثبتت الجميع، فإن الإِمام يُحلِّفها أنه ما ترك لها نفقة ولا بعث بها إليها ولا وضعتها عنه ثم يفرض لها , ولا خلاف عندنا في المذهب في هذا الوجه أن الغائب يباع عليه ماله وتكسر عليه عروضه فيما وجب عليه من النفقة. واختلفوا في الحاضر إذا فرض عليه، هل يباع ماله وتكسر عروضه كما يفعل بالغائب أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يباع عليه ماله كما يباع على الغائب، وهو ظاهر "المدونة"؛ لأنه قال: تكسر عليه عروضه، أي: تباع، ولم يفصل بين الحاضر والغائب. [والثاني: أنه لا يباع عليه ماله، وإنما يخير إذا فرض عليه بين أن ينفق أو يطلق، وهو قول ابن القاسم في "كتاب يحيى بن إسحاق". ¬

_ (¬1) سقط من هـ.

والفرق بين الحاضر والغائب] (¬1): أن الغائب الضرر فيه متحقق عليها لعدم النفقة، فإذا وجد [للزوج] (¬2) مال، فإنه يفرض لها فيه لغيبة عينه، لأنا لا ندري ما يختار [الزوج] (¬3) لو حضر، هل يختار الطلاق أو الإمساك؟ - والحاضر أمره بيد نفسه: إما أن يجري النفقة عليها وإلا طلقها، فلا وجه لبيع عروضه عليه، وربك أعلم. فإذا لم يوجد للغائب مال حاضر، فلا يخلو من [ثلاثة أوجه]: [أحدها]: أن يعرف ملاؤه. والثاني: أن يعرف عدمه. والثالث: أن يجهل حاله. فإن عرف ملاؤه في غيبته ورفعت أمرها إلى الإِمام، ففرض لها بقدره، فلها اتباعه بذلك إذا قدم. فإن قدم وادعى أنه خلف لها النفقة، وأنه بعث إليها بالنفقة ووصلت إليها، فالقول قوله مع يمينه، وهو قول مالك في "كتاب ابن الموَّاز". فإن نكل عن اليمين غرم لها ما أنفقت. فإن مات في غيبته، وقد علم جيرانها أنها تنفق سلفا أو من خالص مالها، فقال مالك: هذه أمور إنما يقضى فيها على نحو ما تنزل، واجتهاد الإِمام في ذلك. ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وهذا كله إذا لم ترفع أمرها إلى الإِمام ولا استعدت. فأما إذا استعدت وفرض لها القاضي نفقتها على قدره، ثم قدم وادعى أنه ترك لها النفقة أو أنه كان يبعث لها النفقة، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يقبل قوله؛ لأن رفعها إلى الإِمام وإظهار الشكوى تقوم مقام البينة، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: [أن القول] (¬1) قوله مع يمينه أنه خلف أو بعث سرًا استعدت أم لا، وهو قول مالك أيضًا. وسبب الخلاف: اختلافهم في دليل الحال، هل يقوم مقام الشاهدين أم لا؟ وذلك أن العادة الجارية في أغلب الأحوال أن المرأة لا ترضى لنفسها بغشيان أندية الحكام، والتعرض للدفاع والخصام إلا لضرورة [حافزة] (¬2) وحاجة ناجزة، فإذا ظهر منها الشكوى، وكان منها استعداد: كان ذلك دليلا على صدقها. وأما إن علم [عدمه] (¬3) في سفره، فلا يفرض عليه، ثم هي مخيرة بين أن تصبر [عليه] (¬4) بلا نفقة. وإن طلبته أن يفرق بينهما، هل تمكن من طلبها أو لا تمكن؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يحكم عليه، بالطلاق كما يحكم على الحاضر، وهو قول ابن القاسم على ما حكاه ابن أبي زيد، وبه قال هو وغيره. ¬

_ (¬1) في أ: يقبل. (¬2) في هـ: وافرة. (¬3) في أ: عدمها. (¬4) سقط من أ.

والثاني: أنه لا يحكم عليه بالطلاق أصلًا، وهو مذهب أبي الحسن القابسي، وقال بعض الأندلسيين: لم يوجد للطلاق على الغائب في الكتاب ذكر، ولا جاء فيه أثر [إلا] (¬1) عن ابن ميسر. وأما إن جهل حاله في سفره، فهل ينظر إلى حاله التي خرج عليها أو إلى الحالة التي [قدم] (¬2) عليها [فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه ينظر إلى الحالة التى سافر عليها] (¬3). فإن خرج موسرًا، فعليه البينة أنه [عديم] (¬4) في سائر سفره. فإن خرج معسرًا، فالقول قوله أنه كذلك في سائر سفره. وإن أشكل أمره يوم خروجه: فعليه البينة أنه معدم في [سائر سفره و] (¬5) غيبته، وهو قول ابن الماجشون، وبه قال ابن حبيب. والثاني: أن النظر يوم قدومه، فإن قدم موسرًا، وقال: ما زلت كذلك في سائر سفري، فالقول قوله، وهو قول ابن القاسم في "كتاب محمَّد". وسبب الخلاف: هل يستصحب عليه [حكم] الحالة التي خرج عليها أو حكم الحالة التي قدم عليها؟ [تم كتاب النكاح الثاني بحمد الله وعونه ويتلوه كتاب النكاح الثالث] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: سافر، والمثبت من باقي النسخ وهو الصواب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من هـ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ، جـ: تم الكتاب والحمد لله وحده.

منَاهِجُ التَّحْصِيلِ وَنَتائجُ لَطائِفِ التَّأْوِيلِ في شَرح المدَّونَةِ وَحَلِّ مُشكِلاتهَا تَأليف أبي الحسَنَ عَليّ بنْ سَعيد الرجْراجي تَقديم فَضيلَة الشيخ الأستاذ الدكتور عَلي عَلي لُقَم اعتنَى بهِ أبو الفَضْل الدّميَاطي أحمَد بن علىّ الجُزءُ الرَّابع مركز التراث الثقافي المغربي دار ابن حزم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حُقُوقُ الطَّبع مَحْفُوَظَةٌ الطَبْعَة الأولى 1428 هـ - 2007م 7 - 431 - 81 - 9953 ISBN الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها مركز التراث الثقافي المغربي الدار البيضاء - 52 شارع القسطلاني - الأحباس هاتف:442931 - 022/ فا كس: 442935 - 022 المملكة المغربية دار ابن حزم للطباعة والنشر والتَوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هاتف وفاكس:701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: ibnhazim @cyberia.net.lb

كتاب النكاح الثالث

كتاب النكاح الثالث

كتاب النكاح الثالث تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها اثنتا عشرة مسألة: المسألة الأولى في الجمع بين امرأتين في عقدة واحدة، ولا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يسمى لكل واحدة صداقها. والثاني: ألا يسمى. فإن سمى لكل واحدة صداقها، فلا يخلو من أن يكون نكاح إحداهما بشرط الأخرى أو لم تشترط شيئًا. فإن كان نكاح إحداهما بشرط الأخرى، فلا يخلو صداق المثل فيهما من أن يتساويا في حالة الانفراد وفي حالة الجمع أو يختلفان. فإن تساويا في الحالتين: جاز النكاح، وصداق كل واحدة منهما ما سمى لها, ولا خلاف في هذا الوجه. فإن اختلف الصداق، فهل يجوز هذا النكاح أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز وهو قول ابن سعدون على ما حكاه عنه بعض المتأخرين. والثاني: أن ذلك لا يجوز؛ لأن ذلك غرر في الصداق، مثل أن يتزوج إحداهما بمائة على أن يتزوج الأخرى بمائة أو أقل؛ لأنه إن كانت الرغبة منه في نكاح الثانية وقع صداق الأولى أكثر.

وإن كانت الرغبة من الولي وضع [من] (¬1) صداق الأولى لنكاح الثانية، وهذا يشبه نكاح الشغار. وإن لم يسم لكل واحدة صداقها، هل يجوز النكاح أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن النكاح لا يجوز ويفسخ، وهو مذهبه في أول "كتاب النكاح الثالث"، لما في ذلك من الغرر في الصداق، وبه علل في "الكتاب" حيث قال: لأنه لا يدري ما صداق هذه من هذه. والثاني: أن النكاح جائز [وتفرض] (¬2) التسمية على [قدر] (¬3) مهورهما، وهو قول أصبغ وابن نافع وابن دينار، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب البيوع الفاسدة" من "المدونة" في "باب جمع السلعتين في البيع، فإذا اختلف قول ابن القاسم في البيع، فبأن يجوز ذلك في النكاح أولى؛ لأنه مبني على المكارمة والمسامحة، والبيع مبني على المكاسبة [والمشاححة] (¬4). وسبب الخلاف: اعتبار الحال أو المآل: فمن اعتبر الحال قال: لا يجوز النكاح لجهل كل واحدة منهما بقدر صداقها. ومن اعتبر المآل قال: يجوز النكاح. وعلى القول بأن النكاح لا يجوز، فإن طلق إحداهما أو مات، هل يكون لها شيء من الصداق أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: وتضمن. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، جـ: المشاحة.

[فالمذهب] (¬1) على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنها لا شيء لها من الصداق، وهو ظاهر "المدونة"؛ لأنه سُئل عن الزوج إذا طلق أو مات، هل يكون لها من الصداق شيء، قال: لا يجوز حتى يُسمَّي لكل واحدة منهما صداقها. فظاهر هذا أنها لا شيء لها من الصداق، وبه قال من المتأخرين أبو محمَّد بن أبي زيد - رحمه الله. والثاني: أن لها نصف ما يخصها من المسمى إن طلق، وهو قول ابن دينار وابن نافع وأصبغ، وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب النكاح الثاني"، فيمن نكح بدرهمين: أنه إن طلق [قبل البناء] (¬2) قبل أن يكمل ربع دينار، كان لها نصف الدرهمين. وكذلك يجب في هذه المسألة للاختلاف [في المسيس] (¬3)، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) زيادة من ع، هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ.

المسألة الثانية في نكاح الأم والبنت

المسألة الثانية في نكاح الأم والبنت ومن نكح أُما وابنتها، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك في عقدتين. والثاني: أن يكون في عقدة واحدة. فإن كان ذلك في عقدة واحدة، فلا يخلو من أن يدخل بهما جميعًا أو لم يدخل بواحدة منهما، أو دخل بواحده منهما معلومة أو مجهولة. فإن دخل بهما جميعًا فارقهما جميعًا، ولا يحل له واحدة منهما أبدًا، ولكل واحدة منهما صداق المسمى. فإن لم يدخل بواحدة منهما، فارقهما جميعًا أيضًا، ويتزوج من شاء منهما بعد ذلك إن كانت بنتا فلا خلاف. وإن كانت أُما، فعلى الخلاف؛ لأن ابن القاسم قال في "الكتاب": يتزوج من شاء منهما بعد ذلك، وقال غيره: لا يتزوج الأم للشبهة التي في البنت، وهذا يتخرج على الخلاف في العقد الفاسد المتفق على فساده، هل يفيد شبهة أم لا؟ فإن دخل بواحدة معلومة، فارقهما جميعًا، وللمدخول بها صداقها المسمى، ولا صداق للأخرى لا نصفًا ولا غيره، وله أن يتزوج المدخول بها بعد الاستبراء إن كانت بنتًا بلا خلاف [وإن كانت أُمِّ على الخلاف] (¬1). ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وإن دخل بواحدة منهما مجهولة، فسخ نكاحهما ولا يتزوج واحدة منهما [أبدًا] (¬1)، لاحتمال أن تكون المدخول [بها] (¬2) هي الأم إن أراد أن يتزوج الابنة، فقد تزوج ربيبته. أو تكون المدخول بها هي البنت، فيتزوج أم امرأته. وأما الصداق: فإن أقرت إحداهما للأخرى بأنها هي المدخول بها، كان لها جميع الصداق. فإن ادعت كل واحدةٍ منهما أنها هي المدخول بها، كان بينهما صداق واحد [يقتسمانه بينهما، على قدر صداق كل واحدة منهما بعد أيمانهما، تحلف كل واحدة منهما أنها هي المدخول بها؛ لأن الزوج لم يجب عليه إلا صداق واحدة] (¬3). واختلف هل يقتسمان بينهما الأقل من الصداقين أو الأكثر؟ على قولين، وهذا إذا كانت الأم فارغة من زوج. وأما إذا تزوجت [البنت] (¬4) مع الأم في عقدة واحدة، وللأم زوج، هل يفسخ نكاح البنت أو لا يفسخ؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن نكاحهما مفسوخ جميعًا؛ لأنها [صفقة] (¬5) جمعت حلالًا وحرامًا، وهو قول مالك في "المدونة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

والثاني: أن نكاح البنت جائز ويفسخ نكاح الأم، وهو ظاهر قوله في "المدونة" في "مسألة الحرة والأمة": إذا تزوجها في عقدة واحدة، حيث قال: يفسخ نكاح الأمة ويثبت نكاح الحرة. فكيف جوز نكاح الحرة وفسخ نكاح الأمة وحدها إلا لكونه لا يجوز نكاح الأمة مع وجود الحرة تحته أو القدرة على صداقها، على ما قدمناه في "كتاب النكاح الأول"، وقال بعض المتأخرين: وإنما تفسخ الصفقة إذا جمعت حلالًا وحرامًا، إذا كانت لمالك واحد، على الخلاف في ذلك، على ما سنبينه في "كتاب [العيوب] (¬1) " إن شاء الله. وأما إذا كانت لمالكين، فإنما يفسخ منها ما كان حرامًا ويصح منها ما كان حلالًا، إذ لا يؤثر فساد ملك أحدهما في ملك الآخر، والذي قاله صحيح ظاهر لمن تأمله، واعتذر بعض المتأخرين [عن] (¬2) ما وقع له في "المدونة" في "مسألة الأم والبنت"، وقال: معناه أنه لم يسم لها صداقًا، فلو سمَّى لهما صداقًا لكان نكاح البنت جائز، وقال غيره: هذا الاعتذار [لا يجوز و] (¬3) لا يقبل؛ لأنها إنما صارت صفقة جمعت حلالًا وحراما لكونه سمى الصداق لهما [أولًا] (¬4) فأي حلال فيها، وما قاله ظاهر لا مراء فيه، والاعتذار ضعيف كما ترى، وربك أعلم. والجواب عن الوجه الثاني: إذا تزوجها في عقدتين، واحدة بعد أخرى، فلا يخلو ذلك من ستة أوجه: ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) في أ، جـ: على. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ع، هـ: وإلا.

أحدها: أن يعثر على ذلك قبل [البناء] (¬1) بواحدة منهما. والثاني: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بهما جميعًا. والثالث: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بالأولى. والرابع: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بالثانية. والخامس: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بواحدة منهما معروفة، ولم يعلم إن كانت هي الأولى أو الثانية. والوجه السادس: أن يعثر على ذلك بعد أن يدخل على واحدة منهما مجهولة. فأما الوجه الأول: وهو أن يعثر على ذلك قبل أن يدخل بواحدة منهما، فالحكم فيه أن يفرق بينه وبين الثانية، ويبقى مع الأولى، فإن كانت البنت فلا خلاف، وإن كانت الأم فعلى الخلاف. وإن لم يعلم الأولى [منهما] (¬2) فرق بينه [وبينهما] (¬3) ويتزوج من البنت إن شاء، وتكون البنت عنده [بطلقتين] (¬4)، ويكون لكل واحدة منهما نصف صداقها، وقيل: ربع صداقها، وقال بعض المتأخرين: القياس أن يكون لكل واحدة منهما ربع الأقل من الصداقين، وذلك إذا لم تدع كل واحدة منهما أنها هي الأولى، ولا ادعت عليه معرفة ذلك [فإن ادعت كل واحدة منهما أنها هي الأولى وادعت عليه معرفة ذلك] (¬5)، قيل له: احلف ¬

_ (¬1) في ع، هـ: أن يدخل. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع، هـ: وبين الأم. (¬4) في ع، هـ: على تطليقتين. (¬5) سقط من أ.

أنك لم تعلم أنها هي الأولى، فإن حلف على ذلك، وحلفت كل واحدة منهما أنها هي الأولى، كان لهما نصف الأكثر من الصداق، يقتسمانه [بينهما] (¬1) أيضًا على قدر صداق كل واحدة منهما، وإن نكلتا عن اليمين بعد حلفه، كان لهما نصف الأقل من الصداقين يقتسمانه بينهما على قدر صداق كل واحدة منهما. فإن نكلت إحداهما عن اليمين وحلفت الأخرى بعد يمينه، كان للتي حلفت نصف صداقها. وإن نكل هو عن اليمين، وحلفتا أنهما جميعًا كان لكل واحدة منهما نصف صداقها. فإن حلفت إحداهما ونكلت الأخرى بعد نكوله، كان للحالفة منهما نصف صداقها ولم يكن للناكلة شيء؛ لأن الحالفة قد استحقت نصف الصداق بيمينها. وإن نكلتا جميعًا بعد نكوله، لم يكن لهما إلا نصف الأقل من الصداقين بينهما على قدر صداق كل واحدة [منهما] (¬2). وإن أقر لإحداهما أنها هي الأولى حلفت على ذلك وأعطاها نصف صداقها , ولم يكن للثانية شيء. ولو نكل عن اليمين وحلفتا جميعًا، غرم لكل واحدة نصف صداقها. وإن مات الزوج ولم يعلم أيتهما هي الأولى، فالميراث بينهما [على قدر مهورهما] (¬3) بعد أيمانهما، [قال ابن القاسم: ولكل واحدة منهما ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

نصف صداقها، اتفق أو اختلف. والقياس أن يكون الأقل من الصداقين بينهما على قدر مهورهما بعد أيمانهما] (¬1)، وتعتد كل واحدة منهما أربعة أشهر وعشرا، للشك في أيتهما هي الأولى. وأما الوجه الثاني: وهو ألا يعثر على ذلك حتى دخل بهما جميعًا فيفرق [بينه و] (¬2) بينهما، ويكون لكل واحدة منهما صداقها بالمسيس، ويكون عليهما الاستبراء بثلاثة قروء، ولا تحل له [واحدة] (¬3) منهما أبدًا، ولا ميراث لواحدة منهما إن مات عنهما. وأما الوجه الثالث: ألا يعلم بذلك حتى يدخل بالأولى، فالحكم فيه أن يفرق بينه وبين الثانية، ولا تحل له [بذلك] (¬4) أبدًا، ويقر [مع] (¬5) الأولى إن كانت البنت بالاتفاق، وإن كانت الأم فعلى الخلاف. وأما الوجه الرابع: وهو ألا يعثر على ذلك حتى يدخل بالثانية، فالحكم فيه أن يفرق بينه وبينهما، ويكون للتي دخل بها صداقها، ويكون له أن يتزوجها بعد الاستبراء من الماء الفاسد بثلاثة قروء إن كانت البنت. وإن كانت الأم لم تحل له واحدة منهما أبدًا , ولا يكون لكل واحدة منهما ميراث. وأما الوجه الخامس: وهو ألا يعثر على ذلك حتى يدخل بواحدة منهما ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

معروفة، ولم يعرف إن كانت الأولى أو الثانية فالحكم فيه إن كانت الأم هي المدخول بها منهما أن يفرق بينهما [وبينه] (¬1) ولا تحل له واحدة منهما أبدًا. وإن كانت الابنة هي المدخول بها منهما، فرق بينه وبينهما، ثم يتزوج الابنة إن شاء بعد الاستبراء بثلاث حيض، ويكون للتي دخل بها منهما صداقها بالمسيس. فإن مات الزوج يكون على المدخول بها من العدة أقصى الأجلين، ويكون لها جميع صداقها، وهل لها الميراث أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن لها نصف الميراث، وهو قول ابن حبيب. والثاني: أنها لا شيء لها من الميراث، وهو قول ابن الموَّاز، وهو الصواب، والله أعلم. وأما التي لم يدخل بها منهما فلا عدة عليها ولا شيء لها من الصداق ولا من الميراث. وأما الوجه السادس: وهو ألا يعثر على ذلك، حتى يدخل بواحدة [منهما] (¬2) غير معلومة، فالحكم فيه: أن يفرق بينه وبينهما ولا تحل له واحدة منهما أبدًا، ويكون القول قوله مع يمينه في التي [تقر] (¬3) أنه دخل بها منهما، ويعطيها صداقها ولا يكون للأخرى شيء. فإن نكل عن اليمين: حلفت كل واحدة منهما أنها هي التي دخل بها، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

واستحقت عليه جميع صداقها. فإن حلفت إحداهما ونكلت الأخرى عن اليمين، استحقت الحالفة صداقها, ولم يكن للثانية شيء. وإن مات الزوج، قال سحنون: يكون لكل واحدة منهما نصف صداقها. قال بعض المتأخرين: والقياس أن يكون الأقل من الصداقين بينهما على [قدر] (¬1) مهورهما بعد أيمانهما، وتعتد أقصى الأجلين، ويكون نصف الميراث بينهما على قول ابن حبيب. وأما على ما ذهب إليه محمَّد بن الموَّاز: فلا شيء لهما من الميراث، وهو [الصواب] (¬2) إن شاء الله؛ لأن المدخول بها إن كانت هي الآخرة لم يكن لواحدة منهما ميراث، ولا يجب ميراث إلا بيقين، [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: القياس. (¬3) زيادة من ع، هـ.

المسألة الثالثة في الجمع بين الأختين

المسألة الثالثة في الجمع بين الأختين والجمع بين الأختين لا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يجمع بينهما بنكاح. والثاني: أن يجمع بينهما بملك اليمين. والثالث: أن تكون إحداهما بنكاح، والأخرى بملك اليمين. فالجواب عن الوجه الأول: إذا جمع بينهما [بنكاح] (¬1) فلا يخلو من أن يتزوجهما في عقدة واحدة أو في عقدتين. فإن تزوجهما في عقدة واحدة فسخ نكاحهما جميعًا، وللمدخول بها صداق المسمى. وإن لم يدخل بواحدة منهما: فلا شيء عليه من الصداق، وله أن يتزوج أيتهما شاء بعد الاستبراء، وإن كان دخل بها. فإن نكحها في عقدتين، فلا يخلو من أن تعلم الأولى منهما أو جهلت. فإن علمت الأولى منهما فنكاحها صحيح، ويفسخ نكاح الثانية، دخل بها أم لا, ولا تأثير للدخول على الثانية في نكاح الأولى. فإن جهلت الثانية من الأولى، فلا يخلو من سبعة أوجه: أحدها: أن يقول الزوج: لا علم عندي، وتدعي كل واحدة العلم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أنها الأولى. والثاني: أن يكون العلم عند كل واحدة منهم. والثالث: أن تدعي واحدة أنها هي الأولى، وتقول الأخرى لا علم عندي. والرابع: أن يدعي الزوج العلم دونهما، وتقول كل واحدة منهما: لا علم عندي. والخامس: أن تخالفه كل واحدة منهما، وتقول: [بل] (¬1) أنا الأولى. السادس: أن تخالفه إحداهما، وتقول الأخرى، لا علم عندي. والسابع: أن يتساووا في الجهل، ولا علم عند واحد منهم. فأما إذا ادعى الزوج الجهل، وتدعي كل واحدة أنها هي الأولى: فسخ النكاحان جميعًا، ثم لا يخلو من أن يعثر على ذلك في حياة الزوج أو بعد وفاته. فإن عثر على ذلك في حياة الزوج فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يكون لكل واحدة منهما نصف صداقها بعد يمينها أنها هي الأولى، وهو قول مالك في "كتاب محمَّد". والثاني: أن لكل واحدة منهما ربع صداقها، وهو قول ابن حبيب، ومن نكلت عن اليمين منهما فلا شيء لها من الصداق. فإن عثر على ذلك بعد الوفاة، فعلى الخلاف الذي قدَّمناه قيل: لكل واحدة صداق المسمَّى والميراث بينهما، وهو قوله في "كتاب محمَّد". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وقيل: عليه صداق واحد، لكل واحدة منهما نصفه، والميراث بينهما، وهو قول ابن حبيب. فوجه القول الأول: أن لها نصف الصداق في الحياة، وجميعه في الموت؛ لأنه لكل واحدة منهما لو ادعت أنها هي الأولي ولم [يكذبها] (¬1) الزوج، فقد ادعت عليه جميع الصداق، فإذا حلفت كان القول قولها. ووجه القول الثاني: [أن الزوج] (¬2) في حال الحياة، إذا كان قبل البناء لم يجب عليه إلا نصف صداق واحد، وبعد الفوات صداق واحد كامل. فإذا تساوت دعاوى الأختين اقتسمتاه، وإن نكلت إحداهما عن اليمين: كان لمن حلفت منهما. وإن تصادقوا جميعًا الزوج والأختان على أن هذه هي الأولى، كان كما لو ثبت ذلك ببينة فللزوج أن يمسك الأولى ويفسخ نكاح الثانية، ولا شيء لها من الصداق إلا أن تكون مدخولا بها. وأما الوجه الثالث: إذا ادعت واحدة منهما أنها هي الأولى، وقالت الأخرى: لا علم عندي، حلفت التي ادعت العلم، واستحقت النصف، ولا شيء للأخرى، فإن نكلت اقتسما. فأما الوجه الرابع: إذا ادعى الزوج العلم وحده، غرم للتي اعترف لها صداقها، وحلف للأخرى، وبرى فإن لكل غرم لها نصف صداقها، وهل يقبل قولها في البقاء معها وتبقى له زوجة ويفسخ نكاح الثانية وحدها أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يقبل قوله، ويفسخ النكاحان جميعًا، وهو قول مالك ¬

_ (¬1) في أ: يتركه. (¬2) سقط من أ.

مالك في مسألة "كتاب النكاح الأول" في التي زوجها أولياؤها من رجلين. والثاني: أنه يصدق في ذلك ويفارق التي قال أنها الآخرة، وهو قول [محمد] (¬1). وأما الوجه الخامس: إذا خالفته كل واحدة منهما، وتقول: بل أنا الأولى، والزوج مصدق لإحداهما ومنكر للأخرى، فإن التي صدقها الزوج تأخذ صداقها بغير يمين، ويحلف الزوج للأخرى ويبرئ. فإن نكل حلفت التي [أنكرها] (¬2) واستحقت. وأما الوجه السادس: إذا خالفته إحداهما، وقالت الأخرى: لا علم عندي، حلفت التي ادعت العلم واستحقت، ولا شيء للتي قالت: لا علم عندي، فإن نكلت اقتسمتا. وأما الوجه السابع: إذا قالت كل واحدة منهما: لا علم عندي، فإنه يفسخ النكاحان جميعًا، وعليه نصف صداق واحد يقتسمانه بينهما بلا يمين؛ لأن الزوج وجب عليه الصداق لواحدة مجهولة، ويفسخ النكاحان جميعًا للجهل بمعرفة الصحيح من عقديهما، وذلك غاية المقدور، والله أعلم. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان الجمع بينهما بملك اليمين، فلا يخلو الجمع بينهما في ملك اليمين من وجهين: إما أن يطأهما جميعًا [أو لم يطأ واحدة منهما]. أو وطئ واحدة منهما دون الأخرى. ¬

_ (¬1) في أ: مالك. (¬2) في ع، هـ: أقرها.

فإن وطئهما جميعًا، فإنه يوقف عنهما حتى يحرم إحداهما، فإن حرم الثانية بقى: على وطء الأولى. فإن حرم الأولى، لم يطأ الثانية إلا بعد الاستبراء. وإن عاود الأولى قبل أن يحرم الثانية وقف عنهما وأيتهما حرم لم [يطأ] (¬1) الثانية إلا بعد الاستبراء. والتحريم يكون بوجوه وحصرها: أن كل فعل إذا فعله فيها حرم عليه وطئها والاستمتاع بها، فذلك تحريم لها، مثل: أن يبيعها بيعا صحيحا لا خيار فيه للمشتري، ولا للشرع فيه رد. أو يخرجها من ملكه بهبة أو صدقة على من لا يملك الاعتصار منه مما يجوز اعتصاره أو يعتقها عتقا ناجزًا أو إلى أجل، ولا يعتبر في ذلك تحريم وطئها مع بقاء الملك عليها مثل: أن يظاهر منها؛ لأن ذلك تحريم تدفعه الكفارة. وقولنا: بيع صحيح، احترازًا من البيع الفاسد، فإن البيع الفاسد لا يخرجها من ملك البائع حتى تخرج من الاستبراء أو تفوت بما تفوت به حوالة الأسواق فاعلا. وقولنا: لا خيار فيه للمشتري، احترازًا من أن يطلع فيه على عيب، فإن المذهب اختلف فيه [هل] (¬2) يحرمها ويحلل التي بقيت في ملك البائع؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك تحليل لها وتحريم للمبيعة، وهو ظاهر قول ابن ¬

_ (¬1) في أ، جـ: يصب. (¬2) سقط من أ.

القاسم في "المدونة". والثاني: أن ذلك ليس بتحريم لها, ولا تحل الأخرى، وهو قوله في "كتاب محمَّد"، وهو ظاهر قول أشهب في "كتاب الاستبراء" من "المدونة". وسبب الخلاف: من ملك أن يملك، هل يعد كالمالك قبل أن يملك أم لا؟ وقولنا: ولا للشرع فيه رد: احترازا من أن تخرج حاملًا. وقولنا: في الهبة على من لا يملك الاعتصار منه، احترازًا من الولد الصغير, ويدخل في ذلك من هو في معنى الاعتصار مما يملك استرجاعه باختياره، مثل الهبة لعبده أو ليتيمه. واختلف إذا قال: إن وطئتها فهي حرة، على قولين قائمين من "المدونة" من "كتاب الإيلاء": أحدها: أن ذلك تحريم لها، وهو أحد قولي ابن القاسم في أن المولى لا يمكَّن من بالضيئة بالوطء، إذ باقي وطئها لا يحل له. والثاني: أن ذلك لا يكون تحريما لها، لأن أول الإصابة ليس بحرام عليه، وهو أحد قولي ابن القاسم أيضًا، وهو قول ابن الماجشون. [فإن لم يطأ واحدة منهما فإنه يختار وطء أيتهما شاء، ويتوقف عن الأخرى، فإن وطئ إحداهما فإنه يتمادى على وطئها ولا يطء الثانية حتى يحرم عليه فرج الأولى بأحد الوجوه التي قدمناها، والله أعلم] (¬1). والجواب عن الوجه الثالث: إذا كانت تحته إحدى الأختين بملك والأخرى بنكاح، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يطرأ الملك على النكاح. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثاني: أن يطرأ النكاح على الملك [فإن طرأ الملك على النكاح] (¬1)، مثل: أن يكون عنده امرأة بنكاح ثم اشترى أختها. فلا خلاف في المذهب أن طرؤها لا يؤثر في نكاح الأولى، ويستمر على وطء الزوجة إذا لم يرد وطء أختها. فإذا أراد أن يطأ أختها بملك اليمين حرَّم الزوجة على نفسه بالطلاق البائن، ولا تحرم بطلاق رجعي. فإن طرأ النكاح على الملك، مثل أن يكون عنده أمة يطأها بملك يمينه، فأراد أن يتزوج أختها قبل أن يحرم فرجها على نفسه، هل يجوز ذلك له أو لا يجوز؟ [فالمذهب] (¬2) على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن النكاح لا يجوز ولا ينعقد، وهو قول ابن القاسم على ما حكاه سحنون عنه. والثاني: أن النكاح جائز، وبالعقد تحرم الأمة، وهو قول أشهب في "كتاب الاستبراء". والثالث: أن ذلك لا يجوز له ابتداء، فإن نزل فإنه يوقف حتى يحرم فرج الأمة. فإن فعل صح نكاحه، ولا يفرق بينهما. فإن أبى فرق بينهما، وهو قول ابن القاسم في "كتاب النكاح الثالث" من "المدونة" أيضًا. وسبب الخلاف: الإباحة هل تقوم مقام [الفعل] (¬3) أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الوطء.

فمن رأى أن الإباحة تقوم مقام [الفعل] (¬1) قال: بجواز النكاح، وهو ظاهر قول ابن القاسم: في الذي زوج أم ولده ثم مات زوجها وسيدها، ولا يعلم أيهما مات أولًا حيث قال: عليها أربعة أشهر وعشرا مع حيضة في ذلك لابد منها. وتفسير سحنون في ذلك على ما سنوضحه في "كتاب العدة وطلاق السنة" إن شاء الله. وهذا منه بناء على الإباحة تقوم مقام الفعل. ويؤخذ له أيضًا من "كتاب النكاح الثالث" أن الإباحة لا تقوم مقام الفعل، حيث قال فيمن زوج أم ولده ثم اشترى أختها، فوطئها ثم رجعت إليه أم ولده: أقام على وطء الأمة. ومعلوم أن أم الولد رجعت إلى الفراش الأول، ولم يجعل الإباحة في هذا الوجه تقوم مقام الفعل، وهذا أصل مختلف فيه. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: الوطء.

المسألة الرابعة في الإحلال والإحصان

المسألة الرابعة في الإحلال والإحصان والإحلال: عبارة عن إباحة الفرج بنكاح جديد، بعدما كان محرما بثلاث تطليقات. والإحصان: معناه الامتناع، ومنه يقال: درع حصين وبلد حصين، إذا كان له صور متقن؛ لأن الدرع يمنع عن صاحبه وصول ألم الحديد إلى جسمه، والسور يمنع دخول العدو البلد. وهو قول واقع في كتاب الله تعالى وفي لغات العرب على معان كلها راجعة إلى الامتناع. فيقع الإحصان على العقد؛ لأن به يتوصل إلى الوطء، [ويقع على الوطء] (¬1) ولأن به يمتنع من الفاحشة. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} (¬2)، هذا في المتزوجات. [وكذلك: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكمْ} (¬3). - ويقع على الإِسلام: لمنعه من الفواحش، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬4) , أى: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة النور الآية (23). (¬3) سورة النساء الآية (24). (¬4) سورة النساء الآية (25).

الحرائر] (¬1). وكذلك قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} (¬2)، والحرية تمنع من الدناءة والإلمام بالفاحشة، ولاسيما أن الزنا عند العرب [في جاهليتهم] (¬3) في الإماء غير منكر [وفي الحرائر منكر] (¬4). ويأتي: الإحصان أيضًا بمعنى العفة؛ لأنها مانعة أيضًا، ومنه قوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} (¬5)، وقوله: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرجْهَا} (¬6). ولما تضاعف إحصان الحرة المسلمة تضاعف عفافها على الأمة التي ليس عندها من الإحصان سوى الإِسلام، ثم لما تضاعف إحصان الحرة المسلمة وتأكد بالنكاح قيت الموانع [عن] (¬7) الميل عن الزنا، وغلظ فيه الأمر، وانتهت فيه العقوبة منتهاها [بإفاتة] (¬8) النفس بالرجم مبالغة في الردع والزجر. وله شروط ستة وهي: أن يكون الزوج حرًا مسلمًا بالغًا عاقلًا، ويكون عقد النكاح صحيحًا، والإصابة صحيحة، إلا أن هذه الشروط منها ما هو متفق عليها، ومنها ما هو مختلف فيها، على ما يقع التنبيه عليه في أثناء الشرح إن شاء الله. ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سورة المائدة الآية (5). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سورة النساء الآية (25). (¬6) سورة الأنبياء الآية (91). (¬7) في أ: على. (¬8) في أ، جـ: فأتلف.

وقولنا: حرا، احترازًا من العبد، ولا خلاف عندنا في المذهب أن العبد لا يحصنه نكاح الحرة، وهو يحصن الحرة دون الأمة، ويحللهما جميعًا لمن طلقها ثلاثًا. وقولنا: مسلمًا، احترازًا من النصراني، ولا خلاف أن الإحصان من شروطه الإِسلام والحرية. واختلف هل يحل المبتوتة للذى طلقها ثلاثًا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يحللها، وهو مشهور قول مالك. والثاني: أنه يحللها للذي طلقها، وهو قول مالك في "مختصر ما ليس في المختصر"، وبه قال علي بن زياد في "كتاب خير من زينته". وسبب الخلاف: اختلافهم في قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬1). هل هو عموم أريد به الخصوص أو أريد به العموم؟ ولا خلاف أعلمه في المذهب أن الحر المسلم يحصنه وطء الأمة المسلمة والحرة الكتابية بنكاح. وقولنا: بالغًا، احترازًا من غير البالغ، فغير البالغ لا يخلو من أن يكون مراهقًا أو غير مراهق. فإن كان غير مراهق فلا خلاف عندنا أن وطأه لا يحل ولا يحصن. فإن كان مراهقًا، هل يحلها ويحصنها وتحصنه [هي] (¬2)، أم لا يحلها ولا [يتحاصنان] (¬3) بوطئه؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية (230). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ، جـ: يحصنان.

أحدهما: أنه لا يحلها ولا يتحاصنان بوطئه، وهو ظاهر "المدونة"، وهو المشهور. والثاني: أنه يحلها ويتحاصنان بذلك، وهو ظاهر قول مالك في غير "المدونة": إذا زنا وهو مراهق أنه يحد. و [أما] (¬1) المراهقة التي بلغت حد الاستمتاع بها، فإنها تحصن واطئها، ويحلها هي ولا يحصنها؛ لأن الإحصان أقوى من الإحلال. وهكذا اختلفوا في مقطوع الحشفة هل يحلها؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يحلها، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أنه يحلها، وهو قوله في "كتاب محمَّد". وقولنا: عاقلًا، احترازًا من المجنون، وقد اختلف المذهب في الزوجين إذا كان أحدهما مجنونًا، هل يتحاصنان بذلك النكاح أو لا يتحاصنان؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن العاقل منهما يحصنه وطء المجنون، ولا يحصنه هو، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن المراعي الزوج، فإن كان عاقلًا أحلها وأحصنها في حال جنونها، وإن كان مجنونا لم يحلها وإن كانت عاقلة، وهو قول أشهب. والثالث: أن المراعي في ذلك صحة العقد. فإن كان العقد صحيحا كان إحلالا وإحصانا، وإن كانا في حين الإصابة مجنونين، وهو قول بعض الرواة في بعض روايات "المدونة"، وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قول عبد الملك في غير "المدونة". وسبب الخلاف: هل المراعي صحة العقد والوطء أو الاعتبار بالقصد؟ فمن رأى أن الاعتبار بصحة العقد والوطء خاصة قال: بوجود الإحصان والإحلال بينهما. ومن راعى القصد قال: إن المجنون منهما غير محصن، لعدم قصده إلى ذلك، وهذا والله أعلم مما لا يعتبره الشرع، ولا [يشترط] (¬1) فيه القصد والنية أصلًا. وقولنا: أن يكون عقد النكاح صحيحًا، احترازًا من القصد الفاسد إلا أن فساده لا يخلو من أن يكون مما يؤثر في فسخه قبل البناء خاصة أو يكون مما له تأثير قبل البناء وبعده. فإن كان مما له تأثير في الفسخ قبل البناء خاصة، فإنه يصح [به] (¬2) الإحلال والإحصان. فإن كان مما له تأثير في الفسخ قبل البناء وبعده لم يصح به الإحلال والإحصان مثل: نكاح المحلل وما كان في معناه، غير أن نكاح المحلل لا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون لرغبته. والثاني: أن يقصد به التحليل. فإن كان لرغبة منهما أو من الزوج خاصة فلا إشكال أنه يقع به الإحلال والإحصان. ¬

_ (¬1) في ع، هـ: يعتبر. (¬2) في أ: في.

فإن كان القصد إلى التحليل، فلا يخلو من أن يكون منهما أو من أحدهما: فإن كان منهما جميعًا، من الزوج والزوجة، أو من وليها إن كانت تجبر على النكاح، فإن كان القصد إلى الإحلال منهما جميعًا أو من الزوج خاصة فالنكاح بينهما مفسوخ، ولا يحلها ذلك، ثم لا يخلو من أن يعثر على ذلك قبل البناء أو بعده. فإن عثر على ذلك قبل البناء، فلا يخلو من أن يثبت ذلك القصد ببينة أو بإقرار الزوج. فإن ثبت ذلك ببينة كان فسخًا بغير طلاق، [ولا شيء لها من الصداق وكذلك إن صدقته وكانت رشيدة في نفسها، فإن كان ذلك بدعوى الزوج فإن الفسخ فيه بطلاق] (¬1)، ويكون لها نصف الصداق، وإن لم تقصده المرأة. فإن عثر على ذلك بعد البناء، وكان ذلك ببينة، هل يكون لها المسمى أو صداق المثل؟ فالمذهب على قولين، والمشهور أن لها المسمى؛ لأن فساده في عقده. فإن كان ذلك بدعواه: كان لها المسمى. فرع: وإذا تزوجت من علمت أنه حلف ليتزوَّجنَّ على امرأته أو تزوجت الرجل الغريب، وهي عالمة أنه لا يريد إمساكها، هل يحلها هذا النكاح أو لا يحلها؟ على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

[وقولنا] (¬1): وأن تكون الإصابة صحيحة، احترازًا من الإصابة الفاسدة، مثل: أن يطأها وهي محرمة أو معتكفة أو صائمة أو حائض أو كان الزوج محرما أو صائمًا أو معتكفًا. وقد اختلف المذهب في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يقع به الإحلال والإحصان، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أنه يحلها بذلك الوطء، ويكونان به محصنين، وهو قول عبد الملك. والقول الثالث: أنهما يتحاصنان بذلك [الوطء] (¬2) غير أنه لا يحلها لمن طلقها ثلاثًا، وهو قول المغيرة وابن دينار، وهو أضعف الأقوال؛ لأنه إن كان هذا الوطء لا يحلها فبأن لا يحصنها أولى، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" (¬3). فإذا ثبت ذلك فلا يخلو الزوجان من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتصادقا على الوطء. والثاني: أن يتصادقا على نفيه. والثالث: أن يختلفا فيه. فالجواب عن الوجه الأول: أنه إذا تصادق الزوجان على وجود الوطء، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) تقدم.

فلا خلاف في وجود الإحلال والإحصان بينهما، سواء تقاررا على إثبات الوطء قبل الزنا أو بعده. والجواب عن الوجه الثاني: إذا تقاررا على نفي الوطء، فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك قبل الزنا. والثاني: أن يكون بعد الزنا. فإن كان ذلك قبل أن يؤخذا أو أحدهما في الزنا، فلا إشكال أن قولهما في عدم الإحصان مقبول. وإن كان ذلك بعد أن أخذا في الزنا أو أحدهما، فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنهما يتحاصنان ولا يقبل قولهما، وهو الأشهر، وهو ظاهر "المدونة". [والثاني: أن قولهما مقبول، ولا يتحاصنان بذلك إلا بوطء ثابت على الإطلاق، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الرجم" من "المدونة"] (¬1)، وهو قول الغير في "كتاب النكاح الثالث". والثالث: بالتفصيل بين قرب الزمان وبعده، وهو قوله في "كتاب النكاح الثالث" من "المدونة". وسبب الخلاف: هل تلحقهم التهمة في المواطآت على إسقاط حق الله الذي هو حد الزنا أو لا يلحقهم؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فمن اتهمهم قال بوجوب الحد على من أخذ منهما في الزنا؛ لأن دليل الحال الذي هو الخلوة شهد عليهما. ومن لم يتهمهما قال: يصدقان على عدم الوطء؛ لأن أدنى حالتهما أن يكون إنكارهما المسيس شبهة تدرأ الحد عنهما أو عن من زنا منهما، والقول بالتفصيل بين القرب والبعد استحسان. والجواب عن الوجه الثالث: إذا اختلفا في الوطء؛ فلا يخلو من أن يكون اختلافهما قبل الزنا أو بعده. فإن كان قبل الزنا: فالمنكر غير محصن بالاتفاق، وأما المقر فلا يخلو من أن يذكر ذلك على سبيل الدعوى أو على سبيل الاعتراف. فإن ذكر ذلك على سبيل الدعوى، مثل أن تقول: إنما أقررت بالوطء لأخذ الصداق. إن كانت امرأة أو يقول: إنما أقررت لأملك عليها الرجعة إن طلقت. أما المرأة: فيقبل قولها بلا إشكال، وهو معنى [قول] (¬1) الغير في "المدونة" في قوله: ولها أن تطرح ما أقرت به من الإحصان قبل أن تؤخذ في زنا أو بعد ما أخذت، وتقول: إنما أقررت لأخذ الصداق. وأما الزوج: فالظاهر عندي والله أعلم أن شبهته أقوى من شبهة الزوجة، وذلك أن ما في مقابلة ما يدعيه من إرادة الرجعة بما أقر به على نفسه من [نصف] (¬2) الصداق، وذلك [أبعد] (¬3) للتهمة عنه، ولم أر في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: نفس. (¬3) سقط من أ.

ذلك نص خلاف. فإن كان ذلك على سبيل الاعتراف، فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن ذلك لا يحلها ولا يتحاصنان إلا بتقاررهما على الوطء، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أن ذلك يحلها لمن طلقها ثلاثًا بعد أن تدين؛ لأنه يخاف أن يكون ذلك من الذي طلقها ضرارًا منه في نكاحها , ولا تكون بذلك محصنة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثالث: التفصيل بين أن يذكر الزوج ذلك بقرب طلاقها أم لا. فإن ذكر الزوج بعد طلاقه إياها: فلا تحل للأول، وإن لم يذكر ذلك إلا بعد انقضاء العدة وإرادة الرجوع إلى زوجها لم يصدق عليها، وهو قول مالك في "كتاب محمَّد"، وهي رواية ابن وهب عنه في بعض روايات "المدونة". وإن اختلفا بعد الزنا: فالمقر منهما يكون محصنًا باتفاق المذهب فيما علمت، وأما المنكر فيتخرج على الأقوال الثلاثة التي قدمناها في الوجه الثاني. واختلف في المرتد منهما [إذا ارتد] (¬1) أو ارتدا جميعًا ثم عاد إلى الإِسلام، هل يزيل ذلك إحلاله وإحصانه أو ارتد وعليه أيمان بالله تعالى أو عليه أيمان بالعتق أو بالظهار أو عليه ظهار مجرد. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فقال ابن القاسم في "المدونة" إن الردة تزيل إحصانه وكذلك تسقط ما كان عليه من الأيمان بالله أو بعتق وظهار مجرد على الرواية المشهورة، أو [يمين] (¬1) بظهار، على ما نقله بعض [المختصرين] (¬2) "للمدونة". وقد اختلف قول ابن القاسم في يمين الظهار في "كتاب محمَّد"، هل تزيله الردة أم لا؟ وهكذا أيضًا اختلفوا في كفارة الظهار إذا حنث فيه ثم ارتد، هل تسقط عنه أو لا تسقط؟ على قولين بين المتأخرين، وقال غيره: إن الردة لا تسقط الإحصان ولا أيمانه [بالطلاق] (¬3) ولا يتزوج امرأة كان أبتها إلا بعد زوج. فكذلك يجب على قوله أيضًا إذا نكح امرأة مبتوتة من غير أن نكاحه إياها لا يحلها للأول الذي أبتها إلا بعد زوج، فكذلك يجب على قوله أيضًا إذا نكح. وظاهر قول الغير في "الكتاب": أن ابن القاسم يخالفه في الأيمان بالطلاق، وأن الردة تهدمها عنده، [ويوافقه] (¬4) في الإحلال أن الردة تزيله لاستدلاله عليه بذلك؛ لأن الغالب أن المستدل على المخالف لا يستدل عليه إلا بما يوافقه عليه. وقد اختلف قول ابن القاسم في [جميع] (¬5) ذلك، وقد نص ابن القاسم، على أن اليمين بالظهار تسقط، ولا فرق في التحقيق بين اليمين بالطلاق وبين اليمين بالظهار. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: المتأخرين. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ع، هـ: ويخالفه. (¬5) سقط من أ.

وبعضهم: يفرق بين الظهار والطلاق، بأن الردة تسقط الظهار؛ لأن فيه الكفارة، ولا تسقط الطلاق. وقد نص القاضي أبو بكر بن زرب: أن [مذهب ابن القاسم في الردة أن] (¬1) الردة تسقط الطلاق، ويجوز للمطلق ثلاثًا قبل ارتداده أن يتزوج التي طلقها دون زوج، وحكى القاضي إسماعيل عن ابن القاسم مثله. وقال أبو عمران الفاسي: وهذا هو الأشهر. وحكى الدمياطي عنه [خلافه وأنها لا تحل له قبل زوج وحكى الدمياطي عنه] (¬2) أيضًا: أن إحلاله باطل، وأن الزوجة التي طلقها قبل ردته لا تحل لمن أبتها قبله. وكذلك أيضًا اختلفوا في أيمانه بالعتق التي تزيلها بالردة، هل ذلك في المعين والمضمون أو ذلك في المضمون خاصة؟ وأما المعين فهو لازم كالمدبر على قولين. فإن ارتدا جميعًا، هل يتناكحان إذا رجعا إلى الإِسلام أو تكون الردة تهدم ما بينهما من الطلاق أم لا؟ على قولين لابن القاسم. فهذه جملة ما في المسألة من الخلاف، وتحصيلها أن تقول: لا خلاف أن كل ما يلزمه في حال ردته، وما يلزم الكافر الأصلي يلزمه، ورجوعه إلى الإِسلام كحقوق [الآدميين] (¬3)، وأن ما لا يلزمه من الطاعات في حال ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في: أ: الأجنبيين.

كفره لا يلزمه بعد رجوعه إلى الإِسلام من سائر العبادات، وإنما ألزم الحج لأنه ليس له وقت مخصوص يفوت بفواته كالصلاة والصيام، ووقت الحج موسَّع إلى بقية العمر، فكان عند رجوعه واستئنافه الطاعات كالمبتدئ للإسلام مأمورًا بأداء فريضة الحج وغيرها من فرائض الإِسلام، كما أمر بأداء ما أدرك وقته من الصلوات، وصوم ما بقى عليه من شهر رمضان وما يستقبل. وأما [ما] (¬1) عدا العبادات من سائر العقود والحدود التي يشترك فيها حق العبد مع حق الله تعالى من وجه، وإن كان حق الله، فيها هو المقصود، وحق الآدمي فيه تبع، ففي جميع ذلك قولان منصوصان في "المدونة": أحدهما: أن ردته لا تهدم شيئًا من ذلك أصلًا، وأنه إذا رجع إلى الإِسلام كان حكمه حكم [المسلم] (¬2) الأصلي، وهو قول الغير في "المدونة"، وهو الذى رجحه القابسي وغيره من المتأخرين. والقول الثاني: مضطرب. فمرة قال: إن الردة تهدم جميع ما كان قبلها من الإحصان والإحلال، والأيمان بالله، وبالطلاق وبالظهار والظهار المجرد والظهار الذي حنث فيه. ومرة قال: بالتفريق بين الطلاق البتات واليمين بالظهار [وغيره من سائر العقود فتكون الردة تهدم ما عدا الطلاق البتات واليمين] (¬3)؛ لأن الظهار فيه الكفارة، وقد تعلق به حق الآدمي، والطلاق البتات لازم له ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

أيضًا، ولا تحل له بعد الردة إلا بعد زوج. وكذلك إحلاله للتي طلقها زوجها ثلاثًا: فإن الردة لا تهدمه أيضًا. والقولان عن ابن القاسم على ما حكاه متقدمو الأصحاب عنه. وكذلك اضطرب قوله في يمين العتق التي تهدم الردة أمرها مرة. فمرة قال: لا فرق بين المعين والمضمون. ومرة يفرق بينهما ويقول: الردة تهدم اليمين في المضمون ولا تهدمها في المعين تغليبا لحق الآدمي [كالمدبر] (¬1). هكذا اختلفوا في الردة، هل [هي] (¬2) فسخ أو طلاق؟ على ما سنعقد عليه مسألة مفردة [في آخر هذا الكتاب إن شاء الله. وسبب الخلاف: المطلق هل يحمل على المقيد أو لا يحمل عليه وذلك أن الله تعالى قال في كتابه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬3)، فهذا مطلق، لأنه أطلق أن الأعمال تحبط بوجود الشرك من غير تقييد. وقال أيضًا: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} (¬4)، فقيد في هذه الآية إحباط العمل [بالموت على الكفر] (¬5)، ونعوذ بالله من سوء الخاتمة. فاختلف العلماء هل يرد ذلك المطلق إلى المقيد أو لا يحمل عليه؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: هو. (¬3) سقط من أ. (¬4) سورة البقرة الآية (217). (¬5) في هـ: بالكفر.

فمن رأى أنه يحمل عليه قال: لا تهدم الردة شيئًا من أفعاله وأعماله، كالمسلم الأصلي، وكأنه لم يرتد قط، وهو قول أشهب. ومن رأى أنه لا يحمل عليه قال: إن الردة تهدم جميع أقواله وأعماله، فليبتدئ إذا رجع إلى الإِسلام ما كان يبتدؤه الكافر الأصلي [إذا أسلم] (¬1)، وهذا مشهور مذهب ابن القاسم [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الخامسة في الصداق بين النصرانيين إذا أسلما

المسألة الخامسة في الصداق بين النصرانيين إذا أسلما وإذا تزوجها على خمر أو خنزير أو بغير مهر أو اشترطا ذلك وهم يستحلون ذلك في دينهم، ثم أسلما بعد البناء [ثبت النكاح] (¬1). . . إلى آخر ما قاله في "الكتاب". وقوله في السؤال: أو بغير مهر أو اشترطا ذلك، فاعتبر هذين اللفظين وتدبرهما فمعناهما: أن الأول الذي قال فيه: أو بغير مهر، أضمراه. والثاني: صرحا به. وحكمهما سواء، لئلا يتوهم متوهم أن ذلك تكرار وحشو، ثم لا يخلو إسلامهما من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك قبل البناء أو بعد البناء. فإن كان إسلامهما بعد البناء فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يتزوجها على صداق لا يحل. والثاني: يتزوجها على ألا صداق لها أصلًا. فإن تزوجها على صداق لا يحل مثل: الخمر والخنزير، فلا يخلو من أن يقبض ذلك قبل الإِسلام أو يسلما قبل أن تقبض. فإن قبضت صداقها في حال كفرها، ثم أسلما بعد البناء: ثبت النكاح بينهما, ولا شيء لها على الزوج غير ذلك، ولا خلاف في هذا الوجه. ¬

_ (¬1) سقط من هـ.

فإن أسلما قبل أن تقبض ما أصدقها من الخمر والخنزير، فهل لها على الزوج صداق أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن لها عليه صداق مثلها، وهو قول ابن القاسم [في المدونة] (¬1). والثاني: أنها لا شيء لها عليه، وهو قوله في كتاب ابن الموَّاز. والثالث: أن لها [عليه] (¬2) قيمة ما أصدقها من الخمر، وهو ظاهر قول محمَّد بن عبد الحكم. فإن تزوجها على أن لا صداق لها عليه، ثم أسلما بعد البناء، هل [يكون] (¬3) لها عليه الصداق أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن لها عليه صداق المثل، وهو تأويل الشيخ أبي محمَّد على "المدونة"، وهو قول مالك في "كتاب ابن حبيب"، وأن جوابه في "الكتاب" على المسألتين جميعًا. والثاني: أنه لا صداق لها عليه، وهو قوله في "كتاب محمَّد"، وهذا تأويل بعض المتأخرين، وحمل جوابه في "المدونة" بصداق المثل على مسألة الخمر والخنزير. وسبب الخلاف: اختلافهم في أنكحة الكفار إذا أسلموا، هل يعتبر فيها ما يعتبر في أنكحة أهل الإِسلام أم لا؟ والجواب عن الوجه الثاني: إذا أسلما قبل البناء، فلا يخلو من أن يسمَّى ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

لها صداقًا أو لم يسم. فإن سماه فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تقبض ما أصدقها قبل الإِسلام. والثاني: أن يسلما قبل أن تقبض. فإن قبضته قبل إسلامهما، فهل يمكن الزوج من الدخول بذلك أم لا يمكن من الدخول حتى يدفع لها صداقًا آخر؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن الزوج مخير بين أن يدفع صداق المثل فيدخل، أو يطلق عليه الحاكم إن أبى، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن للزوج [الدخول] بما قبضته من الخمر والخنزير؛ لأنها قبضته في حال هو لها ملك، ولا يلزم الزوج غير ذلك، وهو قول الغير في "المدونة". والقول الثالث: أن لها قيمة الخمر بمنزلة من تزوج بثمرة لم يَبدُ صلاحها, ولم تجد حتى أزهت أن النكاح لا يفسخ ولها قيمة ذلك، وهو قول ابن عبد الحكم، وهو القياس. والرابع: أن الزوج يعطيها ربع دينار ويدخل بها , ولا شيء عليه أكثر [من ذلك]، وهو قول أشهب في "كتاب محمد" وقال أبو محمَّد: يريد سواء قبضت ذلك أو لم تقبضه. وكذلك فسره في غير هذا الموضع. وهذا الخلاف ينبني على الأصل الذي قدمناه آنفا، وينبني على أصل آخر وهو هل تجري أنكحتهم على أصل بيوعاتهم أو لا تجري عليها؟

فمن رأى أن حكم أنكحتهم تجري على أحكام بيوعاتهم في المعاوضات قال: للزوج الدخول بغير شيء؛ لأنه قد دفع الثمن في حال تجوز لهم المعاوضات عليه، كما لو ابتاع خمرًا بثمن إلى أجل ثم أسلما أن له أن يقبض الثمن إذا حل الأجل، فالبضع في النكاح كالثمن في البيع؛ لأن البضع مشترى بالخمر كما أن الثمن مشترى بالعوض الذي نقد فيه، وهذا هو الأظهر في النظر. ومن رأى أن [أحكام] (¬1) أنكحتهم لا تجري على أحكام بيوعاتهم قال: لا يُمكن الزوج [من] (¬2) الدخول إلا بصداق، إما صداق المثل كما يقول ابن القاسم، وإما رُبع دينار كما يقول أشهب. وله قولة أخرى، مثل قولة ابن القاسم. ولو أصدقها ثمن خمر [له] (¬3) على رجل فلم تقبضه حتى أسلما فلها قبضه والنكاح ثابت، وهو قول ابن القاسم في "كتاب محمَّد". وإما إن أسلما قبل أن تقبض ما سمى لها من الصداق الفاسد، فالزوج مخير بين أن [يعطي] (¬4) لها صداق مثلها فيدخل، وإن أبى طلقت عليه، [إلا أن ترضى بأقل من صداق مثلها. وأما إذا لم يسم صداقها في أصل العقد، ثم أسلما قبل البناء: فالزوج مخيَّر في هذا الوجه أيضًا بين أن يفرض لها صداق المثل، وإن أبى طلقت عليه] (¬5) [والحمد لله وحده] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في هـ: يفرض. (¬5) سقط من هـ. (¬6) زيادة من هـ.

المسألة السادسة في إسلام أحد الزوجين

المسألة السادسة في إسلام أحد الزوجين ولا يخلو إسلام أحد الزوجين من أحد وجهين: [أحدهما] (¬1): أن تسلم الزوجة أولًا. والثاني: أن يسلم الزوج أولًا. فإن أسلمت الزوجة أولًا فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك قبل البناء. والثاني: أن يكون بعد البناء. فإن كان ذلك قبل البناء، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يسلم الزوج معها، أو يسلم عقيب إسلامها. أو يسلم بعد إسلامها. فإن أسلما معا الزوج والمرأة، فلا خلاف في ثبوت النكاح بينهما. وإن أسلم عقيب إسلامها، هل يُقَّران على نكاحهما ويكون كإسلامهما معا [أم لا] (¬2)؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا نكاح بينهما وهو المشهور، وهو ظاهر "المدونة" في مسأله الصبية. والثاني: أن النكاح بينهما ثابت إذا أسلم عقيب إسلامها [وهو قول ابن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

القاسم في العتبية وهو ظاهر المدونة أيضًا] (¬1). وسبب الخلاف: ما قارب الشيء، هل يعطى له حكمه أم لا؟ فإن أسلم الزوج بعد إسلامها، وبين إسلامها تراخ، فلا خلاف في هذا الوجه، أن النكاح بينهما مفسوخ، وقد حكى بعض المتأخرين في هذا الوجه الذي قدمناه فيما إذا أسلم الزوج عقيب إسلامها، أنه لا سبيل له إليها، فكيف إذا تراخى [إسلامه عن إسلامها] (¬2)؟ والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان إسلامها بعد البناء: فالزوج أحق بها [في هذا الوجه] (¬3) ما لم تنقض العدة. واختلف في العدة هل هي حيضة واحدة أو ثلاث؟ على قولين: أحدهما: [أنها] (¬4) ثلاثة أقراء كاستبراد الحرة المسلمة، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أن عدتها حيضة واحدة واستبراء، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم في "ثمانيته"، وهو قول ابن القاسم في المجوسي يسلم وتأبى زوجته الإِسلام: أنها تستبرأ من ماء المسلم بحيضة واحدة. وسبب الخلاف: اختلافهم في الأقراء الثلاثة، هل هي كلها استبراء، أو بعضها استبراء وبعضها عبادة؟ فمن رأى أنها كلها استبراء، قال: تستبرئ نفسها بثلاثة قروء. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: إسلامهما. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: أنه.

ومن رأى أن الزائد على حيضة في الحرة المسلمة [عبادة] (¬1) قال: تستبرئ نفسها بحيضة واحدة؛ لأنها كافرة غير متعبدة. والقولان قائمان من "المدونة" من "كتاب العدة". وعلى القول بأنها تنتظر ثلاثة [قروء] (¬2)، هل يكون لها النفقة على زوجها ما دامت في عدتها أو لا نفقة لها؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنها لها النفقة. والثاني: أنها لا نفقة لها. والقولان: منصوصان في "العتبية" و"الموَّازية". وسبب الخلاف: هل حكمها حكم الناشزة أم لا؟ فمن حكم لها بحكم الناشزة قال: لا نفقة لها في مدة العدة؛ لأنها امتنعت من الزوج وغصبته المنافع التي تعتاض عنها. ومن رأى أن حكمها على خلاف حكم الناشزة أوجب لها النفقة؛ لأنها فعلت ما يجب عليها [فعله] (¬3) والزوج تارك الوطء باختياره [لترك ما يجب عليه من الأيمان لأنه من جنس مقدوره كما لو أخره سفر أو أمر يمنعه من الوطء باختياره] (¬4)، وهذا هو الأظهر في النظر، والأول أظهر في الرواية. فإذا أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها: كان أحق بها بالنكاح الأول، ولا ¬

_ (¬1) في هـ: تعبد. (¬2) في أ: أقراء. (¬3) في أ، جـ: بعذر. (¬4) سقط من أ.

يحتاج إلى [تجديد] (¬1) عقد آخر. والأصل في ذلك حديث صفوان بن أمية، وذلك أن زوجته ابنة الوليد بن المغيرة أسلمت قبله ثم أسلم هو، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على نكاحه. قالوا: وكان بين إسلام صفوان وإسلام زوجه نحو من أشهر، فكان ذلك سنة فيمن أسلم في عدة امرأته أنه يكون أحق بها إذا تقارر بالزوجية بينهما، ويكون حكمهما حكم الطارئين، إلا أن يتبين كذبهما، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب": يكون أحق بها إذا ثبت أنها زوجته، ظاهره خلاف ما قاله في "كتاب الرجم" بالطارئين. وقال بعض المتأخرين: وقد يحمل قوله على من هاجر من مكة؛ لأن أهل مكة بالمدينة كثير، ولا يخفى معرفة ذلك بخلاف غيرهم. فإذا انقضت عدتها قبل إسلام زوجها فسخ نكاحهما، وهل يكون فسخا بطلاق أو بغير طلاق؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه فسخ بغير طلاق، وهو نص "المدونة". والثاني: أنه فسخ بطلاق، وهو ظاهر قوله في "المدونة". فيما إذا أسلما قبل البناء، وقد أصدقها خمرًا أو خنزيرًا وقبضته أن الزوج مخير بين أن يبذل لها الصداق فيقر النكاح، فإن أبى فرق بينهما، وكانت تطليقة واحدة، وهو قول مالك في "العتبية". وسبب الخلاف: ما لأحد الزوجين إجازته أو فسخه، هل يكون فسخًا أو طلاقًا إذا اختار الرد؟ ولا شك أن الزوج في هذه المسألة قادر على إثبات النكاح، ولا فرق ¬

_ (¬1) سقط من أ.

في جميع ما ذكرناه [بين] (¬1) أن يكونا كتابيين أو مجوسيين أو أحدهما. وأما إن أسلم الزوج أولًا، فلا تخلو الزوجة من أن تكون كتابية أو مجوسية. فإن كانت حرة كتابية فلا خلاف في ثبوت النكاح بينهما، من غير التفات إلى البناء، كان أو لم يكن، لجواز نكاح الحرة الكتابية للمسلم [ابتداء]. فإن كانت مجوسية، فأسلم الزوج، فلا يخلو من أن يكون ذلك قبل البناء أو بعده. فإن كان ذلك قبل البناء، فهل يعرض عليها الإِسلام أو لا يعرض عليها الإِسلام؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يعرض عليها الإِسلام، كما يعرض عليها [قبل] (¬2) البناء، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في مسألة الصبي إذا أسلم أبوه، وقد زوجه أبوه مجوسية، فقال ابن القاسم: يعرض على زوجته الإِسلام. ومعلوم أن ذلك قبل البناء؛ لأن دخول الصبي [إن دخل] (¬3) كلا دخول. والثاني: أنه لا يعرض عليها الإِسلام كما لا يعرض عليها إذا أسلمت قبل البناء، وهو قول أشهب، وهو ظاهر "المدونة" في إسلامها قبل البناء. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: بعد. (¬3) سقط من هـ.

فإن كان [ذلك] (¬1) بعد البناء: عرض على الزوجة الإِسلام بلا كلام، واختلف هل توقف في الحال أو تمهل في مدة؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنها توقف في الحال، ولا تؤخر، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب النكاح الثاني" و"الثالث". والثاني: أنها تؤخر وتمهل [إلى مدة] (¬2)، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب النكاح الثالث"، وإن كان بعض المتأخرين قال: معنى ما وقع لابن القاسم أنها غفل عنها؛ لأن التأخير جائز. والمشهور على أن التأخير جائز، وهو تأويل ابن أبي زمنين على "المدونة"، على خلاف ما تأوله القرويون. وعلى القول بجواز التأخير إلى مدة [معلومة] (¬3)، وقد اختلف في قدرها على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن الشهر [فأكثر] (¬4) قليل ليس بكثير، وهو قول ابن القاسم في أحد روايات "المدونة". والثاني: أن الشهر والشهرين قليل، وهي رواية أخرى في "الكتاب". والثالث: أنها [تؤخر] (¬5) إلى ثلاثة أيام، وهي رواية أبي زيد [عن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: لا تؤخر.

ابن القاسم] (¬1) في "ثمانيته" قياسًا على المرتدة. والقول الرابع: أنها تؤخر إلى انقضاء العدة، وهو قول أشهب في "كتاب النوادر" قياسا على إسلام الزوجة بعد البناء. وسبب الخلاف: بين من قال: تؤخر، وبين من قال: لا تؤخر، الاستدامة هل هي [كالإنشاء] (¬2) أم لا؟ فمن جعل الاستدامة كالإنشاء قال: لا تؤخر، إذ لا يجوز للمسلم ابتداء نكاح المجوسية. ومن جعل الاستدامة ليست كالإنشاء قال: بجواز التأخير؛ لأن ذلك شيء أوجبته الأحكام. واختلافهم في قدر المدة على قدر الاجتهاد. وعلى القول بأنها تؤخر، هل لها النفقة في [أثناء] (¬3) المدة أو لا نفقة لها؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة". ومثار الخلاف: ما قدَّمناه في إسلامها بعد البناء. فإن مات الزوج بعد إسلامه وقبل أن يعرض عليها الإِسلام، فهل تبقى أسباب الزوجية بينهما [أو انقطعت؟ قولان قائمان من "المدونة"، وفائدة ذلك وثمرته العدة، فإن قلنا ببقاء أسباب الزوجية بينهما] (¬4): فلتعتد أربعة أشهر وعشرا. وإن قلنا بانقطاع أسبابها فعدتها استبراء [إما] (¬5) بثلاثة قروء ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: كإنشاء. (¬3) في أ، جـ: ابتداء. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

على القول، وإما بقرء واحد على قول. وسبب الخلاف: المخير بين شيئين، هل يعد مختارًا لما ترك أم لا؟ فعلى قولين: فعلى القول بأنه يعد مختارًا لما ترك فإنها تعتد أربعة أشهر وعشرا، لاحتمال أن تكون قد اختارت الإِسلام في حياة الزوج ثم كتمته وعادت إلى الكفر. وعلى القول بأنه لا يعد مختارًا لما ترك يكون عليها الاستبراء [بحيضة] (¬1) خاصة وهذا تحصيل مليح وتخريج صحيح يعضده نص صريح لم أر مثله لمتقدم ولا لمتأخر. والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وبه أستخير فيما أشاء. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة السابعة في الذمي يتزوج مسلمة أو اشتراها فوطئها بملك اليمين

المسألة السابعة في الذمي يتزوج مسلمة أو اشتراها فوطئها بملك اليمين قال مالك: أرى أن يتقدم في ذلك أشد التقديم، ويعاقبوا على ذلك [بعد التقدم] (¬1). قال ابن القاسم: ولا أرى أن يقام في ذلك حد، وإن تعمداه، [وفي بعض الروايات إن تعمده بإسقاط الألف] (¬2). وفي بعض الروايات: إسقاط "تعمداه" جملة وأسقطت لفظة "تعمداه" من "كتاب [ابن المرابط] (¬3) ". واختلف المتأخرون في التأويل، لاختلاف هذه الروايات، وعلى من يعود ضمير التثنية في تعمداه اختلافًا كثيرًا، ونحن نحصله و [نلخصه تلخيصًا] (¬4) [ملحظًا] (¬5) إن شاء الله تعالى. فأما على إثبات رواية "تعمداه" [بإثبات] (¬6) الألف، [فقد] (¬7) اختلف المتأخرون في جواب الكتاب على أربعة أقوال: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ، جـ: ابن الموَّاز. (¬4) في أ: نخلصه تخليصا. (¬5) سقط من هـ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

أحدها: أنه أجاب على أن النكاح دون الملك؛ لأن الملك لا حدّ فيه، وإنما الحد في النكاح، إلا أن النكاح نفسه في هذه المسألة شبهة تدرأ بها الحدود، ويحتج قائل هذا القول بقوله: "وإن تعمداه"، وذلك إشارة إلى الزوجين، وإلا فلا وجه للتثنية. والثاني: أن جوابه على الملك والزوج الذمي، ولم يتعرض للكلام على الحرة المسلمة، ولذلك جمع الجواب وقال: "لكن أرى العقوبة إن لم يجهلوا". والقول الثالث: أن جوابه على الزوج الذمي والولي المسلم. والقول الرابع: أن جوابه في نفي الحد عن الزوج خاصة؛ لأنه وقع في بعض روايات "المدونة": "لا أرى عليه في ذلك حدٌ". وأما على رواية إسقاط الألف "إن تعمداه": فلا إشكال في صحة هذا التأويل. وكذلك على الرواية بإسقاط لفظة "تعمداه" جملة. وأما على إثبات الألف، فبعيد إلا على رجف في التأويل مثل أن يقول: أن التثنية في "تعمداه" تعود على الزوج [والولي] (¬1)، إذ لا يحد الولي في هذه الصورة بوجه ولا سبب. وأما على الرواية بإسقاط لفظة "تعمداه" جملة، أو إسقاط الألف منها. ويحتمل قوله الآخر في ذلك على الزوجين أو عليهما وعلى الولي وعلى المشتري أو عليهم، والاحتمال متساو. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

واختلفوا في الحُرَّة إذا علمت أنه ذمي، هل تحد أو لا تحد؟ على قولين: أحدهما: أنها تحد، وإليه مال الشيخ أبو القاسم بن محرز وغيره، وهو ظاهر [المذهب] (¬1). والثاني: أنها لا تحد، وإليه مال الشيخ أبو عمران الفاسي، وقال بعض المتأخرين: يؤخذ من قول ابن القاسم في "المدونة": "أن لا حد في ذلك، وإن تعمداه"، أن من تزوج ما حرَّمه الكتاب عالمًا بالتحريم لا يحد لشبهة النكاح كقول أبي حنيفة. قال: وهو مثل قول أصبغ في "الواضحة" فيمن تزوج أختين عالما بالتحريم، وهو مثل قول مالك في النكاح في العدة. قال: وقال بعض أصحابنا: وفي نكاح الخامسة. وقال القاضي أبو الفضل: ولا خلاف عندنا في المحرمات التي لا يحل نكاحهنَّ يوما ما إلا ما أشار إليه هذا المتأخر. قال: وإنما الخلاف في الحرمات لعلة التي يحل نكاحهن إذا ارتفع التحريم. وما قاله القاضي - رضي الله عنه - صحيح، جار على أصول الشريعة. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في ع، هـ: المدونة.

المسألة الثامنة في السبي، هل يهدم النكاح أو لا يهدمه؟

المسألة الثامنة في السبي، هل يهدم النكاح أو لا يهدمه؟ ولا خلاف بين الأمة أن النبي حل المسبية غير الزوجة. وإنما اختلف العلماء في الزوجة، هل يهدم السبي نكاحها أو لا يهدمه؟ فمنهم من قال: إن السبي لا يهدم النكاح حتى يسبيا معا، وهو مذهب أبي حنيفة. ومنهم من يقول: إن السبي يهدم النكاح جملة، وهو مذهب الشافعي، وسواء سبيا معا أو [أحدهما ومنه قول الشاعر (¬1): وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلالًا يبني بها لم تطلق وأما مذهب مالك فقد اختلف في ذلك على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن السبي يهدم النكاح جملة من غير تفصيل عُلم النكاح بينهما أم لا سبيا معا أو] (¬2) مفترقين، وهو قول ابن القاسم وأشهب أول الباب. والثاني: أن السبي لا يهدم النكاح ولا يفسخه، وهو نص عن مالك في "الموَّازية"، وهو ظاهر قوله في "المدونة" في مسألة العلجين اللذين ادعيا أن بينهما نكاحًا، وعلى أنهما مسبيان حملها حذاق المتأخرين، وهو الظاهر من "الكتاب". والقول الثالث: أن نفس السبي لا يهدم النكاح ولا يفسخه، وإنما يهدمه ¬

_ (¬1) الفرزدق. (¬2) سقط من أ.

الوطء، ولكن السبي مبيح للوطء، وهو ظاهر قول مالك في "الكتاب"، ويدل على ذلك استدلال ابن القاسم بقول مالك في مسألة الأمة التي علمت بالطلاق، ولم تعلم بالرجعة: فإن وطء السيد هو الذي يهدم رجعة الزوج، وإلا فأي فائدة له في جلب هذه المسألة من موضعها إلى هذا الموضع، وموضعها "كتاب العدة". وإلى هذا التخريج ذهب الشيخ أبو القاسم بن [محرز] (¬1) وغيره من حُذَّاق المتأخرين، وهو تخريج صحيح ظاهر لمن أنصف وكشف له عن أسرار "المدونة". والقول الرابع: بالتفصيل بين أن يُسبيا جميعًا أو مفترقين: فإن سبيا معا: لم يهدم نكاحهما. وإن سبيا مفترقين: فانظر، فإن سبيت المرأة أولًا [فسخ نكاحها، ثم لا ينظر إلى حال الزوج بعد إذا لم يُسب أو قدم بأمان وهو قول ابن القاسم أيضًا؛ لأنه قال في الكتاب: إذا سبيت المرأة أولًا] (¬2)، ثم قدم زوجها بأمان، وهي في استبرائها فلا سبيل له إليها، ولا فرق على هذا بين قدومه بأمان أو سبي. فإن سُبي الزوج أولًا ثم سبيت هي بعد ذلك فلا يفسخ النكاح بينهما [لأنه قال: إذا قدم الزوج بأمان أو قدم مسلمًا ثم سبيت امرأته أن النكاح لا يفسخ بينهما] (¬3) إن أسلمت، وإن أبت: فرق بينهما، إذ لا تكون زوجة ¬

_ (¬1) في أ: محمَّد. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

لمسلم وهي [أمة نصرانية] (¬1)، ولا تنقطع عصمة النكاح بينهما بنفس السبي، ولا فرق في ذلك بين إسلامه قبل البناء وبين سبيه بعدها؛ لأن العلة جامعة بين الفصلين، العلة المانعة [من فسخ] (¬2) النكاح بينهما إذا قدم مسلما ثم سبيت [بعده] ماله من الأمان وحرمة الإِسلام، والعلة بعينها موجودة فيما إذا سُبي الزوج أولًا، فأمن من القتل بالاسترقاق، فكان ينبغي أن تنال حرمة أمانة زوجته إذا سبيت بعده ثم لا يفسخ نكاحها أصلًا، فهذا لازم لابن القاسم، فافهم وفرغ ذهنك إلى فهم هذه المعاني العويصة تصب إن شاء الله تعالى. وسبب الخلاف: بين من يقول يهدم أو لا يهدم تردد نساء المسترقين الذين أمنوا من القتل بين نساء الذميين أهل العهد، وبين الكافرة التي لا زوج لها. فمن ألحقهن بنساء الذميين، قال: لا يهدم السبي النكاح. ومن ألحقهن [بالكوافر] (¬3) اللاتي لا أوزاج لهن، قال: السبي يهدم النكاح. وأما من فرَّق بين أن يسبيا معًا أو يسبيا مفترقين: فيشبه أن يكون المؤثر عنده في الإحلال هو اختلاف الدار بينهما لا الرق، والمؤثر عند غيره هو الرق. وإنما يبقى النظر هل هو الرق بانفراده من غير اعتبار بالزوجية، كانت، أو لم تكن أو مع عدم الزوجية؟ ¬

_ (¬1) في أ، جـ: امرأة نصراني. (¬2) في أ، جـ: لفسخ. (¬3) في أ: النساء.

قال القاضي أحمد الحفيد: والأشبه ألا تكون [الزوجية] (¬1) هاهنا حُرمة؛ لأن محل الرق وهو الكفر هو سبب الإحلال. وأما تشبيهها بالذمية فبعيد؛ لأن الذمي إنما أعطى الحرية بشرط أن يقر على دينه، فضلا [عن] (¬2) نكاحه، وهذا الذي قاله صحيح لمن تأمله، [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: على. (¬3) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة التاسعة في نكاح الكوافر

المسألة التاسعة في نكاح الكوافر ونساء الكوافر على ثلاثة أقسام: الوثنيات، والمجوسيات، وحرائر الكتابيات، [وإماء الكتابيات] (¬1). فأما الوثنيات والمجوسيات: فلا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز وطئهن بنكاح. ولا خلاف أيضًا بين فقهاء الأمصار مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد ابن حنبل - رضي الله عنهم - أنه لا يجوز وطئهن بالملك. ولا فرق في ذلك بين الإماء والحرائر. ذهب بعض السلف إلى جواز وطئهن بالملك. وذكر عن أبي ثور أنه أجاز وطئهن بنكاح وملك، فإن صح ما ذكر عن أبي ثور، فلا يصح الاحتجاج بالإجماع لمن احتج به. والجواب عن القسم الثاني: في حرائر الكتابيات، فلا خلاف بين العلماء في جواز وطئهن بالملك والنكاح، إلا ما رُوى عن عمر - رضي الله عنه -، وقد وقع له في [بعض] (¬2) آثار "المدونة": أنهن كالمجوسيات. والجواب عن القسم الثالث: في إماء الكتابيات، ولا خلاف بين العلماء في جواز وطئهن بملك اليمين. ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ.

واختلفوا في جواز وطئهن بالنكاح. والأصل في جميع المشركات الحرائر منهن والإماء: أنه لا يجوز وطئهن جملة لا بنكاح ولا بملك، لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (¬1)، ولقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَم الْكَوَافِرِ} (¬2)، وهذا يعم كل مشركة وكافرة. فمن جوز وطء نساء المجوسيات والوثنيات بالملك عارض [هذا العموم] (¬3) بعموم قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬4)، وهن المسبيات، وظاهر الآية العموم والاستغراق للمشركات والكتابيات. ومن جوز وطء حرائر الكتابيات بنكاح: استدل بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬5) ويكون قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} (¬6)، عمومًا أريد به الخصوص. والأصل عند أرباب الأصول بناء الخصوص على العموم، فخصصت حرائر الكتابيات من العموم بهذه الآية ويبقى الباقي على أصله، ويستدل به على العموم كما يستدل به على الخصوص، على مذهب أكثر الأصوليين. وأما وطء إماء الكتابيات بملك فبقوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية (221). (¬2) سورة الممتحنة الآية (10). (¬3) سقط من أ. (¬4) سورة النساء الآية (24). (¬5) سورة المائدة الآية (5). (¬6) سورة البقرة الآية (221).

أَيْمَانكُمْ} (¬1)؛ فلا خلاف في مذهب الفقهاء أن عموم هذه الآية يتناولهن. وأما وطئهن بنكاح: فإنه ممنوع كما قدمناه عند من منعه، وجاز عند من جوَّزه. وسبب الخلاف: اختلافهم في معارضة العموم للقياس، وذلك أن قياسهن على الحرائر يقتضي إباحة تزويجهن وباقي العموم إذا استثنى منه الحرائر يعارض ذلك؛ لأنه يوجب تحريم نكاحهن، على مذهب [بعض] (¬2) الأصوليين أن العموم إذا خصص بقى الباقي على عمومه. فمن خصص عموم الباقي بالقياس أو يرى أن الباقي من العموم بعد الخصوص مُجملًا، قال: بجواز نكاح الأمة الكتابية قياسًا على الحرة، أصل ذلك إماء المسلمات وحرائرهن؛ لأن إماء كل جنس يقاس على حرائره، وينبغي أن يُبنى هذا [الخلاف] (¬3) على مطلع آخر، وهو معارضة دليل الخطاب للقياس، وذلك أن قوله تعالى: {مِن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (¬4)، يوجب ألا يجوز نكاح الأمة غير المؤمنة، كتابية كانت أو غيرها، بدليل الخطاب وقياسها على الحرة يوجب ذلك. [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (24). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سورة النساء الآية (25). (¬5) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة العاشرة إذا أسلم النصراني وتحته عشر نسوة

المسألة العاشرة إذا أسلم النصراني وتحته عشر نسوة ولا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يسلم وعنده عشر نسوة. [الثاني] أو أسلم وعنده أم وابنتها. والجواب عن الوجه الأول: إذا أسلم وعنده عشر نسوة أجنبيات: فإنه يختار منهن أربعًا ويفارق سائرهن، والأصل في ذلك حديث غيلان بن [سلمة] (¬1) الثقفي: أنه أسلم على عشر نسوة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اختر منهن أربعًا. . ." (¬2) الحديث. وهل لمن فارق منهن صداق أم لا؟ ولا يخلو من أن يكون دخل بهن أو لم يدخل بواحدة. فإن دخل بهن كان لكل واحدة منهنَّ صداق المثل. وإن لم يدخل بواحدة منهن، هل يكون لمن فارق صداق [المثل] (¬3) أم لا؟ فالمذهب على ثلالة أقوال: أحدها: أنه لا شيء لهن من الصداق، لا نصفًا ولا غيره، وهو ظاهر ¬

_ (¬1) في الأصل: مسلمة. (¬2) أخرجه الترمذي (1128)، والشافعي (43)، والطبراني في الكبير (13221)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬3) سقط من أ.

قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن لكل واحدة منهن نصف صداقها، وهو قول ابن حبيب. والثالث: أن لكل واحدة منهن خُمس صداقها، وهو قول ابن الموَّاز. وهكذا اختلفوا في الفسخ فيهن بطلاق أو بغير طلاق. فابن حبيب يقول: إنه بطلاق. وابن القاسم يقول: بغير طلاق، وله قول آخر مثل قول ابن حبيب، والقولان قائمان من "المدونة". وقد قال فيما إذا أسلم قبل البناء، وقد قبضت صداقها في أرض الحرب: إن الزوج مخير بين أن يدفع [لها] (¬1) الصداق ويدخل، فإن أبى فُرِّق بينهما وكانت تطليقة، وهو نص "المدونة"، وفي كلا المسألتين أنَ الفراق باختياره. وسبب الخلاف: اختلافهم في عقود الكفار وأنكحتهم في الشرك، هل هي صحيحة أو فاسدة؟ فمن رأى [أنها صحيحة قال: لها نصف الصداق على قول من يرى أنه طلاقه وقع بالاختيار وخمس الصداق على قول من اعتبر ما يجب عليه، بفراق جميعهن ومن رأى] (¬2) أن أنحكتهم فاسدة، وإنما جوزها الشرع إذا أسلما جميعًا على الصفة التي إذا وقع [عليها] (¬3) [في] (¬4) الإِسلام، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، جـ: من.

وذلك شريعة غير معقولة المعنى قال: لا شيء لهن من الصداق؛ ولأنه فراق مغلوب عليه. وأما اختلافهم في الفراق، هل هو فسخ أو طلاق؟ فينبني أيضًا على أصلٍ آخر، وهو المخير بين شيئين، هل يعد مختارًا لما ترك أم لا؟ فإن اختار منهن أربعًا، فوجدهن من ذوات [المحارم] (¬1)، هل له الخيار والاختيار في البواقي أم لا؟ فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يوقع عليهن الطلاق حين اختار منهن. والثاني: أن يسرحهن من غير [طلاق] (¬2). فإن طلقهن حين اختار منهن: فلا إشكال أنه لا سبيل له إليهن سواء تزوجن أم لا. إذا كان ذلك قبل البناء أو بعده، وانقضت العدة. فإن سرحهن من غير أن يوقع عليهن طلاقا، فهل له أن يختار منهن أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن له أن يختار منهن أربعًا ما لم يتزوجن، وهو قول عبد الملك بن الماجشون. والثاني: أن له أن يختار [منهن] (¬3)، وإن تزوجن ودخل بهن أزواجهن، [ويفسخ نكاحهن] (¬4)، وهو قول ابن عبد الحكم. ¬

_ (¬1) في ع، هـ: محارمه. (¬2) في هـ: أن يوقع عليهن الطلاق. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من هـ.

وسبب الخلاف: المجتهد، هل يعذر باجتهاده أم لا؟ والجواب عن الوجه الثاني: إذا أسلم وعنده امرأتان من ذوات المحارم، فلا يخلو من أن تكونا أختين أو تكونا أمًا وابنتها. فإن كانتا أختين، فهل له أن يختار واحدة منهما أو يفارقهما جميعًا [فالمذهب على قولين: أحدهما: أن له أن يختار واحدة منهما ويفارق الأخرى كالأجنبيات سواء وهو قول مالك الذي عليه أكثر أصحابه. والثاني: أنه فارقهما جميعا] (¬1) ويتزوج بعد ذلك أيتها شاء، وهو قول ابن الماجشون، وخالفه في ذلك جميع أصحاب مالك رضي الله عنهم أجمعين. فإن كانتا أمًا وابنتها، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يدخل بهما جميعًا. أو لا يدخل بواحدة منهما. أو دخل بواحدة. فإن دخل بهما: فارقهما جميعًا، ولا تحل له واحدة منهما أبدًا. فإن دخل بواحدة [منهما] (¬2)، فلا يخلو من أن تكون معلومة أو مجهولة: فإن كانت معلومة فإنه يبقى معها إن كانت الابنة بلا خلاف، وإن كانت الأم فعلى الخلاف. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن كانت مجهولة، كانت بمنزلة ما لو دخل بهما جميعًا. فإن لم يدخل واحدة [منهما] (¬1)، ففي المذهب ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه يختار أيتها شاء، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يفارقهما جميعًا، وهو قول بعض الرواة في "المدونة". والثالث: أنه يمسك الابنة ويفارق الأم، وهو قول أشهب في أول "كتاب النكاح الثالث". وسبب الخلاف بين ابن القاسم وبين بعض الرواة: اختلافهم في الاستدامة، هل هي كالإنشاء أم لا؟ فبعض الرواة يقول: إنها كالإنشاء، وابن القاسم يقول: لا. والخلاف بين ابن القاسم وأشهب ينبني على الخلاف في العقد الفاسد، هل [هو] (¬2) شبهة تؤثر أو لا؟ فأشهب يقول: نعم، وابن القاسم: اضطرب قوله، وقد قال في باب المجوسي يسلم وعنده عشر نسوة: أن الابنة التي أرسلها لا تحل لآبائه [ولا لأبنائه بناءً] (¬3) على أن شبهة العقد الفاسد تؤثر، وقوله مضطرب كما ترى والله أعلم [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: له. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من ع، هـ.

المسألة الحادية عشرة في طلاق النصراني

المسألة الحادية عشرة في طلاق النصراني وطلاق النصراني زوجته لا يخلو من أن يتقاررا أو يتجاحدا. فإن تجاحدا: فحكمهما حكم المسلمين في ذلك بلا إشكال. فإن تقاررا [فلا يخلو من أن يجوزها نفسها، أم لا. فإن جوزها حكم عليه الفقهاء إذا طلبت ذلك وترافعا إلى حكم المسلمين، فإن لم يجوزها نفسها] (¬1): فلا يخلو من أن يرضى بحكم الإِسلام أو لم يرض: فإن لم يرض بحكم المسلمين [لم] (¬2) يجبر على الطلاق ولا يلزمه؛ لأن ذلك بمعنى الهبة، والنصراني لا يجبر على تسليم الهبة للموهوب له. فإن رضي الزوج بحكم الإِسلام [فالإمام مخير إن شاء حكم إن شاء ترك. قال مالك: وأحب إلى ألا يحكم بينهم، فإن حكم بينهم حكم بحكم الإِسلام] (¬3). وهل يتوقف الحكم على رضا أساقفتهم أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا [ينظر] (¬4) إلى رضا أساقفتهم، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أنه لابد من رضاهم، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) في ع، هـ: يلتفت.

واختلف المتأخرون في معنى قوله في "الكتاب": "فإن حكم بينهم حكم بحكم الإِسلام" هل يريد بذلك أنه يحكم بينهما بالطلاق؟ وهو تأويل أبي الحسن بن القابسي وغيره، أو يريد بذلك أنه لا يحكم بينهما بالفراق لأن حكم الإِسلام في أنحكتهم وطلاقهم لا يلزم، وهو تأويل [ابن] (¬1) أخي هشام وابن الكاتب وغير واحد من المتأخرين، وهو أظهر، ويدل عليه [قوله] (¬2) في "الكتاب": وطلاق أهل الشرك ليس بطلاق. وفي المسألة قول ثالث: بالتفصيل بين أن يكون العقد وقع على شروط الصحة: فيجوز ويكون فيه الطلاق، أو يكون وقع على شروط فاسدة: فلا يلزم فيه الطلاق، وظاهر ما وقع في "كتاب العتق الثاني" يشهد بصحة تأويل ابن القابسي في لزوم الطلاق في النصراني إذا أعتق عبده وتمسك به أنه لا يعرض له إلا أن يرضى السيد بحكم الإِسلام: فيحكم عليه بعتقه. وظاهره: أن العتق والطلاق في ذلك سواء، ولا فرق بينهما في جميع ما ذكرناه، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

المسألة الثانية عشرة في أحكام المرتد

المسألة الثانية عشرة في أحكام المرتد والمرتد: إذا ارتد فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولا خلاف بين المسلمين في ذلك، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدَّل دينه فاقتلوه" (¬1)، وقول عمر - رضي الله عنه -[في الاستتابة] (¬2): هلا حبستموه ثلاثًا، وأطعمتموه في كل [يوم] (¬3) رغيفا (¬4). واختلف عن عمر - رضي الله عنه - في التأخير إلى ثلاثة أيام، واختلافه سَبَّبَ اختلاف قول مالك والشافعي - رضي الله عنهما - في الاستتابة، هل هي ثلاث مرات أو ثلاثة أيام؟ [فعن مالك في ذلك روايتان، والقولان قائمان من "المدونة"، ويؤخذ له من آخر "كتاب العدة وطلاق السنة": أنها لا تؤخر إلى ثلاثة أيام] (¬5)، لقوله في المرتدة: وإن كانت [غير] (¬6) حامل لم تؤخر واستتيبت، معناه: لم تؤخر إلى ثلاثة أيام واستتيبت في الوقت ثلاث مرات، إلا أن المشهور عنه التأخير إلى ثلاثة أيام. وإذا ثبت ذلك فهل الردة تزيل العصمة بينهما؟ فالمذهب على ثلاثة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6524). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه مالك (1414)، والشافعي (1500)، وسعد بن منصور (2585)، وابن أبي شيبة (5/ 562)، والبيهقي في الكبرى (16664). (¬5) سقط من هـ. (¬6) سقط من أ.

أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن الردة تزيل العصمة بينهما جملة بلا تفصيل، وهو قول مالك في "المدونة" في "كتاب النكاح الثالث". والثاني: أن نفس الردة غير مزيلة للعصمة [جملة] (¬1) إذا رجع إلى الإِسلام، وهو قول أشهب في غير "المدونة"، وهو ظاهر قول الغير في "كتاب النكاح الثالث" (¬2) [من المدونة] (¬3): إن الردة [لا تسقط أيمانه ولا تحبط إحصانه] (¬4). والقول الثالث: التفصيل بين أن تكون زوجته أمة أو كتابية أو كانت الزوجة هي المرتدة، فارتدت إلى اليهودية أو إلى النصرانية. فإن كانت الزوجة مسلمة أو كانت هي المرتدة، فارتدت إلى المجوسية فالعصمة منقطعة بينهما. وإن كانت كتابية أو نصرانية أو كانت الزوجة هي المرتدة، فارتدت إلى اليهودية أو إلى النصرانية فالعصمة بينهما قائمة، ولا يفسخ النكاح بينهما بالارتداد إذا عاود إلى الإِسلام، وهو قول أصبغ في "كتاب ابن حبيب"، وهو قول علي بن زياد وابن بشير في الزوجة إذا ارتدت إلى المجوسية، وزوجها مسلم، ووقعت الفرقة بينهما، وهذا القول قائم من "المدونة" من قوله: إذا ارتدت وقعت الفرقة بينه وبين زوجاته إذا كن مسلمات، وهو [مثل] (¬5) قول أصبغ، وظاهر قول ابن القاسم بعده خلافه في قوله: أنه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) المدونة (2/ 207). (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: لا تسقط إحصانه ولا تحبط أيمانه. (¬5) سقط من أ.

تقع [الفرقة] (¬1)، وإن كان من غير أهل الإِسلام. وعلى القول بأن الردة تزيل العصمة، هل ذلك فسخ أو طلاق؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه طلاق، وهو نص قول مالك في "المدونة". والثاني: أنه فسخ، وهو قول مالك في "المبسوط"، وهو ظاهر "المدونة" في إسلام أحد الزوجين، إذ لا فرق في التحقيق بين الموضعين. وعلى القول بأنه طلاق، هل هو طلاق بائن أو رجعي؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها طلقة بائنة، وهو نص "المدونة". والثاني: أنها طلقة رجعية، وهو قول منصوص في المذهب، وهو ظاهر "المدونة" في الزوج إذا أسلم في العدة. وسبب الخلاف: [في جميع] (¬2) ما ذكرناه من وجوه هذه المسألة من الأقوال: اختلافهم في المرتد إذا رجع إلى الإِسلام، هل هو كالكافر الأصلي إذا أسلم أو حكمه حكم المسلم الأصلي الذي لم يرتد قط، وهذا مدار هذه المسألة، وعليه ينبني ما فيها من الخلاف، فابن القاسم اضطرب، [مذهبه في المدونة] (¬3) فتارة حكم له بحكم الكافر الأصلي إذا أسلم سقط عنه كل ما كان عليه من حقوق الله، ويبتدئ ما كان الكافر يبتدئه إذا أسلم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وتارة يقول كقول غيره. وغيره اضطرب مذهبه وما اضطرب وقال: إن حكمه حكم المسلم الأصلي الذي لم يغير دينه قط. وعلى هذا الأصل ينبني اختلافهم أيضًا في المرتد إذا مات له ولد في حال ردته حيث قال ابن القاسم: [لم يوقف [له] (¬1) من ميراثه شيء ولا يرث، والميراث لمن وجب له يوم مات الميت. وقال أشهب:] (¬2) يوقف له ميراثه منه فإن أسلم كان له، وإن قتل على ردته كان فيئا لجميع المسلمين كسائر ماله. والحمد لله وحده، تم "كتاب النكاح الثالث" [بحمد الله وحسن عونه والصلاة على نبينا محمَّد وآله] (¬3) [ويتلوه "كتاب الرضاع"] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) زيادة من ع، هـ. (¬4) زيادة من أ.

كتاب الرضاع

كتاب الرضاع

كتاب الرضاع تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها خمس مسائل: المسألة الأولى في مقدار ما يقع به التحريم في الرضاع ولا خلاف عندنا في المذهب أن المصَّة والمصتين يقع بها التحريم، ويقع بأقل ما يصح عليه اسم الرضاع، قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (¬1). فإذا لم يكن هناك سنة متفق عليها، ولا دليل يدل على حد معلوم، كان الرجوع إلى أقل ما يقع عليه اسم الرضاع، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن. فإذا ثبت ذلك فلا يخلو ذلك القدر من اللبن من أن يدخل [من] (¬2) مدخل الطعام أو من غيره من سائر المنافذ: فإن كان من مدخل الطعام، كالوَجُور: وهو ما يدخل من وسط الفم، وقيل: ما صُبَّ في الحلق، وكاللدود، وهو: ما صُبَّ من تحت اللسان. وقيل: ما صُبَّ في جانب الفم. فلا خلاف أعلمه في المذهب أنه يقع به التحريم ولا يشترط [فيه] (¬3) ما يشترط فيما عداه من سائر المنافذ من الوصول إلى الحلق على ما نصف إن شاء الله تعالى: لأن الوجور دخل من المدخل المعتاد. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (23). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وأما السعوط وهو: ما أُدخل [من الأذن] (¬1)، وما أُدخل في العين من الكحل، وما استدخل من أسفله أو من الحقنة، فقد اختلف في جميع ذلك. فأما السعوط: فهو ما صب في الأذن والعين، فالمذهب فيها على قولين: أحدهما: أنه يقع به التحريم جملة، وهو قول مالك في "كتاب ابن حبيب". والثاني: التفصيل بين أن يصل إلى جوف الصبي فيقع به التحريم أو لا يصل فلا يقع به، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". وهذا منه بناء على أن هذا مشكوك فيه لقلته، واختلاف أحوال الناس في ذلك: فمنهم من يصل ذلك له من ذلك المنفذ. ومنهم من لا يصل له منه. وأما الحقنة، فقد اختلف فيها المذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه يقع بها التحريم جملة بلا تفصيل، وهو قول ابن حبيب في "واضحته"، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الصيام" من "المدونة". والثاني: أنه لا [يقع بها] التحريم جملة، وهو قول رواه أبو عبيد عن مالك رحمه الله. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثالث: التفصيل بين أن يقع بها الاغتذاء أو لا يقع بها: فإن وقع بها الاغتذاء للصبي، بحيث لو منع الطعام ولم يصل منه شيء إلى جوف الصبي: لكان غذاء الحقنة يكفيه، كما فسره محمَّد بن الموَّاز: كان التحريم يقع بها. فإن لم يقع بها الاغتذاء فلا يقع بها التحريم، وهذا قول ابن القاسم في "المدونة". وسبب الخلاف: هل يعتبر في اللبن وصوله [إلى] (¬1) الحلق أو يعتبر الوصول إلى الجوف [على الجملة] (¬2)؟ فمن [اعتبر] (¬3) الوصول إلى الحلق قال: لا تقع الحرمة بشيء مما وصل من سائر المنافذ غير الفم. ومن اعتبر الوصول [خاصة قال: مهما تيقن أن اللبن وصل] (¬4) إلى الحلق أو إلى الجوف إن كانت حقنة، فالتحريم واقع. ومن فصَّل في الحقنة بين أن تكون غذاءً أو لا تكون فقد راعى الأمرين ولاحظ الشقين، [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في ع، هـ: من. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: يعتبر. (¬4) سقط من هـ. (¬5) زيادة من ع، هـ.

المسألة الثانية في اللبن، هل هو للفحل أم لا؟

المسألة الثانية في اللبن، هل هو للفحل أم لا؟ فمذاهب فقهاء الأمصار أن اللبن للفحل، وأن الصبي [المرضع] (¬1) ابن له، وبه قال علي بن أبي طالب [وعبد الله بن عباس] (¬2) - رضي الله عنهم -. فإذا طئها ودَّرت لبنا بوطئه فاللبن له، ومن ارتضعته من الصبيان فهو ابن [له] (¬3)، وهذا مذهب مالك -رحمه الله- ويكون اللبن للفحل قبل أن تلد عنده. وإنما اختلف المذهب في المرضع المطلقة إذا تزوجت ودخلت، ثم [ارتضعت] (¬4) صبيًّا، هل يكون ابنا للأول أو للثاني أو لهما جميعًا؟ على خمسة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن لبن الأول ينقطع بوطء الثاني، وهو قول ابن وهب في "كتاب ابن شعبان": والمرضع ابن للثاني؛ لأنه بنفس الوطء دَرَّت اللبن، وتنقطع حرمة لبن الأول. وهو ظاهر قوله في "المدونة": ويكون اللبن للفحل قبل أن تلد. والثاني: أن اللبن لهما جميعًا، إن كان لبن الأول لم ينقطع وإن حملت، على ما نص عليه في "الكتاب"، أو "وضعت" على ظاهر ما في "الكتاب"، ونص مالك في "كتاب محمَّد". ¬

_ (¬1) في ع، هـ: الرضيع. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في هـ: ارضعت.

والقول الثالث: أن حرمة لبن الأول تنقطع بالوضع، وهو قول مالك في "مختصر الوقار"، وهو الذي حكى ابن المنذر عليه إجماع العلماء. والرابع: أنه لا ينقطع حرمة لبن الأول إلا بعد مضي خمسة أعوام، أقصى أمد الحمل من فراق الأول، وهو قول سحنون. والقول الخامس: التفصيل بين أن يتساوى اللبنان أو يكون لأحدهما [غلبة على الآخر] (¬1): فإن تساويا: فيشتركان في الولد. وإن كان أحدهما تبعًا للآخر: فالحكم [للأكثر] (¬2)، ويكون الولد ابنًا لصاحبه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" في مسألة الدواء والطعام إذا مزج بلبن امرأة، فغذي به الصبي، حيث اعتبر الغالب والمغلوب. وإلى هذا الاستقراء ذهب بعض المتأخرين، وهو مذهب بعض العلماء. وفرق بعض الحُذَّاق من المتأخرين بين الموضعين بأن الكثير من اللبن المضاف إلى القليل: لا يغير القليل عن صفته ولا يخرجه عن حكمه، بل هو لبن على ما كان عليه واللبن المضاف إلى الدواء أو الطعام فيه يُعتبر الغالب والمغلوب على مذهب ابن القاسم لإضافته إلى غير جنسه. وأما ابن حبيب وغيره فلم يراعيا شيئًا من ذلك، وإنما اعتبرا وصوله إلى الجوف خاصة، واختلاط [اللبن مع] (¬3) غيره من أنواع الأدوية والأطعمة لا يؤثر في إسقاط حكمه، للعلم الحاصل أن أجزائه هناك قائمة، وإن كانت غير بادية؛ لأن الجواهر تتراسن ولا تتداخل، والأقوال كلها ¬

_ (¬1) في أ، جـ: على الآخر مزية. (¬2) في أ، جـ: للأكبر. (¬3) سقط من أ.

ضعيفة إلا قول سحنون؛ لأنه أشبه للقياس على الأمد الذي ينقطع فيه النسب، وهذا يشترط أن يكون لهذا التحديد نص يعضده دليل مسموع، وإلا [فدليل] (¬1) عليل يداويه غليل، وهذا إذا كان وطء الفحل حلالًا. وأما إذا كان حرامًا، فلا يخلو ذلك الحرام من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون حرامًا، يلحق فيه النسب ويدرأ فيه الحد. والثاني: أن يكون حرامًا، لا يلحق فيه النسب، ولا يدرأ فيه الحد. [والثالث: إذا كان حرامًا لا يلحق فيه الولد، ولا يحد فيه الواطيء] (¬2). [والجواب عن الوجه الأول: إذا كان حرامًا يلحق فيه النسب ويدرأ فيه الحد كالذي تزوج خامسة أو المبتوتة قبل زوج أو أخته من الرضاعة جاهلا بالتحريم فالتحريم يقع بلبنه] (¬3). والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان حراما لا يلحق فيه النسب كالزنا والغصب وما أشبهه، هل يقع التحريم أو لا يقع؟ فعن مالك في ذلك قولان: أحدهما: أن التحريم يقع به، وهذا القول الذي ثبت عليه مالك على ما ذكر ابن حبيب. والثاني: أنه لا يقع به التحريم، فجعل مالك -رحمه الله- أن الحرام في هذا القول تابع للولد، فمهما ثبت النسب: وقع التحريم، ومهما لم ¬

_ (¬1) في ع، هـ: فذلك. (¬2) سقط من أ. (¬3) وقع في النسخة أمتداخلا ورتب من النسخة هـ.

يثبت النسب: لم يقع التحريم، وهذا القول [أشبه] (¬1) بأصول المذهب. وأما الثاني: فإنما اعتبر فيه الشبهة والصورة دون المعنى. والجواب عن الوجه الثالث: إذا كان حرامًا لا يلحق فيه الولد ولا يحد فيه الواطيء، كالذي تزوج امرأة فأتت بولد لأقل من ستة أشهر، ففسخ نكاحه، فأرضعت صبيًّا، أو وطأ أمة وهي حامل من غيره، هل تقع الحرمة بينه وبين ذلك الولد أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يقع به التحريم، ويكون الولد ابنا لهما جميعًا، وهو قول مالك في "كتاب محمَّد"، وقال [ابن عبد الحكم] (¬2) وإن لم يكن لها لبن؛ لأن الوطء يخرجه وينزل الدر، ومعناه: إذا كان قريبا من الوطء، وهو قوله في التي أتت بولد لأقل من ستة أشهر. فإن بعد ما بين الوطء والرضاع وصار لها [ابنًا] (¬3) على العادة التي تكون من الحامل عند الوطء ضعف أمر الثاني، وكذلك قال مالك وابن القاسم وسحنون في الأمة التي وطئها سيدها، وهي حامل من غيره: إن المحرمية تكون بين السيد وبين الولد؛ لأنه قد سقاه في بطن أمه بمائه، فكان كالرضاع. وهل يعتق عليه أم لا؟ فمشهور المذهب أنه يؤمر ولا يجبر. والقول الثاني: أنه لا يقع به التحريم بين الولد في المحرمية والثاني، وهو قول أبي إسحاق بن شعبان وغيره. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: أثبت. (¬2) في ع، هـ: ابن القاسم. (¬3) سقط من أ.

المسألة الثالثة في الأمد الذي يوثر فيه الرضاع

المسألة الثالثة في الأمد الذي يوثر فيه الرضاع ولا شك ولا خفاء أن الله تعالى قد بين أمد الرضاع إباحة لمن أراد أن يتم الرضاع؛ لأن ذلك على سبيل الوجوب الذي لا يحل النقصان منه، ولا الزيادة عليه. وقال جل وعلا: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ...} الآية (¬1). ثم لا يخلو الولد في الرضاع من ثلاثة أوجه: إما أن تفطمه [أمه] (¬2) قبل الحولين. أو بعد الحولين بيسير. أو بعدهما بكثير. فإن فطمته قبل الحولين، حتى استغنى بالطعام والشراب عن اللبن، بحيث أن لو عاد إلى الرضاع لم يكن له غذاء، ثم ارتضعته امرأة أخرى بعد ذلك قبل تمام الحولين، هل يحرم أو لا يحرم؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يحرم شيئًا، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يحرم، وهو قول مطرف وابن الماجشون وأصبغ. والثالث: إن كانت مصة أو مصتين فلا يحرم، وهو قول أبي ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية (233). (¬2) سقط من أ.

الحسن اللخمي. وسبب الخلاف: تعارض الأثرين: قوله -عليه السلام: "لا رضاع بعد فطام" (¬1)، وهذا الأثر يقتضي: ألا يحرم ما ارتضع بعد الفطام، كما قال ابن القاسم. والأثر الذي يعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الرضاعة من المجاعة" (¬2)، غير أن هذا الأثر يحتمل أن يريد الرضاع الذي يكون في سن المجاعة كيف ما كان الطفل، وهو سن الرضاع، ويكون معارضًا لقول ابن القاسم، ويحتمل أن يريد إذا كان الطفل غير مفطوم، فإن فُطم في بعض الحولين لم يكن رضاع من المجاعة. [وأما الوجه الثاني:] (¬3) إذا فطم بعد الحولين بيسير، فقد اختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أن الزيادة على حولين لا تؤثر [فيها] (¬4) الرضاعة، ولا توجب تحريما، وهذا قول قياسي؛ لأن ذلك [زيادة] (¬5) على ما ذكره الله تعالى في كتابه. والثاني: أن الزيادة [اليسيرة] (¬6) داخلة في الحولين، وهو قول مالك رحمه الله. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط (6564)، (7331)، والصغير (952)، وعبد الرزاق (13899) من حديث علي مرفوعًا. (¬2) أخرجه البخاري (2504)، ومسلم (1455). (¬3) سقط من هـ. (¬4) في أ، جـ: فيه. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: بيسير.

وسبب الخلاف: [اختلافهم في] (¬1) ما قارب الشيء هل يُعطى له حكمه أو لا يُعطى له؟ وعلى القول بأن الزيادة اليسيرة يحرم فيها الرضاع كالحولين، اختلف في حدها على أربعة أقوال: أحدها: أن تكون الزيادة مثل نقصان المشهور، وهو قول مالك في "الحاوي" لأبي الفرج، وبه قال سحنون. والثاني: أنها مثل الشهر لا أكثر، وهو قول القاضي أبي الحسن بن القصار. والثالث: الشهر والشهران، وهو قول مالك في "المدونة". والقول الرابع: أن الزيادة اليسيرة، [نحوًا من] (¬2) ثلاثة أشهر، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك في "مختصر ما ليس في المختصر". وسبب الخلاف: معارضة الأثر لكتاب الله تعالى، فإن الله تعالى قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (¬3)، وهذا يوهم أن الزائد عليه لا يحرم. ويعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الرضاعة من المجاعة" (¬4)، يقتضى [عمومه] (¬5): أن ما دام الطفل غذاؤه اللبن، أن ذلك الرضاع يحرم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: مثل. (¬3) سورة البقرة الآية (233). (¬4) تقدم. (¬5) سقط من أ.

وأما الوجه الثالث: إذا جاوز الحولين بكثير، فإن ذلك الرضاع لا يؤثر، ولا له حرمة، ولا يحرم، سواء فطمته أمه أو كان رضاعًا متصلًا على ظاهر المذهب؛ لأن رضاعه حينئذ [تولّه] (¬1) وليس برضاع ينبت اللحم وينشز العظم، وذلك من باب رضاعة الكبير. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: تولع، والمثبت من هـ وهو الصواب.

المسألة الرابعة في اللبن الذي يقع به التحريم

المسألة الرابعة في اللبن الذي يقع به التحريم واللبن علي وجهين: لبن البهيمة ولبن بني آدم. وأما لبن البهائم: فلا خلاف أنه لا يؤثر في التحريم، لا في الصغير ولا في الكبير. وأما لبن بني آدم فعلى وجهين: ذكرانًا وإناثًا. فأما لبن الذكران، فهل يقع به التحريم أو لا يقع؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يحرم، وهو نص "المدونة". والثانى: يكره إن تناكحا، وأن رضاعه يوجب المحرمية على وجه الكراهة، وهو قول مالك في "كتاب ابن شعبان". والثالث: أنه يحرم كما يحرم رضاع الآدمية، وهو مذهب بعض المتأخرين، واختاره بعض الشيوخ؛ لأنه إذا كانت الحرمة بما تكون عن وطئه من اللبن كانت الحرمة بمباشرة لبنه الولد أولى. وقال بعض المحققين من أصحابنا: هذا غير موجود فضلًا عن أن يكون له حكم شرعي. وسبب الخلاف: هل الاعتبار بالألقاب والمسميات أو الاعتبار بالمعاني؟

فمن اعتبر الألفاظ والتسمية قال بوجوب التحريم لمشاركة الاسم التحريم. ومن اعتبر المعاني قال: لا يوجب التحريم، ويعضده قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (¬1)، والرجل ليس بأم. وأما لبن الإناث: إناث بني آدم، فلا تخلو المرضعة من أن تكون صغيرة أو كبيرة. فإن كانت صغيرة، غير بالغة [ومثلها توطأ فالتحريم يقع بلبنها وإن كانت صغيرة غير بالغة] (¬2) ولا يوطأ مثلها، هل يقع التحريم بوطئها أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يحرم، وهو ظاهر المدونة. والثاني: أنه لا يحرم، وهو قول ابن الجلاب. فإن كانت كبيرة، فلا يخلو من أن تكون حية أو ميتة. فإن كان حية، فلا خلاف أعلمه في المذهب [نصًا] (¬3): أنه يحرم سواء كانت ذات زوج أو فارغة من زوج، حاملًا كانت أو حائلًا، آيسة كانت أو غير آيسة. فإن كانت ميتة، فلا يخلو من أن يكون اللبن قد انفسد بموتها أو لم ينفسد. فإن انفسد اللبن وتغير عن الحال الذي يقع به الاغتذاء للصبي: فلا يقع ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (23). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

به التحريم، وهو قول ابن القاسم في "كتاب ابن سحنون" ولا فرق على هذا بين أن تكون ميتة أو حية. فإن كان اللبن على صفته، ولم يتغير بموتها: فإن التحريم يقع به، وإن كان نجسًا، لأن نجاسته لا تخرجه عن أن يكون مغذِّيًا. وقال بعض المتأخرين: "وهذه المسألة تكاد أن تكون غير واقعة، ولا وجود لها إلا في القول". قال في "المدونة": ويحد من وطئ ميتة، وكذلك يقع التحريم [بلبنها] (¬1). يريد: أن حرمة الميتة في نكاحها والحية واحدة في إيجاب الحد وتحريم الفرج. وكذلك رضاعها في الحرمة في الحياة والممات، فهذا في الأجنبي إذا وطئها بعد موتها. فأما زوجها إذا وطئها، فقد اختلف المتأخرون في حده؟ على قولين: أحدهما: أنه يحد. والثاني: أنه لا يحد، وهو المشهور عند محققيهم، لبقاء أسباب الزوجية بينهما، وتمادى بعض حقوقها، لجواز غسله إياها متكشفة، [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في جـ: بينهما. (¬2) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الخامسة فيما يجب على الأم من رضاع ولدها

المسألة الخامسة فيما يجب على الأم من رضاع ولدها ولا تخلو الأم من أن تكون في عصمة الزوج أو [في غير عصمته فإن] (¬1) كانت [في عصمة الزوج أو] (¬2) في عدة من طلاق رجعي. ولا تخلو المرأة من أن تكون من ذوات الشرف أو من غيرهن. فإن كانت من ذوات الشرف، فلا يخلو الأب من أن يكون موسرًا أو معسرا. فإن كان الأب موسرًا، والولد يقبل غير أمه من المراضع: فلا يلزم أمه من رضاع ولدها شيء؛ لأن العرف يشهد لها ألا ترضع؛ لأن ذلك عادة أمثالها، والعرف دليل شرعي [عندنا] (¬3)، إلا أن ترضعه بأجرة فيكون ذلك لها. وإن كان الأب مُعسرًا، فلا يخلو الولد من أن يقبل غير أمه أو لا يقبلها. فإن كان يقبل غير أمه: فالأم والأجنبية في ذلك سواء. فإن وجد الأب من يرضعه: كان له أن يسلمه إليها، ولا تجبر الأم مع وجود غيرها. فإن كان الولد لا يقبل غير الأمه: جبرت الأم على إرضاعه بغير أجر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

يكون في ذمة الأب، كما لو [مات] (¬1). فإن كانت دنية ومن مثلها تباشر رضاع الصبيان. ومؤنتهم، فلا يخلو من أن يكون لها لبن أو لا لبن لها: فإن كان لها لبن: جبرت على إرضاع ولدها من غير اعتبار، عسر الزوج أو يسره. فإن لم يكن لها لبن، أو كان لها فانقطع، فلا يخلو الأب من أن يكون موسرًا أو معسرًا. فإن كان موسرًا: كانت الإجارة على الأب. وإن كان معدمًا، فلا تخلو الأم من أن تكون موسرة أو مُعسرة. فإن كانت معسرة: لم يكن عليها من رضاع ولدها شيء، ولا يلزمها أن تستأجر من ترضعه، وتتبع بذلك في ذمتها. فإن كانت موسرة [هل يلزمها أن تستأجر على رضاع ولدها؟] (¬2)، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يلزمها أن تستأجر [له] (¬3) من ترضعه من مالها، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أن عليها أن تستأجر من مالها، وهو قوله في "كتاب محمَّد". وسبب الخلاف: هل رضاع الولد متعلق بذمتها أو متعلق بوجود اللبن؟ والقولان قائمان من "المدونة" في "كتاب الصيام". ¬

_ (¬1) في ع، هـ: ماتت. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

فإن كانت في غير عصمته: كان لها الأجر على الرضاع، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬1). ثم إن الأب لا يخلو من أن يكون موسرًا أو معسرًا. فإن كان موسرًا، فطلبت الأجرة على الرضاع، ووجد الأب من قرابته من يرضعه بدون ذلك، فلا يخلو الولد من أن يقبل غير أمه أو لا يقبلها. فإن كان يقبل غير أمه، فالأم مخيرة بين أن ترضعه أو تسلمه، فإذا قلنا: إن لها أن ترضعه، هل ترضعه بأجرة المثل [ما بلغت] (¬2) أو بما وجد؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنها ترضعه بأجرة المثل من غير اعتبار بما [طلبت] (¬3) ولا ما وجد، وهو ظاهر "المدونة" حيث قال: وليس للأب أن يفرق بينه وبينها إذا أرادت أن ترضعه بما ترضعه به الأجنبية، ثم بين ذلك آخر المسألة قال: فإنها أحق به بأجر رضاع مثله، وقال أيضًا آخر المسألة: إذا وجد من يرضعه باطلًا، وهو موسر لم يكن له أخذه وعليها رضاعه بما ترضع به غيرها، ويجبر الأب على ذلك. فهذه كلها شواهد تشهد على أنه لا ينظر إلى ما وجد ولا إلى ما طلبت، وهو تأويل أبي القاسم بن المكاتب على "المدونة". والقول الثاني: أنها تخير بين أن تسلمه وترضعه بما وجد، وهو نص "المدونة" أيضًا، وهو قول سحنون في "كتاب ابنه" وإلى هذا ذهب بعض المتأخرين أيضًا. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية (6). (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ، جـ: طلب.

واختلف في الأب إذا وجد من يرضعه باطلًا، والأب موسر، هل تكون الأم أحق به بأجرة المثل أو تخير بين أن تسلمه أو ترضعه باطلًا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الأم أحق به، بأجرة المثل ولا قول للأب، وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن القول قول الأب إذا وجد من يرضعه باطلًا، لا حق فيه للأم إلا أن ترضى أن ترضعه بالأجر، وهو قول حكاه سحنون في "كتاب الرضاع" في بعض روايات "المدونة"، قال: وقد قيل، ولم يسم قائله. والقولان عن مالك من رواية ابن وهب عنه [وغيره] (¬1) في "الواضحة" و"الموَّازية". فإن كان الولد لا يقبل غير أمه، وقد علق بها، ولا صبر له عنها، وخيف عليه فإن الأم تجبر على رضاعه بأجرة مثلها، وهذا نص "المدونة"، ولا خلاف في هذا الوجه، وهذا كله إذا كان الأب موسرًا. [وأما: إذا] (¬2) كان الأب معسرًا، فلا يخلو الولد من أن يكون له مال أو لم يكن. فإن كان له مال: فإنها ترضعه بأجرة مثلها من ماله. فإن لم يكن له مال، وكان لها لبن: جبرت على رضاعه، وقال في "الكتاب" بخلاف النفقة التي لا يقضى بها عليها، غير أنه يستحب لها أن تنفق عليه، ولا تدعه بلا نفقة، وهذا مستوعب في "كتاب الصيام" بما أغنى ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) في أ: فإن.

عن تكراره في هذا الموضع، وقد وقع في "كتاب الرضاع" في أواخره في "باب استرضاع الكوافر" لفظة تؤذن بأن عرق السكران وعرق الجلالة من الأنعام ولبنها نجس، وهو قوله: إنما غذاء اللبن بما يأكلن وما يشربن، وهي تأكل الخنزير وتشرب الخمر. [وهكذا] (¬1) عند ابن عتاب فظاهره: أن العلة نجاسة لبنها، [وهو] (¬2) ظاهر لمن تأمله [و] (¬3) في بعض الروايات، وهي رواية ابن عيسى: إنما غَذِّي الصبي بما يأكلن ويشربن، إلى آخر الكلام. تم الكتاب والحمد لله ¬

_ (¬1) في أ، جـ: وهذا. (¬2) في أ، جـ: هذا. (¬3) سقط من أ.

كتاب إرخاء الستور

كتاب إرخاء الستور

كتاب إِرخاء الستور بسم الله الرحمن الرحيم [وصلى الله على نبينا محمَّد وآله وصحبه وسلم] (¬1). تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ست مسائل: المسألة الأولى إذا خلا بزوجته ثم طلقها فلا يخلو حالهما من أربعة أوجه: أحدها: أن يتصادقا على وجود المسيس. والثاني: أن يتصادقا على نفيه. والثالث: أن يختلفا فتدعي الزوجة المسيس وينكره الزوج. والرابع: أن يدعيه الزوج، وتنكره المرأة. فالجواب عن الوجه الأول: إذا تصادق الزوجان على وجود المسيس، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تعلم الخلوة بينهما. والثاني: ألا تعلم. فإن علمت الخلوة بينهما: فلا خلاف في المذهب في وجوب الصداق [لها] (¬2) ووجوب العدة عليها، وثبوت الرجعة له عليها من غير اعتبار، بأن تكون رشيدة أو [محجور عليها] (¬3) وأن الإحلال والإحصان حاصل ¬

_ (¬1) زيادة من ع، هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: سفيهة.

بينهما. وأما إذا لم تعلم الخلوة بينهما، وقد تصادقا على المسيس، فلا تخلو من أن تكون رشيدة أو سفيهة. فإن كانت رشيدة: فلها جميع الصداق وعليها العدة ولها النفقة، في أمد العدة ولا رجعة له عليها إلا أن يعطيها ربع دينار فيلزمها النكاح؛ لأنها أقرت له بثبوت الرجعة وبقاء العصمة غير إن اتهمناهما أن يكون ذلك [منهما] (¬1) [تواطئا] (¬2) على إجازة النكاح بلا صداق ولا ولي. فإذا أعطاها ربع دينار فلا مقال لها ولا لغيرها [حتى] (¬3) يقوم بحق الله تعالى. فإن كانت سفيهة أو يتيمة: فلا يجوز للزوج ارتجاعها بزيادة ربع دينار، إذ النظر في ذلك إلى من له عليها ولاية الحجر من أب أو وصي أو حاكم. وإلى هذا ذهب الشيخ أبو القاسم بن محرز، وهو ظاهر "المدونة". والجواب عن الوجه الثاني: إذا تصادقا على نفي المسيس، فلا تخلو من أن يكون ذلك باختيار من الزوج أو بغير اختياره: فإن كان ذلك باختياره فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تعلم الخلوة بينهما. والثاني: ألا تعلم. فإن علمت الخلوة بينهما، فلا يخلو من أن تكون المرأة رشيدة أو سفيهة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: تراضيا. (¬3) في هـ: ممن.

فإن كانت رشيدة: فإنها تصدق في حقها الذي هو كمال الصداق وإسقاط النفقة، ولا تصدق في [إسقاط] (¬1) حق الله تعالى الذي هو العدة، وسواء كانت خلوة بناء أو خلوة زيارة. فإن كانت سفيهة، فلا تخلو من أن تكون الخلوة خلوة زيارة أو تكون بناء. فإن كانت الخلوة خلوة زيارة: فإنها [تصدق] (¬2) أيضًا كما لو كانت رشيدة. فإن كانت خلوة بناء، فهل تصدق أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تصدق، ولها نصف الصداق، وهو ظاهر قول مالك في أول "كتاب إرخاء الستور" من "المدونة". والثاني: أنها لا تصدق لأنها تسقط ما وجب لها من الصداق والنفقة، وهو قول سحنون، وهذا القول أسعد بظاهر "المدونة" في غير ما موضع. فإذا لم تعلم الخلوة بينهما: فلا خلاف أنها تصدق رشيدة كانت أو سفيهة. [وأما] (¬3) الوجه الثاني من الوجه الثاني: إذا كان ذلك من غير اختيار من الزوج، مثل أن يعجز عن الوطء حتى [طلق] (¬4)، هل لها جميع الصداق أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: تصادق. (¬3) في أ، جـ: فأما. (¬4) في أ: تطلق.

أحدها: أن لها جميع الصداق طالت إقامتها معه أو قصرت، وهذا القول حكاه القاضي أبو الحسن بن القصار عن مالك، وهو قول جماعة من الصحابة عُمر وزيد بن ثابت [وعليّ] (¬1) ومعاذ [رضي الله عنهم أجمعين] (¬2)، وبه قال الزهري والأوزاعي، وقال عمر - رضي الله عنه -: ما ذنبهن إذا جاء العجز من قبلكم (¬3). والثاني: أنه ليس لها إلا نصف الصداق، طالت إقامتها معه أو قصرت، وهذا أحد أقاويل المذهب في التي طالت إقامتها مع زوجها: أن للأب أن يجبرها على النكاح، وهذا القول يشهد [له] (¬4) ظاهر القول في قوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمسُّوهُنَّ ...} الآية (¬5). والقول الثالث: بالتفصيل بين أن تطول إقامتها معه: فيجب [لها] (¬6) جميع الصداق أو تقصر: فلا يكون لها إلا نصف الصداق، وهو قول مالك في "المدونة"، وهذا الذي ذكره [الأصحاب] (¬7)، وردوه [واعتمدوه] (¬8). وعوّلوا على أن طول المكث يقوم مقام الدخول، وقد ذكرناه قبل هذا في "كتاب النكاح الأول" ومزقناه كل ممزق. - ويشبه عندي أن يكون مثار الخلاف في المسألة [على اختلافهم] (¬9) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه عبد الرزاق (10873). (¬4) سقط من أ. (¬5) سورة البقرة الآية (237). (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ، جـ: واعتمدوا عليه. (¬9) سقط من أ.

في دواعي الوطء، هل هي كالوطء أم لا؟ فمن رأى أنها كالوطء قال: يجب لها جميع الصداق، طالت المدة أو قصرت. ومن رأى أنها ليست كالوطء قال: لا يجب لها إلا نصف الصداق، والقولان قائمان من "المدونة" من [هذا] (¬1) "الكتاب"، ومن كتاب "الطهارة" وغيرها من كتب "المدونة" على ما [سنتكلم] (¬2) عليه في مواضعه إن شاء الله تعالى. والتفصيل بين الطول وعدمه تردد بين القولين. والجواب عن الوجه الثالث: إذا ادعت الزوجة الوطء وأنكره الزوج، فلا يخلو من أن تعلم الخلوة بينهما أو لا تعلم: فإن لم تعلم الخلوة بينهما: فالقول قول الزوج ويحلف. فإن علمت بينهما، فلا يخلو من أن تكون خلوة بناء أو خلوة زيارة. فإن كانت خلوة بناء، فلا يخلو من أن تدعي إصابة صحيحة أو إصابة فاسدة. فإن ادعت إصابة صحيحة، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قولها، بكرًا كانت أو ثيبًا، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أنها إن كانت ثيبا قبل قولها، وإن كانت بكرا نظر إليها النساء؛ لأن ذلك دليل يتوصل به إلى تصديق من شهد له بوجود البكارة ودليل له. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: سننبه.

وبوجود البكارة وجود أثر عدم الافتضاض دليل لها، وهي رواية ابن وهب وإسماعيل بن أبي يونس عن مالك أيضًا. وعلى القول بأن القول قولها، هل ذلك بيمين أو بغير يمين؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن القول قولها بغير يمين، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب النكاح الثاني" في اختلاف الزوجين في متاع البيت. والثاني: أن القول قولها بيمين، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب إرخاء الستور". والقولان منصوصان في [المدونة] (¬1). وسبب الخلاف: اختلافهم في دليل الحال، هل يقوم مقام الشاهدين أو مقام الشاهد الواحد؟ وهذا الأصل ينبني عليه كثير من فروع المذهب. فإن كانت الخلوة خلوة بناء، فادعت إصابة فاسدة مثل: أن تدعي أنه وطئها، وهي محرمة أو معتكفة أو حائض أو في نهار رمضان، هل يقبل قولها أو لا يقبل؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه القول قولها جملة، وهو نص قوله في كتاب "إرخاء الستور". والثاني: أن القول قول الزوج؛ لأنه مدع الحلال، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب السلم الثاني" في "باب اختلاف المتبايعين" في قوله: إذا اختلفا فقال أحدهما: لم يُضرب للسلم أجلًا، أو ادعى أن رأس المال تأخر شهر الشرط وأنكر الآخر، فقال: القول قول ¬

_ (¬1) في أ، جـ: المذهب.

مدعي الحلال منهما، وهذا منه تناقض. والثالث: التفصيل بين أن يكون ممن يشار إليه بمثل ذلك فيصدق أو يكون الرجل الصالح فيصدق، وهو [اختيار] (¬1) اللخمي، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الشهادات"، وفي "كتاب الغصب"، وفي "كتاب القطع في السرقة" فيمن ادعى على رجل بالغصب أو بالسرقة، وادعت عليه المرأة أنه أكرهها على نفسها. فأما إن كانت خلوتهما خلوة زيارة، فادعت الوطء وأنكره الزوج، فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن القول قولها، حيثما أخذهما الغلق جملة، وهو قول مالك في "كتاب محمد"، وهو ظاهر قول ربيعة في "الكتاب". والثاني: أن القول قول الزوج، حيثما أخذهما الغلق، وهو قول عيسى بن دينار فيما حكاه عنه فضل بن سلمة. والثالث: التفصيل بين أن تكون الخلوة في بيت أهلها فيصدق عليها أو تكون عنده فتصدق عليه، وهو قول مالك في "المدونة". والقول الرابع: التفصيل بين البكر والثيب. فإن كانت ثيبًا فالقول قولها. وإن كانت بكرًا نظر إليها [النساء] (¬2)، وهذا القول مروي عن مالك فيما نقله عنه أبو محمَّد عبد الوهاب في "المذهب". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: السلطان.

وسبب الخلاف: اختلافهم [في المقصور] (¬1) بخلوة الزيارة، هل المقصود [بها] (¬2) [الإيناس] (¬3) والاجتماع دون الإصابة والاستمتاع أو المقصود بها التسليم والتمكين؟ فيكون القول قول من ادعى ما يصدقه العرف. والجواب عن الوجه الرابع: إذا ادعى [المسيس الزوج] (¬4)، وأنكرت هي، فلا يخلو من أن تكون الخلوة بينهما معلومة أو لم تعلم. فإن علمت الخلوة بينهما فإن كانت خلوة زيارة فعليها العدة ولا رجعة له، وليس لها إلا نصف الصداق. وإن كانت خلوة بناء كان لها جميع الصداق وعليها العدة، وهل للزوج الرجعة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا رجعة له، وهو قول مالك في "كتاب ابن عبد الحكم"، قياسا على الإحلال عنده فقال: فكما لا يصح الإحلال إلا باجتماعهما على الوطء، فكذلك الرجعة. والثاني: أن له الرجعة، وهو قول ابن القاسم ومحمد بن عبد الحكم. فإن لم تعلم الخلوة بينهما أصلًا فلا خلاف في المذهب أنها لا عدة عليها ولا رجعة له، وهل يكون لها على الزوج جميع الصداق لإقراره [به] (¬5) أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: منها. (¬3) في ع، هـ: الاستئناس. (¬4) في هـ: الزوج المسيس. (¬5) سقط من أ.

أحدها: أن لها عليه جميع الصداق [لاعترافه إن شاءت أخذته وإن شاءت تركته وهذا هو قول ابن القاسم في المدونة وظاهره أن لها جميع الصداق] (¬1)، وسواء رجعت إلى تصديقه أو تمادت على الإنكار. والثاني: أنها لا يكون لها الصداق ولا لها إلا نصفه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الرهون": فيما إذا قال المشتري اشتريت هذه السلعة بثمن إلى أجل، وقال البائع: [بل] (¬2) بالثمن حالًا. فقال ابن القاسم: القول قول البائع ويؤخذ المشتري بما أقر به من الثمن حالًا، إلا أن يكون أكثر مما ادعاه البائع. فظاهره أنه لا فرق بين أن يرجع البائع إلى تصديق المشتري أو لا يرجع، بل لا يجوز للبائع الرجوع إلى قول المشتري، إذا كان ما أقر به المشتري أكثر، لما في ذلك من الربا لأنه باع مثلا عشرة بخمسة إلى أجل، وذلك سلف بزيادة، وهو ربا الجاهلية. والقول الثالث: بالتفصيل بين أن يرجع إلى تصديقه فيكمل لها جميع الصداق، أو لا يرجع إلى تصديقه فلا يكمل لها، وهو قول سحنون، وتأويله على "المدونة"، وهو ظاهر قول أشهب في "المدونة" [في كتاب إرخاء الستور في الذي لم يعلم له بزوجته خلوة فطلقها أو أقر الزوج بوطئها] (¬3)، فقال أشهب: إن صدقته فلها النفقة والسكنى، وإن لم تصدقه فلا نفقة لها ولا سكنى، فمنعها النفقة والسكنى إذا لم تصدقه مع كونه مقرًا لها بذلك. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وإلى هذا [التخريج] (¬1) ذهب بعض [شيوخ] (¬2) المتأخرين. وذهب بعضهم إلى أن بين المسألتين فرقا، وذلك أن الصداق حق مجرد اعترف به لها، وأنه متقرر في ذمته، وإن كانت لا تدعيه. وهل هنا النفقة والسكنى من توابع العدة؟ فهي لا تطلبها ولا تجب لها ما لم تجب عليها عدة، ولا يلزمها عدة ما لم تصدقه، وكيف تطلبه بها، وهي تكذبه، وتتزوج غيره إن شاءت؟ وهذا لا يجتمع مع أحكام العدة والذي ذكره [هؤلاء المتأخرون] (¬3) فرق صحيح. والله أعلم [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) في أ، جـ: الترجيح. (¬2) في أ، جـ: شيوخنا. (¬3) في ع، هـ: هذا المتأخر. (¬4) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الثانية في الرجعة

المسألة الثانية في الرجعة والرجعة يملكها الزوج في كل طلاق نقص عدده [عن] (¬1) الثلاث، ما لم يكن معه فداء. وقد قال الله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬2). إذا كانت الزوجة مدخولا [بها] ما دامت في عدتها، والأصل في ذلك قوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬3)، [وقال أهل التأويل] (¬4) الرجعة. وقال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}. وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمر: "مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء" (¬5). ولا خلف بين الأمة أن الزوج يملك الرجعة في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة، من غير اعتبار برضاها. واتفق العلماء على أنها تكون بالنية مع القول. ¬

_ (¬1) في أ: نحو. (¬2) سورة البقرة الآية (228). (¬3) سورة الطلاق الآية (1). (¬4) في أ: إذ المراد. (¬5) أخرجه مسلم (1471).

واختلفوا في الرجعة بالنية مع الفعل أو ما يقوم مقام الفعل؟ فذهب الشافعي إلى أن الرجعة لا تصح إلا بالقول. وذهب أبو حنيفة أنها تصح بالقول بانفراده، وهو بالوطء بانفراده. وذهب مالك إلى أنها تصح بالنية مع الفعل من الوطء [ودواعيه] (¬1). واختلف المذهب عندنا في الرجعة بالقول أو بالفعل دون النية على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن الرجعة بالقول والفعل العاري عن النية صحيحة ثابتة، وهو قول ابن وهب في القول والوطء، وهو مذهب الليث بن سعد، وهو قول أكثر أهل المذهب في القول العاري عن النية، قياسا منهم على الطلاق بمجرد القول. والثاني: أن الرجعة لا تصح إلا بالنية مع أحدهما، إما الفعل وإما القول، وهو قول أشهب في كتاب محمَّد، وهذا هو المشهور. والثالث: التفصيل بين القول والفعل، فأسقطها في الفعل العاري عن النية، وأثبتها في القول المجرد عن النية، وهو قوله في "المدونة"، في قوله: إذا قال [لها] (¬2) قد راجعتك، ثم قال: كنت لاعبًا، ولا نية على قوله: راجعتك. فقال مالك: هي رجعة. وسبب الخلاف: اختلافهم في هذا النكاح، هل هزله جد أو هزله هزل؟ وهذا الخلاف أيضًا ينبني على اختلافهم في الطلاق بمجرد القول أو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

بمجرد القلب. واختلف في الإشهاد على الرجعة، هل هو واجب أو مستحب؟ وهو مذهب الشافعي، وبه قال القاضي من أصحابنا. واختلف المتأخرون في قول بكر القاضي، هل هو وفاق أو خلاف؟ فبعضهم يقول: إنه خلاف، وهو الصحيح؛ لأنها مسألة الخلاف بيننا وبين الشافعي. ومنهم من حمل ذلك على أنه اختلاف يرجع إلى حال، وأن معنى قوله: الإشهاد واجب، أي: أنه [لا تثبت الرجعة إلا بالبينة عليها، بدليل أنه لو انقضت العدة، فزعم أنه ارتجع لم يقبل قوله إلا بالبينة. ومعنى "الاستحباب" عند من استحب: أن يكون] (¬1) مقارنا للرجعة لا يتأخر عنها، وهذا التلفيق لا بأس به. وسبب الخلاف: [عند من حمله على الخلاف] (¬2) معارضة القياس للظاهر، وذلك أن ظاهر قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬3) يقتضي الوجوب وتشبيه هذا الحق الذي هو الرجعة بسائر الحقوق التي يقبضها الإنسان [دون] (¬4) الإشهاد، ويقتضي ألا يجب الإشهاد، فكان الجمع بين القياس والآية: حمل [الآية] (¬5) على الندب. ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة الطلاق الآية (2). (¬4) في ع، هـ: عند. (¬5) سقط من أ.

فإذا ثبت بثبوت الرجعة للمطلق الطلاق الذي وصفناه فهي ثابتة له ما لم تنقضي العدة، على اختلاف أنواعها، بوضع الحمل إن كانت حاملًا، أو انقضاء ثلاثة أشهر إن كانت ممن لا تحيض لكبر أو صغر أو تربص ثلاثة قروء إن كانت ممن تحيض. بيد أن العلماء اختلفوا في الأقراء، هل هي الحيض أو [الأطهار] (¬1)؟ - فذهب أبو حنيفة إلى أن الأقراء هي الحيض، وهو مذهب أحد عشر صاحب وجماعة من التابعين. - وذهب الشافعي - رضي الله عنه - إلى أن الأقراء هي الأطهار، وهو مذهب عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -. - وأما مالك - رضي الله عنه - فقد اضطرب مذهبه: مرة يقول: إن الأقراء هي الأطهار، وهو المشهور من مذهبه، وإليه ذهب من [أصحابنا] (¬2) الحذاق، وعليه يناظرون بالعراق. ومرة يقول: إن الأقراء هي الحيض، إلا أن هذا القول لم يصرح به تصريحًا، لكنه يفهم من مذهبه، وذلك أن أصل مذهبه أن عدة الحرة ثلاث حيض والأمة حيضتان؛ لأن عدتها [حيضة ونصف] (¬3) على النصف من عدة الحرة، إلا أن الحيضة لا تتبعض، فكملت [لها] (¬4) حيضتان، فهذا يفهم منه أن الأقراء هي الحيض، فلو كانت الأقراء هي الأطهار: لكان على ¬

_ (¬1) في هـ: الطهر. (¬2) في ع، هـ: أصحابه. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: عليها.

الأمة طهر ونصف؛ لأن الطهر مما يتبعض على ما علم من عادة كل حائض. وهذا ظاهر لمن أنصف. وفائدة الخلاف وثمرته: أن من رأى الأقراء هي الأطهار: أنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة انقضت عدتها، ولم يكن للزوج عليها رجعة، على ما لنا فيه من الخلاف سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. ومن رأى أنها هي الحيض: لم تحل عنده إلا بانقضاء الحيضة الثالثة. وسبب الخلاف: اختلافهم في الذي يدل عليه ظاهر الآية في اسم (القرء) بعد اتفاقهم على أنه اسم مشترك: فمن رأى أنها الأطهار، قال: هو الذي يدل عليه ظاهر الآية؛ لأن هذا الجمع خاص "بالقرء"، الذي هو "الطهر"، وذلك أن "القرء" الذي هو الحيض يجمع [على] (¬1) "أقراء" لا على "قروء"، وحكوا ذلك عن ابن الأنباري. ومن طريق العربية [أيضًا] (¬2): أن الحيض [مؤنثة] (¬3)، والطهر مذكر، فلو كان القرء يراد به الحيض، لما ثبت في الجمع بالهاء؛ لأن الهاء لا تثبت في جمع المؤنث فيما دون العشرة. ومن طريق الاشتقاق أيضًا: أن القرء مشتق من قريت الماء في الحوض إذا جمعته، وزمان اجتماع الدم هو زمان الطهر. وربما استدل من انتحل هذا القول بقول الأعشى: وفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: مؤنث.

مورثة مالًا وفي الحمد رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائك يريد: أنه يطيل الغزو [ويطهر نساؤه من حيضتهن قبل قدومه] (¬1)، ويضيع ذلك الطهر من غير استمتاع. وأما استدلالهم من جهة المسموع: فبحديث عبد الله بن عمر وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " [فليراجعها فيمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك] (¬2) فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" [قالوا: وإجماعهم على أن طلاق السنة لا يكون إلا في طهر لم تمس فيه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء"] (¬3)، دليل واضح على أن الأقراء هي الأطهار لكي يكون [الطلاق متصلًا بالعدة] (¬4). ومن ذهب إلى أن الأقراء [هي الحيض قال: قوله تعالى] (¬5): ثلاثة قروء ظاهر في تمام كل قرء منها؛ لأنه ليس ينطلق على بعضه ألا تجوز، وإذا وضعت الأقراء على الأطهار أمكن أن تكون العدة عندهم بقرأين وبعض قرء؛ [لأنها] (¬6) تعتد عندهم بالطهر الذي تطلق [فيه] (¬7) وإن مضى أكثره. وإذا كان ذلك كذلك، فلا ينطلق عليه [اسم الثلاثة إلا تجوزًا واسم] (¬8) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ع، هـ: العدة متصلة بالطلاق. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ، جـ: لأن. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

الثلاثة ظاهر في كمال كل قرء منها، وذلك لا يتفق إلا بأن تكون الأقراء هي الحيض؛ لأن الإجماع منعقد على أنها إن طلقت في حيضة [أنها لا تنعقد لكل] (¬1) واحد من الفريقين احتجاج ودليل، فناهيك عن مسألة اختلف فيها الصدر الأول. وقد اختلف المذهب عندنا في [المرأة هل تحل بدخولها في الدم الثالث أو بانقضائه، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المرأة إذا رأت أول قطرة من دم الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها] (¬2)، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب إرخاء الستور". والثاني: أنها لا تحل حتى تستمر الحيضة الثالثة [وتكون حيضة مستقيمة] (¬3) وهي رواية أشهب عن مالك، وقال أشهب في "المدونة": غير أني أستحب لها ألا تتعجل بالتزويج حتى يتبين [أن الذي رأته دم الحيض] (¬4) لأنها قد ترى الدم ساعة أو ساعتين، ثم ينقطع ذلك الدم عنها، فعلم أن ذلك ليس بحيض. واختلف المتأخرون: هل هو [وفاق لقول ابن القاسم] (¬5) وتفسير له أو هو خلاف [له] (¬6)؟ والصحيح أنه خلاف له، وموافق لقول ابن وهب. وفائدة الخلاف وثمرته: [إذا مات أحد الزوجين في أول] (¬7) الدم من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬6) سقط من أ. (¬7) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ.

الحيضة الثالثة وقبل أن تستمر وتعلم أنها حيضة صحيحة، هل يتوارثان أم لا؟ فعلى القول بأنها [تحل بأول الدم فلا يتوارثان وعلى القول] (¬1) بأنها لا تحل إلا بعد استمراره، قال: يتوارثان. وهكذا اختلف المذهب فيما إذا راجعها [زوجها] (¬2) قبل أن تستمر الحيضة [وقد انقطع الدم الثالث] (¬3)، ثم عاودها بالقرب، هل هي رجعة صحيحة أو فاسدة؟ على قولين: أحدهما: أنها رجعة فاسدة إذ قد [استبان أنها حيضة ثالثة] (¬4) صحيحة وقعت الرجعة فيها، وهو الصحيح. والثاني: أنها رجعة صحيحة ثابتة، رجع الدم عن قرب أو بعد، وهذا يتخرج [على الخلاف في الأمر] (¬5) إذا وقع موقع السداد، ثم انكشف عن الفساد، هل يستصحب معه حالة الابتداء أو حالة الانتهاء؟ وأما [اختلافهم في أصل المسألة فسببه] (¬6) اختلافهم في أقل الحيض، والدفعة من الحيض هل تسمى حيضة أم لا؟ فمذهب ابن القاسم أن الحيضة لا حد في [أقلها وأن الدفعة واللمعة تسمى عنده] (¬7) حيضًا وحيضة، ويؤخذ له من كتاب "إرخاء الستور" ¬

_ (¬1) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬4) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬5) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬6) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬7) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ.

و"كتاب الاستبراء" من "المدونة". ومن رأى أن الدفعة لا [تسمى حيضة قال: لابد من] (¬1) تمادي الدم، والمسألة مبسوطة في "كتاب الوضوء" بما نعني عن إعادتها في هذا الموضع. وإذا ادعت المرأة انقطاع الدم دون [مسيس] (¬2) فلا يخلو من أن تكون تعتد بالشهور أو [بوضع الحمل] (¬3) أو بالأقراء. فإن كانت ممن تعتد بالشهور، فهي والرجل في معرفة انقضاء العدة سواء، [ولا تصدق إذا أكذبت] (¬4). فأما من تعتد بالوضع، فلا يخلو من أن تدعي الولادة أو تدعي السقط. فإن ادعت الولادة، فقد ادعت أمرًا يشاركها [فيه غيرها من النساء، ولا] (¬5) تصدق إذا كذبتها. فإن ادعت أنها [قد] (¬6) أسقطت، قال مالك في [المدونة] (¬7) السقط لا يكاد يخفى عن الجيران، ولكن الشأن [تصديقهن لأنهن مأمونات على فروجهن] (¬8). ¬

_ (¬1) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬2) في ع، هـ: معاشرتها. (¬3) في أ، جـ: بالحمل. (¬4) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬5) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ.

فإن كانت ممن تعتد بالأقراء، فلا يخلو من أن تدعي أمرًا يصدِّقها فيه العرف غالبًا أو تدعي [أمرًا نادرًا] (¬1) أو تدعي أمرًا كذبها فيه العرف من كل وجه. فإن ادعت أمرًا يصدقها فيه العرف غالبًا [مثل أن تدعي أنها قد] (¬2) انقضت عدتها، وأنها حاضت ثلاث حيض في شهرين: فإنها تصدق؛ لأنها ادعت ما يصدقه العرف [غالبًا] (¬3). فإن ادعت أمرًا يصدقه العرف نادرًا، مثل أن تدعي ثلاث حيض في شهر، هل تصدق أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: [تصدق إذا وافقت] (¬4) عادة بعض النساء، وهو قول مالك في "المدونة"، حيث قال: تسأل النساء عن ذلك فإن كن يحضن [لذلك] (¬5) ويطهرن [وله] (¬6) صدقت، إذا ادعت أمرًا نادرًا، وهو قول مالك في "كتاب محمَّد"، حيث قال: تصدق في شهر. وقال أيضًا: لا تصدق في شهر [ولا في شهر ونصف] (¬7) وما أراها إلا عجلت، ومن أقل حيض النساء أن تقيم خمسًا، [وإنما] (¬8) تقيم هذه طاهرًا عشرًا ثم تحيض. ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬3) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬4) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬8) في هـ: وإنها.

فإن ادعت [ما لا تصدق فيه أصلًا] (¬1) مثل: أن تدعي أنها [حاضت] (¬2) ثلاث حيض في عشرة أيام باتفاق المذهب: أنها لا تصدق جملة. وسبب الخلاف: [اختلافهم في النادر] (¬3) هل يعطى له حكم نفسه أو يعطى له حكم غالب جنسه؟ فإن ادعى الزوج بعد انقضاء العدة أنه قد راجعها [في العدة لا يخلو من] (¬4) أن يقوم له دليل على ما يدعيه أو لا دليل له: فإن قام له دليل على ما يدعيه، إما دليل المقال كالبينة [تشهد أو دليل الحال مثل أن] (¬5) تشهد البينة أنه كان يدخل عليها في العدة ويبيت عندها، وقال محمَّد: يبيت عندها في بيت أو تشهد [البينة أنه كان يقول] (¬6) في العدة جامعتها أو قبلتها، فيصدق إلا أن يدعي أنه أراد بذلك الرجعة. وقولنا: إذا كان يدخل عليها، وهي في العدة، إنما ذلك على أحد قولي مالك: أنه لا يجوز له الدخول عليها، ولا يرى لها من صدرًا ولا شعرًا حتى يراجعها، فعند ذلك يكون الدخول عليها دليل على الرجعة؛ لأن ذلك شيء لا يجوز له فعله إلا بإرادة الرجعة. ¬

_ (¬1) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬2) في أ: حائض. (¬3) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬4) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬5) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ. (¬6) غير واضحة في أ، والمثبت من هـ.

أما على القول بأنه يجوز للزوج الدخول عليها والأكل معها إذا كان معها من يتحفظ بها، فلا يكون ذلك دليلًا، وإن ادعاه؛ لأنه فعل فعلًا كان فعله مباحًا له دون الرجعة، فإن لم يقم له دليل على ما يدعيه: فلا يخلو من أن تصدقه الزوجة على ذلك أو تكذبه. فإن: صدقته فيما يدعيه: لم تحل لغيره [لاعترافها] (¬1) أن عصمة الأول باقية عليها [ويجبر على النفقة عليها] (¬2) إلا أن يطلق. فإن أجرى عليها النفقة، هل لها مطالبته بالوطء أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا مطالبة لها عليه؛ لأنه لم يقصد بذلك ضررًا، وإنما هو [شيء] (¬3) أوجبته الأحكام. والثاني: أن لها مطالبته [بالوطء] (¬4) قياسًا على من قطع ذكره بعد الدخول، بل الطلاق على المرتجع أبين، إذ لا منفعة له فيها، إذا حيل بينه وبينها، والذي قطع ذكره له فيها استمتاع بغير الإصابة، فإن أراد الزوج أن يعطيها ربع دينار ويحضر الولي [جاز] (¬5)، وله جبرها على ذلك، لاعترافها ببقاء العصمة، فإذا أجردها بوجه جائز فلا كلام لها، [والحمد لله وحده] (¬6). ¬

_ (¬1) في أ، جـ: باعترافها. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ، جـ: التي. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ، جـ: جائز. (¬6) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الثالثة في الخلع

المسألة الثالثة في الخلع والكلام فيه في ثلاثة فصول: الأول: فيما يجوز الخلع فيه. والثاني: إذا أبهم أو فُسِّر، وكان بلفظ الخلع أو بلفظ الطلاق. والثالث: إذا كان العطاء من جهة الزوج. فالجواب عن الفصل الأول: فيما يجوز الخلع به، ولا خلاف في جواز الخلع بما تجوز به [وعليه] (¬1) المعاوضة في البياعات، وهل يجوز بالغرر أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": [أحدها: أنه يجوز بالغرر وهو نص ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه لا يجوز بالغرر وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة] (¬2) فيما إذا خالعها على نفقة نفسه حولين أو اشترط عليها نفقة الولد حولين زائدين على أمد [الرضاع] (¬3)، [إذ] (¬4) لا فرق بين أمد الرضاعة وما زاد عليه، وكل ذلك غرر، كما قال المخزومي في "الكتاب". والقول الثالث: أن الخلع بالغرر مكروه، وهو ظاهر قوله في "المدونة": إذا خالعها على مال إلى أجل مجهول حيث قال: فالمال حال كالبيع، إذا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الرضاعة. (¬4) سقط من أ.

وقع على هذا الوجه، وفات فالقيمة فيه، حالة [يعبأ] (¬1) على [ما علل] (¬2) ابن القاسم من الدرك، في قياسه الخلع على البيع، فلو كان كالبيع لكان للزوج قيمة ذلك المال على غرره، كما قال في البيع، فيقال: مثلا كم يساوي هذا المال الذي خالع عليه إلى أجل مجهول؟ فإن كانت له قيمة أخذها الزوج، وإلا فلا. وهذا على التسليم أنه لا يجوز بالغرر، ولا شبه بين المسألتين لا في الأصل ولا في الجواب. ويؤخذ أيضًا لابن القاسم من "الكتاب" أنه مكروه في مسألة الخلع بقيد بعينه يقبض إلى أجل. وسبب الخلاف: الخلع هل حكمه حكم المعاوضة المحضة [أم لا؟ فمن قال أن له حكم المعاوضة المحضة] (¬3)؟ قال لا يجوز بالغرر وكان فيه خلع المثل كالبيع الفاسد إذا فات فإنه يرد إلى القيمة. وقد مال مالك [مدة] (¬4) في الكتاب إلى هذا المعنى [ومن رأى] (¬5) أنه لا يكون له حكم المعاوضة المحضة قال: يجوز بكل غرر يجوز تملكه إذا قدر عليه والقول بالكراهية تردد بين القولين. والجواب عن الفصل الثاني: إذا كان الخلع من جهة الزوجة، فلا يخلو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

من أن [يكون ذلك قبل البناء أو بعده] (¬1). فإن كان [غير مدخول بها فلا يخلو من أن يكون] (¬2) ذلك بلفظ الخلع أو بلفظ الطلاق: فإن كان منها بلفظ الخلع، فلا يخلو من أن يكون الخلع مبهما أو مفسرًا: فإن كان مبهما مثل أن تقول: خالعني [ولم ترد على ذلك أو تقول خالعني] (¬3) على عشرة دنانير. ولم تقل من صداقي، فهل ترجع على الزوج بنصف الصداق أو لا ترجع عليه بشيء؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها لا ترجع على الزوج بشيء، وهذا هو المذهب المشهور الذي عليه الجمهور. والثاني: أنها ترجع عليه بنصف الصداق، وهو قول أشهب، وقد انفرد به من بين سائر الفقهاء، ووقع في بعض روايات "المدونة" [في كتاب العدة وطلاق السنة] (¬4) ما يدل على [مثل] (¬5) قول أشهب: في الصبي إذا خالع عنه أبوه أو وصيه امرأته، قال ابن القاسم: ليس لها إلا نصف الصداق، وهذا خلع مبهم وقع [قبل البناء] (¬6)، فأوجب فيه للزوجة ¬

_ (¬1) في هـ: تكون مدخولا بها أو غير مدخول بها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من هـ.

نصف الصداق. ومعلوم أن الخلع [إنما وقع] (¬1) على مال أخذ للصبي من الزوجة، إذ لا يجوز أن تطلق عليه زوجته على مشهور المذهب إلا على هذا الوجه، والذي قاله أشهب هو الأظهر في المعنى. والقول الثالث: في الفصل بين أن تكون الزوجة قد قبضت صداقًا من الزوج أو لم تقبض. فإن كانت قبضته فهو لها كله، ولا شيء له سوى ما خالع عليه. وإن قبضت نصفه لم يكن له مما قبضت شيء. وإن لم تقبض شيئًا لم يكن لها شيء، وهو قول أصبغ في كتاب ابن حبيب، وهو [قول] (¬2) ضعيف جدًا، وهو قول مدخول. فإن وقع مفسرًا، كقولها: خالعني على عشرة من صداقي، فلها نصف ما بقي بلا خلاف في المذهب. فإن كان ذلك منها بلفظ الطلاق مثل أن تقول: طلِّقني، فلا يخلو من أن تذكر مع ذلك عوضًا أو لم تذكر. فإن ذكرت مع ذكر عوضًا مثل أن تقول: طلقني على عشرة، فلا يخلو من أن تقول: من صداقي، أو لم تقل. فإن قالت: طلقني على عشرة من صداقي، فلها نصف ما بقي. فإن قالت: على عشرة، ولم تقل [من] (¬3) صداقي، ¬

_ (¬1) في ع، هـ: ما وقع إلا. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

فلا يخلو الزوج من أن يصدقها عينًا أو عرضًا. فإن أصدقها عينًا: كان لها نصف ما بقي كما لو فسرت. وإن أصدقها عرضًا: كان لها الرجوع على الزوج بنصف جميع الصداق. والفرق بينهما: أن الصداق إذا كان عينا، فالعشرة التي بها خالعت من جملة الصداق. فإن كان عرضًا، فالعشرة التي بها وقع الخلع في الذمة، فوجب عليها أن تؤدي العشرة وتأخذ نصف جميع الصداق. فإن لم [تذكر مع] (¬1) ذلك عوضا مثل أن تقول: طلقني، ولم تزد على ذلك فطلقها فلها نصف جميع الصداق، ولا شيء للزوج عليها. وأما المدخول [بها] (¬2): فلا خلاف أن لها صداقها، فإن عينت مائة فوقع الخلع في الصداق: كان لها ما بقي من ذلك وإن أبهمت كان الخلع في الذمة، وكان لها جميع الصداق. ولا فرق في التحقيق بين المدخول بها وغير المدخول إذا كان الخلع مبهما: أن يكون لها جميع الصداق إن كانت مدخولا بها أو نصفه إن كانت غير مدخول بها. وغاية ما توهموا في ذلك أن قالوا: قولها: خالعنى على عشرة، ولم تقل من صداقي أنها قصدت إلى أن تكون العشرة زائدة على الصداق، وهذا وهم بعيد. ¬

_ (¬1) في أ، جـ: يكن. (¬2) في أ، جـ: عليها.

وأما تفريقهم بين لفظ الخلع وبين لفظ [الطلاق] (¬1): فذلك مبني على أصل، وهو هل النظر [إلى] (¬2) الألقاب والتسميات فيفترق اللفظان أو النظر إلى [المعاني] (¬3) ثم لا فرق؟ والجواب عن الفصل الثالث: إذا كان الخلع من جهة الزوج، وفيه ثلاثة أسئلة في "المدونة": أحدها: أن يقول لها: خالعتك على مال، ويتلفظ بلفظ الخلع ولم يكن هناك مال ولا ذكره. والثاني: أن يكون بلفظ الطلاق على صفة الخلع [كقوله: أنت طالق طلاق الخلع] (¬4). والثالث: أن يكون بلفظ الطلاق على مال يدفعه [الزوج] (¬5) إليها من غير شرط. فالجواب عن السؤال الأول: إذا كان بلفظ الخلع على مال أو [على] (¬6) غير مال، هل يكون بائنا أو رجعيًا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه طلاق بائن، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه رجع، وهو قول غيره في "المدونة" فيما إذا خالعها على أن ¬

_ (¬1) في أ، جـ: التعليق. (¬2) في ع، هـ: في. (¬3) في أ، جـ: المعنى. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

يجعل لها دينًا عليه وهو عين: فالمشهور أنه بائن. وسبب الخلاف: هل النظر إلى [الألفاظ] (¬1) أو إلى المعاني؟ فمن اعتبر اسم الخلع، ولاسيما مع إضافة المال إليه، فيقول: بائن. ومن اعتبر المعاني فيقول: إن الخلع المعتبر فيه انتزاع المرأة نفسها من عصمة الزوج بوسيلة المال الذي دفعته، قال: هو [طلاق رجعي] (¬2). والجواب عن السؤال الثاني: إذا وقع [الخلع] (¬3) بلفظ الطلاق على صفة الخلع [كقوله: أنت طالق طلاق الخلع] (¬4)، ففي المذهب ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنها طلقة بائنة، وهو قول ابن القاسم في كتاب "إرخاء الستور"، من "المدونة". والثاني: أنها ثلاثة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" هو قول عبد الملك في غير "المدونة". والثالث: أنه طلاق رجعي، وهو قول مطرف وابن عبد الحكم وأشهب، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب التخيير والتمليك" فيما إذا قال: أنت طالق تطليقة لا رجعة لي عليك، فقال: إن له الرجعة، وقوله: لا رجعة لي عليك، مثل قوله: أنت طالق طلاق الخلع. وسبب الخلاف: هل النظر إلى مجرد اللفظ فيكون بائنًا أو النظر إلى ¬

_ (¬1) في ع، هـ: الألقاب. (¬2) في أ: الطلاق الرجعي. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

المعنى فيكون رجعيًا أو النظر إلى [المقصود] (¬1) فيكون ثلاثًا، فكأنه قصد إلى البينونة؟ والجواب عن السؤال الثالث: إذا وقع بلفظ الطلاق مع مال يدفعه الزوج إليها من غير شرط، هل هو بائن أو رجعي؟ على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أنها طلقة رجعية؛ لأنه رجل طلق وأعطى، وهي رواية ابن القاسم وابن وهب عن مالك. والثاني: أنها بائنة، وهو قول مروي عن مالك أيضًا وحكاه عنه سحنون في "المدونة" [وروى عنه غيره أنه قال: تبين بواحدة] (¬2)، وقال في "المدونة": وأكثر الرواة على أنها غير بائن [وهو قول مروي عن مالك أيضًا] (¬3). وسبب الخلاف: هل النظر إلى مجرد [وجود] (¬4) المال مع الطلاق فيشبه الخلع ويكون بائنًا أو النظر إلى اللفظ والمعنى فيكون رجعيا؟ فافهم هذا التحصيل تربت يداك، فإن هذه المسألة من غوامض الكتاب، وقد حار في [تلخيصها] (¬5) ذووا الألباب، فخذها ممن اعتنى بها دهرًا طويلًا وسلك بها مسلكًا جميلًا، وساعده التوفيق من الله في ذلك تكرمًا وتفضيلًا. والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في ع، هـ: القصد. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ع، هـ: تحصيلها.

المسألة الرابعة في خلع المحجور عليه في [التصرفات] من الذكران والإناث [والعبيد والأحرار

المسألة الرابعة في خلع المحجور عليه في [التصرفات] (¬1) من الذكران والإناث [والعبيد والأحرار والمحجور عليهم في التصرف على ضربين: أحرار وعبيد، فالأحرار على ضربين ذكران وإناث] (¬2). فالذكران على ضربين: صغار أو بوالغ. فالصغار: يجوز الخلع عليهم من الأب أو ممن أقامه مقام نفسه، كالوصي أو السلطان مع عدم الأب، ومن قدمه على النظر في مصالح اليتيم، ولا يكون إلا على شيء يأخذه أحد ممن ذكرنا [للصبي] (¬3) الصغير، يرى أن فيه نظر أو مصلحة، وإن كان على غير ذلك: لم يجز؛ لأن طلاق الصبي لا يجوز، ولا يجوز لوليه أيضًا أن يطلق عليه إلا على مال يأخذه له، ولا خلاف في ذلك في مذهب مالك - رحمه الله. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يطلق على [الصبي] (¬4) الصغير بحال، لا على مال ولا على غير مال. فأما البوالغ: فعلى ضربين، محجور عليه وغير محجور عليه. فغير المحجور [عليه] (¬5): فلا يجوز عليه فعل أحد إلا عن نيابة منه ¬

_ (¬1) في ع، هـ: التصرف. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

وعن إذنه. وأما المحجور عليه [فعلى ضربين: محجور عليه لحق نفسه ومحجور عليه لحق غيره، فأما المحجور عليه] (¬1) لحق نفسه كالسفيه، فهل يخالع عنه الأب أو الوصي أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يجور خلعهما عليه وهو قول ابن القاسم في "العتبية". والثاني: أن خلعهما عليه لا يجوز، وهو قول عبد الملك وابن الماجشون، والقولان قائمان من "المدونة". وينبني الخلاف على الخلاف في جبر السفيه على النكاح: فمن رأى أن الأب أو الوصي يجبران السفيه [البالغ] (¬2) على النكاح، قال: يجوز خلعهما عليه. ومن منع الجبر منع الخلع. وأما المحجور عليه لحق غيره كمديانة خالعت بمالها ثُمَّ قام عليها غرماؤها، فأرادوا أن يمنعوها من ذلك، هل يمكنون من منعها أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن لهم منعها لما لم يكن لهم حظ في خلعها، فكأنه إخراج مال بغير عوض، فلم يمض عليهم فعلها. والثاني: [أنها تمنع] (¬3) ابتداء، فإن نزل مضى قياسًا على المديان إذا صالح عن دم العمد بأموال الغرماء فقد منع ابتداء في "المدونة" نصًا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) في أ، جـ: أنه يمنع.

مجملا، [وقال] (¬1) في غير "المدونة": [إنها تمنع] (¬2) ابتداء، فإن نزل مضى. سبب الخلاف: هل يقاس الخلع على النكاح أو لا يقاس عليه؟ وذلك أن النكاح مما تمس الحاجة إليه وتدعو الضرورة [إليه] (¬3)، كالحاجة إلى المأكول والمشروب والملبوس وغير ذلك مما لابد للمرء منه، [فإن] (¬4) لم يكن للغرماء منعه [من التزويج كما لم يكن لهم منعه] (¬5) من هذه الأشياء، وكأنهم على ذلك عاملون، والخلع هل هو من هذا القبيل أم لا؟ فمن جوز القياس على النكاح قال: بجواز: خلع المديانة، وليس للغرماء أن يمنعوها، وكأنهم عاملوها على أنها تتصرف في مالها بكل وجه يجلب إليها منفعة، ويدفع عنها [مضرة] (¬6) نادرًا كان أو معتادًا. ومن منع قياس الخلع على النكاح قال: الخلع ليس مما تمس الحاجة إليه، وإنما تقع الرغبة [في التخلص] (¬7) من الزوج لعارضٍ يعرض وأمرٍ ليس بمعتاد، فأشبه ما تخرجه من مالها اختيارًا من غير عوض. فأما الصنف الثاني من الأحرار وهم الإناث، وهن على ضربين أيضًا: صغار وبوالغ. فالصغيرة: لا تخلو من ثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) في أ، جـ: وقالوا. (¬2) في هـ: إنما يمنع ذلك. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

إما أن تكون ذات أب، أو ذات وصي، أو مهملة الأمر. فإن كانت ذات أب: فلا خلاف في المذهب عندنا في جواز خلع الأب عنها لما يقتضيه نظره ويراه مصلحة لابنته، وإن كان على إسقاط جميع المهر. وإن كانت ذات وصي: فهل يجوز مباراة الوصي عنها كما يجوز ذلك لأبيها أو لا يجوز؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أن ذلك لا يجوز إلا للأب خاصة، ولا يجوز ذلك لا لوصي ولا غيره، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في "المدونة". [والثاني: أن مباراة الوصي عنها كالأب ويلزمها ذلك ولا خروج لها عنه إذا بلغت وهي رواية ابن نافع عن مالك في المدونة] (¬1)، وهو قول مالك في "المبسوط" أيضًا، وذكر عيسى بن دينار: أن ابن القاسم رجع إلى [جواز] (¬2) مباراة لوصي عن [اليتيمة] (¬3) الصغيرة ما لم تبلغ. وسبب الخلاف: هل يقاس الخلع على النكاح أو لا يقاس عليه؟ فمن جوز قياس الخلع على النكاح [قال: لا يجوز خلع الوصي كما لا يجوز أن يعقد عليها كذلك لا يجوز له أن يحل ما عقده الأب عليها، ومن منع جواز قياس الخلع على النكاح] (¬4)، قال: تجوز مباراة الوصي أو من يقوم مقام الوصي من قبل السلطان، وإن كان لا يجوز له أن يعقد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ، جـ. (¬3) في ع، هـ: يتيمته. (¬4) سقط من أ.

عليها؛ لأنه هو الناظر لها في مصالحها في نفس أو مال، فأي ذلك رآه صوابا فعله. فإن كانت مهملة ولا وصي لها من قبل أب، ولا مقدم من جهة السلطان، فحالفت زوجها على مال أعطته إياه، فهل يكون خلعًا فيجوز أو يكون مردودًا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الخلع جائز والمال نافذ للزوج، وهي رواية يحيى بن يحيى عن ابن القاسم في "العتبية"، ولا فرق بين أن يكون الزوج قد دخل بها أو لم يدخل. والثاني: أن المال مردود والخلع ماض، وهو قول أصبغ وهو المعروف من المذهب. وأما البوالغ: فلا تخلو من أن تكون بالغة رشيدة أو بالغة سفيهة: فإن كانت بالغة رشيدة فلا خلاف في جواز فعلها في مالها، وزوال الحجر عنها. فإن كانت بالغة سفيهة، فلا تخلو من أن تكون ذات أب أو ذات وصي أو مهملة [الأمر] (¬1): فإن كانت ذات أب: فخلع الأب عليها جائز، سواء كان ذلك قبل البناء أو بعده؛ لأن ذلك من باب التصرف في المال، ولاسيما على مذهب من يقول: إن الخلع معاوضة صحيحة، وإليه مال أهل المذهب. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن كانت ذات وصي أو مقدم من قبل السلطان، هل يجوز [خلعه] (¬1) عليها أو لا يجوز؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز. والآخر: المنع. وسبب الخلاف: هل المغلب [في الخلع] (¬2) التصرف في المال أو التصرف في البضع؟ وذلك أن الخلع يتضمن الأمرين. فمن غلَّب التصرف في المال قال: يجوز خلع الوصي عليها. ومن غلَّب التصرف في البُضع قال: لا يجوز خلع الوصي عليها، إلا بإذنها [كما لا يعقد عليها إلا بإذنها] (¬3). فإن كانت مهملة، فهل يجوز خلعها [ويسوغ] (¬4) للزوج ما أخذ منها أو لا يجوز؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو قول سحنون في اليتيمة البالغة تفتدي من زوجها قبل البناء قال: ذلك جائز، وله ما أخذ ولا رجوع لها فيه. والثاني: أن ذلك لا يجوز، وهو المشهور. وينبني الخلاف [على الخلاف] (¬5) في تصرفها في المعاوضات من البيع ¬

_ (¬1) في أ: خلعها، والمثبت من هـ وهو الصواب. (¬2) في ع، هـ: عليه. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: ويجوز. (¬5) سقط من أ.

والشراء هل هي على الجواز حتى ترد أو على الرد حتى تجاز؟ وأما العبيد: فلا يخلو من أن يكونوا كبارًا أو صغارًا: فإن كانوا كبارًا، فلا يخلوا من أن يكونوا ذكرانًا أو إناثًا. إن كانوا ذكرانًا، كعبد تزوج بإذن سيده، فلا يجوز للسيد أن يخالع [عنه] (¬1) إلا بإذنه؛ لأن الطلاق بيده فلا ينتقل إلى يد السيد إلا برضا العبد فإن كنَّ إناثًا، فخلع السيد جائز عليهنَّ؛ لأن الحق في المال للسيد، والطلاق بيد الزوج، فلا درك يبقي ولا علة تنفى. فإن كانوا صغارًا، فلا يخلو الزوجان من أن يكونا لمالك واحد أو لمالكين. فإن كانا لمالكين، فإنه يجوز لكل واحد منهما أن يباري عن الذي هو في ملكه، فسيد العبد يباري عن عبده على مال يأخذه له، إذ لا يجوز طلاقه لصغره كالحر، وسيد الأمة يجوز [خلعه] (¬2) عنها بمالها؛ لأن الحق في المال للسيد، فإذا رضي بإسقاط حقه فلا مانع [يمنع] (¬3) من جواز فعله. فإن كانا لمالك واحد، فهل يجوز للسيد أن يباري بينهما أو يخالع عليهما أو لا يجوز؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه يجوز للسيد أن يفرق بينهما على غير مال يأخذه للزوج من الزوجة إذا كان ذلك نظرًا أو اجتهادًا، وهي رواية [ابن وهب] (¬4) عن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: خلعها. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ع، هـ: ابن نافع.

مالك في "كتاب إرخاء الستور" [من المدونة] (¬1). والثاني: أن ذلك لا يجوز سواء كان على غير مال أو على مال؛ لأن المال الذي يأخذه السيد من مال الأمة إنما يأخذه لنفسه، فكأنه انتزعه منها لنفسه، ولاسيما على القول [بأن] (¬2) من ملك أن يملك يعد كالمالك، وهذا القول حكاه ابن لبابة في المذهب. والقول الثالث: التفصيل بين أن يكون ذلك على مال فيجوز، وإن كان على غير مال فلا يجوز ولا يلزم، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، ووافقه ابن نافع برأيه، وخالفه بروايته، والمشهور ما ذهب إليه ابن القاسم: أن ذلك لا يجوز إلا على وجه الخلع، كما لا يطلق على الصبي الحر إلا على [مال] (¬3) فكذلك ولا فرق بين أن يكونا لمالك واحد أو لمالكين إذا سلكنا مسلك التحقيق، [وبالله التوفيق والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: عوض. (¬4) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الخامسة في الخلع في المرض

المسألة الخامسة في الخلع في المرض ولا يخلو من أن يكون الزوج هو المريض أو الزوجة هي المريضة. فإن كان الزوج هو المريض: فالخلع جائز، وله ما أخذ من الزوجة، حلال له. فإن مات من ذلك المرض فهل ترثه أو لا ترثه؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها ترثه ويكون ميراثها من خالص ماله وفيما اختلعت له؛ لأنه مال له يورث عنه، وهو قوله في "المدونة" و"الموَّازية". والثاني: أنها لا ترثه أصلًا، وهذا استقرأه الشيخ أبو الحسن اللخمي من قول المغيرة فيمن حلف ليقضين فلانًا حقه، فحنث في مرضه حيث قال: [إن كان قسمًا] (¬1) بين المالكين [كان] (¬2) كالمطلق في المرض، فإن كان ظهر له [مال] (¬3) فلم يعلم به حتى مات لم ترثه، فقال الشيخ: فعلى هذا لا ترثه إذا خالعت في مرضه؛ لأن الخلع في المرض أبين في البراءة من التهمة من الطلاق في المرض؛ لأن الخلع باختيارها ولها فيه مدخل. ولو قيل في المسألة قول ثالث: أنها ترثه من ماله دون ما [اختلعت] (¬4) به لكان وجهًا؛ لأن المال الذي أخذ منها على الخلع لم يدخل في [ملكه] (¬5) ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ، جـ. (¬4) في أ، جـ: خالعت. (¬5) في أ، جـ: ملكها.

إلا بعد خروجها هي من عصمته، فكان [الجواب] (¬1) ألا ترث منه لبعده من تهمة الغرر، وربك أعلم. فإن كانت الزوجة هي المريضة، فخالعت زوجها في مرضها، فلا يخلو ما خالعته من أن يحمله الثلث أو لا يحمله. فإن لم يحمله ثلث مالها: بطل الزائد بالاتفاق. وإن حمله الثلث، ما الذي يصح للزوج من ذلك؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن للزوج جميع ما خالعها عليه، وهو قول القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب. ووجهه: أن الطلاق كان بطوعه فسقط أن يكون وارثًا وصح أن يكون من الثلث على أحكام أفعال المريض فيما لم يأخذ له عوضًا، وإن أجريناه على أحكام المعاوضات لكونها اشترت نفسها، وما يملك الزوج منها بما أعطته، فكان له حكم المعاوضة، ومعاوضة المريض جائزة ما لم يحاب، فإذا حابا كانت محاباة في الثلث، وهو ظاهر "المدونة" من غير ما موضع. والقول الثاني: أن له الأقل مما خالعها عليه أو قدر مباراتها منه، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". ووجهه: إن كان قدر ميراثه منها هو الأقل لم يظلم؛ لأنه القدر الذي يصح له منها لو ماتت، والزائد ساقط؛ لأنه وصية لوارث، وإن كان القدر الذي خالعته عليه هو الأقل فليس [له] (¬2) إلا هو، لأنه قد رضي به. والقول الثالث: التفصيل بين أن يخالعها على أكثر [من] (¬3) ميراثه ¬

_ (¬1) في أ، جـ: الواجب. (¬2) في أ: لها. (¬3) سقط من أ.

منها فيبطل الجميع، كالمرأة إذا وهبت أكثر من ثلث مالها، فرد ذلك زوجها: أن الثلث وما زاد عليه مردود، وبين أن يخالعها بمثل ميراثه منها أو أقل فيجوز، وهو ظاهر قول مالك وابن القاسم في "المدونة"؛ لأن مالكا قال في "الكتاب": إذا اختلعت من زوجها في مرضها بجميع مالها: لم يجز ولا يرثها. ثم قال ابن القاسم بعد قول مالك: فإن خالعها على أكثر من ميراثه منها لم يجز، وأما على [مثل] (¬1) ميراثه منها أو أقل فجائز. فظاهر قولهما لم يجز [أنه] (¬2) يبطل الجميع، وعلى ذلك حمله ابن الموَّاز [وغيره] (¬3). والقول الرابع: أن له من ذلك خلع مثلها أو ما أخذ منها أيهما كان أقل، وهو قول مالك في "كتاب محمَّد". على القول بأنه يكون [له] (¬4) مما خالع قدر ميراثه منها، متى يعتبر ذلك القدر؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن المعتبر في ذلك يوم الخلع، وهي رواية يحيى بن يحيى في "العتبية"، وهو ظاهر قول ابن نافع في "المدونة"، حيث قال: ويوقف المال، يريد: [أنه] (¬5) يوقف القدر الذي خالعته به. والثاني: أن المعتبر في ذلك يوم الموت، وهو قول ابن القاسم في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: و. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: و.

"كتاب محمَّد"، وهو ظاهر "المدونة" إذا اعتبر في ذلك مقدار الميراث، والميراث لا يكون إلا بعد الموت. وعلى القول بأن المعتبر في ذلك يوم الموت فلا تفريع، ولا [تنويع] (¬1). وعلى القول بأن المعتبر فيه يوم الخلع، هل يُمكَّن الزوج من قبض ذلك من ساعته أو لا يُمكَّن إلا بعد الموت؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يُمكَّن [منه] (¬2) في الحال، [وهو قول ابن القاسم في "العتبية". والثاني: أنه لا يمكن منه ويترك حتى يموت. وفائدة الخلاف وثمرته: أنا إذا قلنا: يمكن منه في الحال] (¬3) كان ضمان ذلك منه بقبضه، ولو هلك ما أخذ قبل أن تموت لم يرجع على التركة بشيء. وكذلك لو نما المال الذي بقي عما أخذه، ويقابله أن لو هلك بقية التركة أو بعضها قبل أن تموت: لم يرجع على التركة بشيء. وكذلك لو نما المال الذي يعني عما أخذه، ويقابله أن لو هلك بقية التركة أو بعضها قبل أن تموت، لم يرجع على التركة بشىء. وكذلك لو نما المال الذي يعني عما أخذ، ويقابله أن لو هلك التركة أو بعضها قبل أن تموت، لم يرجع على التركة بشىء. وكذلك لو نما المال الذي يعني عما أخذ، ويقابله أن لو هلك بقية التركة أو بعضها قبل أن تموت، لم يكن للورثة أن يرجعوا على الزوج بشيء، وهذا نص قول ابن القاسم في "العتبية". وعلى القول بأنه لا يمكن منه ويوقف إلى بعد الموت، هل يوقف ذلك القدر وقفًا يمنع فيه [من] (¬4) التصرف حتى تموت أو لا يوقف ويكون من ¬

_ (¬1) في أ، جـ: توزيع. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) سقط من أ.

جملة مالها؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يوقف ولا يعزل عنها، بل يبديها على جميع مالها كما كانت قبل الخلع، وهو مذهب [أصبغ في "كتاب طلاق السنة" على ما نقله] (¬1) الشيخ أبو محمَّد في "النوادر". والثاني: أنه يوقف وقفًا يمنع فيه من التصرف حتى تموت، وهو ظاهر قول ابن نافع عن مالك في "المدونة". والقول الثالث: بالتفصيل بين العين وغيره، فإن كانت دراهم ودنانير: لم توقف، وإن كان عبدًا أو دارًا أو ما يراد لعينه من سائر العروض وقفت ومنعت من بيعه والتصرف فيه، وهو قول أصبغ في كتاب ابن حبيب، وهو اختيار بعض المتأخرين كاللخمي وغيره، وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب الوصايا". وعلى القول بأن ذلك يترك في يدها على [حاله] (¬2)، هل يجوز لها أن توصي فيه بوصيتها أو لا يجوز؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها لا تدخل فيه الوصايا جملة؛ لأنها إنما قصدت أن تكون الوصية في بقية مالها غير الذي خالعت به؛ لأنها أخرجته من [جملة] (¬3) مالها، والموصي لا يقصد بالوصية إلا فيما يملك. والثاني: أن وصاياها تخرج من ثلث جميع مالها لا ما صالحته به ولا غيره. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: حالها. (¬3) سقط من أ.

والقول الثالث: بالتفصيل بين أن يكون الذي خالعته به معينًا أو مضمونًا. فإن كان معينًا: فإن الوصايا لا تدخل فيه. وإن كان مضمونًا: فالوصايا تدخل فيه، وهذا القول أسعد بظاهر "المدونة". وينبني الخلاف على الخلاف في الوصايا، هل تدخل فيما علم الموصي وفيما لا يعلم، أو لا تدخل إلا فيما علم خاصة؟ والحمد لله وحده.

المسألة السادسة في الحضانة

المسألة السادسة في الحضانة والحضانة يستوجبها قرابات الطفل من النساء بوصفين اثنين: أحدهما: أن يكُنَّ ذوات رحم منه. والثاني: أن يكُنَّ محرمات عليه. فإن كن على هذين الوصفين، فلا خلاف في ثبوت الحضانة لهنَّ على ترتيب الأقرب، على ما نصف. فإن اختل من هذين الوصفين وصف، فينظر. فإن كن ذوات رحم منه، ولم يكُنَّ محرمات عليه، كبنت الخالة وبنت العمة وما أشبههما، أو [كن] (¬1) محرمات عليه ولم يكنَّ ذوات رحم كالمحرمات عليه من قبيل الصهر والرضاع: فلا حق لهن في الحضانة بوجه. وأما عصبته من الرجال: فإنهم [يستوجبون] (¬2) الحضانة بمجرد التعصيب، كانوا من ذوي رحمه المحرم أو من ذوي رحمه الذي ليس بمحرم. وأما من ليس بمحرم ولا من ذوي رحم: فلا حق لهم في الحضانة إلا أن يكون هناك سبب معني يوجب لهم الولاية كالأوصياء: فإنهم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: يستحقون.

[يستوجبون] (¬1) الحضانة بمجرد الولاية، كانوا مقدمين من قبل الأب أو من قبل السلطان. وأما من عداهم من الموالي: فلا حضانة لهم. وهي مرتبة بينهم بحسب الحنان والرفق، من غير اعتبار بقوة الولاية كالنكاح، ولا الموالي بالصلاة على الجنازة، ولا على ترتيب المواريث. والمقدم منهم في الحضانة من يعلم بمستقر العادة أنه أشفق على المحضون وأرأف به وأقوم [لمنافعه ولهذا قدمت الأم] (¬2) في الحضانة على [الأب و] (¬3) سائر الأولياء. ولا خلاف بين العلماء أن الأم وأمها يقدمان في الحضانة على الأب وسائر الأولياء. واختلف في الأب، هل يُبدا على الخالة؟ على أربعة أقوال: أحدها: أن الخالة تبُدا عليه، وأن أمه تُبدا عليه أيضًا، وهو مقدم على أخت المحضون، وهو مذهب "المدونة". والثاني: أن الأب مقدم على الخالة وعلى أمه، وهو قول مالك في "كتاب محمَّد". والثالث: أن الأب لا مدخل له في الحضانة إلا بعد عدم جميع النساء، وهو [قول مالك] (¬4) في "كتاب ابن حبيب". والقول الرابع: أن الخالة مقدمة عليه، ويقدم هو على أمه، وهو قول ¬

_ (¬1) في ع، هـ: يستحقون. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) في أ، جـ: قوله.

ابن القاسم في "كتاب المدنيين". فإن وقع التنازع من النساء في الحضانة: فأولاهن في الحضانة الأم، ثم الجدة للأم، ثم جدة الأم لأمها، ثم الخالة على مذهب "المدونة" [ثم خالة الخالة على ما في كتاب محمَّد، ثم جدة الطفل أم الأب على مذهب المدونة] (¬1)، ثم جدة الأب أم أبيه ثم الأخت ثم العمة ثم بنت الأخ. واختلف في بنت الأخ على قولين: أحدهما: أنه لا حق لها في الحضانة، وهو قول مالك في "كتاب ابن حبيب". والثاني: أن لها حق في الحضانة، وهو قول بعض المتأخرين، وهو [اختيار] (¬2) أبي النجا الطرابلسي قال: والصواب أن يكون لها حق كبنت الأخ، بل ينبغي أن تكون هي أولى منها. فكما ثبت أن الخالة أولى من العمة، فكذلك تكون بنت الأخت أولى من بنت الأخ. فقدم ما كان من جهة الأم على ما كان من جهة الأب لما علم في مستقر العادة أن الأم أكثر شفقة وحنانا من الأب، فلهذا قدمت قرابة الأم على قرابة الأب. وأما الرجال: فأولاهم بالحضانة من هو أقرب إلى الأطفال وأشد بهم تمكُّنًا في كل الأحوال، وذلك في الأب ثم الأخ ثم الجد للأب، ثم ابن [الأخ] (¬3) على الخلاف في تقديم الجد على ابن الأخ، ثم العم، ثم ابن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: قول. (¬3) في أ، جـ: الأب.

العم ثم المولى الأعلى، ثم المولى الأسفل، وهذا مع عدم الوصي. فإن كان وصي قُدِّم على سائر من ذكر من العصبة والموالي، وإنما قُدِّم الوصي على الجد وعلى سائر القرابات؛ لأنه [مقدم] (¬1) [يقام] (¬2) باجتهاد الأب، ومن اجتهد فيه الأب لولده أولى. اللهم إلا أن يعلم أن ذلك كان من الأب لشات بينه وبين جد الولد [فيقدم] (¬3) على الوصي؛ لأن عليهما في تربية غيرهما للولد معرَّة، مع علمنا بأن رغبة الأب عنهما لم يكن لحسن [نظر] (¬4). ومن وجبت لها الحضانة ممن ذكرنا من النساء: فإنها يحكم لها بها إذا طلبتها ما لم يكن هناك عارض يمنعها منها، والعارض: إما زوج أجنبي هي تحته، وإما كونها ممن لا تصلح للقيام بالأطفال إما لعجزها عن ذلك، وإما لصفة مذمومة [هي عليها] (¬5) مما لا يؤمن أن يسري ذلك منها إلى الأطفال، إذ الطفل على ما ربى عليه من الأخلاق، وقيل: كيف ينفطم عنها إلا بعد المجاهدة والعناء؟ فإن كانت تحت زوج أجنبي ممن لا حق له في الحضانة للصبيان: فلا حق لها في الحضانة، فإن زال ذلك العارض هل يعود إليها حقها في الحضانة أو يسقط بإسقاط الأول؟ فلا يخلو ذلك العارض من أن يكون عارضًا اختياريًا أو عارضًا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: يقوم. (¬3) في أ، جـ: لقدم. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

اضطراريًا: فإن كان عارضًا اختياريًا، كعارض الزوجية، فلا يخلو من أن يحدث قبل وجوب الحضانة أو كان بعد وجوب [الحضانة] (¬1). فإن كان قبل وجوب الحضانة، مثل أن يكون الموجب [لإسقاط] (¬2) الحضانة، كونها ذات زوج: فلا خلاف أعلمه [في المذهب] (¬3) أن الحضانة ترجع إليها. وإن حدث العارض بعد وجوب الحضانة ثم زال، مثل أن تتزوج بعد ثبوت الحضانة لها، ثم مات الزوج أو طلَّق هل تعود إليها الحضانة أو لا تعود إليها؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تعود إليها. والثاني: أنها لا تعود إليها، وهذا القول حكاه القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب. وسبب الخلاف: اختلافهم في الحضانة، هل هي حق للأم أو حق للولد؟ فمن رأى أنها حق للحاضنة قال: إذا أسقطته لا تعود. ومن رأى أنها حق للولد قال: تعود إليها إذا زال المانع. وقد اختلف المذهب في الحاضنة إذا تزوجت، متى يسقط حقها في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

الحضانة؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يسقط بالعقد، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أن حقها لا يسقط إلا بالدخول، وهو المشهور لأن الزوجة إنما تشتغل عن الطفل [وتلتهي] (¬1) عنه بحقوق الزوج إذا وقع الدخول. والثالث: أن حقها لا يسقط إلا إذا حكم عليها بأخذ الولد عنها. وفائدة الخلاف وثمرته: إذا لم يحكم عليها بأخذ الولد عنها حتى زال العارض، هل تبقى حضانتها مستمرة أو يجوز للأب أن يأخذه؟ فمن رأى أن حقها من الحضانة لا ينقطع إلا بحكم حاكم قال: باستمرار حقها في الحضانة كما كان؛ لأنه لم يزل. ومن رأى أنه يقطع، إما بالعقد وإما بالدخول: فعلى الخلاف الذي قدمناه في رجوع الحضانة إليها إذا زال العارض الاختياري. فإن كان عارضًا اضطراريًا مثل: أن تكون الأم مريضة أو مسافرة سفرًا لابد لها منه، كالسفر إلى الحج وهي ضرورة، ثم زال ذلك العارض: فإن الحضانة ترجع إليها بلا إشكال. فإن كان الزوج من أولياء المحضون ممن له الحضانة إذا انتهى إليه، الترتيب هل يسقط حق [الحاضنة من] (¬2) الحضانة أم لا؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) في أ: وتلهها. (¬2) سقط من أ.

أحدهما: أنه لا يسقط حقها من الحضانة، [وهو مذهب المدونة وهو المشهور؛ لأن كل واحد من الزوجين لو انفرد لكانت له الحضانة. والثاني: أن ذلك يسقط حقها] (¬1) وإن كان زوجها جدُّ الصبي، وهو قول ابن وهب، وهذا ضعيف؛ لأن الموجب لسقوط الحضانة ليس وجود الزوج خاصة، وإنما هو كون الأم مشتغلة بزوجها، ومستغرقة في خدمته والمبادرة إلى مرضاته، وذلك مما يشغلها عن تربية المحضون، وربما يؤدي ذلك إلى إضاعته مع ما جبلت عليه النفوس من البغض في الربيب. وإذا كان الزوج ممن له الحضانة مثل ما للزوجة، فكل واحد منهما يؤدي ما عليه من حسن التربية [للمحضون، فالأم لا تغفل لما في عملها أن الزوج يسره ما يرى منها من حسن التربية] (¬2)، وربما يسامح من أكثر حقوقه لأجل ذلك. والزوج أيضًا لو انتهت إليه الحضانة وتحته زوجة أجنبية: كان الواجب أن يرضيها، ويحسن إليها غاية الإحسان لترد بالها إلى تربية [محضونه] (¬3)، ويتجاوز لها عن أكثر حقوقه الواجبة له عليها في حق تربية اليتيم، إذ لا يسلم له الولد في الحضانة إذا استحقها حتى يكون عنده ما [يكفله] (¬4) ويقوم بتربيته إما زوجة [وإما] (¬5) جارية. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع، هـ: المحضون. (¬4) في أ، جـ: يكلفه. (¬5) في أ، جـ: أو.

فإذا كان الأمر هكذا والزوجة أجنبية، فما ظنك بالأم إذا كانت هي الزوجة. فإذا ثبتت الحضانة لمن طلبها من النساء، وضمت الولد إلى نفسها فطلبت نفقتهم، فلا يخلو الأب من أن يكون موسرًا أو معسرًا. فإن كان الأب موسرًا: فإنه يسلم لها نفقتهم وعلى الأب جميع ما احتاج إليه الولد من النفقة والكسوة والتربية، وجميع ما يحتاج إليه من المؤنة. فإن طلب الزوج أن تبعثه الحاضنة يأكل عنده، ثم يعود إليها، فلا يخلو من أن يكون ظاهر الإيسار أم لا. فإن كان ظاهر الإيسار: فلا يمكَّن من دعواه، ويُجبر على تسليم النفقة إلى الحاضنة، لما في ذلك من الضرر عليها وعلى الولد؛ لأن الوقت الذي يأكل فيه الأطفال لا يتعين وأكلهم مفترق وذلك يؤدي إلى [إرجاء] (¬1) الولد إلى أن تطعمه الحاضنة من مالها؛ لأنها بين أن تطعمه الحاضنة من [مالها] (¬2) أو تتركه فيضيع. فإن كان الأب [ليس بواجد] (¬3): فإنه يُمكن من ذلك؛ لأنه غاية المقدور؛ لأن الذي عنده من المال لا يحتمل التجزئة. ¬

_ (¬1) في أ، جـ: انتفاع. (¬2) في ع، هـ: غرمها. (¬3) سقط من أ.

فإن كان مُعسرًا لا يقدر على شىءٍ أصلًا: فهو وأولاده مِن فقراء المسلمين. واختلف في أجرة السكنى للولد والحاضنة: على قولين: أحدهما: أنَّ السكنى على الأب وعليها. والثانى: أنَّهُ لا يلزم الأب سكنى الولد، وذلك على الحاضنة وحدها. والقولان لابن القاسم في "كتاب النوادر". وعلى القول بأنَّ السكنى عليه وعليها، هل هى على الجماجم أم لا؟ على ثلاثة أقوال (¬1): أحدها: أنها على الجماجم، وهو قول يحيى بن عمر. والثانى: أنَّها على الاجتهاد، وهو قولهُ في "كتاب ابن سحنون" وهو قول ابن القاسم في "المُدَّونة"، وظاهره: جميعه. والثالث: أنَّ عليه نصف السكنى، والنصفُ الباقي على الحاضنة. وسبب الخلاف: هل الحضانة حقٌ للحاضن أو حقٌ للمحضون؟ فإن مات الأب وطلبت الأم أجر الحاضنة (¬2)، فلا يخلو حالهما مِن أن يكونا مُوسرين أو مُعسرين أو أحدهما مُوسر والآخر مُعسر. فإن كانا مُوسرين الولد والأم، فهل للأُم النفقة في أموالهم أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّ [لها] (¬3) النفقة في أموال أولادها. ¬

_ (¬1) في أ: قولان. (¬2) في أ: الحضانة. (¬3) سقط من أ.

والثاني: أنَّهُ لا نفقةَ لها عليهم بعد وفاة الأب. والثالث: أنَّها تنفق في أموالهم بقدر حضانتها (¬1)، إذا [كانوا] (¬2) لو تركتهم لم يكن لهم بد (¬3) من حضانتهِ. والأقوال الثلاثة عن مالك رحمه الله. فإن كانا مُعسرين: فلا شىء لكلِّ واحدٍ منهما على الآخر. وإن كان الولد مُوسرًا والأُم مُعسرة: كان لها النفقة في أموالهم، كما لو لم تحضنهم. فإن كانت الأُم مُوسرة والولد مُعسرًا، فمشهور المذهب أنَّها لا تجب عليها نفقتهم. واختلف في أمد الحضانة في الذكران: على قولين قائمين مِن "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّ أمدها الاحتلام، وهو قول مالك في "المُدوّنة". والثانى: أنَّ أمدها الإثغار، وهو قول مالك في "مُختصر ما ليس في المختصر"، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب التجارة إلى أرض الحرب في باب التفرقة بين الأم وولدها فقد نصَّ هناك في العبيد (¬4): أنَّ حد التفرقة الإثغار. فإن طلبت الأم الانتقال بالولد إلى [بلد] (¬5) غير بلد الأب، ¬

_ (¬1) في أ: حضانتهم. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: يؤمن. (¬4) في أ، جـ: العبد. (¬5) سقط من أ.

ومنعها الأب، فلا يخلو مِن أن تطلب الخروج إلى موضع قريب أو إلى موضعٍ بعيد. فإن كان إلى موضع بعيد: فللأب وسائر الأولياء منعها من ذلك اتفاقًا، وسواءٌ كان سفرها سفر انتجاع أو سفر ارتجاع. فإن كان إلى موضع قريب: فلها الخروج بالولد مِن غير اختيار الأولياء. واختلف في حدِّ القُرب. على أربعة أقوال: أحدها: أنَّ البريد ونحوهُ قريب، وهو قول ابن القاسم في المدوّنة. والثانى: أنَّ حدَّ القُرب [البريد] (¬1) لا زيادة عليه؛ وهو قوله أصبغ في كتاب محمَّد. والثالث: أنَّ مسيرة اليوم قريب للأُمِّ أنْ تخرج إليه بالولد. والرابع: أنَّهُ إذا كان موضعًا لا ينقطع خبرهم، فهو قريب من غير حد أميال، وهو قولُ مالك أيضًا. وأما الأب (¬2) والوصى وسائر الأولياء إذا أرادوا الخروج بالولد وأخذهِ مِن الأُم، فلا يخلو من أن يكون سفره [سفر] (¬3) انتقال أو لا يكونُ سفرَ انتقال. فإن كان سفرهُ سَفَرَ ارتجاع، كالمسافر لحاجةٍ أو تجارة يذهب ويعود: فليس له أخذُ الولد، لأنَّ كونه مع أُمِّهِ أصلح له وأحوط، لأنَّ الأبَ لمَّا لم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أم الأب. (¬3) سقط من أ.

يكُن له أخذُ الولدِ في الحَضَرِ وهو أرفهُ لِلوَلَدِ، كان ألا يُمكَّن مِن أخذهِ في السفر أولى. فإن كان سفرهُ سفر انتقال: فلهُ الانتقال بالولد، لأنَّ في ذلك حفظًا لنسبه (¬1)، ومعرفة الناس له، واحتراز مالُ (¬2) أبيه إن مات. وكذلك أيضًا إنْ كان مع الوصيُّ أو أحد الأولياء، فإنَّهُ يجوز نسبهُ من أبيه بذلك ويدعى بابنه خيرًا من أن يترك مع أمه ويدعى إليها ثم ينسى ما نسبه من أبيه (¬3)، وربَّما يستضر (¬4) الولد بذلك، فليس ذلك من باب المصلحة، ومُراعاة مصلحة التأبيد أولى مِن مصلحة عارض الطُفولية، وإلى هذا المعنى أشار القاضى أبو محمَّد عبد الوهاب. فإذا قُلنا: إنَّهُ يجوز للأب وَمَن هو في منزلتهِ مِن سائر الأولياء والأوصياء الانتقال بالولد، هل يُمكَّن منهُ بنفس إرادته الرحيل أو حتى يُثبت أنهُ استوطن الموضع الذي انتقل إليه؟ فبيَّن المتأخرين قولان حكاهما ابن أبي زمبين: أحدهما: أنَّهُ لا يُمكن مِن الخروج بالولد حتى يثبت عند حاكم البلد الذي فيه الحاضنة أنهُ قد استوطن الموضع الذي انتقل إليهِ، قال: وبهِ كان يُفتى بعض مَنْ أدركنا مِن شُيُوخنا المقتدى بهم. والثانى: أنَّهُ إذا أراد الرحيل، أخذ ولدهُ ساعة الرحيل. قال: وعلى القول الأول يدل لفظ الكتاب، والله أعلم، والذي ¬

_ (¬1) في أ: لنفسه. (¬2) في جـ، هـ: ميراث. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: ينظر.

قاله (¬1) لا يكاد يظهر من لفظ الكتاب. واختلف في الأم: إذا كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية، هل لها مِن الحضانة مِثل ما يكون للحُرَّة المُسلمة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنّ لها الحضانة مثل ما يكون للحُرَّة المسلمة، وإن خِيفَ أن تُطعمهم وتغذيهم بالخمر والخنزير ضُمَّت إلى ناس مِن المسلمين، وهو مذهب "المُدونة". والثانى: أنَّهُ لا حقَّ لها في الحضانة، لأنَّ الأُم المُسلمة إذا كانت يُثنى عليها بالسوء، نُزعَ منها، فكيف بالكافرة؟! وهو قول ابن وهب في "كتاب محمَّد". وسبب الخلاف: الحضانة، هل هى حقٌ للأم أو حقٌ للولد؟ فعلى القول بأنَّها حقٌ للأم، تكونُ للكافرة. وعلى القول بأنَّها حقٌ للولد، فلا حضانة للكافرة والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: فاته.

كتاب العدة وطلاق السنة

كتاب العدة وطلاق السنة

كتابُ العِدَّةِ وطلاقُ السنَّة تحصيل مُشكلات هذا الكتاب، وجملتُها اثنتى عشرة مسألة. المسألة الأولى قال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد رحمهُ الله: قال الله سبحانهُ: {يَا أَيهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ. . . .} إلى قوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}. فأمرَ تعالى أن تُطلَّق النساء للعِدَّة، فكان ذلك نهيًا عن إيقاع الثلاثة في كلمةٍ واحدة، فإن أوقعها في كلمةٍ كانت لازمة، لقوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}. وهي الرجعة فيما قال العلماء، فجعلها بائنة بإيقاع الثلاث في كلمة واحدة ولو لم تقع وتلزمهُ ما لم تفت الرجعة. فدلنا سبحانهُ أنّ الطلاق سُنَّة وغير سُنَّة. ومِن "المُدوّنة" قال سحنون: قلتُ لعبد الرحمن بن القاسم: أكان مالكٌ يكرهُ أن يُطلِّق [الرجل] (¬1) امرأتهُ ثلاثُ تطليقاتٍ في مجلسٍ واحد؟ قال: نعم، كان يكرهُهُ كراهيةً شديدة، ويقول: طلاقُ السُّنَّة أن يُطلِّق الرجل امرأتهُ تطليقةً واحدة، طاهرة، مِن غير جماع، ثُمَّ يتركها حتى يقضي لها ثلاثةُ قروء، ولا يُتبعها طلاقًا في ذلك. فإذا دخلت في الدم مِن الحيضة الثالثة، فقد حلْت للأزواج وبانت من زوجها الذي طلَّقها. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

[فصل]

فانظر إلى هذا العقد الذي عقدهُ مالك، رضي الله عنه، فقد جمع فيه من الفروع ما لا يستقصى شرحها، ولا يستوعب بسطه إلا في مجلدات مع اتساع الأزمان والأوقات، وذلك يدل على غزارة مالك رضي الله عنه، وذكاء عقله، وفصاحة لسانه، وجمع المعاني الكثيرة بعبارة وجيزة تدلُّ على الجزالَة، وكُلمَّا قرب لفظًا كان أفصح، وكُلمَّا اختصر البيان كان أوضح. فنحن بحمد الله نُومئ إلى جُملة كافية ممَّا احتوى عليه قولُ الإِمام، ونشرحُ [منها] (¬1) ما يستدلُّ بها المُسترشد، ويهتدى بمنارهِ المقتصد، إن شاء الله، وبهِ أستعين. [فصل] (¬2) وقوله في السؤال: كان مالك يكره أن يُطلق الرجل امرأتهُ ثلاثُ تطليقاتٍ، في مجلسٍ واحد. . . . إلى آخره. قال: وإنَّما حملهُ على السؤال ما علم مِن إجازة بعض العُلماء. إيقاع الثلاث في كلمةٍ واحدة [وهو طلاق السنة عند الشافعي - رضي الله عنه - فأراد أن يسأل عن مذهب مالك في المسألة هل هو على وفق مذهب الشافعي أو على خلافه فبين له ابن القاسم أن مذهب مالك في إيقاع الثلاث في كلمة واحدة] (¬3) حرام. وقال القاضى أبو محمَّد عبد الوهاب: الطلاقُ على وجهين: طلاق سنَّة وطلاقُ بدعة. قال: ومعنى قولنا "طلاقُ السُنَّة" [أنه وقع] (¬4) على هذا الوجه، ¬

_ (¬1) في أ: بها. (¬2) زيادة من جـ، ع، هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: الموقع.

الذي ورد الشرعُ بإيقاعه عليهِ. ومعنى وصفنا بأنَّهُ البدعة: أنَّهُ وقع على غير الوجه الذي ورد الشرعُ بإيقاعهِ عليهِ. والبدعة في أصل الوضع: إحداث الشيء على غير مثال. وقد اختلف العلماء في إيقاع [الطلاق] (¬1) الثلاث في كلمةٍ واحدة. فذهب مالك - رضي الله عنه - إلى أنَّهُ بدعة. وذهب الشافعي إلى أنَّهُ سُنَّة. والدليل لمالك - رضي الله عنه - ظواهر الكتاب ونصوص السُنَّة. فأمَّا ظواهرُ الكتاب، فقولهُ تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬2)، فلا يخلو [من] (¬3) أن يكون أمرًا بصفة الطلاق، فالأمر يقتضى الوجوب أو يكون إخبارًا عن صفة الطلاق الشرعى [وكلا الأمرين يقتضى ألا يكون الطلاق الشرعي] (¬4) على غير هذا الوجه. وأما نصوص السُّنَّةَ: فما رواه مخرمة بن بكير [عن أبيه قال] (¬5): سمعت محمد بن لبيد، قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات [جميعًا] (¬6)، فقام غضبانًا، ثُمَّ قال: يُلْعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم، حتى قام رجلٌ فقال: يا رسول الله، ألا أقتلُهُ (¬7). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة البقرة الآية (229). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: جمعًا. (¬7) أخرجه النسائي (3401) وفي "الكبرى" (5594) وضعفه الشيخ الألبانى رحمه الله تعالى.

خرّجه الترمذي. وبهذا قُلنا أنَّ مذهب مالك [-رحمه الله-] (¬1) تحريم إيقاع [الطلاق] (¬2) الثلاث في كلمةٍ واحدة، وأنَّ الكراهة التي يريدها مالك [كراهة] (¬3) التحريم، فبعدَ وقوع الثلاث في كلمةٍ واحدة، هل يلزمُهُ الطلاق أو لا يلزمُهُ؟ بين العلماء خلاف. [ومذاهب] (¬4) فُقهاء الأمصار: أنَّهُ يلزمُهُ ما أوقعهُ مِن الطلاق، وأنَّها لا تحِلُّ لهُ إلا بعد زوج. وذهب بعض أهل الظاهر إلى: أنَّهُ لا يلزمهُ شىء مِن أعداد الطلاق، ويُروى ذلك عن الحجَّاج بن أرطأة، ومحمد بن إسحاق، وحكاهُ القاضى أبو محمَّد عبد الوهاب في "الإشراف" عن بعض المبتدعة أنَّه يلزمُهُ طلقةٌ واحدة، وهو مذهب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومذهب ابن مسعود والزُبير بن العوَّام وعبد الرحمن بن عوف على ما نقلهُ أحمد بن محمَّد بن مغيث، وذكر أنَّ ذلك روايتهُ عن ابن وضَّاح، وهو مذهب ابن عباس - رضي الله عنه - أيضًا وعنهم أجمعين. [وقال] (¬5): قال ابن عباس قولهُ [ثلاثةُ] (¬6) [لا معنى له] (¬7) لأنَّهُ لم يُطلِّق ثلاث مرات، وإنَّما يجوز قولهُ: في ثلاثة، إذا كان مُخبرًا عن ما مضى، فيقول: طلَّقتُ ثلاثًا، يُخبر عن ثلاثة أفعال كانت منهُ في ثلاثة أوقات، كرجلٍ قال: قرأتُ أمس سورة كذا ثلاث مرات، فذلك ¬

_ (¬1) زيادة من جـ، ع، هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: كراهية. (¬4) في أ، جـ: فذهب. (¬5) سقط من أ. (¬6) في هـ: ثلاثًا. (¬7) سقط من أ.

يصحُّ، فلو قرأها مرةً واحدة فقال: قرأتها ثلاث مرات، كان كاذبًا. قال: وكان مِن حُجَّة ابن عباس - رضي الله عنه - أن الله تبارك وتعالى [بيَّن] (¬1) في كتابهِ لفظ الطلاق، فقال عزَّ وجل: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} يُريد أكثرُ الطلاقِ الذي يُمكن [بعده] (¬2) الإمساك بالمعروف: وهو الرجعة في العدَّة. ومعنى قولُهُ: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، يُريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضى عدَّتُها، وفي ذلك [إحسانٌ] (¬3) إليه وإليها، إن وقع الندم منهما، قال الله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}. يريدُ الندم على الفُرقة والرغبة في الرجعة. وموقع الثلاث غيرُ [حسن] (¬4)، لأنَّهُ ترك [للمندوبة] (¬5) التي [وُسِّعَ] (¬6) بها ونُبِّهَ عليها، فذكر الله تعالى لفظِ الطلاق مُفرقًا يدلُّ [على أنه] (¬7): إذا جَمَعَ فهو لفظٌ واحد. وقال [العتبى] (¬8) في إلزام المذهب واستقراء مذهب المبتدعة مِن "المُدوَّنة" وقد تخرَّج لنا من غير ما مسألة مِن المُدوَّنة ما يدلُ على ذلك. فمنهُ قولُ الإنسان: مالى صدقة في المساكين، أنَّ الثُلُث يُجزؤهُ مِن ذلك قال: ولو ذهبنا إلى ذكرِ ذلك لطال الكتاب وخَرَجَ عن حدِّ ¬

_ (¬1) في ع، هـ: فرق. (¬2) في أ: فيه. (¬3) في هـ: تحسين. (¬4) في هـ: محسن. (¬5) في هـ: للمندوحة. (¬6) في هـ: وَسَعَ الله. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: ابن مغيث.

الاختصار. قلتُ: هذا منهُ جنوح إلى مذهب المُبتدعة، أنَّ الطلاق الثلاث في كلمة واحدة أنَّهُ يلزمُهُ واحدة، فقاس ذلك على مَنْ حلَّف بصدقة مالهِ أنَّهُ يلزمُهُ الثُلُث. وقاس ذلك أيضًا على أحد القولين فيمن حَلَفَ بالأيمان بالطلاق أنهُ تلزمهُ [تطليقة] (¬1) واحدة. وهو قول الشيخ أبى عمران الفاسي، وأبى الحسن بن القابسي، وأبى بكر بن عبد الرحمن القُروي. وخالفهم في ذلك أبو محمَّد بن أبي زيد فقال: يلزمُهُ ثلاث تطليقات. وهذا الذي ذكرهُ العُتبى إلزام بارد وقياس فاسد. ورُبَّما احتجَّ مَنْ قال بأنَّها واحدة بما خرّجهُ البخاري ومُسلم عن ابن عباس قال: كان الطلاقُ على عهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكر وصدرًا مِن خلافة عمر - رضي الله عنهما -، طلاق الثلاث واحدة، فقال عُمر: لقد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيهِ أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاهُ عليهم (¬2). واحتجوا أيضًا بما رواه ابن إسحاق عن عِكرمة عن ابن عباسٍ، قال: طلق ركانة زوجته ثلاثا في مجلسٍ واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كيف طلّقها [ثلاثًا] (¬3) في مجلسٍ واحد؟ وقال: إنما تلك طلقةٌ (¬4)، فارتجعَهَا (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: طلقة. (¬2) أخرجه مسلم (1472). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) أخرجه أحمد (2387) وأبو يعلى (2500) والبيهقي في "الكبرى" (14764) وهو صحيح.

وقد احتجَّ مَن انتصر للمذهب المشهور بأنَّ حديث ابن عباس الواقع في الصحيحين، إنَّما رواهُ عنهُ مِن أصحابه طاووس، وأنَّ جملة أصحابه، رَوَوْا عنهُ لُزوم الثلاث منهم سعيد بن جُبير ومجاهد وعطاء وعَمْرو بن دينار وجماعة غيرهم. وأنَّ حديث ابن إسحاق وَهَمٌ، وأنَّ ما رواهُ الثقة أنَّ ركانة طلق زوجة البتة، لا ثلاثًا. وأنَّ ابن طاووس أيضًا، قد رَوَى عن أبيهِ عن ابن عباس خلافَ ذلك. قال القاضى أبو الوليد الباجي - رضي الله عنه -: وعندى أنَّ الرواية عن ابن طاووس بذلك صحيحة، وقد رَوَى عنهُ الأئمة معمر وابن جُريج وغيرهم، وابن طاووس إمام، وأبوه طاووس إمام، والحديث الذي يشيرون إليه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكر وصدرًا مِن خلافة عمر - رضي الله عنهما -، إنَّما وقع فيهِ الوَهَم في التأويل، ومعنى ذلك: أَنَّهم كانوا يواقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاث تطليقات. ويدُلُ على صحة هذا التأويل أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: إنَّ الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيهِ أناة [وأنكر عليهم في الطلاق استعجال أمر كانت لهم فيه أناة] (¬1) فلو كان ذلك حالُهم في أول الإِسلام أن يُطلقوا ثلاثًا وفي زمنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قالَهُ، ولا عاب عليهم أنَّهم [قد] (¬2) استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيهِ أناة. ويدلُّ على صحة هذا التأويل ما رُوى عن ابن عباس مِن طريقٍ أنَّهُ أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فصل

فهذا معنى حديث ابن طاووس عندي. قال: وإنْ حُمل حديث ابن طاووس على ما يتأوَّل فيه مَنْ لا يُعبأ بِقولهِ فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة، وانعقد بهم الإجماع. وسبب الخلاف بين مَنَ ألزم الثلاث، وبين مَنْ قال: "تلزمُ طلقة [واحدة] (¬1) "، هل الحكم الذي جعلهُ الشرع مِن البينونة والطلاق الثلاث يقعُ بإلزامِ المُكلَّف لنفسهِ، هذا الحكمُ في طلقةٍ واحدة أو ليس يقعُ ولا يلزم مِن ذلك إلا ما ألزم الشرع؟ فمن شبَّهَ الطلاقُ بالأفعال التي يُشترط في صحَّةِ وُقوعها كوّن الشُروط الشرعية فيها، كالنكاح والبيوع قال: لا يلزم. وَمَنْ شبهها بالنذور والأيمان التي لزم العبد ما التزم منها لزمه على أي صفةٍ كان، ألزمَ الطلاق كيفما ألزمه المُطلِّق نفسهُ. فكأنَّ الجمهور غلَّبوا حكم التغليظ في الطلاقِ، سدًا للذريعة، والله أعلم. فصل وقولُهُ: طلاقُ السُنَّة: أن يُطلِّق الرجل امرأته تطليقة واحدة احترازًا مِن مذهب مَن يقول أنَّ طلاق السُنَّة أن يُطلِّقها ثلاثًا في كلمةٍ واحدة، وقد قدَّمنا أنَّهُ مذهب الشافعى، وربَّما استدلَّ على ذلك: بقصة [عويمر] (¬2) العجلانى حين لاعن زوجته، ثُمَّ قال: كذبتُ عليها إن أمسكتها يا رسول الله، فطَلَّقَها ثلاثًا قبل أنْ يأذن لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في الأصل: عمير. (¬3) أخرجه البخاري (4959) ومسلم (1492).

قال: فلو كان بدعة ما أقرَّهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ لا يُقرّ أحدٌ على منكر، واعتذر أصحابُنا عن هذا الحديث بأنَّ المُتلاعنين عندهُ [قد] (¬1) وقعت الفُرقة بينهما بنفس التلاعُن، فصار الطلاقُ الذي أوقعهُ واقعًا في غير محلِهِ لأنَّهُ صادق محلًا فارغًا، ولم يتصف لا بِسُنَّة ولا ببدعة. وهذا أظهرُ من قولِ المخالف. وقولُهُ: طاهرًا، احترازًا مِن أن تكون حائضًا، فإن طلَّقها وهي حائضٌ، فلا يخلو مِن أن تكون مدخولًا بها أو غير مدخولٌ بها: فإن كانت مدخولًا بها: فلا يخلو مِن أن يكون الطلاق بائنًا أو رجعيًا: فإن كان بائنًا: فالزوج مأثوم، ولا يُجبر على الرجعة، لأنّ الطلاقَ في الحيض محظور. فإن كان الطلاقُ رجعيًا: فلا يخلو ذلك مِن أن يكونَ باختيار الزوج أو بغير اختياره. فإن كان ذلك باختيار الزوج: فإنَّ إيقاع الطلاقِ لا يجوزُ لهُ باتفاق المذهب. والأصل في ذلك: نهيُهُ - صلى الله عليه وسلم - عن إيقاع الطلاق في الحيض، ولذلك أمَرَ عُمر أنْ يُجبِّرُ وَلَدَهُ عبد الله بن عمر على الرجعة حين طَلَّق في الحيض واختلف أصحابُنا: هل ذلك شرع مُعلَّل أو شرعٌ غيرُ مُعلَّل؟ فمنهم مَنْ ذهب إلى أنَّهُ مُعلل [ومنهم من ذهب إلى أنه غير معلل] (¬2)، ويُستقرأ من المُدونة أنَّهُ غيرُ مُعلَّل، مِن قولهِ في الكتاب: إذا رأت المرأة القَصَّة البيضاء، ولم تجد الماء، قال: لا يجوزُ لهُ أنْ يُطلِّقها ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

حتى تغتسل، لأى شيء يمنعُ من الطلاق حينئذ، وليس في ذلك تطويل عدَّة، وهو موضع استقبل فيهِ العدة. فلو كانت العلَّة في ذلك: تطويلٌ [العدة] (¬1)، كما صار إليه الجمهور لجاز للزوج أن يُطلقها وهي حائض إذا رضيت بذلك، لأنَّها قد أسقطت حقَّها. [والأصول] (¬2) [موضوعة على الحكم] (¬3) فإذا عُلِّلَ بحق آدمي، فإنَّه يَسقط إذا أسقط الآدمى حقَّه. وعلى القولِ بأنَّهُ مُعلَّل، فقد اختلف شيوخ المذهب في العِلَّة ما هى؟ فمنهم مَن يقول أنَّ: العلةَ فيه، تطويلُ العِدَّة عليها، لأن مِن شرط العدَّة: أن تكون عُقيب الطلاق، فإذا طلَّقها وهي حائض فإنَّها لا تبتدئ العدَّة إلا بعد الطُهر مِن تلك الحيضه، وقد مرَّ عليها زمانٌ بعد الطلاق، ولم يُعد لها [فيه] (¬4) عدَّة. وإلى هذا صار الجمهور مِن الأصحاب. وهذه العلَّة تنتقض بما ذكرناه: فيما إذا أراد أن يُطلِّقُها إذا رأت القصة البيضاء قبل أن تغتسل، وهو طلّقها في موضعٍ تعتدُّ فيه. ومنهم مَنْ ذهب إلى أن العلة في ذلك التلبيس عليها في كونها لا تدرى، هل عدَّتُها بالأقراء أو بوضع الحملِ؟ لأنَّ الحامل تحيض. وهذا أضعف من الأوَّل، لأنَّ ذلك يُؤدى إلى أنْ لا يُطلِّقُها بعد طُهرِها، لاحتمال أن تكون حاملًا، والحاملُ تحيض. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: والأصل. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: في.

ومنهم من يقول: العِلَّةُ في ذلك: ما يُدخُله الزوج على نفسه مِن الشُّكُوك والتلبيس فيما [يريد] (¬1) مِن نفى الولد إذا أتت به، إذ لا يُدرى ولا يُتحقق إنْ كان منه أو مِن غيره، فلا يجوز لهُ الإقدام على النفى على هذا الوجه، فإذا طهَرُت مِن حيضَتها ثُمَّ طلقها قبل أنْ يمسَّها: فقد طلَّق مُستبرأة، على ظاهر الأمر فيهما فإن أتت بولدٍ ساغ لهُ النفى وتقوى لهُ نفسُهُ عليهِ باستبرائه، وهذا أيضًا مِن الطراز الأول. فإنْ نزل وزلَّ بأن أوقع الطلاقُ في الحيض، فلا خلاف عندنا أنَّ الحاكم يُبادِرُهُ بالأمر بالرجعة في الحال، فإن امتثل [فهو] ذلك. فإن أبى وامتنع، قال أشهب: فإنَّ السلطان يُهدِّدُهُ، فإن أبى سجنَهُ، فإن أبى ضربهُ، ويكونُ ذلك كُلّهُ قريبًا ولا تُجعل فيه أناة، لأنَّه مُقيمٌ على معصية، فإن غلب على ذلك أجبرهُ السُلطان على رجعتها، وحكمَ عليه بها، ولا خلاف عندنا في المذهب في ذلك. ثُمَّ لا يخلوا الزوج إذا حكمَ عليه السُلطان بالرجعة مِن أن يكونَ لهُ نية لها أم لا: فإن كانت له نيِّة في الرجعة التي حكم عليه بها، فلا خلاف في المذهب بِثُبوت أحكام الرجعة بينهما في التوارث والاستمتاع وغيره. فإن لم تكُن لهُ نية، فهل يجوز البقاءُ معها والاستمتاع أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: جواز البقاء معها وثبوت أحكام [الزوجية] (¬2) بينهما، وهو ظاهر "المُدوّنة". ¬

_ (¬1) في أ: يتوصل. (¬2) في هـ: الرجعة.

والثاني: أنَّهُ إذا انقضت عِدَّتُها، ولا نيَّة لهُ في الرجعة، لم يجز لهُ وطئها، ولا أن يبقى معها، وهذا القولُ حكاهُ أبو العباس المغيثى عن بعض المتأخرين في وثائقه، وهذا القولُ أشبهُ بأصولِ المذهب، وإلا كيف تصحُّ لهُ الرجعة ويُباح لهُ الاستمتاعُ في أمرٍ أُكرهَ عليه ولا نيَّة لهُ فيه؟ فما وجدت لهذه المسألة نظيرةً في المذهب، إلا ما قال في "كتاب الوضوء" من "المُدوّنة" في المُسلم إذا كانت زوجتهُ كتابيّة حيث قال: يُجبرها علىَ أن تغتسل مِن الحيض، ولا يجبرها على الغُسل مِن الجنابة، لجواز وطئها وهي جُنُب، فانظرْ كيف جوّز لهُ الوطء وهي مجبورة على الاغتسال، والزوج في مسألتنا أيضًا مجبورٌ على الرجعة، والمجبورُ لا نية له، إذ الجبر يُنافى الاختيار، ولاسيَّما مع عدم النية مِن الزوج في حين الرجعة، ومِن الزوجة في حين الاغتسال. اللهم إلا أنْ يكونَ بنى الحُكم فيها على أحدِ الأمرين: إمّا على أنّ الرجعة لا تفتقر إلى نيَّة، وهو قولُ ابن وهب فيما إذا وطيء الزوج في العِدَّة، ولم ينوِ بذلك الرجعة، فهي عندهُ رجعة وهو قولٌ شاذٌ في المذهب. أو على أنَّ رفعَ الحدث الأكبر لا يفتقر إلى نيَّة، وهذا ممَّا لا أعرف فيه في المذهب نصَّ خلاف، وإنَّما الخلاف الشاذ في الوُضوء [يلزم في الغسل من الحيض] (¬1). وإمَّا على أنَّ نيَّة الزوج تنوبُ عن نية الزوجة في الاغتسال، ونيَّة السلطان تنوبُ عن نيَّة الزوجُ في الرجعة. ومثلُ هذا غير معهود [في الشريعة] (¬2)، وربُك أعلم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن غفل عنهُ حتى خرجت مِن العدَّة، وطهُرت مِن الحيضة، فلا خلاف أيضًا أنَّهُ يجبر. فإن غُفل عنهُ حتى طهرت مِن الحيضة الثالثة، وحصلت في الطُهر الذي أُبيح لهُ فيه الطلاق، لو جُبر على الرجعة أول ما طلق، هل يُجبرُ على الرجعة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يُجبرُ على الرجعة، ما لم تر أول [دم] (¬1) الحيضة الثالثة، وهو قولُ ابن القاسم. والثانى: أنَّهُ لا يُجبر على رجعتها، لأنَّها انتهت إلى وقتٍ لو شاءت أن يُطلقها فيهِ لطلَّقَها، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: أمرهُ - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عُمر - رضي الله عنهما - بالرجعة [حين الطلاق وخيره بين الطلاق والإمساك في الطهر الثاني هل يفهم منه أن الجبر على الرجعة] (¬2)، وإنَّما يكون ما لم تطهر مِن الحيضة الثانية، أو يُفهم منهُ أنَّهُ يُجيرُ على الرجعة ما دامت العدَّة قائمة. فإذا طلَّقها بعد ما رأت القصَّة البيضاء وقبل أن تغتسل، فهل يُجبر على رجعتها [في عدتها] (¬3) أم لا؟ فالمذهب يتخرَّج على قولين: أحدهما: أنَّهُ لا يُجبر على الرجعة، وهذا القولُ منصوص لبعضِ المتأخرين. والثانى: أنَّهُ يُجبر على الرجعة، وهذا القولُ يتخرَّج على المُدوّنة مِن قولهِ: لا يُطلقُها إلا حيثُ يقدِرُ على وطئِها، وأن حُكمها قبل الاغتسال ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

حُكم الحائض، وأنَّ ذلك بقية مِن الحيض. وجمهور المذهب على: أنَّها على حُكم الحائض حتى تغتسل، ولاسيما [على القول] (¬1) بأنَّ النهى عن الطلاق في الحيضِ غيرُ مُعللٍ. فلو كانت مسافرة، ورأت القصَّة البيضاء، ولم تجد الماء فتيمَّمت، قال مالك في "المدونة" وغيرها: يجوز لزوجها أن يُطلِّقها لجواز الصلاة لها، وقال بعض المتأخرين: سواءٌ صلَّت أم لم تُصلِّ بعد التيمُّم لهُ طلاقُها. ولا يُقال في هذا أنَّ التيمم قد انتقض لمَّا صلَّت، فلا يُطلِّقُها، وهل يُباح لهُ أن يطأها بطهارةِ التيمُم أم لا؟ قولان قائمان مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّهُ يجوز لهُ أنْ يطأها بالتيمم، وهو قولُ ابن شعبان في "كتاب الزاهى" قال: لأنَّ التيمُم يُبيحُ الصلاة، فكذلك الوطء، وهو ظاهر "المُدوّنة"، في قوله: لا ينبغى لهُ أنْ يطلقها إلا وهو يقدِرُ على جماعها، فإذا أباح لهُ الطلاق بالتيمم كان الوطء مُباحًا أيضًا. والثانى: أنَّهُ لا يجوزُ لهُ أنْ يطأها بطهارة التيمم، وأنَّ التيمم لا يرفع الحدث، وإنَّما هو فعلٌ يُستباحُ به الصلاة، والوطء يحتاج ألا يقع إلا بعد [زوال] (¬2) الحدث. وسبب الخلاف: الحائض بعد انقطاع دمِ الحيض وقبل الاغتسال، هل حُكمُها حكم الجُنب أو حُكمها حُكمُ الحائض؟ فإذا أُجبر على الرجعة بفور ما طلَّق ثُمَّ طهرُت مِن تلك الحيضة التي طلَّقها فيها، فأراد أنْ يُطلِّقها في الطهر، فلا خلاف في المذهب أنَّهُ لا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: رفع.

يجوز أن يُطلق. واختلف في علَّة ذلك، فقيل: العِلَّة في ذلك أنْ يُعاقب بنقيض مقصودِهِ، فكما أوقعَ الطلاقُ في غير وقتهِ، مُنع منهُ في وقتهِ. وقيل: العلة في ذلك [أنه إنما أجبر] (¬1) على الرجعة ليطأ لا ليُطلِّق. فإن طلَّقَ قبل أن يطأ، كان قد طلَّق بطلقتين في طُهرٍ واحد [وذلك ممنوع] (¬2). وإن طلق بعد أن وطئ كان ذلك مكروهًا أيضًا، لأنَّهُ قد طلَّق في طُهرٍ قد مس [فيه]. فإن اختلفا: فقال الزوج: قد طلَّقتها، وهي طاهرة، وقالت المرأة: بل طلقنى وأنا حائض، فالمذهب على قولين قائمين مِن المُدوَّنة: أحدهما: أنَّ القول قول الزوج، لأنَّهُ مُدَّعٍ للحلال، وهو قول ابن القاسم في العُتبية، وهو ظاهر قولُهُ في "المدونة"، في "كتاب السلم الثاني" إذا اختلفا، فقال أحدُهما: لم نضرب للسَّلم أجلًا. والثانى: أنَّ القولُ قولها لأنَّها مؤتمنة على ذلك، قال الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (¬3) فقيل: هو الحمل والحيض، وهو قول سحنون في "السليمانية"، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب إرخاء السُّتور" فيما إذا ادعت أن زوجَها وطئها وهي حائض أو مُحْرِمة أو صائمة حيث قال: القول قولها. ¬

_ (¬1) في أ: لما جبر. (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة البقرة الآية (228).

وقال القاضى أبو بكر بن العربى: ومعنى ذلك: إذا اختلفا بعدما طَهُرت، وأمَّا إذا ادعت ذلك قبل أن تُقر بالطُهر: فالقولُ قولها على كُلِّ حال. وقلتُ: ولا تحتاج إلى نظر النساء [إليها] (¬1)، لأنَّها مأمونة على الحيض في زمانه، ومُصدَّقة فيما تدعيه منهُ في وقتهِ. والجواب عن [الوجه] (¬2) الثاني: إذا كان الطلاقُ بغير اختيارٍ من الزَّوج، كالطلاق الذي يكونُ مِن قِبَل السلطان، في مثل المجنون والمجذوم والعنِّين والمؤلى والمُعسِر بالنفقة بعدَ الأجل والمتلوم والمرأَة الحائض أو النُفساء فإنَّهُ: لا يُعجِّل السلطان بالطلاق في شىءٍ من ذلك حتى تطهر المرأة مِن حيضها إلا الموَّلى. فإن أخطأ السلطان فطلَّق عليهم في ذلك في تلك الحالة، فقال الشيخ أبو الحسن اللخمى: لا يلزم الطلاق، بخلاف طلاقِ الزوج نفسهُ، لأنَّ القاضى في هذا كالوكيل على [الصفة] إذا فعل غير ما وكل عليه قال: ولو أنَّهُ لو أُجيز فعله لجبر الزوج على الرجعة ثُمَّ تُطلَّق عليه أخرى إذا طهرت [فتلزمه تطليقتان] (¬3)، وفي هذا ضررٌ إلا [على] العنين فإنَّهُ يمضي عليه الطلاق لأن الطلقة بائنة لكونها قبل البناء. وما قالهُ الشيخ صحيحٌ مسلمٌ لهُ إلا تشبيهُ السلطان بالوكيل، فذلك غيرُ مُسلَّمٌ مِن أجل أنَّ الوكيل على صفة متوقف على ما رسمه الأمير، ولا سبيل له إلى غيرهِ، كان مُباحًا أو محظورًا، والسلطان مُتوقف على ما رسمهُ الشرع فلا يتعدَّاهُ ¬

_ (¬1) في أ: عليها. (¬2) في هـ: الفصل. (¬3) سقط من أ.

إلى غيره. فإذا أخطأ وزلَّ وأوقعَ الحكمَ في غير محلهِ، فانظر: فإن كان مما يُتلافى [ويُستدرك] (¬1) [رد] (¬2) فعله. وإن كان ممَّا لا يُتلافى، كحكمه بالطلاق في الحيض وغيره على ما ذكرنا: كان ينبغى أن يمضي حكمه ولا يرد. أصل ذلك: لو طلق الزوج نفسه في الصورة المفروضة، فإنَّهُ: طلاقٌ واقعٌ [ولا يرد] (¬3)، والله أعلم. وأما المؤلى: إذا حلَّ أجل الإيلاء، ووافقتْهُ امرأتُهُ وهي حائض، هل يحكم عليه بالطلاق [أو ينتظر بها حتى تطهرُ؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المُدوّنة" في آخر "كتاب الإيلاء": أحدهما: أنَّهُ يعجل عليه بالطلاق] (¬4) في الحال مِن غير انتظار، وهو قولُ ابن القاسم. والثانى: أنَّهُ ينتظر حتى تطهرُ مِن حيضتها، وهو قول أشهب. وسببُ الخلاف: تقابل المكروهين، وذلك أنَّ الطلاق في الحيضِ مكروهٌ والزيادة على ما أحل الله تعالى [وحدَّه] (¬5) مكروهة. فمن غلَّب أحد المكروهين على الآخر، حكَمَ [بِحُكم] (¬6) الترجيح. ¬

_ (¬1) في هـ: ويتدارك. (¬2) في أ: بعد. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من هـ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ع، هـ: بمقتضى.

وأما الأنكحة الفاسدة: فلا يخلو فسادها مِن وجهين: أحدهما: أن تكون مما يرجع إلى حقِّ الولى أو ممَّا يرجع إلى حقِّ الله تعالى: فإن كان مما يرجع إلى حق الولى كالنكاح الموقوف على إجازة [الولى] (¬1) أو ردِّهِ. فإن اختار الرد، والمرأة حائض: فلا إشكال أن الحاكمَ لا يعجل عليهِ بالطلاق، حتى تطهر من حيضتها، غير أنَّ الزوجَ يُحال بينه وبين الاستمتاع منها بما يُستمتع بَمِثلهِ مِن الحائض. فإن كان فساده مما يرجع إلى حق الله تعالى مما يُفسخُ قبل البناء وبعده، كنكاح الخامسة أو الأُخت مِن الرضاع: فإنَّهُ يُفسخ قبل البناء وبعدهُ. وإن كانت المرأة حائضًا، وإن كان الفسخُ ممَّا يحتاط [فيه] (¬2) بتطليقه، وهو قول ابن المواز. قال الشيخ أبو إسحاق: فيما يفسخ بعد الدُخول بطلاق: وإن كانت المرأة حائضًا فصواب، لأنَّا لا نُجيز إقرارَهُ ولا التمادى [عليه] (¬3) ولا الوطء فيه، فصار إيقاع الطلاق [منه] (¬4) في الحيض لا ضرر فيه على المرأة، لأَنَّا لا نبيحُ للزوج فيهِ وطئًا ولا التمادى على هذا النكاح. وكذلك ما يُفسخ قبل البناء كالنكاح الفاسد لأجل صداقه: فإنَّهُ يجوز أن يُفرَّق بينهما، وإن كانت حائضًا، ولا يختلف ابن القاسم وأشهب في ¬

_ (¬1) في هـ: الغير. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

ذلك كما يختلفان فيما إذا طلّق قبل البناء في النكاح الصحيح، وهو الوجهُ الثاني مِن أصل التقسيم. إذا كان ذلك قبل البناء، وأراد الزوج أنْ يُطلقها وهي حائض فهل يجوز لهُ إيقاع الطلاق عليها وهي حائض أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يجوز لهُ أن يُطلِّقُها [وإن كانت حائضًا] (¬1)، وهو قولُ ابن القاسم. والثانى: أنَّهُ لا يجوز لهُ أنْ يُطلِّقُها حتى تطهرُ كالمدخولِ بها، وهو قولُ أشهب. وسبب الخلاف: النهى عن الطلاق في الحيضِ، هل هو مُعلَّل أو غيرُ مُعلَّل؟ فمن رأى أنَّهُ مُعلَّل [بتطويل العدة] (¬2)، فجوز الطلاق إذا كان قبل البناء، وإن كانت حائضًا لعدم العِلَّة. ومن رأى أنَّهُ غير مُعلَّل، قال: لا يجوز الطلاق. قال القاضى أبو محمَّد عبد الوهاب: فالخلاف يتخرج في [الحامل] (¬3) المدخول بها إذا كانت حائضًا، هل يجوز أن تُطلَّق في الحيض؟ على قولين: قال ابن شعبان: يجوز أن تُطلَّق، ويتخرج فيه قولٌ [ثانٍ] (¬4) أنَّهُ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بتجويز الطلاق. (¬3) سقط من أ. (¬4) في هـ: ثالث.

لا يجوز كما قال القاضى وسببُ الخلافِ ما تقدَّم. وقولُهُ: مِن غير جماعٍ: احترازًا مِن أن يُطلقها في طُهرٍ قد [جامعها فيه] (¬1). وقد اختلف في علةِ ذلك. فمنهم مَنْ يقول: أنَّ ذلك تلبيس على المرأة، حتى لا تدرى هل تُعتد بوضعِ الجمل أو بالأقراء؟ وهذا باطلٌ، لأنَّ العِدَّة لا تفتقر إلى نيَّة وهي [تنتظر] (¬2) في المستقبل. فإذا رأت حيضًا أتَمَّت عليهِ، وإن ظهرَ الحملُ [انتظرت] (¬3) الوضع. ومنهم مَنْ يقول: العلة في ذلك كوْنِ الزوج لَبَّس على نفسهِ فيما يُريد مِن نفى الولد، فإذا طلَّقها مُستبرأةً كان على بصيرةٍ، مما يريد مِن نفى الولد. وهذا كُلُّهُ إذا كانت الزوجة مِمن تحيض. وإن كانت مِمن لا تحيض مِن صِغَرٍ أو كِبرٍ، فإنَّهُ يجوز أن يُطلقها في طُهرٍ قد مسَّ فيه. وقوله: ثُمَّ يتركها حتى تمضى [لها] (¬4) ثلاثة [قروء] (¬5) ولا يتبعها في ذلك طلاقًا، احترازًا مِن أن يُطلقُها عند كُل طهرٍ، طلقة، وهو طلاقُ السنَّةُ عند أبى حنيفة. وقد اختلف المذهب عندنا، هل يجوز للزوج أن يُطلقها عند كُلِّ طهرٍ طلقة أم لا؟ على قولين: ¬

_ (¬1) في أ: جامع فيها. (¬2) في هـ: تنظر. (¬3) في أ: انتظر. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من هـ.

أحدهما: أنَّهُ لا يجوز. والثانى: أنَّهُ جائز، وهو قولُ أشهب، وهو تفسيرُ مالك لقراءة ابن عمر [في الموطأ] (¬1): "فطلقوهن لقبلِ عدتهنَّ" (¬2). وقال مالك: فيما رواهُ يحيى بن يحيى، وهو أن يُطلِّق في كُلِّ طهرٍ طلقة، وقد أنكر هذا على يحيى، إذ ليس بمذهب مالك ولم يروه غيره، وطرحهُ ابن وضَّاح، وإن ما في موطأ ابن القاسم: فتلك العدَّة أَنّ يطلق الرجلُ المرأة في طهرٍ لم يمس فيه. والمذهب المشهور الذي عليه الجمهور أنَّ: ذلك لا يجوز، لأن الطلقة الثانية والثالثة لا عدَّة لها. وكُلُّ طلاقٍ يُتصوَّر في مدخولٍ بها ولم تعقبهُ العدَّة فهو بدعة، وعليه [ينبنى قول] (¬3) توزيع الطلقات الثلاثة على الأقراء الثلاث. خلافًا لقول ابن مسعود ومَن تابعهُ مِن أهل المذهب. وما تقدَّم هو المذهب الصحيح، وهو مُطابقٌ للقُرآن: قال الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬4) أي: في موضع يعتدون منهُ، فالطلقة الثانية والثالثة لغير عدَّة. وقولُهُ: فإذا دخلت في الدم مِن الحيضة الثالثة، فقد حلَّت للأزواج وبانت مِن زوجها الذي طلقها. وهذا ردٌّ على مَنْ يقول مِن أهل المذهب: إنَّها لا تحلُّ حتى تستمرَ الحيضة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه مالك (1221) والشافعى (462) والبيهقي في "الكبرى" (14680). (¬3) سقط من أ. (¬4) سورة الطلاق الآية (1).

وقد استوعبنا الكلام فيها، وفي الأقراء [هل] (¬1) هى الأطهار، في "كتاب إرخاء الستور" [ولا نزيد] (¬2) عليه. بالله التوفيق [والحمد لله وحده وصلى الله على محمَّد نبيه] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ بما لا مزيد. (¬3) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الثانية فيما يحل للزوج من زوجته قبل أن يسترجعها إذا طلقها طلاقا رجعيا

المسألة الثانية فيما يحلُّ للزوج من زوجته قبل أنْ يسترجعها إذا طلقها طلاقًا رجعيًا [و] (¬1) لا خلاف أنَّهُ لا يجوزَ له مباشرتها إذا لم يقصد بذلك رجعتها، ولا النظر إليها متجردة، وهل يجوز لهُ الدخول عليها والنظر لها في العِدَّة؟ [فالمذهب] على ثلاثة أقوال كُلّها قائمة مِن "المُدوّنة": أحدها: أنَّهُ لا يجوز له الدخول عليها، ولا التلذذ منها بنظرة ولا بغيرها، حتى يُراجعها، فإن كان معها في البيت فلينتقل عنها، وهذا القول الذي رجع إليه مالك رحمه الله. والثانى: أنَّهُ يجوز لهُ الدخول عندها والأكل معها، إذا كان مِمن يتحفظ بها، ولا يتلذَّذ منها بشىءٍ لا بنظرة ولا [يقربها] (¬2) ولا ينظر إلى شعرها، ولا إلى شىءٍ من محاسنها، ولا ينظر إلى وجهها إلا كما ينظر إليه الأجنبى. وهو ظاهر قولُ ابن القاسم في "المُدوَّنة" حيثُ قال: ليس لهُ أن يتلذَّذ منها بشىءٍ، وإن كان يُريد مراجعتها حتى يُراجعها. وهذا يدلك على الذي أخبرتُك أنهُ كره أن يخلو معها [أو يرى شعرها] (¬3) أو يدخُل عليها حتى يُراجعها. وهذا ظاهر، لأن الدخول عندها والخُلوة معها، ذريعة إلى النظر [إلى] (¬4) شعرها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: غيرها. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: في.

والقول الثالث: أنَّهُ يجوزُ لهُ أن يتلذَّذ منها بالنظر، وإن لم يرتجع، وأنَّهُ يجوز لهُ النظر إلى شعرها وإلى معصميها [وإلى ساقيها] (¬1). وهذا تأويل الشيخ أبى الحسن اللخمى على "المُدوّنة" مِن قول ابن القاسم وليس لهُ أن يتلذذ منها بشىءٍ ثم قال: وهذا يدلُّك على الذي أَخبرتك أنهُ كره أنْ يخلو معها، ويرى شعرها، فرأى أن: يتلذذ منها بالنظر إليها، في القول الذي جوز لهُ الدُخول عليها والأكل معها. والذي قالهُ ظاهر، لأن إباحة الدُخُول عليها يُشعِر بإباحة النظر إلى شعرها وإلى أطرافها، لأنَّ العادة أنَّ المرأة إذا استخلت في بيتها وحدها: فإنَّها تكون فضلًا بادية الأطراف. وأمَّا غيرُهُ مِن الأشياخ، كأبى القاسم بن محرز وغيرهُ من حُذّاق المتأخرين: فإنَّهم أبوا عن ذلك، وقالوا: لا يصح دخول الخلاف في التلذُذ بها والنظر إلى شعرها، وإنَّما الخلاف في الدُخولِ عليها والأكل معها خاصة، ولاسيَّما وقد شرط في القول بإجازة الدُخول عليها أن يكون عندها مَنْ يتحفظ وكيف يتمكَّن مِن الالتذاذ والنظر إلى المحاسن مع حضور [القريب] (¬2). وهذا الذي قالوهُ أيضًا ظاهر المُدوّنة إلا أنَّ الذي عليه الفُتيا: لا يجوزُ النظر إلى شىءٍ من ذلك، حتى يُراجع، لأنَّ ذلك مُحرّم بالطلاق. وسببُ الخلاف: الحماية، هل تحمى أو لا تحمى؟، إذ لا خلاف عندنا أنَّ الذريعة تُحمى. واختُلف في حمايتها هل تُحمى أو لا تُحمى؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: الرقيق.

فمن رأى أنَّها تحمى، قال: يُمنع الزوج مِن الدخول عليها، لأنَّ الدُخولَ عليها ذريعة إلى النظر إليها والالتذاذ بها، والنظر والالتذاذ ذريعة إلى الإلمام بها. فمن رأى أنَّ الحماية لا تُحمى، قال: بجواز الدخول عليها. وهذا أصلٌ بديعُ بُنيت عليه فُروع كثيرة ينبغى للطالب أن يتفطَّن له، والوقوف على حقيقته، فإنَّهُ مِن أخفى الخفيات، ورُبما نزيدُ لهُ الوضوح والبيان في "كتاب الآجال" بما هو أبلغ مِن هذا، إن شاء الله. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الثالثة في المعتدات

المسألة الثالثة في المُعتَّدات: والعدة ضربان: طلاق ووفاة. والمُعتدات مِن طلاق ينقسمن إلى حرائر وإماء: فالحرائر ينقسمن إلى حوامل وحوائل: فأمَّا الحوامل: فأجلهن الوضع بلا خلاف، لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. والحوائل ينقسمن إلى القواعد والحُيَّض: فالقواعد عدَّتهن ثلاثة أشهر، بلا خلاف، وسواءٌ كانت قاعدة لصِغَر أو قاعدة لكبر [لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}. والحيض منهن ينقسمن] (¬1)، إلى من لها عادة مطردة، وإلى مَنْ عادتها مضطربة: فالتى عادتها مُطَّردة تتربَّص لِنفسها ثلاثة قُروء، بلا خلاف، لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. والتي اضطربت عادتها وما اطَّردت، فيختلف الدم عن عادتها، فلا يخلو تخلُّفهُ مِن أن يكون لِعلة أو لريبة: فإن تخلف الدم لِعلَّة: فإنَّها تنتظر حتى تزول تلك العلة: ويُعاودها الدم أو تمرُّ بها سنة بيضاء بعد زوال العلة: وأما الرضاع فلا خلاف. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وأمَّا المرض على الخلاف بين ابن القاسم وأشهب. [لأن ابن القاسم] (¬1) وعبد الله بن عبد الحكم وأصبغ، قالوا: عدَّتها سنة في حالِ مرضها، إذا لم تر حيضًا، وفرّقوا بينها وبين المُرضع: لأن المريضة لا دم عندها أصلًا، والمُرضع عندها دم إلا أنَّهُ استحال [لبنًا] (¬2). وأشهب يُساوى بين المريضة والمُرضعة في انتظار الدم، بعد ارتفاع العِلَّة أو تمر بها سنة بيضاء [بعد زوال العلة لا دم فيها] (¬3). فإن كان التخلف لريبة، فلا تخلو تلك الريبة مِن أن تكون بتأخير الحيض أو بالحسِّ والحركة، فإن استبرأتْ بالتأخير أو لكونها مُستحاضة، وكانت ممن لا [تمييَّز] (¬4) لها بين دم الحيض ودم الاستحاضة: فقد اختلف المذهب فيها على خمسةِ أقوال كلها قائمة مِن "المُدوَّنة": أحدها: أنَّها تنتظر ثلاثة أشهر، لأنَّهُ أدنى ما يَظهرُ فيه الحملُ في البطن إنْ كان، وهو نص قول ابن القاسم في "المستحاضة" في أول "كتاب الاستبراء" مِن "المُدونة"، وهو ظاهر قولُهُ أيضًا في "المستبرأة" في "كتاب العِدَّة": إذا تزوجها في عدَّة وفاة، حيث قال: يبرئُها مِن الأوَّل أربعة أشهرٍ وعشرًا، فظاهرُهُ: لو كانت عدَّتها مِن طلاق، لكانت الثلاثة أشهر [تبريها إذ لا يجوز لها في الوفاة الاقتصار دون الأربعة أشهر] (¬5) وعشرا، وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، هـ: تميز. (¬5) سقط من أ.

اختيار الشيخ أبى الحسن اللخمى - رضي الله عنه -. والثانى: أنَّ عدتها أربعة أشهر [وعشرا] (¬1)؛ لأنَّهُ أدنى ما يتحرك فيهِ الولد في البطن إن كان، وهذا القولُ يُؤخذ مِن المسألة التي ذكرناها في الوفاة، حيث قال: أربعة أشهرٍ وعشرًا تبرئها، وهو مَرْوىٌ عن مالك - رضي الله عنه -. والثالث: [أنها تتربص] (¬2) إلى ستةِ أشهر، وهو أدنى أمد الحمل في النادر: ثلاثة أشهر استبراء وثلاثة أشهر عِدَّة، وهو قولُ الداودى، وهو ظاهرُ "المُدوّنة" مِن غير ما موضع. والرابع: أنَّها تنتظر إلى تسعة أشهر، وهو نصُّ "المدوّنة". والخامس: التفريق بين [المُرتابة] (¬3) والمُستحاضة: فالمستحاضة: بثلاثة أشهر. و [المرتابة] (¬4): بسنة، وهو ظاهر قولُهُ في [أول] (¬5) "كتاب الاستبراء" لأنَّهُ قال فيه: في المستحاضة إذا لم تبرئُها ثلاثة أشهر، انتظرت إلى تسعة أشهر كالمسترابة، فجعل المُسترابة أصلًا، ولابُدَّ لها مِن تسعةِ أشهر، ولأَنَّ السنة فيها وردت أيضًا بقولِ عُمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو نصُّ قولُ الغير في "كتاب العدَّة" مِن "المُدوّنة" إلا أنَّهُ جعل هو الاستحاضة أصلًا والمُسترابة فرعًا. فعلى القول: أنَّ العِدَّة والاستبراء يتداخلان، فيحملهما المقدار ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أنهما يتربصان. (¬3) في هـ: المسترابة. (¬4) في هـ: المسترابة. (¬5) سقط من أ.

المذكور. وعلى القول: بأنَّهما لا يتداخلان، فلابد مِن [زيادة] (¬1) ثلاثة أشهر على كل قول فتكونُ الثلاثة الأشهر عدَّة، وما قبلها اختبار. وسببُ الخلاف: بين الستة الأشهر والتسعة، هل النظر إلى أمد الحملِ في الغالب أو النظر إلى أمدِ الحمل على الجُملة وإن كان نادرًا؟ ومثارًا لخلاف بين التسعة والثلاثة: اختلافهم في الريبة التي ذكرها الله تعالى في كتابهِ، هل المُراد [بها] (¬2) ريبة ماضية أو ريبة مستقبلة؟ فالريبة الماضية: هى ريبة الصحابة رضي الله عنهم في الحُكم، وذلك أنَّ الله تعالى بيَّن حُكم ذوات الحمل، وبيَّن حكم ذوات الحيض وبين حكم القواعد، فاسترابوا في حُكمين، وهو أحسن وأمَّا الريبة المُستقبلة: لا يدرى هل تحيض أو لا تحيض. ومَن حملها على الريبة الماضية، كما هو مشهور مذهب مالك رضي الله عنه، فيقول: عِدَّتها ثلاثةُ أشهر. وَمَن حملها على الريبة المُستقبلة: فينبغى أن تُنتظر الريبة حتى تذهب الريبة أو تنتهى إلى سنِّ مَن لا تحيض، كما هو مذهب الشافعى [رضي الله عنه] (¬3). و [أما] (¬4) مالك رضي الله عنه فقد عكس الحُكمَ في ذلك على مشهور مذهبه، إذ لم يُطابق مذهبهُ تأويل الآية. فإنَّهُ قد فهم من اليائسة هنا: مَن يُقطَع على أنها ليست مِن أهل الحيض، وهذا لا يكوَن إلا مِن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من جـ، ع، هـ. (¬4) سقط من أ.

قبلِ السنِّ. ولذلك جعل قوله "إن ارتبتم" راجعٌ إلى الحكم لا إلى الحيض. أي إن شككتم في حُكمهن. ثُمَّ قال في التي تبقى تسعة أشهر [و] (¬1) لا تحيض [وهى في سن من تحيض] (¬2) أنَّها: تعتدُّ بالأشهر. وأمَّا إسماعيل القاضى وابن بكير مِن أصحاب مالك: فذهبوا إلى أنَّ الريبة هاهنا هى الحيض، وأنَّ اليائس في كلام العرب: هو ما يُحكم عليه بما [يسبق] (¬3) منهُ بالقطع. فطابقوا [بتأويل الآية] (¬4) مذهبهم الذي هو مذهب مالك، ونعم ما فعلوا، لأنَّهُ: إنْ فُهم مِن هاهُنا أنَّ اليأس: القطع، فقد يجبُ أن تنتظر الدم وتعتدُّ بِهِ، حتى يكونَ في هذا السِّنِّ أعنى سن اليأس. فإن فُهم مِن اليأس: ما لا يُقطع بالقنوط، فيجبُ أن: تعتدَّ التي انقطع دمها عن العادة بالأشهر، إذ هى في سنِّ مَنْ تحيض، وهو قياس أهلُ الظاهر: لأنَّ اليائسة في الطرفين، ليس هى عندهم مِن أهل العدة [لا] (¬5) بالأقراء ولا بالشُهُور. وأمَّا مثار الخلاف بين القول بالثلاثة الأشهر، والقولُ بالأربعة فإنَّهُ: يرجعُ إلى الظُهور والحركة أيُّهما أقوى. فمن نظر إلى أنَّ الحركة أقوى، لما في الظهور مِن الريبة: أن يكون ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: يئس. (¬4) في أ: بالآية. (¬5) سقط من أ.

ذلك ريحًا فينفش أو لا يظهرَ أصلًا [قال بالأربعة] (¬1). ومَن نظر إلى تحديد الشارع هذا القول في الثلاثة الأشهر: فجعلها بدلًا مِن ثلاثةِ قُروء، اعتمدها وقال بها. ومَن فرق بين المستحاضة والمُسترابة فيهِ: فيقول: المُسترابة أصل بنص قولِ عمر رضي الله عنهُ، و [المستحاضة] (¬2) حملها بتمييز الدم إن أمكن، لا يُحكم الشرع كما هو أصل عند [أهل الأصول] (¬3). وأمَّا [المسترابة] (¬4) بحس بطن وبحركة في بطنها، فالمذهب [فيها] (¬5) على أربعة أقوال كلها قائمة مِن "المُدوّنة": أحدها: أنَّها تنتظر إلى أربع سنين، وهو قوله مالك في "كتاب العدَّة"، وفي "كتاب العِتق الثانى" مِن "المُدوَّنة". والثانى: أنَّها تنتظر إلى خمسِ سنين، وهو قولُ ابن القاسم في "كتاب العدة". والثالث: أنَّها تنتظر إلى سبع سنين، وهو ظاهر "المدونة" أيضًا لاستدلاله بامرأة العجلانى، وهو قولٌ منصوصٌ عليه في "المذهب" [وهى رواية أشهب عن مالك في المدونة] (¬6). والقول الرابع: أنَّها تنتظر أبدًا، حتى تذهب الريبة عنها أو تضع، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: والمسترابة والصواب ما أثبتناه من ب. (¬3) في هـ: الأصوليين. (¬4) في أ: المستبرأة. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

وهو قولُ أشهب [عن مالك وقال أصبغ] (¬1): إذا جاوزت الخمس: فقد احتيط لها، وينزل على [أنها] (¬2) ريح. وهذا الخلاف: لا مُستند له في الأدلة الشرعية، وإنَّما ينبنى على الاستحسان واعتبار القياس المصلحى الذي اعتمدهُ مالك، وهو قياسٌ ضعيفٌ عند الأصوليين لم يعتمدهُ إلا مالك رضي الله عنه، على ما ذكرهُ أبو المعالى. وهذا كله إذا لم تذهب الريبة قبل ذلك فترجع إلى حكم المرتابة بتأخير الحيض. فإن ذهبت الريبة قبل تمام السنة في [عدة] (¬3) مِن طلاق تربَّصت إلى إتمام السنة. وإن كانت مِن وفاة تربَّصت إلى [حكم] (¬4) أربعة أشهر [وعشرا] (¬5). إلا أن يكون ذهاب ريبة الحمل بعد السنة في الطلاق، وبعد أربعة أشهرٍ وعشرًا في الوفاة، [فتحل] (¬6) مكانها، وإن ذهبت ريبة الحمل ورأت الحيض رجعت إلى أحكام الحيض. وأمَّا الإماء: فينقسمن إلى معتدَّة مِن طلاق أو مُعتدَّة مِن [وفاة] (¬7) سيدها: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أن. (¬3) في أ: علة. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: فيحمل. (¬7) سقط من أ.

فالمعتدة من طلاق: هى كالحرة في جميع ما [تقدم] (¬1) حرفًا حرفًا إلا في الأقراء: فإن الأمةَ فيها على النصف مِن الحُرَّة. غير أنَّ مالكًا قال: يستكمل على الأمة حيضتان، لأنَّ الحيضة الواحدة لا تتبعض. وذلك منهُ جنوحٌ إلى أن الأقراء: هى الحيض، كمذهب العراقيين. وإلا فعلى مذهبه، أنَّ الأقراء: هى الأطهار، ينبغى أن تكون عندهُ الأمة في الطلاق قرءٌ ونصف قرء، لأنَّ الطهر [مما] (¬2) يتبعض. والاعتراض بذلك على المذهب واقعٌ جدًا. وأمَّا المعتدَّة مِن [سيدها] (¬3): كأُم الولد يعتقها سيدها أو أعتق أمة كان يطأها، هل ذلك عِدَّة أو استبراء: فالمذهب على قولين منصوصين في "المُدوّنة" في "كتاب العدة". وأما [المعتدات] (¬4) من وفاة: فينقسمن إلى حوامل وحوائل: فالحوامل: هل يحلهن الوضع أو لابد مِن أقصى الأجلين؟ فالمذهب على قولين حكاهما أبو عبد الله المازرى في المذهب. والمشهور أنَّ الوضع يحلهن. وسبب الخلاف: تعارض العمومين: عموم قوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلهنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهنَّ}. وعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. ¬

_ (¬1) في ع، هـ: ذكرنا. (¬2) في أ: لا. (¬3) في أ: سيد. (¬4) في أ: المعتدة.

إلا أن حديث سبيعة الأسلمية عضَّد أحد العمومين، فرجَّح على الآخر به [على] (¬1) مشهور المذهب [والحوائل: حرائر وإماء] (¬2). وأمَّا الحرائر فعلى ضربين: مدخولٌ بِهنَّ وغيرُ مدخولٍ بهنَّ: فغيرُ المدخول بهنَّ عليهن [العدة] (¬3) أربعة أشهرٍ وعشرًا، على أيِّ صفةٍ كانت المعتدة منهنَّ، صغيرة أو كبيرة، مسلمة أو كتابية. والإحداد على جميعهنَّ إلا الكتابية، ففيها قولان منصوصان في "المدوّنة": أحدهما: [أن عليها الإحداد] (¬4)، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنَّها لا إحداد عليها، وهو قولُ ابن نافع. وسبب الخلاف: الكفار، هل هم مُخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ وينبنى الخلاف أيضًا على اختلافهم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحلَّ لامرأةٍ تُؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاث ليال إلا على زوج فإنَّها تحدَّ أربعة أشهر وعشرًا"، هل خرج ذلك مخرج الغالب أم هو مقصورٌ على المؤمنات دون المُشركات [و] (¬5) الكتابيات؟ فأمَّا المدخولُ بهنَّ: فلا يخلو حال المعتدة منهنَّ من ثلاثة أوجه:- أحدها: أن يمر بها زمان حيضتها في عدتها [فحاضت] (¬6)، فهذهِ لا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: أنها تحتد. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

خلاف أنَّها تحلُّ بانقضاء أربعة أشهر [وعشرا] (¬1). والثانى: أنْ تنقضى عدَّتها قبل أن يأتى [عليها] (¬2) زمان حيضتها، كالتى تحيض من خمسة أشهر إلى خمسة أشهر، فهل تُحلُّ بانقضاء العدّة أو تنتظر الحيضَة؟ قولان: أحدهما: أنّها تحل ولا تنتظر الحيض، وهو قول ابن القاسم، وهو المشهور وهو ظاهر المُدوّنة. والثانى: أنَّها تنتظر الحيض ولا تحلُّ بها، وهو قولٌ ضعيف، عزاهُ أهل المذهب إلى ابن كنانة. والوجه الثالث: أن يمر عليها زمان حيضتها، فرفعتها حيضتها [فلم تحض] (¬3)، فلا يخلو من أن يكون لعذرٍ أو لغير عذر: فإن كان ذلك لعُذر: فإنَّها تحلُّ بانقضاء العِدَّة مِن غير اعتبار بالحيضة إن كان الرفع لأجل [الاعتراض] (¬4) بالرضاع [بالاتفاق] (¬5). أو لأجل المرض: على الخلاف. فإن كان ارتفاعها لغير عُذرٍ، فالمذهب فيها على أربعة أقوال: أحدها: أنَّ عدتها أربعة أشهر وعشرًا، كانت مستبرأة أو مستحاضة. والثانى: أنَّها تنتظر ستة أشهر. والثالث: أنَّها تنتظر تسعة أشهر. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. جـ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في هـ: بلا خلاف.

والرابع: التفصيل بين [المسترابة والمستحاضة] (¬1): فالمرتابة: لابدّ لها من تسعة أشهر. ومثارُ الخلاف: ما تقدَّم. وأما الإماء: فلا يخلو مِن أن تعتد من وفاةِ زوج أوْ مِن وفاة سيد: فإن كانت العدَّة من وفاة زوج: فعدتها شهران وخمس ليال مع الإحداد فإن كانت العدة مِن موت السيد: كأُم الولد، يموت عنها سيدها فالمذهب على أن عدّتها حيضة واحدة. وهل عليها الإحداد أو لا إحداد عليها؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدونة": قال في موضعٍ منها: لا تبيتُ إلا في بيت سيدها، ولها السُكنى على الورثة حتى تحل، وظاهر هذا [يعطى] (¬2) أنَّ عليها الإحداد. وأن حكم هذه الحيضة حُكم العدَّة، وقد نصَّ في "المُدوّنة" على أنَّ هذه الحيضة عِدة لها، لأنَّهُ قال: فيما إذا غاب سيدها ثُمَّ حاضت بعدهُ حيضًا كثيرًا ثُم مات، فقال: لابُدَّ لها مِن استئناف حيضة، لأنَّها لها عدة. وقال في موضع آخر: لا إحداد عليها. وسبب الخلاف: هل حُكم هذه الحيضة، حُكم العدَّة، أو حُكمها حكمُ الاستبراء؟ [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: الاسترابة والاستحاضة. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الرابعة في أم الولد إذا مات زوجها وسيدها، [ولا يعلم أولهما موتا]

المسألة الرابعة في أم الولد إذا مات زوجها وسيِّدها، [ولا يعلم أولهما موتًا] (¬1): قلتُ: أرأيت أم الولد إذا مات سيدها وزوجها، ولا يُعلم أولهما موتًا، ما عِدَّتها في قول مالك؟ قال ابن القاسم: عدّتُها أربعة أشهر [و] (¬2) عشرا، مع حيضة في ذلك لابدَّ منها. قال سحنون: وهذا إذا كان بين الموتين أكثر مِن شهرين وخمسُ ليالِ، وأمَّا إن كان بين الموتين أقل مِن شهرين وخمسِ ليالٍ: اعتدَّت أربعة أشهرٍ وعشرًا [فقط] (¬3). فهذا نصُّ المسألة في "المُدونة". وقد اضطربت آراء المتأخرين في تأويل هذه المسألة وتنزيلها على وِفق مذهب ابن القاسم، واختلافهم في الحيضة: هل تلزمها أو لا تلزمُها؟ فمنهم مَن قال: لا [تلزمها] (¬4) الحيضة أصلًا، كان بين الموتتين أكثر مِن شهرين وخمسِ ليالٍ أو أقل، ويكفيهما في الأمرين: أربعة أشهر وعشرًا مِن آخرهما موتًا إلا أن تتأخر حيضتها في الأربعة الأشهر والعشر لغير عُذرٍ، فتُقيمُ إلى تسعةِ أشهر [من آخرهما موتًا في كلا الأمرين. فإلم يأت وقت حيضتها حتى مضت لها أربعة أشهر وعشرا كفاها ذلك] (¬5)، ¬

_ (¬1) في ع، هـ ولم تعلم بأيهما مات أولًا. (¬2) في أ: مع. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: تجب عليها. (¬5) سقط من أ.

على مذهب ابن القاسم. وانتظرت [الحيضة] (¬1) على مذهب ابن كنانة حتى يأتى أو يمضي عليها تسعة أشهر. وهذا تأويل الشيخ أبى إسحاق التُونسى [قال] (¬2): وبيان ما قُلناهُ: أنَّهُ إذا كان بين الموتتين أقل مِن شهرين وخمسِ ليالٍ. فإن قدَّرنا أنَّ الزوجَ مات أولًا: كان عليها شهران وخمسُ ليالٍ إنْ حاضت فيها، فإن لم تحض فثلاثة أشهر. فإن لم يأت وقت حيضها في الثلاثة الأشهر: حلَّت، على قولٍ، وانتظرت تسعة أشهرٍ على قولٍ. إلا أن تحيض قبلها، ثمَّ لا عِدة عليها من السيد؛ لأنَّها: لم تحل لهُ بعد. فإن قَدَّرنا أنَّ السيِّد مات أولًا: فلا عِدَّة عليها منهُ، لموتهِ وهي تحت زوج، ثمَّ عليها عِدّة زوجها: أربعة أشهرٍ وعشرًا، عدَّة حُرَّة. فإن لم يأت وقتُ حيضتها فيها: حلَّت عن ابن القاسم وانتظرت تسعة أشهرٍ عند غيرهِ. فإن كان بين الموتتين أكثر مِن شهرين وخمسِ ليالٍ: فإن قدَّرنا أنَّ موت الزوج أولًا: فعدَّتُها شهران وخمسُ ليالٍ على ما تقدم، مِن أن تحيض أو تأخرت الحيضة، فلا تكرار. فإن قدّرنا أنها قد حلَّت للسيد بعد موت الزوج بحيضة حاضتها في الثلاثة الأشهر أو تمضى ثلاثة أشهر، ولم يأت وقت حيضتها على قول ابن القاسم، ثُمَّ مات السيد بعدَ أن حلَّت له: فإنَّها تجبُ عليها [حيضتان. فإن لم تحض فثلاثة أشهر. فإذا جعلنا عليها من يوم مات الآخر أربعة ¬

_ (¬1) في أ: الحيض. (¬2) سقط من أ.

أشهر وعشرا من الحيضة التي تجب عليها] (¬1) لموت السيِّد بعد أن حلَّت لهُ، إذ تأخير الحيض إنما يجب عليها ثلاثة أشهر فقط. فإن قدرنا أن السيد مات أولًا: فلا شيء عليها مِن عِدَّة السيِّد، لأنَّهُ مات وهي تحت زوجٍ. فإن مات الزوج بعد ذلك: فعليها عِدَّة الحُرَّة أربعة أشهر وعشرًا. ومنهم من سلك مسلك التقسيم، فقال: لا يخلو [أمر] (¬2) هذهِ [الأمة] (¬3) مِن أن تكون عادتها، أن ترى الحيض في مقدار هذه الأشهر أو لا تراهُ إلا بعدها: فإن كانت مِمن لا ترى [الحيض] (¬4) إلا بعد الأشهر: فلابد لها مِن الحيضة بعد أن تعتد بالأربعة الأشهر والعشر مِن يوم مات الآخر منهما، إذا لم يُعلم متى مات الزوج. وإن كانت ممن ترى الحيض في مقدار تلك الأشهر التي تعتدُّ بها: فإن رأتها فيها: أجزأت عنها. فإن لم ترها فيها: بلغت إلى تسعة أشهرٍ، عِدَّة [المُسترابة] (¬5) من آخرهما موتًا، وناب لها ذلك عن الأمرين جميعًا، لأنَّها مسترابة مِن نكاح، والتسعة أشهر تنوب عن استبراء الملك. فلو كان بين الموتتين أكثر مِن شهرين وخمسِ ليالٍ، وادّعت أنَّها لم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: من. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في هـ: المرتابة.

تحض في تلك المُدَّة، أرادت أن تُسقط عن نفسها العدَّة مِن سيدها، لأنها تكون بزعمها: إذا لم تحض، لم تحل للسيد: فإن سُمع ذلك منها في حياة سيِّدها صُدِّقت الآن وإلا لم تُصدَّق، لأنّها تُتهم إذا لم يُسمع ذلك منها، أنْ تُسقط عن نفسها ما لزمها مِن الاعتداد للسيِّد في حق الحُكم الظاهر لغالب العادة: اعتبارًا بما قالهُ مالك فيمن طلَّق زوجتهُ فأقامت مدة طويلة، فزعمت أنَّها لم تحض إلا حيضة واحدة، وقد مات الزوج، فقال مالك: إن كانت تذكر [ذلك] (¬1) في حياتهِ صُدِّقت وإلا لم تُصدق، فاتهمها على طلب الميراث، لمَّا كان الظاهر مِن أمرها أنَّها قد بانت قبل موتهِ. ومنهم مَن قال: يتخرج ما قاله في هذه المسألة على رواية ابن وهب عن مالك في كتاب [الاستبراء] (¬2) في التي ارتفع دمُها مِن الإماء أنَّ عليها تسعة أشهرٍ إذا بيعت. وأمَّا على قول ابن القاسم الذي يُبرئها بثلاثة أشهر: فلا حيضة عليها. وإن كان بين الموتتين أكثر مِن شهرين وخمسِ ليالٍ: وذلك أنَّهُ إذا كان موتُ الزوج أولًا: فتكونُ الحيضة عليها بعد موت السيد إذ موتُهُ بعد الشهرين وخمسِ ليالٍ: فهي [من] (¬3) آخر الموتتين تستقبل أربعة أشهرٍ وعشرًا كما بيناهُ. فهذه الأربعة الأشهر والعشر التي تستقبلها، إنْ عدمت فيها الحيضة فقد زادت [على ثلاثة أشهر التي تبرئها عند ابن القاسم إذا لم تر الحيضة فتستغنى عن الحيضة على قوله وصريح مذهبه وأما الجواب الذي أجابه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

على] (¬1) المسألة، [فهو] (¬2) [على] (¬3) رواية ابن وهب. ووجهُ ما قالهُ ابن القاسم في الكتاب أن يُقال يُحتمل أن يكونَ الزوج مات أولًا، فيجب عليها في الوفاة شهران وخمس ليالٍ: فإذا كان بين الموتتين أكثر مِن شهرين وخمسِ ليالٍ فقد حلَّت للسيِّد، في هذا الوجه بمضى عدَّتها مِن زوجها، ثُمَّ بموت السيِّد وجبت عليها حيضة، ثُمَّ يقول: يُحتَمل أن يكون السيِّد مات [أوَلًا] (¬4) فتكونُ حُرَّة، ثُمَّ مات زوجها، [فوجب عليها] (¬5) أربعة أشهر وعشرًا عِدَّة الحرائر. فلما كان الوجهان لا يُدرى بأيُّهما تخاطب بهِ مِنهما، جمعت [عليها] (¬6) الأمرين. وأما إذا كان بين الموتتين أقلُّ من شهرين وخمسِ ليالٍ [أو شهران وخمس ليال] (¬7)، سواء فالزوج إن كان هو الميت أولًا، فهي لم تحل للسيد بعد [لكونه] (¬8) مات، ولم تخرج من العدَّة، فلم تجب عليها حيضة: فأوجبنا عليها أربعة أشهرٍ وعشرًا فقط، لاحتمال [موت] (¬9) السيِّد أولًا، فيكون عليها عدَّة الحرائر بموت زوجها آخرًا. فهذا معنى قول ابن القاسم، وتفسير سحنون في الكتاب. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فهي. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: فعليها. (¬6) في أ: عليه. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: لكونها. (¬9) سقط من أ.

قُلتُ: وهذا الذي ذكرهُ ابن القاسم [وسحنون] (¬1) في الكتاب، وكُلُّ مَن تكلم على هذه المسألة، ونَقلْنَا كلامَهُ إنَّما تكلَّمُّوا على وجهٍ واحد في المسألة وهو أنَّ الإباحة تقومُ مقام الفعل، وعليه بنوا. وأمَّا على الوجهِ الآخر: الذي نقول فيهِ أن الإباحة لا تقوم مقام الفعل فلا حيضة عليها بوجهٍ ولا حالٍ، إلا أن تُقرَّ بإصابة السيد أو تشهد البينة على إقرار السيِّد بالإصابة، بعد انقضاء عِدّتها مِن الزوج، وقد كان بين الموتين أكثر مِن شهرين وخمسِ ليالٍ. والقولان: قائمان من "المُدوَّنة" في الإباحة، هل تقومُ مقام الفعل أم لا [من هذا الكتاب ومن كتاب النكاح الثالث فقد جعل الإباحة في هذه المسألة تقوم مقام الفعل] (¬2) لأنَّهُ ما [أوجب] (¬3) عليها للسيد حيضة إلا لكونها حلَّت لهُ. وفي كتاب النِّكاح [الثالث] (¬4) خلاف هذا، فيما إذا زوَج أم ولده، ثُمَّ وطئ أختها، ثُمَّ رجعت إليه أُم ولدهِ، ثم قال أنَّهُ يتمادى على وَطء التي عندهُ ولا يضرُّهُ رُجوع أُم الولد عندهُ، وهو معلومٌ أنَّها رجعت إلى فراشها، فكان الذي ينبغى: أن يوقف عن التي عندهُ حتى يُحرِّم فرج إحداهما؟ لكون أُم الولد رجعت إلى فراشها فصارت مُباحةً لهُ. ويُؤخذ مِن قولِ أشهب، مِن "كتاب الاستبراء" أيضًا: أنَّ الإباحةَ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

تقومُ مقام الوطء، فيما إذا تزوَّج امرأةً وتحتهُ أختُها يطؤها يملكِ اليمين، فقال أنَّ النكاح جائز، وعقدُ النكاح تحريم لها. [وقد] (¬1) أغفل المتأخرون [عن] (¬2) هذا الوجه ولم يتكلموا عليه. واختلف المتأخرون في هذه الأمة، إن جاءت بولد، هل لها أن تلحقهُ بمن شاءت منهما أم يكون لاحقًا للزوج؟ على قولين وينبنى الخلاف على الخلاف الذي قدمناهُ في الإباحة [هل تقوم مقام الفعل؟ فمن رأى أن الإباحة تقوم مقام الفعل قال: تلحقه بمن شاءت. ومن رأى أن الإباحة] (¬3) لا تقوم مقام الفعل، قال: الولد لاحقٌ للزوج دون السيد، لأنَّ فراش الزوج متيقَّن، [ومن رأى أن فراش الزوج غير متيقن] (¬4) وهو ظاهر "المُدوّنة": فيمن تزوّج امرأةً في عِدَّتها ولم يدخل بها، ثُمَّ أتت بِولد أنَّ الولد يلحق بالأول دون الثاني لأنَّهُ لم يطأها، ولم يُعلم دخولَهُ بها، وكان فراشُ الأول أحقَّ منهُ، لأنَّهُ أثبت حُرمة وأقوى شبهة. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: عنه. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

المسألة الخامسة في النكاح في العدة: ولا يخلو ذلك من وجهين

المسألة الخامسة في النكاح في العدَّة: ولا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون [ذلك] (¬1) في عدةٍ مِن نكاحٍ أو شُبهة نكاح. والثانى: أن يكون في استبراء، وما هو في حكم الاستبراء، كعدَّة أُم الولد مِن وفاةِ سيِّدها. فإن كان في عِدَّة نكاح أو شُبهة نكاح، فلا يخلو مِن وجهين: أحدهما: أن تكون في عدَّةٍ مِن وفاةٍ أو طلاقٍ بائن. والثاني: أن تكون في عدَّة مِن طلاقٍ رجعى. فالجواب عن الوجه الأوَّل: إذا كانت العدَّة مِن طلاقٍ بائنٍ أو مِن وفاة، فلا يخلو ما فعلهُ في العدَّة مِن أربعة أوجه: إما التعريض. وإما الوعد. وإما المُواعدة. وإما وقوع العقد. فإن كان ما أحدثهُ تعريضًا [فله ذلك] (¬2) بالاتفاق، لقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} مِثل: أن يقول [لها] (¬3) إنيِّ بك مُعجب وأنا لك مُحب وإني للآتي خيرًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فذلك جائز له فعله. (¬3) سقط من أ.

واختُلف في الهدية فأجاز في "المُدوّنة" أنْ يهدى لها. [ومنعها] (¬1) ابن حبيب في غير "المُدوّنة". فإن كان ما أحدثهُ في العدَّة الوعد فذلك مكروهٌ [له] (¬2) بالاتفاق ابتداءً لما يُتقى فيه مِن البراء المؤدى إلى مُخالفة الوعد، ومُخالفة الوعد مكروهة على الجُملة، ولهذا [كره] (¬3) [المواعدة] (¬4) في الصرف [أيضًا] (¬5) لأنَّ الذي وعد بين حالتين ممنوعتين: إما أنْ يَفي بما وعد: فيؤدى ذلك إلى النظرة في الصرف، لأنَّ العقد الواقع إنْ وقعَ فسبَبُهُ الوعد المتقدم. أو لا يفى بما وعد: فيؤدى ذلك إلى مخالفة الوعد [ومخالفة الوعد] (¬6) [ممنوعة] (¬7). فإن وقع العقدُ بعد العدَّة: فالنكاح جائز لهُ، ولا يُفسخ بالاتفاق، وسواء كان الوعدُ مِن أحد الزوجين أو الولى ممن يملك الجبر أو لا يملكهُ. وأمَّا المُواعدة: فمعناها المُفاعلة [والمفاعلة] (¬8) لا تكون إلا مِن اثنين فمكروهة أيضًا ابتداءً، لقولهِ تعالى: {لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا. . . .} الآية. [و] (¬9) لأنه إن وقع العقد بعد العِدَّة. بواسطة المواعدة في العدَّة: ¬

_ (¬1) في أ: ومنعه. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: كُرهت. (¬4) في أ: العدة والمثبت هو الصواب. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: مذمومة. (¬8) سقط من أ. (¬9) سقط من أ.

فلا خلاف عندنا في المذهب أنَّهُ يُفسخ، فهل يُفسخ إيجابًا أو استحبابًا؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّهُ يُفسخ إيجابًا، وهو قول أشهب. والثانى: أنَّهُ يفسخ استحبابًا، وهي رواية ابن وهب عن مالك. وسبب الخلاف: النهي، هل يدلُّ على فسادِ المنهى عنهُ أم لا؟ وإذا وقع العقدُ والدخولُ، ثُمَّ فُسخ هل يتأبَّد التحريم أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّهُ يتأبَّد التحريم، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم [وأحد قولى أشهب] (¬1). والثانى: أنَّهُ لا يتأبَّد التحريم، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: ما يُؤدى إلى الشىء، هل هو كالشىء أم لا؟ وذلك أنَّ المُواعدة تُؤدى إلى العقد، والعقد يُؤدى إلى الوطء. وأمَّا العقدُ: فلا يخلو مِن ثلاثةِ أوجه: أحدها: أن يعقد في العدَّة ويعثر على ذلك قبل أن يطأ. أو عقدٌ في العدة ودخل فيها. أو عقدٌ في العدَّة ودخل بعدها. فإن [عقد] (¬2) في العدَّة، وعثر على ذلك قبل الدخول وبعد انقضاء العدَّة، فهل يقضي العقد أو يفسخ؟ قولان قائمان مِن "المدونة": ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: وقع.

أحدهما: أنَّهُ يُفسخ، وهو المشهور. والثانى: أنَّهُ لا يُفسخ، وهو ظاهر "المُدوّنة" من قوله " [و] (¬1) ما فسخهُ بالحرام البيِّن". وسبب الخلاف: النهى، هل يدلُّ [على فساد] (¬2) المنهى عنهُ أم لا؟ وعلى القول بأنَّه يفسخ، هل يتأبّد التحريم أم لا؟ قولان قائمان مِن "المدونة": أحدهما: أنَّهُ لا يتأبد التحريم، وهو نصُّ "المُدوّنة". والثاني: أنَّهُ يتأبد التحريم منهُ، وهو قولٌ حكاهُ القاضى أبو محمَّد عبد الوهاب في المذهب، وهو قائم مِن "المُدوّنة". وسبب الخلاف: الإباحة: هل تقوم مقام [الفعل] (¬3) أم لا؟ وذلك أنَّ العقدُ مبيح للوطء، وهل هو كالوطء أم لا؟ قولان قائمان مِن "المُدونة" وقد بيَّناهُما. فإن عقدُ في العدَّة ودخل فيها، هل يتأبد التحريم أو لا يتأبَّد؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يتأبّد التحريم، وهو قول ابن القاسم في "المُدوّنة". والثانى: أن التحريم لا يتأبَّد، وهو قول ابن نافع. وسبب الخلاف: قولُ الصحابي هل يكون حجة أو لا يكون حجة؟ فإن عقد في العدة ودخل بعدها، فهل يتأبد التحريم أو لا يتأبد؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بفساد. (¬3) في أ، جـ: الوطء.

قولان قائمان مِن "المُدوَّنة": أحدهما: أنه يتأبد التحريم، وهي رواية ابن نافع عن مالك. والثاني: أنه لا يتأبد، وهو قول المخزومى وغيره في "المدونة". وسببُ الخلاف: الإباحة، هل تقوم مقام [الفعل] (¬1) أم لا. واختلف في دواعى الوطء، هل هى كالوطء أم لا؟ على قولين قائمين مِن "المُدوّنة" مِن غير ما موضعٍ. ونصُّ "الكتاب" أنَّها كالوطء. وإن كانت في عدَّة مِن طلاقٍ رجعى فتزوجها وهي في عِدتها فهل يكون كالناكح في عدَّة أو كالناكح في عصمة؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة مِن "المُدوّنة": أحدها: أنَّهُ كالناكح في عصمة، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المُدوّنة، ونصُّ قوله في غيرها. والثانى: أنَّهُ كناكح في عِدَّة، وهو قولُ الغير في "المُدوّنة". والقول الثالث: بالتفصيل بين أن يرتجع أو لا يرتجع. فإن ارتجع الزوج بعد ذلك، كان الثاني ناكحًا في عصمة. وإن لم يرتجع، كان ناكحًا في عدَّة، وهو قول أحمد بن ميسر في مسألة: "النصرانية إذا أسلمت"، على ما في "الموَّازيَّة"، وهذا القول قائم في المُدوّنة أيضًا. وسبب الخلاف بين ابن القاسم والغير: هل يُغلّب تحريم الوطء بعد ¬

_ (¬1) في هـ: الوطء.

الطلاق الرجعى وقبل "الرجعة" فيكون كالبائن أو يُغلَّب [بقاء أكثر] (¬1) أسباب الزوجية واستمرارها فيكون كالعصمة؟ إذ لا خلاف بينهم في نكاح [ذات] (¬2) الزوج عامدًا بلا شبهة، أنَّ ذلك النكاح لا يُؤثر في التحريم. وأمَّا مَن فصَّل بين أن يرتجع أو لا يرتجع فقد تردد. فإن كان في استبراء أو ما هو في حُكم الاستبراء، كعدة أُم الولد مِن وفاة سيِّدها. فلا يخلو مِن أن يكون ذلك بنكاحٍ أو ملك. فإن كان ذلك بنكاحٍ أو بشبهة نكاح. كمن تزوّج أمة في مُدة استبرائها، أو أُم الولد في حيضتها مِن سيِّدها. هل يفسخ نكاحهُ أو لا يفسخ؟ فالمذهب على قولين منصوصين عن مالك في أُم الولد، في "كتاب العدَّة" مِن "المُدونة": وهل يتأبَّد التحريم بذلك أم لا؟ فقد اختلف المذهب في تأبيد التحريم أيضًا، على القول بأنَّهُ يُفسخ، فأمَّا على القول بأنَّهُ لا يُفسخ فلا كلام. فإن كان ذلك بملك، أو بِشبهة ملك، أو في استبراء من ملك: فقد حكى فيه القاضى أَبو الوليد بن رُشد الإجماع في المذهب أنَّهُ: لا يتأبد فيه التحريم. واختُلف إذا تزوجها في استبراء من زنا، هل هو كالمتزوج في عدَّة؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: [أنها] (¬3) تحرُم عليه. والثانى: أنَّها لا تحرم عليه. والقولان لابن القاسم. ¬

_ (¬1) في أ: أكثرها. (¬2) في أ: ذوات. (¬3) في أ، هـ: أنه.

والثالث: بالتفصيل بين أن تكون حاملًا فتحرم، أو تكون حائلًا فلا تحرم، وهذا القولُ [أيضًا] (¬1) لابن القاسم. واختار أصبغ أن يتأبّد التحريم في ذلك. فإذا كان التحريم يتأبَّد بالنكاح فبأن يتأبد بالسفاح أولى. وأمَّا مَن زنى بامرأةٍ [في عدتها] (¬2)، فهل يتأبَّد بذلك تحريمها عليه أو لا يتأبد؟ [أما على القول بأن الزنا يحرم الحلال فلا تفريع] (¬3) وأمَّا على القول بأنَّ الزنا لا يُحرِّم الحلال. فإنَّهُ يتخرّج على قولين: أحدهما: أنَّهُ يتأبَّد التحريم بينهما، وهو ظاهر قولُ الغير في "المُدونة" في "كتاب العدَّة"، حيث قال: "فمن أصابها في عِدّة أو تزوّجها كان مُتزوِّجًا في عدَّة"، وقولُهُ: "أصابها": يُشعر بأنه أصابها لغير وجهِ النكاح، لأنَّهُ [ذكر النكاح] (¬4) بعده. والثاني: أنَّهُ لا يتأبد التحريم، وهو المشهور. وسبب الخلاف: اختلافهم في المفهوم مِن قولِ عُمر رضي الله عنهُ: " [الناكحان] (¬5) في العدة لا يتناكحان أبدًا"، هل يُفهم منهُ النكاح اللغوى أو يفهم منهُ النكاح الشرعي؟ فإن حُمل على أن المرادَ بهِ النكاح اللغوى، فلا يتناكحان. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من هـ. (¬5) في أ: النكاح.

وإن حُملَ على أنَّهُ النكاح الشرعى، كان الزنا لا يتأبد منهُ التحريم. واللفظة إذا وردت ولها عرفان: لُغوى وشرعى، فإنَّها تُحمل على الشرعى عند كثير مِن الأصوليين. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة السادسة في تداخل العدتين

المسألة السادسة في تداخل العدتين: [ومسألة تداخل العدتين] (¬1) من مشكلات المذهب، وهي معدودة عند النظار مِن الطوام الكبار، فها أنا أُشمِّر عن ساعد الجد إلى تفصيلها، وأستقصى كُنه الجهد في تحصيلها، حتى تنتظم في [نمط] (¬2) الانحصار، وتُزم بروابط الاختصار، فإنْ بدا بها تقصير على المأمول، والاقتصاد دون المنقول، فالقدر كوْنِ الإنسان مجبورًا على النُقصان، و [الفضل] (¬3) بيد الله يؤتيه مَن يشاء، وبهِ أستعين فيما أشاء فأقول: تداخُل العُدَّتين لا يخلو مِن أن يكونا مِن شخص أو مِن شخصين: فإن كانتا مِن شخصٍ واحد وكانتا مِن جنسٍ أو مِن جنسين. فإن تجانسا مِن جهة الزمان والصفة، واختلف المُوجب والمقدار. كذات الشهور يُطلقها زوجها طلاقا رجعيًا ثمَّ مات في العدَّة. فالعدَّتان تتداخلان بلا إشكال. وكذلك إن اتفقتا جنسًا وصفة واتحد الموجب كالمُطلَّقة ثلاثا [ثم تزوجها زوجها] (¬4) في عدَّتها، ثُمَّ فسخَ نِكاحهُ بعد البناء: فإنَّ العدَّتين تتداخلان أيضًا. فإن اختلفت أجناسهما، كذات الأقراء يُطلقها زوجها. فلا يخلو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: سلك. (¬3) في أ: التوفيق. (¬4) في أ: فطلقها زوجها والصواب ما أثبتناه من ب.

طلاقهُ مِن أن يكون بائنًا أو رجعيًا. فإن كان رجعيًا ثُمَّ مات في العدَّة فلا يخلو مِن أن يموت قبل الارتجاع أو بعد الارتجاع: فإن كان قبل الارتجاع: فهل تتداخل العدتان أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّهما تتداخلان. وهو نصُّ "المُدوّنة". والثاني: أنهما لا تتدخلان، وهو ظاهر قولُهُ في "المُدوّنة": "إذا كانتا من شخصين أنَّهما لا تتداخلان". وسبب الخلاف: هل النظر إلى اتحاد الشخص الذي منهُ العِدّة أو النظر إلى اختلاف الموجب؟ لأنَّ العِدة تختلف باختلاف الموجب. فإن ارتجع ثُمَّ مات في العِدَّة قبل أن يطأ، فهل تتداخل العدتان أم لا؟ قولان قائمان من "المُدوّنة". ويتخرج الخلاف [فيها] (¬1) على الخلاف في الرجعة، هل تهدم [العِدَّة] (¬2) أو لا تهدمُها؟ ويُستقرأ مِن "المُدوّنة" مِن "كتاب الأيمان" في "باب طلاق المريض": أنَّ الرجعة تهدم العدَّة، ويستقرأ مِن "كتاب العدة وطلاق السُنة": أن الرجعة [لا] (¬3) تهدم العدّة مِن باب "الطلاق في الحيض". وبهِ علَّل بعضُ حُذَّاق المتأخرين المنع مِن الطلاق في الطُهر الثاني ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: النكاح. (¬3) سقط من أ.

للحيضة التي طلَّق فيها [لأنه يكون] (¬1) لو طلَّق طلق طلاقًا لغير عدّة. فإن كان الطلاق تأبيدًا، كطلاق الخُلع فإذا راجعها الزوج بنكاحٍ جديد في عدَّتها ثُمَّ مات قبل أن يطأها، هل تتداخل العدَّتان أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهما لا تتداخلان، هو قول سحنون في غير "المُدوّنة". والقول الثاني: أنَّهما تتداخلان، وهو مذهب "المُدوّنة". وعلى القول بأنَّهما تتداخلان، فإذا انقضت عدة الوفاة قبل أن تستكمل ثلاثة قروء سقط عنها الإحداد في انتظار بقية الأقراء. وسبب الخلاف: ما تقدمَّ، هل النظر إلى اتحاد الشخص المُعتد منهُ أو النظر إلى تعداد المُوجب؟ مع اختلافٍ جنس العدَّتين. فإن كانتا مِن شخصين، فلا تخلو المعتدَّة مِن وجهين. أحدهما: أن تكون حائلًا. والثاني: أن تكون حاملًا. فإن كانت حائلًا، فلا تخلو العِدَّتان مِن أن تكونا مِن جنسٍ واحدٍ أو مِن جنسين: فإن كانتا جنسًا واحدًا، هل تتداخل العدَّتان أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّهما تتداخلان، وهو نصُّ قولُهُ في "المُدوّنة" حيث قال: "كان مالك يقول: "ثلاثةُ أقراء، يُستبرأ بها من الزوجين جميعًا". ¬

_ (¬1) في أ: لا لكون.

والثانى: أنهما لا تتداخلان، وهذا القول يُستقرأ من "المُدوّنة" مِن مواضع "جمة" (¬1): منها قول ابن القاسم: أول الباب "كان مالك يقول: "ثلاثة أَقْرأ تبرئها من الزوجين [جميعًا] (¬2) "، وهذا يشعر بأنَّ له قولةً أخرى، لأنَّ قولك: "كان فلانٌ يعمل كذا" ينبيء عمَّا كان يُكثر تكرارُهُ ووقوعُهُ منه، ويُشعِر بأنَّهُ كان يفعل غيرُ ذلك. إلا أنَّ صدورَهُ منهُ في نادر الأوقات. كقولِ عائشة رضي الله عنها: "إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي الصبح، فينصرف النساء متلفعاتٍ بمروطهن. . . ." الحديث. ومعلومٌ أنْ النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد صلَّى الصبح بعد الإسفار في حديث السائل عن وقت صلاةِ الصُبح. ويُؤخذ أيضًا مِن قولهِ: "وهذا قولُ مالك" في أمرِ هذا الزوج الغائب. فأمرَ الذي تزوّجها في العدَّة، وفي الوفاة عنها [و] (¬3) في حملها على ما وصفت [لك] (¬4)، بعدد العدة على اختلاف أجناسها واختلاف مُوجبها. وسببُ الخلاف: هل النظر إلى تجانس العدَّتين فتتداخلان أو النظر إلى تعداد الأزواج ثُم لا تتداخلان؟ فإن كانتا من جنسين كعدَّة الطلاق والوفاة، فهل تتداخلان أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنهما لا تتداخلان، وهو نصُّ "المُدوَّنة". ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

والثانى: أنَّهما تتداخلان، وهذا القولُ قائم من "المُدونة"، وتبين [لك] (¬1) الموضع الذي يُستقرأ منهُ الأصل الذي هو منشأ الخلاف، فإذا تأمّلتهُ يتبين لك ما أشرنا إليه إن شاء الله تعالى. وسبب الخلاف: الأقراء الثلاثة، هل هى كُلُّها استبراء. أو كُلُّها عبادة. [أو بعضها عبادة وبعضها] (¬2) استبراء؟ وقولنا هل هى كُلُّها عبادة لا يُنكر، لأنَّ الطلاق إذا وقع بعد الأقراء الكثيرة لا وطء بعدها، كالغائب والمريض مرضًا لا يقوى معهُ على الجماع أو امرأة علمُ براءة رَحمِها بالوضع، ثُمَّ [لا] (¬3) يكون الطلاق عُقيب ذلك قبل أنْ يمسَّها، ولا شكَّ أنَّ الثلاثة الأقراء في هذا الموضع عبادة محضة. وأمَّا الوجه الثاني: إذا كانت حاملًا، فلا يخلو [من] (¬4) أن يكونَ مِن الأول أو مِن الثاني: فإن كان من الأول مثل أن يتزوجها الثاني قبل الحيضة أو بعد الحيضة ثم تأتى بولدٍ لأقل مِن ستة أَشهر: فاتفق أهل المذهب في هذا الوجه على أنَّ العدَّتينِ تتداخلان وأنَّ الوضع يُبرئها مِن الزوجين جميعًا. ويلزم مِن المسألة قولٌ [ثان] (¬5): أن لا يتداخلا. ويتخرج على الخلاف: في الاستبراء من النكاح الفاسد الذي لا يُقرُّ عليه هل هو استبراء محض أو لهُ حُكم العدَّةَ؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: ثالث.

فإن قلنا: إنهُ استبراءٌ محض، فيصحُّ التداخل، كما قالوا: تتيقَّن براءة الرحم بالوضع". فإن قُلنا: أنَّ لهُ حكم العدّة في توابعه مِن مُلازمةِ البيتِ وغيرها، فيُجرى على الخلاف الذي قدَّمناهُ آنفًا. وهذا الإلزام لا [محيد] (¬1) عنهُ. فكيف يُطلق القولُ بالتداخل، ومَن تدبَّر ما قلتُ يجدَهُ صحيحًا إن كان عارفًا بالمذهب. فإن كان الحمل مِن الثاني، فهل يُبرئها من الزوجين جميعًا ويصحُّ التداخل ويُطلب أقصى الأجلين؟ فالمذهب علىَ قولين قائمين مِن "المُدوّنة" منصوصين في المذهب: أحدهما: أنَّهما يتداخلان، وهو ظاهر قولهُ في المُدوّنة أول الباب حيثُ قال أنَّها تبرأ بالوضع. ولم يُفصِّل بين أن يكون مِن الأول أو مِن الثاني، وهو نصُّ أشهب في غير "المُدوّنة". [والثانى] (¬2): أنها تطلب أقصى الأجلين، وهو ظاهر "المُدوّنة". ويُؤخذ مِن قوله في مسألة "المنعى لها زوجها"، إذا حملت مِن الثاني ثُمَّ مات زوجُها الأول، فلتطلب أقصى الأجلين، ثُمَّ قال: "وكذلك سائر هذه المسائل كلها"، إشارةً منهُ إلى ما قال أوَّل الباب. وسبب الخلاف: ما تقدّم مِن العدَّة في النكاح الفاسد، هل تُضاهى عدةَ النكاح الصحيح أو هى استبراءٌ محض [فإن قلنا أنها استبراء محض] (¬3) فلا يُبرئها الوضع مِن الثاني، مِن عدَّة وفاة الأول؟ ¬

_ (¬1) في ع، هـ محيص. (¬2) في أ: والثالث. (¬3) سقط من أ.

أصلُ ذلك: إذا وضعت مِن الزنا وهو موضعُ الاتفاق. وعلى القول: بأنَّها [تضاهى] (¬1) عدَّة النكاح الصحيح فيتداخلان، وهو إذا كانت عدَّة الأول مِن الوفاة، لأنَّ هذا إنَّما يُتصَّور في المنعى لها زوجها. وأمَّا إذا اعتَّدت مِن طلاق الأوّل، ثُمَّ حملت مِن الثاني، على القول بأنَّ الوضع مِن الثاني، لا يبرئها مِن عدّة الأول، هل ينبنى على ما مضى مِن الأَقْراء قبل الوضع، إن كان قد مضى لها شىءٌ أو تبتدئ بعد الوضع ثلاثة قُروء؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تبنى على ما مضى منها، وهو مشهور المذهب، وهو ظاهرُ المُدوّنة. والثانى: أنَّها تبتدئ، وهي رواية أفلح عن ابن القاسم. وسبب الخلاف: طروء الوضع، هل يهدم ما مضى مِن عدَّتها أو لا يهدم؟ فعلى القول بأنَّ الوضعَ يهدمهُ: فإنَّها تبتدئ بثلاثة أقراء. وهل تحسب بدم النفاس قُرءًا أو لا تحسب به؟ قولان: أحدهما: أنها تحسب [به] (¬2)، وبهِ قال أبو القاسم بن مِحرز. والثانى: أنَّها لا [تحسب به] (¬3) وتلغيه. وسبب الخلاف: هل العبرة بالعبر والمعانى أو العبرة بالألقاب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: تحسبه.

[والأسامي] (¬1)؟. فمن اعتبر الألقاب والتسميات، قال: لا تحسب بدمِ النفاس قُرءًا. والله تعالى يقولُ: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، والنفاس لا يُسمى قرءًا. ومن اعتبر المعانى، في كون دم النفاس لهُ حكم دم الحيض في جميع ما تعلَّق بهِ من الأحكام قال: تحسبُ بهِ. ومعنى التداخُل: أن يكون الحُكم لإحدى العدتين، وتندرج الأُخرى تحتها. وعدم التداخُل: إمَّا طلبُ أقصى الأجلين، إذا تمت إحداهما، انتظرت تمام الأخرى، وهو المشهور. أو أنَّها إذا أتمت إحداهما، ابتدأت الأُخرى، كما قال عُمر رضي الله عنه [وهو الذي نقله ابن الجلاب] (¬2). فهذا جُملة ما حضرَ عندي الآن في تحصيل مسألة تداخل العدَّتين. وإلى الله الهداية في بُلُوغ الغاية. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ، جـ: والتسميات. (¬2) سقط من أ.

المسألة السابعة في امرأة المفقود، وما كان في [معناها]

المسألة السابعة في امرأة المفقود، وما كان في [معناها] (¬1). والكلام في هذه المسألة، على ثلاثة أسئلة: منها سؤال المفقود. ومنها سؤال التي علمت بالطلاق ولم تعلم بالرجعة. ومنها سؤال المنعى لها زوجها. فأمَّا السؤال [الأول] (¬2) الذي هو سؤال المفقود، فإنَّ [عادة] (¬3) الأصحاب في تصانيفهم اختلفوا في تقاسيم المفقودين. فمنهم من قسَّمهم ثلاثة أقسام: مفقود في بلاد الإِسلام، ومفقود في المُعترك الذي يكون بين المسلمين والمُشركين، ومفقودٌ في الفتن التي بين المسلمين. ومنهم مَن زاد قِسمًا رابعًا وهو: المفقود في أرض الشِرك. ونحن نزيد قسمًا خامسًا: وهو المفقود في سنة المجاعة. فأمَّا المفقود في بلاد الإِسلام مِن غيرِ مضرَّة لحقتهُ ولا حاجة رمقته، ¬

_ (¬1) في هـ: معناه. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: علة.

فالكلامُ فيه في ثلاث مواضع: أحدها: الكلام في حُكم نفسهِ. والثانى: في ماله. والثالث: في زوجهِ. فأمَّا الموضعَ الأوَّل: وهو الكلام في نفسِ المفقود، وهو عندَ أهلِ اللُغة أعنى: الفقد، هو: تلفُ الشىء بعد حضورهِ وعدمِهِ بعد وجودهِ. فحُكمُهُ في نفسه يُحمل على أنَّهُ حىٌ حتى يُتبيَّن موتُهُ حسًا أو معنًى، وما قبل ذلك فلهُ حكم الأحياء فيما لهُ وعليه. مَمَنْ مات [له] (¬1) مَن ولد أو من لهُ [فيه] (¬2) ميراثٌ [ولم يكُن حسًا أو معنًى، وما قبل ذلك فلهُ حكم الأحياء] (¬3) [ولم يكن] (¬4) هناك مَن يحجُبُهُ فإنَّهُ يرث منهُ ويوقف لهُ سهمهُ منهُ وقفًا مخالفًا لوقوف ماله على ما نصفه في موضِعِه، إنْ شاء الله تعالى. فإن ثبت موتُهُ حسًا، وكان موتُهُ بعد موت مَن وُقف لهُ [منه] (¬5) الميراث ضُمَّ ذلك إلى [ماله] (¬6)، وكان من جُملة تركتهُ، ويُقسَّم [مَع] (¬7) مالَهُ. فإن كان موتُ الغائب [قبل] (¬8) موتِ الحاضر [فإنه يرد إلى ورثة ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: من. (¬6) في أ: ميراثه. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: بعد.

الحاضر] (¬1) ولا شىء [فيه] (¬2) لورثة الغائب، [إذ لا يُورث الأموات مِن الأحياء. وكذلك الحُكم إذا جُهل من مات منهما أولًا] (¬3)، إذْ لا يُورث أحدٌ بالشكِّ. فإن كان موتهُ معنًا مِثل أن يموت بالتعمير، فإنَّ المال [الموقف] (¬4) يرجع أيضًا إلى مَن يرث الحاضر يوم مات، ولا شىء [فيه] (¬5) لورثةِ الغائب، لاحتمال أن يكون قد مات قبل الحاضر لأنَّ ذلك مِن باب التوارث بالشكِّ، وإنَّما أوقَفناه لاحتمال أن يحيى أو يثبت أنَّه حى بعد موت الحاضر. وقد حكى أبو إسحاق بن شعبان في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: ما ذكرناه، وهو المشهور. والثانى: أنَّ ميراث الأب مِن الابن [موقوف] (¬6) إن كان [يرث] (¬7) الأب بالتعمير. والثالث: أنَّ الأب إذا مات بالتعمير يوقف مِن مالهِ ميراث ولده الذي كان مات ويكون الميراث بين موقوفين حتى يكشف مَن يرث منهما صاحبهُ. وقد اختُلف في الجد الذي إذا انتهى إليه في السنّ حُكم الشرع بموته، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) سقط من هـ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: موت.

على خمسة أقوال: أحدها: أنَّهُ يُعمَّر سبعين سنة، لمالك وابن القاسم. والثانى: أنَّهُ يُعمَّر ثمانين سنة، وهي رواية عن مالك أيضًا. والثالث: أنَّهُ يُعمَّر تسعين سنة، وهو قول ابن الماجشون. والرابع: أنَّهُ يُعمَّر مائة سنة، وهو مروىٌ عن مالك أيضًا. والخامس: مائة وعشرين، وهو قولٌ حكاه أبو جعفر الداوردى عن محمَّد بن عبد الحكم. قال القاضى أبو محمَّد عبد الوهاب: [والصحيح] (¬1) سبعون سنة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أعمار أمتى ما بين الستين إلى السبعين، وقلَّ من يُجاوز ذلك". وهذا إخبارٌ عن ما يتعلَّق به الحُكم مِن الأعمال، وما زاد عن ذلك فليس فيه دليل يتحرَّر عمَّا يتعلَّق لكلِّ قول، وإنَّما هو على حسب ما يغلبُ على الظنِّ ويترجَّح في النفس مِن طول المُدَّة وقصرها والله أعلم. وأما الموضع الثاني: وهو الكلام في: حُكم مالهِ. ولا شكَّ ولا خفاء أنَّ مال المفقود موقوف، وأنَّ النظر فيه للسلطان، ولا يُمكَّن منهُ وارثٌ ولا غيرُ، وينظرُ لهُ السلطان بما هو الأحوطُ لهُ، وإلا سد فيما يخلف مِن رياع وأموال ومتاجر وديون وقراض وودائع وعوارٍ. وأمّا الرياع: فإن كانت ممَّا يصلحُ للكراء أكراها، وإن كان فيها شىءٌ يحتاج إلى إصلاح ولا [يتقى] (¬2) على انهدامهِ أُصلح له، وإن كان يتقى عليه أو كانت النفقة تعظُم ويُرى أنَّ البيعَ أحسن بيعت. وأمَّا متاجرِهِ وذخائرهِ: فما كان يُخشى فسادُهُ أو يتسُّوس أو يدود: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يتغير.

باعَهُ صاحبهُ، وإلا لم يتعرّض لهُ إلا أن يأتى على شىءٍ [من ذلك] (¬1) نفاق أو غلاء وما يُعلم أنَّهُ لو كان حاضرًا لم يُؤخِّر بيعهُ فإنَّهُ يُباع. وأمَّا رقيقهُ: فإن كان لا يخشى عليهم الإباق وفي خراجهم ما يقومُ بمؤنتهم وكسوتهم لم يُباعوا، وإلا بيعوا. وكذلك الدواب: إذا كان في غلَّاتها ما يقوم بعلوفاتها ولم تبلغ [من] (¬2) السن ما يُخشى [عليها] (¬3): فلا تباع. وأمَّا دُيونهُ: فإنَّها تُقبض بعد حُلول [أجلها] (¬4) و [قراضها] (¬5) بعد نضوضه، ووقف كُلُّ [ذلك] (¬6) على يدٍ ثقة. وكذلك عواريه: إن كان لها أجلٌ انقضى أو لم يكن لها أجل فانقضى، ما يُعارُ لمثله. وإن أعار أرضًا فَبَنَى فيها المُستعير، أمر لهُ الإِمام بنقضهِ إذا مضى ما يُعارُ لمثلهِ. فإن رأى الإِمام أنْ يُعْطِيَهُ قيمتهُ [منقوضًا] (¬7)، كان ذلك لهُ، وقد قال مالك في "كتاب الشفعة" في العرصة المُستعارة، إذا بني فيها رجلان ثُمَّ أراد أحدهما الخروج منها وربُّها غائب، فقال مالك: "ينظر السلطان ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: آجاله. (¬5) في أ: قراضه. (¬6) في أ، جـ: واحد. (¬7) في أ: مقلوعًا.

في ذلك: فإن رأى أن يُعطيه قيمة نقضه ويبقى البُنيان للغائب، كان ذلك له، فقيل له: مِن أين يدفُع الثمن؟ قال: هو أعلمُ بذلك". وأمَّا ودائِعهُ: فإن كانت تركته على يدِ مأمون، وإلا نزعت. وإن كان المفقودُ قد رضي بأمانته، لأنَّهُ قد تعلَّق بها حقُّ الورثة، لإمكان أن يكون قد مات، وأنَّهُ مالهم اليوم، ومراعاة لمذهبِ مَن يقول أنَّهُ يورث عند انقضاء الأربع سنين. وأمَّا الموضعُ الثالث: وهو الكلام في حُكم [زوجهِ] (¬1). وهو عمدةُ الباب. فإذا رفعت امرأة المفقود أمرها إلى السلطان واشتكت [إليه] (¬2)، وأظهرت الحاجة والفاقة، وما يلحقُها مِن الضررِ في نفسها لغيبة زوجها، وسألت السُلطان [أن] (¬3) يدفع عنها الضرر، [ويزيل] (¬4) ما تشكى [به] (¬5) مِن الضيم الذي لحقها مِن غيبةِ زوجها، فإنَّ السلطان يكلف لها ثبوت الزوجية وثبوت الغيبة، فإذا ثبت [عنده] (¬6) الأمران: وجب عليه الاعتناء بحقها، ودفعُ الضررِ اللاحق بها، ويكتبُ إلى والي البلد الذي يُظنُّ أنَّهُ فيهِ أو يكتب إلى سُلطان تلك البلد، إن لم يعلم أنَّهُ في بلدٍ بعينها ويُعرِّفهُ في كتابه إليه باسمهِ واسم أبيه، ويكتب صفته ومتجرهُ وصنعتهُ إن كانت [له] (¬7) صنعة يُشتهرُ بها، وَيكتبُ هو في ذلك إلى نواحى بلدهِ، [فإذا ¬

_ (¬1) في هـ: زوجته. (¬2) في أ: عليه. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: ويريح. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: عنه. (¬7) سقط من أ.

ورد] (¬1) على الإِمام جواب كتابهُ، ولم يقع لهُ على خبر ولا وُجد لهُ أثر فحينئذٍ يضرب لامرأتهِ أجلًا: أربعُ سنين إن كان حرًا، وسنتين إن كان عبدًا، وهذا هو مشهور المذهب. وقد قيل: يضرب لها أجل: أربعُ سنين مِن يوم الرفع، وهو قولُ محمَّد بن عبد الحكم. والأول أصح. واختُلف في الحِكمة في ضرب أربع سنين، على أربعة أقوال: أحدها: أنَّهُ يضربُ لها أربع سنين، لأنَّهُ أقصى [مدَّة] (¬2) الحمل، وهو قول أبى بكر الأبهرى. وهذا تعليلٌ ضعيف. لأنَّ العلة لو كانت كما ذَكر لوجب أنْ يستوى فيه الحُرُّ والعبدُ لاستوائهما في مُدَّة لُحُوق النسب، وَلَوَجَبَ [أيضًا] (¬3) أنْ يسَقط جُملةً في الصغيرة التي لا يوطأ مثلُها إذا فُقد زوجها. والمذهب: أنها لو قامت عشرين سنة ثُمَّ رَفعت أمرُها، يُضرب لها أجلٌ أربعة أعوام، وهذا يبطل تعليله إبطالًا ظاهرًا. والثانى: أنَّ الحكمة في ذلك، لأنَّه القدر الذي تصلُ إليه الكتابة في بُلدان الإِسلام مسيرًا وعودًا. وهذا التعليلُ أيضًا باطل -لأنَّهُ ما يتخرج إلا على القول بأنَّ ضربَ الأجل أربعُ سنينٍ قبل الكشف، وهو [قول] (¬4) ضعيفٌ في نفسهِ. ¬

_ (¬1) في أ: فأورد. (¬2) في هـ: أمد. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

والثالث: [أن ذلك] (¬1) لاختبار حاله والتماس موقعه في الجهات الأربع في المشرق والمغرب والشمال والجنوب. فجعل لكلِّ جهةٍ عامًا. قال القاضى أبو بكر بن العربى رضي الله عنه: "وهذا مما [يمكن أن يكون] (¬2) قصد عمر رضي الله عنه مِن غير أن يقطع عليه بذلك". والرابع: أن الأربعة الأعوام إنَّما أُخذت بالاجتهاد، لأنَّ الغالب أنَّ من كان حيًا لا تخفى حياتُهُ [مع] (¬3) البحث [عنه] (¬4) أكثر مِن هذه المُدَّة، فوجب الاقتصار عليها، لأن الزيادة فيها والنُقصان [منها] (¬5) خرقٌ للإجماع. لأن [امرأة] (¬6) المفقود على قولين: أحدهما: أنَّ زوجتهُ لا تتزوج حتى تعلمَ موتَهُ، أو يأتى عليهِ مِن الزمان ما لا يَحيا إلى مِثله. والثانى: أنَّهُ يُباح لها التزويج إذا اعتدَّت بعد تربُّصِ أربعةُ أعوام. فلا يجوز إحداث قول ثالث، وهذا هو المشهور عند الأصوليين. ولها النفقة في هذه المُدَّة التي هى أربعُ سنين، لأنَّها باقية في عصمة الزوج الغائب. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: في. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: الأمة في.

فإذا انقضت تلك المُدَّة خيَّرها الإِمام بين البقاء على العصمة أو الخروج مِنها. فإن اختارت البقاء على العصمة كانت لها النفقة. وإن اختارت الخروج منها أمرها أن تعتدَّ عدَّة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا، ولا نفقة لها في مال الغائب في تلك المُدَّة. فإذا انقضت عدتها فلا يخلو حالها مِن ثلاثة أوجه: إمَّا أن يأتى زوجها أو العلمُ بحياتهِ. وإمَّا أن يثبتَ موتُهُ. وإمَّا ألا يتبيَّن حياته ولا موتهُ. فإن جاء بنفسه أو أتى العلمُ بحياتهِ فإنَّها تُمنع مِن النكاح جبرًا ورجعت بالنفقة مِن يوم قُطعت عنها وذلك مِن يوم أخذت في العدّة. فإن جاء الخبرُ بموتهِ وثبت الخبرُ بِبيِّنة: فإنَّهُ يُنظر إلى تاريخ موتهِ. فإن مضى مِن ذلك ما تنقضى فيه عدَّتها أربعة أشهرٍ وعشرًا حلَّت للأزواج. وإن بقىَ منها شىءٌ: تربَّصت [حتى تقضى ما بقى] (¬1)، ويكونُ عليها الإحداد في ذلك. وحالها في [جميع الأحوال] (¬2): حال المعتدَّة مِن وفاةٍ، ولها الميراثُ في كلا الوجهين، وهذا قولُ أشهب في كتاب "محمَّد". وقال عبد الملك في "المبسوط": "لا إحداد عليها". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: جميعه.

وسببُ الخلاف: هل يغلُبُ [فيها] (¬1) شائبة الطلاق، ثُمَّ لا إحداد عليها أو يغلبُ فيها شائبةُ الموت، فيكونُ عليها الإحداد، لأنَّ عدّتها عدَّة الوفاة؟ وبهذا الاعتبار قال بعض المتأخرين وأراه أبا الحسن اللخمى: تطلب أقصى الأجلين أربعة أشهرٍ وعشرًا مع ثلاثة قُروء. فإن لم يتبين حالهُ [ولا عرفت حياته] (¬2) من موته كان النكاحُ لها مُباحًا. فإن تزوجت ثُمَّ ظهر خبره فلا يخلو ما يطلع بهِ الخبرُ من وجهين: أحدهما: أن يطلع بحياتهِ. والثانى: أن يطلع بموته. فإن طلع الخبرُ بحياته، هل يصح نكاح الثاني ويكون الأول أحقُّ بها أم ماذا يكون الحُكم [فيها؟ فالمذهب] (¬3) على أربعة أقوال كلها قائمة مِن "المُدوّنة": أحدها: أنَّ الأولَ أحقُ بها، ما لم تتم أربعة أشهرٍ وعشرًا، فإذا كمّلتها [و] (¬4) خرجت من العدَّة وحلت للأزواج بانت من الأولى لخروجها مِن عصمته. وهو ظَاهر قولُ الشيخ: أبى بكر الأبهرى وغيره مِن البغداديين، لأنَّهُ قال: "أنَّ الطلاق يقعُ عليه للضرر الذي يلحقُها في عدم الوطء". ¬

_ (¬1) في هـ: عليها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

وهذا هو الأظهر في النظر على القولِ بأنَّها تفوتُ [للأول] (¬1) بوجهٍ ما. وبيانُ ذلك: اتفاق مَن يقول بالتفويت: أنَّها بانقضاء العدَّة تحلُّ للأزواج ويحلُّ العقدُ عليها. ومُحالٌ أنْ تبقى زوجتُهُ في عصمته وهي مع ذلك تحلُّ للأزواج ويحلُّ العقدُ عليها. وهذا ما لم يُعهد لهُ في الشريعة نظير، والأصول موضوعة على أنَّ المعتدَّة تحلُّ بانقضاء العدَّة وتحل عصمتها. وأصل ذلك: المولى والمُعسر بالنفقة، إذا كان غائبًا مع الإمكان أنْ يكون قد ترك لها النفقة أو بعث بها إليها أو وصلت. [والثانى] (¬2): أنَّها بالعقدِ تفوت. فإذا عقد عليها الثاني فلا سبيل للأول إليها. وهو أحد قولى مالك، وبهِ قال [من] (¬3) أصحابُنا: المغيرة وغيره. والثالث: أنَّ الأول أحقّ بها ما لم يدخل بها الثاني، وهو قولُ مالك أيضًا، وبهِ قال ابن القاسم من أصحابنا وأشهب. ووجهُ القول الثاني: أنَّها تفوت بالعقدِ. لأنَّ [الحاكم] (¬4) أباح النكاح مع إمكان حياة زوجها، وما كشف عن أكثر الذي [كان] (¬5) يظن. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: الحُكم. (¬5) سقط من أ.

وأمَّا الثالث: فتوجيهُهُ ظاهر. والقول الرابع: أنَّ الأول أحقُّ بها [أبدًا] (¬1) وأنَّها لا يفيتها العقد و [لا] (¬2) الدخول. [قياسًا] على أحد الأقوال في النصرانية تُسلِم وزوجها غائب. وقد قال فيها عبد الملك بن الماجشون فيما حكاهُ عنهُ الشيخ أبو محمَّد ابن أبي زيد إنْ ثبت إسلامُهُ قبلها أو بعدها في العدَّة كان أحقَّ بها وإن ولدت مِن الثاني. والجمع بين المسألتين نكاح في عصمة. وأحسبُ أنى رأيت لهذا القول نصًا لابن عبد الحكم. وحُدثت [أن] (¬3) القاضى أبا بكر بن العربى نقل هذا القول في "القبس" وعزاه إلى المذهب ولم يُسم قائله، وهو اختيار أبى الحسن اللخمى رضي الله عنه، في التي علمت بالطلاق، ولم تعلمْ بالرجعة، وقد ساوى مالك [في المدونة] (¬4) بين "مسألة المفقود" وبين التي [علمت] (¬5) بالطلاق ولم تُعلم بالرجعة في [جميع] (¬6) وجوهها. ورام بعض المتأخرين استقراء هذا القول مِن "المُدوّنة" مِن مسألة: "التي علمت بالطلاق ولم تعلم بالرجعة" على ما [سنبينه] (¬7) [في فصله] (¬8) إن شاء الله. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: تعلم. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ، جـ: سنبين. (¬8) سقط من أ.

والأصل في ذلك: قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المفقود، وذلك أنَّهُ قد رُوى عنهُ في المفقود إذا قدم، وقد تزوجت امرأتهُ، ثلاثة أقوال: فَمرةً قال: الأول أحقُّ بها ما لم تُنكح. ومرَّة قال: الأول أحقُّ بها ما لم يُدخل بها الثاني. والقولان مشهوران عنه أيضًا. ورُوى عنه أيضًا أنَّهُ قال: يُخيَّر بين المرأة وأخذ الصداق. وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن امرأة المفقود لا تتزوّج، حتى يثبت موتُهُ، وهو مذهب الشافعى وأبى حنيفة رضي الله عنهما. وسبب الخلاف: بين مَن قال: يفوت أو لا يفوت: اختلافهم في الحُكم إذا وقع موقع السداد ثُمَّ انكشف عن الفساد، هل يُستصحب معهُ حالة الابتداء أو يُستصحب معه حالة الانتهاء؟ وسببُ الخلاف: بين مَن قال: تحلُّ [وبين من قال:] (¬1) لا تحل: [تعارض] (¬2) استصحاب الحال للقياس، وذلك أنَّ استصحاب الحال يُوجب أنْ لا تخل عصمته لا بموتٍ أو طلاقٍ حتى يقوم الدليل على غير ذلك وأمَّا القياس: وهو تشبيهُ الضررُ اللاحق بها [من غيبته بالضرر اللاحق بها من] (¬3) الإيلاء والعِنة، فيكون لها الخيارُ في هذين. فإن طلع الخبرُ بموتهِ، فلا يخلو ذلك مِن ثمانيةِ أوجه: ¬

_ (¬1) في أ: أو. (¬2) في أ: معارضة. (¬3) سقط من أ.

[أحدها: أن يتزوجها الثانى بعد موت الأول وبعد انقضاء عدتها منه] (¬1). والثانى: أن يتزوجها بعد الموت وقبل انقضاء العدة. والثالث: أن يتزوجها ويدخلُ بها قبل موتهِ. والرابع: أن يموت بعد التزويج وقبل الدُخول ودخل [فى] (¬2) العدَّة. [والخامس: أن يموت بعد التزويج وقبل الدخول ودخل بعد انقضاء العدة] (¬3). والسادس: أن يكون التزويج والدُخول بعد الموت وقبل انقضاء العدَّة. والسابع: أن يكونَ التزويجُ فى العدَّة والدخولُ بعدها. والثامن: [إن عُدم] (¬4) التاريخ، ولا يدرى متى كان موته. والفصول الثمانية كُلها فى "المُدوّنة" غير أنَّها مُبددة فيها. فأمَّا الوجهُ الأول: إذا تزوجها [الثانى] (¬5) بعد موت الأول وبعد انقضاء عدتها: فإنَّها ترثُ الأول وتبقى زوجة للثانى، لأنَّهُ تزوجها بعد خروجِها مِن العصمة وانقضاء العدّة. وأمَّا الوجهُ الثانى: إذا تزوّجها بعد الموت وقبل انقضاء العدَّة: فإنَّها ترثُ الأوَّل وينفسخ نكاح الثانى، ثُمَّ ينظر إلى دخولهِ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) فى أ: بعد. (¬3) سقط من أ. (¬4) فى هـ: أن يعدم. (¬5) سقط من أ.

فإن دخل قبل انقضاء العدَّة، كان في تأبيد التحريم قولان: والمشهور أنَّهُ يتأبَّد عليهِ التحريم. وإن دخل بعد انقضائها، فعلى الخلاف المُتقدم أيضًا إذا عقد في العدَّة ودخل بعد العدَّة. وأمَّا الوجهُ الثالث: إذا تزوّجها ودخل بها قبل موتهِ فإنَّها لا ترثُهُ بالاتفاق، وتبقى زوجة للثانى. وأمَّا الوجهُ الرابع: إذا مات بعد التزويج وقبل الدُخول ثُمَّ دخل الزوجُ في العدَّة، فهل ترث الأول أو لا ترثَهُ؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّها ترثهُ. والثانى: أنَّها لا ترثهُ. وهذا الخلافُ: يتخرَّج على الخلاف في امرأة المفقود: هل يُفتيها العقد أو لا يفتيها إلا الدُخول؟ فعلى القول: بأنَّ العقد يُفتيها، فلا ترثُه. لأنَّهُ مات بعد انقضاء عصمتهُ منها. وعلى القول: بأنَّها لا تفوتُ إلا بالدُخُول، فإنَّها ترث، ويُفرّق بينها وبين الثاني، ولا تحلُّ لهُ أبدًا، لأنَّهُ ناكحٌ في عدَّة لدخولهِ في العدَّة. وأمَّا الوجه الخامس: إذا مات بعد التزويج وقبل الدُخول ثُمَّ دخل بعد انقضاء العدَّة. فإنَّ النكاح الثاني مفسوخ، لأنَّهُ [ناكح] (¬1) في عصمة، ولهُ أنْ يتزوَّجها بعد الاستبراء، ولا يتأبَّد [التحريم بينهما] (¬2)، لأنَّ ¬

_ (¬1) في أ: متزوج. (¬2) في أ: عليه التحريم.

العدَّة قد سلمت مِن أنْ يكون فيها عقد ودخُول. وهل ترث الأوَّل أو لا ترثُهُ؟ يتخرّج على الخلاف الذي قدّمناه. وأمّا الوجهُ السادس: إذا كان التزويج والدخول بعد الموت، وقبل انقضاء العدَّة، فهذا لا خلاف فيهِ أنَّها ترث الأول، وينفسخ نكح الثاني، ويتأبَّد عليهِ التحريم، لأنه نكح في العدَّة ودخلَ فيها. وأمَّا الوجه السابع: إذا تزوّجها [بعد موته] (¬1) ودخل بعد انقضاء العدَّة. فلا خلاف أيضًا أنَّها ترث الأول، وينفسخ نكاح الثاني، وهل يتأبَّد عليه التحريم أو لا يتأبَّد؟ قولان وقد قدّمناهُما. وأما الوجهُ الثامن: إذا عُدم التاريخ ولا يدرى هل مات قبلَ النكاح أو بعدهُ؟، وقد دخل الثاني، فلا ترث الأول، ولا يُفرّق بينها وبين الثاني، إذ لا ميراث [بالشك] (¬2). وإن تزوّجت في الأربع سنين فنكاحُها فاسد قبل الدخول وبعدهُ. ثُمَّ يُنظر إلى ما ينكشف عنهُ الغائب بعد ذلك: فإنْ ثبت أنَّهُ حى أمسكت عن الأزواج. وإن ثبت أنَّهُ مات وَرِثتهُ، ثُمَّ يُنظر في نكاحهِ. فإن ثبت أنَّهُ تزوجها في عِدَّة فُسخ النكاح ويتأبد عليهِ [فيه] (¬3) التحريم. فإن ثبت أنَّهُ تزوجها بعد انقضاء العدَّة فيُنظر. فإن ثبت ذلك بعد فسخ النكاح رُدّت إليهِ بِنكاحٍ جديد. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: في الشك. (¬3) سقط من أ.

فإن ثبت قبل فسخ النكاح، هل يُقرَّان على نكاحهما أو يُفسخ؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: [أنه] (¬1) يُفسخ، لأنَّهُ [قد] (¬2) وقع على خطر. والثانى: [أن] (¬3) النكاح [بينهما ثابت] (¬4). لأنَّهُ قد انكشف الغيبُ على أنَّهُ كان وقع على وجهٍ صحيح. والقولان منصوصان في "المذهب". وسببُ الخلاف: الحكم إذا وقع موقع الفساد ثُمَّ انكشف عن السداد، هل يُستصحب معه حالة الابتداء أو حالة الانتهاء؟ وهذا الحُكم في نفسها [و] (¬5) في ميراثها. وأمَّا الحُكم في صداقها: فلا يخلو مِن أن تكون غيبة المفقود قبل البناء أو بعدهُ. فإن كانت بعد البناء فلا خلاف في المذهب أنَّها تُمكَّن مِن جميع صداقها لاستحقاقها إياه بالدُخُول. فإن كانت غيرُ مدخولٍ بها وكانت غيبةُ المفقود قبل البناء فهل يُحكم لها بالصداق إذا انقضت عدَّتها أو لا يُحكمُ لها بشىءٍ؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنَّهُ يُعجَّل لها جميع الصداق إذا كان على التأجيل، وهو قول ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في هـ: يقر بينهما. (¬5) سقط من أ.

مالك في كتاب "ابن سحنون"، وبهِ قال أصبغ في "كتاب ابن الموّاز"، وكتاب "ابن حبيب". والثانى: أنَّهُ يُعجَّل لها نصفهُ ويُؤخَّر النصف حتى يموت بالتعمير فتأخذه. وهو قول عبد الملك في كتاب "ابن الموّاز". والقولُ الثالث: أنَّهُ ليس لها إلا النصف خاصةً، ويُعجَّلُ لها، وهو قولُ ابن دينار. والقولُ الرابع: أنَّهُ ليس لها إلا النصف، ولا يُعجَّل لها، ويُوقف إلى الوقت الذي تلزم الغائب فيه طلقة، وذلك إذا تزوّجت على القول بأنَّ العقدَ يفتيها. أو إذا دخل الثاني، على القول بأنَّ الدُخُول هو المُفيت. وهذا القول حكاه محمَّد بن أبي زيد عن بعض الأصحاب في "النوادر". وسبب الخلاف: اختلافهم في وجوب الصداق، هل يجب جميعُهُ بالعقد [أو نصفه بالعقد] (¬1) أو لا يجب بالعقد شىء؟ وقد بيَّنا هذا [الفصل] (¬2)، واستقصيناهُ في كتابِ النكاح الثاني. وعلى القول [بأنَّها] (¬3) يُدفع لها جميعُ الصداق ثُمَّ إنْ قدم الغائب وقد تزوّجت، هل يُسترجع منها نصفُ الصداق أم لا؟ فعن مالك [في ذلك] (¬4) قولان في كتاب "ابن الموّاز". أحدهما: أنَّها تردُّ النصف على الزوج. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الأصل والصواب ما أثبتناه. (¬3) في هـ: بأنه. (¬4) سقط من أ.

والثانى: أنَّها لا تردُّ شيئًا. وهذا الخلافُ ينبنى على الخلاف في الحكم في امرأةِ المفقود، هل يُغلب فيها شائبة الطلاق فتردُّ النصف، أو يغلب فيها شائبة الوفاة فلا تردُّ شيئًا لِكونها اعتدَّت عدَّة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا؟ وعلى القول بأنَّها لا يكون لها إلا النصفُ فإن جاء الخبر أنَّهُ مات: فإن كان ذلك قبل أن تتزوج، أخذت النصفَ الباقي. وإن جاء الخبر في الوقت الذي لا سبيل له إليها لو قدم، فلا شىء لها إلا النصف الذي قبضتهُ، وهو قولُ سحنون. والجواب عن القسم الثاني: إذا فُقد في أرضِ العدو، فقد اختَلف فيه المذهب على أربعةِ أقوال. أحدها: أنَّهُ كالمفقود في أرضِ الإِسلام في جميع أحوالهِ جُملةً بلا تفصيل. والثانى: أنَّهُ كالأسير جُملةً بلا تفصيل. والثالث: التفصيل بين أن يُفقد قبل وصولُهُ إلى بلاد الشرك فيكون على [حكم] (¬1) المفقود، وإنْ فُقد بعد وُصولهِ كان كالأسير. والقول الرابع: التفصيل بين أن يكون سفرهُ في البحر وفُقد قبل الوصول كان على حكم المفقود، وإن كان سفرهُ في البرِّ كان على حُكمِ الأسير. وسبب الخلاف: تردُّدُ هذا الفرع بين [هذين الأصلين] (¬2) أيُّهما ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أصلين.

يغلب؟ هل يغلبُ الفقدُ فيكونُ لهُ حُكمُهُ، أو يغلب الأسر فيكون لهُ حُكمُهُ؟ وعلى هذا الأصل ينبنى الخلاف في هذه المسألة. والجواب عن القسم الثالث: وهو المفقود في الصفِّ الذي يكون بين المسلمين والمشركين. فقد اختلف فيه المذهبُ على خمسةِ أقوال. أحدها: أنَّ حُكمه حكم الأسير جُملةً، كان [القتال] (¬1) في أرض الحرب أو في أرض الإِسلام. فلا يُقسَّم مالُهُ ولا تُنكح زوجتُهُ ولا يُحكم [لها] (¬2) بذلك حتى يأتى عليه مِن الزمان ما لا يحيا إلى مثله. وهي رواية ابن القاسم في "العُتبيَّة". والثانى: أنَّ حكمهُ حُكم المقتول جُملةً. بعد أن يتلوم [لها] (¬3) السلطان سنة مِن يوم ترفع أمرها إلى السلطانِ، ثُمَّ تعتد. وهي رواية أشهب عن مالك في الكتاب المذكور. والثالث: أنَّهُ يُحكم لهُ بحكم المفقود في جميع الأحوال. حكاهُ محمَّد ابن الموّاز في كتابه. والقول الرابع: أنَّهُ يُحكم [له] (¬4) بِحكم المقتول في الزوجة [فتعتد] (¬5) بعد التلوم، ويُحكم لهُ بحكم المفقود في ماله، ذهب إلى هذا أحمد بن خالد. ¬

_ (¬1) في أ: القتل. (¬2) في أ: عليه. (¬3) في أ: له. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: تعتد.

والقول الخامس: التفصيل بين أن يكون الالتقاء في بلاد الإِسلام فتكون العدَّة واقتسام ماله [من] (¬1) يومَ افتراق الجيش، وبعد التربُّص والكشفِ عن أمره إلا أن يُعَلم أنَّه قد صار إليهم فيكون كالأسير، أو يكون في بلاد الشرك فَيكون حُكمهُ حُكم الأسير إلا أن يُعلم أنَّهُ مقتول. وهو اختيار [الشيخ] (¬2) أبى الحسن اللخمى [رضي الله عنه] (¬3). فوجهُ القول بأنَّهُ كالأسير: لأن أمرهُ مُتردد بين الأسر والقتل، والأصل الحياة. ووجه القول بأنَّهُ يُنتظر [سنة] (¬4): فلأن الغالب في القتال [القتل] (¬5). وغيرهُ إن قُدِّر [نادر] (¬6)، فكان تعلق الحُكم بالغالب أولى. ووجه القول بأنَّهُ كالمفقود: [أنه] (¬7) لما أُشكلَ أمرُهُ بين القتلِ والأسر، كان لهُ حُكم المفقود. ووجه القول بأنَّهُ يُحكم لهُ [بحكم القتل] (¬8) في الزوجة، وبحكم المفقود في المال: أنَّ ذلك حكمٌ بين حُكمين، لِما في ذلك مِن التشابه والتشاكل مِن الطرفين. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من جـ، ع، هـ. (¬3) زيادة من جـ، ع، هـ. (¬4) في أ: البينة. (¬5) سقط من هـ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: بالقتل.

والجواب عن القسم الرابع: وهو المفقود في الفتن التي تكون بين المُسلمين فيما بينهم، فلا يخلو مِن وجهين: أحدهما: أن تشهد البينة العادلة أنَّهُ حضر اللقاء. والثانى: أنْ تشهد البينة أنَّهُ خرج مع العسكر ولم يروهُ في المعركة. فإن شهدت البينة على حضوره في اللقاء فقد اختلف المذهبُ [فيه] (¬1) على أربعة أقوال: أحدها: أنَّه يُحكم لهُ بحكم الموت وليس في ذلك أجل. وتعتد زوجتهُ [من يوم] (¬2) اللقاء وإن لم تشهد [البينة] (¬3) بموته، وهو قولُ سحنون في "العُتبيَّة". والثانى: أنَّ زوجتهُ تتربَّص سنة. وهي رواية أشهب، وأحد قولى ابن القاسم: والثالث: التفصيل بين قُرب البلاد التي فيها الفتن وبُعدها. فما قُربَ مِن [البلاد] يتلوم (¬4) الإِمام لزوجته باجتهادهِ، [بعد] (¬5) انصراف مَن انصرف وانهزام مَن انهزم [ثُم تعتد] (¬6) وتتزوج. وفيما بعد مثل: إفريقية ونحوها يريد من المدينة تنتظر سنة. وهو قولُ مالك في "العُتبيَّة" وكتاب [محمَّد بن الموّاز] (¬7). ¬

_ (¬1) في: فيها. (¬2) في أ: بين. (¬3) سقط من هـ. (¬4) في ع، هـ: البلدان. (¬5) في أ: بقدر. (¬6) سقط من أ. (¬7) في هـ: ابن عبد الحكم.

والقول الرابع: أنَّ ما بعد هو على حكم المفقود، وتتربَّص أربع سنين وهو قول مالك في كتاب محمَّد أيضًا. وعلى القول بأنَّها تنتظر سنة، فهل تكون العدَّة داخلة في السنة [أم لا] (¬1)؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّها تعتدّ بعد السنة. والثانى: أنَّ العدَّة داخلة في السنة. والقولان لابن القاسم في كتاب "ابن الموّاز" على ما حكاهُ أبو محمَّد في "النوادر" [وهذا كله حكم الزوجة] (¬2). وأمّا مالُهُ: فيتخرج الخلاف [فيه] (¬3) على الخلاف الذي [ذكرناه] (¬4) في الزوجة. فمن رأى أنَّ العدّة مِن يوم التقاء الصفين، قال: يُقسم مالهُ ساعتئذ. ومن رأى أنَّ الزوجة تتربَّص أربع سنين، قال: يُوقف مالهُ إلى التعمير. وعلى القول بأنَّها تتربَّص سنة، هل يُقسَّم مالهُ أو يُوقف؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يُقسَّم مالهُ ذلك الوقت الذي تحل فيه. والثانى: أنه يوقف ماله إلى التعمير. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: يكون.

وأمَّا الوجه الثاني: إذا شهدت البِّينة أنَّهُ [خرج] (¬1) مع العسكر. ولم يروهُ في اللقاء، فهذا حُكمهُ حُكم المفقود في جميع أحوالهِ وأحكامهِ. والجواب عن الوجه الخامس: وهو المفقود في زمان الطاعون أو في زمان المجاعة فنسأل الله السلامة والعافية، هل يحكم لهُ بحكم الميت أو يُحكم لهُ بحكم الحي؟ فالمذهب يتخرج على قولين: [أحدهما] (¬2): أنَّهُ يُحكم [له] (¬3) بحكم المفقود في زمان الرخاء والراحة، وهو ظاهر المذهب. والثانى: أنَّهُ يُحكم لهُ بحكم الميت، وتعتدُّ زوجتُهُ بعد التربُّص والاستيفاء على قدْر ما يرى الإِمام، وهذا على وجه الاستحسان وإلا فالذي تقتضيه نُصوصُ المذهب وهو ظاهر الكتاب أنَّ الَمرأة يأمُرها الإِمام بالعدَّة بغيرِ تربُّصَ ويُقسَّم مالَهُ على ورثتهم. هذا نصُّ [ما حكاه] (¬4) بعضُ أصحاب مالك. أنَّ الناس أصابهم سنة بطريق مكة سعال، وكان الرجلُ لا يسعل إلا يسيرًا ثُمَّ يموت، فماتَ مِن ذلك عالم وفُقد ناسٌ مِمن خرجوا إلى الحجِّ. فلم يأتِ لهم خبرُ حياةٍ ولا موت. فرأى مالك: "أن تُقسَّم أموالهم وتعتدُّ نساؤهم ولا يُضرب لهم أجلُ المفقود ولا غيره"، وهو ظاهر قولُهُ في "المُدوّنة" في كتاب "النكاح الأوَّل" في الأعراب: تصيبهم السنة، فوقع عند الرجلِ منهم صبية، ¬

_ (¬1) في أ: خارج. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

فأراد أنْ يُزوِّجُها، فقال مالك: لا بأس بذلك ومن أنظر لها منهُ. فأباح مالك رحمهُ الله [للمربى] (¬1) نكاحها، وما ذلك إلا لكونه حَكَمَ على أبيها وسائر أوليائها بالموت، لأنَّهم انجلوا في البلاد لأجل ما [نزل] (¬2) بهم من المخمصة والحاجة. ولاسيَّما على تأويل بعض المتأخرين على مسألَة "المُدوّنة" [أن] (¬3) للمُربِّى أن يُجبرها على النكاح وأنَّ لهُ أن يُزوجها قبل البلوغ، وهذا لا ينبغى أنْ يُمكَّن منهُ مع حياةِ الأب، فكان ذلك مِن أدلِّ الدلائل [على أن المفقود في سنة المجاعة وزمان الطاعون أنه يحكم عليه بالموت] (¬4). والجواب عن السؤال الثاني: في التي علمت بالطلاق ولم تعلم بالرجعة. فلا يخلو الزوج مِن أن يكون حاضرًا أو غائبًا. فإن كان غائبًا [فقدم] (¬5) وقد تزوجت غيرهُ بعدَ انقضاءِ عدتها، هل ترد إلى الأول أو يكونَ الثاني أحق بها؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كُلُّها قائمة مِن "المُدوّنة": أحدها: أنَّ العقد يفيتها. والثانى: أنَّ الأوَّل أحقُّ بها ما لم يدخُل بها الثاني. والقولان منصوصان عن مالك في "المُدوّنة". والثالث: أنَّ الأول أحقُّ بها أبدًا ولا يفيتها الدخولُ أصلًا قياسًا على أحدِ الأقوال في النصرانية تُسلم وزوجها غائب وقد أسلم قبلها أو بعدها في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: حل. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من هـ. (¬5) سقط من أ.

العدَّة. فقد حكى الشيخ أبو محمَّد [عن] (¬1) عبد الملك أنَّهُ يكون أحقُّ بها وإن ولدت مِن الثاني، وهو الأظهر. لأنَّ الإِسلام والرجعة [هدما] (¬2) حكم الطلاق. ولا تباح للأزواج. فصارت بمنزلةِ امرأةٍ ذات زوجٍ [تزوّجت ولها زوج] (¬3) ". وهذا القولُ استقرأهُ بعض الشيوخ مِن "المُدونة" مِن قوله في "كتاب العدَّة" في التي لم تعلم بالرجعة فتزوجت ثُمَّ قدم زوجها الأوَّل وأنَّ مالكًا وقف قبل موتهِ بعام فقال: "زوجُها الأول أحقُّ بها"، فاستقرأ بعض المتأخرين، مِن إطلاق هذا الجواب أنَّهُ أحقُّ [بها] (¬4) أبدًا. وسبب الخلاف: تردُّدها بين امرأة المفقود والمنعى لها. فمن ألحقها بأحدِ الأصلين أجراها على حُكمهِ. ولا أعلمُ في المذهب نصَّ خلاف في المنعى لها زوجها إذا تزوّجت ثُمَّ قدم زوجها الأول أنَّهُ أحقُّ بها أبدًا. وأمَّا إذا كان حاضرًا وقد ارتجعها ولم تعلم برجعته حتى تزوّجت ودُخل بها. فهل يكون أحقُّ بها أو تفوتُ بالدُخول؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يكون أحقُّ بها كالغائب. والثانى: أنَّها تفوتُ بالدُخول. والحاضر أعظم ظُلمًا. وهو قول مالك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بعدما. (¬3) سقط من هـ. (¬4) سقط من أ.

في "كتاب محمَّد"، وقال بعض المتأخرين: وما قاله ليس بالبِّين ولو أنَّ رجُلًا رأى زوجتهُ تتزوّج فلم يُنكر عليها لم يكُن [ذلك] (¬1) طلاقًا؟ ولو عُد ذلك مِن المرتجع طلاقًا لاحتُسب عليه طلقةٌ أُخرى وفُرق بينها وبين الثاني واستأنفت العدة مِن الأول انتهى كلامُهُ. وما قالهُ مسلَّمٌ لهُ إلا قولهُ: [واستأنفت العدة] (¬2) من الأول فكيف تستأنف العَّدة منهُ وهو لم يدخل بعد الرجعة؟ وإنَّما قُلنا: إنَّ الرجعة تهدم العدَّة فيما إذا طلَّقها بعد الرجعة وقبل الوطء وقبل انقضاء العدَّة فإنَّها تستأنف العدَّة [منه] (¬3). وأمَّا إذا ارتجع ولم يطأ حتى [انقضت] (¬4) العدَّة ثم طلَّقها فكأنَّهُ طلَّق قبل البناء، فكان ينبغى ألا تلزمُها العدَّة. وتأمّل هذا الموضع فإنَّهُ موضع البحث. على كُلِّ حال وعلى القول بأنَّهُ لا يُفيتها إلا الدُخول فلا يخلو مِن أنْ يتصادقا على الوطء أو يدْعيهِ أحدهما دون الآخر. فإن تصادق الزوجان على وجوب الوطء مِن الثاني فإنَّها تبقى زوجةً لهُ وفاتت للأوّل على مشهور المذهب. فإن تصادقا على عدم الوطء فإنَّها لا تحلُّ للثانى، على القولِ بأنَّها لا يُفيتها للأوّل إلا الدخول لإقرار الثاني أنَّها زوجة الأوّل ولا تحلُّ للأول إلا بعد ثلاثة قروء لثبوت الخُلوة بينهما وبعد اتفاقهما على ذلك [بالطلاق] (¬5)، ¬

_ (¬1) في أ: دليل. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: تنقضى. (¬5) في هـ: كالطلاق.

وهو قولُ محمَّد بن الموّاز. وهذا إذا كان الزوج الأوّل قد صدقها. وإن لم يصدقها كان لها أن ترفعَ أمرها إلى السلطان فيُطلِّقها على الأوَّل لأنَّها تقول: أبقى بلا نفقة وبغيرِ إصابة. فإنْ ادعاهُ [الزوج] (¬1) وكذّبته المرأة فلا تحلُّ للأوَّل أيضًا، وتبقى زوجةً للثانى غير أنها لا يحل لها أن تُمكِّنهُ مِن نفسها ولا يأتيها إلا وهي كارهة كما لو طلَّقها ثلاثة فجحدَ لها الطلاق. فإن ادّعتهُ الزوجة وكذبها الزوج فإنَّها لا تحلُّ للثانى أيضًا لإقرارهِ أنَّها زوجة الأوّل، ثُم ينظر إلى الأوَّل. فإن صدّقها كان لهُ أن يرتجعها، بعد ثلاثة قُروء. فإن كذّبها كان لها أن ترفع أمرها إلى السلطان كما تقدّم. والجواب عن السؤال الثالث: في المنعى لها زوجها وهي التي تبلغها وفاة زوجُها. وهو عند الفقهاء: بضم الميم وفتح العين، وهو خطأ عند أهل العربية، وصوابهُ عندهم: بفتح الميم وكسرِ العين وتشديد الياء. فإذا [بلغتها] (¬2) وفاة زوجها ثُمَّ تزوجت ثم جاء زوجها الأول فلا خلاف أعلمهُ في المذهب أنَّها تُردُّ إلى الأوَّل وإن ولدت أولادًا، قال [في الكتاب] (¬3): "لأنها كذبت وعجلت ونكحت مِن غير اعتداد ولا تربُّص مِن سلطان وتعتدُّ في بيتها التي كانت تسكُن فيه مع الآخر حتى تحيض أو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: بلغتها. (¬3) سقط من أ.

يثبت حملُها إن كانت حاملًا". قال في الكتاب: "ويُحال بين الثاني وبين الدخولِ عليها، ولا أعلمُ خلافًا في منع الثاني مِن الدُخول عليها والنظر إليها وإلى شىءٍ مِن محاسنها لأنَّهُ أجنبىٌ عنها كسائر الأجانب". وأمَّا الأوّل فلا خلاف أيضًا أنَّهُ يُمنع مِن وطئها في هذهِ العدَّة لأنها إنْ كانت حائلًا يُؤدى إلى اختلاط الأنساب. وإن كانت حاملًا فيُمنع أيضًا على مشهور المذهب لئلا يسقى ماءَهُ زرع غيره. وأما ما عدا الوطء مِن أنواع الاستمتاع فمباحٌ له، لأنَّها زوجتهُ وإنما حُبست عنهُ، [لأجل اختلاط] (¬1) النَّسبين كما [لو ابتدأها] (¬2) مَن زنا [أو غصب. وإلى هذا ذهب بعض المتأخرين. وما قاله غير صحيح ومذهبنا حماية الذرائع] (¬3). [وكيف] (¬4) يباح لهُ الاستمتاع بدواعى الوطء مع ما يُخاف منهُ مِن الإفراط المؤدى إلى الوِقاع المُتفق على تحريمُه في تلك الحال. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: لاختلاط. (¬2) في هـ: استبرأها. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: ولا.

المسألة الثامنة في عدة امرأة الخصي والمجبوب.

المسألة الثامنة في عِدَّةِ امرأة الخصي والمجبوب. [ومسألة الخصي والمجبوب] (¬1) تكررت في الكتاب بألفاظٍ مختلفة ومعانٍ مضطربة تُشعر باختلاف أقوال. فمنها قولُهُ في "كتاب النكاح الأول": في جواز نكاح الخصي والمجبوب وطلاقهِ فقال: "لأنَّ المجبوب يحتاج إلى شىء من أمور النساء". وقال في آخر الكتاب المذكور في "باب عُيوب الرجال" فيما إذا كان الرجل خصِيًا أو مجبوبًا ولم تعلمْ المرأة فلها الخيارُ؟ قال: "فإن اختارت الفِراق بعد الدخولِ [عليها] (¬2) فعليها العدَّة إن كان يطأ، وإن كان لا يطأ فلا عدَّة عليها". قيل: "فإن كان مجبوبَ الذكر قائم الخصي، قال: "إنْ كان يُولد لمثلهِ فعليها العدَّة، ويُسأل عن ذلك فإن كان يُحمل لمثله لزمهُ الولد وإلا لم يلزمُهُ [ولا يلحق به] (¬3) ". قال في "كتاب النكاح الثالث" من "المُدوّنة": "ولا يحل المرأة ولا يُحصنها مجبوب إذ لا يطأ". وقال في "كتاب العدَّة": "وتعتدُّ امرأة الخصيَّ في الطلاق". قال أشهب: "لأنَّهُ يُصيب ببقية ذكرِه ويتحاصنان بذلك، وإن كان المجبوب لا يمسُّ امرأتهُ فلا عدَّة عليها من طلَاق". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

فهذا ما وقع في الكتاب مِن الأجوبة والألفاظ. والمجبوب: في تعارف الفقهاء عبارة عن الممسوح، وهو: مقطوعُ [الذكر] (¬1). والخصىُّ: عبارة عن مقطوع إحدى [الآلتين] (¬2)، إمَّا الذكر، وإمَّا الأُنثيين. وقولهُ: "لأنَّ المجبوب يحتاجُ إلى شىءٍ مِن أمور النساء" يفيد أنَّهُ يستمتعُ بعض الاستمتاع. وقولُهُ: "لأن المجبوب لا يطأ" يُفيد أنَّ المجبوب لا حاجة لهُ إلى النساء في ظاهر الأمر، لأنَّ مَن لا يطأ ولا عندهُ آله [الوقاع] (¬3) فلا إربة لهُ في النساء. وقولُهُ: "إن كان يطأ أو لا يطأ" تردَّدَ في أمره، والجهل بحالهِ وهو مُنافٍ لقولهِ: " [المجبوب] (¬4) لا يطأ". ولهذا قال أبو عُمران الفاسى رضي الله عنه: "هذا غريبٌ مِن اللفظِ في قوله إن كان ممن [لا] (¬5) يمسَّ" قال: " [إذ] (¬6) هو مِمن لا يمسّ". قال بعض المتأخرين اعتذارًا عما في الكتاب ودرأ لِما ألزمَهُ الشيخ أبو عمران [للكتاب] (¬7): [و] (¬8) قد يحتمل لفظُهُ في الكتاب عندي أنْ ¬

_ (¬1) في أ: الكل. (¬2) في أ: الأنثيين. (¬3) في أ: القوام. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: في الكتاب. (¬8) سقط من أ.

يكون معناهُ: "إن كان ممن لا يحتاج إلى النساء ولا ينزل ولا يتلذّذ فإن كان هذا متأكدًا تحقَّق أنَّهُ لا يُولد لهُ". ويكون هذا معنى قولُهُ في "النكاح الثالث". "وإنْ كان مِمن دنا إلى النساء، وعالج التداوى [وأنزل] (¬1) فهذا يُخشى منهُ الولد كما يُخشى مِمن يطأ ويعزل ولا ينزل". فيكون هذا معنى قولُهُ في "النكاح الأول" [في قوله] (¬2): "لأنَّ المجبوب يحتاجُ إلى شىءٍ مِن أمور النساء"، ومعلومٌ أنَّهُ لم يقصد بذلك الاقتصار على القُبلة والمباشرة، وإنَّما قصدَ أمرًا زائدًا عليهما وهو أمرٌ يوصلهُ إلى اللَّذة الكبرى. فيكون قولهُ: "إن كان ممن لا يمس امرأتهُ" جزمًا على هذا المعنى. وما قالهُ [هذا المتأخر] (¬3) رضي الله [عنه] (¬4) ظاهر، وعليهِ يُحمل جميعُ ما في الكتاب، وهو تأويلٌ صحيح ولا وصم فيهِ. وإن كان ابن حبيب أشار إلى مثل ما قال الشيخ أبو عمران فقال: "إن كان ممسوحًا فلا عدَّة عليها ولا يلحق الولد بالزوج إن [جاءت به] وتحدُّ هى". وأمَّا الخَصِىُّ: فإن كان قائم الذكر كما قال في كتاب "النكاح الثالث" أو معهُ بعضَهُ كما يُفهم مِن كلام أشهب في "كتاب العدَّة". وهو مقطوع الأنثيين أو إحداهما أو اليُسرى منهما على اختيار "ابن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: هؤلاء المتأخرون. (¬4) في أ: عنهم.

حبيب". فهذا هو الخصي الذي قال في الكتاب: يُسأل عنه أهل المعرفة. إن كان يُولده لمثلِهِ. لأنَّهُ يُشكل إذا قطع الذكر دون الأُنثيين أو الأُنثيين أو أحدهما دون الذكر هل ينزل وينسل أم لا؟ وإن كان ابن حبيب فصَّل [في] (¬1) هذا فقال: "إذا بقى معه أُنثياه أو اليُسرى منهما وبقى معهُ من العسيب ما يُمكنه بهِ الوطء فالولدُ يُلحقُ بهِ"، لأنَّهُ يرى أنَّ الماء مِن الأُنثيين، والولد مِن اليسرى منهما، وما بقى معهُ مِن العسيب يُوصِّل بهِ الماء إلى داخل الفرج. وقال أشهب في "الكتاب": "يُحتمل ما قالهُ ابن حبيب". [وذلك أن] (¬2) قولهُ: "لأنَّهُ يُصيب بما بقى مِن ذكره" يُحتمل أنْ يُريد بقولهِ "مِن" للتبعيض، ويكون بعض الذكر. وتكون "مِن" للبيان، فيُحمل على جميعهُ. وكلا التأويلين على مذهب الكتاب سواء، وكذلك [على] (¬3) مذهب ابن حبيب. وإنَّما وقع الخلاف بين ابن حبيب والكتاب في بقاء الأنثيين أو إحداهما. فمذهب "الكتاب": الإحالة على سؤال أهل المعرفة ¬

_ (¬1) في أ: بين. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

عن صفةِ حالهِ من الحاجة للنساء. وعند ابن حبيب: الإحالة على رأى أهل الطب. وأمَّا ما يرجعُ إلى الإحلال والإحصان، ووجوب الصداق والحدُّ والاغتسال: فإن ذلك منوطٌ ببقاء الذكر أو بعضه خاصة، دون بقاء الأُنثيين أو إحداهما إلا أنْ يكون [منه] (¬1) أمر يُوجب الاغتسال كالإنزال مع المُلاعبة. وكان [كتاب] (¬2) النكاح [الأول] (¬3) أولى بهذهِ المسألة لكنَّا أخَّرناها إلى هذا الموضع لغرضٍ لنا فيهِ. والحمدُ لله وحدهُ [وصلى الله على محمَّد نبيه] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من ع، هـ.

المسألة التاسعة في سكنى المعتدة.

المسألة التاسعة في سكنى المُعتدَّة. و [المُعتدَّة] (¬1) لا تخلو مِن وجهين: أحدهما: أنْ تكون معتدَّة مِن طلاق. والثانى: أنْ تكون معتدَّة مِن وفاة. فإن كانت معتدَّة مِن طلاق، فلا يخلو مِن أنْ يكون الطلاق رجعيًا أو بائنًا. فإن كان رجعيًا: فلا خلاف بين العلماء أن لها [النفقةَ والسُّكنى] (¬2). وإن كان بائنًا: فلا يخلو مِن أن تكون حاملًا أو حائلًا. فإن كانت حاملًا: فلا خلاف أيضًا أنَّ لها الأمرين جميعًا، النفقة والسكنى، لقولهِ تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} الآية. فإن كانت حائلًا: فهل لها النفقة والسكنى أم لا؟ فقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب: أحدها: أن لها السكنى والنفقة، وهو قولُ الكُوفيين. والثانى: أنَّها لا نفقة لها ولا سُكنى، وهو مذهب [أحمد بن حنبل] (¬3) وداود وأبى ثور وإسحاق وجماعة. ¬

_ (¬1) في هـ: المعتدات. (¬2) في هـ: الأمرين جميعًا. (¬3) في أ: ابن حبيب.

والثالث: أنَّ لها السَّكنى ولا نفقة لها، وهو [مذهب] (¬1) مالك والشافعى وجماعة. وسبب الخلاف: اختلاف الروايات في حديث فاطمة بنت قيس [ومعارضة ظاهر الكتاب له. فمن لم يوجب لها نفقة ولا سكنى استدل بما روى في حديث فاطمة بنت قيس] (¬2) أنها قالت: "طلَّقنى زوجى ثلاثًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجعل لي نفقة ولا سكنى" خرَّجهُ مُسلم. [و] (¬3) في بعض الروايات [أنه قال:] (¬4) "إنَّما النفقة والسُّكنى لمن لزوجها عليها الرجعة". وهذا القول مروىٌ عن علي وابن عباس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم [أجمعين] (¬5). ومَن أوجب لها السُّكنى دون النفقة احتجَّ بما خرّجهُ مالك في موطأه من حديث فاطمة المذكور، وفيه: فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ليس لك عليه نفقة" وأمرها أنْ تعتدَّ في بيت أمِّ شريك، ولم يذكر فيها إسقاط السُّكنى، فبقى على عمومهِ {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}. [وجعل] (¬6) أنَّ أمرهُ - صلى الله عليه وسلم -[لها] (¬7) أنْ تعتدَّ في بيت أمِّ شريك مُعلَّلٌ ¬

_ (¬1) في هـ: قول. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من هـ. (¬6) في أ: ومعلوم. (¬7) سقط من أ.

بأمور منها: أنَّها كانت في مكان وحش، فخاف عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول عائشة رضي الله عنها. ومنها أنها كانت [لَسِنَة تؤذى] (¬1) أحماءها وجيرانها، وهو قول سعيد بن المسيب رضي الله عنه. ومن أوجب لها الأمرين جميعًا (النفقة والسكنى) صار إلى وجوب السكنى لها بعموم قولهِ تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} وصار إلى وجوب النفقة لها لكون النفقة تابعة لوُجوب السُّكنى في الرجعة وفي الحامِل وفي نفس الزوجية. وبالجُملة فحيثما وجبت السكنى في الشرع وجبت النفقة، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهُ في حديث فاطمة هذا: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقولِ امرأةٍ لا ندرى أصدقت أم كذبت". يُريد: قولهُ تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ. . . .} الآية. والمعروف من [سنة] (¬2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ أوجب النفقة حيث تجب السُّكنى. وقال بعض المتأخرين: "الأوْلى في هذه المسألة أحد المذهبين: إمَّا أن يُقال: لها الأمرين جميعًا فيصير إلى ظاهر الكتاب والمعروف مِن السُّنة. وإمَّا أنْ يُخصص [هذا] (¬3) العموم بحديث فاطمة بنت قيس المذكورة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وإمَّا التفريق بين إيجاب السُّكنى وإسقاط النفقة فعسير. ووجهُ عُسره: ضعفُ دليلهِ. فعلى مذهب مالك رحمهُ الله [الذي] (¬1) أوجب لها السُّكنى دون النفقة، فلا تخلو الدار التي سكن فيها الزوج مع زوجته مِن أربعة أوجه: أحدها: أنْ تكونَ للزوج ملكًا. والثانى: أنْ تكونَ لهُ بِكِراء. والثالث: أنْ تكونَ للزوجة ملكًا. والرابع: أنْ تكونَ بكراء على الزوجة. فإن كانت مِلكًا للزوج فهي أحقُّ بها حتى تنقضى عدتها وهي أحقُّ بها مِن الغُرماء في الفلس بالاتفاق، وفي الموت على الخلاف على ما سنذكره في فصلِ [المُتوفى عنها زوجها] (¬2) إن شاء اللهُ تعالى. [فإن أراد] (¬3) [الغرماء] (¬4) [أو الورثة] (¬5) بيعها، ويُشترطوا مُدَّة العدَّة على المشترى، هل يجوز ذلك البيع أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المُدَّونة": أحدهما: أنَّ ذلك جائزٌ، وهو نصُّ المُدوَّنة. والثانى: أنَّ ذلك لا يجوز، وهو قول ابن عبد الحكم، وهو قائم مِن المُدوّنة، وتبيَّن لك موضعهُ آنفًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: فأراد. (¬4) في أ: الغريم. (¬5) سقط من أ.

وعلى القول: بأنَّهُ يجوز البيع وتستثنى مُدة العدَّة، هل يستثنى أمد العِدَّة المعتادة أو يجوز لهُ أنْ يستثنى أمد الريبة؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّهُ لا يجوز لهُ أن يستثنى إلا [أمد] (¬1) العدَّة المُعتادة. خاصةً إن كانت العدة مِن طلاق ثلاثةِ قُروء أو ثلاثة أشهر. وإن كانت مِن وفاة: فأربعةُ أشهرٍ وعشرًا، وهذا ظاهر "المُدوّنة"، وهو مشهور المذهب. والثانى: أنَّهُ يجوز له أن يستثنى على المُشترى سُكنى [أمد] (¬2) الريبة إلى أربع سنين [أو] (¬3) إلى خمسِ سنين، على الخلاف بين أصحاب مالك في ذلك، وقد قدَّمناهُ فيما سلف من هذا الكتاب، وهذا القول استقرأهُ الشيخ أبو إسحاق التونسى مِن [المذهب] (¬4)، وهو ظاهر "المُدوّنة"، ونحن نُبيِّن موضع الاستقراء إن شاء الله. وعلى القول بأنَّهُ لا يجوز له أن يستثنى على المشترى [في] (¬5) أمد الريبة فإذا استثنى أمد العدَّة المعتادة ثُمَّ استرابت بعد وفاته وكماله، هل يرجع الخيار إلى المُشترى [في] (¬6) فسخ البيع أو لا خيار لهُ؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّهما إن ارتابت فهي أحق بالمقام إلى انقضاء أمدِ الريبة، ¬

_ (¬1) في أ، جـ: مدة. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في هـ: المدونة. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

وهو قولُ مالك في كتاب "ابن الموّاز". قال سحنون: "فإن تمادت إلى خمسِ سنين، فلا حُجَّة لهُ. لأنَّهُ قد علم، فكأنَهُ قد علمَ أن [قضاء] (¬1) العدَّة خمسُ سنين فكأنَّهُ قد دخلَ على عِلم". وروى أبو زيد عن ابن القاسم في "العُتبيَّة"، مِثل قولِ مالك وسحنون "أنَّهُ لا حجَّة للمُبتاع". والثانى: أنَّ الخيارَ يرجعُ إلى المُشترى على البائع، فإن شاء فسخَ بيعهُ وأخذ الثمن، وإن شاء تماسك ببيعه فلا شىء يرجعُ بهِ، لأنَّ البيع إنَّما وقع على استثناء العدَّة المُعتادة في الغالب ولو وقع البيعُ بشرطِ الاسترابة. فقال الشيخ أبو إسحاق التونسى رضي الله عنه: "أما جعلَهُ المُشترى بالخيار في فسخِ البيع والرضا به إذا استبرأت المرأة ففيه نظر لأنَّهُ إذا وجب لهُ [رد البيع] (¬2) لمكان حبس جُملة الدار [عنها] (¬3) أمدًا لا يعرفهُ لجواز أن يكون سنة أو خمسِ سنين. فإن رضي بالتمادى على هذا الشراء بعد وجوب الرد، كابتداء شرائه، وهو قد قال: لو اشتراها بشرط الاسترابة يفسخ البيع إلا أن يكون القولُ على أحد التأويلين فيمن خُيِّر بين شيئين فاختار أحدهما أنَّهُ لا يُعدُّ مُختارًا لما ترك". انتهى كلامه. فعلى هذا الأصل الذي ذكرهُ الشيخ ينبنى الخلاف في المسألة. فعلى القول بأنَّهُ يُعدُّ مُختارًا لما ترك، يجوز البيعُ بشرط استثناء أمد ¬

_ (¬1) في أ: قضى. (¬2) في أ: الرد. (¬3) في أ: عنه.

الاسترابة، لأنَّهُ قد اختار الفسخُ أولًا ثُمَّ تركه. ويرجع ثُمَّ يختارُ الإمضاء فيعودُ ذلك الاستثناء، وهو ظاهرٌ لِمن تأمَّلهُ. وعلى هذا الأصل ينبنى أكثر فروع "المُدوّنة". فإن مات الزوج قبل انقضاء عدتها ولا دين عليه، هل لها السكنى في مالِ الميت [إلى تمام المدة أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في المدونة: أحدهما: أن لها السكنى في مال الميت ثابت] (¬1). بخلاف المتوفى عنها زوجها، وهو قولُ ابن القاسم في "الكتاب". ومعنى [قوله في المتوفى عنها زوجها ألا سكنى لها] (¬2) إذا لم تكن الدار لهُ، ولا [نقد] (¬3) الكراء، فلم يلزمهُ السكنى لانقطاع ذمَّتهِ بموته، وصار المالُ للورثة، فهذا معنى قولهُ في الكتاب ومعنى قولهُ في المطلقة: أنَّ السكنى ثابتٌ لها في [ذمَّتهِ] (¬4)، وهو دينٌ عليه في حياته، وليس الموت بالذى يسقط عنهُ ما وجب عليه قبل الموت" وهذَا نصُّ "المُدَوّنة". والقول الثاني: أنَّ المُطلَّقة والمتوفَّى عنها سواء. أنَّهُ لا سكنى لواحدةٍ منهما بعد الموت في مال الميت، وهي رواية ابن نافع عن مالك في "المدونة". ووجههُ أنَّ سكنى المُطلَّقة ليس بدين ثابت في ذمَّةِ الزوج في الحياة بدليل: أنَّهُ لو اعتبر في حياتهِ لم يلَزمُهُ لأنَّ ما لم يأت بعد لا يتقرَّر في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: نقل. (¬4) في هـ: عصمته.

ذمته. فإن كانت بكراءٍ على الزوج فهي أحقُّ بسكناها أيضًا مِن الغُرماء إذا أنفذ الكراء وسكنت. فإن انقضى أمدُ [الكراء] (¬1) قبل انقضاء العدَّة فإنَّهُ [ينظر إلى رب الدار. فإن رضى أن يضاعف المدة بكراء الأول أو بكراء المثل مما لا ضرر فيه على الزوج فإنه] (¬2) يُجبر على [إتمام] (¬3) ذلك، ولا يُمكَّن مِن إخراجها. وإن أخرجها ربُّ الدار، لكونهِ محتاجًا إلى دارِهِ أو لِكونهِ طلب مِن الزوج ما يجحفه مِن الكراء: كان [له] (¬4) الخروج [بها] (¬5) ولا إثم عليها، ثُمَّ كان لها على الزوج أنْ يكترى لها منزلًا آخر تتمُّ فيه بقيةُ العدَّة. فإن اختلفا فدعا الزوج إلى موضعٍ، ودعت هي إلى غيره. فلا يخلو مِن أن يدعو الزوج إلى مسكنٍ يملكه أو إلى مسكنٍ يكتريه [فإن دعاها إلى موضع يملكه كان القول قوله إلا أن تسقط عند الكراء فيتخرج على الخلاف فكذلك إن دعاها إلى مسكن يكتريه] (¬6)، ودعت هى إلى غيره وهو أكثر كِراء وهو الوجهُ الثاني كان القولُ قولهُ. فإن أسقطت عنهُ الزائد، هل يكون القولُ قولها؟ فالمذهب يتخرّج على قولين: ¬

_ (¬1) في أ: السكنى. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: لها. (¬6) سقط من أ.

أحدهما: أنَّ القول قولُها إذا توازى الكراءُ أو أسقطت جميعُ الكراءِ عن الزوج أو أسقطت الزائد عن كراء الزوج إذا دعت إلى موضعٍ مأمون وهو نصُّ "المُدوَّنة". والثانى: أنَّ القول قولُ الزوج ولا تُترك إلى ما دعت إليه، وهذا القول قائم مِن "المُدوَّنة" أيضًا. وسببُ الخلاف: العدَّة هل هى حق لله تعالى خصوصًا أو فيها حقٌ للعبد؟ فمن رأى أنَّها حقٌ للهِ تعالى خصوصًا: كان القولُ قولُها فيما دعت إليه. وَمَنْ رأى أنَّ فيها حقا للزوج: كانَ القولُ قولهُ فيما دعاها إليه. فإن كان الزوج مُعسرًا في جميع العدَّة أو في [بعضها] (¬1): فلا شىء عليه فيما هو فيه مُعسر. فإن كان المسكن لها ملكًا، فسكنت فيه مع الزوج حتى طلَّقها، أو اعتدَّت فيه ثُمَّ طالبت الزوج بالكراء. أمَّا المُدَّة التي سكن معها وهي في عصمته فلا أعلمُ في المذهب نصَّ خلافٍ في أنَّها لا ترجع على الزوج بِكراء سكنى العصمة [إذا كانت رشيدة] (¬2). وفي السَّفيهة: [إذا] (¬3) سكنت في بيتها مع زوجها وحملتْ عنهُ موؤنة السكنى مخافة الطلاق قولان بين المتأخرين: ¬

_ (¬1) في أ: بقيتها. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: أنها.

أحدهما: أنَّ ذلك جائز ولا رُجُوعَ لها عليه بشىء ولا كلام في ذلك لوليِّها، واستقرأ بعض المتأخرين هذا القول مِن "المُدّونة" من كتاب "النكاح الثاني" في باب "نكاح التعويض" في عفو الوصى عن بعض الصداق مخافة الفِراق والرغبة في الزوج، فقال: "لا يجوز ذلك إلا برضاها" فقال: "يُؤخذ مِن هذه المسألة أنَّ المحجورة تسكن [مع] (¬1) زوجها في دارها وتُنفق على نفسها رغبةً في الزوج ومخافة الطلاق، وغبطتها بهِ، [وأنها] (¬2) إن فارقها رجعت تسكُن دارها وتُنفق على نفسها وتعدم زوجها" وبهذا أفتى أبو القاسم بن عتاب وغيره من شُيُوخ الأندلسيين رحمهم الله. والثانى: أنَّ ذلك لا يجوز، وبه قال [مطرف] (¬3) وغيرُهُ، ويكونُ الرُجوعُ لها عليهِ بِكراء المثل، كما لا يجوز له أن يأخذ شيئًا مِن مالها إذا ساعدتهُ [وخافت] (¬4) من فراقهِ إن لم تفعل". قال القاضى أبو الفضل: "وهذا لا يلزم" والقولُ الأوّل أظهر والفرقُ بين أخذه مِن مالها وبين سُكناهُ معها في بيتها أنها تقول: "إن فارقَتنى رجعت [آكل] (¬5) مالى وأسكن دارى ولا أتزوج سواهُ فسكونى الآن دارى وأكل مالى مع زوجى [أرغب أوليائى] (¬6) [وغير] (¬7) ذلك من مالها باقٍ طُلقت أو بقيت. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: وأنه. (¬3) في أ: أبو المطرف. (¬4) في هـ: وخشيت. (¬5) في أ: إلى. (¬6) في أ: أولى بي وأرغب. (¬7) سقط من أ.

وأمَّا سكنى أمد العدَّة هل ترجع بهِ على الزوج أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": أحدها: أنَّها ترجع عليهِ بِكراء أمد العدَّة، وإليه ذهب القاضى بن زرب وابن عتاب وأبو الحسن اللخمى رضي الله عنهم، وهو ظاهر "المُدَوَّنة" في "كتاب العدَّة": في التي تسكنُ بِكراء منزل هى اكترتهُ، فطلقت ولم تطلب الزوج بالكراء حتى انقضت العدَّة، قال مالك: ذلك [لها] (¬1). والثانى: أنَّ ذلك لا يلزم [الزوج] (¬2) ولا ترجع عليه بشىءٍ، وبهِ أفتى مِن شُيوخ [الأندلس] (¬3) أبو عمران البكرى وابن القطان، وبهِ قال "الأصبهانى" وهذا القول قائم مِن "المُدوّنة" أيضًا مِن مسألة الأمة إذا طلَّقها زوجها وهو عبد ولم يتبوأ معها بيتًا: أنَّها لا سكنى لها في العدَّة كما لا سكنى لها في العصمة سواءٌ أَعتق بعد الطلاق [أم لا] (¬4). لقولهِ في الكتاب: "وإنَّما حالها اليوم بعدما طلَّقها كحالها قبل أن يُطلِّقها في ذلك، وإنَّما يلزم الزوج ما كانَ يلزمُهُ حين طلَّقها، فما حدث بعد ذلك لم يُلزم الزوج [منه] (¬5) شىء"، وهذا منهُ بناء على أنَّ السكنى لو لزمته قبل الطلاق لَلَزمتهُ بعد الطلاق وفي زمان العدَّة. وسببُ الخلاف: سكنى العدَّة هل هى تبعٌ لسكنى العصمة أم لا؟ ¬

_ (¬1) في أ: كله. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: الأندلسيين. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

فمن رأى أنها تبعٌ لسكنى العصمة قال: لا [كراء لها] (¬1) على الزوج. ومن رأى أنها مخالفة لها [قال: لها أن] (¬2) ترجع على الزوج بِكراء أمد العدَّة. والفرقُ بين سكنى العصمة وسكنى العدَّة على أحد القولين: أنَّ زمان العصمة زمان مكارمة فلا يُقبل فيه [للزوجة] (¬3) دعوى لو طلبت فيه الكراء. وزمان العدَّة زمان المُنافرة والمُغايرة، فدعواها فيه مقبولة فإن كان المسكن بالكراء على الزوجة فسكنت فيهِ مع الزوج أمد العصمة [وسكنت فيه بانفرادها أمد العدة فطالبت الزوج بكراء أن العصمة] وكراء أمد العدة (¬4). [أمَّا أمد العدَّة] (¬5): فإنها تطلب الزوج بحصَّته من الكراء -بلا خلافٍ أعلمُهُ في المذهب في ذلك، وهو نصُّ "المُدوّنة" في "كتاب العدَّة": لأنَّها قامت على الزوج في ذلك بالواجب، كما لو أنفقت على نفسها وهي في عِصمةِ الزوج وهو مُوسر وإنَّما ترجع عليه بما أنفقت ولا يبعد دُخول الخلاف [فيه] (¬6) [بالمعنى] (¬7). وأمَّا أمد العصمة فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة مِن "المُدوّنة": ¬

_ (¬1) في أ: سكنى عليها. (¬2) في أ: هل. (¬3) في هـ: للزوج. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من هـ. (¬6) في أ: فيها. (¬7) سقط من أ.

أحدها: أنَّها ترجع عليه بكراء تلك المُدَّة، وهو قول ابن القاسم في [كتاب] (¬1) "العدَّة". والثانى: أنَّها لا ترجع عليه بشىء إلا أن يتبيَّن لهُ أنَّها في بيت كراء، وهو قولُهُ في "كتاب كراء الدور [والأرضين. والقول الثالث: أن لها عليه الأقل من كراء المثل وما اكترت به المرأة وهو قول الغير في كتاب الدور والأرضين] (¬2). وسببُ الخلاف: ملكها لمنافع الدار هل هو كملكها لِرقبة الدار أم لا؟ فمن جعل مِلك المنافع كمِلك الرقبة قال: لا ترجع عليهِ بالكراء. ومَنَ جعلهُ مُخالفًا لمِلك الرقبة قال: ترجعُ عليهِ بالكراء لأنَّها [ترجع] (¬3) عليهِ بالواجب. فإن كانت مُعتدَّة مِن وفاةِ الزوج فلا خلاف أنَّها لا نفقة لها، سواءٌ كانت حاملًا أو حائلًا لأنَّها وارثة [والحمل وارث] (¬4). واختلف المذهب عندنا في وُجوب السكنى لها على قولين: أحدهما: وجوب السكنى لها، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنَّها لا سكنى لها، وهذا القولُ حكاهُ محمَّد بن خويز منداد عن مالك في "أحكام القُرآن" لهُ، وهو اختيار القاضى أبى الحسن بن القصار قال: "لأنَّهُ يزولُ ملكهُ عن المال، وبعد الموت تجب العدَّة". وهذا القول يُؤخذ مِن "المُدوّنة" مِن رواية ابن نافع عن مالك في "كتاب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: قامت. (¬4) سقط من هـ.

العدَّة": في المُطلَّقة تكونُ لها السكنى ثُمَّ يموتُ الزوج في العدَّة أنَّ: "السكنى تسقط بموتهِ، كما تسقط نفقة الحمل بموتهِ"، فهذا [يؤخذ منهُ] (¬1) ألا سُكنى للمُتوفى عنها جملة، لأنها إذا أسقط السكنى بالوفاة [مع تقدم الطلاق كان إذا وجبت العدة بالوفاة] (¬2) مِن غير طلاق أولى وأحرى. وعلى القول بأنَّ للمُتوفى عنها السكنى على الجُملة فلا يخلو مِن أن يتوفَّى عنها الزوج وهي في بيت أبيها أو يتوفى بعد أن زفَّها وحملها ونقلها إلى بيتهِ: فإن توفَّى الزوج وهي عند أهلها قبل أن يزُفَّها فلا سُكنى عليه اتفاقًا في المذهب، وتعتدُّ زوجتهُ حيثُ كانت تسكُن ويلزمُها مِن اللبث واللازمة ما يلزمُها إذا اعتدَّت في بيت زوجها. فإن مات بعد أن حوّلها إلى منزلهِ فلا يخلو ذلك المنزلِ مِن أنْ يكونَ لهُ مِلك أو اكتراهُ: فإن كان لهُ مِلك، إمّا مِلك رقبة [الدار] (¬3) أو مِلك [انتفاع] (¬4) كالحبس والعمران وما كان في معناهما من العوارى فهي أحقُّ بالسكنى إلى آخر الآمد فيما قُدِّر بِمدة كالحبس المُؤجَّل والعارية المُؤجلة وإلى انقضاء العدَّة فيما يملك رقبتهُ وهي أحقُّ بهِ مِن الغُرماء في جميع ما ذكرنا. فإن أرادوا بيع الدار، وأرادهُ الورثة فإنَّهم يُبيعونها بشرط استثناء أمد ¬

_ (¬1) في هـ: يؤدى. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في هـ: استنفاع.

العدّة على الخلاف والتفصيل الذي قدَّمناهُ [في مسائل الطلاق] (¬1). فإن كان أمد السكنى المُؤجل يحل أجلهُ قبل انقضاء العدّة فإنَّها تخرج إذا أخرجها رب الدار وتنظر لنفسها في موضع تتمُّ فيهِ العدَّة على حسب ما ابتدأتها. فإن حوّلها إلى بيت اكتراهُ فلا يخلو مِن وجهين: أحدهما: أن يكون على الوجبية. والثانى: أن يكون على المشاهرة والمساماة. فإن كان الكراء على الوجبية فلا يخلو مِن ثلاثة أوجه: أحدها: أن ينقد الزوج الكراء ويسكن. والثانى: أن ينقد الزوج ثم مات قبل أن يسكن. والثالث: أن يعقد الزوج الكراء [وسكنته] (¬2) ثمَّ مات قبل النقد. فإن نقد الزوج الكراء وسكنته [ثم مات الزوج] (¬3) فلا خلاف في المذهب [أنها] (¬4) أحقُّ بالسكنى مِن الورثة والغرماء وهي كدار يملكها الميت. فإن نقد الزوج الكراء أو عقدهُ ثُمَّ مات قبل أن يَسكُن فالكراء لازمٌ [له] (¬5). في ذمتهِ وهو مالٌ موروثٌ عنهُ ولا سُكنى للزوجة في ماله. كما لو مات وهي ساكنة في بيتها أو في بيت أبيها وهو قولهُ في "المُدوّنة" وغيرها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: أنه. (¬5) سقط من أ.

فإن عقد الزوج الكراء وسكنت ثُمَّ مات قبل أن يُؤدى جميع الكراء أو بعضهُ هل تكون أحقُّ بالسكنى من الغُرماء والورثة أو يرجع الكراء ميراثًا؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": أحدهما: [أنها] (¬1) أحق به، لأنَّ الكراء قد وجب في ذمَّته فأشبهَ دارًا يملكُها، وهذا تأويل ما وقع في "المُدوّنة" عند بعضهم، ومِثل هذا في رواية أبى قرَّة وعلي بن زياد وابن وهب عن مالك. والثانى: أنَّ باقى الوجبية التي لم يؤد الزوج كراها ميراث إلا أن تشاء المرأة أن تسكُن في حصَّتها وتكرى نصيب الورثة يريد برضاهم، وهو نصُّ قول مالك في كتاب محمَّد بن المواز، وهذا القول أسعد بظاهر "المُدوّنة". وعلى هذين التأويلين يتخرج ما في المُدوّنة من الإشكال في المسألة فإن كان الكراء [على] (¬2) المشاهرة مِثل أن يُكريها كُلُّ شهر بكذا [أو كل سنة بكذا فهذا] (¬3) لا يخلوا مِن أن ينقد الكراء أو لا ينقده: فإن نقد جميع الكراء كان كالوجبية، والكراء لازمٌ لها وهو مالٌ مِن مالِ الزوج. فإن لم ينقد الكراء فلا [سكنى] (¬4) لها في ذمة الزوج، ثُمَّ لأهل الدار إخراجها إذا أرادوا. وكذلك إن كان الكراء على الوجبية فانقضت الوجبية قبل انقضاء العدَّة فلهم أن يُخرجوها إذا أرادوا، وهو نصُّ قولُ مالك في "المُدوّنة". قال بعض المتأخرين: "معنى ما وقع في "المُدوّنة": إذا كان ¬

_ (¬1) في أ: أنه. (¬2) في أ: عن. (¬3) سقط من أ. (¬4) في هـ: شىء.

إخراجهم لحاجةٍ لهم في الدار مِن سكنى أو بناء وشبه هذا". وهكذا فسَّرهُ بن كنانة في "المبسوط"، قال: "ليس لربِّ الدار أن يُخرجها إلا لعُذر مجحف يخاف على دارهِ إنْ تركت فيها، وليس لهم أن يزيدوا في الكراء على القدر الذي [كان] (¬1) يتكارى بهِ زوجها". وقال بعض الحُذّاق: "ومعناهُ عندي: أن يكون ذلك مِن قِبَلِ أنفسهم وأمَّا إن جاءهم مَنْ يكتريها منهم بأكثر كان لهم إخراجها إلا أن تلزم الزيادة". ولا خلاف في المذهب أنَّ: أهل الدار متى تركوها بكراءِ مثلها أنَّهُ لازمٌ للزوج في الطلاق ولها في الوفاة، وهذا في "الكتاب" ظاهر. فإذا ثبت ذلك وتقرَّر لها السكنى في مالِ زوجها، هل يجوز لها الانتقال مِن ذلك المنزل والتحول منهُ إلى غيرهِ؟، فذلك على وجهين: إمَّا أن يكون ذلك بغلبة واضطرار أو يكون ذلك على معنى الترفُّه والاختيار. فإن كان ذلك [على معنى الترفه والاختيار فإن ذلك] (¬2) لا يجوز بالإتفاق، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لفريعة بنت مالك بن سنان: "امكثى في بيتك، حتى يبلغَ الكتابُ أجلهُ"، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "للنساء اللاتي أتين تتحدثن عند إحداكن ما بدا لكن ثم تؤوب كل امرأة إلى بيتها". فأباح لهنَّ الاجتماع بالحديث بالليل حتى إذا أرادت النوم، وترجع كُلَّ واحدةٍ منهنَّ إلى بيتها، قال محمَّد: "ومعناهُ: أن يقمن في الحديث إلى وقت نيام الناس"، ولهذا قال مالك رحمهُ الله: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

"تخرج إلى حوائجها سحرًا قرب طلوع الفجر [وترجع] (¬1) ما بينها وبين العشاء الآخرة" فأباح لها التصرُّف فيما لا مندوحة [لها] (¬2) عنهُ في النهار وفي طرفى الليل ومنعها فيما سوى ذلك. وذلك أنَّ النهار محلٌّ للانتشار والتصرف فيُؤمَنْ عليها مِن الريبة لأنَّها لو حاولت شيئًا لظهرَ عليها. وكذلك طرفى [الليل] (¬3) لأنَّ عوائد الناس مِن السَّحر يخرجون إلى أراضيهم وبساتينهم، فإذا أدلجت معهم فلا يبقى [عليها] (¬4) ريبة. وكذلك ما بين العشاءين فإنَّ عادة الناس قضاء المآرب مِن الأسواق والمشى إلى المساجد. وما سوى ذلك فلا تمكن فيه وينبغى للإمام إذا علم منها المبيت عن بيتها أن ينهاها عن ذلك ويعظُها، فإن عاودت أدبها فإذا منعت من المبيت في غير بيتها، ومن كثرة الخروج بالنهار لغير حاجةٍ تعرَّضت لها فبأنْ تُمنع مِن الانتقال مِن منزلٍ إلى منزلٍ أولى وأحرى. ولا فرق في ذلك بين الحُرَّة والأمة، ولا بين العدَّة للوفاة والطلاق. وقد وقع في "المُدوّنة" في "كتاب العدَّة" مسألة اضطربت [فيها] (¬5) آراء المتأخرين في التأويل وهي "الأمة الحادَّة" حيثُ قال: "لا يُزينونها للبيع ولا يبيعونها لمنْ يُخرجُها مِن موضِعُها حتى تتمَّ عدَّتُها". ثُمَّ قال في آخر "الكتاب": "إذا انتقل أهلها انتقلوا بها". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: النهار. (¬4) في أ: معها. (¬5) سقط من أ.

فاختلف المتأخرون: هل ذلك اختلاف أقوال أو ذلك اختلاف سؤال أو ذلك اختلافُ أحوال؟ فمنهم مَن يقولُ: إن ذلك اختلاف قول، فإذا كان لهم الخروج فكيف لا يجوز للُمشترى؟! وهو قولُ بعض المتأخرين، [وإليه] (¬1) أشار حمديس. ومنهم من يقول: إن ذلك اختلاف أحوال، وإنَّما قال: لا يُخرجها المشترى مِن موضعها كالبائعين لها. فإذا أرادوا الانتقال بها انتقلوها كما جاز ذلك للبائعين. وقيل: لا يبيعونها إلا لمن يرعى ذلك ولا يبقى عليه في إخراجها. ومنهم مَن قال إنَّ ذلك اختلاف سؤال، وأنهم ينتقلون بها إذا لم يتبوأ معها بيتًا، وهو معنى [ما] (¬2) قال في آخر "الكتاب"، وهو نصُّ قولُهُ في "كتاب محمَّد" ومعنى ما قال في "باب الإحداد": أنَّه قد بوأ معها بيتًا. فإذا كان انتقالها وتحوُّلها على معنى الغلبة والاضطرار، مِثل: أنْ تخافَ سقوط بيتها أو لُصُوص أو تخاف مِن جار سوء وهي في البادية أو خشيت أن ينتقل عنها الجيران أو حدث منها هى أمرٌ يُوجبُ إخراجها أو أخرجها ربُّ الدار لحاجةٍ لهُ [في الدار] (¬3). ¬

_ (¬1) في هـ: وإلى مثله. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

إذا انقضى أمدُ الكراء قبل انقضاء أمد العدَّة. فلا حرج عليها في ذلك فيما بينها وبين الله تعالى. والحمد لله وحده.

المسألة العاشرة في [سكنى] التي توفى عنها زوجها في السفر، ولا يخلو سفرها معه من وجهين

المسألة العاشرة في [سكنى] (¬1) التي تُوُفِى عنها زوجها في السفر، ولا يخلو سفرها معهُ مِن وجهين: أحدهما: أن [يكون سفر انتجاع. والثانى: أن يكون سفر ارتجاع. فإن كان سفر انتجاع كمن رفض سكنى بلده وانتقل بأهله إلى غيره ثم مات فلا يخلو من وجهين: أحدهما أن] (¬2) يموت قبل الوصول إليه. والثانى: مات بعد الوصول. فإن مات قبل الوصول إلى الموضع الذي انتقل إليهِ فلا يخلو مِن أن يموتَ ويتركُها في مُستعتب أو في غير مُستعتب. فإن تركها في مُستعتب فإنَّها تعتدُّ هناك ولا تنفد لوجهها ولا ترجع، لأنَّ ذلك يُؤدى إلى أن تفرغ عدَّتُها في الأسفار لغير معنى. فإن تركها في غير مُستعتب فلها الخيارُ بين ثلاثة أشياء: إمَّا أن تنفد إلى الموضع الذي أقبلت إليه. أو ترجع إلى الموضع الذي خرجَت منهُ. أو تعُد إلى أىِّ موضعٍ شاءت ممَّا هو قريبٌ منها. وهذا كُلُّهُ إذا كانت تصل إلى الموضع الذي تذهب إليه قبل انقضاء عدَّتها أو مُعظمها وَوَجَدَت ثقةً تذهب معهُ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن مات بعد الوُصول إلى الموضع الذي خرجت إليه فلا يخلو مِن أن يموت بعد أن [اتخذ لها] (¬1) مسكنًا أو قبل. فإن مات بعد أن [اتخذ لها] (¬2) مسكنًا فلا إشكال أنَّها تعتدُّ فيهِ كما تعتد في المنزل الذي خرجت منهُ. فإن مات قبل أن يتخذ لها مسكنًا فإنَّها تعتدُّ حيث شاءت. فإن كان سفرُهُ سفرَ ارتجاع فلا يخلو مِن وجهين: أحدهما: أن يكونَ [سفر] (¬3) بِر وطاعة. والثانى: أن يكون [سفرًا] (¬4) لقضاء المآرب والحاجات. فإن كان سفرهُ سفرَ بِر وطاعات، فلا تخلو تلك الطاعات مِن أن تكون مِمن يحتاج إلى إحرام كالحج [أو ممن له يحتاج إلى الإحرام كالغزو والرباط. فإن كانت ممن يحتاج إلى إحرام كالحج] (¬5) فلا يخلو مِن أن يموت الزوج قبل الإحرام أو مات بعدهُ. فإن مات الزوج بعد الإحرام فلا خلافَ أعلمُهُ في المذهب أنَّ امرأتهُ [تنفد في] (¬6) حجِّها ولا ترجع إلى بيتها سواء قربت أو بعدت، وسواءٌ كان الحجُّ الذي أحرمت بهِ تطوعًا أو واجبًا. فإن مات الزوج قبل الإحرام فهاهنا يُفصَّل بين أن يكون الحجَّ واجبًا أو ¬

_ (¬1) في أ: اتخذه. (¬2) في أ: اتخذه. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من هـ. (¬6) في أ: تذهب إلى.

تطوُّعًا. فإن كان الحجُّ واجبًا فلا يخلو ذلك مِن أن يكون بالقرب أو بالبُعد. فإن مات قبل أن يتباعد مِثل اليومين أو الثلاثة، فهل ترجع أو تنفد؟ قولان قائمان مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّها ترجع إلى بيتها ولا ترجع إلى مع ثقةٍ، وهو ظاهر "المُدونة"، لأنَّهُ قال: في "الكتاب": "ترجع" ولم يُفصِّل بين النفلِ والفرض. والثانى: أنَّها تتمادى قياسًا على الاعتكاف. وسببُ الخلف: اختلافُهم من الحجِّ، هل هو على الفورِ أو على التراخى؟ فَمَنْ رأى أنَّهُ على الفور قال: إنَّها تنفد ولا ترجع. وَمَنْ رأى أنَّهُ على التراخى قال: ترجع. فإن مات الزوج بعد أنْ يتباعد فإنَّها تنفد ولا ترجع اتفاقًا في المذهب. فإن كان الحجُّ تطوُّعًا فلا يخلو ذلك مِن أن يكون بالقُرب أو بالبُعد: فإن كان بالقُرب فإنَّها ترجع قولًا واحدًا في المذهب. فإن كان بالبعد فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّها تتمادى ولا ترجع، وهو ظاهر "المُدوّنة". والثانى: أنها ترجع، وهو أحد قولى مالك فيمن خرج إلى الجهاد أو إلى الرباط ثُمَّ مات هناك أنَّ امرأتهُ ترجعُ وتعتدُّ في بيت زوجها الذي خرج منهُ.

ولا فرق في الحقيقة بين حجِّ التطُّوع والجهاد إذا لم يتعيَّن. وإن كانت تلك الطاعات ممَّا لا تفتقر إلى الإحرام كالغزو والرباط فإنَّها ترجع في القرب، وفي البُعد والوصول قولان عن مالك. فإن كان سفرهُ [سفر] (¬1) قضاء المآرب والحاجات، وكانت الحاجة أوَّلها فمات في الطريق قبل الوُصول، أو مات بعد الوُصول إلى موضع الحاجة فإنَّها ترجع إلى بيت زوجها إن كانت تصلُ إليه قبل انقضاء عدَّتها أو مُعظمها ووجدت ثقةً ترجعُ معهُ. فإن كانت لا تصلُ إلا بعد انقضاء عِدَّتها لبُعد البلاد أو كانت تصلُ في بقيَّةِ العدَّة إلا أنَّها لا تجد ثقة، فإنَّها تعتدُّ في الموضع الذي توفَّى فيهِ زوجها. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الحادية عشرة في سكنى المرتدة،

المسألة الحادية عشرة في سكنى المُرتدَّة، ولا تخلو المُرتدَّة مِن أن تكون حاملًا أو حائلًا أو مشكوكًا فيها. فإن كانت حاملًا فلها النفقة اتفاقًا لأجلِ الولد، ولا سُكنى لها على مشهور "المذهب". وقد وقع في "المُدوّنة" حرف مُشكل في "كتاب العدَّة" في قوله: "أرأيت المُرتدَّة أيكون لها النفقة والسُّكنى؟ قال: "نعم، لأنَّ الولدَ يلحقُ بأبيهِ، فمن هنا لزمتهُ النفقة". واختلف المتأخرون في الاعتذار عن إطلاق جوابهِ "نعم" هل هو على عموم النفقة والسُّكنى معًا أو على النفقة خاصةً؟ فمنهم مَن حملهُ على النفقة خاصةً دون السُّكنى إذْ هى مسجونة لا تترك فكيف يجبُ لها السُّكنى على الزوج؟، وهذا تأويل ابن اللباد وغيره. ومنهم مَن قال: معنى ذلك "أن لها النفقة والسُّكنى إذا غُفل عن سجنها". ومنهم مَن قال: "معنى ذلك إذا كان الموضع الذي تُعتقلُ فيه يُطلب فيهِ الكراء فيكون على الزوج". فإن كانت حائلًا فإنَّها تقتل بعد الاستتابة، وهل تُستتاب ثلاثة أيام أو ثلاث مرات؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّها تُستتاب ثلاثة أيام، وهو مشهور "المذهب".

والثانى: أنَّها تُستتاب ثلاث مرات [استحبابًا] (¬1)، وهذا القول مروى عن مالك، وبهِ قال أشهب، وهو قائم مِن "المُدوّنة" مِن قولِهِ: "إن كانت غيرُ حامل يعرفُ ذلك لم تُؤخَّر واستُتيبت". وقولُهُ "لم تُوخَّر" يُريد ثلاثة أيام. وقولُهُ "استُتيبت" يريدُ ثلاثَ مرات. فإن جُهل حالها ولا يُدرى إن كانت حاملًا أو حائلًا، فإنَّها تُؤخَّر إنْ طَلَبَ الزوجُ ذلك، إلى أن تحيضَ [حيضة] (¬2) واحدة أو تمر بها ثلاثة أشهر. فإن أسقط الزوج حقَّهُ ينظر. فإن مضى لإصابته أربعون يومًا [لم يعجل عليها لاحتمال أن يكون الرحم مشغولًا بالولد لأنه بعد الأربعين] (¬3) مِن [يوم] (¬4) الإصابة يكونُ علقة. وإن لم يمض لإصابتهِ أربعون يومًا قتلت ولم تُؤخر. وهذا معنى قولهُ في "المُدوّنة": "وإن كانت غير حامل". فاعرف ذلك [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الثانية عشرة في المكاتب إذا اشترى زوجته.

المسألة الثانية عشرة في المُكاتب إذا اشترى زوجتهُ. وإذا اشترى المكاتب زوجتهُ وقد كانت ولدت منهُ أو لم تلد فعجز [فرجع رقيقًا أو مات عنها فلا يخلو المكاتب من وجهين: أحدهما: أن يطأها بعد اشترائه لها. والثانى: ألا يطأها حتى مات أو عجز. فإن وطأها المكاتب بعد الشراء] (¬1) ثم مات [أو عجز] (¬2) فعليها حيضة واحدة اتفاقًا وهي في العجز استبراء. وفي الموت قولان: قيل: استبراء، وقيل: عدَّة. فإن مات أو عجز قبل أن يطأ فهل تستبرئ بحيضة أو بحيضتين؟ فالمذهب على قولين منصوصين في المُدوَّنة عن مالك في آخر "كتاب العدَّة": أحدهما: أنَّها تستبرئ بحيضة واحدة. والثانى: أنَّها تستبرئ بحيضتين، وهو الذي رجع إليه مالك. وسبب الخلاف: اختلافهم في الاستبراء مِن الفسوخ، هل هو استبراءٌ أو عدَّة؟ لأن طرآن الملك على النكاح قد تقدم أمره. فمن رأى أنَّهُ استبراءٌ محض قال: تُستبرئ بحيضة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وَمَنْ رأى أنَّهُ عدة قال: تُستبرئ بحيضتين. وقال الشيخ أبو القاسم بن محرز: "وهذا غلط، بل [اختلاف قول مالك] (¬1) ينبنى على الخلاف في الإباحة، هل تقوم مقام الفعل أم لا؟ فمن رأى أنَّ الإباحة تقوم مقام الفعل [: قال: تستبرئ بحيضة] (¬2) لأنَّ المكاتب لما ملك أن يطأ بملك يمينه عُدَّ ذلك منهُ كالوطء، لأنَّ الوطء إذا كان يُبطل حُكم الاعتداد كانت إباحة الوطء تُبطلهُ أيضًا. ومن رأى أنَّ الإباحة لا تقوم مقام الفعل قال: تستبرئ بحيضتين. وقد وقع في هذه المسألة اختلاف في الروايات وكُلُّهُ يرجعُ إلى ما فصَّلناهُ وحصَّلناهُ. [قال] (¬3) قلت: أرأيت المكاتب يشترى زوجتهُ الأمة، فلم يطأها بعد الشراء، حتى خرجت حُرَّة فلا استبراء عليها. وهذه هى الرواية الثابتة عند الشُيوخ، و [قد] (¬4) وقع في حاشية كتاب "ابن عيسى" على ما نقل بعضُ المحققين، وفي بعض النسخ " [فى] (¬5) الاستبراء عليها على الإثبات". فمعنى الرواية الأولى: أنَّها إذا حاضت عند المُكاتب قبل عتقها. ومعنى الثانية: أنَّ عتقُها قبل الحيضتين، فيكون ذلك اختلافُ حال. تمَّ الكتابُ بحمد الله وعونه. ويليه كتاب الأيمان بالطلاق. ¬

_ (¬1) في أ: اختلافهم. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

كتاب الأيمان بالطلاق

كتاب الأيمان بالطلاق

كتاب الأَيمانِ بالطلاقِ بسم الله الرحمن الرحيم. تحصيل مُشكلات هذا الكتاب وجملتُها ثلاث عشرة مسألة. المسألة الأولى في الذي طَلَّق امْرأتهُ وقال لهُ رجلٌ: ما فعلت؟ فقال: هى طالق. فإن نوى إخبارُه بِنيَّتهِ فلا تخلو هذه المرأة مِن أن يدخُل بها زوجها أو لم يدخُل بها. فإن لم يدخُلُ بها فلا شىء عليهِ ولا يلزمهُ إلا طلقة. فإن دخل بها فلا يخلو جوابَهُ مِن أن يقولَ فيه: "هى مُطلَّقة" أو قال: "هى طالق". فإن قال: "هى مُطلَّقة" فلا يلزمُهُ غير الطَّلقة الأُولى بالإتفاق لأنَّ قولَهُ: "هى مُطلَّقة" إخبارٌ. وإن قال: "هى طالق" فلا يخلو مِنْ أنْ يدْعى نيَّة أو لا يدَّعيها. فإن ادَّعى نية وقال: "أردتُ الإخبار وأنَّها هى ذاتُ الطلاق". فإنَّهُ يُقبل قولُهُ باتفاق المذهب، وهل يُقبل قولُهُ بيمينٍ أو بغير يمين؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ لا يمينَ عليهِ جُملةً. والثانى: أنَّهُ يحلفُ جُملةً. والثالث: التفصيل بين أن تتقدَّم لهُ فيها طلقة أم لا.

فإن تقدَّمت لهُ فيها طلقة فإنَّهُ يحلفُ عند إرادة الرجعة. فإن لم تتقدَّم لهُ طلقة فلا يمين عليه. والأقوال الثلاثة لأصحابنا المتأخرين تأويلًا. فإن لم يدَّع النيَّة وعدمها، فهل تلزمُهُ طلقةً أُخرى؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ تلزمُهُ تطليقة ثانية، وهو ظاهر "المُدوَّنة" في قوله: "فإنْ نَوَى إخبارهُ فله نيةٌ" ظاهره أنَّهُ: إن لم [تكن له نية] (¬1) أنه تلزَمُهُ تطليقة أُخرى، وإليه ذهب القاضى أبو الفضل تأويلًا على "المُدوّنة". والثانى: أنَّهُ لا شىء عليهِ غير التطليقة الأُولى، وهو قولُ الشيخ أبى الحسن اللخمى رضي الله عنه [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: ينوه. (¬2) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الثانية في الذي قال لزوجته: "إن أكلت أو شربت" [فقال]

المسألة الثانية في الذي قال لزوجته: "إنْ أكلتِ أو شربتِ" [فقال] (¬1): هذه أيمانٌ كُلُّها. قال في الكتاب: "وَمَن قال لزوجته: إنْ أكلت أو شربت أو لبست أو قُمتِ أو قعدتِ أو دخلت أو خرجت [أو ركبت] (¬2) فأنت طالق. . ." قال: "هذهِ أيْمانٌ كُلُّها". ولا يخلو ذلك مِن أن يكون ممَّا يُمكن فيه الترك والفعل أو ممَّا لا يُمكن فيه الترك. فإن كان ممَّا يُمكن فيه الترك والفعل كدخول الدار وركوب الدابة فهذا لا خلاف أنَّهُ يمين، وأنَّهُ لا شىء عليهِ إلا بوجودِ الفعل منها. فإن كان ممَّا لا يُمكن تركُهُ كالأكل والشُّرب والقُعود والقيام فلا يخلو مِن أن يُقيد ذلك بصفة أو مُدَّةٍ معلومةٍ [أو لا يقيد. فإن قيد ذلك بصفة أو مادة معلومة] (¬3)، مِثل أن يقول لها: "إنْ أكلت [أو شربت] (¬4) اليوم"، أو "قُمت أو قعدت إلى الظُهر"، أو "إنْ أكلتِ خُبزًا فطيرًا"، أو "شربتِ شرابًا حامضا"، أو نحو ذلك. فهذا أيضًا: لا خلاف فيه أنَّها أيمانٌ، وأنَّهُ لا شىء عليه إلا بِوُجود فِعل ما حلف عليه، وهذا كُلُّهُ ممَّا يُمكن فيهِ الفعلُ والترك. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

فإن لم يُقيد ذلك بصفةٍ معلومةٍ، فلا يخلو مِن أن [يعين] (¬1) لذلك عينًا مخصوصًا أو أطْلَق. فإن عيَّن ذلك في عينٍ مخصوصة مثل أن يقول [لها] (¬2): إنْ أكلت هذا الطَّعام أو شربتِ هذا الشراب لشىءٍ بعينه أو أكلت طعام زيد أو قعدتِ مع فُلانة في بيت فُلانة. فهذا أيضًا ممَّا لا خلَاف فيه أنَّهُ أيمان، ولا يحنث إلا بُوجود الفعل. فإن أطلق ولم يُقيِّد بِصفةٍ ولا زمانٍ ولا عَيَّن ذلك في عينٍ. فهل يُحكم عليه بالطلاق بذلك في الحال أو لا ينجز عليه ذلك إلا بِوقوع الفعل [عليه] (¬3)؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوَّنةَ": أحدهما: أنَّ الحنثَ ينجز عليهِ في الحال، لأنَّهُ علّق الطلاق بأجلٍ لابُدَّ لها منهُ، إذْ لا مندوحةَ لها عن الأكل والشُرب والقيام والقعود [لأنها لو استدامت القيام أو القعود] (¬4) على الدوام لأدَّى ذلك إلى أن تترك الصلاة، وإلى هذا ذهب أكثرُ المتأخرين، فحملوا قولهُ في "الكتاب": أنَّها أيمان فيما يُمكن تركُهُ. ولو استدامت ترك الأكل والشُرب لأدَّى ذلك إلى فواتِ نفسها وهلاكها، والله يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}، وهو ظاهر "المُدوّنة" فيمن علَّق الطلاق [بالشرط الذي لابُدَّ مِن إتيانه] (¬5)، وهو مذهب سحنون: لأنَّهُ قال فيمن قال لزوجتهِ: "أنت طالق إذا صلَّيتِ" أنَّهُ ¬

_ (¬1) في أ: تكون. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في هـ: بأجل لابد منه.

طلاقٌ إلى أجل، لأنَّ الصلاة لابُدَّ لها منها. والثانى: أنَّهُ لا يحنث حتى [تفعل] (¬1) ما [حلف] (¬2) عليه، من أكلٍ أو شُربٍ أو رُكوبٍ أو قيامٍ أو قُعودٍ، لأنَّ هذهِ الأشياء يُمكن [ألا تفعلها] (¬3)، إذ هى مُتعلقة بمشيئة آدمى، وأنَّها مِن جنس مقدورهِ، لأنَّ الحالف إنَّما علَّقَ حنثهُ بفعلها، ومتى لم تفعل ذلك الفعل لم يقع الحنث، وهو ظاهر "المُدوّنة"، في قولهِ: "هذه أيمان". وفي قولهِ في الحيضِ: إن قال لها: [أنت] (¬4) "طالقٌ إذا حضت أو إن حضت" " [ليست] (¬5) هذه يمين" لما كان الحيض ليس [من جنس] (¬6) مقدُور النساء وإنَّما هو أمر يأتى على جِبِلَّة وعادةٍ قد أجراها الله في بنات آدم، وهذا على مذهبه في "المُدوّنة" في الحيض، وإلا فالمذهب على ثلاثة أقوال كُلُّها قائمة مِنَ "المُدونة": أحدها: أنَّه يعجل عليه الطلاق في الحال، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثانى: أنَّهُ لا شىء عليه في الحيض حتى تحيض، وهو قول أشهب في كتاب "محمَّد"، وهو ظاهر "المُدوّنة" فيما يُحتمل أن يكون ويُحتمل ألا يكون، وهو قول المخزومى وابن عبد الحكم وابن وهب. ¬

_ (¬1) في هـ: يقع. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: ليس. (¬6) سقط من أ.

والثالث: أنَّها لا تُطلَّق عليه بنفس اللفظ حتى ترفع إلى حاكم فيحكمُ عليهِ بالطلاق، لأنَّهُ أمرٌ مختلفٌ فيهِ، والحكم يرفع الاختلاف. وهذا القول حكاهُ اللخمى في "المذهب" ولم يُسمِّ قائلَهُ، وهو قائم مِن "المُدوّنة" مِن "كتاب الأيمان بالطلاق" فيما إذا قال لامرأتهِ "إن لم أُطلقَكِ فأنت طالق" فقال في أحدُ الأقوال: أنها لا تُطلَّق عليهِ حتى ترفع أمرها إلى السلطان ويوقفه". والقولُ بأنَّ ذلك كلَّهُ أيمان، وأنَّها لا تُطلَّق عليه إلا بوقوع الفعل، وهذا الذي اختارهُ الشيخ أبو القاسم بن محرز، وهو أسعد بظاهر "المُدوّنة" مِن هذا الكتاب ومِن آخر "كتاب النذور" ومن "كتاب أمَّهات الأولاد" في الذي حلف ليبعينَّ أمتهُ فألفاها حاملًا منهُ، حيثُ قال: "هو حانث"، وقال في مسألة "الحمامات [في كتاب النذور] (¬1) ": "لا حنثِ عليه" وما ذلك إلا لإمكان وُقوع البيع في أُم الولد على الجملة. وسبب الخلاف: اختلافهم في الإمكان المُعتبر، هل هو الإمكانُ على الجُملة وافق الشرع أو خالفهُ، أو المُعتبر الإمكان الشرعى؟ فَمَنْ اعتبر الإمكان على الجُملة وافق الشرع أو خالفهُ قال: "هذهِ أيمانٌ كُلَّها، لا يلزم الزوج الطلاق حتى تَفعل، لأنَّها قادرة على أن تترك الأكل والشَرب حتى تموت". وَمَنْ اعتبرَ الإمكان الشرعى قال: "هو حانثٌ في الحال، إذ لا يحلُّ لها في الشرع أنْ تقعُد بلا أكلٍ ولا شُرب حتى تموت ولا أنْ تقعُد أبدًا ولا أنْ تقف أبدًا". ولهذا الخلاف مطلعٌ آخر وهو: هل الاعتبار بالمقاصد أو بالألفاظ؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فمَنْ اعتبر المقاصد قال: يحنث في الحال. ومن اعتبر الألفاظ قال: لا يحنث إلا بوجود الفعل منها. والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة في الطلاق المقيد بالمشيئة

المسألة الثالثة في الطلاق المقُيَّد بالمشيئة: فإذا قال: "أنت طالق إنْ شئت [أو إذا شئت أو مثل ما شئت] (¬1) " فهل [يتعديان المجلس] (¬2) أم لا؟ [و] (¬3) الطلاق المُقيَّد لهُ سبعةُ ألفاظ: "كُلَّما" و"ومتى ما" "متى" و"إذا" و"إن" و"ما" و"كم". فأمَّا "كُلَّما" إذا قال لها "أنت طالق كُلَّما شئت": فلا خلاف أنَّهُ يتعدى المجلس وأنَّ الوطء بطوعها لا يقطعها، ولها أن تقضى المرة بعد المرة لأن ذلك تفويض. وأمَّا "متى ما [ومتى] (¬4) ": فلا خلاف أنَّهما يتعديان المجلس، واختُلف هل يزول ذلك مِن يدها إذا وطئها طائعةً أم لا؟ على قولين. إلا أنْ ينوى أنْ يكون "متى ما" بمنزلةِ كُلَّما، كان بمنزلتهِ إلى طرف. وأمَّا "إن وإذا": فهل هما كالتفويض فيتعديان المجلس قولًا واحدًا أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنَّهما كالتفويض مِثل: "متى ما، ومتى"، وأنَّهما يتعدَّيان على قولى مالك جميعًا، وهو ظاهر قولُهُ في أول "كتاب الأيمان بالطلاق" في قوله: "أنت طالقٍ "إنْ شئت" أو "إذا شئت"، حيث قال: "ذلك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: يقيد بالمجلس. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

بيدها حتى توقف أو توطأ طوعًا أو يتلذذ بها طائعة، قال: "وكأن "إذا" عند مالك أشدُّ مِن "إنْ"، ثُمَّ ساوى بينهما"، وهو نصُّ قول ابن القاسم في غير "المُدوَّنة". ومعنى قولُهُ في "المُدوّنة" في هذه المسألة في الطلاق المُقيد بمشيئتها فهو أشكل [وأشد] (¬1) مِن التمليك. أي أنَّ لها أن تقضى بعد المجلس على قولى مالك في التمليك المُطلق كالتمليك المُقيَّد. فإذا قال مالك في التمليك المطلق أنَّها [تقضى] (¬2) بعد المجلس على قولٍ [مالك] (¬3)، فهذا الذي لم يختلف فيه قولُهُ أشد، وهكذا رأيتُ لبعض المتأخرين [في] (¬4) تأويل هذا الكلام، وهو موضع مُشكل. وهذا القول أيضًا قائمٌ مِن "المُدوّنة" من "كتاب الظهار"، فيما إذا قال: "إن شئت الظهار، فأنت [عليّ] (¬5) كظهر أمى" أنَّ ذلك تفويض، على قولِ ابن القاسم: والقولُ الثاني: أنَّ ذلك لا يتعدَّى المجلس، إلا على [أحد قولى] (¬6) مالك في "التمليك المطلق"، وهو قولُ مالك، [و] (¬7) أحد قولى ابن القاسم في كتاب "ابن حبيب"، وهو ظاهرُ قولُ الغير في "كتاب الظهار" في "إن" وظاهر قول ابن القاسم في "كتاب التخيير والتمليك"، وكتاب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: هى. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: قول. (¬7) في هـ: في.

"العتق الثاني" مِن "المُدوّنة". والثالث: التفصيل بين "إن، وإذا"، "فإنْ" بمنزلة التمليك المطلق، و"إذا" بمنزلة "متى"، فيتعدَّى المجلس فيكونُ تفويضًا، وهو أحد قولى مالك على ما قال ابن القاسم في [أول كتاب الأيمان بالطلاق -وكأن "إذا" عند مالك أشد من "إن" ثم ساوى بينهما. وهو قول الغير في كتاب الظهار وظاهر قول ابن القاسم في أول] (¬1) كتاب "التخيير والتمليك" في قولهِ: "أنت طالق إن شئت أو اختارى، أو أمرك بيدك". فقال ابن القاسم: قد اختلف قولَهُ فيها، فكان يقول "ليس لها أنْ تقضي إلا في المجلس". فظاهر قوله: أنَّه اختلف قولُهُ في "أنت طالق إن شئت" ولم يجعلهُ [كالتمليك] (¬2) إذا علَّقهُ بالمشيئة. وقال الشيخ أبو القاسم بن محرز ولقوله عندي وجهٌ صحيح، لأنَّ قولَهُ: أنت طالق إيقاع للطلاق، وإنَّما يُصِّيرهُ تمليكا [بتعليقه] (¬3) بالمشيئة فيصيرُ كالتمليك المُطلق ولابد أنْ يكونَ الطلاقُ بنفس تعليقه بالمشيئة مِثل: التمليك المطلق المعلق لأنَّ بينهما رُتبة، فمتى ترقَّى الطلاق عن مرتبتهِ [بتقييد] المشيئة انتهاء إلى رُتبة التمليك المُطلق ولابد أن يكون للتفويض بالمشيئة تأثير وقوة، وذلك أن "إذا" ظرفٌ لما يأتى من الزمان، قال الله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}. و"إن" شرطيَّة، وذلك موضوعها في اللُّغة إلا أنَّ الاستعمال قد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: للتمليك. (¬3) في أ: بعد تعليقه.

ينقل كل واحدٍ منهما عن وضعهِ اللُّغوى. ومثار الخلاف بين "إن" و"إذا"، هل النظر إلى وضعهما في عُرف اللُّغة أو النظر إلى وضعهما في عُرف الاستعمال، وهو نصُّ قول ابن القاسم في "الواضحة" و"المبسوط". والقولُ الرابع: التفصيل بين الطلاق والتمليك، فتكون "إنْ" في الطلاقِ تفويضًا، ولا تكون في التمليك تفويضًا. وهذا القولُ مُتأوّل على ابن القاسم، وحكاهُ أبو النجا الفرائضى، وهو أضعفُ الأقوال. وأمَّا ["ما" و"كم"] (¬1) فيجرى في العدد دون الأمد، في الطلاق والتمليك جميعًا، ولا خلاف في ذلك [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في هـ: ما شئت وكم شئت. (¬2) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الرابعة في تعليق الطلاق بأجل.

المسألة الرابعة في تعليق الطلاق بأجل. قال مالك في "العُتبيَّة" وغيرها: "ولمَّا لم يكُن للزوج في الزوجة غيرَ المُتعة فُحرِّمت المتعة [عليه] (¬1) بطلاقه إياها إلى أجلِ لم يُجز أن تبقى في عصمته. وعجَّلنا عليه ما أجل من الطلاق، كما لم يجز أن يتزوجها إلىَ أجل، فليس ذلك كَالعتق إلى أجل؛ لأنَّهُ بَقِى لهُ الأمة الخدمة. والعِتق يتبعَّض والعصمة لا تتبعَّض، وهذا قولُ عُمر وغيرهُ مِن الصحابة ووفدٌ مِن التابعين رضي الله عنهم أجمعين". ولا يخلو ما يُعلَّق الطَّلاق بوقُوعِهِ مِن ثلاثة أوجه. فمنها ما لابُدَّ مِن وُقوعهِ. ومنها ما يُحتمل أن يكون، ويُحتمل ألا يكون، والغالب أن يكون. ومنها ما يُحتمل أن يكون، ويحتمل ألا يكون، احتمالًا متساويًا. فالجواب عن الوجهِ الأول: إذا علَّق بأجل لابدَّ [مِن مجيئه] (¬2) فلا يخلو مِن ثلاثةِ أوجُه: أحدها: ممَّا يُمكن أنْ يأتى قبل موتها. والثانى: ممَّا يُمكن أن يأتى بعد موتها. والثالث: مما يُمكن أنْ يأتى بعد موتها أو أحدهما. فإن كان الأجلُ ممَّا يُمكن أنْ يأتى قبل موتها مِثل أن يقول: "إذا جاء ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: أن يأتى.

الشهرُ أو السنة فأنت طالق" وكان ذلك ممَّا يمكن أنْ يبلُغَهُ عمرها فلا خلافَ أعلمهُ في "المذهب" أنَّ الطلاقَ واقعٌ عليه حين التكلم بذلك، لأنَّ الشَّهرَ والسنة لابُدَّ من مجيئهما، فإن كان الأجَلُ ممَّا يُمكن أن يأتى بعد موتها مثل أن يقول لها: أنت طالق إلى مائة سنة، والزوج ابن سبعين سنة أو الزوجة أو كلاهما فلا يلزمُهُ الطلاق. وَمَنْ طلق إلى أجلٍ لا يبلغُهُ عمُرهُ فلا شئ عليهِ، لأنَّهُ طلاقٌ يقعُ بعد الموت. قال مالك رحمهُ الله: "ولا تُطلَّق ميتةٌ، ولا يُوصِى ميتٌ بِطلاق". فإن كان الأجلُ ممَّا يُمكن أنْ يأتى بعدَ موتِها أو أحدهما مثل أن يقول لها: "أنت طالق إذا متُّ أنا" أو "إذا متِّ أنت" فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّه لا يلزمُهُ الطلاق، لأنَّهُ طلاق يقعُ بعد الموت، وهو نصُّ قولُه في "المُدوَّنة". والثانى: التفصيل: بين أن يقول: "إذا مت أنا" فيلزمه الطلاق، وبين أن يقول: "إذا مت أنت" فلا يلزمُهُ الطلاق. وهي رواية ابن وهب قال: "لأنَّ الطلاقَ يسبقُ الموت". وفي المسألة قولُ ثالث: أنَّهُ يلزمُهُ الطلاق سواءٌ قال: "إذا متُّ أنا" أو قال: "إذا متِّ أنت". وهذا القولُ ألزمهُ اللخمى للمذهب، وهو قائمٌ مِن "المُدوّنة" مِن كتاب "العِتق الأوّل" في الذي قال لعبدهِ: "إنْ بعتَك فأنت حُر" حيثُ قال: "يُعتق على البائع"، فانظر كيف ألزمهُ العِتق وهو عتقٌ وقع بعد البيع، وهو بعد أنْ خرج مِن ملكِه، فكذلك يلزمُهُ الطلاقُ في الحال.

والجواب عن الوجه الثاني: إذا علَّق الطلاق بأجلٍ يُحتمل أنْ يكُون ويُحتمل ألا يكون [والأغلب أن يكون] (¬1)، كتعليق الطلاق بوضعِ الحمل ومجىء الدم والطُهر، فهل يجوز عليهِ الطلاقُ في الحال؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّ الطلاقَ يقعُ عليهِ في الحال، وهو قولُ ابن القاسم في "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهُ لا يقع عليهِ بطلاق حتى يقع عليه ذلك الشرط، وهو قول أشهب. والثالث: أنها لا تطلق عليه حتى ترفعَ أمرها إلى السُّلطان، وهذا القولُ قائمٌ مِن "المُدوَّنة". والجواب عن الوجه الثالث: أنَّهُ إذا علَّق الطلاقَ بأجلٍ يُحتمل أن يكون، ويُحتمل ألا يكونَ، واحتمالهما احتمال متساوٍ، كدُخُول الدار وقُدُوم زيد. فهذا لا خلافُ عندنا أنَّها لا تُطلَّق عليهِ حتى تدخُل الدارَ أو يقدمَ زيدٌ [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الخامسة إذا قال لها: "إذا حملت فأنت طالق" فهل يعجل عليه الطلاق أو يمكن من وطئها؟

المسألة الخامسة إذا قال لها: "إذا حملتِ فأنت طالق" فهل يُعجَّل عليه الطلاق أو يُمكَّن مِن وطئها؟ فالمذهب على أربعة أقوال كُلَّها قائمةٌ مِن "المُدَوَّنة": أحدها: أنَّهُ يُمكن مِن وطئها [مرة واحدة ثم تطلق عليه وهو قول ابن القاسم في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة. والثانى: أنه يمكن من وطئها] (¬1) في كل طهرٍ مرة واحدة، ثمَّ يَدَعْهَا حتى تحيض، فإذا حاضت تبيَّن أنَّها حائل، وإن تراخى الدمُّ عنها وتأخَّر عن عادتها فإنَّها تُطلَّق عليه، وهو قولُ ابن القاسم في كتاب "العتق الثاني" في الأمة إذا قال لها سَيِّدُها [إنْ] (¬2) حملتِ فأنت حُرَّة"، وَلا فرق بين الأمة والزوجة [وهو نص ابن الجلاب] (¬3). والقول الثالث: التفصيل بين أن يطأها في ذلك الطهر فيُعجَّل عليه الطلاق في الحال، أو لا يطأها في ذلك الطُهر فيُمكَّن مِن وطئها مرةً واحدة ثُمَّ تُطلَّق عليه. وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب "الأيمان بالطلاق". والقولُ الرابع: التفصيل بين أن تكون مدخُولًا بها أو غير مدخول بها. فإن كانت غيرُ مدخولٍ بها فلا تُطلَّق عليهِ حتى [يطأها] (¬4). وإن كانت مدخولًا بها فإنَّهُ يُعجَّل عليهِ الطلاق ساعتئذ [سواء] (¬5) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: إذا. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: تطأ. (¬5) سقط من أ.

وطئها في ذلك الطُهر أم لا. لاحتمال أن تكونَ حاملًا مِن وطء سَبَقْ والحاملُ تحيض [عندنا] (¬1)، وهو ظاهر "المُدوّنة" مِن غير ما موضع. وسببُ الخلاف: هل [المراد] (¬2) بذلك وُجود الحمل بِها جُملةً مِن غير اعتبارٍ بأن يكون مِن وطء مُتقدَّم أو مِن [وطء] (¬3) مُستقبل أو المرادَ بذلك أن يكونَ الحمل مِن وطء مستقبل؟ فمن قال: "يطأها في كُلِّ طهر مرَّة"، قال: لا تُطلق عليه بالشكِّ، وهو قول عبد الملك. وَمَن قال: "تطلَّق عليه في الحال إن كانت مدخولًا بها قال: يُفرَّق بينهما بالشكِّ، لاحتمال أن تَكون حملت مِن وطء تقدَّم. والحامل تحيضُ كما قدَّمناهُ، وربُك أعلم. واختلف المذهبُ أيضًا، إذا قال لها: إن كُنتِ حاملًا، [أو] (¬4) إن لم يكن بك حمل، هل تُطلَّق عليهِ أم لا؟ على أربعة أقوال: أحدها: أنَّه يُعجَّل عليهِ الطلاق في الحال، وهو قول مالك في المُدوّنة. لأنَّهُ في شكٍ مِن حملها وسواء قال لها: "إن كُنت حاملًا أو إن لم تكونى حاملًا". والثانى: أنَّها لا تُطلَّق عليه وينتظر بها ظهور الحمل [فإذا] (¬5) ظهر الحمل بها طُلِّقت عليه، وهو قولُ أشهب. ¬

_ (¬1) في أ: عنده. (¬2) في أ: أراد. (¬3) سقط من. (¬4) في أ: و. (¬5) في أ: حين.

والثالث: أنَّهُ لا يقع عليهِ الطلاق إلا أنْ يُوقفهُ الحاكم، وهو قول مالك في كتاب ابن حبيب. والرابع: التفصيل [بين] (¬1) أنْ يكون على بر، أو على حنث. فإن قال: "إنْ كُنت حاملًا" لم يقع عليهِ الطلاق لأنَّهُ على بر حتى يعلم أنَّها حامل. وإن قال لها: "إنْ لم تكونى حاملًا" عُجِّل عليهِ الطلاق لأنَّهُ على حنث، وهو قول أصبغ. وعلى القول بأنَّ الطلاق لا يُعجَّل عليهِ وينتظر إن كان بها حملٌ أم لا. فإن مات أحدهما قبل العلم بأنَّها حامل [أو حائل] (¬2)، هل يتوارثان أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهما يتوارثان، والأصلُ استدامة الزوجية. والثانى: ألا توارثَ بينهما، لأنَّها [موارثة بالشك والقولان قائمان من المدونة. والقول الثالث: التفصيل بين أن تموت فلا يرثها وإن] (¬3) مات هو ورثتهُ بعد الاستبيان [والاستقصاء] (¬4)، هل يظهر بها حملٌ أم لا؟، وهو قول سحنون. وقال الشيخ أبو الحسن اللخمى رضي الله عنه: "معنى ذلك إذا كانت يمينه بالثلاث" وعليه يُحمل قولُ مالك في "المُدوّنة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

ولو كانت بطلقة واحدة أو بطلقتين لتوارثا قولًا واحدًا، لأنَّهُ وإن كان حانثًا فهو طلاق رجعى. وإن مات الزوج قبل أن يظهر، هل هى حامل أم لا؟ كان موتُهُ في العدَّة. وكذلك إن كانت هى الميتة، أو أنَّها ماتت وهي في عدَّة، لأنّها على أحد [أمرين] (¬1): إمَّا أن تكون حاملًا: فالعدَّة وضعُ الحمل. وإمَّا أن تكون حائلًا: فالعدَّة [بالحيض] (¬2). فإن مات ثم حاضت: انتقلت إلى عدَّة الوفاة، فالموارثة بينهما على كُلِّ حال. والله أعلم [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: الأمرين. (¬2) في أ: في الحيض. (¬3) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة السادسة فيما ينوى من حروف الطلاق، وما لا ينوى فيه، وذلك في [ستة] أحرف

المسألة السادسة فيما ينوى مِن حروف الطلاق، وما لا ينوى فيه، وذلك في [ستة] (¬1) أحرف: منها: " [قوله] (¬2) أنت طالق طالق [طالق] (¬3) "، ومنها قولهُ: "أنت طالق أنت طالق [أنت طالق] (¬4) ". ومنها قولُهُ: "أنت طالق وأنت طالق [وأنت طالق] (¬5) "، [ومنها قوله: "أنت طالق ثم أنت طالق"، ومنها قوله: "أنت طالق فأنت طالق". ومنها قولُهُ: "قد طلَّقتُك". أمَّا قولُهُ: "أنت طالق طالق [طالق] (¬6) " و"أنت طالق أنت طالق أنت طالق" فهي ثلاث، إلا أن ينوى واحدة ويُريد بالبقيَّة الإسماع والتأكيد، فينوى باتفاق المذهب، ولا فرق بين أن تكون الزوجة مدخولًا بها أم لا. [فإن] (¬7) كان قولُهُ "أنت طالق" جُملةً [مستقبلة] (¬8) مرَّكبة مِن ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من هـ. (¬7) في أ: وإن. (¬8) في أ: مستقلة.

مبتدأ وخبر، لأنَّ الكلام المنسوق المتتابع كالجملة الواحدة إذا [كانت] (¬1) مِن جنسٍ [واحد] (¬2)، وهذا على "مذهب مالك" رحمه الله. وأمَّا على "مذهب الشافعى [وأبى حنيفة] (¬3) "، فإنَّهُ لا يلزمُهُ إلا تطليقة واحدة [إذا كان مِن جنسٍ واحدٍ، وهذا] (¬4) في غير المدخول بها، لأنها بالطلقة الأولى بانت، والثانية والثالثة لم تُصادِف مَحَلًا قابلًا. فأما قولُهُ: "أنت طالق وأنت طالق" بالواو فقد اختلف فيهِ قولُ مالك: فمرَّة قال: "ينوى". ومرةً قال: "لا ينوى"، وهو الأغلب مِن قولهِ. قال بعض المتأخرين: "ينوى إن جاء مستفتيًا". وسبب الخلاف: الشىء هل يُعطف على نفسهِ أو لا يعطف على نفسه؟ وأمَّا قولُهُ: "أنت طالق ثُمَّ أنت طالق" أو "أنت طالق فأنت طالق فلست أعرف في المذهب نصَّ خلاف أنَّهُ [لا ينوى] (¬5). والخلاف داخل فيه بالمعنى مِن اختلافهم في الطلاق لمجرد اللفظ، إذ لا شكَّ أن هذا مِن باب الطلاق باللفظ دون النية. وأمَّا قولُهُ: "قد طلَّقُتكِ قد طلَّقتُكِ"، [فقد] (¬6) حكى أبو إسحاق ¬

_ (¬1) في أ: كان. (¬2) في أ: واحدة. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من هـ. (¬5) في هـ: ينوى. (¬6) في أ: فهكذا.

ابن شعبان في [كتاب] (¬1) "الزاهى" في قولهِ: "قد سرّحتُك قد سرحتُك" قولين في المذهب: أحدهما: أنَّهُ ثلاث ولا ينوى. والثانى: أنَّهُ ينوى إنْ ادَّعى نيةِ ويحلف على ما داعى. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة السابعة في الشك في الطلاق. والكلام في هذه المسألة على ستة أسئلة

المسألة السابعة في الشكِّ في الطلاق. والكلام في هذه المسألةِ على ستةِ أسئلة: السؤال الأول: إذا شكَّ، هل حلفَ أم لا. والثانى: أنْ يتيقَّن باليمين وشكَّ في المحلوف به. والثالث: أنْ يُوقن أنَّ المحلوف به الطلاق وشكَّ [في] (¬1) عدده. والرابع: أنْ يُوقن بالعدد ويشكُّ في عين المُطلَّقة مِن نسائهِ. والخامس: أنْ يتيقَّن باليمين ويشكُّ في الحنث. والسادس: أن يتيقَّن في الحنث ويشكُّ في اليمين. والجواب عن [السؤال] (¬2) الأول: إذا شكَّ، هل حلف أم لا؟، فهل يجبُ عليه بالشك حكم مِن الأحكام أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كُلُّها قائمة مِن المُدوّنة: أحدها: أنَّهُ لا شىء عليه في يمينه، وأنَّ الشكَّ لا يُوجب عليه [حكمًا ولا يوجب عليه إثمًا] (¬3)، وهو [ظاهر] (¬4) "المدوّنة" في "كتاب الأيْمان بالطلاق"، وهو مشهور المذهب، لأنَّ الأصل براءة الذمَّة وفراغ الساحة، فلا تعمر إلا بيقين، والأصلُ استدامة العصمة. والثانى: أنَّهُ يُقضى عليه بالطلاق، وهو قائم مِن "المُدوّنة" أيضًا مِن "الكتاب المذكور"، ومِن "كتاب الوُضوء" مِن قولهِ: "إذا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: أظهر.

أيقن بالوضوءِ وشكَّ في الحدث أنَّهُ يُعيد الوضوء" فظاهِرهُ [من قولهِ] (¬1) وُجوبًا، وهو تأويل حُذَّاق المتأخرين على "المدوّنة" لتشبيهه "بمسألة الصلاة"، وهو قول القاضى أبى الفرج المالكى في "كتاب الحاوى" "ولا فرق بين الوُضوء والطلاق"، وهو قولٌ ضعيفٌ جدًا في كوْنِ الشكِّ المُجرد يُؤثر فيما يُتيقَّن بهِ وقد قدَّمنا هذا في "كتاب الوُضوء" وقد مزَّقناهُ كُلَّ مُمزَّق. والقولُ الثالث: أنَّهُ يُؤمر بالفراق ولا يُخيَّر، وهو ظاهر قولُهُ في كتاب "الأيمان بالطلاق" فيما إذا قال: "أنت طالق إنْ كُنت تبغضينى" فقالت: "أنا أُحبُّك". ووجهُ هذا القول مُراعاة الشبهة. والجواب عن السؤال الثاني: إذا أيقن باليمين وشكَّ في المحلوفِ بهِ، هل هو طلاقٌ أو غيرهِ؟ وهل يُقضى عليهِ [بالطلاق] (¬2) أو يُؤمر؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّهُ يُقضى عليه بالطلاق وهذا القولُ قائمٌ مِن المُدوّنة إذا قال لامرأتهِ: "أنت طالق إن دخَلتِ الدار" فقالت [قد] (¬3): دخلتها وصدَّقها قلت: هُو وإنْ صدَّقها، فلا يُخرجهُ ذلك مِن الشكِّ لاحتمال أن تكون صادقة ولاحتمال أن تكون كاذبة. ووجهُ هذا القول: أن اليمين مُتيقَّن [بها] (¬4) ولليمين تأثير في حلِّ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: بالفراق. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

العصمة المُنعقد على الجُملة فيما وقع فيه اليمينُ المُتيقَّن بما يقدح في العصمة، ولا يصح البقاء عليها مع احتمال انحلالها، والشرعُ مبنىٌ على صيانة الأبضاع. والثانى: أنَّهُ يُؤمر ولا يُجبر، وهو نصُّ المُدوّنة. ووجهُه أنَّهُ وإنْ أيقن باليمين فإنَّ ذلك لا يُخرجُهُ مِن باب الشكِّ ولا يرقى [به] (¬1) إلى مرتبة اليقين. وأدنى مراتبهُ أن يُؤمر لئلا يخلو يمينهُ من إيجاب الحكم. وعلى القول بأنَّ الطلاقَ يلزمُهُ إمَّا ندبًا وإمَّا وُجوبًا، فهل يلزمُهُ ثلاث تطليقات أو طلقة واحدة؟ فالذي يتخرَّج مِن الكتاب قولان: أحدهما: أنَّها تُطلق عليهِ ثلاثًا، وهو قولُهُ في "المُدوَّنة": تُطلَّق عليه نساؤه ويُعتق عليه عبيدهُ" فمقارنتهُ الطلاق بالعتق ينبئ بأنَّ الطلاق ثلاثًا، وبيانُهُ أنَّهُ [بالعتق] (¬2) يزول ملكه عن العبد وَلا سلطة لهُ على رِقِّهِ بوجهٍ فكان ينبغى أن تكون الزوجة كذلك إذْ لا يصحُّ زوال العصمة بدون الثلاث في المدخول بها. إذ بها تنقضى العصمة مع الاحتمال أن تكونَ يمينهُ بذلك. والثانى: أنَّها واحدة، لأنَّ شكَّهُ لا يتناول عددًا محصورًا، فوجب أن يلزم أقل ما يقع عليه اسم الطلاق وهي واحدة، وهو اختيار بعضُ المتأخِّرين. ويتخرج في المسألة قولٌ ثالث: أنهُ ينظُر إلى عادة الحالف وما جُبِلَ عليهِ طبعُهُ وعادتُهُ وعود لسانه مِن الأيمان والعدد في الطلاق: ¬

_ (¬1) في أ: فيه. (¬2) في أ: بالملك.

فإن كان ممن عوَّد لسانه الطلاق تقييدًا أو إطلاقًا قُضى عليه [بالبتَّة] (¬1) اتفاقًا حسمًا للباب وقطعًا لمادة [الارتياب] (¬2). وإن كان ممن قمع لسانهُ عن التلفظ بالطلاق الذي جعلهُ الشارع مِن أيمان الفُسَّاق، فلا يلزمُهُ الطلاق لا جبرًا ولا أمرًا، وهذا هو الصحيح مذهبًا ونظرًا. والجواب عن السؤال الثالث: إذا أيقن أنَّ المحلوف به الطلاق وشكَّ في عددهِ. فلا خلاف في المذهب أنَّ الطلاق يلزمُهُ على الجُملة، وإنَّما الخلافُ في كيفية ما يقعُ عليهِ على [قولين] (¬3) قائمين على "المدوّنة": أحدهما: أنَّهُ يلزمُهُ ثلاث تطليقات، واحدةٌ إيجابًا، والثانية والثالثة استحبابًا، وهو قولُهُ في كتاب "ابن حبيب". والثانى: أنَّ الثلاثة إيجابًا، وهو ظاهر المُدوّنة". والقولان قائمان منها، وذلك أنَّهُ قد أيقن بحصول الثلم في النكاح وأنَّ هناك تحريم لا يدفعهُ إلا الرجعة إن كانت مدخولًا بها، أو العقد المبتدأ إن كانت غيرُ مدخولٍ بها. والرجعة والعقد مشكوكٌ فيهما، فهل يملكُ الزوج إحداثهما وإيقاعهما أم لا؟ وحاصل ذلك يرجع إلى الشكِّ في الطلاق، ولا فرق بين أن يشكَّ في نفس الطلاق أو شكَّ في عددهِ، فقد تبيَّن لك كيف يستقرأ القولان مِن "المُدوّنة". وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) في هـ: بالثلاث. (¬2) في أ: الإرتباط. (¬3) في أ: فرعين.

وعلى القول بأنَّها تُطلَّق عليه ثلاثًا إيجابًا، فإنْ استمر الشكُّ [ولم] (¬1) ينقشع بيقين [صدر] (¬2)، هل يدور عى الزوج التحريم بعد كُلِّ طلاق إلا بعد زوج ولو بعدَ ألف أو يزول الدور ويسقط المور بعد ثلاثة أزواج؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ الدور لا ينقطع، و [المور] (¬3) لا ينقلع إلا بالثلاث في كلمةٍ واحدة، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب" وهو الأصح. والثانى: أنَّ الدور ينقطع بعد ثلاثة أزواج، وهو قول أشهب في غير "المُدوّنة". والجواب عن السؤال الرابع: إذا أيقن بالعدد وشكَّ في عين المُطلَّقة من نسائه، هل يُطلَّقن عليه كُلَّهُنَّ أو لهُ أن يختار مَنْ شاء منهنَّ، كما يختار للعِتق؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يطلقهن كلهن، ولا خيار لهُ في واحدةٍ بعينها، وهو مشهور المذهب، وهو نصُّ "المُدوَّنة". والثانى: أن للزوج أن يختار مَن شاء منهنَّ للطلاق كما يختارُ للعتق، وهو قولُ المدنيين عن مالك رحمهُ الله. وسببُ الخلاف: هل يجوز قياسُ الطلاقِ على العِتق أو لا يجوز، لأنَّ كلُّ واحدٍ منهما أصلٌ في نفسهِ؟ والجواب عن السؤال الخامس: إذا أيقن باليمين وشكَّ في الحنثِ هل يُقضى عليهِ بالطلاق أو يُؤمر؟ قولان قائمان مِن "المُدونة": ¬

_ (¬1) في أ: فلا. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الدور.

أحدهما: أنَّهُ يُؤمر، وهو نصُّ "الكتاب". والثانى: أنَّهُ يُجبر، وهو ظاهر "المدونة" أيضًا. والجواب عن السؤال السادس: إذا أيقن في الحنث وشكَّ في اليمين، هل يؤمر أو يُجبر؟ قولان قائمان مِن "المدونة". وهذا السؤال غيرُ منصوصٍ عليه في "الكتاب" إلا [أنه] (¬1) يُستقرأ مِن قوله: "إذا أيقن باليمين، وشَكَّ في المحلوف به"، حيث قال في "المُدوّنة": "تلزمه جميع الأيمان"، ولا شكَّ ولا خَفاء أنَّهُ [شاك] (¬2) في حق كل يمين، هل حلفَ بها أم لا؟ والحمد لله وحدهُ. ¬

_ (¬1) في أ: أن. (¬2) في أ: شك.

المسألة الثامنة في الاستثناء في الطلاق. ولا يخلو ذلك من وجهين

المسألة الثامنة في الاستثناء في الطلاق. ولا يخلو ذلك مِن وجهين: أحدهما: أن يكون الاستثناء في نفس الطلاق [والثانى: أن يكون الاستثناء في عدد الطلاق. فإن كان الاستثناء في نفس الطلاق] (¬1)، كتعليق الطلاق بالمشيئة فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن يعلِّق ذلك بمشيئة الله تعالى، أو يُعلِّقهُ بمشيئة آدمي، أو بمشيئة مَنْ لا تُدرك مشيئتهُ [كالجماد] (¬2) والحيوان. فإن علَّق ذلك بمشيئة الله تعالى، فلا يخلو مِن وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك في يمين. والثانى: أن يكون في غير يمين. فإن كان ذلك في يمين مثل أن يقول: "إن دخلت الدار فامرأتهُ طالق إن شاء الله" هل ينفعهُ الاستثناء أو لا ينفعُهُ؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ لا ينفعهُ الاستثناء جُملةً، وهو قول [مالك] (¬3) في "المُدوّنة". والثانى: التفصيل: بين أن يكون الاستثناء عائدًا على الفعل أو عائدًا على المشيئة فإن كان عائدًا على الفعل فإنَّ الاستثناء ينفعُهُ. وإن كان عائدًا على مشيئة الله تعالى فلا ينفعُهُ، ويلزمُهُ الطلاق، وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: كالجدار. (¬3) في هـ: ابن القاسم.

قول عبد الملك وأشهب في "المجموعة". وإن كان ذلك في غير يمين مثل أن يقولَ: "أنت طالق إن شاء الله" فلا خلاف أعلمُهُ في المذهب أَنَّ الطلاق يلزمُهُ في الحال ولا ينفعهُ الاستثناء، وذلك أنَّ الاستثناء رخصةً جعلها اللهُ حلًا لليمين ورفعًا ومنعًا لها مِن الانعقاد على ما قدَّمنا بيانُهُ في "كِتاب النُذُور" والحالف بالطلاق عاصٍ [والعاصى] (¬1) لا يُرخَّص لهُ بالرُخص. وإن [كان] (¬2) هذا الأصل مختلفٌ فيه، فلا يُدخل ذلك الخلافُ في الاستثناء إن شاء الله. وقال القاضى أبو محمَّد عبد الوهاب: وبيان ذلك: أن قوله "أنت طالق" [لفظه] (¬3) لفظ خبرٍ على إيجاب وإيقاع، فإذا طلَّق اقتضى وقوع الحُكم مُطلقًا. وإذا علق شرطًا وصفة تعلق بما علَّق له. فإذا ثبت ذلك: نظرنا في قولِ القائل: "أنت طالق إن شاء الله تعالى" فقُلنا: لا يخلو هذا مِن أن يكون شرطًا أو استثناءً: فإن كان شرطا وهو الذي يُوجبُهُ ظاهر الكلام في اللغة لأنَّ "إن" مِن أحرف الشرط كقولهِ "أنت طالق إنْ شاء زيد" فإذا ثبت أنَّهُ شرط وكُلُّ شرط عُلِّق الطلاق به ولا سبيل إلى العلم به فإنَّهُ يكون لغوًا ويصيرُ الكلام كالطلاق العارى من الشرط، كما لو قال: "أنت طالق إن كان الله خلق هذا اليوم حوتًا في بحر القلزم أو وُلد ببلاد الهند فيل" ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وما أشبهَ ذلك مما لا طريق إلى العلم به [فإنه يكون لغوًا ويحكم عليه بإيقاع الطلاق. فإذا كان ذلك كذلك لم تحل مشيئة الله تعالى لوقوع الطلاق من أن يكون لها طريقًا إلى العلم بها] (¬1). فإن لم يكن [لها] (¬2) طريق إلى معرفة ذلك بُطل تعليقُ الطلاقِ بهِ وكان لغوًا، فصار كأنَّهُ قال "أنت طالق" ولم يُعلِّق الطلاق بشىءٍ. فإذا كانت معلومة لنا فلا سبيل لنا إلى ذلك لوقوع الفعلِ المُعلَّق بها فهو إذا قال: "أنت طالق" فقد لفظ بالطلاق وأوقعهُ. وإذا قال "إن شاء الله": فقد علم أن مشيئة الله تعالى [خالصة] (¬3). إلى وقوع الفعل منهُ فوجبَ أن يُطلِّق، وهذا إذا كان شرطًا. فإن كان استثناءً فذلك باطلٌ، لأنَّ الاستثناء إنَّما يكون في مستقبل الأفعال دون ماضيها. وقولُهُ: "أنت طالق" لفظُ إيجاب وخبر عن إيقاع، فلا يصحُّ الاستثناء فيهِ، والدليل على ذلك أيضًا: أنَّ الاستثناء أضعف مِن الكفَّارة والكفَّارة أقوى منه لأنَّها تدخُل فيما [لا] (¬4) يدخُل فيه الاستثناء ويُؤتى بها مُتصلة ومُنفصلة، وليس كذلك الاستثناء لأنَّهُ لا حُكم لهُ، إلا إذا اتَّصل باليمن ثُمَّ ثبت وتقرَّر أنَّ الكفارة التي هى أقوى [من الاستثناء] (¬5) لا تدخُّل في الطلاق فكذلك الاستثناء. فإن علَّق الاستثناء بمشيئة آدمى، فلا يخلو ذلك الآدمي مِن أن يكون ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: له. (¬3) في هـ: خاصة. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

حيًا أو ميتًا: فإن كان حيًا فلا يلزمُهُ الطلاق حتى يشاء من جُعلت إليه المشيئة. فإن مات قبل أن تعرف مشيئته فلا شىء على الزوج وقدْ عُفِى مِن الطلاق. وإن كان ميتًا والزوج عالمٌ بموتهِ فذلك يتخرّج على الخلاف في طلاق الهزل ونحن نذكره. وإن لم يعلم فلا شىء على الزوج. وإن علّقهُ بمشيئة ما لا تصح مشيئتهُ [ولا تدرك] (¬1) كالجمادات وغيرها مِن الحيوانات مثل: أن يقول لامرأتهِ: "إن شاء هذا الحجر" أو [ينشد] (¬2) هذا الحمار: "قفا نبك مِن ذكرى. . . ." هل يلزمهُ الطلاق أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ لا شىء عليهِ، وهو قولُ ابن القاسم في "المُدوّنة". والثانى: أنَّ الطلاق يلزمُهُ ويعدِ ذلك منهُ ندبًا، وهو قول ابن القاسم في "النوادر"، وبهِ أخذ سحنون. وينبنى الخلاف على الخلاف: في طلاق الهزل هل يلزم أو لا يلزم؟ فمن قال أنَّ طلاق الهزل يلزم، قال في هذه المسألة: يلزم. ومَن قال لا: يلزم [قال: لا يلزم] (¬3)، في هذه [المسألة] (¬4) أيضًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: إن شاء. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

والوجهُ الثاني: أنَّهُ إذا كان الاستثناء [في عدد الطلاق] (¬1)، فلا يخلو مِن أربعة أوجه: أحدهما: أن يستثنى جميع العدد. [والثانى: أن يستثنى أكثره. والثالث: أن يستثنى أقله. والرابع: أن يستثنى من المستثنى. فإن استثنى جميع العدد] (¬2) الذي طلَّق [امرأته] (¬3)، مثل أن يقول لها أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا أو واحدة إلا واحدة، فلا يخلو مِن أن تكون [عليه بينة] (¬4) أو لم تكن: فإن كانت [عليه بينة] (¬5)، هل يلزمُهُ الطلاق أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين: أحدهما: أنَّهُ يلزمُهُ جميع العدد الذي طلّقهُ. والثانى: أنَّهُ لا شىء عليه. وهذا الخلاف يتخرج على الخلاف في طلاق الهزل، وذلك أنَّ استثناء الجميع [من الجميع] (¬6) قد أتى فيهِ بما لا يُشبه فلا يُقبل منهُ. وكقولهِ إن شاء هذا الحجر، هل يُعد ذلك منه ندم أم لا؟ فإن لم [تكن عليه بيِّنة] (¬7) وإنَّما جاء مُستفتيًا فلا شىء عليهِ، ولا يلزمهُ مِن الطلاق شىء، لأنَّهُ طلاق بغير نيَّة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: ببينة. (¬5) في أ: ببينة. (¬6) سقط من أ. (¬7) في هـ: يكن ذلك ببينة.

فإن استثنى أكثرهُ مِثل أن يقول [لها] (¬1) "أنت طالق ثلاثًا إلا اثنين" أو "اثنان إلا واحدة" هل ينفعُهُ الاستثناء أو لا ينفعهُ؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ ينتفع بذلك ويصح استثناؤُهُ وتلزمُهُ طلقةً واحدة [وهو قول محمَّد بن المواز] (¬2). والثاني: أنَّهُ لا يصحُّ استثناؤه ويلزمهُ جمي ما طلَّق، وهو مشهور المذهب. وسبب الخلاف: اختلاف الأصوليين في استثناء أكثر الجُملة هل يجوز أو لا يجوز؟ فمن منعهُ قال: إنَّ ذلك صحيحٌ في اللفظ وقليلٌ في الاستعمال. ومَن جوَّزهُ قال: فإنَّ موضع الاستثناء [أن] (¬3) يخرج مِن الكلام ما لولاهُ لانتظمه، وهذا حاصل في الكثير كحصولهِ في القليل. وكونهُ قبيحًا في نفسه أو قليلًا في الاستعمال لا يُؤثِّر، لأنَّ الكلام في الصحة لا في الحُسن والقُبح. فإن استثنى أقل الجُملة مثِل أن يقولَ لها: "أنت طالق ثلاثا إلا واحدة" فلا خلاف في المذهب أنَّهُ ينتفع بذلك الاستثناء، وتلزمُهُ تطليقتان إذا حصلت [عنده شروط] (¬4) الاستثناء على ما [وصفناهُ] (¬5) في كتاب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: بشروط. (¬5) في هـ: أوضحناه.

"الأيْمان والنُذُور". فإن استثنى مِن الاستثناء مثل أن يقول "أنت طالق ثلاثًا إلا اثنتين إلا واحدة" فلستُ أعرف في المذهب في هذه المسألة نصًا، والذي تقتضيه أصول مذهبنا أنَّهُ يلزمهُ اثنتان، كقوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ} فاستثنا مِن الاستثناء، وذلك جائزٌ في [كلام] (¬1) العرب. واختلف المذهب عندنا في الاستثناء في طلاق مِن البتَّة أو مِن لفظ التحريم مثل أن يقول: "هى طالقٌ البتَّة إلا واحدة" و"هى عليهِ حرامٌ إلا واحدة"، هل يصح استثناؤُهُ أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنَّهُ يصحُّ، ولا يلزمُهُ إلا اثنتان، وهو قولُ أشهب في "العُتبيَّة" وسحنون وعبد الملك بن الماجشون. والثانى: أنَّ ذلك الاستثناء لا يصحُّ، وإنَّما تلزمُهُ الثلاث، وهو قول سحنون في "المجموعة". وسبب الخلاف: اختلافهم في البتَّة، هل تتبعَّض أو لا تتبعَّض؟ فَمَنْ رأى أنَّها تتبعَّض، قال: يصحُّ الاستثناء. وَمَنْ رأى أنَّها لا تتبعَّض، قال: لا يصحّ الاستثناء [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في هـ: لغة. (¬2) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة التاسعة في الطلاق بشرط التزويج. ولا يخلو ذلك من وجهين

المسألة التاسعة في الطلاق بشرط التزويج. ولا يخلو ذلك مِن وجهين: أحدهما: أنْ يعمَّ. والثانى: أنْ يخُصَّ. فأمَّا الوجهُ الأول: إذا عمَّ الجنس وقال: "كُلُّ امرأةٍ أتزوجها فهي طالق"، فلا يخلو ذلك مِن وجهين: أحدهما: أن يضرب لذلك أجلًا. والثانى: ألا يضربَ أجلًا. فإن ضَرَبَ أجلًا فلا يخلو مِن أن يُقيِّدهُ بزمانٍ معلومٍ أو [يقيده] (¬1) بموتِ زيد. فإن قيَّدهُ بزمان معلوم مِثل أن يقول "كُلُّ امرأةٍ أتزوجها إلى مُدَّةٍ معلومة"، فلا يخلو مِن أنْ يضرب لذلك أجلًا يبلغه عمره أو لا يبلغه: فإن ضرب أجلًا يُبلُغهُ عُمُرهُ مثل أن يقول: "إلى عشرين سنة، وهو ابن ثلاثين سنة": فلا خلاف أعلمهُ في المذهب أنَّ الطلاق يلزمُهُ إنْ تزوج قبل الأجل إلا أن يخشى العنت على نفسهِ فيجوز لهُ أن يتزوّج عند ابن القاسم في "المُدوّنة"، ولا يجوز عند أشهب وابن وهب. فإن ضرب أجلًا لا يبلُغُه [عمره] (¬2)، فلا خلاف في المذهب أنَّ ذلك لا يلزمُهُ، ولهُ أن يتزوج أربعًا، خلافًا لأبي حنيفة في لُزوم الطلاق في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

العموم والخصوص. والدليل لمالك رحمه الله: أنَّهُ إذا عمَّ جميع النسوان أو ضرب أجلًا لا يبلغه عمره أو لم يضرب [أجلًا] (¬1) كونُهُ ضيَّق الواسع وسدَّ باب الإباحةِ على نفسه، فكان ذلك مِن باب الحرج والمشقَّة، وهذا من باب نذر المعصية والله تعالى يقول: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} وهكذا الحُكم فيما إذا لم يضرب أجلًا سواء. فأمَّا إذا قيَّد الأجل بموت زيدٍ مثل أن يقول "كُلَّ امرأةٍ أتزوجها ما عاش [زيدٌ] (¬2)، طالق" فهل يلَزمُهُ اليَمين؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك يلزمُهُ، وتُطلَّق عليهِ كُلُّ امرأةٍ تزوّج قبل موتِ فُلان، وهذا هو المشهور. والثانى: أنَّهُ لا شىء عليهِ، لإمكان أن يموت الحالفُ قبل موت فُلان فيكون بمنزلة مَن عمَّ جميع الأزمنة. وهذا الوجهُ يعم جميع النسوان الحرائر والإماء. وأما الوجهُ الثاني إذا خصَّصَ، فلا يخلو مِن أربعةِ أوجه: أحدها: أن يقع التخصيص بالأزمان. والثانى: أن يقع التخصيص بالبُلدان. والثالث: أنْ يقع التخصيص بأجناس النسوان. والرابع: أن يقع التخصيص بالأعيان. فالوجهُ الأول: إذا وقع التخصيص بالأزمان فقد تقدَّم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: فلان.

وأمَّا الوجهُ الثاني: إذا وقع التخصيص بالبُلدان مثل أن يُخصص بلدًا بعينها إمَّا بالحظْر وإمَّا بالإباحة، فلا يخلو ذلك مِن وجهين: أحدهما: أن يكون يمينهُ على بِر. والثانى: أن يكون على حنث. فإن كانت يمينُهُ على بر مثل أن يقول "كُلُّ امرأةٍ أتزوجها إلا مِن بلدِ كذا طالق" أو قال: "كُلُّ امرأةٍ أتزوجها مِن بلد كذا طالق" هل يلزمُهُ الوفاءَ بذلك أو لا يلزمُهُ [وأن كُلَّ امرأة يتزوجهَا من تلك البلد أو من غيرها على اختلاف أم لا] (¬1)؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ يلزمُهُ الوفاءُ بهِ، وأنَّ كُلُّ امرأة تزوَّجها مِن تلك البلد أو من غيرها على اختلاف ألفاظ يمينهِ هى طالق. وهذا هو مشهور المذهب في النقل، وهو نصُّ "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهُ يلزمُهُ الوفاءُ بذلك، فلا يجوزُ لهُ النكاح ابتداءً، فإن نزل فإنَّهُ يمضي ولا يرد ويفوتُ بالدُخُول، وهو قول ابن القاسم في "العُتبيَّة". والقول الثالث: أنَّهُ يلزمُهُ الوفاء بذلك، ويجوز لهُ أن يتزوّج مِن تلك البلدة التي حَظَرها على نفسِهِ، وهو قول مالك في "مُختصر ما ليس في المُختصر". وسبب الخلاف: مُعارضة القياس بخبرِ الواحد، وذلك أنَّ في حديث عمرو بن شُعيب عن جده قال: "لا طلاق إلا من بعد النكاح" وفي رواية: "لا طلاق فيما لا يَملك"، وعارضهُ القياس المصلحى وهو مِن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

باب تعليق الشرط بالمشروط. وأمَّا إن كانت يمينُهُ على حنث مِثل قولُهُ: "إنْ لم أتزوج مِن بلدِ كذا أو إنْ لم أتزوَّج فُلانة، فكُلُّ امرأَةٍ أتزوجها طالق". فهذا يفترق الجوابُ فيه. فإذا قال: "إنْ لم أتزوّج فُلانة"، فلا شىء عليهِ فيما تزوج قبلها أو بعدها لأنَّهُ ضيَّق على نفسه كما لو استثنى بلدة صغيرة ليس فيها ما [يكفيه] (¬1) مِن النساء. وأمَّا إذا قال: "إن لم أتزوَّج مِن بلدِ كذا فكُلَّ امرأةٍ أتزوّجها طالق" وكانت بلدةً كبيرة فيها ما يكفيه مِن النساء. فإن تزوّج امرأةٍ مِن غيرها قبل أنْ يتزوّج منها هل تُطلَّق عليه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يكون مؤليًا ممن تزوّج، وكأنه حلف بطلاقها "لأتزوجنَّ عليها مِن تلك البلدة" التي عيَّنها، وهو قولُ سحنون. والثانى: أنَّها تُطلَّق عليه وهو قولُهُ في كتاب "محمَّد بن الموَّاز"، وهو ظاهر "المدوّنة" لقوله: "لزمهُ الحنث"، وبهِ قال بعض المتأخرين. وأمَّا ما تزوَّج مِن غير تلك البلدة بعد أن تزوج منها فإنَّ نِكاحهُ جائزٌ، لأنَّ مقتضى يمينهُ فيما تزوج قبل أن يتزوج منها. وأمَّا الوجهُ الثالث: إذا وقع التخصيص بأجناس النِّسوان، فلا يخلو من أنْ يُخصص الحرائر مِن الإماء [أو الإماء من الحرائر فإن خصص الحرائر من الإماء] (¬2)، مثل: أن يقول: ¬

_ (¬1) في أ: يكفيها. (¬2) سقط من أ.

"كُلُّ [حرة] (¬1) أتزوَّجها فهي طالق"، هل يكون ذلك كما لو عمَ جنس النسوان أو يَعدُّ ذلك كالتخصيص بصفة [فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك كالتخصيص بصفة] (¬2)، ويلزمهُ الطلاق في كُل امرأةٍ تزوجها، لأنَّهُ قد أبقى لنفسهِ جنسُ الإماء، ولاسيَّما على القول بجوازِ نكاح الأمة مع وجود الطول وعدم خوف العنت. والثانى: أنَّ ذلك كعموم جِنس النِّساء، لأنَّ الاقتصار على الإماء ممَّا يُدرك منهُ الحرج قياسًا على عموم النكاح إذا أبقى التسرى، ولأنَّ المعرَّة تلحقُهُ بتزويج الإماء ويدرك بتسرِّيهنَّ ما يُدركُهُ أيضًا من المعرَّة في استرقاق الولد في النكاح، فكان النكاحُ في ذلك أشد فإن خصص الإماء من الحرائر مِثل أن يقولَ: كُلُّ [أمة] أتزوجها فلا خلاف أعلمهُ في المذهب أنَّه يلزمُهُ، لأنَّهُ أبقى لنفسهِ جنس الحرائر وهو الجنسُ المقصود بالنكاح على القول بأنَّهُ لا يلزمهُ إذا خَصَّصَ كجنس الحرائر، فيكونَ ذلك بمنزلة ما لو عمَّ. فإن خصَّص جنس الحرائر بصفة مِثل: أن يقول: كُلَّ بكْرٍ أتزوّجُها" أو "كُلُّ ثيبٍ أتزوجها فهي طالق" أو "كُلُّ طويلة" أو "كُلُّ قصيرة" وما أشبهَ ذلك مِن الصفات التي يقع التخصيصُ بها ويصحُّ التمييزُ [لها] مِن غيرها. أمَّا على القول بأنَّ الطلاق يلزمُهُ إذا خصَّص فلا خلاف أعلمهُ في المذهب أنَّ ذلك يلزمُهُ، لأنَّهُ أبقى جنسًا لنفسهِ فيهِ كفايةً عن غيرهِ. واختُلف إذا قال: "كُلَّ بكرٍ أتزوْجها، فهي طالق" ثُمَّ قال بعد ¬

_ (¬1) في أ: امرأة. (¬2) سقط من أ.

ذلك: "كُلُّ ثيِّب أتزوّجها طالق"، فهل يُحكم لهُ بحكم العموم أو بحكم الخصوص؟ [على قولين: أحدهما: أن يحكم له بحكم الخصوص] (¬1) وأنَّ ذلك لازمٌ فيها جميعًا، وهو قولُهُ في كتاب "ابن الموّاز". والثانى: أنَّهُ لا شىء عليه في اليمين الثانية، وهو اختيارُ محمَّد بن المواز والشيخ أبى إسحاق، وأكثَر المتأخِّرين، لأنَّ الثاني صار عمومًا يُؤدى إلى الحرج، فوجب أن يسقط كقولهِ: "كُلُّ امرأة". وإن كان الثاني لو انفرد لَلزِم. إلا أنَّهُ يُؤدى إلى الحرج والضيق، وهي العلَّة التي لأجلها مُنع العموم وسقط مُوجبُهُ. وأمَّا الوجهُ الرابع: إذا وقع التخصيص بالأعيان مِثل أنْ يقصد امرأةٍ بعينها فلا يخلو مِن وجهين: أحدهما: أن يكون يمينهُ على برٍ. والثانى: أن يكون على حنث. فإن كان يمينهُ على بر مثل أن يقولَ: "إنْ تزوجت فُلانة فهي طالق" فذلك يلزمُهُ إذا تزوّجها على القول بأنَّ الطلاق يلزم إذا اشترط التزويج، وهو يعود عليه الطلاق متى تزوجها أو إنما تُطلق مرةً واحدة؟ فالحكم في ذلك يختلف باختلاف الألفاظ التي تركَّب منها يمينُهُ. فإن قال: "إن تزوّجتها" أو "إذا" أو "متى" أو "متى ما" فذلك يقتضى مرةً واحدة إلا أنْ ينوى [بمتى ما] (¬2)، [أن تكون بمنزلة] (¬3) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: غيرها. (¬3) في أ: بمنزلة أن يكون.

كُلَّما على ما [نصف] (¬1) في حُكم "كُلَّما". فإذا تمَّ العقدُ بينهما فُرق بينهما ساعتئذ، لأنَّ بتمام العقد وَقَعَ الطلاق السابق بالشرط، ويكونُ لها نصف الصداق. فإن جهل الزوج ودَخَل بها كان لها صداقًا واحدًا لا صداقًا ونصفًا، خلافًا لأبي حنيفة الذي يقول: "لها صداق ونصف" وشُبهتهُ في ذلك أنَّ لها [بالعقد] (¬2) نصف الصداق، فإن دَخل بها كان لها صداقٌ آخر. ونحنُ نقول: "ليس لها إلا صداقٌ واحدٌ، لأنَّ الدُخول إنما وَقَعَ بالعقد المُتقدَّم، وهو دخول على وجه الشبهة، وكذلك لا يُحدُّ عندنا، والولدُ بهِ لاحق، ولاسيَّما على أحد قَولى المذهب "أنَّ ذلك لا يلزم". وأمَّا "كلَّما": فإنَّها تقتضى التكرار كُلَّما تزوجها ولو بعد ألف مرَّة، غير أنَّها إنَّما يكونُ لها [نصف] (¬3) الصداقُ حتى تُطلق ثلاث تطليقات. فإذا تزوجها [في] (¬4) الرابعة فلا شىء لها مِن الصداق ولا نصف ولا غيرهِ، إذْ لا يحلُّ العقدِ عليها حتى تنكح زوجًا غيرهُ. وإذا تزوجت غيرهُ حلَّ لهُ العقدُ عليها وعادت إلى سيرتها الأُولى، فهكذا أبدًا حتى يموتَ أحدُهما. قلتُ: كيف يجوز للشاهد الحُضور على هذا العقد الذي لا يُحصُلُ للزوج فائدتهُ ولا يجنى ثمرته ومآلَهُ إلى الفراق؟ فذهاب المال بغيرِ عِوَضٍ، ومحضُ العقد يُؤذن بالقصد إلى ذلك، وهو عبثٌ وسفة لمخالفة مشروعية ¬

_ (¬1) في أ: نمد. (¬2) في أ: في العقد. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: من.

النكاح الذي هو المقصود منهُ الواصلة والمؤالفة، ولهذا ينعقد للأبد ولا يجوز فيه الأمد، إذ لا يسمى عقدًا يلزمُ منهُ الطلاق، [ولا تستحق] (¬1) فيهِ المرأة نصف الصداق إلا بشهادة البينة، وكيف يسوغُ للبينة الحُضور على مِثل هذا العقد الذي ليس فيهِ من البر شىء، وإنما هو إعانة على ما لا ينبغى. اللهمَّ إلا أنْ يكون صاحب "الكتاب" إنَّما تكلم على أمرٍ وقع ولم يتكلم على الابتداء والظنُّ به ذلك. والله أعلم. فإن كانت يمينهُ على حنث مِثل أن يقول: "إن لم أتزوج فلانة، فكلُّ امرأةٍ أتزوجُها طالق" فهذا لا شىء عليه باتفاق المذهب لأنَّهُ حظر على نفسهِ نكاح كُلُّ امرأةٍ يتزوجها قبل أن يتزوج فُلانة وذلك مِن باب الحرج وسد باب الإباحة وهو داخل في باب العموم. فرع ولو قال: "أول امرأة أتزوَّجها طالق" فإنَّ اليمين تلزمُهُ لأنَّهُ أبقى لنفسهِ ما بعد الأولى، ولا يحنث إلا في امرأةٍ واحدة. ولو قال: "آخر امرأة أتزوجها طالق" هل يلزمُهُ ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ ذلك لا يلزمُهُ، [لأنه] (¬2) كَمَنْ عمَّ تحريم جميع النساء ولم يبق مَنْ يتزوّج، وهو قول ابن القاسم في "العُتبيَّة" و"الموّازيَّة". والثانى: أنّ ذلك يلزمُهُ ويوقف عنها حتى إذا تزوّجها خوفًا ألا يتزوج عليها غيرها، فإنَّ تزوّج غيرها، حلَّت لهُ الأُولى ¬

_ (¬1) في هـ: تستحق. (¬2) سقط من أ.

[ويتوقف] (¬1) عن الثانية. فإن تزوج ثالثة حلَّت لهُ الثانية ويوقف عن الثالثة. فإنَّ تزوّج رابعة حلَّت لهُ الثالثة ويوقف عن الرابعة، وهو قولُ سحنون ومحمد. وهذا القولُ أظهر في النظر. ووجهُهُ ظاهر، ووجهُ القول [الأول] (¬2) أنَّه إن كان كلما تزوّج امرأة: فُرق بينهُ وبينها لاحتمال أن تكون هى آخر نسائهِ، فلا تستقر معهُ امرأة أبدًا وذلك يُؤدى إلى ألا يتزوج أصلًا [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في هـ: ويوقف. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة العاشرة في الطلاق بالكتاب والنيابة فيه.

المسألة العاشرة في الطلاق بالكتاب والنيابة فيه. وأمَّا الطلاق بالكتاب فقد اختلف المذهب في الصفة التي يكتب [بها] (¬1) إذا كان الزوج غائبا على ثلاثة أقوال: أحدها: أن يقول: "إذا جاءك كتابى هذا وأنتِ طاهر فأنت طالق" ولا يزيد على ذلك، فإنْ وصلَ الكتاب وهي طاهر وقع الطلاق. وإن وصل وهي حائض بقيت زوجة، وهو قولُ ابن القاسم. والثاني: أنْ يقول لها "إن كُنت حائضًا فأنت طالق إذا طهرت [من حيضتك] (¬2) "، وهو قول أشهب في كتاب "محمَّد". والثالث: أنَّهُ يكتب بإيقاع الطلاق يوم كتب الكتاب ولا يكتب "إذا طهُرت مِن حيضتِكِ بعد وُصول كتابى [إليك] (¬3) فأنت طالق". وهو قولُ [أحمد] (¬4) بن المعدل في "المبسوط"، فإن كانت صغيرة [جاز أن يكتب] (¬5) بإيقاع الطلاق الآن. وسببُ الخلاف: اختلافهم في المنع مِن الطلاق في الحيض هل هو مُعلَّل أو غير مُعلل؟ فمن رأى أنَّهُ غيرُ مُعلَل قال: يكتب [على] (¬6) ما ذهب إليه ابن ¬

_ (¬1) في أ: إليها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في هـ: محمَّد. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

القاسم. وَمَنْ رأى أنَّهُ مُعلَّل قال [يحرم] (¬1) عليه الطلاق من الآن وقد لا يصل الكتاب إلا وقد انقضت عدّتها. فإذا ثبت ذلك فلا تخلوا حالة الزوج مِن أربعة أوجه: إمَّا أنْ يكتب عازمًا على الطلاق. وإمَّا أن يكتب وهو غير عازم على الطلاق وأخرجهُ عازمًا. وإمَّا أن يكتبهُ غير عازم ويُخرجه غير عازم. وإمَّا أن يكتبهُ غير عازم وأخرجه وهو لا يعلم هل كان عازمًا أم لا؟. فالوجهُ الأول: إذا كتبهُ عازمًا على الطلاق فلا خلاف في لُزوم الطلاق ووقوعهُ مِن غير اعتبار بحالتهِ وقت إخراج الكتاب. والوجهُ الثانى: إذا كتبهُ وهو غيرُ عازم وأخرجهُ وهو عازمٌ على الطلاق فالطلاق يلزمُهُ أيضًا بنفس إخراج الكتاب. والوجه الثالث: إذا كتبهُ غير عازم وأخرجهُ غير عازم فهل يلزمهُ الطلاق إذا وصلَ الكتابُ إليها أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ الطلاق يلزمُهُ، وهو قولهُ في المُدوّنة. والثاني: أنَّهُ لا يلزمهُ الطلاق إذا علم أنه إنما أخرجهُ لتنظرَ في ذلك وتؤامر. وسببُ الخلاف: اختلافهم في الطلاق: لمجرد اللفظ هل يلزم أو لا يلزْم؟ فمن رأى أنَّهُ يلزم قال: يلزم الطلاق بوصول الكتاب. ¬

_ (¬1) في أ: يجبر على أن يحرم.

ومن رأى أنَّهُ لا يلزم قال: لا يلزم [بوصول] (¬1) الكتاب، لأنَّهُ ليس معهُ إلا اللفظ الذي كتبهُ، وأدنى مراتبه أن يكون كالتعليق. والوجه الرابع: وهو إذا كتبهُ غير عازم، وجهل الحال الذي أخرج عليهِ الكتاب، هل يلزم الطلاق بنفس إخراج الكتاب أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ الطلاق لا يلزمهُ، ولهُ أن يسترجع الكتاب ما لم يصل وهو ظاهر "المُدوَّنة". والثانى: أنَّ الطلاق يلزمهُ بنفسِ خروج الكتاب مِن يدهِ، لأنَّهُ كالناطق بهِ والإشهاد عليهِ، وهو قول مالك في غير "المُدوَّنة" وبهِ قال ابن الموّاز. وأمَّا النيابة في الطلاق: فلا تخلو تلك النيابة مِن أن تكون رسالة أو وكالة أو تفويضا. فإن كانت رسالة مثل أن يقول [للرجل] (¬2): "أخْبر امرأتى بطلاقها" فالطلاق واقع بنفس القَول اتفاقًا بلَّغها الرسولُ أم لا. وأمَّا الوكالة: إذا وكَّل رجلًا أن يُطلق امرأتهُ فلا خلاف أنَّ الطلاق لا يقع بنفس الوكالة حتى يُوقعهُ الوكيل أو الزوج إنْ أوقع الطلاق قبل الوكيل، وللزوج أن يعزل الوكيل عن الوكالة ويُسقط ما بيدهِ مِن النيابة متى شاء [كانَ] (¬3) حاضرًا أو غائبًا. وأمَّا التفويض: فهو أنْ يُفوِّض أمر امرأتهُ إلى رجلٍ في طلاقها، فهو كالوكالةُ في ذلك. يلزمُهُ الطلاق إذا طلقها المُفوِّض إليهِ غير أنَّ الزوج ليس ¬

_ (¬1) في أ: في. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

لهُ أن يعزِله ويُزيل ذلك مِن يدهِ، كما يفعل بالوكيل، وإنَّما يُزيل ذلك مِن يدهِ السُلطان بوقفه. إمَّا أنْ يُطلَّق، وإلا ردَّ ما بيده، ويعودُ الحكم في ذلك إلى الزوج آخرًا كما كان لهُ أولا. فعلى هذا تحمل أحكام النيابة في الطلاق. والحمد لله وحده.

المسألة الحادية عشر في طلاق المريض.

المسألة الحادية عشر في طلاق المريض. قال [الشيخ] (¬1) أبو محمَّد بن أبي زيد رحمهُ الله: "ولمَّا منع الرسول عليه السلام المريضَ مِن التصرُّف في ثُلُثى مالهِ، لم ينقص ورثتهُ ما كان ممنوعًا أنْ يدخل عليهم وارثًا أو يخرج منهم وارثًا، ولمَّا منعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا قاتل العمد مِن الميراث، لما أحدثَ مِن القتل ينبغى ألا يكون المريض مانعًا لزوجته الميراث بما أحدث مِن الطلاق، إذْ لا فرق بين الوارثين. أحدهما يدخلُ الميراث بوجهِ فيْمنع لأجلهِ، وآخر قد أخرج بغير ذلك الوجه". وهذا الذي قالهُ الشيخ [أبو محمَّد] (¬2) في القاتل مِن باب الاستدلال بالعكس، وقد اختلف الأصوليون [في القول به] (¬3). وقد قضى عثمان رضي الله عنهُ بتوريث المُطلَّقة في المرض بمحضرٍ مِن المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين. فإذا أثبت ذلك: فلا يخلو مِن أن يُطلِّقها وهو مريض، أو يُطلِّقُها وهو صحيح إلا أنَّهُ في حُكم المريض. فإن طلَّقها وهو مريض فلا يخلو مرضة من ثلاثة أوْجُهٍ: أحدها: أن يكون مرضهُ مرضًا غير مُخوِّف ولا مُطاول. والثانى: أن يكونَ مُخوفًا غير مُطاول. ¬

_ (¬1) زيادة من جـ، ع، هـ. (¬2) زيادة من هـ. (¬3) في أ: فيه.

والثالث: أن يكون مُطاولًا مُخوِّفًا. فالجواب عن الوجه الأوَّل: إذا كان مرضُهُ غيرُ مُخوفٍ ولا مُطاوِل، فطلَّقها فيهِ ثُمَّ مات مِن ذَلك المرض فلا يخلو من أن يموت قبل انقضاء العدَّة أو مات بعد انقضائها. فإن مات قبل انقضاء العدَّة فإنَّها ترثَهُ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الطلاقُ رجعيًا أو بائنًا أو بتاتًا، لأنَّهُ قد تبيَّن أنَّهُ مرضُ [موتٍ] (¬1). وإن مات بعد انقضاء العدَّة فلا ميراث لها منهُ. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان المرضُ مُخوِّفًا غيرُ مُطاول فلا يخلو مِن أن يكونَ الطلاقُ بإيثارِ الزوج واختيارهِ أو يكون بغيرِ اختيارهِ. فإن وقع الطلاق باختيار الزوج وإيثارِه ثُمَّ مات مِن ذلك المرض فإنَّها ترثُهُ وإن انقضت العدَّة، من غير اعتبارٍ بصفة الطلاق إن كان بائنًا أو بتاتًا، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الزوج [ممن] (¬2) تتطرَّق إليه التُّهمة أو لا تتطرَّق إليهِ. لأنَّ ذلك مِن باب سدِّ الذرائع، والقاعدة إذا [أُثبتت] (¬3) لا تنقضها إحدى [المسائل] (¬4)، وقد طلَّق عبد الرحمن بن عوف زوجتهُ [تماضر] (¬5) حين مرِض وكان ذلك آخر طلاقها، فمات مِن ذلك المرض فَوَرَّثُهَا عُثمان ابن عفَّان رضي الله عنهُ مِن تركة عبد الرحمن. فقيل لهُ: أتتهم أبا محمَّد؟ فقال: "لا ولكنَّها السُّنَّة يهاب الناس الفرار مِن كتابِ اللهِ تعالى". ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: أسست. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

فإن وقع الطلاق بغير اختيار الزوج فلا يخلو من أن يكون للزوج في ذلك [سبب] (¬1) أو لا سببَ لهُ. فإن كان للزوج في ذلك سببٌ [كالمعسر بالنفقة تطلق عليه زوجته وهو مربص ثم مات من ذلك المرض بعد انقضاء العدة وبعد أن أفاد مالًا فإنها ترثه كالطلاق الذي له فيه سبب اختيار ولا يبعد دخول الخلاف فيه بالمعنى فإن كان للزوج في ذلك بسبب] (¬2)، فلا يخلو مِن أن يكون للزوجة في ذلك سببٌ أو لا سبب لها. فإن كان لها فيه سبب مِثل أن يقول لها في صحَّته: "إنْ دخلت الدار فأنت طالق" فدخلتها وهو مريض أو قال لها: "إنْ فعلتِ كذا فأنت طالق" ففعلتهُ وهو مريضٌ معصيةً وخلافًا فمات مِن ذلك المرض، فهل ترثُهُ أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّها ترثُهُ، وهو قولُ مالك في "المُدوّنة". والثانى: أنَّها لا ترثُهُ، وهو قولُ مالك في كتاب "المدنيين". ولا شكَّ ولا خفاء أنَّ الزوج من ذلك لم يقصد إلى الفرار ولا تلحقُهُ التهمة في ذلك غير أنَّ هذا مِن تفاصيل القاعدة. فإن كان ممَّا لا سبب لها فيه إلا أنَّ للزوج فيهِ سبب في الصحَّة مِثل أن يقول لها في [صحته] (¬3): "إذا قدم فُلان فأنت طالق" فقدم فُلان وهو مريض ثُمَّ مات مِن ذلك المرض فإنَّها ترثُهُ، ولا خلاف في المذهب أعلمُهُ نصا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: صحة.

واختُلف في الزوجة إذا كانت أمة أو نصرانية فطلَّقها في المرض ثُمَّ أعتقت الأمة وأسلمت النصرانية بعد انقضاء العدَّة على قولين: أحدهما: أنَّهما ترثانهِ، وهو قول محمَّد. والثانى: أنَّهما لا ترثانهِ، وهو قول عبد الملك في "المبسوط". وهذا الخلاف يتخرّج على الخلاف في نكاح المريض إياهما في المرض: فَمَنْ جوَّز نكاحهُما قال: هاهُنا لا يرثان. ومَنْ منعَ نكاحهما قال: يرثان. والجواب عن الوجه الثالث: إذا كان مرضه مرضًا مُخوِّفًا مُتطاولًا كالسُّل والاستسقاء وحُمَّى الريع وما أشبه ذلك فطلَّقها وهو في ذلك المرض ثُمَّ مات منه، فلا يخلو مِن أن يعقَبهُ الموت قبل المُطاولة أو [مات بعد المطاولة. فإن عقبه الموت قبل المطاولة و] (¬1) قبل انقضاء العدة أو بعدها فلا خلاف في المذهب أنها ترثه. فإن عقبهُ الموت بعد المُطاولة، فهل ترثُهُ أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّها ترثُهُ، وهو مذهب "المُدوّنة"، لأنَّهُ قال: "إذا تزوّجت بعد الأول أزواجًا، [كلهم] (¬2) يُطلِّقُها وهو مريض، ثُمَّ تزوّجت آخر، والذين تزوجوها أحياء أنَّها ترثُهُم [كُلّهم] (¬3) "، وبه قال القاضى أبو محمَّد عبد الوهاب، وإن كان بعضُّ [حذاق] (¬4) المتأخِّرين يُضعِّف هذا الاستقراء مِن "المُدوّنة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: كلٌ. (¬3) في هـ: جميعهم. (¬4) سقط من أ.

قال: "والذي في الكتاب [يتفق أن يكون في المدة القرابية أو يكون جميعهم لم يدخل بها واتفق مرض كل واحد منهم بإثر عقد نكاحه أو تفترق الحالات] (¬1) فيكون الأوَّل [دخل] (¬2) وتركها حاملًا فولدت مِن الغد ونحوه، ثُمَّ تزوّجت آخر فمِرض [لأمد] (¬3) قريب، ثُمَّ ثالث فجرح جُرحًا مِرض منهُ وهكذا إلى ما لا يتناهى، وقد يتَّفق في الأيام اليسيرة، [وقد] (¬4) يتصور مثل هذا في اليوم الواحد" والذي قالهُ رضى الله عنهُ صحيحٌ ظاهرٌ، لا مِراء فيهِ. والثانى: أنَّها لا ترثُهُ وأنَّ [حكمه] (¬5) حكمُ [الصحيح] (¬6)، وهو قول عبد الملك بن الماجشون في "المبسوط". وأمَّا الوجهُ الثاني: إذا طلَّقها وهو صحيح إلا أنَّهُ في حُكم المريض فإنَّ ذلك يختلف. فمِنهُ ما هو متفقٌ عليهِ. ومنهُ ما هو مختلفٌ فيه، وذلك على حسب قوة الخوف عليهِ في الحالة التى هو فيها. فإذا قرب للقتل في حقٍ وجب عليه إمَّا قصاصًا، وإمَّا حرابة، وأعتق أو عمل عملًا إذا عمله المريض يكون مصروفًا إلى ثُلُثهِ، فحُكمهُ حُكمُ المريض. ¬

_ (¬1) في أ: يحتمل أن تكون مع الحالة. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: لأجل. (¬4) في أ: بل. (¬5) في أ: حكمها. (¬6) سقط من هـ.

فإن طلَّق امرأتهُ في تلك الحالة ورثَتهُ. وإن أعتق عبدهُ أو تصدَّق أو وهب فذلك كُلُّهُ مصروفٌ إلى الثُلُث، ولذلك يتحقّق الخوف ويوقع ما منهُ الخوف. ولا خلاف في المذهب في هذا الوجه. واختلف المذهب في راكب البحر في حال [النوء] (¬1) الشديد إذا حصل في اللجة، وراكب النيل أو الدجلة، في حال الهول، هل هو كالصحيح في أفعالهِ أو هو كالمريض؟ على قولين منصوصين في "المُدوّنة": أحدهما: أنَّهُ كالصحيح وأنَّ أفعالهُ مِن رأسِ المال، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنَّها مِن الثُلُث وحكمهُ حُكم المريض، وهي رواية ابن نافع عن مالك. واختلف في حاضر الزحف هل يُحكم لهُ بِحكم مَنْ قرُب للقتلِ فيكونُ كالمريض قولًا واحدًا أو يحكم لهُ بِحكم راكب البحر؟ فيتخرَّج [الخلاف] (¬2) على قولين: أحدهما: أنَّهُ كالذى قرب للقتل، وهو قولُ مالك في المُدوّنة. والثانى: أنَّهُ كراكب البحر، وهو قولُ قياسى، وحكاهُ الشيخ أبو الحسن اللخمى، وقد وقع في "المُدوّنة" لفظٌ مُشكل اضطربت في شرحه آراء المتأخرين وهو قولُهُ: "وَمَنْ قُرب لحد مِن قطع يدٍ أو رجلٍ أو جلدٍ، فطلَّق حينئذٍ ثُمَّ مات مِن ذلك". ¬

_ (¬1) في هـ: الهواء. (¬2) سقط من أ.

[حيث] (¬1) قال: "فإن خيف عليه مِن ذلك الموت فهو كالمريض"، فاختلفوا في ذلك على خمسة أقوال كُلُّها مُتأولة على [المدونة] (¬2): أحدها: أنَّ ذلك اختلاف قولٍ منهُ، لأنَّهُ قال في "كتاب القطع في السرقة" و"كتاب الرجم": "إنْ خيف عليه الموتُ مِن الحر أو البرد لم يُقطع، وظاهر قولُهُ في هذا الكتاب أنَّهُ يقطع. والثانى: أنَّهُ لم يقصِد إلى جوازِ حدهِ، وإنما أجاب على القول الذي سُئل عنهُ، إذ لو سُئل هل يُقام الحدُّ على مَن هذه [حالته] (¬3)؟ لقال: لا. [وقد] (¬4) وقع [له] (¬5) مِثل هذا في "المُدوّنة" في مواضع كثيرة منها: ما وقع في "كتاب المُرابحة" إذا اشترى أمةً فولدت عندهُ حيثُ قال: "لا يبيع الأُم مُرابحةً ويحبس الولد [إلا أن] (¬6) يتبيَّن" وذلك بعينهِ بيع التفرقة. ومنها: ما وقع في "كتاب الشركة": [في الشركة] (¬7) في حفر قبور الجاهلية، فقال: "إذا كان لا يغتر فإن الشركة جائزة"، وقد أجاب في غير ما موضع أنَّ حفرَ قُبور الجاهلية مكروهٌ، إلا أنَّهُ أجاب هناك على حُكم الشركة على الجملة. والقولُ الثالث: أن ذلك إنَّما يتخرج على مذهب مَن يراهُ صوابًا مِن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الكتاب. (¬3) في أ: حاله. (¬4) في أ: والذي. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: حتى. (¬7) سقط من أ.

الحكام أو مكن يجهل ذلك منهم إذا وقع. والرابع: أنَّ معنى ذلك بعد إقامة الحدِّ عليهِ. قال الشيخ أبو الحسن بن القابسى: قال الشيخ أبو القاسم بن محرز: وهذا إحالة المسألة مِن وجهين: أحدهما: أنَّهُ قال في السؤال قُرِّب لضرب الحد. والثانى: قياس ابن القاسم لها على حاضر الزحف الصحيح [وراكب البحر] (¬1)، فحكمَ [له] (¬2) بحُكمها، قال: "ولو كان كما قال، لكان مريضًا، لا يختلف في فعلهِ". والقول الخامس: أنَّ الخوف إنَّما حدث منهُ وأدركهُ مِن الجزع والفزع ما يُدرك حاضر الزحف وراكب البحر، وهو تأويل الشيخ أبى محمَّد بن أبي زيد رحمهُ الله، وهذا أشبه وأولى من تأويل غيره. [اعتراض] (¬3) فإن قيل: لِمَ اتهم المريض [بطلاق] (¬4) امرأتهِ [في] (¬5) ميراثها، ولم يتهم في صداقها، إذا كان الطلاقُ قبل البناء حيثُ لم يجعل لها إلا نصف الصداق، وما الفرق بين الميراث والصداق عندكم، والتهمة إذا تحقَّقت عندكم وجب العملُ بمقتضاها من غير [تبعيض] (¬6). فالجواب عن ذلك أنَّ الميراث إنَّما اتُّهم فيهِ لأنَّهُ حقٌ مِن حقوق الله تعالى وفرضٌ مِن فروضهِ، فلو سُوِّغ لهُ الطلاق في مرضهِ لكان ذلك ذريعة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: لها. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: في طلاق. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

إلى مخالفتهِ حُكم الله فى إسقاطِهِ فرضِهِ. ووجوبه يختص بالموت، [فقويت] (¬1) التهمة على المُطلق عند حصول سببه. والصداقُ أمرٌ يجبُ بِحكم المُعاوضة والتراضى على قدره، وليس جميعُهُ مُقدَّر بفرضِ الله تعالى، وإنَّما مجراه فيما يزيد على ربع دينار مجرى حقوق الآدميين [من الديون] (¬2) وغيرها، ولم يحافظ عليهِ بتُهمة الزوج كما يحافظ على الميراث. [ولأن] (¬3) الناس قد اختلفوا فى وجوب الصداق. فمنهم مَن يقول: "نصفهُ واجب بعد النكاح". ومنهم مَن يقول: "كُلُّهُ واجب بالعقد". ومنهم مَن يقول: "بل جميعُهُ مترقب لأنَّ النكاح مُعرَّض [للفسخ] (¬4) ". والقائل بأنَّهُ يستقر عليه جميعُهُ [بالعقد] (¬5) يقول: له أن يسقط عن نفسه نصفهُ بالطلاق قبل البناء ولا تُهمة فى ذلك، لأن الصداقَ لم يزل واجبًا بالعقد، والزوج لم يزل مالِكًا للإسقاط بخلاف الميراث الذى لا يجب إلا بالموت. فإذا حضر السبب مُنع الزوج مِن الطلاق [والله أعلم] (¬6)، وهكذا ¬

_ (¬1) فى هـ: فقوت. (¬2) سقط من أ. (¬3) فى أ: قال. (¬4) فى أ: للفسوخ. (¬5) سقط من أ. (¬6) زيادة من ع، هـ.

رأيت لبعض المتأخرين. فرع: ومنْ تزوَّج امرأتين فَبَنَا بإحداهما [ثم طلق إحداهما] (¬1)، فمات فلا يخلو مِن ثلاثة أوجه: إمَّا أن تعلم المدخول بها وجهلت المُطلَّقة. وإمَّا أن تعلم المُطلَّقة وجهلت المدخولُ بها. وإمَّا أن يجهلا جميعًا المُطلَّقة والمدخول بها. فإن علمت المدخول بها وجهلت المُطلَّقة فلا يخلو مِن أن يكون الطلاق رجعيًا أو بائنًا. فإن كان الطلاق رجعيًا، فلا يخلو من أن يعثُر على ذلك قبل انقضاء العدَّة أو بعد انقضائها. فإن عثر على ذلك [قبل] (¬2) انقضاء العدّة فللتى دخل بها الصداق كاملًا وثلاثة أرباع الميراث. وللتى لم يدخل بها ثلاثة أرباع الصداق ورُبع الميراث. وبيانُ ذلك أن الكلام في الصداق بين النساء والورثة، والكلام في الميراث بين النساء خاصة، وذلك أنَّ المدخول بها تقول للورثة "هب أنِّي أنا المُطلَّقة" [أليس أن المُطلَّقة بعد البناء يجبُ لها جميع الصداق، وغيرُ المدخول بها تقول: هب أنِّى أنا المُطلقة] (¬3) والمطلقة قبل البناء يجب لها نصفُ الصداق. فإذا أخذت النصف رجع الخصامُ بينها وبين الورثة في النصفِ الباقي، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بعد. (¬3) سقط من هـ.

هى تقول: "صاحبتى هى المُطلَّقة"، والورثة [يقولون] (¬1): "أنت المُطلَّقة فتجادت الدعاوى وتساوت الأقدام في النصف الباقي فيُقسَّم بينهما بعد التحالُف. وَمَنْ نكل منهما سقط حقُّهُ منهُ. إن نكلت هى أخذت النصف [خاصة] (¬2)، وإنْ نكل الورثة أخذت جميع الصداق، وبهذا الوجه أخذت ثلاثة أرباع الصداق. وأمَّا الميراث: فإنَّ المدخولُ بها تقول لغير المدخول بها: "هبى أنِّى [أنا] (¬3) المُطلَّقة أليس أن لي نصف الميراث حقًا" قالت: "نعم". فإذا أخذت النصف عاد التداعى بينهما في النصفِ الباقي كُلِّ واحدة تدَّعى أن صاحبتها هى المُطلَّقة فتساوت الدَّعاوى، فيُقسَّم بينهما نصفين، فيصبح للمدخولِ بها ثلاثة أرباع الميراث ولغير المدخولِ بها رُبع الميراث. وهكذا الحُكم في الوجهِ الثاني: إذا علمت المُطلَّقة، وجهلت المدخولُ بها. فللتى لم تُطلَّق جميع الصداق وثلاثة أرباع الميراث، وللتى طُلِّقت ثلاثة أرباع الصداق ورُبع الميراث. وذلك أنَّ التي لم تُطلَّق تقولُ للورثة: أنا أستحقُّ جميع الصداق بالموت وإن كنت غير المدخول [بها]، والتي طُلِّقت تقول: احسبوا أنى أنا غير المدخول بها أليس لي نصف الصداق؟ وإذا أخذت النصف رجع التداعى بينهما وبين الورثة في النصف الثاني، ¬

_ (¬1) في أ: تقول. (¬2) في أ: خالصة. (¬3) سقط من أ.

هى تقول [أنا المدخول بها فلى جميع الصداق والورثة يقولون: صاحبتك هى المدخول بها فليس لك إلا نصف الصداق فيقسم النصف بينهما] (¬1) "وأمَّا الميراث فغير المُطلقة لها نصفُ الميراث في كلِّ وجهٍ" ويبقى التنازعُ بينهما وبين صاحبتها في النصف الثاني كُل واحدةٍ تقول: "أنا المدخولُ بها في [الجميع] (¬2) " ويتحالفان ويتقاسمانهِ [بينهما] (¬3). فإن حلفت المُطلقة ونكلت الأخرى كان لها ذلك النصف. فإن نكلت وحلفت المدخول بها، كان لها جميع [الميراث] (¬4). فإن انقضت العدَّة أو كان الطلاق بائنًا كان الصداق على ما ذكرنا والميراث بينهما نصفين لعدم المزيَّة. وأمَّا إذا جهلت المُطلّقة وجهلت المدخول بها كان لهما صداقان إلا رُبع يقتسمان نصفين لكلِّ واحدةٍ [منهما] (¬5) صداق إلا ثُمن. وأمَّا الميراث: فالرُبع أو الثمن بينهما نصفين على حسب الفريضة إن كان فيها [من يحجبها] (¬6) عن الرُبع أو لا. ولهذه المسألة فروع كثيرة أضربتُ عن ذكرها وإيرادها مخافة التطويل [والحمد لله وحده] (¬7). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: جميعه. (¬3) سقط من هـ. (¬4) في أ: الصداق. (¬5) في أ: منهن. (¬6) سقط من هـ. (¬7) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الثانية عشرة في الشهادة [على] الطلاق

المسألة الثانية عشرة في الشهادة [على] (¬1) الطلاق: ولا يخلو الزوجُ مِن أن يكون مُقرا بالطلاق أو جاحدًا لهُ. فإن جحد فلا يخلو مِن أن تشهد عليه [البينة بالطلاق أو لا تشهد عليه] (¬2). فإن اعترف الزوج فلا إشكال [بأنه] (¬3) يحكم عليه بمقتضى ما اعترف بهِ مِن الطلاق. فإن جحد ولم تشهد عليه البينة فلا يمين عليهِ باتفاق المذهب وذلك لسدِّ الذريعة، إذْ لو مكنَّا النساء مِن ذلك لو شاءت واحدةٌ منهنَّ أن تُحلِّف زوجها في كلِّ يومٍ مائة مرة لفعلت. فإن كان الطلاقُ الذي تدَّعيهِ على الزوج ثلاثًا فقد قال مالك في "المُدوّنة": "لا تتزيَّن له ولا يرى شعرها ولا وجهها ولا صدرها إن قدرت، ولا يأتيها إلا [وهي] (¬4) كارهة". وقولهُ: "لا يرى وجهها" [فنهاها] (¬5) مالك أن تمكِّنهُ من رُؤية وجهها، ومعناهُ: أن يراهُ على وجه التلذذ بها، لأنَّ النظر إلى وجهها مُحرَّمٌ على الجملة، ولا خلاف أنَّ وَجهَ المرأة ليس بعورة. وقد قال مالك ¬

_ (¬1) في هـ: في. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: أنه. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: جـ: فنهى.

في "كتاب الطهارة" من "المُدوّنة": "لا بأس أن ينظر الزوج إلى وجهها، وقد يرى غير زوجها وجهها، وإنَّما منع من النظر إلى وجهها للَّذة مخافة الفتن". واختُلف إذا قدرت على قتلهِ هل يسوغُ لها إذا أمنت مِن القصاص؟ على قولين: أحدهما: أنَّ ذلك لها. كالغاصب والعادى والمُحارب، وهو قولُ ابن الموَّاز. والثانى: أنَّهُ لا يجوز لها قتلُهُ ولا قتل نفسها، وهو قول سحنون. وفي المسألة قول ثالث: بالتفصيل بين أن يطأها أو لا يطأها. فإن وطئ أُبيح قتلُهُ. وفيها قولٌ رابع: بالتفصيل بين أن يكون ذلك عند [إرادته] (¬1) غشيانها أو قبل. فإن كان ذلك قبل [إرادته] (¬2) غشيانها فلا يحلُّ لها قتلُهُ. وإن كان ذلك عند محاولة إتيانها حلَّ لها الدفعُ عن نفسها وإن أدى ذلك إلى قتلهِ، وهو قولُ مالك في "كتاب الحجُّ [الثاني] (¬3) " مِن "المُدوّنة": فيمن أراد قتل رجلٍ فدافعهُ عن نفسه فقتله "أنَّهُ لا شىء عليهِ"، ولا فرق بين من طلب [روح] (¬4) الإنسان أوَ مالهِ أو طلبَ منهُ ما لا يحل. ¬

_ (¬1) في أ: إرادة. (¬2) في أ: إرادة. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

فيتحصَّل في المسألة أربعة أقوال: أحدها: أنَّ ذلك لا يجوز لها جُملةً. والثانى: أنَّ ذلك جائزٌ لها [جملة] (¬1). والثالث: التفصيل بين أن يَتقدَّم [له منها] (¬2) وطء بعد الطلاق أم لا. والرابع: التفصيل بين أن يكون ذلك [عند] (¬3) مُحاولة إتيانها أو قبل المحاولة. والأقوال كلها ظاهرة، إلا قول ابن الموّاز الذي قال: "لها أن تقتُلهُ قبل الفعل". فإن شهدت عليهِ البينة بالطلاق فلا يخلو مِن وجهين: أحدهما: أن يكون الطلاق مُطلقًا. والثانى: أن يكون الطلاق مقيَّدا. فإن كان الطلاق مُطلقًا فلا يخلو مِن أن تثبت البيِّنة على عين المُطلَّقة [أو ينسوها] (¬4). فإن ثبتت البيِّنة على عين المُطلَّقة فلا يخلو مِن أن تكون البيِّنة حاضرة معهُ أو غائبة عنهُ: فإن كانت [البينة] (¬5) حاضرة مع الزوج فلا يخلو مِن وجهين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: لها. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: بعينها. (¬5) سقط من أ.

إمَّا أن يرفعوا شهادتهم إلى الإِمام. أو لا يرفعوها إلا بعد موت الزوج. فإن رفعوا شهادتهم في حين الطلاق فلا يخلو مِن أن تتفق شهادتُهُما على عددٍ أو تختلف: فإن اتفقت شهادتهما على عددٍ فلا خلاف أنها تلفق ويلزمهُ ما شهدا بهِ عليهِ. وإن اختلفت شهادتهما عليهِ مِثل أن يشهد أحدهما بثلاث تطليقات، وشهد الآخر بواحدة. فإنَّ شهادتهما تُلفَّق. وتلزمُهُ تطليقة واحدة، لاجتماعهما عليها، ويحلف الزوج على التطليقتين الباقيتين لانفراد شهادة الشاهد الواحد بها. فلو شهد أحدهما بواحدةٍ والآخر بالبتة، فهل تُلفق شهادتهما أو لا تُلفق؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ شهادتهما لا تُلفق، وهو قولُ مالك رحمهُ الله: "ويحلف [مع] (¬1) كُلُّ واحد منهما"، قال سحنون: "وإلى هذا ذهب جميع أصحاب مالك إلا "المُغيرة" فإنَّهُ قال: تلفَّق شهادتهما، وهو القول الثاني: أنَّهُ تلزمُهُ واحدة لاجتماعهما عليها، وهو ظاهر "المُدوّنة". فإن لم [يدفع شهادتهما] (¬2)، حتى مات الزوج، ينبغى ألا تجوز ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: يدفعوا شهادتهم.

[شهادتهما] (¬1)، وترث الزوجة مِن زوجها وتعتَّد منهُ عدَّة [الوفاة] (¬2)، وهو ظاهر المذهب لاسيما على مذهب ابن القاسم الذي يقول أنَّ: "الشهادة تجاز على المشهود" على ما سُنبيِّنهُ في "كتاب الشهادة" إن شاء الله، وهو نص قولُ يحيى بن سعيد في "المُدوّنة" في آخر كتاب "الأيْمان بالطلاق" ويُؤخذ أيضًا مِن كتاب النكاح الأوّل في باب نكاح السر. فإن كانت البيِّنة غائبة عن الزوج ثُمَّ جاءت [البينة] (¬3) بعد ذلك وشهدوا عليه بطلاق زوجتهِ وحكم عليه بطلاقها، فهل تبتدئ العدَّة من حُكم عليها بالطلاق أو من يوم ورخ الشهود بشهادتهم؟ فالمذهب يتخرَّج على قولين: أحدهما: أنَّها تبتدئ العدَّة مِن يوم ورخت البيِّنة، وهو ظاهر قول الغير في: العبد. في كتاب "العتق" وغيره. والثانى: أن العدَّة مِن يوم الحُكم، وهو ظاهر قول ابن القاسم في هذا الكتاب [وفي الكتاب] (¬4) المذكور. وأمَّا إذا شهدت البِّينة على رجلٍ أنَّهُ طلَّق امرأةً مِن نسائه وقالوا: نسيناها، هل يلزمُهُ الطلاق أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كُلُّها قائمة مِن "المُدوّنة": أحدها: أنَّهُ لا شىء عليهِ جملةً، وهو قولُ ابن القاسم في "المُدوّنة". والثانى: أنَّ الطلاق يلزمُهُ فيمن عنده من النساء، وهو ظاهر "المُدوّنة" في نسيان الزوجُ عين المُطلَّقة. ¬

_ (¬1) في هـ: شهادتهم. (¬2) في أ: الفوات. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

والثالث: أئهُ يُحال بينهُ وبينهنَّ، ويُسجن حتى يقر بالمُطلَّقة، لأنَّ البيِّنة قطعت بأنَّ واحدةً منهنَّ حرام، وهو اختيار اللخمى، وهو ظاهر "المُدوّنة": فيما إذا شهد عليه واحد بطلاق امرأتهِ ونكل عن اليمين. وعلى القول بأنَّهُ لا شىء عليهِ ولا يلزمُهُ الطلاق، هل يحلف أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يحلف ما طلَّق واحدةً منهنَّ، وهو قولُهُ في "المُدوّنة". والثانى: [أنه] (¬1) لا يمين عليه، وهو قول ابن الموّاز. فإنْ شهد عليه شاهدٌ واحد أنَّهُ طلَّق زوجتهُ، والزوج مُنكر، فإنَّ الزوج يحلفُ ويبرأُ، ولا خلاف في المذهب في ذلك وإن [كان] (¬2) ذلك خلاف الأصول، لأنَّ اليمين مع الشاهد إنَّما هو في الأموال، ويحلف المدَّعى [على] (¬3) شاهده [في الطلاق] (¬4). وفي هذه المسألة: الزوجُ المشهود عليه، إلا أنَّ الأثر وَرَدَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ المرأة إذا قامت بشاهدٍ واحد [على زوجها] (¬5)، أنَّ الزوج يحلف. واختُلف إذا نكلَ الزوج عن اليمين، هل يلزم الزوج الطلاق أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال كلها قائمة مِن "المُدوَّنة": أحدها: أنَّهُ يُعجَّل عليه الطلاق في الحال، وهو قول مالك في "المُدوَّنة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: مع. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

والثانى: أنَّهُ يُسجن حتى يحلفُ عليه وإن كان سجنُهُ أبدًا، وهو قولُ مالك في "المدوَّنة" أيضًا. والثالث: أنَّهُ إن طال سجنُهُ خُلى بينهُ وبين امرأتهِ، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والقول الرابع: أنَّهُ إنْ طال سجنُهُ دخل الإيلاء، لأنَّهُ مضار على رواية ابن نافع. عن مالك رحمه الله. وسبب الخلاف: اختلافهم في النكول مع الشاهد، هل هو كاليمين مع الشاهد أم لا؟ وأمَّا الوجهُ الثاني: إذا كان الطلاقُ مُقيدًا، فلا يخلو مِن وجهين: أحدهما: أن يكون مُقيدًا باليمين. والثانى: أن يكون مُقيدًا بالمال [فإن كان مقيدًا باليمين] (¬1) مثل: أن [يطلقها] (¬2) بفعلٍ أو قول فهل تلفَّق الشهادة إذا كانت الشهادتان على قولين مُتفقين أو مُختلفين أو بفعلين مُتفقين أو مختلفين أو أحدهما على قول، والآخر على فعل في [موضع أو في موضعين. أما الأقوال فلا تخلوا من أربعة أوجه] (¬3): فالوجه الأول: إذا اتفق اللفظ والمعنى وما يوجبه الحكم. والثانى: أن يختلف اللفظ ويتَّفق المعنى، ويتفق ما يُوجبهُ الحكم. والثالث: أن يختلف اللفظ ويختلف المعنى ويتفق ما يُوجبهُ الحكم. والرابع: أن يختلف اللفظ ويختلف المعنى وما يُوجبهُ الحكم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يطلق طلاقها. (¬3) سقط من أ.

فأمَّا الوجهُ الأول: إذا اتفق اللفظ والمعنى وما يُوجبهُ الحُكم فإن الشهادة تُلفَّق اتفاقًا. وأمَّا الوجهُ الثاني: إذا اختلف اللفظ واتفق المعنى ويتفق ما يُوجبهُ الحُكم مثل أنْ يشهد أحدهما بقوله: "أنت برية"، ويشهد الآخر بقولهِ: "أنت خَلية": فإن الشهادة تلفق أيضًا لأنَّ المعنى واحد، والذي يُوجبهُ الحكم تطليقة بائنة. والوجهُ الثالث: إذا اختلف اللفظ واختلف المعنى ويتفق ما يُوجبهُ الحُكم مِثل أن يشهد أحدهما بثلاث، والآخر بخلع فلا تلفَّق الشهادة اتفاقًا. والوجه الرابع: إذا اختلف اللفظ والمعنى وما يُوجبهُ الحُكم مِثل أن يشهد أحدهما بواحدة، والآخر بخلع، فذكر القاضى أبو الوليد بن رُشد اتفاق المذهب في هذا الموضع "أنَّ الشهادة لا تُلفَّق". وغيرُهُ مِن أهل المذهب يُخالفُهُ في ذلك، وقد وقع في "المُدوّنة" ما يرد على القاضى وهو: "إذا شهد أحدهما بواحدة، والآخر بثلاث، حيث قال ابن القاسم: "يحلف على الثلاث وتلزمُهُ الطلقة الواحدة". ومعنى اتفاق ما يُوجبُهُ الحكم في الوجهِ الثالث: البينونة، وإسقاط الرجعة. وفي الوجه الرابع: اختلف ما يُوجبهُ الحكم أيضًا، لأن أحدهما شهد برجعية والآخر ببائنة، وتحصيل ذلك على مذهب "المُدوَّنة" في ثلاثة أوجه: الأفعال كُلُّها أو الأقوال كُلُّها أو الأفعال مع الأقوال.

فأمَّا الأفعال [كُلها] (¬1): فلا تخلو مِن أن تكون مِن جنسٍ واحد أو مِن جنسين: فإن كانت من جنسٍ واحد [فإنَّها تُلفَّق] (¬2)، [مثل: دخول] (¬3) الدار، فإنَّها تُلفَّق إذا [دخلت] (¬4) الدار وثبت الدُخول. فإن كانت من جنسين كدخول الدار وركوب الدابة فلا تُلفَّق. [وإن كانت من الأقوال كلها فقد قدمناها وقسمناها تقسيمًا لا مزيد عليه] (¬5) فإن كانت مِن الأفعال والأقوال مِثل أن يشهد أحدهما أنَّهُ قال لها: "إن دخلت الدار فأنت طالق"، ويشهد الآخر أنَّهُ قال: "إنْ كلَّمت [زيدًا] (¬6) فامرأتُهُ طالق"، ويشهد عليه هُما أو غيرهما [بالحنث] (¬7)، فهل تُلفَّق شهادتهما أم لا؟ فالمنصوص في المذهب أنَّها لا تُلفَّق، و [هو] (¬8) ظاهر ما وقع لمالك في كتاب "القذف" وغيرهِ مِن "كتاب الحُدود" أنها تُلفَّق. فهذا تحصيل المسألة على ما في "المُدوّنة". وأمَّا الشيخ أبو الحسن اللخمى رحمهُ الله، فقد خرّج فيها أربعة أقوال: أحدها: أنَّهما [تضمان] (¬9). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) في ع، هـ: كدخول. (¬4) في أ: اتخذت. (¬5) سقط من أ. (¬6) في هـ: فلان. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ. (¬9) في أ: تضمنان.

والثانى: أنَّهما لا [تضمان] (¬1). والثالث: أنَّهما [تضمان] (¬2) إن كانتا على قول، ولا [تضمان] (¬3) إن كانتا [على] (¬4) فعل. والرابع: إن اختلف القول والفعل ضُمتا، وهذا كُلُّهُ إذا كان الطلاق مُقيَّدًا باليمين. وأمَّا الوجه الثاني: إذا كان الطلاق مُقيدًا بالمال مِثل أن يشهد شاهد أنَّهُ طلَّقها على ألف درهم ويشهد الآخر أنَّهُ طلَّقها على عبدها، فلا يخلو مِن أربعة أوْجه: إمَّا أنْ يقوم الزوج بشهادتهما جميعًا أو قامت الزوجة بشهادتهما جميعًا أو قام الزوج بشهادة الواحد والزوجة مُنكرة أو قامت الزوجة بشهادة واحد والزوجُ مُنكر، وقام كُلُّ واحدٍ منهما بشهادة شاهد: فإن قام الزوج بشهادتهما جميعًا والزوجة منكرة، فالطلاق يلزم الزوج لاعترافهِ [به] (¬5)، وهل تحلف أو لا تحلف؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ عليها اليمين وهذا أحد أقوال "المُدوّنة" على ما ذكرهُ [ابن محيرير] (¬6). والثانى: [أنَّها] (¬7) لا يمين عليها. ¬

_ (¬1) في أ: تضمنان. (¬2) في أ: تضمنان. (¬3) في أ: تضمنان. (¬4) في ب: عن. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: ابن محمَّد. (¬7) في هـ: أنه.

وإن قامت الزوجة بشاهدتهما جميعًا والزوجُ مُنكر، فلا يلزمُهُ الطلاق بشهادتهما، وهل يحلف [الزوج] (¬1) على تكذيب كلِّ واحدٍ منهما أو لا يحلف؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يحلف، لأن شهادتهما وإن اختلفتا [فإنها] (¬2) شبهة تُوجب اليمين. والثانى: أنهُ لا يحلف، وهو ظاهر قول سحنون. وكذلك [الحكم فيما] (¬3) إذا كانا مُنكرين. فإن كان الزوج هو القائم بشهادة الواحد وهي مُنكرة، فإنَّهُ يحلف ويستحق ما شهد لهُ بهِ شاهدُه ويلزمهُ الطلاق، وهو قولُ ابن القاسم. زاد غيرُهُ: "ويحلف على شهادة الآخر". فإن كانت الزوجة هى القائمة بالشهادة الواحدة والزوج مُنكر للجميع، حلف الزوج على تكذيبهِ لا غير. فإن قام الزوج بشهادة أحدهما، وقامت هى بشهادة الآخر، فلا يخلو الزوج مِن أن يقوم بشهادة الشاهد على [الدراهم] (¬4) أو بشهادة الشاهد على العبد: فإن قام بشهادة الشاهد على الدراهم [أو بشهادة النساء على العبد] (¬5). فإن قام بشهادة الشاهد على الدراهم: فإنَّ العبد يُباع ثُمَّ ينظر: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في هـ: الألف. (¬5) سقط من هـ.

فإن بيع بكفاف ما يدَّعيهِ الزوج أخذهُ بلا يمين. وإن بيع بأكثر ما يدَّعيهِ، فإنَّ الزائد يُوقّف حتى يرجع الزوج إلى قولها وتصديقها. وإن طال الزمان أو مات الزوج قبل أن يرجع، فكان ينبغى أنْ يتصدق بتلك الفَضْلة، لأنَّ الزوجة قد أقّرت على نفسها أنَّها لا شىء لها فيها، وأنَّها مالٌ للزوج، وكذلك قال شاهدها والزوج قد جحدها ومات على ذلك، فكان الوجهُ أنْ يتصدق بها ويكون أجرها لمن ثبت لهُ في علم الله تعالى، وإلى ما ذكرناهُ من البيع ذهب الشيخ أبو الحسن القابسى. فإن كان الزوج هو القائم بالعبد. فإن كان العبد مضمونًا [أو معينًا] (¬1) في ملك غيرها فإنَّ الدراهم تُؤخذ مِن المرأة فيشترى بها العبدُ للزوج على الصفة أو يشترى بها العبد المُعيَّن في مِلك غيرها ولا أيمان في هذا الوجه. فإن نقصت الدراهم عن [ثمن] (¬2) العبد الموصوف أو [عن] (¬3) قيمةُ عبدٍ وَسَط، إنْ كان غير موصوف فإنَّ الزوج يحلف ويستحق الزيادة. فإن فضل مِن الدراهم شىء كان كالأول. فإن كان [العبد] (¬4) معينًا في ملكها، فإنَّ الزوجَ يحلفُ على ما شهد [له] (¬5) بهِ شاهدُهُ ويحلف على تكذيب الشاهد الآخر، وهو قولُ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ملك. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: كالأول. (¬5) سقط من أ.

سحنون. وقد قيل إنَّ الزوج إذا كان [هو] (¬1) القائم بشهادة العبد أنَّ يُفصل بين أن تكون [الشهادة] (¬2) في مجلسٍ واحد أو في مجلسين: فإن كانت في مجلسٍ واحد فقد تكاذبا ويقضى بأعدل الشاهدين مع يمين القائم بشهادته. وذلك أنَّهُ إن كان شاهد الزوج أعدل مِن شاهدها لم يستحق ما ادَّعاهُ إلا بيمينِهِ مع شاهدهِ. وإن كان شاهدُ المرأة أعدل، فلابُدَّ لها مِن اليمين على دعوى الزوج. وإن كانت الشهادة في مجلسين، فلا يخلو مِن أن يُعرف الأول منهما أو لا يُعرف: فإن عُرف الأوّل منهما فهو الخلع، يحلفُ القائم بالأول منهما وثبت له ما شهد بهِ شاهدهُ. فإن جُهل الأول منهما وعُدم التاريخ حَلِفَا جميعًا، الزوج والمرأة وقُسِّم بينهما الدراهم والعبد، وهذا القولُ أصحُّ مِن الأوِّل. والله أعلم [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الشهادتان. (¬3) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الثالثة عشر في تفسير مسألة -ربيعة- الواقعة في [آخر] الكتاب.

المسألة الثالثة عشر في تفسير مسألة -ربيعة- الواقعة في [آخر] (¬1) الكتاب. ونصها قال ربيعة: "ومن شهد عليهِ ثلاثةُ نفرٍ كلُّ واحدٍ منهم بطلقة ليس معه صاحبه فأُمِر أنْ يحلف فأبَى أن يحلف، فليُفَرَّق بينهما، وتعتدُّ من يوم نكل، وقُضى عليه لأنَّهُ لا أدرى عن أي شهادات النفر نَكَلَ". فقد اختلف المتأخرون في تأويلهِ، هل هو وِفاق للمذهب أو خلاف للمذهب؟ فذهب الشيخ أبو الحسن القابسى إلى أنَّهُ وِفاق. ومعناهُ: أنَّ كلَّ واحدٍ شهد عليهِ في يمينِ حنث فيها، فلذلك إذا نكل طلّقت عليه بالثلاث. فظاهر هذا أنَّهُ يحلف على تكذيب كُلِّ واحدٍ. وأمَّا لو كان في يمين لزِمهُ طلقة واحدةُ، يريد لاجتماعهم عليها، ويحلف [مع] (¬2) الآخر. وإن نكل لزمهُ طلقتان. فعلى هذا التأويل يكون وفاقًا للمذهب على أحد قولى مالك "في لزوم الطلاق بالنُكول". وقال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد: "أنَّهُ يلزمُهُ بالنكُول ثلاث. فلو شهدوا أنَّ ذلك في وقت واحدٍ: للزمتهُ [طلقة] (¬3) واحدة، ولم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

يلزمُهُ يمين. ولو ورخوا كُلهم وقتًا واحدًا كانت العدَّة منهُ لا مِن يوم الحكم. ولو اختلف تأريخهم لاعتدّت مِن التاريخ الثاني. وَلو اتَّفق اثنانِ على تاريخٍ [قديم، كانت العدَّة منهُ. ولو اتَّفقا على تاريخٍ] (¬1) حديث، كانت العدَّة منهُ. ولو أقرَّ الزوجُ بالقديم لم تكُن العدَّة منهُ". فعلى هذا [التأويل] (¬2) أيضًا لا يكون خلافًا. وقال أبو عمران وابن القصار: "قولُ ربيعة [هاهنا] (¬3) [موافق] (¬4) لرواية عيسى في العُتبيَّة، [أنه يحلف] (¬5) ولا يلزمُهُ شىء [بناءً] (¬6) على أنَّ الشهادة في الأقوال لا تُلفَّق"، [فعلى هذا التأويل] (¬7) يكون قول ربيعة خلافًا لمشهور المذهب الذي عليهِ جمهور الأصحاب: أنَّ الواحدة تلزمهُ، ويحلف على شهادة الآخر، وهو قول مطرف وأصبغ وعبد الملك، ورواهُ ابن القاسم عن مالك [في المدونة] (¬8) والواضحة وغيرها. وقال بعض المتأخرين: ظاهر قولُ ربيعة "أنَّهُ إنْ حلف فلا شىء عليهِ، لأنَّها شهادة الأنداد، وكل واحدٍ شهد على طلقة، فإن حلف بقيت زوجتهُ ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في هـ: وفاق. (¬5) في أ: بحلفه. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

وإن نكل طُلِّقت عليه ثلاثا، وهو ظاهر قولُهُ في "المُدوّنة" لأنَّهُ قال: "لا أدرى على أيِّ شهادات النفر نكلَ": يدلَّ على أنَّها شهادات كُلها وأنَّهُ لا يدرى أَنَكَل عن هذهِ أو عن هذه فيلزمُهُ ذلك كُلُّهُ. وقال غيرهُ مِن الأشياخ: "فإن كانت الشهادة في مجالسٍ مُختلفة لزمتهُ ثلاث، فإن كانت في مجلسٍ واحدٍ فواحدة". فهذه جُملة ما قيل في المسألة مِن التأويل فيما رأيتُ وسمعت. فيتحصَّل في جُملة المسألة ثلاثةُ أقوال: أحدها: أنَّ ذلك وِفاق، وهو تأويل الشيخين أبى محمَّد وأبى الحسن. والثانى: أنَّ ذلك خلاف. والثالث: التفصيل بين أن يكون ذلك في مجلسٍ أو مجالس. وسببُ الخلاف: اختلافهم في الشهادة في الأقوال، هل تُلَّفق أو لا تُلفَّق؟ وقول ربيعة: والعدَّة في ذلك مِن يوم الحُكم باحتياط للأزواج إذا لم يتحقَّق اليوم الذي طلَّقها فيه. وأمَّا ما يرجعُ إلى البينونة فمعتبرٌ عدَّتها مِن يوم طلَّق [أولًا] (¬1) من غير اعتبارٍ بيوم الحكم، لأن المرأة قامت بذلك فهي معترفة بأنَّ العصمة قد انقطعت بينهما مِن يومئذٍ. وإن لم تقم فلا تُبيح لهُ الرجعة إذا لم يحلف على تكذيب واحدٍ منهم وهو كالمصدق لكُل واحد [منهم] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: قولًا. (¬2) سقط من أ.

والمذهب على ما قدَّمناهُ: أن العدّة مِن يوم ورخ الشاهد الثاني، وهو [الوقت] (¬1) الذي يحكم فيه بتطليقة. تمَّ الكتاب بحمد الله [وصلى الله على محمَّد نبيه الكريم] (¬2). ¬

_ (¬1) في هـ: القول. (¬2) زيادة من جـ، ع، هـ.

مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدَوَّنة وحَلِّ مُشكلاتها تأليف أبي الحسن علي بن سعيد الرجراجي تقديم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور علي علي لُقَم اعتنى به أبو الفضل الدّمياطي أحمد بن علي الجُزءُ الخامِس مركز التراث الثقافي المغربي دار ابن حزم

حقوقُ الطَّبعَ محْفوَظة الطبعَة الأولى 1428 هـ - 2007 م ISBN 9953 - 81 - 431 - 7 الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها مركز التراث الثقافي المغربي الدار البيضاء - 52 شارع القسطلاني - الأحباس هاتف: 442931 - 022/ فا كس: 442935 - 022 المملكة المغربية دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هاتف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحلِّ مشكلاتها (5)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كتاب التخيير والتمليك

كتاب التخيير والتمليك

كتابُ التخيير والتمليك بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله. تحصيلُ مشكلات هذا الكتاب وجملتها ست مسائل: المسألة الأولى في التخيير، هل هو مباحٌ أو مكروهٌ؟ وقد اختلف [المتأخرون] (¬1) في ذلك على قولين: أحدهما: أنه مكروهٌ، لأنَّ ذلك يُؤدى إلى إيقاع الثلاث في كلمة واحدة، لنهى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلى هذا ذهب بعضُ [البغداديين] (¬2). [والثانى: أن التخيير مباح إذ ليس بنفس إيقاع الطلاق وإنما هو سبب له وإلى هذا ذهب بعض المتأخرين] (¬3). وربَّما استدلَّ قائلَهُ بالآية في أمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتخيير وفعلهُ. ولا دليل لهُ فيها، إلا أنَّ الآية إنَّما اقتضت التخيير بين الدنيا والآخرة، ثُمَّ [رجع] (¬4) الأمر بعد ذلك أنْ اخترنَّ الدنيا للنبى - صلى الله عليه وسلم - في أنْ يُمتِّع أو يُسرِّح، وأنَّ السراح الجميل لا يقتضى البتات بلفظهِ. فإذا ثبت ذلك: فإن خيَّرها [فاختارت] (¬5) ما الذي يلزمُ مِن ذلك؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: المتأخرين أيضًا. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: رجوع. (¬5) في أ: فما اختارت.

فالمذهب على ستة أقوال: أحدها: أنَّ ذلك ثلاث [وهو مذهب الكتاب. وإن اختارت المرأة ثلاثة] (¬1)، ولا مناكرة للزوج، نَوَتْ المرأة [الثلاثة] (¬2) أم لا. فإن [قضت] (¬3) بدون الثلاث لا حُكم لهُ، [وهذا مذهب الكتاب، وهو المشهور مِن الأقوال] (¬4). والثاني: أنَّها ثلاث بكل حال، سواءٌ [سرحت بما دونها بالواحدة أو الاثنتين أو لم تسرح] (¬5) نَوت [شيئًا] (¬6) أو لم تنو شيئًا، ولا تُسئل عن شىء، ولا مُناكرة للزوج، وهذا قول عبد الملك. والثالث: أنَّها واحدةٌ بائنة، ذكرهُ محمَّد بن خويز منداد عن مالك، وهو أحد مذهبى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو تأويل اللخمى على ما حكاهُ ابن سحنون عن أكثر أصحابنا، واختارهُ هُو. والرابع: أنَّ للزوج المُناكرة في الثلاث، والطلقة بائنة، وهو قول ابن الجهم. والخامس: أنَّ للزوج المُناكرة، والطلقة رجعية، وهو ظاهر قولُ سحنون، وعليه [تأول] (¬7) اللخمى أيضًا. والقول السادس: أنَّها إنْ اختارت نفسها فهي ثلاث، وإنْ اختارت ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: قضاها. (¬4) سقط من هـ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: دونها. (¬7) في أ، جـ: تأوله.

زوجها أوردت الخيارُ عليه فهي واحدةٌ بائنه، وهو مذهب زيد بن ثابت، وحكاه النقَّاش عن مالك. وعلى القول بأنَّها إن اختارت دون الثلاث لا حُكم [لها] (¬1)، فهل لها معاودة الخيار أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: [أنها] (¬2) لا خيار لها بعد ذلك، وهو قول ابن القاسم في "المُدوّنة". والثانى: أنَّ لها معاودة الخيار، وهو قول أشهب في غير "المُدوّنة" [ويؤخذ منها أيضًا والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: له. (¬2) في أ: أن. (¬3) سقط من أ.

المسألة الثانية في الفرق بين التخيير والتمليك، والفرق بينهما أن التخيير إنما يكون بين الشيئين المختلفين، وقد يكون بين [المتغايرين]

المسألة الثانية في الفرق بين التخيير والتمليك، والفرقُ بينهما أن التخيير إنَّما يكونُ بين الشيئين المُختلفين، وقد يكون بين [المتغايرين] (¬1). ولا شك أن وجود العصمة بين الزوجين، وانصرافهما بين المتغايرات. فإذا خيَّرها فإنَّما خيَّرها بين انصرام العصمة وانبتاتها وبين البقاء عليها. فإذا اختارت [نفسها] (¬2) أو سرحت بطلاقِ الثلاث فلا مُناكرة للزوج في ذلك، إذا كانت مدخولًا بها لأنَّها أتت بجوابٍ يلائم ما جُعل لها مِن الخيار. وأمَّا التمليك: فإنما ملكها الزوج [ما] (¬3) [ملكت] (¬4) إيقاعه، مِن أعداد الطلاق سُنَّة وبدعة، وقد يملك إيقاع الواحدة للسنة، ويملك إيقاع الاثنين والثلاثة للبدعة. وقولنا: "يملك إيقاع أكثر مِن واحدة" معناهُ: عادةً لا شرعًا. فإذا قضت بالواحدة أو بالاثنين أو بالثلاث فقد أوقعت ما كان يُمكن إيقاعهُ وصُدُورُهُ منهُ، [فيلزم] (¬5) ألا يناكرها الزوج إذا قضت بالثلاث. والتخيير قبل البناء كالتمليك: "في أنَّ الزوج يملكُ المُناكرة، لأنَّ المقصود يحصل لها بالواحدة، وإنَّما تملك أمرَ نفسها بها. ¬

_ (¬1) في أ: المتعاقدين. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: ملك. (¬5) في أ: فيلزمه.

فإذا ثبت ذلك فللزوج المُناكرة في التمليك بثلاثة شروط: أحدها: ألا يكون التمليك مشروطًا في عقد النكاح وإنَّما تَبَرَّع به الزوجُ بعد العقد. والثانى: أن يدعى نيَّة يعتقدها عند التمليك. والثالث: أن يُبادرها بالمُناكرة في الحال، فإن لم يُناكر عليها حتى طال ذلك لم يكُن لهُ مُناكرتُها على حال. وقولُنا: "ألا يكون مشروطًا" لأنَّهُ إن كان مشروطا، فجوزنا المُناكرة للزوج: كان ذلك مما يُخِلُّ بشرطها، ويُبطل ثمرتها وفائدتهُ. وقولنا: "يدْعى نيَّة يعتقدها عند التمليك: احترازًا مِن أن تكونَ نيَّة أحدثت بعد التمليك. وقولُنا: "ويُبادر بالمُناكرة" احترازًا مِن أنْ يُناكرها بعد طولِ الأمد، فيعد ذلك منهُ رضًا بما صنعت. فإذا حصلت هذه الشروط الثلاث كان للزوج المُناكرة. والأصل في ذلك أثر [ابن] (¬1) عمر رضي الله عنه أن "القضاء ما قضت إلا أن يدّعى الزوج المُناكرة، ويحلف". وهو الذي اعتمدهُ مالك رحمه الله. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الثالثة في التمليك المقيد.

المسألة الثالثة في التمليك المُقيَّد. اعلم أنَّهم قسُّموا التمليك على ثلاثة أقسام: تمليك مُطلق. وتمليك مُقيَّد. وتمليك مفوض. فأمَّا التمليك المُطلق: فهو أنْ يقول لها: "أمرُك بيدك" وهو على وجهين: أحدهما: أنْ يُواجهها بذلك. والثانى: أن يكتُب إليها بذلك أو أرسل إليها رسولًا. فإن واجهها بذلك أو من فَوَّض إليه، فإلى متى يكونُ ذلك بيدها؟ فالمذهب على أربعة أقوال كُلُّها قائمة مِن "المُدوَّنة": أحدها: أنَّ ذلك بيدها ما لم يفترقا بأجسامهما، وهو قولُ مالك في المُدَّونة. والثانى: أنَّ ذلك بيدها ما لم يفترقا في الحديث وخرجا عمَّا كانا فيه [من الحديث] (¬1) إلى غيرهِ [وهو ظاهر قوله في المدونة إذا علم أنهما قد تركا ذلك وخرجا عن ما كان فيه إلى غيره من الحديث] (¬2). والثالث: اعتبار طول المجلس وقِصرهِ. فإذا طال المجلس وقَعَد معها ما يرى أنَّها تختارُ فيهِ لو أرادت فلا قضاء ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

لها بعد ذلك، وهو ظاهر قوله في "المُدوَّنة" في قولهِ: "أما ما كان مِن طول المجلس، وذهب عامة النهار، وعُلم أنهما قد تركا ذلك، فلا أرى لها قضاء [بعد ذلك] (¬1) "، وهو تأويل بعض حُذَّاق المتأخرين على "المُدوّنة". وعلى القول الرابع: أنَّ ذلك بيدها طال بهما المجلس أم لا، افترقا أم لا، ما لم توقف أو توطأ طوعًا، وهو أحد قولي مالك. وسببُ الخلاف: هل المُعتبر في التمليك "اللفظ" فيكون قولُهُ "أمرك بيدك" سؤالًا يفتقر إلى جواب في الحال فيتقيَّد بالمجلس أو المُعتبر "المعنى" لأنَّ الزوج ملَّكها أمرَ الطلاق، وذلك أمرٌ تحتاج فيه إلى المشورة، وقد لا تستقل فيه برأى نفسها لأنَّه أمرٌ خطر، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها حين تلا عليها آية التخيير: "ما عليك ألا تعجلى حتى تستأمرى أبا بكر". وأمَّا إن كتب لها أو أرسل إليها رسولا فلم يختلف قولُ مالك في هذا أنَّ ذلك بيدها وإن افترقا، وأنَّهُ لا يتقيَّد بالمجلس ما لم يطل ذلك، والطول في ذلك أكثرُ مِن شهرين على ما في سماع ابن القاسم في "العُتبيَّة". وهل يُقبل قولُها أنها ما [اختارت] (¬2) ذلك إلا لتقضى أو لا يُقبل إلا اليمين؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّها تصدق بيمين. والثانى: أنَّها تصدق بغير يمين. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: تركت.

والجواب عن القسم الثاني في التمليك المفوض: وهو أن يقُولَ لها: "أمرُك بيدك إن شئت" أو "إذا شئت" أو "متى شئت" أو "كُلَّما شئت"، فهذا يختلف باختلاف معانيها، وقد بيَّنا الحُكم فيها في "كتاب الأيمان بالطلاق" ممَّا لا مزيد عليهِ في هذا الموضع، والكلام في ذلك واحد. والجواب عن [القسم] (¬1) الثالث: وهو التمليك المُقيَّد بالصفة، وهو أن يقولَ لها: "أمرُك بيدك إنْ فعلت كذا وكذا" أو "إن لم [أفعل] (¬2) كذا وكذا". فما كان فيه [على] (¬3) بر: فلا يكون أمرها بيدها، حتى يفعل ما حلفَ على فعلهِ. وأمَّا ما كان فيهِ على حنث: فإنَّهُ لا شىء عليهِ حتى ترفع أمرها إلى السلطان، ويضربُ لها أجل الإيلاء [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) في أ: الوجه. (¬2) في أ: تفعلى. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الرابعة في [جواب] المخيرة في الطلاق.

المسألة الرابعة في [جواب] (¬1) المُخيَّرة في الطلاق. لا يخلو جواب المرأة لزوجها إذا خيَّرها مِن عشرةِ أوجه: أحدها: أنْ تُفصح بالطلاق واحدة أو ثلاثًا. والثانى: أنْ تُجيب بشىء مِن [كناياتهِ] (¬2). والثالث: أن تُجيب بشىء يُحتمل أنْ تُريد بهِ الطلاق أو لا تريدُ به الطلاق. والرابع: أن تُجيب [بشىء] (¬3) يُحتمل أنْ تريد بهِ الثلاث أو تُريد الواحدة أو الاثنين. والخامس: أنْ تُجيب بما ليس بمعنى الطلاق في شىء. والسادس: ألا تُجيب بشىء، وتفعل فعلًا يُشبهُ الجواب. والسابع: أنْ تُقيِّد الاختيار بشرط. والثامن: أن تقيد القبول [بالنظر] (¬4). والتاسع: أنْ تُفوِّض الأمرَ إلى غيرها. والعاشر: أن تفصح باختيار زوجها. فالجواب عن الوجهِ الأول: إذا أفصحت بالطلاق، فهو على ما ¬

_ (¬1) في أ: وجوب. (¬2) في هـ: كنايته. (¬3) في أ: بما. (¬4) سقط من أ.

أفصحت بهِ. فإنْ أفصحت [بالثلاث أو ما يتضمنها] (¬1) فذلك لها إلا أنْ يُناكرها في الخيار قبل الدُخول أو في التمليك قبل الدُخول أو بعدهُ فيكون ذلك لهُ إنْ ادعى نيَّة، ولا تُسأل في ذلك عن شىء، ولا تُصدَّق إن ادَّعت [نية] (¬2) "أنَّها لم تُرد الطلاق" أو "أنها لم تُرد الثلاث". والجواب عن الوجه الثاني: إذا أجابت بشىءٍ مِن [كنايات] (¬3) الطلاق مثل أن تقول "قد خليت سبيلك" أو "سرحتك" أو "فارقتك" أو ما أشبه ذلك، فيُحمل قولها في ذلك على: ما يحمل عليهِ قولُ الزوج ابتداءً أو فيما يكونُ مِن الطلاق، وما ينوىِ فيه، وما لا ينوىِ فيهِ. والجواب عن الوجه الثالث: إذا أجابت بما يُحتمل أنْ تُريدَ بهِ الطلاق [أو لا تريد به الطلاق] (¬4) مِثل أنْ تقول [قد] (¬5) "قبلتُ أمري" أو "قبلت" أو "اخترت" أو "قد شئت" أو "قد رضيت": فهذه تُسأل عمَّا أرادت بذلك. فما قالت قُبل [قولها] (¬6) وَجَرى الحكم في التخيير والتمليك على حسب ذلك. والجوابُ عن الوجهِ الرابع: إذا أجابت بما يُحتمل أن تُريد به الثلاث أو تُريدُ بهِ الواحدة أو الاثنتين، ففى ذلك ثلاثة ألفاظ: ¬

_ (¬1) في أ: بالطلاق أو ما يقتضيه. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: كناية. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في هـ: منها.

أحدها: أنْ تقول قد طلَّقتُ نفسى [والثانى: أن تقول: أنا طالق. والثالث: أن تقول: قد اخترت الطلاق. فإذا قالت: طلقت نفسي] (¬1) فقد اختلف المذهب في ذلك على خمسةِ أقوال: أحدها: [أنها] (¬2) تسأل في المجلس وبعدهُ، في التخيير والتمليك. فإن لم يكُن لها نيَّة، فهي ثلاث إلا أن يُناكرها الزوج في التمليك، وهو مذهب ابن القاسم في "المُدوَّنة". والثانى: أنَّها تسأل في المجلس أيضًا وبعدهُ في التخيير والتمليك، فإن لم يكن لها نيَّة، فهي واحدة تلزم في التمليك وتسقُط في التخيير [والثالث: أنها لا تسأل لا في التخيير ولا في التمليك وهي واحدة ويلزم في التمليك ويسقط في التخيير] (¬3). وإن قالت في المجلس: "أردت ثلاثًا"، فهي ثلاث إلا أن يُناكرها الزوج في التمليك، وهو قولُ ابن القاسم في الواضحة. والقول الرابع: أنَّها لا تُسأل في التخيير ولا في التمليك، وهي ثلاث إلا أنْ تقول في المجلس "أردتُ واحدة"، وتسقط في الخيار، وتلزمُ في التمليك، وهو قول أصبغ. والقول الخامس: أنَّها لا تُسأل في التمليك وهي واحدة، إلا أنْ تُريد أكثر مِن ذلك فيكون للزوج أنْ يُناكرها. وتُسأل في التخيير: فإن قالت: "أردتُ ثلاثًا" صُدِّقت، وإنْ قالت: "أردتُ واحدة" أو "اثنتين" أو "لم تكن لي نيَّة" أو افترقا في المجلس ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أن. (¬3) سقط من أ.

قبل [أن تسأل] (¬1) سقط خيارها. وأمّا إن قالت: أنا طالق فلا تُسئل في تمليك ولا خيار، وتكون واحدةٌ تلزمُ في التمليك، وتسقط في الخيار إلا أنْ تقول في المجلس "نويتُ الثلاث"، فتلزمُ في التخيير ويكون للزوج المُناكرة في التمليك، ولا خلاف في ذلك. وأمَّا إنْ قالت: "قد اخترتُ الطلاق" فإنَّها تُسأل في التخيير والتمليك. فإن قالت: "لم تكن لي نيَّة" فهل تكون ثلاثًا أو واحدة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّها ثلاث، وهو [قول] (¬2) ابن القاسم في المُدوّنة. [والثانى: أنها واحدة] (¬3) وهو قول ابن القاسم في الواضحة. وسبب الخلاف: الألف واللام، هل هما للعهد أو للاستغراق؟ والجواب عن [الوجه] (¬4) الخامس: إذا أجابت بما ليس مِن معنى الطلاق مثل أنْ تقول: "أنا أشربُ الماء" وما أشبه ذلك. فهذا يُسقط خيارها، ولا تُصدَّق أنَّها أرادت بذلك الطلاق. والجواب عن الوجه السادس: إذا لم تُجب بشىء، وفعلت فعلًا يُشبهُ أنْ يكون الجواب، مثل أن تنقل متاعها أو تخمر رأسها أو ما أشبه ذلك، فإنَّها تُسأل عمَّا أرادت بذلك؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: مذهب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

فإن قالت: "لم أُرد بهِ الطلاق" صُدِّقت. وإن قالت: "أردتُ بهِ الطلاق" صدِّقت فيما أرادت بهِ. وإن قالت: "أردتُ ثلاثا" كان ذلك في الخيار، ولهُ المُناكرة في التمليك، إنْ ادعى نيَّة. وإن قالت "أردتُ بذلك الفِراق ولم تكن لي نيَّة في عدد الطلاق". فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّها ثلاث، وهي رواية عن ابن القاسم. والثانى: أنَّها واحدة رجعية، وهو قول ابن الموّاز. والجواب عن الوجه السابع: إذا قيدت الإجابة بشرط، فإنَّ ذلك [الشرط] (¬1) ينقسم [إلى] (¬2) أربعة أقسام: أحدها: أن يكون ذلك الشرط يحتمل أن يكون ويُحتمل ألا يكون. والثانى: أن يكون محتملًا أيضًا والأغلب منهُ أنْ يكون. والثالث: أنْ يكون ممَّا يُعلم أنَّهُ لابدَّ أن يكون في المُدَّة التي يُمكن أنْ يبلُغا إليها. والرابع: أن [يكون مما] (¬3) يُعلم أنَّهُ لا يكون. فالأول أن تقول: قد اخترتُ نفسى إنْ دخلتُ على ضرتى أو قدم فُلان أو ما أشبه ذلك، ففيهِ قولان: أحدهما: أنَّ لها مُعاودة القضاء فتقضى أو ترد، وهو قول ابن القاسم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ: على. (¬3) سقط من أ.

والثانى: أنَّ ذلك رد لما بيدها، ولا قضاء لها بعد ذلك، وهو قولُ سحنون، ويؤخذ [من قول] (¬1) ابن القاسم فيما إذا أجابت بغير ما جُعل لها، حيث قال: "ليس لها مُعاودة [القضاء] (¬2) ". والوجه الثاني: مِثل أن تقول: "اخترتُ نفسي إذا حاضت فُلانة". ففيهِ قولان: أحدهما: أنَّها تُطلَّق مكانها، وهو قول ابن القاسم في المُدوّنة. والثانى: أنَّ الأمر يرجعُ إليها فتقضى أو ترد، وهو قول أشهب. والوجه الثالث: مثل أنْ تقول اخترتُ نفسي إذا جاء الغد أو جاء العيد، فإنها تكون طالقة مكانها. والوجه الرابع: مِثل أن تقول: "اخترتُ نفسي إن مسستُ السماء". فإنَّها تكون ردًا لما جعل لها، ولا [يُمكن] (¬3) لها أن تقضى بعد ذلك. والجواب عن الوجه الثامن: إذا قيَّدت [القبول] (¬4) بالنظر، مِثل أن تقول: [قد] (¬5) قبلت لأنظرُ في أمرى فهذا [يكون] (¬6) الأمر فيه بيدها، وإنْ انقضى المجلس حتى توقف، ولا خلاف في ذلك. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع، هـ: يكون. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ، جـ: يمكن.

والجواب عن الوجه التاسع: إذا فوّضت الأمرُ لغيرها مِثل أنْ تقول: قد شئت إن شاء فلان أو فوضتُ أمرى [إلى فلان] (¬1)، ففى ذلك قولان: أحدهما: أنَّ ذلك جائزٌ إن كان فلان حاضرًا أو كان قريب الغيبة مثل اليومين والثلاثة، وإن كان بعيد الغيبة رجع الأمرُ إليها، وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى عنهُ. والثانى: أنَّها ليس لها أنْ تُحوِّل الأمرَ إلى غيرها، وإن كان حاضرًا، ويرجع الأمرُ إليها فتقضى أو ترد. وأمَّا [الجواب عن] (¬2) الوجه العاشر: وهو أنْ تفصح باختيار زوجها مِثل أنْ تقول "اخترتُ زوجى"، أو "اخترتُ المقام مع زوجى" أو "في عِصمة زوج"، فذلك ردُّ ما بيدها، ولا خلاف في ذلك في المذهب [إلا ما حكاه النقاش عن مالك وقد قدمناه] (¬3). والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ، جـ.

المسألة الخامسة في قوله: الحلال [عليه] حرام.

المسألة الخامسة في قوله: الحلال [عليه] (¬1) حرام. وهذه المسألة اختلف فيها السلف و [الخلف] (¬2)، واختلف فيها فُقهاء الأمصار، لاختلاف مَنْ [قبلهم] (¬3)، والذي تحصَّل عندي من اختلافهم سبعة أقوال: أحدها: [أنه] (¬4) يحمل على الثلاثة في المدخول [بها] (¬5)، وينوى في غير المدخول [بها] (¬6)، وهو قول زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبهِ قال ابن أبي ليلى. والثانى: [أنه] (¬7) إنْ نَوَى بذلك ثلاثًا فهي ثلاث، وإنْ نَوَى واحدة فهي واحدة بنيته وإنْ نَوَى يمينًا، فهي يمين يكفرها، وإنْ لم ينوهِ طلاقًا ولا يمينًا فليست بشىء، وهي كذبة، ومِمن قال بهذا القول سُفيان الثورى رضي الله عنهُ. والثالث: أيضًا أنْ يكون ما نوى بها واحدةً فواحدة، وإنْ نَوَى ثلاثًا فثلاث، وإنْ لمْ ينو شيئًا فهي يمين يُكفرها، وهذا القولُ قالهُ الأوزاعي. والرابع: أنَّهُ ينوى في موضعين في إرادة الطلاق وفي وقوعه، فما ¬

_ (¬1) في ع، هـ: على. (¬2) سقط من هـ. (¬3) في أ: قسم. (¬4) في أ، جـ: أنها. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

نوى كان ما نوى، فإنْ نوى واحدة كان رجعيًا، وإنْ أراد تحريمًا بغير الطلاق فعليهِ كفَّارة يمين، وهو قولُ الشافعى [رضي الله عنه] (¬1). والخامس: أنَّهُ ينوى أيضًا في الطلاق، فإن نوى واحدة كانت بائنة، وإنْ لم ينوِ طلاقها [فهو يمين]، وإنْ نوى الكذب: فليس بشىء، وهذا القول قالهُ أبو حنيفة وأصحابه. والسادس: أنَّها يمين يُكفِّرها ما يكفر اليمين. والقائلون [بهذا القول على فرقتين: فرقة تقول: إنها يمين مغلظة. وفرقة تقول. أنها غير مغلظة. أما القائلون] (¬2) بأنَّها يمين غير مغلَّظة فمنهم أبو بكر وعمر وابن مسعود رضي الله عنهم وابن عباس وجماعة من التابعين [رضي الله عنهم أجمعين] (¬3). وقال ابن عباس، وقد سُئل عنها: "لقد كان [لكم في] (¬4) رسول الله أسوةٌ حسنة" خرّجهُ البخاري ومسلم. وأما القائلون أنَّها يمين مُغلَّظة: فبعضهم أوجب فيها الواجب في الظهار. وبعضهم أوجب فيها عتقُ رقبة. والسابع: أنَّ تحريم المرأة كتحريم الماء، وليس [فيه] (¬5) طلاق، ولا كفَّارة، لقول الله سبحانه: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}، وهو قولُ ¬

_ (¬1) زيادة من ع، هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ع، هـ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: فيها.

مسروق الأجدع وأبى سلمة بن عبد الرحمن [والشافعى] (¬1) وغيرهم مِن أهل [العلم] (¬2). وسبب الخلاف: اختلافهم في كفَّارة النبي - صلى الله عليه وسلم -، هل كفَّر بها عن اليمين أو كفّر بها عن التحريم؟ و [ذلك] (¬3) أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - حرَّم أُمُّ ولده، وحَلَفَ ألا يطأها، فعاتبهُ اللهُ في التحريم وأمرهُ بالكفَّارة عن اليمين، وهو تأويل زيد بن أسلم، وبه أخذ مالك رضي الله عنه. فَمَنْ رأى أنَّهُ كفَّر عن التحريم، قال أنَّهُ يُكفِّر. وَمَنْ رأى أنَّهُ لا يلزمُهُ يمين، ولا طلاق، قال لأنَّ ذلك ليس بيمين، ولا كناية عن الطلاق. وأمَّا المذهب فتحصيلهُ أنَّ الرجل إذا قال: "الحلال عليه حرام" هل تكون [زوجتهُ] (¬4) داخلة في التحريم حتى يخرجها أو هى خارجة حتى يُدخلها. على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّها خارجة حتى يُدخلها، وهو ظاهر قوله في كتاب "النُذور [والأيمان] (¬5) " مِن "المُدوّنة". والثانى: أنَّها داخلة إلا أنْ يُخرجها، وهو قولُهُ في "كتاب التخيير والتمليك" مِن "المُدوّنة". ¬

_ (¬1) في هـ: الشعبى. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

ووجهُ القول بأنَّها داخلة حتى يُخرجها بقلبه أو بلسانه على قول أو بالنُطق وحده على قول. فإذا ادّعى أنَّهُ [حاشاها] (¬1) بقلبهِ أو بلسانه، هل يكون دون يمين أو لابُدَّ أن يحلف؟ فلا يخلو مِن أنْ تقوم عليهِ بيَّنةَ أم لا: فإن لم تقُم عليهِ بيّنة فلا يمين عليهِ. فإن قامت عليهِ بيِّنة فقولان: أحدهما: أنَّهُ يحلف، حكاه القابسى والأبهرى. والثانى: أنَّهُ لا يحلف. فإن لم يُخرجها، ما الذي يلزمُهُ مِن الطلاق؟ وكيف إنْ ادَّعى أنَّهُ أراد بذلك الظهار؟ فإن لم يُخرجها ولم يدع أنَّهُ أراد بذلك الظهار، ما الذي يلزمُهُ مِن أعداد الطلاق؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: [أنه] (¬2) ثلاث في المدخول [بها] (¬3)، وينوى في غير المدخول بها، وهو قولُ ابن القاسم في "المُدوّنة". [الثاني] (¬4): [أنه] (¬5) ثلاث، ولا ينوى قبل ولا بعد، وهو قولُ عبد الملك في "المبسوط". ¬

_ (¬1) في هـ: حشاها. (¬2) في أ، جـ: أنها. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ، جـ: أنها.

[والثالث] (¬1): [أنه] (¬2) ثلاثة في المدخول [بها] (¬3) وواحدة في غير المدخول بها [وهو قول أبى مصعب وابن عبد الحكم. والرابع: أنها واحدة بائنة في المدخول وغير المدخول بها] (¬4) وهذا القول حكاهُ محمَّد بن خويز منداد عن مالك. وقاله ابن إسماعيل في شرح "المُدوّنة"، وهذا القول أصحّ في النظر، لأنَّ الأخذ بأقل ما يقع عليه الاسم هو الأصل حتى يأتى نص أو إجماع وليس في [التحريم] (¬5) نص ولا إجماع. فإن ادَّعى أنَّهُ أراد بذلك الظهار، هل يُصدَّق أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ لا يُصدَّق ويلزمهُ الطلاق، وهو قول ابن القاسم، وبه قال سحنون في العُتبيَّة. [والثانى]: أنَّهُ يلزمُهُ الطلاق، ثُمَّ إن تزوّجها بعد ذلك لم يقربها حتى يُكفِّر كفَّارة الظهار، وهو قول يحيى بن عمر في المُنتخبة. [والثالث]: أنَّهُ يُصدَّق في الفتيا إذا لم تكُن عليه بيِّنة أو كانت عليهِ بيِّنة وقال في نسق قوله " [ذلك] (¬6): أردت [الظهار] " (¬7)، لأنَّ تحريم الزوجة يصحُّ بهذين الوجهين، فإنْ قال "أردت أحدهما" صُدِّق، وهو اختيار اللخمى. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أنها. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ، جـ: الحرام. (¬6) في أ: إن. (¬7) في هـ: التحريم.

وينبنى الخلاف على الخلاف في كنايات الطلاق، هل تُصرف إلى الظهار بالنية أم لا؟ وتمام الكلام يأتى عليها في "كتاب الظهار" إن شاء الله تعالى، فهذا ما تحصل عندي في مسألة [التحريم] (¬1) في هذا الوقت، وإلى الله أرغبُ في الزيادة مِن فضله على ما أعطانى، والعمل بفضله ومنِّهِ في طاعته [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ، جـ: الحرام. (¬2) زيادة من جـ، ع.

المسألة السادسة في صريح الطلاق وكناياته. ولا يخلو إيقاع الطلاق من ثلاثة أوجه

المسألة السادسة في صريح الطلاق وكناياتُه. ولا يخلو إيقاع الطلاق مِن ثلاثةِ أوجُه: أحدها: أنْ يقصد إلى إيقاعهِ بصريحِهِ. والثانى: أنْ يقصد إلى إيقاعهِ بكنايتهِ. والثالث: أن يقصد إلى إيقاعهِ [بغير صريحِهِ و [لا] (¬1) كنايتِهِ] (¬2). فالجواب عن الوجه الأول: إذا قصدَ إلى إيقاعه بصريحه، فقد اختُلف في صريحِهِ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن صريحه الطلاق خاصة، وهو قول [القاضى أبى محمَّد عبد الوهاب] (¬3)، وهو مشهور المذهب، وما عدا ذلك فهي الكناية. والثانى: أن الخلية والبرية وحبلك على غاربك كُلُّهُ صريحُ الطلاق كلفظهِ، وهو قول القاضى أبى الحسن بن القصَّار. والقول الثالث: أنَّ الصريح ما ذكره اللهُ [تعالى] (¬4) في كتابهِ مِن الطلاق والسراح والفِراق، وما عدا ذلك فهي الكنايات، وهو مذهب الشافعي [رحمه الله] (¬5). فإذا بنينا على المشهور أنَّ الصريح هو لفظُ الطلاق، أو ما اشتُقَّ منهُ كقوله: "أنت [الطالق] (¬6) ". . . . . . . . . . . ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: بما ليس بصريحه ولا بكنايته. (¬3) في أ: أبى محمَّد عبد الوهاب القاضى. (¬4) زيادة من هـ. (¬5) زيادة من هـ. (¬6) في أ: الطلاق.

[أو طالق] (¬1) أو "مُطلَّقة" أو "طالقة"، فلا خلاف: أنَّ الطلاق يلزمُهُ إذا نوى بذلك الطلاق: لأنَّ الطلاق المُتَّفق على وُقوعِه ما اجتمع [فيه] (¬2) ثلاثةُ أوصاف لفظ ونيَّة وأن يكون [ذلك] (¬3) اللفظ مِن ألفاظ الطلاق. فإن نوى في العدد أكثر [ممَّا اقتضى لفظُهُ] (¬4): لزِمهُ ما نوى، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الأعمال بالنيات"، ولأنَّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنهُ قال في كنايتهِ: [هو] (¬5) ما أردت، فصريحهُ في ذلك أوْلى. والجواب عن الوجه الثانى: إذا قصد إلى إيقاعه بكنايته، فلا يخلو مِن أنْ يكون قصَد إلى كنايةٍ ظاهرة، أو قصد إلى كنايةٍ باطنة مُحتملة: فإن قصد إلى كناية ظاهرة التي تقضى البينونة كالخلية والبرية والبائنة، وحبلُك على غاربك، وما أشبهَ ذلك مِن الكنايات الظاهرة، فلا خلاف أنَّهُ لا يُصدَّق إنْ ادَّعى أنَّهُ لم يُرد بذلك الطلاق. إلا أنْ يقومَ لهُ دليلُ الحال يشهدُ بِصحَّة ما يدَّعيه، فيُقبل قولُهُ، وهل ينوى فيما يدَّعيه مِن عدد الطلاق ويُصدَّق إنْ ادَّعىَ نيَّة أم لا؟ فالمذهب [في ذلك] (¬6) على خمسة أقوال كُلُّها قائمة مِن "المُدوّنة": أحدها: أنَّهُ لا ينوى في المدخول [بها] (¬7) وغير المدخول [بها] (¬8)، وهو قولُ أشهب في "الحاوى لأبي الفرج: في الخلية والبرية، وهو قولُ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: عليه. (¬3) سقط من أ. (¬4) في هـ: من مقتضى اللفظ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

محمَّد بن عبد الحكم [أيضًا] (¬1) في "حبلك على غاربك"، و"وهبتُك لأهلك"، لأن الكناية الظاهرة ما لا يُصدَّق فيها أنَّهُ لم يُرد بها الطلاق كما قدَّمناهُ [في] (¬2) "الخلية" و"البرية" و"البائنة" و"حبلك على غاربك" و"البتَّة" و"فارقتُك" و"سرّحتُك" و"خلَّيتُ سبيلك" و"وهبتُك لأهلك" و"وهبتُ لك نفسك" وما أشبه ذلك. وهذا كُلُّهُ ممَّا جرتُ فيه خمسة أقوال: منها القولُ الذي ذكرناهُ أولًا عن أشهب ومحمد بن عبد الحكم. وهذا القول قائم مِن "المُدوّنة" مِن قوله: "خلَّيتُ سبيلك" أنَّهُ ينوى في المدخول بها، وفي غير المدخول [بها] (¬3)، أو لا فرق بين قولهِ: "أنت الخلية"، وبين قوله: "قد خليتُ سبيلك" مثلًا، لأنَّ المعنى في قولهِ: "أنت الخلَّية" إما من [زوج وإما من] (¬4) عِصمتى. وكذلك قولُهُ: "قد خليتُ سبيلِك" معناهُ: أنِّى تركت عصمتِك، ومفهوم ذلك كلُّهُ واحد وهو ظاهر "الكتاب" أيضًا من قول سحنون في قوله: "وهذا الذي قال البتَّة في فتيا مالك، قد كان عليه شهود، فلذلك لم يُنوِّه مالك في دعواهُ أنَّهُ أراد واحدة"، ومفهومُه: أنّهُ لو جاء مُستفتيًا لنواهُ، وعلى هذا نبَّه بعض الشيوخ، وهو الصحيح، وهو [قول] (¬5) [القاضى] (¬6) أبى الحسن بن القصَّار. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: من. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: نص. (¬6) سقط من أ.

والثانى: أنَّهُ ثلاث ولا ينوى لا في المدخُول بها ولا في غير المدخول، وهو قولُ أشهب عن مالك في "مختصر ما ليس في المُختصر"، وهو قول مالك في [البتة وهو ظاهر قول مالك في] (¬1) "المُدوّنة" في "حبلِك على غاربك" لأنَّهُ قال فيه: "لا ينوى" لأنَّ هذا لا يقولُهُ أحد، وقد أبقى مِن الطلاق شيئًا، وهذا يقتضى ألا ينوى لا قبلُ ولا بعد. والثالث: التفصيل بين المدخول بها وغير المدخول: [فينوى في غير المدخول بها] (¬2) ولا ينوى في المدخول بها جُملة بلا تفصيل، وهو نصُّ "المُدوَّنة" في "الخلية والبرية". والقول الرابع: التفصيل بين المدخول بها وغير المدخول، فيحتمل في المدخول بها على الثلاث، ولا ينوى في التي لم يدخُل بها على الواحدة لا أكثر، وهو قول أبى مصعب ومحمد بن عبد الحكم في "الحرام"، وهذا القول استقرأهُ بعضُ المتأخّرين مِن آخر "كتاب إرخاء السُّتور" مِن "المُدوّنة" مِن قولهِ: في باب الحكمين: "إذا قال أحدهما "برئت منك"، [وقال الآخر: "هى خلية" حيث قال: "أما التي لم يُدخل بها فهي واحدة، لأنَّ الواحدة تُخلِّيها وتبريها". فإن نوى بها البتَّة فهي واحدة، فقال بعضُ الشيوخ بخلاف ما قالهُ في كتاب "التخيير والتمليك". وقال أبو عبد الله محمَّد بن عتاب، لأنَّ مذهبهُ في خلية وبرية في غير المدخول بها: إنَّها ثلاث إذا لم يكن لهُ نيَّة، وظاهر ما هاهنا أنَّها واحدة] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب.

والقول الخامس: التفصيل بين "الخلية" و"البرية" و"البائنة" [والبتة] (¬1) و"حبُلك على غارِبك". فينوى في غير المدخول بها، ولا ينوى في المدخول بها وبين قوله: "سرّحتُك" و"خليتُك" و"فارقتك" و " [وهبتك] (¬2) لأهلك"، و"وهبتُ لكِ نفسكِ" وما أشبه ذلك. فينوى في المدخول بها وغير المدخول بها، وهو مذهب "المُدوّنة". وسببُ [الخلاف] (¬3) اختلافهم في ذلك: هل هو صريح أو كناية؟ فَمَن رأى أنَّهُ مِن الصريح، قال: لا ينوى كما لا ينوى إذا صرّح بالطلاق الثلاث. وَمَنْ رأى أنَّهُ مِن الكنايات، قال: ينوى في المدخول بها وغيرُ المدخول بها. والقول بالتفصيل تردَّد بين المذهبين، واستحسانٌ [جارٍ] (¬4) على غير قياسى. والجواب عن الوجه الثاني من الوجهِ الثاني: وهو إذا قصدَ إلى كناية مُحتملة، مثل قولهِ: "ادخُلى أو اخرُجى". أو "تقنَّعى" أو "استترى" أو "لا سبيل لي عليك" أو "لا ملك لي عليك" أو "لا تحلين لي" أو "أنت سائبة" أو "منِّى عتيقة" أو "ليس بيني وبينك حلال ولا حرام" أو "لا نكاح بيني [وبينك] (¬5) " أو "أجمعى عليك ثيابك" [أو ما أشبه ذلك من الكنايات ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

التى تحتمل الطلاق وغيره. فالحكم في ذلك متوقف عليه] (¬1). فإن أراد بذلك الطلاق: [فلهُ] (¬2) ما نوى، فإنْ لم يُرد بذلك الطلاق، فلا شىء عليهِ في مشهور المذهب. فإن نوى بذلك الطلاق على الجملة من غير أنْ ينوى عددًا، فيُحكم [عليه] (¬3) بالطلاق الثلاث حتى يتبين أنَّه أراد واحدة، وهو قول أصبغ وبعض هذه الألفاظ أشدُّ مِن بعض. فإن ادّعى الزوج أنَّهُ لم يُرد بذلك [الطلاق] (¬4)، فهل يُقبل قولُهُ أم لا؟ [فالمذهب] (¬5) على قولين قائمين مِن "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّهُ لا يلزمُهُ الطلاق حتى ينويه، وهو قولُ ابن القاسم ومُطرف وابن الماجشون في "الواضحة" و"الموَّازية"، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المُدوّنة" في [كتاب] (¬6) "التخيير والتمليك" في قولهِ: "لا سبيل لي عليك" أو لا مِلك لي عليك"، [فقال] (¬7): "لا شىء عليهِ إذا كان الكلام عِتابًا". والثانى: أنَّهُ يُحمل على الطلاق، ويلزمُهُ إلا أن يكون قبل ذلك سببٌ يُعلم [أنه لم يرد به طلاقًا وهو قوله في كتاب العتق الأول من المدونة فيما ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: فهو. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في هـ: حيث قال.

إذا قال لعبده: لا سبيل لي عليك أو ليس لي عليك سبيل قال: إن كان ذلك ابتداء] (¬1) مِن السيد عتق العبد. وإن كان قبل ذلك كلامٌ [يُستدلُّ به] (¬2) أنَّهُ لم يُرد العتق، [فإنَّ] (¬3) القولَ قولُهُ. وأمَّا إذا قال لها: "أنت طالق"، وقال الزوجُ: "أردت مِن وثاق" [فإن كانت في وثاق وسئل إطلاقها منه كان القول قوله اتفاقًا. فإن كانت في [الوثاق] (¬4) ولم يُسأل في إطلاقها فهل يُقبل قولُهُ أم لا؟ قولان. فإن لم تكُن في وِثاق فلا يُقبل قولُهُ اتفاقًا. فافهم هذا التحصيل ترشد إن شاء الله تعالى. وأمَّا إذا قال [لها] (¬5): "اعتدِّى" أو قال: "أنت طالق اعتدِّى" أو "أنت طالق واعتدى" أو "أنت طالق فاعتدى": فإن قال لها: "إعتِّدى" فإنَّهُ يلزمُه الطلاق ولا يُصدَّق إن ادّعى أنَّهُ لم يُرد بهِ الطلاق، إلا بقرينة ذلك كدراهم أعطاها إياها، فقالت "ما فيها كذا وكذا"، فقال لها: "اعتدِّى"، فيُقبل قولُهُ في ذلك بلا خلاف. فإن لم يكن هناك قرينة: فإنَّهُ يلزمهُ ما نوى مِن الطلاق. فإن لم تكُن لهُ نيَّة: فهي واحدة" فهذا نصَّ ابن القاسم في "المُدوّنة". فانظر كيف جعل قولُهُ: "فاعتدى" مِن الكنايات الظاهرية في لُزومِ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: يدل على. (¬3) في ع، هـ: كان. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

الطلق لا في العدد، وغاية ما [عللوا] (¬1) به أنَّ قولهُ: "اعتدى" إعلامٌ لها بوجوب العدَّة عليها، والعدَّة لا تلزمها إلا بعد وقوع الطلاق، وهذا كما ترى. فإن كرَّر اللفظ، وقال: "اعتدِّى اعتدِّى اعتدِّى". ففيهِ قولان: أحدهما: أنَّها ثلاث إلا أن ينوى واحدة، وهو قول ابن القاسم، كتكرار الطلاق. والثانى: أنَّها واحدة، وهو قول ابن عبد الحكم. وكذلك إذا قال لها: "أنت طالق اعتدِّى" لأنَّهُ طلَّقها وأمرها بالعدَّة. وأمَّا قولُهُ "أنت طالق فاعتدى، أو اعتدى" فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّها تطليقتان إلا أن ينوى واحدة، وهو قول مالك في "المجموعة" في "الفاء". والثانى: أنَّها ثنتان ولا ينوى، وهو قولُهُ في "الكتاب المذكور" في "الواو" ولا فرق بين الحرفين في الحقيقة في هذا الموضع. والثالث: أنَّها طلقة واحدة لا أكثر، لأنَّ حقيقة قوله: اعتدِّى لم يُوضع للطلاق، وإنَّما هو أمرٌ بالعدة. [وقد] (¬2) جعل الله تعالى طلاقًا وعدَّة، وهذا رجلٌ طلَّق امرأتهُ وأمرها أن تعتد، وهو قولُ محمَّد بن عبد الحكم. ¬

_ (¬1) في أ: علقوا. (¬2) سقط من أ.

والجواب عن الوجه الثالث: إذا قصد إلى الطلاق بما ليس بصريحٍ ولا كناية مثل أن يقول لها: "كُلى أو اشربى" أو "قُومى أو اقعدى" أو قال لها: "تعالي يا حرة"، وما أشبه ذلك: فإنَّهُ إنْ لم يُرد بذلك طلاقًا، فلا خلاف في المذهب أنَّهُ لا يلزمُهُ الطلاق. وإن قال: "أردتُ بذلك الطلاق"، هل يلزمُهُ أو لا يلزمُهُ؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّ الطلاقَ يلزمُهُ. والثانى: أنَّ الطلاقَ لا يلزمُهُ ولا شىء عليه. وسبب الخلاف: اختلافهم في الطلاق بالنيَّة دون اللفظ أو باللفظ دون النيَّة، هل يلزم أو لا. فَمَنْ ألزمهُ بمجرد النيَّة، [قياسًا] (¬1) على الإيمان والكفر أنهم يقعان بالاعتقاد مِن غير نُطق. وأمَّا سقوطه فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تجاوز الله عن أمتي ما حدَّثت بهِ نفسها ما لم تعمل أو تتكلَّم. . ." الحديث. والقولان قائمان مِن "المُدوّنة"، منصوصان، حكاهما أصحابُنا البغداديون عن مالك. فأمَّا إلزامهُ بمجرد اللفظ فمِن "المُدوّنة" [فمن] (¬2) قولهِ: "أنت طالق"، وقال: "أردتهُ مِن وثاق"، ولا بيِّنة عليهِ، فلم يعذروهُ وإن جاء مستفتيًا. ومن قوله أيضًا: يُؤخذ الناس في الطلاق بألفاظهم، ولا تنفعهم ¬

_ (¬1) في أ: قال: القياس. وفي جـ: فيقال. (¬2) في أ: من.

نياتهم، ومِن الذي أراد واحدةً فسبقهُ لسانهُ وقال: البتَّة، وغير ذلك ممَّا لا يحصى كثيرةً. وأمَّا مجرد النَّية فمن قوله: "ادخُلى أو اخرجى" إذا أراد به الطلاق، ومِن قولهِ: "كُلُّ كلامٍ أراد بَهِ طلاقًا فهو طلاق" وغير ذلك ممَّا لا يخفى على من شد نظرًا في "المُدوّنة". فرع: قد اختلف المذهب فيمن باع زوجتهُ: هل ذلك طلاقها أم لا؟ فإذا قُلنا: إنَّهُ يُعدُّ ذلك منهُ طلاقًا، كم تُطلَّق عليهِ؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ ينكل نكالًا شديدًا، وتُطلَّق عليهِ [بواحدة] (¬1)، ولا يُمكَّن مِن رجعتها، ولا يتزوّجها [هى] (¬2) ولا غيرها حتى [يُعلم] (¬3) منهُ التوبة والصلاح مخافة أن يعود إلى مثل ذلك، ولم يجعل بيعُهُ إياها طلاقًا، وهو قول مالك في "المبسوط". والثانى: أنَّ ذلك يعد منهُ طلاقًا، وهي طلقةٌ واحدة، غاب عليها المُشترى أو لم يغب، وهو قول ابن نافع وسحنون وهو قول ابن القاسم في "العُتبيَّة". والقول الثالث: أنَّها مُحرَّمة عليه بالبيع كالمرهونة، وهو قول ابن عبد الحكم وأصبغ في كتاب [محمَّد] (¬4). وهكذا الحكم فيما إذا زوّجها أو أذِن لها بالتزويج فتزوَّجت. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: تعرف. (¬4) سقط من أ.

وسبب الخلاف: تمكين الزوجُ أجنبيًا مِن الاستمتاع بزوجتهِ، هل يُعدُّ ذلك [منه] (¬1) طلاقًا أو لا يُعد ذلك منهُ طلاقًا؟ إذْ ليس في البيع والنكاح أكثر مِن التمكين منها. والحمدُ لله وحدهُ. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كتاب الظهار

كتاب الظهار

كتاب الظهار بسم الله الرحمن الرحيم تحصيل مُشكلات هذا الكتاب، وجملتُها إحدى عشرة مسألة: المسألة الأولى [في شرح لفظ الظهار واشتقاقه. والظهار] (¬1): منكرٌ مِن القول وزورًا، كما قال الله عز وجل، والزور: الكذب، والمُنكر: ما لا حقيقة لهُ مِن الكلام، والكذب محرمٌ بإجماع الأمة على الجُملة. والظِّهار [محرم] (¬2) لما فيهِ من المُنكر والزور لأنَّهُ تشبيه للمحللة بالمحرمة، [لكونه] (¬3) جعل زوجتهُ كأمه وهي لا تكون كذلك أبدًا. وهو مأخوذ مِن الظهر وكناية عن الجماع، وكنَّى [عن] (¬4) ذلك بالظهرِ لأنَّهُ موضع الركوب، فَخَصِّص الظهر بالتحريم دون البطن والفرج وسائر الأعضاء، فكان البطن والفرج أولى بالتحريم منه؛ لأن الظهر موضع الركوب، والمرأة مركوبة عند الغشيان، ولاسيَّما وعادة كثير مِن العرب وغيرهم المجامعة على حرة مِن جهة الظهر، ويستقبحون ما سواه ذهابًا منهم إلى التستر والحياء ولا تجتمع الوجوه ساعتئذ، ولا يُطَّلع على [العورات] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: لأنه. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: العورة.

وهذه كانت سيرة الأنصار حتى نزل قولُهُ تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لكُمْ فَأتُوا حَرْثَكمْ أَنَّى شِئْتُمْ} على إحدى الروايتين في سبب نزولها. وكان الظهار أحد أنواع طلاق الجاهلية وفي أول الإِسلام حتى نزل في أول الإِسلام بأويس بن الصامت وزوجته خويلة بنت خالد، على الخلاف في اسمها واسم أبيها أيضًا: قد سمع الله قول التي تُجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله الآية. فبيَّن الله تبارك وتعالى سنة الظهار، وكان ذلك [نسخًا] (¬1) لما كانوا عليه في الجاهلية وفي أول الإِسلام. وهو أعنى الظهار ينقسم على أربعة أقسام: [تشبيه] (¬2) جُملة بجملة كقولهِ: "أنت علىَّ مثل أمِّى". أو تشبيه [البعض بالبعض] (¬3)، كقولهِ فرجُك علىّ "كفرج أُمِّي". وتشبيه البعض بالجملة، كقوله: [بضعك] (¬4) علىَّ كأُمِّى". وتشبيه الجُملة بالبعض، كقولهِ: "أنت علىّ كظهر أُمِّى". وكُلُّها في الحُكم سواء. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: البضع بالبضع. (¬4) في أ: بطنك.

المسألة الثانية فيما يلزم من الظهار من القول

المسألة الثانية فيما يلزم مِن الظهار مِن القول: والظّهار ينقسم على قسمين: ظهار مِن ذوات المحارم. وظهار مِن الأجنبيات. فالقسم الأول: [في الظهار] (¬1) مِن ذوات المحارم، لا يخلو مِن أنْ يذكر الظهر فيهنَّ أو لا يذكره: فإن ذكر الظهر فيهنَّ فإنَّهُ يلزمُهُ الظهار بالاتفاق. وإن ادّعى أنَّه أراد بهِ الطلاق، هل ينوى أو لا ينوى. فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ لا ينوى ويلزمهُ الظهار ولا يلزمُهُ الطلاق، وهذا القول يُروى عن مالك: "أنَّهُ يكون ظهارًا، ولا يكون طلاقًا" وإنْ نواه في "كتاب [النوادر] " (¬2)، وبهِ قال محمَّد بن عبد الحكم في كتاب "محمَّد". والثانى: أنَّهُ ينوى ويصرف إلى الطلاق بنيَّتهِ ويسقط عنهُ الظهار، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب بن سحنون. والقول الثالث: [التفصيل] (¬3) بين أن تشهد البينة على لفظه أم لا: ¬

_ (¬1) في أ: كالظهار. (¬2) في هـ: النذور. (¬3) سقط من أ.

فإن شهدت البيِّنة على لفظه فإنَّهُ يلزمُهُ الطلاق والظهار جميعًا، يلزمُهُ الطلاق بنيَّته والظهار بلفظه، فإذا تزوّجها بعد ذلك فلا يمسَّها حتى يُكفِّر كفَّارة الظهار، وهو قول مالك في مختصر [الوقار] (¬1)، في قوله: "أنت علىَّ حرام مِثل أمِّى". وعلى القول بأنَّ الطلاق يلزمُهُ، هل ينوى في العدد أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنَّهُ لا ينوى ويلزمهُ الطلاق الثلاث، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن سحنون. والثانى: أنَّه ينوى ويلزمهُ ما نوى مِن واحدةٍ فأكثر، وهو قول سحنون في كتاب "محمَّد" على ما نقلهُ محمَّد بن أبي زيد في "النوادر". وسبب الخلاف: صريح الظهار، هل يُصرف إلى الطلاق بالنيَّة أم لا؟ فمن رأى صريح الظهار يصرف إلى الطلاق بالنيَّة قال: ينوى فيكون الطلاق عندهُ أصل، والظهار فرع مِن فروعهِ، ولاسيما أن مآل الظهار إنْ لم يرد بهِ العودة [إلى الطلاق] (¬2). وَمَنْ رأى أنَّهُ لا يُصرف [إلى الطلاق] (¬3) [بالنيَّة قال: لأنَّ الظهار أصل كما أنَّ الطلاق أصل فلا يُصرف أحدهما بالنيَّة إلى الآخر، ولا أعرف في المذهب نص خلاف في أنَّ صريحه لا يُصرف إلى الظهار] (¬4) بالنيَّة، ولا يبعُد دخول الخلاف فيهِ بالمعنى، ولاسيَّما على القول بأنَّ ¬

_ (¬1) في أ: ابن عبد الحكم. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: إليه. (¬4) سقط من هـ.

الطلاق بمجرد اللفظ لا يلزم. وأمَّا كناية الظهار: فهل تصرف إلى الطلاق بنيَّة أم لا؟ فقولان: في كل فصل، وقد قدَّمناهُ في "مسألة الحرام"، وهو قول يحيى بن عمر في "المنتخبة" فانظرهُ. فإن لم يذكر الظهر في ذوات المحارم ففى ذلك ستة ألفاظ: أحدها: أن يقول: "أنت علىّ حرام مِثل أمِّى". والثانى: أن يقول لها: "أنت علىَّ مِثل أُمِّي". والثالث: أنْ يقول [لها] (¬1): "أنت علىَّ أحرم مِن أمِّي". والرابع: أنْ يقول لها: [أنت أمى] (¬2). والخامس: أن يقول لها: "أنت علىَّ كبعض مَنْ حُرِّم علىَّ مِن النساء". والسادس: أن يقول: "أنت علىَّ مِثل كلُّ شىءٍ حرمَّهُ [الله] " (¬3). أمّا قولُهُ: "أنت علىّ حرام مثل أُمِّى" أو "مثل ابنتى" أو "أُختى" أو قال لها: "أنت علَىَّ حرام كأمى"، فلا يخلو مِن وجهين: أحدهما: أن يكون أراد بذلك الطلاق. والثانى: ألا يكون لهُ نيَّة. فإن ادْعى أنَّهُ أراد بذلك الطلاق، ما الذي يلزمُهُ؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أنت على أمى. (¬3) في جـ، ع: الكتاب.

فالمذهب على أربعة أقوال كُلُّها قائمة مِن الكتاب: أحدها: أنَّهُ يلزمُهُ الطلاق الثلاث، وهو قولُهُ في "كتاب الظهار" مِن "المُدوّنة": "ولا يلزمُهُ الظهار"، وهو ظاهر قول أشهب في كتاب "العتق الأول" في مسألة "ناصح ومرزوق"، حيث قال: "يُعتق مرزوق بالنيَّة". والقول الثاني: أنَّهُ يلزمهُ الظهار ولا يلزمُهُ الطلاق، وهذا القول ذكرهُ سحنون عن غيره، وظاهر قول ابن القاسم في "مسألة ناصح" حيث قال: "لا يُعتق فيما بينهُ وبين الله تعالى إلا ناصح". والقول الثالث: أنَّهُ يلزمهُ [الطلاق] (¬1) والظهار جميعًا، فيلزمُهُ [الظهار] (¬2) بلفظه والطلاق بنيَّته، وهو نصُّ قول ابن القاسم [في المدونة] (¬3) في "مسألة [ناصح] (¬4) " لأنَّهُ قال: "يُعتقان جميعًا". والقول الرابع: أنَّهُ لا شىء عليهِ، ولا يلزمُهُ الطلاق ولا الظهار، وهذا القول قائمٌ مِن المُدوّنة في اللفظ دون النيَّة أو النيَّة دون اللفظ. وقد بَيَّنَّا مواضع الاستقراء مِن "المُدوّنة" في كتاب "التخيير والتمليك" وتوجيه كلُّ قولٍ ظاهر، فلا فائدة من التطويل. فأمَّا إذا لم تكن لهُ نيَّة الطلاق، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يكون ظهارًا، ولا يلزمُهُ الطلاق، وهو قول ابن القاسم في "المُدوّنة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الطلاق. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

والثانى: أنَّهُ طلاق البتَّة، فإن تزوجها بعد زوجٍ فلا يطأها حتى يُكفِّر كفَّارة الظهار، وهو قوله في "مختصر الوقاد"، وهذا القول مبنىٌ على الاحتياط. وأمَّا إذا قال [لها] (¬1): "أنت علىَّ أحرم مِن أُمِّى" فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ طلاقُ البتَّة، وهو قول ابن القاسم في "العُتبيَّة". والثانى: أنَّهُ مُظاهر، وهو قول محمَّد بن الموَّاز [ووجه القول الأول أنه لم يعلق التحريم بها وإنما علقه بغيرها فخرج عن الظهار وجرى على حكم من حرم زوجته ولم يذكر أمه] (¬2). ووجهُ القول الثاني: أنَّهُ ليس في بنات آدم أحرم عليه مِن أُمِّهِ، فلم يلزمُهُ أكثر مِن الظهار. وأمَّا إن قال لها: "أنتِ أمِّى": فإن نوى به الطلاق، فهي ثلاث، ولا ينوى في أقلِّ منهما، ولا يعود عليه الظهار إن تزوجها يومًا ما، وهو قولُ مالك في رواية أشهب [عنه] (¬3) في العُتبيَّة". فإن لم يُرد به طلاقًا فهو ظهار، أرادهُ أو لم يُردهُ، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم [في العتبية] (¬4)، وبهِ قال سحنون. أمَّا قولُهُ: "أنت على كبعضِ مَنْ حُرِّم علىَّ مِن النساء" كانَ مظاهرًا، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

لأنَّ الأُم والأُخت ممِن حُرِّم عليهِ مِن النساء. وأمَّا قولُهُ: "أنت علىَّ [حرام] (¬1) مِثل كُلُّ شىءٍ حرّمهُ الكتاب". هل يكون ظِهارًا أو طلاقًا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ يكون ظهارًا، وهو [قول] (¬2) ربيعة في الكتاب، وقول عبد الملك وابن عبد الحكم وأصبغ مِن الأصحاب. والثانى: أنَّهُ يكون طلاقًا وتلزمهُ الثلاث، وهو قولُ مالك في المبسوط وابن القاسم في العُتبيَّة، بمنزلة الدم والميتة، وقول ابن نافع. والقول الثالث: أنَّهُ يلزمُهُ الحكمان جميعًا، فإذا تزوّجها بعد زوجٍ لزمهُ الظهار، وهو اختيار بعض المتأخرين. وسبب الخلاف: [اختلافهم] (¬3) في تأويل قوله: "مثل كُل شىء حرّمه الكتاب" هل يُحمل عل عمومه فيكون كما قال مالك وابن القاسم أو يُحمل على الخصوص فيكون كما قالَ عبد الملك [وغيره] (¬4) فيتأول على [أنه كل] (¬5) شىء حرمه الكتاب مِن النساء أو يبنى على الاحتياط فيكون كما قال اللخمى وغيرهُ؟. والقسم الثاني [في] (¬6) الظهار [من] (¬7) الأجنبيات: فلا يخلو مِن أنْ يكونَ قد سمَّى الظهر أو لم يُسمِّهِ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: من. (¬7) في أ: في.

فإن سمَّاهُ، هل يكون ظهارًا أو طلاقًا؟ فالمذهب على خمسةِ أقوال: أحدها: أنَّهُ ظهار إلا أن يُريد بهِ الطلاق، وهو [قول] (¬1) ابن القاسم في "المُدوّنة". والثانى: أنَّهُ طلاق إلا أنْ يُريد بهِ الظهار، وهو قول سحنون في "السليمانية". والثالث: أنَّهُ ظهار وإن أراد بهِ الطلاق، وهو قولُ ابن الموّاز قال "وهو قول مالك وأصحابه". والرابع: أنَّهُ طلاق وإن أراد بهِ الظهار، وهو قول عبد الملك في "المُدوّنة" [و] (¬2) في كتاب ابن حبيب. والخامس: أنَّهُ لا يكون ظهارًا ولا طلاقًا، وهذا ظاهر قولُ مُطرف [فيما] (¬3) إذا قال: "أنت علىّ كظهر أمتي أو غُلامى" حيث قال: "لا يكون ظهارًا ولا طلاقًا وإنَّهُ لمنكر مِن القول". يقول: "لا يكون ظهارًا لأنَّهُ غيرُ ما نزل فيه القُرآن، ولا يكون طلاقًا لأنَّه لم ينْوهِ، وإنَّما نَوَى ما يرى أنَّهُ تبقى معهُ العصمة". وهذا الذي قال مُطرف: "لا ينعقد الظهار في الأجنبيَّة لأنَّهُ خارج عمَّا نزل فيه القرآن، ولا يكون طلاقًا لأنَّهُ لم ينوهِ، وإنَّما نوى ما يرى أنَّهُ تبقى معهُ العصمة. وسببُ الخلاف: اختلافهم في كنايات الظهار هل تُصرف إلى الطلاق بالنيَّة أم لا؟ لأنَّ قوله: "أنت علىّ كظهر فلانة الأجنبَّية" هو مِن كنايات ¬

_ (¬1) في أ: مذهب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

الظهار عند ابن القاسم. وعبد الملك: "ليس للظهار كناية عنده". ولذلك قال في هذه المسألة: "أنَّهُ طلاق، ولا يكون ظهارًا عنده إلا في ذوات المحارم". وأمَّا إذا لم يذكر الظهر في [الأجنبيات] (¬1) مثل أن يقولَ لزوجتهِ: "أنت عليَّ كفلانة الأجنبيَّة"، هل يكون ظهارًا أو طلاقًا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ يلزمُهُ الطلاق الثلاث ولا يكون [ظهارًا] (¬2) ولا يُصدَّق إذا ادَّعى أنَّهُ أراد الظهار، وهو قول ابن القاسم في "المُدوّنة". والثانى: أنَّهُ يكون ظهارًا إلا أن يُريد [به] (¬3) الطلاق، وهو قولُ أشهب في كتاب محمَّد. والثالث: أنَّهُ لا يكون ظهارًا ولا طلاقًا، وهو [ظاهر] (¬4) قولُ مُطرف. [ويلزم] (¬5) فيهِ قولٌ رابع: أنَّهُ يلزمُهُ الظهار والطلاق جميعًا [والحمد لله وحده] (¬6). ¬

_ (¬1) في أ: الأجنبية. (¬2) في أ: طلاقا. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: ويلزمه. (¬6) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الثالثة في الظهار المعلق بشرط أو بوقت.

المسألة الثالثة في الظهار المُعلَّق بشرط أو بوقت. والظهار على وجهين: مُطلق، ومُقيَّد. فالمُطلق مِثل أن يقول: "أنت علىَّ كظهر أمِّي"، فلا خلاف أنَّهُ مُظاهر ويلزمُهُ ما يلزم المظاهر. وأمَّا المُقَّيد: فعلى وجهين: مُقَّيد بوقت، ومُقيَّد بشرط. فالمُقيَّد بالوقت على وجهين: أحدهما: أن يكون الظهار ينعقد عليه عند حلول الوقت. [والثانى: أن يكون انحلاله عند انحلال الوقت] (¬1)، فإنْ كان انعقادُهُ عند حلول الوقت مثل قولهِ: "إذا مضى شهر فأنت علىَّ كظهر أُمِّى" هل يلزمُهُ الظهار أو لا يلزمُهُ؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّهُ يلزمُهُ الظهار [من] (¬2) الآن قياسًا على الطلاق، وهو المشهور. والثانى: أنَّهُ لا يكون مظاهرًا حتى يأتى ذلك الوقت، وهذا أحد قولى مالك في الظهار المُقيَّد انحلاله بأجل، وسيأتى الكلام عليهِ آنفًا. وسبب الخلاف: هل يُقاس الظهار على الطلاق أم لا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن كان انحلاله عند حُلول الوقت مثل قوله: "أنت علىَّ كظهر أُمِّى مِن الآن إلى شهر" هل يتعدَّ الظهار ذلك الوقت أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يتعدَّاه ويلزمُهُ وإنْ خرج الوقت الذي علَّق عليهِ الظهار فإن لم تجب عليهِ الكفَّارة بالعودة في الأجل، وهو قولُهُ في "المُدوّنة". والثانى: أنَّهُ لا شىء عليه، ويسقط عنهُ الظهار [إذا] (¬1) خرج الأجل قبل أن يعود، وهذا القولُ حَكاهُ مُطرف عن مالك في "الزاهى" لابن شعبان، ومثلُهُ مروىٌ عن ابن عباس رضي الله عنه. وأمَّا قولُهُ: "أنت على كظهر أُمِّى إلى قُدوم [فُلانة" فقد قال في "المُدونة": "أنَّهُ لا يكون مُظاهرًا حتى يقدمُ فُلان بمنزلة من قال: "أنت طالق إلى قُدوم] (¬2) فُلان" إنَّهُ لا يلزمُهُ [الظهار] (¬3) فيها حتى يقدمُ [فلان] (¬4). فتأوّل أكثرهم أن "إلى" هاهُنا بمعنى "عند"، وأنَّها كالشرط لا كالأجل، ألا تَرَاهُ قال في الكتاب: "فإن لم يقدم فلان [فلا يقع] (¬5) ظهار ولا طلاق". وفرّق أبو الحسن اللخمى بين الظهار والطلاق: فيلزمهُ الظهار مِن الآن ولا يلزمهُ الطلاق حتى يقدم فلان. ¬

_ (¬1) في أ: إنما. (¬2) سقط من هـ. (¬3) في أ: الطلاق. (¬4) في أ: جـ: فيها. (¬5) في ع، هـ: لم يلزمه.

قال: لأنَّ "إلى" [فائدتها] (¬1) الغاية فيجب أن تُحمل على موضوعها حتى يقدم الدليل أنه أريد به الشرط المفهوم مِن قولهِ: "أنت علىَّ كظهر أمِّى إلى قُدوم فلان" أنَّها مِن الآن عليه كظهرِ أُمِّه حتى يقدم. فإذا قدُم سقط عنهُ الظهار إنْ لم تقع منهُ العودة قبل قُدومهِ، وقد قال بهِ "الصحابي"، وأخذ بهِ مالك في أحد أقاويلهِ. وليس [أحدٌ يقولَ: "أنْ تُطلَّق عليه زوجتُهُ] (¬2) الآن، وتعود عليهِ إذا قدم [فلان] (¬3)، ويصحُّ ذلك في الظهار على قول". وهذا الذي قال رضي الله عنهُ ظاهرٌ في المعنى، والأصلُ في الصيغ الحقيقة، ولا تُصرف إلى المجاز إلا بدليل [قاطع] (¬4)، و"إلى" موضوعها "الغاية" كما ذكروا. وأمَّا الظهار المُقيَّد بالشرط: فلا يخلو ذلك الشرط مِن أن يتعلَّق بفعل نفسه أو يتعلَّق بفعل غيرهُ: فإن علَّقهُ بفعلِ غيرهِ مِثل أن يقول: "أنت علىَّ كظهر أُمِّى إنْ دخل زيدٌ الدار" أو "ركب دابة" أو "ما أشبه ذلك" فلا خلاف أنَّهُ لا يلزمُهُ الظهار حتى يوجد ذلك الفعل مِن فُلان. فإن علَّقهُ بفعلِ نفسهِ، فلا يخلو مِن أنْ يقيد ذلك بيوم بعينهِ أو لا يقيد: فإن لم يقيد ذلك اليوم بعينه مِثل أن يقول: "أنت على كظهر أُمِّى إنْ دخلت الدار" أو "كلمت زيدًا" فلا خلاف أنَّهُ لا شىء عليهِ حتى ¬

_ (¬1) في أ: بأنه. (¬2) في ع، هـ: يعقد أحد أن يطلق زوجته. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

يُوجد منهُ الحنث. فإن قيد ذلك بيومٍ بعينه فلا يخلو مِن أن يجعل اليوم ظرفًا للفعل أو يجعلهُ ظرفًا لليمين: فإن جعلهُ ظرفًا للفعل مثل أن يقول: "أنت علىّ كظهر أمِّى إنْ دخلت هذه [الدار] (¬1) اليوم". فإن وُجد منهُ الدُخُول في اليوم الذي علقهُ به لزِمهُ الظهار. وإن مضى ذلك اليوم ولم يدخُل ولم يتكلم سقط عنهُ اليمين ولا خلاف في ذلك. فإن جعل اليوم ظرفًا لليمين دون الفعل مثل قوله: "أنتِ عليَّ كظهر أُمِّى [اليوم] (¬2) إن كلمتُ فلانًا" أو "دخلتُ الدار"، فلا يخلو مِن أن تكون لهُ نيَّة أم لا: فإن كانت لهُ نيَّة في قوله: "أنت علىَّ كظهر أمِّى اليوم إنْ كلمتُ فلانا": يُريد إنْ كلَّمتُهُ اليوم فهو كالوجه الأول الذي جعل فيه اليوم ظرفًا للفعل، ولا خلاف أنَّهُ لا شىء عليهِ إنْ مضى اليوم ولم يفعل، وعلى هذا المعنى تأوّل الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد قول ابن القاسم في "المُدوّنة". فإن لم تكن لهُ نيَّة هل يسقطُ عنهُ الظهار إذا مضى اليوم ولم يفعل فيهِ أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّهُ لا شىء عليه إذا مضى اليوم ولم يفعل كما لو نصَّ على تعيين ذلك اليوم للفعل، وعلى هذا تأوّل اللخمى [المسألة التي في الكتاب ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ.

وهو] (¬1) قول مالك ومُطرف، وعليها اختصرها ابن أبي زمنين وابن عبد الحكم، وهو قولٌ موافق لما قاله ابن عبد الحكم [في القائل] (¬2): "أنت طالق اليوم إنْ كلمت فُلانًا غدًا [أنه إن كلمه غدًا] (¬3) ": فلا شىء عليهِ، لأنَّ ذلك الغد مَضَى وهي زوجة، وقد انقضى وقت وُقوع الطلاق. ومثلُهُ لابن القاسم في كتاب "محمَّد" فيمن قال لامرأتهِ: "إنْ تزوجتُكَ فأنت طالق غدًا" فتزوجها بعدَ غدٍ فلا شىء عليه، وإنْ تزوّجها قبل غدٍ طُلَّقت عليهِ. والقول الثانى: أنَّهُ يلزمُهُ الظهار وإنْ مضى [ذلك] (¬4) اليوم لتعلَّقه إياهُ باليوم دون الدخول ولأن الظهار صادف [عصمته] (¬5)، كما لو قالَ لها ذلك في ظهار مطلق، وإلى هذا ذهب الشيخ أبو محمَّد وابن لبابة وغيرهما، وأنَّ المسألتين مختلفتان عندهما على ظاهرهما، وإنَّما جعلهما ابن القاسم في الكتاب على جوابٍ واحدٍ لأن المُراد بهما واحد يُريد "إن كلمتك اليوم" وبهِ قال أبو القاسم بن محرز أيضًا. وقال الشيخ أبو محمد في مسألة ابن عبد الحكم المُتقدمة: "هذا خلاف أصل قولُ مالك والطلاق يلزمُهُ إذا كلَّمهُ [غدًا] (¬6)، وليس لتعلُّق الطلاق بالأيام وجه [والحمد لله وحده] (¬7). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: محلًا به وفي جـ، ع: عصمة. (¬6) سقط من أ. (¬7) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الرابعة فيمن أوقع [الظهار والطلاق أو الظهار والإيلاء في كلمة واحدة

المسألة الرابعة فيمن أوْقع [الظهار والطلاق أو الظهار والإيلاء في كلمة واحدة ولا يخلو من وجهين: أحدهما: أن] (¬1) يوقع الظهار والطلاق معًا، والثانى: أنْ يُوقع الظهار والإيلاء معًا. فأمَّا الوجه الأول: إذا أوقع الطلاق والظهار معًا فلا يخلو مِن وجهين: أحدهما: أن يوقعهما في أجنبيَّة. والثانى: أن يوقعهما في زوجة. فإن أوقعهما في أجنبيَّة فلا يخلو مِن أن يكون ذلك بشرط التزويج أو لا. فإن أطلق ولم يُقيِّد بشرط التزويج فلا خلاف في المذهب عندنا أنَّهُ لا شىء عليه. وإن قيَّد ذلك بشرط التزويج مثل قوله: "إنْ تزوجتُك فأنت طالق، وأنتِ علىَّ كظهر أُمِّى": فإنَّهُ يلزَمُهُ الظهار والطلاق إذا تزوجها على مشهور المذهب في تعليق الطلاق بشرط التزويج. وسواءٌ كان الطلاق واحدة أو بتاتًا، وسواءٌ قدم الظهار على الطلاق أو قدم الطلاق على الظهار، و [قد] (¬2) قال في "المُدوّنة": "والذي قدم الظهار في لفظهِ أبين. يُريد أنَّ الزوجية تبقى مع وقوع الظهار [ولا تبقى مع وقوع الطلاق] (¬3)، ولكن حكمها في هذا السؤال واحد، فإذا تزوجها ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وقعا معًا، ولا يُقال أنَّ أحدهما أسبق مِن الآخر في الوقوع، وإن [أسبقه] (¬1) في اللفظ، لانتظارهما محلًا يقعان فيهِ، فإذا وقع العقد وقع الطلاق، ثُمَّ إنْ تزوجها بعد ذلك فلا يقربها حتى يكفر كفَّارة الظهار إذا حصلت منهُ العودة. فإذا وقع ذلك في زوجته فلا يخلو من أنْ يُقدِّم الظهار على الطلاق أو قدَّم الطلاق على الظهار: فإن قدَّم الظهار على الطلاق لزماه جميعًا، لأنَّ الظهار ينعقد مع بقاء الزوجية كما تقدَّم فتُطلَّق عليه، ثُمَّ إذا تزوّجها بعد ذلك لزِمهُ فيها الظهار. فإن قدَّم الطلاقُ على الظهار فلا يخلو مِن أن يدخُل بها أم لا: فإن دخل بها فلا يخلو مِن أن يكون الطلاقُ واحدة أو ثلاثًا: فإن كان الطلاقُ واحدة وكانت مدخولًا بها فالطلاق والظهار يلزماهُ جميعًا إنْ كان الطلاقُ طلاقًا رجعيًا لبقائها في العصمة. وإن كان الطلاقُ بتاتًا أو [هى] (¬2) واحدة وهي غير مدخولٍ بها أو كانت مدخولًا بها وكان الطلاقُ بائنًا كطلاقُ الخلع فلا يلزمُهُ الظهار، لأنَّهُ لم يُصادف محلًا لانحلال العصمة بالطلاق السابق إلى المحلِ. وفرق بين أنْ يعقب الظهار الطلاق في غير المدخول بها أو عقب الطلاق الظهار، مِثل أن يقول: أنت طالق [أنت طالق] (¬3). ولا فرق في [الحقيقة] (¬4) بين الظهار والطلاق، لأنَّ قولَهُ: "أنت ¬

_ (¬1) في أ: سبقت. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: التحقيق.

طالق أنت طالق" قد خرجت فيه الزوجة بنفس الطلقة الأولى مِن العصمة، وأوقع الثانية في غير الزوجة، فإلى هذا ذهب إسماعيل القاضى. وأمَّا الوجه الثاني: إذا أوقع الظهار والإيلاء معًا، فلا يخلو مِن وجهين: أحدهما: أن يُصرِّح بكلِّ واحدٍ منهما. والثانى: أنْ يضمن أحدهما الآخر. فإن صرَّح باسم كُلِّ واحدٍ منهما مِثل أن يقول: "والله لا أطأكِ وأنت علىَّ كظهر أُمِّي": كان للزوجة أنْ توقفهُ عند مُضى الأربعةِ الأشهر مِن يوم آلى وظاهر. واختُلف فيما يلزمُهُ إذا أوقفتهُ على ثلاثةِ أقوال: أحدها: أنَّهُ مُخاطب بالإيلاء خاصةً فإنْ كفَّر كفَّارة الإيلاء سقط مقالها، ثُمَّ يُضرب الأجل للظهار ولا يُطالب بالظهار إلا بعد الفراغ مِن حُكم الإيلاء لضرورة الترتيب، وهو أحد أقاويل "المُدوّنة". في المُظاهر المضار: أنَّ الأجل فيهِ مِن يوم الرفع. والثانى: أنه مخاطب بالكفارتين جميعًا، كفَّارة الإيلاء وكفَّارة الظهار، وهو أحد أقاويل "المُدوّنة" أيضًا في المُظاهر [المضار] (¬1) إذا تبيَّن ضرره، وضُرب لهُ أجل أربعة أشهر فحلَّت لا زيادة أجل آخر يضر بالمرأة. والقول الثالث: أنَّهُ مُخاطب بكفارة الظهار ثُمَّ بالإصابة أنَّهُ لا يجزئه غيرُ ذلك، لأنَّهُ قد اجتمع إيلاءٌ وظهار، وهو ظاهر المُدوّنة من كتاب الظهار وكتاب الإيلاء مِن المُدوّنة، وهو أصحُّ الأقوال، لأنَّهُ [مُطالب] (¬2) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: مخاطب.

[في الإيلاء] (¬1) بالإصابة أولًا، وهو لا يُمكَّن مِن الإصابة إلا بتقديم الكفَّارة في الظهار، والإصابة حقٌ للزوجة، فعليهِ أن يدفع كُل مانعٍ يمنعه منها. وعلى القول بأنَّه يكفِّر كفَّارة الإيلاء فإذا كفَّر عن الإيلاء هل يزول حكمُهُ ويسقُط أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يسقط حكمُهُ بالكفَّارة، وهو قول ابن القاسم في كتاب الإيلاء مِن المُدوّنة. والثانى: أنَّهُ لا يسقُط إلا بالإصابة، وهو قولُ أشهب في الكتاب المذكور. وأمَّا إن ضمن أحدهما الآخر مثل قوله: إنْ [وطئتك] (¬2) فأنت علىَّ كظهر أُمى، هل ينعقد عليهِ [الإيلاء] (¬3) بنفس [اليمين] (¬4) أو لا ينعقد عليهِ إلا بالإصابة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ يكون مؤليًا بنفس اليمين، وهو قوله في المدونة. والثانى: أنه لا ينعقد عليه إلا بالإصابة أو الرفع إلى الإِمام إذا تبيَّن ضره فيوقف حينئذٍ أو يضرب لهُ أَجل المُؤلى على [الخلاف] (¬5) في ذلك، وسنورده [بعد هذا] (¬6) إنْ شاء اللهُ. وعلى القول بأنَّهُ يكون مُؤليًا حين تكلَّم بذلك فإذا أوقف بعد الأربعة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: قربتك. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، جـ: الإيلاء. (¬5) في أ: الإخلاف. (¬6) سقط من أ.

الأشهر هل يُمكَّن مِن الفيئة أو لا يُمكَّن؟ فالمذهب على أربعة أقوال كُلُّها قائمة مِن "المُدوّنة": أحدها: أنَّهُ لا يُمكَّن من الفيئة جُملةً، لأن باقى وطئهِ لا يجوز، وهو قولُ الرواة في "المُدوّنة". والثانى: أنَّهُ يُمكَّن مِن الوطء لتام، وهو قول ابن القاسم في "المُدوَّنة" في "كتاب الإيلاء": في الذي قال لامرأته: "إنْ وطئتُك فأنت طالق ثلاثًا"، وهو ظاهر قوله في "كتاب الظهار" حيثُ قال: "فإنْ وطء زال عنهُ الإيلاء ولزمهُ الظهار بالوطء". والثالث: أنَّهُ يُمكَّن مِن مغيب الحشفة [خاصة] (¬1) ولا يزيدُ على ذلك بُناءً على أنَّ النزع ليس بوطء، وهو قول مطرف في "ثمانية أبى زيد"، وهو ظاهر "المُدوّنة"، لأنَّ الحنث يقعُ بمغيب الحشفة [خاصة] (¬2)، وبهِ يجبُ الظهار، والتمادى [في] (¬3) الوطء بعد وجوبهِ حرام، لأنَّهُ وطء قبل أن يُكفر، والله تعالى يقولُ في كتابهِ: {مَن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}. والقول الرابع: أنَّهُ لا يطأ ولا ينزل، وهو أضعفُ الأقوال. وسبب الخلاف: [بين] (¬4) مَنْ قال: يُمكَّن مِن الوطء على الجُملة ومَنْ قال لا يُمكَّن: اختلافهم في النزع، هل هو وطء أم لا؟ فَمَنْ قال أنَّ النزع وطء منعهُ مِن الوطء جُملةً. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ، جـ: على. (¬4) سقط من أ.

وَمَنْ رأى أنَّ النزع ليس بوطء قال: يُمكَّن مِن الوطء. وسببُهُ [بين] (¬1) مَنْ قال: يُمكَّن مِن الإنزال وبين مَنْ قال: لا يُمكَّن إلا [من] (¬2) مغيب الحَشَفة: [اختلافهم في] (¬3) [الحُكم] (¬4) المُتعلق بماله أولًا وآخرًا مِن الأسماء، هل يتعلَّق بأول [الأسماء] (¬5)، ثُمَّ لا يُمكَّن إلا مِن مغيب الحشفة، أو إنَّما يتعلق بأواخرها فيُمكَّن من الوطء التام. ولهُ سببٌ آخر: الاستدامة هل هى كالإنشاء أم لا؟ وعلى القول بأنَّهُ لا يُمكَّن مِن الوطء جملةً هل يعجَّل عليه بالطلاق أو يُضرب لهُ أجلُ [الإيلاء] (¬6)؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المُدوّنة" مِن "كتاب الإيلاء": أحدهما: أنَّهُ يُعجل عليه الطلاق، وهو قولُ ابن القاسم في "الكتاب [المذكور] (¬7) " في الذي قالَ لامرأتهِ: "إن وطئتَك فأنت طالق ثلاثًا". والثانى: أنَّهُ لا يُعجَّل عليه بالطلاق ويضرب لهُ أجل المُولى أربعة أشهر، وهو قولُهُ في هذا "الكتاب": "أنَّهُ مولى حين تكلَّم بذلك"، وكذلك قال في "كتاب الإيلاء": "وفائدةُ الأجل وإن كان الزوج لا يُمكَّن مِن الفيئة، لاحتمال أنْ ترضى الزوجة بالمقام بلا وطء". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من هـ. (¬5) في أ: الإسم. (¬6) في أ: المولى. (¬7) سقط من أ.

وعلى القول بأنَّهُ يُمكن مِن الوطء التام هل تجب عليه كفَّارة الظهار بذلك الوطء أو لا تجب عليه إلا بوجود العودة الثانية؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّهُ لا تجب [عليه] (¬1) الكفارة إلا بالعودة ثانيةً ولا تجب بالوطء للذى وجب [عليه] (¬2) به الظهار، وهو قولُ ابن القاسم في "العُتبيَّة". وعلى هذا حمل أكثرُ [المتأخرين] (¬3) قوله في "المُدوَّنة" [والثانى] (¬4): "أنَّه تجبُ عليهِ الكفَّارة بنفس الوطء"، وهو قولُ ابن الموَّاز وغيرهِ ممن منع الوطء جُملةً كعبد الملك وغيرهِ، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المُدوَّنة" على ما تأوّلهُ بعضُ الشيوخ. وذلك ظاهر [على] (¬5) ما أصَّله وقدَّرهُ. والحمدُ لله وحدهُ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع، هـ: المختصرين. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

المسألة الخامسة في دخول الإيلاء على الظهار على سبيل الاضطرار.

المسألة الخامسة في دخول الإيلاء على الظهار على سبيل الاضطرار. ولا يخلو المُظاهر مِن وجهين: أحدهما: أن يكون قادرًا على إسقاط الظهار بأحد الكفَّارات الثلاث التي ذكرها الله تعالى في كتابهِ أو غيرُ قادرٍ على ذلكَ بعسرٍ وعجزٍ عن الصوم. فإن كان مُعسرًا أو عاجزًا فلا يخلو مِن أن يكون العجز أو العُسر أمرًا طرأ بعد عقد الظهار [أو كان في تلك الصفة بين ظرفين. فإن كان العسر والعجز أمرًا طرأ بعد عقد الظهار] (¬1) لم يدخُل عليهِ الإيلاء، لأنَّهُ لم يقصد الضرر بها. فإن كان مُعسرًا أو عاجزًا عن الصوم حين ظاهر [منها] (¬2)، وكان قد قصدَ الضرر بنفس الظهار فهل تطلَّق عليه الآن أو يُضرب لهُ أجل الإيلاء؟ على قولين قائمين مِن "المُدوّنة" وبيانُهما في الفصل الذي يليه. والوجه الثاني: إذا كان قادرًا على إسقاط الظهار بإحدى الكفَّارات الثلاث: فلا خلاف أعلمهُ في المذهب أنَّ الإيلاء يدخُل عليهِ. واختُلف متى يُضرب لهُ الأجل؟ على ثلاثة أقوال كُلُّها قائمة مِن "المُدوّنة": أحدها: أنَّ الأجل فيهِ من يوم التظاهُر، وهو قولُ ابن القاسم في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

"المُدوَّنة". والثانى: أنَّ الأجل فيهِ من يوم الرفع، وهو قولُ الغير في "المُدوَّنة". قال سحنون في الكتاب: "وكلٌ لمالك، والوقف بعد ضرب الأجل أحسن". والقول الثالث: بالتفصيل بين أن يتبيَّن ضررهُ أم لا. فإن تبيَّن ضررهُ، ضُرب [له] (¬1) الأجل مِن يومئذ. فإن لم يتبيَّن ضررهُ فلا شىء عليه ولا يتعرض لهُ إلا أن يتطاول ذلك فيكون لها القيام، وهو قول الغير في "المُدوّنة" في "كتاب الظهار"، وهو نصُّ قولُ مالك في كتاب "ابن الموّاز". وعلى القول بأن الأجل من يوم التظاهر أو من يوم الرفع فإذا حلّ الأجل ولمْ يشرع في الكفَّارة ثُمَّ قال: "دعونى [أكفر] (¬2) عن ظهارى" هل يتلوم له أو تُطلَّق عليه؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يتلوم لهُ مرةً بعد مرة ويؤخره الإِمام، فإن تبيَّن لهُ كذبُهُ: حكم عليهِ بالطلاق، وهو قول ابن القاسم في "المُدوّنة". والثانى: أنَّهُ لا يتلوم ولا يؤخر، وهو قول محمَّد وعبد الملك إذ لا يزاد في أجل الإيلاء. وقال عبد الملك بن الماجشون: "إن ابتدأ صومُ شهرين، بعد ضربِ السلطان الأجل، ثُمَّ [انقضى] (¬3) الأجل قبل تمام صومهِ فلا يخلو مِن أن يكون ذلك باختيار منهُ أو بغير اختيارٍ منهُ: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: إن تقضي.

فإن كان ذلك باختيارٍ منهُ، فإنَّها تطلق عليهِ، ثُمَّ [إن] (¬1) انقضى الصوم وهي في العدَّة كان لهُ أن يرتجع. فإن ارتجع قبل انقضاء الصوم ثُمَّ انقضى وهي في العدَّة كانت رجعته رجعة. فإن كان ذلك بغير اختيارٍ منه مِثل أن يبتديء الصوم في الأربعةِ الأشهر أول ما ضُربت وهو صحيح ثُمَّ مَرِضَ حتى مضى الأجل قبل أنْ يُكمل صومهُ: لم تُطلَّق عليه، لأنَّهُ معذور [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من هـ.

المسألة السادسة فيمن ظاهر من جماعة النساء. ولا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه

المسألة السادسة فيمن ظاهر مِن جماعة النساء. ولا يخلو ذلك مِن ثلاثة أوجه: أحدها: أنْ يُعلِّق ذلك بشرط التزويج. والثانى: أن يُعلِّقهُ بالكلام والدخول. والثالث: أن يكون الظهار مُطلقًا. فالجواب عن الوجه الأول: إذا علَّقهُ بشرط التزويج، فلا يخلو ذلك مِن أن يكون في نساء معيَّنات أو في نساء مجهولات [فإن كان في نساء مجهولات] (¬1): [فله] (¬2) ثلاثة ألفاظ "كُل" و"من" و"أي". فأمَّا "كُلُّ" [فمثل] (¬3) قولُهُ: كُلُّ امرأةٍ أتزوّجها فهي علىَّ كظهر أمِّى هل تُكرر عليهِ الكفَّارة أو كفارة واحدة تجزئه؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ كفارة واحدة تجزئُهُ عن كُلِّ مَن تزوّج مِن النساء، وهو قولُ مالك في "المُدوّنة". فإن تزوّج واحدةً ثُمَّ وطئها فإنَّهُ يجب عليه الكفَّارة ماتت أو طُلِّقت، ثُمَّ إن تزوّج أُخرى فلا يطؤها حتى يُكفِّر. وكذلك إنْ ماتت الأُولى قبل الوطء ثُمَّ تزوّج غيرها فلا يقربها حتى يُكفِّر. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فيه. (¬3) سقط من أ.

فإن كفَّر ثُمَّ تزوّج ثانيةً فلهُ أن يطأ بغير كفَّارة، وهو قولُهُ في "المُدوّنة". والثانى: أنَّ عليه في كل امرأة يتزوجها كفَّارة وهو قولُهُ في "مختصر ما ليس في المختصر"، وهو قول ابن نافع أيضًا، وهذا القول قائم مِن "المُدوّنة" مِن قولهِ: "مَنْ تزوجت منكنَّ" وكلاهما من صيغ العموم. فأمَّا "من" و"أي"، مثل قوله: "مَن تزوجتُ مِن النساء فهي علىَّ كظهر أُمِّى [أو قال: أي امرأة أتزوجها فهي علىَّ كظهر أمى] (¬1) " فقد قال في الكتاب: "عليهِ في كُلِّ واحدةٍ كفَّارة" ولم أر في ذلك نص خلافٍ في المذهب، [والخلاف] (¬2) داخلٌ فيها بالمعنى، قياسًا على"كُل". والفرقُ بين "كُل" و"مِن" على مذهب الكتاب لأن "ومِن" "إياهما" مِن صيغ العموم [لإبهامهما] (¬3) واشتمالهما على الآحاد بغير تعيين ولا تخصيص فأفادتا العموم مِن هذا الوجه، [لا من] (¬4) مقتضى نفس صيغتهما كمُقتضى [لفظة] (¬5) "كُل" و"أجمع". فلمَّا كانت "من" و"أي " إنَّما تقعُ على الآحاد لزِمت في كُلِّ واحدة كفَّارة ولم يلزم ذلك في "كُل" إذ هى بنفسها ووضعها للاستغراق فكانت كاليمين على أشياء فحث بفعل أحدها، فلو جمع بين "كُل" و"مِن" مِثل: أن يقول: "كل مَن تزوّجت مِن النساء فهي علىَّ كظهرِ أمى" فكانت بمنزلة مَنْ لم يذكر "مِن"، وكان الحُكم لقولهِ "كُل"، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ولا خلاف. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

لأن من هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض. فإن قال ذلك [لنساء] (¬1) [معينات] (¬2) فلهُ أربعة ألفاظ "إن" و"كُل" و"مَن" و"أي". فأمَّا "إنْ": فمثل قوله: إن تزوجتكُنَّ فأنتُنَّ علىَّ كظهر أُمِّى، فليس عليهِ إلا كفَّارة واحدة بلا خلاف في ذلك. وأمَّا "كُل" فعلى الخلاف الذي قدَّمناهُ إذا كن مجهولات. وأمَّا "مَنْ" و"أي" فمثل قوله: "مَن تزوجتُ منكنَّ أو أيتكُنَّ تزوّجت فهي علىّ كظهر أُمِّى": ففى كُلِّ واحدةٍ منهنَّ كفَّارة. والجواب عن [الوجه] (¬3) الثاني: إذا علقه بالكلام والدخول فيتخرج على الخلاف الذي قدَّمناهُ مِثل قوله: "إن دخلتُنَّ هذه الدار" و"إنْ كلمتكنَّ" أو قال: "كُل منْ دخلت منكنَّ هذه الدار" أو "كُلُّ مَنْ كلمتها منكنَّ" أو "مَنْ دخلت منكنَّ" أو "أي امرأة دخلت أو كلَّمتُها". فهذه الحروف كُلُّها للتبعيض في هذا الوجه: [فمن] (¬4) دخلت منهن وجب [عليه] (¬5) فيها الظهار، وعليهِ مِن الكفَّارات بعدد مَن دخل منهنَّ إلا في حرفٍ واحد. وهو قولُهُ: "إنْ دخلتُنَّ هذه الدار" فدخلتها واحدة منهنَّ فإن المذهب اختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ لا شىء عليهِ في الداخلة حتى يدخُلنَّ كُلُّهنَّ فتكون عليهِ ¬

_ (¬1) في ع، هـ: في نساء. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: فيمن. (¬5) في أ: عليها.

كفَّارة واحدة، وهو قولُ ابن القاسم في "المُدوّنة" [في] (¬1) "كتاب العتق". الثاني: أنَّهُ يحنث فيهنَّ بدخول واحدة ويُوقَّف عنهنَّ حتى يُكفِّر كفَّارة الظهار، وهو قول عبد الملك، وهذا القول قائم مِن "المُدوّنة" مِن "كتاب النذور" مِن قولهِ: "إن الحنث يقع بأقلِّ الأشياء". والقول الثالث: أنَّهُ يحنث في الداخلة خاصة ولا شىء عليهِ في الآخرة حتى تدخل، وهو قول أشهب في كتاب "العِتق الثاني" مِن "المُدوّنة"، فجعل لكل واحدةٍ ظهارًا، وكفَّارة لكُل واحدةٍ. ينبنى الخلاف على الخلاف في الحنث هل يقع بأقلِّ الأشياء أو لا يقع إلا بأكملها؟ والقولان قائمان مِن "المُدوّنة". والجواب عن الوجه الثالث: إذا كان الظهار مطلقًا، فلا يخلو مِن [أن يظاهر من امرأة واحدة أو من أربع نسوة. فإن ظاهر من امرأة واحدة فلا يخلو من] (¬2) أن يُكرر عليهِ الظهار أو لا يكرره: فإن لم يُكرر عليه الظهار، مِثل: أن يقول: "أنتِ علىّ كظهر أُمِّى": فعليهِ كفَّارة واحدة اتفاقًا. فإن كرَّر عليه الظهار فلا يخلو من أن يكون ذلك في يمين أو في غير يمين أو يكون أحد الظهارين بيمين والآخر بغير يمين. فإن كان ذلك بيمين فلا يخلوا مِن أنْ يتَّحدَ المحلوف عليهِ أو يتعدَّد المحلوف: ¬

_ (¬1) في أ: و. (¬2) سقط من أ.

فإن اتَّحد المحلوف عليه مثل قوله: إنْ دخلت هذه الدار، فأنت علىَّ كظهر أُمِّى [فيُكرِّر اليمين كَذَلك مِرارًا فالحكم في هذا الوجه كالحُكم فيمن كرَّر الظهار بغير يمين مثل قوله] (¬1): "أنت علىَّ كظهر أُمىِّ" فلا شىء عليه إلا كفَّارة واحدة، لأنَّهُ ظهارٌ واحد لأنَّها بأوّل مرَّة هى عليه كظهر أُمِّه وصارَ في قوله الثاني والثالث كالمواصف لها، إلا أن ينوى بتكريره الظهار ثلاث كفَّارات: فيلزمُهُ ذلك، وهذا نصُّ قوله في "المُدونة". وقال الشيخ أبو الحسن اللخمى رضي الله عنه: "ولا يكون لهُ حُكم الظهار فإن نوى العدة وكفَّر عن الأوّل جاز لهُ الوطء، وإن لم يكفِّر عن الثاني". والذي قالهُ صحيح، لأنَّهُ إنَّما تلزمُهُ كفارة مِثل كفارة الظهار يُؤديها مِن مالهِ للمساكين. واختُلف إذا نوى بتكرار الظهار ظهارات، هل يلزمُهُ حكم ما ظهر مِن الظهارات مِن الكفارات أو لا يلزمهُ مِن الكفارات إلا كفارة واحدة؟ على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّهُ يلزمه [عدد ما ذكر] (¬2)، إذا نوى بذلك التكرار ظهارات، وهو أحد أقاويلهِ في "المُدوّنة" في "كتاب النذُور" حيث قال: "في يمينٍ واحدة، إلا أن يريد بما عمل الزور أو تلاهُ أيمان"، وهذا نصُّ الكتاب في بعض الروايات بإثبات "أو". والثانى: أنَّهُ لا يكون عليه إلا ظهارًا واحدًا إلا أن ينوى ثلاث كفَّارات، وهو ظاهر "المُدوّنة" مِن "الكتاب المذكور" أيضًا، حيث قال: ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من هـ.

"فإن نوى باليمين الثانية غير الأولى، [وبالثالثة] (¬1) غير الثانية"، حيثُ قال: "لا يكون ذلك أبدًا إلا يمين واحد إلا أن يُريد بهما مُجمل النذور: [فتلزمهُ] (¬2) ثلاث كفَّارات". فإن تعدّد المحلوف عليهِ، مثل قوله: "أنت علىَّ كظهر أُمِّى إن دخلتِ هذه الدار" ثم قال: "أنت عَلىَّ كظهَر أُمِّى إن لبِستِ هذا الثوب" فهما ظهاران. فإن حنث في أحدهما ونوى العودة، وكفَّر ثُمَّ حنث في الأخرى كانت عليهِ كفَّارة أخرى إذا نوى العودة. واختُلف إذا حنث في أحد اليمينين فلم يكفِّر حتى حنث في اليمين الأخرى على قولين: أحدهما: أنَّ كفّارة واحدة تُجزئُهُ، وهو قول عبد الملك والمخزومى. والثانى: أنَّ عليهِ لكُلِّ يمين كفَّارة، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المُدوَّنة". والوجهُ الثالث: إذا كان أحد الظهارين بيمين والآخر بغير يمين مثل أن يكون عليه ظهار يمين فحنث فيه فلم يُكفِّر، حتى دخل عليهِ ظهار مجرد قد أوقعهُ على نفسه أو كان الأول ظهارًا مجردًا ولم يُكفِّر حتى دخل عليهِ [ظهار] (¬3) آخر بيمين حنث فيها. هل تجزئُهُ كفَّارة واحدة أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّ عليهِ لكُلِّ ظهار كفَّارة، وهو ظاهر المُدوّنة وهو قول محمَّد ¬

_ (¬1) في أ، جـ: وبالثلاثة. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من أ.

ابن الموّاز: "إذا تقدَّم الظهار باليمين على الظهار المجرد" ولا فرق بين أن يتقدَّم أو يتأخَّر على ظاهر "المُدوّنة" [وعلى] (¬1) ظاهر قول محمَّد. والثانى: أنَّ كفَّارة واحدة تجزئُهُ مِن غير اعتبار بيمينٍ سَبَق، وهو قول المخزومي وعبد الملك في المسألة الأولى إذا كان الظهار بيمين. والقول الثالث: بالتفصيل بين أن يتقدَّم الذي [هو] (¬2) بيمين فتكون عليهِ كفَّارة واحدة، و [بين] (¬3) أن يتقدم الذي هو بغير يمين ثمَّ حلف فحنث كانت عليه كفَّارتان، وهو قولُ أصبغ في "المستخرجة". فإن ظاهر مِن أربعة نسوة فلا يخلو مِن أن يجمعهن في كلمةٍ واحدة أو أفرد كُلُّ واحدةٍ منهنَّ بالذكر: فإن جمعنَّ في كلمةٍ واحدة، وقال: "أنتُنَّ علىَّ كظهر أُمِّى" فعليه كفَّارة واحدة اتفاقًا. فإن أفرد كُلَّ واحدةٍ [بالظهار] (¬4) فلا يخلو من أن يكون ذلك في كلام مُتَّصل أو في كلام مُنفصل: فإن كان في كلامٍ مُتَّصل مثل قولهِ: "أنت علىَّ كظهر أُمِّى" وأنتِ يُشير إلى غيرها فهل تتعدّد الكفَّارَات أو تتَّحد؟ قولان: أحدهما: أنَّ الكفَّارات [تتعدد] (¬5) بتعدد النِّساء المُظَاهر منهنَّ، وهو قول يحيى بن عمرو. ¬

_ (¬1) في أ: وهو. (¬2) سقط من جـ، هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: في الظهار. (¬5) سقط من أ.

والثانى: أنَّهُ لا تلزمُهُ إلا كفارة واحدة، وهو قولُ أشهب. والقولان قائمان مِن "المُدوَّنة" بالتأويل، وقد قال في "الكتاب" فيمن قال لامرأته: "أنت عليَّ كظهر أُمِّي" ثم قال للأُخرى: "وأنتِ عليَّ مِثلها: أنَّ عليهِ كفَّارتان. وقولُهُ "ثُمَّ": هل [هى] (¬1) مِن كلام الحاكى من غير أن [يقتضيها] (¬2) الزمان كما تقول: "قال زيد كذا ثم جاوبه عمرو بكذا. وإن كان جواب عمرو مُطابقًا لقول زيد" مِن كلام الحاكى [في اللفظ] (¬3) دون المعنى فتكون عليه كفَّارتان كما لو انفصل الثاني عن الأول كما قال يحيى ابن عمرو. أو يُحمل قولُهُ "ثُم" على المعنى وعلى [موضوعها] (¬4) في اللَّغة فيكون الحاكى إنَّما حكى المجلس على ما كان عليهِ، فلذلك قال في "الكتاب": عليهِ كفَّارتان. فلو كان كلامُهُ مُتصلًا بعضُهُ ببعضِ مِن غير تراخٍ كما يقول ابن القاسم عليه كفَّارة واحدة [كما قال أشهب] (¬5)، إذْ لا فرق بين قوله: "أنتما عليَّ كظهر أُمِّى" أو يقول: "أنت وأنت" إذا كان [كلاما] (¬6) نسقًا. فإن كان ذلك في كلامٍ مُنفصل فلا خلاف أنَّ الظهار يتعدد. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: يقتضيه. (¬3) في أ: باللفظ. (¬4) في ب: موضعها. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: كاملًا.

المسألة السابعة في تعليق الظهار بدواعى الوطء.

المسألة السابعة في تعليق الظهار بدواعى الوطء. مِثل أن يقول: مُضاجعتُك وملامستُك وقبلتك علىَّ كظهر أُمِّى، هل ينعقد فيهِ الظهار أم لا؟ على ثلاثة أقوال كُلّها قائمة مِن "المُدوَّنة": أحدها: أنَّ الظهار يتعلَّق بجميع دواعى الوطء، وهو مشهور المذهب، وهو تأويل جميع أصحابنا بالبغداديين وغيرهم أنَّ جميع أنواع الاستمتاع محرَّمة عليه حتى يُكفِّر، وهو ظاهر قول عبد الملك [أيضًا] (¬1)، لأنَّه قال: "إذا أخذ في صيام [المُظاهر] (¬2) ثُمَّ قبَّل أو باشر قبل أنْ يُتمَّ صيامهُ، فإنَّهُ يستأنف". فعلى هذا يكونُ مُظاهرًا إذا علَّق الظهار بذلك. والثانى: أنَّهُ لا يتعلَّق الظهار بدواعى الوطء جُملةً، وهو تأويل الشيخ أبى الحسن اللخمى [على المذهب] (¬3). واستقرئ ذلك مِن قوله في المُظاهر: "لا يُقبِّل ولا يُباشر لأنَّ ذلك لا يدعو إلى خير"، فجعل المنعُ من ذلك حمايةً أن يقعَ في الجماع الذي هو مُحرَّم، ليس أنَّهُ تتعلق بهِ الكفَّارة في نفسه، وهو ظاهر قول أصبغ في غير "المُدوّنة" فيمن أخذ في الكفَّارة عن ظهار ثُمَّ قبل أو باشر فلا شىء عليه. والقول الثالث: بالتفصيل بين النظر إلى محاسنها وبين القُبله والمُلامسة وغيرها. فيتعلق الظهار بالمُلامسة وغيرها ولا يتعلَّق بالنظر إلى محاسنها ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: التظاهر. (¬3) سقط من أ.

كالنظر إلى شعرها وصدرها، وهو ظاهر "المُدوّنة" مِن قولهِ: "ولا بأس أن يكون معها ويدخُل عليها بغير إذن إذا كان تُؤمن ناحيتُهُ" وإباحة الدُخول عليها بغير إذن سبب أن ينظر إلى ما اتفق عند دُخوله مِن سائر أطرافها مِن رأسها وشعرها وذراعيها وقدميها الذين هما عورة لما عُلم بالعادة أنَّ المرأة لا تتحرز في بيتها ولا تتحفظ في ستر أطرافها كما كانت تتحفَّظ إذا كانت خارجة، وكوْن الزوج مأذونًا في الدُخول عليها بلا إذن إباحة النظر إليها على [تلك الحالة] (¬1)، وهو قول أبى القاسم بن الجلاب: أنَّ لهُ النظر إلى الوجهِ والرأس واليدين وسائر الأطراف، وهو نصُّ قول مالك في "العُتبيَّة" في الرأس والشعر. وأمَّا الوجهُ فقد قال في "الكتاب": "يجوز لهُ النظر إليه [وقد ينظر غيره إليه] (¬2) "، ومعناهُ: لغير لذَّة وأمَّا باللذَّة فلا يجوز. والقول الرابع: التفصيل بين النظر إلى المحاسن للذَّة أو لغير لذَّة: فإن كان للذَّة حرم. وإن كان لغير لذَّة لم يحرُم. وهذا ظاهر قوله في "المُدوَّنة" في الوجه حيثُ قال: "وقد ينظر [غيره] (¬3) إليه". فيتحصَّل مِن "المُدوّنة" في تعليق الظهار بدواعى الوطء ثلاثة أقوال. وفيما يجوز للمُظاهر مِن امرأتهِ قبل الكفَّارة أربعة أقوال: أحدها: إباحة ما عدا الوطء مع الكراهة، لقولهِ في "الكتاب": ¬

_ (¬1) في أ: ذلك. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: غيرك.

"لأنَّ ذلك لا يدعو إلى خير". والثانى: أنَّهُ محظور جُملةً مِن غير تفصيل كالوطء، لقوله في "الكتاب": "لا يُقبِّل ولا يُباشر ولا يُلامس ولا ينظر إلى صدرها ولا إلى شعرها حتى يُكفِّر". والثالث: التفصيل بين القُبلة والمُباشرة والنظر إلى المحاسن، وهو قولُهُ في "المُدوّنة" ولا يدخُل عليها بغير إذن. والرابع: التفصيل بين الوجهِ وغيره مِن سائر المحاسن. وسبب الخلاف: اختلافهم في دواعى الوطء، هل هى كالوطء أم لا؟ وَمَنْ فرَّق بين القُبلة والنظر إلى المحاسن يقول: القُبلة والمباشرة [والملامسة] (¬1) مقصودة في نفسها، والنظر إلى المحاسن مُرادٌ لغيره، لأنَّها مِن دواعى [الوطء] (¬2) والمباشرة كما قدَّمناهُ في "كتاب الصيام". وعلى هذا يتخرَّج الخلاف في الظهار مِن الرتقاء والصغيرة، لأنَّ الوطء منها لا يتمكن ودواعيهِ مِن القُبلة والمباشرة منهما متمكن. ويبنى [عليه] (¬3) اختلافهم في ظهار المجبوب والمعترض والشيخ الفانى وَمَنْ لا يقدرُ على الجماع هل يلزمُهم الظهار إذا ظاهروا مِن نسائهم أم لا؟ فمن رأى أنَّ دواعى الوطىء كالوطء يقول يلزمهم الظهار، لأنهم يستمتعون بما عدا الوطء مِن سائر أنواع الاستمتاع. وَمَنْ رأى أنَّ دواعى الوطء ليست كالوطء قال لا يلزمهم الظهار، وهو قولُ علىَّ بن زياد وسحنون. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: القبلة. (¬3) سقط من أ.

وفرق في "المُدوّنة" بين المُتظاهر منهما وبين المعتدَّة وقال في المُعتدَّة: لا يجوز النظر إلى شىء من محاسنها، وذلك أنَّ المُعتدَّة مُنحلَّة العصمة مختلة النكاح، والمُتظاهر منها ثابتة العصمة صحيحة النكاح. وينبنى الخلاف على الخلاف في تأويل قولهِ تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، هل هو عامٌ في جميع أنواع المُلامسة كما هو صريحُ مذهب مالك وجمهور العلماء أو مخصوص بالجماع، كما به قال "الحسن" و"عطاء والزُهرى وقتادة". والحمد لله وحدهُ.

المسألة الثامنة في العودة ما هى؟

المسألة الثامنة في العودة ما هى؟، و [قد] (¬1) قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} وقد اختلف العلماء فيها على أربعة مذاهب: أحدها: أن العودة نفس لفظة الظهار لا أمرٌ زائد عليهِ، وبه قال مجاهد وطاووس فَحَمَلا قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [أن يعود] (¬2) إلى لفظ الظهار [الذي كانوا يطلقون به في الجاهلية فيعودوا إليه في الإِسلام بعد نزول الآية بتحريمه فتجب الكفارة عليه بنفس الظهار] (¬3) لأنَّهُ عاد إلى فعل الجاهلية. والثانى: أنَّ العودة تكرار لفظ الظهار مرَّة ثانية فإذا عاود اللفظ وكرَّرهُ وجبت عليهِ الكفَّارة، وهو مذهب أهل الظاهر. والثالث: أنَّ العودة نفس وجود الإمساك، فمهما مضى لهُ [بعد الظهار] (¬4) زمان يُمكنهُ أن يُطلِّق فيه [فلم يطلق ثبت أنه عائد ولزمته الكفارة لأن إقامته زمانًا يمكنه أن يطلق فيه] (¬5)، دليلٌ على إرادة الإمساك، وهو مذهب الشافعى. والرابع: أنَّ العودة العزمَ على وطئها، وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما. وأمَّا مالك رضي الله عنهُ فقد اضطرب مذهبُهُ واختُلف أقوال أصحابهُ، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

وتحصيل اختلافهم يحصرُهُ خمسةُ أقوال كُلُّها قائمة مِن "المُدوّنة": أحدها: أنَّ العزمَ على الوطء وعلى الإمساك، وهو مشهور المذهب، وهي رواية أشهب عن مالك في كتاب "ابن الموَّاز". فإذا عزمَ على وطئها وأمسكها فقد وجبت الكفَّارة عليه وإن ماتت أو طلَّقها، وهذا نصُّ قوله في الكتاب المذكور، وبهِ قال أصبغ، وقال ابن عبد الحكم: أخبرنى بهذا أشهب عن مالك. وقال القاضى أبو الوليد الباجى: "وليس مِن شرط العزم الإمساك الأبدية، بل لو عزم على إمساكها سنة، كان عازمًا"، وهذا القولُ قائمٌ مِن "المُدوَّنة" مِن قولهِ: لأنَّهُ كفَّر قبل نيَّة العودة، ولا ينوى ذلك فيمن ليست في عصمته. والثانى: أنَّ العودة: العزم على الوطء خاصة، [فمتى] (¬1) عزم على الوطء وجبت الكفَّارة، وهو نصُّ قوله في "المُدوَّنة". والثالث: أنَّ العودة: العزم على الإمساك خاصةً، [فمتى] (¬2) عزم على الوطء: وجبت الكفارة، وهذا قولٌ حكاهُ ابن الجلاب عن مالك ونحوهُ لعبد الله بن عبد الحكم، وعليه تأوّل يحيى بن عُمر قولُ نافع في الكتاب، حيثُ قال: " [وهو] (¬3) لَا يُريد المصاب إلا حبس امرأتهُ" قلت: "وهذا بيِّن في مُجرد العزم على الحبس"، ويُؤخذ مِن "المُدوَّنة" أيضًا مِن: "مسألة الأمة التي تظاهر منها سيِّدها وليس لهُ مالٌ سواها"، حيث قال: "يجوز لهُ أنْ يعتقها عن ظهاره"، وهذا يقطع أنَّ العودة ¬

_ (¬1) في هـ: فمهما. (¬2) في هـ: فمهما. (¬3) سقط من أ.

ليست مِن شرطها العزم على الإمساك الأبدى كما فسَّر القاضى أبو الوليد الباجي. فقولهُ في هذه المسألة يحتمل ثلاثة أوْجه: [إما] (¬1): العزم على الوطء وحده، وإما العزم على الإمساك [وإما مجرد الإمساك] (¬2)، والوجهُ الأول والثالث أظهر مِن الثاني لأنَّهُ لو عزم على إمساكها ما أعتقها. والوجه الثالث: [أيضًا] (¬3) أظهر من الأول، لأنَّ عتقَهُ إياها يُنافى العزم على الإصابة إلا على القول بأنَّ نفس وجود العودة تجب الكفَّارة طلَّق أو أعتق أو مات، فيصحُّ وجهُ الأول والثانى. والقول الرابع: أنَّ العودة: الوطء نفسهُ، وهذا القول حكاهُ [القاضى أبو محمَّد عبد الوهاب] (¬4) وغيرهُ عن مالك، وكما قال أبو حنيفة. فعلى هذا لا يلزمُهُ الكفارة حتى يطأ، ثُمَّ لا يطأ بعد ذلك حتى يُكفِّر، وقالهُ جماعة مِن السلف وحكاهُ أصبغ عن مَن يرضى مِن [أهل] (¬5) المدينة، وليس لهذا القول موضع يُستقرأ مِن "المُدوّنة". والقول الخامس: أنَّ العودة: الإمساك مجردًا أو البقاء معها فمهما مضى لهُ مِن بعد الظهار زمان يُمكنُهُ أن يُطلِّق فيه ولم يُطلّق فيهِ ولم يُطلِّق وجبت عليهِ الكفَّارة كما يقول الشافعىَّ، وعليهِ تأوّل القاضى ¬

_ (¬1) في أ: أحدها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: أبو محمَّد عبد الوهاب القاضى. (¬5) سقط من أ.

أبو الوليد بن رُشد [قول] (¬1) ابن نافع. ووجهُ الصواب في هذه المسألة وتصحيحُ القولُ المُختار منها يتبيَّن [ويتضح] (¬2) مِن طريق "السبْر والتقسيم"، وذلك أنَّ معنى العودة لا يخلو [من] (¬3) أن يكون: تكرار اللفظ والوطء نفسهُ والإمساك نفسُهُ أو العزم على الوطء والإمساك أو العزم على الإمساك: وباطلٌ أن يكون "تكرار اللفظ" أنَّ ذلك تأكيد والتأكيد لا يُوجب الكفَّارة. وباطلٌ أيضًا أن يكون "إرادة الإمساك" أو "الإمساك مُجردًا". فإنَّ الإمساك موجود بنفس الظهار وإرادة الإمساك دون إرادة الوطء لا يُؤثِّر، ولو كان العود نفس الإمساك لكان الظِّهار نفسهُ يُحرِّم الإمساك ولكان الظهارُ طلاقًا. وباطلٌ أيضًا أن تكون العودة هى "الوطء نفسه" لقولهِ تعالى: {من قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}. فإذا بَطُلت الأقسام كُلَّها: تعيَّن أن تكون العودة العزم على الوطء مع استدامة العصمة، وهذا أشهر أقوال المذهب، وهذا الذي يصير على البر. فإذا ثبت ذلك فنحنُ بحمد اللهِ نُبيِّن شُبهة كل قول. ¬

_ (¬1) في أ: قال. (¬2) في أ: يتصحح. (¬3) سقط من أ.

فشبهة الشافعية: أنَّ الإمساك يلزم منه الوطء، فجعلوا لازم الشىء شبيها [ببابه] (¬1)، ولأن الإمساك هو السبب في وجود الكفَّارة وإنما ترتفع بارتفاع الإمساك. وشبهة من يقول "الوطء نفسه شبيه الظهار باليمين": فكما أنَّ كفَّارة اليمين إنَّما تجبُ بالحنث فكذلك الظهار، وهو قياس [شبه] (¬2) عارضهُ النصُّ. وشبهة الظاهرية: تعلق بظاهر اللفظ وأنَّ "اللام" في قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} على أصلها [وأما مالك والشافعى رضي الله عنهما فقدرا في الآية محذوفًا وأن اللام في قوله تعالى: {لِمَا قَالُوا} بمعنى في] (¬3) والتقدير "والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون" أي: يُريدون العوْدة فيما قالوا، ومَنْ لم يُقدِّرها هذا التقدير تجبُ الكفَّارة عندهُ بنفس الظهار [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الشبه. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة التاسعة فيمن كفر قبل إرادة العودة

المسألة التاسعة فيمن كفَّر قبل إرادة العودة أو بعد العودة ثُمَّ طلَّق أو ماتت قبل تمام الكفَّارة. ولا يخلو المُظاهر مِن [ثلاثة أوجه: أحدها] (¬1): أن يُكفِّر قبل إرادة العودة. أو كفَّر بعد العودة. أو حصلت العودة ثُمَّ [طلَّق] (¬2) أو [مات] (¬3) قبل أن يُكفِّر. فإن كفَّر قبل أنْ يُريد العودة، و [هو] (¬4) مع ذلك يُريد أن يُطلِّقها. هل تجزئُهُ تلك الكفَّارة إذا راجعها يومًا ما أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّها لا تُجزئُهُ، حتى ينوى العودة، وهو قول محمَّد بن سحنون، والثانى: أنها تجزئه وهو ظاهر قولُ ابن سحنون عن أبيه أيضًا حيث قال: "وأكثر قول أصحابنا أنَّ مَنْ كفَّر بغير نيَّة العودة [لا تجزئه] (¬5) "، وذلك يدلُّ على أنَّ هناك مَنْ يقول "إنَّها تجزئُهُ". وأمَّا [إن] (¬6) كفَّر بعد وجود العودة ثُمَّ [طلَّق أو مات] (¬7) فلا خلاف في المذهب أنَّها تجزئهُ، ومتى تزوّجها كان لهُ أن يطأها بغير كفَّارة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: طلقت. (¬3) في ع، هـ: ماتت. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ، جـ: من. (¬7) في هـ: طلقت أو ماتت.

وأمَّا الوجه الثالث [إذا نوى العودة ثم طلق أو مات] (¬1): فلا يخلو مِن أن يكون ذلك قبل الشروع في الكفَّارة أو بعد الشروع فيها: فإن كان ذلك قبل الشُروع فيها، فهل تجب عليه الكفَّارة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يجب عليه أن يُكفِّر، لأنَّهُ بنفس العودة تجب الكفارة، وهو قول مالك في كتاب "محمَّد"، وبهِ قال أصبغ. وقال محمَّد بن عبد الحكَم: "أخبرنى بهذا أشهب عن مالك وسواءٌ طلَّق أو مات". والثانى: أنَّها لا تجبُ إلا مع استدامة الملك، وهو قولُ ابن القاسم في المدونة. فإن طلقها بعد الشروع في الكفارة هل يلزمه إتمامها وتجزئهُ [إن] (¬2) أتمَّها أم لا؟ [أما] (¬3) على القول بأنَّها [واجبة] (¬4) بنفس [وجوب] (¬5) العودة" فلا تفريع. وعلى القول بأنها [لا] (¬6) تجب عليه فلا يلزمُهُ إتمامها، وهل تجزئُهُ إن أتمَّها؟ فلا يخلو مِن أن يكون الطلاقُ رجعيًا أو بائنًا: فإن كان الطلاق رجعيًا فأتمَّها قبل انقضاء العدَّة أجزأته مِن أيِّ أنواع الكفَّارات كانت ولا خلاف في ذلك. وإن انقضت العدَّة قبل أن يُتمَّها وكان الطلاق بائنًا فهل تجزئُهُ إن أتمَّها أم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: ولها. (¬4) في أ: وجبت. (¬5) في أ: وجود. (¬6) سقط من أ.

لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّها تُجزئُهُ إذا أتمَّها وهو ظاهر قولُ ابن القاسم في "الكتاب" حيثُ قال: "إذا طلَّقها قبل أنْ يمسَّها وقد عمل في الكفَّارة لم يلزمهُ إتمامها"، وظاهرهُ: أنَّهُ يُجزئُهُ التمادى عليها لأنَّهُ إنَّما تكلَّم على اللزوم، وهو نصُّ قول ابن نافع في "المُدوّنة" حيث قال: "وإن تمادى أجزأه إذا أراد العودة"، وظاهرُهُ أن لا فرقَ بين انقضاء العدَّة وعدم انقضائها، ولا بين الصيام والإطعام، وهو نصُّ قول عبد الله بن عبد الحكم في "النوادر". والثانى: أنَّها لا تُجزئُهُ، و [أنه] (¬1) إذا تزوَّجها يبتدئ الكفَّارة فيها كانت صيامًا أو طعامًا، وهو قول مالك وابن القاسم وابن وهب وأشهب في "النوادر". والثالث: التفصيل بين الصيام والإطعام، وأنَّهُ يُتم على الإطعام، ويستأنف الصيام إذا تزوّجها، وهو قول أصبغ في "النوادر". وسبب الخلاف: هل مَن شروطُ [وجوب] (¬2) الكفارة استدامة الملك أو ليس مِن شروطهِ؟ فمن اشترطهُ قال: لا تجب الكفَّارة إذا طلَّق أو مات لأنَّهُ [إنما كفر ليطأ] (¬3). ومن لم يشترطهُ، قال: تجب بنفس وجود العودة وهذا أظهر في النظر. والحمد لله وحدهُ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: إنما يكفر أو يطأ.

المسألة العاشرة في ظهار العبد وما يجوز [له] أن يكفر به

المسألة العاشرة في ظهار العبد وما يجوز [له] (¬1) أن يُكفِّر به. ولا خلاف أعلمُهُ في المذهب أن العبد لا يجوز لهُ أنْ يكفر بالعتق، وإنْ أذن لهُ سيدهُ إذْ الولاء لغيرِه. وعلى هذا جميع العلماء إلا داود وأبو ثور فإنَّهما جوّزا للعبد الكفارة بالعتقِ. وأمَّا الإطعام فلا يخلو مِن أنْ يأذن [له] (¬2) سيدهُ فيهِ أو لم يأذن: فإن لم يأذن له في الإطعام فلا خلاف أعلمه في المذهب نصًا أنَّهُ يجوز لهُ الكفَّارة بالإطعام. والقياس: الجواز إذا كان العبد غير قادرٍ على الصيام، لأنَّه حقٌ متعلق بالمال [فوجب] (¬3) اقتضاؤه منهُ، أصل ذلك الجنايات التي لم يأذن لهُ فيها، ومع ذلك يتعلَّق بماله إذا جنى، لأنَّ السيد إذا اختار تسليمهُ في الجناية أسلمهُ بمالهِ على مشهور المذهب. فإن شئت فقس ظهاره على ما أذن له فيهِ من المعاملات إذا تركبه منهُ الدين، لأنَّ الإذن بالمُعامَلات يُشعر بالإذن في المُداينات، والإذن في النكاح يُشعر بالإذن في توابعهِ ومن توابعه الظهار وهذا لازمٌ للمذهب. فإن أذن لهُ السيد في الإطعام وهو عاجز عن الصوم، هل يجزئُهُ أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوّنة": ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

أحدهما: أنَّهُ يُجزئُهُ، وهو قولُ ابن القاسم في كفَّارة اليمين بالله تعالى. والثانى: أنَّهُ لا يُجزئُهُ، لأنَّ الإطعام يخرج إلى ما يعطاه وفيهِ ملك للسِّيد بعدما أذن لهُ [ولو شاء رجع فيه] (¬1)، وهو قول عبد الملك في "المبسوط"، ومثلُهُ لابن دينار، وهو ظاهر قوله في "المُدوّنة": "ليس على العبدِ عتقٌ ولا إطعام، ولو وجد مالًا يُطعم ويعتق"، ولكن يصوم، ويُؤخذ أيضًا مِن تعليل ابن القاسم في كفَّارة اليمين بقولهِ: "كأجنبى كفَّر عنه، إذا أذن لهُ السيِّد في الإطعام". وأشهب يقول: "لا تجزئُهُ إذا كفَّر عنهُ الأجنبى، وإن كان بأمرهِ، فإنَّهُ يلزم أيضًا على قول أشهب ألا يجور وإن أذن لهُ السيِّد. فإن عجز العبدُ عن الصيام ولا عندهُ مِن المال [ما يكفر به] (¬2) إذا أذن لهُ السيِّد على قولٍ، فإنَّهُ لا يدخُل عليهِ الإيلاء، لأنَّهُ ليس بمضار. وأمَّا كفَّارتهُ بالصيام: فلا يخلو [من] (¬3) أن يكون الصيام يضرُّ بالسيِّد أولًا: فإن كان لا يضرُّ به فلا خلاف أنَّ ذلك كفَّارتهُ، وأنَّهُ إن تركهُ مع القُدرة عليهِ فإنَّهُ يدخُل عليه الإيلاء لأنه مضار. وإن كان الصيام يضرُّ بالسيِّد في كون العبد يضعفُ عن الخدمة، هل لهُ أن يمنعَهُ منهُ أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ للسيد أن يمنعَهُ مِن الصيام، وهو قولُ ابن القاسم في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ما يكفرهما. (¬3) سقط من أ.

كتاب "الحجِّ الثالث" مِن "المُدوَّنة". [والثانى] (¬1): [أنه] (¬2) ليس لهُ منعُهُ، وهو قول عبد الملك وأصبغ في كتاب ابن حبيب، ومثلُهُ في كتاب "ابن الموّاز". وسببُ الخلاف: الإذن في النكاح، هل هو إذن في توابعهِ أم لا؟ وعلى القول بأنَّ للسيد أن يمنعهُ مِن الصيام، هل يدخُل عليه الإيلاء إنْ رافعتهُ أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يدخلُ عليهِ الإيلاء، وهو قول ابن القاسم في كتاب "ابن حبيب". والثانى: أنَّهُ لا يدخلُ عليهِ الإيلاء، ولا كلام لامرأتهِ إذا منعهُ [سيده] (¬3) الصيام، وهو قول أصبغ في "كتاب النوادر". وقد وقع لمالك رحمهُ الله في "المُدوَّنة" [لفظة مشكلة] (¬4) حارت أذهان المُتأخرين في تأويلها، وتنزيلها على المألوف مِن مذهبه [وعلى وفق] (¬5) ما نصَّ الله عَزَّ وَجَلَّ عليه في كتابه، [وهو قوله] (¬6) في العبد المُظاهر: "أحبُّ إليَّ أنْ يصوم وإنْ أذن لهُ سيِّدهُ في الإطعام، فالصيام أحبُّ إليَّ منهُ". وقال ابن القاسم عُقْيبهِ: "بل هو الواجب عليهِ، وليس [يطعم] (¬7) ¬

_ (¬1) في أ: والثالث. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: أهله. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: على نحو. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

أحدٌ إلا وهو [لا] (¬1) يستطيع الصيام". وقد صرَّح ابن القاسم بتوهُّم قولُ مالك في "المبسوط"، وقال: "لا أدرى ما هذا، ولا [أرى] (¬2) جوابهُ إلا وهمًا ولعلَّ جوابهُ في كفَّارة اليمين. وهذا [منه] (¬3) بناءً على أنَّ "أحبُّ" على بابُها في الاستحباب، ولذلك قال: "بل هو فرضهُ". وأمَّا المتأخرون فقد اختلفوا في تأويل ذلك على أربعة أقوال: أحدها: أن يُقال: يُحتمل أن يكون إنَّما قال ذلك، لأنَّ إذن السيِّد في الإطعام لا يُفيد الملك التام [للعبد] (¬4)، إذْ لهُ الرجوع فيما أذن لهُ [فيه] (¬5)، وانتزاع أصل ماله، فلأجل هذا قال: "الصيامُ أحبُّ إليَّ منهُ"، وهذا تأويل القاضى إسماعيل. وعُورض هذا بأن يُقال: "إنَّما يُتصور ذلك، فيمن أُبيح لهُ الإطعام لعجزهِ عن الصيام. وأمَّا مَنْ قدر عليهِ فهو فرضُهُ". وعُورض أيضًا: بالمكفر عن غيره لأنَّ الكفَّارة لم تخرج مِن يده إلا إلى أيدى المساكين. والقول الثاني: أنَّ معنى قوله: "أحبَّ إليَّ" لأنَّهُ عجز عن الصوم، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أدرى. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من هـ. (¬5) سقط من أ.

فكان أحبُّ إليهِ أن يُؤخّر حتى يقوى عليهِ. وهذا تأويل إسماعيل القاضى أيضًا والشيخ أبى بكر الأبهرى. وعورض هذا التأويل بأنَّ مَنْ هذا سبيلُهُ، [ويُطعم] (¬1) مع القُدرة على الصيام بالقُرب أنَّ فرضَهُ التأخير حتى يقوى، فليس للاستحباب هاهُنا وجه، وإنْ كان لا يقوى ولا تُرجى لهُ قُدرة بالقُرب ففرضُهُ الإطعام، [ولا] (¬2) وجه لذكرِ الصوم. والقول الثالث: أنَّ ذلك الكلام مَنْ مالك تجوز ومعناهُ: أنَّ السيِّد أذن للعبد في الإطعام ومنعهُ مِن الصوم، فتردّد في ذلك هل للعبد أَن [يعدل] (¬3) إلى الإطعام مع قُدرتهِ على الصيام أو ليس منع السيِّد من الصيام عذر [بين] (¬4) كما به يقول عبد الملك وابن دينار. أو ذلك عُذرٌ مانعٌ مِن الصيام لحقِّ السيِّد وأنَّ لهُ أنْ يمنعهُ إذا استضر بذلك كما به قال مالك وابن القاسم، فتردَّدَ هذا عند مالك، وقال: "الصومُ أحبَّ إليَّ [أي إذن السيد له في الصيام أحب إلىّ] (¬5) مِن إذنهِ في الإطعام"، وهذا تأويل بعض المتأخرين، وهو أشبه مِن كُلِّ [ما] (¬6) تقدَّم مِن التأويل، فإذا كان هذا هكذا ارتفع الإشكال لأنَّ ترتيب كفَّارة الظهار على العبد كترتيبها على الحُر. والقول الرابع: [أن] (¬7) قوله: "أحبُّ إلى" [أي علىّ بأنه] (¬8) من ¬

_ (¬1) في هـ: ويطمع. (¬2) في أ: فلا. (¬3) في أ: يعيد. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ، جـ: من. (¬7) سقط من أ. (¬8) في أ: غاية.

ترجيح أحد الأمرين ولا يكون وهمًا ولا يجوز وهو: أن يكون ترجيح الصوم أوْلى وإن منعَهُ السيِّد منهُ مع قُدرته عليهِ، وهو قولُ محمَّد [لأنَّهُ قال] (¬1): "إذا أذن لهُ سيِّدُهُ في الإطعام ومنعه الصوم أجزأه وأصوب أنْ يُكفِّر بالصيام". وهذا تأويل القاضى أبى الفضل رحمهُ الله. وأمَّا ظهارُ الحُرِّ المحجور عليهِ فلا يخلو مِن أن يكون مُوسرًا أو مُعسرًا: فإن كان معسرًا وهو قادر على الصيام ففرضُهُ الصيام. فإن ترك أن يُكفِّر به كان مضارًا ويدخلُ عليه الإيلاء. فإن كان عاجزًا عن الصيام، فليس بمُضار. فإن [كان] (¬2) مُوسرًا وقادرًا على العِتق فهل يُكفِّر بالعتق أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يُكفِّر بالعتق وإن لم يأذن لهُ وليُّهُ إذا كان مليًا، وهي رواية عبد الملك عن الحسن عن ابن وهب في "العُتبيَّة". والثانى: التفصيل بين أن تكون الكفارة أيسر عليه. والتزويج أضرَّ به كفَّر عنه [بالعتق] (¬3)، وإن كان [تكفيره عنه] (¬4) أضرَّ عليه في مالهِ [من] (¬5) ابتداء النكاح لكون العِتق [يجحف] (¬6) بمالهِ ولأنه ممَّا يتكرر ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) في أ، جـ: كفارته. (¬5) في أ: في. (¬6) في أ: يخفف.

[عليه] (¬1) اليمين بالظهار وهو رجلٌ مطلاق فلا يُكفِّر عنهُ. وهو قول سحنون وجماعة مِن عُلمائنا في "العُتبيَّة". وعلى القول بأنَّهُ لا يُكفِّر عنه الولى، فلا يخلو مِن أن يكون قادرًا على الصيام أم لا: فإن كان قادرًا عليه، هل يجوز لهُ أن يُكفِّر بالصيام [أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يكفر بالصيام ويجزئه] (¬2) وهو قول ابن الموَّاز. [والثانى: أنَّهُ لا يجزئُهُ الصيام، لأنَّهُ مُوسر بالعتق والإطعام. وعلى القول بأنَّهُ لا يجوز لهُ أن يُكفِّر بالصيام إذا] (¬3) طلبت امرأتُهُ الفراق هل يُعجل عليه في الحال أو يضرب لهُ أجل المولى؟ فالمذهب على قولين. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: منه. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ.

المسألة الحادية عشر في كفارة الظهار.

المسألة الحادية عشر في كفَّارة الظهار. وهي ثلاثةُ أنواع: صيام، وعتق، وإطعام. ولا خلاف بين العُلماء أنَّها على الترتيب العِتق ثُمَّ الصيام ثُمَّ الإطعام. فإذا قدر على العِتق فلا يجوز لهُ العُدول إلى غيرهِ. وهو يصحُّ بأربعة شروط: أن تكون الرقبة مؤمنة سالمة مِن العُيوب التي لها قدر وبال. ليس فيها عقد حُرِّية، ويصحُّ للمُكفِّر مِلكها بعد الشراء وقبل العتق. وهذه جُملة متفق عليها، فإنْ انخرم وصفٌ مِن هذه الأوصاف كانت مسألة خلاف. وقولُنا: "مُومنة" احترازًا من أن تكون كافرة، ولا خلاف عندنا في الكافر الكبير الوثنى والكتابى أنَّه لا يُجزئُهُ لأنَّ الله تبارك وتعالى شرط الإيمان في العتق لقتل النفس، وذلك من باب حمل المُطلق على المقيد. وقد اختلف فيه الأصوليون، ومِن طريق المعنى فإنَّهُ لا يُتقرب إلى الله تعالى بعِتق أعدائه. واختلف إذا كان ممن يُجبر على الإِسلام كصغار المجوسيين على الوِفاق وكبارهم [وصغار الكتابيين] (¬1) على الخلاف، لأنَّهُ قد قدّمنا في "كتاب الجنائز" أنَّه: لا خلاف في صغار المجوسين إذا ملكوا أنهم يُجبرون على ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الإِسلام، وفي [كبارهم] (¬1) قولان [ولا خلاف في كبار الكتابيين أنهم لا يجبرون على الإِسلام وفي صغارهم قولان] (¬2). وهذا عقدٌ صحيح فاعتمده. وانظر قول ابن نافع في "كتاب التجارة إلى أرضِ الحرب". وهل يجوز عتقُهُم في [الكفارات] (¬3) أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ يُجزئُهُ، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المُدوَّنة" حيث قال: "لا بأس بعِتق الأعجمى في الكفَّارات". والثانى: أنَّهُ لا يُجزئُهُ جملةً، وهو قول ابن وهب وأشهب. والثالث: التفصيل بين المجوسى والكتابى [فيجوز المجوسى والكتابى] (¬4) على التفصيل بين أن يُولد في مِلك المُسلم أو سبى مِن بلاد الحرب. فإن وُلد في مِلك المُسلم فقولان: أحدهما: أن لهُ حكم المُسلم لأنَّهُ على فطرة الإِسلام، وهو قول أبى مصعب. والثانى: أنَّهُ لا يجزئُهُ إذا وُلد في مِلك المُسلم، وإن وُلد في أرض الشرك وسبى وحده دون أبيه فإنَّهُ يُجزئُهُ، وهذا القولُ حكاهُ ابن حبيب، و [هو] (¬5) قول عبد الملك بن الماجشون في ["الاتباع"] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الكفارة. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ع، هـ: الابتياع.

وسببُ الخلاف: من ملك أن يملك هل [يُعدُّ مالكًا] (¬1) قبل أن يملك أم لا؟ وقولنا: "سالمة مِن العُيوب التي لها قدر وبال" وهي على خمسة أقسام: عيوب الخِلقة. وعيوب الأخلاف. وعيوب الدين. وعيوب الذِّمَّة. وعيوب [النسب] (¬2). فأمَّا عُيوب الخِلقة: فإنَّها تنقسم على خمسة أقسام: عيبٌ يمنعُ مِن السعى والقيام بنفسهِ. وعيبٌ لا يمنع السعى وهو يسير [وعيب يسير] (¬3) شأنُهُ [التناهى] (¬4) لجميع الجسد. وعيبٌ كبير يعمُّ الجسد، وعيبُ يخص الجسد ولا يُؤثر في العجز عن السعى. فأمَّا الأوَّل: "وهو العيب الذي يمنع السعى والقيام بنفسه" لأنَّها زمانةٌ أو ما في معنى الزمانة: لما تعطِّل الانتفاع بنفسه فذلك غيرُ جائز، ¬

_ (¬1) في ع، هـ: يقدر كالمالك. (¬2) في هـ: النسبة. (¬3) سقط من أ. (¬4) في هـ: التنامى.

[كالأعمى] (¬1) والمُقعد والفالج وزوال العقل. وإن كان بعضُ الجسد كالشلُّ وقطعُ اليد والأصابع وغير ذلك ممَّا [يعطل] (¬2) اليد أو بعضها أو يَفسُد استعمالها. وأمَّا الثاني: "وهو العيب اليسير الذي لا [يمنع السعى ولا] (¬3) يخشى [تناهيه] (¬4) " [فذلك جائز] (¬5) كالمرض الخفيف أو قطع الأنملة والجدع من الأذن وذهاب بعض الأسنان والصمم الخفيف. وأمَّا الثالث: "وهو عيبٌ يسير وشأنُهُ [التناهى] (¬6) بجميع الجسد كبداية الجُذام والبرص واختلف هل يجزئ أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ [لا] (¬7) يُجزئُهُ جُملةً، وهو قولُ ابن القاسم. والثانى: التفصيل بين اليسير والكثير فاليسير يُجزئُهُ والكثير لا يُجزئُهُ، وهو قول أشهب في البرص الخفيف، ويُقاسُ عليهِ قليلُ الجزام أيضًا. وأمَّا الرابع: وهو عيب كبير يعمُّ جميع الجسد، كالجذام والبرص فهو غير جائز وإن لم يمنعهُ السعى وقالهُ ابن حبيب في الشلل. وأمَّا الخامس: وهو عيب يسير يخص بعض الجسد ولا يُؤثر في الجسد ¬

_ (¬1) في أ: كالعماد. (¬2) في أ: تنفصل به. (¬3) سقط من أ. (¬4) في هـ: تناميه. (¬5) سقط من أ. (¬6) في هـ: التنامى. (¬7) سقط من أ، جـ.

في العجز عن السعى ولا يُخشى [تناهيه] (¬1) كالعَوَر والصمم والعرج والخصى، فقد اختُلف فيه هل يُجزئُهُ أم لا؟ أمَّا العَوَر: ففى المذهب قولان: الجواز، وهو قولُهُ في "المُدوّنة". والمنع، وهو قولهُ في "كتاب محمَّد" لأنَّ العور عيبٌ كبير أذهب عضوًا شريفًا مقدَّرًا مِن الحر بنصف الديّة إلا أنَّهُ لا ينقص من السعى. وفي العرج ثلاثة أقوال: الجواز مُطلقًا. والمنع مُطلقًا. والتفصيل بين العرج [اليسير] (¬2) والعرج الكثير. والثلاثة أقوال لِمالك في "الكتاب". وأمَّا الخصي: فقد اختلف فيهِ على ثلاثة أقوال: أحدها: الكراهة، وهو قولُهُ في "المُدوّنة". والثانى: أنَّهُ لا [يجزئ] (¬3) وإن كان خصيَّا [غير مجبوب] (¬4) ما أجزأ. والثالث: أنَّهُ يُجزئ، وهو قولُ أشهب في "كتاب محمَّد". وأمَّا عيوب الأخلاق: كالزنا والسرقة والإباق، فلا خلاف أعلمهُ في ¬

_ (¬1) في هـ: تناميه. (¬2) في هـ: الخفيف. (¬3) في أ، جـ: يجزئه. (¬4) سقط من أ.

المذهب أنَّهُ لا يُؤثر وأنَّهُ يجوز. وأمَّا عُيوب الدين: فكونهِ كتابيًا أو مجوسيًا، وقد تقدمَّ الكلام عليهِ. وأمَّا عيوب الذِّمة: فكونُهُ ترتَّب عليه في ذمَّته ديون الناس فإن ذلك لا يمنع مِن الإجزاء أيضًا [وأما عيوب النسب: فكونه ولد الزنا فإن ذلك لا يمنع من الإجزاء أيضًا] (¬1). وقولُنا: "ليس فيها عقد حُريَّة احترازًا مِن المدبر وأم الولد والمكاتب والمعتق إلى أجل والمُعتَق بعضُهُ. [فأما أم الولد والمعتق بعضه] (¬2) فلا يجزئه كان [ذلك] (¬3) مِلكًا للمُكفِّر أو لغيره. [وكذلك المدبر والمُكاتَب لأنَّهُ وضع خدمته أو وضع مال] (¬4) واختُلف إذا اشتراهما وأعتقهما على ثلاثة أقوال: أحدهما: أنَّ العتق مردود ولا يُجزئ ويفسخ البيع فيهما. والثانى: أنَّ العتقَ ماضٍ ولا يُجزئُهُ. والثالث: أنَّ العتقَ ماضٍ ويُجزئُهُ. وهذه الأقوال كُلُّها قائمة مِن "المُدوّنة". أمَّا المُكاتب: فسبب الخلافُ فيه إذا كان البيع برضاه هل لهُ أنْ يُعجز نفسه أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من هـ.

فمن رأى أنَّ لهُ أن يعجز نفسهُ وإن كان [له] (¬1) مال ظاهر قال: "لهُ نفوذ العِتق والإجزاء". وَمَنْ رأى أنَّهُ لا يعجز نفسهُ قال: البيع وقع على غير الجواز وهل يفوت بالعتق؟ فيتخرَّج [الخلاف] (¬2) فيهِ على الاختلاف في الكتابة هل هى بيعٌ أو عتق؟ فعلى القول بأنَّها بيع قال: العتق فوات ويُجزئ. وعلى القول بأنَّهُ عتق قال: العتق ليس بفوات لأنَّ ذلك مِن باب نقل الولاء. واختُلف في عبدٍ بينه وبين غيرهِ إذا أعتق جميعه عن ظهاره [أو أعتق منه ما يملك عن ظهاره] (¬3)، ثُمَّ اشترى النصف الباقي فأعتقه عن ظهارهِ وكان في حين العِتق مُوسرًا أو مُعسرًا أو كان عبدًا مَلَك جميعه فعتق نصفُهُ عن ظهاره ثُمَّ أعتق النصف الباقي أو حكم بهِ عليه السلطان، هل يُجزئُهُ ذلك العِتق عن ظهارهِ في جميع ما ذكرنا وتبرأ ذمَّتهُ أم لا؟ فأمَّا عبدٌ بينهُ وبين غيره إذا أعتق جميعه أو أعتق بعضه وكان مُوسرًا. على القول بالسراية فينبغى أَن يُجزئهُ في هذا الوجهِ بلا خلاف. وأمَّا إذا أعتق نصفهُ وكان جميعُهُ لهُ ثُمَّ استكمل عليهِ باقيه أو اشترى النصف الباقي [ليس] طرأ بعد العتق أو قُوّم عليه نصيب شريكهِ، إن كان مُوسرًا يوم أُعتق، هل يجزئُهُ أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ ذلك لا يُجزئُهُ، وهو قول ابن القاسم في المُدوَّنة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

والثانى: أنَّ ذلك يُجزئُهُ، وهو قوله [في] (¬1) العُتبيَّة في عبدٍ يملكُ جميعهُ إذا أعتق [نصفهُ] (¬2)، ثُمَّ جبرهُ السلطان على عتق الباقي أنَّهُ يُجزئُهُ. وقال بعض المتأخرين: ولا فرق بين أن يكون جميعهُ لهُ أو [يكون] (¬3) شركةٌ بينهُ وبين غيرهِ. وقولنا: "ويصحُّ للمُكفِّر [ملكها] (¬4) بعد الشراء وقبل العتق احترازًا مِمن لا يصحُّ تملُّكُهُ بعد الشراء [وذلك] (¬5) على وجهين: أحدهما: أن يكون المنع مِن جهةِ الشرع. والثانى: أن يكون مِن جهة الشرط. فإن كان المنع مِن جهة الشرع كذوى القُربى الذين أوجب الشرع عتقهم وحرّم اقتناءهم. فإذا اشترى أباهُ ونوى أن يعتقهُ عن ظهاره فلا يخلو [من] (¬6) أن يتعلَّق بذلك حقّ الغير أم لا: فإن لم يتعلق بذلك حقُّ لأحد فلا خلاف في المذهب أنَّهُ لا يُجزئُهُ. وإن تعلَّق بذلك حقٌ [لأحد] (¬7)، كغريم لهُ عليهِ ما يغترق ذمَّتهُ مِن الدين فأذن لهُ أن يشتريه ويعتقهُ عن ظهارهِ أو اشتراهُ بغير إذن الغُرماء ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: بعضه. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: عتقها. (¬5) في أ: أن ذلك. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ، جـ: لغيره.

[فأذنوا] (¬1) لهُ في العتق بعد الشراء فهل يُجزئُهُ أم لا؟ فالمذهب يتخرّج على قولين: أحدهما: الجواز. والآخر: المنع. وهذا على القول بأنَّ البيع ينعقد فيهِ إذا اشتراهُ وعليهِ ديْن يغترقه. فإن كان المنع مِن جهةِ الشرط مثل عبد اشتراهُ بشرط العتق أو عبد قال: إن اشتريتُهُ فهو حرٌ فهل يُجزئهُ عن ظهاره أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ لا [يجزئه] (¬2)، ولا تبرأ به الذِّمة، وهو قول ابن القاسم في "المُدوّنة"، لأنَّها ليست برقبة تامَّة. والثانى: أنَّ ذلك يُجزئُهُ، وهو ظاهر قولُ ابن كنانة في شرح "ابن مزين" حيث قال: "إن كان جاهلًا يُؤمر بالإعادة". وقال ابن القاسم في موضع آخر: "إن كان عالمًا بأنَّ ذلك لا ينبغى لم يجزئُهُ وإن كان لا وضيعة في ثمنهِ أجزأهُ". وهذا مِثل ما أشار إليه ابن كنانة، ولابن القصار مِثل ذلك. واختلف إذا عتق عنهُ الأجنبى بإذنه أو بغير إذنهِ على ثلاثة أقوال كُلّها منصوصة في "المُدوّنة": أحدها: أنَّهُ يُجزئُهُ جملةً، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنَّ ذلك لا يُجزئُهُ [وهو قول الغير في الكتاب. والثالث: ¬

_ (¬1) في أ: فأذن. (¬2) في أ: يجوز.

التفصيل بين أن يكون ذلك بإذنه فيجوز أو بغير إذنه فلا يجوز] (¬1)، وهو قول ابن القاسم أيضًا وهذا كلَّهُ إذا صحَّت العودة مِن المُتظاهر. وأمَّا الصيام: فشهران متتابعان كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه فمن أتى [به] (¬2) مفترقًا، فلا يخلو مِن أن يكون ذلك لعُذرٍ أو لغير عُذر: فإن كان ذلك لعُذر فلا يخلو مِن أن يكون ذلك لهُ اختيار أو لا اختيار لهُ فيه [فإن كان عذرًا لا اختيار له فيه] (¬3): كعُذر المرض فلا خلاف في المذهب أنَّهُ يُعذر ويجوز لهُ البناء على ما صام قبل المرض. فإن كان لهُ فيه عُذر اختيار كالنسيان أو أخطأ في العدد أو جهل بالحُكم هل يُعذر بهِ أم لا؟ فالمذهب يتخرَّج على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ يُجزئُهُ البناء ويكون معذورًا جُملةً، وهو ظاهر قول مالك في "المُدوّنة" في الذي صام ذا القعدة وذا الحجَّة جاهلًا فظنَّ أنَّهُ يُجزئُهُ حيث قال: إنَّهُ يُجزئُهُ ويحتمل أن يكون جهلُهُ بالحكم أو بتعيين الشهور وعلى هذا يجزيء الناس. والذي أخطأ العدد داخلٌ في النسيان، وهو قول محمَّد بن عبد الحكم لأنَّهُ ساوى بين المرض والنسيان. [والثانى: أنه لا يجزئه ولا يعذر بجهل ولا نسيان وهو قوله في كتاب محمَّد في النسيان] (¬4)، ويُقاسُ عليهِ ما عداهُ مِن أنواع الأعذار التي ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بهما. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

مازجتها شائبة الاختيار. والقول الثالث: التفصيل بين الجهل والنسيان، فيُعذر بالنسيان والخطأ في العدد، ولا يُعذر بالجهل في مشروعية التتابعُ في صيام الظهار قياسًا على الصلاة. وهذا القول لبعضِ المتأخرين. وإن كان ذلك لغير عُذر فلا خلاف أنَّهُ يبتدئ. وأمَّا الإطعام: فإنَّهُ [يجوز] (¬1) العدول إليه ويصحُّ التكفير بهِ إذا كان المُتظاهر عاجزًا عن الصوم وعجزُهُ على وجوه: إمَّا أن يكون لمرض أو لضعف [بيِّن] (¬2) أو مِثل المتعطش الذي لا يستطيع معهُ [الصوم] (¬3) جملةً. وإن كان يقدر عليه في زمان البرد ولا يقدرُ عليه في زمان الحر، فهل يجوزُ لهُ الإطعام أو يُؤخَّر إلى زمان البرد؟ قولان: أحدهما: أنَّهُ يُؤخَّر، وهو قول ابن القاسم في الذي يطول بهِ المرض أنَّهُ ينتظر. والثانى: أئهُ يُطعم ولا يؤخَّر، وهو ظاهر قول أشهب في مسألة المريض أيضًا. وأمَّا المرض: فهو على أربعة أوجه: قريب البُرء، وبعيدُهُ، و [موئس] (¬4) من البُرء ومشكوك ¬

_ (¬1) في ع، هـ: يجب. (¬2) في ع، هـ: بنيته. (¬3) في أ: العطش. (¬4) في أ، جـ: آيس.

[فيه] (¬1). فإن كان البُرء قريبًا لم يُجزئه الإطعام [ويجزئه] (¬2) مع [الإياس] (¬3). واختُلف إذا كان يُرجى [فيه بَعد] (¬4) بُعد أو شك فيهِ على قولين: أحدهما: [أنه يجوز له الإطعام وينتظر البرء وهو قول ابن القاسم في المدونة والثانى:] (¬5) أنَّهُ لا يجوز [له] (¬6) الإطعام ولا يلزمُهُ [الإنتظار] (¬7)، وهو قولُ أشهب في "المُدوّنة" لقولهِ تعالى: {فَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ} وهذا غير مستطيع. ولا يُعترض على هذا بقليل المرض لأنَّ القليل في معنى العدم. فإذا ثبت ذلك فالكلام فيهِ [في] (¬8) ثلاثة مواضع: أحدها: في قدْر [الطعام] (¬9). والثانى: في جنسهِ. والثالث: فيمن يجوز لهُ أخذُ الكفَّارة. فأمَّا قدرُ الطعام: فقد اختلف فيهِ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن يُطعم مدًا بُمد هشام كُلُّ واحد مِن [المساكين] (¬10) وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ، جـ ويجوز. (¬3) في هـ: اليأس. (¬4) سقط من أ، ع. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: فيه. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ. (¬9) في ع، هـ: الإطعام. (¬10) في هـ: الستين.

قول مالك في "المُدوّنة". والثانى: أنَّهُ يُطعم كُلُّ واحد مُدَّين بمدِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثالث: أنَّهُ يُطعم [مدًا] (¬1) بمدِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول القاضى أبى الحسن بن القصَّار، وهو قول عبد الملك بن الماجشون في الغداء والعَشَاء. فجعلهُ مثلُ كفارة اليمين بالله تعالى. واختُلف في قدْر مُد هشام على أربعة أقوال: أحدها: أنَّ قدرهُ مُدَّان إلا ثُلُث بمدِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول ابن القاسم في "المُدوّنة". والثانى: أنَّهُ مُدَّان بمدِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكرهُ البغداديون عن معن بن عيسى. والثالث: أنَّهُ مُد ونصف. والرابع: أنَّهُ مُد وثُلث، وهو قول ابن حبيب. وسبب الخلاف: اختلافهم في كفَّارة الظهار هل يُردَّ حُكمُها إلى كفَّارة اليمين فتحمل عليها أو تحمل [على] (¬2) كفَّارة الأذى؟ وذلك أنَّ الله تبارك وتعالى أوجب ثلاث كفَّارات في كتابه. فكفَّارة اليمين. وهي [مقيدة] (¬3) لقوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} و [كفارة] (¬4) الأذى: وهي مُقيَّدة بقول الرسول عليه السلام: "مدان لكلِّ مسكين". ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) في أ: إلى. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

وكفَّارة الظهار وهي مُطلقة غير مُقيَّدة بشىء. فهل تُردُّ إلى فدية الأذى؟ لأنَّها الغاية، والزوجة [محرمة] (¬1) بما عَقَد فيها مِن الظهار فلا تباح إلا بالأشدِّ فيه وهو [أعلى الكفارات] (¬2). وقيل: "تُردُّ إلى كفَّارة اليمين [بالله تعالى لأن] (¬3) الظهار يمين تكفر فأشبهت اليمين بالله تعالى. وقد قيل [أيضًا] (¬4) وليس في العِزق الذي أخرجهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - للمظاهر وأمره أنْ يُطعم بهِ ستين مسكينًا ما يفيد أنّ كفَّارة الظهار مقيدة لاختلاف الروايات في وسعِهِ. فمنهم مَن قال: فيه خمسةُ عشر صاعًا. ومنهم مَن قال: من خمسة عشر إلى عشرين. ومثلُ هذا لا يصحُّ بهِ التقييد. وأمَّا الجنس الذي يُطعم منهُ هل يُعتبر فيه عيش نفسه أو عيش جُل أهل بلدهِ؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ يعتبر [بعيش جل] (¬5) أهل البلد ويُكفِّر بهِ، وهو قولُهُ في "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهُ يُكفِّر مِن عيشهِ ولا ينظر إلى عيش أهل البلد، وهو قولُهُ في كتاب محمَّد. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أصل الكفارة. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من هـ. (¬5) في أ: بجل عيش.

والثالث: التفصيل بين أن يأكُل الشعير مِن غير ضيقٍ [وغيره] (¬1) يأكُلُ القمح. فيُكفِّر بعيش أهل البلد. أو يأكُل القمح وأكلهم الشعير فيُكفِّر بعيشهِ، وهو قول ابن حبيب. وأمَّا مَنْ يجوزُ لهُ أخذها: فهم الفُقراء والمساكين على الشروط التي ذكرناها وعدَّدناها "في كتاب الزكاة" [الثاني] (¬2)، فلا فائدة للتطويل. تمَّ الكتابُ بحمد الله وعونهِ. وصلى الله على سيدنا محمَّد وآلهِ وسلِّم تسليمًا. ¬

_ (¬1) في هـ: ومثله. (¬2) سقط من أ.

كتاب الإيلاء

كتاب الإيلاء

كتاب الإيلاء تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها أربع مسائل (¬1): المسألة الأولى الإيلاء في اللغة الامتناع من فعل الشىء بيمين قال الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} وهذه الآية نزلت في أبى بكر الصديق رضي الله عنه حين حلف ألا ينفق على ابن خالته مسطح حين خاض مع أَهل الإفك فيما خاضوا فيه على ما قال أهل العلم بالتأويل. ومنه قول الشاعر (¬2): فآليت لا آتيك إن جئت مجرمًا ... ولا أبتغى جارًا سواك مجاورًا فآليت لا آتيك أخذوا قصيدة تكون وإياها. وهو في الشرع على ما هو عليه في وضع اللغة إلا أنه قد تعرف في الشرع في "الحلف على اعتزال الزوجات وترك جماعهن" كما ذكر الله تعالى في كتابه، ونص على الحُكم فيه وهو على ثلاثة أوجه: أحدها: اليمين على ترك الوطء. والثانى: ما كان بمعنى اليمين على تركه. والثالث: اليمين بالطلاق التي يكون الحالف فيها على حنث. فالجواب عن الوجه الأول: وهو اليمين على ترك الوطء فلا يخلو من ثلاثة ¬

_ (¬1) لم يرد في الأصول إلا ثلاثة مسائل فقط. (¬2) النابغة الذبياني.

أوجه: أحدها: أن يحلف على ذلك بالله تعالى أو ما كان في معنى اليمين بالله مما يوجبه على نفسه إن وطيء. والثانى: أن يحلف على ذلك بطلاق المؤلى منها. والثالث: أن يحلف على ذلك بما ينعقد عليه بالحنث فيه حكم فلا يلزمه بمجرده شىء. فأما إذا حلف على ذلك باليمين بالله تعالى أو بما كان في معناه مما يوجبه على نفسه إن وطئ من صلاة أو صدقة أو ما فيه قربه من عتق أو غيره مما ليس فيه قربه [كطلاق] (¬1) [غير] (¬2) المؤلى عليها فذلك على وجهين: أحدهما: أن يقول: والله لا أطأ امرأتى، أو على صدقة أو مشى أو ما أشبه ذلك إن وطئتها أبدًا، أو إلى أجل كذا وكذا لما هو أكثر من أربعة أشهر. والثانى: أن يقول: [والله] (¬3) لا أطأ حتى أفعل [كذا وكذا] (¬4). فأما الوجه الأول: فأنه مؤلى من يوم حلف ويوقف [إلى] (¬5) حل الأجل، فإما بالوطء وإلا طلق. وأما الثاني: فلا يخلو [من وجهين] (¬6) أحدهما: أن يكون ذلك الفعل ¬

_ (¬1) في أ: كالطلاق. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من هـ. (¬5) في هـ إذا. (¬6) سقط من أ.

مما يمكنه فعله. والثانى: أن يكون مما لا يمكنه فعله ولا مؤنة عليه فيه كدخول الدار وركوب الدابة فلا يكون مؤليا ويقال له: طأ امرتك إن كنت صادقا فإنك لست بمؤلى. وإن كان مما يتكلف فيه مؤنة كالحج وغيره فإنه يكون مؤليا من يوم حلف ويوقف إذا حل الأجل فإما وطء وإلا طلق عليه. وأما إذا كان الفعل [مما] (¬1) لا يمكنه فعله إما لمنع الشرع منه لكونه قتل نفس أو شرب خمر. وإما لعدم القدرة عليه فإنه يوقف إذا حل الأجل أيضًا فإما بالوطء وإلا طلق عليه، ولا يمكن من البر بما لا يبيح الشرع من قتل أو شرب. وأما الوجه الثاني: إذا حلف بطلاق المؤلى منها فلا يخلو من أن يكون ذلك الطلاق ثلاثًا أو ما دون الثلاث: فإن كان ما دون الثلاث وقف إذا حل الأجل وقيل له: وفِّ على أن تنوى بباقى وطئك الرجعة. وإن كانت غير مدخول بها لأنها تصير مدخولًا بها بالتقاء الختانين ليخرج من الخلاف. فإن أبى من ذلك طلقت عليه بالإيلاء. وإن تزوجها بعد انقضاء عدتها رجع [عليه] (¬2) الإيلاء ما بقى من طلاق [ذلك] (¬3) الملك شىء. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: عليه. (¬3) سقط من هـ.

وإن كان الطلاق ثلاثًا مثل قوله: إن وطئتك فأنت طالق ثلاثًا، هل يكون مؤليا أم لا؟ على قولين منصوصين في "المدونة" [وعلى القول بأنه لا يكون مؤليًا هل يعجل عليه الطلاق بنفس اليمين أم لا؟ على قولين منصوصين في المدونة] (¬1): أحدهما: أن الطلاق واقع عليه بنفس اليمين، [وهو] (¬2) [ظاهر] (¬3) قول الرواة في "المدونة". والثانى: أن السلطان يطلق عليه بعدما ترفع أمرها إليه، وهذا القول مروى عن مالك في "المدونة". وعلى القول بأنه يكون مؤليًا، هل يضرب له أجل المؤلى أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تطلق عليه بعد الرفع ولا يضرب له أجل الإيلاء، وهذا القول متأول على "المدونة". والثانى: أنه يضرب له أجل المؤلى أربعة أشهر من يوم حلف، وهو نص قول مالك في "المدونة". وعلى القول بأنه يضرب له الأجل فإذا حل هل يمكن من الفيئة بالوطء أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يمكن من الوطء إذ باقى وطئها لا يجوز [له] (¬4) بناء ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: وهذا. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

على [أن] (¬1) النزع حرام، وهو قول بعض الرواة في "المدونة". والثانى: أنه يمكن من الوطء التام، وهو ظاهر قول ابن القاسم في هذا الكتاب، وفي "كتاب الظهار" من "المدونة"، ونص له في أصل "الأسدية". والثالث: أنه يمكن من [التقاء] (¬2) الختانين لا أكثر، وهذا القول مروى عن مالك. والرابع: أنه يمكن من جميع الوطء إلا الإنزال، وهو قول أصبغ. وسبب الخلاف: مذكور في "كتاب الظهار". وأما الوجه الثالث: إذا حلف بما ينعقد عليه بالحنث فيه حكم من الأحكام، مثل قوله: "إن وطئتك، فكل مملوك اشتريته من الفسطاط [حر] (¬3) ومثل قوله: والله لا أطأ امرأتى في هذه السنة إلا يومًا واحدًا أو مرة واحدة، أو يقول: إن وطئت امرأتى فهي علىَّ كظهر أُمىِّ، هل يكون مؤليًا أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المُدوّنة": أحدهما: أنه لا يكون مُؤليًا إلا بالشراء أو الوطء وهو قول ابن القاسم في "المُدوّنة". والثانى: أنَّهُ يكون مؤليًا بنفس اليمين، وقبل الملك والوطء إذ [لا] (¬4) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) سقط من أ.

يلزمُهُ بالوطء عقد يمين فيما يملك من رأس أو مال، وهو قول الغير في "المُدوّنة"، ولابن القاسم مثلَهُ أيضًا. وفائدة الخلاف وثمرته: هل ينعقد عليه اليمين بنفس الإيلاء ويكون للمرأة أن توقفه إذا مضت أربعة أشهر من يوم اليمين. أو لا ينعقد الإيلاء إلا بالوطء بعد الشراء؟. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: وهو ما كان بمعنى اليمين على ترك الوطء هو الإيلاء الداخل على [الظهار] (¬1) على سبيل [الإضرار] (¬2)، وقد تقدم الكلام فيها في مسألة [مفردة] (¬3) في كتاب الظهار". والجواب عن الوجه الثالث: وهو اليمين بالطلاق الذي يكون الحالف فيها على حنث وهو أن يقول: امرأتى طالق إن لم أفعل كذا وكذا، وذلك ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون ذلك الفعل ممَّا يُمكنُهُ فعلهُ. والثانى: أن يكون ذلك الفعل ممَّا لا يمكنه فعله في الحال ويمكنه في [الحال] (¬4) الثاني. والثالث: أن يكون ذلك الفعل مما لا يمكنه فعله لعدم الإمكان أو لمنع الشرع منه: فأما الأول: فيمنع فيه من الوطء من وقت اليمين فإن [طالبته] (¬5) ¬

_ (¬1) في أ: الظاهر. (¬2) في هـ: الإضطرار. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: طلبته.

[امرأته] (¬1) بذلك، ضرب له أجل الإيلاء هل من يوم الحلف أو من يوم الرفع؟ وإذا تبين الضرر تجرى [فيه] (¬2) هذه الأقوال الثلاثة التي أوردناها في "كتاب الظهار" وفيه يفعل ما حلف عليه وليس الفيئة بالوطء. وأما الثاني والثالث: فهو أن يكون الفعل ممَّا لا يمكنه في الحال ويمكنه في ثانى حال أو لا يمكنه بحال، مثل: "أن يحلف بطلاق امرأته ليَحُجَنَّ، ولم يُؤقت عامًا بعينهِ"، هل يكَون مؤليًا حين تكلَّم بذلك أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المُدوّنة": أحدها: أنه يكون مؤليًا حين تكلم بذلك وهو ظاهر قوله في كتاب في أول "كتاب الإيلاء" حيث قال: وسواءٌ كان ذلك الشىء ممَّا يقدر على فعله أم لا. وعليه تأوّل بعض شُيوخنا، وهو نص قوله في "العُتبية" كتاب "ابن سحنون": أنَّهُ يمنع من وطئها من حين حلف. والقول الثاني: أنه لا يكون مؤليًا ولا يمنع منها حتى يمكنه [الفعل] (¬3) فإذا أمكنه الفعل فعند ذلك يمنع من وطئها، وهو قول ابن نافع في "المُدوّنة" حيث قال: "وإن لم يمكنه فعل ما حلف عليه لم يحل بينهما ولا يُضرب له أجل المؤلى. فإذا أمكنه فعل ذلك حيل بينه وبينها". والقول الثالث: أنَّه لا يكون مؤليًا ولا يدخل عليه الإيلاء حتى يضيق ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فيها. (¬3) في أ: القول.

الوقت ويخشى فوات الحج، وهو ظاهر قوله في "المُدوّنة" في آخر المسألة: "إذا أمكنه وترك الخروج أو ترك الحج حتى جاء وقت إن خرج فيه لم يدرك الحج". فمن حينئذ يقال له: لا تصب امرأتك. فإن رفعت أمرها ضرب لها أجل الإيلاء. فإن فعل قبل الأجل ما هو بره ومخرجه [إلى] (¬1) الحج لم يكن عليه الإيلاء وهذا ظاهر وهو تأويل بعض المتأخرين. ويكون معنى قوله في "الكتاب" على هذا القول حتى جاء وقت إن خرج لم يدرك الحج. يعني على السير المعتاد ولكنه يدركه إذا جد [به] (¬2) السير وشق على نفسه [أدركه] (¬3). ويدل عليه قوله: فإن فعل ما هو بره من الحج، والخروج بر". والقول الرابع: أنه لا يمنع من الوطء فإن خرج وأحرم في الأجل لم تطلق عليه حتى يجىء وقتٌ يمكنه الخروج. فإن لم يفعل ذلك ولم يخرج حتى تم الأجل طلق عليه. وهذا تأويل بعضهم على ظاهر "المُدوّنة". وسبب الخلاف: اعتبار المقاصد والألفاظ. فمن اعتبر اللفظ قال: يكون مؤليًا [بنفس اليمين] (¬4). ¬

_ (¬1) في أ: من. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من هـ.

ومن اعتبر المقصد قال: يكون مؤليًا عند الإمكان أي إذا [أمكن] (¬1). والقولان الآخران مبنيان على المقصد أيضًا. وهذا التقييد قد احتوى على جملة مشكلات هذا الكتاب التي من جملتها: إذا حلف بطلاقها ثلاثًا إن وطئها. ومسألة: التي حلف بطلاقها البتة [ليحجن] (¬2)، ولم يسم العام بعينه. فهما من مشكلات "كتاب الإيلاء": فليكمل العدة قائمًا ويبنى على بقية العدد عليها بحمد الله وحسن عونه. ¬

_ (¬1) في ب: أمكث. (¬2) في أ: ليخرجن.

المسألة الثانية في أجل الإيلاء.

المسألة الثانية (¬1) في أجل الإيلاء. ولا خلاف في مذهب مالك رحمه الله أن أجل الإيلاء لا يكون دون أربعة أشهر، وإنما الخلاف عندما عندنا في الأربعة الأشهر هل يكون مؤليًا إذا حلف ألا يطأها أربعة أشهر أو لا يكون مؤليًا حتى يزيد عليها؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يكون مؤليًا إذا حلف ألا يطأ امرأته أربعة أشهر، وهو مشهور المذهب. والثانى: أنه يكون مؤليًا بالأربعة الأشهر، وهي رواية أشهب عن مالك وحكاه عبد الملك وابن نافع [وابن خويز منداد] (¬2) عن مالك أيضًا أن الطلاق يقع على المؤلى بمرور الأربعة الأشهر، وهو قول جماعة السلف، وهو مذهب أبى حنيفة. وسبب الخلاف: اختلافهم في المفهوم من قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا. .} هل أراد أن تكون الفيئة داخلة في الأربعة، أو هى بعد الأربعة؟ فمن فهم من الآية أن الأربعة الأشهر [أجل] (¬3)، لا يُزاد عليه، لنصه عَزَّ وَجَلَّ عليها بلا زيادة ولا نقصان، قال: الفيئة [داخلة] (¬4) في ¬

_ (¬1) في جـ، ع هـ: المسألة الثالثة ولكن الترتيب يقتضى أن تكون المسألة الثانية. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: داخل.

الأربعة ويجوز أن يكون بعد الأربعة، لأن ذلك زيادة على ما حد الله وقدره، والزيادة على مقادير الشريعة لا تجوز بغير دليل، [ومن فهم] (¬1) منها أن الأربعة الأشهر إنما جُعلت لأنها [مدة] (¬2) تستضر فيها الزوجة بعدم الوطء كل الضرر، ولا يعظم عليها فيها المضرة إلا بالزيادة عليها، قال: [الوقف] (¬3) إنما يكون بعد الأربعة الأشهر، كما هو مشهور مذهب مالك، وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عليه سأل النساء في المدينة في كم تشتاق المرأة إلى زرجها؟ وكم تقدر على الصبر [عنه] (¬4)؟ فقلن: "في شهرين، ويقلَّ الصبر في ثلاثة، ويفنى الصبر في أربعة أشهر"، فجعل رضي الله عنه [مغازى الناس] (¬5) أربعة أشهر. وعلى القول بأنه لا يكون مؤليًا إلا بزيادة على أربعة أشهر. وكم قدر تلك الزيادة؟ فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن زيادة اليوم تؤثر، وهو قوله في "كتاب محمَّد". والثانى: أن زيادة اليوم غير مؤثرة. والثالث: أنه لا يكون مؤليا بزيادة تكون مثل أجل التلوم، ولا شكَّ ولا خفاء أنه لابد من زيادة يمكن فيها الإنفاق، [ويحصل التأني] (¬6) للزوج [بين] (¬7) أن يفيء أو يطلق، وأدناه أن يكون ثلاثة أيام وهو أدنى ¬

_ (¬1) في أ: يفهم. (¬2) في ع، هـ: أمد. (¬3) في جـ: المؤلف. (¬4) في أ: منه. (¬5) في أ: المغازي. (¬6) في هـ: وتجعل فيه التبرى. (¬7) سقط من أ.

مدة الخيار في البيع. وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [تَرَبُّصُ] أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فالآية فيها تقدير مضمر، وتقديره للذين يحلفون على اعتزال نسائهم تربص أربعة أشهر، "فإن فاؤا" أي فإن رجعوا على ما حلفوا عليه من ترك الوطء، فإن الله غفور لهم ما اجترموه من الذنب في ترك الوطء، وقصدهم الإضرار بهن، [رحيم بهم] (¬1) ولسائر المؤمنين، "فإن عزموا [الطلاق] (¬2): أي فإن امتنعوا من الفيئة وعولوا على الطلاق فإن الله سميع للفظهم عليم بما في قلوبهم. وبهذه المعانى يستدل على أن الطلاق لا يكون بمضى الأربعة الأشهر، لأن "الفاء" في قوله تعالى: {فَإِنْ فاءُوا} للتعقيب. ولقوله أيضًا: {فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ولا يسمع إلا الأصوات. واختلفوا هل كل حالف على ترك الوطء يكون مؤليًا أو لا يكون مؤليًا إلا من قصد الضرر؟ على قولين قائمين من "المُدوّنة": أحدهما: أنه لا يكون مؤليًا إلا من قصد الضرر بترك الوطء، وأما من قصد [بذك الصلاح] (¬3) [فلا] (¬4) {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا}، وهو قول ابن القاسم في الذي حلف ألا يطأ امرأته، حتى تفطم ولدها، قال: لا يلزمه الإيلاء لأنه إنما قصد صلاح ولده. والقول الثاني: أنه يكون مؤليًا سواء قصد [إلى] (¬5) الصلاح أم لا ¬

_ (¬1) في أ: غفور لهم. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع: تقديم وتأخير. (¬4) سقط من ع. (¬5) سقط من أ.

وهو ظاهر قوله آخر "الكتاب" في المريض الذي حلف ألا يطأ امرأته حتى يبرأ من مرضه، فقال هو مؤلٍ، ومعلوم أن المريض إنما قصد صلاح نفسه، ومن قصد صلاح نفسه أعذر ممن قصد صلاح غيره، والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة فيما تكون به فيئة المؤلى،

المسألة الثالثة (¬1) فيما تكون به فيئة المؤلى، وقد وقع في الكتاب ألفاظ مضطربة ومعان مختلفة تشعر بالخلاف. ونحن [لكل] (¬2) ذلك واضحون بحمد الله وعونه، فنقول وبالله التوفيق: ولا يخلو من أن يكون يمين المؤلى بالله تعالى أو بغيره فإن كانت يمينه بالله تعالى، فلا يخلو من أن يعلقها بفعل أو لا يعلقها بشىء. فإن علقها [بفعل] (¬3) مثل أن يحلف بالله ألا يطأ حتى يدخل الدار أو حتى يخرج إلى بعض البلدان، ففيئه هاهُنا الفعل مع التمكين. فإن أطلق بيمينه، فهل تصح [فيئته] بتقديم الكفارة على الوطء [أم لا] (¬4)؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "الكتاب": أحدهما: [أنها] (¬5) تصح، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنها لا تصح بتقدم الكفارة حتى يطأ، وهو قول الغير في "المُدوّنة" ولابن القاسم مثل قول غيره في "المُدوّنة"، وذلك أنه قال في المريض إذا فاء بلسانه أجزأه. وقد اختلف في ذوي الأعذار هل يقبل منهم الفيئة باللسان مع القدرة ¬

_ (¬1) في جـ، ع، هـ: "المسألة الرابعة". والذي يقتضيه الترتيب أن تكون هذه هي المسألة الثالثة. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: بشيء. (¬4) سقط من ألف. (¬5) في أ: أنه.

على الكفارة إن كانت يمينه بالله تعالى؟ على قولين قائمين من "المُدوّنة": أحدهما: قول ابن القاسم أنها تقبل منهم، وهو قوله في المريض. والثانى: أنها لا تقبل منهم, لأنه قادر على أن يكفر، وهو قول مالك في "الكتاب" في [الغائب] (¬1). فإن كانت يمينه بغير الله تعالى، كالعتق والصدقة والطلاق، فلا يخلو ما حلف به من أن يكون معينًا أو مضمونًا. فإن كان معينًا وكان الطلاق بتاتًا في غير المؤلى منها، [فلا خلاف] (¬2) عندنا أن الفيئة تصح بفعل ما حلف على فعله إن كان له عذر فإن لم يكن له عذر فقولان: أحدهما: أنه كالمعذور، وهو قوله في "الكتاب". والثانى: أن فيئته الوطء دون [فعل] (¬3) ما حلف على فعله وهو قول عبد الملك في "الواضحة"، ومثله في "المختصر". وإن كان غير معين أو كان الطلاق دون البتات في غير المدخول بها، فهل تصح الفيئة بفعل ذلك دون الوطء أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المُدوّنة": أحدهما: أن الفيئة تصح به دون الوطء، وهو قوله في آخر "كتاب الظهار" من "المُدؤنة" في الذي حلف بعتق رقبة أن لا يطأ أهله فعتق الرقبه لإسقاط الإيلاء، أتراه مجزئًا عنه ولا إيلاء عليه؟ قال: نعم، وهو قوله في "كتاب محمَّد". ¬

_ (¬1) في أ: الغاية. (¬2) في أ: فلا يخلو. (¬3) سقط من أ.

والثانى: أن فيئته لا تصح إلا بالوطء دون فعل ما حلف على فعله، وهو قوله في "كتاب الإيلاء" لاحتمال أن يفعل ذلك عن شىء قد سلف. والحمد لله وحده [تم الكتاب بحمد الله وعونه وصلى الله على محمَّد خاتم النبيين وإمام المرسلين] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ع.

كتاب اللعان

كتاب اللعان

كتاب اللعان تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها مسألتان: المسألة الأولى [في حده] (¬1) وهو مأخوذ من اللعنة وهو الإبعاد، أعاذنا الله وإياكم من الإبعاد. وسمى بذلك لأن الزوج يخمس بها، وهي التي تبعده [عن] (¬2) العذاب الواجب عليه بالقذف. وسمى بذلك لتباعد ما بين الزوجين، إذ لا تحل له أبدا بعد أن كانت [أقرب] الناس إليه. والكلام في هذه المسألة في أربعة مواضع: أحدها: في صفة اليمين. والثانى: في المبدى باليمين. والثالث: متى تنقطع العصمة بينهما؟ والرابع: في الفرقه بينهما، هل هى [فسخ] (¬3) أو طلاق؟ فأما الموضع الأول: في صفة [أيمان اللعان] (¬4)، وصفتها كصفة سائر الأيمان بالله تعالى. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ع، هـ. (¬2) في هـ: من. (¬3) في أ: فتح. (¬4) في أ: أيمانها.

واختلف إذا قال: أشهد بالله دون أن يزيد عليها الذي لا إله إلا هو، هل يُجزئُهُ أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنَّه يجزئه، وهو قوله في "المُدوّنة". والثانى: أنه لا يجزئه، وهو قول "أشهب". وكذلك إذا حلف بالصفات، هل هو كالحالف بالذات أم لا؟ على قولين: مثل قوله: أشهد بعلم الله فأشهب يمنعه، وابن القاسم يجيزه. وكذلك إذا جعل [من] (¬1) موضع "إِنه لمن الصادقين" ما هو من الكذابين، هل يجزئه أو لا؟ على قولين [أيضًا] (¬2). ظاهر "المُدوّنة" الجواز، وهو قوله في "كتاب محمَّد"، وقال القاضى أبو محمَّد عبد الوهاب: النظر، بمقتضى ألا يجوز. واختلف إذا قذفها برؤية، هل يصف نفسه بالصدق ويصف الزنا أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يحتاج إلى صفة الزنا ولا إلى صفة نفسه بالصدق، وهو ظاهر "المُدوّنة". والثانى: أنه لابد من أن يقول: وإنى لمن الصادقين، لرأيتها تزنى كالمرود في المكحلة، وهو قول ابن القاسم في وصف نفسه بالصدق في "كتاب محمَّد"، وهو قول محمَّد أيضًا في "كتابه" في صفة الزنا قال: وهو قول مالك وجميع أصحابه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وإن كان في لعانه ينفى الحمل، هل يقتصر على مجرد القذف أو لابد من إضافة نفى الحمل إليه؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن يقول: أشهد بالله [أنها] (¬1) زنت، دون أن يصف شيئًا وهو مذهبه في "المُدوّنة". والثانى: أنه لابد أن يضيف إليه: ما هذا الحمل مني، وهو قول ابن القاسم في "كتاب محمَّد". والموضع الثاني: من المبدى [باليمين] (¬2) من الزوجين: ولا خلاف أعلمه في المذهب أن المبدى باللعان هو الزوج، لقوله تعالى: {وَالَذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ. .} الآية. فإن كان هذا عكسًا للأصول، والأصول [موضوعة] (¬3) على أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، كما نص عليه الشارع، إلا [أن] (¬4) أيمان اللعان وأيمان القسامة قد بدأ فيها بأيمان المدعين والحكمة في ذلك صيانة الدماء والأنساب، فكانت أيمانهم تقوم مقام البينة لتعذر الشهود على دعواهم. واختلف إذا بدأت المرأة باللعان على الزوج، هل يعاد لعانها أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن اللعان لا يعاد عليها, ولا على الطالب في الحقوق، وهو قول ابن القاسم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: باللعان. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

والثانى: أنه يعاد عليها باللعان بعد لعان الزوج، وهو قول أشهب. وقال أبو القاسم بن الكاتب: قول أشهب أحسن, لأن لعانها إنما تدرأ به [عنها] (¬1) ما يجب عليها [من العذاب] (¬2) بالتعانه. واختلف إذا نكلت عن اللعان بعد لعان الزوج، ثم أرادت أن تلاعن بعد نكولها فبين المتأخرين قولان: أحدهما: أن لها [معاودة اللعان] (¬3) كما [لها] (¬4) الرجوع عن الزنا إذا أقرت به على نفسها، وهو قول أبى بكر بن عبد الرحمن، وأبى على ابن خلدون وغيرهما. والثانى: أنها لا تمكن من اللعان بعد نكولها لما يتعلق للزوج عليها في ذلك من الحق، وهو قول أبى القاسم بن الكاتب، وأبى محمَّد بن اللؤلؤى وأبى عمران الفاسى رضي الله عنهم أجمعين. وأما الموضع الثالث: متى تنقطع العصمة بينهما؟ هل بتمام لعان المرأة أو بتمام لعان الزوج إذا [التعنت] (¬5) الزوجة؟ فلا خلاف أعلمه في المذهب في الزوج إذا مات قبل أن يتم لعانه أو ماتت المرأة أن الميراث بينهما ثابت والعصمة بينهما قائمة. واختلف المذهب عندنا إذا مات أحدهما بعد تمام لعان الزوج، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: معاودته. (¬4) في أ: له. (¬5) في أ: لعنت.

وقبل أن تلتعن هى، هل يتوارثان أم لا؟ [فالمذهب] (¬1) على ثلاثة أقوال [كلها قائمة من المدونة] (¬2): أحدها: أن التوارث بينهما قائم، وهو مشهور المذهب، وهذا القول قائم من "المُدوّنة" من قوله: إذا كذب الزوج نفسه، [قد] (¬3) بقى من التعان الزوجة مرة واحدة أنه يجلد الحد، وكانت امرأته. فعلى هذا إذا مات الزوج بعد أن التعن، وقبل أن تلتعن هى فإنها ترثه، التعنت [بعده] (¬4) أو لم تلتعن، وهو قول مطرف، واختيار ابن حبيب. والثانى: أنهما لا يتوارثان، وأنه بتمام لعان الزوج: تنقطع العصمة [بينهما] (¬5)، وهو قول سحنون فى "العتبية إذا لاعن الزوج ونكلت المرأة ثم أكذب الزوج نفسه، قال: لعانه، قطعًا لعصمته ولا ميراث بينهما، ونحوه لأصبغ في "العتبية": في التى تزوجت في عدتها، فتأتى بولد، فلاعن الزوج أنها تحرم للأبد على الذي لاعنها ولم تلاعنه، وهو ظاهر قولُ مالك في "المُوطأ"، ونص كلامه فيه، قال مالك في الرجل يلاعن [امرأتهُ] (¬6) فينزع ويُكِّذب نفسه بعد يمين أو يمينين ما لم يلتعن في الخامسة أنه إذا [نزع قبل أن تلتعن جلد الحد ولم يفرق بينهما. وقوله ما لم تلتعن في الخامسة مفهومه أنه إذا] (¬7) التعن فيها فرق بينهما، ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: قد. (¬4) في أ: بعدها. (¬5) سقط من هـ. (¬6) في ب: زوجته. (¬7) سقط من أ.

وهو قول [عبد الله بن عمرو بن العاص] (¬1) في أثر "المُدوّنة"، وهو مذهب الشافعى رحمهُ الله. والقول الثالث: [أنها] (¬2) إن ماتت بعد لعان الزوج، وقبل لعانها هى ورثها. وإن مات هو بعد أن التعن، فإن لاعنت فلا ميراث لها وإن لم تُلاعن فإنَّها ترثه وتحد، وهو نص "المُدوّنة". والموضع الرابع: في [الفرقة] بين المتلاعنين، هل هى فسخ أو طلاق؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المُدوّنة": أحدهما: أن الفرقة بين المتلاعنين فسخ لا طلاق، وهو مشهور المذهب. [والثانى] (¬3): [أنها] (¬4) فسخ بطلاق، وهذا القول متأول على "المذهب"، ولابن نافع في "كتاب ابن مزين"، ولعيسى: أحبُ للزوج أن يطلقها بعد تمام اللعان ثلاثًا، كما جاء في الحديث، فإن لم يفعل فهو فراق ولا تراجع واختارهُ ابن لُبابة، ورأى لهُ الرجعة بعد زوجٍ مع كراهيته لهُ في ذلك، وهذا القول قائم من "المُدوّنة" [من قوله] (¬5) في غير المدخول بها إذا جاءت بولدٍ لستَّة أشهر، وادعت أنهُ من الزوج وأنكرهُ الزوج، حيث قال: إنهما يتلاعنان، ولها نصف الصداق. وقال ابن الجلاب: لا شىء لها من الصداق. ¬

_ (¬1) في أ: عبد الله بن عمر والصواب ما أثبتناه من هـ. انظر المدونة (2/ 352). (¬2) في أ: أنه. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، جـ: أنه. (¬5) سقط من أ.

وقد اختلف المتأخرون في تأويل ما وقع له في "المُدوّنة" على أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك يتخرج على الخلاف عندنا في اللعان، هل هو فسخ أو طلاق؟ فإثباتهِ فيهِ الصداق يدل على أنه طلاق. وقد يحتج قائلُ هذا بقوله في "الكتاب": لأنها [في] (¬1) عدة منه، وهى مبتوتة. والثانى: أنها أثبتت الدخول بأيمانها، والزوج نفاهُ بأيمانه، فتساوت [الدعاوى] (¬2) في الصداق، فقسم بينهما كما لو تعارضت الشهادتان والأيمان في اللعان مقام الشهادة. واعترض على هذا التأويل بأن مجرد دعواه هو لو لم يكن لعانًا يوجب له نصف الصداق، ودعواها هى توجب لها جميعه، فلم تعدل القسمة بينهما على النصف. والقول الثالث: أنا إذا لم نعلم صدق الزوج، ويتهم أنه أراد أن يطلقها وتحريمها باللعان ليسقط عن نفسه الصداق ألزمناه نصفه إذا حلف على نفى الدخول. والقول الرابع: أن ذلك لاختلاف الناس في اللعان، هل هو فسخ أو طلاق؟ فأوجب لها نصف الصداق [مراعاة للخلاف] (¬3). وربك أعلم [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الدواعى. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من جـ.

المسألة الثانية إذا ادعى رؤية لا مسيس بعدها ولم يدع

المسألة الثانية إذا ادعى رؤية لا مسيس بعدها ولم يدع الاستبراء أو ادعاه على ما في الكتاب من الاضطراب واختلاف القول، واختلاف المتأخرين في تحصيل ذلك، ومعناه. فمنهم من قال: جميع ما فى الكتاب يرجع إلى قولين: أحدهما: أن الولد بقى باللعان الأول جملة. والثانى: بالتفصيل بين أن تأتى به لأقل من ستة أشهر، فيكون للفراش أو تأتى به لستة أشهر فأكثر، فيكون [للرؤية] (¬1)، فينفى [الولد] (¬2) باللعان [الأول] (¬3)، وصار قوله ومرة قال بنفيه وإن كانت حاملًا تكرارًا لا يفيد. وإلى هذا التأويل ذهب ابن لبابة. وقيل معنى قوله: تنفيه وإن كانت حاملًا بلعان ثان، وهو قوله في باب لعان الأخرس على الرواية بإثبات الواو، في قوله، ويكون [اللعان إذا قال ذلك والذي كان نفيًا للولد ويؤخذ من قوله في الباب المذكور] (¬4) أيضًا، أن الذي كان لما ادعى الاستبراء بعدما وضعته، فقد قال نفيًا للولد، فلما استلحقه وأكذب نفسه في الاستبراء صار قاذفًا. ويؤخذ أيضًا من قوله هذا "صار قاذفًا أن من قذف زوجته بعد تمام ¬

_ (¬1) في أ: للزوجة. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

اللعان: أنه يحد، والخلاف فيه في المذهب. فعلى هذا التأويل: يرجع ما في "الكتاب" إلى ثلاثة أقوال: أحدها: [مرةً] (¬1) ألزمه الولد على التفصيل المتقدم. والثانى: أنه ينفيه باللعان الأول. والثالث: أنه ينفيه بلعان ثان، وإن لم يدع الاستبراء، وهو قول [محمد بن عبد الحكم] (¬2) وأصبغ في [غير "المُدوّنة"] (¬3). وقيل: أن ما في الكتاب يرجع إلى أربعة أقوال. ويستخرج القول الرابع من قوله في "الكتاب" ومرة [ألزمه] (¬4) الولد [بلا تفصيل] (¬5) بين أن تأتى به لأقلِّ من [سته أشهر] (¬6) أو لأكثر، ولا [ينفعه] (¬7) اللعان لأنه لم يدّع الاستبراء، وهو قوله في "كتاب محمَّد"، ولعبد الملك وأشهب نحوه. ثم اختلف على هذا التأويل في معنى قوله: ينفيه وإن كانت حاملًا، هل هو مقر بالحمل، علم به أو لم يعلم بذلك إلا [بعد الوضع] (¬8)؟ واختلف في تأويل [قول] (¬9) المخزومي الواقع في الكتاب على ثلاثة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: عبد الملك. (¬3) في هـ: المدونة. (¬4) في أ: ألزمت. (¬5) في أ: بالتفصيل. (¬6) سقط من هـ. (¬7) في أ، جـ: ينفيه. (¬8) في أ: بالوضع. (¬9) سقط من أ.

أقوال: أحدها: [أنه] (¬1) سواءٌ علم الزوج [بالحمل] (¬2) أو لم يعلم، أقر بالحمل أم لا، وهو نص قوله في كتاب محمَّد، لأن الزوجة كانت مأمونة عنده على فراشه. فلما اطلع على خيانتها: صح له نفى ما كان أمر به، إذ لا يؤمن [أن يكون] (¬3) ذلك عادةً لها قبل ذلك، ويدل عليه من قول المخزومي في الكتاب، وقد أقر بالحمل. [والثانى: أن معنى قول المخزومي] (¬4): إذا لم يعلم بالحمل وعليه يدل تفسيره آخر كلامه، ويكون معنى قوله: [وهو] (¬5) أقر بالحمل أي بالوطء، [من باب] (¬6) تسمية الشىء بما يكون منه، وهو اختيار الشيخ أبى القاسم [بن محرز] (¬7). والثالث: أن معنى قوله: [وقد] (¬8) اعترف بالحمل أي اعترف به حين وضعته، أنها كانت حاملًا، وأنها [ولدته] (¬9) ثم ينظر إلى [مدة] (¬10) الوضع، وإن [كان] (¬11) لسته أشهر أو لأقل. هو تأويل التونسى، وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من هـ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ. (¬9) في أ: ولدت. (¬10) في ب: أمد. (¬11) في أ: كانت.

أضعف التأويل. فيأتى على [قول] (¬1) المخزومى ثلاث تأويلات: الاعتراف بالحمل والاعتراف بالوطء والاعتراف به [حين] (¬2) الوضع لا حين اللعان. والحمد لله. [تمت رزمة الأنكحة بحمد الله وحسن عونه يتلوه رزمة العبيد إن شاء الله] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ، جـ: تأويل. (¬2) في أ: يوم. (¬3) زيادة من جـ، ع، هـ.

كتاب العتق الأول

كتاب العتق الأول

كتاب العتق الأول تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها [إحدى عشرة] (¬1) مسألة: المسألة الأولى في اشتقاق العتق، والأسباب التى يلزم بها. والعتق عبارة عن ارتفاع الملك عن العبد، ولذلك سميت الكعبة بالبيت العتيق, لأنه لم يملكه أحد من الجبابرة. وقد يكون اشتقاق العتق من الجود والكرم، منه سمى الفرس العتيق إذا كان سابقًا، وعتق الرجل كرمه، فكان العبد لما زال عنه الرق، ولحق بالأحرار وتم فصله سمى عتيقًا. وهو من أفضل أعمال البشر، وأجل نوافل الخير، وهو ينقسم إلى: واجب وتطوع. فالواجب قد يكون بعشرة أسباب: السبب الأول: بالتزام الرجل ذلك نفسه، وتبتله عتق عبده ابتداءً. والسبب الثاني: أن ينذر ذلك بأمرٍ كان أو يكون أو بالحنث أو غيره. والسبب الثالث: أن تحمل [أمَتَهُ منهُ] (¬2). والرابع: أن يعتق بعض عبده، فيُكمل عليه باقيهِ. والخامس: أن يُمثل بعبده مثلة ظاهرة. ¬

_ (¬1) في أ: أحد عشر. (¬2) في هـ: تقديم وتأخير.

والسادس: أن يقتل نفسًا خطأ. والسابع: وطء المتظاهر. والثامن: كتابة العبد. والتاسع: مقاطعة العبد على مال. والعاشر: أن يعتق عليه. وأما التطوع فهو ما يوافقه الإنسان ابتداءً من غير تقدم سبب أوجبه. واختلف فيما إذا كان ينذر من غير سبب، كقوله: لله علىَّ عتق رقيقى [هل] (¬1) الأصل يجبر على عتقهم أو يؤمر؟ قولان قائمان من "المُدوّنة": أحدهما: أنه يؤمر، ولا يخير، وهو قوله في "كتاب العتق الأول". والثانى: أنه يجبر، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الهبات"، إذا تصدق على معين في غير يمين، حيث: قال إنه يجبر والمتصدق عليه معين في غير يمين في كلا الموضعين، وهو قول أشهب في "مسألة العتق" في غير "المُدوّنة". وقد قيل: "إن ذلك اختلاف يرجع إلى حال، وأن ابن القاسم إنما قال: يؤمر إذا قال: أنا أفعل، لينال مقصودة من الأجر والقربة لأن الخبر ينافى الثواب المترقب، حتى إذا ظهر وتحقق أنه لا يفعل فخير حينئذٍ، كما قال أشهب. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: هو.

المسألة الثانية إذا قال: عبيدى أحرار، ففى ذلك ثلاثة أسئلة

المسألة الثانية إذا قال: عبيدى أحرار، ففى ذلك ثلاثة أسئلة: الأول: إذا قال: رقيقى أحرار. والثانى: إذا قال: ممالكى أحرار. والثالث: إذا قال: عبيدى أحرار. فالجواب عن السؤال الأول: إذا قال: رقيقى أحرار، فلا خلاف عندنا في المذهب أن الإناث يدخُلن تحت لفظه، إذ ليس في كلام العرب صيغة ينفردن بها في هذا اللفظ، فإذا قال: رقيقى أحرار عتق عليه جميعُ ما عندهُ مِن الذُكران والإناث، ولا يصدق إذا ادعى أنهُ أراد الذكران دون الإناث. والجواب عن السؤال الثاني: ممالكى أحرار هل [يتناول] لفظه [الذكور] (¬1) [و] (¬2) الإناث أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن الإناث يدخلن تحت لفظه، وهو قوله في "المُدوّنة". والثانى: أن الإناث [لا] (¬3) يدخلن، وأن اللفظ لا يتناولُهُنَّ. والقولان لسحنون في "العُتبيَّة". وسبب الخلاف هل تغلب الدلالة العُرفية على الدلالة الوضعية أم لا؟ و [ذلك] (¬4) أن عرف الاستعمال في المماليك يشمل الذكور والإناث، ¬

_ (¬1) في جـ، ع، هـ: الذكران. (¬2) في أ: دون. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

حتى [لا يعقل] (¬1) من لفظ [من تلفظ] (¬2) [بهذا] (¬3) إلا العموم والشمول. وأما الدلالة الوضعية: [فمعلوم] (¬4) من مواصفات العرب، إفراد كلِّ واحدٍ بصفته، فنقول: مملوك ومملوكة، وهذا على القول بأن اللغة [إنما] (¬5) تؤخذ اصطلاحًا، وهي مسألة اختلف فيها الأصوليون. والجواب عن السؤال الثالث: إذا قال عبيدى [أحرار] (¬6) فهل يندرج الإناث تحت [اللفظ] (¬7) أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين في "المُدوّنة": أحدهما: [أن الإناث] (¬8) لا يدخُلن تحته، وهو ظاهر قوله في "كتاب العتق الأول" حيث قال: "كل عبدٍ اشتريته أو كل جارية" اشتريتها، فهي حرة، وهو ظاهر قوله في "كتاب الصيام" من "المُدوّنة" [في قوله] (¬9) شهادة العبيد والإماء، هل تجوز بانفراد كل واحد منهما بصيغته، ويشهد لهذا القول منِ كتاب الله تعالى: {مِنْ عِبَادِكم وَإِمَائِكُمْ}، وقال أيضًا: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221]. والقول الثاني: أن الإناث يدخلن تحت لفظة العبيد، وهو ظاهر قوله في ¬

_ (¬1) في هـ: لعقل. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ، جـ: بها. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: الذكران. (¬8) في أ: أنه. (¬9) سقط من أ.

"كتاب القذف" من "المُدوّنة": في العبد والأمة إذا أُعتقا، فقال لهما رجل: زنيتما في حال العبودية، حيثُ قال: لا حدَّ عليه إذا أقام البينة أنهما زنيا، وهما عبدان، ويدلُّ عليه من كتاب الله تعالى قولهُ: وما ربك بظلام للعبيد ولا خلاف بين الأمة أن ذلك عام في الجميع، ومصداق ذلك أيضًا أن العرب تقول للأمة عبدة. ولهذا اتفق العلماء في قوله عليه السلام "من أعتق شركًا له فى عبد" أن الأمة في معنى العبد، إما لاشتراكهما في [الصفة] (¬1) كما قال بعضهم، وإما لكونه قياسًا على الأصل، وهو مذهب حُذَّاق الأصوليين. [وإلى] (¬2) أن لفظ [العبيد] يتناول الذكور والإناث ذهب فضل بن سلمة واعتمد ما استقرأ من "كتاب القذف"، ولا معتمد له فيه، [لأن قوله] (¬3): وهما عبدان من باب تغليب المذكر على المؤنث إذا اجتمعا. وسبب الخلاف: ما تقدم من الدلالة العرفية والوضعية أيهما يغلب. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: الصيغة. (¬2) في هـ: على. (¬3) سقط من أ.

المسألة الثالثة إذا قال: كل عبد أملكه أو أشتريه فهو حر ولا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه

المسألة الثالثة إذا قال: كل عبدٍ أمْلُكُه أو أشتريه فهو حُر ولا يخلو ذلك من ثلاثة أوْجه: أحدها: أنْ يُعبر بلفظ الاستقبال. والثانى: أن يعبر بلفظ يقتضى [الحال] (¬1). والثالث: أن يعبر بلفظ مشكل [مضارع] (¬2) للحالتين. فأمَّا الوجهُ الأول: إذا عبر بلفظ يقتضى الاستقبال أو [ما] (¬3) في معناه، مثل قوله: كلُّ عبدٍ أملكُهُ فيما أستقبل. أو غدًا أو أبدًا، وقال: أكتسبهُ أو أستفديه أو يدخُل في ملكى أو أملكه إلى شهر أو سنة. فلا خلاف في هذا الوجه أنَّهُ لا يدخل فيه ما في ملكه، وإنما يلزمه في الاستقبال [مع] (¬4)، التخصيص إمَّا بالزمان أو بالبلدان وإما بالجنس والأعيان، [ويسقط] (¬5) مع الشمول والعموم, لأن ذلك من باب تضييق الواسع وسد باب الإباحة. وأما الوجه الثاني: إذا عبر بلفظ الحال، مثل قوله: كل عبد أملكه الآن، أو ملكته، أو في ملكى، أو تحت يدي، أو عبدي، أو عبيدي، أو مماليكي، أو رقيقي، فلا خلاف في المذهب أنهم يدخلون في اليمين ويعتقون عليه، دون ما يستأنف تملكه بعد اليمين. وأما ¬

_ (¬1) في أ: الاستقبال. (¬2) في أ: مطاوع. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: وليقص.

الوجه الثالث: إذا عبر بلفظ مشكل مضارع للحالتين حالة الماضي وحالة الاستقبال. والمضارع في وضع اللغة: المشابهة، كقوله: كُلَّ عبد أملُكُهُ أو أشتريهِ، هل يختص بالحال أو بالاستقبال أو يعم الوجهين؟ فعلى هذا الاحتمال تتخرج أجوبة الكتاب، وعليه يتنزل تأويل ما تأول فيه من الاضطراب، هل إنما اختلف الجواب لأجل اختلاف السؤال أو لأجل اختلاف الأحوال أو إنما هو اختلاف أقوال؟ فمرَّه جعله للحال خصوصًا، وهو قوله: [إذا قال: إن: دخلت الدار فكل مملوك أملكه أبدًا فهو حرٌّ فدخلها فقال: يعتق عليه إذا حنث إلا فيما عنده يوم حلف ومرة جعله للاستقبال [خصوصًا] (¬1) وهو قوله] (¬2). إن كلمت فلانًا أبدًا، فكل مملوك أملكه من [الصقالبة] فهو حر، قال: فذلك عليه عند مالك إذا كلم فلانًا، فكل مملوك يملكه بعد ذلك من الصقالية حر، قال: ذلك عليه عند مالك إذا كلم. وقوله: "بعد ذلك" يريد بعد يمينه، يشعر بأنه لا شىء عليه فيما عنده من الصقالبة قبل يمينه، وهذا ظاهر قوله في "الكتاب". ومرةً يرى أن قوله: أملُكُهُ أو أشتريه يعم الوجهين وهو قوله في "الكتاب" إذا قال: كل عبد أملكه فهو حر. أو قال: كل جاريةٍ أشتريها فهي حرة. فلا شىء عليه, لأنه قد عم ومفهوم قوله: أنه لو خص ذلك بزمان أو بمكان أو بجنس للزمه العتق فيما عنده قبل يمينه، وفيما يملكه بعد ¬

_ (¬1) في هـ: خلوصًا والمثبت من جـ وهو الصواب. (¬2) سقط من أ.

يمينه. وعلى هذا تأويل بعضهم "مسألة الصقالبة" وقال: معناها لم يكن عنده صقلبى، ولو كان عنده لعتق. ومن المتأولين من جعل ما في الكتاب اختلاف سؤال، وأن الأبد عند مالك عائد على دخول الدار، وعند أشهب عائد "على الملك وإن كان كل واحد منهما تكلم على ما لم يتكلم عليه الآخر، ولاسيما [على نقل أبى سعيد] (¬1) [البراذعى] (¬2) [في التهذيب] (¬3). وفي الرواية الصحيحة, رواية يحيى بن عمر أن "أبدًا" في الدخول لا في الملك، وأنه لا تأثير له في الفقه أيضًا في إثباته الدخول ولا في إسقاطه، وإنما تأثيره إذا كان عائدًا على الملك في الإثبات والإسقاط. وهكذا اختلفت أجوبة ابن القاسم في "المُدوّنة" أيضًا في دخول الدار. وكلام زيد في مسألة الصقالبة: إما أن يحمل على أنه اختلاف سؤال. وفي بعض روايات "المُدوّنة": فكل مملوك أملكُهُ بعد ذلك. حكاها ابن أبي زمنين، فعلى هذا يكون اختلافُ سؤال فلا إشكال، ويحمل على أنهُ اختلاف [حال] (¬4) [على] (¬5) الرواية المشهورة، كُلَّ مملوك أملُكُهُ مِن الصقالبة بهد ذلك. بإسقاط "بعد ذلك" الذي هو للاستئناف. أو يحمل [جوابه] (¬6): في "مسألة الصقالبة" على أنه لم يكن عنده ¬

_ (¬1) في هـ: على ما نقل أبو سعيد. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: في. (¬6) في أ: قوله.

يوم اليمين عبد صقلبى، ولو كان عنده لعُتق مع ما يملكه في المستقبل لأنَّ يمينه على الخصوص، كما لزمهُ العتق فيما عنده في مسألة الدخول، وإلى هذا التأويل مال أكثر شيوخ المتأخرين. ومنهم من حمل الكلام على ظاهره، وجعل ذلك اختلاف قولٍ واضطراب رأى، وهو الصحيح، وهو مذهب سحنون فيها أملكُهُ أن ذلك للاستقبال. فيتحصَّل مِن الكتاب على هذا التأويل إذا قال: كُلُّ عبد أملكه أو أشتريه، ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ للحال خاصة، وهو قوله في مسألة الدخول. والثانى: أنَّهُ للاستقبال مجردًا، وهو قولُهُ في مسألة الصقالبة. والثالث: أنه للعموم في الحال والاستقبال، وهو قوله في "الكتاب" كُلُّ عبد أملكه أو كل جارية أشتريها فهي حُرَّة، [حيث] (¬1) قال: لا شىء عليه, لأنَّهُ قد عمَّ. وظاهر قوله أنَّهُ لا شىء عليه لا في الحال ولا في الاستقبال. [لأجل العموم. مفهومه أنه لو خص ألزمه فيما عنده وفيما يملك] (¬2) والحمد لله وحده على كل حال. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

المسألة الرابعة إذا قال: إن كلمت زيدا، فعبدى فلان حر.

المسألة الرابعة إذا قال: إن كلمت زيدًا، فعبدى فلان حر. فلا يخلو من أن يحنث قبل أن يخرجه من ملكه أو بعد أن أخرجه من ملكه. فإن حنث قبل أن يخرجه من ملكه عتق عليه، بلا خلاف. فإن حنث بعد أن أخرجه من ملكه، ثم عاد إليه بعد ذلك، فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يخرج العبد من يده اختيارًا [وعاد إليه اختيارًا] (¬1). والثانى: أن يخرج من يده اضطرارًا، وعاد [إليه] (¬2) اضطرارًا. والثالث: أن يخرج من يده اضطرارًا، وعاد إليه اختيارًا. والرابع: أن يخرج من يده اختيارًا، وعاد إليه اضطرارًا. فالجواب عن الوجه الأول: إذا خرج من يده من يده اختيارًا، وعاد إليه اختيارًا مثل: أن يبيعه ثم اشتراه ثم كلم زيدًا، هل يعود عليه اليمين أم لا فالمذهب على قولين قائمين من "المُدوّنة": أحدهما: أن اليمين ساقط عنه ولا يعود إليه، لزوال الملك الأول الذي وقع فيه اليمين، [وهو قول ابن بكير] (¬3)، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الأيمان بالطلاق" فيما إذا حلف بطلاق امرأتهُ البتة إن فعل كذا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ.

وكذا، فطلقها ثلاثًا، ثمَّ تزوجها بعد زوج، ثم فعل ما حلف عليه أن اليمين ساقط عنه لزوال الملك الذي فيه. والثانى: أنَّ اليمين يعود عليه، وهو نصُّ قول ابن القاسم في الكتاب. وسبب الخلاف: هل يُتَّهم السيد في إخراج العبد من ملكه في الفرار من الحنث أم لا؟ فابن القاسم اتَّهمه أن يتواطئ مع المشترى فيما أظهراهُ من صورة البيع، ليسلم من الحنث، ولهذا فرق بين البيع والميراث. وابن بكير لم يتهمه لضعف الأسباب المؤثرة في قيام التهمة، بل لعدمها جُملةً. فإذا كانت التهمة في أن يتفق البائع والمشترى فيما أظهراهُ من البيع، وأين التهمة إذا مات المشترى، ثُمَّ اشتراه البائع من ورثته أو تداولته الأملاك في حياة المشترى الأول [حتى] (¬1) اشتراه الحالف البائع من آخرهم مع طول الزمان. وهذا كُلَّهُ يؤخذ [من] قول ابن القاسم في مراعاة التُّهمة، وبهذا وأمثاله صار قول ابن بكير أصح من قول ابن القاسم في المسألة، وأن التهمة لو كانت محققة لحنث إذا كلم زيدًا، والعبد في ملك غيره، ولأن العبد لم يخرجه [ذلك] (¬2) من ملكه. والجواب عن الوجه الثاني والثالث: إذا خرج من يده اضطرارًا واختيارًا، وعاد إليه اضطرارًا [أو اختيارًا] (¬3) مثل أن يبيعه الحالف باختياره أو باعه ¬

_ (¬1) في أ: ثم. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

عليه [الإِمام] (¬1) في فلس ثم ورثه بعد ذلك، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يصير له من الميراث مقاسمة، أو اشتراه من تركة من هو وارثه. فإن أخذه في سهمه في المقاسمة: فلا خلاف أن اليمين ساقط عنه ولا يعود عليه. فإن اشتراه من جملة التركة، فإن كان مثل ميراثهِ أو أقل [فقولان] (¬2): أحدهما: أن اليمين [ساقطة] (¬3) لا تعود عليه، وهو نصُّ المُدوّنة. ويتخرج من الكتاب قولٌ ثان: أن اليمين تعود عليه، إذ لا فرق بين أن يشتريه [من تركه] (¬4) من يرثه أو [من تركة] (¬5) غيره، لأن سهمه من الميراث لم يتعين في عين ذلك العبد، بل [هى] (¬6) في بعضه، ثم إنه [قد] (¬7) اشترى [بقيته] (¬8) لبقية سهمه من جملة التركة، فصار بمنزلة ما لو كانت قيمته أكثر من سهمه، [فأدى] (¬9) بقية الثمن من عنده. وهذا الفصل قد منعه في "الكتاب"، ولا فرق بين [الفصلين] (¬10) فلو كان في التركة من العبيد ما ينقسم، فقسموهم، فصار سهمه على ¬

_ (¬1) في هـ: السلطان. (¬2) في أ: قولان. (¬3) سقط من أ، جـ. (¬4) سقط من هـ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ. (¬9) في أ: فرد. (¬10) في أ: الأصلين.

ذلك العبد [بعينه] (¬1)، يتخرج عتقه [عليه] (¬2) على [الخلاف] (¬3) في القسمة هل هى بيع أو تمييز حق؟ فإن كان العبد [أكثر] (¬4) من ميراثه، فهل يعتق عليه إذا [حنث] (¬5) أو يسقط عنه اليمين؟ قولان: أحدهما: أن اليمين [يعود عليه لأنه اشترى بعضًا وورث بعضًا وهو نص قوله في المدونة. والثانى: أن اليمين] (¬6) تسقط، ولا تعود عليه، وهو اختيار اللخمى، لضعف أمر التهمة، وتغليبًا لشائبة الميراث. والجواب عن الوجه الرابع: إذا خرج من يده اضطرارًا، وعاد إليه اختيارًا مثل: أن يبيعه عليه السلطان في فلس، ثم اشتراه بعد ذلك ليسر حدث أو قبله من واهب أو موصٍ، هل يعود عليه اليمين أم لا؟ فالمذهب على قولين [قائمين] (¬7) منصوصين في "المدونة": أحدهما: أن اليمين يعود عليه، وهو قول ابن القاسم في "المُدوّنة". والثانى: سقوطها، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف في بيع السلطان، هل يسقط عنه التهمة ويزيل الظنة أم لا؟ فابن القاسم يقول: لا يزيلها, لاحتمال أن يكون قد أخفى ماله وأظهر ¬

_ (¬1) في أ: بقيمته. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الاختلاف. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: حلف. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من هـ.

الفلس حيلةَّ في إسقاط اليمين عن نفسه، يبيع السُلطان العبد [ثم يسترجعه] (¬1) في ثانى حال. والغير يقول: [يزيل] (¬2) التهمة, لأن بيع السلطان العبد، يسقط كل تهمة، لاستحالتها عادة وعرفا أو يعرض الإنسان عرضه [ومهمته] (¬3) لليمين في محافل القضاة وأندية الولاة مع ما في ذلك من الابتلاء بأنواع من التهديد، وضروب من الوعيد المحتوم باليمين في مقطع الحق وملأ من الخلق، أنه ما ألد ولا شرك وليس وجد للقضاء موضعًا لفعل. [فأين تبقى] (¬4) التهمة، مع هذا [الامتحان] (¬5) الواجب على السُلطان: أن يستديم العمل به في كل زمان وأوان، وهو الحقُّ إن شاء الله تعالى. ويلتحق بالمسألة وجهٌ آخر: إذا باعهُ ثُمَّ رُدَّ إليه بعيبٍ، هل يحنت بكلام زيد قبل أن يرد عليه أم لا؟ قولان قائمان في "المُدوّنة": وسبب الخلاف: الرد بالعيب، هل هو نقض بيع أو [هو] (¬6) بيع مبتدأ؟ فعلى القول بأنَّهُ نقض بيع: فإنه يحنث ويعتق عليه إذا رد، وهو قول أشهب في "كتاب الاستبراء". وعلى القول بأنه بيع مبتدأ، فيتخرج على الخلاف الذي قدمناه بين ابن ¬

_ (¬1) في هـ: ليستخرجه. (¬2) في أ: تزول. (¬3) في هـ: مصحبته. (¬4) في أ: فإذا ثبتت. (¬5) في أ: الاحتمال. (¬6) سقط من أ.

القاسم وابن بكير، وهو قول [ابن القاسم] (¬1) [في "كتاب الاستبراء"] (¬2)، في الأمة الرائعة إذا رُدَّت بعيب، فالمواضعة فيها على المشترى، وهذا منه بناءً على أنَّ الرد بالعيب بيع مبتدأ. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من هـ.

المسألة الخامسة في اليمين بالعتق على فعل، ولا يخلو الحالف من، وجهين

المسألة الخامسة في اليمين بالعتق على فعل، ولا يخلو الحالف من، وجهين: [أحدهما] (¬1): أن يحلف على فعل نفسه. [والثانى] (¬2): أن يحلف على فعل غيره. فالجواب عن الوجه الأول: إذا حلف على فعل نفسه، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يحلف [ألا يفعل. والثانى: أن يحلف ليفعلن فإن حلف ألا يفعل من أن يحلف] (¬3) بعتق عبده ألا يفعل فعلًا، فإنه على بر، ويحل له البيع والوطء حتى بفعل ذلك الفعل. فإن فعله والعبد في ملكه: عتق من رأس ماله إن كان [فعله] (¬4) في الصحه أو من الثلث إن كان فعله في المرض. واختلف [فيما إذا ولد] (¬5) للعبد من أمته قبل الحنث، هل يدخل معه في الحرية أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه لا يدخل معه، وهو قول ابن القاسم [وهو مذهب] (¬6) "المُدوّنة". ¬

_ (¬1) في أ: إما. (¬2) في أ: وإما. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: فيما يولد. (¬6) في أ: في.

والثانى: أنه يدخل معه، وهو قول أصبغ. وأما إن حلف ليفعلن، فلا يخلو من أن يضرب ليمينه أجلًا أم لا؟ فإن ضرب ليمينه أجلًا: فإنه يمنع من البيع اتفاقًا، وفي الوطء قولان: أحدهما: أنه [لا] (¬1) يمنع منه، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثانى: [أنه] (¬2) يمنع منه، وهو قول مالك أيضًا في "المُدوّنة"، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". وسبب الخلاف: هل ذلك شبيه بنكاح [المتعة] (¬3) أم لا؟ فإن مضى الأجل ولم يفعل: فإن العبد يعتق من رأس المال، إن حل الأجل والسيد صحيح. وإن مات السيد في الأجل، فهل يُعتقُ العبد أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه لا يُعتق عليه، وهو نصَّ ابن القاسم في "المُدوّنة"، وهو المشهور, لأنَّهُ صار في ملك الوارث قبل بلوغ وقت حنثه. والثانى: أن العبد يُعتقُ، وأنه يحنث وإن مات في الأجل، وهو قول ابن كنانة, لأن الحنث يقع عليه. وأما إذا لم يضرب ليمينه أجلًا، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يحلف ليفعلن فعلًا في عبدهِ. والثانى: أن يحلف أن يفعله في غيره. فإن حلف ليفعلنَّهُ في [غيره] (¬4) مثل: أن يحلف بعتقه ليضربنَّهُ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: المعتدة. (¬4) في ع، هـ: عبده.

فإن حلف على ضرب يجوز له، فإنَّه يمكن من ضربه ويبر في يمينه. فإن باعهُ قبل أن يضربهُ: فالبيع مردود مع القيام، وهل يرد إلى الإيقاف أو إلى حُرِّية؟ قولان قائمان من "المُدوّنة": أحدهما: أنَّهُ يُرد إلى الإيقاف [وهو قول ابن القاسم] (¬1). والثانى: أنَهُ يُردُّ إلى الحريَّة، وهو قول ابن دينار. فإن مكنه المشترى من الضرب من ملكه، فضربه، فهل يبرأ بذلك أم لا؟ قولان قائمان من "المُدوّنة" منصوصان في المذهب. وسبب الخلاف: هل المعتبر في الأيمان ما يوجبه اللفظ أو المُعتبر المقصد؟ وعلى القول بأنَّه يُردُّ إلى الملك، فإن كاتبه سيدهُ وضربهُ في كتابته، هل يُبرئُهُ ذلك الضرب ويستمر على كتابته؟ قولان قائمان من "المُدوّنة" منصوصان في المذهب: أحدهما: أنَّهُ يبرأ، وهو قولُ مالك وابن القاسم. والثانى: أنه لا يبرأ، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: تردُّد [المكاتب] (¬2) بين البقاء في الملك والخروج منه. وعلى القول بأنَّ ذلك الضرب لا يبرئُهُ: فإنَّ الكتابة تُوقَّف، فإن أداها بعد أن كان عتيقًا بالحنث، ويرد عليه جميع الكتابة، وكأنُّه لم يزل عتيقًا، وهذا مثل أحد قولى مالك في آخر "كتاب العدة" في أُمِّ ولد المكاتب، [أنها] (¬3) تكون أُمَّ ولد بما ولدت [في] (¬4) الكتابة إذا أدى. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الكتابة. (¬3) في أ: إنما. (¬4) سقط من أ.

فإن عجز ورجع رقيقًا للسيد، هل يبرئُهُ ذلك الضرب [أو لا يبرئه إلا ضربًا آخر] (¬1)؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَهُ يُجزئُهُ [وهو قول أشهب] (¬2). والثانى: أنه لا [يجزئه] (¬3) إلا ضرب آخر، وهو قول أصبغ. وسبب الخلاف: اعتبار الحال والمآل، كما تقدم فإن مات السيد قبل الضرب: فإن العبد يعتق من الثلث. فإن حلف على ضربٍ لا يجوز. فإنه لا يمكن منه، ويعجل عليه العتق في الحال. فإن اجترأ وضربه، فإنه يبرأ من الحنث، ويكون [مأثومًا فيما] (¬4) بينه وبين الله تعالى. وأما إذا حلف على فعل يفعله في [غير عبده] (¬5) كقوله: إذا لم أدخل الدار، فعبدى فلان حُرٌ. فإنه يمنع من البيع اتفاقًا، وفي الوطء أربعة أقوال: أحدها: أنه يمنع منه جملة [وهو نص المدونة] (¬6). والثانى: التفصيل بين أن يكون [يمينه] (¬7) على ما هو كالأجل، مِثل أن يحلف ليكلمن زيدًا أو ليركبن هذه الدابة، فلهُ أن يطأ, لأن حساة ¬

_ (¬1) في هـ: أو لابد له من ضرب آخر. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: يبرئه. (¬4) في هـ: ما نوى. (¬5) في أ: غيره. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: مقصد.

المحلوف عليه، كالأجل أو تكون يمينه على دخول الدار وشبهه، فيمنع من الوطء، وهو قول مالك في "كتاب محمَّد". والقول الثالث: عكس ذلك أنه إن كانت يمينه مما يقع عليه الحنث في حياته يومًا ما منع من الوطء. وإن كان مما لا يقع الحنث [فيه] (¬1) إلا بموت نفسه مثل: أن يحلف إن سافر ليتزوجن، فلا شىء عليه، لأن الحنث والعتق إنما يقع عليه بموته ليس في حياته، وهو قول ابن كنانة في "كتاب ابن حبيب". والقول الرابع: أنه لا يمنع من الوطء جملة، وهو ظاهر قوله مالك: أن ترك الوطء محدث، ليس من الأمر القديم. يريد أنه لا يمنع منه على حال من الحالات قال: والاستحسان [منع] (¬2) الوطء، وليس بواجب، ولأنه منع منه [من منع] (¬3)، لأنه شبيه بنكاح المتعة واختلف فيما ولد العبد من أمته، هل يدخل معه في العتق أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يدخل معه، وهو مشهور المذهب. والثانى: أنه لا يدخل معه، وهو قول الغير، وهو قول شاذ. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: وهو أن يحلف على فعل غيره فلا يخلو من أن يحلف ألا يفعل أو يحلف ليفعلن. فإن حلف ألا يفعل مثل أن يقول: عبدى حر إن فعل فلان كذا فهو كالحالف على فعل نفسه أيضًا. فإن لم يضرب أجلًا، فلا يخلو من وجهين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: ترك. (¬3) سقط من أ.

أحدهما: أن يحلف على فعل غيره. والثانى: أن يحلف على فعل عبده. فإن حلف على فعل عبده مثل قوله: عبدي [فلان] (¬1) حر إن لم [يدخل] (¬2) الدار فلا يخلو السيد أيضًا من أن يريد إكراهه [على الفعل] (¬3) أم لا: فإن نوى إكراهه على الفعل، فله أن يكرهه على الفعل، ويبرئ. فإن مات السيد قبل أن يكرهه على الفعل، فإن العبد يعتق من الثلث، وهل يبرئه إكراه الورثه [أم لا] (¬4)؟ قولان قائمان من "المُدوّنة" من "كتاب بيع الخيار" ومن "كتاب النذور" من مسألة الذي جعل امرأته [بيد أمها ثم] (¬5) ماتت الأُم. ومن مسألة الذى حلف لغريمه ليقضينه حقَّه رأس [المال] (¬6) إلا أن يؤخره. وأما إن حلف على فعل الأجنبى كقوله: إن لم يحج فلان، فعبدى حرُّ. فهل هو كالحالف على فعل نفسه [أم لا] (¬7)؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه كالحالف على فعل نفسه. والثانى: [أنه] (¬8) ليس كالحالف على فعل نفسه، وهو مذهب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أدخل. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: بيدها إن. (¬6) في هـ: الهلال. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

"المُدوّنة". لأنه قال: يتلوم للأجنبى ولا يتلوم للحالف. فإن فعل فلان بر الحالف، وإن أبى أن يفعل تلوم له السلطان [على] (¬1) قدر ما يرى أن الحالف أراده. فإن أبى من الفعل عتق العبد، واختلف إذا مات السيد الحالف في أيام التلوم، هل يعتق العبد أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعتق من الثلث، وهو قول ابن القاسم في "المُدوّنة". والثانى: أنه لا يعتق من الثلث، ولا من رأس المال، وهو قول أشهب في "الكتاب". والثالث: أنه لا يعتق من الثلث [وهو قول ابن القاسم في المدونة] (¬2) وهكذا اختلف، هل للسيد الوطء في أيام التلوم أم لا؟ على قولين: فعلى قول ابن القاسم: يُمنع. وعلى القول أشهب: [لا] يمنع. وسبب الخلاف: هل التلوم كالأجل أم لا؟ والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

المسألة السادسة إذا قال: أحد عبيدى حر أو إحدى نسائي طالق.

المسألة السادسة إذا قال: أحد عبيدى حرُّ أو إحدى نسائي طالق. فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون له نية في واحد بعينه، وهو ذاكر له. والثانى: أن يكون له نيةٌ في واحد بعينه، ونسيهُ. والثالث: ألا يكون له نية في واحد بعينه. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كانت له نية في واحد بعينه، وهو ذاكرٌ له فلا خلاف أن ذلك المعين يعتق وحده، ولا شىء على السيد فيما عداه، وكذلك الطلاق. والجواب عن الوجه الثاني: إذا نوى واحدًا بعينه ثم نسيه، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يتذكر بعد النسيان [والثانى: أن يستمر عليه النسيان] (¬1)، فإن تذكر بعد النسيان، وقال: نويت مرزوقًا، فلا يخلو من أن يدّعى ذلك في صحة أو مرض. فإن ادعى ذلك في صحةٍ، فلا خلاف أعلمه في المذهب نصًا أنه يصدق، وهل ذلك بيمين أو بغير يمين؟ قولان: أحدهما: أنَّهُ يصدق [في التعيين] (¬2) بغير يمين، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنه لا يصدق إلا بيمين، وهو قول أشهب. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن ادعى ذلك في مرض و [عنده] (¬1) عبدان فلا يخلو من أن يكونا متكافئين أو مختلفين. فإن كانا متكافئين: صدق وخرج الذي نواه، وعينه من رأس المال اتفاقًا. وإن كانا مختلفين. فإن قال: نويت الأدنى صدق وعتق من رأس المال. وإن قال: نويت الأعلى هل يجعل الفضل من قيمته في الثلث أو يخرج الجميع من رأس المال؟ قولان منصوصان في "المُدوّنة": أحدهما: أن الفضل مجعول في الثلث، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أن جميعه خارج من رأس المال، وهو قول الغير [في المدونة] (¬2). وسبب الخلاف: المخير بين شيئين، هل يعد مختارًا لما ترك أم لا؟ إلا أن ابن القاسم يلزمه على [هذا البناء] (¬3) إذا قال: نويت الأدنى، أن يقال: يجعل في الثلث أيضًا، لأنه إنما جعل الفضل في الثلث لاحتمال أن يكون قد اختار الأدنى أولًا، ثم انتقل إلى الأعلى ثانيًا، فيكون في ذلك عتقًا مبتدأ في المرض فيصرف إلى الثلث. وبذلك أيضًا يحتمل أن يختار أيضًا الأعلى أولًا، ثم انتقل إلى الأدنى ثانيًا، فيكون عتقًا مبتدأ في المرض فيصرف إلى الثلث. وهذا الالتزام، لازم لابن القاسم، ولا محيص له عنه ولا مناص. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: هذه النية.

وهذا التفصيل بين الصحة والمرض يلزم في الوجه الأول إذا لما يسأل السيد عن نيته حتى مرض. والجواب عن الوجه الثاني من الوجه الثاني: إذا استمر عليه النسيان فإنه يعتق عليه ما عنده من العبيد، ويطلق ما عنده من النساء، وذلك تحكم، وهو من باب تغليظ الحظر على الإباحة إذا اجتمعا. ولو كانا عبيدين، ولكل واحد منهما أولاد أحرار، فماتا وخلفا مالًا قبل أن يحكم بعتقها، فإن المال بين السيد و [بين] (¬1) الأولاد نصفان، لأن أحدهما حرٌّ على كل حال، فلما أن جهل عينه وتساوت الدعاوى بينهما، قسم المال بينهما أيضًا، كالشىء [المتداعى] (¬2) فيه، وإن مات واحد منهما: كان الحكم فيما خلف من المال كذلك، والباقى منهما عتيقًا. والجواب عن الوجه الثالث: إذا لم تكن له نية في واحد بعينه، فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن العتق والطلاق يجرى في جميع ما عنده من النساء والعبيد، ولا خيار له، وهو قوله في كتاب ابن الجلاب. والثانى: أن له أن يختار في العتق والطلاق، وهي رواية المدنيين عن مالك. والثالث: أنَّ لهُ أن يختار العِتق دون الطلاق، وهو قول ابن القاسم في "المُدوّنة"، وهي رواية المصريين عن مالك أجمع. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ المدعى.

ومن فرق بين العتق والطلاق، يقول: لافتراق أصليهما. فأما العتق، فيقبل التبعيض والاختيار، بديل جواز العتق في بعض العبد، وأن العتق المبعض يجوز أيضًا، ويكمل [في] (¬1) واحد، ويحرم [منه] (¬2) من كان له فيه نصيب، كالمبتلين في المرض، على مذهب "المُدوّنة" أيضًا، فإن الملك يقبل الخيار، [والاختيار] (¬3) من أصله. فلو قال رجل لرجل: أبيعك أحد عبيدى هؤلاء، أيا شئت [أنت] (¬4) منهم فإنه يجوز على مذهب المدونة. فلو قال له: أزوجك إحدى ابنتى هاتين، أيتهما شئت أنت لم يجز اتفاقًا. فلما افترقت أصولهما افترقت الفروع المركبة عليهما. فإن مات قبل أن يختار، فهل للورثة الخيار كما كان له؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الخيار للورثة كما كان للميت، وهو قول ابن القاسم وأشهب والثانى: أن الورثة لا خيار لهم، وهو قول ابن القاسم في "كتاب محمَّد"، ويعتق من رأس المال عشرة، إن كانوا عشرة أو خمسة إن كانوا خمسة. فإن لم يختر السيد حتى مرض، كان على خياره. فإن اختار الأدنى كان من رأس المال. فإن اختار الزعلى، هل يكون الفضل في الثلث أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: والخيار. (¬4) سقط من أ.

فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الفضل يصرف إلى الثلث، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أن جميعه خارج من رأس المال، وهو قول الغير. والقولان في "المُدوّنة". وسبب الخلاف: المخير بين الشيئين، هل يعد مختارًا لما ترك أم لا؟ فإن لم يخير السيد حتى مات أحدهما، وكانا اثنين، فإن مات حتف أنفه: كان ما خلف من المال لسيده بالرق، وكان الباقي عتيقًا. فإن مات مقتولًا هل يحكم له بحكم العبد أو يحكم له بحكم الحر؟ قولان: أحدهما: أن يحكم له بحكم الحر، ويكون فيه الدية في الخطأ والقصاص في العمد. الثاني: أنه يحكم [على من] (¬1) مات منهما بحكم العبد، وعلى قاتله قيمة عبد، ويكون الباقي عتيقًا، وهو قول سحنون. فإن ماتا جميعًا قبل الاختيار، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الأول موروث بالرق وآخرهما موتًا مورث بالحرية. والثانى: أنهما جميعًا ماتا على الرق، وبه يورثان. والقولان لسحنون. وسبب الخلاف: الاختيار، هل يفتقر إلى حكم حاكم أم لا؟ والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: لمن.

المسألة السابعة إذا قال لأمتيه: إن دخلتما هذه الدار، فأنتما حرتان، أو لامرأتيه: فأنتما طالقتان.

المسألة السابعة إذا قال لأمتيه: إن دخلتما هذه الدار، فأنتما حرتان، أو لامرأتيه: فأنتما طالقتان. فإن دخلتا جميعًا عتقتا وطلقتا, ولا خلاف في ذلك فإن دخلت واحدة منهما دون الأخرى، ففى المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا شىء على الزوج، ولا على السيد حتى يدخلا جميعًا، وهو قول ابن القاسم في "المُدوّنة". والثانى: أنهما يعتقان جميعًا بدخول الواحدة، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في "العتبية". والثالث: أن الداخلة تعتق خاصة، وهو قول أشهب في ["العُتبية"] (¬1). وسبب الخلاف: الحنث، هل يقع بأقل الأشياء أو لا يقع إلا بأكملها؟ والذي يأتي على [مذهبه] (¬2) المعهود له في "المُدوّنة" ما قاله في "العتبية": إنهما يعتقان جميعًا بدخول الواحدة. لأن مشهور مذهبه أن الحنث يقع بأقل الأشياء، إذ لا فرق بين أن يقول لها: إن دخلت هاتين الدارين فأتت حُرَّة، فدخلت واحدة، فيحنث وبين أن يقول لأمتيه: [إن دخلتما هذه الدار] (¬3) فأنتما حرتان، فدخلتهما واحدة منهما. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في ب: المدونة. (¬2) في أ: مذهب. (¬3) سقط من أ.

المسألة الثامنة في العتق [بالسهم]

المسألة الثامنة في العتق [بالسهم] ولا يخلو ذلك من ثلاثة [أوجه] (¬1): أحدها: أن يقول "ثلث رقيقى أو نصفهم أحرار". والثانى: أن يقول "أثلاث رقيقى أو أنصافهم". والثالث: أن يسمى منهم عددًا معلومًا. فالجواب عن الوجه الأول: إذا قال: ثلث رقيقي أو نصفهم أحرار، فلا يخلو من أن يكون ذلك في صحة أو مرض. فإن كان ذلك في صحة، فهل يسهم بينهم أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يسهم بينهم، ويعتق من خرج اسمه إلى مبلغ قيمة الجزء الذي سمى كان ذلك في عبدٍ أو بعض عبد، ويستتم عليه ما بقى من ذلك العبد بعد تمام الجزء، وهو قول مالك في "كتاب ابن المواز". والثانى: أنهم يعتقون جميعًا، [حتى يأتى على جميع] (¬2) ما عنده، ولا يسهم بينهم، وهو قول أصبغ في "كتاب ابن حبيب". والثالث: أن يختار للعتق من أحب من عبيده، إلى مبلغ [ذلك] (¬3) الجزء الذي سمى، وهو قول سحنون في "كتاب ابنه"، وهل ذلك بيمين ¬

_ (¬1) في هـ: أقسام. (¬2) في هـ: أعنى جميع. (¬3) سقط من أ.

أو بغير يمين؟ قولان: أحدهما: أنه يحلف ما أراد واحدًا بعينه، وهو قول سحنون. والثانى: أنه لا يمين عليه، وهو قول ابن القاسم. والقولان في "النوادر". فإن قال: أنصاف رقيقي، أو أثلاثهم، أو قال: نصف كُلِّ رأس، [أو ثلث كل رأس] (¬1). فإنه [لا] (¬2) يسهم بينهم للعقد، ولكن يعتق من كل واحد منهم الجزء الذي سمَّى، ويستتم باقيهم عليه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المُدوّنة"، وبه قال ابن المواز. فإن قال: عشرة من رقيقى أحرار فإن الثلاثة الأقوال تجرى فيه، [وله] (¬3) أن يختار من شاء منهم أو يقرع بينهم أو يقع الحصاص. فإن كان ذلك في مرض، وقال: ثلث رقيقى أحرار أو نصفهم، فهل يسهم بينهم أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقرع بينهم حتى يستكمل ذلك الجزء، وهو مذهب "المُدوّنة". والثانى: أن ذلك الجزء يعتق بينهم بالحصص، وهو قول أبى زيد بن [أبى] (¬4) [الغمر] والحارث، وأصبغ في كتاب محمَّد. والثالث: التفصيل بين أن يكون له مال سواهم: يخرج ذلك الجزء من ثلثه، أو له مال لا يفى بثلثهم: فإنه يعتق من كل واحد منهم ثلثه، وهو ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) سقط من أ.

قول أشهب في "كتاب ابن حبيب". وعلى القول بأن ذلك الجزء [يعتق منهم] (¬1)، إما بالقرعة وإما بالحصص. فإذا أعتق ذلك [منهم] (¬2)، ونفذ العتق في مرضه، على القول باعتبار المال المأمون، هل يستتم عليه عتقهم في ثلثهم بعد الموت. وإن عتق ذلك الجزء بالحصص أو بالقُرعَة، إن استكمل ذلك الجزء في بعض عبد أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين في "المُدونة"؟ أحدهما: أنه يستتم عليه إن مات، وإن عاش أتموا من رأس ماله، وهو قوله في "النوادر". والثانى: أنه [لا] (¬3) يستتم عليه، لأن الميت لم يقصد إلى التبعيض، وإنما ذلك أمرٌ أوجبته الأحكام. وسبب الخلاف: اختلافهم في الأثر الوارد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العتق بالسهم، هل ذلك في المبتلين، أو ذلك في الموصى بعتقهم؟ فروى [عن] (¬4) عمران بن الحصين: أن رجلًا أعتق عبيدًا له عند موته، وهم ستة، ولا مال له غيرهم، فأسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فأعتق ثلث أولئك الرقيق (¬5). فقيل: بتل عتقهم، وقيل: أوصى بعتقهم، ولا خلاف في المذهب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) سقط من أ. (¬5) أخرجه مالك (1463) والشافعي (944) والبيهقي في "الكبرى" (21189).

أن العتق بينهم بالحصص. ولا خلاف في الموصى بعتقهم أن العتق بينهم بالقرعة. واختلف في المبتلين في المرض، هل هم كالموصى بعتقهم أو كالمدبرين؟ وأما إن قال: أنصاف رقيقى، أو أثلاثهم، أو ثلث كل رأس [أو نصف كل رأس] (¬1) فلا خلاف أعلمه في المذهب أنه يعتق من كل واحدٍ منهم ما ذكر، إن حملهم الثلث، ويستتم منهم ما بقى في ثلثه إن مات، وإن عاش أتموا من رأس المال. فإن لم يحملهم الثلث فإنهم يتحاصون في الثلث بقدر قيمة كل واحدٍ منهم. وأما إن قال عشرة من رقيقي [أحرار] (¬2)، وهم ستون، هل يعتبر في تلك الوصية [الجزء] (¬3) أم العدد؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها في "المُدوّنة": أحدها: أن المعتبر فيه الجزء دون العدد، حتى لو لم يبق منهم إلا [واحد أعتق منه] (¬4) ذلك الجزء، وهو قول عبد الملك بن الماجوش في كتاب ابن حبيب. والثانى: أن المعتبر فيه العدد مهما حمله ثلث جميع ماله من الرقيق وغيرهم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

وهذا القول حكاه ابن حبيب عن ابن القاسم، وعليه حمل ابن أبي زمنين مذهب "المُدوّنة"، والذي قاله ظاهر "المُدوّنة" من "كتاب الوصايا الأول"، و"كتاب العتق الأول". فالذي في كتاب "الوصايا الأول" فيمن أوصى لرجلٍ بعشرةٍ من غنمه: أنه يعطى العشرة، يدخل في تلك العشرة ما دخل. فتأوله [بعضهم] (¬1) أنه أراد من القيمة. والذي في كتاب "العتق الأول" أظهر، إذا قال: رأس من رقيقى أو خمسة أو ستة أحرار. ولم يسمهم بأعيانهم، حيث أجاب فيها كالجواب الأول في القرعة بينهم. إلى قوله: ولا يُلتفت في ذلك إلى العدد، إذا كان فيما يبقى للورثة ثلاثة أرباعهم، أو خمسة أسداسهم بقية الأجزاء على ما سمى. قال: وهذا إذا لم يترك مالًا غيرهم، [فإن ترك مالًا غيرهم] (¬2) واستكمل عتق جميعهم على ما سمى في ثلث جميع ماله، حتى يأتي على جميع وصيته التى سمى على ما فسرت لك [فافهم هذا التحصيل تربت يداك] (¬3). وهذه الزيادة ليست في أصول "القروية" ولا ذكرها مختصروهم، وهي ثابتة في أصول الأندلسيين وغيرهم. والقول الثالث: أن المعتبر فيهم الجزء والعدد، وأنه مهما أخرج سدسهم بالقيمة لا ينظر إلى العدد، سواءٌ خرج أقل من العشرة أو أكثر، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وعلى هذا يدل لفظه في "الكتاب" في غير ما موضع، كقوله: إن بقى منهم عشرون عتق منهم النصف، وإن بقى منهم ثلاثون عُتق ثُلثهم بالقُرعة، ويرق ما بقى، وإن بقى [منهم] (¬1) أحد عشر عتق منهم عشرة أجزاء من أحد عشر جُزءًا، وهو قوله في "كتاب الوصايا الثاني"، فيمن قال: عشرون من غنمى لفلان وغنمه مائة، فإنه يعطى [خمسها] (¬2) بالسهم، وقع له في ذلك عشرون أو ثلاثون أو عشرة، ولم يكن له غير ذلك. فإن هلكوا كلهم إلا عشرة فإنهم يعتقون جميعًا، إن حملهم الثلث، وهذا هو مشهور مذهب ابن القاسم في "المدوّنة"، وبه قال ابن عبد الحكم وعبد الملك وابن كنانة وابن حبيب، وأنَّهُ [لا يزاد] على ما خرج في السهم، ولا يلتفت في ذلك إلى العدد، وإن حمله الثلث، وإنَّ ذكر العدد هاهُنا كذكر الجزء. وسبب الخلاف: [هل] النظر إلى الألقاب والمسميات أو النظر إلى المعانى والمقاصد؟ فمن اعتبر الألقاب والمسميات قال: باعتبار العدد. ومن اعتبر المقاصد والمعانى قال: [الاعتبار بالجزء] (¬3) وأما ابن القاسم الذي اعتبر الجزء أولًا والعدد آخرًا، فقد [اعتبر الطريقين] (¬4) [ولاحظ الشقين] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: خمسه. (¬3) في أ: لا اعتبار بالجزء. (¬4) في ع، هـ: راعي الطرفين. (¬5) سقط من أ.

وعلى القول باعتبار الجزء أولًا وآخرًا، هل يعتق منهم ذلك الجزء بالقرعة أو بالحصص؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ يعتق منهم بالقرعة، وهو مذهب المُدوّنة. والثانى: أنَهُ يُعتق منهم بالحصص [وهو قول المُغيرة في كتاب ابن سحنون. والثالث: أن الورثة بالخيار بين القُرعة والحصص] (¬1)، وهو قول أشهب في كتاب محمَّد. وعلى القول بأنه يعتق منهم بالسهم، فصفته على القول باعتبار العدد: أن يضرب بالعدد الذى سمى، ويكتب أسماءهم في بطاقة، ثم يسهم بينهم حتى يخرج ذلك العدد من غير اعتبارٍ بالقيمة إذا استكمل العدد. وصفتهُ على القول باعتبار الجزء أن يقوموا جميعًا، ثُمَّ يكتب اسم كل واحد منهم في بطاقة، ثم يُقرع بينهم، فمن خرج اسمه نظر إلى قيمته، فإن ساوت الجزء الذي سمى عتق ورق باقيهم، وإن لم يف به، وعاد الضرب حتى يكمل ذلك الجزء، دخل فيه عشرةٌ أو أكثر أو أقل، فإن كمل الجزء بنصف قيمة واحد منهم، فإن النصف الباقي يتخرج على الخلاف الذي قدَّمناهُ في استتمام النصف الباقي في ثُلُثهِ بعد الموت. [ورضوان من الله أكبر] (¬2) والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) زيادة من هـ.

المسألة التاسعة إذا اشترى أباه وعليه دين يغترقه

المسألة التاسعة إذا اشترى أباه وعليه ديْنٌ يغترقه. فقد اضطربت أجوبتهُ في "الكتاب". فقال: فيما إذا اشتراهُ وعليه ديْنٌ يغترقهْ أنَّهُ لا يُعتق عليه، ولم يذكر البيع، هل يُردَّ أم لا؟ وقال فيما إذا اشتراه، ولم يكن عنده إلا بعض ثمنه، فقال مالك: أرى أن يرد البيع. قال ابن القاسم: لا يعجبنى ما قال، وأرى أن يباع منه بمقدار بقية الثمن، ويعتق [منه] (¬1) ما بقى. ثم قال بعضُ أصحابه وهو المغيرة: لا يجوز له ملك أبيه إلا إلى عتق، فأما إذا كان عليه دين يرده، فقد صار خلاف السنة إلى آخر المسألة. فقول ابن القاسم: مطرد، وأنَّهُ يقول في المسألة الأولى مثل قوله في الثانية، وأن البيع عنده صحيح، ويباع للدين. فإن استغرقه الدين كان. فإن وفي بيع بعضه بالدين: فإن الباقي يكون عتيقًا. وقول المغيرة أيضًا مطرد في المسألتين، مخالف لقول ابن القاسم. وقول مالك مخالف لابن القاسم في الفصل الثاني: إذا اشتراه وليس عنده إلا بعض ثمنه، والغير يوافقه في ذلك. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

واختلف في تأويل قول مالك في الفصل الأول إذا اشتراه وعليه دين يفرقه حيث قال: لا يعتق عليه. هل هو وفاق لقوله في الفصل الثاني أو خلافٌ له؟ على قولين: أحدهما: أنه موافق [له] (¬1)، وأن معنى قوله في الأول لا يعتق عليه، كقوله يرد البيع في الثانية وهو تأويل الشيخ أبى الحسن بن القابسى، وهو الصحيح, لأن المسألة جاءت [مجتمعة] (¬2) باللفظين في "كتاب المبسوط" ونصها: قال مالك: ومن اشترى أباه، وعليه دين أو عنده بعض ثمنه لا يعتق منه شىءٌ، وأرى أن يردَّ البيع. ثم قال ابن القاسم: لا يعجبنى ذلك، وأرى أن يُباع منه [ببقية الثمن] (¬3) وهذا هو الصحيح. والثانى: أن معنى قوله في [الأولى] (¬4) "ولا يعتق عليه" أنه يباع في الدين [ولا يرد البيع] (¬5). والثالث: ينتقض فيها البيع، وهذا تأويل الشيخ أبى محمَّد بن أبي زيد. فعلى تأويل القابسى وما في "المبسوط"، يكون في المسألة قولان: أحدهما: أنه يرد البيع في [الفصلين] (¬6)، وهو قول مالك، ويكون قول الغير حُجَّة لهُ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: ببقيته. (¬4) في هـ الأول. (¬5) سقط من أ. (¬6) في هـ: اللفظين.

والثانى: أنه يباع في الدين، وهو قول ابن القاسم. [و] (¬1) على تأويل الشيخ أبى محمَّد، يتخرج في المسألة ثلاثة أقوال من "الكتاب": أحدها: أن البيع لازم [في الجميع] (¬2)، ويباع منهُ بوفاء الدين، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنه ينتقض البيع في الفصلين جميعًا، وهو قول المغيرة في "الكتاب". والثالث: التفصيل بين أن يشتريه [وعليه من الديون ما يغترقه أن البيع الأول صحيح ويباع فيما عليه من الدين وبين أن يشتريه] (¬3)، وليس عنده إلا بعض ثمنه، فيُفسخ فيه البيع، وهو قول مالك رحمه الله، وهذا أضعف الأقوال. [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: للجميع. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة العاشرة في عتق أحد الشريكين حصته له في عبد بينه وبين غيره فلا يخلو ذلك [من]

المسألة العاشرة في عتق أحد الشريكين حصَّتهُ له في عبدٍ بينهُ وبين غيره فلا يخلو ذلك [من] (¬1) ستة أوجه: أحدها: أن يكون بين حرين مسلمين. والثانى: أن يكون بين مملوكين مسلمين. والثالث: أن يكون بين حُر ومملوك. والرابع: أن يكون بين محجُورٍ عليهِ [ومطلوقُ] (¬2) اليد. والخامس: أن يكون بين نصرانيين. والسادس: أن يكون بين مسلم ونصرانى. والعبد في جميع ذلك مسلم أو نصرانى. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان العبد بين أشراكٍ مسلمين، فأحدث أحدهما في حقه عقدًا من عقود الحرية، فلا يخلو ما أحدثه من أربعة أوجه: إما أن يكاتب، أو يدبر، أو يعتق إلى أجل، أو يعتق ناجرًا. فأما الكتابة فباطلة، لاستحالة [كتابة بعض] (¬3) عبد، لاختلاف صفة الاستسعاء هذا يستسعيه على النجوم، وهذا يستسعيه على الدوام، وذلك مخاطرة ومقامرة [وهو] (¬4) من أكل المال بالباطل. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: ومطلق. (¬3) في أ: بعض كتابة. (¬4) سقط من أ.

وأما التدبير إذا دبر أحد الشريكين حصته، هل يجوز [له] (¬1) ذلك ابتداءً أم لا؟ قولان، سواء كان ذلك بإذن شريكه أو بغير إذنه، والقولان قائمان من "المُدوَّنة". [لأن] (¬2) تدبير البعض يؤدى إلى بيع المدبر على القول بالمقاواة على ما سيأتى إن شاء الله تعالى. وعلى القول بأنهُ لا يجوز ابتداءً، فإذا وقع ونزل، هل يُردُّ التدبير أو يمضي؟ والتفصيل بين أن يكون الشريك الذي دبر موسرًا أو معسرًا، فيمضى [على الموسر وفي المعسر] (¬3) قولان: أحدهما: أنه يمضي، وهو مذهب "المُدوَّنة". والثانى: أنه يرد التدبير، وهو قول سحنون في "العُتبية". وعلى القول بإمضاء التدبير [مع] (¬4) اليُسر اتفاقًا [و] (¬5) مع العسر، على قول فما حكم حصةُ المتمسك بنصيبه؟ فالمذهب على خمسة أقوال: أحدها: أنه يقوم عليه حصته، ولا يقاويه، وهو قوله في باب "عتق المديان"، في كتاب "العتق الأول". [حيث] (¬6) قال: ولقد سمعته ونزلت، فأما التدبير الذي دبره كله، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: و. (¬3) في أ: مع اليسر وفي العسر. (¬4) في أ: في. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

ولم يجعل فيه تقوية، أي مقاواة. قال ابن القاسم أيضًا في "الكتاب المذكور": وكانت المقاواة عند مالك ضعيفة، ولكنه شىء جرى في كتابه. وقال أيضًا في باب "عتق الشريكين": إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه إلى أجلٍ، سمعته يقول فيمن دبر حصته من عبدٍ بينه وبين غيره: إنه يقوم عليه. قال: وقوله في المدبر غير هذا، إلا أنه أفتى بهذا، وأنا عنده قاعد، ومعناه: أن يقوم عليه بالحكم كالعتق. والقول الثاني: أنه يقاويه. والثالث: أنه يخير بين أن يقاويه أو يقوم عليه. والقولان في "كتاب المُدَبرَّ من "المُدوَّنة". والقول الرابع: أنه يحكم عليهما بالمقاواة، ولابد منه، ولا خيار للشريك، وذلك حق للعبد، وهذا القول ذكره محمَّد عن مالك وابن حبيب عن مطرف وعبد الملك، وبه أخذ ابن حبيب. والقول الخامس: التفصيل بين أن يكون موسرًا أو معسرًا. فإن كان موسرًا، فيقوم عليه. وإن كان معسرًا، فلا مقاومة عليه ولا تقويم، كالشريك [المعسر] (¬1) يعتق حصته، وهو قول ابن القاسم في كتاب محمَّد. وعلى القول بالتقويم: فإن المتمسك يخير بين التقويم والتدبير. وعلى القول بالمقاواة: يخير بين أربعة أشياء: التقويم أو المقاواة أو التدبير ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أو التماسك. وعلى القول بالتخيير: يخير بين خمسة أشياء: بين التقويم، والمقاواة، والتدبير، والتماسك [والعتق] (¬1). وسبب الخلاف [اختلافهم في] (¬2): المغلب في ذلك، هل يغلب فيه حق العبد، فيحكم بالتقويم، شاء المتمسك أو أبى، كما قال عبد الملك وغيره أو يغلب في ذلك حق السيد، فيحكم بالتخيير بين المقاواة والتقويم؟ أما القول بالمقاواة: فيتخرج على جواز بيع المدبر، وعلى القول بإمضاء التدبير مع العسر، إذا لم يف ببيع ما قوم عليه من القيمة، هل يتبع بما بقى أو يباع من نصيب المدبر بما بقى من القيمة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يباع النصيب الذي قوم عليه، وما عجز عنه فإنه يتبع [به] (¬3) دينًا في ذمته، وهو قول أشهب في "كتاب محمَّد". والثانى: أنه يباع من جمعيه مقدار ما عليه من الدين، وما بقى كان مدبرًا، كمن دبر وعليه دين، وهو قول أصبغ في "كتاب [ابن المواز"] (¬4). وأما إن أعتق إلى أجل، فلا يخلو من أن يكون موسرًا أو معسرًا. فإن كان موسرًا، هل [يقوم] (¬5) عليه نصيب المتمسك بالرق إلى ذلك الأجل؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحداها: أنه [يقوم] (¬6) عليه الآن، وهو قوله في "المُدوَّنة"، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) .......... (¬4) في هـ: محمَّد. (¬5) في أ: يعتق. (¬6) في أ: يعتق.

و [هو] (¬1) قول مالك والمغيرة وابن القاسم في "كتاب ابن سحنون". والثانى: أنه لا يقوم عليه إلا عند الأجل، وإلا فإنه لا [يشاء] (¬2) شريك أن يطلب شراء حصة شريكه فيما [جاء] (¬3) عليه، إلا أعتق حصته إلى أربعين سنة، فاقتطعه دونه، وهي رواية عيسى بن دينار عن ابن حسان عن مطرف عن مالك في "كتاب النوادر". والقول الثالث: أن المتمسك بالرق بالخيار، إن شاء قوم عليه الساعة, ويكون جميعهُ حر إلى سنة. وإن شاء [تمسك] (¬4)، وهو قول عبد الملك في "كتاب ابن سحنون". والقول الرابع: التفصيل بين أن يطول [الأمد] (¬5) جدًا، فيؤخر التقويم إلى حلوله أو يكون الأجل قريبًا كالسنة ونحوها: فيقوم عليه الآن، وهو قول ابن القاسم وأشهب فيما رواه أصبغ عنهما في "كتاب ابن سحنون". وعلى القول بأنه لا يقوم عليه حتى يحل الأجل، فإذا أراد المتمسك أن يبيع حصته قبل الأجل، هل يمكن أم لا؟ فأما من الشريك الذي أعتق إلى أجل، فلا خلاف وأما من غيره، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن البيع لا يجوز، لأنه غرر [وخطر] (¬6)، إن أتت السنة، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يشاط. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ، جـ: تماسك. (¬5) في هـ: الأجل. (¬6) وسقط من أ.

وهو موسر: أخذ المشتري القيمة. وإن أتت وهو معسر، صح له العبد. والثانى: أن البيع جائز، وهذا القول مخرج غير منصوصٍ عليه. وسبب الخلاف: اعتبار الطوارئ، هل تُراعى أو لا؟ وعلى القول بأنه لا يلزمه التقويم حتى يحل الأجل، فإذا حل الأجل وهو معسر، هل يقوم عليه اعتبار [يسره] (¬1) يوم العتق؟ فالمذهب: أنه لا يقوم عليه. ولو كان بالعكس مثل أن يكون يوم العتق مُعسرًا أو عند حلول الأجل موسرًا، هل يقوم عليه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه [يقوم] (¬2) عليه إذا كان موسرًا يوم الحلول، وهو قول عبد الملك. والثانى: أن المعسر بيسره في الطرفين جميعًا، وإن عدمه يوم العتق سقط عنه التقويم، وإن أيسر عند الحلول، وهو قول المغيرة وسحنون. والقولان في "كتاب ابن سحنون". وسبب الخلاف: في أصل المسألة قوة التهمة وضعفها. فمن رأى أن التهمة في ذلك قوية قال: يتهم في استخراج حصة الشريك من يده بغير اختياره، ويستبد بملك عبده إلى أجلٍ أراده. ومن ضعّف أمر التهمة: نظر إلى أن مال الجميع، الخروج من ملكهما عند حلول الأجل. ¬

_ (¬1) في أ: اليسرة. (¬2) في أ: لا يقوم.

والمقصود: القربة لاستعمال الحيلة. فإن كان معسرًا: فإنه لا [يقوم] (¬1) عليه في الحال ولا في المآل. فإن أعتق عتقًا ناجزًا، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون معسرًا. والثانى: أن يكون موسرًا. فإن كان معسرًا: فإنه لا يلزمه التقويم، [لأن] (¬2) التقويم مشروط بالإيسار. واختلف في المتمسك بالرق: إذا أراد أن يقوم على المعتق، ويتبعه في الذمة: على قولين قائمين من "المُدوَّنة": أحدهما: أن ذلك له، وأن له أن يقوم عليه وتبيعه في الذمة, لأن ضرر التأخير على الذي لم يعتق، وهو نص قول مالك في "كتاب ابن المواز"، وهو ظاهر "المُدوَّنة". والثانى: أنه لا يمكن من ذلك ولا يجوز له، وهو قول المغيرة في "كتاب أمهات الأولاد" من "المُدوَّنة". وسبب الخلاف: معارضة القياس لدليل الخطاب في قوله عليه السلام "وكان له مال"، دليله: أنه إن لم يكن له مال لا يقوم عليه، "وهو معسر" آخر الحديث من تفسير ابن نافع على قول، أو من متن الحديث على قول. فعلى القول بأنهُ من متن الحديث: يكون القياس معارضًا للخبر إذ ¬

_ (¬1) في أ: تقويم. (¬2) في أ: فإن.

الخبر خبر آحاد، والقياس يوجب تضمين المعتق، إذا أراد التمسك اتباع ذمته وإسقاط حقه من العبد. فإن كان موسرًا، فلا يخلو من أن يعتق جميعه أو يعتق بعضه منه. فإن أعتق جميعه، هل يلزم [ذلك] (¬1) صاحبه، ولا خروج له عنه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لازم للشريك، ولا له عتق حصته، وليس له إلا القيمه يوم العتق، وهو قول ابن القاسم في "كتاب ابن حبيب"، وهو مذهب "المُدوَّنة". والثانى: أن ذلك لا يلزم الشريك الآخر إلا أن يشاء، وله أن يعتق حصته، كما لو أعتق شركًا له فيه، وهو قول مطرف وابن الماجشون في "النوادر". فإن أعتق حصته منه، وهو موسر، فلا يخلو من أن يكون موسرًا بقيمة جميع نصيب [الشريك أو بعض. فإن كان موسرًا بجميع نصيب] (¬2) شريكه بالسراية أو بالتقويم: [فالمذهب] (¬3) على قولين قائمين من "المُدوَّنة": أحدهما: أنه يعتق عليه بالسراية، وهو أحد قولى مالك في "المُدوَّنة"، وهذا القول قائم من "المُدوَّنة" من "كتاب العتق الثاني" في أحد الشريكين، إذا شهد على شريكه أنه قد أعتق حصته من العبد، وهو موسر حيث قال: فإن كان المشهود عليه موسرًا، فنصيب الشاهد حر، لأنه أقرَّ أن ماله على المعتق إلا القيمة، وقد جحده فيها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

الثاني: أنه لا يعتق عليه إلا بالتقويم [وهو المشهور وهو نص المدونة وعلى القول بأنه لا يعتق عليه إلا بالتقويم] (¬1)، فلا يخلو من خمسه أوجه: أحدها: أن يعتق في الصحة، [ويُعثر] (¬2) عليه في الصحة. والثانى: أن يعتق في الصحة، فلم يقوم عليه حتى مرض. والثالث: أن يعتق في الصحة، فلم يُعثر عليه إلا بعد الموت. والرابع: أن يعتق في المرض، فأُقيم عليه فى المرض. والخامس: أن يعتق في المرض، فلم يشعر بفعله حتى مات من مرضه ذلك. فإن أعتق في الصحة [وعثر عليه في الصحة] (¬3)، فلا يخلو شريكه من أن يكون قد أحدث في نصيبه حدثًا [أم لا] (¬4). فإن لم يحدث في نصيبه حدثًا، فلا يخلو المعتق من أن يكون واحدًا أو اثنين: فإن كان الشريك المعتق واحدًا، فإن كان موسرًا ببعض نصيب الشريك، هل يقوم عليه العبد بمقدار غلبته أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يقوم عليه بمقدار غلبته، وهو نص قول مالك في "المُدوَّنة". والثانى: أنه لا يقوم عليه إلا إذا كان موسرًا بقيمة جميع نصيب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: وعثر. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

شريكه، وهذا القول [مستقرأ] (¬1) من "المُدوَّنة". وسبب الخلاف: معارضة القياس لظاهر الخبر وظاهر الخبر يقتضى التقويم بمقدار المالية، استوعب حقُّ الشريك أو بعضهُ، ما لم يكن عنده من المال يسيرًا جدًا. والقياس يقتضى ألا تقويم: لأن التقويم على خلاف الأصل, لأن ذلك يؤدى إلى استخراج المملوك من الملك بغير اختيار [المالك] (¬2)، من غير استحقاق ولا جناية صدرت منه على نفس ولا مال, لأن الشرع ورد بها على شرط [اليسار] (¬3) بقيمة الشقص، فإذا عدم الشرط، بقى على أصل المنع. ومن طريق المعنى أيضًا: أن الشريك المتمسك يلحقه الضرر من تبعيض سهمه في العبد على ما لا يخفى. وإن كان موسرًا بجميع [نصيب] (¬4) الشريك والعتق من واحد، فلا يخلو المتمسك من أن يكون حاضرًا أو غائبًا. فإن كان حاضرًا، فإن الشريك مخيرٌ بين أن يعتق أو يقوم. فإن اختار العتق، أتمهُ بلا خلاف. وإن اختار التقويم، فتمادى عليه فلا إشكال. فإن اضطرب رأيهُ، فاختار العتق، قال: أنا أقوم، أو إذا اختار التقويم، ثم قال: أنا أعتق، هل يمكن من ذلك أم لا؟ فالمذهب على ¬

_ (¬1) في أ: استقراء. (¬2) في أ: الملاك. (¬3) في أ: الإيسار. (¬4) في أ، جـ: قيمة.

قولين: أحدهما: أنه لا يرجع عما اختاره، أولا، وليس له إلا القيمة، وهو قول أشهب في "كتاب ابن المواز". والثانى: أن له الرجوع إلى العتق ما لم يقوم، وهي رواية ابن القاسم وابن وهب عن مالك، وبه قال ابن الماجشون في "كتاب ابن حبيب". فإن اختار التقويم، واتصل بيسر المعتق، من يوم العتق إلى يوم التقويم: فلا خلاف في المذهب أنه يقوم عليه [بقيمته] (¬1) يوم الحكم فإن تخلله عسر أو كان يوم العتق معسرًا أو يوم الحكم موسرًا ما الحكم فى ذلك؟ أما إذا تخلله عسر، مثل: أن يكون يوم العتق [موسرًا] (¬2) ثم أعثر ثم أيسر ثم أقيم عليه. فإن أقيم عليه بالتقويم في حالة العسر، فلم [يقض] (¬3) عليه بشىء: فلا خلاف أنه لا تقويم عليه بعد ذلك. وإن لم يكن أقيم عليه، فلا يخلو من أن يكون عدمه عدمًا بينًا أم لا. فإن كان عدمه عدمًا بينًا: فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يقوم عليه، ولا يُنظر إلى ما خالل ذلك من العسر، وهو قول ابن القاسم في المُدوّنة، وهو قول ابن نافع في "كتاب محمَّد". والثانى: أنه لا يقوم عليه، وهو قول مطرف وابن الماجشون وأشهب وأصبغ وابن القاسم وابن عبد الحكم في "الموازية". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) في أ: يقبض.

فإن أعتق وهو معسر، فلم يقوم عليه حتى أيسر، فلا يخلو العبد من أن يكون حاضرًا أو غائبًا. فإن كان غائبًا حيث لا يعلم خبره، فلا خلاف أنَّه يقوم عليه إذا قدم. فإن كان العبد حاضرًا أو الشريك والعبد عالمان بحال المعتق وعسره، ثُمَّ [رفعاه] (¬1) إلى الإِمام بيسر حدث، فهل يقوم عليه أم لا؟ فعن مالك في ذلك قولان منصوصان في "المُدوَّنة": أحدهما: أنه يقوم عليه، وهو قول ابن نافع [في الموازية] (¬2). والثاني: أنَّهُ لا يقوم عليه. وسبب الخلاف: هل النظر إلى يسره يوم العتق شرط الاتصال إلى يوم الحكم أو النظر إلى يسره يوم الحكم من غير التفات إلى ما قبل ذلك؟ فإن كان المتمسك غائبًا: فإن الإِمام يكتب إليه، إما أن يعتق أو يقوم. فإن كان المعتق غائبًا، فلا يخلو من أن تعلم حياته، أو لم تعلم. فإن علمت حياته، وخلف يسرًا: فإنه يقوم عليه. وإن لم تعلم حياته أو علمت، ولم يخلف مالًا، فإنه [لا] (¬3) يقوم عليه فإن كان العتق من اثنين وتماسك الثالث، فلا يخلو من أن يعتقا [معًا] أو أعتق واحدٌ بعد واحد. فإن أعتقا معًا، وتساويا في اليسار، فلا خلاف في التقويم عليهما معًا، وهل ذلك على عدد الرؤوس أو على عدد الأنصاب؟ قولان قائمان من ¬

_ (¬1) في أ: رفعه. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

"المُدوَّنة": أحدهما: أنه يقوم عليهما على قدر أنصابهما، كالشفعة وهو قول أشهب في "كتاب محمَّد". والثانى: أنه [يقوم] (¬1) عليهما على [عدد] (¬2) رؤوسهما, لأن الفساد القليل والكثير سواء، ألا ترى أنه يقوم على صاحب السدس جميعه، وهو قول عبد الملك في "المبسوط". وسبب الخلاف: التقويم، هل سبيله سبيل [الجناية] (¬3)، فيكون على الرؤوس أو سبيلهُ سبيل [المعاوضة] (¬4)، فيكون على عدد الأنصاب، كالأخذ بالشفعة. وإن كان أحدهما موسرًا والآخر مُعسرًا، فهل يقوم كله على الموسر، أو إنما يقوم عليه مقدار حصته خاصة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يقوم عليه جميعه، وهو مذهب "المُدوَّنة"، وبه قال أكثر أصحاب مالك. والثانى: أنه لا يقوم عليه إلا مقدار حقه خاصة، وهذا القول حكاه سحنون عن عبد الملك في كتاب [ابنه] (¬5). وينبنى الخلاف على الخلاف: هل حكمه حكم [الجناية] (¬6)، فيقوم ¬

_ (¬1) في أ: يعتق. (¬2) في أ: قدر. (¬3) في ع، هـ: الجنايات. (¬4) في ع، هـ: المعاوضات. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ع، هـ: الجنايات.

عليه جميعه أو حكمه حكم [المعاوضة] (¬1)، فلا يقوم عليه قدر حقه؟ فإن أعتق واحد منهما بعد الآخر. فإن كان الأول منهما موسرًا، فالتقويم عليه بلا خلاف، من غير اعتبار حال الثاني. فإن كان الأول معسرًا، والثانى موسرًا، فهل يقوم على الثاني؟ قولان قائمان من "المُدوَّنة": أحدهما: أنه لا يقوم عليه، وهو نص المدونة. والثانى: أنه يقوم عليه، وهو قول ابن نافع في "الموازية" و"الواضحة"، ويؤخذ من قول ابن القاسم في "المُدوَّنة"، من مسألة العبد الذي أعتق الشريك حصته منه، وهو موسر ثم أعتق الآخر بعض نصيبه ثم مات قبل أن يستكمل عليه حيث قال: فإنه يعتق باقيه على الأول، فكما أن تصرف المتمسك في نصيبه لا يسقط التقويم عن الأول إذا مات، فكذلك عدم الأول لا يسقط التقويم عن الثاني. وسبب الخلاف: هل النظر إلى تعدد الجنايات [وحدودها] (¬2) أو النظر إلى من سبق بها وابتدأ الفساد؟ وظاهر الخبر مؤاخذة الموسر منهما والتقويم عليه، كان هو الأول أو الآخر. فأما الوجه الثاني: إذا أحدث الثاني بعد عتق الأول في نصيبه حدثًا، فلا يخلو [ما أحدث به من أن يكون مما] (¬3) ينقل ملكه إلى ملك أو ما ينقل ¬

_ (¬1) في ع، هـ: المعاوضات. (¬2) في هـ: ووجودها. (¬3) في أ: من أن يحدث فيه.

ملكه إلى حرية: فإن أحدث فيه ما ينقل ملكه إلى ملك، كالبيع وأمثاله، فلا يعد ذلك [منه] (¬1) رضا بترك التقويم والتزام العتق، بل يرد ما صنع مع القيام، ويبقى على رأس أمره في التخيير بين العتق والتقويم. فإن فات عند المشتري بالعتق، فالبيع يرد قولًا واحدًا. فإن فات بكتابة أو تدبير، فالبيع يرد وفي الإيلاء قولان. فإن أحدث فيه ما ينقل الملك إلى حُرية، فإن أعتق ناجزًا فلا خلاف في سقوط التقويم، ولزوم العتق، إلا على القول بالسراية. فإن أعتق إلى أجل أو دبر أو كاتب، فلا خلاف في المذهب في رد ما صنع إذا عثر على ذلك قبل الأجل. واختلف هل يلزم العتق في سهمه أو يرجع إلى رأس أمره في التخيير؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المُدوَّنة": أحدهما: أنه يرجع إلى رأس أمره في التخيير [بين العتق والتقويم] (¬2)، وهو قول ابن القاسم في "المُدوَّنة". والثانى: أنه يعجل عليه العتق، ولا خيار له لأنه استثنى من الرق ما ليس له، وهو قول الغير في "المُدوَّنة"، ويؤخذ لابن القاسم مثل قول الغير من قوله: إذا قال المتمسك: أنا أقوم، ثم قال: بل أعتق أنه لا يقوم ولا يعتق، فكما يعد مختارًا بالتصريح، فكذلك يعد مختارًا بالعتق بالتصرف بأنواعه. وإن عثر على ذلك بعد حلول الأجل، أو بعد أن أعسر الشريك الذي ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

أعتق ناجزًا، مضى فعله، ولا مرد له ولا فرق في ذلك بين العتق إلى أجل ولا بين التدبير والكتابة. فأما إن أعتق في الصحة، فلم يقوم عليه حتى مرض، فهل يقوم عليه أو يسقط التقويم، فالمذهب على قولين منصوصين في "المُدوَّنة": أحدهما: أنه يقوم عليه في ثلثه، وهو قول ابن القاسم في "المُدوَّنة". والثانى: أنه لا [يقوم] (¬1) عليه حتى يصح أو يموت، وهو قول الغير في "الكتاب". وسبب الخلاف: هل تتداخل أحكام الصحة في المرض مع تنافر أحكامهما، لكون أحدهما من الثلث والآخر من رأس المال أو لا تتداخل؟ وأما الوجه الثالث: إذا أعتق فى الصحه، ثُمَّ عثر عليهِ بعد الموت، فهل يقول نصيب الشريك فيما له أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال؟ أحدها: أنه لا [يقوم] (¬2) عليه جملةً، وهو قول ابن القاسم في "المُدوَّنة"، وهو قول سحنون في "كتاب ابنه". والثانى: أنه يقوم عليه جملةً، وهو قول أصبغ وابن عبد الحكم في كتاب "ابن المواز". والثالث: التفصيل بين أن يغافصه الموت فيموت، بحدثان العتق فيقوم عليه [، أو بعد أن يموت بعد طول، أو تفريط فلا تقويم عليه، وهو قول أشهب في "العُتبيَّة" و"الموازية". وعلى القول بأنه يقوم عليه] (¬3)، هل يعتق من الثلث أو من رأس ¬

_ (¬1) في أ: يعتق. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من أ.

المال؟ على قولين: [أحدهما] (¬1): أنهُ يعتق من رأس ماله، وهو قول أشهب في "العُتبيَّة". والثانى: أنه يعتق عليه من الثلث، وهو قول أصبغ وابن عبد الحكم في "الموَّازية"، وهو قول مطرف في "الواضحة". وسبب الخلاف: هل النظر إلى حين العتق أو إلى حين التقويم؟ وأما إن عتق بعض عبد يملك جميعه، فلم يستكمل عليه حتى مات، هل يستتم عليه بعد الموت أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يستتم عليه، وهو مذهب "المُدوَّنة"، وهي رواية أشهب عن مالك في "الموَّازية"، وقال سحنون في "كتاب ابنه": هذا قول أصحابنا, ولو مات مكانه أو فلس. والثانى: [أنه] (¬2) إن غافصه الموت، ومات بحدثان ذلك، فإنَّهُ يعتق عليه باقيه في ثلثه، وهي رواية مطرف عن مالك فى كتاب "ابن حبيب". وأما الوجه الرابع: إذا أعتق في المرض، ثُمَّ عُثر عليه في المرض، فهل يقوم نصيب الشريك أم لا؟ فالمذهب على خمسة أقوال كلها قائمة من "المُدوَّنة": أحدها: أنه لا يقوم عليه إلا بعد الموت، كان [ماله] (¬3) مأمونًا أم لا، [والثانى: أنه يقوم عليه كان ماله مأمونًا أم لا] (¬4) إذا حمله ما عنده من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: له. (¬4) سقط من أ.

المال، وظاهرهُ: أنه يقوم عليه الآن، ولا يعتق عليه إلا بعد الموت، وعليه حمله غير واحد من شيوخنا، وهو نصُّ ما في كتاب محمَّد. [والثانى: أنه يقوم عليه بعد الموت، كان ماله مأمونًا أم لا]. والثالث: التفصيل بين أن يكون [ماله] (¬1) مالًا مأمونًا فيقوم عليه الآن، وبين أن يكون مالهُ غير مأمون، فلا يقوم عليه إلا بعد الموت، فإذا مات قُوِّم في ثُلُثه، وينفذ العتق فى جميعه. والأقوال الثلاثة لمالك في "المُدوَّنة". والقول الرابع: أنَّهُ لا يقوم [عليه] (¬2) نصيب الشريك في مرضه، حتى يصح أو يموت: فإن صحَّ: قوم عليه في ماله. وإن مات: عتق ما أعتق في ثُلُثه، ولا يقوم عليه نصيب شريكه، وإن حمله الثُلث, لأن التقويم لا يلزم إلا في عتقٍ بعض إلى حُرية ناجزة أو إلى أجلٍ قريب، ولا يردُّهُ دين، وهذا قد يرده الدين، وهو من الثلث إلا أن يكون له أموالٌ مأمونة، فيقوم عليه ويُعجَّل لهُ العتق مكانه قبل أن يموت، وهو قول ابن الماجشون في كتاب ابن المواز، وبه قال ابن حبيب. والقول الخامس: أن الشريك مُخير بين التقويم وقبض الثمن، بقى كله للمعتق موقوفًا وإن مات عتق عليه أو ما حمله الثلث منه، وما بقى رقيقًا لورثته، وبين [أن يتماسك] (¬3) بنصيبه حتى يصح، فيقوم عليه فى رأس ماله أو يموت فيقوم عليه في الثلث، وهذا القول حكاه ابن ¬

_ (¬1) في هـ: له. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: المتماسك.

سحنون عن أبيه عن ابن القاسم في "كتابه"، وهذا القول قائم من "المُدوَّنة" من تدبير أحد الشريكين، حيث خير المتمسك بين التقويم [وغيره] (¬1) , لأنه ليس التقويم إلا إلى عتق، ولابد لاحتمال [أن يطرأ] (¬2) الدين على المدبر، ولا يحمله الثلث فيرق الباقي، وذلك موجود في هذه المسألة. وينبنى الخلاف على الخلاف: في اعتبار المال المأمون، هل يُراعى أو لا يُراعى؟ واختلف فيما إذا أوصى بعتق نصيبه، هل يقوم عليه نصيب شريكه [بعد موته] (¬3) أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ لا يقوم عليه نصيب شريكه، قال سحنون: وهذا قول جميع أصحابنا، وهو قول مالك في "الموطأ". والثانى: بالتفصيل بين أن يُوصى بذلك أو لا يُوصى. فإن أوصى بتقويم حصة شريكه عليه بعد موته: فإنه يقوم عليه فى ثلثه، وهو قول مالك وابن القاسم [وأكثر أصحابه في العتبية] (¬4). فإن لم يوص بذلك فلا يقوم عليه. والقول الثالث: أنه يقوم عليه، وإن لم يوص به كالمبتل [على] (¬5) سواء، وهذا القول حكاهُ ابن الجلاب في المذهب. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع، هـ: طرآن. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: "وأكثر أصحابنا" وفى جـ: "وأكثر أصحابنا في العتبية". (¬5) سقط من أ.

وعلى القول بأنَّهُ يقوم عليه نصيب شريكه إذا أوصى بذلك، هل يُجبر عليه الشريك المتمسك إذا أبى أو لا يُجبر عليه؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يُجبر على التقويم إن أباهُ، وهو قول أكثر أصحاب مالك في "العتبيَّة". والثانى: أنه لا يجبر وأنَّهُ بالخيار، إن شاء أعتق حصته منه وإن شاء قومها في ثلث مال الميت، وإن شاء تماسك بحصته، ولا يُجبر على البيع، وهي رواية ابن وهب عن مالك فيما حكاه سحنون في "العُتبيَّة"، فقال: "وهي [وهم] (¬1) لا أعرفها". وأما الوجه الخامس: إذا عثر على ذلك بعد الموت، فهل يقوم عليه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ لا يقوم عليه: وإن حمله الثُلُث، وهو نص "المُدوّنة". والثانى: أنه يقوم عليه، وهذا القول قائم من "المُدوَّنة" من قوله: إذا أعتق فى الصحة، ثُمَّ عُثر عليه بعد الموت مِن غير طول ولا تفريط: أنَّهُ يقوم عليه فى أحد الأقوال. وهو الأظهر في النظر والله أعلم. وهذا كُلُّهُ [إذا كان] (¬2) بين الحُرَّين المسلمين والعبدُ مُسلمٌ أو نصرانى أو فيما بين الحُر والعبد، والحُر هو المعتق أو فيما بين المسلم والنصرانى والعبد مسلم: فالحُكم في جميع ذلك على السواء. والجواب عن الوجه الرابع من [أصل المسألة] (¬3): إذا كان بين الحُر والعبد، والعبدُ هو المعتق، فلا يخلو من أن يكون بإذن السيد أو بغير إذنه. ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ.

فإن كان ذلك بإذن السيد أو بغير إذنه إلا أنَّهُ أجاز فعلهُ بعد العلم: فالتقويم على السيد، لأنَّهُ هو المعتق على الحقيقة، فإن لم يكن له مال سوى العبد المباشر للعتق: فإنهُ يُباع عليه في القيمة. وإن كان بغير إذنه، ولم يجوز فعله بعد العلم: فالعتق مردود وأما إذا كانا عبدين، فهما إذًا بإذن السادات كالأحرار بلا تفريع. والجواب عن الوجه الخامس: إذا كانا حرين مسلمين، أحدهما مُطلق اليد في التصرف، والآخر محجورٌ عليه كالصبى والسفيه، فالتقويم على مطلق اليد في التصرف إذا ابتدأ العتق. وإن ابتدأ العتق محجورٌ عليه: فعتقهُ مردود. وإن أجازه من له النظر: فإن كان مسلمٌ أو نصرانى والعبد نصرانى: فإن أعتق المُسلم: فالتقويم عليه. فإن أعتق النصراني، هل يقوم عليه نصيب المسلم أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المُدوَّنة": أحدهما: نفى التقويم، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنَّهُ يقوم عليهِ، وهو قول الغير. وسبب الخلاف: الكُفَّار هل هم مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ وللخلاف سبب آخر: وهو هل يغلب حق الشريك المُسلم فيقوم عليهِ أو يغلب حقُّ العبد ثُمَّ لا [يقوم] (¬1)؟، لأنَّ التقويم يتضمن ثلاثة حقوق: حق الله وحق العبد وحق الشريك. والجواب عن الوجه السادس: إذا كانا نصرانيين والعبدُ مُسلم، هل يقوم ¬

_ (¬1) في هـ: تقويم.

على المعتق منهما أم لا؟ قولان في المذهب قائمان من "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّهُ يوم على المعتق منهما، وهو المشهور. والثانى: أنَّهُ لا يقوم عليه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المُدوَّنة"، فيما: إذا كان [عبد بين مسلم ونصرانى] (¬1)، فأعتق النصرانى حصَّتهُ. وسبب الخلاف: هل يغلب حقُّ العبد، فيكون حكم بين مسلم ونصرانى أو يغلب حق الله فيسقط التقويم على القول بأنَّ الكفَّار غير مخاطبين بفروع الشريعة. وإن كان العبدُ نصرانيًا، فأعتق أحدهما حصته، فإن الخلاف في التقويم على من أعتق منهما، يتخرَّج على الخلاف في الكفَّار هل هم مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: عبدٌ مسلم بين مسلم وكافر. وفي هـ: عبد نصرانى بين مسلم وكافر.

المسألة الحادية عشر في المأذون إذا اشترى من يعتق على سيده، فلا يخلو المأذون من وجهين

المسألة الحادية عشر في المأذون إذا اشترى من يعتق على سيده، فلا يخلو المأذون من وجهين: أحدهما: أن يتَّجر بمال نفسه لنفسه. والثانى: أن يتَّجر لسيده. فإن كان العبد يتجر لنفسه، فاشترى من يعتق على سيده، هل يعتق على السيد أم لا؟ قولان قائمان من "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّهُ يعتق على السيد، علم [العبد] (¬1) بذلك أو لم يعلم، وهو قول مالك وابن القاسم. والثانى: أنَّهُ لا يعتق عليه، علم [العبد] (¬2) بذلك أو لم يعلم، وهو قول أشهب في "كتاب ابن المواز". وسبب الخلاف: [اختلافهم في] (¬3) من ملك أن يملك، هل يُعد كالمالك قبل أن [يملك] (¬4) أم لا؟ فإن كان العبد يتَّجر لسيده، فلا يخلو المأذون من أن يكونه عالمًا أو غير عالم. فإن لم يعلم، فالمشترى يعتق على السيد اتفاقًا, لأن تصريف المأذون بين أن يكون عالمًا، كتصرف سيده. فإن علم واجترأ على الشراء، هل يعتق من اشترى على السيد أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: يملكه.

قولان منصوصان في "المُدوَّنة": أحدهما: أنه يعتق عليه، علم المأذون بذلك أو لم يعلم، وهو نص قول ابن القاسم في "كتاب الرهون"، وفي بعض روايات "المُدوَّنة"، وهو قول ابن القاسم وأصبغ في غير "المُدوَّنة"، بناءً على أن الصيغة عامة بفحواها للمسميات، وشاملة ببنائها للمشتريات والعبد مغرور في تركه البيان والتفسير والنهى والتحظير عن بعض أنواع المتاجر. والقول الثاني: أنه لا يعتق على السيد، إن علم وهو نص [قول] (¬1) ابن القاسم في [آخر] (¬2) كتاب العتق [الثاني] (¬3)، بناءً على أن السيد إنما قصد بالإذن في التجارة: الإكثار، وعرض ماله للاستثمار بالأرباح الغزار، وليس للعبد أن يرصد به المخاوف ويقدمه للمُتالف، وذلك ضد مُرام السيد، وعكس للغرضِ المقصود. والله أعلم [والحمد لله وحده وصلى الله على محمَّد وآله وصحبه وسلم] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: الأول. (¬4) زيادة من ع، هـ.

كتاب العتق الثاني

كتاب العتق الثاني

كتاب العتق الثاني تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها ست مسائل: المسألة الأولى شراء الأب مَن يعتق على ابنه الصغير. ولا يخلو ذلك من وجهين: إما أن يكون عالمًا أو جاهلًا. ولا خلاف أن البيع ينعقد، وأنَّهُ يعتق على الابن، إلا خلافٌ شاذ، حكاهُ أبو محمَّد عبد الحق عن بعض شيوخه، وما قاله خلاف لأصولِ مذهب مالك رحمه الله، ونصُّ المذهب "أن من أذن له بالتصرف في المال، يلزمُ ربَّ المال الذي اشترى من قرابته من غير قصد وإيثار كالوكيل والعامل والعبد المأذون لهُ شبههما ولإطلاق أَيديهم في المال والأدب من هذا القبيل. فإن كان عالمًا: فلا خلاف في المذهب أنَّ الشراء في المذهب لا يجوز ابتداءً، وإن نزل هل ينعقد في البيع أم لا؟ قولان قائمان في "المُدوَّنة". أحدهما: أن البيع لا ينعقد، وهو قول مالك فيمن اشترى أباهُ، وليس عندهُ إلا بعض ثمنه حيث قال: يردُّ البيع بُناءً على أن البيع لا ينعقد في ذوى المحارم إلا إلى عتق لا إلى ملك. والثانى: أنَّهُ ينعقد، وهو قول ابن القاسم في المسألة المذكورة وأشهب في غير "المُدوَّنة". وعلى القول بأنَّ البيع لا ينعقد، بلا تفريع.

وعلى القول بأنَهُ ينعقد فيهِ البيع، فلا خلاف أنَّهُ لا يُعتق على الابن في الحال، وقبل أن يبلغ. واختلف هل يعتق على الأب أو ينقاد فيها لهُ أو للولد؟ على ثلاثة أقوال كُلُّها قائمة من "المُدوَّنة": أحدها: أنَّه يعتق على الأب، وهو قول مالك في العامل إذا اشترى منْ يعتق على ربِّ المال عامدًا. والثانى: أنَّهُ يبقى رقيقًا لهُ، ويغرم الثمن مِن مالهِ، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الوكالات" في الوكيل إذا اشترى مَن يعتق على ربِّ المال، وهو عالم حيثُ قال: "لا يلزم الأمر"، وقال يحيى بن عمر: ويلزم المأمور ويسترقه. والقول الثالث: بالتفصيل بين أن يكون فيه فضل عن ما اشتراهُ بهِ، فيباع منهُ برأس المال، ويعتق الفضل، وهو قول سحنون، وهو نص "المُدوَّنة" في مسألة القراض أيضًا، وبين ألا يكون فيه فضل فيُباع جميعهُ. وعلى القول بأنَّهُ لا يعتق على الابن في الحال، بل يسترقه. فإن بلغ وهو في ملكه، هل يعتق عليه أو يُباع؟ قولان: أحدهما: أنَّهُ يُعتق عليه، وهو قول أشهب، وهو ظاهر المُدوَّنة في مسألة الميراث، وقد قال ابن القاسم: "إذا ورث الصغير مَن يعتق عليه بالملك، بأنَهُ يعتق عليه بالشراء أولى". والثانى: أنَهُ لا يعتق عليه، لأن غيرهُ تولى شراءهُ، ولهُ أنْ يبيعهُ، وهو تأويل أبى محمَّد عبد الحق عن بعض شيوخهِ. وعلى القول أنَهُ لا يعتق على الأب، بل يسترقه، ويغرم الثمن من

مالهِ، فهو قولٌ ضعيف. فإذا كُنَّا نعتقه على العامل في القراض، ولم يكن فيه ربح، بل بمجرد إطلاق اليد في التصرف، فبأن يعتق على الأب أولى, لأنَّ شبهة الأب في مال ولده الصغير أقوى مِن شبهة العامل والوكيل، وهذان لهما شبهة الإذن في التصرف، والأب له شبهة أصلية، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك" (¬1) مع ما انضاف إلى ذلك من إطلاق اليد في التصرف في مالهِ، وأنَّ الأبَّ لو أعتق عبد ابنه الصغير عن نفسه وكان مُوسرًا لنفذ العتق، وغرم القيمة اتفاقًا. والعامل لو أعتق عبدًا مِن مال القراض لرد العتق اتفاقًا. فدلَّ والحالة هذه أنَّ شبهة الأب أقوى. فلو قيل: إنَّهُ يعتق على الأب دون العامل، لكان في النظر أولى غير أنَّ المصلحة تقتضى مساواتهما، من حيث أنَّها جناية على مال الغير، فوجب أن [يعاقبا] (¬2) بنقيض المقصود، ويعتق [عليهما] (¬3) ويغرمان الثمن أو القيمة، ليكون ذلك ردعًا لهما ولأمثالهما. والحمد لله وحدهُ. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة (2291) و (2292) وأحمد (6902) والطبراني في "الأوسط" (3534) وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬2) في أ: يعاقب. (¬3) في أ: عليه.

المسألة الثانية في العبد يعطى مالا لرجل على أن يشتريه من سيده فلا يخلو من خمسة أوجه.

المسألة الثانية في العبد يعطى مالًا لرجل على أن يشتريه من سيده فلا يخلو من خمسة أوجه. أحدها: أن يقول له "اشترنى لنفسى". والثانى: أن يقول له "اشترنى لنفسك". والثالث: أن يقول له "اشترنى لنفسك وأعتقنى". والرابع: أن يختلفا. والخامس: أن يبهم الأمر، أن يقول له: "اشترنى فسكت". فأما الوجه الأول: إذا قال اشترنى لنفسى بمال دفعه إليه فلا يخلو المشترى من أن يكون قد استثنى ماله أم لا. فإن كان قد استثنى ماله [فهو حر] (¬1) [مكانه] (¬2) [لأنه ملك نفسه وولاءه] (¬3) لسيده [البائع. وإن لم يستثن ماله عاد رقيقًا لبائعه] (¬4) [وماله] (¬5) له [ولا يتبع المشترى كان مليًا أو معدمًا] (¬6). وأما الوجه الثاني: إذا قال "اشترنى لنفسك" فاشتراه بمال دفعه إليه فلا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: كان. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في هـ: والمال. (¬6) سقط من أ.

يخلو من أن يستثنى ماله أم لا. فإن استثنى ماله: كان رقيقًا للمشترى ولا شىء عليه للبائع. وإن لم يستثن مالهُ فالبيعُ لهُ لازم، ويلزم غرم الثمن ثانيةً، إن كان لهُ مال. وإن لم يكن لهُ مال بيع عليه في ذلك أو يُباع منهُ بقدر الثمن، وباقيه رقيقٌ لهُ. وأما الوجه الثالث: إذا قال [له] (¬1): "اشترنى لنفسك وأعتقنى" فهذا كما تقدَّم. فإن استثنى ماله كان [حرًا و] (¬2) ولاوه للمُشترى دون البائع. فإن لم يستثن مالهُ فإنَّهُ يغرم الثمن ثانيةً. فإن كان لهُ مالٌ أخذ منهُ الثمن، وإلا بيع منهُ [بقدْر] (¬3) ما بقى مِن الثمن، ويعتق ما بقى. وإن لم يف به بيع بعضهِ بيع جميعه، وإن بقى مِن الثمن شىء اتبع به في ذمَّته، ولقد قال مالك في "كتاب ابن المواز": فإن علم ذلك قبل أن يعتقَهُ المشَترى، غرم الثمن من ماله ثانيًا إن كان مليًا وإلا بيع منهُ بقدره. فإن لم يكن فيه فضلٌ عن الثمن رجع العبد إلى سيدهِ رقًا يريد البائع. وما قالهُ مُخالفٌ لأصل المذهب، والمذهب أنَّ البيع لازمٌ لهُ، والثمن في ذمَّتهِ، ويُباع العبد فيه، وما عجز عنه [يتبع] (¬4) به. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع، هـ: مقدار. (¬4) في أ: أتبع.

وأما الوجه الرابع: إذا اختلفا وقال العبد: إنما دفعتُ لك المال لتشتريني لنفسي وقال المشتري: بل على أن أشتريك لنفسي. أن القول قولُ المشترى، استثنى مالهُ أو لم يستثنه، حتى تقوم البيِّنة للعبد، وهو قول أصبغ في "الموازية". فإن ادّعى السيد أنَّ المُشتري دفع الثمن من مال عبده، وصدقهُ العبد [وكذبهما] (¬1) المشترى فالقول قوله، ويحلف إن لم يستثن ماله، فإن دفع استثناه فلا يمين عليه، وإن نكل حلف البائع ويأخذ الثمن, عُرفت بينهما خُلطة أم لا. وأما الوجه الخامس: إذا أُبهم الأمر، مثل: أن يعطيه المال، ويقول له: اشترنى. ولم يزد على ذلك، فهل يُحمل على أنَّهُ اشتراه لنفسه، حتى يعلم غير ذلك؟ وهو قول محمد، وهو الصحيح. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: وكذبه.

المسألة الثالثة فيمن وهب لرجل شيئا, ولم يقبضه الموهوب [له]، حتى فوته الواهب

المسألة الثالثة فيمن وهب لرجلٍ شيئًا, ولم يقبضهُ الموهوب [له] (¬1)، حتى فوتهُ الواهب. فلا يخلو تفويتهُ لهُ مِن ثلاثة أوجه: أحدها: أن [يفوتهُ] (¬2) ببيع. والثانى: أن [يُفوته] (¬3) بهبة لغير الأوّل. والثالث: أن [يُفوته] (¬4) بعتق أو إيلاد إن كانت أمة. فالجواب عن الوجه الأول: إذا فوَّتهُ بالبيع، فلا يخلو الموهوب له من أن يكون عالمًا بالهبة أو غير عالم: فإن كان عالمًا, ولم يُنكر: فالبيع نافذٌ اتفاقًا، ويسقط حقَّهُ مِن غير ما وُهب لهُ، باعهُ بقدر ما وُهب لهُ أو بعد طول، وإنمَّا الخلاف في الثمن، هل يكون للموهوب أم لا؟ فابن القاسم يقول: إنَّ الثمن له. وأشهب يقول: إنَّ الثمن للواهب، ولا شىء للموهوب لهُ، والقولان منصوصان في "كتاب الصدقة" مِن "المُدوَّنة". فإن علم بالهبة ولم يعلم بالبيع، فالمذهب على ثلاثة أقوال كُلّها قائمة مِن "المُدوَّنة": أحدها: أن البيع ماضٍ، والثمن للموهوب لهُ، وهو قول ابن القاسم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: يفيته. (¬3) في هـ: يفيته. (¬4) في هـ: يفيته.

في "كتاب الصدقة"، وسواءٌ باعها بعد الهبة أو بفور الهبة. والثانى: أن البيع مردود، باع [مغافصة] (¬1) أو بعد حين، وهي رواية [ثابتة عن أصبغ وعبد الملك بن الماجشون] (¬2) عن مالك، وهو ظاهر "المُدوَّنة"، في أنَّ الهبة تلزم العقد، ولا رجوع فيها للواهب إلا أن يردَّها الموهوب لهُ ولم يقبلها. والقول الثالث: بالتفصيل بين أن يبيعها مغافصة أو بعد التمكُّن: فإن باعها مغافصة رد البيع. وإن باعها بعد التمكن من القبض نفد البيع، وهو قول أصبغ. وسبب الخلاف: هل عقد الهبة أقوى والحوزُ فرع؟ وهو المشهور. أو الحوز أقوى من عقد الهبة، وهو مذهب العراقيين. والجواب عن الوجه الثاني: إذا فوَّتها بالهبة لغير الأول، فقبضها [الآخر هل] (¬3) الأول أولى بها أو الثاني؟ فالمذهب على قولين منصوصين في كتاب "العتق الثاني" من "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّ الأول أحق بها من الثاني، وهو قول ابن القاسم. [والثانى] (¬4): [أن] (¬5) الثاني أحقُّ بها، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: ما قدمناه، هل عقدُ الهبة أقوى أو الحوز أقوى؟ والجواب عن الوجه الثالث: إذا فوَّتهُ بالعتق، إذا كان عبدًا أو بإيلاءٍ إن ¬

_ (¬1) في أ: بفور الهبة. (¬2) في أ: "ثابت وعبد الملك بن الماجشون" وفي جـ: "ثابتة عن عبد الملك بن الماجشون". (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

كانت أمة فإنَّهُ يتخرج على الثلاثة الأقوال التي قدَّمناها في المبيع. أحدها: أنَّ العتق أولى، وهو قول ابن القاسم في "المُدوَّنة"، وهو خلاف ما نص عليه في البيع تعصيبًا للعتق، وهو على الحقيقة اضطرابٌ مِن القول لأنَّ حق الموهوب له الأول تعلق بالهبة، كتعلق حقِّ العبد بالعتق، ولا فرق سواء فإذا كانت الهبة لازمة للواهب [بالعقد] (¬1)، وثابتة للموهوب لهُ بشرط القبول أو الحوز: فليس للواهب التفويت حتى يعلم خبر الموهوب لهُ، هل قبل أم لا؟ لأنَّ ذلك حقٌ ثابتٌ لهُ، إن شاء قبلهُ، وإن شاء ردهُ، كمديان أعتق عبدهُ، فعتقهُ موقوفٌ [على] (¬2) إجازة الغرماء أو ردِّهم. والقول الثاني: أنَّ العتق مردود للموهوب لهُ قبل القبض، وهي رواية ثابتة عن مالك في "المبسوط". والقول الثالث: بالتفصيل بين أن يعتقهُ فرادًا فيردُّ العتق أو يعتقهِ بتبعيض فيكون العتق [أولى]، وهو قول أصبغ. وعلى القول بأنَّ الإيلاد والعتق فوت، هل يغرم الواهب القيمة للموهوب لهُ أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المُدوَّنة": أحدهما: أنَهُ لا شىء عليه، وهو المشهور، وهو ظاهر "المُدوَّنة". والثانى: إن قصد التفويت، يغرم القيمة، وإلا فلا شىء عليه، وهذا القول مروىٌ عن مالك أيضًا، وهو ظاهر قوله في البيع. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: بالعتق. (¬2) في هـ: إلى.

المسألة الرابعة إذا أعتق عبده على مال

المسألة الرابعة إذا أعتق عبده على مال اختلف لفظهُ في الكتاب، بعضه في "كتاب العتق الثاني" وفي "كتاب المكاتب والأسئلة والأجوبة"، وذلك لاختلاف صور مسائلها ونحن نفصل مسائلها على ما قال شيوخنا، ونحن نذكر مواضع الخلاف منها، والاتفاق على ما تقتضيه مذاهب شيوخنا، بيانًا يرفع الإشكال ويدفع الاحتمال إن شاء الله تعالى، وهي على خمسة مسائل: الأولى: أنت حرُّ وعليك [كذا] (¬1). الثانية: أنت حرٌّ على أن عليك [كذا] (¬2). الثالثة: أنت حرٌّ على أن تدفع إلىّ كذا. الرابع: أنت حرٌّ على أن تؤدى إليَّ كذا. والخامس: أنت حرٌ إن أديت إلىّ كذا وإن دفعته، أو إذا أديتهُ، أو دفعتهُ، أو أعطيتهُ، أو متى ما جئت به. واختلف تأويل المتأخرين والشارحين، هل ترجع هذه الصور الخمس إلى ثلاث مسائل، ترجع إلى ثلاثة أجوبة, أو هى أربع مسائل لها أربع أجوبة: فذهب معظم الشارحين والمختصرين من القرويين وغيرهم أن مذهب مالك ثلاث مسائل لهُ فيها ثلاثة أجوبة، ترجع في الحقيقة إلى جوابين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

المسألة الأولى: قولك: وعليك، وعلى أن عليك. أنَّها عنده سواء، والعبدُ يُعتق ويُتبع بالمال، كان ذلك برضاهُ أو بغير رضاه، وهو نصُّ قوله في "كتاب العتق" [الثاني] (¬1) في قوله: "وعليك"، وهو ظاهر قولهُ في "كتاب المكاتب": على أن عليك، لقوله: العتق جائز، والدنانير لازمة للعبد. واختصرها بعضهم "كان حرًا ويتبع بالمال"، ومثله فى "كتاب محمَّد" قال: هو حُر وعليه بالمال. وهو قول سحنون قال: وعليك، وعلى أن عليك، عند مالك سواء. المسألة الثانية: [قوله] (¬2) على أن تدفع إلىّ كذا، فلا يُعتق عنده حتى يدفع وذلك يرجع إلى رضا العبد، فإن رضي كان عتقهُ موقوفًا على الأداء، وهذا مجموع لفظه في "الكتاب" على افتراقا مواضعه، ومثلهُ في "كتاب محمَّد"، قالَ هذا مِن ناحية [الكتابة] (¬3). قال بعض [شيوخنا] (¬4) القرويين: ولم يختلف المذهب في هذا أن العبد بالخيار بين الرد والقبول، وأنَهُ إن قبل لم يعتق حتى يدفع المال وقولهُ: إن دفعت، أو أديت، أو إذا، أو متى، كُلُّها بمعنى واحد. هذا تحصيل مذهب مالك عند هؤلاء. ومذهب ابن القاسم عندهم أنها أربع مسائل بأربعة أجوبة، يوافق فيها مالك في الأسئلة الثلاثة: أنت حرٌّ على أن تدفع إلىَّ، أو أنت حر على أن تُؤدى إلى، أو أنت حر إن أديت إلىّ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع، هـ: الكتاب. (¬4) في أ: الشيوخ.

[ويخالفه] (¬1) في السؤالين إذا قال لهُ: أنت حرٌّ وعليك. وكان بغير رضا العبد: أنَّهُ يكون حُرًا عندهُ، ولا يتبع بشىء، وإن كان برضاهُ، فإنه يُتبع قولًا واحدًا، وهو قولهُ في [كتاب] (¬2) أمهات الأولاد إذا أعتق أُم ولدهِ على مال برضاها: إنَّها يلزمُها. وذهب بعض الأندلسيين إلى [أنها] (¬3) [على] (¬4) مذهب ابن القاسم ثلاث مسائل لهُ فيها ثلاثة أجوبة، في كلِّ [جواب لكل] (¬5) مسألة قولان: الأولى: قوله: "أنت حرٌّ وعليك"، ففيها قولان: أحدهما: أنه حرٌّ ولا يتبع بشىء، وهو نصَّهُ في [كتاب] (¬6) العتق الثاني. والثانى: أنَّهُ يكون حرًا [ويتبع] (¬7)، وهذا القول قائم من "كتاب العتق الثاني" من قوله: إذا قال السيد: أعتقك على مال، وقال العبد: على غير مال. حيث قال ابن القاسم: القول قول العبد، ويحلف، فإن كان العبد لا يلزمهُ المال، ما كان يحلف. والثانية: قوله: على أن عليك، أو على أن تدفع إليَّ فهذان الوجهان ¬

_ (¬1) في أ: قال. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: أن. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

[عند مالك] (¬1) مسألة واحدة، جوابهما واحد، اختلف فيها قول ابن القاسم أيضًا، فقال في "الكتاب" في قوله: على أن عليك ما تقدم، وقال في قوله: على أن تدفع إلى [العبد] (¬2) مخير كقول مالك: ولا عتق للعبد إلا بأداء المال، وله ألا يقبل. وقال في "العتبية": على أن عليك، العبد مخير في الرضا بالعتق على ذلك معجلًا، فيلزمه المال دينًا أو يؤدى ذلك ويبقى رقيقًا، [وأنَّ هذين القولين] (¬3) يدخلان المسألتين جميعًا، وأنَّهما عندهُ واحدة. الثالثة: قولهُ: على أن يؤدى إليَّ. هل [هو] (¬4) مثل قوله: على أن تدفع إلى أم لا؟ قولان بين المتأخرين: أحدهما: [أن قوله:] (¬5) على أن تُؤدى إلىّ، مُخالف لقوله: على أن تدفع [إلىَّ] (¬6)، وأنَّ قولهُ: على أن تؤدى [إليَّ] (¬7) لم يختلف فيه [أن العبد بالخيار] (¬8) وأنَهُ لا يُعتق إلا بالأداء. والثانى: أنه لا فرق بين اللفظين. فعلى القول بالتساوى، [فيدخل اختلاف] (¬9) قول ابن القاسم في ¬

_ (¬1) في أ: عنده. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع، هـ: وإن كان هذان القولان. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ. (¬9) في أ: فيختلف.

قوله: على أن تؤدى [إلىّ كما اختلف في قوله] (¬1) وعلى أن تدفع إلىّ [والقول بالتساوى بين قوله: "على أن تؤدى إلىّ وعلى أن تدفع إلىّ صحيح] (¬2) لأن قولهُ: على أن تدفع إلىَّ، أو على أن تُؤدى. كأنَّهُ جعل للعبد اختيارًا ونظرًا لصرفه الفعل إليه. وفي قوله: على أنَّ عليك، "وعليك" إلزام للعبد، ولا رأى [له] (¬3) فيه ولا اختيار [بل] (¬4) ظاهرهُ أنَّهُ مجبور على الدفع. فهذا تفصيل هذه [المسائل] (¬5). واختلاف الشيوخ في مذهب مالك وابن القاسم فيها على ما تراهُ، وسنورد في ذلك تفصيلًا آخر، نزيد به هذه المسائل [بيانًا] (¬6)، ونذكر ما فيها من خلاف، ولغير ابن القاسم [ومالك] (¬7). فأما قوله: أنت حرٌّ وعليك. والعبدُ غيرُ راضٍ كما قدمناه، ففيه ثلاثة أقوال: [أحدها] (¬8): قول مالك وأشهب أنَّهُ يكونْ حُرًا ويتبع. والثانى: أنَّهُ يكون حُرًا, ولا شىء عليه، وهو قول ابن القاسم. والثالث: قول عبد الملك وابن نافع أنَّ العبدَ مخير إن شاء التزم ذلك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: أن. (¬5) في أ: المسألة. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من أ.

ويعتق ويتبع بالمال دينًا، إن لم يكن عندهُ، وإن أبى رجع رقيقًا. والثانية قوله: أنت حرٌّ على أنَّ عليك. فيها أربعة أقوال: أحدها: قول مالك: إن العتق نافذ ويتبع بالمال، كقولهُ في الأوَّل. والثانى: أن العبد مُخيَّرٌ في إلزام المال أو رده، ويبقى رقيقًا، كقول عبد الملك في الأول، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". والثالث: قول ابن القاسم [على رأى بعضهم] (¬1) أنه يخير بين القبول، ولا يعتق إلا بالأداء أو الرد، ويبقى [رقيقًا] (¬2) على جوابه في "المُدوّونة" في قوله: على أن تدفع إلى. وتسويتهم بين اللفظين. والرابع: أنَّهُ لا خيار للعبد ولا يحصل لهُ العتق، حتى يدفع المال، فكأنَّهُ مِن باب الشرط، وهو قولُ أصبغ. والثالث قوله: أنت حرٌّ على أن تدفع إلىَّ ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّ العبد يُخير في أن يقبل ويلزم المال، ولا يعتق إلا بأدائهِ أو يرد ويبقى رقيقًا، وهو قول مالك وابن القاسم في "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهُ مخيَّر بين الرضا بالعتق معجلًا أو يلزم المال دينًا أو يرد ذلك ويبقى رقيقًا، وهو قول ابن القاسم في "العُتبيَّة"، في قوله بالمساواة بين قوله: على أن عليك، وعلى أن تدفع إلىَّ. والثالث: تخريج بعض الشيوخ أن العبد متى دفع المال كان حرًا، وللسيد إجبار العبد على ذلك، بناءً على أنَّ للسيد أن يُجبر عبدهُ على الكتابة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

والرابعة قوله: أنت حرٌّ على أن تؤدى [إليَّ] (¬1) يتخرج فيها قولان أيضًا: أحدهما: أن العبد بالخيار، وأنَّهُ لا يُعتق إن اختار إلا بالأداء. والثانى: أنَّهُ إن اختار العتق بالمال، يُعجِّل العتق ويتبع بالمال في الذمة إن كان معسرًا. فهذا تحصيل هذه المسألة، وإيراد ما قيل فيها على الاستقصاء. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الخامسة إذا أقر بعض الورثه أن أباه أعتق هذا العبد

المسألة الخامسة إذا أقر بعض الورثه أن أباه أعتق هذا العبد فلا يخلو مِن أن يُصدِّقهُ [بقية] (¬1) الورثة أو يُكذِّبهُ. فإن صدّقهُ [بقية] (¬2) الورثة أو واحدٌ منهم، وكان هو والمُقر عَدلين: فالعبدُ حرٌّ، إن حمله الثلث أو ما [حمل منهُ] (¬3) الثلث إن لم يكن في الورثة إناث [أو كان فيهم إناث] (¬4) والعبدُ ممن لا يرغب في ولاية. فإن كذبهُ بقية الورثة، فلا يخلو الميت من أن يترك عبيدًا سواه أم لا. فإن ترك عبيدًا [سواه] (¬5): فإن انقسموا، فإنهم يُقسمون. فإن [صار] (¬6) الذي أقر بعتقه [في سهمه] (¬7)، وقد حمله ثلث مال الميت، هل يعتق عليه جميعه أو نصفه؟ فالمذهب على قولين من "المُدوَّنة": أحدهما: أنه يعتق عليه جميعهُ، وهو قول ابن القاسم في ["المُدوَّنة" "وكتاب ابن المواز"] (¬8). ¬

_ (¬1) في أ: بعض. (¬2) في أ: بعض. (¬3) في هـ: حمله. (¬4) سقط من هـ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في هـ: صار إليه. (¬7) سقط من هـ. (¬8) في هـ: كتاب محمَّد.

والثانى: أنهُ لا يعتق منهُ إلا نصفهُ، وهو قول مالك وأشهب في "كتاب محمَّد" بُناء على أنهُ لا يعتق إلا في [ثلث] (¬1) نصيب الوارث المقر، مثل أن يكون الميت قد ترك عبدين، قيمة كُل واحدٍ منهما مائة ويترك مائة دينار. فإن نظرت إلى جميع التركة، كان الثلث يحمله، ويعتق جميعه. وإن نظرت إلى ما أخذ الوارث، فقد أخذ مائة وخمسين ويعتق نصفه [لأنه ثلث] (¬2) ما أخذ. ويبنى الخلاف على الخلاف: في القسمة، هل هى بيع أو تمييز حق؟ فمن رأى [أنها] (¬3) بيع قال: لا يُعتق جميعهُ، وإنما يعتق عليه نصفه، على الخلاف فيمن رُدَّت شهادته في عتق عبدٍ ثُمَّ اشتراه. وعلى القول بأنَّها تمييز حق، فيعتق جميعه. فإن لم يترك [الميت] (¬4) عبيدًا سواهُ، هل يعتق عليه حصتهُ من العبد أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كُلُّها قائمة مِن "المُدوَّنة": أحدها: أنهُ لا يجوز إقرارهُ، ويكون نصيبهُ من العبد رقيقًا، وهو قولهُ في "المُدوَّنة". الثاني: أنَّهُ يعتق عليه نصيبهُ خاصة، وهو أحد قولى ابن القاسم في إقرار أحد الشريكين على صاحبه أنه أعتق حصتهُ، وهو موسر أنه يعتق نصيب الشاهدين، فهو في هذا أحرى أن يعتق نصيبهُ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: لأن الثلث. (¬3) في أ: أنه. (¬4) في أ: السيد.

والثالث: أنَّهُ يعتق [عليه] (¬1) نصيبه، وتقوم عليه أنصاب شُركائه، [ووجه] (¬2) قول من قال: إنَّهُ لا يعتق عليه نصيبه. إما [لكونه] (¬3) أدخل بإقراره ضررًا على الورثة, لأنَّ عتق البعض عيب في جملته، فلم يُقبل إقرارهُ. وإما لأجل أن ذلك يؤدى إلى عتق النصيب بغير تقويم. وأما القولان الآخران، فمنشأ الخلاف فيهما احتمالان: أن يكون هذا العتق من الميت، كما قال المُقر، ثُمَّ لم يعتق من العبد إلا حصتهُ، ولا تقويم عليه. واحتمال أن يكون من الوارث، فيسندهُ إلى الميت، فرارًا من التقويم، فيستكمل عليه. وعلى القول بأنَّهُ لا يُعتق عليه، هل يبيع حصتهُ منهُ أو يسترقهُ، فقد قال مالك في "المُدوَّنة": يندب إلى أن يبيع حصَّتهُ، فيجعلها في رقبة المعتق، أو [يُعلن] (¬4) [بها] (¬5) في آخر نجوم المكاتب. وقال بعض أصحابنا: ينبغى ألا يستخدمهُ في يومه وأن يتورع عنه إذا تمادى على إقراره. [والحمد لله وحده] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: وهو. (¬3) في أ: أن يكون. (¬4) في هـ: يعين. (¬5) سقط من أ. (¬6) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة السادسة في النصراني إذا أعتق عبده أو دبره،

المسألة السادسة في النصراني إذا أعتق عبدهُ أو دبَّرهُ، ثُمَّ أراد الرجوع فيه فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يعتقهُ بعد إسلام العبد. والثانى: أن يعتقهُ قبل إسلامهُ ثُمَّ أراد الرجوع قبل إسلام العبد أو بعد إسلامه. فإن أعتقه [بعد إسلام العبد فلا رد للسيد اتفاقًا لأنه كان حكم بين مسلم ونصراني. وإن أعتقه] (¬1) قبل إسلامهِ، فيرجع فيه [و] (¬2) العبد كافر، ولا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون قد أخرجهُ مِن يدهِ، وأبانهُ عن ملكه. والثانى: أن يكون تحت يدهِ مسترسلًا في خدمتهِ. فالوجه الأول: إذا أخرجهُ مِن يده، هل يُحكم بعتقهِ أم لا؟ على قولين قائمين مِن "المُدوَّنة": أحدهما: [أنه] (¬3) يعتق عليه، ولا رجوع له فيهِ، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الجنايات" مِن "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهُ لا يُحكم عليه بعتقه، وأنَّهُ يمكن من الرجوع [في] استرقاقهُ، وهو ظاهر قولهُ في "كتاب العتق الثاني"، و"كتاب الولاء والمواريث". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: أن.

وسبب الخلاف: الحيازة، هل هى أمرٌ معمولٌ له إسلامًا وكفرًا لقوله عليه السلام: "مَن حاز شيئًا عشر سنين، فهو لهُ" (¬1) ومِن صيغ العموم فيمن يعقل الوجه الثاني: إذا بقى تحت ولايته مسترسلًا على خدمتهِ، فلا خلاف في المذهب أنَّهُ يُحكم عليهِ بعتقه لعدم الحوز. وأما إن أعتقهُ قبل إسلامه ثُمَّ أراد الرجوع فيه بعد إسلام العبد: فإن أخرجهُ مِن يده وأبانهُ [عن ملكه] (¬2)، فلا خلاف في المذهب أن العتق نافذ، ولا مرد لهُ, لأنَّ تمكينهُ مِن الحوز بالإبانة دليلٌ على زوال ملكهِ عنهُ مع ما أحدث مِن الإِسلام. فإن لم يُخرجهُ مِن يده بعد عتقه، وبعد إسلامه، حتى حاول الرُجوع، هل يُمكَّن منهُ أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين مِنَ "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّ العتق نافذٌ لازمٌ، وهو ظاهر "المُدوَّنة" مِن كتاب "العتق الثاني"، و"كتاب الولاء". والثانى: أنَّ لهُ الرُجوع في عتقهِ، وأنَّ لهُ أن يسترقهُ، وهو ظاهر "المُدوَّنة"، على اختلاف الروايات في "كتاب العتق الثاني" وقد قال [فيه] (¬3) مالك: ولو أراد أن يفسخ كتابته وتدبيرهُ، [لم] (¬4) أعرض لهُ إذا كان تدبيرهُ [ذلك] (¬5) قبل أن يُسلم العبد. فعلى هذه الرواية، يُمكَّن مِن الرُجوع، و [هو] (¬6) الذي اختارهُ ¬

_ (¬1) ضعفه الشيخ الألبانى في "الضعيفة" (4853). (¬2) سقط من أ. (¬3) فى أ: به. (¬4) في أ: ثم. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: هذا.

[القاضى] (¬1) أبو محمَّد عبد الوهاب والشيخ أبو الحسن اللخمى. [وعلى الرواية الثانية] (¬2): إذا [رده] (¬3) ذلك قبل أن يُسلم. وهي رواية ابن وضَّاح، فلا يُمكن مِن الرجوع, لأنَّهُ حكم بين مسلم ونصرانى، والمشهور أنَّهُ لا يعتق عليه وأنَّ لهُ الرجوع، وهو قولهُ في ["المُدوَّنة"] (¬4). [لأن] (¬5) مُكثُهُ تحت الولاية والاستخدام، دليلٌ على استدامة المُلك، وإسلامه بعد ذلك لا يوجب لهُ عتقًا مجردًا إلا أن يبينه من تحت يده كما تقَّدم. وَمَنْ يقول: [ينفذ] (¬6) العتق، ولا رد لهُ رأى أن العبدُ يعتذر، ويقول: لو طالبتهُ بالإبانة، لرجع في عتقى، فالآن قد صرتُ مسلمًا. فهذا حكم [بين] (¬7) مسلم ونصرانى. وهل التدبير كالعتق في جميع ما ذكرناه أم لا؟ قولان: أحدهما: المساواة، وهو ظاهر "المُدوَّنة". والثانى: أنَّ التدبير مخافٌ للعتق، والتدبير يصح للعبد بعد الإِسلام، وإنْ لم يُخرجهُ مِن يدهِ، إذ لا يُتمكَّن لهُ ذلك، إلا لبقاء الخدمة عليهِ، بخلاف العتق. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: أراد. (¬4) في هـ: العتبية. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ع، هـ: بنفوذ. (¬7) سقط من أ.

وهذا كُله إذا لم يرض السيد بحكم الإِسلام. وأما إن تداعا العبد [والسيد] (¬1)، ورضيا أن يُحكم بينهما بحكم الإِسلام، فقد نص [مالك] (¬2) في كتاب "العتق الثاني" من "المُدوَّنة": أنَّ [الحاكم] (¬3) يُحكم عليه بعتقه. والحمد لله وحدهُ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الحكم.

كتاب المدبر

كتاب المدبر

كتاب المدبر تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتُها خمسُ مسائل. المسألة الأولى الفرق بين التدبير والوصيَّة والتدبير مأخوذ مِن الدُّبر، ودُبُر كل شىءٍ وراءهُ، ولهُ ثلاثة ألفاظ: أحدها: قوله: أنت مُدبر. والثانى: قولهُ: أنت حرٌّ عن دبر مني. والثالث: قولُهُ: أنت حرٌّ بعد موتى، ولا رُجوع [لي فيك] (¬1). فإذا تلفظ بأحد هذه الألفاظ الثلاثة، فلا خلاف في المذهب أنَّهُ مدبر، لا [يرث] (¬2) فيه. ولفظ الوصية أن يقول: قد أوصيتُ بعتق فلان، أو قال: أعتقوا فُلانًا بعد موتى، فهذا لا خلاف [فيه] (¬3) أنَّها وصيَّة، ولهُ الرجوع فيها. هناك لفظٌ ثالث متردد بين هذين الأصلين أوجب تردده اختلافًا بين العلماء، هل يُحمل على الوصيَّة أو على التدبير؟، وهو أن يقول لعبده: أنت حرٌّ بعد موتى. فلا يخلو من أن تكون معهُ قرينة تدل على الوصيَّة أَو لم تكن: فإن كانت معهُ قرينة، كقوله: أنت حرٌّ بعد موتى إنْ متُّ مِن هذا ¬

_ (¬1) في أ: له فيه. (¬2) في أ: يورث. (¬3) سقط من أ.

المرض، أو هذا السفر. فهي وصيَّة اتفاقًا. وإن عدمت القرائن: ففى المذهب قولان منصوصان في "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّها وصيَّة حتى يُريد التدبير، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنَهُ تدبير حتى يُريد الوصيَّة، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: هل تغلب الدلالة العُرفية على اللغوية أو تغلب اللغوية [على العُرفية] (¬1)؟ فإن قوله: أنت حرٌّ بعد موتى، تدبير معنى واشتقاقًا. والعرفية: أن العادة جرت باستعمال هذه العبارات في الوصية، فإذا أثبت فلا يخلو التدبير من أن يكون مُطلقًا أو مقيدًا: فإن كان مُطلقًا، كقوله: أنت مدبر، [فإنه] (¬2) يُحمل على إطلاقه بلا خلاف ولا رُجوع لهُ فيه ببيعٍ ولا غيرهِ اختيارًا. فإن كان مقيدًا، كقوله: إن متُّ مِن مرضى هذا أو سفرى هذا، فأنت مدبر، أو إذا قدم فلان، فأنت مُدبر، وغير ذلك مما يُحتمل أن يكون، ويحتمل ألا يكون، هل يجوز لهُ البيع أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ البيع جائز، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنَّ بيعهُ مكروهٌ غير محظور، وهو قول مالك، [لأنَّهُ قال: مرض هلك في بيعه] (¬3). والقولان في "المُدوَّنة". والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من هـ.

المسألة الثانية في رهن المدبر

المسألة الثانية في رهن المدبر ولا يخلو مِن أحد وجهين: أحدهما: أنَّ يكون الراهن مُتطوعًا [به] (¬1) بعد العقد [والثانى: أن يكون مشروطًا في أصل العقد. وأما الوجه الأول وهو أن يكون الراهن قد تطوع به بعد العقد] (¬2): فالرهن جائز اتفاقًا، فإن حل الأجل قبل موت الراهن، نظر إلى الدين: فإن كان [قبل] (¬3) التدبير: بيع [المدبر] (¬4) في الدين اتفاقًا. فإن كان بعد التدبير: فالمدبر لا يُباع، ويبقى رهنًا إلى موت السيِّد. فإن كان عبدهُ وفَّى به الدين: خرج المُدبر من الرهن، وقوم في الثُلُث. وإن لم يكن لهُ مال: بطل التدبير، ويُباع العبدُ في الدَّين، ويكون المُرتهن أولى [به] (¬5) مِن الغُرماء. والوجه الثاني: إذا كان الرهن مشروطًا في أصل البيع أو السلف، فإن كان الدين قبل التدبير، فالرهن جائزٌ اتفاقًا [ووفاقًا] (¬6). وإن كان بعد التدبير: لم يُجز للغرر. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: العقد. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

وبيان الغرر: أنَّ صاحب الدَّين لا يدرى متى يقبض دَيْنَهُ، وهو إنَّما [يُريد] (¬1) قضاء دينه مِن الرهن الذي تحت [يديه] (¬2) أو مِن مال السيِّد، ولا يدرى هل يحل أَجلهُ قبل موت السيِّد وهو ملى، [فيأخذه] (¬3) لأجلهِ أو يحل وهو عديم، ولا يقدر على بيع الرهن قبل وفاة السيد، فهذا بيان وجه الغرر. فابن القاسم يُطلق جواز رهن المُدبر في "الكتاب"، وأطلق أشهب المنع في "كتاب الرهون". واختلف المتأخرون هل ذلك اختلاف حال أو اختلاف أقوال؟ فمنهم مَن حَمَلَ قول ابن القاسم على الوجه الأول، قال: إنَّما تكلَّم ابن القاسم فيما إذا تطوع الراهن بالرَّهن، وكان غير مشروطٍ في أصل العقد. وأشهب تكلَّم على الوجه الثاني، إذا كان مشروطًا في العقد. كُلُّ واحدٍ منهما تكلم على ما لم يتكلم عليه الآخر، فيكون ذلك اختلاف حال، وهو تأويلْ جيد. ومنهم مَن حمل الكلام على ظاهره فقال: ابن القاسم لم يفصِّل، وأشهب فصَّل، فحمل كلامهما على أنَّهُ اختلاف قول. واختلف في [وجه] (¬4) قول ابن القاسم على هذا التأويل: ¬

_ (¬1) في ع، هـ: يرجو. (¬2) في ع، هـ: يده. (¬3) في أ: ويأخذ. (¬4) سقط من أ.

فمنهم مَنْ قال: إنَّ ذلك منهُ جنوح إلى جواز بيع المُدبر ومنهم مَنْ قال: إن ابن القاسم يقول: وإن كان الرهن في أصل العقد، فإنَّ ذلك جائز، فإن حلّ الأجل قبل موت السيِّد، والدَّين بعد التدبير فالعبد يُؤاجر لهُ دون سائر الغُرماء. فإن وفَّاهُ والسيِّد حىٌ رجع إلى السيِّد. فإن مات السيِّد، ولم يكن لهُ مال، بيع منهُ بمقدار ما بقى مِن دينهِ، ويعتق ثُلُث ما بقى، إذا لم يكن عليهِ دينٌ سواه. والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة في بيع المدبر.

المسألة الثالثة في بيع المدبر. ولا يخلو بيع المُدبر مِن أحد وجهين: إما أن يكون قائمًا بين المُشترى. أو فائتًا. فإن كان قائمًا: فالبيع مردود اتفاقًا. وإن كان فائتًا، فهل هو في ضمان البائع [أو في ضمان المشترى] (¬1)؟ [فعن مالك في ذلك قولان] (¬2): أحدهما: أنَّ الضمان [فيهِ من] (¬3) البائع، وأن البيع [فيه] (¬4) غيرُ مُنعقد. والثانى: أنَّ الضمان فيه مِن المُشترى. فعلى القول بأنَّ الضمان فيهِ مِن [المشترى] (¬5)، فلا يخلو فواتهُ مِن ثلاثة أوجه: إمَّا بحدوث عيب. وإما بموت. أو بعتق. ¬

_ (¬1) في أ: أم لا. (¬2) في أ: فالمذهب على قولين. (¬3) سقط من هـ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: التمسك.

[أو إيلاد] (¬1) إن كانت أمة. فإن فات بحدوث عيبٍ: فالبيع مفسوخ، ويردُّ المُشترى العبدَ، مع ما نقصه العيب. واختلف في أرش العيب، هل يكون للسيد ملكًا أو يجعلهُ في رقبة أُخرى؟ على قولين: أحدهما: أنَّهُ يكون للسيد ملكًا، وهو ظاهر "المُدوَّنة"، كأرش بعض أعضائه. والثانى: أنَّهُ يجعلهُ في [رقبته] (¬2) للعِتق. وإن كان فواتهُ ذهاب [شخصهِ] (¬3) بالموت، فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّ البائع يصرف جميع الثمن في رقبة أُخرى، وهو قول أشهب في "الدمياطية". والثانى: أنَهُ يصرف الفضل إلى الرقبة خاصةً، وهو مذهب "المُدوَّنة". والثالث: أنَّ الفضل الزائد [على ما] (¬4) بين الرَّجاء والخوف يُصرف للمشترى، وهو أحد قولى سحنون رضي الله عنهُ. وإن كان فواتهُ بعتقِ أو إيلاد إن كانت أمة، هل يفتيهما ذلك أو ينتقض البيع؟ قولان منصوصان في كتاب "المكاتب". ¬

_ (¬1) في ع، هـ: وإما بإيلاد. (¬2) في أ: رقبة. (¬3) في هـ: عينه. (¬4) في أ: عما.

وعلى القول [بأن ذلك] (¬1) يُفيتهما البيع، هل يكون الثمن للبائع سائغًا أو يجعلهُ في رقبة أُخرى؟ قولان: أحدهما: أنَّ الثمن لهُ [سائغ] (¬2)، وهو مذهب "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهُ يجعل الثمن كُلّهُ في رقبة أُخرى، وهو قول ابن كنانة في "كتاب المدنيين". وعلى القول بأنَّ البيع ينتقض [و] (¬3) أنَّ العتق لا يُفيتُهُ، فإن لم يحكم بنقضهِ، حتى مات البائع، نظر: فإن حَمَلهُ الثُلُث نقض البيع، وعتق على الميت. فإن كان عليهِ ديْن [برقه] (¬4): مضى البيع فيه. وإن لم يكن [عليه] (¬5) دين، ولا لهُ ثلث [يحمله] (¬6): فإن البيع ينتقض في ثلث العبد ويُعتق على الميت، وينظر في الثُلُثين الباقيين: فإن كان المُشترى قد أعتقهُ نفد عليه عتق الثُلُثين، ويكون لهُ من الولاء بقدر ذلك. فإن لم [يعتقه] (¬7)، هل يلزمُه البيع في الثلثين أو يملك [الرد] (¬8) بعيب العتق.، فإن لم يعلم بالتدبير حتى اشترى [فله] (¬9) الرد: فإن ¬

_ (¬1) فى أ: بأنها. (¬2) في أ: مبايع. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: كمله. (¬7) فى أ: يفته. (¬8) فى أ: الولد. (¬9) في أ: فأما.

علم، هل لهُ [رد العيب] (¬1) أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ البيع يلزمهُ في الثُلُثين، ولا رد [له] (¬2) لعلمهِ بالتدبير. والثاني: أنَّ لهُ الرد، لأنَّهُ لم يدخل إلا على جُملة العبد لا على بعضهِ. والحمد لله وحدهُ. ¬

_ (¬1) في هـ: الرد. (¬2) سقط من أ.

المسألة الرابعة في المدبر يكاتب أو المكاتب يدبر

المسألة الرابعة في المدبر يكاتب أو المكاتب يُدبر. ولا يخلو مِن أن يسبق التدبير بالكتابة أو يتقدم بالكتابة على التدبير. فإن قدم بالتدبير على الكتابة مثل أن يكاتب مدبره، فإنَّ ذلك جائز، ويكون مُدبرًا مكاتبًا، ثُمَّ لا يخلو مِن ثلاثة أوجه: إمَّا أن يُؤدى في حياة سيِّدهِ. وإمَّا أن يعجز. وإمَّا أن يموت السيد قبل أنْ يُؤدى، ولم يعجز. فإن أدَّى في حياة السيِّد: كان حُرًا. فإن عجز عن أداء الكتابة: بقى على حقَّهِ في التدبير وإن لم يُؤد، ولم يعجز حتى مات [السيد] (¬1)، فلا يخلو مِن أن يكون عليه دين يغترقه أو لا دين عليه. فإن كان عليهِ ديْن يغترق قيمة المدبر، فلا يخلو مِن أن تكون قيمتهُ مكاتبا أكثر مِن قيمته أو تكون قيمتهِ مكاتبًا أقل. فإن كانت قيمتهُ مكاتبًا أكثر مِن قيمتهِ غير مُكاتب أو كانت قيمته مُكاتبًا وغير مكاتب سواء: سقط التدبير وبقيت الكتابة، وتباع الكتابة في الدَّين. فإن كان [في] (¬2) بعضها وفَّى به: بيع ذلك منها، وعُتق ثُلُث ما بقى، ويحطَّ عنهُ منها بقدر ثلث ما لم يبع مِن كتابتهِ، وهو ما قابل ثلث ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

العتق بعد الذي بيع للديْن. وإن كانت قيمتهُ مكاتبًا أقل، وقيمة الرقبة أكثر، مِثل: أن تكون رقبتهُ غير مكاتب "مائة"، وقيمتهُ مكاتبًا خمسون، هل يبقى على كتابتهِ أو يعجز؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّه يبقى على كتابتهِ، ويُؤدى لأهل الدَّين نجومًا. فإن أدى: عُتق كلهُ، وإن عجز: قُضى منه الدين، وعتق ثُلث ما بقى، وهو قول ابن القاسم في "الموَّازية"، وبه قال أصبغ. والثانى: لابد مِن تعجيزهِ، حتى يعتق منهُ ثُلث ما بقى بعد ما يُباع للدَّين، وهو قول عبد الملك في "الموَّازية". فإن مات السيد، ولا ديْن عليهِ: فإنَّهُ يقوم بحقِّهِ في التدبير. فإن حملهُ الثلث على أنَّهُ لا كتابة فيه: عُتق وسقطت الكتابة. وإن لم يترك مالًا سواه: أعتق ثُلثه لتدبير، وبقى ثُلثاهُ بالكتابة، ويسقط عنهُ مِن كُلِّ نجم ثلثه، وبقى في الثُلُثين. وأمَّا إن قدَّم الكتابة على التدبير، مثل أن يدبر مكاتبه: كان الجواب على ما تقدم، ولو سبق [التقديم] (¬1) في جميع ما قدَّمناه. فإن لم يُؤد الكتابة، ولا عجز حتى مات السيِّد: كانَّ في الثلث الأقل مِن الكتابة أو [من] (¬2) قيمة الرقبة. [و] (¬3) الفرق بينهما أنَّهُ إذا تقدَّم التدبير، ثُمَّ مات السيِّد، كان السيد ¬

_ (¬1) في أ: التدبير. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

على [حقه في الكتابة لأنه] لم يسقطها. وإن تقدمت الكتابة: كان قد أسقطها بالتدبير. وإن مات، فإن كانت قيمته مُكاتبًا أقل، قال العبد: إنَّما [يستحق قبلى مالًا] وقد أسقطهُ بالتدبير، وهو الذي [جعل] (¬1) في الثلث فإن كانت قيمة الرقبة أقل، قال: إنما بعجز بنفسى [لعتق. فإذا أعجز نفسه] (¬2)، كانت الرقبة هى [المملوكة]. والحمد لله وحدهُ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

المسألة الخامسة في المدبر يباع في المقاسم، فلا يخلو من ثلاثة أوجه

المسألة الخامسة في المدبر يُباع في المقاسم، فلا يخلو مِن ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعلم أنَّهُ لرجل مِن [المسلمين بعيد فهذا] لا يُقسم، ويوقف لهُ. والثانى: أن يعلم أنَّهُ مدبر لمسلم، وجهل عين صاحبهِ، فهذا تكون خدمتهُ لأهل الجيش دون [رقبته أو]: أن يجهل أنَّهُ مدبر، فيباع في المقاسم، ثُمَّ قدم صاحبهُ بعد القسم واستحقَّهُ، هل للسيد أن يفدى خدمتهُ أو يبقى رقيقًا [لمشتريه؟ فالمذهب] (¬1) على قولين: أحدهما: أنَّهُ يبقى رقيقًا لمشتريهِ، وهو قول ابن القاسم في "الدمياطية". والثانى: أن للسيَّد المستحق أنَّ [يفدى خدمته وهو]، قولهُ في "المُدوَّنة". وسبب الخلاف: ما حازه الكفَّار مِن أموال المسلمين، هل يقطع ملكهم منهُ أم لا؟ وعلى القول بأنَّهُ [يبقى مدبرًا هل تكون] خدمتهُ لمشتريه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ جميع خدمته حياة السيد لمشتريه مِن المقاسم ولا شىء فيها [للسيد]، وهو قول ابن الموّاز. والثانى: أنَّ مُشتريه من المقاسم، يستوفى مِن خدمتهِ ما اشتراهُ بهُ. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن استوفاهُ وسيِّدهُ حى متى [رجع إليه وهو قول ابن القاسم] في "المُدوَّنة". فإن مات السيِّد قبل أنْ يستوفى في المُشترى مِن الخدمة ما اشترى به، فلا يخلو مِن أن يحملهُ [الثلث أو لا يحمله] (¬1). فإن حملهُ الثُلُث كان [عتيقًا. واختلف هل يتبع] [بالفضل] (¬2) أم لا؟ على قولين قائمين مِن "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّهُ يُتبع ببقية القيمة في ذمته، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنَّهُ لا [يتبع بشىء وهو قول]، الغير في "كتاب الجنايات" [في المدبر] (¬3) يجنى ثُمَّ يُسلم السيِّد خدمتهُ للمجنى عليه. وسببُ الخلاف: هل ذلك [تسلم اقتضاء فيرجع] إليه الفضل أو ذلك تسليم [تملُك] (¬4)، فتكون جميعُها للمشترى أو المجنى عليه، وإن لم يحملهُ الثُلُث، فإنَّهُ يحسب ما بقى من [الثمن ثم يستوفى] مِن الخدمة، [فيقبض] (¬5) على ما أعتق، وعلى ما بقى فما ناب [العتيق] (¬6) منه اتبع به، وما لم يحمله الثلث [رق] (¬7) للمشترى، وهل للورثة [فيه خيار أم لا]؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: بالفاضل. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ع، هـ: ملك. (¬5) في أ: فيقضى. (¬6) في هـ: العتق. (¬7) سقط من أ.

أحدهما: أنَهُ لا خيار فيهِ للورثة، وهو المنصوص عن مالك. والثانى: أن الخيار فيهِ للورثة. والقولان: [قائمان من المدونة]. وسببُ الخلاف: هل ذلك حقٌ يورث عن الميت أو ليس ذلك حقٌ يُورثْ عنهُ؟ والحمد لله وحدهُ.

كتاب المكاتب

كتاب المكاتب

كتاب المكاتب تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتُها سبع عشرة مسألة: المسألة الأولى في الكتابة. كانت الكتابة في [الجاهلية فأقرها] الإِسلام، وهي العتق على مال. واختلف في اشتقاقها: فقيل: هى مشتقة مِن الكتاب، وهو: الأجل، قال الله عز وجل: {إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} (¬1) أي: أجل معلوم أي مُقدر. وقيل [هى] (¬2) مِن الإيجاب واللزوم، لإلزام السيد ذلك للعبد، ولا رجوع لهُ فيه، وأن ذلك أمرٌ [لازم للعبد]، ولا خروج لهُ [عنه] (¬3) أيضًا، كان ذلك برضاهُ على الوِفاق [إلا على القول بأن له أن يعجز بنفسه وإن كان له مال ظاهر] (¬4) أو [على غير] (¬5) رضاه، على الخلاف في السيِّد، هل له أن يجبر عبده على الكتابة أم لا؟ [وقد اختلف] فيهِ المذهب على قولين قائمين مِن "المُدوَّنة"، وقد قال فيمن كاتب عبدهُ على نفسه [مع] (¬6) عبدٍ لهُ غائب: إنَّ ذلك جائز، وذلك ¬

_ (¬1) سورة الحجر الآية (4). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ع، هـ: بغير. (¬6) في هـ: وعلى.

لازم كتابة [ولا رجوع] (¬1) لهُ عنهُ، وهو قولهُ في "كتاب العتق الثاني" إذا أعتق عبدهُ على مالٍ، حيثُ قال: إنَّهُ يُتبع في الذمَّة على ما [أحب أو كره. وظاهر] قول ابن القاسم [الذي] (¬2) يقول: يُعتق ولا يُتبع، أنَّهُ لا يجوز لهُ أن يُجبرهُ على الكتابة. والدليل على أنَّها مِن الإيجاب، مِن كتاب الله تعالى [قوله] (¬3): {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} (¬4) أي: أوجبها. وقيل: إنَّ الكتابة مأخوذة مِن الكتاب الذى يكتبونه بينهم في [عقد ذلك ويقدر] فيها كتاب، وكتابة، ومكاتبة قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (¬5) الآية. [صيغتها] (¬6) صيغة الأمر، مقيَّدة بشرط، فإذا وجب هذا الشرط، هل تجب الكتابة أو هى مباحة أو مندوب إليها؟ ولا خلاف عندنا أنَّ الكتابة ليست بواجبة، وبه قال الشافعى وأبو حنيفة خلافًا للظاهرية، ولا خلاف عندنا أنَّها مباحة واختلف عندنا، هل هى مندوب إليها أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنَّها على الإباحة دون المندوب، وهو ظاهر قول مالك في "الموطأ". والثانى: أنها على الندب، وهو قول القاضى أبى الحسن بن القصَّار، ¬

_ (¬1) في هـ: ولا خروج. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سورة الأنعام الآية (54). (¬5) سورة النور الآية (33). (¬6) في هـ: وهذه.

وبه قال عبد الملك بن الماجشون [في المبسوط] (¬1). وسبب الخلاف: اختلافهم في صيغة الأمر إذا وردت. فمن حملها على [ظاهر الأمر] (¬2) قال بالوجوب. ومن صرفها عن الوجوب، استدل بالإجماع على أن السيد لا يجبر على عتق عبده ولا على بيعه. والكتابة لا تخلو مِن أن تكون بيعًا أو عتقًا. فإذا خرجت عن أن تكون واجبة، ترددت بين الندب والإباحة. فمن حملها على الندب رأى أن الكتابة عقدٌ مِن عقود الحُرية، الذي هو أفضل أعمال البر، وأجلُّ نوافل الخير، ولاسيما وقد أمر الله تعالى به. فإذا بطل أن يُحمل [هذا] (¬3) الأمر على الوجوب، فأقل مراتبه أن يُحمل على الندب. [ومن] (¬4) حملهُ على الإباحة، رأى أنَّهُ أمرٌ وَرَدَ بعد الحظر ومشهور [مذاهب] (¬5) الأصوليين أنَّ صيغة افعل إذا وردت بعد الحظر، [أنه] (¬6) [يحمل] (¬7) على الإباحة، كالأمر بالصيد بعد الإحلال، والانتشار بعد صلاة الجمعة إلا أن بعض حُذَّاق الأصوليين، قال: إنَّما يصحُّ ذلك، إذا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: ظاهرها. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: فمن. (¬5) في هـ: مذهب. (¬6) في أ: أنها. (¬7) سقط من أ.

كان الحظر [متأصلًا] (¬1)، فأمَّا إذا كان لعارضٍ طرأ ثُمَّ زال كالإحرام والجمعة والإطعام، وذلك حظرٌ طرأ ليس بأصلى، وإلى هذا ذهب إمام الحرمين في التلخيص، وحظر الكتابة متصلًا. وبيان وجود الحظر في الكتابة، وأنها على خلاف الأصل، ومقتضى الدليل: ألا تجوز الكتابة, لأن العبد يسعى ويقتحم الأخطار، ويجول في الأقطار، ويُؤدى المال إلى السيد لأمرٍ لا يدرى أيكون أو لا يكون. ويُحتمل أن يُؤدى جميع الكتابة، فيعتق ويحتمل أن يموت قبل الأداء، ويحتمل أن يعجز بعد أنْ أدى أكثر الكتابة، ويرجع رقيقًا، والمال للسيِّد، ويذهب عناؤه [باطلًا] (¬2)، لا هو إلى العتق ولا مالهُ يرجع إليه، فهذا غرر وخطر مع ما فيهِ مِن أكل المال بالباطل، [إلا أنَّ] (¬3) الشرع رد بجوازها، وهذا أمر ورد بعد الحظر، والحظر أصل، فوجب أن يُحمل على الندب. ويختلف هل هى منجمَّة أو حالة؟ على قولين: أحدهما: أنَّها مُنجمة، ولا يجوز أن تكون حالة، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدوّنة" حيث قال: والكتابة عند الناس منجمة. وهو قولُ الشيخ أبى محمَّد بن أبي زيد في "رسالتهِ" (¬4)، وهو مذهب الشافعى رضي الله عنه. والثانى: أنَهُ يجوز أن تكون حالة، وهذا القول حكاية القاضى أبى ¬

_ (¬1) في أ: متصلًا. (¬2) سقط من هـ. (¬3) في هـ: لكن. (¬4) (ص/ 223).

محمَّد عن مُتأخرى شيوخنا، وهو الذي ارتضاهُ هو وغيرهُ مِن أئمتنا، وهو مذهب أبى حنيفة رضي الله عنهُ. وسبب الخلاف: اختلافهم في اشتقاق "الكتابة": فمن رأى أنَّها مشتقة مِن "الكتاب" الذي هو الأجل قال: إنَّها منجمة. وَمن رأى أنَّها مشتقة مِن الكتاب الذي يُكتب بينهما يقول: إنَّها حالة، إذ ليس في مقتضى إطلاقها ما يدلّ على التنجيم والتأخير إلا ما يُؤخذ من الاشتقاق. فإن كان هناك دليل عرفى، فينبغى أن يكون الرجوع إليهِ، وكذلك قولهُ تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (¬1) هو ندب وترغيب للوجوب واللزوم، خلافًا للشافعى، فإنَّهُ حمل الكتابة على الندب، والإيتاء على الوجوب. وقد اختلف في ذلك على أربعة أقوال: أحدها: أنَّهُ يوضع عنهُ مِن آخر كتابته شىء، وهو قول مالك في المُدوَّنة، ومَنْ حكى عنه مِن أهل العلم. والثانى: أنَّهُ يُوضع [عنهُ] (¬2) رُبع الكتابة، وهو قول على بن أبى طالب رضي الله عنه. والثالث: أنَّهُ شىءٌ حث عليه المولى وغيرهُ، وهو قول النخعى. وهذه الأقوال كُلُّها في "المُدوَّنة". ¬

_ (¬1) سورة النور الآية (33). (¬2) سقط من هـ.

والرابع: أنَّ الخطاب في ذلك للولاة، يعطونهُ مِن الزكاة التي فرض الله لهم، وهو قول زيد بن أسلم. وفيها قول خامس: أن الخطاب فيها للسيد أن يعطيهِ [شيئًا] (¬1) من مالهِ، وهذا القول مروىٌّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. واختلف في قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (¬2)، ما الخير الذي أراد؟ فقيل: [الخير] (¬3) المراد [هو] (¬4) القوة على الأداء، وهو مشهور قول مالك. وقيل: المال نفسه، وقالهُ مجاهد وسعيد بن جُبير وزيد بن أسلم والضحَّاك، قال الله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} (¬5) و [قيل] (¬6) الأمانة [والصدق] (¬7) والوفاء، وهو قول النخعى. وقد اختلف في كتابة مَن لا سعاية [له] (¬8) ولا أمانة كالصغير: قال ابن القاسم: أنَّها جائزة. قال أشهب: لا تجوز، وترد إلا أن تفوت بالأداء. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة النور الآية (33). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سورة البقرة الآية (180). (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من هـ. (¬8) في ع، هـ: فيه.

المسألة الثانية في الكتابة [على غرر]، هل تجوز أو لا تجوز؟

المسألة الثانية في الكتابة [على غرر] (¬1)، هل تجوز أو لا تجوز؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كُلّها قائمة مِن "المُدوّنة": أحدها: أنَّ الكتابة على الغرر جائزة، وهو مشهور المذهب، وهو ظاهر "المُدوَّنة" بجواز الكتابة على وصف حمران أو سودان، ولم يصفهم جاز، ويعطى وسطًا من وصف الحُمران أو السودان، فظاهر "المُدوَّنة" أنَّهُ تجوز الكتابة على غرر، وقد سألهُ في كتاب "المُدوَّنة" عن الكتابة بالغرر، فأتى بهذه المسألة، ولم يُجبهُ عن الغرر الذي سأل عنهُ، كالعبد الآبق والبعير الشارد. والثانى: أنَّ الكتابة على غرر لا تجوز، وهذا القول قائم مِن "المُدوَّنة" مِن "مسألة اللؤلؤ" إذا كاتبهُ على لؤلؤ "غير موصوف"، فقال ابن القاسم فى "الكتاب": إن الكتابة لا تجوز، إذ [لا يحاط] (¬2) بصفتهِ، وتفسخ الكتابة. وقال محمَّد بن الموّاز: لا تُفسخ الكتابة، وتكون مِن أوسط الذي يشبه ما بينهما. والقول الثالث: أنَّ الكتابة بالغرر تُكره ابتداءً، فإن نزلت لم تفسخ، لإجازة غير واحد الربا بين السيد وعبده، وهو قول أشهب في كتاب ابن الموّاز. وعلى القول بأنَّها تجوز على الغرر، فلا يخلو ذلك الغرر مِن ثلاثة ¬

_ (¬1) في هـ: بالغرر. (¬2) في أ: لا يخاطب.

أوجه: إمَّا أن يكون في مِلك العبد. أو في ملك السيد. أو في ملك غيرهما. فإن كان في ملك العبد، مثل: أن يُكاتبهُ على عبد لهُ آبق أو بعيرٍ شارد أو جنين في بطن أُمِّه: فإنَ ذلك جائز، لأنَّهُ قد كان للسيِّد انتزاع ذلك مِن عبدهِ، وأن يجبره على طلبهِ من غير كتابة. فإذا جعل لهُ العتق على ذلك، فقد [تفضل]. فإن كان ذلك الغرر في ملك السِّيد، مثل: أن يُكاتبهُ على أن [يأتيه] (¬1) بعبده الآبق وبعيره الشارد، فإنَّ ذلكَ جائز [أيضًا] (¬2)، إذ للسيد أن يُجبرهُ على طلب ذلك كما تقدم، لأنَّهُ عبده ولهُ أن يُكلفهُ مِن الأعمال التي له [بها] (¬3) طاقة ما شاء، وهو قول ابن القاسم في ["المدونة"] (¬4). فأما إن كان ذلك الغرر في يد غيرهما، مثل: أن يُكاتبهُ على عبدٍ فلان، هل تجوز الكتابة أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّ الكتابة جائزة، فإنَّ جاء به وحصَّلهُ، كان حُرًا، وإلا حكم بعجزهِ، وهو قول ابن القاسم في "المُدوَّنة" و"الموَّازية". والثانى: أنَّ الكتابة لا تجوز وتفسخ إلا أن يشتريه قبل الفسخ، وهو ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) في جـ، هـ: العتبية.

قول أشهب في "كتاب محمَّد". والثالث: أنَّهُ إن لم يشتره، أدى قيمته، ولا يفسخ ذلك، وهو قول محمَّد [وقال] (¬1) ابن ميسر لا يتم له شىء إلا بعبدِ فُلان، والذي قالهُ يُحتمل أن يكون تفسيرًا لقول ابن القاسم. وسبب الخلاف: الكتابة، هل ناحيتها ناحية البيع أو ناحيتها ناحية العتق؟ واختلف إذا كاتبهُ على أن يغرس لهُ كذا وكذا شجرة، هل ذلك كتابة أو وعد؟ وفائدة ذلك وثمرته، إذا فلس السيد أو مات فإن كانت كتابة تثبت، وإن كان وعدًا أُسقط. والصحيح: أنَّها كتابة، والدليل عليه كتابة سلمان الفارسي رضي الله عنهُ كاتبهُ [سيده] (¬2) على أن يغرس لهُ كذا [وكذا] (¬3) واديًا مِن نخل. والحمدُ لله وحدهُ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

المسألة الثالثة في الكتابة على الخدمة.

المسألة الثالثة في الكتابة على الخدمة. ولا تخلو الخدمة مِن أن يكون معها مال أو لم يكن: فإن كان معها مال، مِثل: أن يُكاتبهُ على عشرة دنانير منجمة عليه، يُؤدى كُل شهر دينارين، خدمته حتى يُؤدى كتابته، وأسفارًا يشترطها عَليهِ ما دام في الكتابة، فإنَّ ذلك لازمٌ لهُ ما لم يُؤد كتابتهُ، وإذا أدّى كتابتهُ وعجَّلها قبل حلولها، هل يسقط عنهُ ما كان اشترط عليه مِن الخدمة أم لا؟ ولا يخلو مِن أن يعجل عتقهُ [بعد] (¬1) قضاء الخدمة والأسفار أم لا. فإن عجَّل عتقهُ بعد قضاء الخدمة والأسفار، عند حلول أجل الكتابة، فإنَّهُ لا تسقط عنه الخدمة ولا يحصل لهُ العتق إلا بانقضاء أمد الكتابة. وإن عجل المال قبل ذلك، وهو قول أصبغ في "كتاب ابن حبيب" وبهِ قال ابن الموَّاز. فإن لم يشترط ذلك، ولا قيَّدهُ، هل يسقط عنهُ إذا عجَّل الكتابة أم لا؟ فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما: أنَّ الخدمة والأسفار ساقطة عنهُ، وهي رواية ابن القاسم عنهُ في "الموازية". والثانى: أنَّ يُعطيه مكان الأسفار والخدمة عينًا، ويتم عتقهُ، وهي رواية [أشهب] (¬2) عنهُ فى "الموازية" أيضًا. ¬

_ (¬1) في أ: قبل. (¬2) سقط من أ.

وسبب الخلاف: الخدمة، هل هى مقصودة في نفسها أو الكتابة هى المقصودة والخدمة تبعٌ؟ فإن لم يكن مع الخدمة مال، مِثل أن يقول لهُ: أكاتبك على خدمة شهر. فإن أراد أن يكون العتق بعد الخدمة: فلا خلاف أنَّهُ لا يُعتق حتى [يُؤدى] (¬1) الخدمة. فإن مرض في الشهر أو أبق فيه: فإن كان الشهر معينًا، فإنَّهُ يلزمه البدل والعوض [ولا يعتقه حتى يخدمه شهرًا بخلاف المعتق إلى أجل لأن الكتابة هاهنا كالمعاوضة. فإذا لم يعين الشهر كان أولى في لزوم العوض] (¬2). فإن أعطى العبد قيمة خدمة الشهر للسيِّد، فلا يُجبر السيِّد على القبول. فإن أراد أن تكون الخدمة بعد العتق، فلا أعلم في المذهب نص خلاف في سقوط الخدمة ولزوم العتق. فإن أبهم الأمر: فإنَّهُ يحمل على أنَّ العتق يكون بعد الخدمة. فإن اشترط السيِّد [أن يصيبها] (¬3) إن كانت أمة أو استثنى ما [تلد] (¬4) في كتابتها، هل تجوز الكتابة أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّ الكتابة باطلة، إلا أن يرضى السيد بترك الشرط، وهو ¬

_ (¬1) في هـ: يوفى. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: وُلد.

قول مالك في "العُتبيَّة" و"الموازية" في سماع أشهب عنهُ، ولا فرق في ذلك بين ولد [المكاتب والمكاتبة] (¬1). والثانى: أنَّ الكتابة جائزة، والشرط باطل، وهو قول ابن القاسم في "الموَّازية"، وبهِ قال أصبغ. لأنَّهُ بمنزلة مَنْ أعتق أمة واستثنى ما في بطنها. والثالث: أنَّها إن أدت مِن الكتابة نجمًا واحدًا: مضت، وبطل الشرط وإن لم تُؤد شيئًا. فإن ترك السيِّد شرطهُ، وإلا بطلت الكتابة، وكذلك في ولد [المكاتب] (¬2)، وهو قول محمَّد بن الموَّاز، واتفقوا على أنَّهُ: إن لم ينظر في أمرها حتى أدت حُرة وما في بطنها والمكاتبة كذلك. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: المكاتبة الذكر. (¬2) في هـ: المكاتبة.

المسألة الرابعة في القطاعة.

المسألة الرابعة في القطاعة. ولا يخلو الحُكم فيها مِن ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك بلفظ القطاعة، إمَّا صيغة أو فحواها. والثانى: أن يكون ذلك بلفظ السلف. والثالث: أن يكون بلفظ [الإنظار]. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان ذلك بلفظ الكتابة صيغةً أو فحوى، مِثل أن يقول: أقاطعك على عشرين مِن مائة، ولا يخلو مِن وجهين: أحدها: أن يكون في مكاتب يملك جميعهُ أو في مكاتب بينهُ وبين غيره. فإن كان ذلك في مكاتب يملك جميعهُ، فلا خلاف في الجواز. وإن قاطعهُ مِن ذهب على وَرِق أو مِن وَرِق على ذهب أو عروض. فإن كان [على] (¬1) النقد وتعجيل العتق، فلا خلاف في المذهب في الجواز فإن كان إلى أجل وتعجَّل العتق، قولان: مشهور المذهب: الجواز. وسبب الخلاف: الكتابة، هل طريقها طريق البيع أو طريق العتق؟ وللخلاف فيها مطلق آخر: معاملة السيِّد هلى هى كمعاملة الأجانب أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من هـ.

فإن تعجَّل ما فسخ فيهِ الكتابة، فالعتق مُعجَّل اتفاقًا. فإن كان إلى أجل، والعتق غير مُعجَّل، هل تجوز القطاعة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ القطاعة لا تجوز إلا على تعجيل العتق، وهو قول سحنون في "المُدوَّنة". والثانى: أنَّ ذلك جائز، سواءٌ عجلَّ عتقهُ أم لا، وهو ظاهر قول ابن القاسم فى "المُدوَّنة". والخلاف في المذهب مشهور، قد حكاهُ الشيخ أبو إسحاق التونسى وغيره. فإن كان ذلك في مكاتب بينهُ وبين غيره مثل أن يُقاطعهُ على عشرين من مائة كما قدَّمنا، فلا يخلو مِن أن يكون ذلك بإذن شريكهِ أم لا. فإن كان ذلك بإذن شريكهِ، فلا يخلو العبد مِن ثلاثة أحوال: إما أن يُؤدى للشريك الذي لم يقاطع جميع حقِّه مِن الكتابة. والثانى: أن يعجز. والثالث: أن يموت قبل أداء. أمَّا إذا أدى لهُ جميع نصيبه، فالعبد حر والولاء بينهما على قدر أنصبائهما في العبد. وأمَّا الحالة الثانية: إذا عجز، فلا يخلو عجزهُ مِن وجهين: أحدهما: أن يعجز قبل أن يستوفى المُتمسك شيئًا. والثانى: أن يعجز [بعد أن استوفى] (¬1)، مِثل: الذي قاطع عليهِ ¬

_ (¬1) في أ: قبل أن يستوفى.

المقاطع أو أقل أو أكثر. فإن عجز قبل أن يُؤدى شيئًا، فلا يخلو المُقاطع مِن أحد وجهين: إمَّا أن يستوفى جميع ما قاطع عليهِ أو بعضه أو لم يستوف شيئًا. فإن استوفى جميع ما قاطعهُ عليه، فلهُ الخيارين بين أن يُقاسم شريكهُ المتمسك ويدخلهُ فيما قبض على السواء، ويكون العبد بينهما رقًا، كما كان، أو يقتنع بما قبض، ويُؤثرهُ على نصيبه مِن العبد، ويكون جميع العبد للمتمسك. وهذا الحكم إذا [قبض] (¬1) البعض، فلهُ الخيار أيضًا، غير أنَّهُ إن اختار الاستبداد بما قاطع. فينظر إلى ما قبض، فإن قبض خمسة مِن عشرين، فقد [بقى] (¬2) لهُ في العبد الرُبع، والثلاثة الأرباع للشريك. فإن لم يستوفى القاطع شيئًا، فالعبدُ بينهما كما كان. وأمَّا إن عجز بعد أن يستوفى المُتمسك مقدار ما قاطع عليهِ المقاطع أو أكثر، والمُقاطع قد استوفى جميع ما قاطع عليهِ أيضًا، فالعبد بينهما أيضًا ولا خيار لهما. فإن استوفى أقل ممَّا قبض المُقاطع، فالخيار للمقاطع أيضًا، إن شاء أن يرد على المُتمسك ما استقصاهُ منهُ حتى يساويه ويُوازيهِ، ويكون العبد بينهما أو يأبى فيكون جميع العبد للمُتمسك. وأمَّا إن عجز قبل أن يستوفى المُقاطع شيئًا، والمُتمسك قد قبض بعض ¬

_ (¬1) في ع، هـ: اقتضى. (¬2) سقط من هـ.

حقّهُ مِن الكتابة، فلا يخلو ما قبضهُ المُتمسك من أن يكون قبضه على النجوم أو تعجله قبل حلول النجم. فإن قبضهُ على الحلول، هل للمُقاطع الدخول معهُ أم لا؟ قولان: أحدهما: أنَّهُ لا دخول لهُ معهُ, لأنَّهُ رضي بتأخير المكاتب، وترك لشريكهِ ما أخذ، وهو قول بعض المتأخرين. والثانى: أنَّ للمقاطع الدخول معهُ فيما قبض، ويتحاصان فيه هذا المقدار ما قاطع عليهِ، والآخر بمقدار ذلك النجم، لأنَّ ذلك النجم الذي حلَّ هو لهما جميعًا، فلا يستبد بهِ واحد منهما دون الآخر، وهو اختيار أبى عبد الله محمَّد بن يونس. وأمَّا إن تعجلهُ المُتمسك قبل محله، هل يشتركان فيه أو يكون كُله للمقاطع؟ قولان بين المتأخرين أيضًا: أحدهما: أنَّهما يقتسمانهِ على مقدار أنصابهما في العبد أو على [قدر] (¬1) ما لهما عليهِ من المال، وهو الأحسن. والثانى: بالتفصيل بين أن يكون للعبد مالٌ سواه، فيكون للمقاطع أن يأخذ حقَّهُ مِن ذلك المال، ويسلم للمتمسك ما اقتضى، وبين أن لا يكون لهُ مال: فيكون أولى بما عجل [من المتمسك] (¬2) حتى يستوفى منهُ مقدار حقِّه. فإن فضل شىء كان للمتمسك وحدهُ. ووجهه أن حقًا للمقاطع، قد حل وحق الآخر لم يحل، وبعدما قبض المتمسك هبة مِن المكاتب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: للمتمسك.

، والمقاطع ردّ هبتهُ. وأمَّا الحالة الثالثة: إذا مات المكاتب، فلا يخلو من أن يموت حتف أنفه أو مات مقتولًا. فإن مات حتف أنفهِ، وترك مالًا فيهِ: وفَىّ بحق المُتمسك، فهو لهُ. فإن فضل شىء، كان بينهما. وإن لم يترك شيئًا: فلا رجوع للمتمسك على المقاطع. وإن مات مقتولًا، وأخذت قيمتهُ، هل يكون كرقبتهِ أو كماله؟ قولان: أحدهما: أنَّ قيمتهُ كرقبتهِ. والثانى: أنها كماله، وهو قول أبى عمران الفاسى [رضي الله عنه] (¬1). وفائدة ذلك وثمرته: أنَّا إن قلنا: إن القيمة كالرقبة: كان الخيار للمقاطع. وإن قلنا: إنَّ القيمة كالمال، كان للمتمسك أن يستوفى جميع حقِّه مِن تلك القيمة، وما فضل يكون بينهما. وسبب الخلاف: هل قيمة الشىء كعينه [أم لا؟ ولا خلاف أن ثمن الشىء كعينه] (¬2)، على ما قال سحنون، وذلك أنَّ أم الولد لا يجوز بيعها, لأن ثمنها كعينها. فإذا قلت جاز للسيد أخذ قيمتها وتكون لهُ حلالًا. وأمَّا الوجه الثاني مِن أصل التقسيم: إذا قاطعهُ بغير إذن شريكهِ، ¬

_ (¬1) زيادة من جـ، ع، هـ. (¬2) سقط من أ.

وقبض ما قاطع عليهِ، فالخيار للمتمسك إذا عجز المكاتب بين أن يستبدَّ بالعبد أو يدخل مع المقاطع فيما أخذ. وإن اختار الدخول معهُ، فذلك لهُ، والعبد بينهما. وإن اختار الاستبداد بالعبد، هل لهُ ذلك أو يرجع الخيار إلى المقاطع؟ قولان: أحدهما: أنَّهُ لا خيار لهُ، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثانى: أنَّ الخيار يرجع إلى المقاطع، وهو قول ابن المواز وأشهب. وسبب الخلاف: من خيِّر بين شيئين، هل يُعدُّ مختارًا لما ترك أم لا؟ والجواب عن الوجه الثاني مِن أصل المسألة: إذا كان بوجه السلف، مِثل أن يحل النجم، ويحضر المكاتب جميعهُ فيقول أحدهما لصاحبه: بدنى بذلك النجم، وخذ أنت الذي يليه، فللمسلف الرجوع على صاحبهِ اتفاقًا مِن غير اختيار [ولا خيار] (¬1) , لأنَّ ذلك معاملةً بين الشريكين على سبيل المعروف، ولم يدخل المكاتب فيما بينهما بشىء. والجواب عن الوجه الثالث: إذا كان بلفظ الإنظار، وهو أن يُصرح بتأخير، وإسلام ما يحضرهُ المكاتب لشريكه، قصد بذلك الرفق بالعبد، ومعروف صنعهُ معهُ، وهذا لا رجوع لهُ على الشريك فيما قبض. فهذه الوجوه الثلاثة لا إشكال فيها على ما فصَّلناهُ وحصلناهُ، وإنَّما الغموض والإشكال عند التباس السؤال، وإطلاق الألفاظ مِن غير احتياط، وإهمال التحرز والتحفظ، فهنالك يتبلَّد الخاطر ويتردد الناظر ويتحيَّر ¬

_ (¬1) سقط من أ.

[الفاكر] (¬1)، [حتى] (¬2) يتعذّر التمييز بين السلف والقطاعة، والإنظار لأجل الامتزاج، [ويعتاض] (¬3) التقدير لرد الاحتياج. فها أنا أُشمِّر الذيل، وأنفس القول طلبًا لإزاحة الإشكال، وقطعًا لمادة الاحتمال، حتى تكون المسألة أجلى مِن النهار، وأشهر في الظلام من النار. فنقول وبالله التوفيق: لا يخلو المُكاتب [على] (¬4) الحالة [الموصوفة] (¬5) مِن أربعة أوجه: أحدها: أن تحل جميع الكتابة، وأحضر المكاتب نصفها. والثانى: ألا يحل منها شىء، ولا حضر قدر حق أحدهما. والثالث: أن يحل نجم واحدٍ، فأحضرهُ [كله] (¬6). والرابع: أن يحل نجم واحد وأحضر بعضهُ. فأمَّا الوجه الأول: وهو أن تحل جميع الكتابة، وأحضر المكاتب نصفها: فسخ أحدهما في اقتضاء جميع نصيبهُ، وأذن لهُ في ذلك صاحبهُ، ورضى بإتباع المكاتب وإنظاره، ثُمَّ عجز قبل أن يقبض منهُ شيئًا، فلا خلاف في المذهب في هذا الوجه: أنَّهُ إنظار وليس بسلف، وأنَّهُ لا رجوع لهُ على شريكهِ بشىء، وأنَّ العبد يكون بينهما إن عجز. ¬

_ (¬1) في أ: المفكر. (¬2) في أ: كما. (¬3) في هـ: بعض. (¬4) في هـ: في. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: كلها.

وأمَّا الوجه الثاني: إذا لم تحل [له] (¬1) الكتابة، وأحضر المكاتب منها مقدار حق أحدهما، وأذن أحدهما لصاحبه أن يُعجل جميع حقِّهِ، هل ذلك قطاعة أو سلف؟ قولان منصوصان فى "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّهُ كالقطاعة، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنَّهُ سلف، وهو قول غيرهُ. وعلى القول بأنَّ ذلك سلف للقابض، هل هو سلف مِن الشريك أو [من] (¬2) المكاتب؟ قولان: أحدهما: [أنه] (¬3) مِن المكاتب، وهو قول الغير في "الكتاب". والثانى: أنَّهُ سلف مِن الشريك، وهو قول ابن الموّاز. وفائدة الخلاف وثمرتهُ: [أنه] (¬4) إن كان سلفًا مِن الشريك، فلهُ الرجوع على القابض إذا عجز المكاتب. وإن كان سلفًا مِن المكاتب، فلا يرجع الشريك على القابض بشىءٍ، عجز المكاتب أو عتق. وأمَّا الوجه الثالث: إذا حلّ مِن الكتابة نجم، وأحضرهُ المكاتب كُلَّهُ، فاستبدَّ أحدهما بقبضهِ بإذن شريكه: فذلك سلف مِن الشريك بلا إشكال، لتعيين حق [كل] (¬5) واحد منهما فيه، وترك أحدهما الآخر يقبض ويستقل بهِ مِلكًا دونهُ: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

دليلٌ على السلف. وأمَّا الوجه الرابع: إذا حلَّ نجم وأحضر المُكاتب نصفهُ، مثل أن يكون النجم عشرة، وأحضر "خمسة": فهاهنا يُنظر إلى لفظ القاَبض، ومنهُ يُعرف إن كان ذلك سلفًا أو إنظارًا فإن قال: بدنى به. أو قال: أنا آخذهُ، وأنظرهُ أنت، كان ذلك إنظارًا لا سلفًا، ثُمَّ لا رجوع للشريك على القابض إن عجز المكاتب، ولا خيار لهُ، لانَّ قولهُ "أنظرهُ" معناهُ [أن] (¬1) نصيبك باق عليهِ. فإن قال: "وعنى آخذ هذه الخمسة، وخُذ أنت الخمسة الباقية" (أو استوفِ أنت حقَّك مِن الخمسة الباقية): كان ذلك سلفًا من الشريك للقابض بلا إشكال، ويرجع عليهِ بنصف الخمسة إن عجز المكاتب قبل أن يستوفى منهُ تلك الخمسة الباقية مِن ذلك النجم. والحمدُ لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الخامسة في العبيد إذا كوتبوا كتابة واحدة.

المسألة الخامسة في العبيد إذا كوتبوا كتابةً واحدة. فلا يخلو مِن ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكونوا لمالك واحد. والثانى: أن يكونوا لملاك [متعددة] (¬1). والثالث: أن يكونوا شركة بين أشراك. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كانوا لمالكٍ واحد، فلا يخلو مِن أن يكونوا كبارًا كُلُّهم أو فيهم صغار وكبار: فإن كانوا كُلُّهم كبارًا يقوون على السعى والكتابة جائزة وكل واحد منهم يسعى لنفسهِ في أداء ما وجب عليهِ من الكتابة فإن أدى ما عليه فإنَّهُ يسعى مع أصحابهِ ويعينهم على الأداء. فإذا أعتقوا [بالأداء] (¬2). فمن أدى عن أصحابهِ منهم شيئًا، فإنَّهُ يرجع عليهم بهِ على ما [سيأتى] (¬3) إن شاء الله تعالى. ومن مات منهم لم يحط عنهم شىء مِن الكتابة لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم حميل بجميع الكتابةِ وعقد الكتابة يقتضى ذلك. فإن استحقَّ أحدهم بحرية أو ملك ينبغى أن يسقط عنهم ما ينوبه لأنَّهُ قد تبيَّن أنَّ السيد عقد الكتابة على غير ملكهِ، ولا تلزم الحمالة للسيِّد بما ¬

_ (¬1) في هـ: معددة. (¬2) في أ: على الأداء. (¬3) فى ع، هـ: سنأتى به.

هو ملكٌ لغيرهِ. وإلى هذا ذهب الشيخ أبو الحسن اللخمى، وهو قول ابن الماجشون في "الموَّازية". واختلف في كيفية فض الكتابة عليهم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّها تفض على قدر قوتهم عليها وهو قول مالك في "المُدوَّنة". والثانى: أنَّها تفض على قدر القوة على الأداء أو قيمة الرقاب وهو قول ابن الماجشون. والثالث: أنَّها تُقسَّم على العدد وهذا القول حكاهُ ابن الموّاز عن عبد الملك. فإن عجز بعضهم وأدَّى الآخر جميع الكتابة فإنَّهُ يرجع عليهم على قدر قوتهم على الكتابة كما فضت عليهم أولا وهو قول ابن القاسم في "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهُ يرجع عليهم على قدر قوّتهم يوم كُوتبوا، وهو قول مطرف وابن الماجشون. والثالث: أنَّهُ يرجع عليهم على قدر قوتهم يوم كوتبوا. والرابع: أنه يرجع عليهم على قدر قوتهم يوم كوتبوا وحالهم يوم عُتقوا وهو قول أصبغ. والخامس: أنَّهُ يرجع عليهم على عددهم. كما أنَّ الكتابة تقضى عليهم [على عددهم] (¬1) على ما حكاهُ ابن الموَّاز عن عبد الملك خلاف ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ما ذكر عنه ابن حبيب: أنَّهُ يرجع عليهم على قدر قيمتهم يوم عُتقوا. فإذا ثبت لهُ الرجوع على أي صفة [كان] (¬1)، هل يرجع عليهم على النجوم أو يرجع عليهم على الحلول؟ فلا يخلو مِن أن يُؤديهما على النجوم أو يُعجِّلها. فإن أداها على النجوم فلا خلاف أنَّهُ [يرجع] (¬2) مُعجلًا. فإن عجَّلها فهل يرجع [عليهم] (¬3) على النجوم أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يرجع عليهم على النجوم، وهو قوله في "المدونة". والثانى: أنَهُ يرجع عليهم معجلًا وهو قوله في كتاب "محمد" حيث قال في باب آخر أنه يرجع عليهم. وسبب الخلاف: في جميع ما قدَّمناهُ اختلافهم في الكتابة هل طريقها طريق العتق أو البيع؟ فمن رأى أنَّ طريقها طريق البيع قال: تُعتبر قيمتهم يوم الكتابة. ومن رأى أنَّ طريقها طريق العتق قال: تُعتبر قوتهم على الأداء وما عدا ذلك استحباب. فإن كان فيهم صغارٌ وكبار فلا يخلو حالة مَن فيهم مِن الصغار مِن ثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: لا رجع. (¬3) سقط من أ.

إمَّا أن يكون عاجزًا عن السعى غيرُ قادرٍ على الأداء حتى انقضت الكتابة. أو كان قادرًا عليهِ يوم الكتابة وقوى على السعى بعد مضى بعضها. فإن كان لا يقوى على السعى حتى مضت الكتابة لم يُتبع بشىءٍ. وإن كان يقوى على السعى يوم الكتابة فض عليهِ كما يفض على الكبير ويجتهد عليه على قدر ما يرى أنه يقوى عليهِ في كُلِّ سنة [لأنَّ قوتهُ] (¬1) تتزايد بمرور السنين. فإن قوى على السعى بعد مضى النجوم فقد اختلف في كيفية الكتابة عليهم علي قولين: أحدهما: أنَّهُ ينظر إلى حاله يوم عُقدت لهُ الكتابة، يُريد أشهب على ما يُرجى [من أنه يبلغ السعاية إلى الوقت الفلانى فيكون عليه من ذلك الوقت على التقدير يوم عقدت الكتابة كما يقوم الزرع] (¬2) إذا فسد [على ما يرجى منه] (¬3)، وهذا تأويل الشيخ أبى إسحاق التونسى [رحمه الله] (¬4). والثانى: أنَّهُ ينظر إلى حالهِ يوم بلغ السعى أنْ لو كان على هذه الحالة يوم الكتابة وقال الشيخ أيضًا: وينبغى أن يحط عنهُ هذا القدر الذي كان فيه لا قُدرة لهَ على السعاية إذ لو انقضت الكتابة قبل بلوغه السعاية ما كان عليه شىء. والذي قاله أبو إسحاق صحيح ولا يكون الحُكم إلا كذلك وألا يؤدى ذلك إلى من تَوظف عليهِ الكتابة بنفس العقد وهو عاجز عن السعى ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من ب.

وذلك لا سبيل إليهِ. وأمَّا الوجه الثاني: إذا كان المُلاك متعدِّدة فجمعوهم في كتابة واحدة فلا إشكال أنَّ ذلك ممنوع ابتداءً. فإن نزل [ذلك] (¬1) فلا يخلو مِن أن يعثر على ذلك قبل الأداء أو بعده: فإن عثر على ذلك قبل الأداء فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّ الكتابة باطلة لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهم حميل بما على صاحبهِ إذ لو هلك أحدهما أخذ سيِّد الهالك مال الآخر باطلا وهذا يُشبه الرقباء وهو قول مالك في "المُدوَّنة". والثانى: أن الكتابة تمضى ويبطل الشرط وتفض عليهم وتسقط حمالة بعضهم عن بعض وهو ظاهر قول ابن القاسم في الأمة التي يُكاتبها ويستثنى ما في بطنها وهو قولهُ في "الموَّازية". والثالث: أنَّهُ يُفسخ ما لم يُؤد نجمًا أو قدرًا منها كما قال محمد في تلك المسألة. فإن عثر على ذلك بعد الأداء فإنَّ الكتابة تمضى وعتقهم نافذ. ومَن أدى منهم شيئًا عن أصحابه [رجع] (¬2) عليهم بهِ كالحمالة بالكتابة إذا فاتت بالأداء، فإنَّ الكفيل يرجع على المكاتب بما أدى. وأمَّا الوجه الثالث: في العبيد إذا كانوا بين أشراك فكاتبوهم جميعًا كتابةً واحدة. هل تجوز الكتابة أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فالمذهب على قولين؟ أحدهما: أنَّ الكتابة لا تجوز لأن كلَّ عبدٍ تحمل لغير سيَّده بحصتَّهِ في كل عبد، فهي كتابة منتقضة إلا أن تسقط حمالة بعضهم [عن بعض] (¬1) فتجوز [و] (¬2) على كُلِّ واحد بقدر ما يلزمهُ مِن الكتابة يوم عقدت وهو قول أشهب في [الموَّازية]. والثانى: أنَّ الكتابة جائزة لأنَّ لكلِّ واحدٍ من الأشراك سهم معلوم فى كُلِّ عبد. وإنما يقبض كُلُّ واحدٍ [منهم] (¬3) عن سهمهِ لا غير ولم يقبض أحدهم عن غير ملكه شيئًا وهو قول أحمد بن ميسر في "الموَّازية". والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

المسألة السادسة في المكاتب هل يجوز له أن يعجز نفسه أم لا؟

المسألة السادسة في المُكاتب هل يجوز لهُ أن يعجز نفسهُ أم لا؟ ولا يخلو تعجيز المكاتب مِن ثلاثة أوجه: إمَّا أن يكون بتواطئهِ مع السيَّد. أو بإرادة المكاتب منفردًا. أو بإرادة السيد متحدًا. فإن كان بتواطئهِ مع السيِّد فلا يخلو مِن أن يكون لهُ مالٌ ظاهر [أم لا؟ فإن كان له مال ظاهر] (¬1) أو قوة على السعى، فالمذهب على ثلاثة أقوال كُلها قائمة مِن "المُدوَّنة". أحدها: أنَّ لهُ أن يعجز نفسهُ جُملةً. والثانى: عكسهُ. والقولان عن مالك فيما رواه ابن القاسم وابن نافع في "العُتبيَّة". والثالث: بالتفصيل بين المال والقوة فيكون العجز مع القوة لا مع المال وهو قول ابن الموَّاز. وسبب الخلاف: هل يغلب حقِّهما [في الكتابة] (¬2) على حقِّ الله تعالى فيكون العجز لهما دون السُلطان أو يغلب حقِّ الله لما يُرجى لهُ مِن الحُرَّية ثُمَّ لا يجوز؟ فإن لم يكُن لهُ مال ظاهر فهل لهم العجز دون السُلطان أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

قولان قائمان مِن "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّ [له] (¬1) العجز دون السُلطان وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنَّهُ لا يعجزهُ إلا السُّلطان وهو قول سحنون. والقولان في "العُتبيَّة". وسبب الخلاف: هل يُتهمان بالمواطأة على إبطال حقِّ الله تعالى في العتق؟ فمن اتَّهمها قال: لابُدَّ مِن السلطان فإنَّهُ مُتولى البحث والكشف عن مثلِ ذلك. فإن انفرد السيِّد بإرادة العجز ونابا العبد أو انفرد بهِ العبد دون السيَّد قولان في كل فصل في "الكتاب". وسبب الخلاف: هل المُغلب في الكتابة حق العبد أو حقِّ السيد؟ والحمدُ للهِ وحده. ¬

_ (¬1) فى أ: لهما.

المسألة السابعة إذا قاطعه سيده على مال ثم استحق ذلك المال.

المسألة السابعة إذا قاطعه سيده على مال ثُمَّ استحقَّ ذلك المال. وقد اختلفت أجوبة الكتاب في ذلك على ما قال ابن القاسم وأشهب وابن نافع والرواة. ونصُّ " [ما في] (¬1) المُدوَّنة": وإذا أدى المُكاتب كتابتهُ إلى سيده وعليهِ ديْن فقام الغُرماء فأرادوا أن يأخذوا مِن السيِّد ما اقتضى. فقال ابن القاسم: إن كان يعلم أنَّهُ مِن أموالهم [أخذوه وإن لم يعلم أنه من أموالهم] (¬2) لم يرجعوا على السيِّد. وقال ابن القاسم: فإن أخذوا ذلك منهُ ردَّ المكاتب إلى الرق. وقال ابن نافع وأشهب: إذا قاطع السيد مما بقى مِن الكتابة فاعترف بسرقة فإنَّهُ يرجع على المكاتب بقيمة ما أخذ منهُ. قال ابن نافع: "وهذا إذا كان لهُ مال فإن لم يكن له مال رد مكاتبًا. وقال أشهب: لا يُرد ويتبع لأنَّهُ كان عتيقًا بالقطاعة وثبتت خدمته وجازت شهادتهُ. ثُمَّ قال أشهب وابن نافع في المكاتب يُقاطه سيدهُ على شىءٍ استرفعهُ واستودعهُ فيُؤخذ بملك فلا يُؤخذ الحق بالباطل [أي لا يعتق] (¬3). وقال بعض الرواة: ما كان فيه شبهة ملك مضى عتقُهُ ويُتبع بقيمة ذلك، وما لم تكن فيه شبهة ملك ردَّ مكاتبًا. وهذا ما قيل في "المُدوَّنة" بجُملتهِ وتحصيلهُ تفصيلًا أن تقول: لا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

يخلو المُكاتب مِن أن يكون مُوسرًا أو مُعسرًا: فإن كان مُوسرًا غرم للسيَّد مثل ما أخذ منهُ أو قيمتهُ إن كان ممَّا يرجع إلى القيمة ومضى عتقهِ وسواء تقدمت فيه شبهة ملك أم لا, ولا خلاف في ذلك. فإن كان مُعسرًا فالذي في الكتاب يتخرّج على أربعة أقوال: أحدها: أنَّ عتقهُ مردود جُملةً وهو قول مالك في أول الباب إذا علم أن ذلك مِن أموالهم أو ما تولَّد من عين أموالهم على الخلاف في هذا الوجه. والثانى: أن عتقهُ ماضٍ ولا يُرد ويتبع لأنَّهُ كان عتيقًا بالقطاعة وتمَّت حُرمتهُ وجازت شهادتهُ وهو قول أشهب في "الكتاب". والثالث: التفصيل بين ما تقدمت فيه شُبهة مِلك فيمضى عتقهُ [فيه] (¬1) ويُتبع بقيمتهِ ذلك، وما لم يتقدَّم لهُ فيهِ شبهة مِلك فيردُّ السيَّد عتقهُ [فيه] (¬2)، وهو قول الرواة في "المُدوَّنة" وهو ظاهر قول أشهب وابن نافع في المكاتب الذي يقاطع على وديعة حيثُ قال: لا يُؤخذُ الحقُّ بالباطل. والقول الرابع: بالتفصيل بين أن يطُول الزمان أو يقصر: فإن كان ذلك [بعد طول الزمان وجازت شهادته ووارث الأحرار فعتقه ماضٍ ولا يرد وإن كان ذلك] (¬3) بالقُرب فإنَّ عتقهُ يرد وهو قول مالك فى الأب إذا أعتق عبد ابنهِ الصغير ولا مال للأب. فإن عتقهُ يرد إلا أن يطول الزمان وجازت شهادتهُ ووارث الأحرار. وعلى القول بأنَّ عتقهُ مردود هل يُرد إلى رق أو إلى حرية؟ فالمذهب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

على ثلاثة أقوال كُلّها مُستقرأة مِن "الكتاب": أحدها: أنَّهُ يرد إلى الرق لا إلى الكتابة وهو ظاهر قول ابن القاسم في الكتابة. والثانى: أنَّهُ يُرد إلى كتابة، وهو قول الرواة. والثالث: التفصيل بين أن يرجى لهُ مال، فيُرد [إلى الكتابة] (¬1) أو لا يرجى لهُ مال فيُرد إلى الرق وهو اختيار أبى الحسن اللخمى. وسبب الخلاف: هل العتق لأجل ما أداهُ المُكاتب أو يحمل على أنه مِن السيد؟ فمن رأى أنَّ أداء الكتابة يوجب العتق لأنَّ السيِّد هو المُعتق. فإذا استحقَّ ما دفع [كشف] (¬2) الغيبُ [أنه] (¬3) لم يُعتق ويجب على هذا أن [يستبرئ] (¬4) مالهُ فيه شبهة ملك وما سرقهُ. وإن عد ذلك كالعتق مِن السيِّد كان ينبغى أن يمضي عتقهُ على كُلِّ حالٍ سواءٌ سرق ذلك أو كان له فيه شبهة مِلك لأنَّ العتق [فرط] (¬5) مِن السيِّد فلا يقدر على ردِّهِ. والتفريق بين مَن تعدَّى ومَنْ لهُ فيه شبهة مِلك ضربٌ مِن الاستحسان. والله أعلم. والحمد لله. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: انكشف. (¬3) في: إذا. (¬4) في أ: يستوى. (¬5) في هـ: سبق.

المسألة الثامنة إذا وطئ السيد مكاتبته.

المسألة الثامنة إذا وطئ السيد مُكاتبتهُ. [وفي هذه المسألة] (¬1) أربعة أسئلة: الأول: إذا وطئ السيد مُكاتبتهُ. الثاني: فيما إذا وطئ السيد مُكاتبة [مكاتبه] (¬2)، [هل يدرأ عنه الحد؟] (¬3). الثالث: إذا وطئ السيِّد أمة مُكاتبه [فحملت] (¬4). والرابع: في المُكاتب إذا وطئ مكاتبتهُ. فالجواب عن السؤال الأول: إذا وطئ السيد مكاتبتهُ. فلا يخلو من أن تكون حائلًا أو حاملًا: فإن كانت حائلأ ولم تحمل مِن وطئه فإنَّها تستمر على كتابتها ثُمَّ لا تخلو مِن أن يكون السيد أكرهها على الوطئ أو طاوعتهُ: فإن أكرهها على نفسها فلا تخلو مِن أن تكون بكرًا أو ثيِّبًا: فإن كانت بكرًا فعليهِ ما نقصها. وإن كانت ثيِّبًا فهل يغرم بالنقص شيئًا أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوَّنة": ¬

_ (¬1) في هـ: وفي هذا الباب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ. (¬4) سقط من هـ.

أحدهما: أنَّهُ يغرم قيمة ما نقصها وهو قولهُ في كتاب الرهون. والثانى: أنَّهُ لا شىء عليهِ. وإن طاوعتهُ هل عليه [للنقص] (¬1) شىءٌ أم لا؟ وينبنى الخلاف على الخلاف في المُكاتب هل لهُ أن يُعجز نفسهُ أم لا؟ وإن كان لهُ مال ظاهر أم لا؟ فإن كانت حاملًا فهي مُخيَّرة بين أن تعجز نفسها وتكون على حُكم أم الولد، أو تستمر على كتابتها. فإن أدَّت عُتقت. وإن عجزت صارت أم ولد. واختلف في نفقتها إذا اختارت المضى على كتابتها على قولين: أحدهما: أنَّ نفقتها على السيِّد ما دامت حاملًا وهو قول مالك في "كتاب ابن سحنون". والثانى: أنَّ نفقتها على نفسها ولا شىء لها على سيِّدها وهو قول أصبغ في "كتاب ابن حبيب". وفي "المُدوَّنة" في هذه المسألة أقاويل خارجة [عن المذهب: أحدها: أنها إن حملت بطلت كتابتها وتكون أم ولد. وهو قول سعيد بن المسيب. وحجته أنها أم ولد] (¬2). لا خدمة [له] (¬3) فيها ولا غلة [و] (¬4) في استدامتها في الكتابة ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

إخراج لأُمِّ الولد عن حكمها [فبطلت وبقيت أُم ولد. والثانى: أنَّها تبقى مكاتبة فإن عجزت كانت أُم ولد. وحجته: أنَّ أُم الولد] (¬1) لم يُتفق على منع خدمتها وإن لم يتقدَّم فيها كتابة [قط] (¬2)، والمكاتبة متفق على منع وطئها. وإذا لم يكن بُد مِن أحد الأمرين إمَّا بُطلان الكتابة أو بقاؤها عليها كان بقاؤها أفضل لأنَّ بطلانها يُؤدى إلى وطءٍ قد حُرِّم باتفاق. وبقاؤها على الكتابة لا يُؤدى [إلى استباحة] (¬3) ما اتفق على منعه فكان بالحكم أولى وهو قول النخعى. والثالث: بالتفصيل بين أن يكون قد أكرهها أو قد طاوعتهُ: فإن أكرهها، فهي حُرَّة، [وإن طاوعته فهي أمة لا كتابة فيها يريد أم ولد وهو قول ربيعة وهو أحسن ما قيل فيها] (¬4) وذلك أنَّها إذا لم تُطاوعهُ فهي لم ترض بالعجز بعد. فلمَّا حملت لم يكن سبيل إلى استخدامها لأنَّ ذلك خلاف سُنَّة أم الولد ولا إلى وطئها للحظر المُتقدم ولم تعجز، فلم يبق إلا أنَّها أُم ولد حرم الاستمتاع بها فوجب عتقُها. وإذا رضيت بالوطء كأنَّها رضيت بالعجز إذ الحمل غالبًا يأتى [عن] (¬5) الوطء. فالجواب عن السؤال الثاني: إذا وطئ مكاتبة مكاتبه، فإنَّهُ يُدرأ عنهُ الحد ويلحق بهِ الولد، وتُخيَّر الأمة بين أن تعجز نفسها وتكون أُم ولد ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) فى أ: على.

للواطئ أو تبقى على كتابتها. فإن أعجزت نفسها فإنَّها تكون أُم ولد للواطئ ويغرم قيمتها [للمكاتب] (¬1) يوم الوطء ولا شىء عليهِ في الولد وهذا قول ابن القاسم في "العُتبيَّة". واختُلف هل [يقاصصه] (¬2) السيد بتلك [القيمة] (¬3) في الكتابة التي عليه؟ على قولين: [فإن اختارت البقاء على الكتابة هل تؤخذ القيمة من السيد الواطئ فتوقف أو لا تؤخذ منه على قولين] (¬4): أحدهما: أنَّ القيمة تُؤخذ منهُ فتوقف مخافة العجز فترجع تكون أُم ولد بلا قيمة. وهو قول ابن القاسم في "العُتبيَّة" و"الموَّازية". والثانى: أنَّ القيمة لا تُؤخذ مِن الواطىء حتى تعجز، فإذا عجزت كُلِّف القيمة وهو قول ابن الموّاز. واختلف على هذا القول متى تقوّم؟ على قولين: أحدهما: أنَها تقوّم عليهِ بقيمتها يوم الوطء وهو قول ابن القاسم وبهِ قال ابن الموَّاز. والثانى: أنها تقوم عليه بقيمتها يوم العجز وهو قول أصبغ. وهل تقوم بولدها أم لا؟ قولان لأصبغ. وعلى القول بأنَّها القيمة توقف فلا تخلو حالة المُكاتبة مِن ثلاثة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) فى أ: يقاصه. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

[أوجه] (¬1): إمَّا أن تعجز. وإمَّا أن تُؤدى. وإمَّا أن تموت قبل العجز وقبل الأداء. فإن أدت عتقت وأخذ الواطئ القيمة التي وقفت. وإن عجزت كانت القيمة لسيِّدها المكاتب و [تكون] (¬2) هى أُم ولد للواطئ. وقال في "العُتبيَّة": ولم يكن عليهِ في ولدها شىء. فإن ماتت قبل الأداء لمن تكُون القيمة [الموقوفة] (¬3)؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّها تكون لسيِّدها المُكاتب إذ لا ضرر عليهِ في هذا (¬4) [وهو قول ابن القاسم في "الموَّازية". والثانى: أنَّها تُرد إلى السيَّد الواطئ ولا شىء فيها لسيِّدها المُكاتب لأنَّ الحمل لم يضرُّهُ وقد ماتت في كتابتها مِن غير حمل وهو قول أصبغ في "كتاب محمد". والثالث: أنَّهُ يُؤخذ مِن القيمة الموقوفة قيمة الولد ويدفع إلى المُكاتب ويؤدى باقى القيمة إلى الواطئ وهو قول ابن القاسم في "العُتبيَّة". والجواب عن السؤال الثالث: إذا وطئ السيِّد أمة مكاتبه فحملت. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) فى أ: الموقفة. (¬4) بداية سقط من ب ينتهى عند نهاية المسألة العاشرة.

فلا يخلو مِن أن يكون مُوسرًا بقيمتها أو مُعسرًا: فإن كان مُوسرًا فالقيمة تلزم السيِّد. وهل يقابض بهِ المُكاتب ويتعجَّل عتقهُ أو يأخذها ويُؤديها على النجوم؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يقابضه بها ويخرج المكاتب حُرًا إن كانت القيمة مِثل الكتابة ويُتبع السيد بالفضل إن كانت أكثر وهو قول ابن القاسم في كتاب "ابن المواز". والثانى: أنَّ المكاتب يقبض القيمة ويُؤديها على النجوم وهو قول ابن الموَّاز وسحنون في "كتاب ابنه". فإن لم يكن للسيِّد مال يبعث عليهِ كتابة مكاتبهِ ويكون المكاتب أولى بما يُمنع مِن ذلك وهو قول أحمد بن ميسر. فإن ساوت قيمة الكتابة قيمة الأمة خرج حرًا إن كان هو المشترى لها. فإن ساوى مِثل نصف قيمة الأمة فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ المكاتب يأخذ ذلك القدر ويُبقى نصف الأمة للمكاتب رقيقًا ونصفها للسيِّد على حساب أم الولد ويتبع المكاتب السيِّد بنصف قيمة الولد، وهو قول ابن الموَّاز. والثانى: أنَّهُ إن كان في قيمة الكتابة وفَّى بقيمتها عتق المُكاتب وإن لم يف بقيمتها بقيت أمة للمكاتب ويتبع سيدهُ بقيمة ولدهِ وهو قول أشهب فى "الموَّازية". والجواب عن الوجه الرابع: في المكاتب إذا وطئ مُكاتبتهُ فحملت منهُ. فلا خيار لها في تعجيز نفسها. فإن أدت خرجت مع ولدها أحرارًا.

وإن أدى هو قبلها فولدهُ يخرج معهُ ولها أن تُعجز نفسها. فإن مات في كتابته قبل خروجها وترك مالًا فيه وفاء بكتابتهِ خرجت هى حُرَّة وولدها. ولو قوى الولد فعل عتقها سعى مع أقربهما عتقًا فيُعتق بقيتهُ. ولو كان معهُ ما يُؤدى عن أبويهِ أخذ مِن مالهِ ما يُؤدى عنهما وعتق. وإن ماتت أولًا وتركت مالًا أخذ من مالها بقية الكتابة وعتق ولدها وورث ما بقى. وإن لم يكن فيه وفاء فللولد أخذه والسعاية فيهِ وكذلك لو لم يدع شيئًا. فإن أدوا عنه عُتقوا. وإن عجزوا كانوا في كتابة أبيهم. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ، ع.

المسألة التاسعة في كتابة بعض العبد.

المسألة التاسعة في كتابة بعض العبد. ولا يخلو مِن وجهين: أحدهما: أن يكاتب بعض عبدٍ ملك جميعهُ فلا خلاف في المذهب أنَّ ذلك لا يجوز، وتُردُّ فيه الكتابة. واختلف إذا فات الأداء على قولين: أحدهما: أنَهُ يكون رقيقًا لسيِّده ولا يُعتق منهُ شىء وهو قولهُ في "المُدوَّنة". والثانى: أن السيِّد يحلف ما كان يعلم أنَهُ يُعتق عليه إذا أدى فإن حلف لم يستتم عليهِ. فإن نَكَلَ يستتم عليه، وهو قولهُ في "المبسوط" في العبد بين الشريكين إذا كاتبه أحدهما نصيبه. فإن كان عبدًا بينهُ وبين غيره، فلا يخلو من أن يُكاتب شريكه حصَّتهُ أو يتماسك بها. فإن تماسك بها فإنَّ ذلك لا يجوز اتفاقًا لأنَّ ذلك يصير إلى عتق النصيب بغير تقويم مع ما في ذلك [من] (¬1) المخاطرة. لأنَّ أحدهما يأخذ بخراج والآخر يأخذ بنجوم. واختلف فيه إذا نزل هل تُفسخ الكتابة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنَّ الكتابة تسقط ويُؤدى عليهِ جميع ما أخذا منهُ ويكون جميعهُ رقيقًا وهو قول ابن القاسم في "المُدوَّنة". ¬

_ (¬1) فى أ: فى.

والثانى: أنَّ السيِّد يحلف أنَّهُ كان يعلم أنَّهُ يُعتق عليه إذا أدى، فإن حلف لم يقوم عليهِ بقيتهُ وهو قولهُ في "المبسوط". وظَاهر قوله أنَّهُ لا يرد عتق ذلك النصيب لأنَّهُ لم يقُل: إذا حلف رقّ الذي أدَّى، وإنما قال: "لم يقوم". وعلى القول بأنَّ الكتابة تسقط ويكون جميعهُ رقيقًا، فإنَّهُ يرد ما أخذ فيكون بينهُ وبين شريكه مع رقبةِ العبد، وسواءٌ قبض الكتابة أو بعضها، وقال غيره في "المُدوَّنة": إنَّما يكون ذلك بينهما إذا اجتمعا على قيمتهِ. ومَن دعى إلى رده إلى العبد. فذلك لهُ إذ لا يُنتزع مالهُ حتى يجتمعا عليهِ. فإن كاتب الشريك حصَّتهُ فلا يخلو مِن خمسة أوجه: أحدها: أن يتفقا في العقد والنجوم والعدد. والثانى: أن يختلفا في العقد والنجوم والعدد. والثالث: أن يتحد العقد ويشترط أن يختلف العدد أو النجوم. والرابع: أن يختلف العقد ويتَّفقا في العدد والنجوم. والخامس: أن يختلفا ويختلف نوع المال الذي كاتباهُ عليهِ. فالجواب عن الوجه الأول: إذا اتفقا في العقد والنجوم والعدد فلا خلاف في الجواز ويكون اقتضاؤهما واحدًا على الشركة ولا إشكال في ذلك. والجواب عن الوجه الثانى: إذا اختلف العقد واختلف العدد والنجوم مثل أن يُكاتبهُ أحدهما على مائة والآخر على مائتين وكلاهما إلى سنة، أو كَاتباهُ على مائة أو أحدهما إلى سنة والآخر إلى سنتين فلا خلاف أنَّ ذلك لا يجوز ابتداءً.

فإن نزل فإنَّهُ يرد النظر إلى العبد أو إلى أحد السيدين. فإن رضي العبد أن يُلحق الأدنى بالأعلى أو يرضى صاحب الأكثر أن يحط عن العبدى ذلك الفضل حتى يتساوى مع صاحب القليل أو يرضى صاحب المدة القريبة أن يتساوى مع صاحب المدة البعيدة في الاقتضاء أو برضا العبد أن يجعل نجومهُ لصاحب المُدَّة البعيدة في الاقتضاء حتى يساويهِ مع صاحب المدة القريبة في الأقصى فإنَّ الكتابة ثابتة جائزة. فإن أنهى ذلك فمشهور المذهب أنَّ الكتابة باطلة ما لم يفت بالأداء. [والجواب عن الوجه الثالث: إذا اتحد العقد واشترط أن يختلفا العدد. فالكتابة جائزة والشرط باطل] (¬1). والجواب عن الوجه الرابع: إذا اختلف العقد، ويتقفان في العدد والنجوم فهل تُفسخ الكتابة أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين فى "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّ الكتابة تفسخ إلا أن يتراضيا [بالتساوى] (¬2) وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنَّ الكتابة جائزة يريد ويسقط الشرط. وهو قول الغير. ويكون القضاء بينهما واحدًا. والجواب عن الوجه الخامس: إذا اختلف العقد ويختلف نوع المال الذى كاتباه مثل: أن يُكاتبهُ أحدهما على دنانير ويُكاتبه الآخر على عروض فالكتابَة بينهما مفسوخة قبل الأداء وبعده إلا أن يرضى السيَّد أن تكون الدنانير والعروض شركة بينهما وتصحُّ الكتابة. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ، هـ. (¬2) فى أ، هـ: إن تساويا.

المسألة العاشرة في الذي يكاتب عبده وعلى السيد دين، وقد جنى العبد جناية.

المسألة العاشرة في الذي يُكاتب عبده وعلى السيِّد ديْن، وقد جنى العبد جناية. فلا يخلو المكاتب مِن أن يكون قادرًا على أداء جميع ذلك أو يعجز عن بعضه: فإن كان قادرًا على أداء جميع الدَّين والجناية والكتابة فإنَّهُ يمضي على كتابتهِ. فإن أدَّى الدَّين الذي على السيِّد فهل له أن يحاسبه به مِن نجومهِ أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يُحاسبه بهِ إذ لا ضرر في ذلك على سيِّدهِ، إذ لو عجَّل لهُ الكتابة لأدى. إذ قال: لَم يكُن لهُ الكتاب. وإلى هذا ذهب الشيخ أبو إسحاق التونسى. والثانى: أنَّهُ لا يُحاسبه بهِ وهو ظاهر قول مالك في "المُدوَّنة" لأنَّهُ قال: إذا قال العبد: أنا أؤدى الذي مِن أجله تردنى والحماسة. وأبقى على كتابتى. كان ذلك له. وظاهر هذا الكلام أنَّهُ لا يُحاسب السيِّد بذلك. ومفهوم مِن فحوى الكلام أنَّ الدين التزم أداءه كالتزامهِ للكتابة فكأنَّهُ مِن جملتها. وأمَّا الجناية التي جناها العبد فهل يحاسب بها السيد إذا أداها أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين: أحدهما: أنَّهُ لا يُحاسبه بها، وهو ظاهر "المُدوَّنة"، وهو مشهور المذهب.

والثانى: أنَّهُ لا يُحاسبه بها. قال بعض المتأخرين وهو أشبه في النظر. قال: وبيان ذلك أنَهُ إذا جنى جناية تُساوى عشرة وقيمتهُ عشرون وكُوتب بثلاثين"، فقال للسيد: أنا أؤدى عشرة الجناية وتبقى علىَّ مِن كتابتى عشرون، لأنِّى لو لم أؤد الجناية جبرت على دفعى في الجناية إذا افتدى بعشرة، فلا حُجَّة لك في الامتناع مِن أن يُحاسب بعشرة مِن الكتابة في الجناية، إذ لا ضرر عليهِ في هذا] (¬1). ويُعارضه على هذا التقدي أن يُقال: إن الجناية كان أصلها مِن العبد لم يجب على السيِّد أن يقاص من الكتابة منها، ومِن حجَّتهُ أن يقول: إنَّما كاتبتُهُ على أن تحملها. أو يقول: ظننت أن المجنى عليه يتبعهُ بذلك دينًا كالمعتق، ويُقبل قولهُ في ذلك إذا ادّعاهُ. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من هـ. وهذا السقط بدأ من منتصف المسألة الثامنة.

المسألة الحادية عشرة في الرهن في الكتابة.

المسألة الحادية عشرة في الرهن في الكتابة. ولا يخلو الرهن في الكتابة مِن وجهين: أحدهما: أن يكون في عقد الكتابة. والثانى: أن يكون بعد العقد. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان الرهنُ في عقد الكتابة والسيِّد حى لم يمُت ولم يُفلس فلهُ حَكم الرهن اتفاقًا في القيام والفوات. وإن مات السيِّد أو فلس فهل يخرج عن حكم الرهن ويعدُّ ذلك [منه] (¬1) انتزاعًا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّ ذلك انتزاع وليس لهُ حُكم الرهن، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنَّ لهُ حكم الرهن، وهو قول غيره. وسبب الخلاف: مُعاملة السيد عبدهُ في المعاوضات هل هى مُعاملة صحيحة أم لا؟ فعلى قوله في هذه المسألة أنَّ الربا جائز بين العبد وسيِّدهِ، وإن سمَّى ذلك سلفًا أو بيعًا وهو انتزاع معنوى على ما يقول ابن القاسم. لأنَّ السيد إن ردَّ على العبد أكثر ممَّا أخذ منهُ فالزيادة منهُ هبة للعبد وليس بزيادة في السلف. وعلى ما قال في "كتاب الصرف" أنَّ الربا يجرى بين العبد وسيدهِ ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كالأجنبى. ومن حكم فيهِ بأنَّهُ انتزاع فلا يرى فيهِ حقًا للمكاتب لا مع القيام ولا مع الفوات. ومَن حكم فيه بحكم الرهن قال: فإن المكاتب يكون أحق بعينه فى القيام وهو في الفوات أسوة الغرماء. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان الرهن بعد العقد مثل أن يحل عليه نجم فطلب التأخير على رهن يضعهُ. فالاتفاق في هذا الوجه أنَّ ذلك ليس بانتزاع وأن [له حكم] (¬1) الرهن مع القيام عاش العبدُ أو مات. فإن ضاع الرهن عند السيِّد ولم يعلم إلا بدعواه فلا يخلو السيد [من] (¬2) أن يكون مديانًا أو غير مديان: فإن كان مديانًا، فللمكاتب محاصة الغرماء بقيمة الرهن في مال السيَّد. ثُمَّ ينظر إلى ما نابه في المحاصة. فإن كان مقدار ما بقى عليه مِن الكتابة عتق واتبع ذمة السيد بما بقى مِن قيمةِ رهنه. فإن كان الذي نابه في [الحصاص] (¬3) أقل مما عليه في الكتابة وأكثر ممَّا عليهِ مِن النجوم فليحسب ذلك بما حل ثُمَّ مِن النجوم التي تليهِ فيأخذهُ الغرماء ثُمَّ تُباع لهم بقية الكتابة في بقية دينهم. فإن أدَّى المكاتب لمشترى الكتابة عُتق ويكون ولاؤه لعاقدها. وإن عجز رق لمشترى الكتابة ويُتبع السيد بما بقى لهُ مِن قيمةِ رهنه فى ¬

_ (¬1) في أ: للحكم. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الحصص.

الوجهين جميعًا. وأمَّا إن كان السيِّد ليس بمديان فهل يُقاصصهُ المكاتب في الكتابة بقيمته أو تُؤخذ القيمة مِن السيد، فتوقف؟ قولان منصوصان في "المُدوّنة": أحدهما: أنَّهما يتقاصان بهما جُملةً [بلا] (¬1) تفصيل. فإن تساوت القيمة والكتابة عتق. وإن نافت [قيمتهُ] (¬2) على الكتابة اتبع السيد. وإن قصرت عن الكتابة قوصص بها على النجوم ويسعى المُكاتب فيما بقى وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". ووجهُهُ: [أن] (¬3) الرهن لما جُهل أمره ولا يدرى هل [تلفه] (¬4) بتعد مِن السيد فيكون الحكم أن تُؤخذ القيمة منهُ وتُوقف. فإن أتى المُكاتب برهن ثقة أخذها كما قال في "كتاب الرهون" أو كان هلاكُه بغير سببهِ ولا بتعد منه فيسقط الضمان عن السيد ويكون التلف من الراهن فلمَّا كان الأمر هكذا توسط فيهِ بالضمان ويُحكم [له] (¬5) فيهِ بالقصاص في الحال، والتوسط سوق الاعتدال. والقول الثاني: بالتفصيل بين أن يتهم السيِّد بالعداء على الرهن أو لا يتهم. فإن اتُّهم بالعداء أُخذت منهُ القيمة ووقِّفت وتُؤدى على النجوم. ¬

_ (¬1) فى هـ: من غير. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) فى أ: بيعه. (¬5) سقط من أ.

فإن أتى المُكاتب برهن ثقة أخذ القيمة لنفسهِ ويُؤدى المُكاتب على نجومها. فإن لم يتهم بالعداء عليه فلا تخلو الكتابة مِن أن تكون عينًا أو عرضًا: فإن كانت الكتابة دنانير والقيمة دنانير كانت قصاصًا [بما] (¬1) على المكاتب، لأن وقفُها يؤول إلى ضرر وخطر وغرر. فإن كانت الكتابة عروضًا وطعامًا والقيمة عينًا، فإن رجى رخص ما عليه حتى يشتريه باليسير مِن الثمن [أوقفت القيمة] (¬2). فإن لم يُرج ذلك قوصص بها في قيمة ما عليهِ مِن العروض في الحال، وهو قول أشهب في "المُدوّنة". ووجههُ: أنَّ القيمة [قد وجبت] (¬3) على السيِّد بهلاك الرهن فكان القصاص بها أولى مِن الإيقاف [المعرض] (¬4) للإتلاف إذ بها يحصُل للعبد العتق المُتبغى وينالُ بها السيِّد الثواب المُرتجى. حتى إذا ظهرت دلائل التهمة، ولاحت أمارة الظنَّة بالعداء مِن السيد كان إيقافُ القيمة أوْلى لئلا يصل السيد بتعديه إلى ما لا يُريد، لاحتمال أن يقصد بذلك استعجال الكتابة قبل محلها فيُعاقب بنقيض مقصودهِ. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) فى أ: واجبة. (¬4) فى أ، جـ: المتعرض وفى ع: المترضى.

المسألة الثانية عشرة شراء المكاتب من يعتق على الحر بالملك إذا ملكه.

المسألة الثانية عشرة شراء المُكاتب مَن يعتق على الحر بالمِلك إذا ملكه. ولا يخلو شراؤهُ مِن وجهين: إمَّا أن يشتريه بغير إذن سيَّدهِ. [والثانى: أن] (¬1) يشتريهِ بإذنهِ. فالجواب عن الوجه الأول: إذا اشتراهُ بغير إذنهِ هل يدخل في الكتابة أم لا؟ قولان قائمان مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّهُ لا يدخل معهُ في الكتابة ولهُ أن يتبعهُ إذا خشى العجز وهو قولُ مالك في "المُدوَّنة". والثانى: أنَهُ يدخُل معهُ ويكون لهُ حُكم مَنْ انعقدت عليهِ الكتابة وهذا القول يُستقرأ مِن "المُدوَّنة". وينبنى الخلاف على الخلاف: في المكاتب هل لهُ أن يُعجز نفسهُ مع القُدرة على الأداء أو لا يجوز لهُ؟ فمن رأى أنَّ لهُ أن يُعجز نفسهُ قال: يدخُل معهُ. ومن رأى أنَّهُ ليس لهُ أن يُعجز نفسهُ قال: لا يدخُل معهُ لأنَّ شراءهُ تعطيل لماله عن التَّنمية التي يحصل بها الأداء والعتق. والجواب عن الوجه الثاني: إذا اشتراهُ بإذن سيدهِ هل يدخُل معهُ في الكتابة أو لا؟ قولان قائمان مِن "المُدونة": أحدهما: أنَّهُ يدخُل معهُ وهو نصُّ "المُدوَّنة". ¬

_ (¬1) فى أ: أو.

والثانى: أنَّهُ لا يدخُل معهُ، وهو مُستقرأ مِن "المُدونة". وسبب الخلاف: هل يجوز اتفاق السيد والمُكاتب على عجزهِ مع القُدرة على الأداء أم لا؟ فمن رأى أنَهُ يجوز لهُ عجزهُ مع اتفاقهما قال: يدخُل معهُ. ومن رأى أنَّهُ لا يجوز أن يتَّفقا على ذلك قال: لا يدخل معهُ لأنَّ ذلك [داعٍ] (¬1) إلى عجزهِ. وعلى القول بأنَّهُ يدخل معه مِن [الذي يدخل معه من] (¬2) قرابتهِ؟ فالمذهب على أربعة أقوال كلها قائمة مِن "المُدوَّنة": أحدها: أنَّهُ يدخل معهُ كُل مَنْ كان يعتق على الحر بالملك إذا ملكهُ، ويدخُل في ذلك الأخوة، وهو قول مالك في "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهُ لا يدخل معهُ إلا الأبوة والبنوَّة خاصة، وهو قول أشهب في "المُدوَّنة" ومثلهُ لابن القاسم في "الموَّازية". والثالث: أنَّه لا يدخل إلا الولد خاصة بإذن سيِّده إذ لهُ أن [يستلحقه] (¬3)، وهو قول ابن نافع في "المُدوَّنة". والرابع: أنَّهُ يدخل معهُ الولد وان اشتراهُ بغير إذن سيَّدهِ وهو قول ابن نافع في غير "كتاب محمد"، على قول أبى محمد في "النوادر"، وهو ظاهر تعليل ابن نافع في "الكتاب" حيث قال: إن له أن يستحدثهُ واستحداثهُ لا اختيار فيهِ للسيد فينبغى أن يكون الشراء كذلك. ¬

_ (¬1) في ع، هـ: داعية. (¬2) سقط من أ. (¬3) فى أ، جـ: يستحدثه.

وسبب الخلاف: بين القولين الأولين اختلاف العلماء فيمن يعتق على الحر بالملك. فأشهب راعى ما وقع عليهِ الإجماع في الحر. ومالك راعى مشهور مذهبهِ في عتق الأخوة، فاطَّرد ذلك في المكاتب. وأمَّا الابن فسببُ الخلاف فيه ما قدَّمناهُ في المكاتب هل يجوز لهُ أن يعجز نفسهُ وإن كان لهُ مال ظاهر؟ فمن رأى ذلك لم يُفرق بين الولد وغيرهِ. ومَنْ منع فقد فرق بين الولد وغيره للعلة التي ذكرها ابن نافع. وهذا كُلَّهُ إذا لم يكن على المكاتب ديْن. وأمَّا إن كان عليهِ ديْن فلا [يجوز] (¬1) شراؤهُ مِن أن يعتق عليهِ إلا بإذن الغرماء. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) فى أ: يخلو.

المسألة الثالثة عشرة في عتق السيد أحد المكاتبين.

المسألة الثالثة عشرة في عتق السيِّد أحد المكاتبين. ولا يخلو المعتق مِن [أحد] (¬1) وجهين: أحدهما: أن يكون لهُ قوة. والثانى: أن يكون ممن لا قُوَّة لهُ إمَّا لزمانة طرأت عليه بعد الكتابة، أو لكونه صغيرًا لا حرفة لهُ ولا قوة [فإن كان لا قوة] (¬2) لهُ في الحال ويقوى في أثناء الكتابة فهو كالصحيح المستوى. فإن كان أمرَ الكتابة ينقضى قبل أن يبلغ السعى، فهو كالزمن، وقد تقدَّم الكلام عليهِ في باب "توظيف الكتابة". فإن كان مِمن لا قوة لهُ على السعى، لا في الحال ولا في المآل فلا يخلو ذلك مِن أن يكون ذلك بإذنهم أو بغير إذنهم. فإن كان ذلك بإذنهم فلا خلاف في جواز عتقهِ لدفعهم عن أنفسهم ضررًا ناجزًا وهو نفقتهُ وكسوتهُ. والكتابة عليهم كما كانت. فإن أعتقه بغير إذنهم هل يُنفذ العتق أو يُوقف؟ قولان قائمان مِن "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّ العتق نافذ لا يُوضع عنهم مِن الكتابة [سهم] (¬3) العتيق وهو نصُّ "المُدوَّنة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) فى أ: منهم.

والثانى: أنَّ عتقهُ موقوف إلى العجز أو الأداء، وهو ظاهر "المُدونة" مِن قولهِ: إن لهم الرجوع عليهِ إذا أدوا عنهُ. وهو نصُّ "المُدوَّنة": أنَّ لهم الرجوع على الزمن. وسبب الخلاف: هل النظر إلى الضرر الذي درأ عنهم فى الحال مِن مؤنتهِ ونقله أو النظر إلى ما فوت لهم فى المال مِن الرُجوع عليهِ إذا أدوا؟ فإن كان العتيق لهُ قوة وسعاية إمَّا بيدهِ وحرفتهِ أو بمالهِ الحاصل عندهُ فلا يخلو مِن أن يكون ذلك بإذن أصحابهِ أو بغير إذنهم. فإن كان ذلك بغير إذنهم فقولان قائمان مِن "المُدونة": أحدهما: أنَّ العتق موقوف وهو قولهُ فى المُدوَّنة. والثانى: أنَّ العتق نافذ وهو قولهُ فى آخر الكتاب فى الزمن الذي لهُ مال. وسبب الخلاف: هل للسيَّد أن يعجز مكاتبه وإن أراد البقاء على الكتابة أو ليس لهُ ذلك؟ فعلى القول بنفوذ العتق فى الحال فلهُ أن يعجزه إذ فعلهُ يُؤدى إلى [عجز] (¬1) الباقين. فإذا قُلنا بنفوذ العتق فى الحال هل يوضع الباقين منابة العتيق مِن الكتابة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يُوضع عنهم شىء، وهو قولُ مالك فى "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهم توضع عنهم حصتهُ، وهو ظاهر قوله فى "الكتاب" فى الأمة التي أحبلها السيَّد فى الكتابة فرضيت هى ومَن معها فى الكتابة ¬

_ (¬1) فى أ: عتق.

بتسليمها إلى السيد حيث قال: يوضع عنهم جميع حقها مِن الكتابة، فإذا قال: يوضع عنهم جميع حقها من الكتابة، فإذا قال: يوضع عنهم مع رضاهم بالتسليم، وإخراجها مِن الكتابة بفعل السيِّد فبأن توضع عنهم جميعهم مع الإكراه أولى وأحق. وسبب الخلاف: هل للسيِّد أن يُجبر عبده على الكتابة أم لا؟ فعلى القول بأنَّ لهُ الجبر فلهُ أن يعتق وتبقى جميع الكتابة على مَن بقى كماله أن يوصف ذلك القدر عليهم [ابتداءً] (¬1). وعلى القول بنفى الجبر فتسقط عنهم. وعلى القول بأن العتق موقوف على الأداء أو العجز فإذا أعتق بالأداء فهل يرجع على سيِّده بما أدى إن أدى عن نفسه، وهل يرجع عليهِ أصحابه إن هم أدوا عنهُ؟ قولان منصوصان فى المذهب قائمان مِن "المُدوَّنة": أحدهما: أنَهُ لا يرجع على السيد بشىء ولا يرجع عليهِ أصحابه وهو نص "المُدوّنة". والثانى: أنَّهُ يرجع [هو] (¬2) على سيده ويرجع عليه أصحابهُ إن أدوا عنه، وهذا القول قائم مِن "المُدوَّنة " مِنَ "كتاب العتق الثاني" مِن مسألة العبد المستأجر إذا أعتقه سيدهُ قبل تمام الإجارة ولم يشترط أن يكون لهُ جميع الإجارة، وأن المُستأجر لهُ مِن إسقاط حقِّه مِن بقية الإجارة. فقد تأوَّل بعض الشيوخ على "المُدوَّنة" أنَّ بقية الإجارة للعبد ويرجع بها على السيِّد إنْ كان قد قبض جميعها عند العقد إذ لا سبيل له إن مد الإجارة عن الحر، وهي مسألتنا بعينها. ¬

_ (¬1) فى ب: استبراءً. (¬2) سقط من أ.

وسبب الخلاف: هل تغلب فيه شائبة الرق مِن حيثُ أنَّ العتق مُيسر ثُمَّ مِن جهة السيد حتى لا يلحقه ديْن حدث. أو تغلب فيه شائبة الرق مِن حيثُ أنَّهُ يستسعى بالرق على وجهٍ شرعى. فإن أعتقهُ بإذنهم ورضاهم هل ينفذ فيه العتق أو يتوقف؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كُلها قائمة مِن "المُدوَّنة": أحدها: أنَّ العتق نافذ جُملةً وهو قول ابن القاسم. والثانى: أن العتق موقوف وهو قول الغير فى المُدونة ولابن القاسم مثله من مسألة النصراني إذا أسلم حيثُ قال: يُباع عليهِ مكاتبتهما جميعًا لحقِّ الحمالة رضي أم كره. والقول الثالث: التفصيل بين أن يتساويا فى القوة فيجوز أو يكون العتيق أفضلهم وفيه ترجى علتهم ثم لا تجوز ويوقف. وسبب الخلاف: هل له أن يعجز نفسهُ أم لا؟ [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ، هـ.

المسألة الرابعة عشرة فى المكاتب إذا مات ومعه أولاد وأمهات أولاد فى كتابته.

المسألة الرابعة عشرة فى المكاتب إذا مات ومعه أولاد وأمهات أولاد فى كتابته. ولا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يترك مالًا فيه وفاء بالكتابة. والثانى: أن يترك مالًا لا وفاء فيه بالكتابة (¬1). والثالث: أن يموت ولم يترك مالًا. فإن ترك مالًا فيه وفاء بالكتابة فلا خلاف أن من معه فى الكتابة يعتقون فيه عاجلًا. فإن ترك مالًا لا وفاء فيه بالكتابة فلا يخلو الأولاد مِن أن يكونوا صغارًا أو كبارًا: فإن كانوا صغارًا عاجزين عن السعى فلا يخلو ذلك المال من وجهين: إمَّا: أن يكون [فيه] (¬2) ما يبلغهم السعى. والثانى: أن يكون ذلك مما لا يبلغهم السعى (¬3). فإن كان فيه ما يبلغهم السعى، فإنه يُؤدى عنهم [على] (¬4) النجوم حتى يبلغهم السعى. فإن كانوا كبارًا، فهل يُدفع لهم المال ويسعون فيه؟ فلا يخلو الولد من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) فى هـ: أن يكون دون ذلك. (¬4) فى أ: عن.

أن يكون مأمونًا أم لا: فإن كان الولد مأمونا قائما بالمال مشتغلًا بالاشتغال به فلا خلاف فى المذهب أنه يدفع له خلافًا لقول ربيعة فى "الكتاب" حيث قال: [لا يدفع إلا للسيد] (¬1). فإن كان الولد غير مأمون فالمذهب على ثلاثة أقوال كُلَّها قائمة منِ "المدوَّنة": أحدها: أنَّه لا يدفع إلا للولد إن كان مأمونًا ولا يُدفع لأُم الولد وإن كانت معهُ، وهو قول مالك فى كتاب المكاتب من "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهُ يدفع لأُم الولد خاصة إذا لم يستقل بهِ الولد إمَّا لكونهِ صغيرًا وإمَّا لكونهِ غير مأمون ولا يدفع لغيرها وهو ظاهر قوله فى "كتاب الجنايات". والقول الثالث: أنَّهُ يدفع لكل مَن كان معه فى الكتابة ويسعى فيه، وإن كان أخًا أو أجنبيًا، وهو قول أشهب فى "الموَّازية". وعلى القول بأنَّهُ لا يدفع لأحد إلا للولد. فإن كان الولد غير مأمون أو لم يترك ولدًا معهُ فى الكتابة أصلًا كان للسيَّد أن يأخذ ذلك المال. واختلف هل يُؤديه على النجوم أو يحسب ذلك [لهم] (¬2) من أول الكتابة أو مِن آخرها؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ يحسب ذلك لهم مِن آخر كتابتهم، وهو قول ابن القاسم ¬

_ (¬1) فى هـ: لا يدفع السيد. (¬2) سقط من أ.

فى آخر كتاب الجنايات مِن "المُدونة". والثانى: أنَّ ذلك يُحسب لهم من أولها، وهو قول مالك فى "كتاب محمد". والثالث: أنَّهُ مقسوم [على النجوم] (¬1) ومفضوض على سائرها، وهو قولٌ قياس وإليه أشار بعض المتأخرين, لأنَّهُ لما مات حلَّ ما عليه من الدين فى خاصة نفسه، وحمالته توجب أن يُؤدى ما ترك عن ذلك [كله] (¬2) وإنَّما فرق مالك بين الولد وغيره فى دفع المال إليه لأنَّه يشفق وإنَّما فرق مالك بين الولد وغيره فى دفع المال إليه لأنَّهُ يشفق عليه ويصونه ولا يُبذره كما كان الأب يفعل. [وأما] (¬3) الأجنبى فربَّما يَبذرهُ ويسرف فيه ولا تُدركه منهُ شفقة لكونهِ لم يعرف فيه ولا تعب فى اقتنائه فى غالب الأمر. فإن مات ولم يترك مالًا فلا يخلو من معه فى الكتابة من أن يكونوا صغارًا أو كبارًا: فإن كانوا صغارًا عاجزين عن السعى. فإن كانت معهم أم ولد لأبيهم فإن قويت على السعى فإنَّها تسعى فى بقية الكتابة عنها وعنهم. فإن أدت رجعت عليهم بما أدت عنهم إن لم يكونوا أولادها [فإن كانوا أولادها] (¬4) فلا ترجع عليهم بشىء ولها أن تستسعيهم فى الكتابة إذا أطاقوها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من هـ.

فإن عجزت عن السعى فلا يخلو من أن يكون فى ثمنها إذا بيعت ما يفى ببقية الكتابة أو ليس فيه ما يفى: فإن كان فى ثمنها ما يفى ببقية الكتابة فإنَّها تباع، وتؤدى الكتابة من ثمنها. وكذلك الحكم إذا كانوا كبارًا عاجزين عن السعى فإنَّ لهم بيعها وإن كانت أمهم. واختلف إذا كانوا جماعة أمهات أولاد وكان مع [كل] (¬1) واحدة منهن ولد، وكان مع واحدة خاصة أو كان معهنَّ الولد من غيرهن، وكان فى بيع بعضهن ما يفى بالكتابة، كيف يُباع منهن؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الخيار فى ذلك للولد فيختار [بيع] (¬2) من فيها نجاتهم، وهو قول ابن القاسم فى "المُدوَّنة". والثانى: [أنه] (¬3) لا تباع واحدة منهنَّ إلا بالقُرعة، وهو قول سحنون. والقول الثالث: أنه يُباع منهنَّ بالحصص، كالمدبرين، وهو اختيار أبى الحسن اللخمى - رضي الله عنه - (¬4). وكذلك الحكم فى السيَّد إذ لو كان حيًا. فإن لم يكن فى ثمن أم الولد إذا بيعت ما يفى بالكتابة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) فى أ: ويبيع. (¬3) فى أ: أنها. (¬4) زيادة من جـ، ع، هـ.

فإن كان فى ثمنها ما يبلغهم السعى إن كانوا صغار فإنَّها تُباع ويأخذ السيد الثمن ويقبضه لنفسه على النجوم حتى يبلغوا السعى. فإن لم يكن فى ثمنها ما يُبلغهم السعى فإنَّهم يرقون جميعًا للسيد. واختلف إذا لم يكن معها ولد فى الكتابة مجال لا منها ولا من غيرها وكانت مع الأب أو الأخ هل تسعى معهُ أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنَّها لا تسعى إلا مع الولد خاصة، وهو قول ابن القاسم فى المُدَّونة. والثانى: أنَّها تسعى مع [الأب] (¬1) والأخ، وهذا القول ذكره اللخمى ولم يُسم قائله. وقد اختلف فى أم ولد المكاتب متى تكون أُم ولد [بعد اتفاقهم] (¬2). على أنَّها لا تكون أُم ولد بما ولدت منه قبل الكتابة. وعلى أنَّها تكون أُم ولد بما حملت به بعد أداء الكتابة. وإنَّما اختلف فيما حملت به فى حين عقد الكتابة أو حملت [به] (¬3). بعد الكتابة ثم وضعته بعد الأداء على قولين منصوصين: لعبد الملك فى كتاب العدة وطلاق السنَّة فى "المُدونة"، وكتاب "المأذون له فى التجارة". وينبنى الخلاف على الخلاف فى أم الولد هل تكون أم ولد بنفس الحمل أو لا تكون أم ولد إلا بعد الوضع؟ ¬

_ (¬1) فى أ: الابن. (¬2) فى أ: باتفاقهم. (¬3) سقط من أ.

وهكذا الخلاف فيمن اشترى زوجته وهي حامل [منه] (¬1) هل تكون أُم ولد بذلك الحمل منهُ أم لا؟ على قولين قائمين من "المُدوَّنة". والحمد لله وحده ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الخامسة عشرة في الكتابة في المرض،

المسألة الخامسة عشرة في الكتابة في المرض، وفيها ثلاثة أسئلة: الأول: إذا أقرَّ فى المرض بقبض الكتابة فى الصحة. والثانى: إذا كاتبه فى المرض. [والثالث: وقوعها فى المرض وإقراره فى المرض] (¬1) بقبض الكتابة. فالجواب عن السؤال الأول: إذا أقرَّ فى المرض بقبض الكتابة في الصحة، فلا يخلو من أن يكون موروثًا بولد أو بكلالة: فإن كان موروثًا بولد، فلا خلاف أعلمه فى المذهب فى نفى التُهمة، وخروج العبد من رأس المال، ويكون حُرًا من ساعته. فإن كان موروثًا بكلالة، هل يخرج من الثلث أو يبطل رأسًا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّهُ يخرج من الثلث، وهو قول ابن القاسم فى "كتاب المكاتب". والثانى: أنه يبطل إقراره، وهو قوله فى كتاب الوصايا من "المدونة"، وهو قول الغير فى كتاب [الوصايا] (¬2)، حيث قال: "ولا يكون فى الثلث إلا ما أُريد به الثلث". وسبب الخلاف: هل إقراره كالإنشاء، فيُعدَّ كما لو أعتقه ساعتئذ أو هو كالإخبار عمَّا وقع فيتهم ثمَّ يبطل؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) فى أ: ابن حبيب.

وعلى القول بأنَّهُ كالإنشاء، فيدخله الخلاف الذي أسلفناه فى "كتاب العتق الأول" فى المبتل فى المرض حرفًا حرفًا. والجواب عن السؤال الثاني: إذا كاتبه فى المرض، ففى هذا السؤال فى الكتاب إشكال: وقد قال فى أول الكتاب: "إذا كاتب عبدهُ فى المرض، فإن حمله الثُلُث جاز، وإن لم يحمله: خُير الورثة، إمَّا أجازوا وإمَّا عتقوا منه ثلث الميت بتلا". ثم قال مالك [فى المريض] (¬1) [بيعه وشراؤه جائز] (¬2) إلا أن يحابى، فيكون مُحاباة فى الثلث". فانظر ما بين المسألة التي استدل بها والتي يستدلَّ عليها من المنافرة، لأنَّ التي استدل عليها شرط فيها [حملان] (¬3) الثلث حابا أم لا والتي استدل بها، إنما اعتبر الثلث، مع وجود المحاباة خاصة، ولا فرق في التحقيق بين المسألتين، ولاسيما على القول بأن الكتابة بيع، إلا أن يتأول متأول أن نفس الكتابة محاباة للعبد من السيد، مثل: أن تكون الكتابة، مثل قيمة رقبته إلا أنَّ السيد [كان] (¬4) قادرًا على أن [يُخرجهُ] (¬5) بمثل ذلك، فتكون الكتاب مُحاباة، فلذلك اعتبر الثلث، وهو تأويل سائغ لائق [بالكتاب] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) فى أ: ما باع واشترى أن ذلك جائز. (¬3) فى أ: حالان. (¬4) سقط من أ. (¬5) فى هـ: يخارجه. (¬6) فى أ: بالكتابة.

وإذا وقعت بلا مُحاباة، هل تمضى ويسعى العبد على النجوم أو يوَّقف المكاتب بنجومه إلى بعد الموت، فيُصرف إلى الثلث؟ ففى المذهب قولان منصوصان فى "المُدوَّنة". وسبب الخلاف: هل الكتابة من ناحية العتق أو مِن ناحية البيع. والجواب عن السؤال الثالث: إذا وقعت الكتابة فى المرض، [وأقر بقبضها فى المرض] (¬1). فعلى القول بأنَّ ناحيتها ناحية البيع: فلا خلاف أنَّ العبد يكون حرًا من رأس المال. وعلى القول بأنَّ ناحيتها ناحية العتق: فيتخرج على الخلاف فى المبتل فى المرض حرفًا حرفًا [بلا ريب ولا رجم غيب] (¬2). والحمد لله وحدهُ. ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ.

المسألة السادسة عشرة فى السيد إذا أوصى بكتابة مكاتبه، فلا يخلو من وجهين

المسألة السادسة عشرة فى السيد إذا أوصى بكتابة مكاتبه، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يُوصى بها لأجنبى. والثانى: أن يوصى بها لمكاتبه. فإن أوصى بها لأجنبى، فلا يخلو أن يوصى بها كُلَّها أو يُوصى بنجم منها: فالجواب عن الوجه الأول: إذا أوصى بها [كلها] (¬1) لأجنبى، فإنَّ وصيَّته [كلها] (¬2) مصروفة إلى الثلث. واختلف ما الذي [يجعل فى] (¬3) الثلث؟ على ثلاثة أقوال كلَّها قائمة من "المُدوَّنة": أحدها: أنَّهُ يجعل فى الثلث الأقل من قيمة الرقبة أو [قيمة] (¬4) الكتابة، وهو قول أكثر الرواة فى [الكتاب] (¬5). والقول الثالث: أنَهُ يجعل فى الثُلُث قيمة الكتابة، مِن غير التفات إلى قيمة الرقبة، وهو ظاهر [قول ابن القاسم] (¬6) فى "المدوَّنة" فى [وصية للمكاتب] (¬7) بنجم معين. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) فى هـ يصرف إلى. (¬4) فى أ: عدد. (¬5) فى أ: الكتابة. (¬6) فى أ: قوله. (¬7) فى أ: وصية للكتابة.

وسبب الخلاف: هل النظر إلى الحال أو النظر إلى المآل؟ فمن اعتبر الحال قال: قيمة الكتابة, لأنَّها التي تملكها فى الحال، إذ له بيع الكتابة، ويقبض [الثمن] (¬1) نقدًا. ومَنَ اعتبر المآل: رأى أن عدد الكتابة هو الموصى به فهو المجعول فى الثلث. وأمَّا قوله أو قيمة الرقبة، إن كانت أقل. أما على القول باعتبار عدد الكتابة فى الثلث، فيصح الأمران على [اعتبار] (¬2) المآل، لأنَّ الذي يحصل للموصى به إذا حمل الثُلُث. ووصية أحد أمرين: إمَّا الكتابة إن أداها العبد. وإما رقبة العبد إن عجز فيصح اعتبار الأقل [بينهما] (¬3). وأمَّا اعتبار الأقل بين قيمة الكتابة وقيمة الرقبة: فذلك استحسان على القول بمراعاة الحال، إذ لا مدخل لقيمة الرقبة هنالك. والجواب عن الوجه الثاني من الوجه الأول: إذا أوصى له بنجم منها، فلا يخلو ذلك النجم من أن يكون معينًا أو مبهمًا: فإن كان معينا، وحمله الثلث، كان له مطالبة المكاتب بذلك. فإن عجز رق [له] (¬4) من رقبة العبد مقدار ما يُقابل ذلك. ¬

_ (¬1) فى هـ: القيمة. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) فى أ: وله.

فإن قال له الورثة نعجل لك نجمًا، وأبى أن يقبله، وقال [لعل] (¬1) العبد يعجز، فيكون [لي] (¬2) من رقبته مقدار ذلك. فإن كان ذلك قبل حلول النجم، كان ذلك له. وإن كان بعد حلوله، والعبد به ملى، كان ذلك للورثة. فأمَّا إن كان نجمًا مُبهمًا، فإنَّهُ يكون شريكًا للورثة على حساب الأنجم. فإن كانت خمسة، كان شريكًا بالخُمس فى الكتابة، إن أُدِّيت، وفى الرقبة إنْ عجز. والجواب عن الوجه الثانى من أصل التقسيم: إذا أوصى بها لمكاتبه، فلا يخلو من أن يُوصى له بها كلها أو بنجم منها: فإن أوصى [له] (¬3) بها كُلها: كان ذلك وصية بعتقه بلا خلاف. واختُلف ما الذي يجعل فى الثلث: على قولين: أحدهما: أنَّه يجعل فيها قيمة الرقبة. والثانى: قيمة الكتابة. والقولان لابن القاسم فى "المدونة"، كما تقدم، فإن حمَّله الثلث عُتق، وإن لم يحملهُ الثلُث خُيِّر الورثة بين أن يجيزوا ذلك أو [يعتقوا] (¬4) منه ما حمل الثلث بتلا. ويوضع عنه من الكتابة مقدار ما يقابل الجُزء المعتق منه. ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) في أ: في. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: يعتق.

[وأما إذا] (¬1) أوصى له بنجم بعينه، وقد حمله الثلث، فذلك جائز. واختُلف ما الذي يجعل فى الثلث؟ على قولين قائمين من "المُدوّنة": أحدهما: قيمة ذلك النجم، ولا ينظر إلى الرقبة، وهو ظاهر قول ابن القاسم فى "الكتاب". والثانى: أن المجعول فى الثلث الأقل من [قيمة] (¬2) ذلك النجم أو ما يُقابلهُ من الرقبة، وهو ظاهر قول ابن القاسم فى: الوصيَّة بالكتابة لأجنبى، وهذا مثله، وهو نص قول أشهب فى غير "المدونة". فإن حمله الثلث نظر إلى قيمة ذلك النجم من جميع الكتابة. فإن كان ربعها، عُتق منه الربع أو خمسًا عتق منه الخمس على هذا الحساب، ويسقط [عنه] (¬3) ذلك النجم [من الكتابة] (¬4)، ويسعى فيما بقى. فإن لم يحمله الثلث: خُيِّر الورثة بين إجازة ذلك أو يعتقون من [المكاتب] (¬5) ما حمل الثُلُث منه، ويوضع [عنه] (¬6) من الكتابة بقدر ذلك. واختلف هل يوضع عنه من كل نجم أو يجمع ذلك فى نجم واحد بعينه؟ على قولين قائمين من "المُدونة": ¬

_ (¬1) في أ: فإذا. (¬2) سقط من أ. (¬3) فى أ: منه عدد. (¬4) سقط من هـ. (¬5) فى أ: الكتابة. (¬6) سقط من أ.

أحدهما: أنه يوضع عنه من كل نجم قدر ما عتق، وهو نصّ قول ابن القاسم فى "المدوَّنة". والثانى: أنَّهُ يُوضع عنه فى ذلك النجم بعينه، وهو قول أشهب فى غير "المدونة". وينبنى الخلاف على الخلاف فى الموصى له بشىء بعينه، ولم يحمله الثلث، هل يقطع له بالثلث فى جميع التركة أو يقطع لهُ بها فى ذلك الشىء بعينه؟ والقولان لمالك فى كتاب الوصايا من "المدونة". ولا فرق بين السؤالين, لأنَّ النجم معين [والشىء] (¬1) الموصى له بعينه معين. فينبغى أن يكون الجوابان على سواء. [والحمد لله وحده] (¬2) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة السابعة عشرة فى موت أحد المكاتبين

المسألة السابعة عشرة فى موت أحد المكاتبين: وإذا مات أحد المكاتبين، وقد كوتبوا كتابة واحدة، فلا يخلو من وجهين: إمَّا أن يترك مالًا. أو لم يترك شيئًا. [فإن لم يترك شيئًا] (¬1) فالذي بقى فى الكتابة يسعى، فإن أدى عتق، وإن عجز [رق] (¬2) ولا إشكال في هذا الوجه. فإن مات وترك مالًا، فلا يخلو من أن يكون فيه وفاء وفضل أو دون الوفاء: فإن ترك دون الوفاء: فإنَّهُ يُحسب لهم إما فى أول النجوم. وإمَّا فى آخر الكتابة على الخلاف الذي قدَّمناهُ: فإن كان فيه وفاء وفضل: فالكتابة حالَّة، وللسيِّد تعجيلها اتفاقًا لأن الكتابة التي هى على الميت، بعضها بالأصالة، وبعضها بالحمالة: وجميع ذلك يحل بموتهِ. فإذا عجلت الكتابة من مال [الميت] (¬3) عتق فيه كل من كان معهُ فى الكتابة، ويكون للسيِّد الرُجوع على كُلِّ مَن كان يرجع عليه المكاتب، لو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

عاش وأدى عنه, لأنَّ السيِّد يقوم مقامه، إذ لولا هم لأخذ السيِّد جميع ما خلَّفهُ المُكاتب، لأنَّهُ مات رقيقًا. واختلف المذهب فيمن كان يرجع عليه المكاتب لو أدَّى عنه: على أربعة أقوال: أحدها: أنَّهُ لا يرجع على ذوى الأرحام كُلّهم، كان ممن يرث أو [ممن] (¬1) لا يرث، كالخالة والعمَّة وبنت الأخ، وهو قول أشهب. والثانى: أنَّهُ لا يرجع على مَنْ يرث بالنسب، ويرجع على مَنْ عداه من ذوى الأرحام، وهي رواية ابن القاسم عن مالك. والثالث: أنه لا يرجع على الأبوة والأخوة خاصة ويرجع على من عداهم وهو قول ابن القاسم فى المدونة] (¬2). والرابع: أنَّهُ لا يرجع على الأُبوَّة والبنوة خاصة، ويرجع على من سواهم، وهو ظاهر قول أشهب فيمن يدخل [مع] (¬3) المُكاتب فى الكتابة إذا اشتراهُ. وينبنى الخلاف على الخلاف: فيمن يعتق على الحُر بالمِلك [إذا ملكه] (¬4)، هل يرجع عليهم على النجوم أو على الحلول؟ قولان: وإن ترك فضلًا عن وفاء الكتابة، فلا يخلو من معهُ فى الكتابة من أن يكون قريبًا أو أجنبيًا: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) فى أ: على. (¬4) سقط من أ.

فإن كان أجنبيًا، فالمال للسيد اتفاقًا. وإن كان قريبًا، فلا يخلو مِن أن يكون قريبًا بسبب أو قريبًا بنسب: فإن كان قريبًا بسبب، كالزوجية، هل يرث الحى منهم الميت أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين عن مالك رحمه الله: أحدهما: أنَّهُ لا يرث الحى الميت منهما، وهو نصُّ قوله فى "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهما يتوارثان، وهو قوله فى "كتاب ابن الموَّاز". ولا خلاف فى المذهب فيما أعلمه أنَّهُ لا يرجع عليها إذا أدَّى عنها الكتابة، كما لو فداها من [أيدى] (¬1) العدو. واختلف إذا أدت عنه، هل ترجع عليه؟ على قولين: أحدهما: أنَّها لا ترجع عليه، وهو قول ابن الماجشون. والثانى: أنَّها ترجع عليه لعدم العلَّة التي هى أصل فى الباب. فإن كان قريبًا بنسب، وما ذلك النسب الذي يستحق به ميراث المكاتب؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يرثه كُل من يرث الحُر من العم وغيره من نساء أو رجال، وهو قول ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم. والثانى: أنَّهُ لا يرثُهُ إلا من يعتق على الحُر بالملك إذا ملكه، وهو الذي لا يرجع عليه إذا أدى عنه، وهو مذهب "المُدونة"، وهو قول عبد الملك وابن القاسم، قاله مرة فى "كتاب محمد". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثالث: أنَهُ لا يرث إلا الأُبوة والبنوة خاصة، وهو ظاهر قول أشهب: فيمن يدخل مع المُكاتب إذا اشتراه. وسبب الخلاف: مخالفة هذه المسألة الأصول، ولا خلاف أنَّهُ لا يرثه من كان خارج الكتابة من أقاربه، وإن كان أقرب الأقرباء كالأب والابن، وهذا [حكم] (¬1) بين حكمين. وهي من المسائل التي انفرد بها مالك رحمه الله دون سائر العلماء، ومعتمده فى ذلك أمران: أحدهما: قضية عمر - رضي الله عنه -، وذلك أنَّ مُكاتبًا تُوفي وترك مالًا كثيرًا وعليه بقية من كتابته، فجاء أولاده إلى عمر، فقالوا: نؤدى دينه ونأخذ ما بقى، فقال لهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أرأيت لو مات أبوكم، ولم يترك وفاء، أكنتم تسعون فى أدائه؟، فقالوا: لا، فقال عمر: فلا إذا. ووجه الدليل من الحديث أنَّ عمر منعهم الميراث لكونهم خارج الكتابة، وأنَّهم لا يتساوون مع أبيهم فى الحُكم، فوجب أن يكون ميراثهُ لمن ساواه فى الحُكم. والعمدة الثانية: مراعاة الشبهة، وهي عبارة عن تشاكل الأمرين، وتشابه الشيئين، وليس القطع إلى أحدهما بأولى من الآخر، فوجب أن يكون الحكم مقتضى شائبة الشبهة، وذلك الحُكم منافر لكلا الشقين، مثل: ما رُوى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم به فى ولد وليدة [ابن] (¬2) زمعة، وذلك أنَّ سعد بن أبي وقاص تداعى هو وعبد الله بن زمعة فى الولد الذي ولدتهُ وليدة زمعة، فقال سعد: "يا رسول الله، هذا ابن أخي أمرنى أن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

أستلحقه إلى نسبه عند الوضع"، على حسب ما كانوا عليه فى الجاهلية، وفي أول الإسلام من اللاطة، وقال ابن زمعة: "هذا أخي وابن أبي، ولد على فراش أبى"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الولد للفراش، وللعاهر الحجر" يعني الزانى، فألحقهُ بابن زمعة، ثم قال لزوجته: "احتجبى منه يا سودة"، لما رأى من شبه الولد بعتبه، فلم يرها حتى مات. فوجه الدليل من الحديث أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم بالشُبهة، وأناط بها حُكمًا منافرًا لشقِّ الدَّعوى، وهو أمره - صلى الله عليه وسلم -[لسودة بالاحتجاب مع إلحاقه الولد بفراش أبيها وذلك الولد أخ لها من أبيها وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر سودة] (¬1) بقطع ما أمر الله به أن يُوصل من الأرحام لما تخايل له من الشبهة بين الولد وعتبة من أدل الدلائل على ما رمناه من تصحيح مذهب مالك رحمه الله فى ميراث المكاتب. وتقرير الشبهة: أنَّ الولد تجاذبهُ فراشان: أحدهما: صحيح. والآخر: فاسد. غير أنَّ كل واحد منهما لو انفرد للحق الولد بصاحبه إبانا لوجود المقتضى لولد، فلما [اجتمعوا] (¬2) غلب حُكم الفراش الصحيح على الفاسد، لأنَّهُ المؤثر فى لحوق الأنساب عمومًا وخصوصًا وللفراش الفاسد تأثير الشبهة فيه في الخصوص لا في العموم. فالذي يقتضيه الدليل المعروف والعمل المألوف أنَّ للولد [إن] (¬3) لحق بالفراش الفاسد، أن يكون ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) فى أ: اجتمع. (¬3) سقط من أ.

الاحتجاب، [واجب] (¬1) على سودة كوجوبه على سائر أمهات المؤمنين، وإن لحق بفراش أبيها زمعة: وجب أن يرتفع الحجاب وتُفَّتح الأبواب لثبوت النسب والانتساب، ولا واسطة بين القسمين، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم وقضى، وبيَّن أنَّ هناك وجهًا لا يهمل ومعنى لا يغفل، وهو [حاجز] (¬2) بين القسمين، وحائل بين الوجهين، وميراث المكاتب من هذا القبيل: إمَّا أن يحكم بأنَّهُ مات على الرِّق، فيكون ما ترك لسيده بالرق. أو يحكم بأنَّهُ مات حرًا، فيرثه ورثته، مَن كان منهم فى الكتابة، ومَنْ كان [منهم] (¬3) خارجا عنها وكونه يرثهُ مَنْ كان معه فى الكتابة من ورثته دون غيرهم غير معقول، لكن الشرع لاحظ فيه شائبة الحريَّة، وشائبة الرق، [فرتب] (¬4) على كل شائبة مقتضاها. تمَّ الكتاب والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله ¬

_ (¬1) في أ: وأوجب. (¬2) في أ: جائز. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: فركب.

كتاب أمهات الأولاد

كتاب أمهات الأولاد

كتاب أمهات الأولاد تحصيل مُشكلات هذا الكتاب وجملتها ست مسائل: [المسألة الأولى]: فى الأمة تدعى أنَّ سيدها أولدها, ولا يخلو السيِّد مِن ثلاثة أوجه: أحدها: أن يُصدقها فى الوطء والوضع. والثانى: أن يُكذبها فى الأمرين. والثالث: أن يُصدِّقها فى الوطء، ويُكذبها فى الوضع. فالجواب عن الوجه الأول: إذا صدَّقها فى الأمرين، فلا خلاف أنَّها تكون أم لولده، وتبقى على أحكامها، وذلك أنَّ أمهات الأولاد من ساداتهن الأحرار، لهنَّ حُكم الأحرار فى ستة أوجه، وحكم العبيد في أربعة أوجه. ولا خلاف عندنا أنهنَّ لا يبعن فى ديْنٍ ولا غيره، ولا يَرهنَّ ولا يُوهبن ولا يُؤاجرن، ولا يُسلمن فى جناية، ولا يستسعين. وأما حُكمهن فى حُكم العبيد فى انتزاع أموالهنَّ ما لم يمرض السيَّد، وفي إخبارهنَّ على النكاح فى أحد القولين، وفي استخدامهن الخدمة الحقيقية وإن لساداتهن فيهن من الاستمتاع ما لهم في الإماء. وأمَّا ولدها من سيِّدها: فلا خلاف بين العلماء أنَّهُ حُر. وأمَّا ولدها من غير سيدها قبل حملها من سيِّدها، فلا خلاف أنَّهُ عبد. وأما ولدها من غير سيِّدها، بعدما ولدت من سيِّدها:

فقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ حُر كولدها من سيدها، وهو مذهب [ربيعة بن أبي عبد الرحمن] (¬1). والثانى: أنَّهُ عبدٌ كما لو ولدتهُ قبل ذلك، وهو مذهب الزهرى. والثالث: أنَّهُ بمنزلتها فى كونها تُعتق مِن رأس المال، ويخالفها فى وجوه: منها جواز استخدامه واستئجاره وغير ذلك، وهو مذهب مالك - رضي الله عنه -. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كذبها فى الأمرين جميعًا، فلا يخلو من أن يكون له بينة على إقراره بالوطء أم لا: فإن لم تكن لها بينة: فلا خلاف فى المذهب أنها لا تصدق عليه، وهل يحلف أم لا؟ قولان: أحدهما: أنَّهُ لا يحلف، وهو مشهور المذهب. والثانى: أنه يحلف إن كانت عليه [بينة] (¬2)، وهو اختيار بعض المتأخرين. فإن كانت لها عليه بينة، فهل تُصدَّق عليه أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال كُلَّها قائمة من "المُدوَّنة": أحدها: أنَّها تصدَق، كان معها الولد أم لا، شهدت المرأتان على الولادة أم لا، قياسًا على تماديه على الإقرار. والثانى: أنَّها لا تُصدَّق عليه إلا بشهادة امرأتين على الولادة، كان ¬

_ (¬1) فى ع، هـ: ربيعة. (¬2) سقط من أ.

معها الولد أم لا، وهو ظاهر قوله فى الكتاب عند [تمامه] (¬1) هذا الفصل بقوله: "ويثبت نسب ولدها منه". والثالث: بالتفصيل بين أن يكون معها الولد، فتصدَّق بلا بيِّنة على الوضع أو لا ولد معها، فلا تُصدَّق إلا ببيِّنة على الوضع، وهو قول سحنون وربيعة فى "كتاب الشهادات" من "المُدوَّنة". وعلى القول بأنها لا تُصدَّق إلا ببيِّنة على الوضع: فإن شهد شاهدان على [إقرار بالوطء وامرأتان على الولادة فإنها تصدق بلا يمين فإن شهد شاهدان على] (¬2) الإقرار، وامرأة واحدة على الوضع، فهل يحلف السيِّد أم لا؟ قولان قائمان من "المدونة". فإن شهد شاهد واحد على الإقرار، وامرأة [واحدة] (¬3) على الولادة: فإن كان معها ولد، حلف السيد. وإن لم يكن معها ولد، ففى [يمين] (¬4) السيِّد قولان: أحدهما: أنَّهُ يحلف ليدفع شهادة الشاهد عن نفسه. والثانى: أنَّهُ لا يحلف. والقولان: قائمان من المُدوَّنة، على اختلاف الروايات فى "كتاب أمهات الأولاد" وفي "كتاب الشهادات". فإن ادعى على السيد الاستبراء بعد قيام البيِّنة عليه، هل يُقبل قوله أو ¬

_ (¬1) فى هـ: تمام. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب. (¬4) سقط من ب.

لا يُقبل؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنَّهُ يُصدَّق، وهو نصَّ قوله فى كتاب أمهات الأولاد. والثانى: أنَهُ لا يُصدَّق، وهو قائم من "المُدوَّنة" من غير ما موضع إلا بعد [أمد] (¬1) الحمل، إمَّا بعد خمس سنين أو أربع: على الخلاف فى ذلك، وهو قول المغيرة فى خمس سنين فى أحد قوليه. وعلى القول بأنَّهُ يُصدَّق، هل ذلك بيمين أو بغير يمين؟ قولان قائمان من "المُدوَّنةِ": أحدهما: أنَّهُ يُصدَّق بغير يمين، وهو قول ابن الموَّاز ومحمد بن مسلمة، وهو ظاهر "المدونة" فى "كتاب العدَّة"، حيثُ قال: "ولا لعان فى ملك اليمين"، معناه: لا يمين عليه. والثانى: أنَّهُ لا يُصدَّق إلا بيمين، وهو قول عبد الملك فى كتاب محمد، وهو ظاهر "المُدونة" أيضًا. وعلى القول بأنَّهُ يُصدَّق فى ذلك بيمين، هل الاستبراء فى ذلك بحيضه أو بثلاثة؟ قولان قائمان من "المدوَّنة": أحدهما: أنَّ الاستبراء بحيضة واحدة، وهو نصُّ "المُدوَنة". والثانى: أنَّ الاستبراء فى ذلك بثلاثة قُروء، وهو قول عبد الملك فى "كتاب محمد"، وهو ظاهر "المُدوَّنة" على القول بأنَّ الثلاثة الأقراء كلها للاستبراء. والجواب عن الوجه الثالث: إذا صدَّقها فى الوطء، وكذَّبها في ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الوضع، هل تَصدَّق عليه فى الوضع أو لا تصدَّق؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كُلها قائمة من "المُدوَّنة": أحدها: أنَّها تُصدق عليها، كان معها الولد أم لا، عَلِمَ بالوضع جيرانها أم لا، وهو نصُّ قوله فى "كتاب القذف". والثانى: أنَّها تُصدَّق عليه إن صدَّقها الجيران، كان معها الولد أم لا، وهو ظاهر قوله فى "كتاب أُمهات الأولاد"، و"كتاب الشهادات"، وهو نصَّ قوله فى "كتاب محمد". والثالث: التفصيل بين أن يكون معها ولد، فتُصدق أو لا يكون معها، فلا تصدَّق إلا بشهادة امرأتين على الولادة، وهو ظاهر الكتاب، وهو نصَّ قوله فى [المدونة] (¬1) وغيرها, لأنَّ السيَّد أقرَّ لها بالإيداع. فإذا جاءت بولد قبل قولها أنَّهُ وديعة. فإذا لم يكن معها ولد، فهي مُدَّعية، فلا يُقبل قولها إلا بدليل يقومُ لها. فإن ادعت على السيد العلم بالوطء، فهل يحلف أم لا؟ قولان عن ابن القاسم فى غير "المُدوَّنة" [وقائمان من المدونة] (¬2). وسبب الخلاف: هل إقراره بالوطء شهادة] (¬3) قائمة له على دعواها أم لا؟ والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) فى هـ: كتاب الموازية. (¬2) زيادة من جـ، ع، هـ. (¬3) في هـ: شبهة.

المسألة الثانية فى الأب إذا وطئ أمة ابنه،

المسألة الثانية فى الأب إذا وطئ أمة ابنه، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يطأ أمة ابنه. والثانى: أن يطأ سريته التي [لم] (¬1) تلد معه بعد. والثالث: أن يطأ أم ولد ابنه. فالجواب عن الوجه الأول: إذا وطئ الأب أمة ابنه، فلا يخلو من وجهين: إما أن تحمل. أو لا تحمل. فإن حملت من وطئه، فلا يخلو الولد من أن يكون حرًا أو عبدًا: فإن كان حُرًا، فلا يخلو الولد من أن يكون صغيرًا أو كبيرًا: فإن كان صغيرًا: فإنَّها تقوم على الأب فى العسر واليسر اتفاقًا، وتكون أم [له] (¬2) ولد: فإن كان الابن كبيرًا، فإنَّها تقوم عليه أيضًا، وهل ذلك باختيار من الابن أو مجبورٌ على التقويم؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدوَّنة": أحدهما: أنَّ الولد مجبور على التقويم، وهو نصّ المدوَّنة. والثانى: أنَّهُ مُخير بين التماسك والتقويم، وهذا القول قائم من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

"المدوَّنة": من وطئ أحد الشريكين أمة بينهما. وينبنى الخلاف على الخلاف فى أُم الولد، هل يجوز إنكاحها أم لا؟ ومن جوَّز إنكاحها، قال: إنَّ الولد [غير] (¬1) مجبور على التقويم لما فيه من منافع النكاح. وإن منع هو من الاستمتاع، فشبهها بأُم الولد إذا حدث على السيد ما يمنعهُ من وطئها، هل يعتق أم لا؟ قولان، وعلى ذلك ينبنى الخلاف فى هذه المسألة. ومَنْ منع من نكاحها جعله مجبورًا على التقويم. فإن كانت حائلًا، فهل تقوم على الأب إن كان الولد صغيرًا أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّها تقوم عليه وتصير له أم ولد، ويُؤخذ منه القيمة مع المُيسر وتباع عليه مع اليسر وتباع عليه مع العسر، وهو قوله فى "الكتاب". والثانى: أنَّها لا تقوم عليه سواء كان موسرًا أو معسرًا، لأنَّ ذلك ذريعة إلى أن يستأثر الأب من مال ولده بما [أراده] (¬2) لنفسه، وقد قال [مالك] (¬3) فى غير ما موضع من الكتاب: "لا ينبغى للأب أن يشتري لنفسه من مال ابنه الصغير شيئًا، وهو قول عبد الحكم. فإن كان الولد كبيرًا، فهل يجبر الولد على التقويم أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يجبر عليها، وهو قوله فى "المدونة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) فى أ: أمره. (¬3) فى أ: به غير مالك.

والثانى: أنَّهُ يُخيَّر ولا يجبر، وهو قوله فى كتاب "ابن الموَّاز"، بشرط أن يكون الولد مأمونًا. وسبب الخلاف: الحماية تحمى أو لا تحمى؟ فعلى القول بأنَّ الولد مجبورٌ على التقويم، والأب مُوسر، فإنها تكون لهُ أُم ولد، ويحلَّ له وطؤها، فقال سحنون: بعد الاستبراء من ذلك الملك، وما قاله صحيح. وقد قال فى الوطء الفاسد: "أنَّهُ لا يطأ إلا بعد إلاستبراء [من] (¬1) صحة الملك، فكيف بهذا؟ ". فإن وطئها الابن بعدما وجبت القيمة على الأب: فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ ذلك منه رضا بإسقاط الفداء عن الأب وتباع عليه، ويأخذ ثمنها قلَّ أو كثر، وهو قول عبد الملك. والثانى: أنَّها تقوم على الأب يوم وطئ، وعلى الابن يوم وطئ، فإن تساوت القيمتان تقاصَّا، وإن تفاضلت القيمتان رجع من له الدرك على الآخر، وهو قول أصبغ، وهو الأصح. وسبب الخلاف: تقويمها على الأب، هل هو حقٌّ لله تعالى أو حق للابن؟ فإن أتت بولد، فالحكم يأتى فيه فى الوجه الثاني إن شاء الله تعالى. فإن كان ذلك الولد عبدًا [فإن] (¬2) كان الأبَّ موسرًا: فإنَّهُ يغرم قيمة ¬

_ (¬1) فى أ: مع. (¬2) فى أ: أو.

الأمة، وتكون له أُم ولد. وإن كان مُعسرًا: فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ الأمة تبقى رقيقًا للولد، ويتبع الأب بقيمة الولد بعد الوضع، وهو قول عبد الملك في "الموَّازية". والثاني: أنَّ الأب يتبع بقيمة الأمة في اليُسر، وتُباع عليه في العسر إن لم تحمل، فإن حملت [يتبع] (¬1) بقيمتها دينًا في الذمة، وهو قول سحنون في كتاب ابنه. والجواب عن الوجه الثاني: إذا وطئ سرية ابنه التي لم تلد بعد، فلا تخلو من أن تكون حائلًا أو حاملًا: فإن كانت حاملًا، فلا يخلوا وطئ الأب من أن يكون بعد الاستبراء أو ما يقوم مقامه من اعتزال الابن عنها مُدَّة يحصل في مثلها الاستبراء أو وطئ قبل الاستبراء. فإن وطئ الأب بعد الاستبراء، فأتت بولد لستة أشهر فأكثر، فالولد لاحق بالأب وتعتق الأم، ويكون ولاؤهما للأب، ويغرم قيمتها للابن ويتبع بها في العُسر. فإن وطئ الأب قبل الاستبراء، فأتت بولد: فإن أتت به لأقل من ستة أشهر من وطئ الأب [فبالابن] (¬2) يلحق، وقيمة الأُم على الأب. وإن أتت به لستة أشهر، فأكثر، هل يُلحق بالابن أو يدعى له القافة؟ ¬

_ (¬1) في هـ: أتبع. (¬2) في أ: فالابن.

قولان في المذهب قائمان من "المدوَّنة": أحدهما: أنَّهُ يلحق بالابن, لأنَّ فراشه صحيح، وفراش الأب فاسد، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة"، حيث ساوى بين هذه المسألة، والسيِّد إذا وطئ أمته، وهي زوجة لغيره، فقال: يُلحق بالزوج، لأنَّ فراشه صحيح، وهو قول سحنون في "العُتبية". والثانى: أنَّ الولد يُدعى له القافة، فمن [ألحقوه] (¬1) به كان نسبه منه، وهو ظاهر قوله في المدونة في "باب القافة" أيضًا، حيثُ قال: "إنما القافة [في الأمة] (¬2) في الملك لا في النكاح"، وهذا وطئ بملك، لأنَّ للابن وطأ صحيحًا , وللأب وطئ بشبهة الملك، فقد تساويا في إثبات النسب، وهو صحيح. وسبب الخلاف: هل الشبهة تُفيد ما يُفيد الملك التام أم لا؟ وأما إن كانت حائلًا، فالقيمة لازمة للأب في العسر واليسر، فهل تباع على الأب على كُلِّ حال، لأنَّ وطئها لا يحلَّ لواحدٍ منهما، وهو نصُّ المُدَّونة، أو يجوز للابن أن يمسكها للخدمة إن كان مأمونًا. لا يُخشى منهُ الوقوع عليها أو العودة إليها بما اعتاد منها، وهو القول الذي قدمناهُ في الوجه الأول. وسبب الخلاف: ما تقدَّم. والجواب عن الوجه الثالث: إذا وطئ أُم [ولد ابنه] (¬3)، وهل يُعجَّل عتقها أو تبقى عند الابن [ويُعزل] (¬4) عنها؟ قولان قائمان من "المدونة" ¬

_ (¬1) في أ: ألحقه. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: ولده. (¬4) في هـ: ويعتزل.

أحدهما: أنَّهُ يعجل عتقها، والولاء للابن، وهو نصُّ "المدونة". والثانى: أنَّها توقف إلى موت الابن، وهو ظاهر المُدوّنة أيضا، وعند إيراد سبب هذا الخلاف يتبين لك هذا الظاهر. وعلى القول بأنَّهُ يتعجَّل عتقها، هل يغرم الأب القيمة للابن أم لا؟ على قولين قائمين من "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّه يغرمها، وهو نصُّ قوله في كتاب أمهات الأولاد. والثانى: أنَّ الأب لا يغرم القيمة، وهو ظاهر قوله في كتاب القطع في السرقة في البيِّنة إذا شهدت على رجلٍ بطلاق امرأته، فحكم القاضى بشهادتهما، وطلق عليه زوجته، ثم رجعا عن شهادتهما، قال: إن كان الزوج قد دخل بهما فلا يرجع عليهما بشىء، يريد, لأنَّ الصداق قد استوجبتهُ بالدخول، ولم يفوتا عليه بشهادتهما شيئًا، وهو قول عبد الملك في النصراني إذا وطئ أم ولد ابنهِ، ثمَّ أسلما، والجمع بين المسألتين أنه لم يفوت له في الوجهين غير الاستمتاع لا في أُم الولد ولا في الزوجة. وسبب الخلاف: هل للسيِّد في أُم ولدهِ منفعةٌ مقصودة غير الاستمتاع أم لا؟ فمن رأى أنهُ لا منفعة لهُ فيها غير الاستمتاع، فإذا طرأ ما يمنعهُ منه مع حياة السيد تعجل عتقها، قال: لا يغرم الأب شيئًا، لأنَّهُ لم يجن جناية، [الأب] (¬1)، فساوى بين المسألتين. وَمَنْ رأى أنَّ للسيد في أُم ولدهِ مأرب سوى الاستمتاع بالوقاع، مثل أُروش الجنايات عليها أو قيمتها إن قتلت أو انتزاع ما يطرأ لها من المال، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قال: إنَّ الأب يغرم القيمة، ويُفرق بين المسألتين، وهذا من باب اعتبار الطوارئ البعيدة، وهي من الطوارئ النادرة الوقوع، وقليل من السادات مَنْ يكون ذلك مقصوده من أمهات الأولاد، وهذا كله إذا كان الأب الواطئ حرًا. وأمَّا إن كان عبدًا فوطئ أمة ابنه الحُر، فأحبلها، هل تقوم عليه أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ لا يُتبع الأب بشىء, لأن ذلك ليس بغصب، ولا خراج ولا حد عليه، ولو قال الابن: "أنا أسلمها إليه، وأتبعه بالقيمة" لم يكن ذلك له. فإن وضعت حملها: كان حرًا على أخيه. ولو أسلمها إليه الابن: لم تكن [له] (¬1) أم ولد بذلك الولد, لأنَّهُ خلق في بطنها على الحُرية، وهو قول عبد الملك في كتاب "ابن سحنون"، وبه قال [ابن المواز] (¬2). والثانى: أنَّ وطأها كالجناية، وقيمة الجارية في رقبة العبد الذي هو الأب، ويخير سيد العبد بين أن يفديه بقيمة الجارية أو يسلمه، وهو قول ابن القاسم في كتاب "ابن المواز" وكتاب "ابن سحنون". فإن فداه، هل تتبعه الجارية أو تكون لسيده؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّها تكون لسيد العبد، وهو قوله في كتاب "ابن المواز". والثانى: أنَّ الجارية للعبد، والعبد للسيد، وهو قوله في كتاب "ابن سحنون". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن أسلمهُ سيده في تلك الجناية، كان حرًا على ابنه الذي يُسلم له، وتتبعه الجارية، وهل تكون له أم ولد بذلك الولد أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنَّها تكون أُم ولد بذلك الولد، وهو قوله في كتاب "ابن سحنون". والثانى: أنَّها لا تكون أُم ولد إلا بولد ثانٍ، لأنَّ ذلك الولد لسيِّده الذي أسلمه, لأن رقيق له، إلا أن يقال: إن علم السيِّد بأنه يتبعه ماله إذا أسلمه، كان تسليما للولد إذا ولد، وإسقاطًا لحقِّهِ فيه، وإن ماتت الجارية قبل أن يُخيَّر السيِّد فمصيبتها من العبد، وتكون القيمة في رقبتهِ، وهو قول ابن القاسم في كتاب "محمد" وكتاب "ابن سحنون". والقول الثالث: بالتفصيل بين أن يكون الأب عبدًا مأذونًا له في التجارة أو غير مأذون: فإن كان مأذونًا له في التجارة: قومت عليه قيمة عدل، ثُمَّ يؤخذ ذلك مِن مالهِ إن كان لهُ مال، وهو قول المُغيرة في "كتاب ابن سحنون". وإن لم يكن له مال، هل يُتبع في الذَّمة أو تُباع عليه؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يتبع بالمال في ذمته، وتكون الأمة والولد لسيده, لأنَّه ليس من مال العبد، وهو قول المغيرة في "الكتاب المذكور". والثانى: أنَّه إذا لم يكن لهُ مالٌ تباع عليه ويعتق الولد على أخيه [وهذا القول حكاه سحنون عن المذهب في كتاب ابنه.

[فإن كان غير مأذون له في التجارة للابن، والولد لاحق بأب العبد، ويعتق على أخيه] (¬1)، وهو قول المغيرة. والابن إذا وطئ أمة أبيه فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون وطؤه إياها بتعدٍ. والثانى: أن يكون بنكاح. فإن وطئها بتعدٍ، فالحدُّ واجب عليه اتفاقًا، فهل تقوم عليه بالحكم أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّها تقوم عليه بالحكم، شاء الأب أو أبى، ويغرم القيمة إن كان مُوسرًا وتكون له ملكًا، وتُباع عليه إنك كان معسرًا، من غير اعتبار، بأن تكون حاملًا أو حائلًا. والثانى: أنَّ الخيار للأب إن كان معدمًا إن شاء قوِّم وإن شاء مسك، ويترك التقويم، ويتبع الابن بما نقصها [الوطء] (¬2) أو الحمل إن كانت حاملًا. والقولان قد قدَّمناهما في جارية الابن. فإن وطئها بنكاح، فذلك مباح له, لأنَّهُ يجوز للابن أن يطأ أمة أبيه بنكاح اتفاقًا. وفي جواز نكاح الأب أمة ابنه بالنكاح قولان: أحدهما: أنه لا يجوز للأب أن يتزوج أمة ابنه، فإن فعل: فإنَّ نكاحه مفسوخ، وعلى الأب قيمتها يوم وطئ، حملت أو لم تحمل، ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ.

وتكون له أم ولد إن حملت، وهو مشهور مذهب مالك - رضي الله عنه -. والثانى: "إنهُ لا يجوز له تزويجها ابتداءً، فإن نزل: فإنَّهُ يمضي ولا يرد، وهو قول محمد بن عبد الحكم في كتاب ابن المواز. فإذا ثبت أنه يجوز للابن وطء أمة أبيه بنكاح. فإن اشتراها من الأب بعد النكاح، فلا يخلو من أن تكون حاملًا أم لا: فإن كانت حائلأ، فالبيع جائز اتفاقًا. وإن كانت حاملًا، فهل يجوز البيع أم لا؟ قولان [قائمان] (¬1) من "المدوَّنة": أحدهما: أنَّ البيع جائز، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدوَّنة"، وإن كان بعض المتأخرين تأوَّل قوله على الوفاق، فقال معناه بعد الوقوع. والثانى: أن البيع لا يجوز، وهو قول الغير. وسبب الخلاف: المستثنى، هل هو مبقى أو مشترى فابن القاسم يرى أنَّهُ مبقى، فجوز البيع. وغيره يرى أنَّهُ مشترى، فمنع البيع لما في ذلك من الغرر. وللخلاف فيه مطلع آخر، وهو الجنين [هل] (¬2) تلحقه الحُرية في بطن أمه أو لا تلحقه إلا بعد الوضع والاستهلال صارخًا: فمن رأى أن الحُرية لا تلحقه إلا بعد الوضع، قال: بجواز البيع، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة": في الابن يشترى امرأة أبيه، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وهي حامل ثمَّ يلحقه الدين، قال: "تباع في الدين الذي على الابن"، وقال في التعليل: "إنَّهُ لا يعتق عليه إلا بعد الوضع". ومن رأى أن الحُرية تلحقهُ في بطن أُمه، قال: لا يجوز البيع, لأنَّ ذلك من باب استثناء الأجنَّة، وهو قوله في أمهات الأولاد أنها لا تباع في الدين حتى تضع, لأنَّهُ عتق سنة، خلاف قول ابن القاسم، ومشهور المذهب أنَّ الحرية تلحقه قبل الوضع. وعلى هذا ينبنى الخلاف في الأمة، هل تكون أُم ولد بنفس الحمل [أو بالوضع] (¬1)؟ قولان قائمان من المدوَّنة. فعلى القول: بأنَّ الحُرية تلحقُه قبل الوضع: فمن ضربها فألقت جنينا ميتًا، ففيه [غرة عبد أو وليدة] (¬2). وعلى القول بأنَّهُ لا تلحقه الحُريَّة إلا بعد الوضع، فينبغى أن تكون به أُم ولد، كما قال إذا اشترى زوجة أبيه، وهي حامل أنَّها تباع في دين لحق الابن الذي اشتراها، وكل منهما عتق سنة. هذا أعتق الأخ، وهذا أعتق ابن الابن. أمَّا أن يحكم بعتقهما جميعًا قبل الوضع أولًا يحكم بعتقها إلا بعد الوضع، وهو ظاهر في المعنى جدًا لمن أمعن نظره واستعمل فكره، وغاص بذهنه في بحار المعانى، حتى يستخرج منها نفائس الجواهر واللآلئ. أمَّا من ركن إلى الدعة والراحة ولازم الرقاد طول الأيام والليالى، فهو ¬

_ (¬1) في ع، هـ: أو حتى تضع. (¬2) في أ: الغرة.

معزول عمَّا نصف، ولاحظ له فيما نتحف، والفضل بيد الله يُؤتيه من يشاء. والحمد لله وحدهُ.

المسألة الثالثة في أم ولد الذمي تسلم

المسألة الثالثة في أُم ولد الذمي تُسلم: وقد اختلف المذهب عندنا في أُم ولد الذمِّى تُسلم، هل توقف أو تعتق؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّها تعتق الآن. والثانى: أنَّها توقف حتى يسلم أو يموت، والقولان لمالك [في المدونة] (¬1). والثالث: أنها تباع، وهو قوله في المختصر الكبير. ووجه القول بتعجيل عتقها أنَّ السيد ممنوع من الاستمتاع بها, لكونها مُسلمة في إيقافها ضرر بربها, لأنَّهُ بين إحدى حالتين: إمَّا أن تكلفهُ النفقة عليها، فذلك ضررٌ عليه, لأنَّهُ ينفق على أم ولد لا يستمتع بها. وإمَّا أن يدعها بلا نفقة، فذلك ضررٌ عليها، فكأن عتقها أصوب وزنًا بينهما بالقسطاس المُستقيم. ووجه القول بالإيقاف: رجاء أن يُسلم السيد، فتعود إلى فراشه، وتعجيل عتقها قطع لما يُؤمله ويرجوه. ووجه القول بأنها تباع عليه: قطعا [لمدة] (¬2) الضرر [من كلا الضررين] (¬3)، حتى لا يستقر السيد بالإنفاق دون الاستمتاع، ولا تستضر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: لمادة. (¬3) في أ: من كل الطريقين.

هى بالإيقاف دون النفقة، لأنَّ الإيلاد في حال الكُفر لم يُوجب لها حُرم أُم الولد، فالإسلام لا يُوجب لها حقًا لم يكن. وعلى القول بأنها تعتق، هل يفتقر [عتقها] (¬1) إلى حكم حاكم أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهُ يفتقر إلى حكم حاكم، وهو قول ابن القاسم، لأنه أمر مختلف فيه. والثانى: أنَّهُ لا يفتقر إلى حُكم حاكم، وأنَّها تُوقَّف حتى تحيض حيضة واحدة، فإن أسلم: كان أحقَّ بها. وإن انقضت الحيضة قبل أن يُسلم: أُعتقت بغير حكم، [حاكم] (¬2)، وهو قول محمد بن عبد الحكم في كتاب ابن حبيب، وجعل حكمها حُكم الزوجة، تسلم قبل البناء. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: حكمها. (¬2) سقط من أ.

المسألة الرابعة في إقرار السيد بالإيلاء، واستلحاق الولد

المسألة الرابعة في إقرار السيد بالإيلاء، واستلحاق الولد: فإذا أقر الرجل بوطء أمته، وأنَّها ولدت منهُ، فلا يخلو مِن أن تكون في ملكه أو في ملك غيره: فإن كانت في ملكه، فلا يخلو إقراره من أن يكون في الصحة أو في المرض [فإن كان في المرض] (¬1)، فلا يخلو من أن يكون معها الولد أو لم يكن: فإن كان معها الولد، فلا يخلو من أن يكون موروثا بولد أو بكلالة: فإن كان موروثًا بولد، فالمذهب على أنَّهُ مصدق. فإن كان موروثًا بكلالة، وكان له إلى الولد انقطاع، فهل تلحقه التُهمة في ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّهُ يتهم أن يُقر بميراثه عن الكلالة إليه، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنَّ التهمة لا تلحقهُ، وأنَّ الولد به لاحق، وهو قول أشهب، وقال: "إلحاق الولد قاطع لكل تهمة". فإن لم يكُن معها ولد، فلا يخلو مِن أن يكون مورثًا بولد أو بكلالة: فإن كان موروثًا بكلالة: فلا خلاف في المذهب أنَّه لا يصدق. وإن كان موروثًا بولد: فهل يصدَّق أو يتهم؟ قولان في "المُدوَّنة" عن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

مالك: أحدهما: أنَّهُ يُصدق، وبه أخذ ابن القاسم. والثانى: أنَّهُ لا يصدق، وبه قال أكثر الرواة, لأنَّهُ يتهم أن [يفر] (¬1) بذلك عن الورثة، وقالوا: لا يكون في الثلث ولا في رأس المال، كقوله: "أعتقت عبدي في صحَّتى"، فلا يعتق، لا في [الثلث] (¬2) ولا في رأس [المال] (¬3). وابن القاسم: فرَّق بين العتق والإيلاد، لأنَّ الإيلاد مبني على الإخفاء والإسرار، والعتق مبنى على الإعلان و [الإشهار إذ العرف فيه] (¬4) الإشهاد. فإذا ادَّعى عتقه، ولم تكُن له بينة فقد ادعى خلاف العُرف. ثم لا يقبل قول مَنْ ادَّعاهُ منهما من عبد أو سيد إذا كان هناك أمرٌ يوجب الدَّعوى. فإن كان إقرارهُ في الصحة، فلا يخلو من أن يكون مديانًا أو غير مديان: فإن كان غير مديان: فيصدق، كان معهُ الولد أم لا. وإن كان مديانا: صُدِّق إن كان معهُ الولد، ولا يُصدَّق إن لم يكن معهُ الولد. فأمَّا الوجه الثاني: إذا كان في غير ملكه، مثل: أن يبيعها، ومعها ¬

_ (¬1) في أ: يقر. (¬2) في أ: ثلث. (¬3) في أ: مال. (¬4) سقط من أ.

ولد ثُمَّ استلحقه، أو باعها وحدها وهي حامل أو حائل، فولدت عند المشتري ثم استلحقه البائع، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يستلحق ولدًا ولد عنده [من أمته] (¬1). والثانى: أن يستلحق ولدًا لم يُولد عنده، ولا علم أنه ملك أمة بشراء ولا نكاح. والثالث: أن يستلحق ولدًا في ملك غيره. فالجواب عن الوجه الأول من الوجه الثاني: إذا استلحق ولدًا عنده من أمته أو ولدته بعد أن باعها بمثل ما يُلحق به الأنساب، فلا يخلو من هما في يديه من أن يُحدث فيهما أو في أحدهما عتقا أو تدبيرًا أو لم يحدث فيهما شيئًا: فإن لم يحدث فيهما شيئا، فلا يخلو مِن أن يكون موسرًا أو معسرًا: فإن كان موسرًا , ولم يتهم في الأُم بالصبابة لذواتها: فلا خلاف أنَّهُ يصدق ويلحق به الولد، وتكون أُم ولد. وإن كان مُوسرًا، واتَّهم في الأم بالصبابة أو معسرًا ولم يتهم بالصبابة، فهل يُفسخ البيع وتُردَّ إليه أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنَهُ لا يلحق به، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثانى: أنَّهُ يلحق به، وهو لابن القاسم أيضًا، وبه قال أشهب في المدونة أيضًا، ويتبع بالثمن والولد لاحق [به بكل حال] (¬2)، ويتبع بحصته من الثمن في العسر. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وإن أحدث المشترى فيهما أو في أحدهما عتقًا أو تدبيرًا، هل يكون ذلك فواتًا في الأم أم لا؟ قولان لابن القاسم في "المدونة"، ولا خلاف أنَّهُ يكون فوتًا في الولد، وأنَّهُ يُلحق به، وإنَّما الخلاف في الولاء، وهل يسقط للمعتق أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ لا يسقط والولاء ثابت لهُ، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثانى: أنَّ الولاء يسقط ولا يثبت، وهو قول سحنون في غير "المدونة". وعلى القول بأنَّهُ يكون فوتًا، تُرد إليه في اليسير والعسير، قولان في الكتاب: أحدهما: أنَّهُ تُرد إليه في اليسر، ولا تُرد إليه في العسر، وهو قول ابن القاسم وأشهب. والثانى: أنَّها تُرد إليه في الحالتين، وهو قول أشهب وابن عبد الحكم، وهذا كُلَّهُ ما لم يثبت إقراره في المسيس ببيِّنة قبل البيع. وأمَّا إن ثبت، فلا خلاف أنَّها [ترد] (¬1) في اليُسر والعُسر، ويبيع بالثمن، والولد يلحق به بكُل حال، ويُرد مقدار منابته من الثمن، إن كان له حصة من الثمن، ويتبع بها في العسر. واختلف في قدر حصَّته من الثمن، متى تُعتبر باختلاف حالاته: فإن كان معها يوم الصفقة، فبقدما يصح لهُ من الثمن. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن كانت به حاملًا يوم الصفقة، ثم [وضعته] (¬1): فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يرد قيمتهُ يوم الولادة [وبه قال ابن القاسم. وليس] (¬2)، كذلك المستحقة. والثانى: أنَّهُ يرد قيمته يوم أقر أن لو كان على تلك [الحالة] (¬3) يوم الوضع، وهي رواية يحيى ابن عمر عن بن القاسم، وهذه كله إذا كان معها ولد. وأمَّا إذا لم يكن معها ولد، وقد اعترف بعد بيعها بأنَّها ولدت منهُ، فإن أعتقها البائع فلا ترد، وهو قوله في كتاب "أمهات الأولاد". فإن لم يعتقها، فهل ترد على المُشترى أم لا؟ [فالمذهب] (¬4) على قولين منصوصين في كتاب السابق من "المدونة" و"الواضحة" و"العُتبية". والجواب عن الوجه الثانى: إذا استلحق ولدًا لم يُولد عنده، ولا علم أنَّهُ وطئ أمة بملك ولا بنكاح، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إمَّا أن يتبين صدقه، فيصدق اتفاقًا. وإمَّا أن يتبيَّن كذبه، فيُكذَّب اتفاقًا، مثل: أن يستلحق ولدًا جىء به من بلاد، يعلم أنَّهُ لم يدخلها قط. وأمَّا إن أشكل أمره، فلم يتبيَّن صدقهُ ولا كذبهُ، فالمذهب على قولين ¬

_ (¬1) في أ: وضعت. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع، هـ: الهيئة. (¬4) سقط من أ.

قائمين من "المُدونة": أحدهما: أنَّهُ لا يُصدَّق ولا يُلحق به، وهو تأويل بعض المتأخرين على "المدونة"، من قوله: "إذا عرف أنَّهُ لم يدخل تلك البلاد: لم يُصدق فقال: [فكذلك لا يصدق مع الإشكال أيضًا كما لو عرف. والثانى: أنه يصدق فيلحق به الولد] (¬1) حتى يتبين كذبهُ"، وهو ظاهر قوله في "الكتاب": "إذا لم يكن له نسب معروف، فإنَّهُ يُلحق به". والقولان: قد نبَّه على استقرائهما بعض حُذَّاق المتأخرين، وموضع استقرائهما ظاهر، والقولان منصوصان عن مالك في "كتاب ابن سحنون"، قال مرة: "إذا لم يكن [له نسب] (¬2) معروف، ولا تبيَّن كذب الأب: لحق به، وإن لم يعرف أنَّهُ ملك أمة أو تزوَّجها". وقال مرة: "لا يلحق حتى يُعرف أنَّهُ [قد] (¬3) ملك أمة أو تزوجها"، وبه أخذ ابن القاسم. والجواب عن الوجه الثالث: إذا استلحق ولدًا في ملك غيره، وقد أعتقه من هو في يديه أم لا، هل يُلحق به إن أكذبه الحائز لرقه أو لولائه؟ فقولان لابن القاسم: أحدهما: أنَّهُ لا يلحق به، وبه قال ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنَّهُ يلحق به، وبه قال أشهب [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: لهما سبب. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الخامسة في القافة

المسألة الخامسة في القافة: والقافة مِن مدارك معارف البشرية، ومن غرائب نتائج المعرفة، متميزة من فنون الكهانة، ومترقية عن قوانين النجامة. وحقيقتها: اقتفاء الشبهة لتخايل الخلقة، وهو علمٌ خص اللهُ بهِ آحادًا أو أفرادًا مِن العباد، وهي سنة دائمة إلى يوم التناد، وكان الحُكم بها في الجاهلية، فأقرها الشرع في سائر الأزمان من مواضح البرهان. والدليل على ذلك: حديث ابن شهاب عُروة عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسرورًا تبرق أسارير جبهتهُ، قال "ألم تسمعى ما قال محزر المدلجى لزيد وأسامة، ورأى أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض". فوجه الدليل مِن الحديث: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فرح مسرورًا لقولها، حتى برقت أسارير جبهتهُ، ولا يفرح النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بالحقِّ، فدلَّ على أنَّ القافة دليلٌ يُعمل بهِ، ويجب المصير إليه، عند تعذر الفراش الصحيح الذي هو دليل على صحة الإلحاق، وقد قضى بها عمر رضي الله عنهُ بمحضر خير القرون، وقد روى (¬1) مالك عن سليمان بن يسار: أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنهُ كان يليط أولاد الجاهلية لِمن ادّعاهم في الإسلام، فأتى رجلان كلاهما يدَّعى ولد امرأة، فدعا قائفًا ينظر إليهِ، فقال القائف: "فقد اشتركا فيه"، فضربهُ عمر بالدرة ثُمَّ دعى المرأة، فقال لها: "أخبرينى خبرك"، فقالت: "كان هذا [لأحد] (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (1420) والبيهقي في السنن الكبرى (21050). (¬2) في أ: لإحدى.

الرجلين، يأتينى [وهي] (¬1) في إبلٍ لأهلها، فلا يُفارقها حتى يظن وتظن أنها قد استمرَّ بها حمل، ثُمَّ انصرف عنها، [فأهريقت] (¬2) عليه دمًا، ثُمَّ خلفَ [عليها] هذا "تعنى الآخر"، فلا أدرى مِن أيهما هو، فكبر القائف، فقال عمر للغلام: "وإلى أيَّهما شئت"، فقال [حكم] (¬3) بذلك عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (¬4) بمحضر جماعة الصحابة [رضي الله عنهم] (¬5) مِن غير إنكار من واحدٍ منهم، فصار ذلك كالإجماع. وبهذا قال مِن فقهاء الأمصار مالك والشافعى وأحمد بن حنبل وأبو ثور والأوزاعي. وعلى الجملة فالناس في القول بالقافة على ثلاثة مذاهب: أحدها: القول والعمل بمقتضاهُ، وبهِ قال من ذكرنا، ودليلهم: ما تقدَّم. والثانى: أنَّهُ لا يجوز العمل بالقافة، وأنَّ الولد إذا تداعاهُ اثنان أو أكثر، فإنَّهُ يُقضى به لمن ثبت لهُ الفراش، وإن لم يكُن هناك [فراش] (¬6): كان بينهما، وكذلك إذا اشتركا في الفراش، وهو مذهب الكوفيين وأكثر أهل العراق، وحُجتهم: ما خرّجه مالك وغيرهُ مِن أئمة الحديث مِن طريق عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الولد للفراش, وللعاهر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فهريقت. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من جـ، ع، هـ. (¬5) زيادة من جـ، ع، هـ. (¬6) سقط من أ.

الحجر"، فإذا عُدم الفراش أو اشتركا في الفراش: كان الولد بينهما، وكأنَّهم رأوهُ في ذلك بقوة شرعية لا طبيعية، وقالوا: "فإنَّهُ يلزم مَنْ قال: أنَّهُ لا يمكن [أن يكون] (¬1) ابنًا واحدًا من أبوين بالعقل، إذ لا يجوز [وقوع] (¬2) ذلك في الشرع، لاستحالة ورود الشرع بخلاف ما في العقل"، وروُى مِثل قولهم عن عمر رضي الله عنهُ. والثالث: أنَّهم يقترعون فيهِ، فمن وقعت [عليه] (¬3) قُرعتهُ: فإنَّهُ يكون ابنًا له، ويغرم للباقين قدْر مالهم فيهِ على حساب الدِّية في مذهب أهل الظاهر وجماعة مِن أهل الحديث. وحُجَّتهم: حديث ذكرهُ أبو عمر بن عبد البر أنَّهُ رواه [الثورى] (¬4) عن صالح بن خير عن الشعبى عن زيد بن أرقم، قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنهُ باليمن، فأُتى بامرأة وطئها ثلاث أُناسٍ في طهرٍ واحد، فسأل كُلُّ واحدٍ منهم أنَّ يُقَّر لصاحبه بالولد، فأبى فأقرع بينهم، وقضى بالولد للذى أصابتهُ قُرعتهُ، وجعلَ عليهِ ثُلُثى الدّية، فرُفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعجبهُ وضحك حتى بدت نواجذهُ". فقالوا: إنَّ في هذا الحديث نفي الحكم بالقافة، وإلحاق الولد بالقُرعة. وسبب الخلاف: إجماع السكوت، هل يكون حجَّة أم لا؟ فمن جعلهُ حُجَّة، قال: بوجوب العمل للقافة، وهو الصحيح وربُّك أعلم. فإذا ثبت ذلك ووطئت امرأة في طُهرٍ واحد، فتأتى بولد لستة أشهر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في هـ: الترمذي.

مِن يوم وطئها، فلا يخلو الواطئان مِن ثلاثة أوجه: أحدها: أنْ يكونا حيَّين. والثانى: أنْ يكونا ميِّتين. والثالث: أن يكون أحدهما حيًا والآخر ميتًا. فأما الوجه الأول: إذا كانا حيين، فلا يخلو وطؤهما مِن خمسة أوجه: إما بنكاحٍ منهما جميعًا. أو بملكٍ منهما. أو أحدهما بنكاح والآخر بملك. أو أحدهما بنكاح والآخر بزنا. أو أحدهما بملك والآخر بزنا. فالجواب عن الوجه الأول من الوجه الأول: إذا كان وطؤهما جميعًا بنكاحٍ، فإنَّهُ يُنظر: فإن أتت بولد لأقل مِن ستة أشهر مِن يوم وطئ الثاني، فهو للأول إذا أتت بهِ لستة أشهر مِن يوم وطئهُ. وإن أتت بهِ لستة أشهر فأكثر مِن يوم وطئ الثاني، فالولدُ بهِ لاحق، وإن كان وطؤه إياها بعد حيضة. فإن وطئها قبل الحيضة، هل يُلحق بالأول لصحة فِراشهِ أو يُدعى لهُ القافة؟ فعن مالك في ذلك قولان: والمشهور [عنه] (¬1) [نفى] (¬2) القافة في الحرائر، وهو نصُّ قوله في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في هـ: بغير.

"المُدوّنة"، حيث قال: "وإنَّما القافة في الأمة يطؤها السيدان في طهر واحد". وسبب الخلاف: الحكم بالقافة، هل هو مقصور على ملك اليمين أو يتعدى بهِ إلى النكاح؟ فمرةً [قال] (¬1): أنَّهُ يتعدَّى به لثبوت العمل بالقافة، وقبول قول القائف في لُحوق النسب بأحد الواطئين، وثبوت نسبة منهُ بذلك: هذا أمرٌ يستوى فيه الملك والنكاح. ومرةً رأى أنَّ الحكم بالقافة [يُقضى] (¬2) له في الملك، ولا يتعدَّى إلى النكاح، لأنَّ الأمة يُمكن أن تكون فراشًا لسيِّدين لصحة الاشتراك في الأمة، والزوجة لا يصح أن تكون فِراشًا لزوجين، لاستحالة وجود المقتضى في ذلك، فكون الزوج الثاني ترك البحث حتى أُوقع النكاح في زوجة الغير، أو [في] (¬3) العدة ليس ممَّا يقدح في فِراش الأول. ووجهٌ آخر أنَّ الولد في النكاح لا يُنفى إلا بِلعان، والنفى بالقافة ضرب من الاجتهاد، فلا ينقل الولد من فراش صحيح بالاجتهاد بخلاف [ولد] (¬4) الأمة في ملك اليمين لأنه ينفى لمجرد الدعوى إذا ادعى الاستبراء فلأجل هذا شرع فيه الحكم بالقافة. والجواب عن الوجه الثانى: إذا كان وطؤها بملك اليمين في طهر واحد. ¬

_ (¬1) في هـ: رأى. (¬2) في هـ: يقتصر. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: ولادة.

فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من يوم وطئها الثاني فلا خلاف أنه للأول وتقوم عليه وتكون له أم ولد على تفصيل [سيأتى] (¬1) في ذلك بيانه في وطء أحد الشريكين أمة بينهما. فإن وضعته [لأقل من ستة أشهر من وطئها الثاني] (¬2) لستة أشهر فأكثر فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن تكون بين حرين مسلمين. أو بين حر وعبد. أو بين مسلم ونصراني. فإن كانت [بين] (¬3) حرين مسلمين فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكونا فيها شريكين. أو أحدهما بائع والآخر مشترٍ. فإن كانا شريكين فلا يخلو من أن تضع ولدًا [واحدًا] (¬4) أو توأمين فإن وضعت واحدًا فلا يخلو من أن يكون حيًا أو ميتًا. [فإن كان ميتًا] (¬5) فهل تدعى له القافة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ لا قافة في الأموات، وهو قول ابن القاسم في "العُتبيَّة". والثانى: أنهُ يدعى لهُ القافة، ولا يغير الموت شخصهُ، وهو قول ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ، هـ.

سحنون في "العُتبيَّة". فإن وضعت واحدًا، وكان حيًا: فإنَّهُ يدعى لهُ القافة، فهل يكتفى [في ذلك بقائف أو لابد من الاثنين، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يكتفى بقائف واحد. والثانى: أنه لابد من اثنين] (¬1) وهو المشهور عن مالك، وبه قال الشافعي رضي الله عنهُ. وسبب الخلاف: هل طريقها طريق الشهادة، ثُمَّ لابُدَّ في ذلك، مِن اثنين، أو طريقها طريق الإخبار، فيكتفى في ذلك بواحد بعد اتفاقهم على أنَّهُ لا يكون إلا عدلًا. فإذا دعى لهُ القافة، فلا يخلو مِن أربعة أوجه: أحدها: أن يلحقوهُ بواحدٍ منهما. والثانى: أن يلحق بهما جميعا. والثالث: أن يشكل على القائف أمرهُ. والرابع: أن ينفيه عنهما جميعًا. فإن ألحقهُ بواحد منهما: فإنَّهُ يلحق [به] (¬2) ويثبت نسبه منه، وتكون أمه أُم ولدٍ له، ويغرم نصف قيمتها يوم الحمل لشريكهِ، ولا [يحمل] (¬3) عليهِ في الولد على الخلاف في التقويم، متى تعتبر في وطء أحد الشريكين. فأمَّا إن ألحقتهُ القافة بهما جميعًا، فقد اختلف [فيه] (¬4) المذهب على ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: شيىء. (¬4) سقط من أ.

أربعة أقوال: أحدها: أنَّهُ يوالى [إذا] (¬1) كبر أيهما شاء، وهو قول مالك في "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهُ يلحق بأوضحهم شبهًا ولا يترك، وموالاة من أحب، وهو قول مطرف وعبد الملك وابن نافع في كتاب "ابن حبيب". والثالث: أنَّهُ يلحق بالأول إنْ عُرف، وإن جُهل يلحق بأكثرهما شبهًا، وهو قول محمد بن مسلمة. والرابع: أنَّ الولد يبقى ابنًا [لهما] (¬2) جميعًا, ولا يُوالى واحدًا دون الآخر، وهذا القول حكاهُ [سحنون] (¬3) في "العُتبيَّة". وسبب الخلاف: [هل] (¬4) قول القافة يُفيد العلم واليقين، ثُمَّ لا يجوز للابن إذا كبُر موالاة مَن شاء منهما، لما في ذلك مِن قطع نسب الآخر عنهُ بعد ثبوتهِ أو إنَّما يُفيد غلبة الظن، فيجوز للولد أن ينتهى إلى واحد يختارهُ، ويتخذ لهُ بنوَّتهُ لما في الانتساب إلى كليهما مِن مخالفة المُعتاد، في كون الولد الواحد لهُ أبوان، مع ما يلحق الابن مِن التبرى بذلك. فإذا انتهى إلى واحدٍ منهما، فقد قطع مادة الطعن عن نفسه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}، فأشار إلى اتخاذ الأُبوَّة. وعلى القول بأنَّهُ يُوالى إذا كبر مَنْ شاء منهما. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من هـ. (¬3) في أ: ابن سحنون. (¬4) سقط من أ.

فإن مات أحد الواطئين قبل أن يبلغ الصبى، وقف لهُ سهمه مِن ميراثه، إن والى الميت كان له الميراث، وإن والى الحي ردَّ المال [الموقوف] (¬1) إلى ورثة الميت، وهو قول ابن القاسم في "المُدوَّنة"، لأنَّ الصبى لو مات ولهُ أبوان، وقد سبقهُ أحدهما بالموت، فَوَرَثَتُهُ يقومون مقامهُ. والثانى: أنَّهُ يرد ما وقف مِن مال الميت إلى ورثتهِ ثُمَّ يرثهُ الباقي، وهو قول أصبغ. وسبب الخلاف: هل حياة الباقي بعدهُ كموالاتهِ إياهُ أم لا؟ فإن مات الصبى قبل بُلُوغهِ [وهما] (¬2) حيان، فميراثهُ بينهما نصفان. فإن مات الأبوان قبل أن يبلغ الصبى، ويُوالى مَنْ شاء منهما [فإنه يوقف له قدر ميراثه من كل واحد منهما. فإذا بلغ يوالى من شاء منهما] (¬3)، ويرثهُ ويردُّ ما بقى للآخر، ويكون لورثته، وهو قول عبد الملك في "العُتبيَّة"، وقال أصبغ: "يرث مِن كُلِّ واحد نصف ميراث ولد". وأمَّا إذا أُشكل أمرهُ على القائف، فذلك كما لو قال: قد اشتركا فيه. وإنما دخل عليهِ الإشكال لتناسب الأشباه مِن الطرفين. وأمَّا إذا قالت القافة: "ليس لواحدٍ منهما"، ففى ذلك قولان: أحدهما: أنَّهُ يدعى [له] (¬4) قافة أخرى، هكذا أبدًا، لأنَّ القافة [إنما] (¬5) دُعيت لتُلحق لا لتنفى، وهو قول سحنون في ¬

_ (¬1) في أ: الموقف. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

"العُتبيَّة". والثانى: أنَّهما فيه شُركاء، وهذا القول حكاهُ الشيخ أبو إسحاق التونسي، ولم يُسم قائلهُ. وعلى القول بأنَّهُ لا يُلحق بواحدٍ منهما إلا بقافة أُخرى. فإن مات الأبوان أو أحدهما قبل أن يُدعى لهُ قافة فميراث من مات منهم لورثتهِ، ولا يرث الابن منهما شيئًا، لأنَّهُ ميراثٌ بالشك، لاحتمال أن يكون الولد مِن [غيرهما بسفاح] (¬1). وإن مات الابن، فلا يخلو مِن أن يترك أولادًا أم لا؟ فإن لم يترك ولدًا، فميراثهُ لهما جميعًا, لأنَّ الولد لم يخرج عنهما، ولم يدعه غيرهما بشكٍ ولا بيقين، كمال تداعياهُ، ولم يدعه غيرهما، وهو قول عبد الملك في "العُتبيَّة". فإن ترك ولدًا أو أولادًا، فإنَّهما يكون لهما [معهم] (¬2) السُدُس. فإن ألحقهُ القافة بهما، ثمَّ مات قبل أن يبلغ، ويُوالى مَن شاء منهما، على القول بأنَّ ذلك سائغٌ لهُ، وترك [ولدًا أو] (¬3) أولادًا. [فإن ترك ولدًا فإنه يوالى من شاء من الجدين كما كان للأب أن يوالى من شاء منهما] (¬4). فإن ترك أولادًا، فهل يجوز لكلِّ واحدٍ منهما موالاة مَنْ أحبَّ [منهما] (¬5) أم لا؟ ¬

_ (¬1) في أ: غير سفاح. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

أحدهما: أنَّهُ لا يجوز لهما إلا موالاة واحد مِن الجدين، ولا يُوالى هذا واحدًا [وهذا واحدًا] (¬1) [كما لم يكن] (¬2) لأبيهما أن يُواليهما جميعًا، وهو قول سحنون في "النوادر". والثانى: أنَّهُ يجوز موالاة كُل واحدٍ منهما مَن أحبَّ مِن الجدَّين، كما لو ولدت توأمين، فإنَّهُ يجوز لكلِّ واحدٍ منهما أن يُوالى مَنْ شاء مِن الأبوين. وأمَّا إن ولدت توأمين، فإنَّهما يُدعا لهما القافة أيضًا. فإن ألحقهما القافة بأحد منهما أو قالت: "قد اشتركا فيهما"، كان الحُكم على ما قالت القافة. وإن لحقت القافة كُل واحدٍ منهما بالآخر، وقال: هذا ابن هذا، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ لا يجوز، ويعاود النظر فيهما لهذه القافة أو لغيرها، وهو قول عبد الملك. والثانى: أنَّ ذلك جائز، ويكون كُل واحدٍ منهما ابنًا لمن لحق به، وهو قول سحنون. ثُمَّ ينظر [إلى] (¬3) الواطئ منهما أولًا: فإن كان مُوسرًا، كانت لهُ أُم ولد، [وعليه نصف قيمتها يوم حملت وله على الثاني قيمة الولد جميعه وإن كان معسرًا كان] (¬4) عليهِ نصفُ قيمةِ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: عما كان. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

الولد للثانى، وهل لهُ على الثاني مِثل ذلك؟ قولان: أحدهما: أنَّ لهُ على الثاني مِثلُ ذلك. والثانى: أنَّهُ لا شىء لهُ عليهِ، والقولان حكاهما اللخمى. وسبب الخلاف: اختلافهم في الأمة، هل تُعتق عليهما بنفس الحمل [من الثاني فإن وطأها عليهما حرام أو لا تعتق إلا بالحكم؟ فمن رأى أنها تعتق بنفس الحمل] (¬1)؟ قال: لا شىء على الثاني مِن قيمة الولد. ومن رأى أنَّها لا تعتق إلا بالحُكم، قال: للأول عليهِ نصفُ قيمة الولد، وهذا كُلَّه إذا كانا شريكين. فأمَّا إذا كانا مُتبايعين، فوطئها البائع، ثمَّ وطئها المشترى في طُهر واحد. [فإن أتت] (¬2) بولد لأقلَّ مِن ستة أشهر مِن وطء المُشترى: فإنَّهُ يُلحق بالبائع، والأمة أُمُّ ولدٍ لهُ، ويُفسخ البيع. واختلف إن ماتت قبل الوضع، ممن ضمانها؟ على قولين: أحدهما: أنَّ ضمانها مِن البائع، والأصل استصحابهُ حتى تخرج مِن الاستبراء، وهو قول ابن القاسم في "العُتبيَّة". والثانى: أنَّ الضمان منهما جميعًا، ماتت قبل ستة أشهر أو بعدها، وهو [قول] (¬3) سحنون في الكتاب المذكور, لأنَّهما أصابا في طُهرٍ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فأتت. (¬3) في هـ: مذهب.

واحد، وحصل الامتزاج بين المائين، وماتت قبل [أن] (¬1) يتبين مِن أيِّهما كان الحمل، وقد وجب الفداء بنفس الوطء، والأصل استصحابهُ عليهما حتى يتبين البراءة منهُ لأحدٍ منهما. ويكون على المُشترى على هذا القول الأكثر مِن نصف قيمتها يوم الوطء أو نصف الثمن إن وضعتهُ لستة أشهر فأكثر. فإن [مات] (¬2) قبل نظر القافة، هل يُدعى لهُ بعد موتهِ أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ لا يُدعى لهُ القافة، إذْ لا قافة في الأموات, وهو قول ابن القاسم في "العُتبيَّة". والثانى: أنَّهُ يُدعى لهُ القافة، إذْ لا يُغير الموت شخصهُ، وهو قول سحنون في "العُتبيَّة". فإن عاش، فإنَّهُ يُدعى لهُ القافة: فإن ألحقتهُ بالبائع، كان ابنًا لهُ، ويُفسخ البيع. وإن ألحقتهُ بالمُشترى، لزم البيع وكانت الأمة أُم ولدٍ لهُ. فإن قالت القافة "قد اشتركا فيه": عجل عِتق الأمة [الآن] (¬3)، إذ لا يحلُّ وطء واحدٍ منهما, لأنَّ نصفها أُم ولدٍ [لكل واحد] (¬4) منهما، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ماتت. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: لواحد.

ويغرم المُشترى للبائع نصف الثمن، وينتظر بالصبى حتى يبلغ ويُوالى مَنْ شاء منهما. فإن مات قبل البلوغ، والموالاة: ورثاهُ جميعًا على حسبِ ما قدَّمناهُ. فإن مات أحد الأبوين، وقف لهُ ميراثهُ منهُ. فإن مات الصبى قبل بُلوغهِ، فهل يرثهُ ورثة الأب الميت أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ [ورثة] (¬1) الأب الحى [يرثوه] (¬2) دون ورثة الأب الميت، ويرد ما وقف لهُ مِن تركة الأول إلى ورثتهُ، وهو قول ابن القاسم في "العُتبيَّة"، وبهِ [قال] (¬3) ابن عبد الحكم. والثانى: أنَّ ميراثهُ بين الباقي من الأبوين وبين ورثة الأب الميت [نصفين] (¬4)، [ويضم ماله مع وقف له] (¬5)، فيُقسمُونهُ بينهم أنصافًا، وهو قول سحنون في "الكتاب المذكور". ثُمَّ إن مات الباقي [مِن] (¬6) الأبوين، فوقف لهُ ميراثهُ منهُ، ثُمَّ مات الصبى قبل أن يُوالى، فهل يُورث عنهُ ما وقف لهُ مِن الأبوين مع ما ترك أم لا؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يرثه. (¬3) في ع، هـ: أخذ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: ويرد ما وقف له من تركه الأول. (¬6) في هـ: بين.

أحدهما: أنَّهُ يورث عنهُ جميعًا، ويرثهُ [ورثة الأبوين] (¬1)، وهو قول سحنون. والثانى: [أنه] (¬2) لا يورث عنهُ ما وقف لهُ مِن الأبوين، بل يُرد إلى ورثة كُل واحدٍ منهما، وميراث الصبى لمن يرث الأبوين، نصفٌ لكلِّ فرق منهما، وهى رواية أصبغ عن ابن القاسم في "العُتبيَّة". واختلف على مَن تكون نفقتهُ إلى بلوغهِ: على قولين: أحدهما: أن النفقة على الواطئين جميعًا، فإذا بلغ الصبى ووالى أحدهما لم يرجع المنفق على الملتحق بهِ بشىء ممَّا أنفق، وهو قول عيسى ابن دينار في "العُتبيَّة". والثانى: أنَّ النفقة على المُشترى، فإذا بلغ ووالى البائع، رجع عليه المُشترى بما أنفق، وهو قول أصبغ في "العُتبيَّة". وأمَّا إذا كانت بين حُرٍ وعبد، فوطآها في طهرٍ واحد، فإنَّهُ يُدعى للولد القافة أيضًا. فإن ألحقتهُ بالحُر كان ولدهُ وأُمهُ أُمَّ ولد لهُ، وعليه نصفُ قيمة الأُم وحدها إن كان مُوسرًا، وإن كان مُعسرًا. كان الخيارَ لسيِّد العبد بين أن يتماسك بنصف الأمة لعبده، ويتبع الحُر بنصف قيمة الولد, لأنَّ الولد للسيِّد. فإن قُوِّم عليهِ نصفُ الأمة ونصفُ الولد، فما ناب الولد مِن القيمة فلسيِّد العبد، وما ناب الأمة مِن القيمة فللعبد. ¬

_ (¬1) في أ: الأبوان. (¬2) سقط من أ.

واختلف هل يُتبع بذلك في الذمَّة أم يُباع عليهِ [النصف] (¬1) المقوم على ما يأتى بيانهُ في مسألة: وطء أحد الشريكين" إن شاء الله؟ فإن ألحقته بالعبد، كان الخيارُ للحُر، لأنَّ إيلاد العبد لا حرمة لهُ في أُمهات الأولاد: فإن شاء تماسك بنصفهِ، وكان لهُ نصفُ الأمة ونصف ولدها رقيقًا. وإن شاء قوَّم الأمة، ثُمَّ لا يخلو العبد حين التقويم مِن أن يكون مُوسرًا أو مُعسرًا: فإن كان مُوسرًا: أُخذ مِن مالهِ نصف القيمة للحُر. وإن كان مُعسرًا: بيعت الأمة [في نصف قيمتها يوم الوطء, ولا يُباع معها الولد إنْ لم يف ثمنُها بنصف القيمة، لأنَّ الولد] (¬2) ليس بمال العبد [وإنما هو للحر. واختلف فيمن عجز عن ثمن قيمة نصفها على قولين: أحدهما: أن ذلك جناية ويكون في رقبة العبد] (¬3) ويُخيَّر سيَّدهُ بين أن يفديهِ أو يُسلمهُ، وهو قول سحنون في "العُتبيَّة". والثانى: أنَّهُ لا يكون كالجناية, لأنَّهُ مأذونٌ لهُ في الوطئ بملكِ اليمين كالحُر، فيكون ذلك في ذمَّتهِ لا في رقبتهِ، وهو قول [محمد بن] (¬4) عبد الحكم في "المنتخبة". فإن قالت القافة: (¬5) قد اشتركا فيهِ، هل يقوم على الحُر نصيب العبد مِن الولد والأُم أم لا؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) بياض في هـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

أحدهما: أنَّهما يقومان عليهِ، ويغرم نصف قيمة الولد للسيد، ويعتق عليهِ جميعهُ، ويغرم نصف قيمة الأمة للعبد، ويحلُّ لهُ وطؤها، وهو قول الغير في كتاب أمهات الأولاد مِن "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهُ لا يقوَّم الولد ولا الأُم، ويكون نصفُ الولد ونصفُ الأُم عتيقًا مِن الآن، فإذا بلغ ووالى الحر: لحق بهِ، وغرم نصف قيمته للسيِّد، وإن والى العبدُ لحق به نصيبهُ، وكان نصفهُ حرًا ولا يقوم عليهِ بقيمتهِ, لأنَّهُ لم يبتدأ عتقًا، وإنَّما هو عتق سنة كما لو ورثا نصفهُ. وأمَّا الأُم: فإن والى الحُر، كانت لهُ أُم ولد، وغرم نصف قيمتها. وإن والى العبد، كانت [أمة] (¬1) بينهما، إذ لا حُرمة لإيلاد العبد، ويرجع عليهِ [الحر] (¬2) بما نقصتها الولادة، أو يقومها عليهِ إن كان النُقصان كثيرًا. وإن مات الولد قبل الموالاة، كان نصيب العبد مِلكًا لسيِّده، وهو قول أصبغ. وعلى القول بأنَّها تقوم على الحر، هل تكون أُم ولد بذلك الولد أو لابُدَّ مِن إيلادٍ ثان؟ قولان قائمان مِن "المُدوَّنة" منصوصان في المذهب. وأمَّا الوجه الثالث: إذا كانت بين مسلم ونصراني، فإنَّهُ يُدعى للولد القافة أيضًا: ¬

_ (¬1) في أ: الأمة. (¬2) في أ: العبد.

فإن ألحقتهُ بالمسلم لحِق بهِ وغرم للنصرانى نصف قيمة الأُم. وإن ألحقتهُ بالنصرانى، كان ابنًا لهُ وعلى دينهِ، ويُوارثهُ [وينتسب] (¬1) إليهِ، ويغرم نصف قيمة الأُم للمسلم مُسلمة كانت أو كتابتة، غير أنَّها إن كانت كافرة أقرت عندهُ، وإن كانت مسلمة عُتقت عليهِ. فإن قالت القافة: قد اشتركا فيهِ كانت الأُم معتقة عليهما، والولد موقوف حتى يبلغ فيُوالى مَن شاء منهما. فإن والى المسلم، كان لهُ ولد. وإن والى الكافر، كان ولده، ولا يكون الولد إلا مُسلمًا. فإن مات الأبوان أو أحدهما قبل أن يبلُغ، وُقِّف لهُ ميراثهُ منهما. فإذا بلغ ووالى مَن أحبَّ منهما: ورثهُ، وردَّ ميراثهُ مِن الآخر، ولا يكون إلا مُسلمًا. وإن مات قبل أن يبلغ رد ما وُقِّف لهُ مِن المال إلى ورثة مَن وُقِّف مِن تركتهِ. فإن ترك مالًا وُقف وُهب لهُ، كان نصفهُ لعصبة أبيه المسلم بعد أخذ ذوى الفروض فروضهم إن كانوا، ونصفهُ لعصبة أبيهِ النصَرانى إن كانوا، وإلا فلبيت المال. والجواب عن الوجه الثالث: إذا وطئ أحدهما بنكاح والآخر بملك: فإن كان الوطىء بنكاح ثُمَّ مِلك، كان الوطء بالنكاح مِن الطرفين، وقد تقدَّم الكلام عليهِ. فإن كان بملكِ ثُمَّ نكاح، هل يغلب حُكم الملك على النكاح وهو ¬

_ (¬1) في أ: وينسب.

المشهور، فيكون كالملكين أو يغلب حكم النكاح على الملك فيكون [كالنكاحين] (¬1): وهو الأضعف. والجواب عن الوجه الرابع: إذا كان بنكاح وزنا: فإن كان بنكاح ثُمَّ زنا، فالولد لاحق بالزوج إلا أن ينفيهِ بلعان. وإن كان بزنا ثُمَّ نكاح، هل يُلحق بالزوج أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يُلحق بفراش الزوج، تقدّم أو تأخَّر، وهو الصحيح: لقولهِ عليهِ السلام: "الولد للفراش". والثانى: أنَهُ يُدعى للولد القافة، كما لو كان مِن مِلك اليمين جميعًا. وسبب الخلاف: مُعارضة القياس للحديث، وظاهر قوله عليهِ السلام: "الولد للفراش"، سواءٌ تقدَّم أو تأخَّر والقياس: يقتضى أن يُدعى لهُ القافة إذا كان الزنا أولًا، لتعلق حقّ الواطئ، بتصحيح نَسَبِهِ حتى لا يُنسب إليه غيرُ ولده، مع الاحتمال أن يكون الولد مِن مائه السابق إلى قرار الرحم فجاز. فكانَ الحُكم يُوجب القافة دفعًا للاحتمال، وقطعًا للريبة كما حكم به عمر رضي الله عنهُ. والجواب عن الوجه الخامس: إذا كان بملكِ اليمين والزنا. فإن كان الوطء بالمِلك [أولًا ثُم بالزنا آخرًا ألحق الولد بالملك دون الزنا لأن الوطء بالملك لا لعان فيه والوطء بالزنا لا قافة فيه فوجب أن يكون الواطئ بالملك أحق] (¬2)، وإن كان الزنا [أولًا] (¬3)، فهل يُدعى للولد ¬

_ (¬1) في أ: كالناكحين. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

القافة أم لا؟ ويُلح بالسيِّد قولان: والجواب عن الوجه الثانى مِن أصل التقسيم: إذا كان الواطئان ميتين قبل نظر القافة، فلا يخلو القائف مِن [أن] (¬1) يكون عرفهما أو جهلهما أو عرف أحدهما وجهل الآخر: فإن عرفهما في حال الحياة، فهما كالحيين بلا تفريع. وإن جهلهما، هل يكون ابنًا لهما جميعًا ويرثهما أو لا يلحق بواحدٍ منهما؟ فالمذهب على قولين: [أحدهما] (¬2): أنَّهُ يُلحق بهما ويرثهما، لأنَّهُ لم يخرج عنهما، ولم تتحقق فيهِ الإصابة لغيرهما، فيُدفع الولد إليهِ، والأصلُ الاشتراك فيهِ لاشتراكهما في الفراش، حتى يُوجد البين [بأمارة] (¬3) دالة على أنَّ الولد مِن أحد الفراشين، ويبرأ منهُ الآخر، وقد ماتا قبل حصول تلك الأمارة، فلم يبق إلا البقاء على الأصل، وهو قول أصبغ. والقول الثانى: أنَّهُ لا يلحق بواحدٍ منهما، ويبقى لا أب لهُ، لأنَّ حملهُ على الاشتراك مع الاحتمال أن يكون مِن أحدهما أو مِن غيرهما مِن باب الميراث بالشكِّ، وباب الميراث بالشكِّ قد أمر الشارع - صلى الله عليه وسلم - (¬4) بسده، وانعقد الإجماع على حسمه - صلى الله عليه وسلم - وهو قول ابن الماجشون. وسبب الخلاف: تعارض الدليلين كما ترى. فإن عرف القائف أحدهما وجهل الآخر. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: بامرأة. والمثبت هو الصواب. (¬4) زيادة من هـ.

فإن ألحقهُ بِمن عَرفهُ منهما، فهو ابنٌ لهُ ويرثهُ كالحى على سواء. فإن برأه منه، فهل يُلحق بالمجهول أو يبقى لا أب لهُ؟ فإنَّهُ يتخرّج على الخلاف الذي قدَّمناهُ إذا جهلا جميعًا. وحقُّ المعروف: المبدى مِن الولد باقٍ في الأمة رقيقٌ لهُ. وحقُّ المجهول: يتخرّج على الخلاف في لحوق الولد به. والجواب عن الوجه الثالث: إذا مات أحدهما وعاش الآخر قبل نظر القائف [فإن كان القائف] (¬1) يعرف الميت: كان الجواب فيهما كالحيَّين. وإن جهلهُ، فلا يخلو مِن ثلاثة أوجه: إمَّا أن يُلحقهُ بالحىَّ منهما. أو يبرئهِ منهُ، أو قال: لهُ فيه شرك. فإن قال القائف: "هو منهُ" لحق به، وكان الحُكم في العسر واليُسر وما يقوم عليهِ وما لا يقوم، كما يكون لو كان الميت حيًا، وقد قدَّمناهُ في الفصل الأول. وإن نفاهُ منهُ، فهل يلتحق بالميت أم لا؟ على قولين. وهذا الخلاف كالخلاف الذي قدَّمناهُ بين أصبغ وعبد الملك إذا [ماتا] (¬2) جميعًا، وجهلهما القائف حالة الحياة. وأمَّا إذا قالت القافة: "لهُ فيهِ شرك"، كان له من الحى نصف الأبوة، ويرث منهُ نصف ميراثهِ إذا مات، ولا يرث مِن الميت الأول شيئًا، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: كانا.

وإنَّما ورثاهُ مِن الحى نصف الميراث إذا مات، لاحتمال أن يكون للميت فيهِ شرك، بحيث لو عرفه القائف، وكان حيًا لأشركهما فيهِ، ولم يورثهُ مِن الميت الأول، لإمكان ألا يكون [له] (¬1) فيهِ شرك. فلمَّا احتمل الأمرين أعطينا لهُ مِن الميراث ما لا شكَّ فيهِ في ظاهر الأمر، ومعناهُ ممَّا هو مشكوك فيه طردًا للدلالة الشرعية، وسردًا للسنة [المحمدية] (¬2). والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

المسألة السادسة في الأمة بين الشريكين، يطأها أحدهما،

المسألة السادسة في الأمة بين الشريكين، يطأها أحدهما، فلا يخلو مِن أن تكون حائلًا أو حاملًا: فإن كانت [حائلًا] (¬1) فهل تقوم على الواطئ أم لا؟ فقد اختلف فيها على خمسة أقوال كُلَّها قائمة مِن "المُدوَّنة": أحدها: أنَّ الخيار في التقويم للشريك الذي لم يُطأ، وهو نصُّ "المُدوَّنة". والثانى: أنَّ الخيار للواطئ دون شريكهِ، وهو قولهُ في كتاب الشركة مِن "المُدوَّنة"، حيثُ قال: "يتقاومانها والمقاواة ترجع إلى ما ذكرنا، لأنَّ الواطئ إن شاء زاد وتلزمُهُ القيمة، وإن شاء ترك ولا يُخيَّر. والثالث: أنَّها تقوم على الواطئ جبرًا مِن غير خيار لواحد منهما، وهو قولهُ في "الموَّازية"، وهو ظاهر قوله في "المُدوّنة" في الذي وطئ أمة أُحلت لهُ، ويُؤخذ أيضًا مِن وطء الأب أمة ابنهِ، وهو ظاهر قوله في "كتاب الشركة" أيضًا. والرابع: التفصيل بين أن يكون الواطىء مُوسرًا أو مُعسرًا، وهو قولهُ في عتق أحد الشريكين وتدبيرُهُ. والخامس: أنَّها لا تقوم عليهِ أصلا، وهو قولهُ فيمن وطئ أمة غيره، ويكون وطؤه كالجناية، وإنَّما عليهِ ما نقصها الوطء. وعلى القول بالتقويم، متى تُعتبر قيمتُها؟ ففى المذهب ثلاثة أقوال ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كُلُّها قائمة مِن "المُدوَّنة": أحدها: قيمتُها يوم الوطء. والثانى: يوم الحُكم. والثالث: التخيير بين يوم الحُكم ويوم الوطئ، وهو قول أشهب، وعليه اختصر أبو سعيد البراذعى. وعلى القول بتخيير الذي لم يطأ، فإن اختار إسقاط التقويم، فهل يتبعه [بما] (¬1) نقصه [الواطئ] (¬2) [أم لا] (¬3)؟ قولان قائمان مِن "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّهُ لا يتبعهُ شىء، وهو نصُّ المُدوَّنة. والثاني: أنَّها يتبعهُ بما [نقصها] (¬4) الوطء، وهو قول مالك وابن القاسم في كتاب "ابن حبيب" على ما حكاهُ الشيخ أبو محمد في "النوادر"، وهو اختيار أكثر المتأخرين، كأبى الحسن وغيره، وهو قولهُ في "الكتاب": فيمن وطئ أمة غيرهِ، فنقصها وطؤه. فهذه خمسة أقوال، فيتحصَّل في هذا الوجه عشرة أقوال. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كانت حاملًا، فلا يخلو الواطئ مِن أن يكون مُوسرًا أو مُعسرًا: فإن كان مُوسرًا، فهل تقوم عليهِ أم لا؟ قولان: أحدهما: أنَّها تقوم عليهِ، وهو نصُّ "المُدوَّنة". ¬

_ (¬1) في أ: ما. (¬2) في هـ: الوطء. (¬3) سقط من هـ. (¬4) في أ: نقصه.

والثانى: أنَّها لا تقوم عليهِ، وهذا القول قائم مِن "المُدوَّنة" مِن مسألة: أحد الشريكين إذا أعتق حصَّتهُ إلى أجل، حيث قال في أحد قولى "الكتاب": "إنَّهُ لا تقوم حصة المُتمسك بالرقِّ، لأنَّ الذي أعتق حصَّتهُ إلى أجل يُتهم في استخراج حصة شريكه مِن يدهِ بالحيلة، فالواطىء في هذه المسألة أشدُّ تُهمة. وعلى القول بالتقويم، متى تُعتبر قيمتها؟ ففى المذهب خمسة أقوال: أحدها: قيمتها يوم الوطء، وهو قولهُ في باب القافة. والثانى: قيمتها يوم الحمل، وهو قولهُ في المُدوَّنة في مسألة الشريكين، وهو قولهُ في كتاب القذف [أيضًا] (¬1). والثالث: أنَّ الشريك الذي لم يطأ مخير إن شاء قيمتها يوم الوطىء، وإن شاء قيمتها يوم الحمل، وهو أحد أقاويل مالك أيضًا، وهو اختيار ابن الموَّاز وابن لُبابة، على ما نقلهُ القاضى أبو الفضل وغيرهُ مِن المُتأخرين، وهو تأويل بعض الشارحين على "المُدوَّنة". والرابع: قيمتها يوم الحُكم، وهو قولهُ في "كتاب الاستحقاق" في الأمة المستحقة بعد أن أولدها المشترى. والخامس: قيمتها يوم الوضع، على القول بأنَّها لا تكون أم ولد إلا بالوضع، إذ بهِ يحصل الفوات وتجب القيمة، وهل يُتبع بنصف قيمة الولد مع قيمة الأُم أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنُّه يُتبع بنصف قيمة الولد. والثانى: أنَّهُ لا شىء عليهِ مِن قيمة الولد. ¬

_ (¬1) زيادة من جـ، ع، هـ.

والقولان قائمان مِن "المُدوَّنة". وينبنى الخلاف على الخلاف في القيمة متى تراعى. فعلى القول باعتبار القيمة فيها قبل الوضع، إمَّا يوم الوطء وإمَّا يوم الحمل، فلا شىء عليهِ في الولد. وعلى القول باعتبار قيمتها بعد الوضع، إمَّا يوم الوضع وإمَّا يوم الحُكم، فيُتبع بنصف قيمة الولد. وعلى القول بأنَّهُ يغرم نصف قيمة الولد، هل تعتبر قيمتهُ يوم الوضع أو قيمتهُ يوم الحُكم. [قولان] (¬1). وسبب الخلاف: ما قدَّمناهُ [فهذه أربعة أقوال في قيمة الولد] (¬2). والجواب عن الوجه الثاني من الوجه الثاني: إذا كان الواطئ مُعسرًا، هل تقوم عليهِ أم لا؟ فالمذهب على خمسة أقوال: أحدها: أنَّها تقوم عليهِ جبرًا ويتبع بنصف قيمة الأم، ولا شىء عليه [في الولد] (¬3)، وهذا هو المشهور. والثانى: أنَّها تقوم عليهِ جبرًا، ويُباع ما قُوم عليهِ في القيمة، ويُتبع بنصف قيمة الولد، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، والقول الأول: هو القديم، مِن قولهِ في "كتاب محمد" وغيره، والثانى: ظاهر قوله في كتاب "أُمهات الأولاد". والثالث: أنَّها تقوم عليه برضا الشريك الذي لم يطأ، ويُباع عليهِ النصف الذي قوم عليهِ في القيمة، يُريد بعد الوضع، ويُتبع بنصف قيمة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

الولد، وهذا قول ابن القاسم في "كتاب القذف" مِن "المُدوَّنة"، وبهِ قال مُطرف وابن الماجشون في "كتاب ابن حبيب". والرابع: أنَّ الشريك الذي لم يطأ بالخيار. إن شاء [تمسك] (¬1) بحصَّتهِ واتبع الواطئ بنصف قيمة الولد. وإن شاء قُوم عليه، [وأتبعه] (¬2) بنصف قيمتها مع نصف قيمة الولد, ولا يُباع منهُ شىء، وهو قول غيره في الكتاب. والخامس: قول أشهب في بعض روايات "المُدوَّنة": أنَّهُ لا تقويم عليهِ إن كان مُعسرًا أصلًا، ويُتبع بنصف قيمة الولد. وعلى القول بتخيير الشريك إذا ترك التقويم، هل يُعتق [عليه] (¬3) نصيب الواطئ أو يبقى بحساب أُم الولد أم لا؟ قولان في "الكتاب": أحدهما: أنَّهُ يعتق عليه نصيبه، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنَّهُ يوقف على حساب أُم ولد، وهو قول الغير. وعلى القول بالإيقاف، فإذا اشترى الواطئ نصيب الشريك ليُسرٍ حَدَثَ أو ملكهُ بوجهٍ ما، هل تكون أُم ولد بالإيلاد الأول أو لابد مِن إيلاد ثان؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوَّنة" منصوصين في المذهب في "كتاب ابن سحنون" وغيرهُ على ما نقلهُ ابن أبي زيد في "النوادر": أحدهما: أنَّها لا تكون أُم ولد إلا بإيلادٍ ثانِ، وهو اختيار سحنون، وهو ظاهر قوله في كتاب "أمهات الأولاد". ¬

_ (¬1) في أ: تماسك. (¬2) في أ: وأتبع. (¬3) سقط من هـ.

والثانى: أنَّها تكون أُم ولد بالإيلاد الأول، ولا يحتاج أن يُولدها مرةً أخرى، وهو اختيار المُغيرة في كتاب "ابن سحنون"، وهو ظاهر قوله في "كتاب العتق الأول" مِن "المُدوَّنة": في الذي أعتق عبدهُ، ثُمَّ قام غُرماؤهُ فردُّوا عتقهُ، ثُمَّ أفاد مالًا قبل أن يباع: أنَّ العبد عتيق بالعتق الأول إلا أن السيِّد يُتهم أن يكون قد أخفى مالهُ، فلأجلِ ذلك عُتق العبد بالعتق. والواطئ: كذلك أيضًا، يُتهم أن يكون قد أخبأ [ماله] (¬1) ليُسقط التقويم عن نفسه، فهو أولى بالتُهمة مِن الغريم، ولذلك لا يحتاج إلى إيلادٍ ثانٍ. فهذه عشرون قولًا، في هذا الوجه أربعة أقوال في قيمة الولد، وقولان: في تقويم الأُم ابتداءً، ومتى تقوم؟! خمسة أقوال [وإن كان معسرًا خمسة أقوال] (¬2). وإذا ترك التقويم ما حُكم نصيب الواطئ: قولان، وإذا بقى موقوفًا ثُمَّ ملك جميعها، ما حكمها: قولان، وفي الفصل الأول، إذا كانت حائلًا: عشرة أقوال. فجُملة ما تحصَّل في هذه المسألة مِن "المُدوَّنة" ثلاثون قولًا كُلُّها مبينة واضحة، لا لجة ولا خفاء بها على من طالع المذهب، واستوفى النظر في معانى "المُدوَّنة". والحمد للهِ وحدهُ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبهِ وسلم تسليمًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

كتاب الولاء والمواريث

كتاب الولاء والمواريث

كتاب الولاء والمواريث تحصيل مُشكلات هذا الكتاب، وجملتُها تسع مسائل: المسألة الأولى فيمن أعتق عبدهُ عن غيرهِ، فينبغى أن نقدَّم الكلام على اشتقاق الولاء أولًا ثُمَّ نعقبه بالكلام على مقتضى الترجمة. فنقول وبالله التوفيق: الولاء بفتح الواو: ممدود مِن الولاية بالنسب والعِتق، وأصلُهُ الولى، وهو: القريب. وبكسر الواو مِن الإمارة والتقديم، وقيل إنَّهُ يُقال فيهما بالوجهين جميعًا. والولاء في عُرف الاستعمال ينطلق بإيذاء معانٍ كثيرة تكون للمُعتَق والمُعتِق ولأبنائهما, وللناصر ولابن العم والقريب، والعاصب والخليفة [والقائم] (¬1)، وللقائم [بالمعروف] (¬2) بالأمر وناظر [اليتيم] (¬3) , والصاحب [و] (¬4) المحب. فإذا ثبت ذلك، فلنرجع إلى مقصود الترجمة، فنقول: عِتق الرجل عبدهُ عن غيرهِ، لا يخلو مِن وجهين: أحدهما: أن يعتقهُ عن مُعيَّن. والثاني: أن يعتقهُ عن غير مُعيَّن. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في هـ: الأيتام. (¬4) سقط من أ.

فإن أعتقه عن معين، فلا يخلو ذلك المعَّين مِن أن يكون مسلمًا أو نصرانيًا. فإن أعتقهُ عن مسلم، فلا يخلو مِن ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعتقهُ عن رجلٍ بعينهِ. والثاني: أن يعتقهُ عن عبدٍ بعينه. والثالث: أن يعتقهُ عن امرأةٍ بعينها. فإن أعتقهُ عن رجلٍ بعينه، فلا يخلو مِن أن يعتقهُ [على] (¬1) جُعْلٍ [جعله] (¬2) لهُ أو على غير جُعل: فإن أعتقهُ على مالٍ جعلهُ لهُ: فإن كان على تعجيل العِتق والمالُ حالُّ أو إلى أجل، فهذا جائزٌ مِن غير خلاف، والولاء للذى أعتق فإن كان العتق إلى أجل، والمال حال أو إلى أجل لم يُجز، لأنَّهُ غرر لاحتمال أن يموت العبد قبل حلول الأجل، فيذهب مالهُ [باطلًا. فإن كان على غير مال، فالمذهب يتخرّج على ثلاثة أقوال] (¬3): أحدها: الجواز، حيًا كان المُعتق عنهُ أو ميتًا، وهو قول مالك في "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهُ لا يجوز، فإن نزل مضى، وكان الولاء للمُعتق عنه. والثالث: أن الولاء للذى أعتق. ¬

_ (¬1) في أ: عن. (¬2) سقط من أ. (¬3) بياض في هـ.

وأمَّا إن أعتقهُ عن عبدٍ بعينه، فإنَّ ذلك جائز، فيكون الولاء لسيِّد العبد المُعتق عنهُ، ما دام هو في الرِّق. فإذا أُعتق، فهل يرجع إليهِ الولاء أم لا؟ على قولين منصوصين في "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّهُ لا يعود إليهِ الولاء، وإن أُعتق، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنَّهُ يعود إليه الولاء، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: في الولاء، هل ينتقل بعد ثبوتهِ أم لا؟ فإن أعتقهُ عن امرأةٍ بعينها: فلا يخلو مِن أن تكون زوجةً لهُ أو هى أجنبيَّة عنهُ: فإن كانت أجنبيَّة عنهُ، فهو كمن أعتق عن رجلٍ بعينهِ على سواء. فإن كانت زوجةً لهُ، فلا يخلو مِن وجهين: إمَّا أن تشترط أن يعتقهُ عنها أو لم تشترط ذلك. فإن اشترطت ذلك عليهِ، كان لها الولاء، وسواءٌ كان ذلك على مالٍ دفعتهُ إليهِ أو كان ذلك بسؤال. واختلف هل يُفسخ نكاحها أم لا؟ على قولين منصوصين في "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّ النكاح مفسوخ، وهو قول ابن القاسم. والثانى: أنَّهُ لا يُفسخ، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: هل يُعدَّ ذلك كملكِ الرقبة، فيُفسخ النكاح أو لا يُعدَّ كالملك, لأنَّهُ لم يخرج [من] (¬1) مِلك سيدهُ إلا إلى عتق؟ ¬

_ (¬1) في أ: عن.

فإن لم تشترط عليهِ أن يعتقهُ عنها، فالنكاح جائزٌ اتفاقًا، أعتقهُ على مالٍ مِن عندها أم لا. فإن أعتقهُ عن نصراني، فلا يخلو العبد مِن أن يكون مُسلمًا أو نصرانيًا: فإن كان مُسلمًا: فإنَّ ولاءهُ لجميع المسلمين، ما دام المُعتق عليه نصرانيًا. فإن أسلم بعد ذلك، هل يرجع إليهِ ولاؤهُ؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ لا يرجع إليهِ الولاء، وإن أسلم، وهو قول مالك في "المُدوَّنة". والثانى: أنَّهُ لا يرجع إليه الولاء، وإن أسلم، وهو قول مالك في "المُدوّنة": أنَّهُ يرجع إليهِ الولاء وهو قولٌ قياسى، ويُستقرأ مِن قول ابن الموّاز: في مُسلمٍ لهُ عبدُ نصرانيٌ، وللعبدِ عبدٌ مُسلم، فأعتقهُ بغير علم سيِّدهُ، ولم يعلم حتى أعتق السيد المسلم عبدهُ النصراني، ثُمَّ مات العبد المُسلم عن ماله، فبقى ميراثهُ للمُسلم الأعلى. فإذا صحَّ أن يُجبر العبد المُعتق النصرانى ولاء عبدهُ المُعتق المُسلم إلى السيِّد الأعلى دون سائر المسلمين، صحَّ أن يجبره إلى نفسه، ويرجع إليه إذا أسلم. [فإن كان نصرانيًا] (¬1)، فولاؤهَ لهُ. فإن أسلم العبد [المعتق] (¬2) قبلهُ رجع إليهِ ولاؤُهُ إذا أسلم، كما يأتى ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ.

بيان ذلك كُلُّهُ في مسألة مُفردة إن شاء الله تعالى. وأمَّا الوجه الثاني مِن أصل التقسيم: إذا أعتقة عن غير معين، كالسائبة التي تُعتق عن جميع المسلمين، فهل يجوز ذلك أو لا يجوز؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ ذلك لا يجوز ابتداءً، وهو قولُ مالك وابن القاسم في كتاب "ابن الموّاز". والثاني: أنَّ ذلك جائز ابتداءً مِن غير كراهة، هو قول أصبغ وسحنون في "العُتبيَّة" وابن القاسم في "المُدوَّنة". وعلى القولين جميعًا: إذا وقع ونزل، هل يكون الولاء للذى أعتق أو لجميع المُسلمين؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ الولاء لجميع المسلمين، وهو المشهور، وهو مذهب "المُدوَّنة". والثاني: أنَّ الولاء لمن أعتق، وهو قول ابن نافع في "كتاب ابن حبيب". وسبب الخلاف: اختلافهم في قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الولاء لمن أعتق". فمن حمله على ظاهرهِ، قال: الولاء للذى أعتق. ومن نظر إلى المعنى، قال: لجميع المسلمين، ويكون [معنى] (¬1) قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الولاء لمن أعتق" أي: الولاء لمن حصل له الثواب لأجل العتق، فيكون الولاء تابعًا للثواب، وهذا هو المفهوم مِن اللفظ، وهو الذي سبق إلى فهم سامعهِ. ¬

_ (¬1) في أ: مغزى.

وأمَّا مَنْ كَرِهَ ذلك ابتداءً، فإنَّما كرههُ لما في ذلك مِن هبةِ الولاء، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وهبتهُ، وقيل: إنَّما كرِهَ ذلك، لتشبيهه بسوائب الجاهلية في الأنعام [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الثانية في النصراني إذا أعتق عبده [ثم] أسلم السيد المعتق،

المسألة الثانية في النصراني إذا أعتق عبده [ثم] (¬1) أسلم السيد المُعتق، ولا يخلو العبد الذي أُعتق مِن وجهين: أحدهما: أن يعتقهُ ثُمَّ يُسلم العبد المُعتق. والثاني: أن يعتقهُ بعد أن أسلم العبد. فإن أعتقهُ ثُمَّ أسلم العبد بعد العتق: فإنَّ ولاءَهُ لجميع المسلمين [إلا أن يكون للسيد الذي أعتقه قرابة مسلمون فإنهم يجدون ولاءه تره ثم إن أسلم بعد ذلك السيد فإنه يرجع ولاؤه إليه. فإن أعتقه بعدما أسلم فإن ولاءه لجميع المسلمين] (¬2). ثُمَّ إن أسلم السيد بعد ذلك، هل يرجع إليه ولاؤه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ لا يرجع إليه، وإن أسلم بعد ذلك، وهو المشهور في النقل. والثاني: أنَّهُ يرجع إليهِ إذا أسلم، وهو الأظهر في النظر والأثر. أمَّا النظر: فكون العلة التي [لأجلها] (¬3) منع الولاء قد زالت، فإذا زالت وجب أن يرجع إليه الولاء, لأنَّ المانع مِن أن يكون لهُ الولاء: كونُهُ كافرًا، ولا ولاية للكافر على المُسلم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

فإذا أسلم، وتساوى معهُ في الرتبة، كان لهُ الولاء، ويرجع إليهِ. وأمَّا الأثر: فلعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الولاء لمن أعتق" [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الثالثة في المسلم إذا أعتق عبده النصراني، ثم مات [عن مال]

المسألة الثالثة في المُسلم إذا أعتق عبدهُ النصراني، ثُمَّ مات [عن مال] (¬1) قبل أن يُسلم، فلا خلاف في المذهب أنَّ لهُ ولاءهُ، وأنَّهُ لا يرثهُ لاختلاف الدينين. واختلف المذهب لمن يكون ميراثهُ: على خمسة أقوال: أحدها: أنَّهُ لا يرثهُ أحد مِن ورثتهِ مِمن هو على دينهِ، وهي رواية أشهب عن مالك. والثاني: أنَّهُ لا يرثهُ أحد مِن ورثتهِ إلا ولده الذي على دينه، وهو قول أشهب، قال: "ولا يرثهُ غيرهُ مِن الأُخوة أو غيرهم، ولو ورثتهم لورثت أهل دينهِ، وإنَّما ورثت ولدهُ، لأنَّهُ يجر ولاءهم إلى معتقهِ" انتهى [كلامه] (¬2). والثالث: أنَّهُ يرثهُ ولدهُ ووالدهُ خاصة، وهي رواية ابن القاسم عن مالك. والرابع: أنَّهُ يرثهُ أخوهُ إن لم يكُن له ولد ولا والد، وهي رواية ابن القاسم عن مالك أيضًا. والخامس: أنَّهُ يرثُهُ كُلِّ مَنْ يرث الرجل المُسلم مِن قرابتهِ، وهو قول أصبغ وابن القاسم وابن عبد الحكم. واختلف إذا لم يكُن لهُ وارث مِن قرابتهِ، هل يُصر ميراثُهُ إلى بيت المال [أو إلى من طلبه من النصارى على قولين. أحدهما: أنه يصرف ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: قوله.

ميراثه إلى بيت المال] (¬1)، ولا يدفع لغير مَنْ ذكرنا؟ على الخلاف الذي قدَّمناهُ، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنَهُ يدفع لكلِّ مَنْ طلبهُ مِن النصارى، ولا يكلف البينة على أصل دينهم، وكيف توراثُهم عندهم، ولو كُلِّفوها لم [يأتوا] (¬2) إلا بمثلهم، فمن أخذهُ منهم، وقال: هكذا موراثتنا أعطيه. فإن أسلموه ولم يطلبه منهم طالب أوقفناه في بيت المال معزولًا ولا يكون فيئًا حتى يرث الله [الأرض] (¬3) أو يأتى له طالب وهو قول المخزومي في "العُتبية"، وبقية أقوال المسألة كُلّها في كتاب "ابن الموّاز" و"كتاب ابن سحنون" رضي الله عنهما [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يأتوها. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من جـ، ع، هـ.

المسألة الرابعة فيمن شهد بعتق عبده، فردت شهادته فيه، ثم اشتراه، ثم اعترف أن البائع أعتقه،

المسألة الرابعة فيمن شهد بِعتق عبدِه، فرُدَّت شهادتهُ فيهِ، ثُمَّ اشتراهُ، ثُمَّ اعترف أن البائع أعتقهُ، وجحد لهُ العتق، فلا يخلو مِن أن يموت العبد، والسيد حىّ، أو يُتلف السيِّد أولًا ثُمَّ مات العبدُ بعدهُ. فإن مات العبد أولًا، والسيد حيٌ وترك مالًا، كان للمشترى الأقل ممَّا ترك أو الثمن. فإن كان ما ترك هو أقلُّ لم يكُن لهُ سواهُ، لأنَّه لو مات، ولم يترك شيئًا، لكان لا شىء لهُ. وإن كان الثمن أقل: أخذهُ المُشترى، ويوقف الفضل. فإن رجع البائع إلى إقرار المشتري وتصديقه في العتق، كان لهُ الفضل، وإلا تصدَّق بهِ، لأنَّهُ اعترف أنَّهُ لا شىء له فيهِ، والمشتري كذلك. فإذا تصدَّق بهِ كان أجرهُ لمن هو [له] (¬1) في علم الله تعالى. فإن مات السيِّد أولًا، ثُمَّ مات العبدُ بعدهُ، فلا يخلو السيد مِن أن يترك مالًا أو لم يترك شيئًا. فإن ترك مالًا، فلا يخلو ورثتهُ مِن وجهين: أحدهما: أن يكونوا رجالًا ونساءً. والثاني: أن [يكونوا] (¬2) نساءً. فإن كانوا رجالًا ونساءً، فلا يخلو مِن وجهين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يكون.

أحدهما: أن يكونوا بنين وبنات أو يكونوا بنات وعصبة، فإن كانوا رجالًا عصبة أو بنين وبنات، هل يأخذ المشتري جميع الثمن أو إنَّما يكون لهُ الأقل؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: إنهُ يأخذ جميع الثمن, لأنَّهم مُقرُّون أن الذي أخذ الأب ديْنٌ عليهِ، ولا ميراث إلا بعد قضاء الدَّيْن، وهذا القول حكاهُ اللخمى في "المذهب". والثانى: أنَّ له الأقل مِن ثلاثة أشياء، ما خلفهُ العبد أو ما خلفهُ السيِّد أو الثمن. فإن كان الذي خلفهُ المولى أقل، قال ورثة السيِّد لحر على ما مات عليهِ أبونا: أنَّهُ لم يعتق. فإن كان الثمن أقل، قالوا: نحنُ نُصدِّقُك، وخذ ثمنك. وإن كان الذي خلَّفهُ السيِّد أقل، كان لهم تصديقهُ أيضًا، ويقولون لهُ إنَّ دينك في ذمة أبينا, وليس لهُ إلا مالهُ: فإن كان الورثة إناثًا وعصبة، فلا يخلو الإناث مِن أن يستوعبن الميراث أو لا يستوعبنهُ: فإن استوِعبن الميراث، كالبنات والأخوات للأب أو شقيقة: فلا شىء للمشتري في هذا الوجه، لا في تركة السيد، ولا في تركة العبد. لأنَّ حقَّهما إنَّما يجب في مال السيد على دعواهُ، والإناث لم يصدقنهُ، ولا يرثن مِن ولاء ما أعتق الأب. ولذلك لم يأخذ مِن متروك الأب شيئًا، وإنَّما لم يأخذ مِن تركة العبد.

لأنَّ العصبة الذين يرثون [الولاء] (¬1)، يقولون لهُ: إنَّما وجب حقك في ذمة السيد، لا في متروك العبد الذي هو لنا، ونحنُ لا نأخذ مِن مالِ السيد شيئًا، فلذلك منع مِن أن يأخذ مِن مال السيد، ومِن مال العبد. وإن مات السيِّد، ولم يترك شيئًا: فلا شىء للمشترى في مال العبد، سواءٌ كان ورثتهُ عصبة أو بنين. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الخامسة في ميراث الحملاء والمتحملين

المسألة الخامسة في ميراث الحملاء والمتحملين: ومعنى الحملاء: المسببين مِن أرض الحرب [ومعنى المتحملين: المنتقلين من أرض الحرب] (¬1)، وهاجروا إلى دار الإسلام، وقد أسلموا، ولا تخلو دعواهم المناسبة مِن ثلاثة أوجه: أحدها: أن يدّعى بعضهم بُنوَّة بعض. والثانى: أن يدعى بعضهم أبوَّة بعض. والثالث: أن يدعى بعضهم أخوة [بعض] (¬2). والجواب عن الوجه الأول: إذا ادّعى بعضهم بُنوَّة بعض، مثل: أن يدَّعى بعضهم أنَّ هذا ابنهُ، هل يُصدَّق أو يُكلَّف البيِّنة؟ قولان قائمان مِن "المُدوّنة": أحدهما: أنَّه يُصدَّق، لأنَّهُ مِن باب استلحاق الولد، وقال ابن القاسم في كتاب "أمهات الأولاد": فيمن استلحق مجمولًا مِن بلاد الشرك، وقد عُرف أنَّهُ دخل تلك البلاد: أنَّه يُصدَّق ويلحق به، فهذا الذي قد حمل معةُ مِن بلدٍ [واحد] (¬3) أولى أن يُصدَّق [ويلحق] (¬4) به"، وهذا ظاهر. والثاني: أنَّهُ لا يُصدَّق إلا ببيَّنة، كغيرهِ مِن القرابة، وهو ظاهر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

"المُدوّنة" في كتاب "أمهات الأولاد"، وكتاب الولاء، وهو قول القاضى أبى محمد عبد الوهاب، وأبى الحسن بن القصار. وينبني الخلاف على الخلاف: في الأمر المُبهم الذي لم يتبيَّن فيهِ صدق المُدَّعى ولا كذبهُ، [هل يحمل فيه على الصدق، حتى يتبيَّن كذبهُ أم لا؟ وفي ذلك قولان قائمان في المدونة، وقد نبَّهنا على مفهومهما في كتاب "أمهات الأولاد": إذا لم يتبين كذبهُ ولا صدقهُ] (¬1) في الاستلحاق. والجواب عن الوجه الثاني والثالث: إذا ادّعى بعضهم أُبوة بعض أو أخوتهُ أو ادعى ما عدا ذلك مِن القرابة، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون الدعوى والموت بفور دخولهم إلينا. والثاني: أن يكون ذلك بعد طول، فإن كان بفوْر دُخولهم بلاد الإسلام، فمات بعضهم، فوقع التداعى في النسب، حراسةً على حوز الميراث الذي هو أعلى المكاسب وأنفس المطالب، فالنسب لا يثبت في [هذين الوجهين] (¬2) إلا بالشهادة اتفاقًا. ثُمَّ لا تخلو الشهادة مِن أن تكون منهم أو مِن غيرهم: فإن كانت مِن غيرهم، مِمن كان معهم، وعرفهم في بلادهم مِن المسلمين، فلا يخلو [هؤلاء المسلمون الذين هم معهم] (¬3) مِن أن يكونوا أسارى أو تُجارًا أو مَنْ دخلها لمصالح المسلمين: فإن كان أسارى: فشهادتهم جائزة، مع وجود العدالة اتفاقًا. وإن كانوا تُجارًا، فلا يخلو دُخولهم بلاد الشرك مِن أن يكونوا على ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) في هـ: هذا الوجه. (¬3) في أ، هـ: المسلم الذي هو معهم.

معنى الغلبة والاضطرار، أو ذلك على معنى الترفُّه والاختيار. فإن كان دخولهم غلبة اضطرارًا، كالريح رمتهم إلى بلاد الشرك مِن غير قصد فشهادتهم جائزة اتفاقًا أيضًا. فإن كان دُخولهم ترفهًا واختيارًا، فلا يخلو مِن أن يُحدثوا توبة وخيرًا وصلاحًا، أو لم يُحدثوا شيئًا: فإن أحدثوا توبة بعد الإياب، وأخذوا على أنفسهم بالعقاب: فشهادتهم جائزة اتفاقًا أيضًا. وإن تمادوا على الحالة الأُولى، ولم تستشعر أنفسهم الندم على ما زلَّت بهم القدم، فهل يكون ذلك جُرحةً في شهادتهم أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدوَّنة": أحدهما: أنَّ ذلك جرحهَ، تُبطل الشهادة، وهو مذهب سحنون، وهو ظاهر قول مالك في كتاب "التجارة إلى أرض الحرب". والثاني: أنَّ ذلك ليس بجرحة، ولا تبطل به الشهادة، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب أمهات الأولاد"، حيثُ جوَّز شهادتهم إطلاقًا، وهو ظاهر قوله في "كتاب الجهاد" أيضًا: فمن مات عندنا مِن أهل الحرب أو قُتل، حيث قال: "تُدفع ديتهُ إن قتل، ومالهُ إلى ورثتهِ في [بلادهم] (¬1) "، وظاهر قوله: أنَّ المال يُحمل لهم إلى بلادهم، فقد أباح الدُخول إلى بلادهم، لمعنى ليس بواجب، إذا كان الإمام غير قادر على أن يكتب إليهم، ليقدموا حتى يقبضوا مالهم. فأمَّا إن كان دخولهم بلاد العدو، لمصالح المسلمين، كمفاداة الأسارى ¬

_ (¬1) في أ: بلاده.

أو بعثهم الإمام لأمرٍ بين المسلمين والمُشركين، كعقد الهُدنة: فلا خلاف أيضًا أنَّ ذلك لا يُؤثر في شهادتهم. فإن كانت الشهادة مِن المتحملين، فلا يخلو مِن وجهين: إمَّا أن يكونوا في عددٍ يسير أو في عددٍ كثير. فإن كانوا في العدد الكثير والجمِّ الغفير الذي لا يُحصيهِ عدد ولا يحويهِ [مكان] (¬1): فلا خلاف أنَّ قولهم مقبول، وتصديق بعضهم بعضًا فيما يدَّعيه مِن المُناسبة معقول ومبذول مِن غير اعتبار العدالة، وهذا [من] (¬2) التواترَ الذي يُفيد العلم الضرورى، بل لا يعتبر فيه الإسلام أيضًا عند أئمة الأصوليين وأمَّا إن كان عددًا يسيرًا [وثلة ذليلة] (¬3) وشرذمةً قليلة، كالعشرين على ما نصَّ عليهِ ابن القاسم في العُتبيَّة، أو فوق ذلك [على] (¬4) ما ذهب إليهِ سحنون، فلا تخلوا شهادتهم مِن وجهين: أحدهما: إمَّا أن يدخل فيه أشهد لي وأشهد لك، مِثل: أن يشهد هؤلاء لهؤلاء، وهؤلاء لهؤلاء: فلا خلاف في هذا الوجه أنَّ الشهادة باطلة مردودة. وإن شهد منهم شاهدان على غيرهم، مِن غير أن يشهد لهُ مَنْ شهد هو لهُ، فهل تجوز شهادتهم أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين مِن "المُدونّة": أحدهما: أن شهادتهما مردودة لا تجوز، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. ¬

_ (¬1) في هـ: تعد. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

والثانى: أنَّ شهادتهم جائزة مقبولة [وهو قوله] (¬1) في مسألة [المسلوبين] (¬2) في كتاب المحاربين. وسبب الخلاف: اعتبار الظنة ولحوق التُّهمة. فمن رأى أنَّ التَّهمة تلحقهم، والظنة تُدركهم بدخول حمية البلدية، وقوة دواعى العصبية التي [تبطل] (¬3) بها شهادة [العادل الأعدل] (¬4) , وإن كان أورع مِن أحمد بن حنبل، مِثل شهادة الأب لابنهِ، والابن لأبيهِ، قال: ببطلان الشهادة، ومرة رأى ما بهم مِن الضرر الناجز والحرج الحافز إلى كمال النعمة وتمام المنَّة بجمع الشمل وضم الفرع للأصل، حتى يتباشروا ببركة الإسلام لجمع شتاتهم وقيل مُرادهم على الكمال والتمام، قال: بجواز الشهادة وقبولها. ولا خلاف في اعتبار العدالة. وهذا كُلهُ إذا كانت الدعوى بفوْر الدُخول. وإن طال عليهم الأمد، ومرت عليهم السنون في توطين البلد، والولد في أثناء ذلك يُكنى بالولد والتناسب مستفيض بينهم بالأبوة والبُنوَّة مِن غير نكير، مِمن يرد عليهم مِن المعارف والجيران مِن أهل بلادهم، ومَنْ جاء صُحبتهم حتى حازوا أنسابهم، وقرَّروا أصولهم: فهذا لا خلاف فيهِ، أنَّ مَن مات منهم يرثُهُ [من كان ينسب إليه] (¬5) ويُناسبهُ مِن غير أن يُكلف ثبوت النسب، ولا أثبت مِن اشتهارهم مِن إضافة بعضهم إلى بعض، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: المسلمين. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: العدل. (¬5) سقط من أ.

وهو مذهب "المُدوَّنة" في "كتاب القذف": في العربى إذا قدم بلدًا مِن البُلدان، فسكنها وطال مكثهُ فيها، وهو يكتب شهادته فلان ابن فلان [الفلانى] (¬1)، حتى حاز نسبه. فمن نفاهُ بعد ذلك [عن] (¬2) نسبه حد للقذف، لأنَّهُ قَطَعَ نسبهُ، ومِن طريق المعنى. فإن كان الحيازة عاملة في الأموال لاتفاق المذهب، على اختلافهم أنواعها، فبأن تكون عاملة في الأنساب أولى وأحق. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) زيادة من جـ، ع، هـ. (¬2) في أ: من.

المسألة السادسة في الرجل إذا مات، وترك ولدين مسلما ونصرانيا،

المسألة السادسة في الرجل إذا مات، وترك ولدين مسلمًا ونصرانيًا، كُل [واحدٍ منهما] (¬1) يدَّعى أن الأب [مات] (¬2) على دينه، فلا يخلو من [ثلاثة أوجه] (¬3): أحدهما: أن يتفقا أنَّهُ كان مُسلمًا. والثانى: أن يتفقا أنَّ أصلهُ كان كافرًا. والثالث: أن يُجهل أمره. فالجواب عن الوجه الأول: إذا اتَّفقا أنَّ أصلهُ كان مُسلمًا وشهدت البيِّنة بذلك، ثُمَّ اختلفا فيما مات عليهِ بعد ذلك، واحدٌ يقول: "مات على ما عليهِ عاش"، والآخر يقول: "مات وهو كافر"، فلا يخلو من أن تقوم عليهما بيِّنة أو لا بيِّنة لهما. فإن قامت لكلِّ واحدٍ منهما بينةٍ على ما يدَّعيه، وتكافآ في العدالة: فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ ذلك تهاتر ويقضى بأعدل البينتين. فإن تساوتا سقطتا، ويُحكم لهُ بما كان يُعرف مِن الإسلام، والأصل استصحاب الحال. والثاني: أنَّهُ يُقضى عليه بالبينةِ الزائدة التي زادت, لأنَّها نقلتهُ عمَّا كان العرف، ثمَّ يكون مالهُ لجميع المسلمين، لأنَّهُ مرتد. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ، هـ: وجهين.

والجواب عن الوجه الثاني: إذا قامت البيِّنة، أنَّهُم لم يزالوا يعرفونهُ أنَّه [كافر] (¬1)، فشهدت عليهِ البيِّنة أنَّهُ مات على ما عليه عاش، وشهدت أخرى أنَّهُ مات مسلمًا، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ ذلك تكاذب، ويقضى بأعدل البينتين، وإن تكافأتا في العدالة سقطتا، وبقى على ما كان بهِ يُعرف مِن النصرانية. والثاني: أنَّهُ يقضى بالبينة الزائدة, لأنَّها نقلتهُ عن الحالة الأولى. والجواب عن الوجه الثالث: إذا جُهل أصلهُ، وما كان عليهِ عاش، فادّعى كُلُّ واحدٍ منهما أنَّهُ مات على دينهِ، فلا يخلو مِن أن يكون لهما بينة أو لا بيِّنة لهما: فإن لم تكن لهما بيِّنة، فلا يخلو أحدهما مِن أن يكون تولَّى كَفَنهُ ودفنهُ بمحضر مِن صاحبهِ أم لا: فإن تولَّى المُسلم كَفَنُهُ ودفنهُ والصلاة عليه، بمحضر النصراني، من غير نكير ولا نهر ولا سطوة للمسلم على النصراني فهل يكون ذلك دليلًا على أنَّهُ مات مُسلمًا، ويُقبل قول المسلم؟ على قولين: أحدهما: أنَّ الصلاة لا تكون شهادة، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أنَّ الصلاة شهادة. فإن تولَّى النصرانى مواراته بمحضر المُسلم مِن غير نكير، كان دليلًا على أنَّه مات كافرًا، وهو أبين مِن صلاة المسلم عليهِ بمحضر النصراني، ثُم يُسأل النصراني عن أصل [أبيه] (¬2): فإن قال: كان كافرًا، [حتى] (¬3) مات على ما عليهِ عاش، كان ¬

_ (¬1) في أ: مات كافرًا والصواب ما أثبتناه من ب. (¬2) في أ: دينه. (¬3) سقط من أ.

المال [له مع] (¬1) ما قام لهُ [من] (¬2) دليلُ الحال. فإن قال: أصلُهُ مُسلم، ثُمَّ مات كافرًا، كان المال للمُسلم، لأنَّهُ مُرتد على ما يدعيهِ: فالذي يجب أن يكون المال لجميع المسلمين بزعمه، إلا أنَّ دعواهُ لغيرهِ لا يقبل منهُ. فإن أقام كُلُّ واحدٍ منهما بيَّنة على دعواهُ، فإنَّهُ يقضى بأعدلهما. فإن تكافآ، هل يُقسم المال بينهما أو يكون للمسلم؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدوَّنة" في "كتاب الولاء" و"كتاب الشهادات": أحدهما: أنَّ المال بينهما نصفان، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنَّ المال للمسلم، لأنَّ بينتهُ قد زادت حين زعم أنَّهُ مُسلم، وهو قول غيرهِ. واختلف إذا كان معهما أخٌ صغير، ما الذي يأخذ كُلُّ واحدٍ منهما؟ على قولين: أحدهما: أنَّهُ يأخذ مِن كُلِّ واحدٍ نصف ما بيده، ويصير لهُ النصف وحدهُ، ويُجبر على الإسلام، ويكون لهما النصف بعد إيمانهما، وهو قول أصبغ. والثاني: أنَّهُ يكون بينهم المال أثلاثًا، فإن خلَّف الميت ستين دينارًا، كان لكلِّ واحدٍ مِن الأولاد عشرون دينارًا, لأنَّ المسلم يقول: الميراث بيني وبين أخي الصغير نصفان والنصراني غاصب، والغصب علَّى، وعليهِ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

[على] (¬1) قدر أنصبائنا في المال مما حصل لنا منه كُنَّا فيهِ شركاء، والنصراني يقول مِثل ذلك، وتساوت دعاويهم [في المال] (¬2): فيُقسَّم بينهما أثلاثًا، وبه قال بعض المتأخرين، فهل يُعجَّل ذلك المال للصبى أو يُوقَّف إلى بُلُوغهِ؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن يُعجَّل لهُ في الحال، وهو قول أصبغ. والثاني: أنَّهُ يوقف ما صح لهُ من المال، حتى يبلغ الصبى، فيدعى مثل دعوى أحدهما، فيأخذ ما وقف لهُ مِن سهمهِ [ويرد إلى الآخر ما وُقِّف مِن سهمهِ] (¬3)، وهو قولهُ في كتاب محمد. فإن مات قبل بلوغهِ، ولهُ ورثة يُعرفون، هل يكون ذلك المال لورثتهِ أو يُرد إلى الإخوة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ إذا مات اقتسموا مالهُ، وهو قول سحنون. والثاني: أنَّهُ يكون لورثتهِ إذا كان لهُ ورثة معروفون، وهو قولهُ في كتاب محمد. والحمدُ لله وحدهُ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من هـ.

المسألة السابعة في ميراث ولد الملاعنة وولد الزنا

المسألة السابعة في ميراث ولد المُلاعنة وولد الزنا: قال مالك رضي الله عنه: "ولد الزنا لاحقٌ بأُمِّهِ، فإذا مات ورثت منهُ الثلث، وما بقى فهو إليها إن كانت معتقة، وإن كانت عربية فَلِبيت مال المسلمين". وكذلك "المُلاعنة": إلا أنْ يكون لهُ أُخوة مِن أُمَّهِ، فيأخذون الثُلُث، ويردُّون للأُم السُدُس، ثُمَّ يكون ما بقى لمن ذكرنا. ولا خلاف في: توأمى المسيبة والمغتصبة والمُتحملة والزانية: أنَّهما يتوارثان بالأب والأُم، لأنَّ أُمهما لم يتقدمَّ عليها الرِّق لأحد، ويُحملان على أنَّها لأبٍ حتى يتحقق خلاف ذلك. ولا خلاف عندنا في: توأمى الزانية: أنَّهما لا يتوارثان مِن قِبَلِ الأب إلا خلافًا شاذًا رُوى عن الداودى في "كتاب الأموال": "أنَّ ولد الزنا يُلحق نسبهُ إلى الزانى، إنْ عُلم أنَّهُ منهُ". قال: "وقد أجمع أهل العلم على أنَّ ولد الزنا يرث أُمَّهُ وترثُهُ". قال: "لا فرق بين الأُم والأب، وإنَّما منع ميراث العاهر، لأنَّهُ لا نعلم حقيقة ذلك، هل هو منهُ أو مِن غيره". وما قالهُ باطلٌ قطعًا, لأنَّهُ خلاف الظاهر. فأمَّا توأم المُغتصَبة والمُسيبة الملاعنة، هل يتوارثان بأنَّهما أخوة أشقاء أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهما يتوارثان بالأب والأُم، وهو قول ابن القاسم في

"المُدوَّنة" في المسيبة [وقول سحنون في المسيبة] (¬1) والمُلاعنة، وهو قول مالك في المُغتصَبة في "مختصر ما ليس في المختصر". والثاني: أنَّهما يتوارثان بالأُم خاصة، وهو قول مالك في "المُدوَّنة"، في توأم المُلاعنة، وهو قول المُغيرة في المُسيبة، وهو قول سحنون في المُغتصبة. والحمدُ لله وحدهُ. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الثامنة في ميراث اللقيط والمنبوذ

المسألة الثامنة في ميراث اللقيط والمنبوذ: واختلف في ميراث اللقيط والمنبوذ، هل هما عبارتان عن معبَّرٍ واحد أو هما عبارتان عن مُسميين مختلفين: فقيل: "إنهما اسمان لمسمى واحد، [فإن اللقيط هو الملتقط حيث وجد أعنى] (¬1) أي صفة وجد في صغرهِ, لأنَّهُ فاعل بمعنى مفعول، كقولهِ تعالى: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أى: مدفوق. والمنبوذ: الذي وُجد منبوذًا مِن أول ما وُلد". وقيل: "إنَّ اللقيط: هو ما التُقط في الصغر مِن الشدائد [والجلادة] (¬2)، ولا يُعلم لهُ أب". وقال مالك: "ما يُعلم منبوذا إلا ولد الزنا". وفائدة الخلاف [وثمرته] (¬3): إذا استلحقهُ أحد، هل يُلحق بهِ أم لا وفيمن قذفهُ، هل يُحدُّ أم لا؟ فإذا ثبت ذلك: فلا يخلو مِن وجهين: أحدهما: أن يلتقطهُ مُسلم. والثاني: أن يلتقطهُ نصراني. فإن التقطهُ مُسلم، فلا يخلو مِن أن يلتقطهُ مِن قُرى ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

الإسلام أو مِن قُرى أهل الشرك: فإن التقطهُ مِن قُرى أهل الإسلام، فإنَّهُ يكون حُرًا، وولاؤهُ لجميع المسلمين، وعليهم نفقتهُ كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهُ. ومن ادّعى أنَّهُ ولدهُ فاستلحقهُ، هل يُلحق بهِ أم لا؟ فلا يخلو الذي استلحقهُ مِن أن يكون رجلًا أو امرأة. فإن كان رجلًا، وقامت لهُ عليهِ بيِّنة، فإنَّهُ يُلحق به ويثبت نسبهُ منهُ. وإن لم تكُن لهُ بيِّنة، فلا يخلو مِن أن يقوم لهُ دليل الحال أم لا. فإن قام لهُ دليل الحال، كرجلٍ لا يعيش لهُ ولد، ويسمعُ قول الناس "إذا طُرح عاش"، هل يُلحق به أم لا؟ على قولين قائمين مِن "المُدوَّنة منصوصين: أحدهما: أنَّهُ يُلحق بهِ ويصدق، وهو قول ابن القاسم في "المُدوَّنة". والثاني: أنَّهُ لا يُصدَّق إلا ببِّينة، وهو قول غيره في "المُدوَّنة"، حيث قال: "إذا ثبت أنَّهُ لقيط، فلا يُقبل فيه دعوى أحد إلا ببِّينة". وعلى القول بأنَّهُ يُصدَّق، هل ذلك بيمين أو بغير يمين؟ قولان قائمان مِن "المُدوَّنة": وسببُ الخلاف: دليلُ الحال، هل يقوم [مقام الشاهدين أو] (¬1) مقام الشاهد الواحد؟ وإنَّما قُلنا على [مذهب] (¬2) ابن القاسم: إنَّهُ يُلحق بهِ، لأنَّ العُرف ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) في ع، هـ: قول.

أمرٌ يُقضى بهِ، وإن كان [أمرًا] (¬1) [فاسدًا] (¬2). فإن [ادعتهُ] (¬3) المرأة، واستلحقتهُ بها، هل يُلحق بها أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ لا يُلحق بها، وهو قول ابن القاسم [في المدونة] (¬4)، لأنَّها إنَّما استلحقتهُ بغيرها. والثاني: أنَّهُ يُلحق بها، وإن قالت: هو مِن الزنا، وهو قول أشهب في "الموازية". والثالث: أنَّهُ يُلحق بها، وتُصدَّق إن ادعت أنَّهُ مِن زنا, ولا يُلحق بها إن ادّعت أنَّهُ مِن زوج إلا أن يدعيه الزوج إن كان حيًا، وهو قول محمد. وعلى القول بأنَّهُ يلتحق [به] (¬5) في قيام البيَّنة على الوفاق أو مع دليل الحال، على الخلاف: هل يرجع عليهِ المُلتقط بما أنفق أم لا؟ فلا يخلو الأب في حال النفقة مِن أن يكون مُوسرًا أو معسرًا. فإن كان معسرًا: فلا شىء لهُ بالاتفاق, لأنَّ نفقة الأولاد ساقطة عن الأب بالعُسر. فإن كان مُوسرًا، فلا يخلو مِن أن يتعمد طرحهُ أو لا يتعمد. فإن تعمَّد الطرح، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّهُ يُتبع بالنفقة، وهو قول ابن القاسم في المُدونة. ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: ادعت. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

والثانى: أنَّهُ لا يُتبع بشىءٍ، لأنَّ نفقتهُ عليهِ احتسابًا، كالنفقة على اليتيم، ويكون بمنزلة مَن أنفق على يتيمٍ، يرى أنَّهُ لا مال لهُ، ثُمَّ ظهر لهُ مالٌ، فإنَّهُ لا يرجع عليهِ بشىءٍ، وهو قول أشهب في ["المُدوَّنة"] (¬1). فإن كان الأب لم يتعمَّد طرحةُ: فلا إشكال أنَّهُ لا شىء عليهِ، وهو نصُّ قول ابن القاسم في "المُدوَّنة". فإن التقطهُ من قُرى أهل الشرك، التي هى في أرض الإسلام وحُكمهم، فما حُكمُهُ؟ على قولين: أحدهما: أنَّهُ مشرك، وهو قولهُ في كتاب "محمد". والثاني: أنَّهُ يكون مسلمًا، وإن التقطهُ مِن كنيسة، وهو قول أشهب في "الموَّازية"، قال: "كما أجعلهُ حُرًا، كذلك يكون مُسلمًا". فإن التقطهُ نصراني: فإن كان مِن قُرى [الإسلام] (¬2)، فالتقطهُ، فإنَّهُ يكون مُسلمًا. وإن التقطهُ مِن قُرى أهل الشرك، فإنَّهُ يكون مُشركًا. فإن التقطهُ مِن قرية فيها [مسلمون ونصارى] (¬3)، فقولان: أحدهما: أنَّهُ يكون مُشركًا، إن التقطهُ الكافر، وإن التقطهُ المُسلم يكون مُسلمًا، وهو قولهُ في "الموَّازية". والثاني: أنَّهُ لا يكون إلا مُسلمًا، وإن كان فيها مِن المسلمين الاثنان والثلاثة، وهو قول أشهب في "الكتاب المذكور". والحمدُ للهِ وحدهُ. ¬

_ (¬1) في هـ: الموازية. (¬2) في هـ: المسلمين. (¬3) في أ: مشركون.

المسألة التاسعة في اختلاف ورثة الكافر في ميراثه، وكيف إن أسلموا؟

المسألة التاسعة في اختلاف ورثة الكافر في ميراثهِ، وكيف إن أسلموا؟ ولا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكونوا جميعهم على الكُفر. والثانى: أن يُسلم بعضهم قبل القسمة. والثالث: أن يُسلموا جميعًا. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كانوا كُلُّهم على الكُفر، فاختلفوا في الميراث، أيرتفعون إلى حُكم المسلمين، فإنَّهُ بالخيار بين الحكم والترك. فإن حكم بينهم حكمًا بما ثبت عندهُ مِن مواريثهم، بعد كشفهِ عن ذلك، وبحثهِ عن كتابة توارثهم. والجواب [عن الوجه الثاني] (¬1): إذا أسلم بعضهم قبل القسمة، فإنَّهُ يحكم بينهم، ولا يرد إلى حُكم النصارى، ولا خيار لهُ في هذا الوجه، لأنَّهُ حكمٌ بين مسلم ونصراني، ولا ينقلهم عن مواريثهم، وإنَّما يمنعون مِن أن يُردُّوا إلى حكم النصارى، لما في ذلك مِن إذلال المُسلم، ولأنَّهم لا يُؤمنون مِن الحَيْفِ والميل عليهِ، وقد وقع في روايات مختلفة، كُلُّها راجعة إلى معنى واحد. قال في بعضها: "وإن كان الورثة مُسلمين ونصارى: حكم بينهم بحُكمِ الإسلام، ولم أنقلهم عن مواريثهم، ولا أردُّهم إلى أهل دينهم"، وهي رواية ابن عتاب. ¬

_ (¬1) سقط من هـ.

وفي رواية يحيى بن عمر: "فحكم بينهم بحكم دينهم"، وهذا كُلُّهُ أمرٌ مُتقارب. ومعنى قول: "حُكم بينهم بحكم دينهم" أي: فيهم وإن بقوا على مواريثهم في الكفر، وهو قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهُ في مسلمين ونصارى حاما إليهِ في ميراث، فقال: "تُقسَّم بينهم على فرائض الإِسلام، فإن أبوّا، فردُّوهم إلى أهل دينهم"، كذا في رواية عيسى عن ابن المرابط، وعند ابن عتاب: "إلى أمر دينهم"، وهذه أصحُّ، أي: "أُقسم بينهم على ورثة الكفر"، ومعناهُ: "أنَّ بعضهم أسلم بعد الموت، فيُقسَّم ميراثهُ على ورثة الكفر". ومعنى قولهُ: "إلى أهل دينهم" أي: إلى أمر دينهم، كما قال في الرواية الأولى. فإذا حُمل على هذا التأويل: يكون وفاقًا للمذهب [ويحتمل أنه أراد أن يحكم أولًا أنه لا ميراث للمسلمين معهم ثم يرد الباقون من النصارى إلى أهل دينهم لكونهم أسلموا قبل موت أبيهم ويكون قوله وفاقًا للمذهب] (¬1) أيضًا. والجواب عن الوجه الثالث: إذا أسلموا جميعًا قبل قسمة التركة، هل تُقسَّمُ بينهم على قسمة الإِسلام أو على قسمة النصارى؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّهُ يُقسَّم بينهم على قسمة المسلمين، وهي رواية أشهب عن مالك، وهو قول ابن نافع في "المُدوَّنة"، وهو قول مُطرف وابن الماجشون في "كتاب ابن حبيب". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثاني: أنَّهُ يُقسَّم بينهم على قسمة أهل الشرك جُملةً، كانوا أهل كتاب أو غيرهم، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "العُتبيَّة": في المجوس إن كانوا أهل ذمَّة، وأسلم [أولادهُ] (¬1) قبل أن يُقسَّم الميراث، حيثُ قال: "فإنَّهُ يُقسَّم على قسم الشرك". والثالث: التفصيل بين أهل الكتاب وغيرهم، فأهل الكتاب يُقسَّمون على قسم النصارى إذا أسلموا، والمجوس يُقسمون على قسم الإِسلام إذا أسلموا، وهو قول مالك في المُدوَّنة وبهِ أخذ ابن القاسم. وسبب الخلاف: اختلافهم في تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما دار قسِّمت في الجاهلية، فهي على قسم الجاهلية وأيما دارٍ أدركها الإِسلام لم تُقسَّم، فهي على قسم الإِسلام". فقال معناه: "في غير الكتابيين، وذلك مِن باب تخصيص العموم بالقياس، لأنَّ أهل الكتاب [عندهم] (¬2) شريعة يتبعونها، فوجب أن تُقسم مواريثهم على ما وجبت عليهِ عندهم يوم مات الميت، وذلك لا يُسقطهُ إسلامهم، والمجوس لا كتاب لهم، ولا شريعة عندهم فيرجعُون إليها ويُحملون على مُقتضاها: فكان مِن ضرورتهم الرجوع إلى قسم الإِسلام، والعمل بمقتضاهُ. ومن حَمَلَ الخبر على عمومهِ، قال لا فرق بين أهل الكتاب ولا غيرهم، لقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فهي على قسم الإِسلام"، فهي منهُ جنوح إلى أن العموم لا يُخصَّص بالقياس. ومَنْ رأى أنَّهم يُقسِّمون على قسم أهل الشرك، كانوا أهل كتاب أو ¬

_ (¬1) سقط من هـ. (¬2) سقط من أ.

غيرهم، يقول: "معنى الخبر: "أن يكون على قسمة الإِسلام"، معناهُ: أن يتولاهُ المسلم مِن غير أن ينقلهم عن قسمة أهل الشرك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سنَّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب"، فكان ينبغى مساواتهم في الجميع. والحمدُ للهِ وحدهُ. وصلى الله على نبينا محمَّد خيرة خلقهِ، وعلى آله وأزواجهِ وذريتهِ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا وصلاةً دائمة. تمَّ الكتاب بحمد اللهِ وعونه في سابع عشرى ذى الحجة مِن سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة. كتبهُ بخطِّهِ لنفسهِ عبد الله بن عمرو بن يُوسف الزواوى المالكى. ثُمَّ لمِن شاء الله بعدهُ، والمسؤل مِن إحسان مَنْ نظر في هذا الكتاب أن يدعو لكاتبهِ بالمغفرة. وهذا آخر المجلد الأول. ويتلوهُ في أول المجلد الثاني "كتاب الصرف".

مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحلِّ مشكلاتها تأليف أبي الحسن علي بن سعيد الرجراجي تقديم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور علي علي لُقَم اعتنى به أبو الفضل الدّمياطي أحمد بن علي الجُزءُ السَّادس مركز التراث الثقافي المغربي دار ابن حزم

حُقُوقُ الطبع محفوظةٌ الطبعة الأولى 1428هـ - 2007م ISBN 9953 - 81 - 431 - 7 الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها مركز التراث الثقافي المغربي الدار البيضاء - 52 شارع القسطلاني - الأحباس هاتف:442931 - 022/ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب:6366/ 14 هاتف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها (6)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كتاب الصرف

كتاب الصرف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. كتاب الصرف مأخوذ من التلقب، ومنه صرف الدرهم، وتصرف الأمور: أي تقلبها وانتقالها من شيء إلى شيء. وكذلك مصرف الذهب والفضة: قلب عين بأخرى، ويسمى فاعل ذلك صيرفيّا. وقد يكون من الصريف: وهو الصوت؛ لكون الدنانير والدراهم تصوت عند تحريكها وتعديدها أو وزنها، ومنه قوله: فسمعت صريف القلم، وقد يكون من الوزن وهو أصلها، والصرف: الوزن؛ وهو أحد التفاسير في قوله عليه السلام: "لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا" (¬1)، أي وزنًا ولا كيلًا. قاله ابن دريد. والصرف من أنواع البيوع، وهي تسعة أنواع: بيع ذهب بذهب، أو فضة بفضة، أو عرض بعرض، أو عرض بعين وكلاهما نقدًا أو إلى أجل أو أحدهما نقدًا والآخر إلى أجل، أو ذمة بذمة. فإن تبايعا ذهبًا بذهب أو فضة بفضة يسمى مراطلة، ولا يجوز فيها التأخير من الطرفين أو من أحدهما. فإن بيع ذهب بفضة: يسمى صرفًا, ولا تأخير فيهما ولا في أحدهما أيضًا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6870) ومسلم (1370).

فإن بيع عرض بعرض: فإن تجانسا: يسمى بدلًا، وإن اختلفا: يسمى بيعًا. فإن تأخرا جميعًا: فلا يجوز لأن ذلك ضمان بجعل. فإن بيع عين بعرض: يسمى ذلك بيعًا ناجزًا، وإن تأخر أحد العوضين وكان ثمنًا: سمي بيعًا إلى أجل، وإن تأخر أحد العوضين وكان مثمونًا: سمي: سلمًا، وإن تأخرا جميعًا وكانا معينين: سمي ذلك سلفًا جر منفعة، وإن كانا مضمونين: سمي ذلك دينًا بدين، وهي ذمة بذمة. فهذه تقاسيم أنواع البيوع، فإذا تعذر عليك شيء من أنواع البيوع أو التبس عليك وجه من وجوهها فحدد نظرك في هذه الأنواع تجده إن شاء الله تعالى، وبه أستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وتحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها عشرون مسألة.

المسألة الأولى في تعليل الربا في النقدين

المسألة الأولى في تعليل الربا في النقدين فإذا أثبتنا ذلك انعطفنا على تحصيل المشكل المبتغى إذا عرضنا تحصيل ما يشكل على المستطرف بل على المستشرف من مسائل المدونة؛ لأن الكلام على المذهب ردًا وقبولًا عن كونه معقولًا؛ ولهذا قدمنا معلول الربا ليكون الأخذ في فصول استوفيت أصولها. فإذا ثبت ذلك فالربا في اللغة: الزيادة، وهو ربا الجاهلية؛ كانوا إذا كان لأحدهم دين على الآخر إلى أجل، فإذا حلَّ الأجل قال له: أتقضي أم تربي؟ فإذا قضاه أخذ، وإلا زاده في العدد، ويزيد له الأخير في الأجل، وهو محرم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. ولا فرق بين متبوره ومسكوكه ومسوغه في التفاضل والنساء إلا ما روي عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر والمصوغ لمكان زيادة الصياغة، وما روي عن مالك - رضي الله عنه - أنه سئل عن رجل يأتي إلى دار الصرف بورقة فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ منهم دنانير أو دراهم وزن ورقة أو ذهبه [فقال] (¬1) إذا كان لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك فأرجو ألا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم -من أصحابه- في "العتبية" "والموَّازية" وأجاز مالك أيضًا بدل الدينار الناقص بالوازن على اختلاف أصحابه في العدد الذي يجوز فيه ذلك. فإذا ثبت هذا؛ فقد اختلف العلماء في تعليل الربا في الأموال الربوية ¬

_ (¬1) سقط من أ.

منها النقدان، والكلام عليها هاهنا، وبقيتها يأتي الكلام عليه في "كتاب السلم" إن شاء الله تعالى واختلافهم على أربعة مذاهب: فمنهم من علل بالربوية وعداها إلى سائر الموزونات، وهو مذهب أبي حنيفة. ومنهم من علل بالمالية فعداها إلى سائر الأموال، وهو قول عبد الملك. ومنهم من علل بالتنمية وعداها إلى سائر الأثمان، وهو مذهب مالك. ومنهم من احترز بزيادة الجوهرية على التنمية، وهو الصحيح مذهبًا ونظرًا، وهو مذهب الشافعي - رضي الله عنهم أجمعين - لأن هذا التعليل ينتظم مطبوع هذا النوع ومصنوعه ومتبوره. وتعليل [مالك] (¬1) يتناول إلا المطبوع دون المصنوع غالبًا مع تساويهما في الحكم في تحريم الربا، وهذا يهدم فصل التأثير في العلة؛ وهو وجود الحكم بوجود العلة في موضع؛ وهو أصل كبير من أصول الفقه، وقد اختلف الحذاق من أرباب المذهب في التعليل بهذه العلة، فمنهم من أحاله قائلًا بأن العلة المستثارة إنما تعرف بإثارة المعنى المناسب المخيل، ولا إحالة بين العلة والحكم هاهنا -لا كليًا ولا جزئيًا- فلم يبق إلا الجمود على التعبد حتى إذا لاح المعنى صرنا إليه. فمن جوز التعليل به يقول: لا أسلم إحلال شرط في العلة؛ لأن التعليل بجوهرية الأثمان التي هي المقصودة في أقطار الديار وأقاصي البلاد والأمصار مع الرغبة فيها وتنافس التجار فيها؛ لخفتها في الحمل ونفاذها في النقد عند الكل، وذلك الشرف يمنع من الصرف، وهو عين المناسبة والإحالة في التعليل بجوهرية الأثمان. وعلى قضية هذا الاختلاف اختلف قول مالك في جريان الربا في الفلوس، وهذه هي العلة القاصرة عند ¬

_ (¬1) في أ: ما.

الأصوليين، وقد اختلف في التعليل بها على الجملة. والقاصرة: هي التي لا فرع لها فتتعدى إليه، فذهب الشافعي ومالك إلى القول بها، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يصح التعليل بها. وحجة أبي حنيفة: أن العلة من حقها التعدي من الأصول إلى الفصول؛ لاعتقاده أن القياس حجة شرعية عملية -لا علمية- فإذا لم يكن للتعليل بالجوهرية هذه الرتبة من العملية، اختل وضعها بتعيين أصلها إذا لم يفد بعد ذلك فائدة محققة لما كان في الأصل ثابتًا بغيرها -لا بها- فلا عملًا أفادت ولا علمًا حصلت، فتعين كونها عبثًا وأورث ذلك وهنًا في الظن إذا سرفنا في المجتهدات غلبات الظن، فإذا بطل التعليل بالثمنية: تعين التعليل في الوزنية كحصول شرطها الذي هو التعدي؛ لأنه لا يرى للعلة القاصرة فائدة غير التعدية، فإن العلة أمارة للحكم، والأمارات للتعريف، والحكم معروف في محل النصب بالنص، فأي فائدة بعده في نصب علامة قاصرة عن محل النص، وخصمه يقول في القاصرة فائدة غير التعدية، وهي الوقوف على حكمة الحكم ووجه الصلاح فيه، فتكون الطباع [له] (¬1) أقبل والنفوس إلى الإذعان [له] (¬2) أسرع والتعدية من توابع معرفة علة الأصل، فالأصل في التعليل علة الاصل من محل النص يعرف أنه هو الداعي للشرع إلى شرع الحكم، ثم إن اتفقت مشاركة صورة أخرى للأصل فيما هو الداعي شاركته في الحكم ولا يقع الاكتفاء بثبوت الحكم مقصورًا عليه ولا تزاد؛ إذ مصلحة الحكم في هذا المحل بأن يوجد الباعث من محل آخر، ولا ينتقض بأن لا يوجد فكانت الصلاحية في القاصرة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: إليه.

[حسبما] (¬1) في التعدية، وفيها فائدة ما. والدليل أيضًا: أن التعدية ليست من شروط الصحة في العلل الشرعية أن الدليل على صحتها هو المناسبة والإحالة المثيران للتأثير، وهذا موجود في الواقعة وجودها في العادية. لأن التعدية مسبوقة بالعلم بكونها علة، بل هي درجة ثانية متأخرة عنها [وفروع] (¬2) مترتبة عليها، فإنما يمكن أن يقال: [إن] (¬3) المسبوق شرط في [السابق] (¬4). لأن كون التعدية شرط لصحة العلة يفضي إلى الدور العقلي. فإنه يقال: العملية [مستفادة] (¬5) [بالصحة] (¬6) والصحة [مستفادة] (¬7) بالعملية؛ إذ لا عمل إلا بعد أن صححها ولا [أصحها] (¬8) إلا بعد أن أعمل بها، وحصل كل واحد منهما موقوفًا على الآخر، وكفى بكلام يفضي [مسابقة] (¬9) إلى الدور بطلانًا. وهذه الإشارة إنما تجبر لاستنشاق روائحها أعطاف الخائضين في علم الأصول حتى علموا أحكام القياس، وحيث نجول -وليس ¬

_ (¬1) في أ: حسبها. (¬2) في أ: وفرع. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: السبق. (¬5) في ع: مفاسدة. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ع: مفاسدة. (¬8) في أ: أصححها. (¬9) سقط من ع.

هو الغرض - فلذلك لم نطول القول فيه، وبعد تمهيد هذه الإشارة نرجع إلى غرضنا، والحمد لله وحده.

المسألة الثانية في تأخير بعض [أعواض] الصرف

المسألة الثانية في تأخير بعض [أعواض] (¬1) الصرف ولا يخلو عقد المتصارفين من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعقدا على التأخير ابتداء. والثاني: أن يعقدا على المناجزة، ثم وقع التأخير منهما اختيارًا. والثالث: أن يعقدا على المناجزة، ثم وقع التأخير منهما اضطرارًا. فالجواب عن الوجه الأول: إذا وقع العقد على التأخير ابتداء: فالصرف فاسد اتفاقًا في المستوفى، وفي المستبقي؛ لأن العقد وقع على نعت الفساد، ولا يتلافى بل يتلاشى. والجواب عن الوجه الثاني: إذا وقع على المناجزة، ثم وقع التأخير منهما [اختيارًا] (¬2) فالصرف باطل في المستبقي وفاقًا، وهل ينعقد في المستوفي؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن العقد مردود [ولا ينعقد] (¬3) وهو نص "المدونة". والثاني: أن الصرف منعقد في المستوفي، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن الموَّاز و"العتبية" إذا كان ذلك قبل أن يفترقا فشبهها بمبتاع مائة فقير لا يجد إلا خمسين، وعاب ذلك أصبغ، وقال: ليس ما ناظر به بنظير، ¬

_ (¬1) في ع: أنواع. (¬2) سقط من ع. (¬3) سقط من أ.

وواجد النقض بعد التفرق في غير الصرف كالعيب بخلاف الصرف الذي لا يتأخر، وهذا القول الثاني قائم من "المدونة" من "كتاب العيوب". وسبب الخلاف: الصفقة إذا جمعت حلالًا وحرامًا هل تبطل جميعها، أو يجوز منها الحلال ويبطل الحرام؟، وله في هذا الكتاب وفي "كتاب النكاح الثالث": أنها تبطل جميعها, وله في كتاب العيوب: أنها يبطل منها الحرام ويجوز الحلال من مسألة الشاتين إذا وجد إحداهما غير ذكية. والجواب عن الوجه الثالث: إذا وقع على المناجزة، ثم وقع التأخير منهما اضطرارًا: فلا يخلو من أن يكون ذلك باضطرار منهما، أو من أحدهما. فإن كان باضطرار منهما؛ كليل غشيهما، أو نسيان غلب عليهما، فافترقا قبل تمام التقابض: فلا خلاف في انعقاد البيع في المستوفي. وفي المستبقي قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه ينتقض، وهو قول مالك في "الموَّازية". والثاني: أنه لا ينتقض بينهما؛ لأنهما غلبًا على التأخير وفي عمل القبض شرعًا. وسبب الخلاف: هل يعذران بهذا الأمر الغالب أم لا؟ فإن كان التأخير [باختيار] (¬1) من أحدهما، واضطرار من الآخر: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يجعل ذلك ذريعة إلى فسخ العقد. والثاني: أن يجعله وسيلة إلى بخس [النقد] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: العقد.

فإن جعل ذلك وسيلة إلى فسخ العقد؛ كهروب أحدهما قبل تمام النقد؛ مثل أن يستغلا البيعة فيريد أن ينخلع من زيفة الصفقة واغترابًا بفرار التأخير المؤدي إلى بطلان العقد، هل يفسخ العقد، أو يؤخذ الهارب بمضمونه؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن العقد بينهما قائم، ويؤخذ بمقتضاه، إلا أن يتقابلا, ولا يتوصل الهارب بهروبه إلى ما يريده، وهو ظاهر قول مالك في غير [ما] (¬1) موضع في المدونة: أن المتعدي لا يصل بتعديه إلى ما يريده، وهو قوله في "الموازية" في قوم اشتروا قلادة من ذهب وفيها لؤلؤ على النقد، فلم ينقدوا حتى فصلت، وتقاوموا اللؤلؤ، وباعوا الذهب، فلما وضعوا أرادوا نقض البيع لتأخير النقد، ولم يكن ذلك شرطًا: قال: لا ينقض ذلك، وقاله ابن القاسم لأنه على النقد، ولم يرض بتأخيرهم وهو مغلوب، فهذا نص منه على أنهما يتعديا بالغلبة، [فهكذا] (¬2) حكم الهارب [في الصرف] (¬3). والثاني: أن الصرف منتقض [فيما بقي لتأخير النقض] (¬4) [عن] (¬5) العقد، وهو ظاهر "المدونة". وسبب الخلاف: هل يغلب حق الله على حق العبد: فيفسخ العقد، أو يغلب حق العبد: فيمضي وينفذ؟ فأما إن جعل ذلك وسيلة إلى بخس النقد: فلا يخلو ذلك البخس من أن يرجع إلى بخس في العدد، أو بخس في الصفة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فهذا. (¬3) سقط من ع. (¬4) سقط من ع. (¬5) في أ: على.

فإن كان يرجع إلى بخس في العدد كالسرقة من الصراف من العدد أو من الوزن، ثم تبين للقابض النقصان بعد الفراق، فرضي بما قضى وتجاوز عما بقي، فهل يصح العقد أو يبطل؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن العقد جائز ولا يفسخ -كان ذلك قليلًا أو كثيرًا-، وهو قول أشهب في الموازية: "ثم إذا افترقا على التصديق ثم وجد زائفًا أو نقصًا ثم ترك الفضل من له الفضل: فذلك جائز"، وقال مالك في "العتبية" و"الموازية": "ومن وجد نقصًا في الصرف فتجاوزه فذلك له"، وهو ظاهر قوله في كتاب السلم" فيما إذا وجد درهمًا رصاصًا في رأس مال السلم بعد شهر فرضيه، حيث قال: "السلم جائز، ودرهم الرصاص كالعدم"، وكذلك قوله في كتاب الصرف: "إذا وجد زائفًا أنه له الرضا به فهذا قد وجد أقل العدد الذي دخل عليه فثبت السلم بينهما بقوله إياه". والقول الثاني: أنه لا يجوز له الرضا به جملة سواد كان ذلك يسيرًا أو كثيرًا، وهو قول مالك أيضًا، لافتراقهما قبل التقابض، وهو ظاهر قوله في "المدونة". والثالث: التفصيل بين اليسير والكثير، وهو قول مالك أيضًا. والأقوال الثلاثة كلها لمالك في "العتبية" و"كتاب محمَّد". واختلف في حد اليسير على قولين: أحدهما: كالدانق من الدينار، وهو قول مالك، ونصف الدرهم -عنده- من الدينار كثير. والثاني: مثل الدرهم من الألف، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم. والقولان في "العتبية".

وسبب الخلاف: هل المعدوم معني كالمعدوم حسًا، أم لا؟ فمن رأي أن المعدوم حسًا كالمعدوم معنى: قال بجواز الرضا. [و] (¬1) على القول بأن ذلك لا يجوز، فهل ينتقض كله أو بعضه؟ فالمذهب على خمسة أقوال كلها قائمة من "المدونة"، إلا قولًا واحدًا. أحدها: أن الصرف ينتقض جميعه؛ لأن الدرهم المستبقي حصة في كل دينار، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أنه ينتقض صرف دينار واحد، فما زاد عليه فينتقض عليه إلى تمامه ثم على هذا الحساب، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الصلح" من "المدونة" وبه قال ابن الموَّاز. والثالث: بالتفصيل بين أن يرتبا لكل دينار ثمنًا أم لا؛ فإن رتباه: كان كما قاله ابن القاسم، وإن لم يرتباه: كان كما قال في القول الأول. وهذا القول حكاه ابن الجلاب على المذهب. والرابع: التفصيل بين أن تكون الدنانير كلها سكة واحدة أو سككًا؛ فإن كانت سكة واحدة: فيتنقض الصرف كله، وإن كانت سككًا: فكما قال ابن القاسم، وهو قول سحنون في كتاب ابنه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في جمع السلعتين في البيع. والخامس: أنه إن اختلفت السكك فينتقض صرف أجود الدنانير، وهو قول أصبغ، وهذا القول هو الذي لا ظاهر له في الكتاب. وسبب الخلاف: هل الحكم يوجب الترتيب وإن لم يرتبا لكل دينار ثمنًا، أو لابد من التوظيف والتسمية؟ وعلى هذا الأصل يتركب جميع ما في المسألة من الخلاف إن اعتبرته. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فأما إن كان ذلك البخس يرجع إلى الصفة؛ مثل أن يحدد درهمًا زائفًا قد أروجه عليه الدافع، أو دينارًا بائرًا قد دلس به: فقد يجوز له الرضا به، ويصح العقد. فجميع ما تضمنه قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن ذلك جائز إذا رضي به، وهو قول ابن القاسم في "كتاب السلم" و"كتاب الصرف". والثاني: أن ذلك لا يجوز وإن رضي به، وهو ظاهر قوله في "كتاب النذور": إذا حلف ليقضين فلانًا حقه رأس الهلال فقضاه، فوجد فيه درهمًا زائفًا، حيث قال: فإنه حانث. وسبب الخلاف: المعدوم معنى هل هو كالمعدوم حسًا أم لا؟ وله سبب آخر، وهو: المخير بين شيئين، هل يعد مختارًا لما ترك أم لا؟ وعلى القول بأن له الرد أو التماسك، فإن اختار الرد وطلب البدل فعل يجوز أو لا يجوز؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن البدل لا يجوز، وهو مشهور المذهب، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أن البدل سائغ، وهو قول ابن وهب، وهو مشهور المذهب. وسبب الخلاف: الرد بالعيب هل هو نقض بيع، أو بيع مبتدأ؟ فعلى القول بأنه نقض بيع: يمنع من البدل، وهو قول أشهب في "كتاب الاستبراء". وعلى القول بأنه بيع مبتدأ: يجوز البدل، ويعد ذلك عقد مبتدأ، وهو قول ابن القاسم في الكتاب المذكور، والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة في بيع السيف المحلى

المسألة الثالثة في بيع السيف المحلَّى ولا تخلو تحليته من أن تكون بالذهب، أو الورق؛ فإن كان محلَّى بالذهب فهل يجوز اتخاذه واقتناؤه؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز، وهو ظاهر المدونة، ومشهور المذهب لما في ذلك من السرف، [والتحلي] (¬1) بالذهب محرم على ذكور هذه الأمة. والثاني: أنه يجوز اتخاذه، وإن التحلية مباحة، وهو ظاهر "المدونة" حيث قال: لا يجوز عند مالك أن يبيعه بنسيئة، لا بذهب ولا بورق، كان ما فيه من الحلية قليلًا أو كثيرًا، وظاهر هذا: جواز التخلية عنده. والثالث: التفصيل بين المجاهد وغيره؛ فيباح للمجاهد أن يحلي سيفه بالذهب دون غيره؛ لما في ذلك من المباهاة على العدد وإرهابهم، وإشعار المسلمين القوة بالعدد والاستعداد، وكذلك لباس الحرير، وهو قول ابن حبيب. وسبب الخلاف: نبذ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتمه، وأمره لأصحابه بنبذ خواتمهم (¬2)، هل يفيد تحريم استعمال الرجال على الذهب عمومًا أم لا؟ والجواب عن الوجه الثاني: إذا كانت التحلية بالفضة فلا يخلو أن يكون ما فيه من الحلي تبعًا، أو متبوعًا، وفي قدر التبع قولان قائمان من "المدونة". أحدهما: الثلث فأدنى. ¬

_ (¬1) في أ: والتحلية. (¬2) أخرجه البخاري (5529) ومسلم (2091).

والثاني: النصف، وهذا القول قائم من قوله: إذا اشترى بنصف درهم طعامًا ورد عليه نصف درهم فضة، حيث جوزه، وبه قال بعض البغداديين من أصحابنا، واستقرأه الباجي من هذه المسألة. فإن كان الحلي تبعًا للنصل: فلا يخلو بيعه من ثلاثة أوجه: [أحدها] (¬1): أن يبيعه بما فيه. والثاني: أن يبيعه بغير ما فيه من العين. والثالث: أن يبيعه بغير ما فيه من سائر العروض. فالجواب عن الوجه الأول: إذا باعه بما فيه؛ مثل أن يكون السيف محلى بالفضة، فيبيع بالدراهم، هل يجوز بيعه بذلك أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجوز بيعه بما فيه -لا نقدًا ولا مؤجلًا- وهو ظاهر قول ابن القاسم في مسألة الحلي إذا كان بعضه ذهبًا وبعضه فضة؛ حيث قال: لا يباع بذهب ولا بورق، ولكن يباع بالفلوس والعروض. والثاني: أن ينظر إلى ما فيه من الفضة؛ فإن كان في نزعه مشقة حافة ومضرة لاحقة: فبيعه بما فيه جائز نقدًا أو إلى أجل، وهو قول أشهب وسحنون، وهو ظاهر قول مالك: [فيما] (¬2) إذا فات السيف بنقض حلية؛ حيث قال: يمضي بالثمن. والثالث: أن بيعه يجوز بما فيه نقدًا, ولا يجوز إلى أجل، وهو نص "المدونة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

والأقوال كلها قائمة من "المدونة". وسبب الخلاف: [الاتباع] (¬1) هل تراعي أم لا؟ والجواب عن الوجه الثاني: إذا باعه بغير ما فيه من العين كبيعه بالذهب والتحلية بالورق: فهو كبيعه بما فيه في جميع الوجوه، إلا في وجه واحد؛ وهو اعتبار مضرة النزع خاصة، فإنها لا تعتبر في الشراء بالذهب. والجواب عن الوجه الثالث: إذا باعه بغير ما فيه من سائر العروض: فإن ذلك جائز نقدًا أو إلى أجل اتفاقًا؛ لعدم ما [يتقي] (¬2) من الربا. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كان الحلي متبوعًا: فلا يجوز بيعه بما فيه نقدًا ولا مؤجلًا باتفاق المذهب، ويباع بغير ما فيه من سائر العروض على كل وجه اتفاقًا. وأما بيعه بالذهب إن كانت الحلية بالفضة نقدًا: فجائز اتفاقًا, ولا يجوز بذهب إلى أجل اتفاقًا، فإن وقع ونزل: فلا يخلو ذلك من أن يكون قائمًا، أو فائتًا فإن كان قائمًا: فالبيع مردود اتفاقًا. فإن كان فائتًا فلا يخلو من أن يفوت بسبب سماوي، أو بسبب المشتري فإن فات بأمر سماوي فهل يكون الضمان من البائع أو من المشتري؟ قولان: أحدهما: أن الضمان من البائع، وهو مذهب سحنون. والثاني: أن الضمان فيه من المشتري، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو المشهور. ¬

_ (¬1) سقط من ع. (¬2) في أ: يبقى.

وسبب الخلاف: اختلافهم في البيع الفاسد بعد الفوات، هل يفيد الملك للمشتري، أو لا يفيده؟ فإن كان الفوات بسبب المشتري: فلا يخلو من أن يكون فوتًا يخرجه من ملكه؛ كالبيع، أو فوتًا لا يخرجه من ملكه فإن كان فوتًا يخرجه من ملكه: فلا يخلو من أن يقصد ببيعه إياه التفويت، أو لا يقصد. فإن قصد به تفويت البيع الفاسد: فالبيعتان مردودتان اتفاقًا. وإن لم يقصد التفويت، وإنما باع للصحة بناء منه على أن البيع الأول جائز، فهل يجوز البيع الثاني، ويضمن الأول بالقيمة؟ قولان: أحدهما: أن البيعتين مردودتان، وهو قول سحنون. والثاني: أن البيع الثاني صحيح، وهو مفيت للأول، وتكون فيه القيمة، وهو قول ابن القاسم. فإن كان فواتًا لا يخرجه من ملكه: فلا يخلو من أن يكون فواتًا يرجع إلى الذات، أو فواتًا يرجع إلى الصفة. فإن كان فواتًا يرجع إلى الذات؛ كقطع النصل، أو فساد القائم: فذلك فوت بلا خلاف، وهل يغرم قيمة السيف جميعها؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه يغرم قيمة السيف جميعه من غير اعتبار الوزن في الحلية، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الصرف". والثاني: أنه يغرم قيمة الجفن والنصل، ويغرم وزن ما فيه من الفضة، وهو قول سحنون في بعض الروايات في المدونة، وهو ظاهر قول ابن

القاسم في "كتاب الزكاة الأول" من "المدونة" في الآنية؛ حيث قال: يعتبر وزنها لا قيمتها. وسبب الخلاف: الصناعة، هل هي كعرض قائم بنفسه أم لا؟ فإن كان فواته فواتًا يرجع إلى معنى الصفة؛ مثل أن ينكسر جفنها هل هو كنقصان الصفة فيكون كحوالة الأسواق، وعليه حمله ابن الكاتب؟ أو كنقصان الذات، وعليه حمله أكثرهم؟ فمن جعله كحوالة الأسواق لكون العيب اليسير لا يفيت حدوثه البيع الفاسد قال: إن حوالة الأسواق فيه فوت. ومن جعله كنقصان الذات قال: لأنه وإن كانت قيمة الجفن قليلة في جنب قيمة جميع السيف: فإنه بالإضافة إلى منفعته نقصان كثير؛ إذ به تحسن صيانة النصل حتى يتأتى الانتفاع به، ولو فارق الجفن لضاع وذهب الغرض المقصود منه، ومثاله: الدار المشتراة إذا استحق منها الكنيف أو الجدار الذي هو ستر لجميعها، فأراد مستحقه نقضه وهدمه؛ فهو بالإضافة إلى قيمة جميع الدار حقير وبالإضافة إلى [منفعته] (¬1) يعم ضرره ويعظم خطره على المشترى، فكان له المقال. وينبني الخلاف: على الخلاف في الحلي المبيع جزافًا [بيعًا فاسدًا] (¬2) هل [تفيته] (¬3) حوالة الأسواق أم لا؟. ولابن الموَّاز في "كتابه": أن حوالة الأسواق تفيته، ولابن القاسم نص في "المدونة": [أنها] (¬4) لا تفيته [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: منفعة. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: يفيت. (¬4) في أ: أنه. (¬5) زيادة من ع.

المسألة الرابعة في الحوالة والوكالة في الصرف

المسألة الرابعة في الحوالة والوكالة في الصرف وإذا صرف الرجل دينارًا بدرهم، فدفع الدينار، ثم أمر الصرَّاف أن يدفع الدرهم لغيره، أو وكل رجل رجلًا يصرف له ثم تولى هو القبض، أو بالعكس: فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك قبل التفرق. والثاني: أن يكون [بعده] (¬1). فإن كان قبل التفرق -أعني بالتفرق: ذهاب المحيل والأمر- فهل يجوز الصرف أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: الجواز في الوكالة والحوالة وهو ظاهر قوله في الكتاب؛ حيث قال في الحوالة: "ألا ترى أنهما افترقا قبل أن يتم قبضهما" وقال في الوكالة: "وقام هو فذهب يريد الأمر فلا خير فيه"، وظاهر قوله: أنه لو قبض المحال والأمور قبل ذهاب المحيل والأمر؛ لجاز في الجميع، وهو قول أشهب وسحنون في غير المدونة. والقول الثاني: أن ذلك لا يجوز في الجميع، وهو ظاهر المدونة في مسألة الوكالة؛ حيث قال: "لأن مالكًا قال: لا يصلح أن يصرف ثم يوكل من يقبض له"، وظاهره ألَّا فرق بين الحوالة والوكالة. والثالث: التفصيل بين الحوالة والوكالة، وهو ظاهر "المدونة" على ما ¬

_ (¬1) في أ: بعدها.

ذكره أبو الوليد ابن رشد، ومجمل قوله في الكتاب: "ألا ترى أنهما افترقا قبل أن يتم قبضهما على افتراقهما في الكلام، لا بالأبدان". وسبب الخلاف: التأخير اليسير هل يؤثر في بطلان الصرف، أو يتجاوز عنه؟ فعن مالك في ذلك قولان في "كتاب محمَّد": الجواز، والكراهة؛ قال: ومن اشترى سوارين من ذهب بدراهم على أن يريهما لأهله فإن أعجبهم، وإلا ردها: فخففه مالك بعد أن كرهه. فإن كان ذلك [بعد] (¬1) التفرق: فلا يجوز، قولًا واحدًا [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: قبل. (¬2) زيادة من ع.

المسألة الخامسة في المقاصة في الصرف

المسألة الخامسة في المقاصة في الصرف وإذا صارف رجل رجلًا دراهم بدنانير، ثم أراد الصرَّاف مقاصته بالدينار في دينار له عليه من دين: فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعقداه بشرط المقاصة. والثاني: أن يعقداه على تركها. والثالث: أن يهملا الأمر. فالجواب عن الوجه الأول: إذا عقداه على المقاصة: فلا إشكال في جواز المقاصة على القول بجواز صرف ما في الذمة؛ لاتفاق المذهب أن ذلك لا يجوز قبل الحلول، إلا على القول بأن الذمة تبرأ بالدفع قبل الحلول، وأما بعد الحلول: فالمذهب على قولين: الجواز: وهو المشهور. والمنع: وهو المهجور. وهو نص قوله في غير "المدونة". وسبب الخلاف: حلول ما في الذمة هل هو كحضوره أم لا؟ والجواب عن الوجه الثاني: إذا عقداه على ترك المقاصة فهل يجوز العقد ابتداء أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو قول مالك. والثاني: المنع، وهو قول ابن القاسم.

والقولان في "المدونة". وسبب الخلاف: هل اشتراطهما ترك المقاصة مشعر بالتأخير بالدين بعد التقابض: فيمنع، لأن ذلك بيع وسلف، أو غير مشعر به وتكون له مطالبته بديناره بعد التقابض فيجوز؟ فعلى القول بأن البيع جائز، فإن أراد الصرَّاف مقاصته فهل يجبر عليها من أباها أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجبر عليها من أباها، وهو قول أشهب في "كتاب محمَّد". والثاني: أنه لا يجبر عليها من أباها، وهو قول أصبغ، ولكن يدفع له ديناره، ثم يأخذ منه في الحال. والثالث: التفصيل بين أن يكون مديانًا، أو غير مديان؛ فإن كان مديانًا: فجواز مقاصته يتخرج على الخلاف في [جواز] (¬1) قضائه بعض غرمائه دون بعض، فإن كان ليس بمديان جازت المقاصة، وهو اختيار ابن الموَّاز. وسبب الخلاف: من اشتراط شرطًا لا يفيد هل يوفي له بشرطه، أو لا يوفي له به؟ وهذا أصل بنيت عليه فروع كثيرة. والجواب عن الوجه الثالث: إذا أبهم الأمر، فهل يجبر على المقاصة من أباها أم لا؟. فالمذهب على ثلاثة أقوال، كلها قائمة من المدونة: أحدها: أنه يجبر عليها من أباها، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب ¬

_ (¬1) طمس في أوالمثبت من ع.

المكاتب" إذا حل نجم عليه، وله على السيد مثل ذلك؛ حيث قال: فإنه يقاصصه، وظاهره: أن ذلك بغير اختيار السيد. والثاني: أنه لا يجبر عليها من أباها، وهو ظاهر قوله في "كتاب الصرف"، [مع] (¬1) أن شيوخ المذهب قد تنازعوا فيما وقع له في كتاب الصرف في هذه المسألة تنازعًا كثيرًا، وكلها تأويل ضعيف على ما لا يخفى على من طالع كتبهم. والقول الثالث: التفصيل بين أن يكون الذي عليه الدين موسرًا أو معسرًا، وهو نص قوله في كتاب النكاح الثاني من "المدونة". وسبب الخلاف: المقاصة هل تفتقر إلى الرضا، أو يجبر عليها من أباها؟ [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: على. (¬2) زيادة من ع.

المسألة السادسة في استقراضهما بعض أعواض الصرف بعد العقد

المسألة السادسة في استقراضهما بعض أعواض الصرف بعد العقد ولا يخلو من أن يستقرضا جميعًا [أو استقرض أحدهما دون صاحبه. فإن استقرضا جميعًا] (¬1) بعد أن عقدا الصرف بينهما، ثم استقرض [هذا دينارًا وهذا دراهمًا] (¬2): فاتفق المذهب أن ذلك لا يجوز لتعاظم [الضرر] (¬3) وتفاقم الخطر الذي تنزه عنه عقود المعاوضات، وخصوصًا عقد الصرف؛ لأنهما عقدا على الذمم، ولا يدري هل يصح لهما السلف أو لا يصح لهما، أو يصح لأحدهما دون الآخر، وذلك غرر لا يجوز في عقد ما، فكيف بعقد الصرف؟ ثم إن اتفق أن يسعفا بمقصديهما في وجود السلف بفور ما عقدا: فإن العقد مفسوخ لوقوعه على غرر فإن حصر العوض عند أحدهما واستقرض الآخر عوضه، مثل أن [تكون الدنانير] (¬4) عند أحدهما، واستقرض الآخر الدرهم، فهل يجوز الصرف أم لا؟. فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن ذلك لا يجوز. واختلف في تأويل قول ابن القاسم؛ فمنهم من قال: إنما جوز ذلك لأنا لا ندري هل الذي استقرض إن كان ما عنده شيء أم لا؛ فلذلك جوزنا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: هذا الدينار وهذه الدراهم. (¬3) في أ: الخطر. (¬4) في أ: يكون الدينار.

الصرف لأنه متهم في فسخ العقد عن نفسه، فإذا تحققنا بأنه لا دينار عنده فسخنا الصرف. ومنهم من قال: إنما يمنع في الوجه الأول؛ لقوة الغرر وكثرته، وجوزه في الثاني لقلته؛ لأنه إذا كان السلف من جهة واحدة قبل الغرر، والغرر اليسير معفو عنه في عقود المعاوضات، وقلما تسلم [منه] (¬1) ومنهم من ساوى بين السؤالين وجعل ذلك اختلاف قول من ابن القاسم، وهو قول سحنون. وقال بعض الشيوخ: يستفاد من هذه المسألة أن الدراهم لا تتعين في الصرف، ولكن من شرطه إحضار العينين، والذي قاله لازم على قول ابن القاسم في السؤال الثاني، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة السابعة [فيمن] دفع لغريمه عرضا، وقال له بعه واستوف منه [حقك]

المسألة السابعة [فيمن] (¬1) دفع لغريمه عرضًا، وقال له بعه واستوف منه [حقك] (¬2) فلا يخلو الدفع من أن يكون قبل حلول الدين، أو بعده؛ فإن كان قبل حلول الدين: فلا يجوز؛ لأن ذلك سلف جر منفعة. فإن كان بعد الحلول: فلا يخلو ذلك [العرض] (¬3) من أن يكون من جنس ما باع بذلك الثمن، أو من غير جنسه؛ فإن كان من غير جنسه مما يجوز أن [يسلمه] (¬4) فيه: فلا يخلو من أن يبيعه ببينة، أو بغير بينة. فإن باعه ببينة: فالبيع نافذ، والقضاء جائز. فإن باعه بغير بينة فهل يجوز ذلك البيع أم لا؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: الجواز، وهو نص المدونة. والثاني: أن البيع لا يجوز؛ لاحتمال أن يبيعه من نفسه فيكون قد فسخ دينه فيما فيه خيار، فيصير فسخ دين في دين. فأما إن كان ذلك من جنس ما باع به الثمن الذي اقتضاه. فإن باعه ببينة: فالبيع جائز اتفاقًا، فإن أشكل الأمر: لم يجز؛ لما في ¬

_ (¬1) في ع: إذا. (¬2) في أ: حقًا. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ع: يسلفه.

ذلك من التهمة في أن يأخذ ذلك لنفسه، فيكون قد أخذ عروضًا إلى أجل بعروض مثلها ومن صنفها، فيصير عروضًا بعروض من صنف واحد إلى أجل، إلا أن يكون مثل صنف عرضه وجودته وعدده. وإن اختلفا في العدد: فلا يجوز؛ لأن ذلك ضمان بجعل، وكذلك إن اتفق العدد واختلفا في الصفة. فإن اتفقا في العدد وكان الأول إذنًا، فهل يجوز ويكون إقالة؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو ظاهر قوله في كتاب السلم [الأول] (¬1). والقول الثاني: أن ذلك جائز، وهو نص قوله في "كتاب الصرف". والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الثامنة إذا صرف منه دينارا بدراهم، ثم صرف [منه] بالدينار دراهم أخرى

المسألة الثامنة إذا صرف منه دينارًا بدراهم، ثم صرف [منه] (¬1) بالدينار دراهم أخرى فلا تخلو الدراهم من أن تكون من سكة دراهمه ومن عينها أم لا. فإن كانت مثله دراهمه عينًا وسكة؛ مثل العدد أو أقل: جاز بالقرب، ولا [يجوز] (¬2) بعد الطول وفي الأكثر قولان: ظاهر المدونة: المنع، ولأشهب: الجواز، وهو قوله في "كتاب محمَّد"، وإنما جوزه بالقرب، وإن كانت [أقل] (¬3) إذ لا يتهم أن يدفع كثيرًا ويأخذ قليلًا في زمان واحد من غير منفعة حصلت له بذلك، وإنما هو رجل أخذ بعض حقه وترك بعضًا, ولا ربا هناك، ومنعه بعد الطول جملة؛ لأن ذلك فضة بفضة ليست يدًا بيد، فإن تفاضلت في العدد دخله ربا النساء أيضًا. فأما إذا أخد دراهم سوى دراهمه، وسوى عيونها: فلا يخلو من أن يتساوى الوزن، أو يختلف. فإن تساوى وزن ما أخذ وما أعطى: جاز. وإن اختلفت العيون كالمراطلة. وإن اختلف [العيون] (¬4) بالوزن: فلا يجوز بالقرب. ويجوز بعد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يخلو. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

الطول؛ وإنما منعه بالقرب للتهمة في التفاضل بين [الفضتين] (¬1)؛ لأن ذلك مكايسة، وجوزه بعد الطول؛ لعدم التهمة لأن ذلك معاملة ثانية [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: القضيتين. (¬2) زيادة من ع.

المسألة التاسعة في استحقاق بعض أعواض الصرف

المسألة التاسعة في استحقاق بعض أعواض الصرف ولا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك بعد الافتراق أو بعد الطول في المجلس. والثاني: أن يكون ذلك قبل الطول والافتراق. فإن كان ذلك بعد التطاول أو بعد الافتراق: فإن الصرف منتقض ولا يلزم البدل، بل لا يجوز. فإن [كان] (¬1) ذلك قبل الافتراق والتطاول: فلا يخلو من أن يكون الصرف على دراهم معينة، أو على دراهم غير معينة. فإن وقع على دراهم معينة -على القول بأنها تتعين إذا عينت- فإن الصرف منتقض، والبدل جائز غير لازم. فإن وقع الصرف على دراهم غير معينة فهل ينتقض الصرف بينهما؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الصرف ينتقد، والبدل جائز، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن الصرف لا ينتقد، والبدل لازم، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: اختلافهم في النقود هل تتعين في العقد أم لا؟ ولا خلاف أنها لا تتعين إذا لم تعين، وإنما الخلاف في تعيينها إذا عينت هل تتعين أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فعلى قول ابن القاسم: أنها تتعين بالقبض. وعلى قول أشهب: أنها لا تتعين إلا بالمفارقة، وقد وقعت لهم في "المدونة" مسائل تدل على اضطراب الأقوال؛ فمنها ما وقع لابن القاسم في "كتاب السلم الثاني" فيمن شرط عين دراهمه في الإقالة: أن للمسلم إليه أن يعطيه غيرها؛ وهذا منه بناء على [أن] (¬1) النقود لا تتعين في العقود، وقال في "كتاب الرواحل والدواب" في وقوع الكراء بالدراهم المعينة ولم تجر العادة [بالنقد] (¬2) ولا اشترطه أنه لا يجوز إلا بشرط الحلف، وهذا بناء منه على أنها تتعين. وقال أشهب: إن ذلك جائز وإن لم يشترط الحلف، وهذا منه بناء على نفي التعيين. وينبني الخلاف: على الخلاف في الدنانير والدراهم هل هي مرادة لأعيانها، أو هي مرادة لأغراضها؟ والمشهور أنها مرادة لأغراضها. وقال بعض المتأخرين: لا خلاف أن النقود تتعين من جهة المشتري، والخلاف: هل تتعين من جهة البائع أم لا. وفائدة ذلك وثمرته: [أنها] (¬3) إذا عينت من جهة المشتري مثل أن يقول له: اشتريت منك هذه السلعة بهذه الدراهم بدراهم معه في جيبه أو في يده -أراه إياها- أو بالدراهم التي في صندوقه، أو التي لي عند فلان، ثم استحقت: فإن البدل لا يلزم المشتري إلا أن يشاء. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

فإذا رضي بالبدل: فإن ذلك يلزم البائع قبوله، ولا خيار له أو لا حجة له إذا أعطي ثمن سلعته، وإنما الحجة للمشتري أن يقول: إنما أردت الشراء بهذه الدراهم دون غيرها لغرض لي فيها؛ إما لمحلها، وإما لكونها تناولها من رجل صالح، أو ما أشبه ذلك [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ع.

المسألة العاشرة في تعدي المودع على الوديعة فصرفها أو باعها إن كانت طعاما

المسألة العاشرة في تعدي المودع على الوديعة فصرفها أو باعها إن كانت طعامًا ولا يخلو ذلك من أحد وجهين: أحدهما: أن يصرفها في جنسها. والثاني: أن يصرفها في غير جنسها. فالجواب عن الوجه الأول: إذا صرفها في غير جنسها، مثل أن يشتري بها [عروضًا] (¬1) إن كانت عينًا، أو بيعها بالعين إن كانت [عروضًا] (¬2) فالخيار في هذا الوجه ثابت للمودع إن شاء جوز صنيعه [ويأخذ ما عوض عليه برضا المودع المتعدي أو ما عاوض به بغير اختيار المتعدي. وإن شاء ضمنه] (¬3) وإن شاء فسخ البيع وأخذ عين شيئه إن كان قائمًا، أو مثله إن كان فائتًا فيما يقضي بمثله، وسواء تصرف فيها لنفسه أو لربها في جميع ما ذكرناه في هذا الوجه. والجواب عن الوجه الثاني: إذا صرفها في جنسها؛ مثل أن تكون الوديعة دنانير فصرفها بدراهم، أو كانت طعامًا فباعها بطعام من غير نوعه: فالمذهب على خمسة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن رب الوديعة لا يجوز له الرضا بما صنع المودع ليأخذ ما وجد ¬

_ (¬1) في أ: عرضًا. (¬2) في أ: عرضًا. (¬3) سقط من أ.

[بيده] (¬1) من عوض شيئه في العين والطعام، وهو نص قوله في المدونة في العين والطعام مثله؛ لتساويهما في ربا النساء على هذا الوجه [وكلا] (¬2) النقدين لا يجوز فيهما الخيار، وهو نص قول أشهب في غير المدونة في الطعام، وهو اختيار الشيخ أبي عمران في العين والطعام. والثاني: أن ذلك جائز، وهو نص "المدونة" في الطعام ويلزم مثله في العين؛ لشمول العلة لهما جميعًا. ولا فرق في هذين القولين بين أن يكون [يتصرف] (¬3) المودع لنفسه أو لربها. والقول الثالث: بالتفصيل بين أن [يتصرف] (¬4) فيها لنفسه: فيجوز لربها أخذ ما عوض عليه المتعدي، وبين أن يتصرف فيها لربها: فلا يجوز له الرضا بذلك لما فيه من الخيار، وهو [قوله] (¬5) في "كتاب ابن المواز". فإذا جاز له [أخذها] (¬6) إذا تصرف فيها لنفسه هل يفتقر أخذها إلى رضا المتعدي أم لا؟ قولان: وظاهر قوله في "كتاب محمد": اعتباره، وظاهر "المدونة" أن أخذها لا يفتقر إلى رضا المتعدي؛ لأن أخذها منه نكاية عليه؛ لئلا يصل بتعديه إلى ما يريده، وهو نص "المدونة" في "كتاب السلم الثاني" و"كتاب الوكالة". ¬

_ (¬1) في أ: من يده. (¬2) في أ: فكذا. (¬3) في أ: يصرف. (¬4) في أ: يصرف. (¬5) في أ: قول. (¬6) سقط من أ.

والقول الرابع: بالعكس؛ إن كان تصرف فيها المودع لنفسه: فلا يجوز للمودع أخذ العوض، وإن كان تصرف فيها لربها: جاز لربها أخذ ما أخذ فيها من العوض، وهو تأويل ابن أبي زمنين على "المدونة". والخامس: التفصيل بين العين والطعام، وهو نص "المدونة" والفرق بينهما -على هذا القول- أن دنانير الوديعة حين اشترى بها المودع: فإن البيع لم يقع على أعيانها، وإنما وقع على ذمة المشترى؛ ودليل ذلك: لو استحققت تلك الدراهم فإن البيع لا ينتقض؛ لكون الذمة معمورة بالبدل؛ فلذلك لا يحصل لصاحب الدنانير أخذ الشيء المشتري. وأما الطعام: فإن البيع وقع على عينه؛ لأنه هو المقصود، فلو استحق: لفسخ البيع؛ ولهذا جاز لصاحبه أخذ ما اشتري بطعامه. وهذا الفرق لا بأس به، وإنما يصح هذا إذا لم يعلم المشتري بالتعدي، وحمل الأمر على أن الشيء للبائع، وأما لو علم بالتعدي ودخل على ما يوجبه الحكم من إجازة المودع أو رده: لكان عقدهما فاسدًا اتفاقًا. وسبب الخلاف في المسألة: اختلافهم في الخيار الحكمي هل هو كالخيار الشرطي أم لا؟ فمن جعله كالخيار الشرطي: منع لصاحب الوديعة أخذ الشيء المشترى؛ لأن الصرف وتبايع طعامي الربا بعضها ببعض لا يقبل الخيار. ومن جعل الخيار الحكمي مخالفًا للخيار الشرطي: جوز له أخذه. وهذا الأصل متداع في غير ما موضع في المدونة؛ منها: قضاء الكفيل دنانير عن دراهم، وقد اختلف فيه قول مالك، ومنه ما قال في "كتاب السلم الثاني" في الذي دفعت إليه دنانير مثلها إليك في طعام فصرفها بدراهم لغير نظر، ثم اشتري بها طعامًا: أن لرب الدنانير أن يأخذه، وفي

أخذه إجازة ما [نقض] (¬1) فيه من الصرف، وكذلك قوله في [مسألة] (¬2) الذي أمر له أن يبيع له سلعة أو طعامًا فباعها بطعام أو غيره؛ حيث قال: [له] (¬3) إجازة فعله، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة. وعلى القول بأنه لا يجوز له الرضا بذلك فإنه يباع ما اشتراه. فما كان فيه من ربح فلرب الوديعة، وما كان من وضيعة فعلى المتعدي [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) في أ: نقص. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من ع.

المسألة الحادية عشرة في البيع بكسر الدينار

المسألة الحادية عشرة في البيع بكسر الدينار ولا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكون المستثنى جزءًا من الوزن، أو جزءًا من الذهب، أو يكون المستثنى من غير الذهب والورق. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان المستثنى جزءًا من الورق، مثل أن يبيع سلعة بدينار إلا درهمًا أو أكثر من ذلك. فلا يخلو من أن يكون المستثني نقدًا، أو إلى أجل. فإن انتقد المستثنى مع جميع الصفقة من غير أن يتأخر منها شيء: فإنه يتخرج على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز، وهو نصه في "المدونة"، وسواء كانت الدراهم المستثناة قليلة أو كثيرة. والثاني: المنع وإن انتقض جميع الصفقة، وهو قوله في "كتاب السلم الأول"؛ لأنه أطلق فيه المنع في بيع الذهب بالفضة مع أحدهما سلعة أو ذهب مع أحدهما سلعة ولم يفصل بين اليسير والكثير كما [فصل] (¬1) في "كتاب الصرف". وسبب الخلاف: هل تغلب شائبة الصرف على شائبة البيع وتحقق التهمة، أو تغلب شائبة البيع على الصرف فيجوز. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وإن [توانى] (¬1) نقد المستثنى عن العقد: فلا يخلو المستثنى من أن يكون يسيرًا أو كثيرًا؛ فإن كان كثيرًا؛ مثل خمسة دراهم فأكثر فهل يجوز العقد ويكون الحكم للبيع والصرف ملغي؟ وهذا القول يتخرج على المذهب - أو لا [يجوز] (¬2) ويكون الحكم للصرف، والبيع تبع، وهو نصه في "المدونة"؟. وسبب الخلاف: الطوارئ هل تراعى أو لا تراعى؟ فمن اعتبرها: قال: يمنع في تحويل الصرف عند حلول الأجل أو مثل ذلك العدد المستثنى فَوَلى إلى الصرف نظره، ويتهمان أن يتدرعا بالبيع إلى صرف مستأخر. ومن اعتبر الحال ولم يراع الطوارىء، والعدد المستثنى. أقل من صرف دينار جوز العقد مع التأخير. فإن كان المستثنى يسيرًا كالدرهم والدرهمين على مذهب "المدونة" أو كالثلاثة - على ما قال مالك في "المبسوط" وهو قول ربيعة في "الكتاب" - فلا يخلو من أن يتعجل الجميع. أو [يتأجل] (¬3) الجميع، أو يتعجل البعض [ويتأجل] (¬4) البعض. فإن تعجل الجميع: قولان، ونص "المدونة": الجواز. فإن [تأجل] (¬5) الجميع: فلا خلاف في المذهب أن ذلك لا يجوز؛ لأن ذلك دين بدين. ¬

_ (¬1) في ع: تراخي. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع: يتأخر. (¬4) في ع: ويتأخر. (¬5) في ع: تأخر.

وإن تعجل العينان وتأخرت السلعة: قولان: [فنص] (¬1) "المدونة" المنع لابن القاسم، والجواز لأشهب. فإن تعجلت السلعة وتأخر العينان: فقولان، نص "المدونة" الجواز. فإن تأخرت السلعة مع أحد العينين، أو تعجلت معه وتأخرت مع الآخر: قولان، مذهب "المدونة" المنع. فهكذا تحصيل المذهب في هذه المسألة. وسبب الخلاف: هل تغلب شائبة البيع على شائبة الصرف، أو [تغلب] (¬2) شائبة الصرف على شائبة البيع؟ فمن غلب شائبة البيع على الصرف: قال بالجواز؛ لكونه مقصود الصفقة وجلها، وحكم للصرف لتهافته وتبعيته لحكم الأصل في البيع في جواز التأجيل كما يكون لحقير البيع في كثير الصرف حكم الصرف. ومن غلب شائبة الصرف على البيع قال بالمنع. ووجه المنع: ترجيح الحظر على الإباحة عند المصادمة لدى المصادفة؛ لأن ذلك صرف مستأخر، ولا فرق على هذا بين انفراد السلعة على العينين بالتأجيل، أو انفرادهما عنه بالتأجيل وهي معجلة. فلئن جوزنا التناقد: قد [تنتجز] (¬3) في المتجانسين وهو المطلوب. أما ابن القاسم [رضي الله عنه] (¬4) فكأنه [رأى] (¬5) أن المعجل متبوع ¬

_ (¬1) في أ: ونص. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع: تنفذ. (¬4) زيادة من ع. (¬5) سقط من ع.

بالمؤجل، ورأى أن التعجيل أمارة دالة [على المراد فتبلغه] (¬1) على المقصود. فإذا انفرد المثمون بالتأجيل وانتقد العينين: أشعر انتقادهما [العينين] (¬2) بكونهما قاصدين للصرف. فإذا ثبت للعقد حكم الصرف: تعين التعجيل في لواحقه، ويكون تأخير بعض [أعواضه] (¬3) كتأخير جميعها في الإبطال، أما إذا انفرد المثمون بالتعجيل عنهما: أشعر انتقاد المثمون [التعدي] (¬4) [من] (¬5) الربا بكون عامة قصدهما البيع حالًا والصرف ملغي؛ إذ ذمة [البائع غير مشغولة. بخير من النقد لدى العقد وذمة] (¬6) المشتري مشغولة بدينار عند القضاء، إلا قدر الجزء المستثنى منه، وإنما هو بيع ثوب بدينار غير هذا المقدار؛ ولهذا الاعتبار لم يجز أن يتعذر النقصان [بمجهول] (¬7) الدراهم لاختلاف الأسواق لما كان المراعي وقت القضاء. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان المستثنى جزءًا من الذهب؛ مثل أن يبيع سلعة بأربعة دنانير إلا خُمسًا أو أربعًا: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتناقد الجميع، أو يتأخر الجميع، أو يتناقد البعض ويتأخر البعض. فإن تناقد جميع أجزاء الصفقة؛ الثمن، والمثمون، والجزء المستثنى: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع: النقدين المدبوبين. (¬3) في أ: أعراضه. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: عن. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: بجمهور.

فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو نص "المدونة". والثاني: المنع. وسبب الخلاف: هل المشتري مخاطب بتسليم دينار الكسر، ويخاطب البائع بدفع الجزء المستثنى؟ أو المشتري مخاطب بدفع أربعة أخماس الدينار؟ فمن رأى أن المشتري مخاطب بدفع دينار الكسر: لم يرد على البائع الجزء المستثنى، فالصفقة مردودة لا تجوز وإن انتقد جميعها؛ لأن ذلك ذهب بذهب مع أحدهما سلعة؛ لأن الجزء الواجب على البائع رده إنما يقع على الذهب، ثم [يحطّ] (¬1) ذلك لدفع صرفه دراهم لتعذر وجود ذلك الجزء من الدينار على وجهه [وهو تأويل أبي القاسم بن المكاتب] (¬2). وإن تناقد البعض وتأخر البعض؛ مثل أن يتناقد الدينار الدنانير السالمة مع السلعة ويتأخر دينار الكسر أو بالعكس: فالمذهب أيضًا على قولين قائمين من "المدونة". أحدهما: الجواز، وهو نص "المدونة". والثاني: عدم الجواز، وهذا القول قائم من "المدونة" من مسألة السلعة إذا اشتراها بنصف دينار فيدفع إليه المشتري دينارًا وأخذ منه [فضلة دراهم] (¬3) حيث قال: ذلك جائز إذا قبض السلعة. ¬

_ (¬1) في ع: بعد. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: فضة بدراهم.

فراعى هاهنا نقد جميع ما احتوت عليه الصفقة حالًا ومآلًا [وهكذا الحكم إذا تأخر الجميع] (¬1). وسبب الخلاف: ما أحدثاه [بعد العقد] (¬2) هل [يعد] (¬3) كأن العقد وقع عليه أم لا؟ فمن قدر أن للعقد تناوله حتى كأنه مشروط فيه: قال ببطلان العقد في المسألتين؛ لتأخير بعض أعواض الصرف. ومن قدر أن ما أحدثاه بعد العقد لم يتناوله العقد ولا وقع عليه: قال بصحة الجميع، وهذا ضعيف جدًا. وعلى القول بالجواز [فمن] (¬4) يخاطب بتسليم دينار الكسر، هل المشتري مخاطب بدفع الدينار سليمًا، ويخاطب البائع بدفع الجزء المستثنى؟ أو البائع غير مخاطب بشيء إلا بدفع السلعة خاصة، ويكون المشتري مخاطبًا بدفع الثمن جملة؟ فهذا مما اختلف فيه المتأخرون تأويلًا على "المدونة". فمنهم من قال: إن المشتري مخاطب بدفع دينار الكسر، ويخاطب البائع بدفع الجزء المستثنى على المشتري، وهو ظاهر "المدونة"؛ حيث قال: ينقده الأربعة وأخر الدينار الباقي حتى يأتيه بخمس أو ربع، ويدفع إليه الدينار فقال: لا بأس بذلك. وعلى هذا يتخرج القول الذي قدمناه في أثناء التحصيل أن ذلك لا يجوز؛ لأنه ذهب بذهب مع أحدهما سلعة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بالعقد. (¬3) في أ: يقدر. (¬4) في أ: من.

ومنهم من قال: أن المخاطب بتسليم جميع الثمن هو المشتري؛ فإن كان الشراء بخمسة دنانير إلا خمسًا: فعليه تسليم أربعة دنانير [ذهبًا] (¬1) وأربعة أخماس الدينار صرفًا من الورق إذا لم يجد من الذهب مجموعة [يقضي] (¬2) منها تلك الأجزاء، وذلك غاية المقدور، وهذا الذي اعتبره في منع المسألة من أصلها، إنما ذلك إذا وقع التأخير في بعض أجزائها. وعلى القول بأن المخاطب بتسليم الجزء هو البائع يدفع من الدراهم قدر حصة الجزء المستثنى، ثم يأخذ دينارًا كاملًا لتعذر وجود الجزء بعينه: فإنما عليه صرفه من الدراهم من صرف يوم الحكم والقضاء اتفاقًا وعلى القول بأن المشتري هو المخاطب بتسليم بقية الأجزاء هل ذلك بصرف يوم القضاء، أو يوم التبايع؟ قولان، والصحيح: أن عليه صرفه يوم التبايع. وسبب الخلاف: هل ذمة المشتري معمورة بجزء من الذهب في حال العقد ثم الصرف مالًا، أو ذمته لم تزل مشغولة بصرف بقية الدينار من يوم العقد. والجواب عن الوجه الثالث: إذا كان المستثنى من غير جنس الدنانير والدراهم؛ مثل أن يبيع سلعة بدينار إلا قفيز حنطة: فقد اختلف فيه المذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن (إلا) الذي هو من حروف الاستثناء لا يحمل على ظاهره في هذه المسألة، وهو فيها بمعنى: مع، وهو قول مالك في "المدونة"؛ حيث قال: كأنه اشترى سلعة مع قفيز حنطة بدينار. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يقتضي.

والثاني: أن (إلا) الذي هو من حروف الاستثناء يحمل على ظاهره، ويركب عليه من الحكم ما يقتضيه من أن ينظر إلى قيمة القفيز فيسقط من الدينار، وما بعد ذلك فهو من ثمن السلعة، ولكن إنما يصح هذا بعد معرفتهما بقيمة القفيز، ولا يجوز إن جهلاها لأن ذلك مخاطرة. وسبب الخلاف: اختلاف الأصوليين في الاستثناء من غير الجنس هل يجوز أم لا، والأشهر جوازه لغة وشرعًا, ولا يخفى ذلك على من طالع علم الأصول، ولسنا الآن نشرح [الدلالة] (¬1)، وقد جوزه مالك [رحمه الله] (¬2) في "المدونة" فيما إذا استثنى جزءًا من الورق، والورق ليس من الذهب -لا جنسًا ولا نوعًا-[وجوزه في كتاب الغصب أيضًا في الجبة والخاتم إذا قال: هذه الجبة لك وبطانتها لي وهذا الخاتم لك وفصه لي] (¬3). وهذا الذي اختاره بعض حذاق المذهب كأبي الوليد الباجي وغيره، وأما على نصه في المدونة أن (إلا) بمعنى: مع، فذلك مشكل، ولا يصح ذلك إلا إذا كان معروفًا عندهم في عرف الاستعمال بشرط أن يكون القفيز عند البائع وإلا كان بيع ما ليس [عنده] (¬4) إلى غير أجل السلم كما قال أشهب [في المدونة والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في ع: الأدلة. (¬2) زيادة من ع. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: عندك. (¬5) سقط من أ.

المسألة الثانية عشرة فيما إذا صرف منه دينار [بدراهم] ثم أخذ منه [بالدراهم] سلعة

المسألة الثانية عشرة فيما إذا صرف منه دينار [بدراهم] (¬1) ثم أخذ منه [بالدراهم] (¬2) سلعة ولا يخلو من وجهين: إما أن يكون ذلك بشرط، أو بغير شرط؛ فإن كان ذلك بشرط مثل أن يصرف منه دينار [بدراهم] (¬3) على أن يأخذ منه بالدراهم سلعة، وكانت حاضرة: فذلك جائز، والبيع إنما وقع على السلعة لا على الدراهم وإن سمياه صرفًا فهو بيع، والنظر إلى الفعل لا إلى القول. وإن استحقت السلعة: فإنه يرجع بالدنانير التي دفع اتفاقًا, ولا ينظر إلى الدراهم. وإن قبضها حين الصرف إذا وقع الشرط: فإن قبضها لا يفيد؛ إذ لا يقدر على البينونة بها لأجل الشرط، وإن استحق الدينار أو وجد به عيب رجع عليه [البائع] (¬4) بمثله. وأما إن كان ذلك بغير شرط؛ مثل أن يصرف دينارًا [بدراهم] (¬5) ثم أخذ [بالدراهم] (¬6) سلعة: فالصرف هاهنا أولًا، والبيع ثانيًا فإن استحقت ¬

_ (¬1) في أ: بدرهم. (¬2) في أ: بدرهم. (¬3) في أ: بدرهم. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: بدرهم. (¬6) في أ: بدرهم.

السلعة [لم] (¬1) يرجع المشتري على البائع. فلا يخلو من أن يكون قد قبض الدراهم ثم ردها وأخذ السلعة [أو] (¬2) لم يقبضها. فإن أخذ الدراهم ثم ردها وأخذ السلعة: فإنه يرجع بالدراهم، والصرف صحيح لتقابضهما العوضين، وكونه قد رد الدراهم في الحال لا يؤثر بصحة العقد والقبض، وهو ظاهر "المدونة" من الوجه الأول؛ حيث قال: إذا قبضها بشرط فلا ينفعه ذلك القبض لأنه قبضها بشرط أن يردها ولا يتبين بها، [فإن] (¬3) استحق الدينار في هذا الوجه: انتقض الصرف، ويرجع عليه بالدراهم، والبيع صحيح لا يرد، وأما [إذا لم يقبض] (¬4) الدراهم حتى أخذ بها سلعة: فهاهنا إن استحقت السلعة رجع بالدينار ولا يرجع بالدراهم لأنه إن رجع بها صار صرفًا مستأخرًا للتهمة في أن يعملا على ذلك. ولو استحق الدينار ووجد به عيبًا: بطل الصرف، ويرجع على قابض السلعة بمنزلة من اشترى سلعة بدرهم: فعليه دفع تلك الدراهم، قاله أبو القاسم بن محرز [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: فيم. (¬2) في أ: و. (¬3) في أ: وإن. (¬4) في أ: إن لم تقبض. (¬5) زيادة من ع.

المسألة الثالثة عشرة في شرح مسألة سعيد بن المسيب [رحمه الله]

المسألة الثالثة عشرة في شرح مسألة سعيد بن المسيب [رحمه الله] (¬1) وهو إذا باع حنطة بدينار ونصف درهم، فلم يجد عند المشتري نصف درهم، فأراد أن يأخذ منه عوضه: فلا يخلو ما يأخذ منه من أن يكون [عرضًا] (¬2) أو طعامًا. فإن كان [عرضًا] (¬3): جاز قبل القبض وبعده، ولا علة تبقى هنالك. فإن كان المردود للبائع طعامًا: فلا يخلو من أن يكون ذلك قبل الغيبة على [الشراء] (¬4) أو بعد الغيبة عليه. فإن كان ذلك بعد الغيبة عليه: فلا يجوز البيع اتفاقًا؛ لأن ذلك طعام بطعام ليس يدًا بيد. فإن كان ذلك قبل الغيبة، وقبل القبض أو بعده: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكون المردود عين المشتري، أو [من] (¬5) نوعه، أو [من غير] (¬6) جنسه. فإن كان عين المشتري، وكان قبل القبض: فلا يجوز اتفاقًا؛ لأن ذلك ¬

_ (¬1) زيادة من ع. (¬2) في ع: عوضًا. (¬3) في ع: عوضًا. (¬4) في أ: المشتري. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

بيع الطعام قبل قبضه، والمشتري هو البائع في هذا الوجه. وإن كان بعد القبض: فالمذهب على قولين: الجواز، والمنع والقولان قائمان من "المدونة". وسبب الخلاف: هل يحمل فعلهما على الإقالة فيجوز؛ لأن الإقالة من بعض المكيل قبل الغيبة على الطعام جائزة عنده، أو يحمل على البيع ثم لا يجوز؛ لأن ذلك طعام بطعام متفاضلًا؟ فإن كان المردود من نوع المشتري؛ مثل أن يكون المشتري حنطة والمردود شعيرًا: فيمنع اتفاقًا أيضًا، والعلة فيه التفاضل بين الطعامين لكون الدينار مع أحد الطعامين وله حصة في الطعام المنفرد. فإن كان المردود من غير جنس المشتري؛ مثل أن يكون المشتري حنطة، والمردود زبيبًا: فالجواز اتفاقًا؛ لجواز التفاضل بين الجنسين. فرع: ولو ابتاع بدراهم لحمًا فأخرج درهمًا ناقصًا، وقال للبائع: خذ [عوض] (¬1) ما نقص من الدرهم لحمًا [لم يجز] (¬2) ودخله أربعة أوجه من الربا: التفاضل بين الفضتين، والتفاضل بين الطعامين، وبيع الطعام قبل قبضه، والاقتضاء من ثمن الطعام طعامًا. ولو كان ذلك بعد أن قبض الطعام: دخله كل ما ذكرنا إلا بيعه قبل قبضه [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ع.

المسألة الرابعة عشرة في شراء بعض الورثة الحلي من التركة

المسألة الرابعة عشرة في شراء بعض الورثة الحليّ من التركة والكلام في هذه المسألة على صورتها وتنزيل المعاني المختلفة لأجل اختلاف الرواة في الضبط؛ لأن المعاني تختلف باختلافه، ونص المسألة في الكتاب: أرأيت لو أن رجلًا هلك فباع ورثته ميراثه، فكانوا إذا بيع الشيء فمن يريد أخذه وكتب على نفسه الثمن حتى يحسب ذلك عليه في حصته فبيع في الميراث على ذهب أو فضة، أو بيع ما فيه الذهب والفضة؛ مثل السيف وما أشبهه فقال مالك: لا يباع من ذلك ما كان فيه الذهب والفضة إلا بنقد من الورثة أو غيرهم. واحتج مالك [فقال] (¬1): ألا ترى أن لو تلف بقية [الملك] (¬2) أليس يرجع عليهم فيما صار عليهم، وفي رواية أخرى: فيما صار لهم، وفي رواية: يرجع عليهم، على فعل ما لم يسم فاعله. وصورة المسألة: أن الوارث الذي اشترى قد قبض حصة بقية الورثة فيما اشترى، وانتظر بدفع الثمن المحاسبة، وذلك صرف مستأخر، ويفسخ البيع، ويرد على أصحابه سهامهم من الحلي، ويتماسك بحصته، ولا يلزمه أن يرد جميع الحلي حتى يبتدئوا قسمته؛ لأن المفاضلة والمناجزة وقعت بينهم في الحلي المبيع بإمساك قدر حصته منه ودفع الباقي إلى من هو له، وليس لهم أن يأبوا ذلك عليه، وهو نص قول مالك في "كتاب محمَّد". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع: المال.

واحتجاج مالك - رضي الله عنه - بالمال أن لو تلف أن شراءه ليس بقسمة [ناجزة] (¬1) لانتظارهم [المحاسبة] (¬2)، وهذه صورتها على الجملة، وإنما الغموض والإشكال في تنزيل المعاني التي أوجبها اختلاف الروايات في الضبط، والله المستعان على ما نرومه من الشرح والبيان: أما قوله: ألا ترى أن لو تلف بقية المال [أليس] (¬3) يرجع عليهم [فيما] (¬4) صار عليهم؟ فيحتمل أن يريد بالبقية بما بقي من المال في الوسط لم يكتبه واحد منهم على نفسه فيكون ضمانه من الورثة جميعًا. وقوله: "يرجع عليهم [فيما] (¬5) صار عليهم": فيحتمل أن يريد بقوله: يرجع عليهم [بقية الورثة الذين لم يكتبوا على أنفسهم شيئًا. وقوله: فيما صار عليهم يحتمل أن يكون بمعنى صار لهم يريد بالكتابة على أنفسهم] (¬6) فيقتسمونه لأنه في ضمانهم جميعًا. ويحتمل أن يريد بقوله: "عليهم" على ظاهره، ويكون ما كتبوه على أنفسهم وقبضوه قد ادعوا تلفه ولا يعلم ذلك إلا بقولهم: فيجب عليهم المثل أو القيمة فيما يرجع إلى القيمة أن يخرجوه من أموالهم ويقسموه بينهم على فرائضهم، ويكون كأنه جميع التركة ويحتمل أن يريد بقوله: أليس يرجع عليهم: يريد [الوارث] (¬7) الذي كتب على نفسه أولًا فيرجع على بقية الورثة بما كتبوه هم على أنفسهم كما كتب هو وقد تلف ما كتب هو على ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع: المحبوسة. (¬3) في أ: أنه. (¬4) في أ: بما. (¬5) في أ: بما. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

نفسه وقبضه، وكان تلفه ببينة أو بغير بينة؛ [وكان] (¬1) الضمان من [جميع] (¬2) الورثة، واسم البقية يصلح إطلاقها، على ما قبض وعلى ما لم يقبض، وكذلك البعض أيضًا يطلق على الواحد وعلى أكثر وذلك لا ينكره إلا جاهل بوضع اللغة وعرف الشريعة. وقوله في الرواية الأخرى: أليس يرجع عليهم على ما لم يسم فاعله: معناه يرجع على من كتب على نفسه شيئًا فيما صار عليه من القيمة إن تلف وجهل السبب على رواية: فيما صار عليهم أو يرجع عليهم فيما صار لهم بالكتبة وقبضوه ويكون قائمًا بأيديهم على رواية: "لهم"، ويحتمل قوله: يرجع عليهم أيضًا طرآن الغرماء إذا طرؤوا وقد تلف بقية المال ولم يبق إلا ما اشتراه الوارث فيقتسمه الغرماء فيما بينهم، والله أعلم بمراد مالك في هذا الأمر، والمسألة محتملة غير ما ذكرناه، ولكن ما ذكرناه أجلى الاحتمالات [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: لأن. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ع.

المسألة الخامسة عشرة فيما إذا أسلفه دراهما أو عروضا ثم اشترى [منه] بالدراهم أو باع منه بالعروض

المسألة الخامسة عشرة فيما إذا أسلفه دراهمًا أو عروضًا ثم اشترى [منه] (¬1) بالدراهم أو باع منه بالعروض ولا يخلو سلفه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يشترطا [فيه] (¬2) الحلول، والنقد. والثاني: أن يشترطا الأجل، وسمياه. والثالث: أن يبهم الأمر بينهما. فالجواب عن الوجه الأول: إذا وقع السلف على النقد والحلول وكان دراهم فصرفها منه بدنانير قبل أن يبرح: فإن ذلك جائز إذا قبض المسلف الدراهم التي هي صرف الدينار في الحال؛ لأن سلفهما على الحلول، وله أن يقبض منه متى يشاء. فإذا أخره به بعد ما أخذه منه الدينار وعلم أنهما قد قصدا إلى صرف مستأخر، وجعلا السلف ذريعة إلى جوازه. فإن اشترى بها منه عرضًا من العروض أو طعامًا إلى أجل مثل أجل السلم: جاز، وإن كان إلى غير [أجل] (¬3) السلم: لم يجز؛ لأن ذلك بيع ما ليس عنده. والجواب على الوجه الثاني: إذا كان العرض إلى أجل ثم اشترى [به] (¬4) ¬

_ (¬1) في أ: منها. (¬2) في أ: منه. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

منه عروضًا أو طعامًا، فإن كان ذلك على النقد: جاز، وإن كان إلى أجل لم يجز؛ لأن ذلك بيع الدين بالدين. وإن صرف بها دنانير من عنده: لم يجز أيضًا؛ لأن ذلك صرف مستأخر فكأنه أخذ دنانير في دراهم إلى أجل، والدراهم كأنها لم تكن؛ لأن ما قبض في الحال ورد في الحال كأنه لم يكن بحال. والجواب على الوجه الثالث: إذا أبهم الأمر؛ مثل أن يسلفه ولم يذكر الحلول، ولا الأجل على ماذا يحمل؟ [فالمذهب] (¬1) على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يقتضي التأجيل وعليه يحمل، ويضرب له من الأجل مقدار ما يرى أنه رفق في السلف، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم في غير "المدونة" وهو ظاهر قوله في "كتاب الصرف"؛ حيث قال: لأنك أخذت دراهمًا بدنانير تكون عليك إلى أجل والأجل غير مذكور في أصل السلف؛ فدل أن السلف المطلق يقتضي التأجيل، ويؤخذ أيضًا من "كتاب العارية" من "المدونة" في الذي أعار لرجل عرصته فبنى فيها ولم يضربا لعاريتهما أجلًا: فإنه يضرب لهما من الأجل ما يعار لمثله. والقول الثاني: أنه يحمل على النقد، وهو قول أشهب و [به قال] (¬2) ابن القاسم في غير "المدونة"، وهذا القول قائم من "المدونة" ومن كتاب الصرف أيضًا من الذي استلف دراهم من رجل ثم اشتري بها منه مكانه حنطة أو ثيابًا؛ حيث قال: فإن كان السلف إلى أجل: جاز ذلك على النقد، وإن كان حالًا: جاز ذلك يدًا بيد، وفي بعض ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الروايات: أو إلى أجل. وقال أبو عمران: يريد مثل أجل السلم، بقوله: [أو] (¬1) إلى أجل [دليل] (¬2) على أن قوله: على النقد: هو على الحلول، إلا أن يشترط الأجل على اختلاف الروايات في إثبات هذا الحرف، وهو [قوله] (¬3) أو إلى أجل. قال سحنون: وهو حرف سواء وأمر بطرحه. وقال ابن وضاح: هو لأشهب. وقال بعض المتأخرين: ومن قول أشهب أدخله سحنون، وهو يجيز ذلك؛ لأنه "من" قول مالك. وقال فضل بن سلمة: ما طرحه سحنون إلا لكونه أسلم [عينًا] (¬4) عليه في ذمته في طعام إلى أجل، وهو الدين بالدين. وسبب الخلاف: هل الأصل في [القرض] (¬5) الأجل حتى يصرح فيه بأنه على الحلول أو الأصل فيه النقد والحلول حتى يصرح بالأجل؟ فمن رأي أن المقصود في العرض المعروف والرفق بالمستقرض يقول: إن الأجل فيه هو الأصل؛ إذ لا فرق في الحلول؛ [لأن لصاحبه أن يطالبه في الحال. ومن رأي أن الأجل نفسه معروف زائد على معروف القرض يقول: إنه على الحلول] (¬6) حتى يشترط الأجل؛ لأن المعروف لا يطالب به إلا فيما أوجبه على نفسه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: قولنا. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ع: القضاء. (¬6) سقط من ع.

وهكذا الحكم في العروض؛ إذا أقرضه عرضًا إلى أجل: جاز أن يبيعه منه بالنقد، ولا يجوز إلى أجل، وهو بيع الدين بالدين. فإن كان العرض نقدًا: جاز أن يبيعه منه نقدًا أو إلى أجل، وإن أبهم الأمر: فقولان، على ما قدمناه في العين [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ع.

المسألة السادسة عشرة في البيع والصرف

المسألة السادسة عشرة في البيع والصرف ولا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك في جنسين. والثاني: أن يكون في الجنس الواحد. فإن كان ذلك في جنسين، مثل أن يشتري سلعة وذهبًا بدراهم، أو يشتري سلعة ودراهم بدنانير: فلا يخلو ما مع السلعة من أحد النقدين إما أن يكون كثيرًا أو يسيرًا. فإن كان كثيرًا: فهل يجوز البيع، أو لا يجوز؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وهو مشهور المذهب. والثاني: أن ذلك جائز، وهو قول أشهب في أول "كتاب الصلح" في الذي اشترى سلعة بذهب، ثم وجد بها عيبًا، فصالحه البائع على دراهم نقدًا؛ حيث قال: جاز إن كانت أقل من صرف دينار، وإن كانت أكثر من صرف دينار: لم يجز. وقال أشهب: ذلك جائز وإن كان أكثر من صرف دينار. وعلى القول بأنه لا يجوز إذا كان الذهب أو الدراهم كثيرة، فما حد تلك الكثرة؟

فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن حد الكثرة فيها: ما كان قدر صرف دينار، وهو نص قول مالك [في "المدونة"] (¬1) في "كتاب الصرف" و"كتاب الصلح". والثاني: أن المعتبر في ذلك أن يكون أكثر من صرف دينار؛ أي: جُله، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الصرف" أيضًا، وبه قال ابن الموَّاز. وسبب الخلاف في البيع والصرف: اختلافهم في عقديهما، هل هما عقدان متضادان، أو عقدان متماثلان؟ فمن رأي أنهما متماثلان لكون عقد البيع يجوز فيه الخيار والأجل والحوالة، وعقد الصرف لا يجوز فيه شيء من ذلك ولا يحتمله قال: لا يجوز اجتماعهما لتنافرهما وتدابرهما، وكل عقدين متضادين وضعًا فلا يجوز اجتماعهما شرعًا، وكذلك ما عدا البيع من سائر العقود، وهي ستة، ويجمعها ["جص مشنق" الجيم: جعل وبيع. والصاد: صرف وبيع، والميم: مسافات وبيع، والشين] (¬2) شركة وبيع، والنون: نكاح وبيع، والقاف قراض وبيع، ولا يجوز عقد الصرف مع عقد من هذه العقود لما بينهما من التنافر. ومن رأي أنه عقد معاوضة، وأنه نوع من أنول البيوع قال: يجوز الجمع بينه وبين سائر العقود، وأصل ذلك نكاح وبيع إذا عرف ما ينوب [البضع] (¬3) من الثمن، وإن كان عقد النكاح يجوز فيه ما لا يجوز في البيع؛ لكون النكاح مبني على المسامحة [والمكارمة] (¬4) والبيع مبني على ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: البيع. (¬4) سقط من أ.

المكايسة والمغابنة وكذلك إذا كان مع العقدين سلعة فإنه يعتبر أيضًا أن تكون قيمة السلعة صرف دينار أو أقل على حسب ما ذكرنا في أحد العينين إذا كان مع [السلعة] (¬1): فإن ذلك لا يجوز عند ابن القاسم وإن انتقد جميع الصفقة. فإن كان أقل من صرف دينار: جاز إذا انتقد جميع الصفقة. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان في الجنس الواحد؛ مثل أن يشتري سلعة وفضة بفضة: فلا يخلو من أن يكون ذلك في الكثير من الفضة، أو في اليسير منها. فإن كان ذلك في الكثير منها؛ مثل أن يشتري سلعة بدرهم ونصف فيدفع له درهمين، ويرد عليه البائع نصف درهم مع السلعة، أو بثلاثة دراهم ونصف، فيدفع له أربعة ويرد عليه نصف الدرهم مع السلعة: فإن ذلك لا يجوز، وكذلك فيما هو أكثر من ذلك. وقال ابن القاسم في "المدونة": وأصل قول مالك: أن الفضة [بالفضة] (¬2) مع إحدى الفضتين أو مع واحدة منهما سلعة من السلع: أن ذلك لا يجوز -كانت السلعة يسيرة أو كثيرة- لقوله عليه السلام: "الفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء مثلًا بمثل" (¬3) وفي حديث آخر: "كيلًا بكيل، ولا تبيعوا بعضها على بعض" (¬4) فإذا كانت السلعة مع إحدى الفضتين: لم تحصل المماثلة؛ لأن للسلعة حق في الفضة [المفقودة] (¬5) وعلى هذا المعنى ¬

_ (¬1) في ع: السلعتين. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (2066) ومسلم (1590). (¬4) أخرجه أحمد (7171) وابن أبي شيبة (4/ 320) بسند صحيح. (¬5) سقط من أ.

تتنزل مسألة أبي البلاط المكي حين سأل عبد الله بن عمر [رضي الله] (¬1) عنه وقال: أنا تاجر من البحرين ولهم دراهم صغار فنشتري البيع هنالك [فيردوا] (¬2) علينا من الدراهم الصغار، فقال له عبد الله بن عمر: ذلك ربا، فقال له أبو البلاط: يا أبا عبد الرحمن: إن الدراهم الصغار لو وزنت كانت سواء، قال: فأخذ عبد الله بن عمر بيده حتى دخل به المسجد فقال: هذا الذي ترون يريد أن آمره بأكل الربا. ومعنى قول أبي البلاط: فنشتري البِيَع: جمع بيعة، بمعنى صفقات. ومعنى قوله: فيردوا علينا الدراهم الصغار: يريد أن الدراهم التي يشترون بها دراهم كبار، فإذا اشتروا الصفقة نقدوا فيها الكبار على حسب دراهمهم؛ مثل أن تكون الصغار على النصف من الكبار، وربما يشترى مثلًا بأحد عشر أو ثلاثة عشر درهمًا من الدراهم الصغار، فإذا دفع إليه المشتري من الكبار خمسة أو ستة بقي للبائع عليه نصف درهم فيدفع له البائع درهمًا مع السلعة من الدراهم الصغار ليدفع إليه المشتري درهمًا كاملًا: فمنعه عبد الله بن عمر؛ لأن ذلك فضة بفضة مع إحداهما سلعة، وذلك حرام لا يجوز. فإن كان ذلك في اليسير منهما؛ مثل أن يشتري ببعض الدرهم سلعة ويسترجع ببقيته فضة، فهل يجوز ذلك، أو لا يجوز؟ فالمذهب على ستة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز جملة، وهو قول مالك فيما [حكاه] (¬3) عنه أشهب في "كتاب محمد" وفي "العتبية". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فيرد. (¬3) في أ: حكى.

والثاني: أن ذلك [جائز في] (¬1) القليل والكثير، وهو قول أشهب في الكتاب المذكور. والثالث: أن ذلك [يجوز] (¬2) في القليل دون الكثير، وهو قول مالك في "المدونة". والرابع: أنه يجوز أن يأخذ ببقية [الدرهم] (¬3) سلعة وباقيه فضة، ولا يأخذ نصف درهم فضة ونصفه فلوسًا، وهو قول مالك في "كتاب محمد" أيضًا. والخامس: بالتفصيل بين البلد الذي فيه [الفلوس والدراهم الصغار] (¬4) كالأرباع والأنصاف والخراريب: فلا يجوز ذلك فيه، وبين البلد الذي لا يجوز فيه ذلك: فيجوز للضرورة، وهو قول بعض المتأخرين. [والسادس: أنه لا يجوز في بلد فيه الفلوس، ويجوز في بلد فيه الدراهم الصغار، وهو قول أشهب أيضًا. وعلى القول بأنه يجوز في القليل والكثير] (¬5)، فقد اختلف في حد القليل على قولين: أحدهما: أن النصف في حيز القليل، وهو قوله في "كتاب الصرف". والثاني: أن الثلث في حيز اليسير، والنصف في حيز الكثير وهذا القول قائم [من المدونة] (¬6) في السيف المحلى. ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) في أ: لا يجوز. (¬3) في أ: الدراهم. (¬4) في أ: فلوس ودراهم صغار. (¬5) سقط من ع. (¬6) في ع: من قوله.

وسبب الخلاف في أصل المسألة: اختلافهم في هذا المعنى هل ذلك ضرورة عامة ومشقة تامة فيؤثر في إباحة المحظور [وأصل المذهب عندنا أن للضرورة تأثير في إباحة المحظور] (¬1) وهو ظاهر قول مالك في "الكتاب"؛ حيث قال: لأنها نفقات لا تكاد تنقطع، فاستدل بأن مكة لا يجوز دخولها إلا بإحرام، ثم إنه رخص للمترددين إليها بالفاكهة والحطب والحشيش أن يدخلوها بغير إحرام؛ لما عليهم من المشقة والمؤونة في الإحرام عند كل تكرار، أو لا مضرة في ذلك لأنه قادر على أن يشتري بجميع الدرهم، ثم يأخذ حاجته ويبيع ما بقي [أو] (¬2) ينفق من عند البائع حتى يتكامل له عنده درهم أو أكثر فيعطيه [إياه] (¬3)، أو يقدم له هو درهمًا ثم يستخرج النفقة من عنده شيئًا فشيئا حتى يفرغ الدرهم ولا يعمل بالربا المحرم؛ لأن ذلك فضة بفضة مع إحداهما سلعة. وهذا الذي قدمناه في المعاملات، وأما الاقتضاء؛ مثل أن يبيع له سلعة بثلثي درهم [ثم يعطيه سلعًا ويأخذ الدرهم، أو يقرضه ثلث درهم] (¬4) ثم يعطيه عند القضاء ثلث الدرهم ويأخذ منه الدرهم كاملًا، فهل يجوز أم لا؟ فالمذهب يتخرج على ثلاثة أقوال: أحدها: الجواز جملة. والثاني: المنع جملة. والثالث: أنه يجوز في اقتضاء ثمن البيع، ولا يجوز في اقتضاء ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أن. (¬3) سقط من ع. (¬4) سقط من ع.

القرض، وهي رواية [عيسى] (¬1) عن ابن القاسم: أنه يجوز في [الاقتضاء] (¬2) من درهم كما يجوز في أصله، ولا يجوز في الاقتضاء من القرض كما لا يجوز في أصله؛ لاتفاقهم أنه لا يجوز له أن يدفع [له] (¬3) درهمًا أثلاثًا ثم يأخذ [منه] (¬4) الدرهم الكامل من غير مراطلة؛ لأن ذلك ربا التفاضل، فينبغي أن لا يجوز [عند] (¬5) الاقتضاء كما لا يجوز يدًا بيد، وهذه العلة [معدومة] (¬6) في اقتضاء درهم البيع. ووجه من جوز في الجميع جملة: أنهم لم يقصدوا في ذلك إلا [الرفق في] (¬7) القضاء والاقتضاء دون المصارفة والمكايسة. ووجه من منعه جملة: أن ذلك مخاطرة، وكل واحد لا يدري مقدار ما أخذ إن كان وزن مثل ما دفع أو أقل أو أكثر مع التهمة أن يكونا قد تعاملا على ذلك ابتداء [والحمد لله وحده] (¬8). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: اقتضاء. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: في عقد. (¬6) في أ: مقدومة. (¬7) في أ: في الرفق. (¬8) زيادة من ع.

المسألة السابعة عشرة في صرف بعض الدينار

المسألة السابعة عشرة في صرف بعض الدينار وقد اختلف المذهب في صرف بعض الدينار، والذي يتخرج من "المدونة" في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز، وهو نص قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: الجواز، وهو ظاهر قول ابن القاسم فيما إذا صرف دينارًا من رجلين لبقاء الشركة بين المشتريين [في الدينار] (¬1)، وهو ظاهر قوله آخر الكتاب [أيضًا] (¬2) فيما إذا أسلف لرجل دينارًا؛ حيث قال: يجوز أن يأخذ سدسه دراهم، وهذا صرف بعض الدينار بعينه. والقول الثالث: بالتفصيل بين أن تكون الشركة بين البائع والمشتري ثم لا يجوز، أو تبقى بين المشتريين في الدينار فيجوز، وهو نص "المدونة". وسبب الخلاف: هل المعتبر إبقاء الشركة بين البائع والمشتري خاصة، أو المعتبر كون [المشتري] (¬3) لا يقدر على البينونة بما اشترى، ولاسيما على ما علل به في المدونة بأنه إنما أخرج دراهم ولا يأخذ عند المقاسمة إلا الدراهم من ذلك درهم بدرهم ليست يدًا بيد مع تفاضلهما، فيدخل فيه الربا من وجهين [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: البائع. (¬4) زيادة من ع.

المسألة الثامنة عشرة في الاقتضاء

المسألة الثامنة عشرة في الاقتضاء ولا يخلو ذلك من ستة أوجه: أحدها: اقتضاء المسكوك عن المسكوك. والثاني: اقتضاء المتبور عن المتبور. والثالث: اقتضاء المصوغ عن المصوغ. والرابع: اقتضاء المسكوك [عن] (¬1) المتبور، أو المتبور [عن] (¬2) المسكوك. والخامس: اقتضاء المطبوع عن المصنوع، أو المصنوع عن المطبوع. والسادس: اقتضاء المصنوع عن المتبور، أو المتبور عن المصنوع. ونعني بالمطبوع: السكي، و [نعني] (¬3) بالمصنوع: الحلي. فأما المسكوك عن المسكوك: فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: اقتضاء القائمة عن الفرادى، أو الفرادي عن القائمة. والثاني: اقتضاء القائمة عن المجموعة، والمجموعة عن القائمة. والثالث: اقتضاء الفرادى عن المجموعة، والمجموعة عن الفرادى. والرابع: اقتضاء المحمدية عن اليزيد، واليزيدية عن المحمدية، أو السمراء عن المحمولة، أو المحمولة عن السمراء. فبنا أن نقدم القول في شرح هذه الألقاب قبل الخوض في مقصود ¬

_ (¬1) في أ: على. (¬2) في أ: على. (¬3) سقط من أ.

المسألة، والكلام في ذات الشيء قبل الكلام في أوصافه. فالقائمة: مأخوذة من اسمها، ومشتقة من رسمها؛ سميت بهذا الاسم لقيامها بنفسها [واستغنائها] (¬1) عن غيرها، كما يقال: فلان قائم بأمر نفسه ومستقل به إذا كان لا يحتاج إلى مقاصد ومؤازر، وهي تجري بعددها في المعاملات، وقد بالغ ابن القاسم في وصفها [في الكتاب] (¬2) حيث قال: إذا اجتمع منها مائة في العدد زادت في الوصف دينارًا، وذلك غاية الكمال. والفرادى: مأخوذة من اسمها، ومشتقة من رسمها؛ لأن كل واحد منهما منفرد بنفسه ومستقل بحكمه في الجريان، ولا يحتاج فيها إلى الوزن، على عكس القائمة. والمجموعة: مأخوذة من اسمها أيضًا، سميت بذلك لاجتماعها في الوزن لأن الدينار يجتمع منها بالأثمان والأسداس والأثلاث والأرباع دون أن يحذفها دينارًا قائمًا، والمائة فيها مجموعة من دنانير مجموعة، ولا تجري بعيونها في المعاملات، وإنما تجري بوزنها في أغلب الأحوال. والمائة منها مائة بصحة المائة بلا مزيد عليها فهذا حد كل جنس من غير زيادة على المقصود، ولا بخس. فأما اقتضاء القائمة من الأفراد والأفراد من القائمة فجائز من غير اكتراث [بما] (¬3) تقدم من الذمة منها؛ لأن التطاول فيها من جهة القائمة خاصة إن أخذت القائمة عن الأفراد كان من حسن القضاء، وإن أخذت الأفراد عن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: أن.

القائمة كان من حسن الاقتضاء، إلا أن تكون القائمة أقل عددًا من الأفراد فيكون مبايعة؛ لأنه اغتفر عدد الأفراد بعيوب القائمة وذلك ربا. وأما اقتضاء القائمة من المجموعة، أو المجموعة من القائمة: فإن المعتبر فيهما الثابت في الذمة أولًا مجموعة، فإن كان الثابت في الذمة مجموعة فقضي عنها القائمة جائز، وإن كان الثابت في الذمة قائمة: فغير جائز أن تقضي المجموعة عنها لدخول الربا فيها بمعنى المبايعة، إن كان في الذمة قائمة فقد ترك الوزن وجودة عين القائمة لفضل [عدد] (¬1) المجموعة، وهذا المعنى الذي علل به موجود فيما إذا كان الثابت في الذمة مجموعة؛ لأنه قد قد ترك العدد لفضل العيون والوزن في القائمة. ولأشهب في "العتبية" أن المجموعة تقتضي من القائمة. وقد فرق بين السؤالين بعض المتأخرين على قول ابن القاسم. وقال: إذا كان الثابت في الذمة قائمة فقد ثبت له عليه دين بشريطة العدد فصار له الحكم، فإذا أخذ فيها مجموعة أكثر عددًا علمنا أنه إنما ترك ما وجب [له] (¬2) من عدد القائمة وفضل عيونها لكثرة عدد المجموعة، بخلاف ما إذا [كان الثابت] (¬3) في الذمة مجموعة فلم يرتب له عددًا معلومًا إذ عدد المجموعة الوزن يسقط حكمه ثم لا تأثير له، فقد أخذ أكثر وزنًا وأفضل عيونًا، فالفضل من جهة واحدة فجاز. وهذا الفرق ظاهر إذا كان العدد معتبرًا عندهم، وأما إذا كان العدد عندهم غير معتبر: فلا فرق، ويعد ذلك اختلاف قول. ¬

_ (¬1) في أ: غير. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: كانت.

وأما اقتضاء الأفراد عن المجموعة، أو المجموعة عن الأفراد: فغير جائز لتقابل الفضول من [الجهتين] (¬1)؛ وذلك أنه اعتبر وزن الفرادى لفضل عيونها، واغتفر الآخر شر عيون المجموعة لفضل وزنها أو عددها فتكون مبايعة، اللهم إلا أن يترك وزن عيون المجموعة فيأخذها بوزن الأفراد فيجوز إذ الفضل من جهة الأفراد خاصة ما لم يكن لكثرة العدد عندهم فرية وفضيلة فيجرى على قولين: الجواز، والمنع، وينبني الخلاف على الخلاف في الاقتضاء [هل هو كالمراطلة] (¬2) أم لا؟ فإن قلنا: أنه كالمراطلة، فالعدد غير معتبر فيجوز، وإن قلنا إنه ليس كالمراطلة فهو معتبر. والقولان قائمان من "المدونة" من قوله: إذا كان الثابت في الذمة قائمة فلا تقتضي منها المجموعة، فاعتبر العدد ولم يغيره في العكس إذا كان الثابت في الذمة مجموعة، بل جوز، وكل سواء. وأروج عبارة في هذا أن يقال: إذا كان الفضل من جهة واحدة: جاز، وإن كان من جهتين كفضل السكة من أحدهما وجودة الذهب من الآخر، واختلف الوزن: وقع الربا. فإن استوى الوزن: جرى على القولين في [الاقتضاء] (¬3) هل هو كالمراطلة أم لا؟ وتحصيل ذلك على ما في المدونة والعتبية: أن القائمة تقتضي من كل شيء، والمجموعة لا تقتضي شيء، والفرادى تقتضي من القائمة، ¬

_ (¬1) في أ: جهتين. (¬2) سقط من ع. (¬3) في أ: القضاء.

وبالعكس، ولا تقتضي من المجموعة. ولأشهب في "العتبية": أن المجموعة تقتضي من القائمة [ولابن لبابة في كتابه أنه لا تقتضي واحدة منهما عن الأخرى فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن كل واحدة منهما تقتضي عن الأخرى وهو قول أشهب، وإليه مال اللخمي. والثاني: أنها لا تقتضي واحدة منهما عن الأخرى وهو قول ابن لبابة. والثالث: أن القائمة تقتضي من المجموعة ولا تقتضي المجموعة من القائمة وهو قول ابن القاسم في "الكتاب"] (¬1). وأما اقتضاء المحمدية عن اليزيدية، أو بالعكس أو السمراء عن المحمولة، أو المحمولة عن السمراء: فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك قبل الحلول. والثاني: أن يكون بعد الحلول. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان قبل الحلول: فلا يخلو من ستة أوجه: [إما أن يقضيه] (¬2): أقل عددًا، أو أقل صفة، أو مثل العدد والصفة، أو أكثر عددًا وأكثر صفة، أو مثل العدد وأكثر صفة، أو أكثر صفة وأقل عددًا. فإن قضاه أقل عددًا وأقل صفة، أو مثل العدد وأقل صفة كاليزيدية عن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أحدها.

المحمدية أو المحمولة عن السمراء: فإن ذلك لا يجوز في العين والطعام، وسواء كان الدين من بيع أو قرض؛ والعلة في ذلك "ضع وتعجل". فإن قضاه أقل عددًا أو أجود صفة كالمحمدية عن اليزيدية أو السمراء عن المحمولة: فإن ذلك لا يجوز لتقابل الفضول، وذلك ربا. فإن قضاه مثل العدد والصفة: جاز اتفاقًا إذا رضي الذي له الدَّين بقبوله قبل أجله؛ إذ له ألا يرضى بذلك في طعام البيع وعروضه اتفاقًا، وفي العين وعووض السلف وطعامه على الخلاف؛ فابن القاسم جوز التعجيل ويجبر على القبول؛ إذ الأجل حق للذي عليه القرض، ودين العين إذا كان من ثمن [بيع] (¬1) كذلك بخلاف طعام البيع وعروضه، فالأجل فيه حق لهما جميعًا، وأشهب يساوي بين القرض والبيع والعروض والعين، وأن رب الدين لا يجبر على قبوله قبل أجله. فإن قضاه أكثر عددًا وأكثر صفة كقضائه المحمدية عن اليزيدية، أو السمراء عن المحمولة أكثر كيلًا: فإن ذلك لا يجوز في العين والطعام -كان الدَّين من بيع أو قرض- والعلة في ذلك ربا التفاضل والنساء؛ لأن الذي عليه الدين قد دفع الأكثر ليأخذ من ذمته الأقل عند حلول الأجل وذلك ربا مع ما في ذلك من الربح في السلف إن كان الدَّين من قرض وحط عن الضمان وأزيدك إن كان الدين من بيع فيما سوى العين بالاتفاق، وفي العين على الخلاف. فإن قضاه مثل العدد وأكثر صفة: فلا يخلو الدين من أن يكون عينًا أو طعامًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن كان عينًا: ففيه قولان قائمان من المدونة: الجواز، والمنع، والجواز أظهر أشهر. وسبب الخلاف: العين هل هو مراد لعينه، أو مراد لغرضه، والقولان قائمان من المدونة، فعلى القول بأنه مراد لغرضه: كان جائزًا ويكون حسن القضاء، وعلى القول بأنه مراد لعينه فيمنع كالعروض؛ لأن ذلك ضمان بجعل، وهذا القول قائم من "المدونة" من مسألة الصرف إذا قال له في طعام السلم: بِعْهُ وجئني بالثمن حيث قال: إن جاءك بدراهم أقل من دراهمك كان ربا، [فقيل: اتهم] (¬1) في هذا الموضع أن يدفع كثيرًا ويأخذ قليلًا كما قال عبد العزيز في "كتاب السلم" وما ذلك إلا لكون العين فيه ضمان كالعروض. فإن كان الدين طعامًا: فلا يخلو من أن يكون من بيع، أو من قرض. فإن كان من بيع: فلا يجوز قولًا واحدًا؛ لأن ذلك "حُط عَنِّى الضمان وأزيدك". وإن كان من قرض: قولان منصوصان في "المدونة": أحدهما: الجواز؛ إذ لا ضمان فيه كالعين على المشهور. والثاني: المنع، وهو قول ابن القاسم؛ لأن ذلك تفاضل بين الطعامين كالبيع، ويعد ذلك مبايعة لما يرجوا من حوالة الأسواق عند الحلول حتى يكون الأدنى أنفق من الأعلى. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان [ذلك] (¬2) بعد الحلول: فلا يخلو ¬

_ (¬1) في ع: فقد اتهمه. (¬2) سقط من أ.

من الأوجه الستة التي قدمناها في الوجه الأول: [إما] (¬1) أن يقضيه مثل العدد والصفة، أو مثل العدد وأقل الصفة، أو أقل عددًا وأقل صفة، أو أقل عددًا وأكثر صفة، أو مثل العدد وأجود صفة، أو أكثر عددًا وأكثر صفة. فإن قضاه مثل العدد والصفة: فلا خلاف في الجواز؛ لأنه قد أبرأ ذمته مما عمرت به على [حسب] (¬2) ما عمرت، فإن قضاه مثل العدد وأقل صفة؛ كاليزيدية عن المحمدية، أو المحمولة عن السمراء: فلا إشكال أيضًا في الجواز، ويكون ذلك أيضًا من [جنس الاقتضاء] (¬3). فإن قضاه أقل عددًا وأقل صفة: جاز في العين. وفي طعام القرض، قولان والأشهر: الجواز، وذلك من جنس الاقتضاء. وفي طعام البيع قولان: أحدهما: إذا كان [لمعنى] (¬4) الوضع جاز، وإن كان لمعنى العوض منع، وهو قوله في "كتاب السلم الثالث". والثاني: أن ذلك جائز كالعين، وهو قول أشهب والقولان في "الكتاب". فإن أبهم الأمر قولان. فإن قضاه أقل عددًا وأكثر صفة أو أكثر عددًا وأقل صفة: لم يجز اتفاقًا في العين والطعام لتقابل الفضول. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: حساب. (¬3) في ع: حسن الاقضاء. (¬4) في ع: بمعنى.

فإن قضاه مثل العدد وأجود صفة: جاز في العين والطعام من بيع كان أو من قرض، وذلك من جنس القضاء فإن قضاه أكثر عددًا وأكثر صفة، أو أكثر عددًا ومثل الصفة: فالمذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: الجواز إطلاقًا، وهو قول أشهب. والثاني: المنع إطلاقًا لأنه في طعام البيع يبعه قبل قبضه، وفي القرض سلف بزيادة. والثالث: التفصيل بين [قرب] (¬1) المجلس وبعده، وهو قول مالك في "الكتاب" بناءً منه على قوة التهمة وضعفها. والرابع: التفصيل بين البيع والقرض؛ فيجوز في البيع، ولا يجوز في القرض؛ لأنه سلف بزيادة، وهو متأول على "المدونة". وسبب الخلاف: مراعاة [قوة] (¬2) التهمة وضعفها. واختلف في اقتضاء الدقيق من [القمح] (¬3) على قولين: أحدهما: الجواز، وهو قول مالك في "كتاب السلم الثالث". والقول الثاني: المنع، وبه قال عبد الملك. ووجه القول بالجواز: أن الطحين ليس بصنعة ولا زاد فيه أكثر من تفتيت أجزائه، [ونقص الريع يقابله] (¬4) أجرة الطحن. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الحنطة. (¬4) في أ: وزيادة تقابله.

ومن منع: يرى أن ذلك مزابنة؛ لأن الدقيق كيله يختلف، فتحصل المُزَابَنَة. والقولان عن مالك. وقيل: إن ذلك اختلاف حال. وعلى القول بالجواز هل يجوز اقتضاء الدقيق من القمح أقل من مكيلته أم لا؟ [قولان] (¬1): المنع لابن القاسم، والجواز لأشهب. وأما الوجه الثاني من أصل المسألة: في اقتضاء المتبور، عن المتبور: فإنه يعتبر فيهما التساوي في الجودة والدناءة والتكافؤ في الوزن. فإن تفاضلت الفضول من جهتين: منع، فإن كان الفضل من أحد الجهتين: فإنه يعتبر فيه ما يعتبر [في المسكوك] (¬2). وأما الوجه الثالث: في اقتضاء [المصنوع عن المصنوع] (¬3) فإن اتفق الوزن والجودة: جاز وإن اختلفت الصنعة؛ لأن الوزن يسقط. وإن تساوى الوزن واختلفا في الجودة: جاز إذا كان الفضل من جهة واحدة، فإن قابله فضل من الطرف الآخر: منع لوجود الربا. وأما الوجه الرابع: في اقتضاء المسكوك عن المتبور، أو المتبور عن المسكوك: فإن كان التبر أفضل وزنًا: حرم لأن فضل الوزن يقابله فضل السكة فيقع الربا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بالمسكوك. (¬3) في ع: المصوغ عن المصوغ.

فإن استويا في الجودة والوزن ولم يكن للمتبور مزية: فإنه يجوز، وكذلك إذا كان المتبور أدنى صفة مع تساوي الوزن؛ لأن الفضل من جهة المسكوك. وأما الوجه الخامس: في اقتضاء المطبوع عن المصنوع، أو المصنوع عن المطبوع: فإن اختلفا في الوزن لم يجز بحال؛ لأن السكة [والصناعة] (¬1) كالعرضين وهما مما تختلف [فيه] (¬2) الأغراض، ولا يقال: إن أحدهما أفضل من الآخر لأن كل واحدة منهما تراد لما [لا] (¬3) تراد [له] (¬4) الأخرى. وإن استوى الوزن: فإنه يتخرج على قولين: الجواز والمنع -استويا في الجودة أو اختلفا- والقولان قائمان من "المدونة" والجواز أشهر. وأما الوجه السادس: في اقتضاء المصنوع عن المتبور أو المتبور عن المصنوع: فإن كان المتبور أكثر [وزنًا] (¬5) لم يجز، وسواء اتفقا في الجودة أو كان المتبور أدنى في الصفة. فإن كان المتبور مثل وزن المصنوع وأدنى صفة أو أقل وزنًا [وأقل صفة] (¬6) جاز؛ لأن الفضل من جهة المصنوع وحده. فإن كان المتبور أقل وزنًا وأجود صفة: لم يجز لتقابل الفضول؛ لأنه اغتفر نقصان الوزن في جودة الصفة. فهذا ما تحصل عندي من مسائل الاقتضاء، ولم أره لمتقدم ولا لمتأخر ¬

_ (¬1) في ع: والصياغة. (¬2) في أ: فيهما. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: لها. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من ع.

على هذا التحصيل، فاشدد وثاقها تربت يداك [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ع.

المسألة التاسعة عشرة في وجود المقتضي [الزيادة] فيما اقتضى ومعاوضته عنها

المسألة التاسعة عشرة في وجود المقتضي [الزيادة] (¬1) فيما اقتضى ومعاوضته عنها ولا يخلو دين المقتضي من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون عينًا. والثاني: أن يكون طعامًا. والثالث: أن يكون عرضًا. فإن كان [عينًا فلا يخلو من أن يكون قرضًا أو ثمنًا لبيع. فإن كان] (¬2) [من فرض] (¬3)؛ مثل أن يقرضه دينارًا كيلًا فقضاه أرجح في الوزن فلا يخلو الرجحان من أن يكون يسيرًا، أو كثيرًا. فإن كان يسيرًا: فذلك جائز، ويكون من حسن [الاقتضاء] (¬4) ولا يلزم المقتضي المعاوضة [عن] (¬5) تلك الزيادة؛ لأن الشرع سامح على الزيادة المتصلة إذا كانت يسيرة. فإن كانت كثيرة فاشتراها رب الدين بورق أو عرض، فإن كان إلى أجل: فلا يجوز، وإن كان نقدًا: فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو نص "المدونة". والثاني: المنع، وهذا القول قائم من "المدونة" من الفضل الذي بعده؛ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ع: قرضًا. (¬4) في ع: القضاء. (¬5) في أ: على.

لأن ذلك ذهب بذهب مع أحدهما فضة، أو سلعة تأخرت. فإن اشتراها بذهب: فالمذهب على قولين: الجواز لأشهب، والمنع لابن القاسم. وسبب الخلاف: اختلافهم فيما يوجبه الحكم هل هو مثل ما يوجبه الشرط أم لا؟ فإن قلنا: إن الحكم أوجب المراطلة في الرجحان الزائد، ولا يتهمان أن يتعاملا على ذلك حين السلف: جاز ذلك من غير إشكال. وإن قلنا: [إن ما يوجبه الحكم] (¬1) مثل ما يوجبه الشرط: منع شراء الزيادة بالذهب، ويتهمان على العقد على المراطلة ابتداء، فيمنع ذلك اتفاقًا [لخروج المراطلة] (¬2) عن [وجهها وتغيرها عن] (¬3) سنتها، ويلزم من انقسم على هذا الترجيح أن يمنع شراء الزيادة بالفضة والعرض؛ لأن ذلك ذهب بذهب وزيادة، ولا محيص له عن هذا الإلزام. فإن قضاه أنقص من وزن الأول: فإنه يجوز للمستسلف أن يعطيه فيما بقي عرضًا بلا خلاف. وهل يجوز [له] (¬4) أن يعطيه فضة؟ قولان: الجواز إذا لم يتجاوز عنه في عيون الدنانير فيكون مبايعة، فيمنع بالاتفاق. وتتخرج في المذهب قولة أخرى بالمنع. وسبب الخلاف: ما أحدثاه بعد العقد هل يتهمان فيه أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من ع. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ع. (¬4) سقط من أ.

فأما إذا كان الدين من ثمن بيع: فلا يخلو من أن يقضيه مثل [الصفة] (¬1) وأكثر وزنًا، أو مثل [الصفة] (¬2) وأقل وزنًا؛ فإن قضاه مثل [الصفة] (¬3) وأكثر وزنًا، فأراد رب الدين أن يشتري تلك الزيادة، فإن اشتراها بالعرض: جاز اتفاقًا. فإن اشتراها بفضة وكان الدين ذهبًا، فإن كانت الفضة أقل من صرف دينار [وتناقدا] (¬4): جاز على الخلاف الذي آنفناه في مسألة البيع بكسر الدينار إتقان من طب لمن حب. وإن كان أكثر من صرف دينار: فالمذهب على قولين: أحدهما: المنع؛ لأنه بيع وصرف، وهو قول ابن القاسم. والثاني: الجواز، وهو مذهب أشهب؛ لأن البيع والصرف جائز عنده. وسبب الخلاف: هل امتناع البيع والصرف من الاجتماع لمعنى أو لا لمعنى؟ وقد أطلق الجواب في الكتاب ولم يفصل بين أن تكون الفضة أكثر من صرف دينار أو أقل، وظاهرة: ألا فرق، ويكون خلافًا لما تقدم لابن القاسم، وهذا إذا كان القضاء بفور عقد البيع وتناقدا الجميع. وأما إن تراخى القضاء عن قبض السلعة: فإنه يتخرج على الخلاف الذي قدمناه من تأخير أحد الأعراض في الشراء في بعض الدينار، بناء على ¬

_ (¬1) في أ: الفضة. (¬2) في أ: الفضة. (¬3) في أ: الفضة. (¬4) سقط من أ.

[أن] (¬1) ما أحدثاه بعد العقد غير ملتحق بالعقد -قلَّت الدراهم أو كثرت- ومنعه مرة بناء على قوة التهمة، وهو ظاهر قوله في "كتاب الصلح" في مسألة العبد. وأما إذا اشتراها بذهب: فإن ذلك لا يجوز اتفاقًا؛ [لأنه] (¬2) ذهب بذهب مع أحدهما سلعة. وأما إن قضاه أقل وزنًا ومثل الصفة: فإنه يجوز للمستسلف أن يدفع عن ما بقي عرضًا أو فضة نقدًا، ولا إشكال في ذلك. والجواب عن القسم الثاني: إذا كان الدين طعامًا؛ مثل أن يسلم في طعام فجاء ليقضيه: فلا يخلو من أن يقضيه مثل الكيل وأجود صفة، أو أدنى صفة، أو قضاه مثل الصفة وأكثر كيلًا، أو أقل صفة وأقل كيلًا. فإن قضاه مثل الكيل وأجود صفة أو أدنى صفة: فلا يجوز للمشتري أن يشتري تلك الصفة، ولا للبائع أن يرد على المشتري لنقص الصفة شيئًا؛ لأن ذلك بيع الطعام قبل قبضه إن كان من بيع، وإن كان من قرض: كان ذلك زيادة في السلف. وأما إن قضاه مثل الصفة وأكثر كيلًا أو أقل: فلا يخلو من أن يكون ذلك قبل الحلول، أو بعده. فإن كان قبل الحلول: فلا يجوز للمشتري أن يشتري تلك الزيادة؛ لأنه بيع وسلف لكونه عجَّل ما لم يجب عليه تعجيله على أن يبيع منه الزيادة على ما أسلم إليه فيه، وسواء اشتراها بنقد أو إلى ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع: أن ذلك.

أجل. وأما إن كان أقل كيلًا: فلا يجوز للبائع أن يشتري ما بقي عليه [بشيء] (¬1)؛ لأن ذلك بيع وسلف أيضًا لأن البائع تَعْجل بعض ما عليه [على] (¬2) أن يبيعه المشتري ما بقي عليه من الطعام مع ما في ذلك من بيعه قبل قبضه. وأما إن كان بعد الحلول، وكان مثل [الصفة] (¬3) أو أكثر كيلًا: جاز للمشتري أن يشتري منه تلك الزيادة نقدًا أو إلى أجل؛ إذ لا تهمة في ذلك وكأنها بسلعة أخرى منفصلة اشتراها منه المشتري. وأما إن قضاه مثل الصفة وأقل كيلًا، وقد حلَّ الأجل: فلا يجوز للبائع أن يشتري ما بقي بشيء من الأشياء إن كان الطعام من بيع؛ لأن ذلك بيع الطعام قبل قبضه إن كان الطعام من بيع. وإن كان من قرض: جاز بما شاء نقدًا، ولا يجوز إلى أجل؛ لأن ذلك فسخ دين في دين. وأما إن [قضاه] (¬4) بأكثر كيلًا وأكثر صفة، أو أكثر كيلًا وأقل صفة: فإن ذلك لا يجوز؛ لأن ذلك سلف بزيادة إن كان من قرض، وإن كان من بيع دخله بيعه قبل قبضة مع ما في ذلك من التفاضل بين الطعامين. وإن قضاه أقل كيلًا وأقل صفة، فدفع البائع لأجل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الفضة. (¬4) في أ: قضى.

النقصان شيئًا. فلا يجوز من بيع [على حال] (¬1)، والعلة [فيه] (¬2): بيعه قبل قبضه. والجواب عن [القسم] (¬3) الثالث: إذا كان الدين عرضًا يكال أو يوزن أو يعد: فإن حلَّ الأجل [جاز] (¬4) كيف ما قدر وصور، فإن لم يحل الأجل: فإنه يعتبر فيه البيع والسلف وغيره من العلل [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الوجه. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من ع.

المسألة العشرون في حكم الدراهم الزيوف والمعاملة بها

المسألة العشرون في حكم الدراهم الزيوف والمعاملة بها ولا يخلو الذي يأخذها من أن يكون عالمًا، أو غير عالم. فإن كان غير عالم: فلا خلاف أن ذلك لا يجوز؛ لأنه غش وخديعة. فإن كان عالمًا، فهل يجوز الرضا بها والمعاملة عليها؟ فالذي يتخرج من "المدونة" ثلاثة أقوال: أحدها: الجواز إطلاقًا، وهو [ظاهر] (¬1) قول أشهب في "الكتاب"؛ حيث قال: لا بأس ببدلها على وجه الصرف بدراهم جياد وزنًا بوزن [لأنهما لم يريدا] (¬2) بذلك فضلًا بين الفضتين. والثاني: المنع إطلاقًا [حتى تقطع] (¬3)؟ وهو قوله في "كتاب الصرف"؛ حيث قال: ولا يعجبني أن تباع الدراهم السوء والرديئة [بدراهم] (¬4) فضة وزنًا بوزن ولا بعرض؛ لأن ذلك داعية إلى إدخال الغش والفساد في أسواق المسلمين. والثالث: التفصيل بين الصيارفة وغيرهم، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الصلح"؛ حيث قال: وإنما ذلك للصيارفة فيما أرى، ولا أدري هل كسرها لجميع الناس، وأرى الصلح بها جائز إذا لم يغر بها أحد. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ع: لأنه لم يرد. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: بدرهم.

فأجاز ابن القاسم المعاملة بها في هذا القول إذا بين. وعلى القول بأن المعاملة بها لا تجوز وإن بيَّن حتى تقطع، فإذا قطعت وكسرت: جاز بيعها وابتياعها إن لم يخف أن تسيل فتعمل منها الدراهم، فتباع على وجه الفضة، فإذا خيف ذلك صفيت حتى تباع فضة على حدة [والنحاس على حدة] (¬1) أشهب في "الكتاب" وقوله تفسير لقول ابن القاسم. وقد اختلف المتأخرون في تأويل قول أشهب الذي جوز فيه بيعها [بالدراهم] (¬2) على وجه الصرف وزنًا بوزن؛ فمنهم من قال: إن ذلك منه اختلاف قول؛ لأن ظاهر كلامه -هاهنا- جوز فيه بيع المغشوش بالدراهم الجياد في القليل والكثير لأنه قد تقدم أول كلامه أنه لا يجوز بيعه حتى يكسر لغش فيه، وهو تأويل أبي القاسم بن محرز. ومنهم من قال: إن ذلك ليس باختلاف قول، إنما جوزه في الدرهمين والثلاثة لقوله في "الكتاب": كالبدل، ولا يجوز فيه إلا ما يجوز في البدل، وهو تأويل أبي القاسم بن الكاتب، واعترضوا على هذا التأويل وردوه، وقالوا: "لا يجيز هذا التأويل ولا يقبل لبعده عن ظاهر الكتاب؛ لأن البدل المراعي في الجواز في قليله إنما هو في المعدود لا في الكفتين، وهو يقول في الكتاب: وزنًا بوزن، والموازنة لا تعتبر إلا في المراطلة". ومنهم من قال: إن معنى قول أشهب: يجوز مراطلة، معناه لولا الغش الذي فيه، وأما حتى يجوز أشهب المراطلة بين المغشوشين الجياد مع قوله ¬

_ (¬1) في أ: بالدرهم. (¬2) سقط من أ.

أولًا لا تجوز المعاملة بها إلا بعد الكسر فلا؛ لأن ذلك يعد منه اختلاف قول، وهو تأويل أبي عمران الفاسي، قال: ويحتمل [أن يكون] (¬1) قول أشهب أن يكون وفاقًا، ويحتمل أن يكون خلافًا لقول ابن القاسم، والله أعلم. تم كتاب الصرف [بحمد الله وحسن عونه وصلى الله على محمد نبيه] (¬2). ¬

_ (¬1) ........... (¬2) زيادة من ع.

كتاب السلم الأول

كتاب السلم الأول

كتاب السَّلم الأول تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ثمان مسائل: المسألة الأولى في شروط السَّلم اعلم أن السَّلم له شروط ستة: منها أن يكون متعلقًا بالذمة، ومنها أن يكون إلى أجل معلوم، ومنها أن يكون موصوفًا، ومنها أن يكون مقدرًا، ومنها أن يكون مأمون الوجود عند الحلول، ومنها أن يكون رأس المال منفردًا. ومن هذه الشروط ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى. فقولنا: أن يكون متعلقًا بالذمة: احترازًا من المعين؛ لأنه إن كان معينًا فهو بيع لا سلم ويكون بيعًا فاسدًا؛ لأنه معين يتأخر قبضه، وهو من باب ضمان بجعل، وذلك يرجع إلى سلف جر منفعة. وقولنا: أن يكون إلى أجل معلوم: احترازًا من السلم الحال، وإن كان لنا فيه خلاف مشهور، وتوجيه مهجور والقولان قائمان من "المدونة". أحدهما: أنه لا يجوز، وهو قوله في غير ما موضع من "المدونة". والثاني: الجواز، وهذا القول قائم من "كتاب المرابحة" من "المدونة" فيما إذا اشترى بعروض فأراد أن يبيع مرابحة؛ حيث قال ابن القاسم: فإنه يصف العروض [التي] (¬1) اشتراها ليربحه بها، وهذا عين السلم الحال؛ لأن ¬

_ (¬1) في أ: الذي.

العروض مضمونة في ذمة المشترى الثاني على صفة، وهي حالة، وهذه صورة السلم، ولم يبق إلا الأجل. فإذا كان لمالك - رضي الله عنه - في المذهب قوله في جواز السلم الحال فهي هذه. وكذلك قال أشهب عقيب قول ابن القاسم: إن ذلك لا يجوز إلا أن تكون العروض عنده؛ لأن ذلك إلى غير أجل السلم، إلا أن تكون العروض عنده. ويؤخذ أيضًا من "المدونة" من "كتاب الشفعة" فيمن اشترى شقصًا بطعام أو عروض، فأراد الشفيع الأخذ بالشفعة، وهو مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أن السلم الحال عنده جائز، وقال: فإذا كان يجوز مع الأجل، فبأن يجوز مع الحلول أولى؛ لأن ذلك أقل غررًا وأبعد من المخاطرة. وأما المالكية فحجتهم من طريق المعنى أن السلم خرج على خلاف الأصل وإنما جوز لموضع الارتفاق؛ لأن السلم يرغب في تقديم الاسترخاص في المسلم فيه؛ وليكون في ذمة المسلم إليه إلى أجل يرجى عنده حوالة الأسواق، والمسلم إليه يرغب لموضع النسيئة وارتفاقه بالثمن إلى ذلك الأجل وإذا لم يشرط الأجل إلى هذا المعنى. وقولنا: أن يكون مقدرًا؛ إذ لا يصح جزافًا؛ لأن من حق الجزاف أن يكون مريبًا مشاهدًا ثم ما يكون معدودًا، فالمعدود يقدر، وما كان موزونًا يوزن فالموزون يقدر، وما كان مزروعًا فالمزروع يقدر، وما كان مكيلًا فالمكيل يقدر. وقولنا: أن يكون موصوفًا، احترازا من أن يكون مجهولًا، وكذلك لا يجوز فيما [لا] (¬1) يحاط بصفته كتراب المعادن وما أشبهه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وقولنا: أن يكون مأمون الوجود عند الحلول: احترازًا من أن يكون معدوم الوجود عند الميعاد المجعول، وإلا كان مخاطرة لتردده بين البيع تارة والسلف تارة. وقولنا: أن يكون رأس المال منفردًا: احترازًا من أن يكون إلى أجل بعينه؛ لأن ذلك دين بدين، وسنعقد في تأخير رأس المال مسألة مفردة إن شاء الله. والحمد لله وحده.

المسألة الثانية فيما يجوز من الحيوان أن يسلم بعضه في بعض

المسألة الثانية فيما يجوز من الحيوان أن يسلم بعضه في بعض وذلك على أربعة أوجه: أحدها: تسليم الأعداد في الأعداد. والثاني: تسليم الآحاد في الآحاد. والثالث: تسليم الآحاد في الأعداد. والرابع: تسليم الأعداد في الآحاد. فالجواب عن الوجه الأول: في سلم الأعداد في الأعداد؛ كالكبار في الكبار مع اختلاف المنافع، والكبار في الصغار وما يعكس: فلا خلاف في المذهب في جوازه؛ لاختلاف المنافع وتقابلها من الطرفين. والجواب عن الوجه الثاني: في سلم الآحاد؛ كالكبير في الكبير والمنفعة من جهة واحدة، أو الكبير في الصغير أو الصغير في الكبير، فهل يجوز السلم أو لا يجوز؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز، وهو ظاهر قوله في "المدونة" في جواز سلم العبد التاجر في العبد الذي ليس بتاجر، والدون في الصفة كالصغير في السن، وهو قوله في "كتاب ابن حبيب"، وأحد قوليه في "كتاب محمد"، وهو تأويل ابن لبابة، وأبي محمد بن أبي زيد على "المدونة". والثاني: أن ذلك لا يجوز؛ لما في ذلك من الزيادة في السلف، أو ضمان بجعل، على حسب اختلاف الصور؛ لأنه إن أسلم صغيرًا في كبير

كان سلفًا بزيادة، وإن أسلم كبيرًا في صغير كان ضمانًا بجعل، وهو قول ابن القاسم في "الموَّازية" حيث قال: ولا خير في حولي في قارح ولا قارح في حولي، والقارح كبير، والحولي صغير. وفي رواية عيسى عنه في "العتبية": ولا خير في صغير في كبير من جنسه، ولا كبير في صغير، وهو قوله في "المدونة"؛ حيث قال: "لا يسلم ثوب في ثوب دونه، أو رأس في رأس دونه" يريد في السمن والجودة. وسبب الخلاف: هل من شرط جواز سلم الحيوانات بعضها في بعض مقابلة الفضول من جهتين، أو من [شرطه] (¬1) أن يكون الفضل من جهة واحدة. والجواب عن الوجه الثالث والرابع: الآحاد في الأعداد، والأعداد في الآحاد. أما الآحاد في الأعداد، كبير في صغير، أو كبير في كبيرين دونه في الجودة؛ كالبعير النجيب الفاره في حواشي الإبل: فلا خلاف في المذهب في جوازه؛ لتقابل المنافع، وللصغير عدد وللكبير جودة. وأما الأعداد في الآحاد كالصغيرين في صغير، أو كبيرين في كبير واحد مع اتحاد المنفعة ففي المذهب قولان قائمان من "المدونة". وسبب الخلاف: ما تقدم في الآحاد. وأما الحمير: فكلها صنف واحد على اختلاف أبيانها، وأجناسها، ¬

_ (¬1) في أ: شرط.

وألوانها، وسرعة سيرها، إلا صغارها فإنها صنف، وكبارها صنف، والحولي صغير، والقارح والرباع كبير، إلا ما اختلف بالنجابة والقوة على الحمولة: فلا بأس أن يسلف في حواشيها كحمير أعرابية، وهو قول مالك في "المدونة" و"الموَّازية"، قال: وحمير مصر كلها صنف واحد، رفيعها ووضيعها. واختلف في البغال والحمير هل هما صنف واحد، أو صنفان على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنها صنف واحد، وهو ظاهر قوله في "كتاب السلم الأول" من "المدونة"، وهو قول مالك في "كتاب محمد بن الموَّاز". والثاني: أنهما صنفان يجوز التفاضل فيهما إلى أجل، وهو ظاهر قوله في "كتاب القسمة" من "المدونة" حيث قال: "لا يجتمعان في القسم"، وهو قوله في "الواضحة"، قال ابن القاسم عن مالك: "ولا بأس أن تسلم كبار البغال في صغار الحمير، ولا تسلف كبار الحمير في صغار البغال"، فقيل له: "ولم ذلك وما الفرق؟ " قال: "قد قاله مالك وما فيه غير الاتباع". وكأنه كرهه؛ لأن الحمير تنتج البغال، وكأنه يشبه المخاطرة لأن ذلك كسلم الشيء فيما يخرج منه. قيل له: "فإلى أجل قريب؟ " قال: "إن كان خمسة أيام وشبهها فيما لا تهمة فيه: فذلك جائز". وأما تسليف الغنم بعضها في بعض: فقد اختلف المذهب في ذلك على قولين: أحدهما: أن الغنم في ذلك صنف واحدة ضأنها ومعزها، صغارها وكبارها، فحولها وإناثها، وهو قول مالك في "المدونة" و"الموَّازية"، إلا شاة

غزيرة اللبن: فلا بأس أن تسلم في حواشي الغنم. والثانى: أنه يجوز سلم شاة كبيرة في معزتين صغيرتين، وهذا القول مروي عن مالك في "كتاب محمد" على، ما نقله أبو محمد بن أبي زيد في "النوادر"، قال والأول هو المعروف. وسبب الخلاف: اختلافهم في سلم الأشياء بعضها في بعض هل المعتبر فيه اختلاف المنافع، أو المعتبر اختلاف الأسامي؟ وظاهر "المدونة" في مسألة الغنم ومسألة جواز سلم رقيق القطن في رقيق الكتان الواقعة في "كتاب السلم الثالث": أن المعتبر الألقاب والتسميات، كون هذا غنمًا اسم يعم الضأن والمعز: فيمنع السلم، وكون هذا كتانًا وهذا قطنًا: فيجوز السلم مع تساوي الصفة والمنفعة، على أن مشهور مذهب مالك - رضي الله عنه - اعتبار المنافع دون الألقاب والتسميات؛ ولهذا قال بعض حذاق المتأخرين في تحصيل المذهب في السلم: اختلاف الأغراض تصير الجنس أجناسًا، واتفاق الأغراض تصير الأجناس جنسًا يختلف باختلاف الصفات. وسر هذا الباب: أن تعلم أن الموجب لاعتبار مالك -رحمه الله- في المتمولات: المقاصد والمنافع، دون الهياكل والأعيان؛ لأن الله تعالى إنما ملكنا منها المنافع خاصة، والأعيان ملك لله تعالى، ولا يملك العبد إلا ما ملكه المولى، وبهذا المعنى نطق القرآن من مفتتحه إلى مختتمه، وعلى هذا بني مالك - رضي الله عنه - إذا اعتبرته، ولاسيما في مسائل المعاوضات والجنايات على المتمولات، ويدلك على ذلك أن من استهلك لرجل ما لا منفعة فيه من العروض، أو حتى على ما لا منفعة فيه من الحيوان -الباطن منه والصامت- أنه لا شيء عليه ولا ضمان؛ لأنه لم يتلف عليه منفعة، وهذا سر مذهب مالك - رضي الله عنه - ولم أر من نبه لإثارة هذا السر العجيب إلا هذا الحبر

النجيب. أبا عبد الله المازري -قدس الله روحه وبرد ضريحه- والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والحمد لله وحده. وأما الطير: ففي "العتبية" من سماع عيسى عن ابن القاسم: أن الطير كله صنف واحد ليس في الجنس الواحد منها من الاختلاف ما يجوز بسلم بعضه في بعض إلى أجل. والديكة والدجاج صنف، وصغارها وكبارها صنف؛ لأن المراد منها اللحم. واختلف في الدجاجة البيوضة بالديكة إلى أجل على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قوله في "العتيبة" في رواية عيسى عنه. والثاني: أنه يجوز أن يسلم دجاجة بيوضة في ديكين، أو ديك في دجاجتين منها، وهو قول أصبغ في "كتاب ابن الموَّاز". والحمام: صنف واحد، صغارها وكبارها، والذكر والأنثى في ذلك سواء، وفي جميع الأجناس فإن الأنوثة لا تأثير لها، وعلى ذلك حلت نصوص المذهب. وأما سائر الطير الوحش مما لا يقتنى لفراخ ولا بيض مثل الحجلة واليمام وشبههما فمجراه مجرى اللحم، ولا يباع بعضه ببعض وإن كان حيًا إلا تحريًا يدًا بيد، ولا يجوز بأوز ولا دجاج أو حمام؛ لأنه من باب اللحم بالحيوان. والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة في السلم في الطعام رطبا ويابسا

المسألة الثالثة في السَّلم في الطعام رطبًا ويابسًا ولا يخلو السَّلم في الطعام من وجهين: أحدهما: أن يكون في ذمة. والثاني: أن يكون في معين. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان السَّلم في الذمة فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون فيما ليس له إبان. والثاني: أن يكون فيما له إبان ينقطع بانقطاعه. فإن كان السَّلم فيما ليس له إبان، وهو مأمون الوجود: فالسلم فيه جائز أيّ زمان شاء، ويشترط الأخذ في أي زمان شاء على الشروط التي قدمنا أولًا. والجواب عن الوجه الثاني من الوجه الأول: وهو أن يكون السلم في الذمة في الشىء الذي له إبان: فالسلم جائز أيّ الإبان شاء، ولا يشترط الأخذ إلا في الإبان، فإن نقضا الإبان قبل أن يستوفي شيئًا: فالمحاسبة جائزة اتفاقًا. وهل يجوز التأخير؟ فالمذهب على قولين: فإن انقضى الإبان قبل أن يستوفي جميع سلمه، وقد استوفى بعضه. فالمذهب على ستة أقوال: أحدهما: وجوب التأخير إلى السنة المقبلة، ولا تجوز المحاسبة، وهذا

أول قول مالك في "الكتاب" وبه قال سحنون. والعلة في المحاسبة بيع الطعام قبل قبضه. والثاني: أن الأصل التأخير إلا أن يجتمعا على المحاسبة وأن الذي يجب له أخذ الثمرة والصبر إلى وجودها والمحاسبة رخصة، ولا يتهمان في فسخ الدين في الدين لأنهما مغلوبان، وهو ثاني قول مالك في "المدونة". والثالث: أن الخيار للمشتري بين المحاسبة والتأخير، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". وانتهى قول ابن القاسم عن بعضهم إلى عام قابل فذلك له، وهو قوله في "كتاب محمد"، وقوله: "من طلب التأخير منهما فذلك له": من كلام سحنون، وهو تفسير لأحد قولي مالك، وإليه ذهب بعضهم. فهذه ثلاثة أقوال منصوصة في "الكتاب". والرابع: التفصيل بين أن يقبضه أكثر السلم، أو أقله. فإن أقبضه أكثره: جاز التأخير. وإن أقبضه أقله: فلا يجوز التأخير، وحكاه التونسي عن مالك وهو قول لا وجه له، ولو كان بالعكس لكان أشبه في النظر، وأسعد للفظ الكتاب في قوله: "لا بأس أن يأخذ بقية رأس ماله". والخامس: أن الواجب المحاسبة، ولا يجوز التأخير وهو قول أشهب لأنه يدخله فسخ الدين في الدين. والسادس: أن الواجب المحاسبة إلا أن يجتمعا على التأخير قول أصبغ وتوجيه كل قول ظاهر. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كان السلم في شيء

بعينه: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون في حائط بعينه. والثاني: أن يكون في قرية بعينها. فإن كان في حائط بعينه: فالسَّلم فيه جائز بثلاثة شروط: أن يكون بعد الزهو. وألا يكون قبل الإثمار. وأن يشترط ما يأخذ كل يوم. وزاد في الكتاب شرطًا آخر: أن يضربا لذلك أجلًا، وظاهره أنه حشو لأنه إذا اشترط ما يأخذ كل يوم وبين الأخذ باليوم الذي يبتدئ فيه الأخذ، وذلك يغني عن ضرب الأجل. وقولنا: أن يكون بعد الزهو: احترازًا من أن يسلم فيه قبل الزهو لتعاظم الخطر في طرآن الجوائح لبعد ما بين وقت العقد وبين وقت الاستيفاء، وكذلك إذا اشتراط أخذ ذلك تمرًا، ولا يخلو السَّلم في ذلك من أربعة أوجه: [أحدها] (¬1): أن يُسلم فيه قبل الزهو على أن يأخذ ثمرًا. والثاني: أن يُسلم فيه بعد الزهو ويشترط أخذه بسرًا ورطبًا. والثالث: أن يُسلف فيه بعد ما أرطب على أن يأخذ ثمرًا. والرابع: أن يُسلم فيه بعد الزهو على أن يأخذه ثمرًا. فأما إذا أسلم فيه قبل الزهو على أن يأخذ ذلك ثمرًا: فهذا يفسخ فيه ¬

_ (¬1) في أ: إما.

البيع -فات أو لم يفت- وترد المكيلة مع الفوات. وأما إذا أسلم فيه بعد الزهو، واشترط أخذه بسرًا ورطبًا: فلا خلاف في الجواز على الشروط التي قدمناها. وأما إذا أسلم فيه بعدما أرطب على أن يأخذه تمرًا: فعلى قولين: أحدهما: الجواز، والآخر: المنع. وعلى القول بالمنع: فإنه يرد البيع ما لم يفت. واختلف بم يفوت على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يفوت بالعقد، وهو ظاهر قوله في جواب المسألة؛ حيث قال: فإذا علم به وفات فما أدى ذلك. فظاهر قوله (وفات): يريد بالعقد، وهو قول أشهب في "الموَّازية". والثاني: أن فواته بالقبض، وهو ظاهر الكتاب في سؤال المسألة؛ حيث قال: فأخذ ذلك وفات البيع، وعليه اختصر أبو محمد بن أبي زيد. ومثله في "كتاب ابن حبيب". وأما إذا أسلم فيه بعد الزهو على أن يأخذ ذلك تمرًا: فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه كالوجه الثالث إذا أسلم فيه بعدما أرطب على أن يأخذه تمرًا، وهو تأويل أبي محمد بن أبي زيد؛ لأنه سوى بينهما في الجواب. والثاني: أنه [يفسخ] (¬1) بكل حال، واليه ذهب ابن شبلون تأويلًا على "الكتاب". والفرق بين أن يشتري ثمر الحائط المعين على الكيل ثم لا يجوز أحدهما ¬

_ (¬1) في أ: يفتح.

ثمرًا، وبين أن يشتريها على الجزاف فيجوز له تركها حتى يصير ثمرًا؛ لأن ضمان المكيل من بائعه فيما قلَّ أو كثر حتى يوفيه المشتري، والجزاف لا ضمان فيه على البائع؛ إذ بالعقد صار في ضمان المشتري؛ لأنه لم يتعلق به حق التوفية إلا أن تطرأ جائحة تبلغ الثلث؛ فكان الغرر في جنب الجزاف يسيرًا فجاز البيع، وكثر المكيل فيمنع من صحته. وقولنا في المسألة: وشرط ما يأخذ كل يوم. احتياطًا من التفاجر عند الأخذ، واحتفاظًا من التخاطر عند القبض لاختلاف الأسواق إذ ذاك، وقد تكون الأسواق نافقة فيريد أن يأخذ الكثير ويمنعه البائع لحاجته في الأخذ بنفسه من رطب جائحة ما يستدرك به البيع في تلك الأسواق، وقد تكون كاسدة فيريد أن يأخذ الأقل لما يرجو في المستقبل من الأسواق، والبائع غرضه أن يأخذ المشتري الكثير ليوفي له ما عقده على نفسه من القناطر والأحمال مخافة ما يطرأ من الجوائح. فإن انقطع الثمر قبل الاستيفاء: فلا خلاف في وجوب المحاسبة، وهل هو على الثمر أو على القيمة؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن المحاسبة على الثمر، وهو نص "المدونة". والثاني: أن المحاسبة على القيمة، وهذا القول يؤخذ من مسائل الفصيل والجوائح. وأما إن كان السَّلم في قرية بعينها، فإن كانت قرية مأمونة لا ينقطع طعامها: فهي كالمضمون في الذمة، وقد فرغنا منه في الوجه الأول. وإن كانت قرية صغيرة ينقطع طعامها في بعض السنة فما حكمها؟

فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: [أن] (¬1) لها حكم الحائط بعينه، وهو تأويل ابن أبي زمنين، وفضل بن سلمة، وابن محرز على "المدونة"، وهو تأويل ظاهر؛ لأنه في "الكتاب": "لا يجوز السلف فيها إلا بعد الزهو؛ إذ لا يشترط ذلك إلا قال في المعين"، ولقوله في السؤال في القرية الكبيرة التي لا ينقطع طعامها، وليس له في تلك القرية أرض ولا زرع ولا حائط، فخص هذه المسألة بهذه الصفة. وظاهر الكلام: إذا كانت قرية صغيرة ينقطع طعامها أن ذلك لا يجوز إلا لمن له فيها حائط أو زرع. واشتراطه في "الكتاب" تقديم النقد احتياطًا، قاله أبو عمران الفاسي. وعلل أصحاب هذا التأويل أن ذلك بيع على التخليص إذا لم يكن فيها طعام. والثاني: أن حكمه حكم المضمون من طرف إلى طرف، وهو ظاهر "المدونة" في اشتراطه في الجواز تقديم النقد، وهو ظاهر قول الشيخ أبي محمد عبد الحق عن بعض شيوخه تأويلًا على "المدونة"؛ حيث قال: السَّلم في قرية بعينها يوافق السَّلم في حائط بعينه من وجهين، ويخالفه في وجهين؛ يوافقه في السَّلم بعد الزهو، وألا يأخذ ذلك ثمرًا مخافة تمالي أهل تلك القرية على بيع ثمارهم رطبًا فيؤدي ذلك إلى قطعها في البلد ثم لا يجد ما يشتري. ويخالفه في النقد وجواز السَّلم لمن ليس له فيها ملك. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإذا كان السلم في الذمة: جاز اشتراط أخذ ذلك ثمرًا؛ إذ لا يعدم ذلك عند الأجل، وهو كالسَّلم في الذمة على أيِّ حال. والقول الثالث: أنه يجوز لمن ليس له فيها ملك بشرط أن يكون أهل تلك القرية شأنهم بيع ثمارهم، وكان لا يستغرق ثمارهم هذا القدر: فيجوز، وإلا فلا يجوز، وهذأ تأويل ابن أبي زيد على "المدونة". فإن [انقطعت] (¬1) ثمار تلك القرية قبل الاستيفاء: فلا يخلو انقطاعها من أن يكون بالاستنفاد، أو بجائحة طرأت عليها. فإن انقطعت باستنفاد أهلها هل الحكم البقاء إلى قابل، أو الحكم المحاسبة؟ قولان: وسبب الخلاف: هل يغلب فيه حكم المضمون في الذمة، أو يغلب حكم المعين. فإن انقطعت بجائحة: فالحكم البقاء إلى قابل، وهو نص "المدونة". والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: انقطع.

المسألة الرابعة في السلم في الصناعات

المسألة الرابعة في السَّلم في الصناعات ولا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يهمل الصانع والمصنوع منه. والثاني: أن يتعين الصانع والمصنوع منه. والثالث: أن يتعين المصنوع منه ويهمل الصانع. والرابع: أن يتعين الصانع ويهمل المصنوع منه. والجواب عن الوجه الأول: إذا تعين الصانع والمصنوع منه: فلا يخلو المصنوع منه من أن يكون فيما يمكنه نقضه وإعادته مرة أخرى، أو لا يمكنه إعادته فإن كان مما يمكنه إعادته مرة أخرى إن خرج على خلاف الصفة كالحديد والنحاس إذا اشتراه منه على أن يعمل منه سكة أو طستًا على صفة، ثم يخرج على خلاف ذلك الوصف، هل يجوز ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة". أحدهما: الجواز إذا شرع في العمل، وهو قوله في "المدونة". والثاني: أنه لا يجوز لما يدخل على المشتري من نقصان ما اشترى عند نقضه وإعادته؛ لأنه إن دخل على أن يعمل له طستًا من رطل نحاس، فإذا خرج العمل على خلاف الصفة، وأراد إعادتها ونقضها مرة أخرى فلابد من أن ينتقص النحاس عند التسييل. وهو أكل للمال بالباطل، وهذا القول قائم من "المدونة" من غير ما موضع.

فإن كان لا يقدر على نقضه وإعادته مرة أخرى؛ كالجلد يعمل منه نعالًا، والخشب يعمل منه أبوابًا: فلا يخلو ما يعمل منه من أن يكون عنده يسيرًا، أو كثيرًا. فإن كان عنده كثيرًا بحيث يعمل له مرة أخرى إن خرج ما عمل له على خلاف الصفة: جاز ذلك إذا شرع في العمل كما ذكرناه أولًا؛ لأنه إن لم يشرع كان معينًا يتأخر قبضه. فإن كان قليلًا عنده بحيث لا يبقى منه ما يعمل شريطته مرة أخرى: فإن ذلك لا يجوز؛ لأن ذلك مخاطرة، وحكم هذا الفصل حكم البيع لا حكم السَّلف. والجواب عن الوجه الثاني: إذا أهملا جميعًا؛ الصانع والمصنوع: فهذا الوجه حكمه حكم السلم، وتعتبر فيه شروطه. والجواب عن الوجه الثالث: إذا تعين الصانع وأهمل المصنوع منه؛ مثل أن يستأجره على أن يعمل له قدورًا أو نعالًا من عنده، ولم يعين له جلدًا ولا نحاسًا: فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: الجواز، وهو نص قول ابن القاسم في "كتاب الجعل والإجارة" في الذي استأجر رجلًا على أن يبني له دارًا على أن الآجر والجير من عنده، وهو قوله في "كتاب السَّلم الأول". وسبب الخلاف: تعارض المعين والمضمون أيهما يُغلَّب حكمه، وذلك أن المضمون يقتضي تقديم النقض ليخرج من الدَّيْن بالدَّيْن، والتعيين يمنع من اشتراط النقد لتردده بين البيع والسلف لاحتمال أن يموت قبل الفراغ من العمل.

والجواب عن الوجه الرابع: إذا تعين المصنوع منه وأهمل الصانع: فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز. والآخر: المنع. وسبب الخلاف: المصنوع منه هل يدخل في ضمان المشتري بنفس الشراء، أو لا يدخل فيه إلا بعد الفراغ من العمل؟ فمن رأي أنه يدخل فيه بنفس العقد قال بالجواز؛ لأن ذلك بيع وإجارة. ومن رأى أنه لا يدخل في ملكه إلا بعد الفراغ من العمل: قال بالمنع؛ لأنه معين تأخر قبضه إلى أجل، وذلك ضمان بجعل. فمنع والحمد لله وحده.

المسألة الخامسة في سلم الشىء فيما يخرج منه

المسألة الخامسة في سلم الشىء فيما يخرج منه ولا يخلو من ثلاثة أوجه: [أحدها: أن يكونا مهملين. والثاني: أن يكونا مصنوعين. والثالث: أن يكون] (¬1) أحدهما مهملًا، والآخر مصنوعًا. فالجواب على الوجه الأول: إذا كان مهملين كسلم الحديد في الحديد، والكتاب في الكتاب، فإن دفع الأكثر ليأخذ الأقل عند الأجل: فلا خلاف في البطلان؛ لأنه ضمان بجعل، فإن دفع الأقل ليأخذ الأكثر: فباطل أيضًا؛ لأن ذلك سلف بزيادة. فإن دفع كيلًا معروفًا أو وزنًا ليأخذ منه ذلك عند الأجل على معنى البيع: فالمذهب على قولين، حكاهما أبو عبد الله المازري على المذهب: أحدهما: الجواز؛ إذا لا علة، ويعد ذلك منه سلفًا وإن سمياه سلمًا. والثاني: المنع إن كان بمعنى البيع ضمنًا أو [تصريحًا] (¬2). وذلك ضمان بجعل، والجعل: هو استمتاع القابض بما قبض إلى حلول الأجل لبقائه في ذمته. والجواب عن الوجه الثاني: إذا [كانا] (¬3) مصنوعين فلا تخلو تلك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: تسريحًا. (¬3) في أ: كنا.

الصنعة من أن تكون مما يمكنه نقضها واستحالتها أم لا؛ فإن [كانت] (¬1) مما لا يمكن نقضها واستحالتها أصلًا كالأجر مع الفخار: فلا خلاف في جواز السَّلم. وإن [كانت] (¬2) مما يمكن نقضها واستحالتها: فلا يخلو ذلك الإمكان من أحد وجهين: أحدهما: أن تتأتى إعادته حِسا وشرعًا، أو تتأتى حسا لا شرعًا. فإن تأتي [إمكان] (¬3) استحالتها حسِّا وشرعا؛ كمصنوع الحديد سككًا وأفواسًا ومساحي: فهذا مما يمكن استحالتها حسًا وشرعًا؛ ومعناه أن الشرع لا يصده عن نقضه؛ إذ ليس في ذلك تبديد ولا إتلاف لكبير صنعة، فهل يجوز سلم بعض ذلك في بعض؟ فالذي يتخرج من المذهب قولان قائمان من "المدونة". أحدهما: الجواز؛ نظرًا إلى اختلاف المنافع، وهو النص فيها. والثاني: المنع؛ نظرًا إلى تمكن الاستحالة جوازًا ووقوعًا. وسبب الخلاف: من ملك أن يملك هل يعد مالكًا أم لا؟ وأما إن كان الثاني، والإمكان حسا والشرع يمنع منه؛ مثل أن يسلف سيوفًا في حديد تخرج منه السيوف، أو سيفًا في سيفين: فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز، وهو قوله في سلم السيف في سيفين، وقد تبين الفضل والجودة. ¬

_ (¬1) في أ: كان. (¬2) في أ: كان. (¬3) سقط من أ.

والثاني: المنع، وهو قوله في سلم السيوف في الحديد الذي تخرج منه السيوف. وسبب الخلاف: هل الاعتبار بالإمكان على الجملة وإن منع الشرع من إيقاع ذلك الفعل الممكن، أو الاعتبار بالإمكان مع إذن الشرع في الوقوع؟ فمن اعتبر الإمكان دون الإباحة قال: "لا يجوز السلم؛ لأن السيوف تنقض وتكون حديدًا، فيؤول إلى سلم الشيء في مثله، وذلك حرام". ومن اعتبر الإمكان مع إباحته من الشارع قال: "يجوز السلم". فإن أمكن أن يعود حديدًا بعد النقض فالشرع يمنع من نقضه لأنه من باب [التبديد] (¬1) وإتلاف المالية، والشرع أمر بصيانة الأموال وحراستها، وجعل حرمتها موازية لحرمة النفوس أو أشد، على ما لا خفاء به على من طالع المذهب. ولو عثر على من في ملكه سيف ثمين قد أراد كسره بسبكه [] (¬2) لحيل بينه وبين مراده، وضرب على يديه ومنع من التصرف في ماله، وعُدَّ من جملة السفهاء الذين أمر الشرع عليهم بالحجز. والجواب عن الوجه الثالث: إذا كان أحدهما مصنوعًا والآخر مهملًا، فإن كان المصنوع منفردًا والمهمل موعودًا، أو المصنوع لا يتأتي نقضه حتى يستخرج منه مثل المهمل الموعود، فهل يجوز السلم أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو نصه في "المدونة". والثاني: المنع؛ للمزابنة، وهو قائم من مسألة النحاس بفلوس تقدمت ¬

_ (¬1) في أ: القدير. (¬2) قدر كلمة بالأصل لم نتبين قراءتها.

أو تأخرت، والعلة فيها: المزابنة. وسبب الخلاف: هل النظر إلى تقدير المُزَابَنَة في عين المنقود أو النظر إلى تقديرها بين الطرفين؟ فمن راعى اعتبارها في عين المنقود: قال بالجواز لاستحالة إحالته حتى يضاهي الموعود. ومن اعتبرها بين الطرفين: قال بالمنع؛ لأن كل واحد منهما يظن في نفسه أنه غابن غير مغبون؛ فالذي دفع المصنوع يقول غبنته؛ لأن المهمل يستعمل منه أكثر مما دفع فيما يظن، والذي دفع المهمل يقول غير ذلك. والجواب عن الوجه الرابع: إذا كان المهمل منفردًا والمصنوع موعودًا: فإن كان الوعد قريبًا بحيث لا يمكن استعمال المهمل وصنعته: فالبيع جائز اتفاقًا فإن كان الأجل بعيدًا: فالمذهب يتخرج على قولين قائمين من "المدونة". أحدهما: المنع. والثاني: الجواز. وسبب الخلاف: هل النظر إلى الحال، أو إلى المآل؟ فمن اعتبر الحال: قال بالجواز، ومن اعتبر المآل: قال بالمنع والمزابنة في هذا الوجه تضرر في عين المنقود مخافة أن يخدمه القابض حتى يستخرج منه مثل ما عمرت به ذمته ما بينه وبين الحلول مع الإمكان ألا يخطر له بالبال حين التبايع. والحمد لله وحده.

المسألة السادسة في تسليف الثياب في الثياب

المسألة السادسة في تسليف الثياب في الثياب وهذه الترجمة تستدعي معرفة أنواع الثياب، وكيفية اختلافها في الجودة والدناءة حتى يتبين للمناظر ما يجوز أن يسلم منها في غيره: واعلم أن أجناس الثياب أربعة: الحرير، والصوف، والقطن، والكتان. فالحرير: ينقسم إلى غليظ ورقيق، وكذلك الصوف، وذلك لا يعرف بالبلدان، وإنما يعرف بالصفة عند التتابع، بخلاف القطن والكتان؛ لأنهما يتنوعان، ومعرفة أنواعهما وأجناسهما بالإضافة إلى البلدان، وكل جنس مضاف إلى البلد الذي جرت العادة باستعمال ذلك الجنس فيه فيضاف إليه. والذي يحصل ذلك أن غليظ القطن صنفان: الشقائق، والملاحف الثمانية؛ يعني بالشقائف: المقاطع التي تفصل بها منها ثياب القطن. ورقيقه أربعة أصناف: المروي، والهروي، والقوهي، والعدني. وغليظ الكتاب أربعة: الزيقة، والمريسية، والقنسي، والفسطاطي، غير المعافري منه. ورقيقه خمسة أصناف: الشطوي، والقصبي، والقرقبي، والقيسي، والمعافري. وفائدة ذلك وثمرته: معرفة ما يجوز أن يسلم في غيره كغليظ القطن في رقيق الكتان، أو بالعكس اختلاف المنافع والتسميات. واختلف في غليظ كل جنس هل يسلم في رقيقه أم لا؟ والخلاف فيه مبني على: الخلاف الذي قدمناه في أول الكتاب في سلم

الآحاد في الآحاد، والفضل من جهة واحدة. وأما غليظ الجنس في غليظ الجنس الآخر: فإن اتحدت المنفعة: فلا يجوز اتفاقًا، وإن اختلفت: فيجوز اتفاقًا. وأما تسليف رقيق جنس في رقيق غيره؛ كرقيق القطن في رقيق الكتان: فالمذهب في جوازه على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز، وهو ظاهر قوله في "كتاب السلم الثالث"؛ حيث قال: وإذا كان لك على رجل ثياب قرقبية إلى أجل فلا بأس أن تبيعها من رجل آخر بثياب قطن مروية أو هروية، وهذه دلالة على جواز تسليف رقيق الكتان في رقيق القطن؛ لأن الدين لا يباع قبل أجله، إلا بما يجوز أن يسلم فيه. والثاني: أنه لا يجوز أن يُسلم بعضه في بعض، وهو ظاهر قوله في أول "كتاب السّلم السَّلم الأول"؛ حيث قال: لا يجوز أن تسلم الغنم بعضها في بعض. . . إلى آخر قوله. وسبب الخلاف: هل المعتبر في جواز السَّلم الألقاب والتسميات، أو النظر إلى اختلاف المنافع؟ فمن اعتبر الألقاب والتسميات: جوز سلم رقيق الكتان؛ لاختلاف الأسامي. ومن اعتبر المنافع: منع السلم لاتحاد المنفعة وتساوي الصفة لمضاهاة الجنسين، واتحاد المنفعة من الصنفين. والحمد لله وحده.

المسألة السابعة في تعليل الربا في المطعومات

المسألة السابعة في تعليل الربا في المطعومات والربا في المطعومات على وجهين: ربا التفاضل، وربا النساء. فربا النساء: هو المتفق على عمومه وشموله لسائر المتمولات. وربا التفاضل: قد اختلف فيه العلماء؛ فقائل يقول: لا ربا إلا في النسيئة، وهو مذهب ابن عباس ومن تابعه من العلماء، وأباح التفاضل في جميع الأنواع يدًا بيد. وقائل يقول: إن ربا التفاضل ممنوع في الأشياء الستة التي نص النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها دون ما عداها. وقائل يقول: إن ربا التفاضل ممنوع في الأشياء الستة، وغيرها، وهو مذهب فقهاء الأمصار. وسبب الخلاف: تعارض الأخبار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فمن ذلك ما خرجه مسلم من طريق ابن عباس: "إنما الربا في النسيئة" (¬1)، وفي بعض طرقه: "لا ربا فيما كان يدًا بيد" (¬2). ومن ذلك ما خرجه البخاري: "لا ربا إلا في النسيئة" (¬3). ويعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء. . ." (¬4) الحديث بطوله. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1596). (¬2) انظر السابق. (¬3) أخرجه البخاري (2069). (¬4) تقدم.

وفي حديث آخر: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الذهب بالذهب والورق بالورق إلا هاء وهاء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى" (¬1) وهذا الحديث اجتمع عليه البخاري ومسلم والموطأ. وقد يمكن الجمع بين هذه الأحاديث ويزول التعارض، ولاسيما على ما روى ابن عباس فقد رجع إلى ما عليه الجماعة من ثبوت ربا التفاضل؛ فيحتمل أن يكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ربا إلا في النسيئة" (¬2) يعني في العروض، وما في معناها مما هو خارج عن الستة المنصوصة وغيرها مما يقاس عليها. ويحتمل أن يريد بذلك الأجناس المختلفة من هذه الستة كالذهب والفضة؛ إذ لا ربا فيهما إلا مع النسيئة؛ لقوله عليه السلام: "إذا اختلفت الأجناس فبيعوها يدًا بيد"، فيحتمل مراد ابن عباس على هذا، ويحتمل أن يكون يريد بقوله: "إنما الربا في النسيئة": إثبات حقيقة الربا، وحقيقته: أن يكون في الشيء نفسه، وهو ربا الجاهلية المذكور في القرآن وفي قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (¬3). على هذه الأوجه الثلاثة من التأويل يحمل مراد ابن عباس فيحصل الجمع بين الأحاديث، واستعمال جميعها، ويتقرر المراد على الأحاديث المتضمنة الأشياء الستة بالتخصيص والتنصيص، فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والملح بالملح ربا ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1308) والبخاري (2027) ومسلم (1586). (¬2) تقدم. (¬3) سورة البقرة الآية (279).

إلا هاء وهاء" (¬1). وفي حديث آخر: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، ربا، إلا سواء بسواء يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى" (¬2). والأحاديث خرجها مسلم وغيره من أهل الحديث. فإذا ثبت ذلك فاعلم أيها المسترشد أن أحلام الأخيار قد طاشت في هذه الأخبار هل هي معقولة المعنى ومفهومة المغزى، أم لا؟ فقائل يقول: إنها غير معقولة المعنى. وقائل يقول: إنها معقولة المعنى. فالقائل أنها غير معقولة المعنى هم أحد الصنفين إما نفاة القياس جملة وهم شرذمة الظاهرية، وأما المثبتون للقياس وإن نفوا بعض أجزاء القياس كالقاضي أبي الطيب الباقلاني فإنه نفي قياس الشبه لأن المُعَوَّل عليه غير القياسيين في هذا الفضل، ونحن نثني عن الخوض معهم ثني العنان، ونحيل في الرد عليهم على فن الأصول بالبيان. فأما القائلون بأنها معقولة المعنى: فقد تحزبوا أحزابًا وتباينوا دليلًا وجوابًا وكل منهم قال صوابًا، وكلًا وعد الله ثوابًا بحسب شدة الشكيمة في الجد والبحث والتشمير. واختلفوا في تعليل الربا في المطعومات الأربعة اختلافًا شديدًا وتباينوا تباينًا بعيدًا لغموض المسألة واعتياضها عن النظار وفحول أرباب الاعتبار؛ فذهب [عبد الملك] (¬3) بن الماجشون إلى التعليل بالمالية، وذهب الحنفية إلى ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) تقدم. (¬3) في أ: عبد العزيز.

التعليل بالكلية، وذهبت [الشافعية] (¬1) إلى التعليل بالطعمية جنسًا. وذهبت المالكية إلى زيادة وصف آخر، فقالوا: "العلة كونه مطعومًا مدخرًا"، وزاد بعضهم وصفًا آخر: وهو أصل للمعاش. فهذه مذاهب فقهاء الأمصار وعللها متعارضة؛ لأنها محتملة؛ إذ هي مظنونة غير مقطوع بكونها مراد الشارع، فليكن التشرف إلى الترجيح في نطفة التفاهم كمن أبرز الدليل على تحريره وتصحيح تقديره فقد استعلى على منار الحقيقة للخليقة. أما ابن الماجشون المعلل بالمالية جنسًا، فربا التفاضل عنده يعم عامة المتمولات جنسًا، ودليله أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سرد الأشياء الستة وألزمها في قرن وجمعها في سنن فتعين ارتباط الحكم بها بوصف تسلمها بتمول متحد، أو ليس إلا المالية، وأيضًا فإن ما عدا [الملكية] (¬2) غير محيل، ولابد من الإحالة في العلل الشرعية، وهي حاصلة في المالية فإن المحرم وهو التفاضل والزيادة في اتحاد الجنسية، وسبب تحريم التفاضل عند معاوضة تستدعي التماثل في المتجانسات محافظة على قاعدة الربا [الموضوعة] (¬3) لصيانة الأموال وحفظها على الملاك. وأما الحنفية: فعمدتهم في التعليل بالكيل: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما علل التعليل باتفاق الصنف واتفاق القدر، وعلق التحريم باتفاق الصنف واختلاف القدر في قوله - صلى الله عليه وسلم - لعامله بخيبر من حديث أبي سعيد: "إلا كيلًا بكيل، يدًا بيد" (¬4)، علمنا أن المعيار الذي هو الكيل والوزن هو المؤثر في الحكم كتأثير ¬

_ (¬1) في أ: الشفعوية. (¬2) في أ: المالكية. (¬3) في أ: الموضوعات. (¬4) تقدم.

الصنف، وهذه العلة أظهر في المعنى وأولى بالصواب من سائر العلل؛ وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا الذي فيه لمكان العين الكبير، وأما العدل في المعنى إنما هو إدراك التساوي؛ ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات جعل الدينار والدرهم بتقويمها ومعرفة تقديرها، وأما الأشياء التي يتأتى فيها الكيل فيدرك التماثل فيها بالكيل دون اعتبار القيمة، فوجب أن يكون الربا منوطًا بالكيل حيث ما جرى التمكين تحققت المماثلة، والله أعلم. وأما الشافعية: فعمدتهم في التعليل بالطعم: الجمود إذا علل باسم مشتق: دل على أن ذلك المعنى الذي اشتق منه الاسم هو علة الحكم كالسرقة، والله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬1) فلما علق الحكم بالاسم المشتق منه وهو السارق: علم أن الحكم متعلق بتفسير السرقة، وكذلك الزنا. فإذا كان ذلك كذلك مع ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طريق [معمر] (¬2) بن عبد الله أنه قال: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل" (¬3)، فمن البَّيِّن أن الطعام هو الذي علق الحكم به. وأما المالكية: فقد دعاها إلى تركيب العلة من جملة أوصاف الحرص على تكثير الفوائد، والتشوف إلى تمهيد القواعد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - خص الأشياء بالتنصيص وجعلها كالأصول ليقاس المسكوت عنه عليها، فلو كان المقصود الكيل كما قاله الحنفي: لاكتفى بالنص على الواحد، وكذلك يقال للشافعية ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية (38). (¬2) في الأصل: معبد. (¬3) أخرجه مسلم (1592).

أيضًا، فلما ذكر منها أعدادًا: علم أنه قصد بكل واحد التنبيه على ما في معناه، ويجمعها كلها الاقتيات والادخار فنص على البر الذي هو أعلى المقتات، ثم نص على الشعير الذي هو أدنى منه لينبه بالطرفين على الوسط، وتنتظم الحاشيتان ما بينهما، ومن عادة العرب العرباء وفصحاء الأدباء إذا أراد أحدهم ذكر جملة الشيء أن يقصد إلى ذكر [طرفه] (¬1) ونهايته، وكأن ذلك دلَّ على استيفائه من اللفظ الشامل. وأما عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فعادة أهل زمانه أكل البُّر مع السعة والاختيار، وأكل الشعير مع [الضيق] (¬2) والإقتار، فكان ذكره لهما تنبيهًا على السلت، والأرز، والدخن، والذرة؛ لأن من اعتاد أكلها في بعض البلدان إما أن يأكلها في حال السعة فيكون ذكر القمح منبهًا له على حكمها، أو في حال الضيق فيكون حكم الشعير منبهًا له، ولو أمكن أن يكون الدخن أو غيره هو الغالب في زمانه وقت الإقتار أصلًا لكان أن ينبه بها بدلًا من الشعير. وأما التمر: فإنه وإن كان يقتات به ففيه ضرب من التفكه، والطبع يستحيله على أنه يؤكل على غير الاقتيات، فنص عليه تنبيهًا على سائر أنواع الحلاوات كالزبيب والسكر والعسل. ولما علم - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الأقوات لا يصلح اقتياتها إلا بعد إصلاحها، وإذا لم تعالج وتصلح كادت أن تلتحق بالعدم مثل بالملح على جميع أنواع التوابل المدخرة لإصلاح الطعام. وأيضًا لما كان أصل المعقول لمعنى الربا حراسة الأموال وأن لا يعين بعضهم بعضًا: وجب أن يكون ذلك في أصل المعاش. ¬

_ (¬1) في أ: طرفيه. (¬2) في أ: الضرر.

وهذه العلة احتجت بها المالكية -على إخالتها ومناسبتها- في حطيط الدنو من علل المخالفين؛ لأن علل المخالفين متحدة الوصف، وعلة المالكية ذات أوصاف، والعلة كلما قلَّت أوصافها واتحدت أجزاؤها كان ذلك [دليلًا] (¬1) على صحتها وأقرب إلى اقتناص الحكم بها؛ فإن الناظر يصوب نظره في العلة حتى تتماثل المناسبة والإخالة فيغلب على ظنه الوصول إلى المقصد وحصول المطلب، وأما إن شعبت الطرق، وعنت السبل، وكثرت أوصاف العلة: فإن الخاطر يتبدد وفكره يتبدد في تصحيح الأوصاف وتخليصه من الأسئلة الواردة على القياس، ولا يكاد يتصف فيه حد المدرك ويغص المسلك؛ ولهذا يقع الترجيح عند أرباب الأصول بالعلة المتحدة الوصف على الكثيرة الأوصاف. وسر الخلاف بين الجميع: الجنس هل هو من أوصاف العلة، أو شرط من شروطها؟ فذهبت طائفة من الأصوليين إلى أن الجنس شرط للعلة ومحل لها. وذهبت طائفة إلى أنه جزء من أجزاء العلة ووصف من أوصافها، ومبلغ الخلاف ومطلعه لا يفقهه إلا الغواصون في بحار المعاني؛ لافتقاره إلى الفراق بين الشرط والعلة مع تساويهما في العلمية، ويكاد هذا الفرق أن يكون أشكل الفروق، إلا على سماسرة الأصول فإنه عندهم أسنى من البروق وأطوى من الشروق. وكيف لا يكون مشكلًا وهو علم كما أنها علم، والفرق بين علم وعلم يعسر، ولكن القوم قد اصطلحوا في الفرق على ظهور التأثير للوصف للحكم وأن يكون به مشعرًا وله ملائمًا، والشرط غير مؤثر في الحكم ولا ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ملائم له ولا مشعر؛ كالإحصان في الرجم فإنه شرط له، والزنا علة فيه لكونه جريمة وهي مشعرة بالعقوبة، والإحصان نعمة وهي لا تلائم النقمة. وكذلك الطلاق المقيد بدخول الدار مثلًا، فإن الدخول شرط، والطلاق علة لتأثيره في رفع الحل من المحل، فافهم هذه النبذة فإنها تفيدك فوائد جمة ومعانٍ كثيرة. والجواب عن الوجه الثاني: وهو ربا النساء: متفق على تحريمه، ولا خلاف فيه بين الأمة، ولا اعتبار باتحاد الجنسية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الربا في النسيئة" (¬1)، وإنما موضوعها عند الأصوليين إما للحصر تارة، أو بيان المعظم؛ كقولهم: إنما الكريم يوسف، وإن كان الكرم موجودًا في غيره إلا أن يوسف استأثر بمعظم الكرم، وله مزية على غيره. وهذا الربا يجري في الجنس الواحد، وفي الجنسين بالجنس الواحد يجري فيه التفاضل وربا النساء، والجنسان يجري فيهما ربا النساء، وسواء كان أحد الجنسين مما يجوز فيه التفاضل أم لا. ولا يجوز عرض بعرضين إلى أجل مع اتفاق الصفة؛ لأن ذلك ربا؛ إما سلف بزيادة، أو ضمان بجعل على حسب اختلاف الصور. واختلف المذهب -عندنا- في القمح والشعير هل هما صنف واحد، أو صنفان، والمشهور من المذهب أنهما صنف واحد، وأشار بعض المتأخرين إلى أنهما صنفان، وهو مذهب الشافعي، وهو ظاهر؛ لاختلافهما في الاسم والصفة، فكل ما يجوز فيه واحد باثنين فلا يجوز فيه ذلك إلى أجل وإن كان ترابًا. ¬

_ (¬1) تقدم.

وتحصيل المذهب في الطعام في هذه المسألة على أربعة أقسام: طعام يدخر ويقتات به، أو مصلح للقوت وما هو أصل للمعاش غالبًا فإن التفاضل في الصفة الواحدة منه حرام باتفاق. وطعام لا يدخر، ويقتات به، أو مصلح للقوت وليس بأصل للمعاش غالبًا؛ مثل اللوز والجوز والجلوز والتين: فقد اختلف قول مالك في إجازة التفاضل في الصنف الواحد منه. وطعام لا يدخر أصلًا كالكمثرى والأترج وما أشبههما: فلا خلاف في المذهب في جواز التفاضل في الجنس الواحد منه. والحمد لله وحده.

المسألة الثامنة فيمن أسلم ثوبا في طعام فلم يقبضه مشتري الثوب حتى هلك عند بائعه

المسألة الثامنة فيمن أسلم ثوبًا في طعام فلم يقبضه مشتري الثوب حتى هلك عند بائعه ولا يخلو هذا الثوب الذى هو رأس مال السَّلم من أن من أن يكون معينًا حاضرًا في المجلس، أو يكون معينًا حاضرًا في البلد غائبًا عن المجلس. فإن كان معينًا حاضرًا في المجلس: فلا يخلو من أن يمكنه بائعه من القبض أم لا. فإن مكنه من القبض وتركه حتى تلف: فالضمان من المسلم إليه، ويكون تركه إياه على معنى الوديعة. فإن لم يمكنه من القبض: فالسَّلم فاسد، والضمان من بائع الثوب؛ لأنه في معنى المحبوسة في الثمن وذلك تأخير رأس المال بشرط يبطل اتفاقًا. فإن كان معينًا حاضرًا في البلد، غائبًا عن المجلس، فهل يجوز هذا البيع أم لا؟ قولان من "المدونة": أحدهما: الجواز، وهو المشهور. والثاني: المنع، وهو قوله في "الموازية"؛ لأن البيع على الصفة إنما يجوز مع تعذر المعاينة، ولا ضرورة هنا. قال أبو القاسم بن محرز: إنما جوز مالك بيع الحاضر بالبلد الغائب عن المجلس على صفة الضرورة اللاحقة بأحد المتبايعين في اغتنام الفرصة مخافة

أن يبدأ لأحدهما بالبيع والشراء بينما يأتي البائع من بيته بالسلعة، فإن كان ذلك ضرورة يجوز معها البيع على الصفة في هذه الصورة كصور الشد والطي في باب البرنامج. وعلى القول بأنه يجوز: فإن قَبَضَ المبيع من ساعته صح البيع والسَّلم. وإن لم يقبضه حتى ضاع عند بائعه: فلا يخلو من أن تقوم البَيِّنة على الضياع، أو لا تقم. فإن قامت البَيِّنة على الضياع: كان الضمان من المسلم إليه، ويصح السَّلم بينهما. فإن لم تقم البيِّنة: فلا يخلو من أن يكون [التلف] (¬1) بسببه، أو بغير سببه. فإن كان بغير سببه ولم يعلم التلف إلا بقوله: فالذي عليه السَّلم بالخيار إن شاء ضمنه قيمة الثوب، ويثبت السلم بينهما، وإن شاء فسخ البيع عن نفسه؛ لأن البائع للثوب يتهم أن يكون قد حبسه لنفسه فيفسخ البيع. وإن كان التلف بسببه أخرمه أو حرقه وعرف ذلك: فالسَّلم ثابت بينهما، ويلزم بائع الثوب غرم قيمته لتعديه، فلو باعه وفات عند المشتري لكان الذي عليه السَّلم بالخيار إن شاء أخذ قيمته وإن شاء جوز بيعه وأخذ الثمن، والسَّلم عليه ثابت في الوجهين جميعًا، ولا تصلح فيه الإقالة على حال؛ لأن الإقالة في الطعام لا تصلح إلا على رأس المال بعينه، والله الموفق للصواب. ¬

_ (¬1) في أ: السلف.

كتاب السلم الثاني

كتاب السلم الثاني

كتاب السَّلم الثاني تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها اثنتى عشرة مسألة: المسألة الأولى في حكم السَّلم الفاسد ولا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون فسادًا متفقًا عليه، أو مختلفًا فيه فيفسخ بحكم. والثاني: أن يكون فسادًا مختلفًا فيه، ثم لم يفسخ بحكم حتى اصطلحا على وجه. فالجواب على الوجه الأول: إذا كان فسادًا متفقًا عليه، أو فسخ بحكم إن كان مختلفًا فيه: فلا يخلو ما أخذ بعد الفسخ من أربعة أوجه: أحدها: أن يأخذ منه رأس ماله. والثاني: أن يأخذ منه ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله، ويجوز أن يُسلم في المُسْلَم فيه. والثالث: أن يأخذ منه ما يجوز أن يسلم فيه رأس ماله ولا يجوز أن يسلم فيه المسلم فيه. والرابع: أن يأخذ منه ما يجوز أن يسلم فيه رأس ماله والمُسْلَم فيه. فالجواب عن الوجه الأول: إذا عاوضه على مثل رأس ماله: فلا خلاف في الجواز؛ لأنه الواجب له. والجواب عن الوجه الثاني: إذا أخذ منه ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس المال؛ كالدنانير عن الدراهم، أو الدراهم عن الدنانير من غير تأخير:

فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن الموَّاز، وبه قال القاضي أبو الوليد بن رشد، وحكى فيه إجماع المذهب. والثاني: أن ذلك جائز أن يأخذ أحد العينين عن الأخرى، وهو قول مالك في "كتاب أبي الفرج" و "كتاب محمد"، وبه قال أبو محمد عبد الحق، وأبو القاسم بن الكاتب، وغيرهما. وسبب الخلاف: التهمة هل تلحقهما فيما عملا فيتهمان على تأخير الصرف أم لا؟ فمن اتهمهما منع، ومن لم يتهمهما جوز وهو الأشهر في النظر. والجواب عن الوجه الثالث: إذا أخذ منه ما لا يجوز أن يسلم فيه المسلم فيه، ويجوز أن يسلم فيه رأس المال؛ مثل أن يأخذ منه برأس ماله طعامًا: فقد اختلف فيه المذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة". أحدها: أنه يجوز له أن يأخذ غير الجنس من الطعام كالتمر عن البسر، أو الزبيب عن التمر أو عن القمح، ولا يأخذ من عين ما أسلم فيه، ولا من نوعه، ولا من جنسه، وهذا هو المشهور، بل لا خلاف في جواز أخذه، وهو قوله آخر المسألة؛ حيث قال: لا بأس أن يأخذ برأس ماله غير الصنف الذي أسلم فيه. والثاني: أنه يجوز له أن يأخذ الجنس، ولا يأخذ النوع كالمحمولة عن السمراء، وله أن يأخذ القمح عن الشعير، والشعير عن القمح، وهو ظاهر "المدونة"؛ حيث قال أول الكتاب: لا بأس أن يأخذ غير الحنطة إذا قبض ذلك. والثالث: أنه يجوز له أن يأخذ النوع كالسمراء عن المحمولة، والمحمولة

عن السمراء، ولا يأخذ غير ما أسلم فيه، وهو تأويل فضل بن سلمة على "المدونة" وابن أبي زمنين، وغيرهما، وقالوا: معناه أن يأخذ ما شاء ما لم يأخذ الشيء الذي أسلم فيه. والقول الرابع: أنه يجوز أن يأخذ مثل ماله؛ إن محمولة فمحمولة، وإن سمراء فسمراء، ولا يأخذ إلا مثل المكيلة نقدًا. وهذا القول أخرجه اللخمي من قول مالك، وابن القاسم، وأشهب في "كتاب محمد"، وبه قال ابن حبيب في "واضحته". فوجه القول الأول: أن أخذ الجنس من جنس آخر: أن ذلك جائز إذا كان نقدًا؛ إذ لا ربا فيه، ولا علة تبقى. ووجه القول الثاني: أنه يجوز له أخذ الجنس من جنسه كالشعير عن القمح، مراعاة لقول من يقول: "إن الشعير قائم بنفسه، فإذا أخذه عوضًا عن رأس ماله فإنه يجوز كما لو أخذ التمر والزبيب. ووجه القول الثالث: في أخذ النوع السمراء عن المحمولة، أو بالعكس؛ لأن السلم الفاسد يجوز فيه ما يجوز في صحيحه؛ فإذا جاز في الصحيح أخذ النوعين عن الآخر فكذلك يجوز في الفاسد. ووجه القول الرابع: أنه يجوز له أن يأخذ ما شاء من جميع الأشياء، فإن كان عين ما أسلم فيه لأنه عن رأس ماله يعتاض؛ إذ الواجب له أخذ رأس ماله، وله أن يأخذ عنه ما شاء. واتفاق العلماء على فساد هذا السلم، أو حكم الحاكم بفسخه ينفي عنهم التهمة في التمادي على السلم الفاسد وتتبع العرض الحائد فيباع أخذ ما شاء إذا كان نقدًا، فإن أخره كان دينًا بدين. والجواب عن الوجه الرابع: إذا أخذ منه ما يجوز أن

يسلم فيه رأس المال والمسلم إليه؛ مثل أن يأخذ العروض والحيوان منه نقدًا: فلا خلاف في الجواز بثبوت الفسخ بينهما، ولا تهمة هناك في بيع الطعام قبل قبضه. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كان فساده فسادًا مختلفًا فيه، ولم يحكم بحكم حتى اصطلحا على وجه ما، هل يحكم له بحكم المتفق عليه، أو ما يفسخ بحكم؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن حكمه حكم المتفق على فساده في جميع ما تقدم، وهو مذهب أشهب، وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب الصرف" إذا ثبت الفسخ بينهما. وقال بعض المتأخرين: يريد بالإشهاد، ويحتمل أن يريد بتراض منهما، وثبت ذلك عند الناس, وهو ظاهر قوله في أول " [كتاب] (¬1) السلم الثاني"؛ لأنه لم يذكر فيه أن الفساد متفق عليه، ولا ذكر أنه حكم بفسخه. والقول الثاني: أنه إذا لم يفسخ بينهما بحكم حاكم أو بإشهاد لم يجز أن يأخذ عن الطعام طعامًا اتفق أو اختلف، ولا يجوز له أن يأخذ إلا ما يجوز له أن يأخذ في السلم الصحيح، ولا يجوز له أن يأخذ بعض رأس ماله ويدع بعضًا، وهو قول بعض الأندلسيين، والفرق بيِّن. وسبب الخلاف: اختلافهم في البيع الفاسد المختلف في فسخه هل يفتقر فسخه إلى حكم حاكم أم لا. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الثانية في الذي باع داره لينفق عليه المشتري حياته

المسألة الثانية في الذي باع داره لينفق عليه المشتري حياته فإن قال قائل: وما فائدة ذكر هذه المسألة في هذا الموضع، وكان من حقها أن تذكر في البيوع الفاسدة، وهذا الكتاب -الذي هو السلم- ليس من المختلطة، وإنما هو مدون؟ فالجواب عنه أن يقال: إن الترجمة ترجمها سحنون - رضي الله عنه - في السلم الفاسد، فدون فيه كل مسألة لائقة بمقتضى الترجمة، وهذه المسألة من السلم الفاسد؛ لأنه أسلم داره في الطعام الذي هو نفقته إلى أجل مجهول فأشبه السلم من هذا القبيل؛ لأن السلم عبارة عما يقدم فيه رأس المال وآخر فيه المثمون، وهذه المسألة قد تكرر ذكرها في ثلاثة مواضع ذكرت في هذا الكتاب باسم البيع، وفي "كتاب الشفعة" باسم الهبة، وفي "كتاب الصدقة" باسم الصدقة، فإذا ثبت ذلك فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يعمره بقية عمره. والثاني: ألا يعمراه. فالجواب عن الوجه الأول: إذا عمره بقية عمره؛ مثل أن يقدر الذي مضى من عمره حتى يعرف ما بقي له من سبعين سنة التي هي أمد العمر على ظاهر الحديث (¬1) بشرط أنه إن مات قبل أن يستوفي ذلك العدد من السبعين حسب ما بقي ويدفع لورثته، وإن عاش حتى يستوفي جميع ¬

_ (¬1) وهو: "أعمار أمتي ما بين ستين إلى سبعين، وأقلهم من يجوز ذلك" أخرجه الترمذي (3550) وابن ماجه (4236) وابن حبان (2980) من حديث أبي هريرة، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.

العمر فلا شيء له ويقدر له من النفقة مقدار ما يقوم به فلا مسرف ولا إقتار. فإذا وقع البيع بينهما على هذه الصفة فلا يخالف أحد من أهل المذهب في جواز ذلك، وعليه يحمل قول أشهب الذي يقول بجواز البيع مطلقًا، وإلى هذا المعنى أشار أبو إسحاق التونسي -رحمه الله- وهي طريقة صحيحة لا ضرر فيها ولا خطر. والجواب عن الوجه الثاني: إذا لم يعمراه وجهل الحكم وتبايعا على الإطلاق: فلا يخلو من أن يعثر على قبيح فعلهما بفور العقد، أو بعد طول. فإن عثر على ذلك بفور ما عقد له فإن البيع يفسخ بينهما، ولا درك لأحدهما على الآخر. فإن عثر على ذلك بعد طول الزمان: فلا تخلو الدار من أن تكون قائمة، أو فائتة. فإن كانت قائمة: فإنها ترد إلى ربها، ولا شيء للمشتري في العلة؛ لأن الخراج له بالضمان، ثم يكون للمشتري الرجوع على البائع بما أنفق عليه. وهل يرجع عليه بما أنفق، أو بقيمته؟ فإنه يتخرج على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يرجع عليه بمثل ما أنفق، وهو قوله في بعض روايات "المدونة" أنه يرجع عليه بما أنفق. والثاني: أنه يرجع عليه بقيمة ما أنفق، وهو نصه في "المدونة". وفي المسألة قول ثالث: أن ذلك اختلاف حال، وإن معنى قوله يرجع بما

أنفق: أي: إن كان يدفع له مكيلة معلومة من عنده، فإذا أكلها أعطاه غيرها، أو كان يدفع له دنانير أو دراهم فيشتري لنفسه، وإن معنى قوله: يرجع بقيمة ما أنفق أي: يده كانت مع يده، وأنه من جملة عياله، وهذا التأويل ظاهر المعنى. وعلى القول بأنه يرجع عليه بقيمة ما أنفق هل يرجع بالسرف، أو إنما يرجع عليه بالقوام؛ مثل أن يكون ينفق عليه الدجاج والخرفان؟ فلا يخلو من أن يكون السرف بالنسبة إلى المنفق أو المنفق عليه. فإن كان السرف من نسبة المنفق عليه: فإنه لا يرجع عليه به؛ لأن ذلك منه تطوع. وإن كان السرف من نسبة المنفق وهو قوام بالنسبة إلى المنفق عليه فهل يرجع عليه؟ فالذي يتخرج من الكتاب قولان: أحدهما: أنه لا يرجع عليه بالسرف، وهو ظاهر "المدونة" لإطلاقه نفي الرجوع دون تفصيل. والثاني: أنه يرجع عليه به، وهو ظاهر قوله في "كتاب النكاح الثاني" في الذي قال: أرأيت رجلًا ينفق علىّ الدجاج والخرفان، وأنا لو كنت آكل من مالي لم آكل ذلك أيرجع على إلى آخر قوله. فمفهوم الكلام: أنه لو كان يأكل ذلك من ماله لأكل ذلك، وكان منه قوامًا. فإن كانت الدار قد فاتت بيد المشتري بما يفوت به البيع الفاسد: فإن المشتري يغرم القيمة ويتقاصص بها مع البائع في قيمة ما عليه من النفقة، وعلى القول بأنه يرجع.

المسألة الثالثة في تأخير رأس مال السلم

المسألة الثالثة في تأخير رأس مال السلم ولا يخلو تأخيره من وجهين: إما أن يكون بشرط، أو بغير شرط. فإن كان بشرط: فلا يجوز فوق ثلاثة أيام بالاتفاق، وإلى ثلاثة أيام على الخلاف في السلم الحال هل يجوز أو لا يجوز؟ فمن جوز سلم الحال، أو قال بجواز السلم إلى ثلاثة أيام، كما به يقول ابن عبد الحكم -من أصحابنا قال: لا يجوز تأخير رأس المال إلى ثلاثة أيام بشرط لأنه بيع الدين بالدين. فمن منعه قال بجواز تأخيره إلى ثلاثة أيام بشرط وبغير شرط، وهو قوله في "كتاب بيع الخيار". فإن كان بغير شرط أو تأخر إلى أجل بعيد، أو إلى الأجل نفسه: فلا يخلو من أن يكون باختيار منهما، أو باضطرار. فإن كان باختيار منهما: فلا يخلو من أن يكون رأس المال معينًا بالتعيين، أو يكون معينًا على صفة فإن كان معينًا على صفة كالحاضر في البلد وهو غائب عن المجلس: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكون عينًا، أو عرضًا، أو حيوانًا. فإن كان عينًا فتأخر إلى أمد بعيد أو إلى الأجل نفسه: ففي جواز السلم قولان: أحدهما: الجواز، وهو أحد قولي ابن القاسم.

والثاني: المنع، وهو قوله في "المدونة". وسبب الخلاف: النقود هل تعين عند العقود أم لا؟ فإن كان عرضًا: فلا يخلو من أن يكون مما يعرف بعد الغيبة أم لا؛ فإن كان مما يعرف بعد الغيبة كالمعدود من العروض: فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز دون الكراهة. والثاني: الجواز مع الكراهة. فمن أطلق الجواز قال: لا علة تبقى؛ إذ البيع وقع على معين فسلم من بيع الدين بالدين. ومن قال بالكراهة قال: مخافة أن يكون العرض الذي هو رأس المال لم يكن عنده يوم العقد وإنما استخلصه بعد ذلك. فإن كان مما لا يعرف بعد الغيبة كالمكيل والموزون: فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: المنع. والثاني: الجواز مع الكراهة. فمن قال بالمنع رأي أن التهمة تلحقه، ولعله أتلف ذلك الطعام ثم رد مثله، والبيع إنما وقع مع الطعام الأول، وغرض المشتري قد تعلق به لخصائص صفاته. ومن قال بالجواز مع الكراهة: لما سلم العقد من بين الدين بالدين هو حرام، فالخطب فيما يبقى بعده يسير، والأمر قريب؛ فأدنى ما توجبه التهمة: الكراهة.

فإن كان رأس المال حيوانًا: فالجواز إطلاقًا؛ لسلامة العقد من العلل المحدودة، والمسلم إليه هو الذي رضي بإسقاط حقه من الاستمتاع برأس المال، ولو شاء لقبضه، فكأنه تركه عند رب السلم وديعة. فإن كان رأس المال معينًا بالعين: فلا يخلو الذي عليه السلم من أن يكون قد تمكن من قبضه أم لا. فإن كان قد مكن من قبضه وتركه حتى حلَّ الأجل: فلا خلاف في جواز السلم، فإن ضمانه منه إن هلك إن كان عرضًا بلا خلاف، وإن كان عينًا: على الخلاف. وإن لم يمكن من قبضه؛ مثل أن يحبسه رب السلم حتى يقبض سلمه: فالسلم فاسد اتفاقا؛ لأن رأس المال قد تأخر بشرط. والجواب عن الوجه الثاني: إذا تأخر رأس المال على الغلبة والاضطرار كهروب أحدهما أو تماطل، هل يعذر المغلوب منهما بذلك ويكون على سلمه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: المنع، ولا يعذر المغلوب منهما بذلك، وهو ظاهر المدونة في "كتاب الصرف". والثاني: أن البيع جائز، وأن المغلوب منهما معذور، غير أن الحكم مختلف فيهما. فإن كان الذي له السلم هو الذي مطل بالثمن ولم يقدر الذي له عليه الطعام على الانتصاف منه حتى حلَّ الأجل، أو قرب حلوله: فالخيار له إن شاء فسخ البيع على نفسه؛ لأنه يقول: إنما بعته [بالرخص] (¬1) لأنتفع بالثمن، وذلك الغرض غير محصول. ¬

_ (¬1) في أ: الرخص.

فإن كان التواني منه، ولم يكن من الذي له السلم مطل: فالسلم لازم للذي عليه، ويأخذ رأس ماله، وهذا القول أيضًا قائم من "المدونة" وهو نص قول ابن حبيب. والحمد لله وحده.

المسألة الرابعة في البيع بكيل مجهول

المسألة الرابعة في البيع بكيل مجهول ولا يخلو من أن يكون ذلك في القرى، أو في البوادي. فإن كان في القرى حيث تجري أحكام الولاة، ووضعت فيه المقادير لأهل العاملات، فاتفق المتبايعان على التبايع بكيل مجهول، ورغبا عن الكيل الذي به في البلد معمول، هل يجوز بيعهم أم لا؟ فالذي يتخرج من "المدونة" أربعة أقوال: أحدها: أن البيع فاسد، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن البيع جائز جملة، ولا يفسخ، وهو قوله في "المدونة". فيمن أسلم إلى رجل في ثياب بذراع رجل بعينه، وذلك الذراع مجهول بالإضافة إلى الذراع الذي حطه الوالي للناس. والثالث: يمنعان ابتداء، فإن نزل: فإنه يمضي، وهو قول أشهب في ["كتاب] (¬1) السلم الثاني". والرابع: التفصيل بين اليسير والكثير، وهو قول ابن القاسم في الذي اشترى ويبة وحفنة بدرهم، فالويبة معلومة، والحَفْنَة مجهولة. وإن كان ذلك في البوادي حيث لا تجري الأحكام، ولا تصل إليها أوامر الإمام: فلا يخلو المتبايعان من أن يكونا بدويين، أو أحدهما. فإن كانا بدويين: فالمعاملة جائزة بينهما بهذا الكيل المجهول؛ إذ ذلك غاية المطلوب، والعلة المحذورة التي هي المخاطرة منتفية. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن كان أحدهما بدويًا، والآخر حضريًا: فلا يخلو ما يتبايعان فيه من أن يكون يسيرًا، أو كثيرًا. فإن كان يسيرًا؛ كمحتاج احتاج إلى علف دابته من الشعير فجائز أن يشتريه في البادية بهذا الكيل المجهول. فإن كان ما يتبايعانه كثيرًا: فهل يجوز للحضري الشراء بكيل البادية أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يجوز له الشراء بذلك الكيل، ويلزمه أن يحمل الكيل من المدينة. والثاني: أنه يجوز له الشراء به. وسبب الخلاف: تغليب أحد الجانبين علي الآخر، هل يغلب جانب المشتري على جانب البائع فيمنع إلا بكيل المدينة، أو تغلب ناحية البائع على المشتري فيجوز بكيل البادية، وهو النظر لما يلحق المشتري من [الضرر] (¬1) في استصحاب الكيل معه حيث ما هو، ومع ذلك لا يسلمان من الغرر المحذور لأن البائع جاهل بمقدار كيل المدينة، فإذا قال بالجواز فيما إذا كان التبايع في المدائن ولا ضرر بالبادية أولى بالجواز مع المشقة اللاحقة، وهو قول مالك في "المدونة": وإنما يجوز أن يتبايعوا فيما بينهم بالقدح والقصعة أو المكيال الذي ليس بمكيال التسوق أو الناس في الشراء من الأعراب حيث ليس ثمَّ مكيال معلوم للناس والأسواق، ولا القرى مثل العلف والتبن والخبط يريد بالمدينة لأنه ليس له كيل معروف؛ فصار شراء ¬

_ (¬1) في أ: الضرورة.

الطعام في البادية كشراء العلف والخبط بالمدينة، وهو ظاهر "المدونة" على هذا التأويل أن الشراء من البادية بالكيل المجهول جائز في القليل والكثير. والحمد لله وحده.

المسألة الخامسة في البيع على التصديق

المسألة الخامسة في البيع على التصديق وفيها ثلاثة أسئلة: أحدها: الشراء على تصديق البائع في الكيل. والثاني: الشراء على تصديق التصديق. والثالث: البيع على التصديق. فالجواب عن السؤال الأول: وهو الشراء على تصديق البائع؛ مثل أن يشتري منه طعامًا وأخبره البائع أن فيه عشرة أرادب وصدقه المشتري: فذلك جائز من غير خلاف في المذهب؛ لأنها رخصة مع ما في ذلك من الغرر، ثم يكتاله المشتري فوجد الزيادة أو النقصان، فإن كان مثل زيادة الكيل ونقصه وله وعليه إن خرج عن المتعارف: فما كان من الزيادة فللبائع. وما كان من نقصان: فإن كان مضمونًا: فليرجع إلى المثل؛ لعمارة الذمة به، وإن كان معينًا: فليرجع بالقيمة فما قلّ، والخيار له في الرد والإمساك فيما كثر، على الخلاف في حد القليل من الكثير على ما سيأتي بيانه في "كتاب العيوب والاستحقاق" إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثاني: إذا اشترى على تصديق التصديق؛ مثل أن يشتري طعامًا على تصديق البائع فيما فيه من الكيل، وكان البائع لم يكله، وإنما باعه على تصديق غيره: فالمذهب يتخرج على ثلاثة أقوال: أحدها: الجواز جملة، وهو ظاهر "المدونة" في غير ما موضع. والثاني: المنع، وهو ظاهر "المدونة".

والثالث: التفصيل بين أن يبين له البائع، أو لم يبين. فإن بيَّن له: فالبيع جائز، وإن لم يبين: فالخيار للمشتري. وهذا القول متأول على "المدونة". وسبب الخلاف: الرخصة هل يعدي بها بابها أم لا؟ ولا شك أن الشراء على التصديق رخصة للمتبايعين ليدفعا عن أنفسهما مؤونة الكيل مع إمكان وجود النقص الكثير بعد الغيبة، فيرجعان إلى الخصام والأيمان، وذلك مخاطرة وغرر ولابد، فسومح للمشتري أن يصدق البائع مع هذا الإمكان؛ لما غلب على ظنه من تصديقه. وإذا تعدى التصديق إلى ثان وإلى ثالث فقد كثر الخطر وانتشر الغرر [وتعدت] (¬1) الرخصة بابها. وقد اختلف الأصوليون في الرخصة هل تتعدى، أو لا تتعدى، وعليه ينبني الخلاف في هذه المسألة. والجواب عن السؤال الثالث: وهو البيع على التصديق؛ مثل أن يسلم إلى رجل في أرادب من طعام فأتاه بطعام عند الأجل، وقال له: إن فيه القدر الذي تسألني فصدقه المشتري، وأمره أن يكيله في غدائره أو في ناحية منه حتى يلحقه فهل يعد ذلك منه قبض ويجوز للمشتري أن يبيعه قبل أن يكتاله؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال، كلها قائمة من "المدونة": أحدها: الجواز، وهو قول ابن القاسم في "كتاب السلم الثاني". والثاني: المنع، وهو قول مالك وابن القاسم في "كتاب الصرف"، و"كتاب الرواحل والدواب"، وهو قول مالك في "كتاب السلم الثالث"؛ ¬

_ (¬1) في أ: وتعددت.

حيث قال: لا يجوز للذي له الطعام السلم أن يبيعه بقبض زوجة الذي عليه الطعام إذا وكلها على القبض. وإذا كان لا يجوز أن يبيع بقبض زوجته، فبأن لا يبيعه بقبض نفسه من نفسه أولى وأحرى. والثالث: بالكراهة، وهو قول مالك في "كتاب السلم الثاني"؛ حيث قال: لا يعجبني، على تأويل بعضهم، وهو أسعد بظاهر "المدونة". وسبب الخلاف: يد الغريم هل هي كيد الطالب ويكون قبضه من نفسه كقبض الطالب؟ وينبني أيضًا على الخلاف: الذي قدمناه في الرخصة هل تتعدى أو لا تتعدى؛ لأن في هذا الوجه البيع على تصديق التصديق. وإذا ادعى أنه ضاع بعد الكيل وقد أمره أن يكيله له في ناحية ببيته: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يصدقه رب الطعام في الكيل والضياع. والثاني: أن يكذبه في الأمرين. والثالث: أن يصدقه في الكيل ويكذبه في الضياع. فإن صدقه في الأمرين هل يبرأ البائع ويكون الضياع من المشتري؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يبرأ، وهو المنصوص المشهور. والثاني: أنه لا يبرأ، وهو ظاهر قوله في "المدونة" في "كتاب السلم الثالث" في قبض الزوجة، وهو ظاهر قول الغير في "كتاب الرواحل والدواب" في الذي استؤجر على تبليغ الكتاب.

وينبني الخلاف: على الخلاف في ذمته هل تبرأ بدعواه أو لا تبرأ؛ فمن رأى أن ذمته تبرأ بدعواه قال: "لا شيء عليه"، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الوكالات" في مسألة اللؤلؤة؛ حيث قال: "فإنه يصدق إن اشترى وأنه قد ضاع، ويحلف ويكون له الثمن الذي أسلف واشتري به على الأمر، فإذا جاز أن يعمر ذمة غيره بدعواه، فبأن تبرأ ذمة نفسه بدعواه المستندة إلى إذن أولى وأحرى. وإن كذبه في الأمرين جميعًا هل يصدق وتبرأ ذمته أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يصدق، وهو قول ابن القاسم في "كتاب السلم الثاني"، وهو قول الغير في "كتاب الرواحل والدواب". والثاني: أنه يصدق ويبرأ، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الوكالات" وهو قول ابن القاسم في "كتاب الرواحل". وأما إن صدقه في الكيل وكذبه في الضياع: فعلى الخلاف الذي قدمناه في الأمرين، فلا فائدة لإعادته. والحمد لله وحده.

المسألة السادسة في اختلاف المتبايعين

المسألة السادسة في اختلاف المتبايعين اعلم أن مضمون هذا الباب يعد إحصاؤه تفصيلًا، ويطول استقصاؤه تأصيلًا، لكنا كنا مقتصرين على المشهور الأكثر، ونغض عن المهجور الإبار. فنقول من حيث التقريب: اختلافهما في العقد ينقسم قسمين: أحدهما: في وصف لزومه. والثاني: أن يختلفا في حق من حقوقه. وأما الاختلاف في وصف اللزوم فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون في وصف اللزوم الشرعي. والثاني: أن يكون في وصفه الشرطي. فالأول: مثل أن يدعي أحدهما أن العقد وقع فاسدًا، ويدعي الآخر وقوعه على الصحة: فإن كان الفاسد المدعي كبيع يوم الجمعة، أو بيع الغرر، أو سلعة لم توصف، وادعى الآخر السلامة من ذلك: فالقول قول مدعي الصحة؛ لأنها أشبه بوقوع العقد. فإن كان الفساد في الثمن؛ مثل أن يدعي أحدهما أن البيع وقع بخمر، والآخر يقول بثمن، أو ادعى أحدهما النقد، وادعى الآخر الأجل أجلًا مجهولًا فالقول قول مدعي الحلال منهما؛ لأنه قد ادعى ما يشبه، فالقول قوله مع الفوات اتفاقًا، ومع القيام على الخلاف لابن القاسم؛ لأنه يقول بالتحالف والتفاسخ، ودليله: عموم الخبر، ومدعى الشبه كشاهد قام له،

وهذا إذا كان العرف عندهم وقوع العقد على الصحة. فأما إذا كان العرف وقوعه على الفساد: فالقول قول مدعيه؛ لأن العرف أمر يقضى به وإن كان فاسدًا. وأما الضرب الثاني: وهو أن يختلفا في وصف اللزوم الشرطي؛ مثل أن يدعي أحدهما الخيار في البيع، ويدعى الآخر البتل: فالقول قول مدعي البتل؛ لأنه أشبه بالعقد، وهو قوله: في "كتاب الوكالات" من "المدونة". فإن اتفقا أن البيع وقع على خيار، فادعى كل واحد منهما أن الخيار له دون صاحبه: فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهما يتحالفان ويتفاسخان. والثاني: أنهما يتحالفان ولا يتفاسخان، ويصح البيع على البتل. والقولان لابن القاسم في "العتبية". وأما القسم الثاني من أصل التقسيم: وهو أن يختلفا في حق من حقوقه: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون اختلافهما في الثمن. والثاني: أن يكون اختلافهما في المثمون. والثالث: أن يكون اختلافهما في الأجل. فالجواب عن الوجه الأول: إذا اختلفا في الثمن: فلا يخلو من ثلاثة أوجه. أحدها: أن يختلفا في قدره. والثاني: أن يختلفا في نوعه. والثالث: أن يختلفا في قبضه.

فأما الوجه الأول: إذا اختلفا في قدره فلا يخلو من أن تكون السلعة قائمة أو فائتة. فإن كانت قائمة: فالتحالف والتفاسخ، واختلف من المبتدئ باليمين على قولين: أحدهما: أن البائع يبدأ باليمين، وهو مذهب "المدونة"؛ لأنه أقوى المتداعيين سببًا. والثاني: أن المشتري هو المبتدئ باليمين، وهو قوله في "العتبية". فإن تحالفا فهل يقع التفاسخ بتمام التحالف، أو لابد من الحكم به؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن الفسخ لا يكون إلا بحكم حاكم. والثاني: أن التفاسخ يقع بتمام التحالف، وهو مذهب سحنون، وهو ظاهر "المدونة" في بيع الخيار. والثالث: إن كان التحالف بحكم حاكم فالفسخ عقيبه. والرابع: بعكس ذلك. وفائدة ذلك: إذا رجع أحدهما إلى تصديق صاحبه هل يلزمه البيع أم لا؛ فمن رأى أن التفاسخ يقع بتمام التحالف قال: لا يلزم البيع من بقي منهما على أول دعواه إذا رجع صاحبه إلى تصديقه. ومن رأى أنه لا يفسخ إلا بحكم قال: إذا رجع أحدهما إلى تصديق صاحبه قبل أن يحكم بينهما بفسخ البيع، قال: ذلك له، والبيع لازم لصاحبه شاء أو أبى.

واختلف في التناكل هل هو كالتحالف أم لا على قولين قائمين من "المدونة". أحدهما: أنه كالتحالف، وهو قول ابن القاسم في "الموَّازية"، وهو قول شريح في "الموَّازية". والثاني: أنهما إذا نكلا فالقول قول البائع، وهو قول مالك في "الواضحة". وإن فاتت السلعة: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن فواتها كقيامها، وهو قول أشهب، ويحلف ويرد قيمتها يوم قبضها. والثاني: أن الفوات يخالف القيام، وهو المشهور. وعلى القول بأن الفوات يخالف القيام: فقد اختلف بماذا تفوت على أربعة أقوال، كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنها تفوت بالعقد؛ إذا بالعقد تدخل في ضمان المشتري، وهو ظاهر قوله في "كتاب المكاتب". والثاني: أنها تفوت بالقبض، فإذا قبضها كان القول قوله مع يمينه، وهي رواية ابن وهب في "كتاب تضمين الصناع". والثالث: أنها لا تفوت إلا بالقبض مع البينونة، فإذا قبضها وبان بها: كان القول قوله، وهو قوله في "كتاب المكاتب". والرابع: أنها تفوت بالقبض مع الفوات الحسي والمعنوي؛ كتغيير ذاتها وأسواقها، فإذا تغيرت في الذات أو في الأسواق: كان القول قول المشتري مع يمينه، وهو قوله في "كتاب السلم الثاني"، وهو قول ابن وهب وهو أولاها بالصواب.

وهذا كله مع الشبه؛ إذ لا خلاف أن الشبه يراعى مع الفوات، فمن ادعى ما يشبه: قُبل قوله، وإنما الخلاف في مراعاة الأشباه مع قيام السلع هل تراعى أم لا على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الأشباه لا تراعى مع القيام كاختلافهما في الجنس، وهو ظاهر "المدونة"؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة فإنهما يتحالفان ويترادان" (¬1). والثاني: أنها تراعي، وهو ظاهر قوله في "المدونة" في "كتاب السلم الثاني" إذا اختلفا في صحة السلم وفساده؛ حيث قال: "القول قول مدعي الصحة"، وما ذلك إلا لكونه قد ادعى ما يشبه، وهو قول عبد الملك في "الواضحة". فأما الوجه الثاني: إذا اختلفا في نوعه؛ مثل أن يقول البائع: بعت بطعام، ويقول المشتري: بل بدنانير، أو بالعكس: فالحكم التحالف والتفاسخ أبدًا، ويترادان المبيع إن وجد، أو القيمة إن فقد. فإن فاتت بحوالة الأسواق فأعلى: فعلى المشتري قيمتها، قال في "المدونة" "يوم القبض". واعتذر المتأخرون عن ذلك بما لا يخفى على من طالع كتبهم. وأما الوجه الثالث: إذا اختلفا في قبض الثمن: فلا يخلو من أن يكون في صورة السلم، أو في صورة بيع النقد فإن كان في صورة السلم: فهو كاختلافهما في صحة البيع وفساده، وقد تقدم الكلام عليه في أول المسألة. فإن كان في صورة بيع النقد: فلا يخلو المبيع من أن يكون مما جرت ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (785) وعبد الرزاق (15185).

العادة بتأخير الثمن فيه عند العقد. فإن كان مما جرت العادة فيه بالتناقد في الأسواق شبه الصرف كاللحم و [الصوف] وسائر أنواع الطعام والفواكه: فلا خلاف فيه أن القول قول المشتري بعد الافتراق وبعد قبض السلعة. فإن قبضها واختلفا قبل الافتراق: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المشتري مصدق مع يمينه، وهو قول ابن القاسم في كيل ما يكال أنه لا يقضي به إلا بعد قبض الثمن. والثاني: أن البائع مصدق مع يمينه، وهو رواية أشهب عن مالك. والقولان في "الواضحة". وسبب الخلاف: اختلافهم في المُبَدَّي بالدفع أولًا، هل المشتري مخاطب بالتسليم أولًا فيكون القول قوله، أو البائع مخاطب بتسليم المبيع أولًا فيكون القول قوله؟ وهذا قول ينبغي للطالب التنبه له. فإن كان مما جرت العادة بتأخير الثمن فيه في الأسواق: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قول البائع جملة بلا تفصيل في أنواع المبيعات ما لم يأت من طول الزمان [ما لا] (¬1) يتبايع الناس إلى مثله، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: الفرق بين البر وغيره من الحيوان والرياع؛ فيصدق البائع في الحيوان والرياع ما لم يطل الزمان، فإن طال: صار مثل الطعام، والقول ¬

_ (¬1) في أ: ما لم.

قول المشتري مع يمينه. وأما البر، وغيره فقال: القول قول البائع، ويحلف ما لم يطل، فإن طال مثل عشرين سنة: فالقول قول البائع ويحلف، وبه قال ابن حبيب، قال: ورواه عبد الملك. ولا يخفى على لبيب ضعف قول ابن حبيب. والجواب عن الوجه الثاني: وهو اختلافهما في المثمون، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون في نوعه. والثاني: أن يكون في قدره. والثالث: أن يختلفا فيه هل قبض أم لا. فأما الوجه الأول من الوجه الثاني: إذا اختلفا في قدر المثمون: فلا يخلو من أن يكون مكيلا، أو موزونًا، أو عروضًا. فإن كان مكيلًا: فلا يخلو من أن يكون البيع نقدًا أو إلى أجل. فإن كان نقدًا؛ مثل أن يقول البائع: بعتك ثلاثة أرادب بدينار، ويقول المشتري: بل أربعة أرادب بدينار. فإن لم يتقابضا شيئًا: فالمذهب في التفاسخ على قولين: أحدهما: أن الفسخ بعد التحالف، وهو قول ابن حبيب، ويأخذ المشتري ثلاثة أرادب، ويغرم ثلاثة أرباع الدينار؛ إذ ليس العرض في عين المبيع غالبًا. فإن تناقد الثمن هل يكون قبضه فواتًا أم لا؟

فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه فوت، ويكون القول قول البائع قبض منه الطعم أم لا، فجعل قبض العين فوتًا؛ لكونه لا يعرف بعينه، وهو قوله في "العتبية"، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أنهما يتفاسخان بعد التحالف، وهو قوله في "المدونة". وإن غاب على النقد، فإن كان ذلك بعد أن قبض المبتاع ثلاثة أرادب ولم يدفع الدينار: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المبتاع مصدق، ويقبض الإردب الباقي، وهو قول ابن حبيب. والثاني: أن البيع يفسخ في الإردب الباقي، ويدفع ثلاثة أرباع الدينار، وهو قول ابن القاسم. فإن كان ذلك في السلع المبيعة؛ مثل أن يقول البائع: بعتك تسعة أثواب، وقال المشتري: بل اشتريت منك عشرة أثواب وقبضتها: وقد قال في كتاب ابن القاسم: يتحالفان ويتفاسخان مع قيام الثياب. فإن فاتت: فالتحالف والتفاسخ في الثوب العاشر، ويأخذه البائع مع قيام عينه، فإن أتلف عينه: كان للبائع الأقل مما يخصه من الثمن أو قيمته. وأما إن كان البيع إلى أجل كالسلم؛ مثل أن يقول المشتري: أسلمت إليك في عشرة أرادب، ويقول البائع: بل في خمسة، فإنه ينظر إلى قيام رأس المال وفواته كما تقدم؛ فيتفاسخان في القيام بعد التحالف، وفي الفوات: القول قول من أتى بما يشبه. فإن لم يأتيا جميعًا بما يشبه: فعلى البائع قيمة ما أخذ إذا كان رأس المال عرضًا، فإن كان عينًا فهل يتفاسخان، أو يردان إلى وسط السلم؟

فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهما يردان إلى سلم، وهو قول ابن القاسم في "الموَّازية". والثاني: أنهما يتحالفان ويتفاسخان، وهو قول أشهب في الكتاب المذكور. والخلاف في ذلك يختلف باختلاف أنواع رأس المال؛ فإن كان رأس المال عروضًا: فحوالة الأسواق وما فوقها فوت. فإن كان مكيلًا أو موزونًا: فالغيبة عليه لكونه مرادًا لغرضه. وإن كان عينًا: فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الغيبة عليه فوت؛ إذ لا يعرف بعينه كالمكيل. والثاني: أنه لا تفيته الغيبة عليه لأنه مراد لغرضه. وهذان القولان قائمان من "المدونة". والثالث: أنه لا يفيته إلا طول الزمان حتى يحصل الانتفاع ويطول وما كان بالقرب: فإن التحالف والتفاسخ فيه. وأما الوجه الثاني من الوجه الثاني: وهو اختلافهما في النوع؛ مثل أن يقول أحدهما: "السلم في شعير"، والآخر يقول: "بل في قمح": فلابد من التفاسخ بعد التحالف؛ لعدم تمييز المدعي من المدعى عليه، فكان آكد المدارك وأَسَدِّ المسالك: التحالف. فإن حلف البائع ونكل المشتري فأراد أخذ ما قال البائع من غير تصديق له: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز حتى يرجع إلى تصديقه، وهو المشهور. والثاني: أن ذلك جائز، ويأخذ ما يدعيه المشتري إذا كان ذلك عند

الحلول، فيكون كالمبادلة، ولا يجوز قبل الحلول؛ لأن ذلك مبايعة. فإن نكل البائع وحلف المشتري: كان له ما ادعى -كان من صنف ما قال البائع أم لا؛ لأن البائع لابد له من الغرم. ولا تعتبر الأشباه هاهنا بخلاف السؤال الذي قبله؛ لأن الاختلاف هناك في الوصف دون الأصل، وكثرة الثمن هناك تنبئ عن تصديق المشتري. وأما الوجه الثالث من الوجه الثاني: وهو اختلافهما في قبض السلعة المبيعة: فالأصل فيها وفي [قبض] (¬1) الثمن النظر إلى العادة إن كانت هناك، فإذا عدمت رجعنا إلى الأصل وقلنا للبائع: أنت المطلوب بتسليم المبيع، فعليك البيان بتسليمه إلى المشتري، إلا أن يكون التداعي بعد الافتراق، وقد انتقد: فيكون القول قوله؛ لأن العرف يشهد له، وإلا فالقول قول المشتري إذا لم ينقد -افترقا أم لا- وكذلك إذا لم يفترقا وقد انتقد أن القول قوله. والجواب عن الوجه الثالث من أصل التقسيم: إذا اختلفا في الأجل فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يختلفا هل فعل أم لا. والثاني: أن يتفقا على أنه قد فعل، ويختلفا في قدره. والثالث: أن يتفقا في قدره، ويختلفا في حلوله. فأما الوجه الأول من الوجه الثالث: إذا اختلفا في الأجل هل فعل أو غفل: فلا يخلو من أن تكون السلعة قائمة، أو فائتة. فإن كانت قائمة: فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يتحالفان ويتفاسخان، وهي رواية ابن القاسم وابن وهب ¬

_ (¬1) في أ: قبل.

وهب عن مالك في "العتبية" و"الموَّازية". والثاني: أن القول قول البائع في نفي الأجل مع قيام السلعة، وهو أحد قولي ابن القاسم أيضًا. والثالث: أن القول قول المشتري إذا ادعى أجلًا قريبًا مع قيام السلعة، وهو قول ابن القاسم أيضًا. والقولان في "الواضحة". فإن فاتت السلعة: فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أن القول قول البائع المدعي أن الأجل قد غفل، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الرهان"، وفي "كتاب تضمين الصناع"، وقد قال ابن القاسم في "كتاب الرهون": لا يصدق المشتري في الأجل، ويؤخذ أقربه حالًا، وقال في "كتاب تضمين الصناع": أن المبتاع مدعي الأجل. والثاني: أن المشتري مصدق إذا ادعى أجلًا قريبًا، وهو قول مالك في "كتاب الوكالات"، وفي "كتاب الرهبان"، يحلف، وإلا كان القول قول البائع. وسبب الخلاف: اختلافهم في الأجل هل هو راجع إلى الأصل فيصدق البائع، أو عائد إلى الوصف فيصدق المشتري. وأما الوجه الثاني والثالث من الوجه الثالث: وهو اختلافهما في مقدار الأجل وفي حلوله؛ إذ لا فرق أن يتفقا في منتهى الأجل ويختلفا في مفتتح العقد، وبين أن يختلفا في مقدار الأجل؛ هذا يقول شهرًا، وذا يقول شهرين: فإنهما يتحالفان ويتفاسخان قبل الفوات لاختلافهما في قلة الثمن وكثرته على سواء.

وبعد الفوات يكون القول قول الذي عليه الدين؛ لأنه مطلوب إن أشبه ما قال. فإن لم يشبه ما قال: كان القول قول صاحبه إن أشبه ما قال. وإن لم يشبه ما قالا: هل يردان إلى الوسط في الأجل ويترادان البيع؟ فالمذهب يتخرج على قولين: أحدهما: أنهما يترادان البيع، ويفسخ بينهما، وهو ظاهر "المدونة" في اختلافهما في القضاء إذا ادعى كل واحد منهما ما لا يشبه لتقارب ما بين الموضعين؛ حيث قال: أنهما يتحالفان ويتفاسخان. والثاني: أنهما يردان إلى الوسط في الأجل كما قال ابن القاسم: إذا اختلفا في قلة المثمون وكثرته وقد فات رأس المال، وأتى كل واحد منهما بما لا يشبه أنهما يردان إلى الوسط السلم، وهو تأويل بعض المتأخرين. وهذا تحصيل المسألة وتلخيصها، وحيد بوصولها تحصيلًا وتلخيصًا لم أسبق منها ولا زاحمتني أقلام المحصلين عليها. ونحن الآن نتكلم على الأدلة فنقول: سبب الخلاف الواقع في المسألة: اختلاف الأخبار، وطرق المقاييس؛ فمنها ما روي عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا اختلف المتبايعان والمبيع مستهلك فالقول قول البائع" (¬1) والحديث في الدارقطني، وهو نص في محل النزاع. وفي الموطأ والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اختلفا المتبايعان وليس بينهما بينة فهو ما يقول رب السلعة، أو يترادان" (¬2). ¬

_ (¬1) السنن (3/ 21). (¬2) تقدم.

ومن طريق القياس: أن التحالف إذا جرى حالة القيام مع القدرة على رد عين السلعة: فمنع الفوات أولى، وبهذا استدل أشهب ومن قال بقوله من العلماء كالشافعي. ويعارضه ما خرجه الدارقطني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة كما هي فالقول ما قال البائع ويترادان" (¬1). وقال أصحابنا: وظاهر التقييد بالقيام يقتضي كون الفوات مخالفة، وإلا لم يكن لقوله فائدة، وكيف لا يكون الأمر كذلك ومقتضى قياس الأصل تصديق المشتري حالة القيام لأنه مدعي عليه؛ لأن البائع مسلم له الملك، وإنما ينبغي مريدًا وهو المطلوب على أنا تركناه في القيام بدليل، والباقي على الأصل، وبهذا يقول ابن القاسم، وهو مشهور المذهب، وبه قال أبو حنيفة. وأما أشهب ومن قال بقوله فقد حمل التقييد بالقيام على التشبيه بالهلاك بطريق الأولى، وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - ما لا يعتضد به مذهب أصحاب التفضيل؛ وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإن استهلكت فالقول قول المشتري". وهذا نص في محل النزاع إلا أنه حديث في سنده ضعف، وأما القول الثالث الذي جعل القبض فواتًا: فبني على الترجيح باليد عند تكافؤ الدعوى؛ حيث جعل الملك لمن استقرت عليه يده، واستولى عليه ملكه، وكذلك مسألتنا، وكون يد المشتري على السلعة بتمكين البائع دليلًا على صدقه وقبول قوله: فهذا ما أمكن الإيمان إليه من الاستدلال والتنبيه دون بسط وتطويل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) تقدم.

المسألة السابعة في الوكالة في السلم

المسألة السابعة في الوكالة في السَّلم وإذا وكله أن يسلم له في طعام: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يسلمه إلى مسلم. والثاني: أن يسلمه إلى نصراني. فإن أسلمه إلى مسلم: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يسلمه إلى نفسه. وإما أن يسلمه إلى أجنبي لا ولاية له عليه. وإما أن يسلمه إلى من له عليه سلطنة وولاية. فالجواب عن الوجه الأول من الوجه الأول إذا أسلمه إلى أجنبي من الناس لا ولاية [له] (¬1) عليه: فلا خلاف له في الجواز واللزوم بالأمر إذا حصلت فيه شروط الصحة. والجواب عن الوجه الثاني: أن يسلمه إلى نفسه، هل يجوز أو يفسخ؟ قولان: أحدهما: الجواز، وهو أحد قولي مالك في "كتاب النكاح الأول". والثاني: المنع، وهو قوله: في الكتاب المذكور، وفي "كتاب السلم الثاني" أيضًا. وسبب الخلاف: هل الوكيل معزول عما تضمنته الوكالة، أو هو داخل فيه؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فمن رأي أنه معزول عما تضمنته الوكالة، وأن المراد بذلك غيره لا عينه، وأنه لو كان هو المراد بقصده بذلك من غير وكالة قال: يبطل الأمر ما صنع. ومن رأي أن الوكالة تناولته بإطلاقها من غير تنصيص ولا تخصيص، وهو من آحاد البشر: قال بجواز ما صنع، ولا كلام فيه للأمر، وغاية ما يعتبر ذلك في وجود التهمة وعدمها؛ لأنه يتهم أن يحابي نفسه إذا أسلم إلى نفسه. فإذا أسلم إلى نفسه كما يسلم إلى غيره فما المانع؟ والجواب عن الوجه الثالث: إذا أسلم إلى من له عليه سلطنة وولاية؛ كعبده، وزوجته، وولده الصغير, واليتيم الذي في حجره المفاوض في مال الشركة: فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: الجواز في الجميع؛ بناء على أن العهدة تابعة للمال والمملوك للمالك، وهو نص "المدونة" في الزوجة في "كتاب السلم الثاني"، وهو ظاهر قول مالك من غيرها، وقد قال في العبد أنه يملك، وأن الربا لا يجوز بينه وبين سيده، وهو قوله في "كتاب الصرف" وغيره من "المدونة": فإن السيد أيضًا لا زكاة عليه في مال عبده إذا انتزعه حتى يحول الحول عنده. والثاني: المنع في الجميع كمالك أسلم ذلك إلى نفسه وهو ظاهر قوله في الزوجة في "كتاب السلم الثالث" من المدونة؛ حيث قال في الذي أسلم إلى رجل في طعام فوكل زوجة الذي عليه الطعام على قبضه من زوجها أنه لا يجوز أن يبيعه بقبضها؛ فجعل يدها كيد زوجها، وهو نص قوله: في "كتاب السلم الثاني" في الولد واليتيم والعبد.

والقول الثالث: بالتفصيل بين من يمنع من التصرف في ماله إلا بإذنه؛ كالزوجة: فيجوز السلم إليها، وبين من يجوز له التصرف فيه بغير إذنه؛ كالولد الصغير واليتيم والعبد فلا يجوز. أما الخلاف في العبد: فمبني على الخلاف فيمن ملك أن يملك، هل يعد مالكًا أم لا؟ وأما من عداه: فمبني على الخلاف هل النظر إلى من يملك التصرف، أو النظر إلى من يملك الأصل؟. فمن اعتبر مالك التصرف قال: [يجوز] (¬1). ومن اعتبر مالك الأصل قال: لا يجوز، وهو مذهب سحنون فيما أظن. وأما الزوجة: فقد أخذت طرفًا من كل جانب؛ فإنها شابهت الأجنبي لكونها مالكة على الحقيقة، وأما الزوج لا يتصرف في ملكها إلا بإذنها، وشاكلت من هو في قيد الولاية من وجه؛ لكون المال مشاعًا بينها وبين الزوج، والدار الواحدة تجمعها مع الحال في غالب الأحوال، وكل مضاف إلى الزوج على كل حال؛ فلأجل اضطربت فيها الأقوال على ما تراه من الاحتمال، وإلى الله الهداية في الأقوال والأفعال. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا أسلمه إلى نصراني هل يجوز ما فعل أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز مع الكراهة، وهو ظاهر قوله في "كتاب الصرف"، ¬

_ (¬1) في أ: لا يجوز.

و"كتاب السلم الثاني". والقول الثاني: الجواز دون الكراهة، وهو نص قوله في "كتاب السلم الثاني". والحمد لله وحده.

المسألة الثامنة في المقاصة في السلم بقيمة الرهن التالف

المسألة الثامنة في المقاصة في السَّلم بقيمة الرهن التالف ولا يخلو المسلم فيه من أن يكون مما يجوز بيعه قبل الاستيفاء أم لا. فإن كان مما لا يباع إلا بعد قبضه: فلا يخلو الرهن من أن يكون مثل رأس المال قدرًا وعينًا، أو مخالفًا له. فإن كان الرهن مثل رأس المال قدرًا وعينًا مثل أن يكون دنانير والرهن دنانير مثلها: فلا يخلو من أن يشترط الرهن في العقد، أو كان بعد ذلك فإن اشترطه في العقد: فلا يجوز اتفاقًا؛ لأن الأمر آل إلى تأخير رأس المال بشرط ففسد البيع؛ لأن الذي قد دفع دنانير وأخذ مثلها فآل ذلك إلى رأس مال لم يقبض، ولا إشكال في ذلك. وأما إن كان ذلك بعد العقد فهل تجوز المقاصصة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المقاصصة لا تجوز جملة بلا تفصيل. قال محمَّد: لأن ذلك بيع الطعام قبل قبضه، وهذا هو المشهور. والثاني: أن ذلك جائز؛ لبعدهما عن التهمة، وكل ذلك إقالة حكمية، وهو قول الشيخ أبي إسحاق التونسي. وسبب الخلاف: اختلافهم في الإقالة المعنوية هل هي كالإقالة اللفظية؟ [قولان] (¬1) والقولان قائمان من "المدونة". فإن كان الرهن مخالفًا لرأس المال؛ مثل أن يكون الرهن عرضًا ورأس ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المال دنانير أو دراهم، أو بالعكس: فلا تجوز المقاصصة بوجه، سواء كان الرهن مشترطًا في أصل العقد، أو بعد العقد؛ لأنه بيع الطعام قبل قبضه. وإن كان المسلم فيه مما يجوز بيعه قبل قبضه؛ كالحيوان وسائر العروض: فلا يخلو الرهن من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون مما يجوز أن يسلم في رأس المال، والمسلم فيه. والثاني: أن يكون مما لا يجوز سلمه في المسلم فيه. والثالث: أن يكون مما لا يجوز سلمه في رأس المال. فإن كان مما يجوز أن يسلم في رأس المال والمسلم فيه؛ مثل أن يكون المسلم فيه حيوانًا ورأس المال دنانير والرهن ثيابًا: فلا إشكال في جواز المقاصصة؛ إذ لا علة تبقى إذا كانت الثياب مما لا يقوم بالدنانير؛ لأن الدنانير التي هي رأس المال يجوز سلمها في الرهن وفي المسلم فيه، ويعد ذلك منه كاقتضائه ذلك من حقه. وأما إذا كان الرهن مما لا يجوز أن يسلم في المسلم فيه، وهو أحسن، أو الحسن صار في الأحسن "حط عني الضمان وأزيدك"، وفي الأحسن "ضع وتعجل"، ويتهمان على أن يعملا على ذلك حين العقد، فإن تساويا في النقد والصفة: جاز، ويكون استيفاء. وأما الوجه الثالث: إذا كان الرهن مما لا يجوز سلمه في رأس المال؛ لأنه دنانير وهو دراهم: فلا مقاصة بوجه، وهو صرف مستأخر. ولو اتحد في الجنسية دنانير أو دراهم كلها -أعنى: الرهن ورأس المال: فالمقاصة جائزة اتفاقًا أيضًا إذا اتفقا في الصفة والمقدار، أو يكون الرهن أقل، فإن كان أكثر منع لأنه دراهم في أكثر منها. والحمد لله وحده.

المسألة التاسعة في تعدى الوكيل

المسألة التاسعة في تعدى الوكيل اعلم أنهم قالوا في تعدى الوكيل ومصالحة الكفيل والإقالة من بعض المكيل لا يقوم بها إلا النبيل، ونحن إن شاء الله مجدون في تحصيل ما أشكل، وتلخيص ما تشتت من فصولها، فتنبه أيها المسترشد لفهم هذه الفوائد التي مهدنا سبلها، وقربنا غورها حتى يسقى منها بالأكف والساعد، فنقول من حيث التفصيل: فلا يخلو الأمر من وجهين: أحدهما: أن يوكله على البيع. والثاني: أن يوكله على الشراء. فإن وكله على البيع فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يوكله على أن يبيع بالنقد. والثاني: أن يوكله على أن يبيع إلى أجل. فإن وكله على أن يبيع بالنقد، فتعدى: فلا يخلو تعديه من ثلاثة أوجه: أحدها: إما أن يكون في مقدار الثمن. وإما أن يكون في نوعه. وإما أن يكون في تأجيله. فإن كان تعديه في مقدار الثمن؛ مثل أن يأمره أن يبيعها بعشرة فباعها بثمانية: فلا يخلو المأمور من أن يقر بالتعدي أم لا. فإن أقرَّ بالتعدي، والسلعة قائمة: أخذها مع يمينه، ولا يسقطها عنه

إقرار المأمور في التعدي؛ لأن التهمة تلحقهما في حق المشتري. فإن فاتت بيد المشتري: غرم المتعدي تمام الثمن. فإن جحد التعدي وادعى أنه أمره بذلك الآمر، فإن كانت السلعة قائمة: فالقول قول الآمر، ويحلف، ويرجع الخيار إلى المشتري، فإن شاء أخذها بما قال الآمر، أو يردها، وقيل: إنه لا خيار له ويرد السلعة على كل حال. فإن فكل الآمر: فليس له إلا ثمانية. فإن حلف الآمر، ثم طلب المشتري يمين المأمور، هل يلزمه اليمين أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يلزمه اليمين أنه لم يأمره بعشرة. فإن نكل: لزمه تمام الثمن، ويغرمه الآمر، ويتم البيع للمبتاع بثمانية، وهو قول أصبغ في "كتاب محمد". والثاني: أنه لا يمين له عليه إلا أن يدعي عليه أنه تحمل ذلك كله، وهو قول ابن الموَّاز. وسبب الخلاف: الذي قدمناه أولًا في خيار المشتري هل يفسخ البيع بينهما بنفس يمين الآمر، أو لابد من حكم أو إشهاد؟ فمن رأى أن البيع مفسوخ بنفس اليمين قال: لا خيار للمشتري في أخذها إلا برضا الآمر، ويكون ذلك بيعًا مبتدءًا. ومن رأي أن البيع لا يفسخ بنفس اليمين أثبت له الخيار. وهذا الخلاف ينبني على الخلاف في التفاسخ بعد التحالف.

فإن نكل الآمر عن اليمين: فلا يرد اليمين على المأمور، إذ لا فائدة ليمينه إما لكونه يحلف ليأخذ الغير وذلك مخالف للأصول، وإما لعلة تنكله عن اليمين فيثبت عليه حكم التعدي فيبطل البيع وترد السلعة، وهذا لا سبيل إليه لأن الأمر بنكوله قد يسلمها للمشتري، ولا فائدة ليمين المأمور، ولا يمين على المشتري أيضًا؛ لأنه لم يدَّع عليه شيء. فإن فاتت السلعة: فالقول قول المأمور مع يمينه. واختلف بماذا تفوت على قولين: أحدهما: أن فواتها ذهاب العين خاصة، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم. والثاني: أنها تفوت بحوالة الأسواق فأعلى، وهي رواية عن ابن القاسم. والقولان في "العتبية". فإن كان تعديه في نوع الثمن؛ مثل أن يأمره أن يبيع بالعين فباع بالعرض، أو بالعكس: فلا تخلو السلعة المبيعة من أن تكون عرضًا فباعها بعرض أو طعام، أو كانت طعامًا فباعه بعرض أو طعام فإن كانت عرضًا فباعها بعرض، وقد أمره بالعين: فهو متعد، والخيار للأمر بين أن يجوز البيع ويأخذ الثمن الذي باع به أو يرده ويأخذ سلعته إن كانت قائمة، أو قيمتها إن كانت فائتة. فإن باعها بطعام وكانت عروضًا: فلا يخلو المأمور من أن يكون قد قبض ذلك الطعام، أو لم يقبضه. فإن قبضه: كان الخيار للآمر أيضًا بين أخذه، أو السلعة، أو قيمتها إن فاتت.

فإن لم يقبضه: فلا يجوز للآمر الرضا بفعله، ويأخذ الطعام؛ لأن ذلك بيعه قبل قبضه من المتعدي؛ لأن الطعام قد ثبت له بتعديه مع فوات السلعة. وهكذا الحكم إن كانت السلعة طعامًا، فباعه بعروض. وإن كانت طعامًا فباعه بطعام من جنسه، أو من غير جنسه، فهل يجوز للآمر الرضا به وبفعله عوضًا عن طعامه؟ فهذا يتخرج على الخلاف الذي قدمناه في الصرف في طعام الوديعة إذا تعدى عليه المودع فباعه بطعام من غير جنسه: فقد نص في الكتاب أنه يجوز لرب الطعام الرضا بذلك وأخذ الطعام الذي هو العوض، وأشهب يمنعه؛ لأنه طعام بطعام فيه خيار، وابن القاسم يمنعه من الدنانير إذا صرفها بالدراهم تعديًا، وقد بَيَّنَا بيانًا شافيًا، فلا نطول بإعادته مرة أخرى. فإن كان ذلك التعدي في التأجيل؛ مثل أن يوكله على أن يبيع بالنقد فباع إلى أجل: فهو متعد، ويرد البيع مع قيام السلعة، ويأخذ الثمن عاجلًا مع فوات السلعة. فأما إن وكله على أن يبيع إلى أجل فباع بالنقد: فقد قال في "المدونة": إنه متعد سمي له الثمن، أو رد ذلك إلى اجتهاده. وقد اختلف المتأخرون في تأويل ما وقع له في هذه المسألة؛ فمنهم من يقول: معناه أنه باعها بأقل مما سمي له، أو بأقل مما تساوى إن لم يُسَم له الثمن، فلأجل ذلك ضمنه مالك -رحمه الله-. وأما لو باعها بمثل ما يسمى له أو أكثر منه: للزوم الآمر، ولا مقال له لأنه لم يرد به إلا خيرًا، وهذا تأويل ابن أبي زيد. ومنهم من قال: إن الضمان يلزمه على كل، ويضمن القيمة، إلا أن

تكون القيمة أقل مما باعها به المتعدي، فيكون الزائد لرب السلعة، وهذا تأويل أبي محمَّد بن التبان. واختلافهما في التأويل يحتمل أن يرجع إلى اختلاف حال، ويحتمل أن يكون اختلاف أقوال؛ فمن لفق بين التأويلين قال: يحتمل أن يكون الآمر أباح له البيع بما حد له من الثمن من غير أن يكون له غرض في الزيادة عليه، ولا أمر له بالاجتهاد في الزيادة، فيكون القول كما قال ابن أبي زيد. ويحتمل أن يكون أمره أن يبيع له بما سمى على معنى التحديد لأقل من الثمن على أن يجتهد في الزيادة على التسمية -إما نطقًا، وإما ضمنًا- فإذا ترك الاجتهاد فقد أمره أن يبيع بنسيئة، فقد تعدى ووجب عليه غرم القيمة، فيكون كما قال ابن التبان. فإذا حمل على هذا المعنى فيكون ذلك اختلافًا يرجع إلى حال، ويحتمل أن يكون اختلاف أقوال ويعد أن الآمر بالبيع إلى أجل لغرض له في ذلك إما لجهله بالتسوق فيظن أن سلعته لا تساوي القدر الذي سمي إلا إذا باع بالنسيئة فلما باع بتلك التسمية نقدًا تبين أنه قد فرط في التماس الزيادة لما عرف بالعادة أن الذي تباع به السلعة إلى أجل أكثر مما تباع به [نقدًا] (¬1) إما لغرضه في بقاء الثمن في ذمة المشتري إلى الأجل مخافة أن يتلف الثمن ويفوت من يده، وربك أعلم. والجواب عن الوجه الثاني: إذا وكله على الشراء؛ مثل أن يوكله على أن يشتري له سلعة: فلا يخلو من أن يشتريها نقدًا، أو يسلم فيها إلى أجل. فإن وكله على أن يشتريها نقدًا فاشتري خلاف ما أمر به: فهو متعد، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والخيار فيما عدا الطعام للآمر، إن شاء أخذ ما اشتراه وأجاز فعله، وإن شاء ضمن له الثمن الذي دفع له إن كان قد دفع له الثمن أولًا. وإن كان إنما أسلف له المأمور الثمن: فالخيار له في أخذ ما اشتراه أو تركه. وإن كان المشتري طعامًا، فإن قبضه الأمور: كان الخيار للآمر أيضًا، فإن لم يقبضه: فإنه يتخرج على قولين، وقد قدمناهما في الوجه الأول. فإن كان الشراء إلى أجل؛ مثل أن يوكله أن يسلم له في طعام أو غيره من السلع: فذلك على وجهين: إما أن يدفع له الثمن، أو أمره أن يسلف له. فإن دفع له الثمن فتعدى فيما اشترى: فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون في السلعة المأمور بشرائها أو في الثمن المبيع أمر بالشراء به. فإن وقع التعدي في السلعة التي أمر باشترائها؛ مثل أن يأمره أن يسلم له في ثياب هروية فأسلم له في بساط شعر: فهو متعد ضامن لرأس المال، ولا خيار للآمر في أخذ ما اشترى؛ لأن ذلك فسخ دين في دين، ولكن ينظر إلى ما اشتراه المأمور، فإن كان مما يجوز بيعه قبل قبضه كالعروض: فإنه يباع بما يجوز أن يباع به الدين، فما كان فيه من ربح فللآمر، وما كان فيه من وضعية: فعلى المأمور. وإن كان ذلك مما لا يباع إلا بعد القبض كالطعام: فإنه يؤخر حتى يحل الأجل فيستوفي ثم يباع، ثم يأخذ الآمر الربح إن كان فيه. ثم لا يخلو من أن تكون دراهم الآمر قائمة بيد البائع، أو فائتة؛ فإن

كانت قائمة بيده فهل للآمر أن يأخذه بغير اختيار البائع أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: المنع، وهو قوله في "كتاب السلم الثاني" من المدونة؛ حيث قال: وليس للآمر على البائع قليل ولا كثير. والثاني: الجواز، وهو قول عبد الملك، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الصرف". وسبب الخلاف: الدراهم هل تراد لأغراضها، أو تراد لأعيانها. وعلى القول بأن للآمر أخذها من البائع فعلى المأمور له بدلها, ولا ينتقض السلم بينهما باستحقاق رأس المال إذا كان عينًا، وهذا إذا كان له مال. وإن لم يكن له مال وكان المسلم فيه مما يجوز بيعه قبل قبضه: فإنه يباع ويستوفي منه البائع رأس المال الذي باع. وإن كان مما لا يباع حتى يستوفي: فالبيع بينهما منتقض؛ لأن ذلك دين بدين. فإن فاتت الدراهم بيد البائع: فلا رجوع للآمر على البائع اتفاقًا. فأما إذا أسلفه المأمور الثمن: فله الخيار في هذا الوجه بين الرضا بتعديه وأخذ ما اشتراه له، أو يسلمه، ثم لا شيء له عليه؛ إذ لا علة تبقى فيه. وهذا كله إذا تعدى في المثمون. وأما إذا تعدى من الثمن؛ مثل أن يوكله على أن يسلف له دنانير في طعام فصرفها بدرهم، ثم اشترى بالدراهم طعامًا. فقد فصل في "الكتاب" بين أن يصرفها على معنى المصلحة والرفق أم لا، فإن صرفها على معنى

المصلحة والرفق؛ مثل أن يكون الشراء بالدرهم أيسر، وكان ذلك أرفق للمأمور به: فذلك لازم للآمر، والمأمور غير متعد. وإن صرفها على غير هذا الوجه: فالمأمور ضامن للدنانير، وللآمر الرضا بالطعام المشترى، ويأخذه إن قبضه المأمور وهذا قوله في "الكتاب". فتأمل هذا التفصيل الذي فصل، وكيف جوز للآمر أخذ الطعام إن قبضه المأمور، وأخذه أجازه للصرف الواقع من المأمور على نعت التعدى وهو صرف منعقد على خيار، وهذا التفصيل أيضًا لا يجلى فائدة؛ لأن التعدي موجود في الوجهين؛ لأنه إنما وكله على أن يشتري بدنانير، لا على بيعها, ولا فرق بين أن يكون صرفها نظرًا للآمر أم لا؛ لأنه لم يأمره بذلك، ولا وكله عليه، وهو متعد على كل حال. أصل ذلك: لو وجد ذلك المأمور سلعة نفيسة القدر يكون شراؤها فرصة ونظرًا للآمر ثم اشتراها المأمور: كان متعديًا فكذلك صرف الدنانير دراهم، فإذا نظرنا إلى محض التعدي ووجوده فالمأمور متعد في الوجهين. وإن نظرنا إلى أن العلة الموجبة للضمان، وهو ما تضمنه [التعدي] (¬1) لا نفسه قلنا: إنه غير متعد، وصرف الدنانير بالدراهم ليس فيه إلا محض [التعدى] (¬2)؛ إذ لا يعود تعديه بالضرر على الأمر في شيء، ولاسيما إذا بنينا على أن الخيار الحكمي ليس كالخيار الشرطي، بخلاف ما إذا اشتراها عروضًا ثم أسلم تلك العروض في طعام: فإنه ضامن في هذا الوجه باتفاق؛ لأن تعديه يعود بالضرر على الآمر إذا استحقت من يد الذى قبضها ¬

_ (¬1) في أ: العدي. (¬2) في أ: العدي.

في طعام أن العهدة على الآمر في ذلك، وذلك لا يبقي في العين في غالب الأحوال. والحمد لله وحده.

المسألة العاشرة في مصالحة الكفيل عن دين الكفالة

المسألة العاشرة في مصالحة الكفيل عن دين الكفالة ولا يخلو هذا الدين من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون الدين عينًا. والثاني: أن يكون عرضًا. والثالث: أن يكون طعامًا. وكل قسم من هذه الأقسام ينتج ثلاثة أوجه: إما أن يكون الصلح من جنس دين الكفالة، أو نوعه، أو من عينه. فصارت المسألة إذا دارت إلى تسعة أوجه. وللكفيل في جميع ذلك حالتان: إما أن يصالح عن نفسه، أو عن الغريم. ونحن لكل ذلك -بعون الله- موضحون. فالجواب عن القسم الأول: إذا كان الدين عينًا، فصالح من غير جنسه، كالعروض ونحوها: فلا يخلو من أن يكون صالح عن نفسه، أو عن الغريم. فإن صالح عن نفسه: فلا يخلو من أن يكون الدين من قرض، أو من بيع. فإن كان الدين قرضًا، أو ثمن بيع مما لا ربا فيه بينه وبين المصالح به، وكان ذلك شراء لنفسه: فإن ذلك جائز، وهل يفتقر ذلك إلى حضور الغريم، أو معرفة يسره من عسره، وثبوت الدين إن كان عينًا أم لا؟

فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يفتقر إلى حضوره وثبوت الدين ببينة في غيبته. والثاني: أنه لا يفتقر إلى حضوره، ولا إلى بينة على أصل الدين بخلاف شراء الأجنبيين. وسبب الخلاف: ذمة الكفيل، هل هي كذمة الأصيل أم لا؟ فمن رأي أن ذمة الكفيل غير مشغولة بما على الأصيل لاتحاده واستحالة قيام المتحد بالمحلين فحاكى الكفيل الأجنبي، وإن كانت الكفالة اقتضت توسيع المطالبة وتفسيخ المؤاخذة لا حقيقة المحلين قال: لابد من إحضار الأصيل عند شراء الكفيل، وثبوت الدين ببينة في غيبته. ومن رأي أن الضمان من التضمين، أو من التضميم لذمته إلى ذمة [الأصيل] (¬1) قال: لا يفتقر إلى حضوره، ولا إلى قيام البينة؛ لأنه قد تقرر بين ذمة الكفيل وذمة الأصيل مضاهاة تمنع مساواته للأجنبي؛ لأنه كأنه اشتراه من نفسه لنفسه. وعلى هذا ينبني اختلاف قول مالك في كتاب الكفالة هل الطالب على التخيير، أو على الترتيب؛ فمرة رأى أن ذمة الكفيل والأصيل واحدة فقال بتخيير الطالب. ومرة رأى أن الكفيل كالأجنبي فقال: إن الطلب على الترتيب، ولا يتبع الكفيل إلا بعد عدم الأصيل. وإن كان الدين من ثمن بيع ما فيه الربا مثل ألا يجوز سلم ما بيع بهذا الدين فيما صولح به: فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه سلم الشيء في مثله إلى أجل، وذلك حرام. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والجواب عن الوجه الثاني من القسم الأول: إذا صالحه من نوع دينه وكان الصلح لنفسه؛ مثل أن يكون دنانير والصلح بدراهم، أو كان ذلك ومشقيه، والدين هاشمية: فذلك حرام؛ لأنه صرف مستأخر. والجواب عن الوجه الثالث من القسم الأول: إذا صالحه لنفسه من عين الدين: فإنه يجوز بالمثل في الصفة والمقدار، ويعود ذلك قضاءً، ولا يجوز بالأقل؛ لأن ذلك ربا بلا إشكال؛ لأنه دفع الأقل ليأخذ الأكثر ويدخله فيما بينه وبين الطالب "ضع وتعجل". فإن صالح عن الأصيل من غير جنس الدين: فلا عبرة بحضوره، ثم ينظر في الصلح هل وقع بما يرجع إلى القيمة، أو بما يرجع إلى المثل. فإن صالح عنه بما يرجع إلى القيمة فهل يجوز أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز، وهو مشهور المذهب، وهو نص "المدونة" ثم يرجع عليه الكفيل بالأقل من الدين أو القيمة. والثاني: المنع؛ لأنه مما يرجع إلى خيار الغريم، إن شاء دفع ما عليه، أو قيمة ما دفع عنه، وذلك غرر وخطر، وهذا القول تؤول على "المدونة". وسبب الخلاف: الكفالة هل هي من باب المعروف، أو من باب المعاوضات؟ فمن رأى أنها من باب المعاوضات قال: لا يجوز لأن الكفيل ليس على بصيرة فيما يرجع به على الأصيل إذا حلَّ الأجل. ومن قال إن ذلك جائز: يرى أن الكفالة أصل منقطع عن عقود الأغرار والأحظار، وملتحق بعقود النحلات والوصلات؛ ولذلك جوزنا بدين لا يدري كميته ولا حقيقة وصفه.

فإن كان المصالح به مما يرجع إلى المثل: فعن مالك في ذلك قولان منصوصان في "المدونة" في "كتاب السلم الثاني"، و"كتاب الكفالة". فوجه القول بالإجزاء: أن الكفالة معروف لا يعتبر فيه الغرر والخطر. ووجه القول بالمنع لأنه غرر؛ لتردده بين البيع والسلف إن كان أعطى الغريم ما عليه: كان بيعًا، وإن أعطاه ما به وقع الصلح: كان سلفًا. فإنه صالحه منه من نوع الدين: فلا يخلو من أن يكون من نوعه جنسًا، أو من نوعه سكة. فإن كان من نوعه جنسًا؛ مثل أن يصالحه عنه بالدمشقية عن الهاشمية، أو بالعكس فالمذهب الجواز، وهو نص "المدونة" وإن كان أحد النوعين أفضل من الآخر، ويرجع على الغريم ما أدى، وإن كان فيه غرر يسير فمغتفر في عمل المعروف، واستخف لما اتحدت العرضية. فإن كان من نوعه عينًا وسكة؛ مثل أن يصالح عنه بالدنانير عن الدراهم، أو بالعكس فعن مالك في ذلك قولان منصوصان في "كتاب الوكالة". وسبب الخلاف: ما أشرنا إليه من كون الكفالة يجاذبها أصلان متنافران؛ معروف، ومعاوضة، فمن مُحصَّ النظر إلى أحد الأصلين: ضاق عليه طلق المقال فيها. وإن صالحه عليه من عين الدين، فإن كان مثله صفة وقدرًا: جاز، ويكون قضاء. وإن صالح بالأقل أو بالأكثر، فإن حلَّ: جاز، وهو بالزيادة متطوع. فإن كان قبل الحلول: منع بالأقل، وجاز في الأكثر؛ لأنه في الأقل

"ضع وتعجل". والجواب عن القسم الثاني من أصل التقسيم: وهو إذا كان الدين عرضًا، وكان ما صالحه به من غير جنس الدين: فلا يخلو من أن يصالح لنفسه، أو عن الغريم. فإن صالح لنفسه على عروض تخالف ما عليه مما يجوز [أن] (¬1) يسلم بعضها في بعض، أو صالح بذهب أو فضة: فلا إشكال في الجواز. وهل الكفيل كالأجنبي في حضور الذي عليه الدين، أو ليس كهو لأنه أحد الغريمين: فهذا مما أسلفنا توجيهه وكفينا مؤونته. فإن صالحه من غير رأس مال السلم قدرًا وصفة جاز، وبالأقل أو الأكثر: قولان: وسبب الخلاف: ما تقدم في الكفالة هل هي من باب السلم، أو من باب المعروف، أو من باب المعاوضة. والجواب عن الوجه الثاني: إذا صالحه من نوع الدين مما لا يجوز سلمه فيه: فلا يجوز ذلك؛ لأن النساء مع اتحاد الجنسية يعم عامة المتمولات. والجواب عن الوجه الثالث من القسم الثاني: إذا صالحه لنفسه من عين الدين مقدارًا وصفة: فكذلك كالقضاء وإن صالح بالأقل أو الأكثر، أو بالأبخس، أو بالأحسن، أو بالعكس: فذلك ربا؛ لأنه بالأحسن زيادة على ضمان الأبخس وفي الأبخس سلف بنفع زيادة الأحسن. فلو كان ذلك بعد حلول الأجل، وتناقدا: لم يكن بذلك بأس. وأما إن صالحه عن الغريم من غير جنس الدين عينًا أو غيره من ذوات ¬

_ (¬1) سقط من أ.

القيمة: فعلى الخلاف الذي قدمناه إذا صالح عن الغريم بما فيه التخيير، فقد تقدم الكلام عليه. وأما إن صالحه عنه من ذلك النوع الذي في الذمة مما لا يجوز سلمه فيه، أو صالحه عنه أيضًا من عين الدين، فإن كان المقدار في ذلك واحدًا والصفة واحدة: فذلك كالقضاء، بل هو هو. وأما الأقل والأكثر والأبخس والأحسن: فلا يجوز؛ لأنه في الأبخس "ضع وتعجل"، وفي الأحسن "حط عني الضمان وأزيدك". وإن كان ذلك بعد حلول الأجل: فلا حرج، ويكون بالزيادة متطوعًا. فهذان الوجهان قد استوفينا الكلام فيهما على الكمال والتمام. والجواب عن الوجه الثالث من أصل التقسيم: [وهو] (¬1) إذا كان الدين طعامًا: فلا يخلو من أن يكون من دين، أو قرض. فإن كان ذلك من قرض وصالحه لنفسه: فله حكم العروض في الأوجه الثلاثة، فلا فائدة لإعادتها مرة أخرى، غير أنه تعتبر السلامة من الربا بوجهيه -ربا النقد وربا النساء. وهكذا إن صالح عن الغريم: فله في كل ما يصالح به حكم العروض في جريان الخلاف؛ لأن الغريم عليه بالخيار. ولم يجوز ابن القاسم في ذلك من "المدونة" إلا فصلًا واحدًا؛ وهو أن يصالح عن الغريم بعد حلول الأجل عن سمر السمراء، أو عن محمولة المحمولة أحسن أو أبخس، مع تساوي الكيل، ويرجع الكفيل بالأقل، ولم ¬

_ (¬1) في أ: وهذا.

يجز ذلك قبل الأجل لأنه في الأبخس "ضع وتعجل"، وفي الأحسن كذلك، ولإمكان أن يكون للأبخس عند الخليقة مزية تشوف على الأحسن، وذلك أن المقاصد ترتبط بأعيانه لخصائص صفاته بخلاف العين لاتحاده في العرضية، وهذا كتجويزه اقتضاء المحمدية عن اليزيدية قبل الأجل، ويمنع من مشهور مذهبه اقتضاء السمراء عن المحمولة لما تقدم. وأما الطعام من بيعك فلا يجوز، سواء صالح عن نفسه، أو عن الغريم، إلا ثلاثة أوجه: أحدها: ما كان قضاء؛ وذلك أن يدفع عين ما به تكفل، وأما الأقل أو الأكثر، والأحسن أو الأبخس: فممنوع قبل الأجل وبعده خلاف الدمشقية عن الهاشمية، ولأنه في الطعام يخاف فيه بيعه قبل قبضه، ولاسيما إن لاحظنا في الكفيل ثبوت الأجنبية، وكيف ما كان فالخوف في الطعام أكثر وأحذر. والثاني: ما كان تولية؛ وذلك بأن يصالح لنفسه بمثل رأس المال قدرًا وصفة، ثم يجمع بينه وبين الغريم ويحمله عليه. والثالث: ما كان إقالة بإذن الغريم، فيصر كأن الكفيل أسلفه الثمن المقال به، كما يجوز للأجنبي أن يعطيك ذهبك على أن يقيل البائع بإذنه. فإن فعلا ذلك بغير إذنه: لم تجز الإقالة؛ لأن الغريم عليهما بالخيار بأن يعطي لهما ما أعطيا وما عليه، فتخرج الإقالة عن وجهها وتعود مفسدة. واعلم أن الأجنبي في دفع العين مفارق للكفيل في الأقسام الثلاثة -على ما نصف- مثل أن يعطي الأجنبي للطالب مثل دينه، ثم يحيله على

غريمه، ولا يخلو من أن يكون قبل الحلول، أو بعد الحلول. فإن كان ذلك بعد الحلول وكان قدرًا وصفة: جاز في العين والعروض قولًا واحدًا، وفي الطعام قولان: الجواز لأشهب، والمنع لابن القاسم. وسبب الخلاف: هل تغلَّب في ذلك شائبة العوضية على شائبة المعروف فيمنع، أو تغلَّب شائبة المعروف على شائبة العوضية فيجوز، وفي العين والعروض وطعام القرض محض معروف صنعه بالذي عليه الحق؛ ولذلك جاز اتفاقًا. فإن كان قبل الحلول: فلا يخلو من أن يكون الدين عرضًا، أو طعامًا، أو عينًا. فإن كان الدين عرضًا فصالحه بمثل دينه قدرًا وصفة: فلا يخلو من أن تكون المنفعة في ذلك للمعطي، أو للمعطى له. فإن كانت المنفعة للمعطي: فلا يجوز؛ لأن ذلك سلف جر منفعة. فإن كانت المنفعة للمعطي له: جاز اتفاقًا. فإن كان الدين عينًا أو طعامًا، فأعطي له مثل ذهبه أو طعامه، فإن كان النفع للمعطي: فلا يجوز ذلك قولًا واحدًا، وإن كان النفع للمعطى له: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك جائز، وسواء كان الدين من بيع أو من قرض، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن ذلك جائز في العين والطعام، وهما كالعروض، وهو قول أشهب وسحنون؛ لأنه قرض معنوي.

ووجه قول ابن القاسم: في التفرقة بين العروض والطعام والعين قبل الأجل؛ لأن الطعام والعين مال ربوي حقيقة، والحوالة فيه مصنوعة لأنها شعبة من المعاوضة، وأما العروض: فلا مقال للربا فيها إلا حرام الزيادة، أو النفع في السلف، فإذا ارتفع ذلك يكون النفع للمعطى له، وارتفع النهي. والحمد لله وحده.

المسألة الحادية عشرة إذا أخذ برأس المال كفيلا

المسألة الحادية عشرة إذا أخذ برأس المال كفيلًا فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون الكفالة في عقد البيع. والثاني: أن تكون بعد عقد البيع. فإن كانت الكفالة في العقد؛ مثل أن يسلم في طعام واحد برأس المال كفيلًا: فلا يخلو من وجهين: إما أن يرد إليه الكفيل برأس المال؛ مثل الطعام الذي أسلم منه. [وإما أن يتكفل له برأس المال على أن يشتري له به طعامه إذا عدم الذي عليه السلم] (¬1). فأما الوجه الأول: إذا أخذ منه برأس المال كفيلًا يرده إليه عند عدم المسلم إليه: فالبيع فاسد في هذا الوجه، قولًا واحدًا؛ لأنه متردد بين البيع والسلف. وهل يبرأ الكفيل من الكفالة لفساد العقد وهو مطالب لما أخرج بها من ماله؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" من "كتاب الحمالة". أحدهما: أنه لا يلزم الحميل شيء؛ لأن الحمالة مهما وقع أصلها فاسدًا لم يلزم الكفيل غرم ما أخرج من نسيها، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن الكفيل لا يبرأ ويلزمه ما أخرج من يد المشتري وهو رأس ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المال إذا علم الذي عليه السلم. وأما الوجه الثاني من الوجه الأول: إذا تكفل له برأس المال على أن يشتري له به طعامه إذا عدم الذي عليه السلم: فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك جائز إذا وقعت الكفالة على أن الذي عليه الطعام إن عدم كان على الكفيل أن يخرج مثل رأس المال يشتري به من طعام على حسب منتهى سعر ذلك، وإن كان اشتراؤه مثل القدر الذي أسلم فيه أو أقل أو أكثر، وإلى هذا ذهب الشيخ أبو إسحاق التونسي وغيره تأويلًا على "المدونة". والثاني: أن ذلك لا يجوز وإن وقعت على هذا الوجه؛ لأن ذلك غرر وخطر لا يدري الذي له الطعام كم يحصل له منه إن كان كله أو بعضه أو أكثر منه لاختلاف الذمم والأسعار عند الحلول. وقد اختلفوا في الحمالة المقارنة للبيع؛ مثل أن يبيع بشرط أن يتحمل له فلان بالثمن إلى قدوم زيد، أو ما دام حيا أن ذلك لا يجوز على خلاف لهم في ذلك. وسبب الخلاف: الغرر المضاف إلى أصل جائز هل يؤثر في فساد ذلك الأصل، أو لا تأثير له فيه، ويكون الحكم للصحة، لا للغرر. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كانت الكفالة بعد العقد هل يجوز العقد والحمالة، أو يجوز العقد وتبطل الحمالة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن العقد صحيح، والحمالة باطلة، وهو مذهب سحنون. والثاني: أن العقد جائز، والحمالة فيه لازمة، وهو مشهور المذهب.

وقال أبو إسحاق التونسي: يحتمل قول سحنون أن يريد: أنه لا يأخذ إلا رأس المال دون الطعام، فإذا لم يصح له ذلك: بطلت الحمالة؛ لأنه كأنه لم يرض أن يتحمل بعد العقد إلا بشرط إقالة رب الطعام المتحمل عنه، فإذا بطل أن يكون ذلك في الشرع: سقطت الحمالة عنه. والحمد لله وحده.

المسألة الثانية عشرة في قبض الكفيل الطعام من الذي عليه السلم

المسألة الثانية عشرة في قبض الكفيل الطعام من الذي عليه السلم ولا يخلو قبضه إياه من خمسة أوجه: أحدها: أن يقبضه على معنى الرسالة. والثاني: أن يقبضه على معنى الكفالة. والثالث: أن يقبضه على معنى الاقتضاء. والرابع: أن يختلفا. والخامس: إذا أبهم الأمر علي ماذا يحمل؟ والجواب عن الوجه الأول: إذا قبضه على معنى الرسالة فلا يخلو من أن يكون ذلك الطعام قائمًا بيده، أو فائتًا. فإن كان قائمًا: فالخيار للطالب، إن شاء اتبع الكفيل، وإن شاء اتبع الأصيل، ولا خلاف في ذلك. فإن فات الطعام: فلا يخلو من أن يكون بتلف، أو بإتلاف. فإن كان بتلف من السماء: فهو مصدق، ولا ضمان عليه ويبقى عليه الطلب بطريق الكفالة خاصة، ثم يجري على الخلاف المعهود في الحمالة؛ هل المطالبة على التبدئة، أو على التخيير. فإن كان بإتلاف من الكفيل: فهو ضامن للأصيل بمثل ذلك الطعام، فإن غرم الكفيل الطعام للطالب فلا تراجع بينه وبين الأصيل. فإن غرمه الأصيل: فإنه يرجع على الكفيل بمثل طعامه، أو أخذ ثمنه إن باعه، ولا خلاف في هذا الوجه أيضًا.

فإن غرم الكفيل الطعام للطالب بعد أن باع ما أخذ من الأصيل، فأراد الأصيل أن يدفع له مثل ما غرم من الطعم فيقبض منه الثمن: فليس له ذلك. والجواب عن الوجه الثاني: إذا قبضه على معنى الوكالة من الذي له الطعام، فإن قبضه برئت ذمة الأصيل، قولًا واحدًا، فإن الطالب يجوز له بيعه لقبض الكفيل. فإن تعدى عليه الكفيل بعد صحة قبضه من الأصيل: فالعدي على الطالب وقع بلا إشكال. والجواب عن الوجه الثالث: إذا قبضه على معنى الاقتضاء: إما بحكم حاكم على وجه يصح القضاء بذلك؛ كما إذا غاب وحلَّ الأجل وخاف الكفيل إعدام الأصيل وإحداث الفلس، وبهذا تأول ما وقع في المدونة من قوله: قبضه بحكم قاض. أو يكون قبضه برضا الذي عليه الطعام من غير حكم: فالكفيل في هذا الوجه ضامن بوضع اليد على الطعام، وذمته به، أو بمثله عامرة حتى يوصله إلى الطالب. وللطالب مطالبة من شاء منهما اتفاقًا مع قيام الطعام بيد الكفيل أو فواته. فإن عدم الأصيل: كان له الرجوع على الكفيل بطعامه أو مثله إن استهلكه، أو بثمنه إن [باعه] (¬1) إن شاء أخذ الثمن. ولا يجوز للطالب أن يبيعه بذلك القبض إن كان قائمًا، وإلا أخذ ¬

_ (¬1) في أ: باعها.

الثمن منه إن باعه؛ لأن ذلك بيع الطعام قبل قبضه. فإن أخذ منه الطالب مثل طعامه بعد أن باع ما اقتضاه: كان الثمن سائغًا له، فإن أراد الأصيل أن يدفع له مثل ما غرم من الطعام ويأخذ منه الثمن: فليس له ذلك. والجواب عن الوجه الرابع: إذا اختلفا في صفة القبض، فالكفيل يدعي أنه قبضه على معنى الرسالة، والأصيل يقول: بلى على معنى الاقتضاء: فقد اختلف فيه المذهب على قولين من "المدونة". أحدهما: أن القول قول الأصيل، وهو قول مالك في "كتاب القراض" من "المدونة"؛ حيث قال: إذا قال القابض: قبضته على معنى الوديعة، وقال رب المال: قرضًا، أو قراضًا: فإن القول قول رب المال. والثاني: أن القول قول القابض، وهو قول أشهب وغيره، وهو ظاهر "المدونة" في غير ما موضع. وسبب الخلاف: تعارض الأصلين كل واحد منهما ينفي ما يثبته الآخر أحد الأصلين لاسيما قد اتفقا أن المال المقبوض للدافع، ولا شيء فيه للقابض، وهو أقر بقبضه ثم ادعى ما يسقط عنه الضمان فكان الأصل ألا يقبل منه إلا بدليل، والأصول موضوعة على أن وضع اليد في مال الغير بغير شبهة يوجب الضمان؛ وبهذا قلنا: إن القول قول الدافع الذي هو الأصيل والأصل الثاني يوجب أن يكون القول قول القابض الكفيل، وذلك أن الأصل في الحظر والإباحة إذا اجتمعا أن يغلب حكم الحظر، والكفيل -هاهنا- قد ادعى قبضًا صحيحًا، والأصيل قد ادعى قبضًا فاسدًا: فوجب أن يكون القول قول القابض الذي هو الكفيل؛ لأن قوله قد أشبه، وقد ادعى أمرًا مباحًا، وهو قوله في "كتاب السَّلم الثاني" إذا

اختلفا في صحة السلم وفساده؛ حيث قال: القول قول من ادعى الصحة، والأصيل في هذا الوجه قد ادعى الفساد؛ لأن الكفيل لا يجوز له قبض الطعام عن المكفول وأن عليه مطالبته ليدفع إلى الطالب كي يبرأ هو من الكفالة. فإذا ادعى عليه أنه قبضه منه على الاقتضاء: فقد ادعى أمرًا محظورًا فوجب ألا يصدق عليه. فلأجل تعارض الأصلين تعارض الجوابان. والجواب عن الوجه الخامس: إذا أبهم الأمر، وعري القبض عن القرائن، وقد مات الكفيل أو الأصيل هل يحمل على الرسالة حتى يثبت أنه قبضه على الاقتضاء، أو يحمل الاقتضاء حتى يتبين أنه على الرسالة؟ فهذا مما يتخرج فيه قولان من آخر الكتاب، وهذه مسألة تأتي في "كتاب السلم الثالث" إن شاء الله تعالى.

كتاب السلم الثالث

كتاب السلم الثالث

كتاب السَّلم الثالث تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها [إحدى عشرة] (¬1) مسألة. المسألة الأولى في إقالة المريض وإذا أسلم رجل إلى رجل مائة دينار في مائة أردب حنطة قيمتها مائة دينار، ولا مال له سواه، ثم تقايلا وأحدهما مريض: فلا يخلو من أن تكون الإقالة من البائع أو المشتري. فإن كان البائع للطعام هو المريض [فأقال] (¬2) في مرضه: فلا يخلو ما أقال منه من أن يكون محاباة أم لا. فإن لم تكن فيه محاباة: فالإقالة فيه جائرة، قولًا واحدًا. فإن كانت فيه محاباة؛ مثل أن يبيع مائة أردب إلى أجل بمائة دينار نقدًا على معنى السلم وهي تساوي خمسين دينارًا, ولا مال له غيرها: فإن الورثة مخيرون بأن يجيزوا ما فعل الميت، أو يشتروا لصاحب الطعام طعامه بخمسين، ويقطعوا له بتلك الخمسين من الباقية؛ لأن الوصايا إنما تكون في ثلث ما بقي من التركة بعد قضاء الدين. فإن كانت الإقالة من المشتري وهو مريض: فلا يخلو من أن يكون في الطعام محاباة أم لا. فإن لم يكن فيه محاباة: فالإقالة صحيحة، قولًا واحدًا في المذهب. ¬

_ (¬1) في أ: أحد عشر. (¬2) في أ: فأقام.

فإن كانت فيه محاباة: فالمذهب في جواز الإقالة على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: جوازها، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: المنع، وهو قول سحنون، من غير التفات إلى الثلث على مذهبه، حمل ذلك الطعام أم لا، انتقد الثمن أم لا. وسبب الخلاف: ما يوجبه الحكم هل هو مثل ما يوجبه الشرط أم لا. وسحنون - رضي الله عنه - بني مذهبه على أن ما يوجبه الحكم مثل ما يوجبه الشرط؛ وذلك أن الإقالة شرطها التناجز، لا يجوز فيها التأخير، وإقالة المريض الأمر فيها مصروف إلى الثلث، والنظر فيها مترقب إلى بعد الموت؛ فلهذا حملنا مذهبه على التساوي بين أن ينقد الثمن أم لا ينقد، وهذا المذهب أصح وأسلم من المطالبة. وأما مذهب ابن القاسم في هذه المسألة فقد اضطرب اضطرابًا أوجب تشتت آراء الناس الشارحين، وتباين تأويل المتأولين حتى لم يلتق رأى واحد منهم مع الآخر على التنزيل، ولا اتفق توارد خاطرهم على التأويل، بل كل واحد ركب رأسه وركب قياسه وأوتر قوسه ويصوب تأويل نفسه ويقوي سهام الطعن نحو تأويل غيره فشف قبلهم ترى ما بينهم، فالذي تحصل عندي من تأويل حذاقهم أربعة أوجه: تأويل ابن القابسي: أن معنى المسألة أنه أوصى أن يقال وليست بإقالة بثلث؛ ولذلك جوزها ابن القاسم، فيعلق في "الكتاب" بقوله: إن كان الثلث يحمل جميعه: جاز ذلك وتمت وصيته، وهذا تأويل باطل؛ بدليل قوله في "الكتاب": لو لم تكن فيه محاباة لجاز ذلك، فلو كانت وصية لكانت من الثلث كانت فيها محاباة أم لا، وإنما سماها وصية تجوزًا في

العبارة لما كان النظر فيها موقوفًا إلى بعد الموت؛ لأن أفعال المريض معروف، فأشبهت الوصايا من هذا الوجه. والوجه الثاني: تأويل ابن اللباد أنها قالت بثلث لكنها فاتت بفوت الإقالة؛ فلذلك جوزها ابن القاسم، فلو عاش بعد الإقالة زمانًا لقسمت عنده كما يقول سحنون، فتعلق من "الكتاب" بقوله: ثم مات فقال هذا يشعر بأنه مات عقيب الإقالة، وهذا القول ضعيف من وجهين: أحدهما: أن تضعيف ما استدل به من قوله: (ثم) التي هو موضوعه في اللغة للمهلة والتراخي، وإن كان يحتمل قوله: (ثم) أن يكون من قول سحنون ومن سياق نظمه من غير أن يقصد بذلك حالة المتبايعين كان بعد الإقالة بزمان. والناس قد اختلفوا في الاصطلاح في استعمال ألفاظ العربية وحروفها على ما عودته ألسنتهم، وقد وقع له مثل هذا في "كتاب الظهار" فيما إذا قال لإحدى نسائه: أنت عليَّ كظهر أمي، ثم قال للأخرى: أنت عليَّ مثلها، وكيف ما كان فالعقد وقع على التراخي من مبتدئه ومنشئه، فلا يؤثر في جواز ما وقع من المناجزة في الحال، أصل ذلك إذا وقع عقد الصرف على التأخير وقعت المناجزة في الحال أن الصرف فاسد؛ لوقوع العقد على التأخير. والوجه الثالث من التأويل: ما تأوله أبو محمَّد بن أبي زيد أن الإقالة وقعت على البتل، وإنما جوزها ابن القاسم لكونهما لم يقصدا إلى التأخير -لا نصًا ولا ضمنًا- وإنما دخل على ما يوجبه الحكم في نص المجتهد في ترجيح الأقوال. وقد اختلف قول مالك في معروف المريض إذا بتله وحمله ثلث ماله،

هل يحكم بإخراجه من ماله في الحال، أو يوقف إلى بعد الموت على ما بيناه في "كتاب العتق" بيانًا كافيًا. وقد يرجح الناظر المجتهد القول [بالنفود] (¬1) في الحال إن حمله الثلث، وقد يرجح الإيقاف، فحصول أمرهما أنهما لم يقصدا إلى التأخير. وهذا التأويل أقرب إلى السداد وأنهج إلى الرشاد. والوجه الرابع: تأويل الشيخ أبي عمران الفاسي أن الإقالة وقعت على البتل، وأن المريض كانت له أموال مأمونة فعلا على المناجزة -على أحد أقوال مالك في اعتبار المال المأمون- وهذا أشبه أيضًا لولا ما وقع في "الكتاب" من أن المريض لا مال له سواه. فانظر إلى توجيه الأقوال يتبين لك سبب الخلاف بينهم في التأويل. وهل يجعل؟ في الثلث جميع الطعام، أو مقدار المحاباة؟: فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يجمع جميعه في الثلث، وهو تأويل الشيخ أبي القاسم ابن محرز على "المدونة"، وهو ظاهر قوله في أول ["كتاب] (¬2) السلم الثالث". والثاني: أنه يجعل في الثلث مقدار المحاباة خاصة، وهو تأويل الشيخ أبي إسحاق التونسي، وهو ظاهر قوله في "كتاب العتق الأول" وغيره؛ حيث قال في محاباة المريض إنها تصرف إلى الثلث. وسبب الخلاف: اختلافهم فيما يوجبه الحكم هل هو مثل ما يوجبه الشرط أم لا؟ ¬

_ (¬1) في أ: بالنقود. (¬2) سقط من أ.

فمن رأي أن ما يوجبه الحكم مثل ما يوجبه الشرط قال: يجعل جميع الطعام في الثلث؛ لأنه لو جعله فيه مقدار المحاباة لخرجت الإقالة عن وجهها، وكرت على أصلها بالبطلان؛ لأنه استرجع جميع المال بعد الغيبة عليه وبعض المسلم فيه فصار سلفًا جر منفعة مع ما فيه من بيع الطعام قبل قبضه. ومن رأى أن ما يوجبه الحكم خلاف مما يوجبه الشرط قال: يجعل في الثلث مقدار المحاباة من الطعام؛ لأن مسألة الإقالة في المرض معترضة في غير ما وجه؛ لأن فيها تأخير رأس المال إلى أبعد النظر وغير ذلك من وجوه الاعتراضات. وعلى القول بأنه يصرف جميعه إلى الثلث: فإن حمله كان، وإن لم يحمله: يخير الورثة بين أن يخيروا ذلك أو يقطعوا له إما بثلث ما عليه من الطعام وهو ظاهر "المدونة"، أو يقطع له بثلث طعام المحاباة خاصة وهو ظاهر "الكتاب" أيضًا. وسبب الخلاف: ما تقدم. فهذا جملة الكلام من طريق تحصيل ما فيها من الخلاف والاضطراب. وأما الكلام عليها من حيث الصورة؛ وذلك أنه اشترى مائة أردب حنطة بمائة دينار قيمتها مائتا دينار، ثم أقاله في مرضه: فلا إشكال أن مائة أردب تقسم بين المائتين من حيث المعنى؛ فيقابل كل مائة: خمسون أردبًا، فللمائة التي هي رأس المال منها خمسون وهو القدر الذي لا محاباة فيه، ويبقى للمائة مائة دينار رأس ماله الذي استرجعه للإقالة، ونصف الطعام الذي حابى فيه يساوي مائة أخرى، وجميع ذلك مائتان، ففيها تقع الوصية، فإن أجاز الورثة الوصية كان، وإن لم يجيزوها

المقال بثلث ما عليه، فهل يجمع له في الطعام الذي عليه، أو يقطع في الطعام الذي عليه أو يقطع في الثلث وفي الطعام بثلث؟ فهذا يتخرج على خلاف قول مالك في "كتاب الوصايا": إذا أوصى له بشئ بعينه. وحمله الثلث. وعلى القول بأنه يأخذ جميع ذلك في الطعام فإنه يأخذ ثلثي الخمسين التي بقيت بعد هي مقابلة الأصل المال، ويبقى عليه ثلث الخمسين؛ وهو سدس جميع الطعام يدفعه إلى ورثة المشتري مع المائة التي هي رأس المال. والحمد لله وحده.

المسألة الثانية في الإقالة

المسألة الثانية في الإقالة ولا يخلو الثابت من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون طعامًا. والثاني: أن يكون عرضًا. والثالث: أن يكون عينًا. والكلام في هذه الطعام والعرض، وأما العين فيأتي عليه الكلام في مسألة حمار ربيعة في "كتاب الآجال" إن شاء الله تعالى. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان الثابت في الذمة طعامًا فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يقيله من جميع ما عليه من الطعام. والثاني: أن يقيله من بعضه. فإن أقاله من جميع ما عليه من الطعام فلا يخلو من أن يكون قبل قبض الطعام، أو بعد قبضه. فإن كانت الإقالة قبل قبض الطعام، أو بعد قبضه وقبل الغيبة عليه: فالإقالة على عينه جائزة اتفاقًا هذه المناجزة فيما تناقداه من الثمن والمثمون إذا كان الثمن قائم الذات. فإن وقع التأخير في قبض الثمن، أو الإقالة، هل تجوز، أو تفسخ؟

فالمذهب على قولين: أحدهما: أن التأخير الكبير يبطل الإقالة، ويخرجها ذلك بيع الطعام قبل قبضه إن كان قبل أن يقبض الطعام وفسخ الدين في الدين إن كان قبضه وهو قول ابن القاسم في المدونة إلا أن يكون تأخيرًا يسيرًا كدخول البيت والسوق كما قال في البيت والسوق. والثاني: ولا تبطل الإقالة -يسيرة كانت أو كثيرة-، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في "العتبية"، وهو مذهب. وينبني الخلاف: على الخلاف في الإقالة هل هي نقض بيع، أو بيع مبتدأ. فمن رأي أن الإقالة نقض بيع قال: تجوز العقد السابق كأنه لم يكن إذ الفسخ عند العقد، وأنه لا يترتب عليه ما يترتب علي العقد من الأخذ بالشفعة، وذلك يشعر بمناقضته لسبب التمليك المقتضي بالعقد. ومن رأي أن الإقالة بيع العقد فيما مضى منعوتًا باللزوم والإبرام على وجه ينافي الخبرة والاختيار وكيف يتصور أن يكون كأن لم يكن قلب الحقيقة، فإذا جعلها بيعًا من البيوع فإنه يعتبر فيها ما يعتبر [في] (¬1) عقود المعاوضات من وجوه إلى الفصل منها بيع الطعام قبل قبضه وفسخ الدين في الدين معينًا بآخر قبضه إن كانت الإقالة بعد الغيبة عليه، فإن فات الثمن بيد البائع: فلا يخلو جنس الثمن من أن يكون عينًا، أو عرضًا. فإن كان غنيًا البتل جائزة، قولًا واحدًا في المذهب. وإن كان عرضًا: فلا يخلو فواته من أن يكون فوات عين الذات أو فواتًا ¬

_ (¬1) سقط من أ.

يرجع إلى صفة. فإن كان فواتًا يرجع إلى عين الذات وذهابها بالكلية فهل تجوز الإقالة على المثل؟ فعلى وجهين: إما أن يكون ذلك العرض مما يرجع إلى القيمة، أو مما يرجع إلى المثل. فإن كان ذلك مما يرجع إلى القيمة: فلا أعلم فيه نص خلاف أن الإقالة لا تجوز في الطعام بعد القيمة -انتقد أو لم ينتقد. فإن كان مما يرجع إلى المثل؛ كالمكيل فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الإقالة على المثل لا تجوز، وإنما تجوز على عين رأس المال في غير العين وهو قول ابن القاسم في "المدونة": والثاني: أن الإقالة على المثل جائزة، وهو مذهب أشهب. وفرق ابن القاسم [...] بناء منه على أن العين غير مراد لنفسه بخلاف ما عداه من سائر العروض، وهذا إذا لم يبين له أنه قد فات وأنه إنما يقيله على مثله، وأما إذا بين له ورضي بذلك فلا إشكال في الجواز باتفاق من الجميع على هذا السلم؛ لأن ذلك بيع مبتدأ فيجوز بما تراضيا عليه أخيرًا وفي الطعام يكون بيعه قبل قبضه إذا فات رأس المال وهو عرض. فإن كان فواتًا يرجع إلى صفة الذات: فلا يخلو من أن يكون له تأثير في الذات، أو لا تأثير له. فإن كان لا تأثير لهذا الفوات في الذات كحوالة الأسواق بالزيادة أو بالنقصان: فإنه لا يفوت الإقالة. فإن كان فواتًا يؤثر في الذات بالزيادة، أو بالنقصان كصغير يكبر، أو

الكبير يهرم، أو السمانة والهزالة في الدواب -بالاتفاق- وفي العبيد -على الخلاف- أو حالة الثمن أو المثمون في ذاته التي وجه يخالف الأول: فإن ذلك يفوت الإقالة. فإن وقعت الإقالة على غير رأس المال، إلا أنه أقل من عدده أو أكثر منه: فلا تجوز الإقالة في الأكثر بالاتفاق. وفي الأقل قولان: المنع لابن القاسم، والجواز لأشهب؛ لبعد التهمة في دفع كثير في قليل، والباب باب الذريعة، وبعد التهمة يمنع تأثير الذريعة. واختلف هل تنعقد بلفظها أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة". أحدهما: أن الإقالة لا تنعقد إلا بلفظها، وهو المشهور. والثاني: أنها تنعقد بغير لفظها، وهذا القول قائم من "المدونة" في "كتاب الصرف" و"كتاب السلم الأول" و"كتاب السلم الثاني"، وغيرها من كتب المدونة، وقد قال في "كتاب السلم الثالث" فيما إذا دفع الذي عليه الطعام للذي له الطعام رأس ماله، فقال له: اشتر به طعامك؛ حيث قال: إن كان مثل الثمن الذي دفع إليه في عدده ووزنه: فلا بأس بذلك، فإن كان كثيرًا: فلا يجوز، وذلك حرام. فجوَّزه إن كان مثل الثمن؛ لأنه بمعنى الإقالة. وقال أيضًا في الكتاب المذكور: وإذا أسلم إلى رجل في طعام إلى أجل ثم قال له بعد ذلك: وليتني الطعام الذي لك عليّ، فقال: ليس ذلك بتولية، وإنما هي إقالة، وإنما التولية لغير البائع. فجعل الإقالة في هذه المواضع تنعقد بغير لفظها، وإن كان أبو القاسم ابن محرز يعتذر عن هذا السؤال الآخر، قال: ليس هذا من باب الإقالة

بغير لفظها، وإنما منعت الإقالة بلفظ البيع. وأما بلفظ التولية: فلا؛ لأنه لفظ رخصة، والإقالة رخصة؛ فيجوز أن يعبر بأحد اللفظين عن الآخر. والوجه الثاني: إذا أقاله من بعض ما عليه من بيع الطعام: فلا يخلو من أن يكون ذلك قبل الغيبة على رأس المال، أو بعد الغيبة عليه. فإن كان ذلك قبل الغيبة عليه: فلا إشكال في الجواز؛ إذ لا علة تبقى. فإن كان ذلك بعد الغيبة عليه: فلا يخلو من أن يكون رأس المال مما يعرف بعد الغيبة: جاز أيضًا. وإن كان مما لا يعرف بعد الغيبة عليه: فلا تجوز الإقالة لأن ذلك بيع وسلف؛ ما استرجع فهو سلف، وما بقي فهو بيع، مع ما في ذلك من بيع الطعام قبل قبضه لاحتمال أن يكون الذي استرجعه هو مثل رأس المال، لا عينه. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كان الثابت في الذمة عرضًا ثم أقال منه: فلا شك ولا إشكال أن الإقالة في العروض تقابل الإقالة في الطعام في بعض الوجوه، وتخالفها في بعض الوجوه؛ ويطابقها في محل التناجز، وفي وجوب تخليصها من بيع وسلف، دون ما عدا ذلك من اشتراط عين رأس المال أو ملازمته من التقابض والزوائد الكائنة إذا بين ذلك، وكذلك في نقصان العدد فلا يطابقها فيه. وأما زيادته: ففيه تفصيل؛ فإن رجع إليه رأس ماله ومعه زيادة: فلا بأس به -كانت الزيادة من صنف رأس المال أو من غير صنفه- إلا أن تكون نصف ما عليه: فلا يجوز تقديمها على الأجل؛ لأن ذلك بيع وسلف؛ والسلف ما عجله يستوفيه من نفسه إذا حلَّ الأجل، والبيع ما عوضه منه من المسلم فيه في مقابلة رأس ماله الذي

هو مردود إليه. فإن أخر بعض رأس ماله عن بعض المسلم، وأبقى البقية في الذمة: فلا يخلو أن يكون ذلك عند الحلول، أو قبله. فإن كان ذلك عند الحلول: فلا إشكال في الجواز؛ لأنه يجوز له أن يشتريه منه بالأقل أو بالأكثر إذا كان ما بقي في الذمة على الحلول. فإن كان ذلك قبل الحلول: فلا يخلو من أن يأخذ معه بقية سلمه أو يبقيه في ذمته إلى أجله. فإن أخذ بعض رأس ماله في بعض المسلم فيه، وأخذ معه البقية من سلمه، أو آخره بالبقية إلى أبعد من أجله: فذلك حرام باتفاق المذهب؛ لأن ذلك بيع وسلف من المقدم أو المؤخر، وهي مسألة البرذون بعينها، والكلام عليها يأتي في "كتاب الآجال" إن شاء الله. فإن أخذ رأس ماله في بعض سلمه قبل الأجل على أن يبقى الباقي في ذمة الذي عليه: فلا إشكال في الجواز أيضًا؛ لأنه يجوز أن يشتريه منه قبل الأجل بما شاء من الأثمان مما يجوز أن يجعل رأس المال للسلم الذي في ذمته. وقولنا: أن يجعل رأس المال للسلم الذي في ذمته: مخافة أن يكون ما دفع آخرًا هو رأس المال، فيكون ذلك سلم الشيء في مثله إلى أجل، وذلك حرام. فافهم هذا الأسلوب فإنه يغنيك عن فهم أسئلة الإقالة إن شاء الله تعالى. والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة إذا اشترى سلعة فأشرك فيها أحدا

المسألة الثالثة إذا اشترى سلعة فأشرك فيها أحدًا ولا يخلو ذلك المشتري من وجهين: إما أن يكون معينًا، أو مضمونًا. فإن كان معينًا: فلا يخلو من أن يشتريه نقدًا، أو إلى أجل. فإن اشتراه بالنقد ثم أشرك فيه غيره: فلا يخلو من أن يشركه بعد قبض الشيء المشترى، أو قبل قبضه. فإن أشركه بعد ما قبضه: فالشركة جائزة لازمة والحكم يوجب النقد على المشترك فيما يجب عليه من الثمن -كان المشترك فيه عرضًا أو طعامًا، اشتراه الذي أشركه فيه كيلًا أو جزافًا- إلا أن يكون المشتري إنما أشركه لينقد عنه جميع الثمن سلفًا لحقه من الثمن فلا يجوز؛ لأن ذلك بيع وسلف. واختلف في عهدة المشترك على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة". أحدها: أن عهدته على البائع الأول -كانت الشركة عند عقد البيع أو بعده- وهو ظاهر قوله في "كتاب السلم الثالث"؛ حيث جعل الضمان منهما معًا إذا ضاع الطعام بعد الشركة وقبل كيل المشترك إياه. والثاني: أن عهدة المشترك على المشترك المشتري الذي يقرب البيع وبعدت عنه، وهو ظاهر قوله في "الكتاب" في الذي اشترى سلعة بثمن إلى أجل قبضهما فأشرك فيها رجلًا واشترط عليه النقد؛ حيث قال: لا بأس بذلك، ولو كانت عهدته على البائع الأول ما كان يلزمه النقد إلا إلى الأجل الذي اشترى إليه المشتري.

والقول الثالث: التفصيل بين أن يشركه بحضرة البيع فتكون عهدته على الذي أشركه إلا أن يشترطها على البائع. وإن كان أشركه بعد تراخ عن العقد: فالعهدة على الذي أشركه دون البائع، وهو قول أصبغ في "العتبية". والقول الرابع: إن أشركه بحضرة البيع وقبل الافتراق فالعهدة على البائع بغير شرط، وهو قول ابن المواز. وسبب الخلاف: الشريك المشرك هل حكمه حكم الأصلي ويعد كأن العقد على ذمتها، أو حكمه حكم الدخيل بعد الانبرام؟ وأما إذا أشركه قبل القبض والشراء على النقد: فإن الشركة بينهما جائزة إذا أنقد المشرك مثل ما نقد الذي أشركه. فإن نقد خلاف ما نقد الذي أشركه قدرًا أو صفة أو جنسًا، أو نقد جميع الثمن عنه وعن الذي أشركه: فلا يجوز ذلك، وهو بيع الطعام قبل قبضه، مع ما فيه من بيع وسلف. وكذلك إن أشركه على ألا ينقد حصته إلا إلى أجل: فلا يجوز أيضًا؛ لأن ذلك بيع مستأنف، وهو بيعه قبل قبضه لخروج الرخصة عن وجهها. فأما إذا كان الشراء إلى أجل، وكان للمشتري عروضًا أو طعامًا، ثم أشرك فيها رجلًا قبل الأجل وقبل قبض الثمن: فلا يخلو من وجهين: إما أن يشرط عليه النقد في الحال، وإما أن لا ينقد حتى يحل الأجل. فإن كان على ألا ينقد المشترك في الحال لأن ذلك لا يجوز؛ لأن ذلك بيع وسلف وبيع الطعام قبل قبضه إن كان طعامًا واشترى على الكيل. فإن كان على ألا ينقد حتى يحل الأجل، هل تجوز الشركة أم لا؟

فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة". أحدهما: الجواز، وهو نص "المدونة". والثاني: المنع، وهو نص قول ابن القاسم في "كتاب محمَّد" وابن حبيب؛ لاختلاف الذمم في العدم، والملاعنة عند حلول الأمد. وسبب الخلاف: اختلافهم في عهدة الدخيل على من تكون؛ فعلى القول بأنه كالأصيل وأن عهدتهما جميعًا على البائع: فلا تجوز الشركة؛ لأن البائع لا يدري على أيّ الذمتين يرجع عند حلول الأجل، وقد يعسر المشرك فيأخذ الدخيل بجميع الثمن فيؤدي ذلك إلى البيع والسلف. وعلى القول بأن عهدة الدخيل على المشتري: فتجوز الشركة ولا عذر إذ ذاك ولا سلف. فإن هلكت السلعة المشترك فيها قبل أن يقبضها المشتري هل يكون الضمان منهما جميعًا أم لا؟ فلا تخلو تلك السلعة أن تكون مما يتعلق بها حق التوفية أم لا. فإن بقي فيها حق التوفية: فلا يخلو المشترك من ثلاثة أوجه: إما أن يعاين كيل المشتري ويحضره قبل الشركة أو لم يحضره إلا أنه صدقه على الكيل. أو لم يحضره، ولا صدقه. فإن حضر الكيل وعاينه، ثم شركه على ما عاين: فلا خلاف أن الضمان منهما. فإن صدقه في الكيل: فالضمان منهما إن ضاع، فإن لم يتلف إلا أنه وجد النقص أو الزيادة، فإن كان ذلك من متعارض الكيل: فالزيادة

والنقصان لهما وعليهما. فإن زاد على المتعارف: كانت الزيادة للمشتري الأول، ويرد على المشترك من الثمن ما يقابل النقص إن كان المشتري فلا ينقد منه الثمن. فإن لم ينقده وضاع عنه ذلك القدر عند النقد، فإن لم يحضر الكيل ولا صدقه فيه حتى ضاع هل يكون الضمان منهما جميعًا، أو المشتري وحده. فالمذهب على أربعة أقوال، كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن الضمان منهما جميعًا، وهو ظاهر قوله في "كتاب السلم الثالث" من مسألة السفينة، إن حملت على ظاهرها؛ لأنه قال فيمن اشترى طعامًا فاكتاله في سفينته، فقال له رجل: أشركني فيه، ففعل، ثم غرقت السفينة: إن هلاكها منهما جميعًا, ولم يفصل بين أن يصدقه أو لم يصدقه. والثاني: أن ضمانه من المشتري دون المشرك، وهو قول سحنون؛ لأنه أنكر جواب ابن القاسم في هذه المسألة، وبقول سحنون قال فضل بن سلمة وقاسها على التولية، وقال: إن الضمان في التولية من المولى حتى يكتاله المولى. وقال الشيخ أبو عمران الفاسي: ولا يعرف هذا إلا من قول فضل، بل إن مذهب ابن القاسم أنه من المولى؛ لأن بنفس التولية صار في ضمانه كمشتري الصبرة جزافًا. والثالث: بالتفصيل بين أن يكون الهلاك ببينة فيكون الضمان منهما جميعًا، أو يكون بغير بينة فيكون من المشتري، وهذا تأويل بعض المتأخرين على "المدونة" على ما حكاه القاضي أبو الفضل.

والقول الرابع: بالتفصيل بين أن ينقد المشرك ما ينوبه من الثمن: فيكون الضمان منهما جميعًا، وتلف الطعام قبل أن ينقد: فيتخرج على الخلاف في المحبوسة في الثمن، وهذا القول أيضًا متأول على المدونة؛ لأنه قال في الكتاب: إذا تلف الطعام فإن المشتري يرجع على صاحبه -يعني الشريك- بنصف الثمن الذي نقد في الطعام. فقال القاضي أو الفضل: وذلك دليل منه على أن الضمان من الشريك -نقد أو لم ينقد- وأنه يخالف المحبوسة في الثمن لما كانت الشركة معروفًا من المعارف، وإلى هذا ذهب بعضهم وقول القاضي - رضي الله عنه - "وإلى هذا ذهب بعضهم" يرى أن من علمائنا من يذهب إلى غير ذلك، وليس إلا التفريق بين أن ينقد أو لم ينقد، وهو أليق بظاهر كلامه، وهو قول له وجه في النظر. وسبب الخلاف: اختلافهم في أجرة الكيل على من تكون؟ فمن رأى أنه داخل في ملك المشتري بنفس الشراء يقول: الأجرة على المشتري، والضمان منهما جميعًا. ومن رأي أنه لا يدخل في ملكه إلا بعد الكيل يقول: الأجرة عليهما جميعًا، والضمان على المشتري وحده. وسبب الخلاف أيضًا: على الخلاف في عهدة المشرك على من تكون، هل على البائع أم على المشتري؟ وللخلاف في هذه المسألة مطلع آخر وهو: هل تغلب شائبة البيع، أو تغلب شائبة المعروف؟ والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كان المشتري مضمونًا إلى أجل؛ مثل أن يسلم في طعام أو عروض إلى أجل، ثم أشرك فيهما

رجلًا قبل القبض وقبل الحلول، فإن كان على أن لا ينقد حتى يحل الأجل ويقبض السلعة: فلا تجوز الشركة باتفاق المذهب؛ لخروجها عن وجه الرخصة إلى بيع الدين بالدين إن كان المسلم فيه عروضًا، وإن كان طعامًا دخله بيع الطعام قبل قبضه. ورخص في الشركة، والتولية والإقالة، وقد حكم مالك - رضي الله عنه - في المدونة في الإقالة بحكم البيع في ثلاث مسائل؛ حيث قال: إن الإقالة يحلها ما يحل البيع، ويحرمها ما يحرم البيع، ثم قال في "كتاب الشفعة" فيمن اشترى شقصًا ثم أقال منه: إن للشفيع الشفعة وطلب الإقالة، وليس له أخذها بعهدة الإقالة. وقال ابن القاسم: والإقالة عند مالك بيع حادث في كل شيء، إلا في هذا، فجعلها في هذه المسألة نقض بيع. وقال في كتاب المرابحة فيمن ابتاع سلعة بعشرين دينارًا، ثم باعها بثلاثين دينارًا، ثم أقال منها: لم يبع مرابحة إلا على عشرين؛ لأن البيع لم يتم بينهما حين استقاله فجعلها في هذه المسألة نقض بيع أيضًا. فتبين لك أن الإقالة في هذه المسائل نقض بيع؛ لأنا لو جعلناها في الطعام بيعًا مبتدءًا لكان ذلك بيعه قبل قبضه. واستخرج الشيخ أبو عمران الفاسي من "المدونة" مسألتين من "كتاب السلم الثاني" مما جعل ابن القاسم فيهما الإقالة نقض بيع وأضافهما إلى الثلاثة المتقدمة؛ منها قوله: إذا أسلم ثوبًا في طعام فهلك الثوب عند البائع؛ حيث قال: لم تجز الإقالة؛ إذ لا تجوز الإقالة على قيمة ولا على ثوب مثله. ولو لم يهلك الثوب جازت الإقالة إذا قبض الثوب مكانه ولم يتأخر.

فلو هلك الثوب بعد الإقالة لانفسخت الإقالة وبقي السلم بحاله، ولا يجوز أخذ ثوب مثله قبل أن يفترقا. والثانية: قوله: ولو قبضت الطعام بعد محله ثم أقلت منه فتلف عندك بعد الإقالة قبل أن يدفعه: فهو منك وتنفسخ الإقالة. فهاتان مسألتان. والثالثة: قوله: في أول "كتاب السلم الثالث" فيمن أسلم عينًا في طعام فأقاله وأخذ برأس ماله عرضًا بعد الإقالة؛ حيث قال: لم تجز لأن ذلك بيع الطعام قبل قبضه وذكر الإقالة لغو. وهذه المسألة قد استخرجها بعض المتأخرين أيضًا، فيتحصل من "المدونة" على هذا التخريج ست مسائل فافهم ترشد. والحمد لله وحده.

المسألة الرابعة في بيع المشتريات قبل قبضها

المسألة الرابعة في بيع المشتريات قبل قبضها اعلم أن العلماء اختلفوا في جواز بيع المشتريات قبل قبضها على ثمانية أقوال: أحدها: أنه لا يجوز في كل شيء، وهو مذهب الشافعي، وبه قال الثوري. والثاني: أنه لا يجوز في شىء إلا ما لا ينقل ولا يزول كالرياع والعقار، وهو مذهب أبي حنيفة. والثالث: أن ذلك لا يجوز في المكيل والموزون دون ما عداهما، وهو مذهب إسحاق بن راهويه وأبي عبيد. والرابع: أن ذلك لا يجوز في المكيل والموزون والمعدود وهو مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وزادوا مع الكيل والوزن المعدود، وهو اختيار ابن حبيب -من أصحابنا. والخامس: أن ذلك لا يجوز في المكيل والموزون من الطعام خاصة، وهو مذهب أحمد، وأبي ثور. والسادس: أن ذلك لا يجوز في الطعام على الإطلاق، وهو أحد أقاويل المذهب عندنا، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى. والسابع: أن ذلك يجوز في كل شيء، وهو مذهب عثمان البنا. والثامن: أنه لا يجوز في الطعام الربوي خاصة، وهو مذهب مالك - رضي الله عنه - وعن جميع العلماء.

وسبب الخلاف: تعارض الأخبار وتجاذب الاعتبار؛ فمنها ما خرجه مالك في موطئه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه" (¬1). ومنها ما خرجه مالك عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "كنا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبتاع الطعام فيبعث إلينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي اتبعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه" (¬2). هكذا رواه مالك وجماعة، وزاد في صحيح البخاري (¬3): "كذا نبتاع الطعام جزافا". وبهذه الأحاديث يستدل من قال: لا يجوز في الطعام عمومًا لا خصوصًا، وبه يستدل أيضًا أن ذلك لا يجوز لا في المكيل ولا في الموزون. ومنها ما خرجه الدارقطني من طريق عتاب بن أسيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ولاه مكة نهاه عن بيع ما لم يقبض، وربح ما لم يضمن (¬4). ومن طريق آخر: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهاه عن بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن. ومن طريق آخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام ما لم يقبض وربح ما لم يضمن. ومن طريق آخر: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل بيع وسلف، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2026) ومسلم (1525). (¬2) أخرجه مالك (1213) ومسلم (1527). (¬3) حدث (2030) و (6460). (¬4) صححه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع" (6959). (¬5) أخرجه أحمد (6628) وابن حبان (4321) والطبراني في "الأوسط" (1498).

ومن طريق ابن عباس - رضي الله عنه -: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه" (¬1) قال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله. ومن ذلك حديث حكيم بن حزام: قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعًا فما يحل لي وما يحرم؟ فقال: "يا ابن أخي إذا اشتريت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه" (¬2). وبهذه الأحاديث استدل الشافعي أن ذلك لا يجوز في كل بيع -مكيلًا كان أو جزافًا- وأما تخصيص أبي حنيفة ما لا ينقل ولا يزول؛ إذا لا يتمكن فيه القبض إذا لا يحول ولا يزول؛ ولذلك لا يضمن في الغضب. وأما عمدة مالك - رضي الله عنه - فدليل الخطاب من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ابتاع طعامًا"، فمفهومه: أن ما عدا الطعام لا يشترط فيه القبض. وأما تخصيص المال الربوي من الطعام دون ما عداه من الأطعمة والأشربة فهو تخصيص بعرف اللغة؛ لأن الطعام عندهم عبارة عن الحنطة، فيقاس عليه ما عداه من سائر الأطعمة الربوية. وأما عمدة من اعتبر الكيل والوزن دون ما عداه من سائر المبيعات فمعتبر من سياق الظاهر في قوله: "حتى يكتاله"، فنبه على الكيل، فيغلب على الظن أنه مناط الحكم. وهذا الكلام على الجملة، وأما التفصيل فنقول: العقود تنقسم إلى قسمين: قسم يكون بمعاوضة، وقسم يكون بغير معاوضة؛ كالهبات والصدقات. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) أخرجه النسائي (4603) وأحمد (15351) وابن حبان (4983) وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.

والذي يكون بمعاوضة ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: [ما] (¬1) يختص بقصد المغابنة والمكايسة. والثاني: ما يكون على جهة الرفق. والثالث: ما يصح أن يقع على الوجهتين جميعًا. فأما القسم الأول: فهو ما يقصد به المغابنة والمكايسة؛ كالبيوع، والإجارة، والمهور، والصلح، والمال المضمون بالتعدي: فلا يخلو من أن يكون طعامًا، أو غيره. فإن كان غير الطعام من سائر العروض: فلا خلاف في المذهب في جواز بيعه قبل قبضه. فإن كان طعامًا: فلا يخلو من أن يكون اشتراه كيلًا، أو جزافًا. فإن اشتراه على الكيل: فلا يخلو من أن يكون طعامًا ربويًا، أو غير ربوي. فإن كان طعامًا ربويًا: فقد ادعى أهل المذهب في ذلك الإجماع أن ذلك لا يجوز بيعه قبل قبضه، ويستقرأ من المدونة جواز بيعه قبل قبضه من موضعين: أحدهما: ما وقع في "كتاب النكاح الثاني" في الرجل إذا كان له عند زوجته دين فطلبته بما يجب عليه من النفقة وتوابعها، فأراد أن يقاصصها بقيمة ذلك بما له عليها من دين؛ حيث قال: إن كانت موسرة فلا بأس بذلك، ومعلوم أن من جملة ما يجب لها على زوجها في مؤونتها طعامًا وزيتًا، وقيمة توابع ذلك، فجواز مقاصصتها إياه بقيمة ذلك يؤدي إلى بيع ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الطعام قبل قبضه، ولا مراء في ذلك. والثاني: ما وقع له في "كتاب المرابحة" إذا نقد خلاف ما عليه عقد فباع على ما نقد؛ حيث قال: إن ذلك جائز إذا بين، فأكثر أصحاب مالك يقولون: إن ذلك جائز وإن لم يتبين، وعليه حمل فضل بن سلمة مذهبه في "المدونة"، ولم يفصل بين أن يكون عقد على طعام أو غيره، بل ساوي بين الجميع. وهو إذا عقد على طعام مكيل ثم نقد غيره: فقد باعه قبل قبضه -أعني البائع الأول الذي وجب له الطعام بالعقد عليه- ولهذا قال محمَّد بن مسلمة -من أصحاب مالك- لا يجوز له أن ينقد عن الطعام غيره؛ لأن ذلك بيع الطعام قبل قبضه. ويمكن أن ينبني الخلاف على الخلاف في نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه هل هي شريعة معقولة المعنى، أو غير معقولة المعنى؛ فذهب القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب، وأبو الفرج، وغيرهما من البغداديين إلى أن النهي معلل بالعينة، وهو ظاهر قول مالك في الموطأ؛ لأنه بوب على العينة ثم أدرج هذا الخبر في سياق مقتضى الترجمة، وهو صعود إلى طريق [ال] الشاذة المخالفة لفقهاء الأمصار، والصحيح أنها شريعة غير معقولة المعنى ولا مفهومة المغزى، بل هو شرع محض وتعبد صرف، ولو كانت العلة العينة لجاز من بائعه بأقل من الثمن، ومن غير بائعه بكل الأثمان، وهذا فيما كان العلة فيه العينة، وتساوى فيه بين الطعام والعروض. وإن كان المشتري طعامًا غير ربوي ما يجوز التفاضل في جنسه فعلى قولين:

أحدهما: أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه كالربوي على سواء؛ لعموم الخبر: "من ابتاع طعامًا" (¬1)، ولم يفرق، وهذا هو المشهور المعروف من قول مالك. والثاني: أن ما لا ربا فيه يجوز بيعه قبل قبضه، وهي رواية ابن وهب عن مالك -رضي الله عنهما. واختلف فيما ليس بمقتات إلا أنه مصلح للقوت؛ كالتوابل والكسبرى والفلفل والقرنباد والشونيز والقرفة، وسائر الأبزار هل يجوز بيعها قبل قبضها أم لا؟ على قولين: أحدهما: المنع، وهو قوله في المدونة. والثاني: الجواز، وهو قوله في "مختصر ما ليس في المختصر". وأما الماء فقد اختلف المذهب في جريان الربا فيه وفي بيعه قبل قبضه على قولين: أحدهما: أن التفاضل فيه جائز، وأنه يجوز واحد منهم باثنين إلى أجل وبيعه قبل قبضه، وهذا هو المشهور في المذهب، وهو قول مالك في "كتاب السلم الثالث" من "المدونة". والثاني: أنه لا يجوز فيما يتجانس منه ويستوي في العذوبة والملوحة، ولا يجوز فيه واحد باثنين، لا نقدًا ولا إلى أجل، ولا يجوز بيعه قبل قبضه، وهو قول ابن نافع. ووجه القول المشهور: أن الماء مما يقع التسامح فيه، ويعدم فيه التشاحح، وأن الناس يتسامحون به دون طلب البدل في أغلب الأحوال؛ ¬

_ (¬1) تقدم.

لأنه أذل موجود وأعز مفقود، والربا شرع لحراسة الأموال التي يستضر وتكثر فيها الرغبة، ويقع التنافس في مستقر العادة عليها دون ما عداها. ووجه القول الثاني: أن الحاجة إلى الماء آكد، والضرورة إليه أشد؛ إذ لا عوض له عند الحاجة إليه؛ إذ الطعام له عوض يجتزئ به الجائع، ويسد به رمقه، ويكسر به كلب الجوع عن نفسه؛ كسيرة أهل البوادي والأرياف في اقتياتهم بالغاسول وزريعة السلق وغير ذلك مما جرت عادتهم باستعماله في زمان الشدائد -نسأل الله السلامة والعافية- والماء لا عوض له في الشرب عند شدة العطش من جميع الأشربة، مع شدة ضرر العطش على ضرر الجوع لقلة الصبر عنه، فما كان هذا سبيله وجب أن يكون بالمنع أولى. وأما إذا اشتراه على الجزاف، هل يجوز أن يبيعه قبل قبضه أم لا؟ المذهب على أربعة أقوال، كلها قائمة من "المدونة": أحدها: الجواز جملة بلا تفصيل، وهو ظاهر "المدونة" وهو مشهور المذهب. والثاني: المنع جملة بلا تفصيل حتى ينتقل من مكانه، وهو قول مالك في "العتبية"؛ لعموم الخبر. والثالث: بالتفصيل بين الجزاف الذي هو في ضمان البائع، وبين الجزاف الذي هو في ضمان المشتري بالعقد. والذي في ضمان البائع: فلا يجوز له بيعه قبل قبضه؛ مثل أن يشتري لبن غنم بأعيانها بغير كيل شهرًا، وهو قول ابن القاسم في "كتاب محمَّد"، وأجاز ذلك أشهب. وإن كان في ضمان المشتري بالعقد: فإنه يجوز بيعه قبل قبضه.

والرابع: بالتفصيل بين أن يبيعه بالدين فيمنع، أو يبيعه بالنقد فيجوز، وهو قول مالك في تفسير ابن مزين. ويتخرج في المسألة قول خامس: بالتفصيل أيضًا بين أن يبيعه من الذي عليه فيجوز ويكون إقالة، وبين أن يبيعه من غيره فيمنع. وسبب الخلاف: اختلاف في زيادة العدل الثقة المشهور بالحفظ والإتقان في الخبر، هل تقبل أو لا تقبل؟ وذلك أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قد زاد لفظ: "الجزاف" في الحديث. وأما اعتبار ما في ضمان البائع مع اعتبار البيع بالدين: فينبني الخلاف على الخلاف في بيع الدين بالدين هل هو في المعين والمضمون، أو لا يكون إلا في المضمونين جميعًا؟ والقولان قائمان من المدونة، وسنوضحهما في مكانهما إن شاء الله تعالى. وأما الطعام المضمون بالتعدي: فله بيعه قبل قبضه باتفاق الذهب. وأما القسم الثاني: وهو ما كان على جهة الرفق؛ كالقرض: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يقرضه من طعام في ملكه وتحت يده. والثاني: أن يقرضه من طعام له في ذمة غيره لمعاوضة؛ كالسلم والإجارة وغيرهما مما لا يجوز بيعه قبل قبضه. فأما الوجه الأول: إذا أقرضه من طعام في ملكه وتحت يده: فلا خلاف في المذهب أنه يجوز بيعه قبل قبضه للمقرض والمستقرض. وأما الوجه الثاني: إذا أقرضه طعامًا له من سلم في ذمة غيره وأحاله عليه: فلا يجوز للمقرض أن يبيعه قبل قبضه؛ لأن يده كيد رب السلم.

فإذا قبضه ودار في ملكه: فلا خلاف إن لم يبعه بعد ذلك. واختلف في المقرض هل يجوز له بيعه بقبض المستقرض قبل أن يقبضه؟ وهو على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز جملة بلا تفصيل، وهو قوله في "المدونة". والثاني: الجواز جملة، وهو اختيار اللخمي؛ لأن الحديث لم يتناوله لأنه قد قبض بكيل البيع أولًا، قال: وما وقع في "المدونة" فحماية أن يكون باعه قبل قبضه من المسلم إليه وأظهر أنه إنما أقرضه. والقول الثالث: التفصيل بين القليل والكثير؛ فإن كان يسيرًا: جاز بيعه من المقرض قبل قبضه. وإن كان كثيرًا منع. وهذا أحد قولي مالك في "كتاب محمَّد". وسبب الخلاف: حماية الحماية هل تحمي أو لا تحمي؛ وذلك أن بيعه قبل قبضه إنما منع من سلف بزيادة الذي قدمناه من تعليل النهي، وكونه مقبوضًا وصار في ضمان المقرض يجب أن يجوز للذي له السلم بيعه بقبض المقرض، كما قاله اللخمي والحماية قد حميت ولم يبق إلا حماية الحماية. وأما القسم الثالث: فيما يصح أن يقع على الوجهتين جميعًا -أعني على قصد المعاينة وعلى قصد الرفق- كالشركة والإقالة والتولية؛ فإن وقعت بزيادة أو نقصان فهي كالمعاوضة التي يقصد بها المكايسة: فيمنع اتفاقًا. فإن وقعت بغير زيادة ولا نقصان: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب أن ذلك جائز قبل القبض وبعده. وخرجه الشافعي وأبو حنيفة - رضي الله عنهما - بين الشركة والإقالة

والتولية؛ فجوزا الإقالة قبل القبض؛ لأنها عندهما فسخ بيع، لا بيع، ومنع الشركة والتولية قبل القبض لأنهما بيعه قبل قبضه. واستثنى مالك التولية والإقالة والشركة من بيع الطعام قبل قبضه؛ للأثر والنظر. فأما الأثر: فمرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما كان من شركة أو تولية أو إقالة" (¬1). وأما المعنى: فإن هذه الأشياء إنما يراد بها الرفق للمغابنة إذا لم يدخلها لا زيادة ولا نقصان. فرع: وقد اختلف المذهب فيمن باع ثمر حائطه، واستثنى منه كيلًا هل يجوز له بيعه ذلك قبل قبضه أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة" وكلاهما لابن القاسم: أحدهما: الجواز. والآخر: المنع. وسبب الخلاف: اختلافهم في المستثني هل هو مشتري أو مبقي؛ فمن رأي أنه مشتري قال: لا يجوز البيع حتى يقضي. ومن رأي أنه مبقي قال: يجوز البيع؛ لأن ذلك العذر باق في ملكه. فإذا ثبت أن بيع الطعام قبل القبض لا يجوز، فإن نزل ووقع فلا يخلو المبتاع من أن يكون حاضرًا، أو غائبًا. فإن كان حاضرًا: فإن الطعام يؤخذ منه، ويفسخ البيع. فإن غاب المشتري ولم يقدر عليه ليرد الطعام فإنه يؤخذ من البائع فيبتاع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2017) ومسلم (1526).

به طعامًا مثله ويقبضه، فإن نقص عن مقدار طعامه فله اتباع الغائب بما نقص، فإن فضل شيء من الثمن أوقف للغائب يأخذه إذا جاء، وإن كان كفافًا برئ بعضهما من بعض. والحمد لله وحده.

المسألة الخامسة في العينة

المسألة الخامسة في العينة وقد فسرها في "المدونة" وهو أن يبيع الرجل السلعة إلى أجل، ثم يبيعها هذا المشتري الآخر من البائع الأول نقدًا بأقل مما اشتراها به. وسميت عينه لدخول العين فيها بنقد المشتري الأول، ثم باعها بالتأخير. والعينة على أربعة أسئلة: أحدها: حرام. والثاني: مكروه. والثالث: جائز. والرابع: مختلف فيه. فأما السؤال الأول: الذي هو ربا حرام المحرم بالاتفاق، وهو أن يراوض الرجل على ثمن السلعة التي يساومه فيها ليبيعها منه ثم على ثمنه الذي يشتريها منه بعد ذلك نقدًا، أو يراوضه على ربع السلعة التي يشتريها له من غيره، فيقول له: اشترها منه على أن أربحك فيها كذا، أو للعشرة كذا، قال ابن حبيب: فهذا حرام. قال: وكذلك لو قال له: اشترها وأنا أربحك، وإن لم يسم ثمنها، قال: وذلك كله ربا، ويفسخ، وليس فيه إلا رأس المال. وأما السؤال الثاني: وهو المكروه؛ مثل أن يقول له: اشتر سلعة كذا وكذا، وأنا أربحك فيها، من غير مراوضة ولا تسمية ربح، أو لا يصرح

بذلك ولكن يعرض به. قال ابن حبيب: فهذا يكره. قال ابن نافع عن مالك: ولا أبلغ به الفسخ. وقال فضل بن سلمة وهذا على قول ابن القاسم: والذى يجب أن يفسخ شراء الأمر. وكذلك كرهوا أن يقول له: لا يحل لي أن أعطيك ثمانين في مائة. وأما السؤال الثالث: وهو الجائز؛ مثل ألا يتواعد معه على شيء، لا يفاوض مع المشتري فيه، كالرجل يقول للرجل: أعندك سلعة كذا؟ فيقول: لا، فينقلب منه على غير مواعدة فيشتريها التاجر، ثم يبقي صاحبه تلك السلعة: فهذا جائز له أن يبيعها منه بما شاء وبه قال مطرف. قال ابن حبيب: ما لم يكن عن مواعدة أو تعريض أو عادة، قال: وكذلك ما اشتراه الرجل لنفسه لمن شاركه منه بنقد أو كال من غير أن يواعد في ذلك أحدًا يشتريه عنه ولا يبيعه. وكذلك الرجل يشتري السلعة لنفسه وحاجته، ثم يبدو له فيبيعها أو يبيع دار سكناه ثم يشق عليه النقلة منها فيشتريها، أو كانت جارية فيبيعها: فهؤلاء ما استقالوا منه أو زادوا فيه فلا بأس به، وقال مطرف عن مالك. وأما السؤال الرابع: المختلف فيه؛ وهو ما اشتراه المبتاع بثمن بعضه معجل وبعضه مؤجل: فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو مشهور المذهب، وهو ظاهر المذهب. والثاني: التفصيل بين أهل العينة وغيرهم؛ فيجوز لغير أهل العينة، ويكره لأهل العينة، وهذا قول مالك في "العتبية". وقال ابن حبيب: مثل أن يشتري طعامًا أو غيره على أن ينقد بعض ثمنه ويؤجر بعضه إلى أجل، فكأنه باعه بعشرة نقدًا وعشرة إلى أجل، فقال:

خذ وبع منه بما تريد أن تنقده، وما بقي فهو لك ببقية الثمن إلى أجل فلا يعمل ذلك إلا أهل العينة، قال: وهذا قول مالك، وقد روجع به غير مرة، وقال: أنا قلته، وقاله ربيعة قبلي. والحمد لله وحده.

المسألة السادسة فيمن ابتاع طعاما فهلك قبل أن يقبضه، ومن اشترى صبرة طعام فهلكت قبل أن يقبضها

المسألة السادسة فيمن ابتاع طعامًا فهلك قبل أن يقبضه، ومن اشترى صبرة طعام فهلكت قبل أن يقبضها فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يشتريها على الكيل. والثاني: أن يشتريها على الجزاف. فإن اشتراها على الكيل: فلا يخلو هلاكها من خمسة أوجه: أحدها: أن يكون من سبب البائع. والثاني: أن يكون من سبب الأجنبي. والثالث: أن يكون من سبب سماوي. والرابع: أن يكون من سبب المشتري. والخامس: أن يجهل السبب. فالجواب عن السؤال الأول: إذا هلكت بسبب البائع؛ مثل أن يبيعه، أو وهبه، أو كان قد أكله، أو استهلكها بوجه ما: فإنه يلزم البائع أن يأتي بمثل ذلك الطعام ليستوفي منه المشتري حقه إن علم كيله فإن جهل: فإنه يتحرى قدر ذلك فيعرفه، ولا يكون المشتري عليه بالخيار بين أن يلزمه مثل الطعام أو يأخذ ثمنه؛ لأن ذلك بيع الطعام قبل قبضه، وكذلك لا يجوز له الرضا لجواز بيعه إن كان باعه أو يأخذ الثمن لما فيه من بيع الطعام قبل قبضه لأنه بمنزلة من استهلك طعامًا فإنما عليه مثله. والاعتراض وارد على هذه المسألة من جهة أن الاعتراض يتعلق بعين الطعام لخصائص صفاته كما تقدم في غير

ما موضع. فإذا ألزمنا المشتري البيع، ولزمنا البائع الإتيان بمثله ويتناقدان غير ما عليه تعاقدا: فلا خيرة للمشتري، كان ذلك مناقضًا لأهل المذهب، والأصول موضوعة عندنا على أن البيع مهما وقع علي غير معين، ثم تعذر استيفاؤه: فإن البيع بينهما منسوخ، إلا أن يتراضيا على أمر يجوز. وهذا الاعتراض لازم، وما رأيت لأهل المذهب انفصالًا إلا مراعاة التهمة، فإنهم قالوا: إن البائع يتهم في فسخ البيع عن نفسه، فلذلك أتلف الطعام قبل أن يستوفيه المشتري، فعوقب بنقيض مقصوده، وكلف أن يأتي بطعام مثله لئلا يصل بتعديه إلى ما يريده، وهذا غاية ما ينفصل به، وذلك كما ترى. والجواب عن الثاني: إذا هلكت بسبب الأجنبي فلا يخلو من وجهين: إما أن يعرف مكيلها، أو جهلت. فإن جهلت المكيلة: فإنه يجب على المتعدي القيمة يغرمها. وهل يفسخ البيع، أو يشتري بالقيمة طعامًا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن البيع جائز، ويشتري بالقيمة للمشتري طعامًا، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن البيع مفسوخ بينهما ويغرم المتعدي القيمة للبائع، وليس للمشتري إلا ثمنه، وهو قول أشهب. فإن عدمت القيمة ببينة، أو بإقرار المتعدي. لأن إقراره بالعدد مقبول على ما نص عليه في الصبرة في "كتاب

الغضب" -فالمذهب على [ثلاثة أقوال] (¬1): أحدها: أن البيع مفسوخ بينهما، وتكون القيمة للبائع ويغرم الثمن للمشتري. والثالث: أن الخيار للمشتري بين ثلاثة أشياء؛ إن شاء أخذ الملكية التي أقر بها المتعدي، وإن شاء [أخذ] (¬2) القبمة فيشتري لها بها طعامًا، وإن شاء فسخ البيع عن نفسه. والقولان لأشهب في "الموَّازية". وسبب الخلاف: اختلافهم في العروض هل هي مرادة لأعيانها، أو مرادة لأغراضها، وقول ابن القاسم أنها تراد لأغراضها، وهذا أحد أقاويل المذهب، إلا أنه قول شاذ. وقول أشهب على أصل المذهب: أنها مرادة لأعيانها. وعقد المذهب أن جميع العروض والحيوان الناطق، والصامت، والطعام -وإن كان اسم العروض يشمل الجميع على اصطلاح الفقهاء- مرادة لأعيانها، إلا خلاف شاذ، وأن الدنانير والدراهم مرادة لأغراضها إلا خلاف شاذ. فعلى القول بأن البيع صحيح لازم للمشتري، وأن القيمة تؤخذ: فلا يخلو المتعدي من أن يكون موسرًا، أو معسرًا. فإن كان معسرًا ولم يوجد أصلًا: فلا يلزم المشتري الصبر إلى موجوده أو يسره، قولًا واحدًا؛ لما يلحقه من الضرر والتربص، والخيار له في ذلك. فإن كان موسرًا وعرفت الملكية: فإن المتعدي يغرمها ويكتال المشتري، ¬

_ (¬1) لم يذكر سوى قولين. (¬2) سقط من أ.

فإن جهلت المكيلة: فإنه يغرم قيمتها على التحري. واختلفت فيمن تولى الشراء بها على قولين قائمين من "المدونة"، على اختلاف الروايات في الضبط: أحدهما: أن كلفة الشراء على المتعدي، وينقل ذلك الطعام إلى موضع تعدي عليه، ثم يكيله البائع للمشتري، وهو اختيار بعض المتأخرين. والظالم أحق أن يحمل عليه، وهو قوله في "الكتاب"؛ حيث قال في أول المسألة: يشتري بالقيمة طعامًا للبائع. وكذلك جاء في اللفظ الآخر عند تكرار المسألة حيث قال: فلما لم يعرف كيلها، وأخذ مكان الطعام القيمة اشترى له طعامًا بتلك القيمة. والثاني: أن كلفة الشراء على البائع، ولا يلزم المتعدي أكثر من غرم القيمة، وهو اختيار ابن أبي زمنين؛ لأنه قال: لم يبين لنا في المسألة من الذي يتولى شراء الطعام. ولفظ الكتاب يدل على أنه هو البائع، وأراده أشار إلى قوله في بعض النسخ: وأري أن يشتري بالقيمة طعام على ما لم يسم فاعله، وعلى هذا اللفظ احتقرها أبو محمَّد. وعلى القول بأنه يشتري بالقيمة طعام، وكان البائع المتعدي هو المتولي للشراء: فلا يخلو من أن يشتري بجميع القيمة مثل الطعام أو أقل، أو يشتري ببعض القيمة جميع الطعام. فإن اشترى بجميع القيمة مثل الطعام، أو أنقص بيسير مما لو استحق لم يلزم المشتري فيه رد البقية: لزمه ذلك، ويرجع على البائع بما ينوب النقص من الثمن. وإن كان النقص كثيرًا؛ مثل ما لو استحق من الجملة لكان للمشتري أن

يرد الباقي كالثلث أو النصف: كان له أن يرد الطعام إن شاء، ويرجع على البائع بالثمن لانتقاص أكثر صفقته. فإن اشترى ببعض القيمة جميع الطعام، أو فضلت منها: كانت تلك الفضلة للبائع؛ لأن المشتري ليست له إلا الملكية التي اشتراها. والجواب عن الوجه الثالث: إذا كان التلف بسبب سماوي: فإن البيع بينهما مفسوخ إذا ثبت ذلك، قال في "الكتاب": ولا يجوز للمشتري أن يكلف البائع الإتيان بمثل ذلك الطعام ولا يلزم المشتري؛ فقوله: إن أتاه البائع إلا أن يشاء، ويكون ذلك بيعًا مبتدءًا يفتقر إلى تراض منهما وتشاور، ولا خلاف في ذلك -أعلمه- في المذهب. والجواب عن الوجه الرابع: إذا كان التلف من المشتري: كان ذلك قبضًا، وعليه أن يغرم قيمتها إن عرفت المكيلة، وإن لم تعرف المكيلة: بالقدر الذي يقال إنه كان فيها، فإن قيل: ففي غرم قيمتها. والجواب عن الوجه الخامس: إذا جهل: فلا يخلو من أن يعلم الهلال ويجهل السبب، أو يجهلا جميعًا. فإن علم الهلاك وجهل السبب: فالبيع بينهما مفسوخ، وينبغي ألا يخالف في هذا الوجه. فإن جهل الهلاك والسبب معًا, ولم يعلم ذلك إلا من قول البائع، فهل يصدق أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يصدق وعليه أن يوفي الكيل الذي باع، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". والثاني: أن القول قوله، ويحلف أنه هلك ولم يكتمه، ويفسخ البيع،

وهو ظاهر قوله في "كتاب السلم الأول" من "المدونة" إذا اختلفا قبل القبض؛ حيث قال: القول قول البائع ويحلف. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا اشتراها على الجزاف: فإن الضمان فيها من المشتري بالعقد، ومن تعدى عليها فعليه قيمتها -كن بائعًا أو أجنبيًا. والحمد لله وحده.

المسألة السابعة إذا تبايعا على أن يتقابضا الثمن أو المثمون ببلد آخر

المسألة السابعة إذا تبايعا على أن يتقابضا الثمن أو المثمون ببلد آخر فأما التناقد في الثمن؛ مثل أن يبيع له سلعة بثمن إلى أجل على أن يوفيه الثمن بلد آخر: فلا يخلو الثمن من أن يكون عينًا، أو عرضًا. فإن كان الثمن عينًا: فله إذا حلَّ الأجل أن يأخذه بالثمن حيث ما لقيه من البلاد؛ إذ لا فائدة لاختلاف البلدان. فإن طلب المشتري بدفع الثمن: جبر على الدفع، قولًا واحدًا إذا كان الثمن في الذمة. فإن كان معينًا في بلد: فيتخرج على قولين في النقود هل تتعين عند العقود أم لا. فإن طلب البائع بالقبض هل يجبر عليه أم لا؟ فلا يخلو الطريق من أن يكون آمنًا، أو مخوفًا. فإن كان الطريق آمنًا: فإنه يجبر على القبض إذا حلَّ الأجل في أي بلد كان؛ إذ لا فائدة لتعيينه البلد للقبض. فإن كان الطريق مخوفًا: فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يجبر على القبض كما لو كان الطريق آمنًا، وهو ظاهر "المدونة" في الذي أسلف دنانير على أن يقبضها ببلد آخر. والثاني: أنه لا يجبر على القبض وله شرطه؛ لأنه اشترط شرطًا يفيد، فيوفي له به لأنه قصد صيانة ما له في ذمة المشتري من خطر الطريق وغرره، مع ما في ذلك من صيانة المال.

وقد نص أصحابنا كالقاضي أبي الفرج وابن عبد الحكم على أن السلف على هذا الوجه جائز، فلا يكون ذلك سلفًا جر منفعة؛ لأن ذلك من صيانة الأموال وهي منفعة عامة. فإن كان الثمن عرضًا، أو كان الشرط في المثمون: اشتراه منه على أن يوفيه إياه ببلد آخر، وكانت السلعة مما لها حملان، أو كانت خفيفة الحملان؛ مثل اللؤلؤ وما أشبهه من قليل المسك: فليس له أن يأخذه إلا في البلد الذي اشترط فيه أخذ ذلك الشىء. ثم لا يخلو ذلك المشتري من أن يكون معينًا أو مضمونًا في الذمة. فإن كان معينًا: فلا يجوز، قولًا واحدًا؛ لأنه معين يقبض إلى أجل، وهذا الذي قاله عمر - رضي الله عنه - فأين الحملان يريد الضمان. وإن كان على أن يقبضه بموضع التتابع، واشترط عليه مع ذلك حملانه إلى بلد آخر: فإن ذلك جائز؛ لأنه بيع وكراء في صفقة واحدة. وإن كان المشتري مضمونًا في الذمة؛ مثل أن يسلم إليه في طعام ببلد من البلدان على أن يوفيه بمصر: فلا يخلو من أن يسمى له موضعًا، أو لم يسمه. فإن سمى للقضاء موضعًا؛ مثل أن يشرط عليه أن يوفيه بالفسطاط: فذلك جائز. فإذا بقي في الأجل قدر مسافة ذلك البلد: جبر البائع على الخروج. واختلف هل يجوز له أن يوكل من يقضي المشتري طعامه في بلد القضاء ويقعد هو على قولين: أحدهما: أن ذلك جائز أن يوكل من يخرج مع المشتري، وهو قول ابن القاسم في "المدونة".

والثاني: أنه لا يبرئه إذا خرج الوكيل؛ إذ لا يستطيع أن يتحول بما له من الطعام في ذمة الوكيل، وقد يضيع الثمن الذي يخرج به الوكيل ليشتري به، وهو مذهب سحنون. ولو خرج على أنه حميل وكفيل: جاز، قولًا واحدًا، ثم ينظر، فإن سمي له موضعًا بالفسطاط: جاز، وعليه أن يوفيه بالموضع الذي سمى. فإن لم يسم موضعًا: فلا تخلو تلك السلعة المشتراة من أن يكون لها سوق، أو لا سوق لها. فإن كان لها سوق، وقد اختلفا في موضع القضاء، هل يوفيها له في سوقها أم لا على قولين: أحدهما: يوفيها له في سوقها، وهو مذهب ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب السلم الثاني". والقول الثاني: أنه يوفيها له في داره، وهو المعارف اليوم، وهو مذهب سحنون. فإن كانت سلعة لا سوق لها: ففيها قولان: أحدهما: أنه أين ما وداه في الفسطاط فإنه يجزئه، وهو قوله في "المدونة". والثاني: أنه لا يبرئه حتى يوصلها له في داره، وهو قول سحنون. فإن لم يسم موضعًا، وإنما أسلمه على أن يقبضه بمصر، فهل يجوز ذلك أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك لا يجوز حتى يسمى له موضعًا؛ لأن مصر ما بين

البحرين إلى أسوان، وهو قوله في "كتاب السَّلم الثاني". والقول الثاني: أن ذلك جائز، ويحمل على الوفاء بالفسطاط كما قال في "كتاب الرواحل والدواب" في الذي أكرى إبلًا إلى مصر؛ حيث قال: الكراء جائز، ويحمل على الفسطاط، أو يحمل على أن يوفيه في أوائل مصر، وهو ظاهر قوله في "كتاب السَّلم الثالث" في الذي أسلم إلى رجل في طعام على أن يوفيه إياه بأفريقية؛ حيث قال بالجواز، ولا يأخذه إلا بأفريقية، ولم يقل: لا يجوز حتى يسمى موضعًا من أفريقية؛ لأنها أرض عريضة وبلاد كثيرة كما قال في مصر، وذلك منه اختلاف قول؛ لأنه لم يلزم في إحداهما ما يلزم في الأخرى. وأما سؤال الكراء: فقد فرق المتأخرون بينه وبين سؤال الطعام بأن قالوا: إذا وقع إلى مصر بغير تفسير ولا تعيين موضع: فإنه يحمل على الفسطاط؛ لأنه محط لمطايا القاصدين، ومنهل رحب لسائر الواردين في غالب الأمر؛ بخلاف الطعام في سائر البلدان بالنسبة إلى الحاجة إلى الطعام على سواء، ثم لا يجوز حتى يسمى موضعًا كما قال في "السلم الثاني"، أو يحمل على أوائل البلاد كما هو ظاهر قوله في "السَّلم الثالث" إذا اشترط الوفاء بأفريقية. والحمد لله وحده.

المسألة الثامنة في الشاة اللبون بطعام

المسألة الثامنة في الشاة اللبون بطعام ولا يخلو بيعها بالطعام من أن يكون نقدًا، أو إلى أجل. فإن كان نقدًا: فلا يخلو بيعها من أن يكون بما يخرج منها من الطعام، أو غيره. فإن كان بغير ما يخرج منها؛ مثل أن يبيعها بتمر أو بقمح: فإن البيع جائز اتفاقًا. فإن باعها بما يخرج منها من الطعام؛ متل أن يبيعها باللبن، أو بالجبن، أو بحالوم، أو بسمن، أو بزبد: فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو نص "المدونة". والثاني: المنع، وهو ظاهر المدونة من قوله: لا يجوز إلى أجل. وسبب الخلاف: هل اللبن الذي في الضرع مقصود فيمنع البيع لوجود التفاضل في الجنس الواحد، مع ما هنالك من المزابنة والمخاطرة في شرائها بالزبد والسمن والجبن؟ أو غير مقصود، ويكون بيعًا، على القول بأن الأتباع لا تراعى فيجوز البيع. وأما الوجه الثاني: إذا كان إلى أجل: فلا يخلو ذلك الطعام أيضًا من أن يكون مما يخرج منها أم لا. فإن كان لا يخرج منها؛ [كبيعها] (¬1) بقمح أو شعير: فالمذهب ¬

_ (¬1) في أ: كبيعه.

على قولين: أحدهما: الجواز أيهما تعجل، وهو المنصوص عليه. والثاني: المنع، وهذا القول مخرج غير منصوص عليه. وقد قال في "كتاب ابن حبيب": لا يجوز أن يباع الجبح فيها النحل بطعام إلى أجل يكون فيها العسل، ويجوز إلى أجل قريب لا يكون فيه. ولا شك أن اللبن كالعسل، والشاة كالنحل. وسبب الخلاف: ما تقدم من اعتبار ما في الضرع من اللبن؛ فمن اعتبره يكون طعامًا بطعام إلى أجل. فإن باعها بما يخرج منها: فالمذهب على أربعة أقوال، كلها قائمة من "المدونة": أحدها: المنع جملة من غير تفصيل بين أن يكون اللبن منقودًا والشاة موعودة، أو بالعكس، وهو ظاهر "المدونة" وهو نصه في "التهذيب" وهو نص قول ابن القاسم في الأسمعة. والثاني: الجواز -أيهما تقدم- لأن ما في الضرع من اللبن ملغاة، وهو ظاهر "المدونة" من قوله: ولا بأس بالشاة اللبون بطعام إلى أجل. فإذا كان اللبن مغتفر ملغي في ربا النساء -الذي هو أعم- فبأن يلغي في ربا التفاضل أولى وأحق. والقول الثالث: بالتفصيل بين أن يكون اللبن منقودًا، والشاة موعودة: فيجوز، أو بالعكس: فلا يجوز. وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، وهو اختيار ابن الموَّاز. والرابع: بالتفصيل بين أن تكون الشاة منقودة واللبن موعود: فيجوز،

ولا يجوز إن كان اللبن منقودًا والشاة موعودة، وهو قول أشهب، على عكس قول ابن القاسم. فمن منع الوجهين جميعًا: رآه سلفًا بزيادة إذا تقدم؛ كالكتان بثوب كتان إلى أجل يمكن إخراجه منه، وهو المزابنة، فإن تقدمت الشاة كان ضمانًا بجعل. ووجه من جوز الوجهين: أن ما في الضروع من اللبن ملغي، فإذا ألغي بقي اللبن في الشاة، أو الشاة في لبن، وذلك جائز نقدًا، أو إلى أجل -أيهما تقدم. وسبب الخلاف بين ابن القاسم وأشهب: في الوجهين الأخيرين في الذي يبقى في المزابنة في سلم الشيء فيما يخرج منه هل المعتبر في ذلك استحالة عين المنقود حتى يتكون منه العين الموعود، أو المعتبر كونه منه وإن كان عينه قائمًا لم يتحول؟ فمن اعتبر الاستحالة وانقلاب العين عينًا آخر: جعل ذلك هو المؤثر في المزابنة فجوز مسألتنا؛ لأن ذلك لا يتصور فيها، وإنما يتصور ذلك في الكتان في ثوب كتان، أو سلم شعير، في قصيل. ومن لم يعتبر الاستحالة، واعتبر تكونه منه خاصة مع بقاء العين: قال بالمنع. ويلزم قائل هذا القول أن يطرد قوله في الدجاجة البيوضة بالبيض، والتمر بالنخل إلى أجل يتكون منه التمر، واللبن بالشاة إلى أجل يتكون منه اللبن، فيمنع الجميع. ومن ألزم ذلك فلا حرج عليه؛ لأن النظر يوافقه والدليل يساعده. ومن هذا المعنى بيع الخلايا يريد الأجباح، ولا يخلو بيعه من أن يكون

بعين، أو بطعام. فإن باعها بعين: فلا خلاف في الجواز سواء اشتراها في أجباحها، أو اشترى ذباب النحل كيلًا. فإن اشتراها بطعام: فلا يخلو ذلك الطعام من أن يكون مما يخرج منها أم لا. فإن كان مما لا يخرج منها؛ كشرائها بقمح أو بتمر: فيجوز ذلك نقدًا -كان فيها العسل أم لا- ولا يجوز إلى أجل بعيد -كان فيها العسل أم لا- لأنه إن لم يكن فيها فسيكون ما بينه وبين الأجل طعامًا بطعام إلى أجل. فإن لم يكن فيها عسل: فيجوز إلى أجل قريب لا يكون فيها العسل، وهو قول أصبغ. فإن باعها بما يخرج منها؛ مثل أن يبيعها بعسل: فلا يخلو من أن يشتري ذباب النحل كيلًا، أو يشتريها في أجباحها. فإن اشترى ذبابها كيلًا فهل يجوز شراؤها بالعسل نقدًا؟ فالمذهب على قولين [قائمين] (¬1) من "المدونة": أحدهما: أن ذلك جائز. والثاني: أن ذلك لا يجوز. وينبني الخلاف: على الخلاف في اعتبار ما في الضرع من اللبن، هل يعتبر أو يلغى؟ فمن اعتبره اعتبر ما في بطون النحل من العسل فيمنع، ومن لم يعتبر ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ما في الضرع: لم يعتبر ما في البطون من العسل. فإن اشتراها إلى أجل: فقولان أيضًا: أحدهما: الجواز -أيهما تقدم- وهو قول ابن حبيب. والثاني: أن ذلك لا يجوز -أيهما تقدم- وهو ظاهر قول ابن القاسم في الشاة اللبون باللبن. قال أبو إسحاق التونسي: وفيما قاله ابن حبيب نظر؛ لأن النحل إذا كانت تأكل ما يصير في بطونها عسلًا فما الفرق بينهما وبين الشاة اللبون؟ وما قاله صحيح لازم. فإن اشتراها في أجباحها بالعسل: فلا يخلو من أن يكون فيها العسل أم لا. فإن كان فيها العسل: فلا يخلو من أن يكون قليلًا، أو كثيرًا. فإن كان كثيرًا: فلا يجوز، قولًا واحدًا، لا نقدًا ولا إلى أجل؛ لأن ذلك طعام بطعام متفاضلًا، مع ما في ذلك من ربا النساء إذا كان إلى أجل. فإن كان قليلًا: فلا يخلو من أن يكون فيه فضل عن قوتها أم لا. فإن كان فيه فضل عن قوتها هل يجوز بيعها بالعسل أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: الجواز جملة -نقدًا أو إلى أجل- وهو أحد أقاويل المذهب في حلية السيف إذا كانت تبعًا. والثاني: المنع جملة -لا نقدًا ولا إلى أجل- وهو قول ابن القاسم في مسألة السيف.

فإذا جوز ذلك في حلية السيف، وليس في زوالها أكثر من أداء الأجرة على إعادتها، فبأن يجوز في العسل -الذي إن قطع هلك النحل- أولى، وهذه طريقة أبي الحسن اللخمي. فإن لم يكن فيه فضل عن قوتها، أو لا عسل فيها أصلًا فهل يجوز بيعها بالعسل أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن الموَّاز. والثاني: أنه يجوز بيعها بالعسل؛ لأنه إذا لم يكن فيها عسل أو فيها مقدار قوتها فما المانع من بيعها بالعسل، وتكون كشاة لا لبن فيها أسلم فيها لبن إلى أجل فهو جائز، إلا أن يقال: إن النحل لا يخلو من عمل العسل كل وقت والأجباح وإن لم يكن فيها عسل فالعسل موجود في النحل فيصير كلبن في شاة لبون، وهذه طريقة أبي إسحاق التونسي. والحمد لله وحده.

المسألة التاسعة في [بيع] اللحم بالحيوان

المسألة التاسعة في [بيع] (¬1) اللحم بالحيوان والأصل في ذلك ما رواه مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع الحيوان باللحم" (¬2). وبعموم الخبر في المنع في جميع الأجناس يقول الشافعي: أي وجواز بيعه بالحيوان عمومًا من غير تفصيل. ويقول الحنفي على أصل مذهبه في تقديم القياس الجلي على أخبار الآحاد. وأما مالك - رضي الله عنه - فتوسط على المذهبين وجمع بين الحالتين، فاستعمل الخبر في الجنس الواحد مما لا يجوز التفاضل في لحمه؛ فأشبه مذهبه من هذا الطرف مذهب الشافعي، وأهمله فيما بين الأجناس المختلفة لجواز التفاضل بين لحومها اتفاقًا، فينبغي أن يكون الحي منها كمذمومها، فأشبه مذهب أبي حنيفة من هذا الوجه، وهو من باب تخصيص العموم بالقياس، وهي مسألة اختلف فيها الأصوليون. فإذا ثبت ذلك فهل يسري النهي في الحيوان المراد للقنية والذبح أو هو مقصور على الحيوان المراد للحم خاصة، وإنما يعتبر التفاضل بين اللحم، والحيوان، فإذا تحققت التفاضل وظهر جاز البيع. فالمذهب يتخرج على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك عام في كل جنس مما يراد للأمرين، أو لا يراد إلا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه مالك (1335) والدارقطني (3/ 71) والبيهقي في الكبرى (10354) مرسلًا.

للحم، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه مخصص بما يراد للحم خاصة دون ما يراد منه للأمرين جميعًا؛ كالكسير والشارف، وهو مذهب "المدونة"، وهو الذي حكاه القاضي أبو الحسن بن القصار عن شيوخه. والقول الثالث: أنه يجوز بيع اللحم من جنسه عمومًا، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب ابن الموَّاز". وسبب الخلاف: اختلافهم في النهي عن بيع اللحم بالحيوان هل هو معلل، أو غير معلل؛ فمن علله بالمزابنة وحدها فيقول: إذا تحقق التفاضل؛ كبيع شاة برطل لحم: فإنه يجوز، سواء كانت الشاة مرادة للأمرين كالصحيحة, أو مرادة للحم خاصة كالشارف والمنخنقة وأخواتها، وعلى هذا يحمل ما وقع لمالك في "الموَّازية". ومن علل بالمزابنة مع التفاضل: فإن النهي مقصور على ما يراد للحم خاصة دون ما عداه؛ كالمعلوفة، والمكسورة، وغيرهما، وهو ظاهر "المدونة"؛ لأنها في حكم اللحم، فالتفاضل فيه حرام لأنه جنس واحد. وقد اضطرب قول ابن القاسم فيما كان مآله اللحم على كل حال، هل حكمه حكم الحي أو حكمه حكم اللحم، فجعله مع الحي لحمًا، ومع اللحم حيًا، ومثل هذا لا يجري على سبيل التحقيق؛ لأنه قال فيمن أسلم في دجاج فأخذ فيها طيرًا من طير الماء؛ حيث قال: لا يجوز، فجعله هاهنا من الحي لحمًا. وقال فيما يراد للحم ولا منفعة فيه غيرها: أنه لا يجوز باللحم فأعطاه حكم الحي. ومن رأى أن الخبر غير معلل استعمل النهي فيما يراد للأمرين جميعًا،

وفيما يراد لشيء واحد، وهو مشهور المذهب. وأما بيع اللحم باللحم: فإن اختلفت الأجناس: جاز التفاضل كذوات الريش وذوات الماء وذوات الأربع. فإن اتفق الجنس مع التفاضل مع اتفاق الصنعة فإن اختلفت الصنعة: جاز التفاضل، ولا خلاف أن النار في اللحوم والزيوت بانفرادها ليست بصنعة إلا أن يدخلها الأبزار، بخلاف الحبوب فإن النار بمجردها صنعة تبيح التفاضل في الجنس الواحد منها. وتحصيل ما في الكتاب أن يقول: لا يخلو اللحم من أن يكون نيِّا عريضًا، أو قديدًا، أو مشويِّا، أو مقلوِّا، أو مطبوخًا: فالمقلي والمطبوخ بالأبزار يجوز بيعه بالجميع متماثلًا ومتفاضلًا. وفي الني الطري بالقديد عن مالك قولان أيضًا. وفي المشوي بالقديد قولان؛ نص "المدونة" المنع متفاضلًا ومتماثلًا، ويلزم منه قول آخر بالجواز. وسبب الخلاف: هل يدرك فيها التماثل بالتحري فيجوز البيع متماثلًا، أو لا يدرك فيكون ذلك مزابنة فيمنع من كل وجه؛ لأنه من باب الرطب باليابس. وهذا كله إذا كان القديد والمشوي بالأبزار. وأما إن دخلتهما الأبزار: فإن ذلك كالقلية. وأما الربوب: فإن النار فيها ليست بصنعة تبيح التفاضل بينها وبين أصولها رب القصب الحلو برب القصب أو بالحلاوة، أو رب العنب بالعنب أو بعصيره، أو رب التمر بالتمر لاتحاد المنفعة في الأصل.

وما يكون ملة فإذا دخلت فيه الأبزار جاز التفاضل عند ذلك لأنه صار عقيدًا. وأما الحبوب: فإن النار فيها بانفرادها فيها صنعة تبيح التفاضل كالمقلو مع الني على كراهة مالك في المقلو حتى يطحن، فإذا صار خبزًا جاز التفاضل بينه وبين أصوله. واختلف في الأخباز هل يجوز التفاضل فيما بينها اعتبارًا بأصولها، أو لا يجوز لاتحاد الاسم وتقارب المنافع؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تابعة لأصولها، وأن التفاضل جائز، وأن القمح والشعير والسَّلت صنف واحد، وأخبازها صنف. والقطاني قد جعلها مالك في الزكاة صنفًا واحدًا، واختلف في قوله فيها في ["كتاب] (¬1) السلم الثالث"؛ فمرة جعلها صنفًا واحدًا فيمنع التفاضل فيها، ومرة جعلها أصنافًا فيجوز التفاضل فيها. واختلف أيضًا في الأرز والدخن والذرة هل يضم بعضها إلى بعض في الزكاة؟ على قولين. ولا خلاف في باب الربا أنها أصناف. فعلى هذا القول تكون الأخباز تابعة لأصولها، وهو قوله في "المدونة"، وقاله أشهب. ولابن القاسم في "الموَّازية" قول ثالث: أن القطاني كلها صنف واحد، إلا البسيلة والجلبان فهما صنف واحد، واللوبيا والحمص صنف واحد. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ولأشهب قول آخر أنها كلها صنف واحد، إلا الفول، والعدس، والحمص فإنه صنف واحد. فيتحصل في المسألة أربعة أقوال: .... والثاني: أن الأخباز كلها صنف واحد، فلا يجوز التفاضل فيها وإن اختلفت أصولها، وهو قول أشهب في "الموَّازية". والقول الثالث: بالتفصيل بين أخباز الأرز، والدخن، والذرة الحمراء أو البيضاء، وأخباز القمح والشعير: فلا يجوز التفاضل فيها، وأخباز سائر القطاني جنس واحد يمنع التفاضل فيها، ويكون بينهما وبين غيرها، وهو قول ابن القاسم في رواية يحيى بن يحيى عنه في "العتبية" وجعلها كالخل من أصناف مختلفة. وسبب الخلاف: هل النظر إلى الألقاب والتسميات، أو النظر إلى تقارب المنافع. وأما الزيوت: فإنها تابعة لأصولها: فإنه يجوز التفاضل فيها لاختلاف منافعها وأصولها؛ كزيت الزيتون، وزيت السمسم -وهو الشيرق، وهو السليط، وزيت السلجم وزيت الخردل: فإن التفاضل فيها جائز كأصولها. وأما العسل: فهو أصناف مختلفة يجوز التفاضل فيها. وأما الخلول: فإنها صنف واحد لا يجوز التفاضل فيها؛ لاتحاد منفعتها وتقاربها. فإن كانت مختلفة كالعنب، والتين، والتمر، والعسل، وكثير من معاني هذا الباب تقدمت في كتاب الزكاة الثاني. وأما الألبان وما يتولد عنه: فإنها سبعة أوجه؟ ثلاثة في اللبن، وأربعة فيما يتولد عنه.

فأما الثلاثة التي في اللبن فهو: حليب، ومخيض، ومضروب. وأما الأربعة فيما يتولد عنه فهو: زبد، وسمن، وجبن، وأقط. فبيع الحليب، وبيع الزبد بالزبد، والسمن بالسمن، والجبن بالجبن، والأقط بالأقط متفاضلًا حرام قولًا واحدًا. وأما بيع الحليب بالحليب متماثلًا: فقد اختلف فيه على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز، وهو قول مالك في "كتاب السلم الثالث". والثاني: المنع، وهذا القول حكاه أبو الفرج عن مالك في "الحاوي". وسبب الخلاف: هل المقصود استخراج زبدهما فيمنع من وجه الغرر، لا من وجه المماثلة الموجودة، وإنما منع للغرر والمخاطرة؛ لأن كل واحد منهما يقول: لعلي أخرج من الذي أخذت أكثر مما يستخرجه الآخر، ولاسيما لما علم بالمشاهدة أن بعض الحيوانات من البقر والغنم يكون لبنها أكثر زبدًا من لبن بعض، وهو ظاهر "المدونة" من غير ما موضع. أو المقصود استعمال ذلك الحليب في الطبيخ وغيره، لا ليستخرج زبده: فيجوز. وأما بيع الزبد بالزبد، أو السمن بالسمن متماثلًا: فإنه يجوز، قولًا واحدًا. وأما الجبن بالجبن: فإن كان يابسًا كله، أو رطبًا كله: فإنه يجوز متماثلًا. وإن كان أحدهما رطبًا، والآخر يابسًا: فلا تجوز المزابنة. وأما الحليب بالزبد، أو بالسمن، أو بالجبن، أو بالأقط: فإن ذلك لا

يجوز لأجل المزابنة؛ لأن الحليب يستخرج ذلك منه كله. ولا يجوز الزبد بالسمن، ولا بالجبن، ولا بالأقط، ولا يجوز بيع شيء من هذه الأشياء بالآخر؛ لأن الادخار موجود، والتفاضل ممنوع، والمماثلة معدومة؛ والعلة في ذلك المزابنة؛ لأنه من باب الرطب باليابس. وأما الحليب بالمضروب الذي أخرج زبده، أو المضروب بالزبد، أو بالسمن، أو بالجبن فهل يجوز بيعه، أو لا يجوز؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو مذهب "المدونة"، وقد نص في آخر "كتاب السلم الثالث" على جواز التفاضل بين المضروب والحليب، وعلى أن المضروب بالزبد جائز أيضًا. والثاني: أن ذلك لا يجوز جملة. وهذا الخلاف حكاه الشيخ أبو الحسن اللخمي. وينبني هذا الخلاف: على الخلاف في بيع المضروب بالمضروب والمخيض بالمخيض هل يجوز التفاضل فيهما أم لا؟ فمن جوز التفاضل فيهما قال: لأنهما لا يدخران فجوز بيع أحدهما بأي ذلك أحب من الحليب متفاضلًا، وبغيره من جميع ما ذكرنا من الزبد والسمن وغيرهما. ومن منع التفاضل فيهما منع أن يبيع شيئًا منهما بحليب أو زبد أو سمن، أو غيرهما مما تقدم ذكره؛ لأنه من باب الرطب باليابس. واختار اللخمي أن يجوز التفاضل في المخيض والمضروب لأنه مما لا يدخر. فهذا تحصيل ما لا يشكل على المتعلم في هذه المسألة، والحمد لله وحده.

المسألة العاشرة في بيع الجزاف

المسألة العاشرة في بيع الجزاف ولا يخلو المبيع جزافًا من أن يكون مصبرًا على الأرض أو يكون في أعدال وأوعية. فإن كان مصبرًا على الأرض: فلا يخلو المبيعان جزافًا من أن يكونا مما يجوز التفاضل بينهما أم لا. فإن لم [يعلم] (¬1) التفاضل بينهما: لم يجز الجزاف بوجه؛ لأنه الجهل بالمقدار ممنوع في هذا الوجه لكون التماثل فيه شرط الصحة، وشرط الصحة يجب أن يعلم حصوله إذ الجهل بالتماثل في تحريم التفاضل. فالعلم بالتفاضل إلا ما كان على جهة التحري؛ مثل ما قالوه في بيع اللحم والخبز بعضه ببعض توخي السلامة من التفاضل وتوسم المماثلة عند المتناول وهي جائزة على التحري في الموزون دون المكيل؛ إذ لا يكاد الكيل يعدم ولو بالحقنة والميزان ربما يتعذر. وهل يجوز في القليل والكثير؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يجوز في القليل والكثير؛ لأن الحرز والتخمين طريق إلى معرفة المقدار، وعلى هذا حمل بعضهم قول مالك في "الكتاب"، وجوز التحري على الإطلاق في الحواضر والبوادي. ¬

_ (¬1) في أ: يسع.

والثاني: أنه يجوز في قليل المقدور على حدسه وحرزه وتخمينه، ولا يجوز في الكثير، ولا في الحاضرة لوجود الموازين، فإن العدل عنها مع وجودها كترك النص إلى الاجتهاد. واختلف المتأخرون في كيفية التحري في اللحم على قولين: أحدهما: أن يريه قدرًا معلومًا فيقول له: أسلمت إليك في مثل هذا القدر من اللحم. والثاني: أن يقول له: أسلمت إليك في قدر ما فيه عشرة أرطال من اللحم. وهذا الثاني أسعد بظاهر "الكتاب". وأما الوجه الثاني مما يجوز فيه التفاضل: فلا خلاف في ثبوت الجزاف فيه على الجملة، ولجوازه عندنا في المذهب خمسة شروط: أحدها: أن يتيقن التفاضل بين الجانبين. والثاني: أن يكون في المعدود والمكيل. والثالث: أن يكون المبيع مما يتأتي حرزه وتخمينه. والرابع: أن تكون في الكثرة بحيث يخفى قدره ومبلغه على التحقيق. والخامس: ألا ينفرد أحدهما بمعرفة المقدار. فإذا انخرم وَصْفٌ من هذه الأوصاف خرج من صورة الجواز إلى صورة المنع. وقولنا: أن يتبين الفصل بين الجانبين احترازًا من الجهل بالتماثل أو التفاضل؛ لأنه إذا جهل أحد الوصفين حرمت المجازفة حينئذ؛ لأن ذلك مخاطرة ومزابنة وإن كان ترابًا.

وقولنا: وأن يكون في الكيل والموزون الذي لا يتعين آحاده وأعداده في التسميات والمعدود الذي الغرض منه مبلغه ومنتهاه احترازًا من الدنانير والدراهم والفلوس. وأما الفلوس: فسنعقد فيها مسألة مفردة إن شاء الله بعد تمام هذه المسألة. وأما الدنانير والدراهم: فقد اختلف المتأخرون في منع جريان الجزاف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المنع في جريان الجزاف على الكراهة، لا على التحريم، وإليه ذهب القاضي أبو الحسن بن القطان. والثاني: أن ذلك على التحريم؛ حيث يجري عددًا مجرى الموازنة حتى رغب الناس فيها لخفتها ولخفائها لأنه يدخل في المائة بالوزن منها مائة وعشرون عددًا، وهي مع ذلك تنفق مفردة، فإذا بيعت جزافًا دخلها الغرر من وجهين: أحدهما: من جهة المبلغ في الوزن. والثاني: من جهة المبلغ في العدد. فتكاثر الغرر، وتكاثف الخطر، ولا جرم حرم. وأما سائر المكيلات والموزونات: فالغرر فيه من جهة الكيل والوزن لا غير، وذلك يدرك بالحرز، وأشار إلى جريان الجزاف بحيث لا يجري إلا وزنًا، وإلى هذا ذهب القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب. والثاني: أن العلة في ذلك كون العين لا تتيقن عند العقد، وأن العقد على الدنانير والدراهم إنما يتناول في الذمة، ولا مجال للجزاف فيما ثبت بالذمة؛ إذا لا يثبت فيه المقدار، ومتى ما قلنا أن النقود تتعين إذا عينت فلا

فرق بينها وبين سائر الموزونات في جواز الجزاف؛ ولهذا جاز في متبور الذهب والفضة لمصنوعهما لما تعين، وإلى هذا ذهب بعض مشايخ الأندلسيين. وقولنا: والمعدود الذي الغرض منه مبلغه ومنتهاه؛ احترازًا مما يقصد منه آحاده وأعيانه، وتختلف القيمة باختلافها كالعبيد والحيوان والثياب، وغيرها مما يعظم الخطر بالغلط ببعض أعيانها: فإنه لا يجوز الجزاف فيه بوجه؛ لأن آحاده وأعيانه؛ كالجواز، واللوز، والرمان، والزيتون، والقثاء، والبطيخ، وصغار الحيتان دون كبارها: فلا إشكال في جواز الجزاف فيها لتفاهة الخطر والغرر فيما يقع فيه الغلط إذ لا كبير قيمة تعجز من أخذ جملتها فضلًا عن آحادها وأعيانها، والضابط لذلك أن يقال: كل ما يعد ولا يكتال ويعظم فيه الخطر: فلا يجوز فيه الجزاف، وكل ما يعد ويكتال ويقل فيه الخطر: فالجزاف فيه جائز. وقولنا: أن يكون المبيع مما يتأتي حرزه وحدسه، وذلك بأن يكون مرئيًا احترازًا من الغائب الذي لم يتقدم رؤيته، والثابت في الذمة الذي لا يتأتي حرزه. وقولنا: أن تكون في الكثرة بحيث يخفى أمره ومبلغه على التحقيق احترازًا من الشىء اليسير والنذر الحقير الذي لم يدرك بحقيقه ومعرفة قدره بأدنى تأمل؛ لأنه في حكم المعلوم قدره، وهو قول ابن حبيب. وقولنا: ولا ينفرد أحدهما بمعرفة المقدار، فإن انفرد أحدهما بالعلم فلابد له من البيان، وإلا صار مدلسًا ويجب الرد للمشتري من غير خلاف عندنا في المكيل والموزون كالمعدود الذي تتفاوت أقداره في التفاوت كالقثاء والبطيخ والأترج قولان:

أحدهما: وجوب البيان؛ قياسًا على المتفق عليه أنه أدرك أحد ركني العلم بالمقدر فلابد أن يبين طوله وغلظه، وهو قول ابن الموَّاز. والقول الثاني: أنه لا يلزم البيان؛ لأن الغرض فيما هاهنا المبلغ دون الأعيان، فلم يضره الانفراد بمعرفة ما ليس بمقصود كما لو انفرد بمعرفة أعداد حبات المكيل والموزون، وهذا قول مالك في "المبسوط"، وبه قال ابن حبيب، فقال: وإن عرف العدد أيضًا فإنه يجوز؛ لأن معرفة العدد لا تؤدي إلى معرفة أقدارها في الصغر والكبر. فعلى القول بلزوم البيان، فلو أراد المبتاع أحدها جزافًا مع علمه بانفراد البائع بمعرفة المقدار: فقد قال مالك: لا يجوز ذلك. قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في "شرح الرسالة": لأنهما قصدا بذلك العقد ضربًا من الخطر؛ لأن الجزاف في نفسه خطر، وإنما أبيح للرفق ولزوم المشقة بانفراد البائع بالعلم يصير للمشتري طريقًا إلى معرفة ذلك، فإذا رضي بأن لا يعلمه فقد رضي بالغرر. وقال ابن القصار: وهذا كالممتنع؛ لأنه قال: إذا لم يعلم المشتري فهو عيب، وإن علم ورضي بأن لا يعلمه لم يجز، وهذا يناقض كونه عيبًا؛ لأن البائع لو أوقف المشتري على العيب ورضيه: جاز. وقال القاضى عبد الوهاب: في هذا الذي قاله نظر، والمسألة صحيحة غير ممتنعة؛ لأنه لا يمتنع أن يقع العقد على صفة يكون للمشتري الخيار إذا لم يعلم بها, ولو علم بها حين العقد لم يجز؛ لافتراق الحال في الأمرين لأنه يكون إذا رضي غرر، ومؤديًا إلى ما لا يحل، بخلاف إذا لم يعلم كما يقوله في بيع الفضولي إذا لم يعلم المشتري: فالبيع صحيح، غير أنه

موقوف على إجازة المخير، ولو علم المشتري بكونه فضوليًا حين العقد لم ينتظم العقد. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كان المبيع جزافًا في الأعدال والأوعية كالعدل المملوء قمحًا، والبيت المملوء تمرًا فهو من باب الجزاف فيجوز، فالمذهب على قولين: أحدهما: [أنه] (¬1) من باب الجزاف، فيجوز إذا أمكن حرز المبيع بمعرفة طول البيت وعرضه، وارتفاع شفعة، وغلظ جدرانه، وكذلك السلة المملوءة عنبًا وتينًا. والثانى: أن ذلك لا يجوز؛ لأنه من باب المكيل بالكيل المجهول. والقولان في المدونة في ["كتاب] (¬2) السلم الثاني" في البيع المجهول وغيره. وعلى القول بالجواز، فلو ابتاع ملأها وهي فارغة؛ مثل أن يقول له: اشتريت منك على مثل هذه الغرارة قمحًا بكذا، أو ملىء هذه القارورة، أو ملء هذا البيت، أو هذه السلة، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز؛ لأنه جزاف غير مرئي ومن شروط الجزاف أن يكون مرئيًا. والثاني: أنه يجوز في السلال دون غيرها من الأوعية؛ مثل أن يشتري ملء هذه السلة من العنب، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم، وفرق ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

بينها وبين غرائر القمح والشعير. فإن قال: فكلما يجوز السلم في قلال التين، ولا يجوز في غرائر القمح، فكذلك يجوز بيع [ملأها] (¬1). والثالث: أن ذلك لا يجوز، فإن نزل: جاز ومضى، وهو قول أشهب. وينبني الخلاف: على الخلاف في هذا الباب هل هو من باب الجزاف فلذلك لم يجز إلا في مرئي، أو هو من باب الكيل المجهول فلذلك جاز في العنب والتين؛ لأنه ليس في الكيل قدر معروف، ولا يجوز في القمح؛ لأنه في الكيل قدرًا معروفًا، فالعدول من الكيل المعروف المألوف بين الخاص والعام قصدٌ للغرر. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: مثلها.

المسألة الحادية عشرة في حكم الفلوس

المسألة الحادية عشرة في حكم الفلوس وقد اختلف قوله في مسائل لاختلاف روايته في أصلها هل هي كالعروض أو كالعين؛ فجعلها في "كتاب الزكاة الأول" من العروض، وأنها لا تزكي إلا في الإدارة، فيقومها المدير. وجعلها مرة في "كتاب الصرف" كالعين، وشدد فيها، وقال: لا تصلح فيها النظرة، ومنع التفاضل فيها، وظاهره المنع جملة كالمعين. وقال بعد هذا ليست كالدنانير والدراهم في جميع الأشياء وليست كالحرام البين، ولكني أكره التأخير فيها، وخطها في "كتاب السلم" كالعين، وقال: لا تسلم في الدنانير والدراهم، وتسلم في ما عداها من العروض والطعام. وجعلها في "كتاب السلم الثاني" كالعروض إذا وَاكَلَه أن يبيع له سلعة فباعها بالفلوس؛ حيث قال: هو ضامن إلا أن تكون سلعة يسيرة الثمن مثلها يباع بالفلوس. وجعلها في "كتاب القراض" حيث قال بجواز بيعها نظرة في رواية عبد الرحيم. وقال في رواية: لا يصلح العروض بالفلوس. وجعلها في "كتاب العارية" كالعين؛ حيث قال: إن أعارها فهي في قرض. وجعلها في "كتاب الاستحقاق" كالعين؛ حيث قال: إن استحقت وكانت رأس المال أتى بمثلها كالعين.

وجعلها في "كتاب الرهن" كالعين؛ حيث قال: يجوز منها، ويطبع عليها كالعين. فانظر كيف اضطرب قول مالك في هذه الأجوبة، فالذي يتحصل من ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنها كالعين جملة و [الثاني: أنها] (¬1) كالعروض جملة، ويجوز التفاضل فيها مع النظرة. والثالث: الكراهة. والرابع: التفصيل بين القليل والكثير؛ ففي الكثير حكمها حكم العروض، وفي القليل: حكمها حكم العين، وهو قوله في "كتاب السلم الثاني". وسبب الخلاف: اختلافهم في التعليل بجوهرية الأثمان هل هي علة صحيحة يصح التعليل بها أم لا؟ فمن جعلها علة صحيحة فيجوز التعليل بها قال: حكمها حكم العين لعموم العلة وشمولها سائر الأثمان. ومن منع التعليل بجوهرية الأثمان لعدم المناسبة والإخالة التي هي شرط في صحة العلة وإنما المنع تعبد قال: إنها كالعروض. والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمَّد وآله وسلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كتاب الآجال

كتاب الآجال

كتاب الآجال تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها سبع مسائل: المسألة الأولى في التفقه في أسئلة العينة والآجال فمن ذلك ما روي عن يونس بن أبي إسحاق الهمداني عن أمه العالية بنت أيفع أنها قالت: خرجت أنا وأم محبة أم ولد لزيد بن أرقم إلى مكة، فدخلنا على عائشة - رضي الله عنها - فسلمنا عليها، فقالت: من أنتن؟ فقلنا: من أهل الكوفة، قالت: فكأنها أعرضت عنا، فقالت أمُّ محبة: يا أم المؤمنين أتعرفين زيد بن أرقم؟ فقالت: نعم، قلت: فإني بعته عبدًا إلى العطاء بثمانمائة درهم، ثم إنه احتاج إلى ثمنه وأراد بيعه، فاشتريت منه بستمائة نقدًا قبل الأجل، قالت: فأقبلت علينا فقالت: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب، قلت: أرأيت إن تركت مائتين وأخذت الستمائة؟ قالت: نعم، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف (¬1). وهذا وأمثاله أصل في حسم الذرائع، ودليل على منع الجرائر، ورد على الشافعي المجوز لبيوع الآجال؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - عدَّت هذا البيع دينًا، وأوعدت عليه بأبلغ ما يكون، ولا يبلغ إلى مثل هذا التغليظ في مسائل الاجتهاد؛ ففهم من هذا، والحالة هذه أنها ما قالت ذلك إلا لتوقيف تقرر عندها في النازلة؛ إذ بطلان الجهاد لا يعلم قياسًا، وإنما يثبت توقيفًا، وهذا الذي ذكرناه إنما يصح الاستدلال به على القول بأن التوقيف المقدر كالتوقيف المصرح به. ¬

_ (¬1) تقدم.

ومنهم من جعله من باب القياس، لا من باب التوقيف المصرح به، واستدل بعض الأصحاب على ذلك من باب التوقيف أن القياس لا يدل على المنع إذ البيع تعاوض العوضين وتقابل البدلين من غير اكتراث بما مضى وانقضى، ولم يبق إلا التوقيف والتنزيل أن يكون قياسًا، إما أن يكون على وفقه أو خلافه. فإن كان على خلاف القياس: فذلك ما كنا نبغيه. وإن كان على وفقه: فقياس الصحابة أولى من قياسنا؛ لأنهم شاهدوا ورغبنا، وحضروا ونأينا، وعاينوا وأخبرنا فهم أعلم بالتأويل منا. واعترض على هذا التقدير والاستدلال بأن ما يعرف معناه ومغزاه من أقوال الصحابة - رضوان الله عليهم - لا يقال فيه أنهم قالوا توقيفًا؛ إذ هم من آحاد المجتهدين، والمعنى في مسألتنا موجود، وهو دفع قليل في مقابلة كثير، وإنما الذي يقال فيه: أنهم قالوه توقيفًا ما لا يعلم معناه، ولا فهم مغزاه. وأما توعد عائشة - رضي الله عنها - ببطلان الجهاد: فهذا قد يقوله المجتهد إذا كان المعنى جليًا عنده في حكم المقطوع به على طريق الإرعاد والإبراق والإيعاد، وللكلام في صور الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد مجال رحب، ومجرًا سخب في كلام العرب، ومثل هذا ما قاله ابن عباس - رضي الله عنه - في الميراث: (هو أبيك)؛ القول أن الذي أحصى رمل عالج عددًا لم يجعل في المال نصفًا ونصفًا وثلثًا، وقد ذهب النصفان بالمال، فأين الثلث؟ فمن شاء باهلته، فدعي إلى المباهلة، لما كان ذلك عنده لظهوره في حكم المنطوق به على طريق الإرعاد والإبراق كما تقدم. وهذا الاعتراض لبعض المتأخرين، وقد ينفصل عن هذا الاعتراض بأن يقال: إن حمل ذلك على التغليظ فمن باب المجاز، والأصل في الصيغ

الحقيقة إلا أن يقوم دليل المجاز على ما لا خفاء به على من طالع علم الأصول، فإذا ثبت ذلك فليرج بنا الكلام إلى تفسير حديث عائشة - رضي الله عنها - ومن ذلك قولها -رضي الله عنها: "بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت) " هل ذلك بمعنى واحد أم لا؟ فمنهم من يقول: إنهما بمعنى واحد على التأكيد والتكرار، وهو أشبه بمذهب ابن القاسم. ويقال: شرى، واشترى بمعنى واحد. وقيل: هما بمعنيين، وأن شريت بمعنى: بعت، واشتريت: على بابه، بمعنى أن صار الأمر فيما بعت واشتريت إلى الربا، وهذا التأويل يطيب جناه لعبد الملك الذي يرى فسخ البيعتين جميعًا -الأولى والثانية. وقد روي: (بئس ما اشتريت أو بئس ما شريت) على الشك من الراوي، ومن ذلك قول عائشة رضي الله عنها -في الحديث "أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وقد ذهب بعض المتأخرين إلى تضعيف هذا الخبر؛ لما فيه من بطلان الجهاد، وأن ظاهره يقتضي إحباط الأعمال بالذنوب، وذلك خلاف نص كتاب الله وسنة رسوله. ومذهب أهل السنة قاطبة: أن الأعمال لا تحبط بالذنوب؛ ومن ذلك اختصاصها الجهاد بالذكر دون سائر الأعمال وأنواع قرباته، ولا شك أن زيدًا كانت له الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة والجهاد، وأنواع البر كلها، وهو من فضلاء الصحابة، وأنه آخر كتَّاب الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فوجه تأويل قولها -رضي الله عنها: أن ذلك خروج على معنى كلام

العرب ومجاز لفظه، وأنها قصدته بذلك وغلظت عليها لأنها إمام يقتدي بها، مع علمها - رضي الله عنها - أن زيدًا لم يقصد بذلك إلى استحلال الربا، وإنما هو شيء ذكرته عنه أم ولده مع احتمال أن يكون ممن لا يرى بالذرائع، ولا يرى ذلك البيع حرامًا، لما فيه من إساءة الظن -الذي هو حرام بالإجماع- ويمكن أيضًا أن يكون ممن يرى سد الذرائع، إلا أنه يرى أن الربا جائز بين العبد وسيده، وأم الولد يجوز لسيدها أن ينتزع ما لها ما لم يمرض مرضًا مخوفًا منه؛ لأنه لم يذكر في الحديث أن زيدًا قد أبت عتقها قبل، إلا أن عائشة ذمت ذلك الفعل من زيد مخافة أن يفتح على الناس باب الفساد فيتبعوه فيه، ويدخل فيه المتهم وغير المتهم. وأما اختصاصها الجهاد بالذكر دون سائر أعماله؛ لما رأت أنه يوازي جميع أعماله، وأنه أنفس ذخائره عند الله تعالى؛ إذ كان زيد غزى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع عشرة غزوة -وهي عدد غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان أعظم أعماله وأفضل درجاته، وأوفر حسناته عنده، فخرج ذلك مخرج التهديد بالوعيد؛ لأن الأعمال [لا] (¬1) تحبط بالذنوب، بل إن ما عمل من خير يراه، وما عمل من شر يراه، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬2). وقال سبحانه: {لَهَا مَا كسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (¬3)، فإذا ثبت ذلك، فمعنى قولها ببطلان الجهاد: أن يكتسب من السيئات ما يربو على ما كتب له من الحسنات في أجر جهاده؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة الزلزلة الآية (8). (¬3) سورة البقرة الآية (286).

ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا" (¬1). وعلى هذا الوجه من التأويل يحمل قول عائشة -رضي الله عنها. فإذا ثبت ذلك فإن وقعت هذه البياعات الفاسدة في الآجال؛ مثل أن يشتري سلعة نقدًا بأقل مما باعها به إلى الأجل هل تفسخ البيعتان أو لا تفسخ؟ فلا يخلو من أن يعثر على ذلك قبل الفوات أو بعده. فإن عثر على ذلك قبل فوات السلعة: فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه تفسخ البيعتان جميعًا، وهو قول عبد الملك بن الماجشون. والثاني: أنه لا يفسخ إلا البيعة الآخرة دون الأولى، وهو قول ابن القاسم. وسبب الخلاف: اختلافهم في تأويل حديث عائشة - رضي الله عنها - في قولها: (بئس ما شريت وبئس ما اشتريت)، هل ذلك تكرار للفظ، أو إنما ذمت البيعتان جميعًا؟ فمن حمل الكلام على ظاهر يقول: تفسخ البيعتان جميعًا؛ لأن الثانية بنيت على الأولى. ومن فهم حديث عائشة - رضي الله عنها - أن ذلك تكرار للفظ، وأن ذلك شك من الراوي قال: تفسخ البيعة الثانية، دون الأولى لوقوعها على الصحة، وتفسخ الثانية؛ إذ بها توصلا إلى الربا. فإن عثر على ذلك بعد الفوات هل يفسخ أو يمضي؟ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1017).

فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يفسخ البيعتان جميعًا, ولا يكون للبائع الأول على المبتاع إلا الثمن الذي دفعه إليه، يسترجعه منه؛ لأن سلعته قد رجعت إلى يده بالشراء الثاني، وهذا القول متأول على ابن القاسم. والثاني: أنه يمضي، ولا يفسخ بعد الفوات، وهو قول ابن القاسم وعبد الملك، وعلى القول بأنه يمضي بعد الفوات ولا يرد، هل يمضي بالقيمة أو بالثمن؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يمضي بالثمن الأول، وهو قول محمَّد بن مسلمة في "مختصر ما ليس في المختصر". والثاني: أنه يمضي بالقيمة، على تفضيل نذكره، وهو قول ابن القاسم وغيره، وهو مشهور المذهب. وعلى القول بأنه يمضي بالقيمة: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن البيعة الأولى تمضي بالثمن وتصح الثانية بالقيمة وينظر. فإن كانت القيمة أكثر من الثمن الذي باعها به أولًا قضى على المشتري الآخر الذي هو البائع الأول إذ لا تهمة في ذلك لكون القيمة أكثر من الثمن الذي باعها به أولًا. فإن كانت القيمة أكثر من الثمن الذي باعها به أولًا قضى بالقيمة. فإذا حل الأجل لم يكن على المشتري الأول أكثر من ذلك يريد القيمة. وهو نص الرواية عن ابن القاسم في "العتبية" على ما نقله الشيخ أبو إسحاق التونسي.

والثاني: أنه ينظر إلى القيمة، فإن كانت أقل من الثمن فسخت البيعتان، ولم يكن للبائع على المبتاع الأول إلا الثمن الذي دفع إليه. وإن كانت أكثر من الثمن: فسخت البيعة الثانية خاصة، وقضى عليه بالقيمة، فإذا حلَّ الأجل أخذ الثمن، وهذا القول متأول على ابن القاسم، وهو نص قول سحنون. وعلى القول باعتبار الفوات، هل تفوت بحوالة الأسواق أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تفوت بحوالة الأسواق فأعلى، وهو قول سحنون. والثاني: أنها لا يفتيها إلا العيوب المفسدة، وإليه ذهب أبو إسحاق التونسي. وسبب الخلاف: الاختلاف بعد فوات السلعة المعيبة هل يمضي بالثمن أو يفسخ، أو يمضي بالقيمة، أو تصح الأولى بالثمن والثانية بالقيمة تعارض المكروهين، وأما تخصيص العقد الآخر بالرد لخصوصه بالجيد، وإما تخصيص سلعة العيبة بالقيمة؛ فالأول لا سبيل إليه لما فيه من الحمل على أحدهما كمثال لإمضاء التصحيح إلى تتميم الغرض الفاسد، وتنجيز الطمع، فلم يبق إلا الفسخ وزنًا بينهما بالقسطاس المستقيم. وأما القول بالإمضاء بعد الفوات: فهو جنوح إلى مذهب الخصم المتمسك في أسئلة العينة بالقياس الجلي، وإنما قال قائل هذا القول: إنه يمضي بالثمن بعد الفوات، وهو مذهب ابن مسلمة، قال: لأني لا أدرى هل أراد الرغبة والدلسة أو تعمد الحرام فأمضي البيعتين على ما هما بعد الفوات.

فصل

فصل فإذا ثبت ذلك فلا يخلو بائع السلعة من أربعة أوجه: إما أن يبيعها منه بنقد، ثم اشتراها منه بنقد: فإنك تنظر في الذي أخرج دراهمه أولًا، فإن رجع إليه مثلها أو أقل: فذلك جائز، وإن رجع إليه أكثر منها: نظرت، فإن كانا من أهل العينة أو أحدهما لم يجز ذلك بحال -كانت البيعة الأولى بنقد أو نسيئة- وإن لم يكونا من أهل العينة: جاز إذا كانت الأولى بالنقد، ولم يجز إن كانت بالنسيئة، وذلك أن أهل العينة يتهمون فيما لا يتهم فيه أهل الصحة. والذي اعتبره مالك - رضي الله عنه - في الذرائع في هذه البيوع التذرع بها إلى وجوه الربا المتفق على تحريمها؛ مثل التأخير، أو بيع وسلف، وذهب بذهب مع أحدهما سلعة، أو ضع وتعجل، أو بيع الطعام قبل أن يستوفى، أو بيع وصرف، فإن هذه أصول الربا، فمنها ما هو متفق عليه في المذهب، ومنها ما هو مختلف فيه، على ما لا يخفى على من طالع المذهب. والحمد لله وحده.

المسألة الثانية في تحصيل أسئلة العينة

المسألة الثانية في تحصيل أسئلة العينة وإذا باع الرجل السلعة بثمن إلى أجل، ثم اشتراها منه: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون السلعة المبيعة مما يعرف بعد الغيبة. والثاني: أن تكون مما لا يعرف بعد الغيبة. فإن كانت مما يعرف بعد الغيبة: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يشتريها منه نقدًا، أو إلى أجل دون أجله. والثاني: أن يشتريها منه إلى الأجل نفسه. والثالث: أن يشتريها منه إلى أبعد من أجله. وكل قسم من هذه الأقسام ينتج اثنى عشر قسمًا، وذلك أن نقول: إذا اشتراها نقدًا فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يشتريها كلها، أو بعضها، أو زيادة معها. فإن اشتراها كلها فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يشتريها بمثل الثمن، أو أقل، أو أكثر. فإن اشتري بعضها: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يشتريها بمثل الثمن، أو بأقل، أو بأكثر. فإن اشترى زيادة معها: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يشتريها بمثل الثمن، أو أقل، أو أكثر.

والوجه الثالث: إذا اشتراها إلى أبعد من أجله: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يشتريها كلها، أو بعضها أو زيادة. فإن اشتراها كلها: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يشتريها بمثل الثمن، أو أقل، أو أكثر. فإن اشترى بعضها: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يشتريها قبل الثمن، أو أقل، أو أكثر. فمنتهى التقسيم والتفريع فيما يعرف بعد الغيبة إلى ستة وثلاثين مسألة. فإن كانت السلعة مما لا يعرف بعد الغيبة؛ كالمكيل والموزون: فإن التقسيم يتضاعف على مثل هذا العدد، على حسب ما قدمناه فصلًا فصلًا، فينتهي العدد إلى اثنين وسبعين مسألة تعم هذه الأسئلة لا ترعب ولا ترهب، فإن لها في الصحة والإجزاء ضوابط وحدود، أو روابط وقيود نوردها عليك أيها المسترشد. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كانت السلعة فيما يعرف بعد الغيبة، وكان الشراء إلى الأجل نفسه، وقد اشترى بعضها، أو كلها، أو زيادة معها بمثل الثمن أو بأقل أو بأكثر. فإذا اتفقت السّكة جاز لوجوب الحكم بالمقاصة -وإن لم يشترطها- واتفاق الأجل ووجوب المقاصة ينفي العينة ويدرأ التهمة ولا جرم جاز ذلك، وإن اتفق الأجل لم يراع اختلاف الثمن، وإن اتفقت الأثمان لم يراع اختلاف الأجل. وأما شراؤها أو بعضها نقدًا: فإنه يجوز بمثل الثمن أو أكثر؛ لبعد التهمة في دفع كثير في قليل، والمثل في المثل، ولبعد التهمة تأثير في

تخفيف الذريعة. ولا تجوز بأقل؛ لأنه يتهم في دفع قليل ليأخذ كثيرًا عند الأجل. وأما شراؤها نقدًا وزيادة معها فلا يجوز بوجه ولا بأقل ولا بأكثر -والعلة في الشراء بأقل: ما تقدم من التهمة في دفع قليل ليأخذ كثيرًا. والعلة في الشراء بالمثل: سلف بزيادة؛ وذلك أن يقدر السلعة الأولى كأنها لم تكن، ولا قصد فيها بيعًا؛ لأنها رجعت إلى بائعها فيصح من بيعها أن البائع سلف دراهم في مثلها ليرد معها زيادة، وهي الزيادة التي اشتراها البائع مع سلعة أخرى، وذلك ربا. والعلة في الشراء بالأكثر: كون ذلك بيعًا وسلفًا، وبيان البيع والسلف: أن يقدر أن البيع الأول بخمسة، والبيع الثاني كان بعشرة، والسلعة الراجعة إليه لغو، وكأنه اشترى الزيادة التي أخذ مع سلعته بخمسة على أن أسلف لبائعها خمسة أخرى إلى أجل، وصارت تلك العشرة التي دفع منها خمسة ثمن تلك الزيادة، ومنها خمسة سلف، فإذا حلَّ الأجل أخذها، وذلك ظاهر بحمد الله تعالى. وأما شراؤها إلى أبعد من الأجل وحدها وزيادة معها: فإنه يجوز بالمثل وبالأقل؛ لأن المبتاع هاهنا هو السابق بالدفع، فلا يتهم في دفع كثير ليأخذ قليلًا، ولا في دفع المثل ليأخذ: المثل، كما تقدم. ولا يجوز بالأكثر؛ لأنه يتهم أنه يدفع قليلًا في مقابلة كثير. وأما شراء بعضها: فلا يجوز بالأكثر، ولا بالمثل، ولا بالأقل إلى أبعد من الأجل. والعلة في منع الشراء بالأكثر: ما تقدم من سلف جر نفعًا، وهو دفع قليل في كثير؛ لأن المشتري الأول دفع قليلًا ليأخذ كثيرًا عند الأجل.

والعلة في الشراء بالمثل: سلف بزيادة، والزيادة هي البعض الذي بقي من السلعة في يد مشتريها، فكأن المشتري أسلفه عشرة دنانير على شرط الزيادة، فإذا حلَّ الأجل رد عليه البائع عشرة مع الزيادة التي بقيت عند البائع من تلك السلعة، والبعض الراجع منها لغو. والعلة في الشراء بالأقل: بيع وسلف، وبيانه: أن الراجح من السلعة لغو؛ فكأن المشتري اشترى بعض الباقي من السلعة بخمسة على أن تسلفه خمسة أخرى، فصارت تلك العشرة التي يدفعها نصفها ثمن ونصفها سلف، يقبضها المشتري من البائع إذا حلَّ الأجل الأخير الذي ضرباه. فهذه عدة مسائل تضمنها الوجه الأول، وهي ستة وثلاثون مسألة. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كانت السلعة المبيعة مما لا يعرف بعد الغيبة عليه؛ كالمكيل والموزون، وقد قدمنا لك في الوجه الأول أن الشراء إلى أجل دون الأجل الأول حكمه حكم النقد في جميع وجوه المسألة، ولم يبق إلا النظر في العقد الثاني هل هو واقع على النقد، أو إلى أبعد من الأجل؟ وأما إلى الأجل نفسه: فقد قدمناه في الوجه الأول أيضًا، وأنه جائز كيفما قدر ورضوا، فلا نعيده مرة أخرى. وإذا وقع الشراء بالنقد: ذلك فيه في جانب المنع ضابطان، فاشدد وثاقهما تربت يداك: أحدهما: شراء الأكثر. والثاني: الشراء بالأقل. فأما الضابط الأول: وهو شراء الأكثر؛ مثل أن يشتري منه مثل طعامه وزيادة معه، أو من غيره نقدًا: فلا يجوز متى كانت معه الزيادة، لا بأقل

من الثمن ولا بالمثل ولا بأكثر -غاب على المشتري أم لا- والعلة في شراء الأكثر بالأقل: دفع قليل في مقابلة كثير. والعلة في شراء الأكثر بالمثل: إن كان قبل الغيبة عليه: سلف بزيادة بتقدير الراجع إليه لغو، وإن غاب عليه دخله مع ذلك دراهم وطعام بدراهم إلى أجل؛ وذلك بأن يجعل الطعام الراجع إليه ليس هو الأول، بل هو مثله فيتضح لك ذلك؛ لأن البائع الأول قد دفع دراهم، فإذا حلَّ الأجل أخذ مثلها مع الطعام الذي يعجله، وذلك واضح والعلة في شراء الأكثر بالأكثر: بيع وسلف؛ وذلك بأن يعجل الراجح لغو وتقابل الزيادة في المثمون فيكون ذلك بيع والسلف ما بقي من الثمن الذي نقده يأخذه البائع الأول من المشتري إذا حل، مثل أن يبيع له قفيز قمح بخمسة دنانير إلى شهر، ثم يشتري منه سنة البائع قفيزين أو قفيز، أو سلعة أخرى معه بعشرة دنانير نقدًا، فإذا جعلت أحد القفيزين أو القفيز الذي رد ومعه السلعة التي مع القفيز الأول إن كانت تلك الزيادة عرضًا بعشرة دنانير؛ خمسة منها ثمن السلعة التي مع القفيز المردود، وخمسة سلف من البائع الأول يقبضها من المشتري إذا حلّ الأجل، وذلك حرام، فافهم هذا المعنى ترشد، فإنه في غاية من الظهور. فأما الضابط الثاني: في جانب المنع وقوعًا بأقل من الثمن نقدًا فإنه لا يجوز متى وقع، وسواء اشترى الأقل بالأقل، أو الأكثر بالأقل غاب عنه. والعلة في منع شراء الأقل بالأقل قبل الغيبة عليه: دفع قليل في كثير؛ لأن الطعام الراجح إليه بعينه لغو، وصار البائع قد دفع مثلًا خمسة مع ما بقي عند المشتري من الطعام ليأخذ عشرة إذا حل الأجل؛ بناءً على أن بقية الطعام ولا يساوى عشرة، فإن غاب عليه دخله بيع وسلف؛ وذلك بأن يقدر أنه اشترى منه قفيزين بعشرة دراهم إلى أجل، ثم اشترى منه البائع الأول بعد الغيبة على الطعام قفيزًا دراهم، فيقدر هذا القفيز الراجع إليه

لغو، فآل أمرهما إلى أن اشترى منه المشتري الأول قفيزًا واحدًا بعشرة دراهم إلى أجل، على أن يسلف البائع خمسة دراهم نقدًا، وتلك الخمسة من جملة العشرة التي بها وقع البيع أولًا، ويدرعا بالبيع الواقع بينهما إلى ما لا يجوز لو فعلاه ابتداءً، وهذه العلة بعينها موجودة أيضًا إذا كان قبل الغيبة على الطعام فيكون السلف في العين وحده، وبعد الغيبة يكون السلف في العين المنفرد مع الطعام المردود بعد الغيبة والانتفاع؛ فكأنه اشترى ما بقي عنده من الطعام بخمسة على أن يسلفه البائع طعامًا ينتفع به ويرد مثله قبل الأجل مع خمسة دراهم تبقى عنده، وينتفع بها حتى يحل الأجل، فإذا حلّ الأجل أخذ من المشتري عشرة؛ منها خمسة ثمنًا، ومنها خمسة سلفًا. والعلة في منع شراء المثل بالأقل: ما تقدم من سلف بزيادة إن كان قبل الغيبة على الطعام؛ لأنه في خير العدم لكونه مسترجعًا. وبعد الغيبة: يدخله مع ذلك طعام ودراهم نقدًا بدراهيم إلى أجل. والعلة في شراء الأكثر بالأقل من الثمن: ما تقدم من دفع قليل في أخذ كثير. فإن اشترط للبائع مقاصة المبتاع بما عليه فيما له عليه من الثمن في شراء النقد، أو كان الشراء إلى أجل: فينظر، فإن كان قبل الغيبة عليه جاز ذلك، وحكم له بالمقاصة في جميع هذه الوجوه. وإن كان بعد الغيبة عليه: لم تجز المقاصة؛ لأن ذلك بيع وسلف، أو سلف بزيادة، على حسب اختلاف الصور. فيتحصل لك من ذلك أن ضوابط المنع: الشراء بالأقل، أو شراء الأكثر، فمتى حصل لم يحصل الإجزاء إلا بحصول المقاصة قبل الغيبة، لا بعدها، ومتى لم تحصل صحة المسألة بجميع وجوهها إلا وجه واحد ففيه تردد

لصاحب مذهبنا مالك - رضي الله عنه - وهو شراء الأقل بعد الغيبة عليه بمثل الثمن مقاصة: فاختلف فيه قوله؛ فمرة منعه مخافة أن يدفع في ضمان الأكثر؛ لأنه يتهم أن يدفع القفيزين في ضمان القفيز إلى استرجاعه، وذكر الثمن من الطرفين لغو لمقاصتهما فيه، ولأجل تماثل الثمنين قدرًا وجنسًا. وهذا القول قائم من المدونة من كتاب الآجال، أوله؛ حيث قال: لا بأس أن يشتري منه بالثمن الذي باعه به، وبأكثر من طعامه، وظاهره: أنه يمنع أن يشتري منه أقل من كيله، وهذا مثل قوله في "كتاب السلم الثالث" في الذي باع مائة سمراء بمائة دينار إلى أجل، فلما حلَّ الأجل أخذ منه بالمائة دينار خمسين سمراء؛ حيث قال: أخاف أن تكون الخمسين ثمنًا للمائة. وهذا تأويل ابن محرز. ومن جوزه لبعد التهمة في دفع كثير في قليل. قال بعض الشيوخ: وهو مذهب أكثر أصحاب مالك، وهو ظاهر المدونة عندهم أيضًا. وأما الوجه الثاني من الوجه الثاني: وهو الشراء إلى أبعد من الأجل: فينبغي أن تعلم أن لك أيضًا في جانب المنع رابطان: فأحدهما: أن يقع الشراء بأكثر من الثمن. والثاني: شراء الأقل. فأما الرابط الأول: وهو الشراء بأكثر من الثمن، على عكس الأول، فمتى حصل [ذلك] (¬1) لم يحصل الإجزاء -غاب عليه أم لا- سواء اشترى ¬

_ (¬1) في أ: لك.

المثل بأكثر من الثمن، أو اشترى الأكثر بالأكثر. والعلة في المنع من شراء المثل: تطرق التهمة إلى المبتاع الأول في دفع قليل ليأخذ كثيرًا إذا حل الأجل؛ لأن المشتري الأول هو القابض بالدفع. والعلة من منع شراء الأكثر بالأكثر: كون ذلك بيعًا وسلفًا، والبيع مقابلة الزيادة الثمنية بالزيادة المثمونية، والسلف في الثمنين المقابلين وهو المبتاع الأول، لأنه هو السابق بالدفع إذا كان ذلك قبل غيبته على الطعام؛ لأنه إذا حلَّ البيع الأول دفع العشرة دنانير التي اشترى بها مثلًا، فإذا حلَّ أجل البيع الثاني أخذ عشرين من المشتري الثاني؛ عشرة منها مقابلة العشرة السلف، والباقي ثمن الزيادة التي في المثمون فإن كان شراء البائع بعد غيبة المشتري على الطعام كان السلف من البائع ومن المشتري. أما السلف من المشتري: فقد علم وتقدم بيانه. وأما كونه من جهة البائع الأول: فهو الطعام الذي استرجعه، فيتهمان على أن يعملا على ذلك أولًا، فيقدم له السلف على أن يبيع له، ويسلف له هو عشرة دنانير يدفعها إليه بعد وجوب البيع. وأما الرابط الثاني: فهو وقوع شراء الأقل؛ فمتى حصل ذلك لم يجز بوجه -اشترى الأقل بمثل الثمن أو اشترى الأقل بالأكثر، غاب عليه أم لا. والعلة في منع شراء الأقل بالأقل من الثمن: بيع وسلف بقدر ما انتقص من الكيل يمضي فيه البيع والسلف من كل واحد منهما إن غاب المشتري على الطعام. وإن لم يغب عليه: فالسلف من المبتاع الأول، وبيان السلف من كل واحد منهما إذا غاب المشتري أن المردود من الطعام هو سلف من البائع الأول، والسلف من المشتري الأول هو ما زاد على الثمن الذي يؤديه يأخذه

من البائع الأول إذا حل الأجل الآخر، ولأن المشتري الأول هو السابق بالدفع، وقبل الغيبة عليه: فالسلف من المشتري الأول وحده. والعلة في منع شراء الأقل بالمثل: سلف بزيادة. وبيان الزيادة: أن الثمن الذي يؤديه المشتري الأول للبائع الأول عند حلول أجله هو سلف للبائع يأخذه منه إذا حلَّ الأجل الآخر، وزاده البائع الأول ما بقي عند المشتري من الطعام المبيع أولًا. والعلة في شراء الأقل بالأكثر: دفع قليل في مقابلة كثير؛ لأن المشتري الأول هو السابق بالدفع، فإذا حلَّ الأجل يأخذ من العين أكثر من الذي دفع مع ما بقي عنده من الطعام. فهذه علة المسائل التي تضمنها الوجه الثاني، وهي ستة وثلاثون، وقد أتينا بالبيان والوضوح على جميع ذلك بعون الله، فالحمد لله على ما أعطى ومنح وبه بالتوفيق.

المسألة الثالثة في سؤال البرذون

المسألة الثالثة في سؤال البِرْذَوْن (¬1) وإذا أسلم برذونًا في عشرة أثواب إلى أجل، وأخذ قبل الأجل بعض سلمه، وأخذ سلعة أخرى عوضًا عن سلمه: فلا يخلو ما أخذه قبل الأجل عوضًا عن سلمه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون البرذون الذي هو رأس ماله بعينه. والثاني: أن يكون يأخذ من جنسه. والثالث: أن يأخذ من غير جنسه. فإن أخذ عين رأس ماله: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يأخذه عوضًا عن جميع سلمه. والثاني: أن يأخذه عوضًا عن بعضه. فإن أخذه عن جميع حقه: جاز، قولًا واحدًا، وبعد ذلك أقاله، وهو نص "المدونة". فإن أخذه عن بعض حقه: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يأخذ مع بقية سلمه. والثاني: أن يرخيه عليه إلى أجله. والثالث: أن يؤخره بها عن أجله. فإن أخذه مع بقية سلمه؛ مثل أن يأخذ البرذون في خمسة أثواب، ¬

_ (¬1) نوع من الخيل.

وأخذ الخمسة الباقية معه: فذلك لا يجوز باتفاق المذهب، وعلل المنع في الكتاب بعلل ثلاث: بيع وسلف، وحط عني الضمان وأزيدك، وضع وتعجل. فأما البيع والسلف: فهي علة في الباب، والاعتراض عليها أصلًا. وبيانه: أن البائع للبرذون كأنه اشتراه الآن بخمسة أثواب على أن يعجله الذي عليه السلم الخمسة الباقية قبل حلولها؛ فالبيع في البرذون، والسلف في الخمسة المعجلة؛ لأن تعجيل ما لم يجب، وتأخير ما قد وجب عن أجله فهو سلف. وأما ضع وتعجل: فقد اختلف المتأخرون في صحة التعليل به في هذه المسألة على قولين: أحدهما: أنه لا يصح التعليل به؛ لأن ذلك يؤدي إلى منع جواز أخذ عرض من العروض عن جميع سلمه مما يجوز أن يسلم في تلك الثياب إذا كان يفي بقيمتها؛ لأنه من باب ضع وتعجل. فاتفاق أرباب المذهب على جواز أخذ العرض المخالف لسلمه عن جميع سلمه، وإن كان لا يفي دليل على ضعف التعليل، بضع وتعجل في هذه المسألة، وإلى هذا ذهب الشيخ أبو إسحاق التونسي. وقيل: إنها علة صحيحة لازمة في هذه المسألة، وأن ما ذكره أبو إسحاق لا يلزم لأجل اختلاف المسألة، وذلك أن الذي عاوض عن جميع الثياب لم يتعجل منها شيئًا حتى توجد فيه العلة، والذي عجل بعض الثياب قد خفف عنه في قيمة العوض المأخوذ عن بقيتها؛ وذلك ضع وتعجل. وهذا القول هو الأصح. وأما التعليل بحطيطة الطعام على شرط الزيادة: فقد قال في "الكتاب":

إنها تدخل في المسألة دخولًا ضعيفًا، وإنما ضعفها ابن القاسم؛ لأن العرف المألوف من العباد أنهم لا يتعجلون ما عليهم من الديون قبل أجلها، إلا لشيء يرتفعون به من الحط عنهم إما من قدره أو من صفاته، وقلَّ ما يجد من يدفع أكثر ما عليه قبل أجله، ولو علم أن قيمة البرذون أكثر من قيمة ما بني عليه لكان دخول (حط عني وأزيدك) في هذه المسألة دخولًا قويًا. ثم لا يخلو من وجهين: إما أن يعثر على ذلك قبل حلول الأجل، أو بعد حلول الأجل، فإن عثر على ذلك قبل حلول الأجل: فلا يخلو ما قبضه من أن يكون قائمًا، أو فائتًا. فإن كان قائمًا: فالخيار للذي له السلم من أن يتماسك بالبرذون ويرد الثياب إلى أجلها، وبين أن يرد البرذون والثياب إلى أجل ويبقى على رأس أمره في سلمه. فإن فات ما قبضه: فإنه يغرم قيمته، فإذا حلَّ الأجل أخذ سلمه. فإن عثر على ذلك بعد الحلول: فإنه يحاسب بالأثواب التي قبضها إن كانت قائمة ويتم له البقية عليها، ويرد البرذون مع قيامه، والقيمة عليه مع فواته، وليس له أن يحبس قيمة البرذون عوض الثياب إن فات ويحاسب، إلا أن يجتمعا على المقاصة: فيجوز. وأما إذا أخذ البرذون على بعض حقه، وأخَّر البقية إلى أجله: جاز ذلك، قولًا واحدًا. فإن أخذه عن بعض سلمه وأخره بالبقية إلى أبعد من أجله: فلا يجوز ذلك؛ لأنه بيع وسلف، والسلف في هذا الوجه من المشتري، وفي الأول من البائع.

وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا أخذ من جنس رأس ماله: فإن ذلك لا يجوز سواء أخذه عن جميع حقه أو عن بعضه؛ لأن ذلك سلم الشيء في جنسه، وهو من باب سلف جر منفعة. وأما الوجه الثالث: إذا أخذ سلعة أخرى من غير جنس ماله عوضًا عن جميع سلمه أو عن بعضه فالجواب فيه كالجواب عن الوجه الأول إذا أخذ عين رأس ماله عن جميع حقه أو عن بعضه، على ما فيه من التحصيل والتفصيل، فلا فائدة للتطويل، فافهم هذا التلخيص تسعد إن شاء الله وتسدد. والحمد لله وحده.

المسألة الرابعة في مسألة حمار ربيعة

المسألة الرابعة في مسألة حمار ربيعة وإذا باع حمارًا بعشرة دنانير إلى أجل، ثم استقاله المبتاع بربح دينار نقدًا، فأقاله البائع، أو باعه بنقد، فاستقاله المبتاع بزيادة دينار إلى أجل: فتحصيل هذه المسألة أن نقول: لا تخلو الزيادة من [أن] (¬1) تكون من البائع، أو من المبتاع. فإن كانت من المبتاع: فلا تخلو من أن تكون نقدًا، أو إلى أجل. فإن كانت إلى أجل. فلا تخلو من أن تكون من جنس الثمن، أو من غير جنسه. فإن كانت الزيادة من جنس الثمن وكان عينًا، فإن اتفقت الزيادة مع الثمن في الصفة والجودة، وكان سكة واحدة: جاز على المقاصة عند الحلول. وإن كانت الزيادة من غير جنس الثمن؛ كالدراهم مع الدنانير، أو عرضًا، أو طعامًا مع العين: فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه دين بدين. فإن كانت الزيادة نقدًا: فلا تخلو من أن تكون عينًا، أو عرضًا. فإن كانت عينًا: فلا تجوز الإقالة؛ لأنه إن كان الثمن دنانير كان بيعًا وسلفًا بقدر أن الحمار يساوي ثمانية دنانير، اشتراه منه بتسعة على أن يسلفه المشتري الأول دينار ويستوفيه من نفسه عند حلول الأجل من العشرة التي للبائع الأول عليه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن كانت الزيادة عرضًا أو طعامًا: جاز ذلك، ولا علة تبقى. فإن حلَّ الأجل وكان شراؤه نقدًا، أو لم ينتقد: فلا تخلو الزيادة -أيضًا- من أن تكون عينًا أو عرضًا. فإن كانت عينًا، وكانت دراهم والثمن دنانير، والدراهم مثل صرف دينار فأكثر: فذلك بيع وصرف إذا انتقد، ويجري على الخلاف المعهود بين ابن القاسم وأشهب. وإن لم ينتقد: كان ذلك صرفًا مستأخرًا، ودينًا بدين، مع ما فيه من بيع وصرف من المستأخر منهما. فإن كانت الزيادة دراهم يسيرة: جاز بشرط التناقد. فإن كانت الزيادة دنانير: جاز على المقاصة دون غيرها. وإن كانت الزيادة عرضًا: جاز على النقد، ولا يجوز إلى أجل؛ لأنه فسخ دين في دين، وبيع وسلف. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كانت الزيادة مع البائع فلا تخلو الزيادة من أن تكون من صنف المبيع، أو من غير صنفه. فإن كانت من صنف المبيع؛ مثل أن يبيعه حمارًا، ثم أقاله بزيادة حمار آخر، فإن تعجلت الزيادة وانتقدت: جاز، فإن كان إلى أجل: فلا يجوز، وذلك سلم الشيء في مثله إلى أجل، وهو حرام؛ لأنه سلف بزيادة، أو ضمان بجعل، على حسب اختلاف الصور. فإن زاده من غير جنس المبيع: جازت الزيادة -كانت نقدًا أو إلى أجل- وسواء كان المبيع نقدًا أو مؤجلًا؛ إذ لا محضور هناك، ويعد ذلك بيعة أخرى، وفي ذلك يقول ربيعة - رضي الله عنه - في شعره لما سئل عنها:

إذا [...] (¬1) متاع إلى أجل ... وزاد نقدًا فخذه ثم لا تسل حاشا من الذهب المرجي إلى أجل ... إلا إلى ذلك الميقات والأجل وزده أنت من الأشياء قاطبة ... ما شئت نقدًا ومضمونًا إلى أجل ما لم يكن صنف ما استرجعت [] (¬2) ... إلى زمان ولا بأس على عجل إلا أن هذه الأبيات إن حملت على ظاهرها كان قول ربيعة مخالفًا للمذهب، فإن تأولت كانت وفاقًا. وموضع الاحتمال من قوله: (وزده نقدًا) فإن أراد أن تكون الزيادة عرضًا كان قوله وفاقًا للمذهب، وإن أراد أن ذلك يكون كيف ما كانت الزيادة وإن كانت عينًا: كان خلافًا. وقوله أيضًا: (إلا إلى ذلك الميقات): فإن كان معناه على التقاصص كان وفاقًا، فإن كان على الإخراج فلا يجوز. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) غير واضحة في أ. (¬2) غير واضحة في أ.

المسألة الخامسة في بيع الدين بالدين

المسألة الخامسة في بيع الدَّين بالدَّين وينبغي أن يعلم أن هناك أمرين: أحدهما: بيع الدَّين بالدَّين. والآخر: فسخ الدَّين في الدَّين. وأحدهما أَسَدّ من الآخر؛ فبيع الدَّين بالدَّين عبارة عما ليس عند الإنسان، وهو عبارة عن إشغال الذمتين، وفسخ الدين في الدين عبارة عن إشغال ذمة واحدة. والعلة في فسخ الدين في الدين -على القول بتعليله: ربا الزيادة؛ فلذلك كان فسخ الدين في الدين أشد من ابتداء الدين بالدين. واختلف قول مالك في "الكتاب" في بيع الدين هل يكون في المضمون والمعين أو لا يكون إلا في المضمون والمعين، أو لا يكون إلا في المضمونين جميعًا، وقد نص في "كتاب بيع الغرر" على أن الدين بالدين لا يكون إلا في المضمونين، ويؤخذ له أيضًا من غير ما موضع من "المدونة" أنه يكون في المعين والمضمون؛ فمن ذلك قوله فيمن له دين علي رجل؛ حيث قال: لا يجوز له أن يأخذ في دينه ما لا يتعجله من سكنى الدار، أو خدمة عبد أو جارية يتواضعانها؛ لأن ذلك فسخ دين في دين، فجعل ذلك بيعًا يتأخر قبضه وإن كان معينًا. وأما فسخ الدين في الدين فلا يخلو من وجهين: إما أن يفسخه في شيء مضمون في الذمة، أو في شيء بعينه.

فإن فسخه في شيء مضمون في الذمة: فلا يخلو من أن يفسخه في شيء إلى أبعد من الأجل، أو إلى الأجل نفسه. فإن فسخه إلى أبعد من الأجل: منع اتفاقًا؛ لوجود الربا المتفق على تحريمه، وهو ربا الجاهلية تقضي أو تربي؛ لأن الزيادة في الأجل تقتضي الزيادة في مقدار الدين، والزيادة في الصفة كالزيادة في القدر، واستبدال الجنس بجنس آخر في الذمة يستدعي تلك الزيادة على كل حال. فإن فسخه إلى الأجل نفسه، أو إلى دونه: فإنه يتخرج على قولين: الجواز، والمنع [والمنع] (¬1) أشهر وأسعد بظاهر "الكتاب" والجواز أظهر في النظر. ويبنى الخلاف على الخلاف في النهي عن فسخ الدين في الدين هل هو معلل أو غير معلل. فمن علله بالزيادة قال بالجواز؛ إذ لا زيادة في الصورة المفروضة؛ لأن الزيادة في الأجل يستدعي الزيادة في كمية ما قدمناه، وإذا لم يزد في الأجل فلا يزيد له الآخر في الدين؛ إذ لا رفق له في ذلك ومن رأى أن النهي غير معلل، وإنما هو شريعة غير معقولة المعنى: قال بالمنع. والجواب عن الوجه الثاني: إذا فسخه في شيء بعينه، فلا يخلو ذلك المعين من وجهين: أحدهما: أن يكون مما يقبض ويقتضي مرة واحدة. والثاني: أن يكون مما يقتضي أو يقتضي كرة بعد كرة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن فسخه فيما يقبض مرة واحدة، فقبضه أو مكن من قبضه، ولم يتعلق به حق التوفية: فلا إشكال في الجواز، ويقبضه متى شاء؛ لأنه بالفسخ صار في ضمانه. فإن فسخه فيما يستوفي مرة بعد مرة، كسكن دار، أو ركوب دابة، أو استخدام عبد: فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال، كلها قائمة من "المدونة": أحدها: المنع، وهو نص "المدونة" في "كتاب الآجال"، وغيره. والثاني: الجواز، وهو مذهب أشهب، وهو ظاهر "المدونة"؛ حيث جوز كراء هذه الأشياء بالدين، فإذا جاز أن يكتري بالدين جاز أن يقتضي. والثالث: التفصيل بين أن يشرع في السكنى فيجوز، أو يتراخى عنه فلا يجوز. وهو قول ابن القاسم في "كتاب الحوالة" من "المدونة". وسبب الخلاف: المنافع هل تتعين بتعين المنتفع به أم لا؛ فمن رأي أن المنافع لا تتعين وإن عين الشيء المنتفع به: منع، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الآجال"، وفي كتاب الجعل والإجارة: إذا أدخل على الغنم غنمًا أخرى أو اتخذ راعيًا يرعى له ويعينه؛ حيث جوز له ذلك، ولم يره متعديًا؛ بناء على أن المنافع لا تتعين وإن عين الراعي. ومن رأى أنها تتعين بتعيين ذلك الشيء: جوز، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الجعل" و"الإجارة" و"كتاب الرواحل والدواب"، وقد منع هناك للراعي وللمكتري استبدال عين بعين أخرى، واستبدال الدابة بأخرى؛ بناء منه على أن المنافع قد عينت في تلك الأعيان.

وللخلاف تطلع آخر، وهو: قبض الأوائل هل هو كقبض الأثمان أم لا؟ والحمد لله وحده.

المسألة السادسة في البيع والسلف

المسألة السادسة في البيع والسَّلف وإذا باع سلعة بمائة دينار على أن يسلف أحدهما لآخر عشرين دينارًا إلى أجل: فإن ذلك لا يجوز؛ لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وسلف، واتفق العلماء على أنه من البيوع الفاسدة. واختلف إذا ترك الشرط قبل القبض؛ ومنعه أبو حنيفة والشافعي وسائر العلماء، إلا في مشهور مذهبه، على ما سنبينه تأصيلًا وتفصيلًا إن شاء الله تعالى. وقد روى أن محمَّد بن أحمد بن سهل البرمكي سأل عن هذه المسألة إسماعيل بن إسحاق القاضي؛ فقال له: ما الفرق بين السلف والبيع، وبين رجل باع غلامًا بمائة دينار وزق خمر، فلما عقدا البيع قال: أنا أدع الزق؟ قال: هذا البيع مفسوخ بإجماع العلماء. فأجاب عن هذا إسماعيل بجواب لا تقوم به حجة؛ وهو أن الفرق بينهما أن مشترط السلف مخير بين تركه وأخذه، وأنه يملك صحة البيع وفساده، وليس كذلك مسألة زق الخمر، ولا يخفى على لبيب أن هذا الجواب هو نفس الشيء الذي طولب بالفرق به؛ لأنه يقال: لما كان مخيرًا هاهنا, ولم يكن هناك مخيرًا في أن يترك الزق ويصح البيع. وقد انفصل بعض المتأخرين عن سؤال البرمكي بأن قال: إن التحريم هاهنا لم يكن الشيء محرم لعينه وهو السلف لأن السلف مباح في نفسه، وإنما وقع من أجل اقترانه بالبيع، والبيع في نفسه جائز، وإنما امتنع لاقتران الشرط به، وفي مسألة الخمر امتنع لإتيانه بشىء محرم لعينه لأنه شيء

محرم من قبل الشرط. وهذا الانفصال لا بأس به. فإذا ثبت ذلك فنحن نرجع إلى تحصيل [المسألة] (¬1) فنقول وبالله التوفيق: إذا اشترط السلف مع البيع فلا تخلو السلعة من أن تكون قائمة، أو فائتة. فإن كانت قائمة: فلا يخلو مشترط السلف من أن يسامح بتركه أو يشح على شرطه ولم تطب نفسه بتركه فالبيع باطل والشرط باطل، ولا أعرف نص خلاف في المذهب إلا متأولًا؛ ويؤخذ من "المدونة". من مسألة الذي باع السلعة على أنه إن لم يأت بالثمن إلى أجل كذا فلا بيع بينهما قال: البيع جائز، والشرط باطل. فإن سامح مشترط السلف فهل يجوز البيع أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن البيع باطل وإن رضي من له الشرط بإسقاطه، وهو قول محمَّد بن عبد الحكم -من أصحابنا- وروي عن علي بن زياد مثله، وهو ظاهر قوله في آخر "كتاب الدور والأرضين" من "المدونة" في الذي أكرى أرضه بدنانير وخمر، قال: لا يجوز وإن رضي المكري بإسقاط الخمر. والثاني: أن البيع جائز إذا أسقط مشترط السلف سلفه، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الآجال". والثالث: التفصيل بين أن يقبض مشترط السلف سلفه أم لا؛ فإن قبضه وغاب عليه: فالبيع مفسوخ وإن أسقط السلف ورده؛ لأن الربا قد تم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بينهما لغيبته على السلف، وهو مذهب سحنون. وتأوله أكثر شيوخنا القرويين على "المدونة" وأن قوله في "الكتاب": إذا رضي بإسقاط شرطه يريد: قبل القبض. وبعضهم يجعله خلافًا "للمدونة" ويستدل بقوله في "الكتاب" يريد السلف والرد عبارة عن استرجاع ما قد قبض، وهو نص قول أصبغ في غير "المدونة". والرابع: أن البيع جائز، والشرط باطل، وهو قوله في "الكتاب" فيما إذا باعه سلعة على أنه إن لم يأت بالثمن إلى أجل كذا فلا بيع بينهما؛ حيث قال: البيع جائز، والشرط باطل. فوجه القول الأول: كون العقد وقع على الفساد، وفساده في ثمنه، وأن السلف له حصة في الثمن، ولاسيما إذا كان من جهة المشتري؛ لأن البائع لم يرض أن يبيع بهذا القدر من الثمن إلا من أجل السلف الذي سلفه المشتري. فإن كان من جهة البائع: فالمشتري ما اشترى بهذا الثمن الغالي إلا من أجل السلف الذي سلفه للبائع؛ فبان أنه باع بثمن بعضه حلال وبعضه حرام؛ كمسألة الخمر إذا كان بعض أجزاء الثمن. ووجه القول الثاني: ما قدمناه من أن السلف والبيع كل واحد منهما مباح على الانفراد، وإنما منع اجتماعهما لما فيه من سلف جر منفعة، فإذا أسقطه مشترطه جاز البيع لزوال تلك العلة، وهذا القول أضعف الأقوال. ووجه القول الثالث: أنه إذا قبض السلف وغاب عليه وكان مما لا يعرف بعد الغيبة أن الربا قد تم بينهما فلا فائدة لرد السلف بعد ذلك للغرض المبتغى، ثم لابد من فسخ البيع ورده.

والجواب عن الوجه الثاني: إذا فاتت السلعة بماذا تمضي؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه تمضى بالقيمة -بالغة ما بلغت- قياسًا على سائر البيعات الفاسدة إذا فاتت، وهو قول أشهب في الذي باع فرسًا واشترط أن يغرر عليه؛ حيث قال: إن فات ففيه القيمة. والثاني: أنه ينظر، فإن كان السلف من المشتري فللبائع الأكثر من الثمن أو القيمة وإن كانت أكثر من الثمن والسلف. فإن كان السلف من البائع: كان له الأقل، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الآجال". والثالث: أنه إن كان السلف من المشتري: كان عليه الأكثر من الثمن أو القيمة ما لم يكن أكثر من الثمن والسلف، وهو قول أصبغ. والرابع: أن السلعة تقوم بشرط السلف، وبغير شرطه، فما كان بين القيمتين رجع به البائع على المبتاع إذا كان البائع هو المشترط للسلف. واختلف في بيع الثنيا؛ وهو أن يبيع له سلعة على أنه متى جاء بالثمن فهو أحق بها هل هي بيع أو رهن؟ على قولين: أحدهما: أنه بيع. والثاني: أنه رهن. وفائدة الخلاف وثمرته: في العلة هل يلزمه ردها إذا فسخ فعلهما أو لا يردها؟ فمن رأي أنه بيع قال: لا يرد العلة، وقد قال مالك في "العتبية" فيمن اشترى أرضًا على بيع ثنيا فبنى وغرس: إنه فوت، وقال أيضًا فيمن اشترى حائطًا على مثل ذلك فاعتل وبنى وحفر، فقال: العلة للمشتري بالضمان،

ويرد الحائط، وللمشتري على البائع ما أنفق في بناء الجدار أو حفره؛ فجعله بيعًا، وأنه ضامن والعلة له، ولم يجعل البناء والحفر فوتًا؛ لأن ذلك لا يكون فوتًا إلا فيما دخل المتبايعان فيه على البت، وعلى أن لا يرد وإن كان فاسدًا، فكان رده بعد حدوث مثل ذلك فيه مضرة على المشتري تارة، وعلى البائع تارة، وهذا إن دخلا على الرد بعد أن كان حدوث مثل ذلك، فلا يكون قويًا. ومن رأى أنه رهن قال: يرد العلة، وأنه في ضمان البائع في كل بيع ويغض نظرًا عليه من غير سبب المشتري، وما كان من سببه فهو ضامن له، وحكمه حكم الرهان في سائر أحكامها فيما يغاب عليه. واختلف إذا أسقط مشترط الثنيا شرطه، هل يجوز البيع أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن البيع باطل والشرط باطل، وهو المشهور. والثاني: أن البيع جائز إذا أسقط شرطه، وهو قوله في "كتاب محمَّد" وقال محمَّد: إذا رضي المشتري، وقال الشيخ أبو محمَّد: وقد فسخ الأول، والحمد لله وحده.

المسألة السابعة فط حكم المقاصة في الديون

المسألة السابعة فط حكم المُقَاصَّة في الديون وفيه ثلاثة أسئلة: أحدها: أن يكون الدينان طعامًا. والثاني: أن يكونا طعامًا من قرض. والثالث: أن يكونا عينًا. فالجواب عن السؤال الأول: إذا كان الدينان طعامًا: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكونا من بيع، أو من قرض، أو منهما. فإن كانا من بيع: فلا تجوز المقاصة قبل الحلول، قولًا واحدًا. وإن كان بعد الحلول: فلا يخلو من أن تتفق رؤوس أموالهما، أو تختلف. فإن اختلفت رؤوس أموالهما: فلا تجوز المقاصة. فإن اتفقت رؤوس أموالهما: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المقاصة لا تجوز، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو مشهور المذهب. والثاني: أن المقاصة جائزة، وهو قول أشهب، ويصير إقالة معنوية. وسبب الخلاف: اختلافهم في الإقالة هل تنعقد بغير لفظها أم لا؛ فمن رأي أنها تنعقد بغير لفظها: قال بجواز المقاصة، ويعد ذلك منهما إقالة معنوية.

ومن رأى أن الإقالة لا تنعقد إلا بلفظها, ولا تنعقد بغيره قال: لا تجوز المقاصة؛ لأن ذلك بيع الطعام قبل قبضه. وأما الوجه الثاني: إذا كانا من قرض، والصفة والمقدار متفق فالمقاصة جائزة باتفاق المذهب. ويلزم فيها قول آخر: ألا تجوز المقاصة كما قال ابن نافع في المذهبين، ولا عبرة باتفاق الآجال، ولا بحلولها أو بعضها لحصول الإبراء في المقاصة في الحالة الراهنة على وجه ليس لواحد منهما سلطان على صاحبه. وأما الوجه الثالث: إذا كان أحدهما من بيع والآخر من قرض ولا يخلو من أن يحلا أو لم يحلا، أو حلَّ أحدهما دون الآخر. فإن حلَّا جميعًا: ففي جواز المقاصة قولان: أحدهما: جوازه، وهو نصه في المدونة، وهو المنقول. والثاني: أن المقاصة لا تجوز، وهو المعقول؛ لأن ذلك يخرجه عن بيع الطعام قبل قبضه في طعام البيع. فإن لم يحلَّا وكانت آجالهما مختلفة: فلا تجوز المقاصة، قولًا واحدًا. فإن اتفقت الآجال: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المقاصة جائزة، وهو قول ابن حبيب، وعلى هذا جميع أصحاب مالك، إلا ابن القاسم. والثاني: أنها لا تجوز حتى يحلا، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". فإن حلَّ أحدهما ولم يحل الآخر فقولان أيضًا: أحدهما: أن المقاصة لا تجوز حتى يحلا جميعًا، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنها تجوز المقاصة بحلول أجل السلم، ولا يجوز بحلول أجل

القرض، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف بين المعقول والمنقول: اختلافهم في المقاصة هل تبرأ بها الذمم، أو لا تبرأ إلا بانصرام الأمد. فمن رأى أن الذمم تبرأ بالمقاصة قبل انصرام الأمد: قال بجواز المقاصة. ومن رأى أن الذمم مشغولة إلى الأجل المجعول قال: لا تجوز المقاصة. ووجه القول بالمنع وإن حلَّ أحد الأجلين: أن التقاصص إبراء، وإذا لم يحل الأجلان يبطل الإبراء. وكان أشهب يرى أن الأجل من جانب المقترض بما لم يلزم صار في حكم الحال، غير أن هذا الكلام لا يتمشى له، فلا يجب لمصيره، إلا أن المقترض لا يجبر على الأخذ قبل الأجل، وإنما يتمشى له أدنى شيء لابن القاسم؛ لأنه يقول بالجبر على الأخذ، وهو يقول بالمقاصة كما ترى، ولعله إنما آثر الأجل في المنع لأنه منعوت باللزوم على وجه ما، فلا حجة في تقديره حالًا من الأجلين. ووجه قول ابن حبيب: أن اتفاق الأجلين يدرأ المكايسة عنده لكون انحلال الذمم وقتًا وأمدًا، والإبراء يتنجز في الحال فلم يجعل ذلك مبايعة رآهما في حكم الحالين، وربك أعلم. والجواب عن السؤال الثاني: إذا كان الثابت في الذمتين عروضًا, ولا تخلو هذه العروض من وجهين: أحدهما: أن يكونا من جنس واحد. والثاني: أن يكونا من جنسين.

فإن كانا من جنس واحد: فلا يخلو من وجهين: إما أن يتفق العدد، أو يختلف. فإن اتفقا في العدد: فلا يخلو من أن تتفق الآجال، أو تختلف. فإن اتفقت الآجال: جازت المقاصة قبل الحلول، على المذهب المنقول أن الذمم تبرأ. وإن اختلفت الآجال: فلا يخلو من أن يتفقا في الجودة والدناءة, أو يختلفا. فإن اتفقا في الجودة والدناءة: فالمقاصة جائزة بعد حلولها، قولًا واحدًا. فإن لم يحلا، أو حل أحدهما ولم يحل الآخر: فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو نص "المدونة" في "كتاب الآجال". ويتخرج في المذهب قول آخر: أنها لا تجوز حتى يحلا جميعًا. وسبب الخلاف: ما تقدم. فإن اختلفا في الجودة والدناءة: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكونا من بيع، أو من قرض، أو منهما. فإن كانا من بيع: لم تجز المقاصة، سواء كان أولهما حلولًا أو أدناهما أو أرفعهما؛ لأنه في الأدنى: ضع وتعجل، وفي الأرفع: حط عني الضمان وأزيدك. فإن كانا من قرض وكان أولهما حلولًا، أو أدناهما لم يجز لوجود ما تقدم من ضع وتعجل، وإن كان أولهما حلولًا أدناهما لم يجز كان من بيع أو قرض لأنه ضع وتعجل.

فإن كان أولهما حلولًا أرفعهما جاز في البيع، ولا يجوز في القرض لأنه من باب حط عني الضمان وأزيدك. وأما إن اختلفا في العدد: فلا يخلو من أن يكونا من بيع، أو من قرض، أو أحدهما من قرض والآخر من بيع. فإن كان من بيع: لم يجز التقاصص -كان الحال منهما الأقل أو الأكثر؛ لأنه في الأكثر: حط عني الضمان وأزيدك، وفي الأقل: ضع وتعجل. فإن كانا من قرض: منعت المقاصة بحلول الأقل اتفاقًا، وفي حلول الأكثر أو حلولهما جميعًا ثلاثة أقوال: أحدها: جواز المقاصة، وهو قول أشهب في جواز القرض جملة. والثاني: أنها لا تجوز، وهو أحد قولي مالك في جواز الزيادة جملة. والثالث: أنها مكروهة وهو قول مالك في الزيادة في القرض؛ حيث جوزها بعد مجلس القضاء ومنعها في المجلس. فإن كان أحدهما من قرض، والآخر من بيع: لم تجز المقاصة أيضًا -كانت أولهما حلولًا الأقل أو الأكثر- لأنه إن كان الأقل فهو وضيعة على تعجيل حق في البيع والقرض، وإن كان الأكثر هو قرض: كان حط عن الضمان وأزيدك، وإن كان بيعًا: منع قبل الحلول وبعده؛ لأن ذلك زيادة في القرض. فأما الجنس الثاني -إذا كانا من جنسين- فلا يخلو من أن يتفقا في الصفة والمقدار، أو يختلفا. فإن اتفقا في الصفة والمقدار: فهما كالعرضين المتحدي الجنس في جميع الفصول التي قدمناها.

فإن اختلفا في الجنس والصفة: فلا يخلو من أن تتفق آجالهما أو تختلف. فإن اتفقت الآجال: جازت المقاصة عند الحلول، قولًا واحدًا، وقبل الحلول: قولان: أحدهما: الجواز، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنها لا تجوز المقاصة، وهذا القول قائم من "المدونة". وسبب الخلاف: ما تقدم في صدر هذه المسألة من براءة الذمم. فإن اختلفت الآجال: فلا تجوز المقاصة قبل حلولها، وتجوز بعد حلولها. وفي حلول أحدهما قولان: أحدهما: جواز المقاصة، وهو قوله في المدونة. والثاني: أن المقاصة لا تجوز إلا بحلولهما جميعًا، وهو قوله في "الموَّازية". فانظر كيف منع المقاصة إذا اختلف الأجلان، واختلف الغرضان؛ لاجتماع علتين. وفقه هذا الباب أن يقال: إن قَدَّرْنَا أن التناجز يحصل بالتقاصص في الحالة الراهنة حتى يكون تراضيهما عليه قاطعًا لحكم الأجل؛ إذ ليس لواحد منهما تباعة على صاحبه، فلا شبهة في الإجزاء في هذه الفصول كلها. فإن لم يقدر ذلك، وأن التراخي الآنف غير قاطع للتأجيل السالف: لم يجز ذلك جملة بلا تفصيل؛ لكون ذلك دينًا بدين؛ لكون كل واحد منهما أحال صاحبه على حقه يستوفيه لنفسه من نفسه إذا حلَّ الأجل، غير

أن الاطراد في محل الترداد من دأب الفقيه المتدين، والتقاصص تردد بين التكايسين، فحملوه على التكايس عند اختلاف الأغراض من الوجهين؛ لأن الذمم تتفاوت ولا تتماثل في اليسار والإعسار، فيريد الموسر عند اختلاف الأجلين الاكتفاء بما عليه قضاء عن المعسر، وهذا تكايس بين لا جرم لم يجز عند الاختلاف من الجانبين -الدينين والأجلين- لأن تفاوت الأغراض يحرك دواعي المكايسة، وتشب نار المنافسة لتعذر تماثل الذِّمم. بخلاف إذا انفرد أحد الاختلافين؛ كاختلاف الدينين، فإن انحلال الذمم لما لم يكن بينهما ترتيب يوجب التوريث للتهمة لم يمتنع الإجزاء؛ فلهذا جوزت المقاصة إذا اتفق الدينين من غير اكتراث بتطابق الأجلين مقدارًا وحلولًا. فتدبر هذه المعاني؛ فإنها الأصول التي بنيت عليها هذه الفصول. والجواب عن السؤال الثالث: إذا كان الدين الثابت في الذمة عينًا: فلا يخلو من أن يتفقا في الجنسية، أو يختلفا. فإن اختلفا؛ مثل أن يكون أحدهما ذهبًا، والآخر فضة. فإن حلَّا: جازت المقاصة، قولًا واحدًا. وإن لم يحلَّا، أو حلَّ أحدهما: فالمذهب في جواز المقاصة على قولين: أحدهما: أنها لا تجوز، وبه قال مالك، وابن القاسم، وهو مشهور المذهب، وكذلك في طعامي القرض إذا اختلفا. والثاني: أن المقاصة جائزة، وهو قوله في "المدونة" في العرضين إذا حلَّ أحد الأجلين. وسبب الخلاف: اختلافهم في الذِّمم، هل تبرأ بالمقاصة، أو لا تبرأ؛

فمن قال: إنها لا تبرأ: منع المقاصة قبل حلولهما جميعًا؛ لأن العين والطعام من الأموال الربوية -نقدًا ونساء- وقد قدمنا أنه لا يصح فيه تنجيز بالإبرام قبل انصرام المدى؛ لأنه في الذهب والفضة صرف مستأخر، وفي طعام القرض طعام بطعام متفاضلًا إلى أجل، فلا شك ولا خفاء أن تنزيل حلول ما في الذمة منزلة حلول ما به مشغولة في تنجيز القبض بالإبراء غير متقايس، وإنما المنع فيه أثر ابن عمر - رضي الله عنه - على مشهور مذهبنا -نحن المالكية- القائلون بجواز صرف ما في الذمة. فمن رأي أن الذمم تبرأ: قال بجوازها؛ كما قال في العرضين المختلفين مع جواز اختلاف الذمم عند حلول آخر الأجلين. ولا فرق في ذلك بين العين والعرض إذا لم يقل بالإبراء، فإن التخاطر في ذلك واحد. فإن اتفقا في الجنسية -ذهبًا كلها أو فضة كلها- فإن حلَّت الآجال جازت المقاصة، قولًا واحدًا. فإن لم يحلَّا: فالمذهب في جواز المقاصة على ثلاثة أقوال: أحدها: جوازها من غير اعتبار بالآجال ولا بحلولها، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن المقاصة جائزة إن حلَّا، أو حلَّ أحدهما, ولا تجوز إن لم يحلَّا -اتفق الأجلان أو اختلفا- وهو قول ابن نافع. والثالث: التفصيل بين أن تتفق الآجال فتمنع المقاصة، أو [لا] (¬1) تتفق فتجوز، وهو ظاهر قول مالك -رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ووجه قول ابن القاسم: أن الذِّمم تبرأ بالمقاصة. ووجه قول ابن نافع: أن الذمم لا تبرأ. وأن ذلك بيع الدين بالدين. ووجه قول مالك -رحمه الله-: أن الآجال متفقة إذا اتفقت سلم من المكايسة، وإن اختلفت الآجال كان مكايسة. وما قدمناه في السؤال الثاني من الفقه والتحصيل نحو منه يقال هاهنا، ومن تأمله بان له سبب النزاع؛ لأنه يدخل في القرضين والطعامين المتفقين. وقد اختلف الأشياخ في المقاصة هل يتوقف جوازها على معرفة أصل المداينة؛ فمنهم من يقول: لا اعتبار بأصل المداينة كيف كانت، ولا على ماذا وقعت. ومنهم من يقول: لابد من اعتباره فتمنع المقاصة إذا كان هناك تهمة؛ مثل أن يكون أحد الذهبين ثمن قمح والآخر ثمن تمر؛ لا فيه من بيع الطعام بالطعام ليس يدًا بيد، وكذلك في عوضي البيع إذا كان رؤوس أموالهما ذهبًا وفضة، أو كانا ذهبين، غير أن الآخر من المسلمين أكثرهما فيمنع ذلك خيفة التعامل على صرف مستأخر، أو على ذهب فأكثر منه، إلا أن يكون المسلمان في وقت واحد فتبعد التهمة وتزول المظنة فيجوز. والحمد لله وحده.

كتاب البيوع الفاسدة

كتاب البيوع الفاسدة

كتاب البيوع الفاسدة قال القاضي أبو بكر بن العربي: سمعت القاضي الريحاني - رضي الله عنه - ببيت المقدس يقول: البيع والنكاح عقدان يتعلق بهما قوام الإنسان؛ وذلك أن الله - عز وجل - خلق الآدمي محتاجًا إلى الغذاء، مشتهيًا للنساء، وخلق له ما في الأرض جميعًا كما أخبر في صادق كتابه، ولم يتركه يتصرف لإقضاء شهواته، ويستمتع بنفسه باختياره، وتتعارض الشهوات، والعقل يقضي أن يكون هناك قانون ينفصل به وجه المنازعة، فالشهوة تسترسل بحكم الجملة، والعلائق مقيدة بحكم الشريعة، وجعل لكل واحد من المكلفين اختصاصًا يناله به الله مما له فيه النفع، وجعل له سببين: أحدهما: منحه ابتداءً؛ وهو الاصطياد، والاحتشاش والاحتطاب، والاقتطاع، على اختلاف وتفصيل. والثاني: تنقله من يد إلى يد، وهو على وجهين: أحدهما: بغير عوض؛ وهو الهبة. والثاني: على عوض؛ وهو البيع، وما في معناه، وهذا بابه، وله شروط كثيرة، ومفسداته أكثر؛ لما قضى الله أن يكون الفساد أكثر من الصلاح، والشر أضعافًا من الخير؛ ولذلك تمتلئ النار بأصلها، وتبقى الجنة خالية حتى ينشئ الله لها خلقًا آخر. فإذا ثبت ذلك، فتحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها إحدى عشرة مسألة.

المسألة الأولى في حد الصحيح والفاسد من البيع

المسألة الأولى في حد الصحيح والفاسد من البيع فنقول: الفاسد عندنا غيابه عما لا حكم له في الشرع، وتحقيقه يتبين لك بتعاطي الانفصال عن السؤال عن حد الصحيح، وقد تكلم الأصوليون في ذلك، ونحن ذاكرون ما هو المذهب المختار عندنا: فمن ذلك ما قاله الشافعي - رضي الله عنه - في "الرسالة"، وذلك أنه قال: جماع ما يجوز به البيع عاجلًا وآجلًا أن يتعاقدا بتراضٍ منهما، لا بأمر منهي عنه، ولا عن أمر منهي عنه، فإذا تعاقدا على هذا وتفرقا بأبدانهما: لم يكن لأحدهما فسخه دون عيب يحده أو شرط يشترطه. فقوله: "جميع ما يجوز به البيع عاجلًا وآجلًا أن يتعاقدا بتراضٍ منهما": يشمل الفاسد والصحيح. وقوله: "لا بأمر منهي عنه" لم يخلص الأثمان من الناهي كالأعواض الفاسدة؛ مثل البيع بخمر أو خنزير أو ميتة، وما ضارع ذلك. وقوله: "ولا على أمر منهي عنه": معناه ألا يكون الخلل راجعًا إلى اشتراط ما لا يجوز من الخيار العري عن الاختيار، أو يذكرا أجلًا مجهولًا. فهذا هو البيع الصحيح عندنا، وما وراءه فاسد. ولا فرق بين الفاسد والباطل عندنا وعند الشافعي؛ لاجتماعهما في الحد الذي أسلفناه، غير أنا نحن -معاشر المالكية- لا نقول بالتحرير والتقرير، "تفرقا بأبدانهما": ليس بمذهب لنا، وإنما هو مذهب الشافعي. وأما الحنفية: فيفرقون بين الفاسد، والصحيح، والباطل، ويجعلون

الصحيح غاية في الدرجة. والباطل: الغاية في الدرك، والفاسد: متوسط بين الأصلين؛ لأخذه شبهًا منها، وشبهيته بالباطل: كون الفاسد لا يفيد الملك قبل القبض كما لا يفيده الباطل قبل الملك وبعده. وشبهيته بالصحيح: في كون الفاسد يفيد الملك قبل القبض كما أن الصحيح يفيد الملك قبل القبض وبعده. والباطل هو بيع الخمر، والفاسد هو البيع بالخمر. والخوض معهم محال على مسائل الخلاف. وأما القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب فقد أنصف إذ قال: الذي يراد بالفاسد والباطل: هو أنه إذا تعلق بعبادة، فإن كانت مفروضة: فإن الذمة لم تبرأ من وجوبها، وإن كانت مسنونة لم تقع موقع الذي أريد بها، وإن كان متعلقًا بعقد: فإنه لا يثمر إباحة التصرف ولا ما يستباح به إذا وقع على الوجه المأذون فيه، وليس مع ذلك أن تقوم دلالة على أن النهي في بعض المواضع لا يوجب ذلك، ولكنه كالخارج عن الأصل. والحمد لله وحده.

المسألة الثانية في تقاسيم البيع الفاسد

المسألة الثانية في تقاسيم البيع الفاسد وهو ينقسم إلى أربعة أقسام: منها ما كان فساده في عقده. ومنها ما كان فساده في ثمنه أو مثمونه. ومنها ما يرجع فساده إلى حالة المتعاقدين. ومنها ما كان فساده من شروط مقترنة به. فأما ما كان فساده في عقده: كبيع يوم الجمعة وقت النداء، أو البيع في بقعة مغصوبة، أو بيع التفرقة، وما أشبه ذلك: فالبيع في ذلك كله فاسد مع القيام وفاقًا. وفي الفوات: يمضي بالثمن عند الجمهور، وبالقيمة عند الأقلين عددًا ودليلًا، وكل المذهب والتوجيه ظاهر، غير أن ما يكون الفوات يختلف باختلاف أنواع المبيعات، على ما هو مسطور في الأمهات. وأما ما يرجع فساده إلى ثمنه أو مثمونه؛ كالبيع بثمن مجهول المقدار أو مجهول الجنس، أو مجهول الصفة، أو كان المثمون مجهول المقدار، أو مجهول الجنس، أو مجهول الصفة، أو قبضه مجهول؛ إما لكونه بيد غاصب لا يقدر عليه، وإما لكونه بيع إلى أجل مجهول، أو بيع الخمر أو ابتياعه: فالبيع في ذلك كله مردود على القيام، ويمضي مع الفوات بالقيمة. وأما ما يرجع فساده إلى حال المتعاقدين؛ كبيع العبد السفيه، وبيع

الفضول: فذلك موقوف على إجازة من له الولاية والتصرف مع القيام اتفاقًا، ومع الفوات على الخلاف؛ لما في ذلك من فسخ القيمة بالثمن فصار الربا إن كان الثمن عينًا، وفسخ الدين في الدين إن كان الثمن عرضًا. وإن كان مؤجلًا دخله الشراء بالقيمة، وذلك غرر وخطر؛ لأنه مخير بين أخذ القيمة أو الثمن على قول، وقد يختار القيمة أولًا، ثم يفسخها في الثمن ثانيًا. وأما ما يرجع فساده إلى شروط اقترنت به: فذلك على أربعة أوجه: منها ما يبطل البيع، والشرط معًا. ومنها ما يصح فيه البيع والشرط معًا. ومنها ما يصح فيه البيع، ويبطل الشرط. ومنها ما يمنع فيه البيع والشرط، إلا أن يسقط مشترط الشرط شرطه. فأما ما يبطل فيه البيع والشرط معًا: فهو ما يؤول فيه الشرط إلى الغرر في الثمن أو المثمون: يفسخ مع القيام، ويمضي بالقيمة مع الفوات ما بلغت، ولا إشكال في ذلك. فأما ما يجوز فيه البيع والشرط جميعًا؛ مثل أن يبيع دارًا ويستثنى سكناها سنة، أو باع دابة واستثنى ركوبها يومًا أو يومين أو ثلاثة. فأما ما يجوز فيه البيع ويبطل الشرط؛ مثل أن يبيع منه سلعة على أنه إن لم يأته بالثمن إلى أجل كذا فلا بيع بينهما: فقال مالك: البيع جائز، والشرط باطل. وأما ما يبطل فيه البيع والشرط، إلا أن يسقط مشترط الشرط شرطه؛ مثل أن يبيعه سلعة على أن يسلفه، أو على أن يتخذها أمّ ولد إن كانت

أمة، أو على ألا يهب ولا يبيع: فمشهور المذهب أن البيع جائز، والشرط باطل إذا أسقط من له الشرط شرطه. وهذه الوجوه كلها في "المدونة" منصوصة، وعلى هذا التنزيل يصح استعمال الأحاديث الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك أنه روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع أحاديث: حديث جابر بن عبد الله قال: "ابتاع مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرًا واشترط [عليَّ] (¬1) ظهره إلى المدينة" (¬2) والحديث صحيح، خرجه أئمة الصحاح. وبهذا الحديث أخذ من جوز البيع والشرط جملة بلا تفصيل، وهو ابن شبرمة. والحديث الثاني: حديث بريرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل شرط ليس في كتاب الله - عز وجل - فهو باطل ولو كان مائة شرط" (¬3). والحديث متفق على صحته، وبه قال ابن أبي ليلى أن البيع جائز، والشرط باطل في جميع بياعات الشروط. والحديث الثالث: ما روي عن أبي حنيفة أنه روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن بيع وشرط" (¬4). وبه قال الشافعي وأبو حنيفة في بطلان بياعات الشروط عمومًا. ¬

_ (¬1) في أ: إليَّ. (¬2) أخرجه البخاري (2185) ومسلم (715). (¬3) أخرجه البخاري (1477) ومسلم (1504). (¬4) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (4361) من طريق أبي حنيفة، وأخرجه النسائي (4629) من طريق حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله.

والحديث الرابع: ما خرجه أبو داود عن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل بيع وسلف، ولا يجوز شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن" (¬1). وبهذا الحديث قال من جوز البيع مع شرط واحد، ولم يجزه مع الشرطين، وهو أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - فتعارضت مذاهب الفقهاء لتعارض هذه الأحاديث. وأما مالك - رضي الله عنه - فقد استعمل الأحاديث كلها، على ما قدمناه وفصلناه أي تفصيل. واستعمل الأحاديث مع القدرة على ذلك أولى بالترجيح؛ لأن الترجيح إلغاء كلام صاحب الشرع، ولا سبيل إلى تركه مع إمكان استعماله، وبهذا وأمثاله رأي أصحابه أن مذهبه أولى المذاهب، وهو بها أقوم قيلًا، وأهدى إلى الحق سبيلًا، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3504) والترمذي (1234) والنسائي (4611) وأحمد (6671) من حديث أيوب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.

المسألة الثالثة في البيع الفاسد هل ينقل الملك؟

المسألة الثالثة في البيع الفاسد هل ينقل الملك؟ فذهب الشافعي إلى أن البيع الفاسد لا ينقل الملك، ولا يغير شبهة ملك، لا مع القيام ولا مع الفوات، وأن حكمه: الرد على كل حال. ومذهب أبي حنيفة في ذلك كمذهب مالك - رضي الله عنهما - ونحن نذكره إن شاء الله تعالى. ولا خلاف في البيع أن البيع الفاسد لا ينقل الملك مع القيام وقبل القبض. واختلف هل يفيد شبهة الملك أم لا؟ واختلف القائلون بأنه يفيد شبهة الملك هل يفيدها بالعقد أو بالقبض؟ وفائدة ذلك وثمرته: إذا تصرف المشتري في المبيع بما يكون فواته وهو في يد البائع، هل يكون ذلك فوتًا يوجب القيمة على المشتري وإن لم يقبضها على قولين قائمين من "المدونة" من "كتاب العيوب"، وهما منصوصان في المذهب. أحدهما: أنه [يفيتها] (¬1) بالعقد، وهو قوله في "كتاب العيوب" إذا تصرف بها قبل أن يقبضها أن القيمة تجب عليه، والبيع كالصدقة. والثاني: أن تفويته [لا] (¬2) يكون فوتًا إلا بعد القبض، وهو ظاهر قوله في "كتاب العيوب"؛ حيث جوز البيع إذا كان المشتري الأول قد قبضها، فظاهر هذا أنه إذا لم يقبضها لا يكون تصدقه فوتًا. ¬

_ (¬1) في أ: يفيدها. (¬2) سقط من أ.

واختلفوا في العتق قبل القبض على قولين: أحدهما: أنه يكون فوتًا، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا يكون فوتًا، لأنه أعتق ما في ضمان غيره، وهو قول أشهب. واختلف في نقد الثمن، أو التمكن من قبض السلعة وإن لم ينقد الثمن هل يكون ذلك كقبض السلعة وتدخل في ضمان المشتري بذلك على قولين: أحدهما: أنه بالنقد أو التمكن تدخل في ضمانه، وهو قول أشهب وابن القاسم يخالفه في ذلك. فإن قبضها فلا تخلو من أن تكون قائمة، أو فائتة. فإن كانت قائمة بيد المشتري: فلا يخلو فساده من أن يكون متفقًا عليه، أو مختلفًا فيه. فإن كان فساده متفقًا عليه هل يرد البيع أو يمضي؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يرد البيع مع القيام، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه يمضي بالقبض والرد استحسان، وهو قول محمَّد بن مسلمة. وعلى القول بأن الرد واجب مع القيام، فهل يجوز فيها تصرف البائع وهي في يد المشتري؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن تصرفه فيها جائز بالعتق وغيره، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الصدقة" من "المدونة" قال: إن البيع الفاسد إذا فسخ فإنما يرجع العبد إلى البائع على الملك الأول.

والثاني: أن تصرف البائع في السلعة بعدما قبضها المشتري غير نافذ؛ لأنه تصرف لما هو في ضمان المشتري وهو قول أشهب. وينبني الخلاف: على الخلاف في البيع الفاسد هل يفيد شبهة الملك للمشتري بعد القبض وقبل الفوات، أو إنما يفيد الملك؟ فعلى القول بأنه يفيد الملك: فلا يجوز تصرف البائع؛ لأنه تصرف فيما هو في ملك غيره، وهو قول أشهب في هذه المسألة، وهو جنوح إلى مذهب محمَّد بن مسلمة الذي يقول: الرد بعد القبض استحسان. وعلى القول بأنه يفيد شبهة الملك: فإنه يجوز تصرف البائع والمشتري، فمن سبق منهما بالتصرف كان فعله ماضيًا. وإن كان فساده فسادًا مختلفًا: فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بالعقد تدخل في ضمان المشتري. والثاني: أنها لا تدخل في ضمانه إلا بالقبض. فعلى هذين القولين: لا يجوز فيها تصرف البائع؛ إما بعد العقد على قول، وإما بعد القبض على آخر. والثالث: أنها لا تدخل في ضمانه إلا بعد الفوت. وعلى القول بأنها لا تدخل في ضمانه إلا بالفوات، فإذا فاتته بعد القبض، فما الذي يجب فيها؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المشتري يضمنها بالثمن. والثاني: أنه يضمنها بالقيمة. وإن كان فساده فسادًا متفقًا عليه، هل يدخل في ضمان المشتري ويفيده

ذلك البيع ملكًا تامًا أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: يفيده الملك التام، وهو مشهور المذهب. والثاني: التفصيل بين الربا وغيره؛ فيفيد الملك فيما عدا الربا بعد الفوت، والربا يرد على كل حال -تغيرت السلعة أو لم تتغير- وهي رواية ابن وهب عن مالك. والثالث: أنه لا يفيد الملك، وأن ذلك لا يخرج الملك من ضمان بائعة، وأن حكمه في يد المشتري حكم الرهن فيما لا يغاب عليه الضمان فيه من البائع، إلا أن يكون التلف بسبب المشتري. وما يغاب عليه: فالضمان فيه من المشتري إلا أن يقيم بينة على الضياع بغير سببه، وهو مذهب سحنون. فإذا ثبت بالفوات الموجب للقيمة على مشهور المذهب يختلف باختلاف المبيعات. ولا خلاف في المذهب أن حوالة الأسواق فيما سوى الدور والأرضين والمكيل والموزون من سائر العروض والحيوان فوت يوجب القيمة على المشتري. واختلف في الدور والأرضين على قولين: أحدهما: أن حوالة الأسواق فيهما ليست بفوت، وهو مذهب "المدونة" وهو مشهور المذهب. والثاني: أنها فوت فيهما، وهو قول أشهب، ومحمد بن عبد الحكم.

وفي المكيل والموزون قولان: أحدهما: أن حوالة الأسواق ليست بفوت -لا مع بقاء عينة ولا مع ذهابه- وأنه لا يفيته وجه من وجوه الفوت؛ لأن مثله يقوم مقامه، وهو مذهب المدونة، وهو المشهور في النقل. والثاني: أن حوالة الأسواق فيه فوت، وهو قول ابن وهب وغيره من الأصحاب، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق التونسي وغيره من حذاق المتأخرين، وهو الأظهر في النظر؛ لأن وجود المثل كقيام العين في الفوت؛ لأن العلة التي علل بها مالك -رحمه الله- في وجوب الضمان بحوالة الأسواق وهو موجود في المكيل والموزون؛ وذلك أن الضرر يدخل على أحدهما في المكيل والموزون، كما يدخل عليه في العروض، وذلك الضرر هو الزيادة في القيمة أو النقصان منها والعلة شاملة للجميع. وأما إن باعها قبل الرد بيعًا صحيحًا، فهل يكون فوتًا؟ فلا يخلو من أن يبيع بعد العلم بفساد البيع، أو قبل أن يعلم. فإن باع بعد العلم بالفساد: فلا يفيد ذلك البيع الفاسد باتفاق المذهب، ويؤخذ من المدونة من مسألة السيف المحلَّى في "كتاب الصرف". فإن باعها ولم يعلم بفساد البيع: فالبيع يكون فواتًا ما لم يشترها بعد بيعه إياها وهي قائمة ما لم تفت، ولا تغيرت عن حالها. فإن تغيرت: فالقيمة قد وجبت ببيعه. فإن لم تتغير فهل ترد السلعة ويفسخ البيع الأول، أو يكون بيعه إياها فوتًا؟

فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أن البيع الأول مفسوخ، والبيع الثاني كأنه لم يكن، وكأنها لم تخرج من ملكه منذ اشتراها، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن القيمة قد وجبت بعد البيع الثاني، ويكون فواتًا, ولا ينظر إلى ما حدث بعد ذلك من الشراء، وهو قول أشهب في "المدونة". ويلزم ابن القاسم أن يقول مثل قول أشهب من مسألة الهبة، وقد قال في "كتاب الهبات": إذا وهبها على ثواب، ثم باعها الموهوب له، ثم اشتراها فأراد ردها على الواهب، وهي قائمة لم تفت: فقال ابن القاسم: تلزمه قيمة الهبة، ولا رد له وإن عادت إلى ملكه على صفاتها. ويلزم من ظاهر قوله في حوالة الأسواق أيضًا إذا عادت إلى مثل سوقها الأول قبل أن يحكم عليه بالقيمة أن يردها، كما قال في البيع؛ إذ لا فرق بينهما في المعنى. فيتخرج من المدونة في البيع قولان، وفي حوالة الأسواق قولان، وفي الهبة قولان، غير أن قوله في مسألة الهبة أظهر؛ فإن المعتبر في الهبة هي ما يعد منه رضا بالثواب، فإذا صرح به، أو فعل في الهبة فعلًا يعمل على الرضا بالقبول: لزمه العوض، بخلاف البيع الفاسد الذي هو حق لله تعالى، ولا يتوقف فيه الفسخ على رضا المتبايعين. وأما حوالة الأسواق: فذلك فيها لازم، وقد خرق، بعض المتأخرين بينها وبين مسألة البيع بفرق لا يبدئ ولا يعيد، وقال: الفرق بينهما أن السلعة في البيع الثاني قد عادت إلى الملك الأول فكأنها لم تخرج منه،

والسلعة في حوالة الأسواق لم تعد إلى أسواقها الأول، وإنما عادت إلى مثلها، وأما السوق الأولى فقد ذهبت وانقضت فلا تعود أبدًا. وما قاله صحيح من وجه أن ما مضى من الأزمان لا يعود بحال، ويلزمه في الملك مثل ذلك؛ لأن الملك الأول غير الثاني، والعهدة تتعدد بتعدد الملك، كان من شخص أو أشخاص، وذلك لازم لابن القاسم لزوم القرط للأذن. والحمد لله وحده.

المسألة الرابعة في شراء القصيل

المسألة الرابعة في شراء القَصِيل (¬1) ولا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون القصيل في حد لا يقع به الانتفاع. والثاني: أن يبلغ حدًا يقع به الانتفاع لصغره فهل يجوز البيع أم لا؟ يتخرج على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز، وهو ظاهر قوله في "كتاب بيع الغرر" وفي "كتاب الشفعة"؛ حيث جوز شراء [...] (¬2). والثاني: المنع، وهو ظاهر قوله في "كتاب بيع الغرر" أيضًا؛ حيث قال: لا يجوز أن يبيع عشرة أذرع في الهواء فوق عشرة أذرع من هواء فوق سطح رجل، وهو نص قوله في "كتاب البيوع الفاسدة". وسبب الخلاف: ما يجوز تملكه والانتفاع به هل يجوز بيعه أم لا. فأما إذا بلغ حدًا يقع به الانتفاع، فلا يخلو من وجهين: إما أن يشتري الرأس بانفراده، أو اشترى واشترط الخلفة. فإن المشترى الرأس بانفراده: فلا يخلو من أن يشتريه على الجز، أو على التأخير. فإن اشتراه على الجز فتحبب قبل الفراغ من قصله، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) هو ما اقتصل من الزرع أخضر. (¬2) غير واضحة بالأصل.

إما أن يكون ذلك منه على معنى الغلبة والإضرار؛ مثل أن يشرع في قصله فلم يفرغ منه حتى غلبه الحب: فالبيع مفسوخ بينهما فيما تحبب. فإن كان ذلك على معنى الترفه والاختيار؛ مثل أن يشغله المشتري وخشي ألا يسعفه البائع بالإقالة إن طلبها فالتمس حيلة يفسخ بها البيع عن نفسه فتوانى في قصله حتى تحبب، هل يلزمه البيع، أو يفسخ؟ قولان منصوصان في المذهب: أحدهما: أن البيع مفسوخ. والثاني: أن البيع نافذ. والقولان عن مالك في "العتبية" و"الموازية". وسبب الخلاف: السبب في اكتساب أمر يؤثر في بطلان العقد الواقع على نعت اللزوم والانبرام هل يعاقب بنقيض مقصوده فيوفر على العقد ما يقتضيه حين وقوعه، أو يناط الحكم بمآله وعاقبته؟ وأما إذا أبهم الأمر، وجهل السبب الموجب للتراخي إلى أن تحبب: فالبيع مفسوخ كما لو علم السبب وكان اضطرارًا. وأما إن اشتراه على التأخير، فإن كان تأخيرًا يسيرًا لا منفعة فيه للمشتري ولا مضرة على البائع: فالبيع جائز، والشرط باطل، ويؤمر بالشروع في الرعي والجز. فإن اشترط تأخيرًا تحصل به المنفعة للمشتري؛ مثل أن يقصد بذلك زيادة التسور، أو يقصد بذلك مضرة البائع؛ كاشتراط التأخير إلى مدة يتحبب فيها القصيل: فالبيع باطل بالاتفاق. فإن اشتراه واشترط الخلفة في عقد واحد، أو اشترى الخلفة في عقد

آخر قبل الشروع في الجز، أو بعده، وقبل الفراغ منه، فهل يجوز هذا البيع أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو نصه في المدونة. والثاني: المنع، وهو ظاهر المدونة من غير ما موضع، وهو ظاهر قوله في "كتاب محمد". وسبب الخلاف: اختلافهم في المتبوعات هل تراعى، أو لا تراعى. وعلى القول بجواز البيع، فإذا شرع في جز الرأس، وغلبه الحب قبل الفراغ: فلا يخلو ذلك من أن يكون في الرأس، أو في الخلفة بعد أن جز الرأس. فإن كان ذلك في الرأس: فلا يخلو ما تحبب من أن يكون متميزًا، أو مخلطًا. فإن كان متميزًا: فالبيع منتقض في ذلك القدر، ويسقط على المشتري ما ينوبه من الثمن، ويعرف ذلك بالقباس والدرع إن تساوى في الجودة والدناءة، والخفة والالتفاف من غير اعتبار بالخلفة. فإن كان مما تحبب مختلطًا في القصيل غير متميز: فالبيع مفسوخ في الجميع. فأما إذا جز الرأس جميعه، ثم تحبب الخلفة أو بعضها: فلابد من التقويم في هذا الوجه حتى يعرف القدر الذي يسقط عن المشتري من الثمن، ثم يقوم الرأس على ما عهد من تشاحح الناس فيه وحرصهم عليه في أوله، وتقوم الخلفة في زمانها على ما هي عليه من قلة الرغبة فيها واستغناء أكثر

الناس عنها إما لكثرة العشب، أو لاتساع الناس، إما لقلة منفعة القصيل للدواب حينئذ، ولا يلتفت إلى غرة ونبات الخلفة، ولا إلى التفافها، وإنما الاعتبار فيها بالقيمة؛ فإن كانت قيمة الرأس الثلثين، وقيمة الخلفة الثلث: وضع عن المشتري ثلث الثمن؛ مثل أن يشتري ثانيًا عشر دينارًا الرأس والخلفة جميعًا، فوجدنا قيمة الرأس في زمانه عشرة دنانير، والخلفة قيمتها في زمانها خمسة دنانير، فقد علمت أن الخلفة الثلث فيسقط الثمن على ذلك، ويسقط عن المشتري الثلث، وكذلك الحكم فيما قلَّ من الأجزاء أو أكثر، وعلى هذا يحسب. والحمد لله وحده.

المسألة الخامسة في شراء العبد بشرط العتق

المسألة الخامسة في شراء العبد بشرط العتق وشراء العبد بشرط العتق جائز عند مالك وجميع أصحابه، خلافًا لأبي حنيفة؛ فإن ذلك لا يجوز عنده؛ لأن مقتضى العقد التصرف الدائم، وهذا الشرط يصادمه. وهذا الذي احتج به الحنفي لا يؤثر. وإذا سلمت أركان العقد ولواحقه فلا يحتفل بما عدا ذلك. والأركان في هذه القصور مسالمة له من موجبات الفساد، واللواحق كذلك. ومن اللواحق اشتراط البائع العتق على المشتري؛ إذ ليس في ذلك أكثر من أن البائع وضعه يده عن عبده ولأجل ذلك الشرط، ولا غرر في ذلك. ثم لا يخلو شرطه من أربعة أوجه: أحدها: أن يبيعه على أنه حر. والثاني: أن يبيعه على أن [المشتري] (¬1) يعتقه. والثالث: أن يبيعه على أن المشتري بالخيار في العتق المشترط عليه. والرابع: أن يشترط البائع العتق من غير أن يقيده بإيجاب أو خيار. فالجواب عن الوجه الأول: إذا باعه على أنه حر: فالعبد حر بنفس الشراء، ولا خيار في ذلك للمشتري، ولا يحتاج إلى تحديد عتق، وأنه إن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

مات بفور العقد: مات حرًا يورث ويرث، ولا خلاف في ذلك في المذهب. والجواب عن الوجه الثاني: إذا باعه على أنه يعتقه المشترى: فإنه لا يعتق بنفس الشراء في هذا الوجه، وإنما يعتق بعتق جديد، لكن المشتري يجبر على العتق؛ لأنه على إيجاب العتق اشترى، فإما أعتقه، وإلا أعتقه عليه السلطان. والنقد في هذين الوجهين جائز بشرط وبغير شرط. والجواب عن الوجه الثالث: إذا باعه على أن المشتري بالخيار في العتق المشترط عليه؛ فإن اشترط البائع النقد: فالبيع مفسوخ؛ لأن الثمن متردد بين البيع والسلف. فإن لم يشترط النقد: فالبيع جائز، وللمشتري الخيار مقدار ما يستخير فيه ويستشير؛ كما لو اشتراه بالخيار من غير شرط العتق. والجواب عن الوجه الرابع: إذا اشترى بشرط العتق مطلقًا من غير تقييد بإيجاب ولا خيار، هل الحكم يوجب الخيار للمشتري في عتقه كما لو اشترطه، أو يحكم عليه بعتقه؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الخيار في ذلك للمشتري؛ فإن شاء أعتق وإن شاء ترك، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يجبر على العتق، ويحكم عليه به؛ كما لو اشتراه على إيجاب العتق، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: إطلاق الشرط هل يقتضي إيجاب العتق على المشتري ولابد من القرينة إما لفظية أو حكمية؟

وعلى القول بأن الشرط لا يقتضي إيجاب العتق وأن ذلك يرجع إلى خيرة المشتري فلا يخلو العبد من أن يكون قائمًا، أو فائتًا. فإن كان قائمًا: فلا يخلو من أن يقوم عليه البائع شرطه في القرب أو بعد طول وتراخ. فإن قام عليه بالقرب: فالخيار للمشتري؛ إما أن يعفو أو يترك، فإن أعتق: فقد تم المراد، فإن أبى: رجع الخيار إلى البائع؛ إما أن يترك الشرط فيبقى البيع بينهما، أو يلح على حقه فيفسخ البيع ويرجع إليه عبده، والنقد لا يجوز في هذا الوجه بشرط أيضًا كما لو كان نطقًا. فإن قام عليه البائع بعد طول أو تراخ: فلا حجة للبائع، لا في عتق، ولا فيما وضع لأجل الشرط، ويُعدُّ السكوت منه رضًا بترك مقتضى الشرط. فإن فات العبد: فلا يخلو فواته من أن يكون فوات عين، أو فواتًا يرجع إلى الذات، أو فواتًا يرجع إلى الصفة. فإن كان فوات عين: فلا يخلو من أن يموت بقرب البيع، أو بعد طول وتراخ. فإن مات بقرب البيع: فالضمان من المشتري؛ لأنه على القبول حتى يرده، ولا شيء عليه للبائع مما وضع من الثمن لأجل الشرط؛ لأن التفريط في العتق لم يكن من جهة المشتري. فإن فات بعد طول وتراخ: فلا يخلو البائع من أن يكون عالمًا بفعل المشتري، أو غير عالم. فإن كان عالمًا: فلا شيء عليه للبائع من الحطيطة؛ لأن ترك المطالبة من البائع بمقتضى الشرط يؤذن بإسقاطه.

فإن لم يعلم: فله الرجوع عليه بما حط من الثمن. فإن كان فواتًا يرجع إلى نقصان الذات؛ كقطع يد، أو فقء عين، أو ما في معناه، فإن حدث ذلك بقرب البيع: فالخيار في ذلك للمشتري بين أن يعتقه معيبًا، ثم لا شيء عليه للبائع، أو لا يعتقه ويغرم الحطيطة للبائع. فإن حدث ذلك بعد طول، فإن علم البائع بأن المشتري أخل بشرط: فلا شيء له عليه، فإن لم يعلم: فالخيار له بين أن يرضى بعتق المشتري على تلك الحالة، ثم لا شيء له عليه، أو يرجع عليه بما وضع من الثمن، ويكون العبد رقيقًا للمشتري. فإن كان فواتًا يرجع إلى الصفة بحوالة سوق بعد طول وتراخ هل هو فوت، أو ليس بفوت؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه فوت، وهو قوله في "كتاب ابن الموَّاز"، وفي "واضحة" ابن حبيب. والثاني: أنه ليس بفوت، وهو قول أصبغ. وفائدة ذلك: أنا إذا قلنا: إن حوالة الأسواق فوت: فلا شيء للبائع على المشتري من وضيعة الثمن مع علمه بما فعل، فإن لم يعلم: فله عليه الرجوع بمقدار ما وضع من الثمن. فإن قلنا: إن حوالة الأسواق ليست بفوت: فإن الخيار يرجع إلى المشتري بين أن يعتق ولا شيء عليه للبائع، أو يرد العبد، إلا أن يشاء البائع أن يسقط شرطه فيكون البيع لازم للمشتري، ويكون ذلك له. ومن مات من المتبايعين فورثته يقومون مقامه، وهذا إذا اشتراه بشرط العتق الناجز.

وأما إذا اشتراه بشرط العتق المؤجل؛ إما الكتابة، أو التدبير، أو إيجاد أمّ ولد، أو عتق إلى أجل: فهذا البيع باطل ولا يجوز؛ لأن البائع وضع لأمر يكون أو لا يكون، وذلك غرر وخطر، وحكمه حكم البيع الفاسد فيما يقع به الفوات من حوالة الأسواق وغيرها. واختلف إذا أسقط البائع شرطه هل يجوز على ما قدمناه من الخلاف والتفصيل في مسألة البيع والسلف حرفًا حرفًا في القيام والفوات. والحمد لله وحده.

المسألة السادسة في بيع المواشي العادية

المسألة السادسة في بيع المواشي العَادِيّة اعلم أن الحيوانات تنقسم إلى مطبوع على العدوان محمول على الطغيان، وإلى ما هو محمود الأخلاق وقليل الانقلاب عند الإطلاق من القيد والوثاق. فما كان منها مطبوعًا على الانفلات والشراد ضاربًا بالفساد: فأربابها مخيرون بين أن يحبسوها ويكفوا إذايتها عن العباد، وإلا بيعت عليهم وغربت في البلاد بحيث لا زرع ولا حصاد، ولا حائط ولا جدار بعد التبيان للمشتري عند البيع أنه يصول وصوره يطول على الفساد مجبول، والدليل الدال على العربية معقول ومنقول، فقاس العلماء على هذه المسألة رجلًا شريرًا إذا سكن بين القوم، وكان يؤذيهم في أموالهم وعيالهم إما بيده أو بإطلاق لسانه بالطعن في أعراضهم والسير في أشرافهم، أو كان رجلًا معيانًا وصافًا يؤذي الجيران في مواشيهم وسائر أموالهم، ولا تكاد عينه [تقع] (¬1) على شيء إلا أهلكته وأمرضته، فحكموا فيمن هذه سيرته وصفته أن تباع أرضه وداره، أو يكرى عليه ويغرب بين أظهر الجيران، أو ينفي عن محلتهم، فكان ذلك واجبًا على الإمام أن يدفع عنهم ضرره، ويكفيهم مؤنة أذيته. فإن لم يكن هناك سلطان، فالجماعة العادلة تقوم مقامه. وقد نص صاحب الشرع نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - على ما ظهرت منه الروائح الكريهة أنه لا يقرب المساجد لأجل إذاية المصلين برائحته، فحكم - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بسقوط حقه من المسجد الذي هو شركه لسائر المسلمين، ومنعه من إتيانه مع عموم الأمر بعمارة المساجد، والوعيد الشديد من العزيز الحميد لمن سعى في خراب المساجد، وتصدى بصد القاصدين إلى هذه المشاهد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفسرًا لمجمل القرآن، ومخصصًا لعموم الفرقان على حسب ما أمر في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬1) فحكمه حكم المتبع. فمهما قال أو فعل أو أقر ما فُعل أو قيل بين يديه، وجب امتثال ذلك علينا والعمل بمقتضاه، فإذا حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع حق امرئ مسلم بسبب فعل مباح، وأكل بقلة لا حرج عليه في أكلها, ولا إثم في الإلمام بها لكونها حلالًا طيبًا، والله تعالى يقول: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (¬2) غير أن ذلك الأكل والفعل يتضمن إذاية المؤمنين في المساجد، فبأن يحكم على من عدى على أهل محلته باللسان وأساء إليهم في المعاشرة والجوار مع عموم الأزمان ببيع ريعه وعقاره، أو إكرائه ويغربه عن وطنه، وينفي عن مسقط رأسه أولى وأحق؛ كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفاطمة بنت قيس حين أسقط لها السكنى من بيت زوجها، وأمرها أن تعتد عند ابن أم مكتوم، على ما قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه من أنها كانت امرأة سيئة تؤذي أحماءها بلسانها، فأسقط الحق الواجب بالكتاب المبين لأجل ما ظهر منها من البذاء المهين، وإذاية المؤمنين، فحرمه بالإجماع وهو أظهر من أن نطنب فيها بإيراد الأدلة. والجواب عن الوجه الثاني من الحيوان: وهو ما كان منها محمود الأخلاق، وقليل الانفلات والانطلاق: فهذا الوجه هو الذي ورد فيه الحكم ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية (44). (¬2) سورة المؤمنون الآية (51).

عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناقة البراء بن عازب أن ما أفسدت المواشي بالليل: فعلى أربابها، وما أفسدت بالنهار: فلا شيء عليهم (¬1). إلا أن هذه القضية لا تحمل على ظاهرها, ولابد من تقييد إطلاقها وتخصيص عمومها ولا شك أن حذاق متأخري مذهب مالك خصصوا هذا العموم بالقياس، وتأولوه تأويلًا يعود بالمصلحة على عامة الناس، وقالوا: معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أفسدت بالنهار فلا شيء على أربابها: إنما ذلك إذا [شيعها] (¬2) أهلها حتى وصلت إلى الصحراء، وأخرجوها من بين البساتين والمزارع فتركوها حتى يغلب على الظن أنها لا تصل إلى الفساد، فهذا الذي أراد - صلى الله عليه وسلم - بإسقاط الضمان عن أصحابها إن هي هامت على وجهها حتى وقعت في حائط أو زرع. وأما إذا تركوها ترعى بين الأجنة أو قربها بغير راعٍ، وانقلبوا إلى بيوتهم: فلا شك أن أصحابها ضامنون ما أفسدت بلا شك ولا إشكال. فإن كان معها رعاة فهم ضامنون، سواء رعوا بأجر أو بغير أجر. وإن كان الراعي عبدًا مملوكًا، أو صبيًا صغيرًا: فذلك منهما جناية، ويخير سيد العبد بين أن يفديه أو يسلمه. والصبي غير البالغ يكون ذلك في ذمة من استرعاه، أو في ماله هو وإن كان هو المخترع لذلك من [غير] (¬3) أن يلقنه أحد. وأما ما أفسدته بالليل: فلا يخلو من أن يكون ذلك بتفريط وتضييع من ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1435) وابن ماجه (2332) وأحمد (23741) والدارقطني (3/ 156) والبيهقي في "الكبرى" (17066)، من طرق، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬2) في أ: شيعوها. (¬3) سقط من أ.

أربابها أم لا؟ فإن كان ذلك بتفريط؛ مثل أن يطلقوها بالليل ترعى، وأهملوا أمرها، ولم يحتفظوا على صيانتها: منهم ضامنون لما أفسدت، ولا خلاف في ذلك. وإن حبسوها وقيدوها وصانوها، ثم انفلتت وأفسدت: فلا ضمان عليهم؛ لأنهم فعلوا غاية المقدور، وذلك خيار ساقط عن درجة الاعتبار. وعلى الوجه الذي يكون فيه الضمان فيما أفسدت، ما الذي يُضمن؟ فذلك يختلف باختلاف ما أفسدت؛ فإن أفسدت زرعًا أو عدا فدلواه الجرين، فعلى أربابها غرم الملكية إن عرفت، أو القيمة إن جهلت. فإن أفسدت ذلك قائمًا، أو أفسدت بقلًا، أو قرطًا، أو قصبًا. فأما البقول والقرط والقصب: فإنه ينظر، فإن بلغ أن يزرع فهو كالزرع، والثمر على سواء، فها أنا أتكلم على الحكم فيهما إن شاء الله تعالى. إذا وقع الفساد قبل الإدراك: فإنهما يقومان على الرَّجاء والخوف، يقال: ما يساوي هذا الزرع وهو أخضر لو جاز بيعه على أن يشتري على هذه الصفة، ويسلمه الله تعالى من الآفات والعاهات حتى يحصد، أو يحذ إن كان تمرًا، أو يقطع إن كان عنبًا، ويحصل فيه للمشتري مقصوده ومطلوبه، وتطرأ عليه الآفة والعاهة فيذهب به ويذهب المشتري مجانًا لا ثمنًا ولا مثمونًا، فما قيل إنه بسواه ويشتري على هذه الصفة فذلك الذي يغرمه أرباب المواشي، أو من باشر تلف ذلك بنفسه من بني آدم، ثم ما خرج بعد التقويم والغرم من ذلك الزرع أو الثمر فهو لصاحب الزرع أو الكرم، لصاحب الماشية ولا للجاني عليه. والحمد لله وحده.

المسألة السابعة في بيع الأعيان النجسة

المسألة السابعة في بيع الأعيان النجسة والأصل في تحريم بيعها واستعمالها على الجملة ما خرجه البخاري ومسلم من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخنزير والأصنام"، فقيل يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ويستصبح بها، قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" (¬1). وقال في الخمر: "إن الذي حرم شربها حرم ثمنها" (¬2). فنبه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث على أصل جسيم؛ وذلك أنه أشار إلى المنفعة المقصودة من الخمر وهي الشرب لا أكثر، فإذا حرمت المعاوضة لأن المشتري منعه الشرع من الانتفاع بها كما منع البائع، فإذا بذل ماله في شرائها فهو مضيع للشرع في ترك الانتفاع بها؛ فقد سفه نفسه، وأضل رشده وبدد ماله، وكان ذلك من باب أكل المال بالباطل، فإذا حرم الله الانتفاع بالعين فقد حرم الانتفاع بعوضه، وحرمت المعاوضة عنه، وهذا أصل جليل ومعنى جلي. فإذا ثبت ذلك، فالنجاسات على وجهين: منها ما هو متفق على تحريم بيعها كالخمر، وجميع أجزء الميتة التي تحلها الحياة، والخنزير بجميع أجزائه التي تصل الحياة، على الخلاف في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4357) وأحمد (14512) وابن حبان (4937). (¬2) أخرجه مسلم (1579).

جلده هل يطهره الدباغ أم لا. ومنها ما هو مختلف في جواز بيعه؛ كالزبل والرجيع. فما هو متفق على تحريم بيعه فمتفق على منع استعماله. وما هو مختلف في جواز بيعه فلا يخلو من وجهين: أحدهما: ما تدعو الضرورة إليه في استعماله، ومست الحاجة إلى تناوله. والثاني: ما لا تدعو الضرورة إليه، ولا الحاجة إليه مما تعم به البلوى. فالجواب عن الوجه الأول: وهو ما دعت الحاجة إلى استعماله؛ كالزبل والرجيع، تصلح به البساتين، والمحاقل، والمزارع، كما هو عادة أهل أفريقية -على ما شاهدناه. وأهل البصرة -على ما سمعناه- هل يجوز بيعه على هذه الصفة أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال، كلها قائمة من "المدونة": أحدها: الجواز في الجميع، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "الكتاب"؛ حيث قال: وكره مالك بيع العشرة ليزبل بها الزرع وغيره، فقيل لابن القاسم: وما قول مالك في زبل الدواب؟ قال: لم أسمع منه فيه شيئًا إلا أنه عنده بخس، وإنما كره العذرة لأنها عنده بخس، وكذلك الزبل أيضًا، ولا أرى أنا في بيعه بأسًا. وقال أشهب: المبتاع في زبل الدواب أعذر من البائع. فقال ابن القاسم: الزبل على العذرة بنجاسة الجميع، وسياق قوله ثم أجاز بيع الزبل: دليل على جواز بيعه العذرة عنده. والقول الثاني: المنع عنه في الجميع، وهو ظاهر قول مالك في

"الكتاب" على ما ذكرناه من قول مالك، وابن القاسم وقياسه. والقول الثالث: بالتفصيل بين الزبل والرجيع؛ فيجوز في الزبل، ولا يجوز في الرجيع، وهو قول أشهب في "المدونة"؛ حيث قال: وأما الزبل: فالمبتاع فيه أعذر من البائع، ثم قال: وأما الرجيع: فلا خير فيه. وسبب الخلاف: تخصيص العموم بالعادة والحاجة هل يجوز، أو لا يجوز؟ وهو مما اختلف فيه الأصوليون، واختلافهم في أكل ما نبت من هذه الأزبال والعذرة مبني على اختلافهم في جواز بيعها واستعمالها؛ فمن جوز الاستعمال جوز الأكل، ومن منع: منع. والجواب عن الوجه الثاني: وهو ما لا تدعو الضرورة إلى استعماله؛ كجلد الميتة وعظمها: فأما جلدها: فلا يخلو من أن يستعمل قبل الدباغ، أو بعده. فأما استعماله قبل الدباغ: فلا خلاف في المذهب أنه لا يستعمل في المائعات، واختلف هل يستعمل في اليابسات أم لا على قولين: أحدهما: أنه لا يستعمل أصلًا. والثاني: أنه يستعمل فيها، وأنه يجوز أن يستعمل من الغربال وغيره مما لا رطوبة فيه، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الغصب"؛ حيث جعل على من غصبه واستهلكه قيمته، ووجوب القيمة على غاصبه دليل أن فيه بعض المنافع؛ إذ لا خلاف في المذهب أن من أتلف لرجل ما لا منفعة فيه أصلًا أنه لا ضمان عليه، ويؤخذ من "كتاب القطع في السرقة" أنه لا ينتفع به، وألَّا شيء على من غصبه؛ لأنه قال فيمن سرق جلد ميتة بعد الدباغ أنه يقطع إن شاؤوا ما فيه من الدباغ ثلاثة دراهم. وأما استعماله بعد الدباغ: فلا خلاف في المذهب أنه يستعمل في

اليابسات، وهل يستعمل في المائعات أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يستعمل في كل مائع، وهو المشهور في النظر. والثاني: أنه لا يستعمل إلا في الماء خاصة، وهذا ضعيف؛ فإذا جاز استعماله في الماء فبأن يجوز فيما عداه من سائر المائعات أولى؛ لأن الماء لطيف الجوهرية، يغوص ويداخل الأوعية، ويمازج رطوبة الطروف بخلاف سائر المائعات فإنها غليظة الجوهرية، ثخينة الجسمية، لا تنفذ منافذ الماء، فلو عكس الجواب لكان أولى. وغاية ما عللوا به في الماء أن قالوا: إن الماء يدفع عن نفسه دون سائر المائعات، وهذا الذي قالوه إنما يصح إذا كان الماء كثيرًا بحيث يغلب ولا يغلب عليه في نفسه دون اعتبار جنسه. وسبب الخلاف: تعارض الأخبار؛ فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ذكاة الأديم دباغه" (¬2). وحديث سودة: "ماتت شاة لنا فدبغنا مسكها، ثم ما زلنا ننتبذ فيه حتى صار شنًا" (¬3)، وهذا أخرجه البخاري. ويعارضه آخر؛ وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1728) والنسائي (4241) وابن ماجه (3609) من حديث ابن عباس، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله. (¬2) أخرجه أحمد (15949) وابن حبان (4522) وهو صحيح. (¬3) أخرجه البخاري (6308).

عصب" (¬1). وفي حديث: "لا تنتفعوا من الميتة بشيء" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم - في شاة ميمونة: "وهلّا انتفعتم بجلدها" (¬3). فاختلف العلماء باختلاف هذه الأحاديث. وأما بيعه بعد الدباغ: فقد اختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أن البيع لا يجوز، وهو مشهور المذهب. والثاني: أن بيعه جائز، وهي رواية ابن وهب، وابن الحكم عن مالك، وهو الأظهر في النظر. وأما استعمال عظامها: إما للتجمل كاتخاذ الأمشاط والمداهن، وإما للوقيد: فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: المنع، وهو مذهب المدونة، وقال: كيف يمشط لحيته وهي مبلولة بعظام الميتة. والثاني: الجواز، وهو قول ابن الماجشون وأصبغ؛ فإنهما قالا: تجوز الأمشاط بمشطها، والأدهان بمداهنها. والقول الثالث: بالتفصيل بين أن تغسل أم لا؛ فإن غسلت بالماء الحار: فإنها طاهرة يجوز استعمالها، وإن لم تغسل هو قول ابن وهب. وأما استعمالها للوقود والطبخ: فلا يخلو من أن يكون ذلك فيما يلاقيه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والترمذي (1729) والنسائي (4249) وابن ماجه (3613) وصححه الشيخ الألباني رحمه الله. (¬2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (4575) بذكر لفظة: شيء. (¬3) أخرجه البخاري (1421) ومسلم (363).

دون حائل فلا يخلو ما طبخ عليه من أن يكون مما له رطوبة؛ كخبز طبخ عليها، أو لحم سوى عليها في حال إيقادها: فإن ذلك لا يؤكل باتفاق؛ لأن الدهنية لابد لها من أن تخرج من الطعام عند احتراقها، والخبر واللحم موضوع عليها، وأجزاء الدهنية داخلتها ومازجتها من كل يد: فذلك حرام لا شك فيه. فإن طبخ على جمرها بعد سكون لهيبها، وانطفاء تأججها فهل تحل لكل ما طبخ عليها؟. فالمذهب على قولين: الجواز، والمنع. وينبني الخلاف: على الخلاف في الأعيان المنقلبة، هل ينقلب الحكم بانقلابها أم لا. فإن طبخ عليها ما لا رطوبة له، أو له رطوبة إلا أن النار تنضجه وتداخله ظاهرًا وباطنًا؛ كالفخار والجير والطوب: فقد اختلف المذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن ذلك طاهر، ويستعمل في جميع أنواع الطهارات جملة بلا تفصيل، وهو ظاهر قوله في "كتاب البيوع الفاسدة"؛ حيث قال: ولو طبخ عليها الخبز والطوب؛ فظاهر قوله: طهارة الخبز والطوب المطبوخ على تلك العظام، وأنه يستعمل في بناء المساجد وتجصيصها. ويؤخذ من هذا القول أيضًا: حوز عظام الميتة وتملكها؛ لأنه لا يمكنه أن يطبخ بها الطوب والخبز إلا بعد أن يؤلفها ويجمعها، وذلك ينتج ملكها والانتفاع بها. ومثله قول مالك في "كتاب الوضوء" في العسل النجس حيث جوز أن يعلفها النحل.

والثاني: أن ذلك بخس، وأنها لا تستعمل أصلًا وإن غسل، وهو قول ابن القاسم، وهو ظاهر "المدونة" في مسألة الطعام؛ لأن دهنية الطعام داخلت أجزائها أجزاء الفخار مداخلة لا تطهر بالغسل. والقول الثالث: بالتفصيل بين أن تغسل بعد الطبخ أم لا؟ فإن غسلت: جاز استعمالها، وكانت طاهرة، وغسلها بالماء الحار أن يغلي الماء فيها، وإن لم تغسل فهي نجسة، وهو قول ابن القاسم، وابن شبلون، وهو ظاهر قول مالك في غير ما موضع: بدليل أن ما أصابته النجاسة من الثوب والبدن والآنية وسائر الأشياء أنها تغسل وتكون طاهرة؛ لأن النجاسة لاقت جسمًا طاهرًا فوجب أن يطهره الغسل كسائر الأجسام، وهذا القول أقرب إلى الصواب على سبيل الاحتياط، وهو قول مالك - رحمه الله - في قدور المجوس التي تطبخ فيها الميتة ولحم الخنزير أنها تغسل بغلي الماء فيها، وتكون طاهرة. والقول الرابع: التفصيل بين الفخار الني، واليابس؛ فالفخار الني؛ كالخبز واللحم: فهو نجس. واليابس طاهر، يستعمل، ولا يحتاج إلى غسل. وهو قول أبي عمران الفاسي، وهذا القول أيضًا ظاهر "المدونة" من مسألة الخبز واللحم. وسبب الخلاف بين القولين المتقابلين: مداخلة الدهنية لأجزاء الطوب والفخار، هل يطهره مداخلة أجزاء النار وممازجتها لأجزاء الفخار والطوب أم لا؟ وسبب الخلاف بين القولين المفصلين: اختلافهم في نجاسة هذه الأجسام هل هي نجاسة عينية، أو نجاسة مجاورة؛ فمن رأى أنها نجاسة عينية قال: لا

يطهره الغسل. ومن رأي أنها نجاسة مجاورة قال: يطهره الغسل. وهكذا الخلاف في الزيت النجس هل يطهرها الغسل أم لا؟ وأما استعمالها فيما لا يلاقيها، وبينهما حائل؛ مثل أن يطبخ عليها قدرًا، أو يسخن عليها الماء للعجين أو للوضوء: فإن غطى القدر، وأمن من انعكاس الدخان فيها: فالماء طاهر، والطعام كذلك يؤكل. فإن كان القدر مكشوفًا: فالماء والطعام نجسان، ولا يؤكل الطعام؛ لأن أجزاء الميتة ودهنية الطعام تصعدان مع الدخان، وينعكسان في القدر فيداخلان ما فيه من الطعام والماء. وأما ما يقطر من عرق الحمامات التي يوقد تحتها بالنجاسات: فلا يخلو من يدخلها من أن يكون ممن يتحفظ من البول والنجاسات فيها أم لا. فإن كان ممن يتحفظ من البول والنجاسات فيها: فأصابها ما يقطر من سقوفها طاهر، ولا بأس للنجاسة التي هي وقود للحمام، وخروج الأدخنة خارجًا, ولا مدخل لها في الحمام ولا منفذ. وأما من كان داخلها لا يتحفظ من النجاسات فيه، كما هو معهود من أكثر عوام المسلمين، وعامة المشركين من اليهود والنصارى -لأن عادة أكثر البلاد مشاركتهم إياهم في الحمامات فما احتاض هذه الحمامات نجس والعرق الذي يقطر منها نجس؛ لأن مدار الحمام وبخار الأوساخ تصعد إلى ماء الحمام فينعقد عرقًا، وذلك العرق نجس كدخان النجاسة وبخارها وعلى هذا تحمل أكثر الحمامات. والحمد لله وحده.

المسألة الثامنة على السلعتين في البيع

المسألة الثامنة على السِّلعتين في البيع ولا يخلو ذلك من أن تكون لمالك واحد، أو لملَّاك متعددين فإذا كانت لمالك واحد: فلا خلاف في المذهب في جواز ذلك. وإن كان لملَّاك متعددين: فلا يخلو من أن يسمى لكل سلعة ثمنًا، أو أجملها في ثمن واحد. فإن سمي لكل سلعة ثمنًا: فلا خلاف في الجواز أيضًا لسلامة العقد، وإن كانت من الغرر والجهالة في الحال والمآل، وهو قوله في أول "كتاب النكاح الثالث". وأما إن أجملها بثمن واحد: فالمذهب على ثلاثة أقوال، كلها قائمة من "المدونة". أحدها: الجواز إطلاقًا، وهو قول ابن القاسم، وأشهب في "كتاب البيوع الفاسدة" ولابن القاسم مثله أيضًا في "كتاب التجارة إلى أرض الحرب"، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الشفعة" فيمن اشترى شقصًا أو أشقاصًا، من رجل أو من رجال، في بلدة أو بلدان، وشفيع ذلك كله واحد، وهو قول ابن القاسم في "كتاب البيوع الفاسدة" على ما حكاه سحنون في "المدونة". والثاني: المنع جملة، وهو ما نص عليه ابن القاسم في "كتاب البيوع الفاسدة"، وهو ظاهر قوله في "كتاب النكاح الثالث" أوله، و"كتاب الجعل"، و"كتاب كراء الرواحل والدواب" من "المدونة". والقول الثالث: التفصيل بين أن يعلم المشتري أنها لملَّاك فلا يجوز، أو

لا يعلم فيجوز. وهذا القول مخرج غير منصوص عليه. وينبني الخلاف: على الخلاف في البيع إذا علم أحد المتبايعين بفساده، هل يجوز أو يرد، والقولان في المذهب منصوصان. وسبب الخلاف في أصل المسألة: في اعتبار الحال والمآل؛ فمن اعتبر الحال: قال بجواز البيع، لأن كل واحد منهم لا يدري ما باع به سلعته. ومن اعتبر المآل: قال بالجواز؛ لأن قيمة كل سلعة تدرك بالتقويم؛ لأن الغالب من أحوال التجار إدراك معرفة قيمة السلعة بأدنى تأمل لممارستهم بالتجارة ودرايتهم بأحوال الإدارة؛ لأن العلة في ذلك عند من منع المجهلة في قدر ثمن كل سلعة، والعلة الثانية التي علل بها في الكتاب؛ حيث قال: لأن كل واحد منهما لا يدري ما يطالب به في الاستحقاق. ولا يصح التعليل بها؛ لأن ذلك يلزم في المالك الواحد لوجود ذلك فيه. وللخلاف فيها سبب آخر، وهذا التقدير توظيف الثمن عليها بعد العقد. وعلى القول بأن البيع لا يجوز: فإن السلع ترد ما لم تفت. واختلف بماذا تفوت على قولين: قيل: بحوالة الأسواق فأعلى، وقيل: بالقبض. وعلى القول بأنها تفوت بما يفوت به البيع الفاسد، هل يضمن بالقيمة، أو بالمثل؟ على قولين: وعلى القول بأنه يضمن بالقيمة، هل تقوم كل سلعة على الانفراد،

أو تقوم السلعتان جملة واحدة؟ قولان: وعلى القول بأنه يضمن بالثمن: فإن الثمن يقسم على قيمة السلع ويأخذ كل واحد منهم من الثمن بقدر قيمة سلعته. والحمد لله وحده.

المسألة التاسعة في بيع الأب من ابنه في مرضه

المسألة التاسعة في بيع الأب من ابنه في مرضه وقد قدمنا أن بيع المريض وشراءه جائز ما لم يكن فيه محاباة. ثم لا يخلو بيعه من ولده في مرضه من أن يكون بمحاباة، ولا يخلو من أن يحابيه في الثمن، أو في المثمون. فإن حاباه في الثمن؛ مثل أن يبيع له بالمائة ما يساوي مائتين، فهل للورثة نقض البيع كله أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن للورثة نقض البيع كله؛ لأنه أراد التوبيخ. ولو أتم بقية الثمن الذي حاباه به الأب: فلا كلام للورثة؛ إذ لو باع منه بمثل القيمة فلا حجة لهم. والقولين حكاهما الشيخ أبو إسحاق التونسي. ووجه القول الأول: أن القدر الذي حاباه في الثمن كأنه أوصي له بذلك القدر، فلا يلزم ذلك الورثة، إلا أن يشاؤوا. ووجه القول الثاني: أن حق الورثة فيما بقي من الثمن، فإذا تم فلا حجة لهم. فإن حاباه في المثمون؛ مثل أن يقصد إلى خيار ماله فيبيعه منه بمثل الثمن أو أكثر: فللورثة نقض ذلك ورده ولا خلاف -أعلمه- في المذهب. فإن أوصي أن يشتري عبد ولده، أو يباع عبده من ولده، ولم يسم ثمنًا:

فأما وصيته بشراء عبد ولده للعتق فجائز. واختلف هل يزاد على مثل ثمنه مثل ثلثه إذا أبى الولدان بيعه إلا بالزيادة على قولين: أحدهما: أنه يزاد له كما يزاد للأجنبي. والثاني: أنه لا يجوز له، بخلاف الأجنبي، وهو قول مالك. وسبب الخلاف: هل ذلك وصية للولد: فلا يجوز، أو ذلك وصيته للعبد: فيجوز؟ وأما إن أوصى أن يباع عبده من ولده، وليس بخيار ماله: فلا يخلو من أن يكون ذلك للعتق أو للملك. فإن كان ذلك للملك: جاز، ولا يحط من الثمن شيء، بخلاف الأجنبي؛ لأن ذلك وصيته لوارث. فإن كان ذلك للعتق، فلم يرض الابن أن يشتريه إلا بحطيطة الثلث فأقل، هل يحط عنه أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين عن مالك في "كتاب الوصايا" وسيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. والحمد لله وحده.

المسألة العاشرة فيمن باع سلعة على إن لم يأته بالثمن على أجل كذا وكذا، وإلا فلا بيع بينهما

المسألة العاشرة فيمن باع سلعة على إن لم يأته بالثمن على أجل كذا وكذا، وإلا فلا بيع بينهما فقد اختلف المذهب في ذلك على أربعة أقوال، كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن البيع مفسوخ، وهو قوله في بيع النساء إذ قال: متى جاز بالثمن فهو أحق بها. والثاني: أن البيع جائز، والشرط جائز. والثالث: أن البيع جائز، والشرط باطل. والثلاثة الأقوال ذكرها ابن القاسم عن مالك، على ما حكاه ابن لبابة. والقول الرابع: التفصيل بين قوله: إن جئتني بالثمن، وبين قوله: إن لم تأتني بالثمن؛ فإن قال: إن جئتني: كان البيع ثابتًا بينهما. وإن قال: "إن لم تأتني بالثمن": فكأنه لم ينعقد بينهما بيع إن لم يأته بالثمن. وهو قوله في "الدمياطية" وعلى القول بفساد البيع، فلا تفريع. وعلى القول بأن البيع جائز، والشرط جائز: فحكمه حكم بيع الخيار؛ فيجوز فيه من الأجل ما يجوز في بيع الخيار في مثل تلك السلعة، وهو قول ابن لبابة، وأبي الأسود القطان العدوي. وعلى القول بأن البيع جائز، والشرط باطل هل يجبر على نقد الثمن في الحال، أو لا شيء عليه حتى يحل الأجل؟

فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": قيل: إنه يغرم الثمن، وهو ظاهر قوله في "كتاب كراء الرواحل والدواب"؛ حيث قال: يلزم البائع دفع السلعة، وللمشتري أخذها إما بالثمن أم لا، ويجبر على النقد، وظاهره في الحال، وعليه حمله بعضهم. والثاني: أنه يغرم الثمن عند حلول الأجل الذي ضرباه، وهو ظاهر قوله في "كتاب البيوع الفاسدة"؛ حيث قال: جاز البيع وغرم الثمن الذي اشترى به، فحمل بعضهم هذا الكلام، وما قاله بعضهم في "كتاب الرواحل والدواب" على نقد الثمن عند حلول الأجل، لا قبله. واختلف ممن يكون ضمانها إن هلكت قبل الأمد على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ضمانها من البائع، سواء قبضها المشتري أو لم يقبضها، وهو قول ابن لبابة منه على أن حكمه حكم بيع الخيار، وهو اختيار اللخمي. والثاني: التفصيل بين أن تكون السلعة في يد البائع فيكون ضمانها منه ما دامت في يده وإن كانت حيوانًا، وبين أن يقبضها المبتاع فيكون الضمان منه، بخلاف البيع الصحيح بحبسها البائع بالثمن فتلك هلاكها من المشتري، وهو قول ابن القاسم في "كتاب البيوع الفاسدة". والقول الثالث: التفصيل بين أن يكون الأجل إلى يوم، أو يومين: فيكون ضمانها من المشتري، وإن كان إلى عشرة أيام ونحوها: فضمانها من البائع، ولم يفصل بين القبض وغيره، وهي رواية ابن وهب عن مالك رحمه الله. وتأول أبو محمَّد مسألة الكتاب على أن البائع لم يمكن المشتري من

قبض السلعة إلا بعد قبض الثمن؛ فعلى هذا التأويل تتخرج المسألة على قولين، ويكون حكمها حكم المحبوسة بالثمن. والحمد لله وحده.

المسألة الحادية عشرة إذا باع أمة ومعها ولد حر رضيع، فاشترط البائع على المشتري رضاعه ونفقته سنة

المسألة الحادية عشرة إذا باع أَمَةَ ومعها وَلَدٌ حُر رضيع، فاشترط البائع على المشتري رضاعه ونفقته سَنَة فلا يخلو بيعه إياها على هذه الصفة من أحد وجهين: إما أن يكون غلبة واضطرارًا، أو يكون ترفهًا واختيارًا. فإن كان غلبة واضطرارًا؛ كبيع السلطان على مفلس، فهل يجوز البيع واشتراط مؤونة الصبي؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن البيع جائز، والشرط جائز وإن كان ذلك الشرط يؤثر في نقصان ثمن الجارية ويعود بالضرر على الغرماء؛ لأن حق الصبي مقدم عليهم لكونه في شيء معين من مال المفلس، فإنه أحق به من الغرماء، وهو ظاهر قوله في "المدونة" في "كتاب البيوع الفاسدة"؛ لأنه أطلق جواز البيع والشرط في هذا الوجه، ولم يفصل بين المِدْيَان وغيره. والثاني: أن البيع جائز، والشرط باطل؛ لأجل حق الغرماء؛ لأن حقهم متعلق بذمة الغرماء، ومن جملة ذمته ماله، ولا مدخل لأحد فيه إلا من دخل مدخلهم وأدلى دلوه مع دلائهم. وأما إن أسند أحدًا بشيء من ماله دونهم: فلا، إلا من أدرك عين شيئه، فإنما سلطانه على أخذه يفيد تخيير الغرماء ما بين أن يسلموه له أو يعطوه ثمنه الذي باع به. والصبي لا يتعين له حق في مال السيد، لا في الذمة ولا في شيء

معين، وإنما رضاعه ونفقته عليه على معنى المواساة، فإذا باع السيد الأم، واشترط على المشتري رضاع الصبي ومؤنته، وقد أحاط الدين بماله فذلك ضرر على الغرماء، وليس للغريم إدخال الضرر عليهم فيما ينقص ماليتهم، وقد قال مالك في "كتاب التفليس": وإذا باع مال المفلس فإنه يترك له من ماله ما يعيش به هو وأهله الأيام، فإذا كان لا يجوز أن يستبقي له بقية نفسه من ماله ونفقة زوجه التي هي عين معاوضته على مشهور المذهب أمدًا مديدًا يجوز استبقاء نفقة الولد الصغير؛ لكونه قد أعتقه، وهي من ناحية الفوت والمواساة. وسبب الخلاف: اختلافهم في عتق من لا يقوم بنفسه مثل الصغير, والزمن، والشيخ الهرم هل تجب عليه نفقته أم لا؛ فمن رأي أن نفقته واجبة عليه: قال بجواز الشرط، وهو قوله في هذا الكتاب ومن رأي أن نفقته لا تلزم السيد قال: الشرط باطل، وهو ظاهر قوله في "كتاب المكاتب" في غير ما موضع من "المدونة"، وقد جوز في "كتاب المكاتب" كتابة من لا يقوم بنفسه، ولا حرفة له -صغيرًا أو كبيرًا أو زَمِن- فإذا جاز للسيد أن يستسعيه ويستدينه وتسقط عنه نفقته وهو رقيق بعد، فبأن تسقط عنه نفقته أولى وأحق. والجواب عن السؤال الثاني: إذا باعها ترفهًا واختيارًا هل يجوز ذلك البيع أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو مشهور المذهب. والثاني: الكراهة، وهو مذهب سحنون، ووجهه: أن المشتري قد يريد أن يظعن بالجارية فيتكلف للصبي ولا يدري ما يلحقه، وذلك غرر.

وعلى القول بأنه يجوز بغير كراهة فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك مضمونًا في الولد والأم. والثاني: أن يكون معينًا فيهما. والثالث: أن يكون مضمونًا في الأم معينًا في الولد. والرابع: أن يكون مضمونًا في الولد معينًا في الأم. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان مضمونًا في الأم والولد: فذلك جائز اتفاقًا. فإن ماتت الأم أو انقطع لبنها: كان على المشتري أن يأتي بغيرها، وإن مات الولد: كان على البائع أن يأتي بغيره، فإن لم يأت البلد فلا شيء على المشتري. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان معينًا فيهما جميعًا: جاز ذلك أيضًا، ومن مات منهما وجبت المحاسبة والرجوع بما ينوب المؤونة والرضاع. والجواب عن الوجه الثالث: إذا كان مضمونًا في الأم معينًا في الولد؛ فإن ماتت الأم أخلفها المشتري، وإن مات الولد هل تجب المحاسبة؟ أو يكلف البائع أن يأتي بالخلف؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: وجوب المحاسبة، وهو قوله في "كتاب الجعل والإجارة" في باب استئجار الطير. والثاني: أن الإجارة قائمة، ولا تنفسخ بموت الصبي، ويكلف البائع أن يأتي بغيره، وهو ظاهر قوله في الكتاب المذكور، وفي "كتاب الرواحل والدواب" في الجمل المستأجر على حمله، فهلك قبل بلوغ غايته.

وقد قال بعض أهل الظاهر: الإجارة تنفسخ بموت المستأجر إذا عين، ولا تنفسخ بموت المستأجر عليه إلا في أربع مسائل: الصبي المستأجر على رضاعه، والصبي المستأجر على تعليمه، والمهر في الرياضة، والفرس للإنزاء إذا ماتت قبل العقوق. وهذا الحصر لا دليل له إلا من حيث اختلاف الصبيان في قبول التعليم، واختلافهم في الرضاع في قوة المص وملازمة الثدي. والخطب في ذلك يسير، والذي ينبغي أن يعتبر فيه الوسط، كما هو المعهود في ذلك وأمثاله، وهو الأظهر في النظر. والجواب عن الوجه الرابع: إذا كان مضمونًا في الولد معينًا في الأم، فإن مات الولد: كلف البائع الإتيان بمثله، وإن ماتت الأم: وجبت المحاسبة. والحمد لله وحده.

كتاب بيع الغَرَر

كتاب بيع الغرر

كتاب بيع الغَرَر تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها خمس مسائل: المسألة الأولى في حد الغَرَر وتفسيره اختلف العلماء في حَدِّ الغَرَر وحقيقته؛ فمنهم من يقول: الغرر ما له ظاهر محمود، وباطن مكروه؛ ومنه قيل للدنيا: متاع الغرور. وقيل: الغرور: ما له عائلة ذميمة وعاقبة وخيمة. وقيل: هو تردد بين السلامة والعطب. وقيل: ما خفي عنك أمره، وانطوت عنك عاقبته. وقيل: الغرور مأخوذ من الغرارة؛ وهي الخديعة، ومنه الغرر؛ وهو الرجل الخداع، والغر أيضًا المخدوع، ومنه قوله عليه السلام: "المؤمن غر كريم". والخَطر -بفتح الخاء- الغرر، وأصله من المخاطرة، والخطر: اسم لما يفعل، فسمي بيع الغرر خطرًا ومخاطرة بسببها؛ إذ لا يدري المشتري حقيقة ما اشتراه، ولا البائع عرف حقيقة ما باع، ولا صفته، ولا مقداره بالمقام. وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر (¬1). وفسره عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وقال: كبيع الطير في الهواء، والسمك في الماء. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1513).

ولم يعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن الغرر المنهي عنه محصور فيما فسره، وإنما فسر نوعًا من أنواعه ليكون ذلك دستورًا وأصلًا يقال عليه كل ما كان في معناه. فإذا ثبت ذلك، فالمبيعات تنقسم على ثلاثة أقسام: قسم الغالب عليه السلامة: فسمي ذلك البيع صحيحًا. وقسم الغالب عليه الهلاك: فسمي ذلك البيع غررًا. وقسم اشترك فيه الأمران، واستوى فيه الحالان؛ فما كان الأغلب فيه الهلاك، والسلامة فيه قليلة: فبيعه فاسد. فإن كان الغالب فيه السلامة، والذي يخاف هلاكه به أمر نادر: بيعه جائز. بدليل نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها؛ لما يخشى عليها من العاهات، وأباح ذلك بعد زهوها، والخوف عليها قائم، لما كان الغالب عليها السلامة، ولا تكاد البيوع تنفك عن الغرر اليسير. والحمد لله وحده.

المسألة الثانية في بيع الشراء الغائب على الصفة

المسألة الثانية في بيع الشراء الغائب على الصفة ولا تخلو غيبته من ثلاثة أوجه: إما أن تكون غيبة بعيدة، وإما أن تكون غيبة قريبة، وإما أن تكون غيبة متوسطة. فإن كانت غيبة بعيدة جدًا: فلا يجوز البيع اتفاقًا. فإن كانت قريبة جدًا؛ مثل الحاضر في البلد الغائب عن المجلس، أو كان على مسيرة يوم: فالمذهب في جواز بيعه على صفة يتخرج على قولين قائمين من "المدونة": أحدها: الجواز، وهو مشهور المذهب نقلًا، وهو نص المدونة في غير ما موضع من "كتاب السلم الثالث" وكتاب الآجال، و"كتاب البيوع الفاسدة". والثاني: المنع، وهو قول محمَّد بن الموَّاز، وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب بيع الغرر"، في باب البيع على البرنامج؛ لأن مالكًا جوزه للضرورة، ولا ضرورة في غير البرنامج، وهو نص قول مالك في أول "كتاب بيع الغرر" في الثوب المدرج في جرابه. والقول بالمنع هو الصحيح مذهبًا ونظرًا. وسبب الخلاف: اختلافهم في الصفة هل تقوم مقام الرؤية مع القدرة، على الوقوف على عين الموصوف أم لا. وأما ما كانت غيبته متوسطة بين القرب المفرط، والبعد المفرط: فهذا

الذي يجوز بيعه على صفة أو رؤية تقدمت منذ أمد لا تتغير فيه السلعة من غير خلاف في المذهب في جواز العقد والنقد بلا تفصيل بين المأمون وغيره، وإنما التفصيل بين المأمون وغير المأمون فيما يرجع إلى الضمان وجواز شرط النقد. فأما المأمون؛ كالدور والأرضين: فلا خلاف في جواز النقد فيها بغير شرط. وهل يجوز بشرط أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يجوز بشرط، وهو نص "المدونة"، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه لا يجوز بشرط، وهو ظاهر ما حكاه ابن الموَّاز، وابن القصار عن المذهب من أن الضمان فيهما من البائع حتى يقبضها المشتري، واشتراط النقد تابع للضمان. وهل يلزم المشتري النقد ويحكم عليه به أم لا؟ أو يجب وإن لم يشترطه عليه البائع؟ فالمذهب على قولين، حكاهما القاضي أبو الحسن بن القصار في المذهب. أحدهما: وجوب النقد على المشتري وإن لم يشترطه عليه. والثاني: أن النقد جائز، وليس بواجب إلا بالشرط، وهذا هو الصحيح؛ لأن وجوب النقد متعلق بالتسليم وجوازه متعلق بالأمن على الشيء المشترى. وسبب الخلاف: اختلافهم في السلعة، هل بالعقد صارت في ضمان المشتري، أو يبقى على البائع حق التوفية والتسليم.

فمن رأى أن قدر المسافة التي يقبضها فيها المشتري هو التسليم الذي بقي على البائع؛ كالصاع إذا امتلأ، ثم هلك بيد البائع قبل أن يفرغه في وعاء المشتري، قال: فإن النقد لا يجب، وإن الضمان لا يلزم أيضًا. ومن رأى أن العقد يقتضي التسليم لوجود التمكين، وهذا غاية المقدور عليه: قال بوجوب النقد. وهذا كله إذا كان اشتراؤه بصفة غير البائع. وأما إذا اشتراها على صفة: فلا يجوز اشتراط النقد للتهمة في البيع والسلف أن يخرج الشيء المشتري من ريع أو عقار على خلاف صفة البائع؛ لأن الحرص على البيع يحمله أن لا بيع إلا في الصفة. وأما غير المأمون من الحيوان وسائر العروض: فلا خلاف أيضًا في المذهب في جواز العقد عليها والنقد فيها بغير شرط، وسواء اشتراها على رؤية تقدمت، أو اشتراها على صفة. وصفة البائع وصفة غيره في هذا الوجه سواء، ولا يجوز النقد في ذلك بشرط، قولًا واحدًا. واختلف فيما إذا طلب البائع إيقاف الثمن هل يمكن من ذلك أم لا على قولين: أحدهما: أن الثمن يوقف له على يد عدل إن طلب ذلك، وهو نصف قوله في "كتاب البيوع الفاسدة"، في باب بيع الابن وضمانه. والثاني: أنه لا يمكن؛ لأن ذلك صحيح يمنع المشتري من الانتفاع بسببه مدة الإيقاف. وسبب الخلاف: مراعاة الطوارئ هل تراعى أو لا تراعى؛ فمن اعتبرها: قال بالإيقاف إن طلبه البائع؛ لما يخاف من طرآن العدم على المشتري.

ومن لم يعتبرها منع الإيقاف. واختلف على من يكون طلب الشيء الغائب هل على البائع، أو على المشتري على قولين قائمين من "المدونة" من "كتاب بيع الغرر"؛ فمرة يقول على البائع، ومرة يقول: على المشتري. وسبب الخلاف: من المخاطب بالتسليم أولًا؟ هل البائع هو المخاطب بتسليم المبيع أولًا ثم يقبض الثمن، أو المشتري مخاطب بتسليم الثمن أولًا ثم يقبض المبيع ثانيًا؟ والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة في ضمان الغائب المشتري إذا هلك قبل الصفة

المسألة الثالثة في ضمان الغائب المشتري إذا هلك قبل الصّفة [ولا يخلو حال البائع والمشتري من أحد خمسة أوجه] (¬1): أحدها: أن يتفقا أنه هلك قبل الصفة. والثاني: أن يتفقا أنه هلك قبل الصفة. والثالث: أن يختلفا. والرابع: أن يشكل أمره عليهما. والخامس: إذا وجدا به عيبًا فاختلفا في حدوثه. فالجواب عن الوجه الأول: إذا اتفقا أنه هلك قبل الصفة: فلا خلاف في المذهب أن ضمانه من البائع. والجواب عن الوجه الثاني: إذا اتفقا أنه هلك بعد الصفة فقد اختلف فيه المذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن الضمان فيها على المشتري، إلا أن يشترط على البائع، وهو قول مالك في "الكتاب". والثاني: أن الضمان فيه من البائع جملة، إلا أن يشترطه على المشتري، وهذا القول الذي اختاره ابن القاسم. ولا فرق على ظاهر هذين القولين بين المأمون وغيره، وهو قول مالك في "كتاب ابن المواز" و"كتاب ابن حبيب": أن ضمان المأمون من البائع. ¬

_ (¬1) سقط من أ. والعبارة مثبتة من جملة المسألة.

قال ابن حبيب: ولم يختلف قول مالك أن الضمان من البائع فيما يجوز فيه النقد وقربت غيبته في الرياع وإن بعدت غيبتهما. والقول الثالث: التفصيل بين المأمون وغيره،؛ فالمأمون يكون الضمان فيه من المشتري، وغير المأمون يكون الضمان فيه من [البائع] (¬1)، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والقول الرابع: التفصيل بين ما قربت غيبته جدًا؛ كالحاضر في البلد الغائب عن المجلس فيكون الضمان فيه من المشتري، وهو ظاهر قول مالك في كتاب النكاح الثاني في الذي يتزوج امرأة بثوب في بيته فهلك الثوب قبل أن تقبضه؛ حيث قال: إن هلك في بيته: فضمانه من الزوجة، وهو قوله في "كتاب الصرف" و"كتاب السلم الثالث"، والآجال، والبيوع. وبين المتوسط الغيبة: فيكون الضمان فيه من البائع حتى يقبضه المشتري. وسبب الخلاف: ما قدمناه وأصلناه من المخاطب بالتسليم. أولًا هل البائع أو المبتاع؟ والجواب عن الوجه الثالث: إذا اختلفا، وادعى البائع أنه هلك بعد الصفة، وادعى المشتري أنه هلك قبل الصفة: أن القول قول المشتري مع يمينه على العلم إن ادعاه عليه البائع، وإن لم يدع البائع عليه فلا يمين عليه. والجواب عن الوجه الخامس: (¬2) إذا اقتضت السلعة، ثم وجد بها عيب وزعم المشتري أنه كان بها قبل الصفة، وادعى البائع أنه حدث بعد الصفة، والعيب مما يمكن حدوثه وقدومه: وهذا الوجه قد أغفله في الكتاب ولم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط الجواب عن الوجه الرابع.

ينص عليه فيه، وقد اختلف في المذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن العيب من المشتري، ويحلف البائع أن ما كان بالسلعة يوم الصفة، وهو قوله في "كتاب العيوب"، في العيب الذي يمكن أن يحدث عند البائع ويمكن أن يحدث عند المشتري: أنه من المشتري، ويحلف البائع. والثاني: أنه من البائع، ويكون القول قول المشتري، وهو ظاهر قوله في بيع الغرر. فإذا كان القول للمشتري إذا اختلفا في هلاكها هل كان قبل الصفة أو بعدها، فأولى أن يكون القول قوله في العيب، ولا يكون العيب أسوأ حالًا من الموت. والحمد لله وحده.

المسألة الرابعة في البيع على البرنامج

المسألة الرابعة في البيع على البرنامج وقد قدمنا ومهدنا أن بيع الغائب على الصفة إنما جوز للضرورة؛ وهي تعذر الوقوف على عين المبيع وتأمله، وهذه العِلَّة موجودة في بيع البرنامج؛ إذ لا فرق بين أن يتعذر الوقوف على عين الشيء وحقيقته لبعد الشقة وطول المسافة، وبين أن يتعذر لأجل ما يخشى من نقصان المالية وإن كان بين أيديهم ونصب أعينهم؛ مثل أحكام البر؛ لأن فتحها وسير ما فيها من المتاع يؤدى إلى الإضرار بالبائع في الحل، والشد، والطي مع ما يلحق المبتاع من التمرين والامتهان بملامسة أيدي السوام والمباع الرفيع بكونه أدنى الأشياء. فبهذا الاعتبار جوز مالك -رحمه الله- البيع على البرنامج مع ما له في ذلك من ظواهر الأخبار، وشواهد الآثار؛ فمن ذلك تفسيره - صلى الله عليه وسلم - بيع الملامسة؛ حيث قال: "هو أن يبتاع القوم السلعة لا ينظرون إليها, ولا يخيرون عنها" (¬1). فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإخبار يقوم مقام النظر إليها مع القدرة عليها. فإذا ثبت ذلك، فلا يخلو مشتري العدل على برنامجه من وجهين: إما أن يجد المبتاع على وفق الصفة، أو على خلاف الصفة. فإن وجده على خلاف الصفة: فلا يخلو إما أن يكون ذلك قبل الغيبة عليها، أو بعد الغيبة عليه. فإن كان ذلك قبل الغيبة عليه: فالقول قوله. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2037).

وكذلك إن كان بعد الغيبة، وكان ذلك بمحفر البينة: كان القول قوله أيضًا. فإن كان وحده: فلا يقبل قوله فيه، ويكون له الخيار إن شاء أخذه كذلك وإن شاء نقض البيع. فإن وجده على وفق الصفة فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يجد الزيادة في العدد. والثاني: أن يجد النقصان منه. فإن وجد الزيادة في العدد؛ مثل أن يشتري عدلًا على أن فيه خمسين ثوبًا: فقد قال مالك في المدونة: يرد جزءًا من اثنين وخمسين جزءًا من الثياب. قلت: فإن كان جزءًا من اثنين وخمسين ثوبًا لا يعتدل أن يكون ثوبًا كاملا؛ يكون أقل من الثوب، أو أكثر من الثوب كيف يصنع؟ قال مالك: منذ حين أرى أن يرد جزءًا من اثنين وخمسين جزءًا. ثم أعدته عليه؛ فسألته عنه كيف يرد؟ قال: يرد ثوبًا كأنه عيب وجده فيرده به. قلت لمالك: أفلا يقسمها على الأجزاء؟ فقال: لا وانتهزني، ثم قال: إنما يرد ثوبًا كأنه عيب وجده في ثوب فرددته، فلم أر فيما قال لي مالك آخرًا أن يجعله معه شريكًا. قال ابن القاسم: وأنا أرى قوله الأول أعجب إليَّ. فهذا نص قوله في "المدونة". وقد اختلف المتأولون والشارحون في هذه المسألة في موضعين:

أحدهما: في منتهاها. والثاني: في معناها. فأما اختلافهم في منتهاها: فهو قوله: فوجد فيها إحدى وخمسين ثوبًا، وقال: يعطي جزءًا من اثنين وخمسين جزءًا. فذهب الأكثرون من أهل الشرح والتأويل إلى أن ذلك وهم من الراوي، أو خطأ من الكاتب، وإلا فالذي ينبغي على سياق المسألة: أن يعطي جزءًا من اثنين وخمسين، وهو في بعض النسخ المدونة كذلك، إلا أنه نقل على الإصلاح. وقد تغالى بعض المتأخرين في التأويل وقال: يحمل قوله على أنه قد أحل اللفافة في العدد، وهو تأويل بارد؛ لأن اللفافة لا تعد ولا تقصد، ولا هي من جنس الثياب المشتراه، ولو صح ذلك لصح أن تعد حبال شده وطيه، وذلك كله ملغي. وهو تأويل أبي بكر بن اللباد، وهذا التأويل مطرح ساقط الاعتبار. والصحيح أن ذلك وهم من الرواة؛ إما من الرواة عن مالك، وإما من الرواة عن ابن القاسم. والموضع الثاني في معنى المسألة: وقد اختلف المتأولون في معنى ما وقع في الكتاب هل يتأول ويرجع إلى قول واحد أو ذلك اختلاف قول ولا مدخل فيه للتأويل على قولين: أحدهما: أن ذلك يرجع إلى قول واحد، وأن معنى قول مالك أنه يكون شريكًا بجزء من اثنين وخمسين جزءًا، وقوله آخرًا: كعيب وجده فيه، يريد: بالقيمة، وأن الثياب تنقسم بالقيمة إلى إحدى وخمسين جزءًا لم يسم بينهم فيرد جزءًا واحدًا، وصار بعض كلامه تفسيرًا لبعض.

وهذا تأويل أبي عمران الفاسي. والثاني: أن ذلك اختلاف قول، وهو الصحيح، ويدل عليه سياق الكلام في "الكتاب"، واختيار ابن القاسم في الباب. وإنما هما قولان: أحدهما: أن البائع [يكون] (¬1) شريكًا بالثوب الواحد. والثاني: أنه لا يكون شريكًا، وأن المشتري يرد ثوبًا على البائع، غير أن القائلين بهذا القول قد اختلفوا في صفة الشركة على القول بها؛ فقد اختلف فيها على ثلاثة أقوال، كلها متأولة على المدونة: أحدها: أنه يكون شريكًا بجزء من إحدى وخمسين جزءًا، فإذا بيعت الثياب أخرج ذلك الجزء من الثمن، ويأخذه البائع، وهذا تأويل ابن لبابة. وظاهر هذا القول: أنه لا يعجل ببيع الثياب على المشتري حتى يبيع باختياره. والثاني: أنه يعجل ببيع الثياب الآن، ويقسمان الثمن على إحدى وخمسين جزءًا. وهذا القول أظهر، وأسعد بظاهر "الكتاب". والثالث: أنه يقرع على الثياب على إحدى وخمسين جزءًا، فما خرج للبائع في جزئه من ثوب أو ثوبين، أو أقل، أو أكثر أخذه. فإن خرج له أقل من ثوب، أو أكثر من ثوب: كانا شريكين وذلك غاية المقدور عليه. وهذا تأويل الشيخ أبي عمران الفاسي. وسبب الخلاف: الشركة الحكمية هل تضاهي الشركة الأصلية حتى ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كأنها هي أم لا؟ وعلى هذا القول بأنهما يشتركان في الثوب إذا خرج له الجزء في بعضه، هل لصاحب الأقل أن يلزمه لصاحب الأكثر -بائعًا كان أو مشتريًا- ويأخذ منه قيمة بقيته؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن ذلك له؛ لأنه إن وقع الأكثر للبائع كان للمشتري أن يلزمه له؛ لأنه يتهم إدخاله عليه فيتوصل بذلك إلى الشركة، والمشتري لم يدخل عليها. فإن وقع الأكثر للمشتري: فللبائع أن يلزمه ويقوم عليه، كأنه المشتري استحق عليه الأكثر مما اشترى، وهو ظاهر المدونة في غير ما موضع؛ لأنها شركة أوجبتها الأحكام، فلا كلام لواحد منهما على صاحبه فيها. وسبب الخلاف: الأصل الذي قدمناه في الشركة الحكمية هل هي على مكان الشركة الأصلية أم لا؟ وعلى القول بأنهما لا يكونان شريكين في جميع الثياب، وأن المشتري يرد ثوبًا -سواء كان أعلى أو أدنى- ويقدر البائع كأنه باعه إحدى وخمسين على أن يختار منها خمسين، ألا تراه يقول في "الكتاب": كأنه عيب وجده فيه. وهذا تأويل أبي عمران الفاسي. والثاني: أنه يرد ثوبًا موافقًا للصفة التي عليها اشترى -لا أقل منها ولا أكثر- وهذا تأويل ابن لبابة، وهو ظاهر "المدونة" لمساواتهما في الثياب، وليس لواحد منهما أن يستبد بالأعلى ويأخذ الآخر الأدنى. وظاهر هذين القولين [أنه] (¬1) يرد بلا قرعة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثالث: أنه يرد الثوب بالقيمة والقرعة، وهذا القول منصوص في المذهب أيضًا، وهو جنوح من قائله إلى القول بالشركة. وسبب الخلاف: اختلافهم في المخطئ في مال نفسه هل هو كالمخطئ في مال غيره، أم لا. فإن قلنا: إنه كالمخطئ في مال غيره فإن المشتري يرد ثوبًا على الصفة التي اشترى ويكون البائع كالمستحق. وإن قلنا: إنه لا يكون كالمخطئ في مال غيره وأنه جنى على نفسه. والتسليط من جهته ولاسيما مع ما يلحقه من التهمة أن يكون قصد إلى ذلك ابتداء: فإن المشتري يرد عليه أيّ ثوب شاء -أعلى أو أدنى. وهذا كله إذا كانت جنسًا واحدًا، ووجدت الزيادة. وأما إذا وجد النقصان؛ مثل أن يشتري عدلًا على أن فيه خمسين ثوبًا فوجد المشتري أقل من خمسين: فلا يخلو النقصان من أن يكون يسيرًا، أو كثيرًا. فإن كان يسيرًا؛ كالخمس والسدس -على الاتفاق- أو كالثلث والربع -على الخلاف في "كتاب القسم" وغيره- فلا يخلو من أن تكون الثياب جنسًا واحدًا، أو أجناسًا. فإن كانت من جنس واحد: فلا خلاف في المذهب أن المشتري يلزمه البيع فيما وجد، ويرجع بثمن ما نقص إن كان قد نقده. وإن لم ينقد فإنه يوضع عنه ذلك القدر. والثمن هاهنا على عدد الثياب؛ إن وجد أربعين رجع بخمس الثمن، وإن وجد ثلاثين رجع بخمس الثمن؛ كالطعام إذا اشتراه صبرة على أن فيه

مائة أردب، فوجد فيها أكثر من المائة. ولا تقويم في هذا الوجه أصلًا، بخلاف الاستحقاق والرد بالعيب؛ لوجود ما يقوم هناك، وغرم ما يقوم هنا. فإن كان النقصان كثيرًا؛ ذهب بأكثر الصفقة: فالمشتري بالخيار في ذلك إن شاء تماسك بما بقي بحصته من الثمن، وإن شاء رده وفسخ البيع عن نفسه. فإن كانت الثياب أجناسًا، فوجد النقصان في بعضها، فإنه ينظر إلى الجنس الذي وجد فيه النقص كم هو من جميع الثياب؛ فإن كان ربعًا وكان عشرة أثواب: ينقص منها ثوب؛ فإنه يوضع عن المشتري ربع الثمن، فعلى هذا الحساب يجري. والحمد لله وحده.

المسألة الخامسة في الذي اشترى جارية بمائة دينار, ثم ادعى أن بها عيبا, فأنكره البائع, ثم قال رجل آخر: أنا آخذها منكما بخمسين على أن يتحمل كل واحد منكما بخمسة وعشرين

المسألة الخامسة في الذي اشترى جارية بمائة دينار, ثم ادعى أن بها عيبًا, فأنكره البائع, ثم قال رجل آخر: أنا آخذها منكما بخمسين على أن يتحمل كل واحد منكما بخمسة وعشرين ومثلها مسألة من اشترى عبدًا من رجل على أن يعينه فلان بألف درهم، فأنعم له فلان. فوجه التشبيه بين المسألتين: أن البائع الأول يلزمه ما التزم من حمالة خمسة وعشرين، كما يلزم فلانًا ما التزم من إعانة من اشترى عبدًا. وقوله في "الكتاب": "أنا آخذها منكما": لفظة فيها تجوز، والصواب فيها: "أنا آخذها منك"؛ لأن المشتري النائق إنما اشتراها من المشتري الأول، وعهدته عليه، فإن استحقت منه تلك الجارية: فإنه يرجع عليه بخمسين دينارًا، ويرجع هو على البائع الأول بخمسة وسبعين دينارًا. فإن وجد بها عيبًا غير الذي دخل عليه: فعلى المشتري الأول أن يردها، ثم ينظر، فإن كان هذا العيب الذي ردها عليه قديمًا عند البائع الأول: فإن المشتري الأول يردها عليه بذلك -صدقة في العيب الذي يتحاصان فيه أو كذبه. فإن كان حديثًا مشكوكًا فيه: فإن المشتري الأول وبائعه يرجعان إلى رأس أمرهما في الخصومة. والحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمَّد خير خلقه، وعلى آله.

كتاب بيع الخِيَار

كتاب بيع الخيار

كتاب بيع الخِيَار تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها تسع مسائل. المسألة الأولى في أمد الخِيَارِ اقتضى الدليل ألا يجوز بيع الخِيَار؛ لأنه غرر وخطر، وكل واحد من المتبايعين لا يدري هل ينعقد البيع ويتم له مراده؛ مع ما في ذلك من الضمان بالجعل إذا كان الخيار للمشتري. إلا أن الشرع ورد بجوازه رفقًا بالعباد، ورخصة لهم دائمة إلى يوم التناد، ومشروع لأمرين، أو لأحدهما، على البدل؛ إما للاختيار، وإما للاستشار، وإما لهما معًا. ولذلك اختلف أمره لأجل اختلاف المبيعات، على ما هو مسطور في الأمهات؛ وقد وقع في "الكتاب" في الدابة تشتري على خيار: أجوبة مضطربة، وأقوال مختلفة، ظاهرها اختلاف أقوال؛ فمن ذلك قوله في أول الكتاب: والدابة تركب اليومين وما أشبهه، وفي روية أخرى: تركب اليومين. قال بعد ذلك: ولا بأس أن يسافر عليها البريد ونحوه. وقال أشعب بعد هذا: أو البريدين، وما أشبههما فلا بأس به. وقال هذا في آخر الكتاب: ولا بأس بشراء الثوب أو الدابة على خيار ثلاثة أيام. فأما قول مالك وابن القاسم: فيمكن تلفيقهما بالتأويل حتى يرجعا إلى

قول واحد، ويكون اختلاف حال، وقد يحتمل قول مالك في آخر الكتاب في خيار ثلاثة أيام على أنه اشترط ذلك للاستشار لا للاختيار. ويحمل ما قاله أول الكتاب على الاختيار. وقوله: "والدابة تركب اليوم وما أشبهه" يريد في الحضر. وقوله: "لا بأس أن يشترط إن سافر عليها البريد ونحوه" يريد خارج البلد؛ لأن المراد من الدابة في السفر غير المراد منها في الحضر كلونها تحتاج إلى أن يحسر سيرها وسبرها وسلامتها من الكبو والعثار وثبات الحمل على ظهرها واعتدال المشي واستدامتها على السير. وقد يكون للدابة اندفاع في أول سيرها ثم تتبطأ بعد ذلك. وقد يحتاج إلى النظر إلى قصمها واستيفائها لعلفها وذلك كله لا يتمكن إدراكه والوقوف على حقيقته في الحضر. وعلى هذا التأويل يحمل قول ابن القاسم فيرجع إلى قول واحد وهو الصحيح إن شاء الله. وإن كان بعض المتأخرين قد حمل ما في الكتاب على الاضطراب استخرج من المدونة في ركوب الدابة قولين: أحدهما: أنه لا يجوز إلا بشرط أخذًا من قوله: "ولا بأس أن يشترط أن يسافر عليهما البريد ونحوه". والثاني: أنه يجوز له الركوب بغير شرط أخذًا من قوله: "والدابة تركب اليوم ونحوه". وظاهره من غير شرط وهو الصحيح؛ لأن الخيار يتضمن الأمرين كما

قدمناه في تأويل أبي بكر بن عبد الرحمن. والثاني تأويل أبي عمران الفاسي. وأما قول أشهب فقد يلفق فيكون وفاقًا. وقد يحمل على ظاهره فيكون خلافًا. وقد قال ابن القاسم: "يسافر عليه البريد ونحوه". والنحو والسنة إذا عطف بهما وعلى واحد فهو مثله فيكون له البريدين ركوبًا على قول ابن القاسم. وقال أشهب: يركب البريد والبريدين وما أشبههما. والذي أشبههما [مثلهما] (¬1) ثم يكون له أن يركبها أربعة برد على مذهب أشهب. فمن سلك طريق التلقين فيقول: إنما تكلم ابن القاسم على الذهاب خاصة ولم يتكلم على الرجوع إذ لابد له منه؛ ولذلك اقتصر على ذكر البريدين في البداة وسكت عن بريدي الإياب. وأشهب تكلم على طرفي الذهاب والإياب فلذلك ذكر أربعة برد فيكون ذلك وفاقًا. وهذا تأويل مؤيد. وعلى مضمون ذلك يجوز للمشتري أن يركبها يومين في السفر ذهابًا ورجوعًا لأن الأربعة برد لا يقطعها في النهار إلا دابة قوية فارهة ولا يكاد صاحبها ينتفع بها بعد ذلك إلا بعد استراح واسترواح. وأما الدابة فلا يقدر الإنسان أن يقطع بها هذه المسافة في نهار واحد أصلًا. ¬

_ (¬1) في أ: مثلاهما.

ومن الأصحاب من حمل الكلام على ظاهره ويقول: إن ابن القاسم إنما تكلم في البداءة والرجوع، وأشهب كذلك فعل وجعل ذلك اختلاف قول وربك أعلم بمن هو أهدى سبيلًا وبه التوفيق. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست في أ.

المسألة الثانية في الذي جعل أمر امرأته في يد أمها

المسألة الثانية في الذي جعل أمر امرأته في يَدِّ أمها فلا خلاف في أن ذلك بيد الأم ما دامت حية. فإذا ماتت فلا يخلو حالها من ثلاثة أوجه: [أحدها]: (¬1) أن توصي بذلك إلى أجنبي من الناس. والثاني: أن توصي بأمرها ولم تذكر في الوصية أمر ابنتها. والثالث: أن تموت بلا وصية -لا في حقها ولا في حق ابنتها. فالجواب عن الوجه الأول: إذا أوصت بما جعل في يدها إلى أجنبي. فهل يكون ذلك بيد من أوصت به إليه؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أن ذلك جائز لها وللموصي له مثل ما لها وهو قول مالك. والثاني: أن ذلك لا يكون بيد أحد وأنه يسقط بموت الأم وهي رواية عليّ بن زياد في "المدونة". وسبب الخلاف: هل يغلب في ذلك حق الزوج أو يغلب حق الزوجة؟ فمن غلب حق الزوج قال: إنما جعل ذلك بيد الأم إكراما لها ولما يعلم من قلة عجلتها بالفراق لو ذل وفعل ما يجب عليه بالحكم بمقتضى الشرط حتى ينظر هل يعاتب نفسه وقد تسامح له وتجاوز عن فعله بما رأته من المصلحة في مقام ابنتها في عصمته وتحت ولايته. ¬

_ (¬1) في أ: إما.

ومن غلب حق الزوجة فقال: لأنه شيء جعل في يد الأم حقًا لغيرها لتولي هي القضاء به عند وجود أسبابه فوجب أن يستند الإيصاء به إلى من يقوم مقامها وينوب عنها بعد مماتها أصل ذلك أيضًا الموصي إلى غيره. والجواب عن الوجه الثاني: إذا أوصت بأمر نفسها ولم تذكر في الوصية ما جعل بيدها. هل تكون وصيتها منطوية على ذلك ويكون إهمالها تركًا لشرطها وإسقاطًا لموجبه؟ فإنه يخرج على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن إهمالها دليل على الترك ثم لا قضاء للموصي له ولا للابنة في ذلك وهو نص "المدونة". والثاني: أن الوصية شاملة لذلك وللوصي القضاء بذلك كما لوصى حث الأم له بالإيصاء به وهو ظاهر قوله في "كتاب الوصايا". وسبب الخلاف: الوصية الطلقة هل تقتضي العموم والشمول في جميع ما كان للأم أن تملك التصرف فيه أم هي على القصور حتى يدل دليل العموم؟ وظاهر قوله في "كتاب بيع الخيار": أنها على القصور حتى يتبين دليل العموم. وظاهر قوله في "كتاب الوصايا": أنها على العموم حتى يتبين دليل الخصوص. والجواب عن الوجه الثالث: إذا ماتت الأم ولم توص بشيء أصلًا. هل تسقط ما جعل لها؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك بيد الابنة وهو قول مالك في "الكتاب". والثاني: أن ذلك ساقط ولا يرجع إلى يد الابنة وهو قول علي بن زياد

في "الكتاب". وسبب الخلاف: الأمر الذي بيد الأم هل هو حق لها أو حق للابنة؟ فمن رأى أن ذلك حق للأم قال: يسقط بموتها. ومن رأي أن ذلك حق للابنة قال: إنه يرجع إليها بعد موت الأم فيعمل بمقتضاه. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست في أ.

المسألة الثالثة في النظر والاستحسان وإذا تبايع رجلان سلعة على أن أحدهما بالخيار ثم مات من له الخيار منهما

المسألة الثالثة في النظر والاستحسان وإذا تبايع رجلان سلعة على أن أحدهما بالخيار ثم مات من له الخيار منهما فلا يخلو من أن يكون الخيار للمشتري أو للبائع. فإن كان الخيار للمشتري ثم مات، فلا يخلو القائم بخيارهم من سبعة أوجه: أحدها: أن يكون وارثًا. والثاني: أن يكون ورثة. والثالث: أن يكون أوصياء. والرابع: أن يكون وصيِّا. والخامس: أن يكون وصيِّا وورثًا. والسادس: أن يكون وصيان ووارث. والسابع: أن يكون غرماء. فهذه سبعة أوجه: فالجواب على [الوجه] (¬1) الأول: إذا كان القائم بالخيار هو الوارث الواحد. فهذا الوجه ليس فيه نظر ولا استحسان وإنما يملك ما ملك الميت أن يختر البيع أو يرده خاصة. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان القائم بالخيار هم الورثة. فإن انفقوا على أمر واحد فهو ذلك. وإن اختلفوا فقال بعضهم: ترد. وقال بعضهم: يختر. فهذا الوجه الذي يتصور فيه النظر والاستحسان. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

واختلف هل الوارث مبدي على البائع في نصيب الراد والبائع مبدي؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الوارث هو المقدم. فإذا اختار أحدهما الرد واختار الآخر الإجازة فالنظر أن يردا جميعًا أو يمسكا جميعًا كما كان الميت يفعل لو عاش. والاستحسان أن يقال لمن اختار الرد ليتم الصفقة للبائع ويبلغه الغرض الذي يرتجيه في إمضاء البيع لأنه منعقد من جهته. فإذا رضي الآخر بذلك والتزم أن يؤدي جميع الثمن فلا حجة للبائع لأن صفقته لم تتبعض عليه ولا دخل عليه ضرر بوجه. فإن أبا أخذ مصابه والراد ورجع الخيار إلى البائع إن شاء قبل مصابه الراد ورضي بتبعيض صفقته. وإن شاء كلف الآخر الرد مع صاحبه. وهذا القول هو الأظهر في النظر. والقول الثاني: أن البائع مقدم على الوارث. فإذا رد بعضهم وتماسك بعضهم فالخيار للبائع. فإن شاء جوز البيع للمتمسك بنصيبه وقبل نصيب الراد ولا كلام في ذلك للمتمسك بنصيبه لا في النظر ولا في الاستحسان. فإن قال: لا أجيز ولا أرضى بتبعيض صفقتي فهاهنا يفترق النظر والاستحسان. فالنظر أن يقال للمتمسك بنصيبه: رد كما رد شريكك وليس ذلك بتبعيض الصفقة على البائع كما ليس ذلك للميت. فإن شاء الذي تماسك أن يرد صفقته كما رد صاحبه كان ذلك له.

والاستحسان إذا اختار المتمسك بنصيبه أن يأخذ مصابه الراد فيضم الجميع إلى ملكه ويغرم جميع الثمن ولا حجة في ذلك للبائع إذا وصل إليه جميع الثمن ويسلم من تبعيض الصفقة. وهذا القول الذي صوبه جميع المتأخرين. والقولان قائمان من "المدونة". وسبب الخلاف: النظر إلى الترجيح بين جانب الوارث وبين جانب البائع. فمن رجح جانب الوارث لكونه يقوم مقام المشتري تارة على الاستبداد وتارة مع الأعداد. وعلى أي وجه هو أصيل وليس بدخيل لثبوت السبب الذي به يدلي جناة ومماتًا والبائع لا ضرر عليه إذا قبض ثمن جميع سلعته على حسب ما وقع به البيع قال: الوارث مقدم على البائع. ومن رجح جانب البائع لكونه مالك للسلعة على الحقيقة وهي بعد في ضمانه. ومن رد سهمه من الورثة فقد رده على أصل ملك البائع على أصل ما كان عليه أولًا ثم لا سلعة عليه للوارث المتمسك إلا برضا البائع أصل ذلك الأجنبي إذا أراد الأخذ بعد أن رده المشتري أو ورثته لأنه محل الاتفاق قال: إن البائع مقدم على الوارث. والجواب عن الوجه الثالث: إذا كان القائم بالخيار هو الوصي فاختار الرد والإجازة فإن السلطان ينظر في أمره ويتعقب فعله، فما كان صوابًا أمضاه وما كان فسادًا رده. والجواب عن الوجه الرابع: إذا كان على الوارث بالخيار هم الأوصياء. فإن اتفقوا في الرد والإجازة فهم كالوصي الواحد فإن اختلفوا نظر

السلطان في ذلك. فمن دعا منهما إلى سداد وصلاح رد إليه الآخر. والجواب عن الوجه الخامس: إذا كان القائم وارثًا ووصيِّا فهم كالورثة في جميع ما تقدم في الورث تفصيلًا وتحصيلًا فلا نطيل بتكراره مرة أخرى. والجواب عن الوجه السادس: إذا كان القائم بالخيار وارثًا ووصيين. فلا يخلو الوارث من أن ينفرد بأحد أمرين أو وافقه أحد الوصيين. فإن انفرد بأحد الأمرين ردًا أو إجازة كان كالوارثين على سواء. فإن وافقه أحد الوصيين فيما دعا إليه وانفرد الوصي الآخر فالأمر الذي دعا إليه من رد أو إجازة فإن السلطان ينظر فيما بين الوصيين. ومن وعي منهما إلى السداد رد إليه من خالفه، فإن كان الذي مع الوارث على سداد رد إليهم الوصي المنفرد ثم لا نظر ولا استحسان. فإن كان الوصي المنفرد هو المصيب رد إليه الوصي الذي مع الوارث ويكون الحكم في ذلك بين الوارثين وقد قدمناه. والجواب عن الوجه السابع: إذا كان القائم بالخيار هم الغرماء. كمثل أن يشتري سلعة على خيارهم ثم مات المشتري قبل أن يختار وعليه دين يحبط بماله فلا تخلو إجازة الشراء من أن تكون ردًا على التركة أو ردًا لها. فإن كان الآخذ رد على التركة كان الأخذ للغرماء جائز وليس بلازم لأن أخذ العين أحظى لهم من إجازة البيع وأخذ العوض لكونهم تعرضوا لتقليد العهد ولهم ألا يرضوا بذلك. فإن اختاروا الأخذ كان ذلك جائز لهم بشرط أن يكون ما فيها من الربح للميت ويوضع عنه من الدين بقدره وما كان فيها من وضيعة فعلى الغرماء لأن الثمن كان الآن ماله في ذمته.

وهذا كله في الخيار الحكمي كاطلاع الورثة على العيب فيما اشتراه فاختلفا في الرد والرضا بالعيب فدعا بعضهم إلى الرد ودعا بعضهم إلى الرضا هل هما من مسائل النظر والاستحسان أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أنهما من مسائل النظر والاستحسان وهو قول أشهب في بيع الخيار. والثاني: أنه لا نظر فيهما ولا استحسان وكل واحد من الورثة أو الشريكين يسعف بمراده. فمن أراد الرد كان له، ومن أراد الإمساك كان ذلك له، ولا حجة للبائع في التبعيض إذ على ذلك دخل لأنه دخل على اتباع ذمة كل واحد منهما بما عليه في الشركة. وسبب الخلاف: في الخيار الحكم هل هو كالشرطي أم لا؟ والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كان الخيار للبائع ثم مات فاختلف ورثته في الإمضاء والرد هل يدخل فيها النظر والاستحسان كما دخل فيما حين ورثه المشتري؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه لا نظر فيها ولا استحسان فليس لمن أراد الرد والإمساك أخذ نصيب الآخر. وإنما الخيار في ذلك للمشتري إن شاء قبل نصيب الذي رضي البيع ويفسخ البيع في حق الآخر إذا رضي بتبعيض صفقته وإن شاء فسخ البيع بنفسه. وإنما قلت: أنه لا يدخل فيه الاستحسان؛ لأن الذي اختار الإجارة لا يقال له: خذ مصابة الرد؛ لأن الراد قد أبطل البيع عن نفسه فليس لمن

أجازه أن يلزمه البيع كرهًا ويكلفه عهدة قد فر منها. وإنما قلنا: أنه لا يدخل فيه النظر والاستحسان للضرر الداخل على المشتري في تبعيض صفقته. وهذا ظاهر. والثاني: أن النظر والاستحسان يدخل فيه كما يدخل في موت المشتري. وبيان دخول النظر أن يقال للذي اختار الإجارة يلزمك أن تختار الرد كما اختاره صاحبك فليس لك أن تحسر البيع في حصتك ويلزم ذلك للمشتري؛ لأنك بعضت عليه صفقته وليس لك أن تأخذ نصيب الراد ويلزمه فيه البيع ليتم الصفقة للمشتري لأنه لا يلتزمه. وبيان الاستحسان أن الذي اختار الإجازة إن شاء رد كما رد صاحبه، وإن شاء أخذ نصيب الراد ويلزمه فيه البيع بغير اختيار الصفقة للمشتري، وهو ظاهر "المدونة" حيث قال: إلا أن يجيز الباقي من البائع أو المشتري. والقول الثالث: أن النظر والاستحسان يدخلان فيه. وبيان دخولهما على عكس ما وصف في الثاني، ويكون للذي يريد الرد من ورثة البائع مثل الذي يريد الإمضاء من ورثة المشتري ويكون للذي أراد الرد من ورثة البائع أن يأخذ نصيب من أراد إمضاء البيع؛ لأن الذي أراد الإجارة من ورثة البائع قد رضي بإخراج نصيبه من يده وأخر الثمن فيه. فإذا قال له الذي أراد إبطال البيع: أنا آخذ مصابك وأعطيك الثمن الذي أردت، كان ذلك له. وهذا القول ظاهر في المعنى بعيد في اللفظ. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست في أ.

المسألة الرابعة في البيع على الرضا والمشورة. وإذا باع البائع على خيار فلان أو رضاه أو اشترى على ذلك هل يجوز البيع ابتداء أم لا؟

المسألة الرابعة في البيع على الرضا والمشورة. وإذا باع البائع على خيار فلان أو رضاه أو اشترى على ذلك هل يجوز البيع ابتداءً أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز، وهو نص "الكتاب". والثاني: المنع، وهو رواية سحنون عن ابن القاسم في غير "المدونة" وهو ظاهر "الكتاب" لأن ذلك غرر وخطر. وسبب الخلاف: الرخصة هل تتعدى أم لا تتعدى؟ فعلى القول بالجواز فلهم في ذلك ثلاثة ألفاظ: المشورة والرضا والخيار. فأما البيع على مشورة فلان فلا خلاف في المذهب أن لمشترطها المخالفة وأن له البيع دون مشورة الذي اشترط مشورته إلا متأولًا على ما في "كتاب محمَّد" وما تأول عن ابن نافع. وأما البيع على الرضا والخيار فقد اختلف فيه المذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن من سبق إلى الرضا أو الرد من الذي اشترطه ذلك أو الذي اشترط رضاه أو خياره كان الحكم حكمه سواء كان الذي اشترطه بائعًا أو مشتريًا. وهو قوله في "الكتاب" في البائع في أول الباب ومثله في "كتاب ابن حبيب". والثاني: أن القضاء ما قضى به المشترط له الرضا أو الخيار ويلزم البائع

أو المشتري ما قضى به ولا كلام للمشترط معه ولا له مخالفته وهو قوله في الكتاب في المشتري ولا فرق بينه وبين البائع. والقول الثالث: أن للمشترط مخالفة من اشترط له فيما قضي به وهو ظاهر قوله في البائع في أول الباب. فإن رضي البائع أو رضي فلان البيع معناه: ولم يخالفه البائع فيما رضي واختار، وهو تأويل الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد على المسألة. والمشتري في ذلك كالبائع وهو أحد القولين اللذين حكاهما القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في المذهب. والقول الرابع: التفصيل بين البائع والمشتري. فالبائع له أن يسبق إلى الحكم وله المخالفة إن سبق المشتري ليس له المسابقة إلى الحكم ولا له المخالفة إن سبق، وهو ظاهر الكتاب إن حملنا الكلام على ظاهره. وهو تأويل ابن أبي زيد وغيره من القرويين. قال القاضي أبو الفضل عياض: وهذا مذهب الحذاق وعليه يصح بناء المسألة. وسبب الخلاف بين القولين المتقدمين: اختلافهم في اشتراط الرضا للأجنبي هل طريقه طريق الوكالة أو طريق التفويض؟ فإن سلكنا به مسلك الوكالة كان للبائع أو للمشتري السبق بالرضا أو الرد كما للآمر أن يبيع ما وكل الوكيل على بيعه وينفذ فعله إذا سبق بيعه بيع المأمور ويكون ذلك له عزلًا. فإن سلكنا مسلك التفويض فلا قضاء للبائع ولا للمشتري معه لتعلق حق الغير بالتفويض؛ إذ لا يختص ذلك الحق بالشرط وحده

ولا بالذي اشترط ذلك بائعًا كان أو مشتريًا -شاركه في ذلك من عاقده. وسبب الخلاف بين القولين الآخرين: هل ذلك حق للبائع والمشتري جميعًا أو حق لمشترطه خاصة. فإن قلنا: إن ذلك حق لهما جميعًا فلا مخالفة في ذلك للمشترط والقضاء لمن جعل ذلك إليه. فإن قلنا: إن ذلك حق للمشترط وحده ولا حظ فيه لمن بايعه في الصفقة كانت له المخالفة كالمشورة والقول بالتفصيل بين البائع والمشتري استحسان وما ذلك إلا لقوة ملك البائع لأنه في السلعة أصل، والمشتري فيه دخيل والأصل أبدًا أقوى من الدخيل والأقوال كلها متأولة على "المدونة". على ما لا يخفى علي من طالع أمهات الشرح. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست في الأصل.

المسألة الخامسة فيما يعد من المشتري بالخيار الرضا بالبيع

المسألة الخامسة فيما يعد من المشتري بالخيار الرضا بالبيع أما العتق والتدبير والوطء وتزويج الأمة والتصرف في الحيوانات بما يرجع إلى إصلاح أدواتها كتوديجها وتغرسها فلا خلاف أعلمه في المذهب أن ذلك يعد رضًا بالبيع ويزيد الخيار. واختلف فيما سوى ذلك هل يعد دليلًا على الرضا إذا فعله المشتري؟ على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن ذلك دليل على الرضا مثل أن يبيع أو يساوم أو يجني عمدًا أو يرهن أو يؤاجر وغير ذلك من أنواع التصرف التي تدخل على المالك. وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أن ذلك كله على الرضا إلا ستة أشياء: الإجارة والرهن والسوم وجناية العمد وتزويج العبد وإسلامه إلى الصناعة. فإن ذلك لا يكون دليلًا على الرضا بعد أن يخلفه قبل السنة كلها. وهو قوله في "الموَّازية". وقيل: "على الثلاثة منها خاصة. وهو الرهن والإجارة وتزويج العبد" وهو نص قول أشهب في "الكتاب". والقول الثالث: أن ذلك كله دليل على الرضا إلا البيع وهو قول علي ابن زياد في "الكتاب" فإنه قال: "يرجع الخيار في ذلك للبائع". وظاهر كلامه في الكتاب أن لا فرق بين بيعها بربح أو بوضيعة. ولمحمد بن المواز قول آخر في المسألة بالتفصيل بين أن يبيعها بربح فيرد

بيعه؛ لأنه من باب ربح ما لا يضمن أو يبيعها بغير ربح فيجوز بيعه وينفذ ويكون فوتًا. وفيها قولًا آخر: أنه إن باع بربح كان الربح للبائع وإن زعم أنه اختار قبل البيع كان القول قوله مع يمينه. فيتخرج في البيع على هذا التنزيل أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن البيع دليل الرضا جملة بلا تفصيل، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن يرجع إلى البائع الأول سواء باعها بربح أو وضيعة وهو قول علي بن زياد في "الكتاب" فيرد البيع لأنه من باب ربح ما لم يضمن أو يبيعها بوضيعة أو بمثل رأس المال فينفذ بيعه ويعد ذلك منه رضا، وهو قول ابن الموَّاز. وقد تأول علي بن زياد مثل قول ابن الموَّاز. والرابع: التفصيل بين أن يدعي المشتري أنه باع بعد الرضا فيقبل قوله مع يمينه أو لا يدعي فيكون الربح للبائع إن باع وهو قول ابن القاسم في إحدى روايات "المدونة" في "كتاب بيع الخيار". وظاهر هذا القول: أنه إذا لم يدع الرضا قبل البيع ولم يبع بربح أن ذلك يعد رضي منه. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السادسة في الجارية المشتراه إذا ولدت في أيام الخيار

المسألة السادسة في الجارية المشتراه إذا ولدت في أيام الخيار والكلام في هذه المسألة على أربعة أسئلة: فمنها: حكم بيعها وهي حامل. ومنها: ما وهب لها من الأموال في أيام الخيار. ومنها: حكم أرش ما جنى عليها. ومنها: حكم ما ولدت في أيام الخيار. فالجواب عن السؤال الأول: في حكم بيعها وهي حامل. فلا يخلو من أن تكون في أقل من ستة أشهر أو جاوزتها. فإن كانت في أقل من ستة أشهر فلا خلاف أعلمه في المذهب في جواز بيعها وأن حكمها حكم الصحيح في جواز بيعها في ذلك وإطلاق يدها في التصرفات إن كانت حرة إيماءً على الإطلاق أو كانت ذات زوج فيجوز تصرفها على الإطلاق في المعاوضات. وفي المعروف مقصور على الثلث. وأما إذا جاوزت ستة أشهر فحكمها حكم المريض المدين الذي يحجب عن التصرف بغير عوض في ماله إلا عن الثلث فلا يجوز بيعها على هذا الوجه؛ لأن بيعها حينئذ غرر وخطر وقد اختلف المتأخرون في وجه الاعتذار عما وقع لابن القاسم في "الكتاب" فمنهم من قال: إنما تكلم على حكمها بعد الوضع والفوات فلو سئل عن بيعها على تلك الحالة ابتداءً لمنعه. ومنهم من قال: يحتمل أن يكون المتبايعان جهلا حال حملها حين البيع

إما منهما جميعًا على الاتفاق أو من أحدهما على الخلاف إذا علم أحد المتبايعين بفساد البيع. ومنهم من قال: يحتمل أن يكون بيعها في آخر شهر من شهور السنة حيث يكون حكمها حكم الصحيح إطلاقًا وامتد أمد الخيار فيها إلى أن دخلت في الشهر السابع ولاسيما على القول بأن أمد الخيار في العبيد شهر. وهو ظاهر قوله في "الموَّازية" حيث قال: "ولا أفسخه إن وقع الخيار إلى شهر". وعلى هذا التأويل يكون البيع جائز ابتداءً. والجواب عن السؤال الثاني: في حكم ما وهب [لها] (¬1) من المال في أيام الخيار هل يكون للبائع أو للمشتري؟ فالمذهب فيه يتخرج على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه للبائع إطلاقًا وهو قوله في "الكتاب" قياسًا على الولد. والثاني: أنه للمشتري إطلاقًا. والثالث: بالتفصيل بين أن يستثنى المشتري ما لها فيكون له ما وهب لها من المال أو لا يستثنيه فيكون المال للبائع. وسبب الخلاف: بيع الخيار هل هو منعقد من حينه ووقته أو هو منعقد من مبدئه ومنشئه. والجواب عن السؤال الثالث: في حكم أرش ما جنى عليها في أيام الخيار. ولا تخلو الجناية من أربعة أوجه: ¬

_ (¬1) في أ: له.

إما أن تكون من البائع، أو من المشتري أو من أجنبي، أو من غير فعل آدمي. فإن كانت من البائع، فلا تخلو الجناية من أن تكون عمدًا أو خطأ. فإن كانت عمدًا، فلا تخلو من أن تكون على النفس له أو على ما دون النفس. فإن كانت على النفس فلا يخلو من أن تكون القيمة مثل الثمن أو أكثر. فإن كانت القيمة مثل الثمن فلا شيء للمشتري على البائع ويكون ذلك قصاصًا. فإن كانت القيمة أكثر من الثمن كان الفضل للمشتري إن أجاز البيع؛ لأن البائع بقي عليه حق التوفية فليس له أن يتعمد إلى فعل شيء يمنع من ذلك. فإن فعل كان للمشتري أن يأخذ بحكم التعدي. فإن كانت الجناية فيما دون النفس كالجراح فإن المشتري بالخيار إن شاء أخذها معيبة وقيمة العيب ويدفع الثمن وإن شاء ردها بعينها. فإن كانت الجناية خطأ فلا يخلو من أن تكون على النفس أو على الجراح. فإن كانت في النفس مثل أن يقتلها البائع خطأ انفسخ البيع بينهما ولا شيء للمشتري وإن كانت القيمة أكثر. وإن كانت الجناية في الجراح كان المشتري بالخيار بين أن يأخذها معيبة ثم لا شيء له من قيمة العيب أو يرد البيع.

فإن كانت الجناية من المشتري، فلا تخلو من أن تكون عمدًا أو خطأ. فإن كانت عمدًا فلا تخلو من أن تكون في النفس أو في الجراح. فإن كانت في النفس مثل أن يقتلها المشتري عمدًا فهل يعد ذلك منه رضًا أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": وسبب الخلاف: هل الجناية على النفس مثل الجناية على الجراح أم لا؟ فمن جعل القتل كالجرح قال: ذلك منه رضًا لأمة ويغرم الثمن. ومن رأى أن الجناية على النفس تخالف الجراح قال: إن المشتري ضامن ويغرم الثمن. واختلف ما الذي يغرم للبائع على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه يغرم الثمن الذي به اشترى. والثاني: أنه يغرم القيمة وهو قول سحنون. والثالث: أنه يغرم الأقل من الثمن أو القيمة؛ لأنه إن كانت القيمة أقل غرمها لكونه لم يذكر الشراء. وإن كان الثمن أقل غرمه لأن البائع رضي به أولًا. وسبب الخلاف: اختلافهم فيمن استهلك لرجل سلعة قد وقفت قيمتها على الثمن هل يغرم قيمتها أو إنما يغرم الثمن الذي وقفت عليه؟ وإن كانت الجناية على الأطراف أو كانت جراحًا فلا تخلو من أن تكون مفسدة للأمة أو غير مفسدة. فإن كانت مفسدة وذهبت منافع الأمة فإن المشتري يغرم. جميع الثمن للبائع ويعتق عليه.

وإن كانت الجناية يسيرة ليس بمفسدة للأمة فإن ذلك يتخرج على الخلاف الذي قدمناه في مثل ذلك هل يعد منه رضًا أم لا؟ وعلى القول بأن ذلك يعد منه رضا فإنه يغرم الثمن. وعلى القول بأن ذلك لا يكون رضا فإن المشتري يبقى على رأس أمره إن شاء أجاز البيع ويغرم الثمن، وإن شاء ردها وما نقصت الجناية. فإن كانت الجناية خطأ فعلى التقسيم الذي قدمناه في النفس والجراح. فإن كانت الجناية على النفس مثل أن [يقتلها] (¬1) المشتري خطأ فإنه يتخرج على الأقوال الثلاثة التي قدمناها إما الثمن وإما القيمة في الأقل من الثمن أو القيمة. فإن كانت الجناية جراحًا [جرحها] (¬2) المشتري خطأ فإن ذلك لا يعد منه رضًا بالاتفاق. وهل يغرم ما تقتضيه الجناية أم لا؟ فلا يخلو من أن يختار إمضاء البيع أو رده. فإن اختار الرد فلا إشكال أنه يغرم رأس الجناية للبائع. وإن اختار الإمضاء هل يغرم الأرش أم لا؟ فإنه يتخرج على قولين. وينبني الخلاف على الخلاف في أرش ما جني على الأمة المشتراة على خيار في أيام الخيار هل هو للبائع أو للمشتري. وهذا الخلاف ينبني على الخلاف في بيع الخيار إذا انعقد هل هو منعقد ¬

_ (¬1) في أ: يقتله. (¬2) في أ: جرحه.

من حينه ووقته أو لم يزل منعقدًا من ميدانه ومنشئه. وأما إن جنى عليه الأجنبي فإن الخطأ والعمد فيه سواء. فإن قتله كانت القيمة للبائع قلت أو كثرت وينفسخ البيع. وإن كانت الجناية دون النفس كان الأرش للبائع ويخير المشتري بين أن يقبل الأمة معيبة ولا شيء له في الأرش أو يرد البيع. وقيل: إن الأرش للمشتري إن اختار البيع وهو قول ابن حبيب. وسبب الخلاف: ما قدمناه في بيع الخيار إذا انعقد هل يعد كأنه لم يزل منعقدًا؟ فإن كانت الجناية من سبب سماوي كان المشتري بالخيار بين أن يأخذها معيبة أو يرد البيع ولا خلاف في ذلك. والجواب عن السؤال الرابع: في حكم ما ولدت في أيام الخيار هل يكون للبائع أو للمشتري؟ على قولين: أحدهما: أنه للبائع وهو قول أشهب. والثاني: أنه للمشتري إن اختار الشراء وهو قول ابن القاسم. وسبب الخلاف: الأصل الذي قدمناه. فعلى القول بأنه للمشتري فلا تفريع. وعلى القول بأنه للبائع هل يفسخ البيع بينهما أو يمضي؟ فالمذهب على قولين: وسبب الخلاف: ما يوجبه الحكم هل هو مثل ما يوجبه الشرط أم لا؟ فعلى القول بأن البيع يمضي بينهما بشرط الجمع بينهما أعني بين الولد والأم هل يجمع بينهما في حوز أو ملك؟ قولان متأولان على "المدونة".

فعلى تأويل أبي محمَّد بن أبي زيد أنهما يجمع بينهما في حوز وعلى تأويل غيره يجمع بينهما في ملك. والكلام على هذا المعنى يستوفى في "كتاب التجارة إلى أرض الحرب" إن شاء الله. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السابعة في الخيار والاختيار

المسألة السابعة في الخيار والاختيار فإذا اشترى سلعتين على أن يختار أحدهما ويرد الأخرى ثم ادعى الضياع فيهما أو في إحداهما. فإن ادعى الضياع فيهما جميعًا فلا يخلو أخذ المشتري للسلعتين من ثلاثة أوجه: إما أن يأخذهما على الخيار المجرد أو الاختيار المجرد أو على معنى الخيار والاختيار. فإن أخذهما على معنى الخيار المجرد فادعى الضياع هل يضمن أو لا يضمن؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المشتري ضامن كان الخيار له أو للبائع وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وهو مشهور المذهب. والثاني: أن الضمان في ذلك ممن اشترط الخيار -بائعًا كان أو مشتريًا- وهو قول ابن كنانة عن مالك. فإن قبضهما علي الاختيار المجرد ثم ادعى ضياع الجميع فإنه ضامن لإحداهما، وهو في الأخرى أمين -ضاعا ببينة أو بغير بينة. فإن قبضهما على معنى الخيار والاختيار فادعى ضياعهما فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ضامن بقيمة إحداهما وفي الأخرى مؤتمن. وهل يضمن مع قيام البينة على التلف أم لا؟

فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه ضامن قامت البينة على التلف أم لا وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أنه لا يضمن مع قيام البينة. وسبب الخلاف: هل ضمانه ضمان تهمة أو ضمان أصل؟ والثاني: أنه يضمن فيه الثوبين جميعًا إذ له الخيار في كل واحد منهما، وقد ينتقل من اختيار إحداهما إلى الأخرى ويكون كأنه أخذها على خيار دون اختيار، وهو قول ابن حبيب عن جميع أصحاب مالك على زعمه. والقول الثالث: أنه يغرم قيمة أحدهما ويغرم في الآخر الأقل من الثمن أو القيمة، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: هل يغلب حكم الخيار على حكم الاختيار أم يغلب حكم الاختيار على حكم الخيار. فمن غلب حكم الخيار على حكم الاختيار أعطى الحكم للخيار كما لو انفرد. ومن غلب حكم الاختيار كان الحكم له أيضًا. وقول أشهب متردد بين القولين. وأما إن ادعى ضياع أحدهما فلا يخلو ضياعه من ثلاثة أوجه: إما أن يختار الذي ضاع أو الذي بقي أو أبهم الأمر. فإن كان الذي ضاع هو الذي اختار المشتري فإنه يرد الباقي وقيمة التالف. فإن الباقي هو الذي اختار فإنه يغرم ثمنه ولا ضمان عليه للتالف لأنه فيه أمين. فإن أبهم الأمر فادعى أن الباقي هو الذي اختار هل يصدق أم لا؟

فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يصدق وهو مذهب "المدونة". والثاني: أنه يصدق ويحلف وهو قوله في "الموَّازنة". وعلى القول بأنه لا يصدق فإنه يغرم ثمن نصف التالف. وهل له أن يأخذ الثوب الباقي أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يأخذه وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يأخذ نصف الثوب ويغرم نصف الثالث وهو قول ابن الموَّاز. واحتج وقال: فلو جاز أن يأخذ ثوبًا ونصف ثوب وما اشتري إلا ثوبًا واحدًا. وسبب الخلاف: هل ضمانه ضمان تهمة أو ضمان أصل. فأما الذي يسأل رجلًا دينارًا فيعطيه ثلاثة دنانير ليختار منها دينارًا فيضيع منها ديناران. فلا يخلو قبضه من ثلاثة أوجه: إما أن يكون قبضها كلها على معنى الأمانة أو قبضها على معنى الوثيقة أو قبض بعضها على القضاء وبعضها على الأمانة. فإن قبضها كلها على الأمانة مثل أن يقبضها على أن يزنها فإن أعجبه أخذ منها ديناره وإلا ردها ثم ضاع منها ديناران قبل التقليب فلا ضمان عليه لأنه أمين. فإن قبضها على معنى الوثيقة مثل أن يقبض منه ثلاثة دنانير لتكون عنده على معنى الرهن حتى يقبض حقه ثم ضاعت كلها أو بعضها فهو ضامن لجميعًا.

وعلى هذا الوجه يحمل قول سحنون في "الكتاب" حيث قال: ومعنى ذلك أن الضياع لا يعلم إلا بقوله. وحكم هذا الوجه حكم الرهن من طرف إلى طرف. فإن قبض بعضها على معنى القضاء وبعضها على معنى الأمانة فهذا سؤال الكتاب فإنهما يشتركان فيما ضاع؛ لأن دينار القضاء غير متعين في هذه الثلاثة. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثامنة في بيعتين في بيعة

المسألة الثامنة في بيعتين في بيعة والأصل في ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة (¬1). وذلك ينحصر في ثلاث صور: إحداها: أن يكون مثمونًا واحدًا بثمنين. والثاني: أن يكون مثمونين بثمن واحد. والثالث: أن يكون مثمونين بثمنين مختلفين. ثم لا يخلو الحكم في هذه الصور الثلاث من وجهين: أحدهما: أن يكون الثمنان أو المثمونان أو أحدهما طعامًا ربويًا. والثاني: أن يكون عروضًا وحيوانًا. فإن كان الثمنان والمثمونان أو أحدهما طعامًا ربويًا فلا يجوز البيع على الإيجاب اتفاقًا كيف ما قدر وصور لوجود الربا إما تفاضلًا وإما نساءً مع ما في الجميع من بيع الطعام قبل قبضه. فإن كان ذلك عروضًا أو حيوانًا أو عينًا فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك مما لا يجوز أن يسلم بعضه في بعض فيما بين الثمنين أو فيما بين المثمونين. والثاني: أن يكون مما يجوز سلم بعضه في بعض. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3461) والترمذي (1231) والنسائي (4632) وأحمد (9582) من حديث أبي هريرة، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.

فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان مما لا يجوز أن يسلم بعضه في بعض فلا يخلو من أن تكون التهمة قائمة أو منتفية. فإن كانت التهمية قائمة: حرم البيع ومنع، ومثاله في المثمون الواحد بثمنين مختلفين هذا الثوب بدينار نقدًا أو بدينارين إلى أجل قد وجب البيع بأخذ الثمنين أو بعشرة دراهم نقدًا أو بدينارين إلى أجل قد وجب بأحد الثمنين إما بعشرة نقدًا أو بدينارين إلى أجل لأنه يتهم أن يختار أحد الثمنين أولًا ثم ينتقل إلى الآخر فيأخذ بذلك وذلك حرام لا يحل؛ لأنها فضة بفضة متافضلة مع ما فيها من التأخير وفيما بين الذهب والفضة مستأخر وذلك بناءً على أن من خير بين شيئين هل يعد مختارًا لما ترك أو لا؟ فإن انتفت التهمة جاز البيع بلا إشكال كبيعه هذا الثوب بدينار نقدًا أو بنصف دينار نقدًا أو بعشرة دراهم نقدًا أو بخمسة نقدًا فهذا لا يتهم لما يعلم بالشاهدة أنه لا يختار إلا الثمن القليل إن كان الخيار للمشتري. فإن كان الخيار للبائع فإنه لا يختار إلا الثمن الكثير. وهذا الحكم إن باع أحدهما بدينارين نقدًا، أو بدينارين إلى أجل. فذلك جائز لما علم أنه يختار أيسر الأمرين إذا كان الخيار للمشتري. فإن كان الخيار للبائع فإنه يختار أكثر الثمنين. وكذلك إن باعها بدينار نقدًا أو بدينارين نقدًا أو باعها بدينار نقدًا أو بدينارين إلى شهر فذلك جائز سواء اختار الأقل أو الأكثر؛ لأن الزائد كالهبة للبائع من المبتاع إن كان الخيار للمشتري؛ لأنه قد ملك السلعة بالأقل ثم إن شاء نقد الأكثر وإن شاء دفع الأقل. فإن اختار دفع الأكثر كان الدينار الزائد هبة منه للبائع، وكذلك إن كان الخيار للبائع فإن المشتري قد التزم أخذ السلعة مثلًا ثم إن أخذها

بالأقل على ما اختاره البائع فكأنه تفضل على المشتري بوضع الدينار الزائد. وهذا كلام ظاهر لا غبار عليه. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان الثمن أو المثمون مما يجوز سلم بعضه في بعض فلا يخلو ذلك من أربعة أوجه: أحدها: أن يختلفا جنسًا وصفة. والثاني: أن يتفقا جنسًا ويختلفا صفة اختلافًا يوجب سلم أحدهما في الآخر. والثالث: أن يتفقا جنسًا ويختلفا صفة اختلافًا لا يوجب سلم أحدهما في الآخر. والرابع: أن يتفقا جنسًا وصفة اتفاقًا موازيًا. فأما الوجه الأول: إذا اختلفا جنسًا وصفة فإن ذلك لا يجوز. مثاله من الصور المتقدمة مثمونان بثمن واحد أو بثمنين مختلفين كبيعه هذا الثوب بدينار أو هذه الشاة بدينار أو بدينارين. ومثال في الثمنين: هذا العبد بثوب أو شاة على الإلزام فذلك كله ممنوع لأجل الغرر والخطر لأنه إن كان الخيار للبائع فإن المشتري لا يدري ما اشترى. وإن كان الخيار للمشتري فإن البائع لا يدرى ما باع من تلك الأعيان وذلك غرر وحظر لاختلاف الأغراض في الأعيان المتباينة. وهكذا الجواب في الوجه الثاني إذا اتفقا جنسًا واختلف صفة اختلافًا يوجب سلم أحدهما في الآمر لاختلاف الأغراض في الثمن أو المثمون لاختلاف صفاتهما وهذا هو مشهور المذهب.

وذهب عبد الملك وأشهب إلى الجواز، وذلك منهما جنوح إلى مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة. وسبب الخلاف: النهي عن بيعتين في بيعة هل إنما يتناول الثمنين في مثمون واحد خاصة من غير أن يتناول الثمنين أو يتناول المثمونين كما يتناول الثمنين. فالجمهور على أنه يتناول الجميع. وأشهب وعبد العزيز لا يتناول عندهما إلا الثمنين في مثمون واحد. فأما الوجه الثالث: إذا اتفقا جنسًا واختلفا صفة لا يوجب سلم أحدهما في الآخر كبيعه هذا الثوب بدينار وهذا الثوب بدينار أيهما شاء البائع أو المشتري على الإلزام بعد أن تكون كلها مروية أو هروية أو أنهما اختلفا في الجودة أو الدناءة هل يجوز البيع أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز وهو قوله في "كتاب بيع الخيار". والثاني: المنع وهو قول ابن حبيب. وهذا إذا اختلفت الصفة واتفقت الأثمان. وأما إن اختلفت الصفة والأثمان كقوله في الكتاب في الجاريتين إحداهما بخمس مائة والأخرى بألف فالمذهب على قولين أيضًا: أحدهما: المنع، وهو مذهب "الكتاب". والثاني: الجواز، وهو قول ابن حبيب. وسبب الخلاف: ما قدمناه من عموم النهي.

وأما الوجه الرابع: إذا اتفقا جنسًا وصفة اتفاقًا متوازيًا فإنه يجوز باتفاق المذهب إذا اتفق الثمن في الجنسية. فإن اختلف الثمن في الجودة والدناءة فإنه يخرج على الخلاف في الوجه الثالث الذي قدمناه. وأما عبد العزيز بن أبي سلمة فقد جوز بيع مثمونين بثمنين مختلفين كبيعه هذا الثوب بسبعة دراهم أو هذا الثوب بخمسة إذا كانت السكة واحدة. وقال في "الكتاب" في تفسير حلال ذلك: إنه كأنه أخذ الثوب الذي بسبعة ثم رده وأخذ الذي بخمسة ووضع درهمين من السبعة على تفسير فكأنه اشترى درهمين من السبعة التي كانت عليه والثوب الذي بخمسة بالثوب الذي كان أخذه بسبعة ثم رده وبقيت عليه خمسة وصار الثوب الذي بخمسة له فليس هذا دراهم بدارهم: انتهى كلامه. فهذا تفسير ابن أبي سلمة لكلامه وهو تفسير يحتاج إلى تفسير. وخلاصة كلامه مع تطويله كأنه ترتب في ذمته. سبعة دراهم ثمن الثوب الذي أخذ ثم باعه بسبعة دراهم وبقي على البائع الأول درهمان يقاصص بهما المشتري الأول من السبعة التي عليه وبقيت عليه خمسة دراهم فسلم من الربا. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة التاسعة في استثناء البائع من المبيع

المسألة التاسعة في استثناء البائع من المبيع وفي هذه المسألة سؤالان: الأول: استثناء البائع من المبيع. والثاني: استثناء المشتري مثل أن يشتري على أن يختار. فالجواب عن السؤال الأول: إذا استثنى البائع من المبيع فلا يخلو من أن يستثني جزءًا أو عددًا. فإن استثنى جزءًا جاز البيع والاستثناء كان المستثني أقل أو أكثر مثل أن يبيع دارًا إلا ربعها فيكون البيع إنما وقع في الثلاثة الأرباع ولا إشكال في جوازه لغة وشرعًا أو يبيع دارًا ويستثنى ثلثها فيكون البيع إنما وقع في الثلث فهذا جائز أيضًا في عرف اللغة غير أنه مستشنع في عرف الاستعمال ويستهجن في عرف بعض الأصولين ويكون شريكًا للمشتري بذلك الجزء. فإن استثنى عددًا فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يشتري الخيار. والثاني: أن لا يشترطه. فإن لم يشتري اختيار ذلك العدد جاز ويكون اشتراط الجزء فيما قل أو كثر. فإن اشترط أن يختار ذلك العدد، فإن كان يسيرًا كالثلث فدون الجواز اتفاقًا. وإن كان كثيرًا أكثر من النصف منع على مذهب "المدونة".

وفي النصف قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه في حيز اليسير وهو ظاهر قوله في "كتاب بيع الخيار" حيث قال: إن استثنى جل ذلك منع لأن الجل والأكثر أكثر من النصف يكون لأن الأكثر أكثر من كثير. والثاني: أنه في حيز الكثير لأنه جعل النصف في حيز الكثير في غير ما موضع من "المدونة". فانظر فقد منع البائع من استثناء الكثير وجوزه للمشتري فما الفرق بينهما؟ فإن قيل: الفرق بينهما أن البائع إذا استثنى أكثر الصفقة دخل الضرر على المشتري في المبيع؛ لأنه لا يدري ما يبقى له بعد الاستثناء، فهذا بعينه موجود في استثناء المشتري؛ لأن البائع لا يدري ما يبقى له بعد اختيار المشتري. فإن اعتبر ذلك منع في اختيار البائع والمشتري وهو النظر. ثم لا يخلو المال الذي يختار منه البائع من أن يكون مالًا ربويًا أو غير ربوي. فإن كان مالًا ربويًا مثل أن يبيع حائطًا واستثنى منه عشر نخلات يختارها، ويبيع صبرًا واستثنى منها صبرة أو أصواعًا معلومة فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز وهو نصه في "الكتاب". والثاني: المنع وهو ظاهر قوله في فصل المشتري. وسبب الخلاف: المستثنى هل هو مشتري أو مبقي. فإن كان المستثنى ما ليس ربويًا فإنه يجوز للبائع الاختيار اتفاقًا من غير اعتبار بأن يكون المستثنى

مشترًا أو مبقًا. والجواب عن السؤال الثاني: إذا كان الخيار للمشتري. فلا يخلو اختياره من أن يكون في الطعام أو في العروض. فإن كان في العروض فهل يجوز في اليسير والكثير أو إنما يجوز في اليسير دون الكثير؟ فذلك يتخرج على قولين: والخلاف فيه مبني على الخلاف الذي قدمناه في فصل البائع. فإن كان اختياره في المال الربوي فلا يخلو من أن يكون مما يجري فيه ربا التفاضل أم لا. فإن كان مما يجري فيه ربا التفاضل كالمقتات المدخر من الطعام مثل أن يشتري من هذا الحائط ثمن عشر نخلات يختارها فالمذهب في الجواز على قولين: أحدهما: المنع، وهو قول ابن القاسم. والثاني: الجواز، ويؤخذ من مسألة البائع. والعلة في المنع ربا التفاضل وربا النساء مع ما في ذلك من بيع الطعام قبل قبضه لاحتمال أن يسبق اختياره إلى أول ما فتحت عليه عينه من ثمر ذلك الحائط أولًا ظنًا منه أن ذلك أجود ما في الحائط ثم وقعت عينه لما جال في الحائط على ما هو أفضل مما اختاره أولًا فصرح باختياره. وسبب الخلاف: من خير بين شيئين هل يعد مختارًا لما ترك أم لا؟ فإن كان مما يجوز فيه ربا التفاضل ويمنع فيه ربا النساء كالطعام غير المقتات فهل يجوز فيه البيع على الاختيار أم لا؟ على قولين: المشهور الجواز لسلامة العقد من جمهور الفساد الذي هو بيع الطعام قبل

قبضه على القول بأن النهي إنما ورد في الطعام المدخر وسلم من ربا التفاضل أيضًا ولم يبق إلا التأخير اليسير قدر ما بين الاختيارين مع الغرر اليسير لكون البيع وقع بينهما والبائع لا يدري العين الذي أوقع عليها البيع في الحال. والخطب في ذلك يسير. والذي يتحصل من مجموع السؤالين ومقتضى الفصلين: إذا اشترى المشتري ثمر عشر نخلات يختارها أو استثنى البائع ثمر عشر نخلات يختارها. ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: الجواز عمومًا في البائع والمشتري، وهو نص قول مالك في "المدونة" في البائع بعد أن توقف فيها نحوًا من أربعين ليلة. والثاني: المنع عمومًا في البائع والمشتري، وهو نص قول ابن القاسم في المشتري، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". وسبب الخلاف: ما قدمناه في المخير بين شيئين هل يعد مختارًا لما ترك أم لا؟ ووجه قول من فرق بين البائع والمشتري أن المشترى في الحائط دخيل جاهل بأجناس الحائط وأنواعه واختلاف نواحيه. فهذا عند الاختيار مخير فربما رأى أصولًا موفورة بثمار مذللة فيختارها في نفسه ظنًا أن ذلك أفضل ما في الحائط ثم يجول فيها ويرى ما هو أفضل مما اختار أولًا ثم يصرح بالتخيير ساعتئذ والبائع بخلاف ذلك لأنه في الحائط أصيل وقد عرف أرجاءه وأركانه ونواحيه وما فيه من الأنواع وما يكثر حمله ويقل، وما يحمل في زمان ويتعطل في زمان فإنه بنفس ما استثنى وقعت رغبته في أصول معروفة قد كانت عينه عليها قبل البيع أو في حين البيع ثم لا يتهم في التردد والانتقال.

وهذا الفرق مع ضعفه إنما يصح على القول بأن المستثنى مبقي. وأما على القول بأنه مشترًا فلا. وذلك من المشتري بيع الطعام قبل قبضه. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها تأليف أبي الحسن علي بن سعيد الرجراجي تقديم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور علي علي لُقَم اعتنى به أبو الفضل الدمياطي أحمد بن علي الجُزءُ السَّابع مركز التراث الثقافي المغربي دار ابن حزم

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1428هـ - 2007م ISBN 9953 - 81 - 431 - 7 الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها مركز التراث الثقافي المغربي الدار البيضاء - 52 شارع القسطلاني - الأحباس هاتف:442931 - 022/ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هاتف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها (7)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كتاب المرابحة

كتاب المرابحة

بسم الله الرحمن الرحيم صلي الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه كتاب المرابحة تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها ثمان مسائل. المسألة الأولى في تقاسيم أنواع البيوع اعلم أنهم قالوا: إنما البيوع تنقسم إلى أربعة أقسام: بيع مرابحة وبيع مساومة وبيع مزايدة وبيع استنابة واسترسال. فأما بيع المرابحة: فهو أن يسمي له الثمن الذي اشترى به تلك السلعة ويربحه عليه. أما على جملة الثمن كقوله: اشتريت بألف فيربحه على الجملة أو يربحه على أجزاء الثمن كقوله للعشرة أحد عشر قل الثمن أو كثر، غير أنه لا يجوز للبائع أن يقول: قامت عليّ بكذا إطلاقًا ويسكت عن التفصيل ليربح على ذلك فلابد من البيان لأن ما قامت به عليه السلع ينقسم إلى ما يحسب مع رأس المال ويحسب له الربح وما لا يحسب ولا يحسب له الربح، وما يحسب ولا يحسب له ربح. وتلخيص ذلك أن ماله عين قائمة في السلعة كالصبغ والخياطة والقصارة والطرز فإنه يحسب مع رأس المال ويحسب له الربح. وكل ما ليس له عين قائمة إلا أنه له تأثير في زيادة الثمن أو لا تأثير له فلا يخلو ذلك من أن يكون مما يتولاه التأخير بنفسه عادة وعرفًا أو مما لا

يتولاه بنفسه أصلًا. فإن كان مما يتولاه التأخير بنفسه في أغلب الأحوال كثير المتاع وطيه ونشره وشده فإنه لا يحسب ولا يحسب له الربح إلا إن استأجر على ذلك فقد اغتنم الراحة ودفع الكلفة والمؤنة عن نفسه ثم لا يلزم ذلك من اشتراه مرابحة إلا أن يعلم ذلك مما لا يشتريه التاجر إلا بواسطة السمسار فيحسب ولا يحسب له ربح. وأما ما لا يتولاه التاجر بنفسه فلا كحمل المتاع والنفقة على الرقيق والحيوان. أما حمل المتاع فذلك مما يؤثر في زيادة الثمن في السلعة فإنه يحسب ولا يحسب له ربح. وإنما قلنا: إنه لا يحسب في الربح؛ لأن المشتري الأول قد أدى قيمتها ثمنًا، وإنما قلنا: إنه لا يحسب الربح؛ لأن المشتري الثاني إنما يربحه على أعيان السلع المشاهدة ثم لا يلزم أن يربحه على غير معين ولا مقبوض. وأما الرقيق والحيوان فلا يخلو من أن يكون لهم غلة أم لا. فإن كانت لهم غلة وفيها ما يقوم بمؤنتهم فإن نفقتهم لا تحتسب ولا يحسب لها الربح. فإن لم يكون لهم غلة أولهم غلة لا تقوم بمؤنتهم فإن نفقتهم تحسب في المال ولا يحسب لها ربح كالحملان على سواء، فإن ربحه على الجميع دون تفصيل، وإنما قال: قامت علىّ بكذا وكذا من غير توزيع فذلك يختلف. أما ما يحسب له فقد اختلف المذهب فيه على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه يلزمه البيان في الجميع وهو ظاهر "المدونة".

والثاني: أنه لا يلزمه في الجميع لأن ذلك سلعة ثانية بل هي هي وهو تأويل التونسي على "المدونة". والثالث: بالتفصيل بين القصارة وغيرها، فلا يحتاج في القصارة إلى البيان إذ لا يتوهم المشتري في ذلك أمرًا لم يعلمه بل ذلك زيادة في الثمن على كل حال. وأما الصبغ فإن كانت الثياب التي تشترى لتصبغ فلتبع ولا شيء وإن كانت من الثياب التي لا تشتري ولا يصلح لها فلا بيع حتى يتبين. وأما الخياطة فلا يبع حتى يتبين من وجهين اثنين: أحدهما: أن أكثر الناس يكرهون الشد في المخيط. والثاني: أن المشتري يظن أن البائع الثاني اشتراها يحط؛ لأن الظن فيما اشترى قائمًا ثم فعل وخيط أنه يحط من ثمنه وهذا تأويل الشيخ اللخمي -رحمه الله- وعلى القول بأنه لابد له من البيان في الجميع أو في البعض على التفصيل. فإذا باع ولم يبين فلا يخلو من أن تكون قائمة أو فائتة. فإن كانت قائمة فهل بينهما أم لا؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن البيع مفسوخ إن رضي البائع بإسقاط ما حسب للذي لا يحسب له وهو ظاهر "المدونة" لأنه قال: البيع مفسوخ إلا أن يتراضيا على شيد فيجوز. فجعل تراضيهما كابتداء بيع فيجوز وهذا قول ابن القاسم. والثاني: أنه إن رضي البائع بإسقاط ما حسب أو رضي المشتري أن يربح عليه فالبيع بينهما جائز وهو ظاهر "المدونة" في مسألة الكذب، وهو مذهب سحنون.

وسبب الخلاف: هل يغلب في هذه المسألة حكم الغش والخديعة فيفسخ وإن رضي أحدهما بإسقاط حقه أو يغلب فيها حكم الكذب في الثمن فيجوز البيع إذا رضي أحدهما بإسقاط حقه. فإن فاتت السلعة بماذا تضمن؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: تمضي بالقيمة ما بلغت وهذا القول يتخرج على القول بأن البيع يفسخ مع القيام وأن ذلك من باب الغش والخديعة. والثاني: أنه يمضي بالأقل من الثمن أو القيمة. وينبني الخلاف: على الخلاف هل ذلك من باب الغش والخديعة فتكون فيه القيمة بالغة ما بلغت أو هو من باب الكذب في الثمن فيكون فيه الأقل؟ وهذا البيع يدخله الدلسة من أربعة أوجه: أحدها: أن تكون السلعة قديمة عند المشتري فيدخلها في السوق فيظن الناس أنها طرية مجلوبة. والثاني: كتم عيب يعلمه فيها. والثالث: الكذب وهو أن يزيد في الثمن الذي به اشترى. والرابع: الغش وكتمان ما لو علمه المشتري لم يشترها مرابحة أو يزيد في شرائها جملة أو إظهار ما يغتر به المشتري ويظن أن ذلك ثمنها من رقم أو توظيف. وهذا الباب أضيق أبواب البيوع أعني بيع المرابحة. وأما القسم الثاني: في بيع المساومة: وهذا أحسنها وأسلمها. وهو أن يساوم الرجل الرجل سلعته فيتماسكان فيبيعها بما يتفقان عليه من الثمن، وتدخله الدلسة من وجهين:

أحدهما: أن تكون السلعة، قائمة عند صاحبها فيدخلها في السوق ليرى أنها طريقة مجلوبة، وهذا البيع يسمي بالتشريح عند أهل السوق أو باع في الجلب أو الركة ما ليس منها فقد ذهب بعض المتأخرين إلى أن هذا دلسة. والثاني: كتم عيب فيها مما لو علمه المشتري لم يشترها بذلك، واختلف هل لأحد المتبايعين القيام فيها بالغبن؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه له القيام فيها بالغبن، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم. والثاني: نفي القيام وهو مشهور المذهب. والثالث: التفصيل بين الجهل بعين المبيع أو الجهل بمقدار ثمنه. فإن جهل المبيع نفسه مثل أن يبيع فص ياقوت يظن أنه زجاج أو اشترى زجاجًا يظن أنه فص ياقوت فله القيام بذلك. فإن جهل مقدار ثمنه كمن باع ما يسوي مائة بعشرة مع معرفته بما باع يمينًا واسمًا فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا قيام بالغبن وهو المشهور. والثاني: التفصيل بين أن يكون مغبونًا بأكثر من الثلث فيكون له القيام، أو بالثلث فأقل فليس له القيام وهذا القول حكاه ابن القصار عن المذهب. وسبب الخلاف: اختلافهم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض" (¬1) هل يقصر على سببه أو يتعدى؛ لأن ذلك ورد في بيع حاضرٍ لباد. والقسم الثالث: بيع المزايدة، وهو أن يرى سلعته النداء فيجتمع عليه ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 346) بسند صحيح.

القوم فيزيدون إلى أن توقف على الثمن وما زاد فهو أحق بها. فإن اشترك اثنان في العطاء فإما في كرة واحدة فإنهما يشتركان فيها اتفاقًا. فإن سبق أحدهما وبعد الآخر في العطاء فهل يشتركان أو يكون للأول؟ قولان. وهذا البيع جوزه جمهور العلماء، ومنعه بعضهم لأن ذلك من مقتضى النهي، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يسم أحدكم على سوم أخيه" فحملوا النهي على ظاهره وأكثر العلماء حملوه على ما كان بعد التراكن والتقارب. وهذا البيع يدخله الدلسة من ثلاثة أوجه، وجهان متقدمان. والوجه الثالث: النجش وهو الزيادة على ثمن السلعة من غير قصد للشراء، إما أن صاحبها دس من يزيد فيها، وإما أن ينبعث إلى الزيادة من ذات نفسه فإن وقع البيع على هذا فينظر. فإن كان النجاش من سبب البائع فالبيع يفسخ في الفوات والقيام إلا أن يرضي البائع أن يسقط النجش فيلزم البيع للمشتري. وإن كان الناجش من غير سبب البائع وعلم ذلك في البيع لازم للمشتري ويستأثر الناجش بالإثم وحده. وقيل: إن البيع يفسخ على كل حال وهذا القول حكاه أبو صالح القزويني عن المذهب في "كتاب المعتمد". وسبب الخلاف: النهي هل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟ والقسم الرابع: بيع الاستنابة والاسترسال وذلك في الجاهل بقيمة السلعة أو بسعر السوق مثل أن يقول البائع: بع مني كما تبيع لغيري أو

اشتر مني كما تشتري من غيري، فهذا البيع جائز أيضًا وأنه إذا عين كان له القيام بالغبن اتفاقًا. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثانية إذا اشترى سلعة إلى أجل ثم باعها بالنقد مرابحة

المسألة الثانية إذا اشترى سلعة إلى أجل ثم باعها بالنقد مرابحة فقد اختلف أرباب المذهب في البيع الواقع على هذه الصفة هل هو بيع فاسد فساد لا يلحقه الصحة أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه مفسوخ مع القيام ويرد إلى القيمة مع الفوات، وإلى هذا ذهب أبو الحسن القابسي ويحيى بن عمر. ثم لا تخلو السلعة عند القائلين بالفساد من أن تكون قائمة أو فائتة. فإن كانت قائمة فإن البيع فيها مفسوخ كما قلنا. فإن رضي المشتري أن يأخذها بالثمن إلى ذلك الأجل فليس ذلك له؛ لأن ذلك سلفًا جر نفعًا والتأخير سلف من البائع ليتمسك بعقده وبيعه. فإن كانت فائتة فليس للمشتري الرضا والتماسك؛ لأن ذلك فسخ دين في دين إن تجانس الثمن مع القيمة وبيع الدين بالدين إن اختلف جنساهما وصرف مستأخر في العينين إن كان الثمن دنانير والقيمة دراهم أو بالعكس وسلف بزيادة إن كانت القيمة أقل، كأنه وجبت له القيمة وهي أقل فأخره بها إلى أجل يريد فيها. واختلف القائلون بفساد هذا البيع إذا قال هل يضمن بالأقل أو بالأكثر؟ على قولين متأولين على "المدونة": فذهب أبو القاسم وغيره من القرويين إلى أنه عليه الأكثر وتأولوا قوله في "المدونة" إن كانت القيمة أكثر وليس له إلا ذلك أي القيمة لأنها أكثر، وإلى هذا ذهب ابن الموَّاز.

وتأولوا أيضًا قوله في الكتاب في المشتري إذا قال: أنا أقبل ولا أرد. أنه لا خير فيه على أنه مع القيام لا مع الفوات. واستدلوا عليه بقوله: ولا أرد. والرد إنما يمكن مع القيام لا مع الفوات. وحملوا قوله في "الكتاب": لا أحبه ولا خير فيه، على التحريم. والقول الثاني: أن عليه الأقل من الثمن أو القيمة وهذا القول أيضًا متأول على "المدونة" من قوله: فليس له إلا ذلك. يريد الثمن لأنه جاء به بلفظ المذكر والثمن مذكر والقيمة مؤنثة. ولو أراد القيمة لقال: ليس له إلا تلك أو إلا هي وآخرون ممن يقول بالقول يقولوا: إنما فهم ذلك من سياق اللفظ. وصيغته: ليس له إلا ذلك، وهذا النفي يشعر بالتقليل. فلو أراد القيمة لقال كان ذلك له فلاحق العبارة وقطع اللبس بجواب النفي دل على أنه قصد إلى الأقل، وبه قال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد -رحمه الله- في "مختصره"، وأبو القاسم بن شبلون، ومعظم الشيوخ. والقول الثاني من أصل المسألة: أنه عقد تلحقه الصحة وأن معنى قوله في "الكتاب": والسلعة مردودة إلى البائع مع القيام. أي إن شاء المشتري وله الخيار، وكذلك في "كتاب ابن حبيب". قال ابن أبي زمنين: وهو مذهب ابن القاسم ويعد هذا الرضا كشراء مستأنف ولا يلتفت إلى علة سلف جر نفعًا: لأنه قد ملك الرد فقد ملك أن يملك، وإلى هذا ذهب أبو القاسم بن الكاتب وابن لبابة وأبو عمران الفاسي وابن أبي زمنين. وسبب الخلاف: هل يحكم لهذه المسألة بحكم الغش والخديعة أو يحكم

فيها بحكم الكذب في الثمن أو متردد بينهما. وأما سحنون رضي الله عنه فقد أطلق القول فيها وحكم لها بحكم الكذب في المرابحة، ويقوم الثمن المؤجل بالنقد، ويجعل ذلك كالثمن الصحيح ويراعي ألا تكون قيمة السلعة أقل من قيمة المؤخر يريد بما ينوبها من الربح. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثالثة إذا نقد خلاف ما عليه عقد ثم باع مرابحة

المسألة الثالثة إذا نقد خلاف ما عليه عقد ثم باع مرابحة فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يبيع على ما عقد. والثاني: أن يبيع على ما نقد. فإن باع على ما عليه عقد فإن بين جاز اتفاقًا فإن لم يبين فلا يخلو من أحد وجهين: إما أن يعقد على عين تنقد عروضًا أو عينًا من غير جنسه. أو عقد على عروض فيعد عينًا. فإن عقد على عين ثم نقد خلافه فلا يبيع على ما عليه عقد باتفاق المذهب حتى يتبين لما علم أن العدول عن المعقود به إلى أخذ العوض عنه إذ الإبقاء طلبًا للارتفاق عنه المشتري. فإذا باع على ما عقد ولم يبين فقد كذب إن قال: فاتت علي بكذا لما يعلم بالعادة أن المشتري إذا نقد خلاف ما عليه عقد أنه يجلب بذلك الرفق والوضيعة فمن هنالك يتبين لك أنه كذب في المرابحة. فأما إن عقد على عروض فنقد عينًا أو عرضًا يخالفها فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يبيع على واحد منهما حتى يتبين وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أنه يبيع على ما عقد ولا يبين ولا يبيع على ما نقد حتى يتبين وهو ظاهر قوله في "كتاب محمَّد".

وأما الوجه الثاني: إذا باع على ما نقد فلا يخلو من أن يبين أم لا. فإن بين وكان المنقود عرضًا عن عين جاز ذلك قولًا واحدًا. فإن كان المنقود عينًا عن عين من غير جنسها، أو نقد عينًا عن طعام فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز وهو نص "الكتاب". والثاني: المنع وهو ظاهر "المدونة" من غير ما موضع لأنه في العين صرف مستأخر، وفي الطعام بيعه قبل قبضه؛ لأن العقد إذا وقع بطعام ثم نقد عينه عينًا أو عرضًا فإن ذلك لا يكون إلا بتراضٍ من المتبايعين وذلك بيع مبتدأ أو هو بيع الطعام قبل قبضه. وقد بينا هذه المسألة في "كتاب السلم" وفي "كتاب النكاح الثاني" بيانًا لا مزيد عليه. فإن باع ولم يبين فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن البيع لا يجوز كبيعه على ما عقد عليه ولم يبين سواء وهو ظاهر "المدونة" وظاهر ما في "كتاب محمد" أيضًا من غير تفصيل في المنقود ما جنسه. والثاني: الجواز عمومًا من غير تفصيل، وهذا تأويل فضل بن سلمة على "المدونة" وهي رواية ابن وهب عن مالك في "موطئه"، وروى مثله عن مالك وابن القاسم وأشهب وعلي بن زياد وابن أشرس. والثالث: التفصيل بين أن يكون ما نقد أقل مما عليه عقد فيجوز، وبين أن يكون أكثر فلا يجوز حتى يبين، وهذا تأويل القاضي أبو الفضل عياض على "المدونة". والرابع: التفصيل بين العروض والطعام وبين العين، ففي العين

والطعام يبيع على ما عليه عقد وإن لم يبين، وفي العروض لا يبيع حتى يبين وهو قوله في "كتاب ابن الموَّاز". وينبني الخلاف على الخلاف في السلم الحالي هو يجوز أو لا يجوز؟ فمن جوزه جوز البيع هاهنا على الطعام والعروض؛ ومن منعه منع الجميع وهو المشهور. ومن فرق بين المعدود والمكيل والموزون يقول: إن الثمن في المكيل والموزون واحد، والمعدود يختلف فيه الثمن بتقارب القيمة. وتفاوت القيمة يختلف باختلاف نظر المفهومين وهو ظاهر قول مالك في "كتاب المرابحة" "وكتاب الشفعة" جواز السلم الحال وهي رواية منصوصة عنه في المذهب وقد جوز هنا أن يبيع على صفة ما نقد من العروض والطعام وقد قدم سلعته ونقدها في شيء موصوف مضمون في الذمة على أن يقبضه في الحال. والأعذار التي يعتذر به الشيوخ المتأخرون عن هذه المسألة مع ما وقع منها في "كتاب الشفعة" كلها ضعيفة فمهما اعتذروا به عن قول ابن القاسم في "كتاب المرابحة" أن ابن القاسم إنما تكلم على أحكام المرابحة دون أن يتعرض لما عداها، فلو سئل عن السلم الحال لأجاب فيه بما هو معروف من مذهبه وكذلك ما اعتذروا به في مسألة الشفعة من أن الشفيع مضطر إلى ذلك إذ لا يقدر على غيره فهو عذر بارد لا يسوغ سماعه فإن الشرع لم يعذر أحدًا في مناولة ما حظره واستباحة ما حرمه فيما وجد عنه مندوحة ولاسيما في المعاوضات التي هي اختيارية. والأخذ بالشفعة من قبيل المعاوضات على مشهور المذهب؛ إذ الشفيع مخير بين الإقدام والإحجام، وكيف يقال فيما هذه صفته أنه مضطر وهل

ذلك إلا تعسف ومن يهد الله فما له من مضل وعلى القول بأن البيع لا يجوز إذا باع على ما نقد لم يبين، فإن كانت السلعة قائمة ردت إلا أن يشاء المشتري أن يربح البائع على ما نقد. فإن فاتت فإنه يضرب له الربح على ما نقد ما لم يكن أكثر مما عقد عليه وربحه قلما يزاد عليه. [والحمد الله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الرابعة في الذي اشترى المتاع فرقم عليه أكثر مما باع به ثم باع مرابحة أو مساومة

المسألة الرابعة في الذي اشترى المتاع فرقم عليه أكثر مما باع به ثم باع مرابحة أو مساومة ولا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يرقم فيها رقومًا أكثر من أثمانها ويبيع على الثمن الصحيح. والثاني: أن يبيع على ما رقم. والثالث: أن يسري جملة ويرقم عليها بوظيفة الثمن. فأما الوجه الأول: إذا رقم عليها أكثر مما اشتراها لم يبعها على الثمن الصحيح مرابحة ومساومة فإن ذلك لا يجوز لأنه من وجه الغش والخديعة لأنه جعل الرقم عنوانًا يغتر به من أراد الشراء ويظن به الغفلة أو النسيان لثمنها ثم يتورع فيرى أن ذلك فرصة لثمنها ولا شك أن ذلك من باب الغش والخديعة. وأما الوجه الثاني: إذا باعها على ما رقم عليها فقد زاد في ثمنها أو كانت ميراثًا أو هبة مما لا ثمن له معلوم. فذلك لا يجوز أيضًا لأنه من باب الكذب في المرابحة. وأما الوجه الثالث: إذا اشترى جملة فرقم عليها بوظيفة الثمن فيبيع على ذلك مرابحة فإن ذلك لا يجوز أيضًا. واختلف في غلته على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك مسألة الكذب لأنه زاد في ثمن الجملة إذ ليس شراؤها كثيرًا السلعة المنفردة فقد زاد عند التوظيف على ما كان يجب للمفرد

بالحقيقة وهو مذهب سحنون. والثاني: أنه مسألة غش وخديعة لأنه غش حين لم يبين له أنه اشتراها جملة تكون للمشتري يظن أنه اشتراها أفرادًا، وبه قال بعض المتأخرين لاختلاف تقويم المقومين إذ ليس كل واحد موثق بتقويمه. والثالث: أنها مسألة غش وكذب لاجتماع الظنين فيها وهو قول ابن عبدوس وهو أظهر الأقوال. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الخامسة في الجارية إذا ولدت

المسألة الخامسة في الجارية إذا ولدت وقد قال في الكتاب إذا اشترى جارية فولدت عنده فلا يبيعها مرابحة ويحبس الولد إلا أن يبين. فانظر كيف جوز ابن القاسم البيع إذا وقع على هذه الصفة لما فيه من التفرقة بين الأم والولد. وقد اختلف أصحابنا في تعليل جوازها على ستة أقوال: أحدها: لقولهم: لعله أعتق الولد. والثاني: أن يكون الولد بلغ حد التفرقة. والتأويلان باطلان. أما الأول: فلقوله في الكتاب: ويحبس الولد فلو كان الولد حرًا فلا يحتاج إلى أن يحبسه. وأما الثاني: فلو كان طول الزمان يؤثر في بيع المرابحة حتى تبين قد حبس الولد أو بيع معها. والثالث: لعل الولد قد قامت وذلك باطل أيضًا لقوله: ويحبس الولد هنا الذي يحبس إذا مات الولد وذلك إحالة المسألة. والرابع: لعله على تأويل ابن القاسم في "العتبية" وتخريجه في سماعه أنه رجع إلى إجازة بيع التفرقة، وقد وهموه في هذا التأويل. والخامس: أن يكون ذلك برضا الأم على أحد القولين بأن ذلك من حقها. والسادس: أنه إنما تكلم هنا على أحكام المرابحة ولم يتعرض للكلام

على التفرقة فلم يتجوز منها وكثير ما يرد له مثل هذا في مسائله. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السادسة في الذى باع بمائة مرابحة ثم تبين له أنه قامت عليه بعشرين ومائة

المسألة السادسة في الذى باع بمائة مرابحة ثم تبين له أنه قامت عليه بعشرين ومائة فلا يخلو من أن تكون السلعة قائمة أو فائتة. فإن كانت قائمة يخير المشتري بين أن يضرب له الربح على رأس ماله مائة وعشرين أو ردها. فإن فاتت خير المشتري أيضًا أن يضرب له الربح على عشرين ومائة أو يعطيه قيمتها ما لم تكن أقل من المائة وربحها أو يكون أكثر من مائة وعشرين ربحها، فهذا ترتيب المسألة وتحريرها قيامًا وفواتًا، وقد بين في "الكتاب" وجهي الخيار مع قيام السلعة وخيره في الفوات، ولم يبين إلا وجهًا واحدًا إلا أنه لم يبين حكم الخيار مع القيام أحال ذلك البيان مع الفوات فإذا اختار أن يربحه على مائة وعشرين، فهل عليه البيان إذا أراد أن يبيع؟ فلا يخلو من أن يبين لدعوى البائع الثاني وجه أم لا. فإن بين له وجه مثل أن يقيم بينة على ما يدعيه أو يأتي من رقوم السلع ما يستدل به على صدقه فللمشتري الثاني أن يبيع ولا يبين. فإن صدقه من غير أمارة دلت على صحة دعواه فإنه لا يبيع حتى يبين؛ لأن ذلك من باب الكذب في المرابحة. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السابعة في الذي ورث نصف السلعة واشترى الباقي

المسألة السابعة في الذي ورث نصف السلعة واشترى الباقي فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يبيع له النصف إطلاقًا. والثاني: أن يقول له أبيعك النصف الذي اشتريت. فإن قال: أبيع منك نصف هذه السلعة ولم يبين، فإن البيع لا يجوز؛ لأن البيع وقع فيما باع وفيما ورث وربحه على الجميع وذلك كذب في ثمن ربع الميراث. فإن قال: أبيع منك النصف الذي اشتريت فلا يخلو من أن يتقدم الشراء على الميراث أو يتأخر عنه. فإن تقدم الشراء على الميراث فلا خلاف أنه يقع مرابحة ولا يتبين. فإن تقدم الميراث على الشراء فهل يحتاج إلى البيان أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يبيع حتى يتبين وهو قول أبي الحسن بن القابسي. ووجهه أن الميراث إذا تقدم على الشراء فربما أنه لا يتغالى في الثمن في شراء النصف الباقي ليتكامل له الملك. والثاني: المساواة بين تقدم الميراث على الشراء أو تأخره. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثامنة إذا كذب في المرابحة وزاد في الثمن

المسألة الثامنة إذا كذب في المرابحة وزاد في الثمن فلا تخلو السلعة من أن تكون قائمة أو فائتة. فإن كانت قائمة خير المبتاع بين أخذها بجميع الثمن أو ردها. فإن اختار الرد كان الخيار للبائع بين أن يحط الكذب وربحه فيلزم المبتاع ولا كلام له. فإن أبا فسخ البيع بينهما ويؤدب الفاجر المعتاد ويرد البيع. فإن فات السلعة فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يفيتها ما يفيت البيع الفاسد من حوالة الأسواق فأعلى فيكون على المبتاع قيمتها يوم قبضها إلا أن يكون ذلك أكثر من ثمن الكذب وربحه فلا يزاد عليه، أو يكون أقل من الثمن الصحيح وما قابله من الربح فلا ينقص منه، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في غير المكيل والموزون. وما يرجع فيه إلى المثل فإن المشتري يرد المثل فيكون الرضا بذلك بجميع الثمن أو رد المثل. والثاني: أن البائع في فوات السلعة تخير من أخذ الربح على ثمن الصحيح أو القيمة. فإن اختار أخذ القيمة كان ذلك له إلا أن يشاء المبتاع إن ثبت على ما اشتراها به. فإن أبى فعليه قيمتها يوم ابتاعها إلا أن يكون أقل أو أكثر على نحو ما ذكره ابن القاسم، وهي رواية علي بن زياد عن مالك في "المدونة".

والثالث: أنه يؤخذ الفضل من البائع فيدفع إلى المشتري وهو قول مالك في "كتاب ابن الموَّاز"، قيل: القيمة أعدل، قال: نعم، القيمة أعدل. فعلىّ بن زياد خالف ابن القاسم في ثلاثة مواضع: أحدها: أنه يفتيها حوالة الأسواق عند ابن القاسم، وظاهر قول علي ابن زياد أن حوالة الأسواق فيها ليس بفوت وعليه حمله بعضهم. والثاني: أن ابن القاسم خيرهما مع القيام دون الفوات. وفي رواية عليّ خيرهما مع القيام والفوات. والثالث: أن ابن القاسم قال: يغرم قيمتها يوم قبضها. وعلي يقول: يغرم قيمتها يوم ابتاعها. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

كتاب الوكالات

كتاب الوكالات

كتاب الوكالات تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها ست مسائل: المسألة الأولى في تصرف المأمور بعد موت الآمر بعد أن عزله وقد اختلف المتأولون والشارحون في تخريج هذه المسألة وتنزيلها وتلفيق ما وقع في "المدونة" في "كتاب الوكالات" و"كتاب الشركة". وقد قال في أول "كتاب الوكالات" إذا باع المأمور واشترى بعد موت الآمر ولم يعلم بموته أنه لا ضمان عليه ومثله في "كتاب الشركة" في الشريكين يفترقان ولهما دين من شركتهما على رجل فيقضي الغريم أحدهما أنه إن علم بافتراقهما فهو ضامن لنصيب الذي لم يدفع إليه ويرجع على الذي دفع بمقدار الذي عزم للشريك الذي رجع إليه لانفساخ الوكالة فيما بينهما بافتراقهما لعلمهما جميعًا؛ وإن لم يعلم فلا ضمان عليه. وقد قال في كتاب الشركة في الذي يحجر على وكيله فيقضي من غرمائه بعد عزله وهم لا يعلمون بذلك أنهم لا يبرون بالدفع إليه، وإن لم يعلم هو بعزله. هذا هو ظاهر قوله، وعليه حمله الشيخ أبو إسحاق التونسي وأبو القاسم بن محرز وغيرهما من الشيوخ. وقال في "كتاب العدة" وغيره من كتب "المدونة" في التي طلقها زوجها ولم تعلم بالفراق فأنفقت من ماله بعد الطلاق، فإن الزوج لا يرجع عليها بما أنفقت من ماله بعد الطلاق، وقال: إذا مات الزوج ولم تعلم بموته فأنفقت من ماله بعد الموت أن للورثة الرجوع عليها بما أنفقت من مال الميت

بعد الموت فمنهم من ساوى بين الموت والعزل والعلم وعدم العلم. وأن ما في "الكتاب" اختلاف قول، ومنهم من ساوى بين الموت والعزل وفرق بين العلم وعدمه، ومنهم من حمل ما في "الكتاب" على الوفاق وجعل ذلك اختلاف أسئلة وفرق بين الموت والعزل وبين العلم وعدمه. فمن ساوى بين الموت والعزل وعدمه وبين العلم وعدمه يقول: إن المسألة تتخرج على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الوكالة لا تنفسخ وأنه باقٍ عليها يبيع ويشتري ويتقاضى حتى يعزله الورثة سواء علم أم لا، وهو قول مطرف وابن الماجشون في واضحة ابن حبيب في الموت والعزل مثله. والثاني: أن الوكالة تنفسخ بموت الآمر علم ذلك أم لا ولا يجوز له بيع ولا شراء ولا قضاء ولا اقتضاء إلا بتوكيل الورثة وهو قول أصبغ في الموت وهو قول مالك في "كتاب الشركة" على ما تأول بعضهم. والثالث: التفصيل بين أن يكون الآمر هو الذي باع فيكون المأمور معزولًا عن اقتضاء الثمن ويكون المأمور هو الذي تولى البيع فيجوز له الاقتضاء وهو قول أصبغ في سماعه عن ابن القاسم في "العتبية". ومن فرق بين العلم وعدمه فيقول: إن المسألة تتخرج على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة". أحدها: أنه معزول بنفس الموت والعزل وإن لم يعلم بذلك وهو قول ابن القاسم في "كتاب الشركة" من "المدونة" في الذي يحجر على وكيله فيقضي من غرمائه بعد عزله وهم لا يعلمون بذلك أنهم يبرون بالدفع إليه وإن لم يعلم هو بعزله وهو ظاهر قوله، وعليه حمله التونسي وابن محرز

كما قدمناه. فإن لم يبر الغرماء بالدفع إليه فكذلك لا يبرأ هو ويكون للغرماء أن يرجعوا عليه وهو ضامن لما قبض، فهذا يبين لك أن الوكالة تنفسخ في حقه وفي حق من رجع إليه. والثاني: أنه لا يكون معزولًا في حق أحد إلا بوصول العلم إليه فيكون معزولًا في حق نفسه بوصول العلم إليه وفي حق من دفع إليه أو بايعه بوصول العلم إليه وهو قول مالك في "كتاب الوكالات" من "المدونة" حيث قال: إن الورثة يلزمهم ما باع الوكيل أو اشتري بعد موت الآمر قبل علم الوكيل، وكذلك يبرأ من دفع إليه من الغرماء إذا لم يعلم بموت الآمر على قياس قوله. فعلى قول مالك هذا لو علم بموت موكله فباع ولم يشتر بذلك فتلفت السلعة عنده لكان الوكيل ضامنًا بقيمتها لانفساخ الوكالة في حقه لعلمه بعد موته وتعديه فيما لا تصرف له فيه ولم يكن على المشتري أن يرد الغلة إذا أخذت منه السلعة وإن لم يعلم الوكيل بموته وعلم المشتري منه لكان عليه لتعديه بابتياع ما قد انفسخت الوكالة فيه في حقه وهو ظاهر قول مالك في الشريكين في "كتاب الشركة" أيضًا. والقول الثالث: أنه لا يكون الوكيل معزولًا إلا بوصول العلم إليه فإذا وصل العلم إليه كان معزولًا في حقه وحق من اقتضى منه أو بايعه وهو قول أشهب، وهو تأويل بعضهم لقول مالك في المسألة التخيير على الوكيل في "كتاب الشركة". ومن فرق بين الموت والعزل فيجعل في الموت ثلاث أقوال، وفي العزل ثلاثة أقوال، ووجهه الفرق بين الموت والعزل عنده أن بالموت صار المال لغير

الآمر فيكون الوكيل بتصرف في مال الغير بغير إذنه وعلمه بالموت وعدمه سيان؛ لأن العمد والخطأ في أموال الناس سواء وفي تبرئة الغريم بالدفع إلى الوكيل بعد العزل وقد علم أو لم يعلم؟ أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يبرأ بالدفع سواء علم الوكيل بالدفع أو لم يعلم وهو قول مالك في "كتاب الشركة". والثاني: أنه برئ من الدفع إليه إذا لم يعلم الغريم وإن علم الوكيل بالعزل وهو قول سحنون وهو ظاهر قول مالك في التحجير على الوكيل في "كتاب الشركة" على تأويل بعضهم. والثالث: التفصيل بين أن يعلم الوكيل بالعزل فلا يبرأ الغريم بالدفع وبين ألا يعلم فيبرأ وهو قوله في "كتاب الوكالات" في الموت وفي "كتاب الشركة" في الشريكين إذا افترقا ثم اقتضي الغريم أحدهما دينا لهما عليه. والقول الرابع: أن الغريم يبرأ وإن علم بعزل الوكيل إذا أوصل إليه العلم من غير جهل الطالب؛ لأن الوكيل قد سلطه الآمر على الاقتضاء والوكالة بيده فلا يقرر الغريم على الانفلات منه؛ لأنه إن احتج إليه فإنه معزول كان عليه البيان لا يدعيه فكان التفريط من جهة الطالب فإذا أوصل إليه العلم من جهة الطالب كان التفريط من جهة الغريم إذا رضي منه فعزله الوكيل من غير إشهاد، وهذا قول قياسي. ومن جعل ذلك اختلاف قول قال: يدخل الخلاف في كل واحدة من المسألتين على صاحبتها فتتداخل الأقوال بين مسألة العزل ومسألة الموت فيحصل في المسألة خمس تأويلات: أحدها: أنه لا فرق بين موت الآمر وعزله لوكيله وأن في كل واحد منهما ثلاثة أقوال:

أحدها: أن الوكالة تنفسخ بنفس الموت والعزل في حق الوكيل وحق من عامله وإن لم يعلم واحد منهما بذلك على ظاهر ما في "كتاب الشركة" في عزل الوكيل. والثاني: أنها لا تنفسخ في حق واحد منهما إلا بوصول العلم. والتأويل الثالث: الفرق بين الموت والعزل. فلا تفسخ الوكالة في الموت في حق كل واحد منهما إلا بوصول العلم إليه، وفي العزل قولان: أحدهما: أن الوكالة تنفسخ بنفس العزل في حقهما جميعًا. والثاني: أنها تنفسخ في حقهما جميعًا بمعرفة الوكيل خاصة. والتأويل الرابع: الفرق بين الموت والعزل. فلا تنفسخ الوكالة في الموت في كل واحد إلا بوصول العلم إليه وتنفسخ في العزل بوصول العلم إلى الوكيل قولًا واحدًا. والتأويل الخامس: الفرق أيضًا بين الموت والعزل. فتصح الوكالة بمعرفة الوكيل في حقه وحق من عامله، وفي العزل بنفس العزل، وإن لم يصل العلم بذلك إلى واحد منهما. وسبب الخلاف في جميع ما ذكرناه في هذه المسألة: اختلاف الأصوليين في النسخ متى يستعمل؟ هل بنفس وروده أو لا يلزم المكلف استعمال مقتضاه إلا بعد البلاغ؟ [فمن أنه لا يلزم المكلف استعمال مقتضاه إلا بعد البلاغ] (¬1) قال بجواز تصرفات الوكيل بعد الموت والعزل حتى يعلم وهو قول مالك في أول "كتاب الوكالات"، وفي التي ¬

_ (¬1) سقط من الأصل.

طلقها زوجها وهو غائب عنها ولم تعلم بالطلاق وغير ذلك مما لا يخفى كثرة، وهو مذهب أبي حنيفة. والدليل على صحة هذا الاعتبار فعل أهل قباء في تحويلهم وجوههم إلى القبلة وهم في الصلاة، وبنوا على ما مضى منها لما بلغهم أن القبلة قد حولت. فلو كان النسخ يستعمل بنفس وروده لكانت صلاتهم فاسدة لوقوع بعضها إلى قبلة منسوخة. فتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم على فعلهم دليل على ما ذكرناه. ومن رأي أنه يستعمل بنفس الورود قال ببطلان جميع تصرفات الوكيل بعد الموت والعزل، وهو قول مالك في التي يموت عنها زوجها أو يطلقها أن عدتها من يوم وقع الفراق. والموت ليس من يوم يأتيها الخبر وهو قوله في الوكيل يعزل أيضًا. والدليل على صحة هذا الاعتبار أن حكم الله تعالى قد استقر وخفاؤه على من خفي عنه لا يخرجه عن أن يكون متعدًا به وأكثر ما في ذلك أن يكون معذورًا بجهله بهذا. فعلى هذا التأويل لا يكون الاختلاف الحاصل في أفعال الوكيل ومبايعته واقتضائه بعد عزل أو موت موكله وما أنفقت المرأة بعد موت زوجها أو طلاقه إياها قبل أن تعلم بذلك إلا من جهة الاختلاف في العذر بالجهل، ومراعاة التفريط بالإعلام. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثانية في المأمور إذا ردت عليه دراهم

المسألة الثانية في المأمور إذا ردت عليه دراهم فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعرفها المأمور ويقبلها. والثانى: ألا يعرفها ولا يقبلها. والثالث: ألا يعرفها ويقبلها. فالجواب عن الأول: إذا عرفها المأمور وقبلها. فلا يخلو من أن يكون قد قبض عين المشتري أو أسلمه إلى الآمر أو لم يقبضه. فإن كان قد قبضه وسلمه إلى الآمر فلا يخلو من أن يكون معوضًا إليه. فإن كان معوضًا إليه فلا خلاف أن قوله في ما قبضه مقبول ويلزم البدل الآمر. فإن كان غير معوض إليه وإنما هو وكيل مخصوص على شيء بعينه هل يقبل قوله على الآمر أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يقبل قوله عليه لأنه معزول بنفس فراغه مما وكل عليه. والثاني: أن قوله مقبول لأن ذلك من توابع ما وكل عليه. والقولان حكاهما القاضي أبو الفضل في المذهب فإن كان ذلك قبل أن يقبض الشيء المشتري فالبدل لازم للآمر، وهل ذلك لازم بعد يمين البائع وهو قول أشهب لأن البائع غاب عنها ويحلف أنها من الدراهم التي قبض من المأمور. والثاني: أنه لا يمين عليه إلا أن يدعي الآمر أنه قد أبدلها.

والجواب عن الوجه الثاني: إذا لم يعرفها المأمور ولا قبلها فللبائع أن يحلف الآمر والمأمور، واختلف في المبدي منهما باليمين على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن المأمور مقدم في اليمين، وعليه اختصر ابن أبي زيد وغيره حيث قال: ثم للبائع أن يحلف المأمور، وهذا تأويل على "المدونة" وهو الذي في "كتاب محمَّد" لأنه هو الذي تأول المعاملة وعليه يحقق البائع الدعوى وعليه عهدة المعاملة. والثاني: أن الآمر مقدم في اليمين على المأمور، و"الواو" في قوله في الكتاب وللبائع أن يستحلف [الآمر] (¬1) بعد أن قدم يمين المأمور لا يوجب رتبة لأن الآمر هو المالك للسلعة والمقدم في الطلب لأن الوكيل بالدفع تمت وكالته وانقضت، وهذا القول متأول على "المدونة". والثالث: أن البائع مخير في تبدية من شاء منهما باليمين إذ من نكل منهما كان له أن يحلف ويغرمه، وهذا القول أيضًا متأول على "المدونة" من قوله: وللبائع أن يستحلف الآمر. فإذا قلنا: إن من نكل منهما حلف البائع وأخذ منه حقه، فإن كان الآمر هو الناكل حلف البائع وعزم الأمر على القول بأنه هو المبدي باليمين ثم ليس له تحليف المأمور إلا أن التهمة ببدلها فيحلف. فإن نكل هنا البائع لم يكن له أيضًا على المأمور يمين لأن نكوله عن يمين الآمر نكول عن يمين المأمور إذ هما سواء. فإن ابتدأ بالمأمور في اليمين فنكل حلف البائع وأبدلها المأمور. وهل للمأمور أن يحلّف الآمر؟ قولان. ¬

_ (¬1) في أ: البائع.

والجواب عن الوجه الثالث: ألا يعرفها المأمور ويقبلها فلا إشكال في هذا الوجه أن البدل على المأمور. وهل يحلف الآمر أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يمين عليه أصلًا لأن المأمور لما قبلها ولم يعرفها من دراهم الآمر فقد التزم البدل للبائع وتبرع به. والثاني: أنه يحلف وهو قول مالك في "المدونة" و"كتاب الوكالات". فعلى القول بأنه يحلف من الذي يحلفه؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن البائع هو الذي يحلفه وهو ظاهر "المدونة". والثاني: التفصيل بين أن يكون المأمور موسرًا أو معسرًا. فإن كان موسرًا فإنه يحلف الآمر ثم يغرم للبائع ما قبل منه من الدراهم. فإن كان معسرًا كان للبائع أن يحلف الآمر، وإلى هذا نحا أبو عمران الفاسي. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثالثة في الوكيل إذا لم يشهد على المشتري وقد جحده الثمن

المسألة الثالثة في الوكيل إذا لم يشهد على المشتري وقد جحده الثمن فلا يخلو الوكيل من أن يكون وكيلًا مشتركًا أو مخصوصًا، فإن كان وكيلًا مشتركًا بين العام والخاص كالسماسرة والطوافين بالسلع في الأسواق إذا ادعى أنه قد باع سلعة مما جوعل عليه لهذا الرجل فأنكر الرجل أن يكون قد اشترى منه شيئًا، هل يضمن أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا ضمان عليه ولا يمين إلا أن يتهم فيحلف وهو قول أبي محمَّد بن أبي زيد وأبي بكر بن عبد الرحمن؛ لأن العرف يشهد للسماسرة أنهم لا يشهدون لمعرفتهم بالناس. والثاني: أنهم ضامنون كغيرهم من الوكلاء وهو قول الإبياني فإن كان وكيلًا مخصوصًا مثل أن يوكله على بيع سعلة فيتولى الوكيل النداء عليها فلا يخلو المشتري من أن يعزله بالشراء أو يختلفا في مقدار الثمن أو جحده الشراء جملة. فإن أقر له بالشراء واختلفا في مقدار الثمن ويدعي المشتري أنه اشتراها منه بأربعين، وقال المأمور: بل بخمسين، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهما يتحالفان ويتفاسخان ثم لا شيء للآمر على المأمور وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنهما يتحالفان ويتفاسخان ويغرم المأمور للآمر خمسين دينارًا وهو قول محمَّد لأنه فرط في ترك الإشهاد. فإن نكل المأمور وحلف

المشتري فالمذهب على قولين: أحدهما: أن البيع مفسوخ بينهما وهو قول مالك في "كتاب محمَّد" لأنه يقول: لا تؤخذ سلعتين بغيرهما أقر وكيل أنه باع به. والثاني: أن القول قول المشتري ويغرم الأربعين، وهل يغرم الرسول العشرة الباقية أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن الرسول لا يغرم شيئا وهو ظاهر قول ابن القاسم. والثاني: أنه يغرم العشرة، وهو قول ابن الموَّاز. فإن جحد له الثمن جملة هل يصدق أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يصدق ويضمن لتفريطه في ترك الإشهاد، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب" وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه يصدق ولا ضمان عليه وهو قول عبد الملك في الوكيل وفي المبعوث معه المال ليدفعه إلى رجل فأنكره المبعوث إليه أن يكون قد دفع إليه، فقال عبد الملك: لا ضمان عليهما لأن العادة اليوم ترك الإشهاد على مثل هذا وابن القاسم يضمنهما في الجميع. وعلى القول بأنه يضمن، هل يضمن القيمة أو الثمن؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه ضامن الثمن وهو قوله في "الكتاب"، وإليه نحا ابن شبلون وغيره، قال: ومعنى ذكره الثمن في الكتاب يريد القيمة؛ لأنه ربما عبر عن القيمة بالثمن. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: يقول ابن شبلون: قال: لأن من استهلك لرجل سلعة بعد قيامها على الثمن فإنه يضمن ذلك الثمن.

وهكذا اختلفوا إذا أسلم الوكيل دنانير في طعام فجحدها المسلم إليه أي شيء يضمن؟ فقال أبو بكر بن عبد الرحمن وغيره: يضمن الدنانير وقال غيره: يضمن الطعام، والأصل في ذلك كله واحد. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الرابعة في الوكيل إذا اشترى من يعتق على الآمر

المسألة الرابعة في الوكيل إذا اشترى من يعتق على الآمر ولا يخلو الوكيل من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يشتريه بإذن الآمر. والثاني: أن يشتريه بغير [إذنه] (¬1). والثالث: أن يختلفا فيدعي المأمور [الإذن] (¬2) ويدعي الآمر عدمه. فالجواب عن الوجه الأول: إذا اشتراه بإذن الآمر فلا خلاف أنه يعتق على رب المال كما لو اشتراه بنفسه إلا أن يكون عليه دين يحيط بماله. وأما الوجه الثاني: إذا اشتراه بغير إذن الآمر وتصادقا على ذلك، فلا يخلو المأمور من أن يكون عالما أو غير عالم. فإن كان عالما فالمذهب على خمسة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن البيع جائز ويعتق على الوكيل ويغرم ثمنه للآمر وهو قول ابن القاسم في "كتاب الرهون"، في بعض روايات "المدونة"، وهو قوله في "كتاب القراض في العامل" وهو قول ابن إسحاق البرقي في الوكيل. والثاني: أنه لا يعتق عليه ويسترقه ويباع عليه في الثمن إن لم يكن له مال وهو ظاهر قوله في "كتاب الوكالات"، وهو قول مالك في رواية ابن أبي أويس عنه، وهو قول يحيى بن عمر وعبيد بن معاوية. ¬

_ (¬1) في أ: أمره. (¬2) في أ: الأمر.

والثالث: التفصيل بين أن يكون فيه ربح أم لا. فإن كان فيه ربح فيعتق منه مقدار ذلك الربح ويبقى الباقي رقيقا للمأمور ويغرم الثمن للآمر. فإن لم يكن له مال بيع منه بمقدار رأس المال ويعتق ما بقى، وهو ظاهر قوله في العامل في كتاب القراض إذا اشترى من يعتق على رب المال. والرابع: أن البيع ينتقض، وهو ظاهر قول ابن القاسم في سماعه في "العتبية"، ويؤخذ أيضًا من كتاب العتق الثاني من "المدونة"، من مسألة الأب إذا اشترى بمال ولده الصغير من يعتق عليه حيث قال: لا يجوز ذلك للأب إذ لا يجوز له أن يتلف مال ولده ظاهره أنه يفسخ إن نزل وعليه حمله بعضهم. والخامس: بالتفصيل بين أن يبين للبالغ أنه يشتري لفلان أو لم يبين. فإن بين له ولم يجر الأمر فسخ البيع؛ وإن لم يبين جرى على الخلاف الذي قدمناه. فإن لم يعلم المأمور بذلك فلا يخلو من أن يجهل الحكم أو يجهل أنه أبوه جملة. فإن علم أنه أبوه وجهل وجه الحكم فيه فهو كعلمه على سواء. فإن جهل أنه أبوه جملة، فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعتق على الآمر وهو نص قول مالك في "كتاب الوكالات" من "المدونة". والثاني: أنه يعتق على الآمر جملة وهو قوله في "كتاب الرهون" في المأذون.

والثالث: أنه لا يعتق على واحد منهما على ما في سماع ابن القاسم ويحتمل هذا القول أن يفسخ البيع بينهما، ويحتمل أن يسترقه المأمور. وأما الوجه الثالث: إذا اختلفا ويدعي المأمور الإذن وينكر الآمر فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قول المأمور ويحلف ويعتق على الآمر. والثاني: أن القول قول الآمر وهو ظاهر "المدونة". [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الخامسة في اختلاف الآمر والمأمور

المسألة الخامسة في اختلاف الآمر والمأمور ولا يخلو اختلافهما من وجهين: إما أن يختلفا في الثمن أو في المثمون. فإن اختلفا في الثمن فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يختلفا في قدره. والثاني: أن يختلفا في جنسه. والثالث: أن يختلفا في نقده وتأجيله. فأما الوجه الأول من الوجه [الأول] (¬1): إذا اختلفا في قدر الثمن مثل أن يقول المأمور: أمرتني أن أبيع بعشرة وبذلك بعت، [ويقول الآمر] (¬2): بل أمرتك باثني عشر؛ فلا يخلو من أن تكون السلعة قائمة أو فائتة. فإن كانت قائمة فالآمر مصدق مع يمينه ويخير إن شاء رد البيع ويأخذ سلعته، وإن شاء أجاز البيع ويأخذ العشرة من المشتري، وهل يغرم المأمور دينارين أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يغرم المأمور شيئا وهو ظاهر "المدونة"؛ لأن المأمور لم يلتزم شيئا ولا أوجبه على نفسه وهو الأظهر في النظر. والثاني: أنه يغرم دينارين، وهو قول ابن القاسم على ما نقله اللخمي. ¬

_ (¬1) في أ: الثاني. (¬2) في أ: ويقال.

فلو صدقه المأمور واعترف عليه نفسه بالتعدي، هل يقبل قوله بغير يمين أو لابد من اليمين؟ قولان: أحدهما: أنه لابد من يمين الآمر لحق المشتري لأن المأمور يتهم أن يكون قصد بتصديقه الآمر إسقاط حق المشتري. والثاني: أنه لا يمين عليه. فإن أراد المشتري أن يأخذها بما قال الآمر، هل يجبر الآمر على ذلك أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن للمشتري أن يأخذها باثني عشر إذا رضي بذلك ولا حجة للآمر إذا أخذ الثمن الذي ادعى أنه به أمر. الثاني: أنه لا يأخذها المشتري إلا برضا الآمر ويعد ذلك بيعة ثانية؛ لأن الوكيل قد انقسمت وكالته بمخالفته ما أمره به الآمر رجع إلى رأس أمره قبل أن يوكل. فإن شاء باع وإن شاء ترك والقولان متأولان على "المدونة". فإن كانت السلعة فائتة فلا يخلو الآمر معه أن تكون له بينة أم لا. فإن كانت له بينة فالقول قوله ويغرم للمأمور ما بقي من الثمن، وإن لم تكن له بينة كان القول قول المأمور ويحلف ثم لا يكون للآمر إلا العشرة, وهذا كله قول ابن القاسم في "كتاب السلم الثاني" من "المدونة". واختلف في المأمور إذا لم يعلم المبتاع بأنها لغيره حين البيع واحتاج إلى إثبات ذلك بعد البيع والخصام فيه هل هو فوت أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه فوت. والثاني: أنه ليس بفوت، والقولان مخرجان غير منصوص عليهما.

وأما الوجه الثاني إذا اختلفا في جنس الثمن مثل أن يبيعها بجنس من المثمون ويقول بذلك أمرني ربها، ويقول الآمر: بل إنما أمرتك بغير ذلك، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يبيع بالعروض ويقول الآمر، إنما أمرتك بالعين. والثاني: أن يبيع بالعين ويدعي الآمر أنه أمره بالعروض. والثالث: أن يبيع بجنس من العروض ويدعي الآمر أنه أمره بغير ذلك الجنس من العروض. فإن باع بالعروض ويقول: بذلك أمرني ربها، ويقول الآمر: إنما أمرتك بالعين، فلا تخلو السلعة من أن تكون قائمة أو فائتة. فإن كانت قائمة لم يضمن المأمور ويخير الآمر في إجازة البيع وأخذ ما بيعت به أو نقض البيع ويأخذ سلعته وهو قول الغير في الكتاب، وهو تفسير قول ابن القاسم فيه لأنه أطلق في المدونة حيث قال: إن باع بما لا تباع به ضمن. فإن فاتت السلعة فلا تخلو السلعة من أن تكون مما تباع به العروض أم لا. فإن كانت مما تباع مثلها بالعروض فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قول الآمر ويحلف ثم يكون له الخيار بين أن يأخذ العرض الذي باع به أو القيمة. فإن اختار أخذ القيمة فانظر إلى الفوات. فإن كان بسبب سماوي كان كلامه مع الوكيل في الأكثر من الثمن أو القيمة.

فإن كان الفوات بسببه مثل أن يكون ثوبًا فلبسه أو جارية فأحبلها كان له الأكثر من الثمن أو القيمة. فإن كانت القيمة يوم البيع أكثر أخذها من الوكيل. فإن كانت يوم الفوات أكثر أخذها من المشتري، وهو قول مطرف في أن القول قول الآمر على الجملة. وأما التفصيل في القيمة فللشيخ أبي الحسن اللخمي -رحمه الله. والثاني: أن القول قول المأمور وهو مشهور المذهب، وهو قوله في "المدونة" ونص قول الغير فيها. فإن كانت تلك السلعة مثلها لا تباع بالعروض فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن القول قول الآمر في القيام والفوات، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" إذا باع إلى أجل أو باع بخمسة وهي من أثمان المائة وهو قوله في "واضحة" ابن حبيب في هذه المسألة نصًا، وبه قال مطرف وابن الماجشون في "الواضحة". والثاني: أن القول قول الوكيل في الفوات وهو مذهب ابن القاسم في "العتبية" و"الموازية"، وهو نص قول غيره في "المدونة" وقال: فإذا باع بغير العين فإنما هو مبتاع غير بائع وقد عقد هذا الغير في "الكتاب" عقد أو قال: كلها لم تفت وادعى فيه المأمور ما يمكن وادعى الآمر غيره فالمأمور مصدق مع يمينه، وظاهر هذا العقد أن القول قول الآمر في هذا الفصل كما نص عليه ابن القاسم في "الواضحة"، فإن باع بالعين وقال: بذلك أمرني ربها، وقال الآمر: إنما أمرته أن يبيع بالعروض فالمذهب على قولين:

أحدهما: أن القول قول الوكيل في القيام والفوات لأنه قد ادعى ما يشبه إلا أن يتبين أن لدعوى الآمر وجه، مثل أن يدعي: إنما أمره أن يبيع بعرض ليوفي به دينًا عليه من ذلك الجنس من العروض إما سلفًا وإما سلمًا فيكون القول قول الآمر حينئذ وهو قول ابن القاسم وعبد الملك في "الموازية"، وقال ابن حبيب: وإليه رجع مالك وهو ظاهر "الكتاب" من مسألة القمح. والثاني: أن القول قول الآمر مع القيام وله الخيار مع الفوات بين أن يجيز البيع فيأخذ الثمن أو يضمنه القيمة وهو قول مطرف في "الواضحة" وأشهب في "الحاوي" فإذا تصادقا على أن الإذن في البيع بالعين فباع بالدنانير ما يباع بالدراهم أو باع بالدراهم ما مثله يباع بالدنانير، هل يضمن ويكون متعديا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا ضمان عليه وأن فعله جائز وهو ظاهر قول الغير في "المدونة" حيث قال: وإنما البيع بالأثمان لا بالعروض؛ لأن العين ثمن وما سواه مثمون، وهو نص قول أشهب، وبه قال أصبغ إذا كانت الدراهم التي أمر بها مثل صرف الدنانير التي باع بها، والذي قاله أصبغ تفسير. والثاني: أنه لا يجوز له أن يبيع بأحد العينين ما يباع بغيره إلا بإذن الآمر وأنه مهما باع بغير ما أمر به من أحد العينين فهو متعدٍ ضامن وهو قوله في "كتاب السلم الثاني" في الذي دفع دنانير لرجل على أن يسلمها له في طعام فلم يسلمها حتى صرفها دراهم حيث قال: فإن كان هو الشأن في تلك السلعة، وكان نظرًا لأن الدراهم فيما تسلف فيه أفضل فذلك جائز وإلا كان متعديًا وضمن الدنانير ولزمه الطعام فقد منعه هنا أن يشتري بالدراهم ما يشتري بالدنانير فالبيع مثل الشراء.

فإن باع عرضا بعرض وقال: بذلك أمرني ربها، وقال الآمر: إنما أمرتك بعرض آخر خلاف ما بعت أنت به، فلا يخلو من أن تكون السلعة فائتة أو قائمة. فإن كانت قائمة فالقول قول الآمر مع يمينه ويأخذ سلعته. فإن فاتت فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قول الآمر في القيام والفوات. ففي القيام يأخذها، وفي الفوات يخير بين قيمتها وثمنها وهو قول مطرف في واضحة ابن حبيب. والثاني: أن القول قول المأمور وهو قوله في "المدونة" في الذي دفع دراهم لرجل فاشترى بها تمرًا، وقال: بذلك أمرتني، وقال الآمر: إنما أمرتك بالحنطة، حيث قال القول قول الآمر لفوات الثمن ولأنهما أيضًا قد اتفقا أن الثمن عرضًا وكل واحد منهما أتى بما يشبه، والوكيل قد أتى بما يشبه فيكون القول قوله بعد الفوات. فأما الوجه الثالث: إذا اختلفا في نقد الثمن وتأجيله مثل أن يبيع بالثمن إلى أجل، وقال: بذلك أمرتني، وقال: إنما أمرتك بالنقد أو باع بالنقد، وقال الآمر: إنما أمرتك أن تبيع إلى أجل، واختلفا في قدره. فإن باع إلى أجل وأنكر عليه الآمر فلا يخلو من أن تكون السلعة قائمة أو فائتة. فإن كانت قائمة خير الآمر بين البيع والإمضاء بالثمن إلى ذلك الأجل. فإن فاتت السلعة فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قول الآمر في الفوات والقيام وهو قول ابن القاسم

ومطرف وابن الماجشون في "كتاب ابن حبيب". والثاني: أن القول قول المأمور وهو قول ابن القاسم في "الموازية". فإن باع بالنقد وقال الآمر: إنما أمرتك أن تبيع إلى أجل، فلا يخلو المأمور من أن يصدقه أو يكذبه. فإن صدقه المأمور فلا يخلو من أن يبيع مثل ما سمى له من الثمن أو بمثل قيمتها إن فوض إليه في الثمن أو بأقل. فإن باع بمثل ما سمى له من الثمن أو بمثل القيمة إن فوض إليه وقد تقدم الكلام عليه في "كتاب السلم الثاني" في مسألة تعدي الوكيل فأغني عن إعادته في هذا الموضع. فإن باعها بأقل مما سمى به فهو ضامن ويفسخ البيع مع القيام ويغرم المأمور الأكثر مما باعها به أو القيمة فإن كذبه المأمور، وقال: أمرتني أن أبيع بالنقد كان القول قول الآمر مع القيام، والقول قول المأمور مع الفوات، فإن اتفق الآمر والمأمور أن البيع إلى أجل واختلفا في قدره فذلك كاختلاف المتبايعين سواء وقد فرغنا منه في بابه. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: وهو اختلافهما في المثمون، مثل أن يقول: أمرتني أن أشتري تمرًا، وقال الآمر: بل أمرتك أن تشتري قمحًا، فالقول قول الآمر مع القيام، أعني قيام رأس المال، وبعد فواته قولان: أحدهما: أن القول قول المأمور، وهو نص "المدونة". والثاني: أن القول قول الآمر وهو قوله في "كتاب محمَّد". [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السادسة في الذي اشترى طعاما ثم وجد به عيبا فرد نصف الحمل، واختلف مع البائع في مقداره فالبائع يقول: إنما بعت حملا بمائة درهم

المسألة السادسة في الذي اشترى طعاما ثم وجد به عيبا فرد نصف الحمل، واختلف مع البائع في مقداره فالبائع يقول: إنما بعت حملًا بمائة درهم فقال في "الكتاب": القول قول المشتري إن أشبه أن يكون نصف حمل بمائة؛ لأن البائع قد أقر بالثمن وادعى عليه زيادة في المثمون. واختلف إذا لم يأت المشتري بما يشبه وأتى البائع بما يشبه هل يلزم المشتري رد تمام الحمل؟ على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدهما: أنه لا يرد شيئا وإنما يرد عليه البائع نصف المائة حسبت وأنه لا يلزم المشتري أكثر مما أقر به، ولا فرق بين الجزاف والمكيل، وإلى هذا ذهب أكثر شيوخ المذهب وحملوا ألفاظ "الكتاب" على ظاهرها. والثاني: أنه يرد الحمل كاملًا، وتأولوا قوله في "الكتاب": ولا غرم على المشتري في نصف الحمل الثاني على قوله: إذا أتى بما يشبه في أول المسألة، وهو قول عبد الملك في المكيل والموزون، وهو تأويل بعضهم على الكتاب أيضا ولا فرق عندهم بين المكيل والجزاف. والقول الثالث: التفصيل بين المكيل والجزاف، فيرد وتمام الحمل في المكيل، وفي الجزاف يرد المعيب خاصة؛ لأن الجزاف إذا فات صار كالعروض وهو قول ابن الموَّاز. وعلى القول بأنه يرد تمام الحمل فإنه يرده من جنس المعيب الذي رد إلا أن هذا النصف يكون سالما.

ويستفاد من القول الذي قال فيه أنه لا يرد إلا المعيب خاصة أن النصف في حيز القليل على ما سنذكره في "كتاب التدليس بالعيوب" إن شاء الله تعالى. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

كتاب العرايا

كتاب العرايا

كتاب العرايا تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها خمس مسائل: المسألة الأولى في اشتقاق العرية وتسميتها بذلك وقد اختلف في تسميتها بذلك على سبعة أقوال: أحدها: أنها مأخوذة من قولهم عريته أعريه إذا طلب إليه فعيلة بمعنى مفعولة أي عطية، ومنه قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (¬1). وتكون على هذا أيضًا بمعنى إبانته عنها لأن الذي اعتراها يختلف إليها ويحل بأهله فيها. والثاني: أنها سميت بذلك؛ لأنها عرت عن السوم عند البيع فعلى هذا كله تكون العرية اسم للثمرة، أو تكون بمعنى أن هذه النخلة عرية من الثمرة بهذه الهيئة فتكون هنا اسم للنخلة. والثالث: أنها النخلة تكون للرجل في نخل الرجل فيدخل إليها صاحبها فيؤذي صاحب النخل الكثير بدخوله فرخص له في شراء ثمرها منه ليدفع أذاه عنه، وهذا يأتي على مذهب مالك وابن القاسم، فلا يجوز أن يشتريها منه إلا على طريق المعروف معه ويكفيه سقيها لدفع الضرر مجردًا على ما سنبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى. ومعنى تسميتها على هذا الوجه عرية لانفرادها من حمله، يقال: عريت هذه النخلة إذا أفردتها بالبيع والهبة. ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية (36).

والرابع: أنها شراء من لا يحل له ثمر النخلة من صاحب النخل ليأكلها هو وعياله رطبًا يخرجها تمرًا مما بيده من التمر نقدًا، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه ورأى أن الرخصة في العرايا إنما هي الرفق ويشتريها وحاجته إلى ذلك، وهذا يأتي على التفسير المتقدم أنها لانفرادها أعني النخلة أو اسما للعقد. والخامس: أن العرية هي الثمرة إذا أرطبت، سميت بذلك لأن الناس يعرونها أي يأتونها لالتقاط ثمرها. والسادس: أنها إنما سميت بذلك لانعزال مالكها عنها من بين سائر ماله لأنها عرية من جملة النخل، ويكون على هذا فعليه بمعنى فاعله، قال الله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} (¬1)، أي: في الموضع الواسع الخالي من الأرض. والسابع: أنها سميت بذلك لأنها عرية من جملة تحريم المزابنة وحلت من ذلك، ولا فرق بين اسمها عرية أو هبة أو عطية أو منحة أن ذلك من ألفاظ المعروف إلا في حكم الرخصة في جواز شرائها منه بخرصها إلى الجذاذ، فقد اختلف أئمتنا في ذلك؛ فابن القاسم لا يجري الرخصة إلا فيما منح باسم العرية وعرفها المستعمل فيها، قال: وأما لغير ذلك من ألفاظ والتمليك فلا يحكم لها بحكم العرية ولا يقضي فيها بخرصها. وأما ابن حبيب فلم يراع اختصاص لفظ العرية من غيرها من تلك الألفاظ ويجري الرخصة عنده في كل الألفاظ، وهي أعني بيع العرية بخرصها مستثناه من أربعة أصول ممنوعة محرمة: أولها: المزابنة وهي شراء الرطب بالتمر. ¬

_ (¬1) سورة الصافات الآية (145).

والثاني: بيع الطعام بالطعام إلى أجل. والثالث: بيع الطعام من جنسه متفاضلا. والرابع: الرجوع في الهبة. فإذا ثبت ذلك فشراؤها يخرصها يجوز بعشرة شروط ستة متفق عليها في المذهب، وأربعة مختلف فيها. فأما السنة المتفق عليها: [أحدها] (¬1): أن يكون مشتريها هو معريها. والثاني: أن تكون قد طابت. والثالث: ألا يكون تمرًا. والرابع: ألا يكون إلا بخرصها. والخامس: ألا تباع إلا بنوعها. والسادس: ألا تكون إلا إلى الجذاذ. وأما الأربعة المختلف فيها: ألا تكون إلا باسم العرية وأن تكون خمسة أوسق فأدنى لأكثر منها، وأن يكون للمشتري جملة ما أعرى المعري، وأن يكون مما ييبس ويدخر. فهذه عشرة شروط. وقد اختلف فيما ييبس ويدخر على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يشتري بخرصها إلا النخل والعنب خاصة. والثاني: أنه تجوز في كل ما ييبس ويدخر، والقولان لمالك في "كتاب محمَّد". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثالث: أنه يجوز في المدخر وغيره من الثمار وهو قول محمَّد، واختلف في خمسة أوسق هل يجوز شراؤها بالخرص أو لا يجوز إلا فيما دون الخمسة على قولين. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثانية في عرية الواحد للواحد أو للجماعة

المسألة الثانية في عَرِيَّة الواحد للواحد أو للجماعة ولا يخلو ذلك من أربعة أوجه: أحدها: أنه يعري واحدًا لواحد في حائط واحد. والثاني: أن يعري واحد لواحد في حوائط متعددة. والثالث: أن يعري واحد لجماعة. والرابع: أن يعري الجماعة للواحد، وذلك كله في حائط أو حوائط. فأما عرية الواحد للواحد في حائط واحد فلا خلاف في المذهب في جواز شراء ما دون خمسة أوسق ويخرصها تمرًا عند الجذاذ إلا رواية شاذة رويت عن مالك أنه منع شراء العرية بخرصها تمرًا عند الجذاذ وأجازه بالعين وغيره. وفي خمسة أوسق قولان، مشهور المذهب جوازه وهو مذهب "المدونة". والثاني: المنع وهو الأظهر في النظر، وذلك أن الراوي شك في خمسة أوسق هل وردت فيها الإباحة أو لا؟ والشك لا يقدح في اليقين، ونحن على اليقين في تحريم المزابنة عمومًا حتى يثبت دليل التخصيص. ووردت الرخصة بجواز شراء العرايا بخرصها تمرًا عند الجذاذ مما دون خمسة أوسق، وشك الراوي في الخمسة، فالإباحة فيما دون الخمسة لا في الخمسة إذ لابد أن يبقى للرخصة محل، ويبقى على أصل المنع محل فيما دون الخمسة محل للرخصة وهي أربعة فدون؛ وفوق الخمسة محل للمنع بالأصل، والتوسط بينهما هو المشكوك فيه.

فوجه قول من يقول: أن الرخصة جملة أو يبقى لها أقل القليل الذي بنوه منصب الشارع عن التعرض لذكره فضلا عن أن ينصبه محلا للإباحة بعد الخطر إذ الشك صالح أن يجري في الجميع، فقطعنا نحن مادة الشك واستعملنا الرخصة في الخمسة فدون لاسيما، والرخصة وردت من طريق لا شك فيه. وعلى القول في الخمسة فدون أو فيما دون الخمسة على الخصوص هل ذلك لمعنى أو لا لمعنى؟ فالمذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن الرخصة معللة بدفع الضرر وإكفاء المؤونة على الضم والجمع وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن ذلك لدفع الضرر خاصة دون إفكاء المؤنة وهو قول غيره في "الكتاب". والثالث: أنه لإكفاء المؤونة خاصة وهو ظاهر قول ابن القاسم في "الكتاب" فيمن له نخلة في حائط رجل حيث جوز لرب الحائط شراء تلك النخلة بخرصها عند الجذاذ فليس في ذلك دفع الضرر ولا إكفاء المؤونة وهو قوله في "الكتاب" فيما إذا أعرى الرجل من حائطه أكثر من خمسة أوسق فقد قال: أنه أجوز للمعري أن يشتري من عريته خمسة أوسق، فهذا ليس فيه دفع ضرر ولا إكفاء المؤونة لأن الباقي من العرية في يد المعري أو الضرر فيه قائم للدخول والخروج والمؤونة؛ دائمة على المعري له في تكلفة القيام بما بقي ولا احتفال بقول من يقول أن المؤونة والكلفة قد انقضت عنه وخفت وذلك باطل، ولاسيما إن كان المشتري في جنبه ما يفي أيسر اليسير وذلك كله إذا أعرى الواحد للواحد في حائط واحد. وأما الوجه الثاني: إذا أعرى الواحد للواحد في حوائط، هل يجوز له

أن يشتري من كل حائط خمسة أوسق أم لا؟ [على] (¬1) ثلاثة أقوال كلها متأولة على "المدونة": أحدها: أنه يجوز له أن يشتري من كل حائط خمسة أوسق ويكون كحائط واحد وهو تأويل القابسي على "المدونة". والثاني: أنه لا يشتري من الجميع إلا خمسة أوسق كان ذلك بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة وهو تأويل ابن أبي زيد ويحيى بن عمر على "المدونة". والثالث: التفصيل بين أن يكون ذلك بلفظ واحد فيكون كما قال ابن أبي زيد، أو يكون بألفاظ فيكون كما قال القابسي، وهو تأويل ابن الكاتب على "المدونة"، ويشهد لهذا التأويل ما وقع في "كتاب الجوائح" فيمن اشترى حوائط فاجتيحت حيث قال: فإن كانت في صفقة واحدة فإنه يعتبر ثلث الجميع، وإن كانت في صفقات فيعتبر كل واحد. وأما الوجه الثالث: إذا أعرى الواحد للجماعة في حائط أو حوائط. فإن كان ذلك في حوائط فالجواز ولا إشكال لأن كل واحد مستقل بعريته فيجوز له أن يشتري خمسة أوسق من كل حائط. وإن كان ذلك في حائط واحد فيتخرج الخلاف على الخلاف في شراء العرية بالخرص، هل هو معلل أو غير معلل؟ فعلى القول بتعليله فيمنع الشراء في هذا الوجه لعدم العلة وعلى القول بأنه معلل فيجوز الشراء. وأما الوجه الرابع: إذا أعرى الجماعة للواحد في حائط أو حوائط ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فالجواز إطلاقا. وأما الوجه الخامس: إذا أعرى الجماعة للجماعة. فإن تساوى عدد من أعرى [مع] (¬1) عدد من أعرى له أو كان عدد من أعرى أقل فإنه يجوز لمن أعرى أن يشتري منهم جميع ما أعرى له إذا كان خمسة أوسق أو دون. فإن كان عدد من أعرى أكثر فلا يجوز لواحد منهم أن يشتري جميع سهم من أعرى له وإن كان أقل من خمسة أوسق، لأنه اشترى ما أعرى وما أعرى غيره، والرخصة إنما وردت في شراء المعري عرية نفسه لا فيما أعرى غيره. ولا خلاف في مذهب مالك في ذلك، وإنما يجوز ذلك في مذهب الشافعي، [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثالثة بما تصح العرية للمعري إذا مات المعري أو مات المعرى

المسألة الثالثة بما تصح العرية للمعري إذا مات المعرِي أو مات المعرَى فإن مات المعرِي فلا يخلو من أن يموت بعد طيب الثمرة وبعد قبضها أو مات قبل الطيب. فإن مات بعد طيب الثمرة وبعد الجذاذ فلا خلاف أعلمه في المذهب أن الثمرة للمعرَى دون ورثة المعرِي. فإن مات المعرِي قبل طيب الثمرة وقد أبرت فلا يخلو من أن يقبضها المعرَى ويجوزها أو لم يقبضها. فإن مات قبل القبض والحوز فلا خلاف في المذهب أنها لورثة المعرِي ولا شيء فيها للمعرَى. فإن مات المعرِي قبل قبض المعرَى وحوزه للأصول قبل أن يطلع في النخل شيء فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن العرية تصح للمعرَى بحوز الأصول ويكون أحق بما يطلع فيها من الثمار بعد موت المعرِي، وهو تأويل بعض المتأخرين، على "المدونة" قياسا على الهبة والصدقة. قال في "كتاب الهبة" في هبة الثمر والجنين أن ذلك جائز إذا حوزه الأصول والأمة. والثاني: أنه لا شيء فيه للمعرَى إلا إذا قبض الأصول بعد طلوع الثمار فيها وهو تأويل بعضهم على "الكتاب" أيضًا، وهو مذهب ابن حبيب أن

الحوز فيها لا يصح إلا بحوز الرقاب [وطلوع] (¬1) الثمر فيها، وإلى هذا الذي قاله ابن حبيب ذهبت طائفة من الأندلسيين. وسبب الخلاف: اختلافهم في تأويل ما وقع في "الكتاب" من قوله فيمن أعرى لرجل نخلًا فمات ربها قبل أن يطلع في النخل شيء وقبل أن يحوز المعرَى عريته: إن العرية غير جائزة وللورثة إبطالها. فقوله: قبل أن يطلع في النخل شيء وقبل أن يحوز المعرَى عريته، هل لابد من اعتبار الشرطين جميعًا، أو لا يعتبر إلا قبض الأصول خاصة. واختلفوا في الهبة والصدقة هل يجري فيهما هذا الخلاف أم لا؟ على ثلاثة أقوال كلها متأولة على "المدونة": أحدها: أن الهبة والعرية والصدقة في الأصول والإماء واحد لا يتم حوزها إلا بحوز الأصول وخروج الثمرة وخروج الولد وهو مذهب ابن حبيب. والقول الثالث: التفصيل بين العرية والهبة والصدقة، وأن الخلاف والتوقف في العرية دون الهبة والصدقة. وأن مذهب "الكتاب" التفريق بينهما، وهو تأويل أبي جعفر بن رزق. والرابع: التفصيل بين أن يتصدق عليه بما في بطن أمته وبين العرية وبين هبة ما بثمر النخل وصدقته. ففي العرية والهبة، والهبة والصدقة في الأصول لابد من اعتبار الشرطين: الحوز وطلع الثمر. ¬

_ (¬1) في أ: وطول.

وفي الجنين يكون حوز الأم حوزًا له، وإلى هذا ذهب فضل بن سلمة تأويلًا على "المدونة". وسبب الخلاف: قبض الأصول هل هو قبض لما يأتي من الثمار أم لا؟ وأما اختلافهم في قبض الأمة فمبني على اختلافهم في الجنين في بطن أمه هل يطعى له حكم الوجود أو يعطى له حكم العدم. فإن مات المعرى فقد اختلف المذهب بماذا تصح للورثة على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا يجب لهم إذا مات بعد طيبها وهو قول ابن القاسم في "العتبية" وظاهر "المدونة" في "كتاب الحبس". والثاني: أنها تجب للورثة بالإبار وهو قول أشهب في "كتاب الحبس" من "المدونة" أيضًا. ويتخرج في المسألة قول ثالث: أنها تجب للورثة بحوز الأصول كانت فيها ثمرة أم لا؛ على القول بأنها تجب للمعرِي بالحوز؛ لأن ذلك حق ثابت له، فوجب أن يورث لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من مات عن حق فلورثته" (¬1). [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2268)، ومسلم (1619). (¬2) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الرابعة في زكاة العرية على من تجب هل هي على المعري أو على المعرى وزكاة الهبة والصدقة والسقى في ذلك

المسألة الرابعة في زكاة العرية على من تجب هل هي على المعرِي أو على المعرَى وزكاة الهبة والصدقة والسقى في ذلك فلا تخلو العرية والهبة من أن تكون بعد الطيب أو قبله فإن كانت بعد طيب الثمرة فالزكاة والسقي إن احتيج إليه على المعرَى له والموهوب قولًا واحدًا. فإن كان قبل طيب الثمرة فعلى من تكون الزكاة والسقي؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن السقي والزكاة والعلاج على المعرَى والموهوب له وهو قول كبار أصحاب مالك في "الكتاب". والثاني: أن الزكاة والسقي والعلاج على المعرِي، وزكاة الهبة على الموهوب له سواء أعرى جزءًا شائعًا أو معينًا وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والرابع: التفصيل بين الزكاة ولا سقي، فالزكاة على المعرَى له والسقي على المعرِي وهو قول ابن الموَّاز. وينبني الخلاف على الخلاف في العرية متى يمكلها المعرَى؟ هل يملكها الآن أو لا يمكلها إلا بعد طيبها؟ والحمد لله وحده.

المسألة الخامسة في بيع الثمار

المسألة الخامسة في بيع الثمار وموضع ذكر هذه المسألة في "كتاب البيوع الفاسدة" إلا أنا أغفلنا تنزيلها هنالك فاستدركناها آخر هذا الكتاب؛ لأن لها فيه تعلقًا، فنقول من حيث التقريب: بيع الثمر قبل بدو الصلاح على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يشتريها بشرط الحد. والثاني: أن يشتريها بشرط البقاء. والثالث: أن يبهم الأمر. فأما الوجه الأول: إذا اشتراها على الجذ فجحدها فلا خلاف في الجواز. وأما الوجه الثاني: إذا اشتراها على البقاء فلا خلاف في البطلان، ثم لا يخلو من أن يعثر على ذلك قبل الجذاذ أو بعد الجذاذ. فإن عثر على ذلك فلا يخلو من أن يدرك ذلك قبل أن يفوتها بالبيع أو بعد أن فوتها. فإن أدرك ذلك قبل أن يفوتها فالبيع يفسخ اتفاقًا. فإن أدرك ذلك بعد أن فوتها بالبيع بعد طيبها فذلك فوت قولًا واحدًا. واختلف ما الذي يجب على المشتري الأول على ثلاثة أقوال: أحدها: أن عليه قيمتها يوم بدو صلاحها. والثاني: أن عليه قيمتها يوم باعها وهو قول ابن الموَّاز.

والثالث: أنه يرد عدد المكيلة التي قبض منها المشتري الثاني، وهو قول مالك في "الموَّازية". فإن عثر على ذلك بعد الجذاذ فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يجذها بسرًا؛ وإما أن يجذها رطبًا؛ وإما أن يجذها تمرًا. فإن جذها بسرًا أو تمرًا فعليه قيمتها يوم جذها. فإن جذها رطبًا فلا تخلو من أن تكون قائمة العين أو فائتة. فإن كانت قائمة العين فلا تخلو من تكون العادة فيها أن تجذ رطبًا أو تترك إلى أن تيبس. فإن جرت العادة بجذاذها رطبًا كان في غرم قيمتها قولان: أحدهما: أن البائع يأخذها، وهذا القول مخرج غير منصوص عليه. والثاني: أن يغرم قيمتها يوم جذها. فإن كانت العادة أن تترك إلى أن تيبس فعليه القيمة قولًا واحدًا، وكذلك إذا فاتت الثمرة بعد الجذاذ فإنه يغرم قيمتها يوم الجذ قولًا واحدًا. فإن جذها فإنه يرد المكيلة إن عرفت أو القيمة إن جهلت. فأما الوجه الثاني: إذا أبهم الأمر فهل يحمل على الجذ فيجوز [أو] (¬1) يحيى على البقاء فلا يجوز؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن البيع إذا أطلق فيها ولم يشرط الجذ أو البقاء أنه يحمل على الجذ فيجوز حتى يشرط البقاء إلى الطياب وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب البيوع الفاسدة" في الذي اشترى ثمرًا فجذها قبل بدو ¬

_ (¬1) في أ: أن.

صلاحها حيث قال: البيع جائز إذا لم يكن في البيع شرط أنه يتركها حتى يبدو صلاحها. وظاهر هذا الكلام الجواز متى أطلق حتى يشترط، وإليه مال الأبهري وغيره. والثاني: أنه على البقاء حتى يشترط الجذ وهو ظاهر قوله في "كتاب العرايا" من "المدونة" حيث قال: لا يجوز شراؤها قبل زهوها بعين ولا بعرض إلا على أن يجذها مكانه، وإليه ذهب القاضيان أبو محمَّد وأبو الحسن وغيرهما من المتأخرين. وتأول الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد ما وقع في "كتاب البيوع الفاسدة" على أنه اشترط الجذ، وعليه اختصر هو وغيره، واستدلوا بقوله في "الكتاب": فجذها. فوجه القول على الجذ حتى يقطع الشرط أن نفس العقد يقتضي التسليم عقيبه. فإذا كان ذلك فالعقد يقتضي الجذ وإن لم يشترطا له إلا أن تكون عادتهم التبقية فيفسخ البيع بينهم لأن العرف كالشرط، وعلى ذلك حمل فضل بن سلمة البيع الفاسد [في] (¬1) مسألة البيع الفاسد أن العرف الجذ، فلذلك جاز إذا أطلق العقد. ووجه القول الثاني: أن الإطلاق يحتمل الأمرين عدم العرف احتمالًا متساويًا فيغلب حكم التبقية على الجذاذ؛ لأن ذلك من باب تغليب الخطر على الإباحة. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كتاب التجارة إلى أرض الحرب

كتاب التجارة إلى أرض الحرب

كتاب التجارة إلى أرض الحرب تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها ثمان مسائل: المسألة الأولى في البيع والشراء مع المشركين ولا يخلو المشركون من وجهين: أحدهما: أن يكونوا أهل حرب. والثاني: أن يكونوا أهل ذمة. فإن كانوا أهل حرب فلا تخلو المعاملة معهم من أن تكون في بلادهم أو في بلاد الإِسلام. فإن كانت المعاملة معهم في أرض الحرب فإن ذلك لا يجوز باتفاق المذهب، والدليل على ذلك أن الله تعالى أوجب الهجرة على من أسلم ببلد الفكر إلى بلاد الإِسلام حيث تجري عليه أحكامهم فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (¬1)، وقال تعالى: {الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الآية (¬2). نزلت هذه الآية فيما قال ابن عباس وغيره من علماء التأويل: في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله ورسوله فتخلفوا عن الهجرة فعرضوا على الفتنة فافتتنوا وشهدوا مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله ¬

_ (¬1) سورة الأنفال الآية (72). (¬2) سورة النساء الآية (97).

قبول معذرتهم التي اعتذروا بها حيث يقول إخبارًا عنهم: {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} أي: فتتركوا الذين يستضعفونكم {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} الآية. ثم إن الله تعالى عذر أهل الصدق فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ}، إلى قوله: {لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (¬1) أي: لا يهتدون سبيلا يتوجهون إليه لو خرجوا لهلكوا {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} (¬2) في إقامتهم بين أظهر المشركين، فكانت الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل فتح مكة على من أسلم بها واجبة فريدة إذ فرض الله عليهم فيها البقاء مع رسوله حيث استقر والتحول معه حيث تحول لنصرته ومؤازرته وصحبته ويحفظوا عنه ما يشرع لأمته ويبلغوا ذلك عنه للأمة، ولم يرخص لأحد منهم في الرجوع إلى وطنه وترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: "لا يقيمن مهاجر بمكة بعقد قضاء نسكه فوق ثلاث" (¬3) خص الله تعالى من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهاجر إليه ليتم له بالهجرة إليه والمقام معه وترك العودة إلى الوطن الغاية من الفضل الذي سبق لهم في سابق علمه، وهم الذين سماهم الله تعالى بالمهاجرين ومدحهم بذلك فلا ينطلق هذا الاسم على أحد سواهم، فلما فتح الله مكة قال - صلى الله عليه وسلم -: "مضت الهجرة لأهلها" (¬4) أي فازوا بها وحصلوا عليها وانفردوا بفضلها دون من بعدهم. وقال أيضا: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية فإذا استنفرتم ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (98). (¬2) سورة النساء الآية (99). (¬3) أخرجه البخاري (3718)، ومسلم (1352). (¬4) أخرجه البخاري (2802)، ومسلم (1863).

فانفروا" (¬1)، أي لا يبتدئ أحد من أهل مكة ولا غيرهم هجرة بعد الفتح فينال بذلك درجة من هاجر قبل الفتح ويستحق أن يسمى باسمهم ويلحق بجملتهم لأن فرض الهجرة ساقط بل إن الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيامة بإجماع المسلمين على كل مسلم يقيم عند المشركين إلا أن هذه الهجرة لا يحرم على المهاجر منها الرجوع إلى وطنه إن عاد دار إسلام واستسلام فإذا وجب بالكتاب والسنة وإجماع الأمة على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر ويلحق بدار الإِسلام ولا ينثوي بين المشركين ويقيم بين أظهرهم لئلا تجري عليه أحكامهم فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلادهم حيث تجري عليه أحكامهم في تجارة أو غيرها فلذلك شدد مالك الكراهة، وقد سئل عن ذلك فقال: قد جعل الله لكل نفس أجلا تبلغه ورزقا تنفده وهو يجري عليه أحكامهم فلا أرى ذلك. وكره مالك أن يسكن أحد ببلد يسب فيه السلف فكيف ببلد (يفكر في بالرحمن) (*) ويعبد فيه من دونه الأوثان لا تستقر نفس أحد على هذا وهو مسلم سوى مريض الإيمان. وقد صرح سحنون - رضي الله عنه - بأن الدخول إلى أرض العدو للتجارة اختيارا أنه جرحه، وهو تفسير لما وقع في "المدونة" في "كتاب الولاء" وقد بيناه هناك بيانا كافيا. فواجب على والي المسلمين أن يمنع الدخول إلى أرض الشرك للتجارة ويضع المراصد ويسد المسالك حتى لا يجد أحد السبيل إلى ذلك ولاسيما إن خشى أن يحمل إليهم ما لا يحل بيعه منهم مما هو قوة الإِسلام لاستعانتهم به في حروبهم فمن أخذه الإمام ممن حمل إليهم تجارة فواجب أن يؤدبه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2631)، ومسلم (1353). (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعلها: "فكيف ببلد يُكَفرُ فيه بالرحمن ... "، والله أعلم.

ويعاقبه عقوبة مثله على قدر حاله في حزبه وتفحمه وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام. فأما الوجه الثاني من الوجه الأول في معاملة أهل الحرب في البيع والشراء إذا قوموا إلينا بأمان فلا خلاف في جوازها على الجملة. والدليل على ذلك ما خرجه البخاري من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: بينما نحن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا برجل مشرك جاء بغنم يسوقها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبيعًا أو عطية أو هبة"، فقال: بل بيع، فاشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة (¬1). فهذا دليل على جواز مبايعتهم، ثم لا تخلو مبايعتهم من أن تكون بالعين أو بالعرض. فإن كانت بالعين الممسوحة التي يكتب فيها اسم الله عَزَّ وَجَلَّ فلا خلاف في جواز مبايعتهم بها. وأما الدنانير والدراهم المنقوشة التي فيها اسم الله عَزَّ وَجَلَّ فذلك مكروه غير محظور. وأما مبايعتهم بما سوى الدنانير والدراهم من جميع الأشياء فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يكون مما يعود بالضرر على المسلمين. والثاني: أن يكون مما يعود وباله على المسلمين إلا أن [فيه] (¬2) إعانة لهم مما هم عليه من عمارة الكنائس. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2103)، ومسلم (2056). (¬2) في أ: فيهم.

والثالث: أن يكون فيه إذلالا للمسلمين. والرابع: أن يكون مما لا يعود ضرره على المسلمين ولا فيه إقامة لعمارة كنائسهم. فإن كان ذلك مما يعود وباله على المسلمين كمبايعتهم بما يستعينون [به] (¬1) في حروبهم ويتقوون به على أهل الإِسلام كالخيل والسلاح وما منه تستعمل الآلات المستعدة للكفاح كالحديد والنحاس والحرير وكل شيء يرهنون به على المسلمين، فلا يجوز أن يباع منهم قولًا واحدًا؛ لأن النحاس منه يعملون الطبول، والحرير يعملون منه البنود والرايات. وكذلك لا يجوز أن يباع منهم العبد النصراني لأنه يكون دليلًا على المسلمين وعورة عليهم. وأما ما لا يعود وباله على المسلمين إلا أن فيه إعانة لهم على عمارة كنائسهم كالثياب التي يتزينون بها في كنائسهم هل يجوز أن يباع منهم ذلك أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك جائز وهو قول ابن القاسم في "العتبية". والثاني: أن ذلك لا يجوز، وهذا القول حكاه ابن مزين عن أصبغ، وأما ما فيه إذلال بالمسلمين وإهانة لهم كعبيد مسلمين طلبوا شراءهم من المسلمين فلا خلاف في المذهب أن ذلك لا يجوز ابتداء. فإذا وقع ونزل هل يفسخ العقد أو يمضي أو يباع عليه؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن البيع ناقد ويباع عليه، وهو قول ابن القاسم في ¬

_ (¬1) سقط من أ.

"الكتاب". والثاني: أن البيع مفسوخ وهو قول أشهب في "كتاب المدبر" في الذمي يشتري مسلمًا، ويؤخذ لابن القاسم من "كتاب الشفعة"، من "المدونة" في الذي اشترى الدين على رجل قاصدًا إعنات الذي عليه الدين قال: إن البيع لا يجوز ويفسخ إن نزل؛ لأن العلة في الجميع إعنات المسلم وإضراره. فإذا منع ذلك للمسلم مع تساويهما في الإِسلامية فبأن لا يجوز للكافر مع اختلاف الدينية والملة أولى وأحرى. وأما ما لا ضرر فيه على المسلمين ولا يعود عليهم بالوبال في أغلب الأحوال كالعروض التي ليست بآلة للقتال مثل أن يبتاع منهم ما يقي الحر والبرد من الثياب أو ما هو مصلح للقوت كالملح والزيت وما أشبه ذلك فلا إشكال في جواز ذلك. وأما إذا طلبوا ذلك منا في مفاداة الأسارى، فلا يخلو ما طلبوه منا من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك مما يجوز أن يباع منهم. والثاني: أن يطلبوا ما لا يجوز أن يباع منهم. والئالث: أن يطلبوا منا ما لا يجوز تملكه لنا. فإن طلبوا منا ما يجوز لنا بيعه منهم مما هو متفق عليه أو يختلف فيه فإنهم يساعدوا على ما طلبوا قولًا واحدا. فإن طلبوا ما لا يجوز لنا أن نبيعه منهم كالخيل والسلاح والقمح والشعير ولم يطلبوا منا في الفداء إلا ذلك فلا يخلو من أن يكون الأسارى في بلادهم أو قدموا منهم بأمان.

فإن كانوا في بلاد العدو فلا يخلو من أن يكون الأسارى عددهم كثير أو يسير. فإن كان عددهم كثير فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو مذهب سحنون، وهو الأظهر في النظر. والثاني: أن ذلك لا يجوز لما في ذلك من إعانة المشركين وقوة لمددهم وعددهم أو هو قول ابن حبيب. فإن كان عددهم يسيرا فلا خلاف في الجواز. فإن قدموا منهم بأمان للفداء أو أبوا أن يفدوا منهم إلا بما ذكرنا فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهم يجبرون على أن يفديهم منهم ولا يتركوا أن يرجعوا بهم إلى بلادهم وهو قول ابن حبيب في "الواضحة". والثاني: أنهم لا يجبرون على ذلك ولهم الرجوع بهم إلى بلادهم وهو أحد قولي ابن القاسم في "العتبية"، فيمن أسلم من عبيدهم إذا دخلوا إلينا بأمان أنهم لا يجبرون على بيعهم. فإن طلبوا إلينا ما لا يجوز لنا تملكه مثل الخمر وغيره فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك جائز وهو قول أشهب في "العتبية" لأن ذلك طاعة لا تنال إلا بمعصية وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب أن كل طاعة لا تنال إلا بارتكاب معصية فهي ساقطة -كانت فرضًا أو نفلا. والثاني: أن ذلك جائز لأنها ضرورة وهو قول سحنون وابن القاسم، وروى عنه أن ذلك أخف من الخيل والسلاح يريد على المسلمين من الضرر

في فدائهم بالخيل والسلاح. وأحسب أني قد رأيت لبعض المتأخرين أن ذلك جائز، ويؤخذ الخمر من أهل الذمة بقيمته. فإن صح ذلك يكون تفسيرًا لما قاله ابن القاسم وسحنون - رضي الله عنهما - إذ لا يصح إلا كذا, ولا يجوز عصر الخمر ولا تملكه بإجماع. وأما من يجوز أن يبيعه منهم ممن دان بغير دين الإِسلام من سائر أجناس الكفار وأنواعهم من كتابي ومجوسي، ففي أهل الكتاب قولان: أحدهما: أنه لا يباع بعضهم من بعض أصلًا -يهودي من نصراني، أو نصراني من يهودي- للعداوة التي بينهم -صغيرًا أو كبيرًا- وبه قال ابن وهب وسحنون وهو ظاهر "المدونة" عند بعضهم. والثاني: أنه يجوز أن يباع بعضهم من بعض ومن غيرهم جملة بلا تفصيل. والثالث: التفصيل بين الصغار والكبار، فالكبار يجوز بيعهم إذ لا يجبرون على دين الإِسلام إذا ملكوا قولًا واحدًا. والصغار لا يجوز بيعهم من كافر جملة لأنهم إذا ملكوا جبروا على الإِسلام، وهو قول مالك في "المدونة" في "كتاب التجارة إلى أرض الحرب". وقد اختلف أصحابنا المتأخرون في تأويل ذلك فمنهم من قال: معنى ذلك يرجع إلى ما قال ابن وهب وسحنون. ومنهم من قال: معنى ذلك في الصغار الذين لا آباء لهم فيكونون على دينهم، وهؤلاء إذا لم يكن معهم أباؤهم على دين من اشتراهم؛ فإذا اشتراهم مسلم فلا ينبغي له أن يبيعهم من كافر كائنًا من كان، وهذا هو الأصح والأظهر.

وأما المجوس فهم كل من دان بغير دين الكتابين من الصقالبة والبربر والروم والترك والسودان فإنهم يمنعون أعني أهل الكفر من شرائهم ابتداء. فإن نزل هل يمضي أو يرد فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن البيع يمضي ولا يرد جملة بلا تفصيل، وهو قول مالك - رضي الله عنه - في "المدونة" في "كتاب التجارة" في الصقالبة حيث قال: ما أعلمه حراما وغيره أحسن. الثاني: المنع جملة، وهو قول ابن القاسم وابن نافع في الكتاب المذكور. والثالث: التفصيل بين الصغار والكبار، فيفسخ البيع في الصغار ويمضي في الكبار وهو أحد قولي مالك في "العتبية"، وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب النذور" و"كتاب الظهار" وغيرهما ولا أظنهم يختلفون في أن الصغير من المجوس يجبر على الإِسلام، وإنما اختلفوا هل يكون مسلما بنية المالك إذا اشتراه ونيته أن يدخله في الإِسلام. وعلى هذا يتخرج ما وقع في "كتاب الجنائز" وغيره فتنبه لهذا المعنى ولا تغفل عنه. وينبني الخلاف على الخلاف فيمن ملك أن يملك هل يعد مالكا أم لا؟ وأما الشراء منهم فلا يخلو من أن يكون بيننا وبينهم هدنة أولًا. فإن لم تكن لهم هدنة فلا خلاف أنه يجوز لنا أن نشتري منهم كل ما يجوز لنا تملكه من جميع الحيوانات وسائر العروض من أموالهم. فإن كان بيننا وبينهم هدنة فهل يجوز لنا أن نشتري منهم أولادهم أو

يجوز لنا أن نأخذهم فيما صالحناهم عليه من رأس أو مال. أما الكبار فلا خلاف أعلمه في المذهب أنه لا يجوز لنا أن نشتريهم ولا أن نأخذهم منهم ولا الصغار إذا كانت الهدنة مما يبلغ قبل انقضائها لأن ذلك نقض للعهد. واختلف في الصغار إذا كانت الهدنة تنقضى قبل أن يبلغوا هل يجوز شراؤهم وأخذهم أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك جائز وهو نص "المدونة". والثاني: أن ذلك لا يجوز، وهو ظاهر قوله في "الكتاب" في التعليل بأن للصغار من الهدنة ما للكبار. وأما الوجه الثاني: إذا كانوا أهل ذمة فلا خلاف في جواز معاملتهم بالدنانير والدراهم غير المنقوشة. وإن كانوا يستحلون بيع الخمر والخنزير ويعملون بالربا كما قال الله عز وجل: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} (¬1) لأن الله تعالى قد أباح أخذ الجزية منهم وقد علم ما يفعلون وما يأتون وما يدرون لأنهم لو أسلموا لطاب لهم ما بأيديهم من الربا والخمر والخنزير لقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (¬2)، ولقوله عليه السلام: "من أسلم على شيء فهو له" (¬3)، وما كره ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (161). (¬2) سورة البقرة الآية (275). (¬3) أخرجه أبو يعلى (5847) وسعيد بن منصور في سننه (189) والبيهقي في الكبرى (18038)، قال الحافظ: فيه ياسين بن معاذ الزيات، وهو منكر الحديث متروك. وقال أبو حاتم: لا أصل له. لكن صححه الشيخ الألباني - رحمه الله تعالى - بمجموع طرقه.

مالك - رضي الله عنه - من بيع سلعة من ذمي بدنانير أو دراهم يعلم أنه أخذها في ثمن خمر أو خنزير وأباح له أن يأخذ ذلك منه على دين له وهو على طريق التنزه والتورع وذلك على خلاف القياس. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثانية في معاملة المسلم مع الذمى فيما لا يجوز للمسلم أن يملكه كالخمر

المسألة الثانية في معاملة المسلم مع الذمى فيما لا يجوز للمسلم أن يملكه كالخمر فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون المسلم هو البائع للخمر. والثاني: أن يكون النصراني هو البائع لها. فأما الوجه الأول: إذا كان المسلم هو البائع للخمر من مسلم أو نصراني فلا يخلو من أن يعثر على ذلك قبل أن يقبض المشتري الخمر أو بعد أن قبض. فإن عثر عليه قبل أن يقبضها المشتري فإن البيع ينتقض ويكسر الخمر وسقط الثمن عن المشتري إن لم يدفعه. فإن كان قد دفعه وقبض منه هل يرد عليه أو يتصدق به؟ على قولين: أحدهما: أن الثمن يرد على المشتري وهو قول ابن حبيب في "الواضحة". والثاني: أنه مصدق على المشتري أدبا له وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة". فإن لم يعثر على ذلك حتى قبضها المبتاع فلا تخلو من أن تكون قائمة بيده أو استهلكها. فإن كانت الخمر قائمة بيد المشتري فلا خلاف أنها تكسر على البائع، واختلف في البيع هل يفسخ بينهما أم لا؟ على قولين: فعلى القول بفسخ

البيع فإن الثمن يتخرج على الخلاف الذي قدمناه إذا عثر على ذلك والخمر بيد البائع هل يرد الثمن على المشتري أو يتصدق به عليه؟ فعلى القول بأن البيع لا ينفسخ بينهما فإن الثمن لا يتصدق به على المساكين -قبض أو لم يقبض- إذ لا يحل للبائع ولا يصح تركه للمشتري ولا فرق في ذلك بين أن يكون المشتري نصرانيًا أو مسلمًا. فإن لم يعثر على ذلك حتى استهلك المشتري الخمر فهاهنا يفرق الحكم بين أن يكون المبتاع مسلمًا أو نصرانيًا. فإن كان مسلمًا يتصدق بالثمن على المساكين قولًا واحدًا قبض أو لم يقبض -إذ لا سبيل إلى نقض البيع وإغرام المسلم الخمر الذي استهلك وكسرها على البائع. وإن كان نصرانيًا، فعلى قولين: أحدهما: أنه يغرم مثل الخمر وتكسر على البائع وينقض البيع ويسقط الثمن عنه إن كان لم يدفعه، وإن كان دفعه رد إليه على قول أو يتصدق به على قول حسبما قدمناه في صدر المسألة. والثاني: أن البيع يمضي ويتصدق بالثمن على المساكين -قبض أو لم يقبض. أما الوجه الثاني: إذا كان النصراني هو البائع للخمر من مسلم فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعثر على ذلك والخمر باقية بيد البائع. والثاني: أن يعثر على ذلك وهي باقية بيد المشتري بعد قبضها. والثالث: أن يعثر على ذلك بعد أن قومها المشتري.

فإن عثر على ذلك قبل أن يقبضها المشتري وهي قائمة بيد البائع فإنها تكسر على البائع وينفسخ البيع ويسقط الثمن عن المبتاع المسلم إن كان لم يدفعه إلى البائع. وإن كان قد دفعه فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يرد الثمن إلى المبتاع وهو قول ابن حبيب. والثاني: أنه لا يرد إليه ويتصدق به عليه أدبا وهو ظاهر قول مالك في "المدونة". فإن عثر على ذلك والخمر قائمة بيد المشتري فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يكسر على البائع ويرد الثمن إلى المبتاع إن كان قد دفعه ويسقط عنه إن كان لم يدفعه وهي رواية [ابن أبي أويس] (¬1) عن مالك. والثاني: أنها تكسر على المبتاع ويتصدق بالثمن إن لم يقبضه البائع أدبا، وإن قبضه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يترك له وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب التجارة". والثاني: أنه يتصدق به أدبا له -قبضه أو لم يقبضه- وهو قول سحنون. والثالث: التفصيل بين أن ينقد المشتري الثمن أم لا. فإن نقد الثمن فإن الخمر تكسر على المشتري، والثمن للبائع. ¬

_ (¬1) في أ: أويس.

وإن لم يؤخذ منه فإن لم ينقد فإنها تكسر على البائع ويفسخ البيع ويسقط الثمن على المبتاع، وهو قول ابن حبيب في "الواضحة". فإن لم يعثر على ذلك إلا بعد فوات الخمر بيد المشتري المسلم فإنه يؤخذ منه الثمن ويتصدق به على المساكين إن كان لم يدفعه إلى النصراني أدبا له. وإن كان النصراني البائع قد قبضه منه فعلى قولين: أحدهما: أنه يسترد منه ويتصدق به وهو قول سحنون. والثاني: أن الثمن لا يسترد منه وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وبه قال ابن حبيب في واضحته. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثالثة في التفرقة بين الأم وولدها في البيع

المسألة الثالثة في التفرقة بين الأم وولدها في البيع والأصل في بيع التفرقة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا توله والدة بولدها" (¬1)، من الوله وهو الحيرة. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" (¬2). واختلف العلماء في مقتضى النهي فمنهم من حمله على ظاهره وأنه يقتضي الفساد كنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر الذي النهي فيه معلل بأكل المال بالباطل للإخلال ببعض أركان العقد، وآخرون لا يرونه مقتضيا للفساد معولون على الفرق بينهما من حيث افتراق متعلق بالنهي ومحله لأن الفساد في بيع التفرقة لم يكن في ثمن ولا مثمون فلا معنى لإلحاقه بالغرر والذي اختلت بعض أركانه ولم تنتظمه حقيقة البيع. فإذا ميزنا بيع التفرقة وبيع الغرر وفرقنا بينهما على مشهور المذهب فما حكمه؟ فقد اختلف الأصحاب في ذلك، فقال بعضهم أن البيع لا يفسخ بل يلاقى بأن يباع الولد والأم على مالكهما ولا يفسخ كالنصراني اشترى عبدًا مسلمًا محافظة على قاعدة البيع المبنية على الأحكام والانبرام فلا يصادمها إلا ما هو مناقض لأصلها من فساد في أحد أعواضها فأما ابن القاسم فمتون الأجوبة التي أجاب بها في الكتاب مختلفة. وقال في الهبة والصدقة والجناية والوصية: إذا كان الولد لأحدهما بأحد ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (15545)، وضعفه الحافظ ابن حجر، والألباني رحمهما الله تعالى. (¬2) أخرجه الترمذي (1566)، وأحمد (23546)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.

الوجوه التي ذكرنا والأم لرجل آخر أنه يكلف لهما الجمع بينهما في ملك واحد. والثاني: أن يجمع بينهما في حوز، والقولان متأولان على "المدونة". وقال فيما افترق الملك بالمعاوضة الاختيارية إما أن يجمع بينهما في ملك أحدهما وإلا فسخ البيع فقال هاهنا بالفسخ ولم يقل يباعان عليهما. وقال فيما إذا باع الأم على خيار المشتري ثم اشترى البائع الولد أنهما يجبران على البيع والجمع وإلا بيعا عليهما, ولم يقل بالفسخ إن امتنعا فذهب أصبغ إلى أن ذلك اختلاف قول وذلك ظاهر. وذهب بعض حذاق المتأخرين إلى أن ذلك اختلاف يرجع إلى حال وخرج لذلك وجهًا يقتضي التلفيق، وأشار إلى أن المعنى المانع من إطلاق القول بالبيع عليهما جبرًا لما في ذلك من جمع السلعتين في البيع لمالك وذلك غرر وخطر وقال: الفسخ أولى، ولهذا قال في الهبة والصدقة والوصية والجناية بأنهما يباعان عليهما لتعذر الفسخ، والمشتري بالخيار إنما لم يقل فيه بالفسخ لأن البائع يتهم أن يكون إنما اشترى الولد ليفسخ عقد المشتري فاستحق عقد السلعتين في هذه الوجوه لتعذر الفسخ إذ الفسخ في أغلب الأحوال إنما يستعمل في عقود المعاوضات فاستعمل الأصل كما ترى وربك أعلم. وسبب الخلاف: اختلافهم في النهي عن بيع التفرقة هل ذلك لحق الولد أو ذلك لحق الأم أو ذلك لحق الله؟ فمن رأى أن ذلك حق لله وحق للولد قال بفساد البيع وفسخه. ومن رأى أن ذلك حق للأم خاصة قال: يجوز البيع إذا أجازته وهو

أحد أقاويل المذهب. ومن اعتبر الحقوق الثلاثة قال: يفسخ البيع إذا غلب حق الله. فإن لم يرجح أحد الحقوق وقال بأنهما يجبران على الجمع بينهما إما في ملك وإما في حوز. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الرابعة في الذمي إذا أسلم إلى ذمي درهما في درهمين أو في خمر ثم أسلما جميعا أو أحدهما

المسألة الرابعة في الذمي إذا أسلم إلى ذمي درهما في درهمين أو في خمر ثم أسلما جميعًا أو أحدهما فإن أسلما جميعًا وقد قبض ذلك من له السلف فذلك حلال له قولًا واحدا لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (¬1)، وإن أسلما جميعا قبل القبض فليس له إلا رأس ماله قولًا واحدًا، وإن أسلما أحدهما ففي ذلك خمسة أسئلة: أحدها: أن يسلم دينارًا في دينارين. والثاني: أن يسلم إليه دنانير في دراهم أو دراهم في دنانير. والثالث: أن يبيع منه خمرًا بدنانير ودراهم. والرابع: أن يسلم إليه دراهم في خمر أو خنزير. والخامس: أن يقرضه خمرًا أو خنازير. فالجواب عن السؤال الأول: وهو أن يسلم دينارًا في دينارين فلا يخلو من أن يسلم الذي له الحق أو أسلم الذي عليه الحق. فإن أسلم الذي له الحق فليس له إلا ديناره الذي دفع لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}. فإن أسلم الذي عليه الحق فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية (279).

أحدها: أنه يقضي عليه برد الدينار كما أسلما جميعا لأنه حكم بين مسلم وذمي وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يغرم الدينارين للذمي وهو قول مالك في "الموازية" وابن القاسم في "العتبية". والثالث: التوقيف وهو قول مالك في "المدونة" والتوجيه ظاهر. والجواب عن السؤال الثاني: إذا أسلم إليه دنانير في دراهم أو دراهم في دنانير فلا يخلو من أن يسلم الذي له الحق أو الذي عليه الحق. فإن أسلم الذي له الحق فليس له إلا رأس ماله دنانير أو دراهم تؤخذ الدراهم من النصراني يشتري بها الدنانير أو تؤخذ الدنانير فيشتري بها الدراهم إن كان أسلم فيها. فإن أسلم المسلم إليه فإنه يتخرج على الخلاف الذي قدمناه في السؤال الأول إذا أسلم دينارًا في دينارين ولا فرق بين السؤالين. والجواب عن السؤال الثالث: إذا أسلم دنانير في خمر أو في خنزير فإن أسلم المسلم إليه فإنه يرد إليه رأس ماله قولًا واحدا في المذهب. فإن أسلم الذي له السلم فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يرد رأس ماله كما لو أسلم الذي له السلم وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن الخمر تؤخذ من الذمي فتراق على المسلم وهو قول مالك في "المدونة". والجواب عن السؤال الرابع: إذا باع منه خمرا بدنانير أو دراهم فلا يخلو من أن يسلما جميعًا أو يسلم البائع أو المبتاع فإن أسلما جميعًا أو

أسلم البائع وحده فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الثمن ثابت على البائع على كل حال وهو قول أشهب والمخزومي. والثاني: أن الثمن يسقط عن المبتاع إذا أسلما أو أسلم البائع وهو قول ابن أبي حازم وابن دينار. فإن أسلم المبتاع فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يرد الثمن إلى الذمي على كل حال لأنه دين ترتب في ذمته وهذا هو مشهور [المذهب] (¬1) والمنصوص فيه. والثاني: أن الثمن يسقط عنه. والثالث: أن عليه قيمة الخمر وانقطع بها، والقولان مخرجان غير منصوص عليهما. والجواب عن السؤال الخامس: إذا فرض الذمي خمرًا أو خنازير فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يسلما جميعًا، أو يسلم المقرض له، أو يسلم المقرض. فإن أسلما جميعًا سقط القرض قولًا واحدًا. فإن أسلم المقرض له وحده فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القرض يسقط عنه وهو قول مالك في "الواضحة". والثاني: أن القيمة تلزم المقرض وهي رواية سحنون عن ابن القاسم. فإن أسلم المقرض فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أحدهما: أنه لا شيء له على الذمي وهو المشهور أنه لا يجوز للمسلم أخذ الخمر والخنازير ولا اقتناؤهما. والثاني: أن الخمر والخنازير يؤخذان من الذمي فتراق الخمر وتسرح الخنازير وهو اختيار ابن القاسم في "العتبية". [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الخامسة في المصراة

المسألة الخامسة في المصراة وهى حفل الضرع، وهى التي تركت مدة ولم تحلب في وقت صلابها حتى اجتمع اللبن في ضرعها ليغتر بذلك مشتريها ويحسب أنها كذلك في سائر الأوقات، وأصله الجمع، ومنه الصرر وهو: الماء المجتمع، ومنه قوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} (¬1)، فقيل: في نساء مجتمعات، وقيل: في صجة وصحة وكأنه من اجتماع الأصوات أيضًا، ويقال: صريت الماء في الحوض واللبن في الضرع، وصريته يخفف ويشدد وليس من الصر الذي هو الربط. واختلف في ضبط قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصر الإبل" (¬2). على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الضبط فيه فتح التاء وضم الصاد والواو قدام الراء وفتح اللام في الإبل وهكذا: لا تَصُرُوا الإبلَ. والثاني: أن التاء مرفوعة والصاد مفتوحة والراء مرفوعة واللام في الإبل مضمومة على أن الإبل مفعول لم يسم فاعله. والثالث: أن الضبط فيه أن تكون التاء مرفوعة والصاد مفتوحة والراء مضمومة واللام في الإبل مفتوحة على أنه مفعول سمى فاعله، وهو الصحيح. وقال القاضي أبو الفضل عياض: حكى لنا الشيخ ابن عتاب عن أبيه أنه ¬

_ (¬1) سورة الذاريات الآية (29). (¬2) تقدم.

كان يقول للطلبة: إذا أشكل عليكم ضبط هذا الحرف فاقرؤوا قوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} (¬1) فقال: نِعْمَ ما قال رحمه الله، فإن صرى مثل زكى مفعوله بعده منصوب وهذا والصحيح. فأما من فتح التاء أوضحها فجعل الإبل مفعولا لم يسم فاعله فذلك لا يصح إلا على القول بأن معنى صر أي ربط وذلك ضعيف في النقل والسماع. وأما على معنى صرى بمعنى منع فلا يصح ذلك جملة، فإذا ثبت ذلك فقد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تصر الإبل والغنم، ومن اشتراها [فهو] (¬2) بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر" (¬3)، وفي بعض طرق الحديث: "بعد أن تحلبها ثلاثًا"، وفي بعض طرقه: "بعد أن يحلبها ثلاثة أيام" وهو حديث ابن وهب. فإذا اشترى شاة حلوبة فلا يخلو من أن يشترط ما تحلب كل يوم أو لم يشترطه. فإن اشترط ما تحلب كل يوم فالمشتري على شرطه، فإن وجده كان وإلا كان له الخيار قولًا واحدا ولا كلام في ذلك للمشتري إذا وجدها قليلة الدر. فإن كانت مصراة فتبين له النقصان في الحلبة الثانية كان له الخيار في الرد والإمساك بلا خلاف. فإن حلبها ثالثة بعد أن ظهر له النقصان في الثانية هل يعد ذلك منه ¬

_ (¬1) سورة النجم الآية (32). (¬2) سقط من أ. (¬3) تقدم.

رضا بالمبيع أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك منه رضا ولا رد له بعد ذلك بعيب التصرية، وهو قول ابن المواز وهو ظاهر قوله في "المدونة"، حيث قال: إذا حلبها الثانية فقد علم بذلك نقص حلبها فإما رضيها أو ردها. والثاني: أن الحلبة الثالثة لا تعد منه رضا وهو على رأس أمره في الخيار وهو قول مالك في "كتاب محمَّد" ورواية عيسى عن ابن القاسم في "العتبية" وهو ظاهر قوله في "المدونة" حيث قال: ولا حجة له في الثانية إذ بها يخير وهذا القول أظهر في النظر وموافق للأثر وذلك أنه إذا حلبها في المرة الأولى يغزر اللبن ويكثر الدر فيظن أن ذلك عادتها. فإذا حلبها في المرة الثانية انتقص اللبن فيستريب المشتري وربما يتخيل أن النقصان من أجل المراح والمرعى وأن ذلك من إمساكها وتعطلها عن المرعى مدة التسويق؛ فإذا حلبها ثالثة تحقق له الخبر إما لأنها عادت إلى ما حلب منها أول مرة فتبين له النقصان من أجل المراعي والمراح. وأما إن وافقت الثالثة الثانية فتبين له أن ذلك دلسة من البائع فيكون بالخيار ساعتئذ بين الرد والإمساك فهل يقبل قوله أنه ما رضيها بعد الحلبة الثالثة دون عين أم لا؟ على قولين فإن اختار الرد فهل يرد معها صاعًا من تمر أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يردها ويرد معها صاعًا من تمر وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه يردها ولا يرد معها شيئا وهو قوله في "كتاب ابن عبد الحكم" وبه قال أشهب. وسبب الخلاف: تعارض الحديثين وذلك أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان"، يقتضي أن

كل من استعمل شيئًا بوجه شبهة أن الغلة له بضمانه، وهذا الحديث موافق لأصول الأقيسة إلا أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يردها وصاعا من تمر" (¬1) معارض لحديث "الخراج بالضمان" (¬2)، وهو أصل مستثنى وباب على حياله. والحكمة في رد الصاع من التمر مع الشاة إذا ردها دون أن يرد معها اللبن الذي حلب منها وإن كان قائما أن اللبن المحلوب على تلك الحالة منه ما كان في ملك البائع مخزون في الضرع يوم البيع ومنه ما حدث في الضرع ويكون فيه بعد البيع وبعد أن صارت في ضمان المشتري ومقدار ما كان في ملك كل واحد من المتبايعين غير معلوم بالمقدار. وقد تختلف في ذلك دعاويهما فيدعي كل واحد منهما الأكثر في ذلك فأمر الشرع برد الصاع من التمر قطعًا لمادة النزاع مثل ما حكم - صلى الله عليه وسلم - بالغرة في الجنسين ولهذا قال مالك رحمه الله: وهذا الحديث ليس لأحد فيه رأي وهو مبني على أن أخبار الآحاد مقدمة على الأقيسة وهو مشهور مذهبه وهو مذهب أكثر الفقهاء خلاف ما حكاه البغداديون وذهبوا إليه من تقديم الأقيسة على أخبار الآحاد، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. وعلى القول بأنه يرد معها صاعا من تمر، فإذا قال البائع: أنا أقبلها بهذا اللبن الذي حلب منها هل يجوز أو لا يجوز ذلك؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز لأن ذلك بيع الطعام قبل قبضه وهو قوله في "المدونة"، لأن الصالح قد وجب له فباعه بما رد مع الشاة من اللبن قبل ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) أخرجه أبو داود (3508)، والترمذي (1285)، والنسائي (4490)، وابن ماجه (2243)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.

أن يقبضه. والثاني: أن ذلك جائز ويكون إقالة وهو قول سحنون، وقال بعض المتأخرين: إنما تصح فيها الإقالة إذا حلبها المشتري بحضرة الشراء وحيث لا يتولد فيها لبن، وما قاله ليس بصحيح، وإذا حلبها بحضرة الشراء فمن أين يعلم أنها مصراة. وسبب الخلاف: ما قدمناه من تقديم القياس على الخبر. فإذا اشترى جماعة شياه أو بقرات أو نوقا كلها مصراة فهل يرد مع الجميع صاعًا واحدًا أو يرد مع كل رأس صاعا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يرد معها كلها صاعًا واحدًا وهو قول عيسى بن دينار وأحمد بن خالد وأكثر أهل العلم. والثاني: أنه يرد صاعًا مع كل واحدة وهو قول ابن الكاتب. والثالث: أنه يرد الصاع مع القليل، فإذا أكثر لم يرد شيئًا. وسبب الخلاف: اختلافهم في الألف واللام هل هما للعهد أو للجنس؟ فمن رأى أنهما للعهد قال: يرد صاعًا مع كل واحد، ومن رأى أنهما للاستغراق قال: يرد صاعًا واحدًا للجميع. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السادسة في بيع الشاة والاستثناء منها

المسألة السادسة في بيع الشاة والاستثناء منها ولا يخلو ما استثناه منها من خمسة أوجه: أحدها: أن يستثني صوفها وشعرها ووبرها. والثاني: أن يستثني الجلد والسواقط. والثالث: أن يستثني منها جزءا شائعًا كالنصف والثلث. والرابع: أن يستثني منها جزءا معينًا كالفخذ والكبد. والخامس: أن يستثني منها أرطالا مسماة. فالجواب عن الوجه الأول: إذا استثنى منها صوفها ووبرها وشعرها فلا خلاف في الجواز في السفر والحضر، وسواء قلنا أن المستثني مشترًا أو مبتعًا لجواز بيع ذلك على ظهور الحيوانات. والجواب عن الوجه الثاني: إذا استثنى الجلد والسواقط فقد اختلف فيه المذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: الجواز في الحضر والسفر وهو ظاهر رواية ابن وهب في "الكتاب" بناء على أن المستثنى مشترًا وأن الرأس لا يعطى له حكم اللحم لجواز أن يشتري قبل أن يسلخ من جلده فذلك خالف حكمه حكم اللحم إذ لا خلاف في ذلك. والثاني: المنع جملة في الحضر والسفر بناء على أن المستثنى مبقًا، وهو ظاهر قول مالك في آخر "كتاب بيع الخيار" في الذي باع تمرًا على كيل واستثنى منها البائع أصعًا معلومة حيث قال بالجواز بناء على أن المستثنى

مبقا، وهو ظاهر قول مالك في آخر "كتاب بيع الخيار" في الذي باع تمرًا على كيل واستثنى منها البائع إذ لو كان مشترًا لمنع لأن ذلك بيع الطعام قبل قبضه إن كان البيع على الكيل، وهو في الشاة من باب بيع اللحم المغيب وهو ظاهر لا إشكال فيه. والثالث: التفصيل بين الحضر والسفر فيجوز في السفر ولا يجوز في الحضر وهو مذهب "المدونة" نصًا. والفرق بينهما أنه في السفر لا ثمن له إذ هو غير مقصور هناك ولا مطلوب، وأكثر المسافرين يطرحونه فيخف الغرر إذ ذاك، وفي الحضر له ثمن وهو مقصود إذ له أقوام يقصدونه بالشراء والمتاجرة فيه، وربما كان ثمنه مساويا لثمن اللحم أو باق عليه فيكثر الغرر لجلهم بمقدار ثمن اللحم في الحال. والرابع: التفصيل بين الجلد والرأس فيجوز في الجلد ولا يجوز في الرأس على القول بأن الجلد له حكم اللحم، وهو ظاهر قول ابن وهب: أنه لا يجوز أن يستثني من اللحم قليلًا ولا كثيرًا. وأما الجلد فلا أعلم فيه في المذهب نص خلاف أنه لا يعطى له حكم اللبن إلا ما استقرأ من المذهب، وإلى أن الجلد له حكم اللحم ذهب أبو الحسن اللخمي. وقد تؤكل الشاة مشويا وسميطًا فيكون للجلد حكم اللحم. وعلى القول بالجواز قلا قول للبائع مع المشتري في الذبح والاستحياء. فإن استحياها المشتري فعليه قيمة الجلد أو مثله. وقال بعض متفقهة العصر: يؤخذ من هذه المسألة إلزام المثل في العروض، وقد يحتمل أن يكون كما قال، ويحتمل أن يكون ذلك جنوحا

إلى أن الجلد له حكم اللحم على ما يقوله اللخمي، واللحم من ذوي الوزن وهما مما يقضي فيه بالمثل. ويحتمل أن يكون ذلك اتباعًا للأمر الوارد في ذلك. واختلف المذهب من المقدم منهما في الاختبار على ثلاثة أقوال: أحدها: أن البائع مقدم على المشتري في أخذ ما شاء من المثل أو القيمة. والثاني: أن المشتري مقدم، والقولان قد تأولا على "المدونة". والثالث: أن النظر في ذلك إلى الحاكم ويحكم فيه بما يراه. والأقوال الثلاثة مروية في المذهب، وعلى أن المشتري مقدم أسعد بظاهر الكتاب. [واختلف] (¬1) في أجرة الذابح على من تكون منهما؟ قولان: أحدها: عليهما جميعًا. والثاني: أنها على المشتري دون البائع. والجواب عن الوجه الثالث: إذا استثنى منها جزءًا شائعًا قل أو كثر، ففي الكتاب قولان منصوصان: أحدهما: الجواز قياسا على استثناء الثمار وهو قول ابن القاسم وقياسه غير صحيح. والثاني: المنع وهي رواية ابن وهب في "الكتاب"، وهو الأصح لأنه من باب اللحم المغيب من البائع والمشتري سواء بنينا على أن المستثنى مبقًا أو ¬

_ (¬1) سقط من أ.

مشترًا على القول بالجواز فإنهما يكونان مشتركين فمن دعى منهما إلى الذبح فذلك له وأجرة الذبح عليهما معا. والجواب عن الوجه الرابع: إذا استثنى جزءا معينا كالفخذ والكبد ففي الكتاب قولان: أحدهما: المنع وهو نص قول ابن القاسم. والثاني: الجواز وهذا القول يؤخذ من مسألة الأرطال. فمن منع رأى أن ذلك من بيع اللحم المغيب مع الجهل بمقدار ثمن المبيع إلا بعد التقويم. ومن جوز رأى أن ذلك غرر يسير في جنب ما بقى كاستحقاق اليسير من الكثير. والجواب عن الوجه الخامس: إذا استثنى أرطالا مسماة فقد اختلف فيه على ستة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن ذلك لا يجوز لا في القليل ولا في الكثير وهي رواية في "الكتاب". والثاني: أنه يجوز في اليسير كالثلاثة الأرطال وهي رواية ابن وضاح في الكتاب خلاف ما يراه غيره من الثلث بضم التاء. والثالث: أنه يجوز في الأربعة فدون وهو قول ابن القاسم في الكتاب حيث قال: يجوز في الأربعة وما أشبهها. والخامس: أنه يجوز في الثلث بضم الثاء فدون وهي رواية ابن وهب في الكتاب وبه قال أشهب في غير "المدونة". والقول السادس: أنه يجوز فيما دون الثلاثة الأرطال قَلَّت أو كثرت

وهو قول ابن القاسم في "الكتاب" حيث قال: ولم يبلغ مالك الثلث فجعل الثلث هاهنا في حيز الكثير. فوجه القول بمنع الجميع لأن ذلك غرر في ثمن المستبقى إذ لا يعرف إلا بعد التقويم وذلك بيع بثمن مجهول. ووجه القول بالجواز أن ذلك غرر يسير لقلة المستثنى في جنب المستبقى. وأما اختلافهم في عدة ما يجوز أن يستثنى من الأرطال فمبني على اختلافهم في حد القليل من الكثير وذلك راجع إلى اختلاف آثار المجتهدين، وعلى هذا الخلاف ينبني اختلافهم في استحقاق اليسير من الكثير أو بعينه إذا كان على التعيين، وذلك يرجع إلى اختلافهم في اعتبار الحال والمآل. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السابعة في الحكرة من الطعام وغيره

المسألة السابعة في الحكرة من الطعام وغيره والكلام في هذه المسألة في أربعة أسئلة: أحدها: احتكار ما في الأسواق. والثاني: التربص بالطعام وغيره رجاء الغلاء. والثالث: الحكم فيما بأيدي الناس من الطعام إذا كان الغلاء. والرابع: في التسعير. فالجواب عن الوجه الأول: في احتكار ما في الأسواق وهو اشتراؤه للخزين وذلك ينقسم إلى طعام وعروض فالطعام لا يخلو احتكاره من أن يضر بالناس أو لا يضر بهم. فإن كان يضر بالناس إما بانحطاط السعر وإما أن يستوعب المحتكرون جميع ما في السوق من الطعام ولا يجد عامة الناس ما يشترون فإن التجار يمنعون من الاحتكار في هذا الوجه قولًا واحدًا. فإن عثر عليهم بعد أن اشتروا فإن الطعام يخرج من أيديهم ويشتركون فيه مع الناس بالثمن الذي اشتروا به إن علم. فإن جهل سعره يوم احتكروه وهو قول ابن حبيب، وما قاله عين المذهب وقد فعله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وذلك في جميع الأطعمة. فإن كان الاحتكار لا يضر بالناس ولا بأهل السوق فهل يمنع التجار من الاحتكار أم لا؟ على قولين:

أحدهما: أنهم لا يمنعون وهو قوله في "المدونة" وغيرها، وقد قال في "الموازية": ومما يعيبه من مضار ويرونه ظلمًا تمنع التجارة إذا لم تكن مضرة بالناس ولا بأسواقهم. والثاني: أنهم يمنعون مع عموم الأزمان، وقد قال مطرف وابن الماجشون: لا يكون احتكار الطعام في وقت من الأوقات إلا مضرًا بالناس. فإن كان لا يضرهم فإنهم لا يمنعون قولًا واحدًا ولا فرق في جميع ما ذكرناه في الطعام والعروض فيما يخزن في البلد الذي اشترى منه أو يجلب إلى غيرها من البلدان ولا بين البوادي والقرى لشمول العلة وعمومها. والجواب عن السؤال الثاني: في التربص في الطعام وغيره رجاء الغلاء ولا يخلو التربص من أن يكون مشتريًا أو جالبًا أو زارعًا. فإن كان مشتريًا فإنه يجوز مع الكراهة، وإن كان زارعًا أو جالبًا فإنه يجوز بلا كراهة. وقد سئل مالك -رحمه الله- عن ذلك فقال: ما علمت فيه نهيًا ولا أعلم فيه بأسًا يحبس إذا شاء ويبيع إذا شاء ويخرجه إلى بلد آخر، وقال: ما من أحد يبتاع طعامًا أو غيره إلا ويحب غلاءه ولا أحب ذلك. والجواب عن السؤال الثالث: في الحكم فيما بأيدي الناس من الطعام في زمن الشدة والغلاء هل يباع عليهم أو يؤمروا ببيعه. فأما ما ليس فيه فضل عن قوتهم وقوت عيالهم فلا يتعرض لهم في ذلك قولًا واحدًا. وأما ما فيه فضل عن ذلك فإن الإمام يأمرهم بإخراج ما عندهم من الفضل للبيع بالسعر الواقع وهو قول مالك في "الموازية".

ومن ليس عنده ثمن فإنه يجب عليهم مواساته ولا يتركونه يموت جوعًا فيسألون عنه يوم القيامة. والجواب عن السؤال الرابع: في التسعير في الطعام وغيره. وقد [نهى] (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التسعير، وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسعر فأبى وقال: "إني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد منكم عندي مظلمة" (¬2) وقال: "إن الغلاء والرخص جندان من جنود الله تعالى" (¬3). فالمبيع في الأسواق ينقسم إلى عروض وطعام، فالعروض لا يجوز تسعيرها قولًا واحدًا، وأما الطعام فإنه ينقسم إلى المقتات به غالبا وإلي ما هو إدام. فالطعام المقتات به مثل القمح والشعير والسلق وغيره مما جرت العادة ببيعه على يديه ولا يترك التجار يشترونه ليبيعوه على أيديهم فلا أعرف في المذهب نص خلاف أن التسعير فيه لا يجوز. وأما ما هو إدام كاللحم والزيت والسمن والعسل أو ما ليس بإدام إلا أنه فاكهة مما يستطرفه الناس فالمذهب في تسعيره على قولين: أحدهما: أنه لا يجوز فيه التسعير جملة وهو مشهور المذهب وقد قال ابن القاسم في "العتبية": قال مالك في السوق إذا أفسد أهله سعره أنه لا يسعر عليهم. والثاني: أنه يسعر عليهم على قدر ما يرى من سعرائهم وهو قول أشهب عن مالك في "العتبية" في اللحم، وابن حبيب في الزيت والسمن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه أبو داود (3450)، وأحمد (8429) وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬3) قال الشيخ الألباني: موضوع، الضعيفة (1213).

والعسل والفواكه والبقول واتفق المذهب على من حط سعرًا أن يقال له: إما أن تلحق بسعر أهل السوق وإلا فارفع منه، ولا يجبر على أن يلحق به مثل أن يبيع أهل السوق أربعة أرطال بدرهم فأراد هو أن يبيع ثلاثة أرطال بدرهم. وأما الزيادة في السعر مثل أن يبيع أهل السوق أربعة أرطال بدرهم فباع واحد خمسة أرطال فهذا لا يؤمر أهل السوق بالإلحاق حتى يكون من يبيع ذلك السعر أكثر أهل السوق فعند ذلك يؤمر من بقى بالإلحاق بهم وإلا رفع من سوق المسلمين، وينبغي للإمام تفقد المكاييل والموازين في كل حين، وأمر مالك بذلك، وأن يكون الكيل في البلد الواحد واحدًا كيل [القفيز] (¬1) وكيل القسط ووزن، وأن يكون القفيز معروفا بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاعه أن يتبايعوا فيما دون القفيز بالصاع والمد وأن يأمر الناس بوفاء الكيل والوزن ويؤدب من يطففهما. وقال مالك في "العتبية" و"الموازية": إذا ملأ رأس المكيال فهو الوفاء من غير رزم ولا تحريك ولا زلزلة، ولكن يصب على رأس المكيال ويمسك بيده فإذا امتلأ أرسل يده ولم يمسك ولا يجوز أن يمسح الكيل باليد. وقد روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه وأمر بيسير الكيل، وقال: إن البركة في رأسه. وقال عبد الملك بن الماجشون: بلغني أن كيل فرعون إذا كان الطفاف مسحا بالأيدي قال مالك: ويغربل القمح للبيع وهو الحق الذي [لا] (¬2) شك فيه. [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: الفقر. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثامنة فيمن اشترى لبن غنم بأعيانها مدة معلومة فمات بعضها

المسألة الثامنة فيمن اشترى لبن غنم بأعيانها مدة معلومة فمات بعضها ولا تخلو الغنم من أن تكون يسيرة أو كثيرة. فإن كانت يسيرة فلا يخلو من أن يشتريه على الكيل أو على الجزاف. فإن اشتراه على الكيل فلا خلاف في الجواز، وإن اشتراه على الجزاف فالمذهب في جوازه على قولين قائمين من "المدونة". أحدهما: أن ذلك لا يجوز وهو غرر وخطر بموت الشاة قبل الإبان وهو نص "المدونة". والثاني: أن ذلك جائز في القليل كجوازه في اليسير وهو ظاهر قوله في "المدونة" في الذي اكترى بقرة للحرث واشترط حلابها حيث قال: لا بأس بذلك إذا عرف وجه حلابها وهو تأويل فضل بن سلمة وابن أبي زمنين وأبي بكر بن عبد الرحمن وبعض شيوخ القرويين وهو قول أشهب عن مالك وهو الصحيح لمساواة القليل والكثير في توقع الفوات قبل الإبان. وقد اختلف شيوخ المذهب في تأويل ما وقع في "المدونة" فمنهم من قال أن ذلك اختلاف قول واضطراب رأي وهو قول سحنون ومن ذكرناه من المتأخرين. ومنهم من قال: إن ذلك اختلاف حال لأن البقرة هي المقصودة لأجل العمل واللبن تبع والأتباع لا تراعى وهذا باطل لقوله في الكتاب: إذا عرف وجه حلابها والمعرفة لا تشترط في الأتباع.

ومنهم من قال: إنما جوز ذلك للضرورة لكون البقرة في يد المكترى والضرر يكثر عليه بترداد المكترى لحلابها فجاز ذلك كما جاز بيع العرية بخرصها للضرورة ولو كانت عند ربها والمكترى هو الذي يحلبها كل يوم لجرته لم يجز على حال لأنه مقصود بالشراء حينئذ. ومنهم من فرق بين السؤالين ويقول: إن لبن الشاة هو المشتري في تلك المسألة وفيه الغرر بنفسه وهنا المقصود الكراء واللبن تبع والغرر فيه وحده، والغرر اليسير معفو عنه في الشرع. فيتحصل من مجموع ما تأول عليها أربعة أقوال. فأما الوجه الثاني: إذا كانت الغنم كثيرة وقد اشترى لبنها ثلاثة فلا خلاف في الجواز ثم إن مات بعضها في أثناء المدة وبقى بعضا مثل أن تكون جملتها عشر شياه واشترى لبنها ثلاثة أشهر ثم ماتت منها خمس بعد أن حلت جميعها شهرا قال في "الكتاب": ينظر فإن كانت الميتة تحلب قسطين والباقية قسطًا قسطًا نظر كم الشهر من الثلاثة في قدر نفاق اللبن ورخصه. فإن قيل: النصف وقد قبض نصف صفقته بنصف الثمن وهلك ثلثا النصف الباقي قبل قبضه فله الرجوع بحصته من الثمن وهو ثلثا نصف الثمن أجمع. ولو كان موت هذه الميتة قبل أن يحلب شيئًا لرجع بثلثي جميع الثمن، وعلى هذا يحسب أن لو كان حصة الميت الثلث أو النصف أو الثلاثة أرباع وهذا نصه في "المدونة". وصورة المسألة أن يقدر أن القيمة كانت اثنا عشر دينارًا أو يقدر أن الخمسة الهالكة التي تحلب قسطين قيمة لبنها على قدر التشاحح عليه ونفاقه في زمنه ستة دنانير ويقدر أن ذلك الشهر يعدل الشهرين الباقيين فيكون قد

استوفى نصف صفقته ثم إن النصف الباقي من المدة قد هلك فيها ثلث المشترى قبل أن يقبضه وهو قيمة أربعة دنانير، وهو ثلث جميع القيمة فيصح له الرجوع على البائع بثلث الثمن إن كان قد انتقده ويوضع عنه من جملة الثمن إن لم يدفعه، سواء كان الثمن قليلًا أو كثيرًا، فعلى هذا يحسب أن لو كانت قيمة الميتة الثلث أو الربع على هذا المنهاج يجري. والحمد لله رب العالمين.

كتاب التدليس بالعيوب

كتاب التدليس بالعيوب

كتاب التدليس بالعيوب تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها ثمان عشرة مسألة المسألة الأولى فيمن اشترى سلعة ثم اطلع بها على عيب ولا يخلو من أن يحْدِث عيب آخر أو لم يحْدِث. فإن لم يحدث عند المشتري عيب ولا تغيرت السلعة فهو بالخيار بين أن يردها على البائع ويأخذ جميع الثمن، أو يحبسها ثم لا شيء له من قيمة العيب، ولا خلاف في هذا الوجه. والدليل عليه حديث المصراة، وهو أصل في كل غش وتدليس فإن حدث عند المشتري في المبيع حدث يغيره عما كان عليه وقت البيع فلا يخلو ما حدث فيه من أربعة أوجه: أحدها: أن يدخله زيادة. والثاني: أن يدخله نقصان ولا تفوت عينه. والثالث: أن تفوت عينه لخروجه عن ملكه. والرابع: أن يعقد فيه عقدًا يمنعه من رده. فالجواب عن الوجه الأول: وهو أن يدخل البيع زيادة، فإن الزيادة لا تخلو من خمسة أوجه: أحدها: زيادة بحوالة الأسواق. والثاني: زيادة في حال المبيع.

والثالث: زيادة في عين المبيع فيما حدث فيه أو بشيء من جنسه يضاف إليه. والرابع: زيادة من غير جنس المبيع مضافة إليه. والخامس: ما أحدثه المشتري في المبيع من صفة مضافة إليه كالصبغ وما أشبه ذلك بما ينفصل عنه. فأما الزيادة بحوالة الأسواق والزيادة في حال المبيع مثل أن يكون عبدا فيتعلم الصنعة فتزيد قيمته لذلك فإنه لا يعتبر فيها ولا يوهب للمبتاع خيار. وأما الزيادة في عين المبيع فيما هو حادث فيه كالدابة تسمن والصغير يكبر أو شيء من جنسه مضاف إليه كالولد يحدث فيه فقد اختلف فيه المذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك ليس بفوت والمشتري مخير بين أن يردها بحالها أو يردها وولدها إن حدث أو تمسك ولا شيء له من قيمة العيب وهو قول مالك وابن القاسم في "العتبية" في الدواب والولادة والعبيد والصغير يكبر. والثاني: أن ذلك فوت في الجميع ويكون المشتري بالخيار بين أن يمسكها ويرجع على البائع بما نقصه العيب أو يردها ولا شيء عليه في تلك الزيادة وهو قول ابن القاسم في "العتبية" أيضًا إذا سمنت سمانة بينة وهو أحد قولي مالك أيضًا. والثالث: أن ذلك فوت في الجميع وله قيمة العيب ولا خيار له في الرد وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في الصغير يكبر والسمانة، وحدوث الولد كزيادة الصغير يكبر ولا فرق. والرابع: التفصيل بين سمانة الرقيق وسمانة الدواب فالصغير يكبر

وحدوث الولد والدابة سمن وذلك فوت وليس السمن في العبيد فوت وهو قول مالك أيضًا في "المدونة". وأما الزيادة المضافة إلى المبيع من غير جنسه مثل أن يشتري العبد ولا مال له فيفيده عنده مالًا بهبة أو صدقة أو تجارة أو إفادة بوجه غير خراجه أو يشتري الرجل النخل ولا ثمر فيها فيثمر عنده ويجد عيبًا ولا خلاف أن ذلك ليس بفوت ولكن له الخيار بين أن يمسك ولا يرجع بقيمة العيب أو يرد العبد وماله والنخل وثمرها ما لم يطلب على الخلاف [فإن] (¬1) تمادى يصير غلة على ما سنوضحه في مسألة مفردة في هذا الكتاب إن شاء الله. فإذا رد النخل وثمرها هل يرجع بقيمة السقي والعلاج أم لا؟ فالمذهب على قولين مشهورين. وأما الزيادة بما أخذه المشتري المبيع من صنعة مضافة إليه كالصبغ وما أشبه ذلك مما لا ينفصل إليه بحال أو لا ينفصل عنه إلا بفساد، فلا خلاف في المذهب أن ذلك يوجب له الخيار بين أن يمسك أو يرجع بقيمة العيب أو يرد ويكون شريكا بما زاد الصبغ. والجواب عن الوجه الثاني: إذا ثبت نقصان في البيع، فلا يخلو ذلك النقصان أيضًا من خمسة أوجه: أحدها: نقصان بحوالة الأسواق. والثاني: نقصان بتغير حال المبيع. .... والرابع: نقصان من غير عين المبيع. والخامس: نقصان بما أحدث المشتري في المبيع. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فأما النقصان بحوالة الأسواق فلا عبرة به وهو مخير بين أن يرد أو يمسك ولا شيء له. وأما النقصان بتغير حال المبيع مثل أن يشتري الأمة فيزوجها أو العبد فيزوجه أو يزني أو يسرق أو ما أشبه ذلك مما تنقص به قيمته فلا خلاف في المذهب أن التزويج عيب في الرقيق مع بقاء الزوجية ودوامها وفي انقضاء الزوجية فيها بالموت أو الفراق فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك ليس بعيب وهو قوله في "المدونة" وهو مشهور المذهب. والثاني: أن ذلك عيب استدامت الزوجية بينهما أو انقضت وهو قول ابن القاسم وأشهب عن مالك في "المدونة". والثالث: أن التزويج عيب في الواقعة بعد الموت والفراق دون الوحش وهو قول ابن القاسم في "كتاب محمد". والرابع: التفصيل بين الموت والفراق فيكون عيبًا مع الفراق وليس بعيب مع الموت وهو ظاهر قوله في "الموازية" وهو قول أبي سعيد البراذعي في "كتاب الشرح والبيان". وسبب الخلاف: اختلافهم في العلة التي لأجلها صار النكاح عيبًا في المبيع بعد اتفاقهم على أن مجرد النكاح ليس بعيب لأن الله تعالى ورسوله قد أباحه، وما نص الله تعالى ورسوله على إباحته فليس بعيب فثبت أن العلة أمر زائد على النكاح، واختلف في ذلك الزائد ما هو؟ فمنهم من يقول: إن العلة في ذلك كون المزوج منهما

يسرق مال سيده وينقل من بيته إلى زوجته أو إلى زوجها إن كانت أمة، ويتعطل عن شغل السيد ويذهب إلى موضع الزوجة أو الزوج إن تباعدت المواضع وذلك غرر على المشتري وقد تصيبه أمة تذهب به في ذهابه. فإذا انقطعت العصمة بينهما بفراق أو موت زالت العلة المجردة، ومنهم من يقول: إن العلة في ذلك كون العبد والأمة طرءا بالنكاح فيكون من العبد التشوف إلى النساء ومن الأمة إلى الرجال وذلك مما يفسر أحوالهما مع المشتري لأن من اعتاد النكاح واستأنس به يميل به الطبع إليه ويغلبه الشوق ويؤدي به ذلك إلى أن يهوي ويعشق وذلك غاية الضرر على السيد. فإذا ثبت أن التزويج عيب في الرقيق إما مع بقاء الزوجية ودوامها على الاتفاق وإما بعد الفرقة والانصرام على الخلاف فإن ذلك فوت ويخير المشترى بين أن يرد البيع مع قيمة ما نقص عيب الربح عنده أو يمسك ويرجع بما نقص العيب القديم عند البائع. وأما ما كان من عيوب الأخلاق كالزنا والسرقة وشرب الخمر إذا حدث عند المشتري وقد اطلع على عيب فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها عيوب يرد معها النقص إن اختار الرد، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنها ليست بعيوب يرد معها الأرش وله أن يرد ولا شيء عليه، وهو قول ابن حبيب. وأما النقصان بتغيير عين المبيع مما يحدث في يديه فلا يخلو ذلك من أربعة أوجه: أحدها: أن يكون عيبًا خفيفًا لا ينقص من الثمن ولا يخشى له غائلة.

والثاني: أن يكون عيبًا يسيرًا ينقص من الثمن كثيرًا أو يبقى معه جل منافع المبيع إلا أنه تؤمن غائلته. ... والرابع: أن يكون عيبًا مفسدًا ذهب بأكثر منافع المبيع. فإن كان عيبًا لا ينقص من الثمن كالكي الخفيف الذي لا يخالف اللون ولا تفاحش في العظم ولا هو في موضع مستقبح مثل الفرج وما والاه وغائلته مأمونة وما أشبهه من العيوب الخفيفة التي لا تأثير لها في ضمان الثمن. فإن كان عند النخاسين عيبًا فلا خلاف أعلمه في المذهب أنه لا رد للمبتاع إذا اطلع عليه ولا يرد له شيئًا إذا حدث عنده واطلع على عيب قديم يوجب الرد، وهو نص قول مالك في "الموازية". فإن كان عيبًا خفيفًا ينقص من الثمن يسيرًا أو كان مما تؤمن غائلته كذهاب السن الواحدة أو ما لا تؤمن غائلته كالحمى والرمد. فأما ذهاب السن الواحدة في الرابعة في عيب عندهم كانت من مقدم الفم أو مؤخره وهو قول ابن القاسم في الضرير في "العتبية" في سماع أصبغ عنه، وابن حبيب في "واضحته". وفي غير الرابعة من ذكر أو أنثى قولان: أحدهما: أن ذلك ليس بعيب فيهما وهو قول في "العتبية". والثاني: أنه عيب فيهما إذا كانت السن [المنزوعة] (¬1) من مقدم الفم، وليس بعيب إن كانت من مؤخره وهو قول ابن حبيب في "واضحته" ويتخرج فيها قول ثالث: أن الواحدة عيب في الرابعة وغيرها كانت من ¬

_ (¬1) في أ: المزروعة.

مقدم الفم أو مؤخره وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب المرابحة"، وأما الحمى والرمد فالمذهب فيهما على قولين: أحدهما: أن ذلك ليس بعيب وأن المشتري بالخيار بين أن يرد أو يمسك، فإن رد فلا يرد مع المبيع شيئًا، فإن اختارا إمساكها فلا يخرج بقيمة العيب وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن ذلك فوت فلا يرده إن اختار الرد إلا فيما نقصه العيب عنده وهو مذهب سحنون. ووجه الحمى والرمد أنهما لا تؤمن غائلتهما، والحمى مرض من أمراض الموت، والرمد لا يؤمن أن يذهب البصر من أجله. وقد تأول بعض المتأخرين على سحنون أن المشتري لا يمكن من ذلك حتى تستبرأ عاقبتهما ويعلم مآل أمرهما، وعلى ذلك حمل كلامه، وما قلنا أولى. فإن كان عيبا فاحشا ينقص من الثمن كثيرًا كقطع اليد والشلل والعور وقطع الرجل الواحدة أو الرجلين فهل له الرد أو يجب أو يمنع من الرد؟ على أربعة أقوال: أحدها: أن المشتري بالخيار بين الرد والإمساك، فإن اختار الإمساك رجع بما نقص العيب الحادث عنده، وهو مذهب "المدونة". والثاني: أن ذلك فوت يمنعه الرد كما لو ذهب عيناها جملة وهو ظاهر قوله في "المدونة" في الكبير يهرم، فقد قال: إنه يمنع من الرد ويرجع بقيمة العيب، وهو قول محمَّد بن مسلمة فيما ذهب أكثر منافعه. والثالث: أن الرد واجب على المشتري ولا يجوز الرضا بالسلعة المبيعة وهو أحد قولي مالك في الصفقة إذا استحق جلها وكان الاستحقاق على

اليقين حيث قال: لا يجوز له التماسك بما بقى لأنه بثمن مجهول إذ لا يعرف قيمته إلا بعد التقويم فصار بيعا مؤتنفا بثمن مجهول، وذلك موجود في هذه المسألة لأن ما بقي من السلعة غير معيب قيمته مجهولة فلا يعرف إلا بعد التقويم، وهذا تأويل بعض المتأخرين على الكتاب أن قوله في هذه المسألة بالتخيير بين الرد والإمساك يتخرج على أحد قولي مالك أن له الإمساك بما بقى في مسألة الاستحقاق. والرابع: التفصيل بين ما كان من سبب المشتري وما كان بسبب سماوي. فإن كان من سبب المشتري فإنه يرد معه ما نقص عنده، وما كان من سبب سماوي فإنه يرده ولا يرد معه شيئًا، وهو قول أبي الفرج في "الحاوي"، وهو أضعف الأقوال. والدابة إن تعطلت أعضاؤها أو انقطع ذنبها أو أذنابها كالعبد والأمة في جميع ما أوردناه من الأقوال. وعلى القول بالتخيير للمشتري بين الرد مع ما نقص العيب فإن قال البائع: أنا أقبله معيبًا وأرد جميع الثمن هل يمكن من ذلك ويخير كما يخير المشتري؟ على أربعة أقوال: أحدها: أن الخيار للبائع كما يكون للمشتري وأن المشتري إن اختار الإمساك والرجوع بقيمة العيب، وقال البائع: أنا أقبله بجميع الثمن معيبا كان القول قوله، وهو قول ابن القاسم في أول "كتاب العيوب" من "المدونة". والثاني: أنه لا خيار للبائع وإنما الخيار للمشتري وهي رواية ابن القاسم وابن نافع عن مالك وبه قال عيسى بن دينار.

والثالث: التفصيل بين أن تكون الزيادة فيمن قيمته مع العيب الذي فيه فيكون الخيار للمبتاع دون البائع ولم يكن فيه إلا التفصيل فيكون الخيار لهما جميعا كما قال ابن القاسم وأشهب وهو تأويل بعض الشيوخ على "المدونة". والرابع: التفصيل بين أن يكون البائع مدلسا أو غير مدلس. فإن كان مدلسا فلا خيار له، وإن كان غير مدلس كان له الخيار وهو تأويل ابن لبابة على "المدونة" وهو تأويل حسن جيد في الفقه. فإن كان عيبا مفسدا فذهب بجل منافع المبيع مثل العمى وقطع اليدين والرجلين أو ما أشبه ذلك فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المشتري يرجع على البائع بقيمة العيب ولا خيار له في الرد كما لو فات عينه وهو مشهور المذهب وهو نص "المدونة" في الكبير يهرم. فإذا هرم الكبير فقد ذهبت منافعه؛ وإن كان بعض المتأخرين فقد فرق بين الصغير يكبر والكبير يهرم، وبين ما تعطلت منافعه من العبيد والدواب والحيوان قائلا: إن الصغير يكبر والكبير يهرم قد صار جنسا آخر غير جنسه الأول حتى يجوز سلم أحدهما في الآخر، وما بطلت منافعه على خلاف ذلك. وما فرق به هذا المتأخر باطل لوجود ذلك فيما تعطلت منافعه من العبيد والدواب والحيوان وزوال المراد منه حتى صار من حواشي جنسه فإنه يجوز أن يسلم فيه خيار جنسه مما بقيت منافعه وسلمت الأغراض المقصودة فيه، وهو قول محمَّد بن مسلمة. والثاني: أن المشتري بالخيار بين الرد مع قيمة العيب والإمساك ويرجع

بما نقص العيب على البائع هو ظاهر "المدونة" حيث أطلق الجواب في الكتاب في العيوب المفسدة مثل القطع والشلل والعمى. فإذا كان كذلك فقد ذهبت أكثر منافع المبيع، وكذلك إذا قطعت له يد واحدة وكانت صنعته في يده كطراز قزاز أو صائغ وما أشبه ذلك فإن ذلك مما يذهب بأكثر منافعه، وعلى هذا حمل أكثر شيوخ المذهب ظاهر الكتاب. فأما النقصان من غير عين المبيع مثل أن يشتري بنخل بثمرها قبل الطياب قبل الإبار أو بعده، أو عبدا وماله فيذهب مال العبد بتلف والثمر بجائحة فإن ذلك ليس بفوت قولًا واحدا, وله الخيار بين أن يرده ولا شيء عليه ويمسكه ولا شيء له. وأما النقصان بما أحدث المبتاع في البيع بما جرت العادة أن يحدث فيه مثل أن يشتري الثوب فيصبغه أو يقطعه فينقص الثمن لذلك، فإن هذا فوت باتفاق المذهب والمشتري فخير بين أن يمسك أو يرجع بقيمة العيب أو يرد ويرد ما نقصه ما أحدث فيه إلا أن يكون البائع مدلسا فلا يكون عليه للنقصان شيئًا يرده من أجله. واختلف إن أراد أن يمسك هل له أن يرجع بقيمة العيب أم لا على قولين: أحدهما: أن ذلك له، وهو مذهب ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أن ذلك له فيما نقصه بصناعة الصبغ دون ما نقصه القطع، وهو محمول على أنه غير مدلس حتى يثبت ذلك عليه إما ببينة أو بإقراره به على نفسه، وهو قول أصبغ، وابن المواز. والجواب عن الوجه الثالث: إذا فات عين المبيع فلا يخلو فواته مما

يخرجه عن ملك بعوض كالبيع وغيره من سائر وجوه المعاوضات؛ فالكلام عليه يأتي في مسألة مفردة إن شاء الله. فإن خرج من يده بغير عوض فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون باختياره وإيثاره، أو يكون ذلك بغير اختياره وإيثاره؛ مثل أن يكون عبدا فيقبله المشتري أو يتصدق به أو يعتقه، هل له الرجوع بقيمة العيب على البائع ويكون ذلك فواتا أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك فوات يوجبه الرجوع بقيمته، وهو القول المشهور الذي عليه الجمهور من أصحاب مالك. والثاني: أنه لا يرجع بقيمة العيب، وهو مهجور المذهب الذي لا وجه له، وهذا القول حكاه بعض المتأخرين عن مالك في المذهب. فإن كان ذلك بغير اختيار المشتري؛ مثل أن يكون عبدا فيموت حتف أنفه أو يقتله خطأ فله الرجوع بقيمة العيب قولًا واحدا. والجواب عن الوجه الرابع: وهو أن يعقد فيه عقدا يمنعه من رده؛ فلا يخلو هذا العقد من أن يتعقبه رجوع إلى ملكه كالكتابة على اعتبار الحال والاستيلاء والتدبير والعتق إلى أجل؛ فذلك فوت وليس فيه إلا الرجوع بقيمة العيب. وأما إن كان العقد يتعقبه الرجوع إلى ملكه كالرهن والإجارة والإخدام ففيه في المذهب ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن ذلك العقد ليس بفوت، ولا رجوع له بقيمة العيب حتى يرجع إلى ملكه -طالت المدة أو قصرت- وهو قول ابن القاسم في "المدونة".

والثاني: بالتفصيل بين أن تكون المدة طويلة فيرجع بقيمة العيب في الحال، وبين أن تكون قصيرة فينتظر حتي تنقضي المدة أو يكون أمدا بعيدا فيكون فوتا، وهو قول أشهب. والثالث: التفصيل بين الإجارة والرهن والإخدام؛ ففي الرهن والإخدام يكون فوتا وله الرجوع بقيمة العيب، وفي الإجارة لا يكون فوتا وله الرد، ولا تنقض الإجارة؛ لأنه عقدها بموضع يجوز له كما لو زوج عبدا ثم وجد به عيبا لكان له أن يرده بعينه ولم يفسخ النكاح، وهو قول أصبغ. وسبب الخلاف: اعتبار الحال والمآل؛ فمن اعتبر الحال قال: ذلك فوت يوجب الرجوع بقيمة العيب إن شاء، ومن اعتبر المآل قال: ذلك فوت إذ لابد أن يرجع إلى ما كان عليه. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثانية في تعيب بعض الجملة المشتراة أو استحقاقه

المسألة الثانية في تعيب بعض الجملة المشتراة أو استحقاقه ولا يخلو المشتري من أن يكون طعاما، أو عروضا، أو دورا أو أرضين. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان المشتري طعاما فلا يخلو من أن يستحق بعضه، أو بعيب. فإن استحق بعضه فلا يخلو المستحق من أن يكون يسيرا، أو كثيرا. فإن كان يسيرا مما لا ضرر فيه على المشتري فلا مقال له في الرد. وإن كان كثيرا فللمشتري المقال في الرد والإمساك. واختلف في حد الكثير؛ ففي الثلث قولان في "الكتاب". وعلى القول بأن الثلث في حيز اليسير ففي النصف قولان في "الكتاب". أحدهما: أن النصف في حيز الكثير، وهو نص "المدونة" في كتاب "القسمة". والثاني: أنه في حيز اليسير كالعروض، وهو قول أشهب في غير "المدونة" في "كتاب العيوب". ويوجد لابن القاسم من مسألة الحمل في آخر "كتاب الوكالات" من "المدونة" علي ما بيناه هناك، وهذا الحكم إذا اشترى صيرة على أن ما فيها مائة أردب ثم وجدها تنقص على ما ذكرنا، فإن تعيب البعض فلا يخلو المعيب من أن يكون يسيرا أو كثيرا.

فإن كان يسيرا كالعشر فالسلم لازم للمشتري، ولا رد له، وهل ذلك برضا البائع أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة" من "كتاب بيع الخيار" وغيره. فإن كان المعيب مثل الخمس والسدس وما لا رد فيه للمشتري لو استحق فليس للمشتري إلا أن يرد الجميع لحجة البائع في استتباع المعيب السالم وحمله عليه، ثم تبين للبائع أن يلزمه السالم بحصته لحجة المشتري في الرغبة في شراء إما لرخصها وإما لإكفاء المؤنة، حتى إذا تراضيا على شيء فيجوز ما تراضيا عليه. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان المشتري عروضا ثم استحق بعضها؛ فإن استحق منها ما لا ضرر فيه على المشتري فالسالم يلزمه بحصته من الثمن ولا، رد له، فإن استحق منها ما عليه فيه ضرر كالثلثين ففي هذا الوجه يكون له الكلام. ثم لا يخلو الاستحقاق من أن يكون علي التعيين أو على الإجزاء. فإن كان على التعيين مثل أن استحق من صفقته عين -يعني: أي شيء يعبر- فهل له التماسك بما بقى منها أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" من "كتاب العيوب" و"الاستحقاق"، ولا يخفى علي من طالعهما. والخلاف فيهما مبني على الخلاف في جمع السلعتين في البيع. فإن كان الاستحقاق على الإجزاء فهل يجوز التماسك بما بقي أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز، وهو نص "المدونة".

والثاني: المنع، وهو قائم من "المدونة" بالمعنى؛ وبيانه أنا لو جعلنا الخيار للمشتري في الرد أولًا فوجب أن يفسخ البيع ثم يختار التماسك آخرا؛ فيكون قد أخذ سلعة البائع بغير إذنه وذلك ممنوع شرعا، وهذا أصل متداع في أكثر مسائل "المدونة"؛ وهو المخير بين شيئين هل يعد مختارا لما ترك أم لا؟ وهذا معنى دقيق لا يفطن له إلا من عنده تحقيق وتدقيق. واختلف في النصف في العروض هل هو في حيز القليل أو في حيز الكثير على قولين قائمين من "المدونة" من "كتاب القسمة" على ما لا يخفى، إلا أن المشهور في أن النصف في حيز اليسير في العروض. والفرق بين الطعام والعروض على مشهور المذهب في أن النصف في الطعام في حيز الكثير وفي العروض في حيز اليسير أن العادة الجارية في المكيل والموزون من المأكول أن التنافس والرغبة في شراء الجملة أكثر، فإذا استحق منها النصف فقد ذهب المقصود، بخلاف العروض؛ فإن المقصود منها أعيانها حتى لا يكاد الثمن يختلف في شراء آحادها وأعدادها على المشهور. فإذا استحق منها النصف فلا خيار له لبقاء النصف وهو كثير. والمكيل والموزون والمعدود من العروض في استحقاق النصف سواء. والمعتبر فيما ذكرناه من استحقاق الأقل والأكثر إنما هو في القيمة دون أعيان السلع وأعدادها، بخلاف المكيل، والموزون من الطعام والعروض فإن المعتبر فيه أعداد ما يستحق فيرجع بقدر ذلك من الثمن دون تقويم إلا في صورة واحدة فإن العروض المعدودة فيها توافق الطعام؛ وهو إذا اشترى عدلا على أن فيه خمسين ثوبا فوجد فيه أربعين فإنه يرجع بخمس الثمن، ولا تقويم في هذا لعدم ما يقوم.

والرد بالعيب والاستحقاق النظر فيهما إلى القيمة؛ لوجود ما يقوم، وهذا الجزء المستحق والمعيب. فافهم هذه المعاني؛ فإنها معان فائقة، وأسرار رائقة، ولا يدركها إلا من ألقى السمع وهو شهيد. فأما إن كان المشتري عروضا ثم وجده المشتري عيبا، فإن كان المعيب يسيرا جدا فالسالم يلزم المشتري بحصته من الثمن ولا رد له. فإن كان المعيب جل الصفقة فهل له التماسك بالسالم ويرد المعيب أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه مخير بين الرد والإمساك، وليس له أن يحبس السالم ويرد المعيب، وهو قول ابن القاسم في "كتاب العيوب" إذا كان العيب في كثير من عدد أو وزن حتى يضر ذلك بصفقته فليس له إلا أن يرد الجميع، وليس له التماسك بالسالم وإن كان معدودا لحجة البائع في محل المعيب على السالم. والثاني: قوله فيها بالتفصيل بين أن يكون المعيب وجه الصفقة أم لا؛ فإن كان المعيب وجه الصفقة فليس له التماسك بالسالم الأدنى، وإن كان المعيب هو الأدنى فله أن يرد ويلزمه السالم بحصته من الثمن، وهذا نص قوله في "المدونة". وإن كان من حجته استتباع العيب للسالم ومنعه من التماسك بالسالم الأدنى ليحمل عليه الأكثر الأردأ فبأن يمنع من التماسك بالمعيب الأكثر ليحمل عليه المعيب الأقل أولى، وهذا منه اختلاف قول على كل حال، وعلى أنه اختلاف حمله أبو سعيد في "التمهيد".

والجواب عن الوجه الثالث: إذا كان المشتري دورا أو أرضين فاستحق بعضها أو وجد بها عيب فالحكم في ذلك واحد. فإذا استحق منها الشيء اليسير الذي لا ضرر فيه على المشتري فهل يلزمه الباقي بحصته من الثمن أم لا؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه يلزمه الباقي بحصته من الثمن، وسواء كان الاستحقاق على الإجزاء أو على التعيين، وهذا نص قوله في "المدونة" في غير ما موضع. والثاني: أنه لا يجزئه التماسك بما بقى؛ لأنه يمسكه بثمن مجهول إذا كان الاستحقاق على معين، ويجوز إذا كان على الإجزاء، وهذا القول مستقرأ من "كتاب التجارة" إلى أرض الحرب من استثناء الجز المعين من الشاة كالفخذ والكبد، وقد منعه هناك، ووجه المنع فيه لمجهلة في الثمن في المستثنى والمشتري لا يعرف قيمته إلا بعد التقويم؛ فقد منع ذلك في الشاة مع قلة المستثنى والاستثناء كالإستحقاق، وهذا ظاهر جدا لمن أنصف. فإن كان المستحق كثيرا كالنصف والثلثين فله رد ما بقى، وهل له التمسك به بحصته من الثمن أم لا؟ فإن كان الاستحقاق على الإجزاء قولان، وإن كان على التعيين قولان، والتوجيه ما تقدم في تحصيل العروض. واختلف في استحقاق هل هو في حيز الكثير الذي لا يعتبر فيه الضرر لكون ضررا في نفسه؟ على قولين قائمين من "المدونة":

أحدهما: أن الثلث في حيز اليسير الذي يعتبر فيه وجود الضرر وعدمه. ووجود العيب في جميع هذه الفصول كالاستحقاق سواء. وهل الكراء في ذلك كله كالشراء؟ قولان منصوصان في "الكتاب". [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثالثة إذا اشترى عبدا بثوبين فهلك عنده أحدهما ثم وجد بالآخر عيبا

المسألة الثالثة إذا اشترى عبدا بثوبين فهلك عنده أحدهما ثم وجد بالآخر عيبا فلا يخلو من أن يوجد العيب بالثوب الباقي أو بالعبد، فإن وجد بالثوب فلا يخلو الثوب الهالك من أن يكون هو أوجه الثوبين أو هو الأدنى منهما، فإن كان الهالك هو أوجه الثوبين وتعيب الأدنى فلا يخلو العبد من أن يكون قائما أو فائتا. فإن كان قائما فإن المشتري يرد المعيب ويرجع بما ينوبه من القيمة. وهل يرجع؟ [...] (¬1) وهو قوله في "المدونة". والثاني: أنه يرجع بذلك في عين العبد، ويكون بذلك القدر شريكا، وهو قول أشهب. والثالث: التفصيل بين المدلس وغيره؛ فإن كان مدلسًا فإن المشتري يرجع بقيمة العيب في عين العبد ويكون شريكا، وإن كان غير مدلس فإنه يرجع بقيمة العيب في ذمة البائع لا في عين العبد، وهذا القول مخرج غير منصوص. والرابع: أن يخير في ذلك المشتري للعبد بين أن يرخي بالشركة أو يرده على بائعه كعيب ظهر له في المبيع، والشركة في الرقيق عيب، وهو قول ابن القاسم. ووجه القول الأول: أنه لا يكون شريكا في العبد ترجيحا لجانب ¬

_ (¬1) يوجد سقط بالأصل.

مشتري العبد لما يلحقه من الضرر في الشركة التي لم يدخل عليها أولا. وجه القول الثاني: أن الأصول موضوعة على أن من باع عرضا بعرض فاستحق أحدهما ووجد به عيبا فإنه يرجع في عين شيئه إن كان قائما أو بقيمتها إن كان فائتا. فإذا كان الحكم أن يرجع في عين شيئه مع تعييب الجميع أو استحقاقه فكذلك يرجع فيه إذا تعيب البعض واستحق؛ لأن الموجب برجوع من شيئه. ووجه القول الثالث: بالتفصيل بين التدليس وغيره إن كان مدلسا كان هو المتسبب في ذلك ويحسب على أنه دخل على الشركة باختياره وإيثاره، والظالم أحق أن يحمل عليه. ووجه القول الرابع: بأن الخيار في ذلك للمشتري لأن بائع العبد قد تعين حقه في عين شيئه فيكون له الرجوع في عينه ويشتري العبد ويدخل على ضرر الشركة ولا رضي به، فإذا استحق بعض العبد من يده كان له الخيار بإيثار العيب والشركة أو الرد، فإن اختار الرد كان له الخيار بإيثار العيب والشركة أو الرد، فإن اختار الرد كان له الخيار أيضًا بين أخذ الثوب المعيب مع قيمة التالف أو أخذ قيمة الثوبين جميعا. فإن كان العبد فائتا فلا يخلو فواته من أن يكون بحوالة الأسواق أو مما هو أعلى منها؟ فإن فات بحوالة الأسواق فهل يكون ذلك فيه فوتا أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك فيه فوت، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وكتاب "محمَّد" أن حوالة الأسواق تفوت عرض البيع.

والثاني: أنه ليس بفوت، وهو ظاهر "الكتاب" إذا تلف الأدنى وتغيب الأعلى حيث قال: إنه يرد المعيب مع قيمة التالف وتلف أقلها أشد من حوالة الأسواق، ومع ذلك لم يجعله فوتا، وهو تأويل بعض الأندلسيين. وسبب الخلاف: اختلافهم في الرد بالعيب فيما فات من الأعواض هل يعطى له حكم البيع الفاسد لمساواتها في القيمة وأن المرجوع في ذلك إليها في غير ذات المثل، أو لا يعطى له حكمه لاختلافهما في موجب الشرع لأن الرد في البيع الفاسد جبري والرد بالعيب أمر اختياري فافترقا. فإن كان فواته مما هو أعلى فلا يخلو من أن يكون مما يمكن الرد معه مثل أن يعقد فيه عقدًا من عقود الحرية فإنه يرجع بقيمة المعيب في ذمة بائعه قولًا واحدًا. فإن كان مما يمكن الرد معه كنقصان الذات وزيادتها فمنصوص المذهب على أنه يرجع بقيمة العيب في الذمة لا في عين العبد. ويتخرج فيها قول آخر أنه يرجع في عين العبد ويكون شريكا ليكون عين شيئه. فإن كان [الهالك] (¬1) هو الأدنى من الثوبين وتغيب الأعلى، فإن كان العبد قائما فإنه يرد القائم من المعيب وحده ويأخذ ما ينوبه من قيمة العبد، ويمضي الأدنى بما ينويه من قيمة العبد، وهو مذهب "المدونة"، وإن كان قد أعقد هذا الوجه في "الكتاب" ولم يذر فيه إلا أصولا تدل عليه. والثاني: أنه يرد الثوب القائم المعيب مع قيمة الهالك ويأخذ قيمة عبده وهو رأي الأندلسيين. واختلف في القيمة متى تعتبر على قولين قائمين من ¬

_ (¬1) في أ: الهلاك.

"المدونة" على اختلاف الروايات فيها: أحدهما: أن القيمة فيها يوم القبض، وهي رواية التميمي، وهو الصحيح. والثاني: أن المعتبر في ذلك يوم الصفقة، وهذا ينبني على الخلاف الذي قدمناه في الرد بالعيب هل يعطى له حكم الفاسد فيما يرجع إلى القيمة أم لا؟ فإن كان العبد هو المعيب فإن مشتريه يرده ويأخذ ثوبيه إن كانا قائمين أو قيمتهما إن كانا فائتين. فإن فات أحدهما وهو الأعلى كان فوتًا للأدنى، ويأخذ قيمتها إلا أن يريد البائع أن يأخذ الأدنى مع قيمة الأعلى كان ذلك له؛ لأن الحق له. وإن فات الأدنى أخذ الأعلى مع قيمة الفائت، ويرد العبد إن شاء، والحمد لله وحده.

المسألة الرابعة فيمن اشترى سلعة فلم يقبضها حتى هلكت عند البائع أو هلكت ثم علم أن بها عيبا، وما الذي يكون قبضها وتصير به في ضمان المشتري إذا وجد

المسألة الرابعة فيمن اشترى سلعة فلم يقبضها حتى هلكت عند البائع أو هلكت ثم علم أن بها عيبا، وما الذي يكون قبضها وتصير به في ضمان المشتري إذا وجد ولا تخلو السلعة المبيعة من وجهين: أحدهما: أن تكون محبوسة بالثمن عند البائع أو تكون في حكم المحبوسة بالثمن. والثاني: أن تكون غير محبوسة في ثمن. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كانت محبوسة في الثمن أو هي في معنى المحبوسة مثل أن لا يصرح البائع بالحبس ولا مكن المشتري من القبض حتى هلكت السلعة، فلا يخلو إهلاكها من وجهين: إما أن يكون بسبب سماوي، أو بسبب آدمي. فإن كان هلاكها بسبب سماوي فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الضمان فيها من البائع. والثاني: أن الضمان فيها من المشتري، والقولان لمالك في "الكتاب". والثالث: التفصيل بين أن يكون المشتري من أهل البلد وهو موسر فيكون الضمان من البائع، أو يكون غريبًا أو بلديًا معسرًا فيكون الضمان من المشتري، وهو قول مالك في "مختصر ما ليس في المختصر". وسواء كان المبيع في جميع هذه الأقوال مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه، حاضرًا كان أو غائبًا.

وسبب الخلاف: اختلافهم في المخاطب بالتسليم أولًا هل البائع مخاطب بتسليم المبيع فبعد ذلك يخاطب المشتري بتسليم الثمن، أو المشتري مخاطب أولا بتسليم الثمن وبعد ذلك يخاطب البائع بتسليم المبيع؛ فإذا قلنا بأن البائع مخاطب بالتسليم أولًا كان الضمان من المشتري؛ إذ بالعقد صارت في ضمانه والعقد بيع على الحقيقة والتقابض من كماله. فإن قلنا: إن المشتري مخاطب بتسليم الثمن أولا كان الضمان من البائع ببقاء المبيع في ملكه وتحت يده، والبيع هو التقابض دون العقد بل هو السبب الموصل إلى التقابض، وهذا القول أضعف الأقوال. وأما القول الذي فصل فيه بين البلدي الموسر والغريب والبلدي المعسر فهو حوم على هذا الأصل إذا اعتبرته. فإن كان الهلاك بسبب آدمي فلا يخلو من أن يكون بسبب البائع، أو بسبب المشتري، أو بسبب أجنبي. فإن كان ذلك بسبب البائع فعلى البائع لأن الضمان من البائع ينفسخ البيع. ثم لا يخلو الثمن الذي اشترى به المشتري من أن يكون [من] (¬1) الجنس الذي تقوم به الأشياء، أو من غير جنسه. فإن كان من جنسه فلا يخلو من أن يستهلكه خطأ أو عمدًا. فإن استهلكه خطأ فلا شيء للمشتري على البائع إن كانت القيمة أكثر من الثمن. فإن استهلكه عمدا أو كانت القيمة أكثر من الثمن غرم البائع فضل ¬

_ (¬1) سقط من أ.

القيمة على الثمن، ولا شيء له عليه إن كانت أقل. فإن كان الثمن من غير الجنس الذي تقوم به الأشياء؛ مثل أن يكون الثمن عرضا كان المشتري بالخيار بين أن يفسخ البيع عن نفسه أو يدفع الثمن الذي اشتراه به ويرجع بالقيمة. وعلى القول بأن الضمان من المشتري يكون العمد والخطأ سواء؛ فعلى المشتري الثمن وعلي البائع القيمة. فإن تجانسا تقابضا، ومن له الدرك على صاحبه وجه به عليه. فإن لم يتجانسا غرم البائع القيمة وغرم المشتري الثمن. فإن استهلكه المشتري فعلى القول بأن الضمان من البائع ينظر فإن استهلكه خطأ انفسخ البيع ويغرم المشتري أكثر من الثمن أو القيمة؛ لأنه بالخطأ أبطل الدين الذي عليه، فعلى القول بأن الضمان من المشتري يكون عليه الثمن -قل أو كثر- لأنه صار في معنى المقبوض. فإن استهلكه عمدا غرم الثمن على القولين جميعا؛ لأن ذلك يعد منه رضا بقبضه على تلك الحال. فإن استهلكه أجنبي عمدا أو خطأ فعلى القول بأن الضمان من البائع يكون على الأجنبي الأكثر من القيمة أو الثمن؛ لأن خطأه على السلعة أبطل على البائع الدين الذي له عليه في ذمة المشتري. وعلى القول الآخر تكون القيمة للمشتري على الذي استهلكه وعليه الثمن للبائع. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كانت السلعة المبيعة غير محبوسة في ثمن فلا تخلو من أن تكون مما يتعلق به حق التوفية أم لا. فإن كان مما يتعلق به حق التوفية كالمكيل والموزون والمعدود إذا اشتراه على كيل أو وزن

فلا خلاف أنه في ضمان البائع حتى يقبضه المشتري وصار في وعائه. واختلف إذا هلك وهو في المكيال أو في كفة الميزان على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الضمان من البائع حتى يصب في وعاء المشتري. والثاني: أنه من المشتري وإن لم يصل إلى وعائه. والقولان لمالك - رضي الله عنه -. والثالث: التفصيل بين أن يكون المشتري هو متولي الكيل والوزن فيكون الضمان منه، وإن كان المتولي لذلك هو البائع أو وكيله فالضمان من البائع، وهو قول سحنون. وسبب الخلاف: أجرة الكيل على من تكون؟ قيل: على البائع، وقيل: على المشتري، فمن رآها على البائع قال: الضمان منه -وهو الأظهر- ومن رآها على المشتري قال الضمان منه، وإن كان المبيع مما لا يتعلق به حق التوفية فلا يخلو البائع من أن يمكن المشتري من القبض أو لا يمكنه. فإن لم يمكنه من القبض فهو فصل المحبوسة في الثمن، وقد قدمناه. فإن مكنه من القبض هل يكون ذلك كالقبض أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن التمكين كالقبض، وهو مشهور المذهب والمنصوص فيه. والثاني: أن التمكين [ليس كالقبض] (¬1)، وهذا القول مخرج غير منصوص عليه في المذهب. وقد حكى الحفيد إجماعًا في المذهب أن التمكين في البيع الصحيح ¬

_ (¬1) مكانه بياض بالأصل.

قبض، وما قاله ليس بصحيح؛ لأن لنا في "المدونة" مسائل تدل على أن التمكين ليس بقبض. وأما إذا اشترى سلعة ثم علم أن بها عيبا بعد أن هلكت فلا يخلو هلاكها من وجهين: إما أن يكون قبل القيام بالعيب، أو بعد القيام. فإن هلكت بعد القيام بالعيب وكان هلاكها من غير سبب العيب فلا خلاف أن ضمانها من المشتري، وله الرجوع على البائع بقيمة العيب. فإن هلكت بعد القيام بالعيب فممن ضمانها؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: [أنها] (¬1) في ضمان المشتري حتى يحكم السلطان بردها على البائع، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنها في ضمان المشتري وإن قضى له السلطان بالرد حتى يقبضها البائع، وهو أحد قولي مالك في "كتاب محمَّد". والثالث: أنها في ضمان البائع بيقين بنفس إثبات المشتري العيب عند السلطان. والرابع: أنه إذا أشهر المبتاع أنه غير راض فقد برئ من الضمان إلا أن يطول الأمد حتى يرى أنه راض به، وهو قول أصبغ. [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الخامسة إذا اشترى جارية على جنس فوجدها على خلافه

المسألة الخامسة إذا اشترى جارية على جنس فوجدها على خلافه فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يشترط الأعلى فيجد الأدنى. والثاني: أن يشترط الأدنى فيجد الأعلى. والثالث: أن يشترط جنسًا فوجد غيره مما يتفق معه في العلاوة. فإن اشترط الأعلى فوجد الأدنى، مثل أن يشتري جارية على أنها بربرية فوجدها أسبانية أو إبرية فله الرد قولًا واحدًا. فإن اشترط الأدنى فوجد الأعلى؛ مثل أن يشتريها على أنها إبرية فوجدها بربرية أو خراسانية فلا رد له؛ لأنه وجد أحسن مما اشترط، إلا أن يدعي وجها؛ مثل أن يكون شراء البربريات لما يخاف من أصولهن وسرقتهن كما قال في "الكتاب" فيكون له الرد فيقبل قوله. ومعنى قوله في "الكتاب": "وسرقتهن" أنهن يسرقن لا يسرقن من مال ساداتك، فإن اشترط جنسا فوجد جنسا غيره مما يوافقه في العلاوة؛ مثل أن يشتريها على أنها بربرية فوجدها خراسانية فقد قال في "المدونة": له أن يردها. وكذلك إن اشتراها على أنها خراسانية فوجدها بربرية فله أن يردها أيضًا؛ لأن ذلك مما تختلف فيه الأغراض، وهو قوله في "المدونة". فإن اشتراها على أنها مسلمة فوجدها نصرانية، أو اشتراها على غير شرط كان له الرد.

وإن اشتراها على أنها نصرانية فوجدها مسلمة فهل يمكن من الرد أم لا؟ على قولي: أحدهما: أنه لا يمكن من الرد، والإسلام ليس بعيب. والثاني: أن له الرد بحجة أن يقول: إنما أردت تزويجها لعبدي النصراني أو ما أشبه ذلك مما يشبه إن ادعاه. وقد وقع في "الكتاب" سؤال طاشت فيه الأحلام وحارت فيه الأوهام؛ وهو قوله في الذي اشترى جارية فأراد أن يتخذها أم ولد فإذا نسبها من العرب، فأراد أن يردها بذلك خوفا أن تلد منه فتعتق فيجر العرب ولاءها دون ولده، فقال مالك: إن ذلك ليس بعيب يرد به، وليس المراد أن المشتري شرط هذا الشرط ولو اشترطه لفسد العقد، ولكن معناه أنه نواه وأضمره في قلبه من غير أن يصرح به فاختلف في تأويل قوله في ذلك. وجواب مالك - رضي الله عنه - هل ورد على تصحيح قول المشتري وتقريره أو ورد على تكذيبه وردا لما يدعيه السائل؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك منه تصحيح للدعوى أو تقريره وأنها إن عتقت كان ولاؤها للعرب لا لولد السيد، وهو تأويل سحنون، ويحيى بن عمر، وغيرهما؛ لأن مالكا لم ينكر قول السائل، وإنما قال له بعد تسليم علته: لا أرى هذا عيبا ولو أنه لم ير علته صحيحة وأن ولاءها لمعتقها لا للعرب قال: لا أرى لك ردها ولا أرى ذلك عيبا. وإنما كان يقول: لا أرى لك ردها, ولا حجة فيما اعتللت به؛ إذ ولاؤها لأولادك وعصبتك. وذكر سحنون أن أصحاب مالك مجمعون أن الولاء إنما يكون للمعتق

فيمن أعتق من العجم، فأما رقيق العرب فلا ولاء فيهم لمعتقهم. والثاني: أن جواب مالك -رحمه الله- ورد على تكذيب السائل وتقريعه وردا لما يدعيه، وأن الولاء لمن أعتق على كل حال كان المعتق من العجم أو من العرب. والثالث: أن معنى قوله: "جر العرب ولاءها" أي: نسبها، ومعناه أن نسبها يستفيض ويستطير؛ يقال: فلانة بنت فلانة حتى يساء مولاها إذ المولى الأسفل إنما يعرف ويشتهر بسيده، وبه تكتب شهادته في الوثائق ويقول: فلان من فلان مولى فلان، ورأى مالك أن ذلك ليس بعيب وأنه ليس بمنفعة مقصودة في العتق على كل حال؛ لأن ذلك أمر قد يكون وقد لا يكون؛ إذ قد تموت الجارية الآن فلا يبقى لها الولاء يرغب فيه، وقد يموت ولدها وينقطع نسبه، وقد لا يولد له ولد أصلا، وهو تأويل ابن حبيب، وأشهب، والقاضي. فيتحصل في ولاء العرب إذا عتقوا قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن ولاءها للعرب لا للمعتق، وهو مشهور المذهب على ما حكاه سحنون، وهو ظاهر قوله في "كتاب العيوب"، وقد قال يحيى بن عمر في "السليمانية" في قريش تزوج أمة رجل من العجم فأولدها وأعتق الرجل ولدها إنهم يرجعون إلى أنساب قريش حتى كأنهم لم يمسهم رق قط، وكذلك جميع العرب؛ لأن أنسابها معروفة يتوارث بها. والثاني: أن ولاءها للمعتق دون قومها كالعجم، وهو قول أشهب، وادعى بعضهم في ذلك إجماع المذهب على عكس ما ذكره سحنون، وهذا القول قائم من "كتاب الجهاد" من "المدونة" حيث قال في العرب: إذا سبوا فإنهم بمنزلة الأعاجم مجملا, ولم يفصل، وهذا الخلاف ينبني على

اختلافهم في تأويل قول مالك - رضي الله عنه -. ولا خلاف أن النسب الداني مقدم على الولاء بكل حال في العرب والعجم [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السادسة إذا اشترى سلعة ثم باعها فادعى بعد البيع أنها بها [عيب]

المسألة السادسة إذا اشترى سلعة ثم باعها فادعى بعد البيع أنها بها [عيب] (¬1) فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يبيعها من [بائعها] (¬2). والثاني: أن يبيعها من غير [بائعها] (¬3). فإن باعها من [بائعها] (¬4) فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يبيعها بمثل الثمن، أو بأقل، أو بأكثر. فإن باعها بمثل الثمن ثم وجد بها عيبًا كان عند البائع الأول فلا مراجعة بينهما قولًا واحدًا، سواء علم بالعيب أو لم يعلم. فإن باعها بأكثر من الثمن الأول فلا يخلو المشتري الآخر من أن يعلم بالعيب أو لا يعلم. فإن علم بالعيب لم يكن له الرجوع على المشتري الأول بشيء. فإن لم يعلم كان له أن يرده على الذي اشتراه منه آخرًا إلا أن يرضى المشتري الأول أن يرد عليه الفضل الذي بين الثمنين فيلزمه البيع؛ لأن مآل أمرهما في المراجعة إلى ذلك. ¬

_ (¬1) في أ: عيبا. (¬2) في أ: بائعه. (¬3) في أ: بائعه. (¬4) في أ: بائعه.

فإن باعها بأقل من الثمن فلا يخلو المشتري الأول من أن يعلم بالعيب أو لا يعلم. فإن علم بالعيب وحده فلا قيام له على البائع الأول لتمام الثمن؛ لأن ذلك منه رضًا بإسقاط حق العيب، ومن تصرف في البيع بعد العلم بالعيب فلا قيام له بعد ذلك، فإن لم يعلم بالعيب فهل له الرجوع على البائع الأول بتمام الثمن أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن له الرجوع عليه بتمام الثمن؛ لأنه يقول: كان لي أن أرده عليك وهذا هو في يدك، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه لا يرجع عليه بشيء، وهو ظاهر قول ابن القاسم في مسألة الخلع في التي اختلعت من زوجها، ثم علمت أن به عيبا يوجب لها الخيار حيث قال: ليس لها أن ترجع على الزوج بشيء من الخلع، فعلى هذا لا يكون للمشتري أن يرجع علي البائع منه بشيء؛ لأن السلعة في يد البائع الأول بعقد ثان، وهذا الاستقراء لبعض المتأخرين. وأما الوجه الثاني: إذا باعها من غير [بائعها] (¬1) فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يعلم بالعيب قبل أن يبيعها. والثاني: أن يعلم به بعد أن باعها. والثالث: أن يبيعها وهو عالم بالعيب وبين إلا أنه يظن أنه قد حدث عنده. ¬

_ (¬1) في أ: بائعه.

والرابع: ألا يعلم بالعيب إلا بعد أن اشتراها مرة ثانية. فإن علم بالعيب قبل أن يبيعها فلا خلاف أنه لا حجة على البائع الأول ولا رجوع. فإن علم به بعد البيع فلا يخلو المبيع من أن يكون قائمًا بيد المشتري الثاني، أو فائتا. فإن كان قائمًا فهل للمشتري الأول الرجوع على البائع الأول بقيمة العيب أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يرجع عليه بشيء، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب" لأنه في بيعه على أحد وجهين: إما أن يبيع بمثل الثمن فقد عاد إليه ثمنه، وإما أن يبيع بأقل، فإن النقض لم يكن لأجل العيب. والثاني: التفصيل بين أن يبيع بمثل الثمن فأكثر فلا يرجع بشيء وبين أن يبيع بأقل من الثمن فيكون له الرجوع على البائع الأول بالأقل من قيمة العيب أو ما نقص من الثمن، وهو قول أشهب. والثالث: أن له الرجوع بقيمة العيب على حال كما لو هلك المبيع. فإن باع بمثل الثمن أو أكثر؛ لأن ذلك يكون لزيادة المبيع في نفسه أو لغلاء سوق أو لمعاملة كانت في وقت الشراء، وهو قول مالك في "مختصر ابن عبد الحكم". وسبب الخلاف: الطوارئ هل تراعى أم لا تراعى؛ فمن اعتبرها قال: لا يرجع على البائع بشيء؛ لاحتمال أن يعود إليه يوما فيمكن من الرد على البائع الأول.

ومن لم يعتبرها قال: يرجع عليه بقيمة العيب في الحال من غير اعتبار بما باع به إن كانت أقل من الثمن الذي به اشترى أو أكثر. والقول باعتبار الأقل توسط بين القولين. فإن فات المبيع بيد المشتري الثاني فواتا لا يمكن الرجوع معه إلى يد المشتري الأول فإنه يرجع على البائع الأول بقيمة العيب. فإن علم بالعيب حين باع وبين وظن أنه حدث عنده، أو باعها وكيله وهو عالم بالعيب وبين وظن أن عند الأمر حدث فإنه يرجع على البائع بالأقل من قيمة العيب أو إتمام الثمن قولا واحدًا. فقول ابن القاسم الذي يقول: إذا علم بالعيب بعد البيع أنه لا يرجع على البائع بشيء. فإذا اشتراه يوما هل له أن يرده على البائع الأول أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الرد عليه، وأن شراءه بعد العلم بالعيب لا يمنعه من الرد؛ لأنه يقول: [أنا] (¬1) اشتريته لأرده، وهذا ظاهر قول ابن القاسم وأشهب في "الكتاب"، وعليه أكثر المحققين حمل قوله في "الكتاب": إذا اشترى عبدًا فباعه ثم ادعى عيبًا لم يكن له أن يخاصم بائعه، لكن إن رجع إليه يومًا ما بشراء أو غيره كان له أن يرده على بائعه، وهذا يكاد أن يكون نصًا. والثاني: أنه لا يمكن من الرد من البائع الأول إذا اشتراه بعد العلم، وهو تأويل بعض الشيوخ على "المدونة"، وهو تأويل ضعيف نقله القاضي ¬

_ (¬1) في أ: إذا.

أبو الفضل. وأما إذا لم يعلم بالعيب حتى اشتراه مرة ثانية أو ورثه أو تصدق به عليه؛ فإن عاد إليه بالشراء كان له الخيار إن شاء رده على الأول أو على الآخر، فإن رده على البائع الأول كان ذلك له ثم لا رجوع له على البائع الآخر بقيمة العيب لأخذه الأول بالعهدة، ثم ينظر إلى الثمن الذي باعه به منك الآخر فإن كان مثل الثمن الذي ابتاعه منك أولًا فلا يرجع عليك بشيء، وإن كان أقل رجع إليك بتمام الثمن لا بأقل؛ لأنه له رده عليك ويأخذ جميع الثمن، وها هو ذا في يده، ولا خلاف في هذا الوجه. فإن رده على الآخر كان هو بالخيار أيضًا بين الرضا به أو رده على الأوسط؛ لأن عهدته عليه، فإن رده عليه كان له هو أن يرده على الأول إن شاء. فإن لم يرده الآخر على الأوسط ورضى بعيبه فهل للأوسط الرجوع على الأول بقيمة العيب أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "الكتاب": أحدهما: أنه لا رجوع على الأول بشيء كان [ما] (¬1) باعه به أقل مما اشتراه به أو أكثر. والثاني: التفصيل بين أن يكون ما باعه به المتوسط من الراضي بالعيب أقل مما ابتاعه من الأول فيكون له الرجوع على البائع الأول بالأقل من تمام الثمن أو من قيمة العيب، وبين أن يكون ما باعه به مثل الثمن أو أكثر فلا يكون له عليه الرجوع بشيء. ¬

_ (¬1) في أ: مما.

والقولان حكاهما سحنون في "المدونة". ولو وهبه لك المبتاع أو تصدق به عليك لرجع عليه بقيمة العيب من الثمن الذي بعته به منه، ثم لك رده على بائعك الأول وأخذ جميع الثمن منه ولا كلام له في ذلك. ولو ورثته من مبتاعه منك كان له رده على البائع الأول وأخذه بجميع الثمن؛ لأن ما وجب للميت عليك قد ورثته منه. فهذا تحصيل هذه المسألة وتنزيل فصولها وتلخيص وجوهها، فإذا فهمتها وأحطت العلم يتبين لك أن أشهب موافق لابن القاسم في المسألة، وأن كلامه تفسير لقول ابن القاسم، وأن كل واحد منهما تكلم على ما لم يتكلم عليه الآخر. والحمد لله وحده.

المسألة السابعة في الرجلين إذا اشتريا سلعة ثم ظهرا على عيب وقد تبايعاها

المسألة السابعة في الرجلين إذا اشتريا سلعة ثم ظهرا على عيب وقد تبايعاها فلا يخلو اطلاعهما على العيب من وجهين: إما أن يكون ذلك قبل أن يتبايعاها، وإما أن يكون ذلك بعد أن تبايعاها. فإن كان ذلك قبل أن يتبايعاها، فإن اتفقا في الرضا بالعيب أو الرد فلا كلام، فإن اختلفا [فدعى] (¬1) أحدهما إلى الرد وأراد الآخر الإمساك فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة". أحدهما: أن من شاء منهما أن يرد أو يحبس كان ذلك له، ولا حجة في ذلك للبائع، وهذا قول ابن القاسم في "كتاب الخيار" و"كتاب التدليس بالعيوب"، وقال مالك: وما أرى أن يكون للبائع مقال. والثاني: أن من أراد الرد لا يمكن وحده حتى يردا جميعًا أو يحبسا جميعًا، وهو قول أشهب في كتاب "بيع الخيار". وقول ابن القاسم أصح، ووجهه أن البائع على ذلك وبذمتين رضى؛ إذ لا يتبع كل واحد منهما عند الفلس إلا بما في ذمته. ووجه قول أشهب اعتبار حق البائع في تبعيض صفقته وعليه في ذلك ضرر بين. فإن كان ذلك بعد أن تبايعاها فيما بينهما ثم علما بالعيب: أما الذي باع ¬

_ (¬1) في أ: فادعى.

حصته من شريكه فإنه يتخرج على الثلاثة أقوال التي قدمناها: أحدهما: أنه لا يرجع على الأول بشيء، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه يرجع بتمام الثمن إن باع بأقل مما اشترى به، وهو قول أشهب. والثالث: أنه يرجع بقيمة العيب -باع بأقل أو بأكثر- وهو قول ابن عبد الحكم، وروايته عن مالك. وأما الذي اشترى حصة شريكه فعلى القول بأن شريكه الذي باع نصفه يرجع على البائع الأول إما بتمام الثمن على قول، وإما بقيمة العيب على قول، ففيه قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن له أن يرد نصفه على بائعه الأول دون النصف الذي اشترى من شريكه، ويكون نصف المبيع في يديه ونصفه في يد البائع الأول، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثانى: أنه لا يمكن من الرد إلا برضا البائع الأول لحجته في تبعيض صفقته، وهو قول أشهب في "كتاب بيع الخيار" من "المدونة". وعلى القول بأن الذي باع حصته لا يرجع على البائع الأول بشيء فإنه يتخرج على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة". أحدها: أنه لا يرد على البائع الأول إلا بتهمته خاصة، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا يرد عليه ولا يرجع إلا بنصف العيب خاصة، وهو قول

أشهب. والثالث: أن له أن يرد جميع المعيب على البائع الأول؛ لأن له عليه العهدة في النصف الذي اشترى وهو في النصف الثاني غريم غريمه، وعهدتهما جميعًا عليه، وهذا القول قائم من "المدونة" من "كتاب المديان"، و"كتاب الشفعة" وغيرهما من كتب "المدونة"، وهو قول ابن كنانة وأصبغ في "كتاب محمد". فعلى القول بأنه لا يرد على البائع الأول إلا قدر حصته فإنه يرد على شريكه النصف الذي اشترى منه ثم يرد هو على بائعه الأول إن شاء. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثامنة في الثلاث عيوب

المسألة الثامنة في الثلاث عيوب وهو أن يشتري سلعة وبها عيب ظاهر علم به المشتري، ثم اطلع على عيب آخر قد دلس به البائع وقد حدث عنده عيب آخر، فلا يخلو هذا البيع من أن يكون صحيحًا أو فاسدًا، فإن كان صحيحًا فلا يخلو من أن يكون بيع بتل، أو بيع على خيار. فإن كان بيع بتل فلا يخلو من أن يريد الإمساك أو يريد الرد. فإن أراد الإمساك فإن البيع يقوم قيمتين: يقوم بالعيب الذي رضي به المشتري فيقال: ما يساوي؟ فإن قيل: قال ما يساوي وبه العيب الذي دلس به البائع فيقال: ثمانين فقد نقص في المبيع الخمس، فيرجع المشتري على البائع بخمس الثمن -كان الثمن دينارًا أو مائة- كأنه اشترى خمسة أجزاء وقبض أربعة، فصار البائع قد قبض جزءا من الثمن لم يدفع عنه عوضًا، ولا إشكال في هذا الوجه. فإن اختار الرد هل يقوم المبيع قيمتين أو ثلاثة أو لا يلتفت إلى القيمة جملة، فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقوم ثلاث قيم، يقال: ما يساوي بالعيب الذي رضي به المشتري؟ فإن قيل: مائة قيل: ما يساوي بعيب التدليس؟ فيقال: ثمانين، فيقال: ما يساوي بالعيب الذي حدث عند المشتري؟ فإن قيل: ستين فإنه يرد مع المبيع خمس الثمن، وسماه في "الكتاب" ربعا، والأمر في ذلك واحد؛ سمى خمسًا بالنسبة إلى جميع الثمن أو سمى ربعا بالنسبة إلى ما يبقى من

الثمن بعد نقص عيب التدليس، وهذا هو ظاهر "المدونة" في "كتاب بيع الخيار" و"كتاب العيوب"، وهو الذي نص عليه في "كتاب محمَّد"، وقاله فضل بن سلمة وغير واحد، وهو الصواب. والثاني: أنه يقوم قيمتين: قيمتها أولا بالعيب القديم وأخرى بالعيب الحادث عند المشتري، وإلى هذا ذهب أبو سعيد ابن أخي هشام، وفيما ذهب إليه ظلم على المشتري؛ لأنه على المذهب يرد أكثر مما يرد عليه من قيمة العيب الذي حدث عنده. والثالث: أنه لا يلتفت إلى القيم أصلا، وإنما يلتفت إلى قيمة العيب الحادث عنده وما نقص بالغا ما بلغ، وهو قول أحمد بن المعدل، وهذا بعيد جدًا وخارج عن أصولهم، وقوله في "كتاب بيع الخيار": لا ينظر إلى العيب الحادث في أيام الخيار في شيء من ذلك، وهو قد نظر إليه في التقويم، ومعناه أنه لا ينظر إليه في حطه عن المشتري، لأنه قد رضي به. فإن كان البيع وقع على خيار فالحكم في التقويم فيه على ما قدمناه في بيع البتل من الخلاف في اعتبار القيمتين أو الثلاثة أو لا تقويم أصلا. واختلف في القيمة متى تعتبر في بيع الخيار؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن القيمة فيه يوم العقد، وهو قوله في "الكتاب" يقال: ما قيمة هذه وهي عوراء يوم وقعت الصفقة بغير عيب التدليس. وقال في "كتاب البيع"، وإنما تقوم السلع يوم وقع البيع فيها فأطلق. وممن قال بهذا القول وحمل ما في "الكتاب" على ظاهره أبو القاسم بن شبلون، وأبو الفضل بن مياس، وغيرهم من شيوخ القرويين. والثاني: أن القيمة في ذلك تخرج من الاستبراء إن كانت أمة، أو يوم

يخرج من أيام الخيار، وهو قول أبي القاسم بن محرز، وجمهور المتأخرين، وتأولوا قوله في "الكتاب": "يوم وقعت الصفقة" على القبض، ويدل على تأويلهم قوله في "كتاب بيع الخيار": وإن أراد الرد نظر إلى العيب الذي حدث عنده كم ينقص منها يوم قبضها فيرد معها. وقال الشيخ أبو القاسم بن محرز: وهذا الخلاف ينبني على اختلافهم في الضمان فيما بيع على خيار هل هو من البائع أو من المشتري؛ فمن رأى أن الضمان من البائع حتى يقبضها المشتري وتمضي أيام الخيار قال: الضمان يوم القبض، ومن رأى أن الضمان من المشتري قال: تقوم يوم البيع. ويمكن أن يكون للخلاف سبب آخر وهو بيع الخيار هل هو منعقد من حينه ووقته أو هو منعقد من مبدئه ومنشئه، والخلاف في ذلك في المذهب معلوم وموضع استقرائه من "المدونة" مرسوم. فإن كان البيع فاسدًا وكان بها عيب في حين العقد فرضي به المشتري، ثم ظهر فيه عيب آخر بعد القبض وفات البيع فإنه يقوم قيمة واحدة، وإن اختار الرد قومت قيمتان. فإن اختار التماسك هل يقوم معيبًا أو سالمًا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يقوم عليه معيبًا؛ لأن ذمته عمرت بالعيب فلا يغرم فوق ما قبض، وهو قول سحنون، وابن عبدوس. والثاني: أنه يقوم سالما؛ لأنه قد ملك الرد، وهو قول ابن المواز. وسبب الخلاف: من خير بين شيئين هل يعد مختارًا لما ترك أم لا؛ وذلك أن المشتري قد ملك الرد فإذا اختار التماسك فكأنه رضي بدفع قيمته سالما، وهذا ضعيف، وقول سحنون أصوب. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة التاسعة في المكاتب إذا عجز

المسألة التاسعة في المكاتب إذا عجز هل هو منزوع المال بنفس العجز، أو هو محجور عليه بالعجز أم لا؟ وقد اختلف المذهب في المكاتب هل هو منزوع المال بنفس العجز أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: [أنه] (¬1) لا يكون منزوع المال بنفس العجز، بل هو على ما هو عليه في الأصل حتى ينتزع السيد ماله، وهو قوله في "كتاب العيوب" في المكاتب إذا باع فوجد المشتري به عيبًا بعد أن عجز المكاتب حيث قال له أن يرد على العبد ويأخذ الثمن من ماله إن كان له مال، وإن لم يكن له مال بيع عليه في الثمن. ويؤخذ من هذه المسألة أيضًا أن المكاتب له أن يعجز نفسه وإن كان له مال ظاهر من قوله ويأخذ الثمن من ماله بعد العجز. والثاني: أنه يكون منزوع المال بنفس العجز، وهو مذهب أشهب. ويؤخذ من قول ابن القاسم في "كتاب المكاتب" إذا كاتب عبده ثم عجز الأعلى حيث قال للسيد الأعلى اقتضاء الكتابة من الأسفل، ويؤخذ له من غير ما موضع من "المدونة": وأما كونه محجورا عليه بنفس العجز وهو قوله في "المدونة" في كتاب "العيوب" حيث قال في المكاتب إذا اشترى فعجز ثم وجد بالعبد عيبًا إن لسيده رده على البائع وإن رضيه العبد؛ لأن المكاتب حين عجز صار ¬

_ (¬1) سقط من أ.

محجورًا عليه. والثاني: أنه لا يكون محجورا عليه إلا بالحكم أو بالإشهاد، وهو قول ابن القاسم في المأذون له في التجارة في آخر "كتاب المأذون" والمكاتب مثله. والقول الثالث: أن النظر إلى ما كان عليه المكاتب قبل أن يكاتب؛ فإن كان مأذونًا رجع إلى أصل الإذن، وإن كان محجورًا رجع إلى أصل الحجر، وهو تأويل أكثر المتأخرين على "المدونة". [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة العاشرة إذا اشترى دارا فوجد بها صدعا

المسألة العاشرة إذا اشترى دارًا فوجد بها صدعًا اعلم أن العيوب تنقسم إلى عيب فاحش مفسد وإلى عيب خفيف غير مفسد. فأما عيب مفسد فإنه يرد به كل مبيع كيف ما كان. وأما عيب ليس بمفسد فلا يخلو من أن يكون عيبًا لا ينقص من الثمن، أو يكون عيبًا ينقص منه. فإن كان عيبًا لا ينقص من الثمن جملة فلا خلاف أعلمه في المذهب أنه لا يرد به. وأما عيب ينقص من الثمن فلا يخلو من أن يكون ما ينقص من الثمن يسيرًا، أو كثيرًا. فإن كان ما ينقص من الثمن كثيرا فله الرد أيضا بلا إشكال. وإن كان ما ينقص من الثمن يسيرا فلا يخلو المبيع من أن يكون ثيابًا أو غيرها من الرياع والحيوان. فإن كان ثيابًا فإنها ترد بما خف من العيوب، فإذا وجد فيها حرق أو قطع أو ثقب فذلك عيب ترد به وإن قل، وإلا أن يكون ثوبًا يقطع، ومثل ذلك يخرج في التفصيل؛ فلا يكون ذلك عيبا فيها، وهذا نص قول مالك في "الواضحة". وأما الرياع وسائر الحيوان الناطق منه والصامت فقد اختلف المذهب فيه على أربعة أقوال:

أحدهما: أن ذلك ليس بعيب في جميع ذلك جملة بلا تفصيل، وهي رواية [ابن] (¬1) زياد عن مالك في "كتاب الاستيعاب لأقوال مالك"، وهذا القول قائم من "المدونة" من "كتاب العيوب" من مسألة الكي الذي لا ينقص من الثمن حيث قال: لا يرد به وإن كان عند النخاسين عيب، ومعنى قوله: "لا ينقص من الثمن" أي: لا ينقص منه كثيرًا. ويؤخذ أيضًا من مسألة الدار إذا وجد فيها صدعًا. ومثل هذا في "المختصر الكبير"، وإلى هذا ذهب الشيخ أبو جعفر بن رزق القرطبي. والثاني: أن ذلك عيب في الرياع وغيرها من سائر الحيوان، وأنها ترد من قليلها وكثيرها، حكاه القاضي أبو الوليد الباجي عن بعض الأندلسيين تأويلا على "المدونة" إذا كان الصدع في حائط من الدار وخيف عليه الهدم من أجله، والحائط من الدار في حيز اليسير، وإلى هذا ذهب الشيخ أبو محمَّد عبد الحق، وابن سهل، وغيرهما. والقول الثالث: التفصيل بين الرياع وغيرها؛ فيرد بالعيب الخفيف الذي ينقص من الثمن قليلا في الحيوان والرقيق دون الرياع، وهو تأويل بعضهم على "المدونة" من قوله: وإن كان صدعًا لا يخاف منه من الدار فلا أرى أن يرد به؛ لأنه قد يكون في الحائط الصدع فيمكث في الحائط ذلك الصدع زمانًا؛ فلا أرى هذا عيبًا. فظاهر هذا أن المعتبر بالخوف على انهدام الدار خاصة دون نقصان الثمن. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والقول الرابع: التفصيل بين أن يكون الصالح في الدار، مثل ما لو استحق لوجب له الرد، وفيما لا يجب له الرد فيه. فإن كان الصدع فيما لو استحق من الدار لوجب للمشتري الرد كان له أن يرد الدار على بائعها. وإن كان مما لو استحق لم يمكن من الرد فلا يكون له الرد بذلك العيب أيضا، وهو تأويل أبي الحسن اللخمي. وعلى القول بأنه لا يرد بالعيب الخفيف هل يرجع بقيمة العيب أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يرجع عليه بما ينوب العيب من الثمن وهو قوله في "كتاب القسمة" من "المدونة" إذا وجد أحدهما في نصيبه عيبًا يسيرًا حيث قال: يرجع بقيمة العيب على صاحبه إذا كان خفيفًا، وهو قول ابن المواز في كتابه. والثاني: أنه لا يرجع عليه بشيء فكما لا يمكن من رد العيب بعينه فكذلك لا يرجع بقيمته، وهو ظاهر قوله في "كتاب العيوب" في مسألة الكي والصدع. واختلف في حد اليسير الذي وقع الخلاف في الرد به في الرياع والحيوان على خمسة أقوال: أحدها: أن الثلث كثير ودون الثلث يسير، وهو قول المخزومي، وبه قال أبو بكر بن عبد الرحمن القروي. والثاني: أن الربع كثير، وهو قول ابن عتاب، ومثله عن المخزومي أيضا حيث قال: ما نقص من القيمة الثلث فصاعدًا أو أقل من الثلث بيسير

هو من العيوب المفسدة. والثالث: لا حد في ذلك إلا بوجود الضرر فمهما تعيب ما على المشتري فيه ضرر كان له الرد، وهو تأويل بعضهم على "المدونة". والرابع: أن مثقالين في قيمة العيب قليل، وعشرة دنانير كثيرة، وهو تأويل أبي عمران وابن القطان، ولم يبين مقدار الثمن الذي يكون منه المثقالان قليلًا أو كثيرًا. الخامس: أن العشرة من المائة كثيرة، وهذا تأويل أبي الوليد بن رشد. والمسألة اجتهادية. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الحادية عشرة في الذي اشترى جارية فزوجها فولت ثم وجد بها عيبا

المسألة الحادية عشرة في الذي اشترى جارية فزوجها فولت ثم وجد بها عيبًا هل يكون التزويج فواتًا يوجب للمشتري الرجوع على البائع بقيمة العيب أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك فوت يوجب للمشتري الرجوع على البائع بقيمة العيب؛ لأن النكاح يبطل الغرض المقصود منها إن كانت أمه من جواري الوطء، وإن كانت من الوخش والزوج يأوي إلى البائع لكون زوجته عنده أو تتردد هي إليه، وإن شرط الزوج التسري معها كالحرة كان ذلك أبين؛ لأنها تصير منقطعة إليه، وإلى هذا ذهب محمَّد بن مسلمة من أصحاب مالك. والثاني: أن ذلك ليس بفوت وأن الخيار في ذلك للمبتاع بين أن يردها وما نقص عيب النكاح أو يمسكها ويرجع بقيمة العيب ولا يفسخ النكاح. وعلى القول بأنه يمكن من الرد إن شاء فلا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يموتا جميعا -الولد والأم- وإما أن يعيشا جميعًا، وإما أن يموت الولد دون الأم، أو تموت الأم دون الولد. فأما الوجه الأول: إذا ماتا جميعًا فإن المشتري يرجع على البائع بقيمة العيب، ولا خلاف في هذا الوجه. وأما الوجه الثاني: إذا عاشا جميعًا فهل يرد ما نقص عيب النكاح أو يجبر النقص بالولد أو بزيادة البدن؟

المذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن النماء يجبر به النقص، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب العيوب" في الولد، وهو قول مالك في "مختصر ما ليس في المختصر" في نماء البدن. والثاني: أن النماء لا يجبر به النقص لا في زيادة البدن، وهو قول أشهب في "المدونة" في "كتاب العيوب". والثالث: التفصيل بين الولد ونماء البدن، فالولد يجبر به النقص ولا يجبر بنماء البدن، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الوديعة" من "المدونة". فعلى القول بأن النقص يجبر بالزيادة فإنه ينظر إلى قيمة الولد أو زيادة البدن فإن كانت كفافًا بقيمة العيب فإنه يرد ولا شيء عليه أو يمسك ويرجع بقيمة العيب. وإن لم يكن فيه كفاف العيب أتم الباقي. وإن كان فيه فضل كان للبائع. وسبب الخلاف: اختلافهم في الولد هل هو علة أو ليس بعلة، والقولان قائمان من "المدونة" من "كتاب الوصايا" وغيرها على ما سنبينه عليه في موضعه إن شاء الله. وأما الوجه الثالث: إذا مات الولد دون الأم فلا يخلو من أن يموت حتف أنفه، أو يموت مقتولا. فإن مات حتف أنفه لم يضمنه المشتري وكأنه لم يكن، والمشتري بالخيار بين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب أو يردها بما نقص النكاح. وإن كان مقتولا فلا يخلو من أن يأخذ له عوضا أم لا.

فإن لم يأخذ له قيمة فإنه بمنزلة ما لو مات حتف أنفه. فإن أخذ له عوضا هل تقوم قيمته مقام عينه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يرد الأم وما أخذ من قيمة الولد أو عوضه إن باعه، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن ذلك فوت يمنع الرد كالصغير يكبر، وأنه يرجع بالعيب علي كل حال، وهو اختيار اللخمي، وهو ظاهر "الكتاب" في المفلس يبيع الولد الحادث عنده فلا شيء للبائع في ثمنه إذا أخذ ثمنه. فعلى القول بأن قيمته تقوم مقام عينه فإنه تجري فيه الثلاثة الأقوال التي قدمناها. وعلى القول بأن قيمته لا تقوم مقام عينه فإن العرض الذي أخذ في القيمة يكون له ويخير بين الرد مع ما نقص النكاح، أو الإمساك ويرجع بقيمة العيب. وأما الوجه الرابع: إذا ماتت الأم دون الولد فلا يخلو من أن تموت حتف أنفها، أو تموت مقتولة. فإن ماتت حتف أنفها فهل يقوم الولد مقام الأم أم لا؟ المذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أن الولد لا يقوم مقام أمه، وأن المشتري يرجع على البائع بحصة العيب من الثمن بعد أن تقوم الأم، وهو قول ابن القاسم في "كتاب العيوب"، ولا خيار في ذلك للبائع. والثاني: أن الولد يقوم مقام الأم، وأن الخيار في ذلك للبائع بين أن

يأخذ الولد على أن يرد جميع الثمن فذلك له، أو يتماسك المبتاع بالولد من غير شيء فذلك له، وهو قول أشهب في "الكتاب"، وقوله في هذه المسألة مثل قول ابن القاسم في "كتاب الغصب" إذا هلكت الأم وبقيت الأولاد حيث قال: للمغصوب منه أخذ الأولاد، ولا شيء له من قيمة الأمهات. فإن ماتت مقتولة فأخذها عوضًا فالمذهب على قولين منصوصين في "الكتاب". أحدهما: أنها تقوم مع ولدها، وهو قول ابن القاسم على ما حكاه عنه ابن عبد الحكم في "المختصر الكبير". والثاني: أنها تقوم يوم الصفقة بلا ولد، وهو مذهب أشهب على ما حكاه فضل بن سلمة وعليه اختصر أبو سعيد في "التهذيب" وغيره من المختصرين. والقول الثاني من أصل المسألة: إذا أخذ لها عوضًا أن ينظر إلى ما وصل إليها بين عوض الأم فإن كان مثل الثمن الذي يرجع به على البائع فلا حجة له، وهو قول أشهب في "الكتاب". وهذا الخلاف ينبني على الخلاف الذي قدمناه في الولد هل يقوم مقام الأم؟ وفي قيمة الشيء هل تقوم مقامه أم لا؟

المسألة الثانية عشرة إذا اشترى سلعة وبها عيب لم يعلم المشتري به

المسألة الثانية عشرة إذا اشترى سلعة وبها عيب لم يعلم المشتري به فهلكت السلعة بسببه، أو جنى المبيع جناية بسبب ذلك البيع، مثل أن يشتري عبدًا فيأبق أو يسرق وما أشبه ذلك: فلا يخلو البائع من أن يكون مدلسا أو غير مدلس. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان مدلسا فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يعلم أن هلاكه من سبب ذلك العيب، أو لم يعلم. فإن علم ذلك؛ مثل أن يسرق فتقطع يده فيما فيه القطع، أو دلس بالإباق فأبق فاقتحم نهرًا فغرق فيه، أو دخل في عار يستخفي فيه فنهشته حية، أو تردى من جبل فمات، أو عطب، أو دلس بمرض فمات من سببه، أو تحمل فماتت من النفاس، فهذا كله مما لا ضمان فيه على المشتري، والضمان فيه من البائع. فإن مات المبيع من ذلك فإنه يرد الثمن على المشتري، وإن تعيب منه كان للمشتري الخيار إن شاء رده وإن شاء حبسه، ويرجع بقيمة العيب، ولا إشكال في هذا الوجه، فإن لم يثبت ذلك ولا علم أن سبب هلاكه من ذلك فلا يخلو من أن يعلم بالعيب قبل الهلاك أو لم يعلم به. فإن علم به قبل أن يهلك المبيع فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يمضي [من] (¬1) وقت علمه ما يرى أنه راض به. ¬

_ (¬1) في أ: بين.

والثالث: أن يشكل الأمر. فأما إذا مضى من [وقت] (¬1) علمه ما يرى أنه راض بالعيب لتركه القيام به مع التمكن فلا قيام له بعد ذلك لا في الثمن ولا في قيمة العيب، ولا إشكال في ذلك. فإن مضى من ذلك ما يعد رضًا؛ مثل أن يبادر في الطلب ولم يفرط بعد علمه بالعيب أو لم يعلم عندما ضربها الطلق فطلب الرد فلم يصل إليه ولا إلى سلطان حتى ماتت وعلم ذلك منه ببينة فهي من البائع، ولا ضمان على المشتري، ولا يمين عليه للبائع، وهو قول أشهب في "المدونة"، وقوله تفسير للمذهب. فإن مضى بعد علمه ما يشكل أمره هل هو راض أم لا كاليوم ونحوه فإنه يتخرج في المذهب [قولان] (¬2): أحدهما: أن الضمان فيه من المشتري؛ لأن تركه القيام بالرد مع الإمكان بعد العلم دليل على الرضا بالعيب. والثاني: أن الضمان فيه من البائع، وعلى المشتري اليمين بالله تعالى أنه لم يكن ذلك منه رضا، وهو قوله في "الكتاب". فإن لم يعلم بالعيب حتى هلك فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الضمان فيه من البائع، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه من المشتري ويرجع بقيمة العيب خاصة، وهو قول أشهب ¬

_ (¬1) في أ: يوم. (¬2) سقط من أ.

في "كتاب محمَّد" حيث قال: ومن يعلم أنها ماتت من النفاس أو من ذلك المرض. والأول أظهر وأصوب. وأما إن جنى جناية من سبب ذلك العيب؛ مثل أن يكون عبدًا فيسرق سرقة لا قطع فيها لكونها في غير حرز فلا تخلو سرقته من أن تكون من مال المشتري، أو من مال غيره. فإن سرق من مال غيره كان للمشتري أن يرده ويأخذ جميع الثمن، أو يمسكه ويرجع بقيمة العيب. فإن اختار رده كانت معاملة المسروق منه في تلك الجناية مع البائع يفتديه منه أو يسلمه بقيمة الشيء المسروق. فإن اختار أن يحبسه كانت معاملة المسروق منه مع المشتري. فإن كانت سرقته من المشتري فقد اختلف فيها على أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك في ذمته، وهو قول مالك - رحمه الله تعالى. والثاني: أن ذلك في رقبته وهو قول سحنون. والثالث: أن ذلك ساقط عنه؛ لا يكون ذلك في رقبته ولا في ذمته، وهو قول ابن حبيب. والرابع: التفصيل بين أن يسرق من موضع أذن له فيه فيكون في ذمته، وبين أن يسرق من موضع محجور عليه فيكون في رقبته، وهو قول بعض المتأخرين. وسبب الخلاف: هل يعتبر حال التدليس فيعد كأن العبد باق عند بائعه فتكون جنايته في رقبته، أو يعتبر بانتقال الملك بدليل كون الخيار في الرد

والرضا للمشتري فيسقط ذلك عن العبد لأنه غيره حتى يحكم. والقول بأن ذلك في ذمته توسط بين القولين والقول بالتفصيل مراعاة الشبهة. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان البائع غير مدلس فلا يخلو العيب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون عيبًا قديمًا فعلم [قدمه] (¬1) عند البائع. والثاني: أن يكون عيبًا يعلم حدوثه عند المشتري فهذا لا حجة له على البائع في الرد. وأما الوجه الثالث: أن يكون عيبًا مشكوكًا فيه يحتمل أن يكون قديمًا عند البائع ويحتمل أن يكون حادثًا عند المشتري. فأما الوجه الأول: إذا كان قديمًا عند البائع بسببه يقوم عليه أو بإقرار منه فقد [تقدم] (¬2) الكلام عليه في أول الكتاب في القيام والفوات. وأما الوجه الثاني: إذا علم حدوثه عند المشتري فهذا لا حجة له على البائع في الرد. وأما الوجه الثالث: إذا كان عيبًا مشكوكًا فيه مما يمكن أن يحدث مثله عند المشتري ويمكن أن يكون عند البائع، وكل واحد منهما تبرأ منه فلا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يقوم له شاهد واحد على أن العيب قديم عند البائع، وله أن يدعي أن مخبرًا أخبره بذلك، وإما أن يدعي قدم الغيب بلا شاهد ولا لطخ. ¬

_ (¬1) في أ: قدومه. (¬2) في أ: تم.

وإما أن يقول: لا أدري هل هو قديم أو حادث. فإن شهد له شاهد واحد على قدم العيب عند البائع فإن المشتري يحلف مع شاهده، وهل يحلف على البت أو على العلم؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يحلف على البت، وهو قوله في "كتاب محمَّد". والثاني: أنه يحلف على العلم، وهو ظاهر قول أشهب فيما إذا لم يكن له شاهد. والثالث: التفصيل بين أن يدعي المشتري أن العيب قديم كما شهد به الشاهد فيحلف على البت، أو قال: لا علم لي سوى قول الشاهد ثم لا يحلف أصلا، وهو اختيار اللخمي، قال: وهو الصحيح من المذهب، والذي اختاره خلاف مذهب "المدونة"؛ لجواز اليمين مع الشاهد وإن لم يعلم المشهود له صحة ما أشهد له به، بل قال في "المدونة": كما يحلف الصبي إذا بلغ مع شاهده إذا شهد له بحق كان لأبيه قبل أن يولد هو. فإن نكل عن اليمين فهل يحلف البائع على العلم أو على البت؟ وهو قول ابن المواز. والثالث: التفصيل بين العيب الظاهر أو الخفي؛ [أما الأول] (¬1) فيحلف في الظاهر على البت، وفي الخفى على العلم، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه لا يمين له وإن سمى المخبر وأحضره إذا كان المخبر نسى وطال الحال، وهو قول أشهب. ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

فإن لم يكن له شاهد ولا لطخ إلا مجرد الدعوى فالمذهب في يمين البائع على قولين: أحدهما: أنه يحلف جملة بلا تفصيل، وهو قول أشهب. والثاني: أنه يحلف على البت في الظاهر وعلى العلم في الخفى، وهو قول ابن القاسم في المدونة. فإن قال: لا أدري هل عندي حدث أو عند البائع؛ مثل أن يشتري عبدًا فيأبق عنده أو يسرق بقرب ما اشتراه فطلب يمين البائع على أنه لم يكن به يوم بيعه عيب، أو قال: أخشى أنه لم يأبق بقرب البيع [أما] (¬1) وقد أبق عندك فاحلف لي على ذلك فقد قال ابن القاسم في الكتاب: أنه لا يمين له عليه لا على العلم ولا على البت، ولزم من ذلك أن يحلفه كل يوم على ما شاء أنه لم يبعه وهو به عيب. فلو قال العبد: كنت أبقت عند البائع أو قال: كنت سرقت عنده فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: أن البائع يحلف، وهو قول مالك على ما نقله اللخمي. ويتخرج في المذهب قول ثان أنه لا يحلف، وهو ظاهر "المدونة"، وهو الأظهر في النظر، [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: ألا. (¬2) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثالثة عشرة في الشيب في الرقيق، ومعرفة ما هو عيب مما ليس بعيب في الرقيق

المسألة الثالثة عشرة في الشيب في الرقيق، ومعرفة ما هو عيب مما ليس بعيب في الرقيق قال ابن حبيب: سمعت أهل العلم يقولون: القَبَلُ والمَيْلُ والصَّوَرُ والزَّوَرُ والصَّدَرَ والفَزَرُ والعَسَرُ والحَبَطُ والعُجْرَةُ والبُجْرَةُ والسَلْعَةُ والظَفْرَةُ كل ذلك عيب في الأمة وفي العبد رفيعين أو وضيعين إلا أعسر يسير يعمل بيديه جميعًا. فالقبل في العينين أو في إحداهما أن تميل إحدى الحدقتين إلى الأخرى في نظرها، والميل في الخد أن يكون مائلا عن الآخر إلى جهة [الأذن] (¬1) أو إلى اللحى. والصور أن يميل العنق [على الجسد] (¬2) إلى أحد الشقين والجسد معتدل. والزور في المنكب أن يميل بكله إلى أحد الشقين. والصدر أن يكون في وسط الصدر إشراف كالحربة. والفزر في الظهر أو بين كتفيه أن يكون هناك إشراف كالحدبة، ويقال للأحدب أفزر، [والأعسر] (¬3) أن يبطش بيسراه دون يمناه، وأما أعسر يسير فليس بعيب إذا كانت اليمني في قوتها والبطش بها بحال من لا يعمل ¬

_ (¬1) في أ: الأخرى. (¬2) في النوادر (6/ 250) نقلا عن الواضحة. وعن المصدر. (¬3) في أ: والعسر.

باليسرى، وإن نقصت عن ذلك لعمله باليسرى فهو عيب يرد به. والحبط أثر الجرحة والقرحة بعد البرء، ويخالف لون الجسد؛ فهو عيب. والعجرة: القعدة على ظهر الكف أو الذراع وفي سائر الجسد. والبجرة: نفخ كالعجرة إلا أن البجرة لينة من نفخ ليس بزائد، والسلعة نفخ زائد ناتئ متفاحش أثره. والظفر: لحم نابت في شفر العين. وأما الشيب الكثير فعيب في الرائعة قولًا واحدًا وإن لم تبلغ سن الشيب، وفي قليله قولان: أحدهما: أنه عيب ترد به، وهو ظاهر قول مالك في "المدونة"؛ لأنه أطلق ولم يفصل بين القليل والكثير. والثاني: أنها لا ترد من قليل الشيب، وهو قول ابن المواز في الموازية. وقليل الشيب ليس بعيب في الوخش قولا واحدا، وفي كثيره قولان: أحدهما: أنها لا ترد من كثيره كما لا ترد من قليله، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، إلا أن ينقص من الثمن. والثاني: أنها ترد من كثيره و [لا] (¬1) ترد من قليله، وهو قول أشهب في "كتاب محمَّد". وأما صهوبة الشعر فلا يخلو من أن يوافق ذلك لونها أم لا. فإن وافق ذلك لونها فليس بعيب. وإن خالف لونها، وشعر مثلها يكون أسودًا هل هو عيب أم لا؟ ¬

_ (¬1) في أ: لم.

على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عيب ترد به، وهذا القول حكاه اللخمي. والثاني: أنها لا ترد به، وأن ذلك ليس بعيب، وإن قال المشتري: لم أكشف في حين الشراء ولا علمت أنها صهباء فلا حجة له وهو باد لا يخفى إلا أن يكون سواد، وهو قول مالك في "الواضحة". والثالث: أن الصهوبة عيب في الرائعة دون غيرها من خواش الرقيق، وهو تأويل بعض الشيوخ على "المدونة" على ما نقله القاضي أبو الفضل عن الفقيه أبي محمَّد عبد الرحمن بن محمَّد، وكذلك وقع في "الأسدية". وأكثر الشيوخ على أن ابن القاسم إنما تكلم في "الكتاب" على مسألة الشيب. وأما التي جعد شعرها أو اسود فإنه عيب في الرائعة، وينظر في غير الدار فإن كان ذلك يزيد في ثمنها ردت وإن كان ذلك لا يزيد في ثمنها فليس بعيب، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الرابعة عشرة في الفرق بين المدلس وغيره

المسألة الرابعة عشرة في الفرق بين المدلس وغيره اعلم أنهم قالوا: لا فرق بين المدلس وغير المدلس في الرد بالعيب في أن المشتري العاثر على العيب القديم يعاوض من العيب الحادث إذا اختار الرد، وفي البائع يعاوض عن البيع القديم إذا اختار المشتري الإمساك إلا في خمس مسائل. ومرادهم بالمساواة فيما يرجع إلى الأحكام الدنيوية، وأما الغرامات الأخروية فبينهما ما بين ذرة العرش إلى قرار الفرش؛ إذ ذلك ظالم غشوم وهذا صالح عصوم {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} الآية (¬1). إحداها: أن إحداث المشتري في المبيع حدثا ينقصه مما جرت به العادة بحدوثه فيه من غير انتفاع منه لا يمنع الرد، بل له أن يرد، ولا يغرم للنقصان شيئًا إذا كان البائع مدلسًا؛ كقطع الثياب وخياطتها وصبغها وقصارتها وقطع الجلود نعالًا وأخفافًا، ولا خلاف في هذا الوجه. فإن اختار الرد وكانت سلعته في تلك السلعة مما يزيد في ثمنها فإنه يكون شريكًا للبائع. واختلف بماذا يكون شريكًا على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يكون شريكًا بما زادت الصنعة يوم الرد لا يوم الشراء؛ فتقوم السلعة على هذا القول قيمتين. والثاني: أنه يكون شريكا بقيمة الصنعة لأنها زادت. ¬

_ (¬1) سورة الجاثية الآية (21).

فإن اختار التماسك هل يرجع على البائع بقيمة عيب التدليس؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن له الرجوع بقيمة العيب على البائع، وهو قوله في "المدونة". والثاني: أنه يحبس، ولا شيء له من قيمة العيب ولا شيء له في "كتاب محمَّد". والثانية: فوات المبيع بسبب العيب؛ كما الحامل من أجل الحمل، وقطع يدها من أجل السرقة، أو أبق عند المشتري وقد دلسه بالإباق فإن المشتري يرجع على البائع ويأخذ ثمنه إن كان مدلسًا [ويدفعه إيجابًا] (¬1). والثالثة: إذا اشترى البائع من المبتاع السلعة التي باعها وهي مبيعة بأكثر من الثمن الأول فلا مراجعة بينهما إن كان البائع مدلسًا، وإن لم يكن مدلسًا رجع عليه بما ناف على الثمن، ويصير ذلك ردًا. والرابعة: أن السمسار يرد الجعل في غير المدلس؛ بناء على أن الرد بالعيب نقض بيع، وأما في المدلس فلا يرد الجعل. الخامسة: مسألة البيع على البراءة قال: ينتفع به إذا حصلت على شروطها إن لم يكن مدلسا، فإن كان مدلسًا فلا ينتفع بها حتى يتبين. [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) هكذا رسمها بالأصل، وربما تكون (ويذهب مجانا). (¬2) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الخامسة عشرة في حكم الزوائد الثابتة في الأصول المشتريات عند طرءان ما يقدح في ملك مشتريها

المسألة الخامسة عشرة في حكم الزوائد الثابتة في الأصول المشتريات عند طرءان ما يقدح في ملك مشتريها وفي ذلك خمسة أسئلة: منها الرد، ومنها الرد بفساد البيع، ومنها طرءان الشفيع على المشتري، ومنها طرءان المستحق على المشتري، ومنها قيام الغرماء على المفلس. وقد أدرك البائع عين شيئه. ولا شك ولا خفاء أن قوله عليه السلام: "الخراج بالضمان" (¬1) شامل في الجميع لحق العموم، إلا أن القدر الذي انتمت إليه هذه الزوائد تصير علة وخراجا فيه ترى العلماء يضطربون والفقهاء يصطدمون، ونحن نبين ذلك إن شاء الله تعالى. فالجواب عن السؤال الأول والثاني: إذا اشترى الأصول ثم ردها بالعيب أو لفساد بيع فلا تخلو الأصول من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون معطلا من الثمار. والثاني: أن يكون مشغولا بالمأبور .. والثالث: أن يكون مشغولا بالمزهي من الثمار. فأما الوجه الأول: إذا عرى الأصل عن الثمار أو شغل بالمأبور لأنه عدم في نظر الشرع فإن الثمار مردودة برد الأصول ما دامت متعلقة بها ما لم تبلغ مبلغًا يحكم لها فيه بالانفصال. ¬

_ (¬1) تقدم.

وهل للمشتري في الرد بالعيب الرجوع على بائعه بقيمة السقي أو العلاج أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة". وينبني الخلاف على الخلاف في الرد بالعيب هل هو نقض بيع أو مبتدأ بيع. واختلف في الحد الذي يحكم له بالانفصال على أربعة أقوال: أحدها: أنه بالإبار، وتصير علة للمشتري، وهو قول أشهب في "كتاب العيوب"، وفي "كتاب الحبس"، وهو قول المدنيين في "كتاب الشفعة" من "المدونة". والثاني: أنها بالإزهار تصير علة. والثالث: أنها باليبس تصير علة بالجذاذ. وأما على القول بالإبار فيتخرج على القول بأن الرد بالعيب بيع مبتدأ، أو على أنها بالإبار تكتسب وصفا من أوصاف الانفصال من كون مقتضى العقد على الأصل لا ينتظمها بل يفتقر إلى شرط يخصها، وذلك يؤذن بأن لها حظا في الاستغلال، وهذا المعنى ينظم الرد بالعيب والرد بفساد البيع. وأما على القول بالازهار فينبني الخلاف على أنها تكتسب به وصفا من أوصاف الاستعمال والانفصال؛ لجواز قصدها بالعقد على نعت الحرية ولكونها لا نتدرج في طي العقد الوارد على الأصل إلا بشرط يخصها؛ فصار لها حكم المحدودة فعلا. وأما على القول باليبس فلاكتسابها به من الأوصاف ما يخرجها من حيز الضمنة والتبعية ويرفعها إلى درجة المحدودة فأعلى منها ما ذكرناه في فصل

الإزهار، ومنها ما عدم الاستمداد بالرطوبة من محل الأصل، ومنها سقوط قاعدة عهدة الجائحة، فقسمنا الجذاذ الحكمي على الجذاذ الحسي. وأما على القول بالجذاذ فإنه منع في قياس المجذوذ فعلا، ويخرج على الجذ الحقيقي؛ لأنها قبل الجذ راجعة إلى حكم من أحكام الاتصال كامتناع بيعها بطلعهم حينئذ إلا بعد الجذاذ، فهذا حكم هذه الثمار مع القيام. فإن كانت فائتة قبل الإزهار فلا يخلو فواتها من أن يكون بتلف أو بالإتلاف. فإن كان بإتلاف فهو تفويت الأصل تثبت به القيمة في البيع الفاسد، ويثبت به الخيار للقائم بالعيب بعد أن يرد مع أرش النقص، أو يتمسك ويسترد أرش العيب. فإن فاتت بتلف طاف عليها طائف من ربك في رؤوس النخل فليس بفوت يمنع الرد بالعيب، وله أن يرد، ولا شيء عليه؛ إذ لا سبب له هناك. وأما الوجه الثاني: إذا كانت الأصول في حين البيع مشغولة بالمأبور من الثمار فإنه لا فرق بينه وبين الوجه الأول فإن إتلافها بعيب قبل الإزهار وفي أن تلفها حينئذ بآفة سماوية على الأصل لا يمنع الرد بالعيب، وله أن يرد بلا غرم. واختلف في هذا الوجه يكون علة للمشتري إذا أخذها أم لا على قولين: أحدهما: أنه لا يكون علة، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يكون علة له، وهو قول أشهب في "كتاب العيوب". وسبب الخلاف: اختلافهم في الثمرة بعد الإبار إذا بيعت مع الأصل

هل لها حصة من الثمن أم لا؟ وظاهر ما وقع في "كتاب الشفعة" أن لها حصة من الثمن، وعليه اختصر أبو سعيد البراذعي في "كتاب العيوب" على المعنى حيث قال: ولما لم تكن واجبة للمشتري إلا باشتراط صح أن لها صحة من الثمن بعد الإبار. وعلى القول بأنها ليست بعلة للمشتري هل يردها مع الأصل في الرد بالعيب أو يمضي له بحصتها من الثمن؟ وإنما يتخرج على قولين من "المدونة": أحدهما: أن المشتري يردها إن كانت قائمة، أو مكيلها إن عرفت، أو القيمة إن جهلت، أو الثمن إن بيعت، وهو قول ابن القاسم في "كتاب العيوب" من "المدونة". الثاني: أنه يرد الأصول خاصة وتمضي له الثمرة بما ينوبها من الثمن إذا طابت وإذا يبست وإذا جذت على اختلاف الأقوال في ذلك، وهو قوله في مسألة الشفعة والتفليس، وهو تأويل بعض المتأخرين ورأيا أن ذلك اختلاف قول، وأشار بعضهم إلى أن ذلك اختلاف سؤال، وقال: الفرق بينهما كون الرد بالعيب نقض بيع وفي إمضائها له بما ينوبها من الثمن إغرار بالعقد، وذلك ممنوع، وهذا مختلف في الشفعة؛ لأنها بيع مؤتنف. وهذا القول غير مسلم إلا على أحد القولين في الشفعة والرد بالعيب؛ لأنهم اختلفوا في الرد بالعيب هل هو نقض بيع أو بيع مبتدأ، وفي الشفعة هل طريقها طريق البيع أو طريقها طريق الاستحقاق. وأما الوجه الثالث: إذا كانت الأصول مشغولا بالمزهي من الثمار يوم العقد فلها فيه حكم السلعة المنفصلة وضمانها منه فاتت بتلف أو إتلاف، فإذا رد الأصل ردها معه وإن حدث ما كانت قائمة.

فإن فاتت رد المثل إن علم لأنه كالعين، فإن جهل هل تمضي له بحصتها من الثمن أم لا؟ فإنه يتخرج على قولين قائمين من "المدونة". أحدهما: أنها تمضي بحصتها من الثمن. والثاني: أنه يرد قيمتها مع الأصول. وينبني الخلاف على الخلاف في مسألة الثوبين إذا تعيب الأعلى وفات الأدنى؛ فعلى القول بأنه يردها على المعيب مع قيمة الفائت الأدنى فيرد قيمة الثمرة هاهنا مع الأصول وهو مذهب "الكتاب"، وعلى القول بأن الفائت المعيب يمضي بحصته من الثمن تكون كذلك أيضا. والجواب عن السؤال الثالث والرابع والخامس أن ما قدمناه من التقسيم والخلاف دائر في هذا الأصل فيها يوم الابتياع ثلاثة أحوال: إما أن يكون خاليًا من الثمار أو من المأبور، وإما أن يكون مشغولا بالمأبور، وإما أن يكون مشغولا بالمزهي. فأما الحال الأول فإن الشفيع أو المستحق أو الغريم يأخذون الأول بزوائده. وفي رجوع المشتري عليهم بالسقي والعلاج قولان، وقد قدمناهما في السؤالين الأولين ما لم يكسب وصفًا من أوصاف الانفصال تكون به علة للمشتري. وقد اختلف على الأقوال الأربعة المبسوطة، وأن ما تقدم من التوجيه نحو منه يقال هاهنا فلا معنى لإعادته مرة أخرى، إلا أن بعض هذه الأقوال مخرجة وبعضها منصوصة.

وأما الشفعة فبكونها علة بالإبار أو باليبس جاءت الروايات عن متقدمي الأصحاب، وأما الاستحقاق فبكونها علة باليبس أو بالجذ جاءت أيضًا، وكلاهما عن ابن القاسم، وأما التفليس فبكونها علة بالجذاذ أو بالإزهار جاءت أيضًا، وكلاهما عن ابن القاسم، إلا أن مذهبه في "المدونة" في هذه المسائل أنها بالإزهار تكون علة في السؤالين الأولين، وباليبس تصير علة في الشفعة والاستحقاق وبالجذ تصير علة بالتفليس. وما أشرنا إليه من التوجيه فيما تقدم يطلع منه على سبب الخلاف هاهنا. فإن وجدها المشتري بعد الإبار وقبل الطياب أو وجدها قبل الإبار وقد كان الأصل خاليا منها يوم التبايع فإنها للمشتري وهل يحاسب بها أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يحاسب بشيء، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب"، وهو الصحيح. والثاني: أن الشفيع يحاسب المشتري ويأخذ الأصل بحصته من الثمن، ويحاسب البائع في الاستحقاق ولا يرجع عليه إلا بما ينوب الأصل، ويحاسب به الغرماء في التفليس ويأخذ الأصل بحصته من الثمن ويحاصص الغرماء بما ينوب الثمرة من الثمن بناء على أن لها حصة من الثمن قبل الإبار، وهو قول أشهب في "كتاب ابن المواز"، وليس بصحيح والله أعلم. وأما الحال الثاني: وهو أن تكون الأصول عند البائع مشغولة بالماء فإن الأسئلة الثلاثة تختلف فيه.

وأما الاستحقاق فالمنصوص فيه أنها لا تصير علة ويردها وإن وجدت، ويغرم المكيلة إن عرفت أو القيمة إن جهلت كسلعة ومنفصلة. وأما الشفعة فيها ففي المذهب قولان: أحدهما: أنها كالاستحقاق، وأنها لا تكون له علة، وهو قول أشهب. والثاني: أنها للشفيع ما لم تيبس أو تجذ، فإن يبست أو جذت وكانت صغيرة ففي المشتري بما ينوبها من الثمن، ويستشفع الشفيع الأصل بما ينوبه، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". وسبب الخلاف: الأخذ بالشفعة هل هو مضاهاة للاستحقاق فيكون كما قال أشهب، أو على منهاج البيع المبتدأ فيكون الأمر كما قال ابن القاسم؛ لأن المأبور له حصة من الثمن على مشهور المذهب. وأما التفليس ففيه قولان: أحدهما: أنها للبائع ما دامت لم تفت، فإن فاتت أخذ الأصل بما ينوبه من الثمن، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنها كالاستحقاق وهو قول أشهب. وأما الحال الثالث: إذا كان الأصل مشغولا بالمزهى من الثمار عند العقد؛ أما الاستحقاق؛ فإنه يردها وإن جذت، ويرد المكيلة إن عرفت، أو القيمة إن جهلت، والثمن إن بيعت كسلعة منفصلة. وأما في الشفعة فإنها تتخرج على قولين: أحدهما: أنها للشفيع ما لم تجذ، فإذا جذت فإنها تكون للمشتري بحصتها من الثمن. والثاني: أنها تكون للمشتري باليبس.

والقولان لابن القاسم من "المدونة". وقد جعلها ابن القاسم في الحال الأول والثاني أنها للمشتري باليبس. وأما في التفليس فالبائع أحق بها وإن جذت ما دامت قائمة كمشتري السلعتين بفلس. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السادسة عشرة في العيوب الكامنة التي يستوي فيها علم البائع والمشترى

المسألة السادسة عشرة في العيوب الكامنة التي يستوي فيها علم البائع والمشترى والعيوب التي يستوي فيها علم البائع والمشتري وهي الكامنة ولا يتصور التدليس بها تنقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: ما لا يمكن الوصول إلى معرفته إلا بعد قطعه وشقه. والثاني: ما يمكن الوقوف على حقيقته واختيار ما في داخله قبل كسره. والثالث: ما يدرك كنه داخله قبل كسره. فالجواب عن القسم الأول: وهو ما لا يمكن الوصول إلى معرفة ما في داخله والوقوف على حقيقته إلا بعد شقه وقطعه كالعيوب الكامنة في الخشوب والجلود فالمذهب فيها على خمسة أقوال: أحدها: أن ذلك للمشتري ولا رد له جملة بلا تفصيل، وهو قوله في "المدونة" و"الموازية"، وغيرهما. والثاني: أنه كسائر العيوب، وللمشتري الرد جملة بلا تفصيل، وهو قول الأبهري. والثالث: التفصيل بين القليل والكثير، فإن وجد العيب في اليسير فلا رد له ويلزمه جميع الصفقة بجميع الثمن، وإن كان الفساد في أكثره فله رد الجميع، وهو قول ابن نافع ومحمد بن خالد في "العتبية" والموالح واللوز والجوز. والرابع: على عكس الثالث أنه لا يرد ما وجده فاسدًا إلا ما كان يسيرًا

مثل الجوزتين والثلاثة يجدها فاسدة بعد كسرها، وأما في الإجمال، والكثير منه فلا يرد، وهو قول مالك في "كتاب محمَّد"؛ على ما نقله الشيخ أبو محمَّد في "النوادر". والخامس: التفصيل بين أن يكون العيب في أصل الخلقة ولم يحدث بعد القطع ثم لا قيام له، أو يكون عيبًا حدث بعد القطع والصحة من عفن أو سوس فهذا مما لا يعلمه بعض الناس وإن جهله آخرون فله الرد، وهو قول ابن حبيب. وسبب الخلاف: الرد بالعيب هل هو مبني على نفي المساواة في علم العيب أو هو مبني على أن المشتري مغبون لأن ثمن السالم وما يدخلا فيه على القيام بالعيب ليس على سواء، وما عدا ذلك من الأقوال فإنها جارية على غير قياس. واختلف في الجلود تقطع خفافًا أو نعالًا ثم يظهر أنها فاسدة أو دبغها ثم ظهر فسادها من اختراق أو إتلاف صوفها وشعرها فلا يخلو من أن يكون ذلك في أصل خلقتها أو يكون ذلك أمرًا قد حدث مما يمكن أن يكون من سوء صنعة أو سوس أو عفن أو سوء صنعة من قلة ملح أو حرارة شمس أو طول مكث كجلود البقر تباع مطوية يابسة فإذا بلت تبين السوس فيها أو ظهر فيها فساد أو اختراق ولا يتبين ذلك للمشتري حتى يجعل في الماء فإنه ينظر في ذلك أهل المعرفة والبصيرة. فإن كان مثل ذلك لا يخفى على البائع فإن له حكم التدليس، وإن كان يخفى مثله كان كمن لم يدلس. وهل يكون حكمها كحكم سائر العيوب أو له حكم الخشب؟ فالمذهب على قولين:

أحدهما: أن حكمها حكم سائر العيوب في الرد والإمساك، وهو قول مالك وأكثر أصحابه في "الواضحة" وغيرها. والثاني: أنها كالخشب والبناء، وأنه لا رد له، وهو قوله في "كتاب ابن سحنون" فلو اشتراها المشتري الأول على أن يرد منها ما أتلف لم يجز؛ إذ لا يدري ما يتلف، وهل هو في خيارها أو شرارها؟ وذلك غرر وخطر وهو قوله في "كتاب ابن حبيب". والجواب عن الوجه الثاني: وهو ما يمكن الوقوف على حقيقته داخله قبل كسره كالقثاء والباذنجان يختبر بالعود الرقيق فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يرد جملة وأن ذلك لازم للمشتري، وهو قول مالك في "المدونة" قال: ورأيت أهل السوق يردونه، ولا أدري من أمن ذلك إنكارًا لفعلهم. والثاني: أنه له الرد كسائر العيوب، وهو قول الأبهري. والثالث: التفصيل بين اليسير والكثير؛ فإن كان يسيرًا مما يدرك بالاختيار وإدخال العود حتى يعرف حلوه من مره فله الرد؛ لأن البائع قادر على معرفة هذا العيب فإن كان كثيرًا كالأحمال وذلك من المشتري ولا رد له، وهو قول أشهب، ومطلع الخلاف على ما تقدم. والجواب عن الوجه الثالث: وهو ما يدرك كنه داخله من خارجه قبل كسره؛ كالبيض فإنه يظهر فساده قبل كسره: فهو كسائر العيوب. فإذا قام المشتري فلا يخلو من أن يكون ذلك بحضرة البائع أو بعد أيام. فإن كان ذلك بحضرة البائع فلا يخلو فسادها من أن يكون مدلسًا أو غير مدلس.

فإن كان مدلسا فإنه يرد بعد كسره ويرجع بجميع الثمن. وإن كان غير مدلس فإنه يرجع على البائع ما بين الصحة والداء. فإن كان مما لا يباح أكله فإنه يرجع بجميع الثمن دلس أو لم يدلس، وهو قول ابن الموّاز. فإن كان ذلك بعد أيام فلا رد له؛ لأنه لا يدري أفسد عند البائع أو عند المشتري، وهو قول ابن القاسم في "كتاب محمَّد". وصفة معرفة فساد البيض من ظاهره أن يحركها ويضحضها، وذلك يدرك به فساده ما لم يخلق فيه الفروج. وقال بعضهم: يدرك فساده بأن يرفعه في عين الشمس. وقال بعضهم: يدرك فساده بأن يجعل البيض في ماء فما كان منه صحيحا رسب، وما كان منه فاسدًا فإنه يعلو على وجه الماء. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السابعة عشرة فيمن اشترى شعيرا للحرث فوجده لا ينبت

المسألة السابعة عشرة فيمن اشترى شعيرًا للحرث فوجده لا ينبت فلا يخلو من أن يشتريه ليأكله أو ليزرعه، فإن اشتراه ليأكله ثم بدا له فزرعه فلم ينبت فإنه لا يرجع عليه بشيء، إلا أن يكون ذلك نقص مما يكون عيبا لو اشتراه للأكل فإنه يرجع بما نقص العيب. فإن اشتراه ليزرعه فلا يخلو من أن يكون اشترط له البائع أنه ينبت أو لم يشترط. فإن اشترط له البائع أنه ينبت فزرعه في أرض تربة تنبت فلم ينبت فلا يخلو من أن يكون البائع قد غره أو لم يغره. فإن ثبت أن البائع غره منه عالما بأنه لا ينبت فإنه يرجع عليه بجميع الثمن. وإن لم يغره وإنما اشترط ذلك لأنه كانت عنده في نفاقها وجودتها أنها تنبت حلف على ذلك وليرد المشتري مثلها ويأخذ ثمنه كله، وهو قول سحنون في "كتاب ابنه". فإن لم يشترط له البائع أنها تنبت ولا تبين له أنه اشتراها لذلك فلا يخلو من أن يشتريها في غير إبان الحرث أو في إبانه. فإن اشتراه في غير إبان الحرث فلا رجوع له على البائع قولا واحدًا بما نقص العيب ولا غيره. فإن اشتراها في إبان الزراعة والبائع لا يعلم هل تنبت أم لا فالذي تقتضيه أصول المذهب ونصوصه أنه لا يرجع على البائع بشيء فإن اشتراها في إبان الزراعة، والبائع يعلم أنها لا تنبت وباعها بأثمان ما يراد للزراعة

هل يكون ذلك كالشرط أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه كالشرط ويرجع عليه المشتري بجميع الثمن، وهو قول اللخمي. وعلى أنه لا ينبت فيرجع المشتري بما بين ذلك؛ لأن الشعير يتصرف إلى غير وجه، وقيدنا الذي يعلم أنه لا ينبت فلم ينبت بالإثم وعليه العقوبة إذا دلس ولم يبين، وهو قول ابن حبيب في "الواضحة". ولو زرع أحد فنبت شعير صاحبه، ولم ينبت شعيره فلا يخلو من أن يكون مدلسًا أو غير مدلس. فإن كان مدلسًا فإنه يرجع عليه صاحبه بنصف مكيلته من شعير صحيح وبنصف كراء أرضه التي عطل عليه، وهو قول ابن حبيب وأصبغ. وهذا إذا فات إبان الحرث. وأما إذا علم في إبانها فعليه أن يخرج مثل ذلك من الزريعة الصحيحة فيزرعها في مكان لم ينبت. فإن كان غير مدلس فإنه يرجع على شريكه بمثل زريعه ودفع إليه شريكه مثل نصف زريعته التي لم تنبت، وهو قول سحنون في النوادر. فإن لم يشترط ذلك وكان الشراء في إبان الحرث [فهل له الرد] (¬1) أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه لا رد والبيع يلزمه، وهو قول سحنون. والثاني: أن له الرد وأخذ جميع الثمن، وهو قول اللخمي، [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثامنة عشرة في البيع على البراءة

المسألة الثامنة عشرة في البيع على البراءة والبراءة من العيوب على وجهين: خاصة، وعامة. فالخاصة على ثلاثة أوجه: متفق على فساده، متفق على جوازه، مختلف فيه. فأما المتفق على جوازه فهو المنبري من العيوب التي علمها إذا أوقف المشتري عليها أو سماها له وأخبره أنها في المبيع موجودة إلا أنها مع ذلك على وجهين: وجه يختلف، ووجه لا يختلف؛ فالوجه الذي لا يختلف كالغرر وقطع العضو فإنه يرى بمجرد تسميته، وما يختلف كالإباق والسرقة والديرة فلا تبرئة مجرد التسمية حتى يتبين طلبها بالمقدار وتبرئه مشاهدة المبتاع ومشاهدته لتلك الصفات. وأما المتفق على فساده فهو التبري من الحمل الظاهر متاع الغير في الرفيعة التي فيها المواضعة ولم يقر السيد بالوطء فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: إبطال البيع، وهو قول ابن القاسم وأشهب وعبد الملك وأصبغ وابن المواز في "الموازية". والثاني: أن البيع جائز والشرط جائز، وهو قول ابن حبيب في "واضحته" في الجارية المسبية المشتراة من الغانم أن له أن يتلذذ منها بدون الجماع قبل الحيض؛ لأن بيع المقاسم بيع. والثالث: جواز البيع وبطلان الشرط، وفيها من المواضعة. وهو قول

ابن المواز أيضا. ووجه القول أن التبري من الحمل في الرائعة يسقط المواضعة وذلك غرر وخطر؛ لما كان الحمل مخفيا فيها فصار المشتري يعتقد السلامة والبائع ضده فتخاطرا. ووجه القول الثاني: بناء على الأصل الذي قدمناه في جواز البيع وبطلان الشرط في بياعات الشروط، وقد استقصينا الكلام فيها أصولا. ووجه القول الثالث: قياسًا على الوضيعة بعلة أنه عيب فيهما جميعًا. فالجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: وهو البراءة العامة؛ وهو أن يتبين البائع من كل عيب لم يعلم به هل هو بيع براءة اشترطها البائع عند العقد أو لم يشترطها؟ فالذي يتحصل من المذهب في ذلك عشرة أقوال؛ منها في الكتاب ثمانية أقوال: الأول منها: أنه جائزة في الرقيق خاصة إذا اشترط التبري من كل عيب قل أو كثر مما لا يعلمه البائع وبيع السلطان في التفليس والمغنم والميراث إذا علم المبتاع أنه بيع ميراث، وهي رواية ابن القاسم وأشهب عن مالك في "كتاب محمَّد". وهذا القول قائم من "المدونة" من قول ابن القاسم: وأما البراءة في الرقيق على قول مالك الأول أن بيع المفلس والميراث بيع براءة وإن لم يتبين، وكذلك بيع السلطان، وذلك ظاهر. والقول الثاني: أن البراءة لا تكون إلا في الرقيق فيما باعه السلطان على مفلس خاصة دون الميراث وغيرها، وذلك بيع براءة وإن لم يشترطها، وهو

قوله في "المدونة" وإنما كانت البراءة لأهل الديون يفلسون فيبيع عليهم السلطان، وعلى هذا الظاهر حمله بعض المتأخرين وجعله قولا مفردًا، وهو نص في "كتاب محمَّد" حيث قال: وقال أيضًا: لا ينفع في الرقيق إلا في بيع السلطان في الديون، فأما بيع ميراث وغيره فلا. والقول الثالث: أنها تنفع في الرقيق والحيوان خاصة، وهو قوله في الموطأ، وقد ذكر أبو محمَّد في "النوادر" أنه أمر بمحو الحيوان منها، وفي "كتاب محمَّد" أنه ذكر له ذلك فقال: إنما أعني بالحيوان الرقيق؛ لأن في "كتاب محمَّد" نصا أنها تجوز في الرقيق والحيوان فقط على ظاهر الموطأ، ومثله في "كتاب ابن حبيب". والقول الرابع: أنها تنفع في كل شيء في الرقيق والحيوان والعروض، وهو قوله في "كتاب ابن حبيب" على ما نقله الشيخ أبو محمَّد في "النوادر" حيث قال: قال ربيعة وابن شهاب ويحيى بن سعيد وغيرهم: تجوز البراءة في كل شيء، وقاله مالك مرة: إنه يلزم في الرقيق والعروض والحيوان، ثم رجع إلى أنها لا تكون إلا في الرقيق. قال ابن وهب بقوله الأول، وهذا نص نقله - رضي الله عنه -، وهذا القول قائم من "المدونة" أيضا من قوله: وثبت مالك على أن بيع السلطان بيع براءة، والثبوت لا يكون إلا بعد الترجرج والاضطراب، وذلك إشارة إلى اختلاف قوله في "الواضحة"، وذلك ظاهر. والقول الخامس: أنها لا تنفع في شيء من الأشياء لا في الرقيق ولا في الحيوان ولا في العروض إلا في الشيء التافه غير المضطر إليه، فأما ما هو مضطر إليه فلا ينفع فيه، وهو رواية ابن القاسم عن مالك في "الموازية"، ونحوه في "العتبية"، وهذا القول قائم من "المدونة" أيضا من قوله:

إن البراءة لا تنفع لأهل الميراث ولا لغيرهم إلا أن يكون عيبا خفيا فعسى. والقول السادس: أنها تنفع في ما طالت إقامته عند البائع واختبره، وأما ما لم تطل إقامته ولم يختبره فلا تنفع فيه، وهو قوله في "الواضحة" و"الموازية" وهذا القول أيضا قائم من "المدونة" في الجانب الذي يأتيه الرقيق حيث قال: لا تنفعه البراءة. والقول السابع: أنها لا تنفع في شيء من الأشياء جملة كافية سواء اشترطها أو لم يشترطها، وهي رواية حكاها القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب عن مالك في المذهب أن البراءة لا ينفع اشتراطها في شيء ولا يبرأ البائع إلا بما برئه المبتاع، وعللها بعض الأصحاب أن البيع على البراءة غرر وخطر، ولا فرق في ذلك بين بيع السلطان وغيره، وهذا القول أيضا قائم من "المدونة" من قوله الذي رجع إليه: أن البراءة لا تنفع في الرقيق، يريد: ولا في غيره لا لأهل الميراث ولا لوصي ولا لسلطان؛ وعلى هذا تأول اللخمي المسألة. ويدل على صحة هذا التأويل قوله في مسألة أول عهدة باب المفلس فيمن اشترى عبدًا من مال رجل قد فلسه السلطان فأصاب فيه عيبا حيث قال: يرده على الغرماء، ويدل عليه أيضا قوله في الباب الأول: وكان وقوله في الرقيق في بيع الميراث والسلطان في المفلس .. إلى آخر المسألة: وأنه لا يلزم البائع شيئًا مما أصابهم؛ فقوله القديم يدل على أنه اختلف في ذلك، وأن له فيها قولا جديدًا. وقال في موضع آخر في "الكتاب": ما وقفت لمالك على هذا إلا ما أخبرتك من قوله القديم، وقد خالف في هذا التأويل جماعة من الشيوخ، وتأولوا مسألة المفلس أنه كان عالم بالعيب وعلم بعلمه.

وذكر أبو محمَّد بن أبي زيد، وابن الكاتب، وغيرهما أنه لا يختلف قوله: إن بيع السلطان بيع براءة. والخلاف موجود وقد حكيناه. والقول الثامن: أن البراءة لا تصح بشرط، وإنما تصح لمن يوجبها عليه الحكم من بيع السلطان وأهل الميراث، وهذا القول قائم من المدونة من قوله: ولم تكن البراءة عند مالك إذا كان يجيزها إلا في الرقيق وحده في الميراث وما باع السلطان للغرماء، وإلى مثل هذا أشار الباجي في "المنتقى". والقول التاسع: أن البراءة لا تكون إلا بشرط، فإذا لم يشترطها فعليه عهدة القائم بعيب، على عكس القول الثامن، وهذا القول من "المدونة" من قوله في أول الباب: إن البراءة لا تكون إلا في الرقيق، ولا تنفع في غيرهم كانوا أهل ميراث أو غيرهم. وظاهره: لا تكون بشرط لقوله: ينفع، ومثل هذا إنما يستعمل فيما قصد، فأما ما يوجبه الحكم فلا يقال فيه تصح، وإنما يقال فيه يصح؛ فتأمله تجده صحيحا إن شاء الله، وإلى هذا ذهب بعض المتأخرين. والقول العاشر: بالتفصيل بين ما بيع بالخيار من مالكه وبين ما بيع عليه؛ فما بيع باختيار المالك فلا تكون فيه البراءة إلا في الرقيق خاصة، وما بيع بغير اختياره كبيع السلطان في فلس أو موت أو على أصاغر فإنه بيع براءة في كل شيء من الرقيق والحيوان والعروض، وهو وقول ابن حبيب من رأيه؛ لأنه قال: أنا آخذ بقول مالك الآخر فيما بيع طوعًا أن البراءة لا تكون فيه إلا في الرقيق. فأما ما باعه السلطان في فلس أو موت أو على أصاغر فإنه يأخذ فيه بالقول الأول أنه بيع براءة وإن لم يشرط، قال: وقاله مطرف وابن الماجشون

وأصبغ وغيرهم. فهذا تحصيل الأقوال في هذه المسألة على تقرير من الروايات وغيرها، ولفظه في "الكتاب" متكرر ومتردد ومختلف في العبارات في مواضع شتى من أبواب العهدة من البراءة؛ فرتبنا مشكله على ما فسر في غيره. والحمد لله وحده.

كتاب الاستبراء

كتاب الاستبراء

كتاب الاستبراء تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها مسألتان: المسألة الأولى في اشتقاق الاستبراء وهو مأخوذ من التبري؛ وهو الانفصال والتخلص، ثم استعمل في الاستقصاء والبحث والكشف عن الأمر الغامض على يقين منه، وهو ما يعرف عند الفقهاء كناية عن أحوال الأرحام عند انتقال الأملاك حتى يعلم تخلصها من الحمل أو شغلها به بالعلامات التي جعل صاحب الشريعة وذلك دليلا عليها؛ مراعاة لحفظ الأنساب واحتياطًا لاختلاط الذرية وتمييز النسل، وهو لوجهين: أحدهما: تمييز ماء البائع من المشتري، وذلك في كل موطوءة للبائع إذا لم يستبرئها أو في العلية التي يحط الحمل من ثمنها كثيرًا، وما لم توطأ فاستبرأها، ولا بالمواضعة؛ ومعنى هذه الكلمة الإيقاف مدة الاستبراء وهو وضع هذه الجارية على يد ثقة حتى تظهر براءة رحمها من شغل الحمل وتحل للمشتري، وهذا الاستبراء واجب. وحكم هذه في هذه المدة حكم ما لم يخرج من ملك البائع، ونفقتها عليه، وضمانها منه؛ لأنه لما كان استبراؤها وإنفاقها بسببه من أجل ما به أو من أجل خلوص العلى من الحمل. وإن لم يطأ البائع كان تمام بيعها إنما يكون يوم براءتها من ذلك، ولم يتم العقد المتقدم إلى الآن؛ ومن حينئذ يضمنها المشتري، والاستبراء الثاني

في غير هذه ممن لا تواضع فيمن لم يعرف البائع بوطئها من وخش الرقيق، أو ممن لا ينقصها الحمل من علية كالمتزوجة أو المطلقة أو الزانية، فهؤلاء لا مواضعة فيهن ولا استبراء إلا أن يريد المشتري الوطء فواجب عليه أن يستبرئ لنفسه مما لعلها أحدثته، وضمانها من مشتريها ويم الصفقة إلا أن يكون هناك عهدة الثلاث فمن يوم تمامها، واختلف في التي اشتريت وهي في عظم حيضتها، وفي البكر العذراء هل فيها مواضعة أم لا على قولين: أحدهما: أنه لا مواضعة فيها، وأن تلك الحيضة تجري معهما، وهو قول ابن القاسم في المدونة في التي هي في عظم حيضتها، ويلزم مثله في العذراء. والثاني: أنه لابد لها من الاستبراء والمواضعة، وهو قول أشهب على ما حكاه عنه أبو إسحاق بن شعبان، وفضل بن سلمة في التي هي في عظم حيضتها، وهو قول مالك في "كتاب ابن حبيب" وغيره [في] (¬1) التي قاربت الحلم ويخشى منها الحمل أنه لابد فيها من الاستبراء والمواضعة. وسبب الخلاف: المواضعة هل هي مشروعة للاستبراء خاصة، أو هي مشروعة للاستبراء والتعبد؟ فمن رأى أنها مشروعة للاستبراء خاصة قال: إذا تحقق براءة الرحم فلا استبراء ولا مواضعة، ومن [رأى] (¬2) أن فيها ضربا من التعبد قال لابد من المواضعة، [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثانية إذا قبض المشتري الرائعة على غير المواضعة

المسألة الثانية إذا قبض المشتري الرائعة على غير المواضعة فلا يخلو ذلك من خمسة أوجه: إما أن يقبضها على الائتمان على استبرائها. وإما أن يقبضها على براءة البائع من وطئها ومن حملها أن يكون منه. وإما أن يقبضها على براءة البائع من حملها وهو مقر بوطئها. فأما الوجه الأول: إذا قبضها المشتري على أنه مؤتمن في استبرائها فذلك جائز، وإن كانت المواضعة على يدي غيره أحسن، فإذا وضعت بيد المشتري كان أمينًا على حضيتها، ونفقتها على البائع حتى تحيض، وما أصابها في ذلك فمن البائع، والقول قول المشتري إن أصابها ذلك قبل أن تحيض؛ لأنها لو كانت بيد غيره فيتأخر حيضها وتربصت ثلاثة أشهر ثم تحل للمبتاع وتخرج من ضمان البائع إلا أن يظهر بها حمل فيرد أو يمسك فيها بحبس البطن فيكون المبتاع مخيرًا إن شاء تربص إلى تسعة أشهر وإن شاء ردها؛ لأن تأخير ذلك إلى تسعة أشهر كعيب وجده. وأما الوجه الثاني والثالث: إذا قبضها على الجهل بالاستبراء وعلى تعمد تركه وقبضها كقبض الوخش فإنها تخرج من يد المشتري ويخرج فيها حكم المواضعة. ويلحق الولد بالبائع في التي أقر بوطئها إن لم يدع استبراء. فإن لم يرفع أمرها حتى ماتت بيد المبتاع وهو يقول ما حصلت، فإن ماتت فيما يكون فيه استبراؤها فهي من المبتاع وإن ماتت في مثل ما لا

يكون فيه الاستبراء فهي من البائع بغير يمين المبتاع أنها لم تحض عنده، وهذا قول مالك في "كتاب ابن حبيب"، وهو تفسير لما في "المدونة". والبيع في ذلك كله جائز ولا يفسخ، وهو نص مالك في "كتاب الاستبراء" من "المدونة". وأما الوجه الرابع: إذا قبضها على البراءة من حملها وهو مقر بوطئها فالمذهب فيها على قولين: أحدهما: أنها تخرج من يد المشتري وتجري فيها أحكام المواضعة، وهو قول ابن حبيب عن مالك. والثاني: أن البيع مفسوخ مع القيام، وهو قول مالك في "المدونة" و"الموازية". وأما الوجه الخامس: إذا قبضها منه على وجه التبري من وطئها أو البراءة من حمل إن ظهر بها من غيره فلا يخلو من أن تكون رائعة من علية الرقيق أو متوسطة. فإن كانت من وسط الجواري لا علية ولا وخشة فذلك جائز، ويدخل في ضمان المشتري بالعقد، ولا يطأها حتى تحيض، وله فيها التلذذ دون الوقاع. فإن كانت رائعة من علية الرقيق لا يصلح مثلها إلا إلى الفراش فالبيع فاسد وترد إلى أن تفوت فتضمن قيمتها، وهذا على قول مالك في "كتاب ابن حبيب"، وهو تفسير لما في "المدونة". وقد تقدم كثير من مسائل هذا "الكتاب" في "كتاب النكاح" فأغنى عن إعادته. والحمد لله وحده.

كتاب الصلح

كتاب الصلح

كتاب الصلح تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها خمس مسائل: المسألة الأولى في صلح البائع والمشتري في دعوى بما يعيب فليدمع البداية بها لأنها أغلظها فروعًا وأكثرها وجوهًا، ولنقتصر فيها على صلح البائع رغبة في إنفاذ العقد. وأما صلح المشتري فرغبة في فسخ العقد تقدم مبسوطا في مسألة حمار ربيعة "في كتاب الآجال". اعلم أنه إذا باع سلعة بذهب إلى أجل فادعى المبتاع أن بها عيبًا وأراد مصالحة البائع فلا تخلو السلعة من أن تكون قائمة، أو فائتة. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كانت قائمة فلا تخلو من ثلاثة أوجه: إما أن تكون عرضا، أو دنانير، أو دراهم. فإن صالحه على عرض فلا يخلو من أن يكون نقدًا أو إلى أجل. فإن كان نقدًا جاز قولا واحدًا. وإن كان إلى أجل فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو ظاهر قول أشهب في "الكتاب". والثاني: المنع، وهو نص قول ابن القاسم في "كتاب الصلح". وسبب الخلاف: من ملك أن يملك هل يعد كالمالك قبل أن يملك أم لا؟، فإذا قلنا: إنه كالمالك فيمنع كما قال ابن القاسم؛ لأنه ملك أن يرد

لوجود العيب ويأخذ الثمن الثابت في الذمة، فإذا اعتاض عنه بالعرض إلى أجل كان ذلك فسخ الدين في الدين، وإذا قلنا: إنه ليس كالمالك فلا يمنع كما قال أشهب؛ لأنه عوض عن الخصام لا عن قيمة العيب إذا لم يثبت بعد؛ فكان ذلك كالشراء للخصومة. فإن صالحه على دنانير؛ فإن كان نقدا جاز قولا واحدا؛ لأن المشتري كأنه استرجع بعض ثمنه والمستبقى هو الثمن. فإن كان إلى أجل فلا يجوز إن تأخر بشرط؛ لأنه بيع وسلف من المشتري، وإن تأخر من غير شرط جاز. فإن صالحه على دراهم؛ فإن كانت الدراهم إلى أجل فلا يجوز؛ لأنها سلعة وفضة إلى أجل نقدًا -قلت الدراهم أو كثرت. فإن كانت نقدًا جاز في أقل من صرف دينار قولا واحدًا، وفي أكثر من صرف دينار قولان في ذلك: المنع لابن القاسم؛ لأنه بيع وصرف، والجواز لأشهب إما لكون البيع والصرف عنده جائز وهو مشهور مذهبه، وإما لأنه يرى الصلح عوضًا عن الخصام. وأما الوجه الثاني من الوجه الأول: إذا وقع البيع على النقد ولم ينتقد فعلى الأوجه الثلاثة التي قدمناها أن يكون الصلح بعرض أو بذهب أو بورق. فإن كان الصلح بعرض فذلك جائز معجلا ومؤجلا وكان سلمًا يراعي فيه تعجيل رأس المال النقد في رأس المال وتأخيره إلى القدر المعروف؛ لأن المشتري كأنه اشترى العرض المصالح به ببعض ما عليه من الثمن. فإن كان الصلح بدنانير لم يجز إلا على المقاصصة؛ لأنه إذا عجلها صار ذهب وسلعة بذهب.

وإن كان بدراهم لم يجز أن يتناقدا معا إذا كانت الدراهم قليلة أقل من صرف دينار، وإن كانت أكثر من صرف دينار جرى على الخلاف الذي قدمناه بين ابن القاسم وأشهب. وأما الوجه الثالث: إذا كان البيع إلى أجل فلا يخلو من أن يكون بعرض أو بدنانير أو بدراهم. فإن كان الصلح بعرض لا يجوز إلى أجل؛ لأنه دين بدين، ويجوز نقدًا لزوال المانع. فإن كان بالدنانير وكان نقدًا أو إلى أجل غير أجل الثمن فلا يجوز، لأنه ذهب بذهب مع أحدهما سلعة، فإن كان إلى أجل الثمن جاز ويصير مقاصصة. فإن كان بالدراهم لم يجز -كانت نقدًا أو إلى أجل- لأنه صرف مستأخر. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: وهو أن يكون الصلح بعد فوات البيع؛ فإن التقسيم المتقدم دائر فيه وهو أن يكون على النقد فانتقد، أو على النقد ولم ينتقد، أو إلى أجل. فإن وقع على النقد وانتقد فلا يخلو الصلح من أن يكون على النقد أو على النسيئة. فإن كان على النقد جاز على الإطلاق دون تفصيل دون ما صالح من عرض أو عين. وهل من شرطه معرفتهما بقيمة العيب؟ وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه يجوز وإن جهلا قيمة العيب في الحال، وهو قوله في

"الموازية" و"المستخرجة". فوجه قول ابن القاسم أن الجهل بقيمة العيب غرر وخطر، ووجه قوله في "الموازية" أن الصلح في غالب الأحوال أن يكون على أقل من قيمة العيب بالشيء البين؛ فيصيرا قد خرجا بالصلح من حد المكايسة إلى حد المكارمة؛ لأن ذلك هبة من المشتري ومعروف صنعه، وهبة المجهول عندنا جائزة. فإن كان الصلح على التأجيل: فأما بالدراهم أو العروض فلا يجوز بحال؛ لأنه فسخ دين في دين، وأما بالدنانير فإن كان مثل قيمة العيب فأقل فذلك جائز، وإن كان أكثر لم يجز؛ لأنه تأخير بزيادة؛ وذلك أن المشتري وجبت له قيمة العيب على البائع فأخره بها بشرط الزيادة؛ وذلك سلف جر نفعا. فإن باعه بنقد ولم ينتقد فلا يخلو الصلح من أن يكون بعرض أو بدراهم أو بدنانير، فإن كان بعرض جاز نقدًا ومؤجلا، ويكون سلما، ويلزم المشتري النقد كما تقدم؛ لأنه اشترى الموصوف بما في ذمته. فإن كان بالدراهم فلا يجوز إلا أن يتناقدا على حكم الصرف. فإن كان بالذهب: فأما على معنى الوضع أن يضع عنه من الثمن الذي عليه فذلك جائز -قل ما حط عنه أو كثر. فإن كان على غير ذلك فلا يجوز إلا أن يحضر المبتاع ما عليه من الثمن ويحضر البائع ما عليه من قيمة العيب فيراطله بها كفة بكفة احترازًا من التفاضل بين الذهبين. أما الوجه الثاني من الوجه الثاني: وهو أن يكون البيع إلى أجل فلا يخلو من أن يكون الصلح بعرض أو بدراهم أو بدنانير.

فإن كان الصلح بعرض جاز نقدًا لا مؤجلا؛ لأنه دين بدين. وأما بالدراهم فلا يجوز نقدًا ولا مؤجلا؛ لأنه صرف ومستأخر. وأما بالدنانير: فإن كان على وجه المقاصصة والوضيعة جاز، فإن كان على وجه النقد ينقده البائع فلا يجوز هذا، وجاءت الرواية، وللأشياخ المتأخرين في تأويلها كلامان: أحدهما: أن ذلك على إطلاقه لا يجوز؛ لأنه سلف جر منفعة كأن البائع أسلفها للمشتري يردها إذا حل الأجل فيما عليه من الثمن، ولأنه يدفع عن نفسه الخصام في الحالة الراهنة بما أعطى، وهذا تأويل أبي الحسن ابن القابسي. والثاني: أن معنى ذلك إذا كان المصالح به أقل من قيمة العيب؛ لأنه يتهم أن يدفع قليلا ليأخذ كثيرًا إذا حل الأجل، وأما إن كان مثل قيمة العيب فأكثر فلا تهمة؛ لأنه من البعيد أن يعطي كثير في قليل، وهو تأويل ابن أبي زيد - رضي الله عنه -. فيتحصل لك من جملة المسألة ستة أقسام؛ كل قسم ثلاث مسائل؛ وذلك ثماني عشرة أسئلة لأنها إذا كانت قائمة فثلاثة أوجه وإن كانت فائتة فثلاثة أوجه: إما ينقد فانتقد أو ينقد ولم ينتقد أو بالتأجيل، وفي كل قسم من هذه الأقسام ثلاث مسائل: إما أن يصالح بعرض أو بذهب أو بدراهم؛ فيأتيك من ذلك العدد الذي حصلنا. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثانية في صلح الورثة امرأة الهالك

المسألة الثانية في صلح الورثة امرأة الهالك ولا يخلو صلحهم إياها من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يصالحوها على قدر حقها من التركة أو أقل. والثاني: أن يصالحوها على قدر حقها من غير التركة من أموالهم. والثالث: أن يصالحوها على أكثر من حقها من التركة. فالجواب عن الوجه الأول: إذا صالحوها على قدر حقها من التركة فذلك جائز على الإطلاق وإن اشتملت التركة على عين وحلي؛ لأن ذلك ليس ببيع وإنما أخذت بعضًا ووهبت بعضًا. والجواب عن الوجه الثاني: إذا صالحوها من أموالهم على مثل حقها أو أقل أو أكثر فلا يخلو من أن تكون التركة من جنس ما به صولحت أم لا. فإن كان في التركة من جنس ما به صولحت كان الميت ترك دنانير ودراهم أو أحدهما فصالحت به جنسا لا عينًا لم يجز على الإطلاق؛ لأنه ذهب بذهب وفضة بفضة مع أحدهما سلعة. فإن لم يكن في التركة نظير ما أخذت؛ مثل أن يصالح بدنانير وفي التركة دراهم أو بالعكس فلا يخلو من أن تكون التركة كلها وافرة ليس فيها ديون ولا طعام من بيع ولا شيء غائب، أو يكون فيها أحد هذه الوجوه. فإن كانت التركة كلها حاضرة ولم يكن فيها من الوجوه الثلاثة وجه، فإن كان حظها مما في التركة من العين أقل من صرف دينار فإن ذلك جائز قولا واحدًا؛ لأنها باعت جميع سهم من التركة بما قبضته من العين، فإن

كان حظها منها أكثر من صرف دينار فالمذهب على قولين: أحدهما: المنع، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب"؛ لأن ذلك بيع وصرف. والثاني: الجواز، وهو قول أشهب. فإن كان في التركة أحد هذه الوجوه التي ذكرناها فإن ذلك لا يجوز باتفاق المذهب؛ لأنه إن كان فيها دين وكان ذهبًا والصلح على دراهم أو بالعكس كان صرفًا مستأخرًا، وإن كان من جنس ما وقع به الصلح كان ذلك ذهبًا بذهب أو فضة بفضة مع أحدهما سلعة، وإن كان فيها طعام من بيع منع؛ لأن ذلك بيعه قبل قبضه، وإن كان فيها شيء غائب فلا يجوز أيضا؛ لأن ذلك غرر وخطر. والجواب عن الوجه الثالث: إذا صالحوا على أكثر من حقها من التركة فلا يخلو من أن تكون التركة ذهب وفضة أو فيها أحدهما. فإن كان فيها ذهب وفضة فأخذت أكثر من حقها من أحدهما فلا يخلو من أن تكون حصتها من الأخرى أقل من صرف دينار، أو أكثر. فإن كانت حصتها منها أقل من صرف دينار فلا يخلو من أن يستأصل الجنس الذي أخذت منه أو استأصلت منه. فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك جائز كما لو استأصلته، وهو قول ابن القاسم؛ بناء منه على أن الجنس المأخوذ منه يطرح من الكل، وجعل الزوائد على حقها ثمنًا لحقها في سائر التركة. والثاني: أنه لا يجوز حتى يستأصل جميع الجنس الذي تأخر منه، وهو

قول ابن المواز، بناء منه على أن الذي يبقى من الجنس المأخوذ منه حقها باق فيه؛ لأن لها جزءا في كل عين منه فقد باعت حينئذ ذهبًا بذهب وفضة بفضة مع أحدهما سلعة. فأما إن كانت حصتها من الآخر أكثر من صرف دينار فعلى الخلاف الذي قدمناه؛ فيمنع عند ابن القاسم لأنه بيع وصرف؛ لأن الزائد على حقها فيما أخذت عوض عن حصتها في الجميع؛ وذلك صرف وعوض عن حقها في بقية التركة، وذلك بيع. فإن كان في التركة أحد النوعين ذهب أو فضة فأخذت أكثر من حقها منه وفي التركة عروض فلا مجال للصرف في ذلك وإنما هي امرأة باعت حقها من غير ما أخذت بما زاد على حظها منه فيجوز إن لم يكن هناك طعام من بيع ولا ديون ولا مال غائب، ويراعى في ذلك جميع شروط البيع في الجمة، وذلك بين. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثالثة هل يقتضي المقتضى من مال مشترك بينه وبين غيره

المسألة الثالثة هل يقتضي المقتضى من مال مشترك بينه وبين غيره ولا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يخرج بإذن شريكه. والثاني: أن يخرج بغير إذنه. فإن خرج بإذن شريكه وأعذر إليه في الخروج [] (¬1) وامتنع وأذن له الحاكم بالخروج فلا يخلو ذلك من الدين من أن يكون مما لا يجوز بيعه قبل قبضه أو كان من بيع عين الطعام والإدام فهل يجوز [أن] (¬2) يأذن الشريك لشريكه في اقتضاء نصيبه أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو ظاهر قوله في "الكتاب" حيث قال: غير الطعام والإدام؛ لأن ذلك بيعه قبل قسمته لأن إذنه له في الخروج لاقتضاء نصيبه مقاسمة، والمقاسمة فيه كبيعه قبل قبضه، قاله ابن أبي زمنين وغيره. والثاني: أن ذلك جائز، ولا يكون ذلك بيعه قبل قبضه، وهو قول مالك في "الأسدية". وسبب الخلاف: القسمة هل هي بيع أو تمييز حق؛ فعلى القول بأنها بيع يمنع، وعلى القول بأنها تمييز حق جاز. ¬

_ (¬1) قدر كلمة بالأصل لم أتبينها. (¬2) سقط من أ.

فإن كان مما يجوز بيعه قبل قبضه إما لكونه عرضًا أو عينًا وإما لكونه طعامًا من قرض فلا خلاف أنه يستبد بما اقتضى ولا مدخل لشريكه في ذلك على الغريم أو لم [] (¬1). فإن خرج بغير إذن من شريكه وبغير إعذار من الحاكم، وكان الدين مما يجوز بيعه قبل قبضه هل يختص المقتضى أو للشريك الدخول معه؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن له الدخول معه فيما اقتضى، وهو قوله في "كتاب الصلح" و"كتاب المديان"، وهو قول الغير في "كتاب الجنايات". والثاني: أن المقتضي يختص بما اقتضى ولا يدخل معه فيه الشريك. وهو قول ابن القاسم عن مالك في "كتاب السلم الثاني" من "المدونة" في إقالة أحد الشريكين البائع منهما طعامًا من نصيبه حيث قال: لا يدخل معه شريكه فيما أخذ مع كون الإقالة بيعًا، وهو قول ابن القاسم في أول "كتاب الجنايات" من "المدونة" في العبد إذا قبل رجلا له وليان فعفى أحدهما عن العبد على أن يأخذ حصته ورضي بذلك السيد حيث قال: فإن دفع السيد إلى أخيه نصف الدية تم فعله، وإلا خير العافي بين أن يكون العبد بينهما أو يرده، فإن كان له الدخول مع شريكه فيما قبض شاء أو أبى ما كان يكون الخيار للعافي بل يكون للشريك. قال في القول الثالث: حيث قال سحنون وقد قال أيضا: إن للأخ الدخول مع أخيه في العبد، يؤيد ابن القاسم. فعلى القول بأن الشريك يدخل معه فيما اقتضى فلا يخلو المقتضى من ¬

_ (¬1) قدر كلمة بالأصل لم أتبينها.

أن يقتضي حقه، أو صلاح. فإن اقتضى جميع حقه كان ما اقتضى بينهما بحق الشركة. فإن صالح الغريم فلا يخلو صلحه من وجهين: إما أن يكون بمعنى الحط، أو بمعنى البيع. فإن كان بمعنى الحط؛ مثل أن يأخذ عشرة ويحط أربعين، والدين مائة، فإن رضي القاعد بتسليم ذلك فلا كلام، وإن امتنع من التسليم قاسمه، وفي كيفية القسمة قولان: أحدهما: أنه يقاسمه على ما كان عليه أصل الدين، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الصلح" فيقسمان العشرة أيضًا. والثاني: أنهما يقتسمان العشرة أسداسًا يقدر كأن الدين جميعه ستون دينارًا: للقاعد خمسون وعشرة للخارج، وكأن جميع نصيب الصلح يتحاصان فيه على قدر حقيهما يضرب للخارج بالسدس والقاعد بخمسة أسداس، وهو قول الغير في "كتاب الصلح". وفائدة الخلاف: نقصان كمية نصيب الخارج حتى إذا اقتضى القاعد حقه من الغريم استدرك الخارج أولا ما أخذ منه على كلا القولين. واختلف في المتولي مشقة الاقتضاء على قولين كلاهما عن ابن القاسم: أحدهما: أن القاعد يقتضى جميع حقه ثم يعطى للخارج أول ما أخذ منه كأنه لما انتفع بخروجه تعين عليه حسم الرحيل وتكلف الارتحال في الاقتضاء كما فعله هو، وهو قول ابن القاسم في "كتاب المديان". الثاني: أنهما جميعا يتوليان الاقتضاء؛ فالخارج يرجع على الغريم إما بخمسة على قول، وإما بسدس العشرة على قول، والقاعد يقوم عليه

بجميع حقه إلا ما أخذه من الخارج، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الصلح"، وهكذا قال غيره في "كتاب المديان"، بناء منه على أنه أهدر خروج الخارج أولا بخلوه عن الإذن ورجع القاعد عليه ومقاسمته إياه ما اقتضاه حكمًا شرعيًا. أما إن كان صلحه بمعنى البيع؛ مثل أن يصالحه بعرض والدين عينًا، أو بعين والدين عرضًا فالقاعد بالخيار كما تقدم. فإن قاسمه ما أخذ هل يكون بقية الدين بينهما أم لا؟ على قولين لابن القاسم والغير، وقد قدمناهما: فعلى القول بأنهما جميعًا يتوليان الاقتضاء فإن ما بقى من الدين يكون بينهما. وعلى القول بأن القاعد يتولى الاقتضاء آخرًا فلا يخلو من أخذ من الخارج أولا من أن يكون مما يرجع إلى المثل أو ما يرجع إلى القيمة. فإن كان مما يرجع إلى القيمة فإنه يرد عليه نصف قيمة العرض الذي أخذ منه. فإن كان مما يرجع إلى المثل كالمكيل والموزون هل يرجع عليه بالمثل أو القيمة؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه يرجع عليه بالمثل، وهو ظاهر "المدونة" في غير ما موضع. والثاني: أنه يرجع عليه بالقيمة، وهو ظاهر قوله في "كتاب الصلح" ولاسيما على قول الغير آخر "الكتاب".

وعلى القول بأنه يرجع عليه بقيمة ما أخذ منه فمتى تعتبر قيمته؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يرد قيمته يوم وقع الصلح به، وهو نص قوله في "كتاب الصلح" من "المدونة". والثاني: أنه يرد قيمته يوم أخذه من الخارج، وهذا تأويل أكثر المتأخرين على المدونة، وحملوا قوله يوم صالح على أنه يوم القبض. وهذا كله في تحصيل المسألة، وأما توجيه هذه الجملة وفهمها فنحن الآن خائضون فيه إن شاء الله. وينبغي أن يعلم العالم أن احتصاص المقتضى بما اقتضى من دين مشترك إنما لم يصح على الوجه الذي ذكرنا دفعا للضرر الداخل على الشريك الآخر باختصاص صاحبه عنه بما أخذ من دين هما فيه سواء مع نقصان ما بيد الغريم بما أخذ منه قطعا فأرجعناه وسلطناه حدًا وإبراء لما في ذمة الغريم، وذلك مما يستضر به القاعد المعذور، وهذا التسليط ليس على أن يأخذه منه فرضًا محضًا، يرد عليه المثل إن كان إنما أخذ منه المثل وهم يقولون إنما يرد عليه القيمة، ولو كان ملكا محضًا لما رده [] (¬1) مكيلته وهم يقولون له إذا اقتضى حقه فعلى أن التسليط وفوات السلامة في العقبى. فإذا كان المحذور المعذور المجوز باقتضاء حقه كلاما تعين عليه رد جميع ما أخذ، وإلا فلا؛ إذ لا يختص بحصته التواء فصار فرضًا من وجه وملكًا من وجه، وهذا كما ترى. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) قدر كلمة بالأصل لم أتبينها.

المسألة الرابعة الإقرار بقتل الخطأ

المسألة الرابعة الإقرار بقتل الخطأ فلا يخلو المقر من وجهين: إما أن يصالح الأولياء على مال، أو لا يصالحهم. فإن صالحهم على مال يحصوه عليه فلا يخلو من أن يكون جاهلا بالحكم، أو عالما به. فإن كان جاهلا بالحكم فلا يخلو القتل من أن يكون ببينة، أو بإقرار القاتل بانفراده. فإن كان القتل ببينة كان للقاتل الرجوع على أولياء القتيل بما قبضوه منه حتى يردوه عليه؛ لأن الدية على العاقلة في هذا الوجه باتفاق. فإن كان بإقرار القاتل دون بينة تشهد على معاينته فالمذهب يتخرج على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن الدية على العاقلة ويرجع المقر على الأولياء بما قبضوه منه ويسقط عنه ما بقى، وهذا يتخرج على أحد قولي مالك في "كتاب الصلح" من "المدونة"؛ لأن الدية على العاقلة، ويكون معذورًا بالجهل. والثاني: أن المقر يلزمه ما دفع، وأن ما التزمه يلزمه بالعقد ولا ينتقل عنه إلى العاقلة؛ لأنه التزم ما يلزمه عند بعض العلماء، وفي بعض أقوال مالك في الكتاب أن الدية في مال المقر، على ما سنبينه في الوجه الثاني إن شاء الله، وهذا تأويل أبي عمران الفاسي وغيره على "المدونة".

والثالث: أنه يلزمها دفع وقبض منه، ولا يرجع به على الأولياء ويسقط عنه ما لم يدفع، وهذا تأويل بعض الشيوخ على "المدونة" بناء على أن القبض له تأثير قوي كما لو حكم عليه بدفعه وأن القبض له تأثير فيما اختلف فيه كالديون في الأنكحة المختلف فيها وقبض السلع في بعض البياعات المكروهة عندنا المختلف فيها. فإن كان عالما بالحكم غير جاهل به؛ مثل أن يكون فقيها عالما بما له وعليه صالح الأولياء على مال لكان يدعي أن يلزمه ما التزم ويمضي الصلح في الوجهين قبض ذلك منه أم لا قولا واحدًا، ويبقى النظر فيما دفع إلى أولياء القتيل هل يرجع به على العاقلة أم لا، وذلك يتخرج على قولين: أحدهما: أنه لا يرجع على العاقلة بشيء. والثاني: أنه يرجع بذلك على العاقلة، وإلى هذا أشار بعض المتأخرين. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا أقر بقتل الخطأ ولم يصالح على شيء فلا يخلو من أن يتهم في إقراره أم لا. فإن كان يتهم في إقراره مثل أن يتهم في غيلولة المقتول فلا تلزم الدية العاقلة بإقراره قولا واحدًا، وهل يلزم ذلك المقر في ماله أم لا؟ على قولين: فعلى القول بأن ذلك يلزمه في ماله فهل ذلك بقسامة أو بغير قسامة؟ قولان أيضا. والأقوال كلها قائمة من "المدونة" من "كتاب الصلح والديات": أحدهما: أن الدية على العاقلة بقسامة. والثاني: أن الدية في مال المقر بقسامة، وهو ظاهر قول مالك في

"الكتاب" حيث قال: لا يكون عليه شيء إلا بقسامة، فقيل: معناه جميعها، وهو تأويل ابن لبابة على "المدونة". والثالث: أن الدية في مال المقر بغير قسامة، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الصلح" أيضًا حيث قال: "الدية في ماله"؛ فأطلق، وهو قول المغيرة وعبد الملك. والأقوال الثلاثة عن مالك، لقوله في "كتاب ابن المرابط" وغيره، وقد اختلف الناس في الإقرار بالقتل خطأ عن مالك فالأول رواية ابن القاسم وأشهب. والرابع: التفصيل بين أن تكون له حياة أم لا؛ فإن كانت له حياة فالدية على العاقلة بقسامة، وإن لم تكن له حياة ومات من ساعته فالدية في مال المقر قسامة، وهو تأويل بعض الشيوخ على "المدونة". والخامس: أنه لا يلزمه بإقراره في قتل الخطأ شيء لا على نفسه ولا على العاقلة، وهذا القول حكاه القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب عن مالك بهذا النص، وحكاه ابن ميسر عن ابن القاسم وابن وهب أن العاقلة ولم يذكر إلزامه هو هل يلزمه شيء أم لا؟ والسادس: أن العاقلة لا تقسم بقوله ولا يلزمه من الدية إلا ما يلزمه مع العاقلة لو اقتسموا بقوله، وهو قول ابن دينار، وحكاه ابن سحنون أيضًا عن آخرين من أصحابنا ولم يسمهم، وحكاه ابن الجلاب رواية عن المذهب. وعلى القول بأن الدية على العاقلة بقسامة هل يؤدي معهم المقر أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه كواحد منهم وعليه ما عليهم، وهو تأويل بعضهم عن

مالك في "الكتاب" حيث قال: لا شيء عليه إلا بقسامة، فإذا أقسم الأولياء كان كواحد من العاقلة، وهو نص قول مالك في "كتاب الصلح" من "المدونة" و"كتاب محمد" و"المجموعة"، وهو تأويل أكثر الشيوخ. والثاني: أنه لا شيء على المقر منها، وهو تأويل بعضهم على قول مالك في "المدونة"، وأما معنى قوله في "الكتاب": "كواحد منهم" على الاستحسان. وسبب الخلاف: اختلافهم في إقرار القاتل هل هو كالشاهد على العاقلة أم لا؛ فمن جعله كالشاهد قال: يقسم ولاة الدم بقوله، ومن لم يجعله كالشاهد قال: لا يلزم العاقلة شيء، وهل يلزم ذلك المقر في ماله أم لا؟ فمن نظر أن مقتضى إقراره لا يوجب عليه شيء لا قصاص ولا دية قال: لا شيء عليه؛ لأن إقراره على غيره لا على نفسه، ومن رأى أنه أقر بالقتل وأن ما يدعيه من كونه خطأ تلحقه فيه التهمة قال: أدنى مراتبه أن تكون عليه الدية في ماله، ومن رأى أن ذلك عليه بقسامة فقد لاحظ مجرد الصورة وأن الدية في الخطأ لا تكون إلا بقسامة على الجملة، والحمد لله وحده.

المسألة الخامسة فيمن قتل رجلا له وليان فعفى أحدهما على مال

المسألة الخامسة فيمن قتل رجلا له وليان فعفى أحدهما على مال فلا يخلو من أن يصالح عن جميع الدم أو حصته، فإن صالح عن جميع الدم فلا يخلو ما صالح به من أن يكون مثل الدية فأكثر أو أقل منها. فإن صالح عن جميع الدم بمثل الدية فأكثر فذلك جائز لازم للورثة لا خروج لهم عن صلحه، ويقتسمون ذلك للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن صالح على أقل من الدية فذلك لازم في خاصة نفسه، ويكون له مما صالح به مقدار حقه ويسقط ما بقي عن القائل، ويكون لبقية الورثة حقوقهم على حسب الدية الكاملة، وصورها في الكتاب على أن المقتول ترك ابنين وبنتًا، فإذا صالح أحد الابنين بما ذكرنا كان له الحصتان من ذلك، ويرجع الأخ والأخت الباقيان بثلاثة أخماس الدية كاملة تكون بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، وليس للمصالح أن يضم حصته بما صالح إلى ما أخذ الأخ والأخت من حساب الدية الكاملة فيقسم معهما إلا برضاهما؛ لأنه قد رضي بنقصان حقه. فإن صالح عن حصته من الدم خاصة فلا يخلو من أن يصالح على أكثر من حقه من الدية أو على أقل. فإن صالح على أكثر من حقه من الدية، مثل أن يصالح لنفسه على الدية فأكثر فذلك جائز، واختلف هل لبقية الورثة الدخول معه فيما صالح به أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يدخل معه من بقى من الورثة فيما صالح به، وإنما

سلطانهم علي القاتل فيرجعون عليه على حساب الدية، وهو قول الغير في "كتاب الصلح"، وقول ابن القاسم في "كتاب الجنايات" من "المدونة". والثاني: أن لهم الدخول معه، وهو قول ابن القاسم في الدين في "كتاب الصلح"، وأحد قوليه أيضا في الدم في "كتاب الجنايات". وعلى القول بأن بقية الورثة لا يدخلون مع المصالح فيما به صالح وأن سلطنتهم على القائل فهل يجبر على أن يدفع لهم سهامهم على حساب الدية أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا يجبر علي أن يدفع حقوقهم من الدية، ولا سبيل لهم إلى القتل، وهو قول ابن القاسم والغير في "كتاب الصلح" من "المدونة". والثاني: أن القاتل لا يجبر وأنه مخير إن شاء دفع وإن أبى رجع الخيار إلى الذي صالح من الأولياء إن شاء شاركهم فيما أخذوا وإن أبى انتقض الصلح ويكون لهم القتل إن شاؤوا، وهو قول ابن القاسم في أول "كتاب الجنايات" من "المدونة". وينبني الخلاف على الخلاف في القاتل هل يجبر على دفع الدية إن شاء أولياء القتيل أو ليس لهم إلا القتل أو العفو؟ فعلى القول بأنه يجبر على الدفع أو تطوع بالدفع على القول الآخر، فإذا اقتضوا منه حقوقهم على حساب الدية فإنهم يضمونه إلى ما صالح به أخوهم ثم يقتسمون الجميع للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو قول أشهب في "كتاب الصلح" من المدونة، وهو تفسير لقول ابن القاسم وهو صحيح. وقد أشار سحنون إلى أن قول أشهب مخالف لقول ابن القاسم حيث

قال في غير "المدونة": "وقول أشهب وعلي خير من قول ابن القاسم" يعني: علي بن زياد، وهو الغير الذي قال في "الكتاب": إن صالح من حصته على أكثر من الدية أو على عرض قل أو كثر على ما ذكره بعض المحققين فإن صالح من حصته على أقل من حقه من الدية فلبقية الورثة أيضا الرجوع على القاتل بحقوقهم على حساب الدية يقسم بينهم على فرائض الله، وليس لذي صالح أن يضم ما صالح به إلى ما أخذه أصحابه في هذا الوجه؛ لأنه قد رضي بإسقاط بعض حقه عن القائل، ثم ليس له أن يدخل على أصحابه الضرر في نقصان حقوقهم؛ ولهذا قال في "الكتاب": إذا قتل رجل عمدًا وترك ابنين وبنتا فصالح أحد الابنين على أقل من خمس الدية فليس له غيره، ويرجع الأخ والأخت على القائل بثلاثة أخماس الدية. والحمد لله. ومسألة موضحة العمل وموضحة الخطأ أخرناها إلى "كتاب الشفعة" إن شاء الله تعالى؛ لأن ذكرها هناك أجدر وفروعها في الكتاب المذكور أكثر، والحمد لله وحده.

كتاب تضمين الصناع

كتاب تضمين الصناع

كتاب تضمين الصناع تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ست مسائل: المسألة الأولى في تضمين الحائك المتعدي ولا يخلو في تعديه من وجهين: إما أن ينقص مما كلف له، وإما أن يزيد عليه. فإن نقصه؛ مثل أن يدفع له غزلًا ينسجه بسبعة في ثمانية، فينسج له بستة في سبعة، فالخيار لصاحب الثوب إن شاء ضمنه، وإن شاء أخذ ما وجد. والكلام في هذه المسألة في ثلاثة مواضع: أحدها: إذا اختار التضمين، هل يضمن الحائك قيمة الغزل أو يضمن مثله؟ والثاني: هل تنفسخ الإجارة بينهما أم لا؟. والثالث: إذا اختار أخذ الثوب، فهل عليه جميع الأجرة أو بحساب ما عمل؟ فالجواب عن الموضع الأول: إذا اختار التضمين ما الذي يضمن الحائك؟ لمذهب على قولين منصوصين في "الكتاب". أحدهما: أنه يضمن قيمة الغزل، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يضمن المثل، وهو قول غيره، ووجهه عند غيره من قبيل الموزون، ومن أتلف موزونًا فعليه مثله؛ لأنه من ذوات الأمثال لا من

ذوات القيم. ووجه قول ابن القاسم. والثاني: أن الغزل من ذوات القيم كالثوب المنسوج منه، ولا احتفال يكون الغزل منسوجًا كما لم ينظر إلى تماثله من جهة [] (¬1) وعدل فيه إلى القيمة حتى يتحقق الضبط، ويحقق الخيط؛ فكذلك لا اكتراث بكون الغزل موزونًا؛ لأن التماثل يتعذر لاختلاف أصله. واختلف إذا وجد مثل الغزل، وقدر على نظيره على قولين: أحدهما: أن الواجب القيمة على كل حال؛ لأن الغزل لا يكاد يتساوى في الغلظ والرقة والضعف والقوة، وإن وجد المثل كان نادرًا، والنادر يعطى له حكم غالب على مشهور مذهبنا؛ إذ القواعد لا تنقض بعد تأسيسها بآحاد المسائل، وهذا تأويل بعض المتأخرين، وهو الأظهر في النظر. والثاني: أن ابن القاسم إنما تكلم في الغالب، وأنه إذا وجد المثل قضى له به، ويكون عليه أن ينسجه ثمانية بالأجرة الأولى، وهو قول ابن حبيب تأويلًا على ابن القاسم. والجواب عن الموضع الثاني: في الإجارة، هل تنفسخ بينهما أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من المدونة: أحدها: أن الإجارة تنفسخ بينهما، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أن الإجارة ثابتة بينهما، وهو قول أصبغ، وهو ظاهر قول الغير في "الكتاب". ¬

_ (¬1) قدر كلمة بالأصل لم أتبينها.

والثالث: التفصيل بين أن يريده للباسه، فتنفسخ الإجارة [] (¬1) فهي ثابتة، فلا تنفسخ بينهما، وهذا القول حكاه اللخمي، ولم يسم قائله. وينبني الخلاف: على الخلاف الذي قدمناه في الغزل التالف يقضي له فيه بالمثل أو بالقيمة على قولين. فعلى القول بالقيمة فتنفسخ بينهما؛ لأنه غزل معين، فإذا ذهب العين بطل العقد المختص به كرضاع الصبي، وتعليم الغلمان. وعلى القول بالمثل فلا معنى للفسخ؛ لأن مثل الشيء كعينه. والجواب عن الموضع الثالث: إذا اختار أخذ الثوب، هل عليه جميع الأجرة أو بحساب ما عمل؟ على أربعة أقوال: أحدها: أن عليه جميع الأجرة، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أن له من الأجرة بحساب ما عمل، وهو قول الغير في "الكتاب" حيث قال: ينظر إلى أجرة مثله فيما شرط وأجرة مثله فيما عمل، ويسقط ما بينهما من المسمى. والثالث: التفصيل بين أن يدخل في جميع الغزل، فيكون له جميع الأجرة كما قال ابن القاسم، أو يدخل فيه بعضه فيكون كما قال غيره، وهو تأويل بعض المتأخرين على ما نقله اللخمي. والرابع: أن معنى قوله: "إن له الأجر كله" أي: ما ينوب ذلك من المسمى لا أنه يرد إلى إجارة المثل كما ثبت عليه قول الغير، وهو تأويل بعضهم أيضًا. وسبب الخلاف: هل ذلك من قبيل العيوب، أو ذلك من قبيل ¬

_ (¬1) مقدار كلمتين أو ثلاثة بالأصل لم أتبينها.

النقص، فمن رأى أنه من قبيل العيوب قال: يغرم جميع الأجرة؛ لأنه مخير بين أن يضمن الحائك، أو يأخذ ثوبه، وهذا حكم العيوب، ومن رأى أنه من قبيل النقص قال: إنه يكون له من الأجر بقدر ما عمل. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: وهو أن يزيد على ما كلفه، فإن الجواب ينعكس على ما كان عليه في الوجه الأول؛ فعلى قول ابن القاسم أنه لا شيء له، وعلى قول الغير يكون له الأجر كاملًا، وفيه قول ثالث بالتفصيل بين العامد والغالط؛ فإن تعمد فلا أجرة له، وإن غلط له الأجرة، وهذا القول لبعض المتأخرين، والحمد لله وحده.

المسألة الثانية في تضمين الصناع والأجراء وغيرهم ممن يقبض مال غيره

المسألة الثانية في تضمين الصناع والأجراء وغيرهم ممن يقبض مال غيره ولا يخلو قابض المال من وجهين: إما أن يقبضه بإذن ربه، أو بغير إذن ربه. فإن قبضه بغير إذنه، فلا كلام فيه؛ لأنه متعد، وهو ضامن بالتعدي. فإن قبضه بإذنه فعلى وجهين: إما أن يقبضه على وجه التمليك المؤبد أو على غيره. فإن كان على وجه التمليك المؤبد؛ مثل أن يشتريه شراء فاسدًا، أو صحيحًا، أو يوهب له، أو يتصدق به عليه، فهذا لا خلاف في المذهب أيضًا أن ضمانه على تفصيل في البيع الفاسد، وقد قدمناه في موضعه. وأما إن قبضه على غير وجه التمليك، فذلك على ثلاثة أوجه: إما أن يأخذه لمنفعة نفسه على الخصوص، أو لمنفع ربه على الخصوص، أو لمنفعتهما معًا. فإن قبضه لمنفعة نفسه على الخصوص، فلا يخلو من أن يقبضه لينتفع به أو يرد بدله، أو لينتفع به، ويرد عينه. فإن قبضه لينتفع به ويرد بدله كالقرض فهو ضامن على كل حال. فإن قبضه لينتفع به ويرد عينه كالرهن والعارية فهذا يضمن ما يغاب عليه إلا أن تقوم بينة أن التلف بغير سببه، ولا ضمان عليه إلا أن يثبت أن التلف من جهته. وأما إن قبضه لمنفعة ربه على الخصوص فلا ضمان عليه فيه -كان مما

يغاب عليه أم لا، قبضه على التصرف كالصناع، أو على غير التصرف فيه كالودائع. فإن قبضه لمنفعتهما معًا، فإنه يغلب منفعة رب المال، ويصدق القابض -كان مما يغاب عليه أم لا، قبضه على التصرف فيه كالقراض، أو على غير التصرف فيه كالشيء المستأجر لينتفع به، أو كالشيء المستأجر عليه على حمله أو رعايته أو على استعماله- إلا في مسألتين: الصانع المتصدي، والأجير على حمل الطعام. وأما الأجير على حمل الطعام، فإنه يضمن إذا ادعى التلف لما يعلم بالعادة لتسارع الأكرياء من مد اليد إلى تفويت الطعام مع غيبة المالك حتى إذا قامت البينة أن الضياع من غير سبب المكري، أو كان رب الطعام صحبته فلا ضمان عليه في تلك الحال على ما سنزيده وضوحًا وبيانًا في "كتاب الرواحل والدواب". وأما الأجير المتصدي في الأسواق، والمتصدي للعمل بالأجرة للعام والخاص فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يدعي ضمان ما أخذ، وإما أن يدعي رده، وإما أن يختلف مع ربه في صفة العمل. فالجواب عن الوجه الأول: إذا ادعى ضمان ما أخذوا فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يغيب على عمل يعمله في داره أو في حانوته، وإما أن يعمله بحضرة صاحبه، وإما أن [يدعوه] (¬1) رب الشيء إلى داره، فيعمله عنده. أما إذا غاب على العمل في بيته أو في حانوته ثم ادعى ضياع ما أخذ فلا يخلو من أن تقوم له بينة على الضياع أم لا. ¬

_ (¬1) في أ: يدعيه.

فإن قامت له بينة على الضياع، فهل يضمن أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا ضمان عليه، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه ضامن؛ قياسًا على قول أشهب في الرهان، والعواري أنه ضامن مع قيام البينة. فإن لم تقم البينة على التلف، فلا خلاف في المذهب أنه ضامن، وأن تضمين الأجراء، والصناع المنتصبين مصلحة للعامة؛ لأن بهم إلى الاستعمال مشقة بأجرة أو مضرة حافزة، فلا يتأتى في العامة منصبًا للخياطة، والحياكة، والقصارة، فاقتضت المصلحة تضمينهم سواء عملوه بأجر، أو بغير أجر. فإن اشترط الصانع إسقاط الضمان، وأنه مصدق في الضياع، هل يوفى له بشرطه [أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يوفى له به] (¬1) وهو قول مالك، وابن القاسم في "الموازية" وغيرها. والثاني: أنه يوفى له به، وهو قول أشهب. وعلى القول بأنه لا يوفى له بشرطه، هل يفسخ الشرط والإجارة أم لا؟. فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الإجارة والشرط باطل. والثاني: أنه إن أسقط الصانع الشرط صحت الإجارة، وإن تماسك به ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فسخت إن لم يعمل، فإن عمل كان له الأكثر من المسمى أو إجارة المثل. والثالث: أن الإجارة فاسدة، ويفسخ مع القيام، وإن أسقط الصانع الشرط، ويكون له مع الفوات أجرة المثل -قلت أو كثرت- قياسًا على قول مالك إذا استؤجر على رعاية غنم، وعلى أنه غير مصدق فيما هلك حيث قال: الإجارة فاسدة وله أجرة، ولا فرق بين إسقاط الضمان فيما فيه الضمان، أو وجوب الضمان فيما لا ضمان فيه. وهذا الخلاف ينبني على الخلاف الذي قدمناه في بياعات الشروط. وأما إذا عمله بحضرة صاحبه في حانوت نفسه، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قول الصانع ولا ضمان عليه، وهو قول ابن المواز، وهو ظاهر قول مالك في "المدونة" في "كتاب الجعل"، والإجارة في الطعام المستأجر على حمله إذا كان معه صاحبه. والثاني: أنه ضامن كما عمله بغير محضر من صاحبه، وهو قول ابن حبيب في كتابه. وسبب الخلاف: هل يغلب كون الصانع مشتركًا بصنعته في حانوت نفسه، أو يعتبر حضور صاحب الشيء معه، وملازمته إياه؛ فكأنه لم يأمنه على متاعه، وأما إن دعاه إلى داره ليعمله عنده كان القول قول الصانع إذا ادعى التلف، وسواء حضر صاحب المتاع في حين التصنيع عنده، فهو المصدق؛ لأنه هاهنا أجير خاص لمن استعمله في داره، وليس بأجير مشترك حتى إذا جلس في حانوت نفسه يكون عند ذلك أجيرًا مشتركًا، وهو قول ابن القاسم ومالك في "الكتاب". والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا ادعى الصانع رد ما أخذ للعمل فلا يخلو من أن يدعي رده إلى ربه، أو ادعى دفعه تصادقا

على أنه أمره بدفعه إليه. فإن ادعى الصانع الرد إلى رب الشيء، وينكر هو أن يكون قد قبضه، فهل يكون القول قول الصانع أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قول صاحب الشيء، والصانع مدع [] (¬1) وابن القاسم في "المدونة". والثاني: التفصيل بين أن يقبضه ببينة فلا يقبل دعواه الرد إلا ببينة [] (¬2) بينة، فيقبل قوله في الرد، وهو قول عبد الملك في "كتاب ابن حبيب"؛ فأجراه على حكم الودائع، وقول [] (¬3) وسواء عنده قبضه ببينة أو بغير بينة إلا أن يقيم البينة على الرد. فإن ادعى الدفع إلى غير [] (¬4) وقد تصادقا على الإذن بالدفع إليه؛ مثل أن يأذن الخياط أن يسلم الثوب بعد الفراغ لغسال، أو صباغ [] (¬5) بالدفع إليه من أن يصدقه على القابض أو يكذبه. فإن صدقه في القبض والدفع، وادعى الضياع [] (¬6) فلا يخلو القابض الثاني من أن يكون منتصبًا أو غير منتصب. فإن كان منتصبًا فإنه يكون ضامنًا إلا [] (¬7) على التلف. ¬

_ (¬1) قدر كلمة بالأصل لم أتبينها. (¬2) غير واضحة بالأصل. (¬3) غير واضحة بالأصل. (¬4) غير واضحة بالأصل. (¬5) غير واضحة بالأصل. (¬6) غير واضحة بالأصل. (¬7) غير واضحة بالأصل.

فإن كان غير منتصب، فهل يقبل قوله أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن القابض الأول ضامن [] (¬1) وقوله في الضياع مقبول بعد يحلف الصانع لقد سلمه إليه، ويحلف الآخر لقد ضاع منه، والقولان [] (¬2) وغيره في المذهب. فإن كذب المأمور له بالدفع بالقبض، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قول الصانع، وهو قول ابن حبيب. والثاني: أن القول قول المأمور بالقبض. والصانع ضامن لوجهين: أحدهما: أنه لا يقبل قوله [] (¬3) لا يقبل قوله في تسليمه إلى آخر. والثاني: أنه لا يقبل قول المودع في تسليم الوديعة إلى يد آخر، وفي هذا [] (¬4) قوله. والجواب عن الوجه الثالث: إذا اختلف الصانع ومن استأجره في صفة العمل؛ مثل أن يستأجره على أن ينسج له سبعة في ستة، وقال الصانع: بل ستة في خمسة، أو اختلفا في الخياطة، فقال أحدهما: عربية، وقال الآخر؛ رومية، أو اختلفا في الصبغ، فقال أحدهما: أحمر، وقال الآخر: أخضر، فلا يخلو من أن ينفرد أحدهما بالأشبه أو يشتركا فيه. فإن انفرد أحدهما بالأشبه؛ مثل أن يكون الصانع [] (¬5) واحدًا، فالقول قول مدعيه من صانع أو صاحب العمل مع يمينه قولًا واحدًا. ¬

_ (¬1) غير واضحة بالأصل. (¬2) غير واضحة بالأصل. (¬3) غير واضحة بالأصل. (¬4) غير واضحة بالأصل. (¬5) غير واضحة بالأصل.

فإن ادعى بكل واحد [] (¬1) أو لم يدعه واحد منهما لكون الصانع ممن يعمل الصنفين أو ادعى الصانع نوعًا لا يعمل مثله في [] (¬2) وادعى رب العمل نوعًا لا يعمله الصانع ولا يحسنه، وكان اختلافهما بعد فوات العمل فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من المدونة: أحدها: أن القول قول الصانع أنه لم يتعد، وأن الإجارة كانت [] (¬3) ويسقط عنه حكم التعدي ويستحق المسمى من الإجارة، وهو قول مالك. والقول الثاني: [] (¬4) الصانع في طرح العداء، والقول قول صاحب الثوب في الأخذ، ويكون عليه الأقل من المسمى أو أخذ [] (¬5) لا أن يكون المسمى الأقل فلا يمين عليه، وإن أحب الصانع أن يبقى معه شريكًا بالصنعة كان ذلك له، وهو قول [] (¬6). والقول الثالث: أن القول قول صاحب الثوب مع يمينه أنه لم يستأجره على ذلك، ويضمنه قيمة الثوب إن أحب، وهذا القول يؤخذ من "كتاب الوكالات" من "المدونة" من أحد قولي مالك في الوكيل يشتري تمرًا، ويقول: بذلك أمرتني، وقال الآمر: أمرتك بقمح، فقد قال ابن القاسم عن مالك: القول قول الآمر، وكلاهما أمينان؛ هذا أمين على ما يشتريه، وهذا أمين على ما يصنعه، وهو في الصانع أبين إلا أن يقبل قوله؛ لأنه بائع لصنعته ومنافعه؛ فكان القول قول المشتري أنه لم يشتر منه شيئًا [والحمد لله وحده] (¬7). ¬

_ (¬1) غير واضحة بالأصل. (¬2) غير واضحة بالأصل. (¬3) غير واضحة بالأصل. (¬4) غير واضحة بالأصل. (¬5) غير واضحة بالأصل. (¬6) غير واضحة بالأصل. (¬7) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثالثة في تضمين الصناع بالشك

المسألة الثالثة في تضمين الصناع بالشك اعلم -أرشدك الله- أن هذه الترجمة تشكل على المستطرف صورتها، وعلى الشادي حقيقتها؛ فالأولى صرف العناية إلى شرحها ليزول الإشكال عنها، وبيان ذلك في ثلاث صور: أحدها: أن يعلم أصل السبب نفسه. والثانية: إذا أشكل السبب. والثالثة: أن يتيقن السبب نفسه، ويشكل وجهه. فالجواب عن الصورة الأولى: إذا علم السبب وجهل تناوله المجمل المتداعى فيه، مثل أن يسرق بيت الصانع أو يحترق، أو تغرق مركبه، وادعى الصانع حضور الثوب في تلك الواقعة، فلا يخلو من أن يثبت ذلك ببينة أم لا. فإن لم يثبت ذلك ببينة، ولا كان إلا مجرد دعواه، فإنه يضمن قولًا واحدًا في المذهب. فإن ثبت ذلك ببينة عاينت الثوب في النار حتى احترق أو حتى سرق، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا ضمان على الصانع، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: التفصيل بين السرقة والحريق؛ فيضمن في الحريق دون السرقة، وإن عاينت البينة الثوب في النار؛ لاحتمال أن يكون من سببه،

وهو قول مالك في "الموازية". ووجه قول ابن القاسم: أن النار غالبة فاعلة بنفسها؛ فأشبهت الفأر والسوس. ووجه قول مالك: أن النار سببها الإنسان وهو موقدها، وإن إحراقها يحتمل أن يكون لأجل تصرفه بها، فيسقط منها ما أحرق، أو لكونه أوقدها بقرب ما أحرقت. والجواب عن الصورة الثانية: إذا أشكل السبب؛ مثل أن يأتي بالثوب وبه أثر مبهم، فيدعي أنه من قرض فأر، أو حرق نار، ولم يتبين ذلك للناظر فيه، فإنه لا يضمن قولًا واحدًا في المذهب فيما علمت. والجواب عن الصورة الثالثة: إذا تيقن السبب نفسه، وأشكل وجهه كالفران يأتي بالخبز محروقًا فيدعي أنه مغلوب، أو يرى الثوب في النار، ولم يعلم هل السبب اختياري أو اضطراري، أو يرى في الثوب قرض، ولم يعلم هل صنع أم لا، أو غير ذلك مما تبقى فيه وجوه السبب، وعلم عينه، فهل يثبت الضمان أو يسقط؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: إثبات الضمان عليهم تمسكًا بالأصل حتى يتبين خلافه، وهو قول مالك في "الكتاب" في قرض الفأرة. والثاني: نفى الضمان عليهم لوضوح نفس السبب؛ إذ لا يثبت التعدي بالدعوى، وهو قوله في "الكتاب" في احتراق الخبز عند الفران، وبه قال ابن حبيب [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الرابعة في الصانع يدفع الثوب إلى غير ربه غلطا، أو البائع يدفع غير الثوب إلى المشتري غلطا

المسألة الرابعة في الصانع يدفع الثوب إلى غير ربه غلطًا، أو البائع يدفع غير الثوب إلى المشتري غلطا أما السؤال الأول: إذا دفع غير الثوب إلى غير ربه غلطا: معناه إذا دفع إلى كل واحد منهما غير ثوبه، فلا يخلو حالهما من أربعة أوجه: إما أن يلبساهما جميعًا، أو لا يلبساهما جميعًا، أو لبس أحدهما دون الآخر. أو فصل أحدهما الثوب الذي أخذ، وقد لبس الآخر ولم يلبس. فأما الوجه الأول: إذا لبس كل واحد منهما الثوب الذي أخذ فلا يخلو لباسهما من أن يكون لباسًا ينقص تلك الثياب أو لا. فإن كان لباسًا لا يؤثر في نقصان الثياب ليسارته، فكل واحد منهما يأخذ ثوبه، ولا شيء لواحد منهما على صاحبه، ولا على الصانع. فإن كان لبساهما لبسًا يؤثر في نقص الثياب فلا يخلو من أن يكونا عالمين، أو جاهلين، أو أحدهما عالم، والآخر جاهل. فإن كانا عالمين ولبس كل واحد منهما ثوب صاحبه وهو يعلم، وإن اختلف نقصان ذلك رجع من له الفضل على صاحبه، وإن لم يكن في القيمة فضل فلا شيء لواحد منهما على صاحبه. فإن لبسا ولم يعلما، فإن كان بينهما فضل رجع بذلك من له الفضل على الصانع، وهو قول سحنون على ما نقله الشيخ أبو محمَّد. فإن علم أحدهما وجهل الآخر، فإن الجاهل يرجع على العالم بما نقص اللبس من ثوبه؛ لأنه هو المباشر إن كان موسرًا، وإن كان معسرًا رجع على الصانع ثم يتبع الصانع ذمة اللابس بذلك، والعالم يرجع على

الصانع بقيمة ما انتقص من ثوبه في اليسر والعسر، ولا شيء له على الجاهل؛ لأنه لبس بوجه شبهة. فإن تلف الثوبان عندهما جرى على التفصيل الذي قدمناه في العلم وعدمه؛ فإن علما رجع من له الفضل على صاحبه مع اليسر، ومع العسر يرجعان على الصانع بالفضل. فإن جهلا فالصانع خاصة يتبع بالفضل. وإن تلف أحدهما وبقى الآخر فعلى هذا التفسير. وهذا رواية ابن القاسم، وأشهب عن مالك في "الموازية"، وبه قال ابن الماجشون. وظاهر قول أشهب في "الموازية" خلاف روايته؛ وذلك أنه قال: فإن لبساهما حتى أخلقاهما ضمن كل واحد قيمة الثوب الذي لبس يغرمها لربه، وإن لم يخلقاهما فعلى كل واحد منهما ما نقص لبسه من الثوب الذي لبسه هو، ولا شيء على الصانع، فإن كان أحدهما عديمًا رجع صاحب الثوب على الصانع، وظاهره ألا فرق بين العلم وعدم العلم، والله أعلم. وأما الوجه الثاني: إذا لم يلبساهما فلا يخلو من أن يكونا قائمين، أو فائتين. فإن كانا قائمين، فإن كل واحد منهما يرد الذي عنده، ويأخذ متاعه. فإن كانا فائتين فلا يخلو من أن يكون فواتهما بسبب سماوي أو بسبب آدمي. فإن كان بسببه فعلى ما قدمناه في فضل اللباس. فإن كان بسبب سماوي، فالتفصيل بين العلم وعدمه؛ ففي العلم يكون مراجعة بينهما مع اليسير ولا شيء لها على الصانع إلا في عسرهما

أو عسر أحدهما، وفي الجهل قولان: أحدهما: كالعلم على ظاهر قول أشهب. والثاني: مراجعتهم على الصانع خاصة، وكل واحد منهما يتبعه بقيمة ثوبه. وأما الوجه الثالث: إذا لبس أحدهما دون الآخر فعلى التفصيل والتحصيل الذي قدمناه؛ فإذا لبسا أو لم يلبسا، وقد علما أو جهلا؛ فلا فائدة للتكرار. وأما الوجه الرابع: إذا فصل أحدهما الثوب الذي أخذ وقد لبس الآخر، أو لم يلبس: أما اللباس فقد تقدم حكمه، وأما التفصيل إذا فصل أحدهما الثوب الذي أخذ من عند القصار مثلًا وخاطه فلا يخلو ما أحدث فيه الآخر من أن يكون قد زاد في ثمنه، أو نقص منه. فإن زاد في قيمة الثوب فصاحب الثوب بالخيار أن يدفع أجرة خياطته، ويأخذ ثوبه، ويعطي القصار الأجرة، ولا يرجع عليه بأجرة الخياطة، فإن أبى أن يدفع أجرة الخياطة فقد اختلف فيه على قولين: أحدهما: أن الخيار للذي خاطه بين أن يعطيه قيمته صحيحًا، أو يسلمه بخياطته على قولين: أحدهما: أن الخيار للذي خاطه بين أن يعطيه قيمته صحيحًا، أو يسلمه بخياطته، فإن أسلمه كان صاحب بالخيار بين أخذه أو تركه، ويضمن القصار، وهذا قول ابن القاسم في "المدونة"، و"الموازية" وغيرهما. ويخيره الخياط بين غرم قيمته، أو يسلمه مخيطًا، ووقع في بعض روايات المدونة من رواية عبد الجبار.

والثاني: أن رب الثوب إذا دفع أجر الخياطة فليس له إلا تضمين القصار، فإن ضمنه قيل للقصار: ادفع أجر الخياطة إلى الذي خاطه وخذه، فإن أبى قيل للآخر: ادفع إليه قيمة الثوب، فإن أبي هل يكونا شريكين أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنهما يكونا شريكين، وهو قول سحنون في أن رب الثوب ليس له إلا تضمين القصار إذا أبى من دفع أجر الخياطة، وفي أن القصار والخياط يكونان شريكين. والثاني: أنهما لا يكونان شريكين، وأن القصار إذا ضمنه رب الثوب، فلا مراجعة بينه وبين الخياط، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". وقول سحنون وقع في بعض روايات المدونة، وهو منصوص في كتب المذهب. فإن كان ما أحدث فيه نقص من ثمنه، واختار ربه أخذه هل يغرم أجر الخياطة أم لا؟ على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه لا يأخذها حتى يغرم أجر الخياطة جملة، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: التفصيل بين أن تنقصه الخياطة أو لا تنقصه؛ فإن نقصته فإن له أجرة ولا غرم عليه للخياطة، وهو قوله في بعض روايات "المدونة"، وهو قول مشهور في "كتاب محمَّد" وغيره، والثاني أنه لا شيء في الخياطة، وإن زادت قياسًا على أحد القولين فيمن استحق حبه وقد طحن أنه له أخذه ولا شيء على المستحق؛ لأن الطحن والخياطة ليسا بصنعة أضيفت إليهما كالصبغ.

فإن قطعه ولم يخطه حتى تفطن له، وقد نقصه القطع هل يغرم للقاطع ما نقصه القطع إذا اختار ربه أخذه مقطوعًا أم لا؟ على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه لا شيء له على القاطع -زاد أو نقص- وهو قول ابن القاسم. ووجهه أنه لما كان قادرًا على أخذ قيمته من القصار صحيحًا، ولا يكون للقصار على القاطع شيء؛ لأنه سلطه على القطع، ووجب أن يتنزل رب الثوب منزلة القصار. والثاني: أن للقصار أن يضمنه قيمة القطع قياسًا على قول محمَّد في "الكتاب" فيمن اشترى ثوبًا، فأعطاه البائع غيره فقطعه المشتري أن عليه قيمة القطع يريد: لأن البائع سلمه، وهو يرى أنه مجبور على تسليمه؛ وكذلك القصار كأنه مجبور على التسليم. والثالث: أنه لا شيء على القاطع، وإن كان القصار عديمًا؛ قياسًا على أحد القولين فيمن اشترى عبدًا فقتل رجلًا خطأ أن له أن يرده بالعيب، ولا شيء عليه من دية المقتول. فعلى القول بأنه لا شيء عليه من قيمة القطع، فإن اختار تضمين الخياط قيمة ثوبه، هل يغرم قيمته صحيحًا أو مقطوعًا؟ على قولين: أحدهما: أنه يغرم قيمته صحيحًا، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب"، وهذا مخالف لقوله: إنه لا يغرم لنقص القطع. والثاني: أنه يغرم قيمته مقطوعًا، وهذا القول موافق لقوله لا يغرم للقطع شيئًا، والله أعلم. والجواب عن السؤال الثاني: في البائع يدفع غير الثوب الذي باع

غلطًا، فلا يخلو الثوب من أن يكون قائمًا بيده، أو فائتًا. فإن كان قائمًا بيده، فإنه يرده، ويأخذ الذي اشترى. فإن فوته المشتري بالقطع أو غيره، فلا يخلو الثوب الذي أخذ منه المشتري من أن يكون أعلى من الثوب الذي اشترى أو دونه. فإن كان أعلى، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يكون للمبتاع بثوبه، وهي رواية أشهب عن مالك في "العتبية"، وقال مالك في العتبية؛ لأنه يقول أردت ثوبًا بدينارين، ولم أرد ثوبًا بعشرين. والثاني: أن للبائع أخذ الثوب مقطوعًا بلا غرم، ويدفع للمشتري ثوبه الذي اشتراه، وهو قول ابن ميسر في "العتبية" وهو قول مالك، وابن القاسم في "المدونة" ولم يفصل. فإن كان الثوب الذي أخذ منه المشتري دون الثوب الذي اشترى، فالمبتاع مخير بين أن يرده، ويأخذ ثوبه، أو يتماسك؛ فإن اختار رده وقد نقصه القطع هل يرد معه ما نقصه القطع أم لا؟ على قولين قائمين من "الكتاب": أحدهما: أنه يرده، ولا شيء عليه في القطع؛ لأن القطع ليس بزيادة ولا نقصان، وهو قوله في "المدونة". والثاني: أنه يرد معه ما نقص القطع، وهو قول مالك في "العتبية". فإن اختار التماسك، هل يغرم قيمته يوم القطع أو يوم أخذه؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يغرم قيمته يوم أخذه، والقولان لمالك في "العتبية".

فإن اختار التماسك فله أن يأخذ ثوبه الآخر الذي اشترى، وله أن يتركه؛ لأنه يقول: إنما أردت ثوبًا، ولم أرد ثوبين، وهكذا قال مالك في "العتبية". واتفقوا إذا خاطه بعد القطع، واختار الرد أن صاحبه البائع لا يأخذه حتى يغرم أجر الخياطة، والخلاف فيما نقصه القطع هل يغرمه المشتري أو لا يغرمه؛ يبنى على الخلاف في المخطئ في مال نفسه، هل هو كالمخطئ في مال غيره أم لا؛ فمن رأى أنه كالمخطئ في مال غيره، فقال: يغرم المشتري ما نقصه القطع، وليس خطأ المشتري بالذي يضع عنه أرش تلك الجناية، وإن كانت قد استندت إلى إذن المالك غير أن ذلك الإذن صدر على وجه الخطأ لا على وجه الإذن والرضا المحض؛ لأن ذلك منه ظن أن الثوب للمشتري، ومن رأى أنه ليس كالمخطئ في مال غيره، قال: لا يلزم المشتري ما نقصه القطع؛ لأن البائع سلطه على القطع بتسليمه الثوب إليه. وقد وقع في المدونة مسائل تنبني على هذا الأصل منها: قوله في "كتاب المرابحة" فيمن اشترى بمائة وعشرين ثم أخطأ، فباع بمائة وعشرة مرابحة، وفاتت السلعة بيد المشتري، فقال ابن القاسم: له قيمة سلعته ما لم تكن أكثر من مائة وعشرين وربحها أو أقل من مائة وعشرة يربحها، فجعله في هذه المسألة كالمخطئ في مال غيره. وله في "كتاب الوكالات" خلاف هذا في الذي دفع إلى رجل مائة دينار يشتري له بها جارية، فاشترى جارية [بمائة] (¬1) وخمسين فأخطأ فلم يخبره بزيادة الخمسين حتى أجلها الآمر، فقال ابن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

القاسم: لا شيء للمأمور في ذلك فأخذه بخطئه، ولم يجعله كالمخطئ في مال غيره، وقال سحنون: هي كمسألة المرابحة [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الخامسة في الحكم بين أهل الذمة

المسألة الخامسة في الحكم بين أهل الذمة ولا يخلو ما يظَّالموا فيه من أحد وجهين: إما أن يكون مما هو حق لله تعالى، أو مما هو حق للآدميين. فإن كان مما هو حق لله تعالى كالدماء والربا، والفروج، والطلاق، والعتاق، فلا يخلو من أن يطلبوا أن يحكم بينهم بحكم دينهم، أو بحكم الإسلام. فإن طلبوا أن يحكم بينهم بحكم دينهم، فلا يجوز ذلك ولا يحل بالإجماع. فإن طلبوا أن يحكم بينهم بحكم الإسلام، هل يتعرض بينهم أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يحكم بينهم بحكم المسلمين جملة من غير تفصيل، وهو قوله في "كتاب تضمين الصناع" في الحكم بينهم بالربا، و"كتاب الرجم" في المسلم إذا زنا بالذمية حيث قال: يحد المسلم وترد هي إلى أهل دينها، واللذين حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهما بالرجم لم يكونا أهل ذمة، وقال في موضع آخر: وإنما حكم بينهم بالتوراة. والثاني: أن الحكم جائز بينهم بما تقتضيه شريعة الإسلام، وهو قوله في "كتاب العتق الثاني": إذا عتق عبده واعترف بذلك، وأبى أن يرفع يده عن خدمته، وتحاكما إلينا حيث قال: يحكم عليه بعتقه، ويلزم ذلك في الطلاق، والربا وغيرهما من سائر الحدود.

والثالث: أنه يجوز له أن يتعرض إليهم، ويتصدى للحكم بينهم، ويحكم بينهم بأن لا يلزمهم طلاق ولا عتق ولا ربا، وهو ظاهر قوله في "كتاب النكاح الثالث" من "المدونة" على تأويل بعض الشيوخ على ما بيناه في موضعه؛ وذلك إذا ترافعوا إليه؛ لأن أصل معاوضتهم وعقد أنكحتهم فاسدة في أصلها. والقول الرابع: التفصيل بين الربا وغيره، فلا يجوز أن يحكم بينهم في الربا، ويجوز فيما عداه، وهو قوله في "كتاب تضمين الصناع"، وهو تأويل بعضهم على قول مالك في "كتاب الغصب" من "المدونة" حيث قال: وترك الحكم بينهم أحب إليّ، قالوا: معناه: في الربا خاصة، وعليه اختصرها بعض المختصرين كأبي سعيد وغيره؛ وذلك أن الربا محرم عليهم؛ لقوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} (¬1)، فإذا تخاصموا وتحاكموا إليه في طلب استيفائه فلا يساعدهم على ذلك، وهو الأظهر. وأما لكونهم مخاطبون بفروع الشريعة وذلك يعم جميع ما ذكرناه من الطلاق، والعتاق، وغير ذلك. وأما ما هو حق للعباد مما يجري بينهم من التظالم، فهل يجوز الحكم بينهم أم لا؟ فلا يخلو من أن يكون ذلك بعد الترافع إلينا، أو قبل الترافع. فإن كان قبل الترافع إلينا، فهل يجوز للحاكم التعرض لهم، والحكم بينهم أم لا؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (161).

من غير ما موضع. والثاني: أنه يجوز التعرض لهم ودفع الظالم منهم عن المظلوم في امتناع دفع الثمن أو المثمون أو تعدى بعضهم على بعض، وهو ظاهر قوله في كتاب تضمين الصناع من "المدونة" حيث قال: لأن هذا من التظالم الذي لا ينبغي للحاكم أن يتركهم عليه. فإذا كان ذلك بعد الترافع إلينا، فهل يجب الحكم بينهم أم لا؟ على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه يجب على الحاكم الحكم بينهم، وهو ظاهر قوله في "كتاب الغصب" من "المدونة" حيث قال: إذا تظالم أهل الذمة في غصب الخمر قضينا بينهم فيها؛ إذ هي من أموالهم. والثاني: أنه مخير إن شاء حكم بينهم، وإن شاء ترك، وهو قوله في "كتاب تضمين الصناع". والثالث: أن ترك الحكم بينهم أولى من الحكم بينهم، وهو ظاهر "المدونة". وقد قال في بعض روايات "المدونة": وترك الحكم بينهم في كل شيء أحب إليّ، وهو تأويل بعضهم أيضًا على ما في "كتاب الغصب"، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السادسة في الذي وقع له رطل زيت في زق زنبق، والشعير يختلط مع القمح

المسألة السادسة في الذي وقع له رطل زيت في زق زنبق، والشعير يختلط مع القمح أما الزيت مع الزنبق فقد اختلف المذهب في صفة الحكم بينهما على قولين في "المدونة": أحدهما: أن صاحب الزنبق بالخيار بين أن يغرم رطل الزنبق لصاحب الزيت أو يسلم له رطلًا من زق الزنبق، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه لا يلزم صاحب الزنبق أن يشتري له مثل ذلك الزيت، ولا أن يعطي تلك المكيلة من ذلك الزنبق، ولكن يباع فيقسمان الثمن على قيمة الزيت والزنبق هذا بقيمة زنبقه معيبًا؛ لأن الزيت يعيب الزنبق لا محالة -وهذا بقيمة زيته إما معيبًا، وإما سليمًا على حسب نظر أهل المعرفة، وهو قول سحنون في "الكتاب" أيضًا. وأمَّا القمح والشعير فيختلطان فلا يخلو من أن يكون بتعد أو بغير تعد. فإن كان بغير تعد من أحد، فإنهما يكونان شريكين فيه على القيمة هذا بقيمة قمحه معيبًا، وهذا بقيمة شعيره غير معيب، فيباع ويقسمان الثمن على تلك القيم قولًا واحدًا. فإن تراضيا على قسم المخلوط فلا يخلو من أن يقسماه على القيم أو على قدر المكيلة. فإن اقتسماه على القيم، فلا يجوز؛ لأن ذلك ربا، وكل واحد منهما

قد أخذ بعض متاع صاحبه؛ وذلك يؤدي إلى التفاضل في الجنس الواحد، وهو حرام. فإن اقتسماه على قدر المكيلة، هل يجوز ذلك أم لا؟، فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: الجواز؛ لأن كل واحد منهما أخذ قدر حقه، ولا تفاضل في ذلك. والثاني: أن ذلك لا يجوز؛ لأن ذلك مخاطرة، وكل واحد منهما لا يدري ما يصح له من القمح، وما يصح له من الشعير؛ وذلك عين المخاطرة. فإن اختلط بتعد، فلا يخلو من أن يكون بتعد من أحدهما أو بتعدي أجنبي. فإن كان بتعد من أحدهما، فإن المتعدي يكون ضامنًا لكل ما استهلك. فإن كان بتعدٍ من أجنبي، فلكل واحد منهما اتباع المتعدي بمثل ما استهلك بالخلط، ويكون الطعام المخلوط له، وهذا إذا كان له مال. فإن لم يكن له مال، فإن الطعام المخلوط يباع عليه، ويشتري لهما بثمنه مثل طعامهما، فما عجز اتبع به، وما بقى من الثمن كان له. فإن طلب أن يباع لهما، ويقسما ثمنه على قيمة ما لكل واحد منهما، فالمذهب في ذلك على قولين: أحدهما: أن ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن ذلك لا يجوز، وهو قول أشهب، وهو أظهر في النظر؛ لأن كل واحد منهما انتقل من مكيلة معلومة إلى مكيلة مجهولة؛ إذ لا يدري كم يقع له من ثمن القمح، والشعير إذا بيع، وذلك من باب انتقال

المعقول إلى المجهول. فإذا رفع الضمان إلى أن يكون لهما المخلوط يقسمانه علي طعام كل واحد منهما، هل يجوز ذلك؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك جائز لهما، وهو قوله في "كتاب محمَّد" بناء على أن التضمين إنما هو حق لهما، فإذا رفعا التضمين كان لهما قسمة ذلك على الكيل بالتراضي. والثاني: أن ذلك لا يجوز، وهو تأويل سحنون على قول أشهب. واحتج أشهب بقول: لو قال أحدهما: أنا آخذه كله، وأغرم لصاحبي مثل طعامه أن ذلك لا يجوز؛ فكأنه أخذ بما وجب له على المتعدي قمحًا وشعيرًا على أن يعطي عن المتعدي شعيرًا؛ ولأن أحدهما لو اتبع المتعدي بمثل طعامه لم يكن للآخر أن يقول: أنا أكون لك شريكًا. فإذا رفعا جميعًا العداء عنه، وقد ترتب حق كل واحد منهما في ذمة المتعدي، وصار الطعام المخلوط له، فلا يجوز لمن له قمح أن يأخذ قمحًا وشعيرًا عن قمح، ولا لمن له شعير أن يأخذ قمحًا وشعيرًا عن شعير، والحمد لله وحده.

كتاب الجعل والإجارة

كتاب الجعل والإجارة

كتاب الجعل والإجارة تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها سبع عشرة مسألة: المسألة الأولى في البيع والإجارة وإذا باع سلعة بمائة دينار على أن يتجر له المشتري في ثمنها سنة، فقال في "الكتاب": إن ذلك جائز إن كان اشتراط إن تلف المال أخلفه البائع حتى يتم عمله بها سنة، وإلا فلا خير في ذلك، فهذا نص قوله في "المدونة"، وشبهها بمسألة الراعي؛ فالكلام في هذه المسألة على خمسة أسئلة: أحدها: خلف المال وإخراجه من الذمة. والثاني: معرفة الصنف الذي يتجر فيه. والثالث: الحكم في الوضيعة والربح. والرابع: إذا استحقت السلعة، أو ظهر بها على عيب. والخامس: موت المشتري أو مرضه قبل أن يوفى المدة. فالجواب عن السؤال الأول: في خلق المال إن تلف قبل انقضاء المدة، فلا يخلو حالها بين العقد من ثلاثة أوجه: إما أن يشترط خلف الدنانير إن ضاعت، وإما أن يشترط ألا يخلفها، وإما أن يهمل الأمر. فإن اشترط خلف الدنانير إن ضاعت قبل تمام المدة، فلا إشكال في جواز ذلك وصحته على القول باجتماع الإجارة والبيع، وهو مشهور المذهب، وقد حكى القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في المذهب قولًا

بالمنع، وهو من شواذ المذهب. ويستحب للمشتري أن يشهد على إخراج الثمن من ذمته إلى أمانته، ويقبل قوله فيما يدعيه من تلف أو خسران. فإن لم يشهد على إخراجه، فلا تخلو ملابسته للتجارة من أن تكون مما يظهر أنه يتجر للبائع أو يشكل أمره. فإن كان مما يظهر أنه للبائع يتجر؛ مثل أن يكون قد سمى له نصفًا لا يتعداه في المتجر أو كان قبل ذلك لا يشتغل بالتجارة، فعند معاملته للبائع اشتغل بها، وحبس في دكان يبيع ويشتري، ويكلف الأسفار، وشد الرحال إلى الأقطار مما لم تكن عادة، فإن ذلك يقوم مقام الإشهاد قولًا واحدًا. فإن ادعى وديعة قبل قوله، وإن أتي بربح أخذ منه. فإن أشكل أمره وجهل حاله، ولا يدري هل لنفسه يتجر أو للبائع، فهل يقبل قوله إن ادعى الضياع أم لا؟ فلا يخلو من أن يدعيه قبل الاشتغال أو بعده. فإن ادعى ضياع المال قبل أن يشغله في البيع والشراء فلا يصدق، وإن ادعى ضياعه بعد الاشتغال صدق، ويؤخذ منه الربح إن جاء به، وهو قول ابن القاسم في "العتبية" فيمن أمر غريمه أن يشتري له بما له عليه من الدين سلعة، فقال المشتري: قد اشتريتها وضاعت إن القول قوله، يريد: لأنه مؤتمن على الشراء، فكان القول قوله أنه فعل ما اؤتمن عليه، وهو في مسألتنا أبين؛ لأنهما لو شاءا أن يعقدا البيع على ما أتي به الآن من الثمن وربحه جاز، بخلاف الدين يتقرر في الذمة على أن يتجر فيه، ثم يتجر فيه بعد ذلك، فذلك يتهم فيه إلى أن يقصد فيه إلى سلف

جر نفعًا. وأما الوجه الثاني: إذا اشترط البائع ألا يخلفها إذا ضاعت وأن يحاسبه بقدر ما عمل فلا يخلو من أن يكون البائع ممن يتعذر عليه الخلف أو لا يتعذر عليه. فإن كان ممن يتعذر عليه الخلف جاز ذلك، وإن كان ممن لا يتعذر عليه فلا تخلو الإجارة من أن تكون يسيرة أو كثيرة. فإن كانت كثيرة مثل نصف عين السلعة فأكثر، فإن ذلك لا يجوز؛ لأن ذلك بيع بثمن مجهول؛ إذ لا يدري هل يبقى له الثمن إلى انقضاء أمد الإجارة أو يتلف قبل ذلك فيؤل الأمر إلى أنه باع سلعته بثمن مجهول. فإن كانت الإجارة يسيرة فالمذهب يتخرج في جوازه على قولين: أحدهما: الجواز، والآخر: المنع. وينبني الخلاف على الخلاف في الغرر اليسير هل يؤثر في عقول المعاوضات أم لا؟ وأما الوجه الثالث: إذا أهمل الأمر، ولم يتعرض لاشتراط الخلف، ولا إسقاطه هل يجوز العقد والحكم يوجب الخلف أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز إلا باشتراط الخلف، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في أول "كتاب الجعل والإجارة". والثاني: أنه يجوز، وإن لم يشترط الخلف والحكم يوجبه، وهو قول سحنون، وأصبغ، وابن حبيب، وهو قائم من "المدونة" من غير ما موضع أن الإجارة لا بموضع المناولة إلا في أربع مسائل، وقد ذكرناها فيما

سلف من الكتاب. والجواب عن السؤال الثاني: في معرفة الصنف الذي يتجر فيه فلا ثلاثة شروط: أحدها: أن يسمى صنفه. والثاني: أن يكون مأمون الوجود في الشتاء والصيف. والثالث: أن يكون المشتري ممن يريد التجر متصلًا في الشراء والبيع. فإن انخرم شرط من هذه الشروط فسد العقد. وقولنا أن يكون التجر متصلًا احتراز من أن يشتري شيئًا، فيرفعه ينتظر به الأسواق، فإن لا يجوز؛ لأنه غرر وخطر؛ إذا لا يدري هل يتغير سوقه في السنة مرة أو مرتين أو أكثر، أو يكسد جملة فيتخرج السنة ولم يبع فلا يدري ما باع من منافعه ولو شطر أنه يتجر فيه في تلك السنة مرتين لم يجز أيضًا؛ لأنه فقد بعض السلعة من منافع رجل بعينه يقتضيها إلى الأجل. والجواب عن السؤال الثالث: في الربح والوضيعة إذا كان في المال: أما الربح فلا يخلو من أن يشترط عليه العمل به في المال، أو لم يشترط. فإن اشترط العمل به مع المال جاز ذلك إذا كان أمرًا معروفًا متعارفًا متلاحقًا بعضه ببعض، ويجري فيها قول آخر أن ذلك لا يجوز؛ لأنه غرر وحظر؛ إذ لا يدري هل يكون أو لا يكون؟ فإذا كان هل يقل أو يكثر؟ وهو الأظهر في النظر. فإن لم يشترط العمل فيه مع المال، فالحكم فيه كالحكم في ولادة الغنم في حكم الرعاة، وقد قال في حكمهم أنهم يحملون على العرف إن كان هناك عرف، وإلا فلا يلزمهم الرعي إلا بأجر؛ لأن ذلك زيادة

عناء وتعب. وأما الوضيعة، فإن اشترط عليه إن خسر في المال عمل فيها بقى خاصة، وكأنه جميع المال فإنه ينظر فإن كان في أصل العقد، فيفسخ؛ لأن ذلك مخاطرة، فإن كان بعد العقد، فينبغي أن يجوز. والجواب عن السؤال الرابع: إذا استحقت السلعة المبيعة أو ظهر بها على عيب، ولم تفت السلعة، فإذا كان بعد أن عمل نصف السنة مثلًا كان للمشتري أن يسلم للبائع ما في يديه على هيئته وقت الاستحقاق ووجود العيب، وإن كان عروضًا، ثم يرجع على البائع بمائة دينار، وبأجرة المثل عن الشهور الماضية. فإن فاتت السلعة في العيب بهبة أو صدقة، أو تلف، فإنه يرجع على البائع بقيمة العيب؛ فإن كانت قيمته العشر رجع بعشرة دنانير، وبعشر قيمة المنافع عن الشهور الماضية، ويسقط عنه الفضل في المستقبل في عشر المائة، ويكون له أن يتجر لنفسه في قدرهما، وإن كان لا يقدر أن يتجر فيها ناحية كان له أن يتجر في جميع المائة، ويلزم البائع قيمة عشر المنافع في المستقبل، ويصير بمنزلة ما لا ينقسم. فإن فاتت بعيب، فأحب التماسك، فإنه يرجع بقيمة العيب حسبما تقدم لو هلكت أو خرجت من يده، فإن أحب أن يرده رده، وما ينوب العيب من الثمن. فإن قيل: إنه ينقص العيب الذي حدث عند المشتري العشر من الثمن -وهو التسع بعد طرح قيمة العيب القديم- رجع المشتري بتسعين دينارًا أو قيمة تسعة أعشار المنافع عن الماضي، ويسقط العمل في المستقبل. والجواب عن السؤال الخامس: إذا مات المشتري فلا يخلو من أن يموت

قبل العمل، أو بعد أن عمل نصف السنة. فإن مات قبل العمل، فلا تخلو السلعة من أن تكون قائمة أو فائتة. فإن كانت قائمة نظر إلى قيمة الإجارة؛ فإن كانت مائة فأكثر رجع البائع شريكًا فيها بقدر الإجارة، ويرجع الخيار لورثة المشتري، فإن رضوا بعيب الشركة، وإلا رد، وإن كانت الإجارة الثلث فأقل، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن البائع بذلك قيمة في مال الميت، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يرجع شريكًا للورثة، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: الثلث هل هو في حيز اليسير، أو في حيز الكثير. فعلى قول أشهب أنه شريك، فإن الخيار يرجع إلى الورثة لضرر الشركة. فإن فاتت السلعة، فإنه لا فرق بين القليل والكثير، ويرجع عليهم المشتري بقيمة الإجارة. فإن مات بعد أن عمل نصف السنة، وقد صار إلى البائع حل الثمن وهو المائة. ونصف العمل، هل يكون شريكًا للورثة أو يرجع بذلك قيمة؟ على القولين المتقدمين بين ابن القاسم، وأشهب والحكم في مرضه كالحكم في موته [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثانية فيمن باع نصف سلعة على أن يبيعه النصف الباقي هل يجوز ذلك أم لا؟

المسألة الثانية فيمن باع نصف سلعة على أن يبيعه النصف الباقي هل يجوز ذلك أم لا؟ فقد اضطرب المذهب في ذلك اضطرابًا شديدًا، وتباينت فيه الآثار تباينًا بعيدًا، وجعلت ما فيها من الخلاف بحضرة ثمانية أقوال أكثرها قائمة من المدونة: أحدها: أن ذلك لا يجوز جملة بلا تفصيل ضرب أجل أم لا، وهو قول بعض الرواة عن مالك في المدونة حيث قال: إذا باعه نصف ثوب على أن يبيعه النصف الآخر إنه لا خير فيه، قيل لمالك: فإن ضرب للبيع أجلًا؟ قال: فذلك أحرم له، ولم يفصل بين بيعه في البلد وغيره. والثاني: الجواز جملة بلا تفصيل -ضرب أجلًا أم لا، باع في البلد أو في غير البلد- وهو تأويل ابن لبابة على قول مالك في الموطأ حيث قال: إذا باعه نصف ثوب على أن يبيعه النصف الآخر إن ذلك جائز، قال ابن لبابة: أحسبه يريد ضرب أجلًا في بلدة أو في غير بلدة، وله من الأجر إن لم يضرب أجلًا قدر ما يباع إليه. والثالث: التفصيل بين البلد وغيره؛ فيجوز في البلد، ولا يجوز في غيره، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والرابع: التفصيل بين أن يضرب أجلًا أم لا؛ فإن ضرب أجلًا جاز، وإن لم يضرب أجلًا فلا يجوز، وهو قوله في "الكتاب" أيضًا. والخامس: على عكس الرابع أنه إن ضرب أجلًا، فذلك مكروه، وإن لم يضرب أجلًا فذلك جائز، وهو قوله في مختصر ما ليس

في المختصر. والسادس: التفصيل بين ما يعرف بعد الغيبة عليه وما لا يعرف؛ فما يعرف بعد الغيبة كالمعدود من المعروض وغيره من المزروع وغيره، فإنه يجوز، وما لا يعرف بعد الغيبة كالمكيل والموزون من الطعام وغيره فلا يجوز، وهو قوله في المدونة حيث قال مالك: لا بأس بذلك ما خلا الطعام، فإنه لا يجوز. وقيل: إنه مذهب سحنون، وقد وقعت محاشاة الطعام، والشراب في بعض نسخ المدونة باسم سحنون؛ قال بعض المتأخرين: وكانت رواية سحنون عن ابن القاسم عن مالك أنه لا بأس به في الطعام وغيره ثم أصلحت. وقال فضل بن سلمة: إنما يجوز فيما لا يكال ولا يوزن مثل قول مالك في "المدونة" وغيرها. والسابع: التفصيل بين ما ينقسم وما لا ينقسم؛ فإن كان مما ينقسم جاز إن ضرب أجلًا، ولا خير فيه فيما لا ينقسم، وإن ضرب أجلًا، وهو قول ابن حبيب في "الواضحة". والثامن: التفصيل بين أن تكون السلعة التي يبيعها إلى ذلك الأجل بالمنع جملة؛ لأن ذلك معين يتأخر قبضه؛ وذلك أن المشتري لا يقدر على التصرف فيما اشتراه كما يجب، ولا أن يحدث فيه حدثًا مع ما فيه من الخطر والغرر؛ إذ لا يدري هل يبيعها قبل الأجل، فيصح له بعض ما اشترى، وذلك البعض مجهول، ولا يبيع حتى يحل الأجل، فيصح له جميع ما اشترى. ووجه القول الثاني: بالجواز جملة أن العقد وقع على نعت الجواز،

وإهمال مقدار الأجل الذي بيع ما بينه، وبين حلوله بقدرٍ كالعرف، ويكون له من الآخر قدر ما يباع إليه على الاجتهاد، وذلك القدر يحط من جملة ما اشتراه المشتري إن باع قبل الوقت المقدر. ووجه القول الثالث: بالتفصيل بين بيعه في البلد وغيره أن ذلك من باب التحجير على المشتري؛ إذ لا يقدر على أن يتصرف في حقه حتى يصل إلى ذلك البلد. وذلك ضعيف لوجود هذا المعنى في البلد تبايعا فيه ومع ذلك جور. ووجه القول الرابع: التفصيل بين أن يضرب أجلًا أم لا؛ لأنه إذا ضرب أجلًا كان ذلك إجارة، والبيع والإجارة يجوز أن يجتمعا في ظاهر المذهب. وإن لم يضرب أجلًا كان ذلك جعلًا، والجعل لا يجوز اجتماعهما على مشهور المذهب. ووجه القول الخامس: أن ذلك جائز إن لم يضرب أجلًا، ويكره إن ضربه؛ لأنه إذا لم يضربه كان البيع ثابتًا، وإن ضربه كان الحكم فيه كالحكم فيمن باع سلعة بدراهم وعروض يسيرة إذا استحق ذلك العرض، هل يرجع بما ينوب ذلك العرض في ذمة بائعه أو في عين سلعته؟ فقد اختلف المذهب في ذلك؛ فمن قال يرجع بذلك قيمة في الذمة قال بجواز البيع في مسألتنا، ويقبض المشتري جميع النصف المشتري، فإن باع في بعض الأجل رجع عليه البائع بما ينوب الإجارة قيمة، ومن قال: إن الحكم الرجوع في عين السلعة لم يجز البيع؛ إذ لا يدري هل يصح له جميع المشتري أو بعضه، وذلك البعض كم هو؟

ووجه القول السادس: بالتفصيل بين ما يعرف بعد الغيبة، وما لا يعرف أنه إذا كان مما لا يعرف بعد الغيبة عليه كالمكيل والموزون يبقى فيه البيع تارة، والسلف تارة؛ لأنه إن مضى الأجل، ولم يبع صح له جميع المشتري وكان بيعًا. فإن باع في بعض الأجل فلابد أن يرد جميع المشتري؛ لأنه لم يستوجب جميعه؛ لأن الثمن بعضه عينًا وبعضه إجارة. فإذا باع في بعض الأجل لم تعرف له جميع الإجارة، فإذا لم تعرف جميعها لم يستحق جميع المشتري. فإذا لم يستحق جميعه فلابد أن يرد بعضه بعد الغيبة عليه، وذلك عين البيع والسلف فيما مضى فيه البيع، فهو بيع وما رد فهو سلف. ووجه القول السابع: بالتفصيل بين ما ينقسم وما لا ينقسم ملاحظة لما قدمناه في توجيه القول الثالث من التحجير على المشتري فيما اشتراه؛ وذلك أنه إذا باع المبيع مما لا ينقسم كالعبد والدابة، فإن المشتري محجور عليه في التصرف فيما اشتراه؛ بل في قبضه على الجعلة لعدم تمييزه لكونه اشترى مشاعًا فيما لا يمكن قسمه حيًا. فإن كان مما ينقسم جاز لكونه قادر على القسمة إن شاء؛ إذ لو طلبها لجرى عليها شريكه. ووجه القول الثامن: بالتفصيل بين المعين والمضمون أنه إذا كان مضمونًا جاز؛ إذ لا يتقي فيه البيع والسلف، ولا الجهل في قدر المشتري؛ لأنه إذا اشترى منه سلعة على أن يبيع له سلعة أخرى غير معينة إلى أجل كذا وكذا، فصار البائع كأنه قد استغرق منافع المشتري في تلك المدة؛ بمعنى أنه إذا باع قبل انقضاء تلك المدة كان للبائع أن يكلف له بيع سلعة أخرى هكذا

تنقضي تلك المدة، فإذا كانت سلعة معينة عاد الأمر فيه إلى ما قدمناه من الغرر والخطر [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثالثة في ماهية الجعل وأصل جوازه

المسألة الثالثة في ماهية الجعل وأصل جوازه فأمَّا ماهيته فهو أن يجعل الرجل للرجل جعلًا على عمل يعمله له إن أكمل العمل كان له جعله، وإن لم يكمله لم يكن له شيء وذهب عناؤه باطلًا، فهذا قد أجازه مالك وأصحابه فيما لا منفعة فيه للجاعل إلا بتمام العمل، وهو في القياس عذرًا إلا أن الشرع ورد بجوازه على ما أحكمته الشريعة كتابًا وسنة، وكان موجودًا في معاملات الناس جاهلية وإسلامًا؛ فأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله، ولم يتعرض لإبطاله مع علمه بذلك؛ إذ لا فرق بين ما يبتدأ في إجارته شرعًا وبين ما يقر على إجارته. وأيضًا فإن الضرورة تدعو إلى ذلك أشد مما تدعو إلى القراض والمساقاة، والضرورة مستثناة من الأصول، وقد مضى عمل المسلمين على ذلك في سائر الأمصار على قديم الأوقات والأعصار. ومن شروط صحته أن يكون الجعل معلومًا، وأن لا ينقد، وأن يكون مما لا منفعة فيه للجاعل إلا بتمامه، وأن لا يضرب للعمل المجعول فيه أجلًا، فهذه أربعة شروط، وقولنا: "أن يكون الجعل معلومًا" احترازًا من أن يكون مجهولًا. فإذا كان الجعل مجهولًا والثمن مجهولًا، ولم يكن في الثمن إلى اجتهاد المجعول له لم يجز باتفاق المذهب. وإن سمى له الثمن أو فوض إليه، ولم يسم الجعل جاز إذا كان هناك عرف جاز، وجاز في جعل مثل ذلك العمل. وقولنا: "وأن لا ينقد"؛ لأنه إذا انتقد الجعل كان بيعًا تارة، وسلفًا

تارة، وقد يبيع فيستحق الجعل، وقد لا يبيع فلا يستحق شيئًا؛ إذ لا يستحق الجعل إلا بتمام العمل. وقولنا: "وأن يكون لا منفعة فيه للجاعل" احترازًا من أن تكون له منفعة فيما عمله؛ ويؤدي ذلك انتفاع الجاعل بعمل المجعول له باطلًا، وهذا على الخلاف في الجعل على حفر بئر فيما يملك من الأرض، هل يجوز أو لا يجوز؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز إلا فيما يملك من الأرضين، وهو قوله في "الكتاب" وهو ظاهر المذهب. والثاني: فيما يملكه من الأرضين وفيما لا يملك، وهو قوله في مسألة المغارسة؛ لأنه جواز المغارسة فيما يملك من الأرض مع جواز عجز الغارس مع تمام غرسه؛ فينتفع الجاعل بعمل المجعول له، ثم إن جاعل الجاعل من يتم له في ذلك العمل، وأنه يكون للمجعول الأول بحساب عمله سواء كان ذلك في حفر أو حمل أو نقل مثل أن يجاعله على حفر بئر، فعجز قبل تمامه، ثم جاعل عليه غيره فأتمه، أو جاعله على نقل خشبة من موضع إلى موضع فجاء بها إلى نصف الطريق فرماها ثم جاعل عليها من يوصلها لربها، فقد قال ابن القاسم في "كتاب محمَّد": أنه يكون للأول من الجعل بقدر ما عمل مما انتفع به ربها. وهذا بخلاف البيع إذا عجز عن بيع ما جوعل عليه من السلع إلا أن يبيعها ربها بسوم الأول أو قريب منه فيما قرب من الزمان كبعد يوم أو يومين. وكذلك إن جاعله على حمل متاع من بلد إلى بلد على معنى البلاغ، ثم عجز في بعض الطريق، ثم وصله ربه أو استأجر عليه من يوصله؛ فعلى ما ذكرناه في البئر والخشب.

وقولنا: "وأن لا يضرب للعمل المجعول فيه أجلًا"، ولم يشترط أن يترك متى شاء، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك لا يجوز؛ لأن الجعل لا يصلح فيه الأجل كما يجوز في الإجارة، وهذا القول قائم من "المدونة" من قوله في "كتاب الجعل": من جاءني بعبدي الآبق وهو بموضع كذا، فله كذا وكذا؛ حيث قال: إن ذلك جائز؛ لأن تسمية المواضع في الجعل كضرب الأجل، وقد قال في غير ما موضع من "المدونة": إن تلك البلدان بمنزلة الآجال، ولأجل هذا اعترض المسألة سحنون وفضل بن مسلمة. فإن ضرب له الأجل واشترط أن يترك متى شاء، وقد قال في "المدونة" فيمن قال لرجل بع لي هذا الثوب اليوم، ولك درهم إن ذلك لا يجوز إلا أن يشترط أن يترك متى شاء تركه، ثم ذكر المسألة إلى آخرها فقال: لا يؤقت في الجعل يوم، ولا يومان إلا أن يكون متى شاء [] (¬1) مثل هذا أنه جائز، وهو جل قوله الذي يعتمد عليه. وقد اختلف المتأخرون في تأويل هذا الكلام، وحيث هو الخلاف حيث هو وما القول المعتمد عليه في ذلك على أربعة أقوال: أحدها: أن الخلاف في ضرب أجل اليوم واليومين، وأن [] (¬2) دون شرط الترك متى شاء، وهذا تأويل ابن أبي زيد، وعليه اختصر المسألة، وقد وهمه بعضهم في هذا قال: لأن الأجل في الجعل دون اشتراط الترك متى شاء لا يجوز باتفاق. وما قاله هذا المعترض لا يلزم ابن أبي زيد [] (¬3)، والخلاف في ¬

_ (¬1) غير واضحة بالأصل. (¬2) غير واضحة بالأصل. (¬3) غير واضحة بالأصل.

المسألة قائم من "الكتاب" على ما استقرأناه من المدونة آنفًا، وربما أنه به استدل الشيخ على هذا التأويل. والثاني: أنه إنما لم يختلف قول ابن القاسم في "الكتاب" أنه إجارة، وإنما اختلف هل هي جائزة [] (¬1) أمر هي إجارة فاسدة، وهو تأويل ابن لبابة، واستدل على تأويله بقوله في "الكتاب" في إثر المسألة [] (¬2) الجعل تجوز فيه الإجارة إذا ضرب لذلك أجلًا. وقد استبعد غيره تأويله أيضًا؛ لأنها لو كانت [] (¬3) لفساده وجه. والثالث: أن مراده بالإجارة المسألة المذكورة التي اشترط فيها أنه متى شاء، قاله أيضًا أنه جائز، وهو جل قوله فكرر الجواب، وليس بخلاف، وإنما أخبر أنه جل قوله الذي اعتمد عليه، وجل قوله يقتضي الخلاف ويشعر بأن له قولًا آخر أنه لا يجوز، وهو قول منصوص في رواية عيسى عنه في الذي قال لرجل: جذ نخلي هذا اليوم فما جذذت بيني وبينك ومتى شئت [] (¬4) ولك نصف ما عملت فقال: لا خير فيه، وهذا تأويل أبي عمرو بن القطان، وهو تأويل بعيد أيضًا. والرابع: أن ذلك منه اضطراب رأي واختلاف قول، وأنه إذا قال له: بع لي هذا الثوب [] (¬5) فقال في الباب أنه جعل، ولا يجوز إلا أن يشترط أن يترك ما شاء، وله قول آخر أن ذلك جائز [] (¬6) خيار لا جعل. فإن باع في بعض اليوم كان له من الأجر بحساب ذلك، فقال سحنون: إن هذا القول [] (¬7) من قول ابن القاسم، وهذا القول لابن القاسم قائم من أول "الكتاب"، وقد قال في الذي [] (¬8) نصف الثوب ¬

_ (¬1) غير واضحة بالأصل. (¬2) غير واضحة بالأصل. (¬3) غير واضحة بالأصل. (¬4) غير واضحة بالأصل. (¬5) غير واضحة بالأصل. (¬6) غير واضحة بالأصل. (¬7) غير واضحة بالأصل. (¬8) غير واضحة بالأصل.

على أن يبيع له النصف الآخر أن ذلك جائز إذا ضربا لذلك أجلًا؛ لأنه [] (¬1) أجلًا كانت إجارة، واختار سحنون هذا القول؛ لأنه إذا قال: بع لي هذا الثوب اليوم ولك [] (¬2) يريد على وجه الجعل، فيكون جعلًا فاسدًا، واحتمل أن يريد على وجه الإجارة، فيكون جائزًا [] (¬3) محتملًا للفساد، وللجواز مترددًا بينهما، فإنه على مذهب سحنون يحمل على الجواز حتى يتبين [] (¬4) قوله في مسألة الراعي والثوب في الخلف، وهذا تأويل القاضي أبي الوليد بن رشد. واختلف هل يلزم بالعقد أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يلزم بالعقد، وكل واحد منهما بالخيار ما لم يشرع في العمل، فيسقط خيار الجاعل، ويبقى الآخر على خياره حتى يفرغ من العمل، وهي رواية عليّ بن زيادة [] (¬5) أشهب عنه في "العتبية". والثالث: أنه يلزمها جميعًا بالعقد كالإجارة على سواء، وهذا القول حكاه اللخمي، ولم يسم قائله. وفائدة الخلاف وثمرته: إذا مات الجاعل والمجعول له [] (¬6) لازمًا لورثته أم لا؟ ويمكن أن ينزل هذا الخلاف على أن ذلك اختلاف الأسئلة، وفيه أقوال. فنقول: إذا كان الثمن والعمل فيه مجهولين كان الخيار لكل واحد منهما؛ لأن الذي يصح [] (¬7) مجهول ومقدار عمل العامل مجهول أيضًا. فإن كان الثمن معلومًا والعمل مجهولًا بالجعالة على [] (¬8) بيع السلعة كان لازمًا للجاعل؛ لأن الثمن الذي يبذله معلومًا وغير لازم للعامل؛ لأن عمله [] (¬9) الثمن والعمل معلومين بحفر البئر وما أشبهه كان لازمًا ¬

_ (¬1) غير واضحة بالأصل. (¬2) غير واضحة بالأصل. (¬3) غير واضحة بالأصل. (¬4) غير واضحة بالأصل. (¬5) غير واضحة بالأصل. (¬6) غير واضحة بالأصل. (¬7) غير واضحة بالأصل. (¬8) غير واضحة بالأصل. (¬9) غير واضحة بالأصل.

لهما بالعقد؛ لأن الذي يبذله الجاعل من الثمن معلوم، والذي يلزم العامل من العمل معلوم. ولا خلاف في الجواز في الجعل في قليل السلع، وهل يجوز في كثيرها أم لا؟ على خمسة أقوال: أحدها: جواز الجعالة في القليل والكثير، وهذا القول قائم من المدونة من مسألة المغارسة وكلب الآبق، وقد جوز أن يعطي الرجل أرضه لمن يغرسها نخلًا أو شجرًا، فإذا بلغت كذا سفعة أو بلغ الشجر [] (¬1) كذا وكذا كانت الأرض بينهما والشجر، وذلك مما تطول فيه خدمة المجعول له، وقد لا يشاركه بعمل آخر، ولا يكاد يتفرغ لاستغراقه فيه، وكذلك في طلب الآبق يطول عليه الطلب، ويعطله ذلك عن جميع الصنع التي منها يحق الكسب على العادة المألوفة. فإذا كانت العلة في منع الجعل في كثير من السلع كون ذلك يشغله عن معاشه وعن الاحتراف بغير ذلك مما ينال منه عيشه، فذلك موجود في المغارسة، وطلب الآبق أو أشد، وذلك ظاهر لا مراء فيه. والثاني: أنها جائزة في يسير السلع دون كثيرها، وهو نص المدونة. والثالث: التفصيل بين البيع والشراء؛ فإن جاعله على البيع جاز في القليل دون الكثير، وإن جاعله على الشراء جاز في القليل والكثير؛ لأنه في البيع قد انتفع الجاعل بعمل المجعول لكون السلع في صيانته، وفي حفظه مدة معلومة، وذلك معدوم في الشراء إذا كان كلما اشترى وداه للمشتري، وهو تأويل بعضهم على "المدونة". والرابع: التفصيل بين أن يجعل له في ثوب يبيعه جعلًا مسمى فيجوز إذا لم يتول حفظ جميع الثياب، ولا يجعل له جعلًا إلا على بيع جميعها، فإن باع بعضًا ولم يبع بعضًا، فلا يجوز قولًا -حفظها أو كانت عند ¬

_ (¬1) غير واضحة بالأصل.

مولاها- وهو تأويل أبي الوليد وغيره. والخامس: التفصيل بين ما ينقل ويحول كالعروض والحيوان وغيرهما، فلا يجوز الجعل في كثيره، وبين ما لا ينقل ولا يحول كالرياع والعقار فيجوز؛ لأنه لا يتكلف إلا الضياع عليهما دون حفظها، وليس في ذلك للجاعل كثير منفعة، وهو قوله في "العتبية"، و"الموازية". وسبب الخلاف: اختلافهم في المستثناة من أصول فاسدة، هل يقتصر بها على الأقل الذي تدعو الضرورة إليه أو يلحق بها ما هو مباح من أصله؛ فيجوز في القليل والكثير؛ كاختلافهم في الميتة في حق المضطر إليها، هل يأخذ منها ما يسد بها الرمق أو يشبع ويتزود وغير ذلك مما لا يخفى على من طالع المذهب [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الرابعة في الفرق بين الإجارة والجعالة

المسألة الرابعة في الفرق بين الإجارة والجعالة وينبغي للعالم أن يعلم أن الجعل والإجارة يتواردان موردًا متقابلًا، وكلاهما عوض عن عمل، فاعتمد على الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: لفظي، والآخر: معنوي، والمعنوي أوسع وأوضح. فأمَّا اللفظي: فهو أن يقول: أجاعلك على كذا وكذا تعمله، ولك كذا وكذا بكذا، هذا في الإجارة؛ لأنه أوردها باسمها، ويراعى لها شروطها أيضًا كما قدمناه، فلا ينبغي إهمال هذه الألفاظ. ولو عقدا عقدًا بينهما لا بواسطة الجعالة، ولا بواسطة الإجارة، فهناك تلاحظ الفرق المعنوي الحكمي؛ فإن وجد فيها معنى الإجارة، فهي هي وإن وجد فيها معنى الجعالة فهي هي؛ فإن قال: بع لي هذا الثوب، ولك ألف درهم، فإن لم تبعه فلا شيء لك، فهذه جعالة؛ لأن الاستحقاق فيها نيط بالفراغ من العمل وتصرمه، فإذا قال: بعه لي، ولك درهم بعته، أو لم تبعه فهي إجارة، ولابد من الأجل؛ لأن الاستحقاق فيها ليس بمنوط بالفراغ من العمل، وبين هاتين المقدمتين واسطة مشكلة؛ وهي إذا أبهم الأمر، فقال: بعه ولك كذا؛ إذ قد يحتمل أن تكون إجارة تفسد لعقد [] (¬1)، ويحتمل أن تكون جعالة فيصح. أما رأي من غلب شائبة الصحة في اللفظ المتردد بين الفساد والصحة صيانة للمسألة عن الإبطال، فحمله على الجعالة مطرد غير مطرب، وأما رأي من غلب الفساد على الصحة عند التزاحم كابن القاسم، فإنه قد عهد ¬

_ (¬1) غير واضحة بالأصل.

منه ذلك في مذهبه، فإن صحت المسألة على هذا الأصل ففيه نظر، وابن القاسم يقول بصحتها حملًا على ما ترى، ويشبه أن تكون قد تحسن لمفهوم الصيغة في ارتباط الاستحقاق بانبرام العمل، فإذا كان ارتباط الاستحقاق [] (¬1) العمل إذا عقل نصًا بمحض شائبة الجعالة؛ فكذلك الارتباط المعقول من الصيغة لحنًا ضمنًا. فإذا علم ذلك فمن وجوه الفرق بينهما أن الإجارة تلزم من الطرفين، فليس لأحدهما فسخها مع التمكين في الاستيفاء والجعالة لا تلزم من الطرفين؛ لأنها من قبيل الجائز لا من قبيل اللازم على مشهور المذهب؛ لأن العمل مجهول فلا يتمادى. وأما الإجارة فالعمل فيها مقدر معلوم. ومن وجوه الفرق بينهما أن الجعالة لا يجوز فيها [] (¬2) شرطه؛ لأنه سلف تارة وجعل أخرى؛ فهو جائز بالعقد في الإجارة بل يلزم، أو بالشروع في العمل لابد لأحدهما احترازًا من الدين بالدين إن كانت الإجارة على موصوف، وإن كانت على بيع معين، فإن النقد بالنقد في الجعالة لا يجوز بشرط، والتوجيه ما قدمناه. ومن وجوه الفرق بينهما: أن التأقيت بأجل لا يصح في الجعالة، ويصح في الإجارة، بل يجب فيها؛ لما قدمناه من أن الجعالة من قبيل الجائز دون اللازم، ولا مجال للتأقيت فيها؛ إذ الغرض به منتهى اللزوم، فلا لزوم ولا تأقيت، بخلاف الإجارة لأنها من قبيل اللازم، ولابد للازم من غاية ونهاية، غير أنا نقول ما قدحت الجعالة في العقود بلغتها؛ بل لما فيها من الفساد المقتفي لإبطالها من ارتكاب الإغرار، واقتحام الأخطار، ولو ساع التأقيت في الجعالة لأمكن دفعها قبل الفراغ من العمل، فيذهب ¬

_ (¬1) غير واضحة بالأصل. (¬2) غير واضحة بالأصل.

كده باطلًا؛ فنظام الجعالة إذًا إنما يتقرر بإهمال المدة فيها؛ لأن ذلك من مصالح العقد، وما كان من مصالحه فلا يكر ببطلانه، هذا كما نقوله في النكاح، والإجارة فإنهما متآخيان [] (¬1) لما نص المناكحة عن التأقيت؛ إذا لا يتم مقصودها الذي هو السكن والازدواج والتناسل الإعضاد [] (¬2) جهل التأقيت؛ إذ لا يحصل مقصودها إلا بمعرفة مدتها؛ فصارت الجهالة فيها مفسدة لا مصلحة [] (¬3) ذلك؛ فاعلم أن الجعالة والإجارة مثل أن تكون له غاية معلومة، ونهاية محصورة كخياطة الثوب [] (¬4) فإذا ضم إلى ذلك الزمان، فهل يصح في الإجارة أم لا يصح؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا يجوز؛ لأنه من باب مدتين في مدة وشرطين في بيع، وهو قوله في كراء الرواحل، والدواب فيمن تكارى دابة من رجل على أنه إن بلغه إلى موضع في كذا، وإلا فلا كراء له، فقال مالك: لا خير في ذلك؛ لأنه شرط لا يدري هل يتم فيه الكراء أم لا؟ وأشار بعض المحققين من المتأخرين إلى أن وجه فساده؛ لأنه من مدتين في مدة وشرطين في بيع. والثاني: أن ذلك جائز، ويؤخذ من مسألة الثور إذا استأجره يطحن له كل يوم أردبين بدرهم، فوجده لم يطحن له إلا أردبًا واحدًا في اليوم، فقال له أن يرده ويغرم نصف الدرهم؛ فقد جوز في هذه المسألة [] (¬5) في مدة؛ لأن التقييد باليوم مدة، والتقييد بالأردبين مدة؛ فإحداهما تغني عن الأخرى. ¬

_ (¬1) غير واضحة بالأصل. (¬2) غير واضحة بالأصل. (¬3) غير واضحة بالأصل. (¬4) غير واضحة بالأصل. (¬5) غير واضحة بالأصل.

والقولان مرويان عن مالك مشهوران في "العتبية" وغيرها، والمشهور المنع. وقال بعض المتأخرين: يمكن أن يكون قصد بالشرط هاهنا هذا الشرط في التقييد بمدة الزمان مع التقييد بمقدار العمل؛ مثل قوله: خط لي هذا الثوب، ولك درهم على التعجيل والاستحثاث ودفع التكلي والوأن؛ فتحصيل هذا الغرض هو المقصود لا الزمان، وهذا منه جنوح إلى التلفيق والخلاف في المسألة من كل طريق وثبت عند كل فريق. وأما الوجه الثاني: وهو تقدير [] (¬1) بزمن يقتضب منه فجائز في الإجارات بل واجب؛ وأما في الجعالة إذا قيدت بزمن، وإن لم يشترط أن يترك متى شيئًا لم يجز لما قدمناه، وإن اشترط ذلك، فهل يجوز أم لا؟ فإنه يتخرج على الخلاف الذي استقصيناه في المسألة التي قبل هذا استقصاءً لم أسبق إليه، ولا زاحمتني أقدام المتأخرين عليه [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) غير واضحة بالأصل. (¬2) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الخامسة فيمن دفع دابته لرجل على النصف

المسألة الخامسة فيمن دفع دابته لرجل على النصف فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقول له: أكرها. والثاني: أن يقول له: اعمل عليها. والثالث: أن يقول له: اعمل لي عليها. فأما الوجه الأول: إذا قال له: أكرها ولك نصف ما تكريها به فلا يخلو من أن يكون عمل بمقتضى قوله أو خالفه. فإن عمل بمقتضى قوله وإذنه، فالكراء لصاحب الدابة، وللآخر إجارة المثل على ما قدر عنائه وتعبه؛ لأن رب الدابة قد استأجره إجارة فاسدة. فإن خالفه فيما أذن له فيه؛ مثل أن يأمره فيكريها فعمل عليها كان ما عمل عليها له، ولصاحبها إجارة المثل؛ لأن نقد على منافع الدابة في غير ما أذن له فيه. وأما الوجه الثاني: إذا قال اعمل عليها فما عملت عليها من شيء؛ فلك نصفه فلا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يقول له اعمل عليها، ولك نصف ثمن ما اكتسبت، أو يقول له: اعمل عليها على أن نصف عين ما حملت عليها لك، أو يقول له: اعمل عليها ولك كل يوم درهم، أو يقول له: احمل عليها لك نقلة ولي نقلة. فإن قال له: اعمل عليها ولك نصف ثمن ما كسبت عليها؛ مثل أن يأخذها، ويحتطب عليها فيبيع أو يحتش عليها أو يستغني عليها، فإن

المكسب للعامل، وعليه إجارة المثل لصاحب الدابة؛ لأن تلك الأشياء ملك للعامل بنفس أخذه لها، والدابة قد اكتراها كراء فاسدًا، وإن عاقه عائق وعرف ذلك بأمر معروف، فلا شيء عليه؛ إذ لم يحمل له عليها شيئًا مضمونًا، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. واختلف إذا قال اعمل عليها فأكراها لمن يكون الكراء على قولين: أحدهما: أن الكراء للمستأجر، ولصاحب الدابة أجرة المثل. والثاني: أن الكراء لصاحب الدابة؛ لأنه ضمن منافعها، وللمستأجر كراء المثل. والقولان لابن القاسم في "التبصرة". فإن قال له: اعمل عليها على أن لك نصف ما حملت عليها من حطب، أو حشيش، أو ماء، أو ثمار البرية، فإن ذلك أمر ممكن لا يتعذر وجوده لم يجز؛ لأنه مخاطرة. فإن قال له: اعمل عليها، ولك كل يوم درهم جاز ذلك، ويكون ثمن ما باع به مما عمل عليها لصاحب الدابة، ولا يكون ذلك دراهم في اكترائها؛ لأن الملك يتعين لصاحب الدابة في تلك الأشياء بالنية قبل بيعها، ولو أخذه بدراهم أبو بدنانير ودفع إليه دابته على أن يأتيه كل يوم بدرهم سنة أو شهرًا لم يجز باتفاق المذهب. فإن كان على أن يأتيه بغير الدنانير، والدراهم كالعروض، والطعام وغيره، فالمذهب على قولين: أحدهما: المنع إذا اشترط عليه قدرًا معلومًا، وهو قول مالك في "المدونة" و"الموازية". والثاني: الجواز، وهو إذا وصف وأجل، وهو قول أحمد بن ميسر،

فرع

ومحمد بن المواز. وإن قال له: احمل عليها نقلة لك، ونقلة لي، فإن ذلك جائز؛ لأن النقل معلومة، وهو قول ابن المواز. فإن قال: ما تنقل عليها اليوم لك، وغدًا لي فذلك جائز أيضًا. فإن نفقت الدابة قبل أن يعمل في اليوم الثاني، فلا يخلو من أن يعمل في اليوم الأول لنفسه، أو لرب الدابة. فإن عمل لرب الدابة ثم نفقت الدابة في اليوم الثاني قبل أن يعمل لنفسه كان على صاحب الدابة للعامل إجارة المثل، وليس له أن يكلفه أن يأتي بدابة أخرى؛ لأنه إنما باع غدًا منافع الدابة بعينها والمعين لا يخلف على ظاهر المذهب. فإن عمل لنفسه أولًا ثم ضاعت الدابة أو نفقت قبل أن يعمل لربها، هل يكون له كراء دابته ذلك اليوم. وهي رواية ابن أبي زيد عن ابن القاسم في "العتبية" لتعذر الخلف في مثل ذلك؛ كقولهم في الثوب اللبيس يستأجر على أن يأتي بدابة أخرى تعمل له؛ لأن حق رب الدابة مضمون في ذمة المستأجر في عين الدابة، وهذا القول حكاه الشيخ أبو محمَّد في "النوادر" قال: وهذا هو أصلهم. فرع من قال لرجل: أعنِّي بغلامك خمسة أيام وأعينك بغلامي مثلها جاز ذلك في الحصاد وغيره. وكذلك إن قال له: اعطني عبدك النجار يعمل اليوم بعبدي الخياط يخيط لك غدًا فلا بأس به، وهو قول أشهب، وأصبغ في "العتبية".

ولا يؤثر في ذلك اختلاف الصنائع؛ لأن ذلك مبايعة باع عمل عبده اليوم بعمل عبد الآخر غدًا كما تجوز إجارة كل واحد منهما على أن يعمل مدة معلومة؛ فكذلك يجوز أن يباع عمل بعضهم بعمل بعض. وأما الوجه الثالث من أصل التقسيم: إذا قال له: اعمل لي عليها لمن يكون الكسب؟ على قولين: أحدهما: أنه للعامل، وعليه كراء الدابة، وهو قول ابن القاسم في رواية الدباغ في "المدونة". والثاني: أن الكسب لربها وعليه الأجر للعمل، وهو قول ابن الجلاب، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السادسة في إجارة رحى الماء وانقطاع الماء عنها في بعض مدة الإجارة

المسألة السادسة في إجارة رحى الماء وانقطاع الماء عنها في بعض مدة الإجارة وكراء أريحة الماء جائز بكل شيء يجوز التبايع به من طعام وغيره، وهي المسألة التي سأل فقهاء الأندلس مالكًا عنها. فإن انقطع عنها الماء وطلب المفاسخة، فلا يخلو من أن ترجى عودته عن قرب، أو كان يرجى بعد بعد. فإن كان يرجى عن قرب لم يفسخ إلا بتراض منهما، فإن كان لا يرجى إلا بعد بعد كان له أن يفاسخه. فإن عاد الماء قبل انقضاء بقية المدة، فلا يخلو من أن يعود قبل الفسخ أو بعده. فإن عاد قبل الفسخ فلا يخلو من أن يعود عن قرب أو بعد بُعد. فإن عاد عن قرب، فإن الكراء بينهما قائم على حاله. فإن عاد عن بعد، فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: أن طول المدة في انقطاعه كالفسخ. والثاني: أن الكراء بينهما قائم إلا أن يتفاسخا أو يفسخ بينهما بحكم؛ قياسًا على الذي اكترى السفينة في الصيف، فيدخل الشتاء، وكان الحكم الفسخ فلم يتفاسخا حتى صار إلى الصيف، فقد اختلف في المذهب على قولين.

فإن عاد [بعد] (¬1) الفسخ، هل يثبت ما فسخ الحكم بينهما أو ترجع الإجارة على حالها؟ على قولين: أحدهما: إمضاء الفسخ بينهما، وهو ظاهر قول غيره في "المدونة" في العبد إذا مرض في أثناء المدة ثم برئ. والثاني: أن الإجارة ترجع على حالها؛ لأنهم في التقدير إلا أن يكون المكتري بعد الفسخ قد عقد موضعًا غيره، فإن الفسخ يمضي بينهما قولًا واحدًا. فإن عاد الماء وعاد إلى العمل، فلما انقضت السنة اختلفا في مدة انقطاع الماء؛ هذا يقول شهر والمكتري يقول: شهران فلا يخلو من أمرين إما أن يتفقا على أول انقطاعه، واختلفا في وقت رجوعه أو اتفقا في وقت رجوعه، واختلفا في مبدأ انقطاعه. فإن اتفقا على أول انقطاعه، واختلفا في وقت رجوعه المكري يقول رجع بعد شهرين والمكتري يقول بعد شهر، فإن القول قول المكتري؛ لأن ذلك في يديه قد سلم إليه واؤتمن عليه. فإن اتفقا في وقت رجوعه، واختلفا في مبدأ انقطاعه؛ مثل أن يتفقا أنه رجع في شعبان، وقال المكتري: كان انقطاعه في رجب، وقال المكتري: كان في جمادى، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قول المكري؛ لأن الكراء قد وجب على المتكاري، فهو يريد أن يحط عن نفسه بقوله، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وغيرها. والأصل استصحاب الحال؛ فلا تبرأ ذمته بدعواه. ¬

_ (¬1) في أ: بعلة.

وقال سحنون: هذه عراقية، يريد: أن القول قول المكتري، وهو القول الثاني؛ لأن الأمر فيه مكشل، والأصل براءة الذمة من الدين، ولا تعمر بالشك، فلو انقطع ذلك الماء إلا أن أهل ذلك المكان قد أخلوا من فتنة أصابتهم أو سنة مستهم، وأخلى هذا المكتري معهم أو أقام آمنًا غير أنه لا يأتيه أحد ولا يغشاه بالطعام، فقد قال: إن ذلك كبطلان الرحى من نقصان الماء، ويوضع عنه الكراء، وينبغي أيضًا أن الناس إذا أصابتهم السنة أو أمر ذهب بأموالهم حتى لا يعيشوا إلا بالبقول والحشائش، وتعطل عليهم العمل، وأهل البلد في البلد آمنون إن لم يخلو أن يكون ذلك كانجلائهم؛ لأن النظر إلى بطلان الرحى لعدم ما يطحن لا لعدم أهل البلاد وانجلائهم، وذلك ظاهر لمن تأمله [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السابعة في إجارة الثيات والحلي

المسألة السابعة في إجارة الثيات والحُلِي واختلف في إجارة الثيات والحلي وجميع الماعون الذي يستخدمه الناس ويمتهنونه، هل يجوز أو يكره، على قولين: أحدهما: أن ذلك جائز دون كراهية، وهو المشهور من قول مالك، وهو اختيار ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أن ذلك مكروه في كل شيء، وهو أحد قولي مالك في الحلي حيث قال ابن القاسم: وقد أجازه مالك مرة، واستثقله مرة أخرى، وقال: لست أراه بالحرام البين، وليس كراء الحلي من أخلاق الناس، ولا أرى به بأسًا. ووجه الكراهية في ذلك ما خرَّجه البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير من أن يأخذ عليه خرجًا معلومًا" (¬1)، وقد قيل في معنى قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (¬2)، وأن ذلك في مثل الدلو، والفأس، وسائر ماعون البيت، وقيل: أراد به الزكاة المفروضة، وهو المشهور. وعلى القول بأن ذلك جائز دون كراهة، هل يصدق المكتري إذا ادعى الضياع أم لا؟ فلا يخلو من أن تقوم له بينة على ما يدعيه أو لم تقم. فإن قامت البينة البينة على الضياع بغير تضييع، ولا تفريط فلا تفريغ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2205)، ومسلم (1550). (¬2) سورة الماعون الآية (7).

وإن لم يكن إلا مجرد دعواه، فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه مصدق في الكراء، والضياع، ولا يلزمه من الأجرة إلا ما قال أنه قد انتفع به، وهو قول غيره في "المدونة". والثاني: أنه لا يصدق لا في الكرى، ولا في الضياع، وهو ضامن لقيمة الشيء المستأجر، وهو قول أشهب عن مالك في "الكتاب" في مسألة الجفنة على رواية الضياع، وهي الرواية المشهورة، وهذا القول نقله ابن سحنون في غير "المدونة". والرواية الأخرى أنه إذا ادعى الكسر؛ ولذا قال مالك في غير "المدونة"، وأين فلقها. والثالث: أنه مصدق في الضياع دون الإجارة، وتلزمه جميع الإجارة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". وسبب الخلاف: اختلافهم في الشيء المستأجر، هل طريقه طريق الرهان، والعواري أو طريقه طريق الودائع والبضائع؛ فمن سلك به مسلك الرهان والعواري قال بتضمينه، ومن سلك به مسلك الودائع والبضائع قال بسقوط الضمان؛ لأن حقه في الانتفاع به، والرقاب في يديه أمانة لا حق له فيها. ومن فرق بين الإجارة وعين الشيء المستأجر، فقد لاحظ المعنيين وراعى الشقين، وذلك دأب ابن القاسم في أكثر المواضع [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثامنة في إجارة المسجد والبناء عليه

المسألة الثامنة في إجارة المسجد والبناء عليه ولا يخلو بناؤه للمسجد من وجهين: إما أن يبنيه ليكريه، أو يبنيه ليصلي فيه. فإن بناه ليكريه لمن يصلي فيه، فإن ذلك لا يخرجه عن ملكه قولًا واحدًا، وله أن يبيعه، ويورث عنه. وهل يجوز له إجادته لمن يصلي فيه أم لا؟ وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. فإن بناه لمن يصلي فيه، فلا يخلو من أن يبيحه للناس أو لا. فإن أباحه للناس، وخلا بينهم وبينه وحيز عنه في صحته، فلا خلاف أنه حبس لا يورث عنه، ولا يباع. فإن لم يحز عنه، ولا أباحه لمن يصلي فيه، وامتنع من أن يخرجه من يده لم يجبر على ذلك، وهو ظاهر "المدونة" من غير ما موضع، وقد قال في آخر "كتاب الصلاة الأول": والمسجد حبس إذا كان صاحبه قد أباحه للناس؛ فمفهومه إذا لم يبحه ورث. والأصل في كل شيء مما أوجبه الإنسان لله تعالى، ولم يعين له محلًا ألا يجبر على إنفاذه. فإن مات قبل أن يحاز عنه، وكان على نفاذه، فإنه يتخرج على قولين، وهل يمضي حبسًا أو ميراثًا؛ قياسًا على الهبة إذا لم يفرط في حوزها حتى مات. فإن بناه على ظهر بيته، فالحكم فيه كما قدمناه؛ فإذا أباحه للناس،

وأخرجه من ملكه، فلا خلاف أنه حبس لا يجوز بيعه. وهل يجوز [بيع] (¬1) ما تحته من البنيان أم لا؟ فإنه يتخرج على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: جواز بيعه، وهو نص قوله في آخر كتاب الصلاة الأول حيث قال: ويورث ذلك البنيان، والمسجد حبس لا يورث. والثاني: [أنه لا يجوز بيعه] (¬2) وله حكم ما عليه، وهو ظاهر قوله في "كتاب الشفعة" فيمن بني مسجدًا على ظهر بيته أو في أرضه على وجه الصدقة، والإباحة، أو حبس عرصة له، أو بيتًا في المساكين، أو على المساكين لم يجز له بيع ذلك، وظاهر الكلام يعود على ما تقدم ذكره من البنيان السفلي، والعرصة؛ لأن قوله ذلك يتناول الجميع، وعليه جمع بعض شيوخ الأندلسيين، وقد رأيت اسم سحنون على المسألة في بعض نسخ المدونة مكتوب في الطرة، قال سحنون: يجوز له بيع ذلك، وذلك يدل على أن قوله في الشفعة مناقض لقوله في "كتاب الصلاة"، وإلا فأي شيء استراب سحنون من قوله حتى قال يجوز له بيعه؟ وأما إجارة المسجد والدار والبيت للصلاة فقد اضطربت فيها أجوبة الكتاب اضطرابًا أوجب اختلاف آراء المتأخرين في تأويلها، ونص ما في الكتاب: قلت: أرأيت إن أجر بيته من قوم ليصلوا فيه رمضان؟ قال: لا يعجبني؛ لأن من أكرى بيته كمن أكرى المسجد، والإجارة فيه غير جائزة؛ لأن الإجارة في المساجد غير جائزة، وقال غيره: لا بأس بذلك في كراء البيت. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

ثم قال: أرأيت إن أكريت دارًا لي على أن يتخذوها مسجدًا عشر سنين؟ قال: ذلك جائز، قلت: فإذا مضت العشر سنين؟ قال: إذا انقضت المدة رجعت الدار إلى ربها، ويكون نقض المسجد لأهل النقض الذي اشتروا وبنوا به المسجد. فانظر كيف جوز إجارة الدار لمن يبنيها مسجدًا، ومنع من أن يبني هو مسجدًا يبنيها، ومنع من كراء البيت لمن يصلي فيه، وجوز إجارة الدار، فذهب بعضهم إلى تلفيق الأجوبة، وتأويلها على الوفاق فقال: إنما تكلم ابن القاسم قبل الوقوع فكرهه؛ لأن ذلك ليس من مكارم الأخلاق، وأنه إن فعل جاز، كما أنه أجاز إجارة المصحف لكنه ليس من مكارم الأخلاق، وهذا معنى منع محمَّد إجارة المصحف، والذي أكرى أرضه أو داره لم يتخذه مسجدًا؛ لأنه أكرى ما يجوز له كراؤه، وليفعل مكتريه ما شاء، ولو سلم البيت لمكتريه لكان كالدار، وإنما أكره له كراءه منهم أوقات الصلاة فقط، فإذا فرغوا وخرجوا رجع إلى ربه ينتفع به ما بينه، وبين الصلاة الأخرى. فلو اكتروها جملة ينتفعون به مدة كرائهم وغيرها مما هو جنس الصلاة لجاز ابتداء كما جوز في الدار. فلو كان اكتراؤهم للدار في أوقات الصلاة خاصة لقبح، ولم يصلح كما قال في البيت؛ إذ ليس من مكارم الأخلاق، ويحمل قول الغير على أن ذلك بعد الوقوع والنزول، وابن القاسم تكلم على ما كان قبل الوقوع، وهذا تأويل أبي الفضل وغيره. وذهب غيرهم إلى أن ذلك اختلاف قول، وأن قوله في الدار خلاف قوله في البيت، وأنه لا فرق بينهما، وهذا قول حمديس. وقال القاضي: أبو الفضل: فعلى قول حمديس يدخل من الخلاف

في مسألة الدار ما يدخل في مسألة البيت، وما قاله صحيح ظاهر. وعلى القول بالتلفيق لا تفريع. وعلى القول بأن ذلك اختلاف قول يتحصل في المسألة أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك ممنوع في المسجد والدار والبيت، وهو قول ابن القاسم في البيت والمسجد. والثاني: الجواز في الجميع، وهو قول الغير في البيت، وابن القاسم في الدار، والمسجد إذا لم يتخذ للناس كالبيت. والثالث: التفصيل بين البيت وغيره؛ فيجوز في البيت ولا يجوز في المسجد والدار، وهو ظاهر قول الغير في الكتاب. والرابع: أنه يجوز في الدار، ولا يجوز في المسجد والبيت، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "الكتاب" أيضًا. فهذا تخيل المسألة وتحصيلها، ومن له أنس بمعاني الكتاب هان على ما أشرنا إليه [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة التاسعة في الصغير والعبد يؤاجران أنفسهما بغير إذن الأولياء

المسألة التاسعة في الصغير والعبد يؤاجران أنفسهما بغير إذن الأولياء أو استعملا في إجارة أو استعين بهما في عمل من الأعمال، ولا شك ولا خفاء أن رأى الشارحين من المتأخرين اختلفوا في تأويل ما وقع في تأويل هذه المسألة من الاضطراب من قول ابن القاسم، وابن وهب، وسحنون في الكتاب مع ما وقع منها في "كتاب الرواحل والدواب"، وأطنبوا في ذلك إطنابًا يخل تشعبه بالفائدة، ونحن إن شاء الله نلخصها أيّ تلخيص، ونحصلها أحسن تحصيل، فنقول من حيث التفصيل، فلا يخلو من وجهين: إما أن يستعمله فيما لا تبتغي فيه الإجارة، أو فيما تبتغي في مثله الإجارة. فإن استعمله فيما لا تبتغي في مثله الإجارة كمناولة القدح، والنعل فلا ضمان عليه سلم أو هلك. فإن استعمله فيما يبتغي في مثله الإجارة، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يستعمله فيما لا يعطب في مثله أصلًا. والثاني: أن يستعمله فيما يعطب في مثله نادرًا. والثالث: أن يستعمله فيما يعطب في مثله غالبًا. فالجواب عن الوجه الأول: إذا استعمل فيما لا يعطب في مثله أصلًا؛ مثل أن يستعمله في تعليم الصبيان أو في حراسة البساتين أو نفش الصوف، فإن سلم فلا ضمان عليه قولًا واحدًا وعليه أجرة المثل إن استعان به، فإن واجره كان عليه الأكثر مما سمى أو إجارة المثل، فإن عطب فقولان:

أحدهما: أنه ضامن، وهو قول سحنون في بعض روايات المدونة في الذي استأجر عبدًا في الخياطة كل شهر بكذا، ثم حوله بغير إذن أهله في غير ما استأجره له أنه ضامن وصار متعديًا؛ فأشبه الغاصب، وهو نص قول ربيعة في الكتاب، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الرواحل والدواب" في الزيادة على المسافة فيما لا يعطب في مثله فعطبت الدابة حيث قال: يضمن، وذلك ضمان بمحض التعدي. والثاني: أنه لا ضمان عليه، وهو قول ابن القاسم وابن وهب في "كتاب الجعل والإجارة" من "المدونة". وعلى القول بالضمان، فإن كان حرًا فهلك كانت ديته على عاقلة الذي استخدمه، وعليه هو أجرة المثل إن استعان به، أو الأكثر من المسمى أو إجارة المثل إن استأجره. فإن كان عبدًا واستعان به كان للمثيل الأكثر من المسمى أو من إجارة المثل أو ما نقصه العيب إن عطب وعاش، فإن مات كان له الأكثر من إجارة المثل، أو القيمة يوم التعدي، فإن واجره كان للسيد الأكثر من المسمى أو إجارة المثل أو القيمة أيها شاء، وهذا إذا لم يأذن له في الإجارة أصلًا. فإن أذن له في نوع من الأعمال فاستعمله في غير ما أذن له فيه، فلا يخلو الذي استعمله من أن يكون عالمًا بذلك أو غير عالم. فإن كان عالمًا فتعدى فاستعمله في غير ما أذن للعبد فيه كان بمنزلة ما لم يؤذن له فيه أصلًا. فإن لم يعلم بالتخصيص هل يضمن أو لا؟ قولان قائمان من "المدونة":

أحدهما: أنه لا يضمن، وهو ظاهر قوله في "كتاب المأذون له في التجارة" إذا أذن لعبده في شيء ثم عمل في غيره أنه يلزمه ذلك؛ لأن أقعده للتجارة ولا يدري الناس لأي أنواع التجارة أقعده، وهي رواية عن مالك في "العتبية" في العبد الخياط أو النجار يستعمل في البناء أو غيره، فهلك فيه أنه لا ضمان على من استعمله إلا أن يدخله في عمل مخوف. والثاني: أنه ضامن؛ لأنه قد استعمله فيما لم يؤذن له فيه أصلًا؛ فأشبه التعدي المحض كما لو حوله من عمل إلى غيره بغير إذن مولاه. والجواب عن الوجه الثاني: إذا استعمله فيما يعطب في مثله نادرًا؛ مثل أن يستعمله في نقل الخشب، والحجارة، والخياطة، فوكزته الإبرة أو وقعت عليه الخشبة، أو الحجارة فعطب من ذلك، أو مات بأمر من الله، فإن سلم من ذلك، ومات بسبب سماوي، ففي ضمانه قولان: أحدهما: أنه ضامن له، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الرواحل والدواب". والثاني: أنه لا ضمان عليه فيه، وهو قول أشهب وابن القاسم في "كتاب الجعل والإجارة" من "المدونة". فإن هلك من ذلك السبب فقولان أيضًا في "الكتاب": أحدهما: وجوب الضمان عليه، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا ضمان عليه، وهو قول أشهب. والجواب عن الوجه الثالث: إذا استعمله فيما يعطب في مثله غالبًا؛ مثل أن يستعمله في غرر مخوف كالنزول في البئر التي قتلت أهلها حماة، وهدم الجدران أو الحفر بجنبها، أو العمل على الزرانق. فإن سلم منها فقولان في وجوب الضمان:

أحدهما: أنه ضامن لقيمته إن كان عبدًا، وهو ظاهر قوله ابن القاسم في "كتاب كراء الرواحل والدواب" إذا نفد وزاد على المسافة ما تعطب الدابة في مثله، فسلمت حيث قال: فإن صاحبها بالخيار بين أن يأخذ كراء الزيادة أو يضمنه قيمة الدابة يوم تعدى عليها، وله في الوجهين كراء الأول؛ فكذلك ينبغي أن يخير سيد العبد في هذه المسألة أيضًا، والمجمع بينهما محض التعدي، واستعمال [العبد] (¬1) والدابة فيما يعطب في مثله. والثاني: نفي الضمان عنه، وهو قول ابن القاسم وابن وهب وسحنون في "كتاب الجعل والإجارة"، فإن هلك فلا يخلو هلاكه من أن يكون بسبب سماوي أو بسبب ما استعمل فيه من الأغرار والأخطار. فإن كان بسبب سماوي، ففي ضمانه قولان: أحدهما: أنه ضامن سواء أذن له وليه في الإجارة أو لم يأذن له؛ لأنه إن أذن له في الإجارة لم يأذن له في الأغرار؛ فصار بنفس التعدي ضامنًا كما بيناه آنفًا. والثاني: التفصيل بين أن يأذن له في الإجارة أو لم يأذن؛ فإن أذن له فلا ضمان عليه، فإن لم يأذن له ضمن؛ لأنه إن لم يأذن له كان استعماله إياه تعديًا محضًا، وإن أذن له كان تعديًا مستندًا إلى إذن. فإن كان هلاكه بسبب ذلك العمل في مخوف وغرر ضمن قولًا واحدًا، [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة ليست بالأصل.

المسألة العاشرة في الإجارة على رعاية غنم

المسألة العاشرة في الإجارة على رعاية غنم وهي على أربعة أوجه: أحدها: أن يقول: أستأجرك أن ترعى لي غنمًا، ولا يسمى له عدة. والثاني: أن يسمى له عدة ويعينها، فيقول: ترعى هذه المائة. والثالث: أن يشترط عدة ولا يعينها. والرابع: أن يسمي عدة معينة أو غير معينة، ويشترط أن لا يرعى معها غيرها. فالجواب عن الوجه الأول: إذا استأجره على رعاية غنم، ولا يسمى له عدة، ولا عين له شيئًا جاز ذلك، وحملا على [استغراق جميع] (¬1) منافعه، ولرب الغنم أن يأتيه من ذلك بما يقدر على رعايته، ثم لا يكون للراعي أن يرعى معها غيرها، فإن فعل كان الخيار لرب الغنم إن شاء أخذ الأجرة التي أخذ الراعي في الثانية، ويكون له جميع أجرته على رب الغنم الأول، فإن شاء أن يحط عنه من الأجر الذي عليه قدر ما ينوب رعاية الغنم الثانية كان ذلك كله، وهو قول ابن القاسم. والجواب عن الوجه الثاني: إذا سمى عدة وعينها فيقول: ترعى هذه المائة، هل تتعين بذلك أو لا تتعين؟ على قولين: أحدهما: أنها لا تتعين بذلك، وأن قوله هذه صفة، ويلزم الخلف إن أصيبت، وهذا قول سحنون في غير "المدونة"، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الرواحل والدواب" من "المدونة" في الأحمال إذا استأجره على ¬

_ (¬1) في الأصل: جميع استغراق.

حمل هذه الأحمال إلى بلد كذا وكذا حيث قال: لا يتعين. وأما الأحمال إن أصيبت لم ينفسخ الكراء بينهما على تفصيل لباقي سبب تلف الأحمال يأتي بيانها في مسألة مفردة إن شاء الله تعالى. والثاني: أنها تتعين ولابد من اشتراط الخلف إن هلكت، وهو قوله في "كتاب العمل والإجارة"، فإن لم يشترط الخلف هل تجوز الإجارة أو لا تجوز؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن الإجارة فاسدة، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب" حيث قال: لا خير في ذلك؛ لأن فيه تحجيرًا على صاحب الغنم، فلا يقدر على بيعها. والثاني: أن الإجارة جائزة، وإنما تتعين لأن رب الغنم يشترط ذلك لئلَّا يتكلف الخلف. والثالث: التفصيل بين أن تكون قريبة فتجوز أو تكون بعيدة، فلا تجوز، والقولان في "التبصرة". والقول الرابع: التفصيل بين أن تكون الشرط من رب الغنم فيجوز؛ لأنه يكره أن يتكلف الخلف، وأن يكون من الراعي فلا تجوز وتكون إجارة فاسدة، وهو خلاف للخمي. والجواب عن الوجه الثالث: إذا اشترط عدة لا يعينها مثل أن يشترط على [] (¬1) فذلك هجر، والحكم يوجب الخلف، وإن لم يشترطه باتفاق المذهب أو اشتراط عليه أن لا يرعى معها غيرها، فإنه يجب عليه أن يوفى له بشرطه، فإذا توالدت حملًا على رعاية الأولاد على سنة أهل البلد الذي هم فيه والمتعارف عليه [] (¬2) حملًا عليها لم يلزم الراعي رعاية الأولاد إلا ¬

_ (¬1) غير واضحة بالأصل. (¬2) غير واضحة بالأصل.

بزيادة الأجر إن شاء؛ لأن ذلك عليه تعب ومشقة، وذلك لازم في المعينة والمضمونة، وهو نصه في "المدونة". والجواب عن الوجه الرابع: إذا سمى عدة معينة أو غير معينة، ويشترط ألا يرعى معها غيرها مثل أن يستأجره على أن يرعى مائة معينة أو غير معينة كان للراعي أن يؤاجر نفسه في رعاية غيرها إذا كان لا يضر بالأولى، وكان يقوى على أكثر منها. فإن كان لا يقوى إلا أن يدخل فيه من يرعى معه، هل يجوز ذلك أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك جائز إذا لم يدخل بالثانية على الأولى ضررًا، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أن ذلك لا يجوز له؛ لأنه فسخ عمل معين في غيره؛ لأن منافعه قد عينت في رعاية جميع ذلك العدد، فإذا أدخل معه راعيًا آخر يعينه على رعايتها فقد تولى الثاني بعض العمل الذي استؤجر عليه فسخ الأولى، وذلك فسخ المعين في غيره، وذلك ظاهر لمن أنصف. فإن دخل في الثانية على الأولى مضرة، فلربها أن يمنعه من ذلك، وإن شرط عليه في أصل عقد الإجارة ألا يرعى معها كان ذلك له، وعلى الراعي أن يفي بعهدة الشرط، فإن لم يف به ورعى معها غيرها كان في الإجارة الثانية قولان: أحدهما: أنها للأول ويخير بين أخذها أو يفسخ عن نفسه ما زاد في الأجرة لمكان ذلك الشرط وإن أحب أخذ قيمة تلك الزيادة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" إلا أني زدت في كلامه بيانًا وتفسيرًا بما يقتضيه. والثاني: أن الأجرة للراعي إذا لم يدخل على الغنم الأولى ضررًا،

وأنه لا يحط له من الأجر الأول شيء، وهو قول غيره في "المدونة". ووجه قول ابن القاسم: أن الأول قد زاد في الأجرة احتياطًا لغنمه فلا تبطل [مقالته] (¬1) في تلك الزيادة. ووجه قول غيره أن الأجير قد يحط من أجرته لمكان راحته ورغبة في دفع المؤونة العظيمة عن نفسه. وهذا السؤال مشترك الإلزام. فإن انتقصت الأولى لمكان رعاية الثانية معها فلا يخلو من أن يكون قد اختار فيما يجب له فيما [أجربه] (¬2) نفسه في الثانية أو يكون قد اختار أن يفسخ عن نفسه ما ينوب ذلك الشرط أو أخذ قيمة تلك الزيادة كان له أخذا مع قيمة ذلك النقص [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: مقاتلته. (¬2) في أ: أجرته. (¬3) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الحادية عشرة في تضمين الأجراء والصناع مع تقدم الكلام في تضمينهم

المسألة الحادية عشرة في تضمين الأجراء والصناع مع تقدم الكلام في تضمينهم أما الأجراء فهم على ضربين: أجراء الصناع، وأجراء الحفظ والرعاية. فأما أجراء الصنع فقد أطلق ابن القاسم في "المدونة" و"الموازية" سقوط الضمان عنهم فيما إذا ادعو الضياع، وفرق بينهم وبين الصناع بأن الأصل سقوط الضمان عن الجميع؛ بدليل الأمانة؛ لأن المالك ما أسلم ملكه إلا لغرض له في ذلك، فضارع المودع؛ لأن السر في سقوط الضمان عنه حصول الغرض الناجز للمودع بحفظ المودع له سلعة لا الحفظ العاري عن الأجرة؛ بدليل أنه لو أخذها لم يخرجه أخذها عن قانون الأمناء في سقوط الضمان، وهذا هو الأصل المستمر في قواعد الشرع، لكن استولى التعبد على تفصيله، فضمن باعتبار عموم البلوى على ما تقدم تفصيلًا وتحصيلًا، وبقى الأجير على الأصل، هكذا جاءت الرواية عن ابن القاسم بسقوط الضمان عن الأجير الصانع، وأن الضمان على الصانع الأجير، فاختلف الأصحاب في تأويل قول ابن القاسم فمنهم من قال: إنما يصح ما قال ابن القاسم إذا كان الأجير يعمل بين يديه، ونصب عينيه، وأما إذا كان يغيب على أخذه [ويجوزه] (¬1) فإنه يضمن كالصانع، وهو قول أشهب في "الموازية"، ولابن القاسم في "العتبية" مثله. ومنهم من قال: إذا كان الأجير يعمل مقاطعة على العمل فلا فرق بينه ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل ولعلها: وحوزه.

وبين الصانع في الضمان، فإذا كان يعمل مياومة التحق بالأجراء الساقط عنهم الضمان وانقطع عن الصناع الثابت عليهم الضمان. والتأويل الأول أظهر ولاسيما مع نص أشهب، ونص قوله في "الموازية"، وإذا ذهب أجير الغسال بالثياب إلى البحر فزعم أنها ضاعت ضمن، وقال في الخياط: يدفع الثيات إلى أجرائه، فينقلبون بها فيزعمون أنها ضاعت، فإنهم ضامنون. وأما أجراء الحفظ والرعاية فعلى ضربين: فضرب لهم تعلق بالعمل، وضرب آخر لهم حفظ ورعاية مجرد عن العمل. وأما من له تعلق بالعمل كصاحب الحمام تضيع عنده ثياب الناس، هل يضمنها أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه ضامن لها، وهي رواية ابن القاسم في "العتبية" أنه قال: أمرت صاحب السوق يضمنون أصحاب الحمامات ثياب الناس، أو يأتون بمن يحرسها. والثاني: أنه لا ضمان عليه، وهو اختيار اللخمي. وسبب الخلاف: اختلافهم في صاحب الحمام، هل يلحق بالصناع أو بالأجراء؛ فمن ألحقه بالصناع قال: يضمن؛ لأن المقصود منه العمل والتنظف في الاغتسال فيضمن ما لا يستغني عنه الداخل في الحمام وهي ثيابه [وفرقه] (¬1)؛ لأن ثياب الداخل جرت العادة من أهل الحمامات بالجناية عليها [والشروع] (¬2) إلى إتلافها، فاقتضت المصلحة تضمينهم لها ¬

_ (¬1) هكذا بالأصل. (¬2) في أ: والشرع.

تضمين الحمالين الطعام وحده لكونه محل الجناية غالبًا، فمن ألحقه بالأجراء وقال: وإن كان صاحب الحمام من الصناع المنتصبين والعمال المتصديين فإن الداخل في الحمام إنما اشترى منافع هو يتولى قبضها بنفسه وهو الانتفاع بالحمام وثيابه خارجًا في حكم الوديعة لا صنعة فيها، ولا إجارة عليها، وإن دفع صاحب الثياب أجرة الحارس كانت الأجرة للأمانة، فصار بمنزلة من أودع وديعة، فليس له أخذ الأجرة عليها بالذي يخرجه عن أن يكون أمينًا إلا أن تظهر الجناية فيضمن الأجراء من هذا الوجه. فإن أتي بحارس هل يضمن الحارس ما تلف منها أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه ضامن؛ لأنه أجير مشترك، وهو قول ابن حبيب. والثاني: أنه لا يضمن، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في أجير الصانع، وهو قوله في "كتاب محمَّد" أيضًا. فقد اختلف المتأخرون في تأويل قول مالك في "المدونة": "لا ضمان على حارس ثياب من دخل الحمام" هل أراد بذلك صاحب الحمام نفسه؟ وهو ظاهر قول أبي محمَّد في "النوادر" حيث قال بتضمينه على قول مالك في "العتبية" قد قال في كتاب آخر: لا يضمنون. وقال بعض المتأخرين: ما لوح به أبو محمَّد إنما هو عندي ما وقع في المدونة في الجعل، والإجارة منها من قوله: لا ضمان على حارس ثياب من دخل الحمام، وقال هذا المتأخر: هذا خارج عما نحن فيه، وأشار إلى أن ما في المدونة إنما هو في الأجير على الحفظ قد استؤجر على الحراسة للعرية عن العمل، فصار أجيرًا لصانع، ومنهم من حمل الكلام على ظاهره، وأشار إلى أن ما في "المدونة" إنما هو صاحب الحمام نفسه، والكلام محتمل كما ترى.

وأما الأجير الحافظ غير العمل، مثل أن يستأجر على حرس الثياب في منشر القصار أو على حرس الطعام في الأندار أو على ساحل البحر أو استأجره البحار على حرس الأحمال في الرحبة، إنه يسقط عنه الضمان إذا ادعى الضياع، ولا يضمن إلا بالتعدي والغفلة، وليس النوم من ذلك إلا أن يفرط فيه فيضمن. وقال بعض المتأخرين في الراعي إذا نام في الشتاء أول النهار أو في آخره في الصيف ضمن؛ فكذلك الأجير على الحفظ؛ إذ لا فرق في ذلك بين ما يغاب عنه، وما لا يغاب عنه، وإنما التعدي أن يذهب، ويترك ما استحفظ أو يشتبه عليه السارق، فيتركه حتى [يأخذ] (¬1) المتاع ظنًا أنه مالكه، فهذا يضمن وهو قول ابن القاسم في "العتبية" [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: إذا أخذ. (¬2) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثانية عشرة في الذي أجر عبده ثم يبيعه قبل انقضاء أمد الإجارة فالإجارة أولى بذلك اتفاقا

المسألة الثانية عشرة في الذي أجر عبده ثم يبيعه قبل انقضاء أمد الإجارة فالإجارة أولى بذلك اتفاقًا ثم لا يخلو المشتري من أن يعلم بذلك أو لا يعلم، فإن علم بذلك قبل انقضاء المدة فلا يخلو ما بقى من أمد الإجارة من أن يكون يسيرًا أو كثيرًا. فإن كان يسيرًا كاليوم واليومين وما أشبه ذلك، فالبيع جائز إذا رضي المشتري بذلك قولًا واحدًا؛ إذ يجوز للبائع أن يستثنى هذا القدر في أصل العقد. فإن كره المبتاع انتظار مضى باقي المدة، هل يلزمه ذلك البيع ويجبر على التربص؛ إذ لا ضرر عليه في ذلك؛ لأنه شيء أوجبته الأحكام، وهو تأويل بعضهم أيضًا. فإن كان كثيرًا، فهل يجوز للمشتري الرضا بالتربص إلى انقضاء أمد الإجارة، ويجوز البيع أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يجوز له الرضا بذلك لوقوع العقد على الفساد؛ لأنه من المعين يقبض إلى أجل، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه يجوز للمشتري الرضا بذلك، ويجوز البيع؛ لأن العلة في المعين يقبض إلى أجل ضمان بجعل؛ وذلك أن المشتري اتهم في أن يشتريه بأكثر من ثمنه ليبقى في ضمان البائع إلى ذلك الأجل فتلحقهم التهمة في التواطؤ على ذلك، ولا تهمة في مسألتنا هذه؛ لأن ذلك شيء أوجبه الحكم، ومشهور المذهب أن ما يوجبه الشرط على خلاف ما يوجبه الحكم، وهذا القول يستقرأ من المدونة من غير ما موضع.

فإن لم يعلم المشتري بذلك إلا بعد انقضاء أمد الإجارة، فلا يخلو تأتيها من أن يكون يسيرًا أو كثيرًا. فإن كان يسيرًا، فالبيع لازم للمشتري قولًا واحدًا، وهل له المقال في أجرة هذين اليومين أم لا؟ على قولين: فعلى القول بأنه يجبر على التربص إذا علم قبل مضي بقية المدة، وإن كان ما بقى منها يومًا أو يومين تكون الإجارة للبائع. وعلى القول بأنه لا يجبر تكون الإجارة له. فإن كان باقي المدة كثيرًا، فهل يجوز للمشتري الرضا بهذا البيع أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يجوز له الرضا بذلك؛ بل يلزمه؛ لأنه كعيب ذهب قبل علمه، وهو تأويل بعضهم. والثاني: أنه لا يجوز له الرضا به؛ لأنه بيع وقع على الفساد، وهو تأويل بعضهم أيضًا. وعلى القول بأنه يجوز له الرضا بذلك البيع لمن تكون إجارة بقية المدة؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها للبائع، ويغرم المشتري جميع الثمن. والثاني: أنها للمشتري. والثالث: أنها للبائع ويرجع عليه المشتري بما بين قيمة البيع على القبض ناجزًا وقيمته حتى يخرج من الإجارة أن لو جاز البيع على ذلك، فيرد عليه قدر ذلك من الثمن يقال: ما يساوي على أن يقبضه في الحال مثلًا؟ فيقال: عشرة، ويقال: ما يساوي على أن يقبض بعد شهر؟ فيقال:

ثمانية، فيرد عليه البائع خمس الثمن. والأقوال الثلاثة كلها للمتأخرين [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثالثة عشرة في مرض أحد الأجيرين أو الشريكين أو المستأجرين على حفر بئر

المسألة الثالثة عشرة في مرض أحد الأجيرين أو الشريكين أو المستأجرين على حفر بئر إذا مرض أحدهما فلا يخلو حالهما من ثلاثة أوجه: إما أن يكون العمل بينهما مضمونًا، وإما أن يكون معينًا، وإما أن يبهم الأمر. فإن كان العمل مضمونًا، فمرض أحدهما وقال الآخر: جميع العمل فعلى رب البئر جميع الأجرة لهما نصفان: نصفها للمستوفي، ونصفها الآخر للمؤوف، ولا سلطان لرب البئر عليهما؛ لأن العمل بينهما مضمون وها هو موفور. وهل للمستوفي مطالبة المؤوف في أجرة ما عمله له أم لا؟ فإنه يتخرج على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا مطالبة له عليه؛ لأنه في حكم المتطوع له، وهو ظاهر قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: التفصيل بين أن يكون حفره في أول مرضه، ثم لا شيء له عليه لتركه التثبت لعله يصح فيحفر معه، وإن كان بعد أن طال به المرض فله عليه الأقل من إجارة مثله أو إجارة غيره ممن كان يعمل معه أو استبانة المؤوف. فإن كانت إجارته أقل لم يكن له غير ذلك، فإن كانت إجارة غيره أقل لم يكن له إلا ذلك، وهو [قول] (¬1) اللخمي. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثالث: التفصيل بين أن يكون المؤوف ممن عادته مباشرة الخدمة، أو كان ممن يفتقر إلى الاستئجار؛ فإن كان ممن يتولى العمل بنفسه، ويباشره بيده، فلا شيء للمستوفي عليه، فإن كان مفتقرًا إلى الاستئجار في الصحة والمرض، فللمستوفي عليه ما كان يستأجر به في مثل ذلك قياسًا على من حصد زرعًا لغيره بغير إذنه أو حفر كرمه أو حرث أرضه، فإن ابن حبيب قال فيه بالتفصيل الذي قدمناه. فإن كان العمل معينًا حيث تنفسخ الإجارة بالموت والمرض فللمستوفي له نصف الأجرة على صاحب البئر، وهل له عليه نصفها الآخر أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا شيء له عليه، وهو له متطوع، وهو قول ابن القاسم وسحنون. والثاني: أن له عليه الأجرة كاملة، وهو قوله في "كتاب ابن حبيب". واختلف هل ينفسخ العقد على المؤوف، ولا شيء له على صاحبه أو له أن يستعمله في مثل ذلك؛ فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: أنه يستعمله في مثل ذلك إن أمكن؛ لأن محل الأجير لا يتعين، وهو قول ابن القاسم في البقعة إذا غرقت بعد أن استؤجر على حرثها. والثاني: أن الإجارة تنفسخ بينهما بناء على تعيين محل العمل، وهو قول أشهب في البقعة المذكورة. فإذا قلنا بالفسخ لتعذر الخلف عاد مقام المؤوف مع المستوفي فيقول له: أبطلت عليّ حقي، ولم آمرك بحفر نصيبي، فإن كان حفر المستوفي بعد

طول المرض، فلا شيء له لضرورة التربص، وإن كان في أوله، فللمؤوف عليه أجرة المسمى؛ لأنه أبطله عليه، ثم للمستوفي أن يستعمل المؤوف في مثل ذلك، هكذا قيل. وأما الوجه الثالث: إذا أبهم الأمر، وأطلق العقد، فابن القاسم يرى في العمل مضمونًا في كون المستوفي متطوعًا للمؤوف، وسحنون يراه معينًا في كون المستوفي لصاحب البئر متطوعًا ولا مشاحة بينهما مهما فهم الغرض. وأما الجواب عن الوجه الثاني: إذا مرض أحد الشريكين، ولا تخلو الشركة من أن تكون بدنية أو مالية، فإن كانت مالية فالربح بين المستوفي والمؤوف، وله عليه أجر عمله؛ لأن المال سبب للربح، وهو مما يختلف. وأما البدنية فلا يخلو المرض من أن يكون يسيرًا أو كثيرًا، فإن كان يسيرًا فما الغالب فيه التسامح، فالربح بينهما، ولا شيء [للمعافي] (¬1) على المؤوف. فإن كان كثيرًا، فهل يكون [المعافى] (¬2) متطوعًا للمؤوف؟ قولان: أحدهما: أنه متطوع له، وهو قول أشهب. والثاني: أنه لا يكون متطوعًا، وهو قول ابن القاسم، فعلى قوله يكون الربح بينهما، ويطالبه بأجرة عمله، وأما سحنون فقد اعتبرهما بالأجيرين؛ لاعتقاده أن شريكي البدن لا يلزم أحدهما ما أخذه الآخر إلا ما اجتمعا على أخذه والتزماه من الضمان، وابن القاسم يرى هذا الإلزام مستفاد من تفسير العقد لا من الشرط ويفرق بينهما وبين الأجيرين؛ فإن ¬

_ (¬1) في أ: للمعفي. (¬2) في أ: المعفي.

الشريكين كل واحد منهما حميل على صاحبه ضامن عنه ما تقبلاه؛ إذ المبتاع مما يضمن، فلهذا لم يصر الصحيح متطوعًا، وأما الأجيران فليس أحدهما ضمينًا ولا حميلًا؛ إذ البئر لا يضمن فلذا صار الحافر متطوعًا، والحمد لله وحده.

المسألة الرابعة عشرة فيمن استأجر رجلا يبنى له حائطا فبنى نصفه فانهدم قبل تمامه

المسألة الرابعة عشرة فيمن استأجر رجلًا يبنى له حائطًا فبنى نصفه فانهدم قبل تمامه فقد قال ابن القاسم في "الكتاب": له بحساب ما بني، وليس عليه بناؤه ثانية -كان الآجر والطين من عند الأجير أو من عند صاحب الحائط- ثم قال: وقال غيره: لا يكون هذا إلا في عمل رجل بعينه، ولا يكون مضمونًا. وقال سحنون: وإذا كان مضمونًا كان عليه تمام العمل، وهذا في رواية ابن أبان، وفي رواية الدباغ إلا أن اسم سحنون سقط [عند] (¬1) الدباغ، وعلى هذه الرواية نقلها ابن أبان، وعلى هذا المعنى اختصرها ابن أبي زيد، فقال: هذا في عمل رجل بعينه، وعليه في المضمون تمام العمل، ووقع في بعض الأمهات، قال غيره: لا يكون هذا في عمل رجل بعينه، ولا يكون إلا مضمونًا، وعليه في المضمون تمام العمل، وقال سحنون في بعض الأمهات: مسألة الغير أصح مسائلنا، وهو أصل جيد، فعلى ما اختصر عليه الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد يكون قول الغير وفاقًا لقول ابن القاسم، وهي الرواية المشهورة، وعلى الثانية التي قال فيها لا يكون هذا في عمل رجل بعينه يكون خلاف قول ابن القاسم، ويكون قول الغير هاهنا مثل قوله في المسألة الواقعة في أول الكتاب في الذي يستأجر رجلًا على أن يبني له دارًا على أن الجص والآجر من عند البناء، فقال مالك وابن القاسم: إن ذلك جائز قالا: لأنها إجارة وشراء جص ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وآجر صفقة واحدة. وقال غيره: إذا كان على وجه القبالة، ولم يشترط عليه عمل يده، فلا بأس به إذا قدم نقده فحمل الغير المسألة أنها كالسلم، فيلزم فيها شروطية، وإن لم يذكر ضرب الأجل؛ لأنه يرى المقبوض والمعجل في جنب ما بقى تبعًا وقليلًا، وأمد الفراغ منها معلوم، وما يدخل فيها من جص، وآجر معلوم لا يخفى على الناس، فاستغنى عن ذكره، وابن القاسم لم يراع هذا؛ بل رآها إجارة وبيعًا -كانت من عمل رجل بعينه أو بغير عينه-؛ فصار شبيهًا ببيع السلعة للحاجة إلى ذلك؛ ولأن أمد فراغها معلوم وما يدخلها معلوم، وأنه يشرع في العمل، وأنه أمر قد [تعارفه] (¬1) الناس، ومسألة بناء الحائط من هذا القبيل، فكل ما بني فقد برئ منه، وصار في حكم المقبوض، فإذا انهدم قبل تمامه كان ضمانه من الأجر وللأجير من الأجر قدر ذلك، ولا تلزمه الإعادة ثانية إلا أن يكون سقوطه من سوء صنعته، فيلزمه البناء ثانية، وتمام المسألة في الأسدية قال فيها: فإن تشاحا فعليه أن يبني ما بقى من العمل فيما يشبه، وله أجره كله إلا أن يكون ذلك من سوء صنعة البناء فعليه أن يعيده حتى يبني الحائط كله. قلت: فإن لم يكن من سوء صنعة البناء فهل له أجرة كله، وعليه أن يبني ما بقى من العمل فيما يشبهه وله أجره إذا تشاحا وطلبا ذلك؟ قال: نعم. وبهذه الزيادة يتبين معنى المسألة ويزول ما فيها من [الإشكال] (¬2) [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: تعارفها. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الخامسة عشرة في التداعي بين الآجر والأجير

المسألة الخامسة عشرة في التداعي بين الآجر والأجير اعلم أن التداعي يحتوى على عدة مسائل [لاكنا] (¬1) نقتصر منها على الغامض ونغضي عن الواضح، فنقول وبالله التوفيق: لا يخلو من ثلاثة فصول: أحدها: أن يتقاررا على التسليم، والتسليط على العمل، ويختلفا فيه. والثاني: أن يتقاررا على التسليم، ويختلفا في التسليط على العمل. والثالث: أن يشاركا التسليم رأسًا. والجواب عن الصورة الأولى: نورده في خمسة معارض متدانية الجواب متقاربة المآخذ: منها أن يتفقا على العمل لكن صاحب السلعة يقول بغير أجر [والصانع] (¬2) يقول بأجر. ومنها: أن يختلفا في عين العمل المراد. ومنها: أن يختلفا في مقداره. ومنها: أن يختلفا في السكوت عن ترك ذكر الصفة، فيقول الآجر: أمرتك بكذا، ويقول الأجير: ما أمرتني بشيء، ومنها أن يتفقا على ترك الذكر ثم يختلفا بعد ذلك فيقول الآجر: ما أردت هذا، ويقول الأجير: ¬

_ (¬1) في أ: لكنها. (¬2) سقط من أ.

رأيته مما يصلح لك. فالأول: إذا اتفقا على العمل لكن صاحب السلعة يقول بغير أجر، والصانع يقول بأجر، ففيه قولان منصوصان في الكتاب: أحدهما: أن القول قول الصانع مع يمينه إذا أتى بما يشبه، وإن لم يأت بما يشبه، فإنه يرد إلى إجارة المثل، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أن الصانع يحلف، ويأخذ الأقل مما ادعى أو من أجرة المثل، وهو قول الغير في الكتاب. ووجه قول ابن القاسم: قيام الدلالة على قبول قول مدعي الاشتباه دون من لم يدعه، ولا خفاء أن الصانع إنما انتصب وتصدى غالبًا للاكتساب لا للتعب والانتهاب، والآجر يدعي خلاف هذا الظاهر فعليه البيان. ووجه قول الغير: أنه لا يصدق واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه صاحب السلعة يدعي الهبة، فعليه الدليل، والآجر يدعي الأجرة، فعليه البيان، فيحلف على كل حال ليحقق المال الذي ادعاه، وأما يمين صاحب السلطة، فتسقط تارة، وتثبت أخرى تسقط فيما إذا كان المدعي أقل من إجارة المثل أو مثلها، وتثبت إذا كان زائدًا عليها ليحط عن نفسه النائف. وأما الثاني: إذا اختلفا في عين المراد هذا يقول أحمر، وهذا يقول أخضر أو بالعكس. والثالث: أن يختلفا في مقدار الأجر هذا يقول عشرة، وهذا يقول خمسة فجواب القسمين واحد؛ وهو أن ينظر فإن كان ذلك قبل العمل فلابد من التحالف على ما ذكرناه في البيوع، فإن كان بعد العمل، فالقول قول الصانع إلا في البناء، فالقول فيه قول رب العرصة إذا اختلفا في

الأجرة على ما نقله أبو محمَّد في "النوادر" عن ابن نافع عن مالك إذا اختلفا في المراد، فقال صاحب العرصة: أردت عشرة في عشرة، وقال البناء: خمسًا في خمس تحالفا، فإن نكل أحدهما وحلف الآخر، فالقول قول الحالف فإن حلف فسخ ذلك، ويقلع البناء نقصه إلا أن يريد صاحب العرصة أن يأخذ نقضه مقلوعة، والذي أوجب داره أن التصديق لدلالة وضع اليد على الشيء المدعي فيه له أصل في الشرع، ونظير في السمع كما نقله في تكافؤ الدعاوى وعدم الترجيح، فإذا ثبت ذلك، فتصديق الصناع؛ لأنهم حائزون لما قبضوا فلا يؤخذ منهم إلا بما قالوا. وأما البناء فليس بحائز للعرصة، ولا لما فيها؛ بل الحائز ربها على القول بأن الأملاك تحرز على ملاكها؛ فلهذا لم يصدق البناء. ومما ينخرط في سلك التداعي في عين المراد مسألة الحجام الواقعة في الباب جرى فيها ابن القاسم وسحنون على المقول الذي فرغنا منه آنفًا؛ فابن القاسم يصدقه في الأجرة، وفي طرح العداء عن نفسه؛ لأنه من البعيد أن يمكنه العليل من قلع ما لا يريد، وسحنون يصدقه في طرح العداء إلا في الأجرة ويتحالفا فيدفع الحجام شبهة العداء، ويدفع العليل بيمينه ما ناف على أجرة المثل حتى لو كانت تسميه مثل إجارة المثل أو أقل لم يكن ليمينه وجه. وقال في بعض الأشياخ: إنما يتصور الخلاف في هذه المسألة بحصول الأشباه بكون الذاهبة معتلة، والباقية مختلة، فأمَّا إن كان الذاهبة معتلة، والباقية غير مختلة لكان القول قول الحجام لانفراده بالأشباه، والآخر يريد سقوط الأجرة. ولو كانت الباقية مختلة والذاهبة غير معتلة علم ذلك بالنظر إليها في موضعها إلا أن القول قول العليل، ويحلف حذار الغلط منه في الذاهبة

لمعاراتها الباقية في الألم، ويستحق دية الذاهبة إلا أن يكون في الباقية دليل على فسادها من اسودادها وصفًا للذاهبة، فيصدق العليل من غير يمين. وأما الوجه الرابع: وهو الاختلاف في ترك الذكر مثل أن يقول الصانع بعد أن قطع الثوب قميصًا مثلًا: لم تأمرني بشيء، وقال صاحبه: بل أمرتك بقطعه فيتقاررا أو لا، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قول الصانع مع يمينه إلا أن يقطعه قطعًا لا يلبسه الآجر، وهو قوله في "الموازية". والثاني: إذا أقر الصانع أنه لم يأمره بشيء فهو متعد، وهو قول أحمد ابن ميسر قال: وإنما يصح الجواب على ما في الموازية إذا قال له صاحب الثوب: اقطعه على ما ترى، وقد عرف ما يقطع الرجل. فوجه القول الأول: أنه لما صدق في الاختلاف، ففي المقدار، وفي المراد لما قدمناه من قوة دلالة اليد؛ فكذلك يصدق في إنكار الصفة. ووجه القول الثاني: أن الصانع إذا أقر أنه لم يؤمر بشيء، فهو مبعد لإقدامه على العمل دون صفة، ودون ما يقوم مقامه من العرف. وأما الخامس: إذا اتفقا على ترك الذكر، فيختلفا بعد ذلك فقال الآجر: ما أردت هذا، وقال الأجير: رأيته مما يصلح لك، فنص المذهب على أنه إن عمل ما يشبه لباس الرجل لم يضمن، وإن كانت الصنعة عامة بفحواها شاملة لمبناها، فالواجب تنزيلها على محل أحكام العرف؛ لأنه أصل في الأحكام والقيد العرفي كالقيد الشرطي. والجواب عن التفصيل الثاني: إذا اتفقا في التسليم واختلفا في التسليط؛ مثل أن يدعي الصانع أنه استعمله فيه، والآجر يقول: بل استودعتكه، فالمذهب على قولين أيضًا:

أحدهما: أن القول قول الصانع مع يمينه إذا أتى بما يشبه، ووجهه: ما قدمنا الإشارة إليه من شهادة العرف للصانع؛ لأن استصناعهم هو الغالب المعتاد واستيداعهم هو النادر الشاذ، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه مصدق في طرح العداء مع يمينه، ولا يصدق في التسمية إذا زادت على إجارة المثل، فأقل لم يكن عليه يمين، وهو قول الغير. والتوجيه ما تقدم من مسألة الحجام. والجواب عن الفصل الثالث: إذا تناكر التسليم رأسًا، وقال: سرق مني، وقال له صاحبه وهو يحاوره وهو الأجير: بل استعملتني، وجاء معمولًا، فلا يخلو من أن يضيف إليه السرقة، أو قال: سرق مني ولم يضفها إليه. فإن قال: سرق مني، ولم يضفها إليه، ولا عين عمرًا من زيد، فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أن كل واحد منهما مدع على صاحبه، وهو قول ابن القاسم، ووجهه أن كل واحد منهما جاء بما يشبه؛ لأن الصانع يدعي الاستصناع، ولها حلس والأجير لما أنكر التسليم والتسليط صار مدعى عليه، قال ابن القاسم: يتحالفان، فإذا تحالفا فصاحب الثوب بالخيار؛ لأن الأصل له، وقيل له: ادفع إليه أجر عمله، فإن أبى قيل للآخر: ادفع إليه قيمة ثوبه غير معمول، وهذا بقيمة عمله. والثاني: أن العامل مدع، ولا يكونا شريكين -يريد؛ لأنه ادعى الاستعمال على المالك- ويجبر على غرم القيمة، وإن أراد صاحب الثوب، ولا يكونان شريكين، وهو قول غيره في المدونة، وإنما جعلهما ابن القاسم شريكين؛ لأن اختلافهما شبهة على ما قدرناه، فإذنهما الإباه إلى الشركة

كالأنثى تشبهه. وأما إذا أضاف السرقة إليه، فقال: سرقت متاعي، فإن كان الصانع ممن يشاء إليه بذلك، وهو صانع منتصب كان الجواب على ما تقدم من الخلاف لقيام الشبهة، ولا عقوبة على المدعي. وإن كان ممن لا يشار إليه بذلك كان القول قول الصانع، ويعاقب الآجر. واختلف أشياخنا في تأويل هذه المسألة؛ فمنهم من حملها على ظاهرها، وقال: التحالف قبل التخيير يحلف صاحب الثوب أولًا ليدفع عن نفسه ما ادعى عليه من التسليط، ويحلف الآخر ليدفع ما ادعى عليه من التعدي؛ لأن التخيير إنما يستحق بالتحالف؛ يقال لصاحب الثوب: ما تريد؟ فإذا قال: تضمين قيمة ثوبي، كان التحالف على ما في "المدونة"، فإن قال: أريد ثوبي نظر إلى قيمة ما فيه من العمل. فإن كان أكثر من دعوى الصانع، أو مثله فلا أيمان بينهما، ويقال له: هبك أن الأمر كما قلت أما كنت تقدر على أخذه إلا بعد غرم إجارة المثل أو ما ادعى الصانع إن كان أقل لأجل الشبهة. فإن كان مما ادعى الصانع أكثر حلف صاحب الثوب وحده يسقط الزائد، وإن نكل حلف الصانع وأخذ المسمى، قال: وهذا إذا لم يضف السرقة إليه، فأما إن أضافها إليه، فلابد من التحالف ليوجب أحدهما الضمان، ويبرأ منه الآخر. ومن هذا القبيل فمسألة اللات الذي قال: أمرتني أن ألته بكذا، وقال الآخر: ما أمرتك بشيء، قال في الكتاب: يقال لصاحب السويق: إن شئت فأعطه ما ألته به وخذ السويق، وإن أبى قيل للآخر: اعطه مثل

سويقه غير ملتوت وإلا فأسلمه ملتوتًا، ولا يكونان شريكين لوجود المثل القائم مقام العين، وهذا قول ابن القاسم وغيره يقول: إذا أبى صاحب السويق من دفع الأجرة كان على اللات أن يغرم مثل سويقه غير ملتوت، وهذا السؤال كالذي قبله؛ لأن رب السويق ما أقر بالتسليم فضلًا عن التسليط، وإنما قال: سرق مني؛ فرأى ابن القاسم أن التعدي لا يثبت بالتداعي فلم يضمنه المثل؛ ولهذا جوز أخذه ملتوتًا، ولم يره طعامًا بطعام متفاضلًا، والغير يراه متعديًا بوضع اليد على مال الغير العاري عن الإذن، فألزمه المثل عند الامتناع عن الأخذ، ولم ير ذلك طعامًا بطعام متفاضلًا؛ لأنه عن ذمته يعتاض، ومن الأصحاب من لا يرى قول الغير خلافًا لقول ابن القاسم قائلًا بأن قوله وإلا قضى على اللَّات، يريد: إذا أبى صاحب السويق من أخذ الملتوت، فللنظر فيما قال مجال [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السادسة عشرة في الذي يقول للرجل: احصد زرعي هذا ولك نصفه، أو جذ نخلي هذا، أو التقط زيتوني هذا ولك نصفه

المسألة السادسة عشرة في الذي يقول للرجل: احصد زرعي هذا ولك نصفه، أو جذ نخلي هذا، أو التقط زيتوني هذا ولك نصفه ولا يخلو ذلك من أربعة أقسام: أحدها: أن يقول: احصد زرعي هذا، ولك نصفه. والثاني: أن يقول: فما حصدت أو لقطت، فلك نصفه. والثالث: أن يقول: فما حصدت اليوم، أو لقطت فلك نصفه. والرابع: أن يقول: احصده وادرسه وذره على أن لك نصف ما يخرج منه. فالجواب عن القسم الأول: إذا قال له: احصد زرعي هذا ولك نصفه، فلا خلاف في المذهب في جواز ذلك لجواز بيعه على تلك الصفة، وكل ما يجوز بيعه تجوز الإجارة به، فإذا حصد جميع الزرع، فقد استحق نصفه، ثم يكون ما بقى من العمل بينهما أنصافًا، وكذلك الحكم إذا لم يقل كله، فإن ضاع الزرع بعد الحصاد كان الضمان منهما جميعًا. فإن هلك الزرع قبل الحصاد؛ مثل أن يحترق أو يصيبه جليد وهو قائم هل يكون الضمان منهما جميعًا أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن الضمان من ربه خاصة؛ لأنه لا يدخل في ملك الأجير إلا بعد الحصاد، وهذا القول يستقرأ من "المدونة" من غير ما موضع منها قوله في آخر "كتاب الجعل والإجارة" حيث قال: فأمَّا الحصاد فهو من حين يحصده وجب له نصفه، فقال بعض المتأخرين: بهذا يستدل على أنه

إنما يجب له بعد حصاده، ونصوص المذهب أن الأجير لا يستحق الإجارة إلا بعد استيفاء العمل، فكيف يقال في هذه المسألة أن الضمان منهما جميعًا، ويجعل الأجير يملك الأجر بنفس العقد؟ ولا حجة لمن احتج بكون الأجير معينًا، والمعين يدخل في الملك بنفس العقد، وإلا كان من باب المعين يتأخر قبضه بدليل تعيين السلعة في البيع؛ إذ للبائع أن يحجبها حتى يقبض الثمن، ولاسيما على القول بأن المشتري هو المخاطب بتسليم الثمن أولًا، فما دام المشتري لم يدفع الثمن، فالسلعة في ضمان البائع والإجارة بيع؛ إذ لا فرق بين بيع المنافع وبيع الأعيان. فإذا جعلنا الأجير هاهنا كالمشتري ورب الزرع كالبائع والأجير مخاطب بتسليم المنافع أولًا، فإذا مسكها صح له الزرع، ودخل في ملكه، وقبل أن يشرع في الحصاد يعني الزرع في ضمان ربه، وذلك لا يخفى على من اعتاد اختراع أبكار المعاني، وراض فكره في اقتباسها بالمعاني، وأما من طبع بطبائع البليد، وقيد بسلاسل التقليد، فإنه عنده أخفى من الخفاء وأبعد من السماء. وعلى القول بأنه في ضمانه بنفس العقد، فما الذي يجب لرب الزرع على الأجير؟ فإن المذهب فيه على قولين: أحدهما: أن يستحصد الأجير في مثل ذلك الزرع، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". والثاني: أن عليه نصف قيمة الزرع، وليس عليه [باقي] (¬1) نصفه، وهو قول سحنون في الكتاب المذكور. قال يحيى بن عمر: لأن الزرع يختلف، وقاله ابن القاسم أيضًا. ¬

_ (¬1) هكذا رسمها بالأصل.

والجواب عن القسم الثاني: إذا قال: فما حصدت أو لقطت فلك نصفه، هل يجوز ذلك أم لا؟ ففي الكتاب قولان: أحدهما: الجواز، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن ذلك لا يجوز، وهو قول غيره. ووجه قول ابن القاسم: أن الأجير عالم بما ينفع من الزرع؛ لأنه كلما أراد أن يقطع عرجونًا أو يحصد موضعًا، فإذا وضع يده عليه فيحده علمه حينئذ قبل أن يجذه وجذه على علم أن له نصفه. ووجه قول الغير: أن ذلك غرر وخطر لا يدري قدر ما يجذ، ولا ما حصد، ولا ما يلقط، ولا يدري متى شاء، وهل يترك بعد ما عمل قليلًا أو كثيرًا؟ والجواب عن القسم الثالث: إذا قال له: فما حصدت اليوم أو لقطت فلك نصفه: فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه جعل والجعل لا يجوز فيه الأجل؛ لأن الأجير غير عالم بما يصح له في ذلك إلا أن يشترط له أن يترك متى شاء، فيتخرج على الخلاف الذي قدمناه في الجعل إذا ضرب فيه أجل؛ فظاهر "المدونة" الجواز، ولابن القاسم في "المدونة" أنه لا يجوز، وقد قال في الذي قال: جذ نخلي هذا، واترك متى شئت ولك نصف ما عملت أنه لا أجر فيه. والجواب عن القسم الرابع: إذا قال: احصد زرعي هذا وادرسه، ولك نصفه، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وغيرها.

والثاني: أن ذلك جائز، وهي رواية أشهب عن مالك في "العتبية"، وهذا القول قائم من المدونة. وعند ذكر منشأ الخلاف يتبين لك الاستقراء. وسبب الخلاف: اختلافهم في بيع الزرع بعد حصاده وقبل دراسه، هل يجوز أم لا؟ فمن رأى أن ذلك لا يجوز قال: لا تجوز به الإجارة؛ لأنه استأجره بما يخرج من حبه، وذلك مجهول قدره؛ لأن بيعه على تلك الحالة غرر وخطر لكون الزرع أغمار لا يقدر على حرزه لتغيب بعضه بعض، وهذا هو المشهور الذي عليه الجمهور، ومن رأى أن ذلك جائز، وأن بيعه أغمار أو حالًا لا غرر فيه، وأن ذلك يدرك حرزه بالتحري كما يدرك وهو قائم، وهو محل الاتفاق قال: بجواز الإجارة بذلك. والقول بجواز بيعه بعد حصاده قائم من المدونة من أول "كتاب الجعل والإجارة" حيث قال مالك: لو أن رجلًا باع حنطة في سنبلها على أن يدرسها، ويدريها كل قفيز بدرهم أن ذلك جائز، فلم يذكر الحصاد، وظاهره أنه مخصور: فقال بعض المحققين: فيه دليل على جواز بيع الزرع المحصود حزمًا. ويؤخذ له من آخر الكتاب المذكور: حين يحصده وجب له نصفه، وهي رواية ابن نافع، وأشهب عن مالك. وأما قوله: "انقض زيتوني هذا، فما نقضت من شيء فلك نصفه"، فإن ذلك لا يجوز، ولا أعرف في المذهب فيها نص خلاف إلا شيئًا وقع في "النوادر" نقله الشيخ أبو محمَّد عن مطرف، وابن الماجشون في الذي قال لرجل: انقض زيتوني هذا -أو قال القطه- ولك نصفه فجائز، وكذلك إن قال: فما لقطت أو نقضت فلك نصفه، وقال: وأجازه ابن

القاسم في اللقط، ولم يجزه في النقض، وهذا نص قوله. فقال الشيخ أبو محمَّد: ومحمل قوله: فما نقضت يقول: ما جمعت؛ كقوله: اقطف كرمي، أو جذ تمري بنصفه. فإن كان مرادهما كما تأوله الشيخ كان كما قال ابن القاسم، وإن كان مذهبهما المساواة بين النقض واللقط كان خلافًا، وربك أعلم. والفرق بين اللقط والنقض أن اللقط من جنس مقدور العبد، وأنه متمكن منه، ولا حاجز -يحجزه إلا العجز والكسل، وذلك يرجع إلى أمر معلوم إن جد جلب وجمع الحب، وإن تكاسل قل ما يتحوصل له من الحاصل؛ فذلك يرجع إلى بذل الجد والاجتهاد. وأما النقض، فإنه غير منوط بمقدوره؛ إذ قد يجد ويقصد، ولا يسقط شيئًا، وقدره يتساقط، والذي يسقط مجهول تارة يكثر، وذلك غاية الغرر، ونهاية في الخطر. [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السابعة عشرة في الجعل على طلب الآبق

المسألة السابعة عشرة في الجعل على طلب الآبق ولا يخلو من وجهين: إما أن يجعل فيه لمعين، أو لغير معين. فإن جعل فيه لمعين فلا يخلو من أن يجعل لواحد في اثنين أو لاثنين في واحد. فإن جعل لواحد في اثنين، فلا يخلو الجعل الذي جعل عليهما من أن يكون متساويًا أو مختلفًا. فإن كان متساويًا وقد عرفهما المجعول له أو جهلهما، فالجعل فاسد، فإن نزل ووقع وأتى بهما جميعًا، ففيه قولان: أحدهما: أن له العشرة التي سمى. والثاني: أن له جعل مثله. والقولان لابن القاسم في "الواضحة". وإن أبى أحدهما، فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن له نصف العشر، وهو قول ابن نافع في "الكتاب" -اتفقت قيمتها أو اختلفت. والثاني: أن العشرة تقسم على قدر قيمته من قيمة الآخر من يوم أبقا، فيعطى له العشرة بقدر ذلك، وهو قول أشهب، وأصبغ في "كتاب ابن المواز". والثالث: أنه له فيه جعل مثله على قدر عنائه وتعبه، وهو قول ابن

القاسم في "المدونة" و"الواضحة". والرابع: التفصيل بين أن تتفق قيمتها أو تختلف؛ فإن اتفقت قيمتها كان له نصف العشرة، فإن اختلفت كان له جعل المثل، وهو قول ابن القاسم في "الموازية" أيضًا، والذي ينبغي إذا اتفقت قيمتهما أن يكون له نصف العشرة بلا خلاف وإلا فما وجه الخلاف في هذا الوجه. فإن كان الجعل مختلفًا؛ مثل أن يجعل في ناصح ستة دنانير، وفي مرزوق أربعة فلا يخلو المجعول له من أن يكون يعرفهما أو لا يعرفهما. فإن كان يعرفهما جاز قولًا واحدًا. فإن كان لا يعرفهما، فهل يجوز الجمع أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو الأحسن؛ لأن من شرط الجعل أن يكون معلومًا، ولا يجوز الجهل بمقداره، وقد يسمع بواحد منهما في بلد ويقصده، ولا يدري هل هو ناصح أو مرزوق، والإجارة عليهما مختلفة. والثاني: أن ذلك جائز، وذلك الجهل مستخف لوجود مثل ذلك بعد معرفته بهما، فقد يدل على عبد منهما، ويسمع به، ولا يعرف أيهم هو فيجوز له أن يمضي لطلبه قبل معرفته، هل هو ناصح أو مرزوق؛ لأن هذه ضرورة. والقولان لابن القاسم في "كتاب محمَّد"؛ فلهذا جوز الجعل في الكتاب المذكور، وإن كان مختلفًا من غير مراعاة لقيمتهما هل هي متساوية أو مختلفة. وأما إن جعل الاثنين في واحد؛ مثل أن يجعل للواحد عشرة وللآخر خمسة فأتى بهما فالمذهب على قولين منصوصين في الكتاب: أحدهما: أن العشرة بينهما أثلاثًا: لصاحب العشرة ثلثاها، ولصاحب

الحسبة ثلثها، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن يكون لكل واحد منهما نصف ما جعل له؛ لأن كل واحد منهما أتى بنصفه، وهو قول ابن نافع، وقول ابن القاسم أوفى لصاحب الخمسة، وقول ابن نافع أصح، وأجرى على أصول الحساب. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا جعل فيه لغير معين مثل أن يقول من جاءني بعبدي الآبق فله عشرة دنانير، فجاء به رجل فلا يخلو هذا الذي من أن يسمع ذلك من الجاعل أو لم يسمع، فإن سمع ذلك من الجاعل فله عشرة دنانير وسواء كان شأنه طلب الآباق أم لا. فإنه جاء به من لم يسمع السيد ولا علم بالجعل، فلا يخلو من أن يكون ذلك شأنه أم لا؟ فإن كان ذلك شأنه فله الأقل من جعل المثل، والمسمى وهو قول ابن القاسم في المدونة، والعتبية، وقد قال في كتاب اللقطة من المدونة: فله أجر مثله على قدر عنائه وتعبه. فإن لم يعلم بالجعل ولا كان شأنه فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الجعل ثابت إذا قال عملت على الجعل، ولم أتطوع بعملي، ويكون له الأقل من المسمى أو المثل وهو قول ابن حبيب في واضحته. والثاني: أن له النفقة، ولا جعل له، وهو قول ابن القاسم في كتاب اللقطة من المدونة. واختلف إذا طلبه من علم موضعه ثم أتى سيده، فقال له: اجعل لي هل يجوز ذلك أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا شىء له؛ لأنه أخذ الجعل على ما وجب عليه فعله، وهو قول ابن حبيب.

والثاني: أن يعطى له على قدر عنائه فيه إلى ذلك الموضع، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". واتفقوا على أنه لا يجوز له الجعل على موضعه ومكانه؛ لأنه قد وجب عليه إعلامه بذلك. تم الكتاب بحمد الله وبحسن عونه.

كتاب المساقاة

كتاب المساقاة

كتاب المساقاة تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ثلاث مسائل: المسألة الأولى في جواز المساقاة وشروطها التي يتوقف الجواز عليها والمساقاة مشتق من سقي المثمرة؛ إذ هو معظم عملها، وأصل منفعتها، وهي سنة على حيالها وهي مستثناة من المخابرة وهي كراء الأرض بما يخرج منها من بيع الثمرة قبل طيبها، وقيل: وجودها، ومن الإجارة بالغرر والمجهول. والأصل في جوازها مساقاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر ومعاملته إياهم على ذلك، وللضرورة الداعية إلى ذلك، وهي أصل منفرد بأحكام تختص به، وتنعقد بالقول كسائر الإجارات والمعاوضات، واختلف هل تنعقد بغير لفظها أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها لا تنعقد إلا بلفظة المساقاة، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنها تنعقد بلفظ الإجارة، وهو مذهب سحنون. فإذا ثبت ذلك، فاعلم أن الأصول في المساقاة ثلاثة: أصل له ساق ثابت تجني ثمارها. والثاني: ما ليس له ساق ثابت. والثالث: ما يجز ويخلف. فأمَّا الأصل الأول وهو ما له ساق ثابت يجني ثمارها وهو قائم كالنخل والأعناب، وما في معناهما فلا خلاف في جواز المساقاة فيها بشرط واحد

وهو أن تكون المساقاة قبل الإزهاء لارتفاع الضرورة؛ إذ به يحل البيع فإذا جاز البيع منعت المساقاة. وأمَّا الأصل الثاني -وهو ما ليس له ساق ثابت يجني من أصله كالزرع، وقصب السكر، والبصل واللفت، وسائر المقاني، فقد اختلف في جواز مساقاته على ثلاثة أقوال: أحدهما: جواز مساقاته جملة بلا تفصيل، وهو قول ابن نافع. والثاني: أنه لا تجوز فيه المساقاة جملة بلا تفصيل بين أن يعجز أو لا يعجز. والثالث: التفصيل بين أن يعجز أو لا يعجز. فإن عجز عنه صاحبه جازت فيه المساقاة. وإن لم يعجز عنه لم تجز المساقاة، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. فعلى القول بجواز المساقاة على هذا التفصيل، فلجوازه ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون ذلك بعد ظهوره من الأرض، وإن كانت معينًا فيها، لم يجز لعدم شبهيته بالأصول قبل الإثبات. والشرط الثاني: أن يكون ذلك قبل أن يحل فيه البيع لما تقدم. والشرط الثالث: أن يعجز عنه صاحبه عجزًا ينعدم فيه لو ترك، فإن لم يوجد العجز لم يجز. والأصل الثالث من أصل التقسيم: وهو ما يجز ويخلف؛ كالموز، والقصب، وسائر البقول، هل تجوز فيه المساقاة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن مساقاتها لا تجوز بوجه، وهو مذهب "المدونة"، وهو

المشهور؛ لأنها على أحد وجهين: إما أن لا ينبت بعد، ومساقاة المغيب لا تجوز. وإما أن يكون قد نبت: فكذلك أيضًا لجواز بيعها باستقلالها، فلا مساقاة بعد جواز البيع. والثاني: جواز المساقاة فيها، وهو قول ابن نافع وغيره. والأصل في المساقاة ألا تجوز إلا في الأصول التي يتكدد بكدها الكادح؛ كالنحل والعنب؛ إذ للعمل فيهما أمد بعيد، وفيهما جاء الشرع بها. فإذا ثبت هذا، فمن منع المساقاة فيما تقدم رأى أن عملها متقاصر عن بلوغ المرتبة في الكد المتقضي للإجزاء. ومن قال بالإجزاء قاسها على الأصول بعلة الأصالة. ومن فصل فقد حصل ورآها عند عدم العجز بعيدة عن الأصول لتفاهة عملها، وبالعجز تنحو نحوها، وأقيم العجز مقام دوام العمل المتفق عليها، والحمد لله وحده.

المسألة الثانية في حكم المساقاة الفاسدة

المسألة الثانية في حكم المساقاة الفاسدة اعلم أن المساقاة الفاسدة والقراض الفاسد: الكلام بينهما واحد، فلنجمع بينهما في الكلام في هذا المقام، فنقول وبالله التوفيق: اختلف أرباب المذهب في القراض الفاسد والمساقاة الفاسدة؛ إذ فات بالعمل على أربعة أقوال: أحدها: أنه يرد إلى قراض المثل، أو إلى مساقاة المثل، أو إلى إجارة المثل، جملة بغير تفصيل، وهو قول عبد الملك بن الماجشون، وروايته عن مالك، ويحكى هذا عن أشهب أيضًا. والثاني: أن الحكم فيها إجارة المثل جملة بلا تفصيل، وهذا القول مروي عن مالك أيضًا، وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة في القراض الفاسد. والثالث: أنهما يردان إلى الأقل من الجز المسمى، أو من قراض المثل، أو مساقاة المثل إن كان الشرط من رب المال، وإن كان العامل: فله الأكثر مما ذكرنا، وهذا القول حكاه ابن المواز في القراض بالضمان. والقول الرابع: إن ما كان من زيادة يزدادها أحدهما على الآخر على وجه ممنوع: ففيه يرد إلى إجارة المثل في القراض والمساقاة. وإن كان شرط داخل من زيادة يزدادهما أحدهما على الآخر على وجه ممنوع: ففيه يرد إلى إجارة المثل في القراض والمساقاة، وإن كان شرط داخل في المال غير خارج عنه: ففيه يرد إلى قراض المثل أو مساقاة المثل، وهو مذهب ابن القاسم على تقييد وتفصيل لأشياخنا فيه نورده آخر المسألة

إن شاء الله. ولا خفاء لما في هذين القولين من الضعف والوهاء، وإنما يتردد النظر بين القولين الأولين؛ إذ هما الجاريان على جادة القياس والطريق المقاس. وينبني الخلاف: على الخلاف في نفي الحكم عن الأسماء الحكمية، هل تنتفي الأسماء بانتفاء أحكامها أم لا؟ والأسماء هاهنا تسمية هذا قراض، وتسمية هذه مساقاة والأحكام التي تصورها هذه الأسامي وتتوارد عليه الصحة. فإذا انتفت هل ينتفي الاسم والبطلان؟ والمقصود هذا الموضع أحكام الصحة، فإذا انتفت هل ينتفي الاسم حتى لا يسمى قراضًا، ولا مساقاة أم لا؟ فهذا معنى الحكم. والقول بإجارة المثل مبني على نفي الاسم بنفي الحكم؛ لأنه من جملة أوصافه ينتقل بانتقالها، فإذا وجدنا الاسم والحكم منتف عنه: وجب بذلك نفي الاسم، فإذا قلنا بخروجه عن اسمه لمحض أن تكون إجارة، وصار إجارة معنى، وإن كان قراضًا لفظًا. والقول بالقراض المثل أو بالمساقاة المثل مبني على أن الاسم لا ينتفي بنفي الحكم؛ لأنه ليس بمعنى ذاتي، وإنما هو معنى منفصل عن الاسم بدليل أنه يتعلق بالاسم بعد ثبوته؛ لأنه يسمى قراضًا قبل أن يتصف بالصحة أو بالبطلان. فإذا ثبت أن الاسم لا ينتفي بانتفاء الحكم: فإنه يرد فاسده إلى صحيحه لا إلى إجارة لبعدها منه وقربه إلى قراض صحيح لبقاء الاسم؛ فالأوضح الأقيسة على رد النظير إلى النظير، وإلحاق الشبيه بشبيهه؛ إذ الشيء ينحو إلى شكله، ويتنحى عن ضده، وهذا البناء

يروق، ولكن لا يستنشق أريجه إلا الغواصون في بحار المعانى، وعن هذين القولين يجب البحث لا ما ورائهما من الخلاف في تعليل الفرق روايتان: إحداهما: أن قراض المثل أو مساقاة المثل متعلق بالربح إن كان ويفوت فسخه بالعمل وأجرة المثل متعلقة بذمة رب المال، وإن لم يوجد الربح، ويفسخ أبدًا، وهذا هو المشهور عن أصحابنا. والثانية: الفرق بين القراض والمساقاة؛ فالقراض يفسخ أبدًا، ورد إلى قراض المثل، وإجارة المثل؛ لأنه لا غاية له محصورة ولا نهاية معلومة. فإن كان مما يرد فيه إلى إجارة المثل: كانت الإجارة متعلقة بربح المال، وإذا لم يكن في المال ربح لم تكن له إجارة، ويرد ما بيده مع السلع إلى رب المال، وتكون له أجرة المثل في شرائها والفسخ فيما يرد إلى قراض مثله، فلا ترد العروض إلى صاحب المال، وإنما معناه أنه لا يتمادى على العمل إذا نض المال بيده على ذلك القراض الفاسد. وأما المساقاة: فالحكم فيها على ما قيل في الرواية الأولى، وهذا قول ابن حبيب في "الواضحة". وأما قولنا: يرد ما بيده من السلع، إلى قوله: على ذلك القراض الفاسد: فليس هو من كلام ابن حبيب، وإنما هو تفسير القاضي أبي الوليد بن رشد، وقد حكى أبو محمَّد عبد الوهاب عن القاضي أبي الحسن ابن القصار أنه قال: يحتمل قول مالك عندي أن يكون له ما يساوي قراض مثله، وإن كان في المال وضيعة أيضًا، وقال القاضي أبو محمَّد: فالفرق على هذين قراض المثل وإجارة المثل: أن إجارة المثل متعلقة بالإطلاق، وقراض المثل متعلق بالشرط الذي شرطاه، وتفسير ذلك أن يقال في الإجارة: إن استأجرت المال من عمل له هذا العمل كم تكون إجارته، فيكون ذلك للعامل، ويقال في القراض إذا كان العامل قد رضي بجز كذا

وكذا على هذا الشرط الفاسد، فكم كان ينبغي أن يكون له؟ فما قل من شيء فهو قراض المثل على تأويل القاضي أبي الحسن راجع إلى إجارة المثل، وإنما يختلف ذلك على تأويله في صفة التقويم، وهو بعيد جدًا. فإذا قلنا بأنها متعلقة بذمة رب المال، فهل يكون أحق بربح المال من الغرماء أم لا؟ ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يكون أحق به من الغرماء. والثاني: أنه لا يكون أحق به منهم، وهو قوله في "كتاب ابن المواز"، وهو ظاهر "المدونة". وقد تأول ما في "الكتاب" على أنه قد دفع المال لربحه، وأخرجه من يده، ولذلك جعله أسوة الغرماء. والقولان قائمان من "المدونة". وسبب الخلاف: اختلافهم في الرهن، هل يكون رهنًا بغير لفظه أم لا على ما وقع في كتاب الرهون من أن البقعة على الراهن، ومن أشياخنا من قيد المذهب الذي أشرنا إلى ضعفه من حيث القياس، فقال مذهب ابن القاسم أنه أجبر في فاسد المساقاة أجمع: لا في أربع مسائل، منها: مسألة المساقاة والبيع، ومساقاة المذهبي من الثمار إذا ساقاه فيه سدس فهو أجبر في السنة الأولى دون ما بعدها، ومساقاة الحائطين في صفقة على أجزاء مختلفة، أو حائط واحد في سدس على أجزاء مختلفة، أو ساقاة حائطًا على أن يكفيه مؤونة حائط آخر فهو أجير في الحائط المكفي مؤونته، وفي الآخر مساقاة المثل، وكل هذا أصل واحد. والرابع: أن يشترط العامل مؤنة رب المال. قالوا: وأما في القراض: فهو أجير إلا في سبع مسائل على مذهبه في "المدونة" منها:

مسألة القراض بالعروض، ويكون له الأجرة في بيع العروض، ويرد الثمن إلى قراض المثل، وهذا إذا قال: بعه، واعمل بثمنه قراضًا. وأما إن قال له خذه على أن يكون هو رأس المال، أو قيمته يوم العقد، أو يوم التفاصل: فهو أجير. والثانية: القراض المبهم إذا لم يسم له جزاءً معلومًا. والثالثة: القراض بالضمان. والرابعة: قراض إلى أجل. والخامسة: إذا قال له: اعمل على أن لك شركاء في المال. والسادسة: إذا اختلفا وأتيا جميعًا بما لا يشبه، فحلفا على ذلك. والسابعة: إذا نهاه أن يبيع بالنقد، فباع به أو نهاه أن يشتري غير السلعة الفلانية غير عامة الوجود، فاشترى غيرها، وعبر عن هذا النوع بالقراض المكروه، وعن ما عداه بالقراض الفاسد، والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة في دواب الحائط المساقي وعبيده

المسألة الثالثة في دواب الحائط المساقي وعبيده ولا يخلو الحائط في حين المساقاة من وجهين: إما أن يكون مشغولًا بدواب رب الحائط، أو كان فارغًا منها. فإن كان مشغولًا بدواب رب الحائط وعبيده: هل يجوز لرب الحائط إخراجهم إذا لم يشترط العامل بقاءهم في الحائط أو الحكم يوجب بقاءهم للعامل؟ فإن لم يشترطهم: فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الحكم يوجب بقاءهم للعامل، وإن لم يشترطهم فإنه لا يجوز لرب الحائط إخراجهم عند عقد المساقاة إلا أن يكون قد أخرجهم قبل عقد المساقاة، فإن اشترط إخراجهم عند العقد: كانت مساقاة فاسدة يرد فيها إلى إجارة المثل، والثمر لرب الحائط، وهذا نص قول ابن القاسم في "المدونة" وهو مشهور المذهب؛ بناء على أن الحكم يوجب بقاءهم في الحائط دون الشرط. والثاني: أنه يجوز لرب الحائط إلا أن يشترطهم العامل، وهو قول ابن نافع، ويحيى بن عمر في "كتاب ابن مزين"، وهو ظاهر قوله في "المدونة": إذا كان في الحائط دواب وغلمان يعملون، ويشترطهم العامل: فلا بأس بذلك. ولفظ الاشتراط موقوف في أكثر الأمهات ثابت في الأسدية: فإذا هلكت تلك الدواب والغلمان: فعلى رب الحائط خلفهم على القولين جميعًا.

فإن كان الحائط فارغًا من الدواب في حين التعاقد، فاشترط العامل على رب الحائط أن يعينه بدابة أو غلام: فلا يخلو الحائط من أن يكون صغيرًا أو كبيرًا؛ فإن كان صغيرًا مما تكفيه دابة واحدة: فلا يجوز للعامل اشتراطها على رب الحائط؛ لأن ذلك زيادة ازدادها العامل. فإن كان الحائط كبيرًا: فإنه يجوز للعامل أن يشترط على رب الحائط أن يعينه بدابة أو غلام؛ لأن ذلك لم يزل من عمل الناس. تم "كتاب المساقاة" بحمد الله وحسن عونه، وصلى الله على محمَّد نبيه وعبده.

كتاب الجوائح

كتاب الجوائح

كتاب الجوائح تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ثلاث مسائل: المسألة الأولى في معرفة ما توضع في الجائحة مما لا توضع فيه اعلم أن المبيع الموضوع فيه الجائحة على ثلاثة أضرب: ثمار يجنس أولها على آخرها؛ كالنخيل، والعنب، والزيتون، والجوز، والتفاح، وما يجري مجراها: فهذه يراعى في جوائحها الثلث بثلث الثمرة، ونصفها بنصفها إجماعًا؛ لأن المذهب عند اتحاد الجنسية والنوعية. والضرب الثاني: ما كان الغرض في أعيانها دون ما يخرج منها؛ كالبقول، والأصول المغيبة، فهل فيها جائحة أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه توضع فيه الجائحة في القليل والكثير من غير اعتبار الثلث، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أنه لا توضع فيه الجائحة أصلًا، وهذا القول مروي عن مالك أيضًا. والثالث: أنها توضع في الثلث فصاعدًا، ولا توضع فيما دون الثلث كالثمار، وهي رواية علي بن زياد، وابن أشرس عن مالك في "الكتاب". والرابع: التفصيل بين ما تجوز فيه المساقاة مع العجز كالفجل والاسفنارية واللفت: فلا توضع فيه الجائحة إلى أن يبلغ الثلث، وبين ما

لا تجوز فيه المساقاة من البقول، فإن الجائحة توضع في قليله وكثيره، وهي رواية سحنون عن ابن القاسم في "العتبية" ومثله في "كتاب ابن المواز". وسبب الخلاف بين القولين المتقابلين: في وضع جائحة البقول هل يلحق بالأصول الذي هو الثمار أو لا يلحق بها؟ وأما اختلافهم في اعتبار الثلث بعد اتفاقهم على وضعها: التعلق بالعموم في أمره - صلى الله عليه وسلم - بوضع الجوائح، هل يسوغ في كل ما توضع فيه الجائحة في القليل والكثير إلا ما خصصه العرف من الثمار التي جرت العادة بأن يتساقط بعضها ويتعض، وأن عواف الطير تأكل منه في أغلب الأحوال فكأن المشتري دخل على ذلك، فلذلك لا توضع فيه الجائحة حتى يبلغ الثلث، وبقى ما عداها على الأصل مما لم تجر العادة بتساقط بعضها مثل البقول وغيرها، ثم لا يقاس عليها؛ لأنها من أصول المستثناة، ويجوز قياس البقول على الثمار، فيعتبر الثلث في الجميع. والضرب الثالث: متردد بين البقول والأصول، له شبه في البقول بأن أصله مبيع مع ثمره، وله شبه بالأصول بأن المقصود منه ثمرته كالمقاني والمباطخ والقرع والباذنجان وما أشبه ذلك، فهذه من مسائل الاشتراك المستحيل خلوصها من الرقاع المتعذر سلامتها من النزاع؛ فمن حيث النظر إلى أشبهيته بالبقول تعينت الحطيطة -قلَّ المجاح أو كثر- على أصل من رأى ذلك فيها، وعليه اليسير من الأصحاب، وهو مذهب أشهب في "الموازية" ومن حيث النظر إلى شبهيته للأصول تعلقت الحطيطة بالحمل الفاصل المضبوط، وعليه الجمهور من الأصحاب، فإذا قلنا بهذا افتقر إلى تقويم، ومعنى ذلك أن ننظر إلى المجاح، فإن كان ثلثًا فصاعدًا من الباقي منه على ما عرف وعده منه في القلة والكثرة حط من الثمن قدر قيمته في زمانه من قيمة باقية على رخصه أو غلائه.

فإن كان أقل من ثلثه كيلًا أو وزنًا لا في القيمة: فلا حطيطة، وهل المراعى ثلث القيمة، أو ثلث المثمون؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "الكتاب": أحدهما: أن المراعى في ذلك المثمون؛ فإن بلغته الجائحة تعين الموضع، وإن لم تبلغه: فلا حطيطة، وإن نافت على ثلث القيمة، وهو قول ابن القاسم؛ لأن المثمون محل الجائحة لا القيمة، فكان اعتبار الحد في المحل أولى. والثاني: أن المراعى في ذلك ثلث القيمة، فإن بلغته الجائحة تعين الوضع، وإن لم يبلغ ثلث المثمون، وإن لم تبلغه لم تتعين الحطيطة، وإن أربت على ثلث المثمون، وهو قول أشهب؛ لأن الرجوع بحصة المجاح من حقوق المشتري، فما كان أضر به فهو المعتبر. واختلف في القيمة متى تعتبر؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه ينظر إلى قيمته يوم وقع البيع بقدر قيمة كل بطن في زمانه على ما عرف من عادته، وليس يوم نزول الجائحة، وهو قول سحنون فيما حكاه بعض شيوخنا، وهو تأويل ابن أبي زمنين وغيره على "المدونة" من قوله أول المسألة: ويقوم ما بقى من الثمن مما لم يأت بعد في كثرة نباته ونفاقه مما يعرف ناحيته، وهو قوله أيضًا في الباب الآخر نظرًا إلى قيمة هذا البطن المجاح في غلائه ورخصه، ثم ينظر إلى ما يأتي من شأنها في المستقبل، وقوله في تفسيرها ينظر إلى ما يأتي بعد، فيقوم بطنًا بعد بطن على ما عرف من رغبة الناس فيه، وإلى هذا ذهب ابن زرب وغيره من الشيوخ، وهذا الذي يأتي على أصل ابن القاسم فيمن اشترى سلعًا كثيرة، فاستحق بعضها أنها تقوم بما تساوي يوم الصفقة. والثاني: أنه ينظر في ذلك يوم النازلة بالمجاح ويستأنفا بما بقى من

البطون حتى يأتي جميعها، وتقوم على حقيقة، ويقين لا على ظن وتخمين، وهو اختيار الشيخ أبي محمَّد عبد الحق وغيره من المتأخرين، ويحتج هؤلاء بما وقع في "الكتاب"، وربما كانت الفقوسة في أول الزمان تباع بنصف درهم، وفي آخر الزمان تباع بفلس أو بفلسين وبقوله في تقويم البطون في الباب في الآخر، وانقطعت الثمرة، ولم يكن فيها إلا ثلاثة بطون، وقد عرف ناحية البطن الآخر، والقولان ثابتان ظاهران قائمان من "المدونة"، والحمد لله وحده.

المسألة الثانية في حكم جائحة الحائط المتحد

المسألة الثانية في حكم جائحة الحائط المتحد أما المتعدد: فهو على وجهين: أحدهما: أن تتعدد نوعًا. والثاني: أن تتعدد جنسًا. أما المتعدد نوعًا لا جنسًا كحائط الثمر فيها برنى وعجوة وغيره إلا أنه تمر كله، فاتفق الأصحاب على أن الاعتبار بثلث جميع البيع، وإنما وقع اختلافهم في الثلث المعتبر، هل هو ثلث المكيلة أو ثلث القيمة على قولين: أحدهما: ثلث المكيلة، وهو قول ابن القاسم. والثاني: ثلث القيمة، وهو قول أشهب على ما قدمناه. فعلى القول باعتبار ثلث المكيلة، هل يوضع ثلث الثمن بثلث الثمرة دون تقويم، وهو قول ابن القاسم في "الواضحة" وغيرها. والثاني: أنه لابد من التقويم في ذلك لتفاوت قيمة الأنواع، وقد يكن النوع المجاح هو ثلث الحائط في المكيلة، وإذا قوم تكون قيمته أقل من ثلث قيمة جميع الحائط؛ لدناءة ذلك النوع كالجعرور والبرني، وهو قول مطرف، وابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصبغ فيما حكاه ابن حبيب. وأما المتعدد جنسًا كعنب وزيتون ورمان ونخل إذا أجيح جنس منها وسلم ما عداه، فهل يعتبر المجاح بنفسه أم بغيره: فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه معتبر بنفسه لا غيره، فإن اجتيح ثلثه وضع عنه ثلث حصته من الثمن بالقيمة وإلا فلا؛ لأنه مستقل بنفسه قائم برأسه لا يضم

إلى غيره، وهو قول مالك في "كتاب ابن حبيب" أيضًا. والثاني: أنه معتبر بغيره، ويعتبر في المجاح أن يكون ثلث جميع الحائط كالمتحد جنسًا لاتحاد الصفة، وهذا القول مروي عن ابن القاسم. وعلى القول باعتبار الصنف المجاح أن يكون ثلث جميع الحائط فما كيفية ذلك؟ فلا يخلو الجنس المجاح بين المتعدد أن يستوعب أو يبقى منه، فإن استوعب واستوصل نظر إلى القيمة لو لم يجح، فإن كان ثلث قيمة الجملة وضع عنه ذلك من الثمن بالقيمة، فإن كانت قيمته لو لم يجح لا تبلغ ثلث قيمة الجعلة: فلا جائحة فيه أصلًا. فإن أصابت الجائحة بعضه وسلم البعض، هل يعتبر الصنف المجاح من غير جملة، ولا تفصيل أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يعتبر به جملة وتفصيلًا، وينظر إلى ثلث القيمة، فإن أصيب من الجنس الواحد ما يبلغ ثلث قيمة الجملة حط من الثمن مقداره بالقيمة، فإن كان أقل من ثلث الجنس المجاح، وإن لم يبلغ المجاح ثلث قيمة الجملة: فلا جائحة، وإن أربت الجائحة على ثلث: بطل هذا بتعيين الذي قبله، وهو اعتبار ثلث الجملة، أما الجمع بينهما فغير معقول وخلاف للأصول، وبه قال أصبغ. والثاني: أنه يعتبر بغيره في الجملة دون التفصيل، فينظر إلى ثلث قيمة الجملة فلا جائحة فيه -اجتيح كله أو بعضه- فهذا قد اعتبره بغيره في الجملة في هذا الوجه، فإن بلغ ثلث قيمة الجملة: نظر إلى الجنس المجاح منه، فإن اجتيح قدر ثلث ثمرته: وضع قدر ثلث قيمة المجاح من الثمن. فإن اجتيح أقل من ثلث ثمرته: لم يوضع عنه شيء، وبه قال ابن القاسم على ما رواه أصبغ في "كتاب محمَّد" وقاله غيره، وهذا قد

ناقضه فيه ما أخلفه في الجملة إذا كانت قيمة الجنس المجاح، واعتبر التفصيل آخرًا، واعتبر الجملة، وهذا عين التناقض؛ لأنه لو اعتبره بغيره جملة وتفصيلًا لقل كما قال الأقل حيث اعتبر المجاح أن تكون قيمة ثلث الجملة، فإن كانت كذلك وضعت الجائحة، وإن تقاصرت عنه: لم توضع، وإن زادت على ثلث جنس المجاح. ومعنى قوله في اعتبار ثلث القيمة على الجملة اعتبار ثلث الثمرة على التفصيل أن الجنس المجاح قد يكون أفخر أجناس ثمار الحائط، فتكون قيمة المجاح منه تعدل ثلث قيمة جملة الأجناس. وإن كانت مكيلة أقل من الثلث، وليس من شرط مساواة القيمة التساوي في المكيلة. والذي أوجب ما أشرنا إليه من التناقض كون الفرع أخذ شائبة من الأصلين؛ فمن حيث النظر إلى شائبة اتحاد العقد الوارد على الأصل: تعين اعتبار الجملة، ومن حيث النظر إلى شائبة الاستقلال من الجنسية: تعين اعتبار التفصيل ومن حق الفرع إذا تداعاه أصلان وتجاذبه طرفان أن يوفر عليه مقتضى الشائبتين لميلها إليهما ميلًا متحدًا، فإلحاقه بأحدهما على وجه التمحص نوع من التحكم، وضرب من الدعوى والعمل بقدر الدليل واجب على ما لا خفاء به على من طالع علم الأصول فتنبه بعد هذا التفصيل أيها المسترشد بأن في فهمه غموضًا، ولهذا بسطت الكلام فيه في زيادة الشرح والبيان، والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة في معرفة ما هو بجائحة مما ليس بجائحة

المسألة الثالثة في معرفة ما هو بجائحة مما ليس بجائحة فتحصيله أن الجوائح تنقسم على قسمين: أحدهما: ما لم يكن أمرًا غالبًا، وأمكن دفعه، والاحتراس منه. والثاني: ما كان أمرًا غالبًا، ولم يمكن دفعه والاحتراس منه. فأما ما لم يكن أمرًا بالغًا، وأمكن دفعه والاحتراس منه، فليس بجائحة أصلًا. وأما ما كان أمرًا غالبًا، ولم يمكن دفعه، ولا قدر على الاحتراس منه، فإن ذلك ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون ذلك من فعل الله تعالى، لا اكتساب فيه لمخلوق مكلف: فلا خلاف أنه جائحة يجب القضاء بها، كالريح، والمطر، والبرد، وما أشبه ذلك من الجليد، والجراد، والطير الغلب، وأما انقطاع الماء: فإنه جائحة في القليل والكثير بإجماع. وأما ما كان من اكتساب المخلوقين المكلفين، ولا يمكن الاحتراس منه؛ كالجيش، والسارق: فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه جائحة في الجيش، والسارق، وهو قول ابن القاسم في الكتاب؛ لأن ذلك عنده مما لا يقدر على دفعه. والثاني: أن ذلك ليس جائحة؛ لأن السلطان يكف الجيش ويرده، والسارق يتحصن منه، وهو قول مطرف وابن الماجشون. والثالث: التفصيل بين الجيش والسارق؛ فيكون الجيش جائحة،

والسارق بجائحة، وهو قول ابن نافع في "الكتاب"؛ وكأنه يرى الجيش مما لا يمكن دفعه، وأن السارق يقدر على التحفظ والتحصن منه. وفي المسألة قول رابع: في العكس بين أن يكون فائدة لمن يوزع الجيش ويضبطه، فلا يكون جائحة، أو يكون ممن يغلبه أشرار جنده، ولا يخافون من استطارة شرار ناره إذا أورى زناده، أو يكون في نفسه مجبولًا على الفساد وسعى في خراب البلاد: فإنه يكون جائحة، وكذلك السارق. وهذا التفصيل رأيته لبعض المتأخرين، وذهب بعضهم إلى أن ما في "الكتاب" يرجع إلى اختلاف أحوال، وأن ابن القاسم إنما تكلم عن الجيش الذي لا ينضبط، والسارق المجهول، وعبد الملك تكلم على ما هو مضبوط، والسارق المعروف، والأمر محتمل لما قالوه، وصلى الله على نبينا محمَّد وآله وصحبه.

كتاب كراء الرواحل والدواب

كتاب كراء الرواحل والدواب

كتاب كراء الرواحل والدواب تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ست مسائل: المسألة الأولى في حكم كراء المعين والمضمون اعلم أن الكراء على وجهين: مضمون ومعين. فالمضمون: أن يقول أكرني دابة، أو راحلة، وسواء كان ذلك ببيان، أو بغير بيان، فإن الكراء جائز بشرط تعجيل أحد الطرفين؛ إما الأجرة، وإما الاستيفاء خيفة الدَّين بالدَّين متى لم يحصل أحد الطرفين كالسلم الثابت في الذمة، إلا أن مالكًا قد سامح في الحج إذا وقع في الكراء قبل إبانة أن يتأخر الشروع إلى وقت الأرش، وإن لم يقبض المكرى جميع الكراء، ولكن يقدم له المكتري جميع الأجرة دينارًا أو دينارين؛ لأن الأكرياء قد قطعوا أموال الناس. ولم يختلف قوله في الحج، وإنما اختلف في غير الحج؛ فقال مرة: لا يجوز أن يتأخر شيء من الأجرة، وهو التباس كالسلم، وجوزه تارة كالحج للضرورة العامة لأبناء الدنيا الكافة العامة الورى. ولا ينفسخ الكراء بموت الدابة في المضمون، إلا أن المكري إذا قدم الدابة للمكتري يركبها، فليس له أن يزيلها من تحته إلا برضاه. وإن فلس المكري: كان المكتري أحق بها من الغرماء إلى منتهى غايته إلا كان قبضها. فإن كان ببدل لدواب من تحته، فهو أحق بما كان تحته يوم التفليس. وإن كان قد نزل عنها، وأخرجت إلى الرعي: فليس ذلك بمانع من

أن يكون أحق به من الغرماء، وهو قول ابن القاسم في "العتبية" وغيرها، على ما سنوردها بيانًا فيما يلي في أثناء هذا الكتاب إن شاء الله. فإن فلس المكري قبل أن يقبض المكتري الدابة كان أسوة الغرماء. وأما المعين فإن شرع في الاستيفاء، فهل يجوز نقد الكراء أم لا؟ فإن تأخر الشروع إلى أجل قريب جاز، وإن نقد على خلاف في حد القرب؛ لأن مالكًا يرى العشرة الأيام في حيز القليل وأباه ابن القاسم. وأما إلى أبعد من ذلك: فلا يجوز النقد فيه بوجه؛ لأن النقد مع الفوات سلفًا، ومع الحياة بيعًا. واختلف في العقد العري عن النقد على قولين منصوصين في المذهب: أحدهما: الجواز، وهو قول ابن القاسم. والثاني: المنع، وهو قول الغير، ووجهه: أنه لا فائدة في العقد إذا تراخى عنه المقصود الذي هو الشروع في الاستيفاء، إلا محض التخيير قياسًا على البيع. ووجه القول بالجواز: أن اليسير معفو عنه في العقود، وتقدم العقد لا يمنع منه مخافة فوات المقصود، وإنما يقدح ذلك في النقد. والفرق بين الكراء، والشراء من وجهين: أحدهما: أن النافع المعقود عليها في الكراء غير متعينة، والأعيان المعقود عليها في الشراء متعينة. ولعدم التعيين في إباحة التأخير في المبيع، ولوجود التعيين تأثير، ومنع التأخير في الشرع، والصافي ينافي المقتضى والوصفين، فمقتضى مطلق إطلاق العقد في الشراء تخير العوض؛ فتأخيره يؤثر في مقتضاه، وفي الكراء تأخير العوض، فتأخيره لا يتأثر به المقتضي، فتنافى المقتضي

والوصفين، اختلف جواز الصورتين. وأما فسخ الإجارة بفوات المعين فعلى ضربين: عين مستأجر عليها، وعين مستأجر لها. فأما العين المستأجر عليها: فإن الإجارة تنفسخ بفواتها، إجماعًا من أهل المذهب من غير خلاف -أعلمه في هذا الوقت- كالدابة المعينة، والراعي، والطير، وسائر الأعيان المعقود عليها. ووجه هذا: أن العقد إنما ارتبط بعين مقصود تأثر بفواته؛ إذ الخلف لا يكاد يوازي التالف؛ وعليه يجوز الخلف إذا تراضيا، ويكون ذلك كراء مبتدأ. فإن نقده: فلا يخلو موت الدابة من أن يكون في مستعتب أو في مسبعة. فإن كان في مسبعة ومضيعة: فإن ذلك جائز للضرورة، وقال ابن حبيب: جائز للضرورة، وقال ابن حبيب: كما يجوز للمضطر أكل الميتة. فإن كان في مستعتب، فهل يجوز ذلك أم لا؟ على قولين قائمين من "الكتاب": أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن القاسم؛ لأن ذلك فسخ دين في دين. والثاني: أن ذلك جائز، وهو قول أشهب؛ لأنه إنما تحول إلى الانتفاع بشيء معين، فجعل قبضه إياه لاستيفاء المنافع منه قبضًا بجميع المنافع. وأما المعين المستأجر لها إذا كان معينًا، هل تنفسخ الإجارة بتلفه أم لا؟ على أربعة أقوال:

أحدها: أن الإجارة لا تنتقض؛ لأن تعيين المعين المستأجر على حملها إنما هو صفة لما يحمل، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" و"العتبية"، وبه قال ابن المواز، وهو مشهور المذهب. والثاني: [أن] (¬1) الإجارة تنتقض بتلفه، وهو قول أصبغ، وروايته عن ابن القاسم، ويكون له من كرائه ما سار من الطريق. والثالث: التفصيل بين أن يكون تلفه من قبل ما عليه استحمل، أو من أمر سماوي. فإن كان تلفه من قبل ما عليه استحمل: انفسخ الكراء فيما بقى، وكان له من كرائه بقدر ما مضى من الطريق. وإن كان تلفه بأمر سماوي: أتاه المكتري، ولم ينتقض الكراء بينهما، وهو قول مالك في "العتبية". والرابع: أنه إن كان تلفه من قبل ما عليه استحمل: انفسخ الكراء، ولم يكن فيما مضى كراء. وإن كان تلفه بأمر سماوي: أتاه المكترى بمثله، ولم ينفسخ الكراء، وهو مذهب ابن القاسم في "المدونة" وروايته عن مالك. وسبب الخلاف: اختلافهم في تعيين الحمل المستأجر على حملها، هل يتعين بالتعيين، أو تعيينه يعد كالصفة؟ وهو اختيار القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الثانية في التعدي في الكراء

المسألة الثانية في التعدي في الكراء ولا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتعدى بالزيادة على الزمان. والثاني: أن يتعدى بالزيادة على المكان. والثالث: أن يتعدى بالزيادة على الحملان قدرًا، أو ضررًا. فالجواب عن الوجه الأول: إذا تعدى بالزيادة على الزمان؛ مثل أن يكتري دابة شهرًا، ثم حبسها بعد انقضاء الشهر: فلا يخلو صاحبها من أن يكون حاضرًا معه، أو غائبًا عنه. فإن كان حاضرًا معه: فلا ضمان على المكتري المتعدي -سلمت أو هلكت، زادت أو نقصت، حبسها بعد المدة يسيرًا أو كثيرًا- وإنما عليه الكراء خاصة. والعلة الموجبة لإسقاط الضمان عنه حضور صاحبها معه؛ فكأن تركه إياها في يد المكتري مع القدرة على أخذها رضًا بأمانته. فإن كان عنه غائبًا ونائيًا غير ثاوٍ: فلا يخلو من أن يحبسها بعد مدة الكراء يسيرًا، أو كثيرًا. فإن كان يسيرًا؛ كاليوم ونحوه، والدابة قائمة لم تتغير تغيرًا يوجب الضمان: لم يضمنه المكتري، وإنما يضمن الكراء مع النقصان إذا كان يسيرًا. فإن فاتت فواتًا حسيًا أو معنويًا: فصاحبها مخير بين التضمين، أو

أخذ كراء المدة التي حبسها فيها مع الكراء الأول. فإن حبسها عن زمن الكراء مدة كثيرة مما تتغير فيها الدابة كالشهر، أو مدة لا تتغير فيه: فالمكري بالخيار بين أن يضمن، أو يأخذ الكراء. فإن اختار أخذ القيمة: فقيمتها يوم التعدي. فإن اختار الكراء: فقد اختلف فيه في "الكتاب" على قولين: أحدهما: أنه له كراءها عليها معطلة، وهو قول ابن القاسم، وكيفية معرفته أن يقال: ما كراءها معطلة شهرًا، محبوسة عن منافع ربها، فما قيل في ذلك حكم له به، وقيل غير هذا، وهو أصح. والقول الثاني: التفصيل بين أن يكون رب الدابة ثاويًا معه، أو نائيًا عنه. فإن ثوى معه: فله بحساب الكراء الأول، فإن نأى عنه: فله الأكثر من المسمى، أو كراء المثل، وهو قول غيره في "الكتاب". والجواب عن الوجه الثاني: وهو التعدي بالزيادة على المكان؛ مثل أن يكتريها إلى مسافة معلومة فزاد عليها، ولا تخلو تلك الزيادة أن تكون مما يعطب في مثله أم لا. فإن كان مما لا يعطب في مثله؛ كزيادة الميل ونحوه، فسلمت: فليس لربها إلا الكراء. فإن عطبت: فلا يخلو من أن تعطب في مسافة التعدي، أو بعد أن رجعت إلى مسافة الإذن. فإن عطبت في مسافة التعدي، هل يضمن أم لا؟ قولان قائمان من "المدونة":

أحدهما: وجوب الضمان عليه، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الرواحل والدواب". والثاني: أنه لا ضمان عليه، وهو قول ابن القاسم، وابن وهب في "كتاب الجعل والإجارة" في مسألة استخدام العبد واليتيم. فإن عطبت بعد أن رجعت إلى المسافة المأذون فيها، فهل يضمن أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: وجوب الضمان عليه، وهو ظاهر قوله في "كتاب الرواحل والدواب"؛ حيث قال: إذا زاد على المسافة فعطبت: ضمن، فظاهره ألَّا فرق بين أن تعطب في مسافة التعدي، أو بعد أن رجع بها إلى المسافة المأذون فيها، وهو قوله في "كتاب العارية" أيضًا، ورواه ابن القاسم عن مالك أيضًا. والثاني: أنه لا ضمان عليه، وإنما عليه كراء الزيادة مع كراء الأول، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الرواحل والدواب" أيضًا؛ حيث قال: ولو ردها بعد زيادة ميل أو أميال، أو بعد أن حبسها اليوم ونحوه: لم يضمن إلا الكراء -يريد: وإن هلكت. ويحتمل أن يريد بذلك ردها إلى المسافة المأذون فيها. والتأويل ظاهر -لقوله: أو بعد أن حبسها اليوم ونحوه، إلا أنه يستقرأ من "كتاب العارية" ما هو أظهر من هذا: إذا زاد على الحمولة ما لا يعطب في مثله فالمكري بالخيار بين أن يضمنه قيمته يوم التعدي، أو يأخذ كراء الزيادة. وله في الوجهين كراء الأول -سلمت أو هلكت.

والجواب عن الوجه الثالث: وهو الزيادة على الحملان قدرًا أو ضررًا؛ مثل أن يكري لحملان الأردب، فحمل أكثر منه، أو أكثر الحمل المتاع، فحمل عليها وزنه حديدًا أو رصاصًا، أو ما ضرره أكثر من ضرر ما أكراها له، فإن كانت تلك الزيادة يسيرة لا تعطب في مثلها، أو يكون ما بين الضررين تفاوت يسير مما الأغلب من الجميع السلامة، فسلمت الدابة: فلا ضمان عليه، قولًا واحدًا في المذهب، وله كراء تلك الزيادة؛ يقال: كم يكرى لهذه الزيادة على مثل هذه الدابة المثقلة، فما قيل فيه، فله أخذه. فإن عطبت من ذلك، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا ضمان عليه، وهو نص "المدونة"، وهو المشهور في النقل. والثاني: وجوب الضمان عليه، وهو مذهب سحنون في غير "المدونة" وهذا القول قائم من "المدونة" من مسألة الزيادة على مسافات ما لا يعطب في مثله، فعطبت الدابة؛ إذ لا فرق بين السؤالين إلا شيئًا ذكره بعض المتأخرين أضربتُ عن ذكره لضعفه. فإن كانت تلك الزيادة مما يعطب في مثلها: فللمكري أن يضمنه -سلمت أو هلكت- إلا في زيادة الحاج إذا زاد زيادة معروفة غير خارجة عن المألوف، فإنها تشد عن هذا التحصيل. ويلتحق بهذا التقسيم وجه آخر؛ وهو أن يكتري إلى مسافة، فصرفها إلى مثلها في السهولة والوعورة، والخصب والجدب، أو يكتريها لركوبه، فركب عليها من يساويه في الثقل والخفة والسوق والأمانة: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب بعد الوقوع أنه لا يضمن.

وهل يجوز ذلك للمكتري ابتداءً؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: الجواز جملة بلا تفصيل، وهو قوله في "الكتاب"؛ حيث قال: وأكثر قول مالك أن ذلك في الحياة. والثاني: المنع جملة، وهو قول الغير في صرفها إلى مسافة أخرى، وقال: لأن ذلك فسخ دين في دين، والمسافة والراكب سواء. والثالث: التفصيل بين الإذن، وعدمه؛ فإن أذن له في ذلك رب الدابة: جاز، وإلا لم يجز، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب" في المسافة أيضًا. والرابع: التفصيل بين الراكب والمسافة؛ فيجوز في الراكب، ولا يجوز في المسافة، وإن أذن له رب الدابة. وسبب الخلاف: اختلافهم في محل الاستيفاء، هل يتعين بالتعيين، أو لا يتعين؛ فعلى القول بأنه يتعين بالتعيين: فلا يجوز؛ لأن الأعيان تتعلق بها الأغراض بخصائص صفاتها، وقد يختار المكري مسافة على مسافة أخرى لغرض له، وإن اتفقت المسافتان في الغاية والوعورة والسهولة والجدوبة والخصوبة. ويختار الشخص على شخص، وإن اتفقا في جميع الصفات لغرض ما. وعلى القول بأنه لا يتعين فيجوز، إذ لا علة تبقى، وما عداها من الأقوال فإنها جارية على الاستحسان، والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة في اختلاف المتكاريين

المسألة الثالثة في اختلاف المتكاريين وهذه المسألة مشهورة في الطُّبُولِيَّات، معدودة من جملة المشكلات، وقد تعرض لشرحها أكثر الأشياخ، وأطنبوا في شرحها بالبيان والإيضاح، غير أن كلامهم على الجمليات، ولم يتعرضوا للجزئيات، ومن حق الفروعي الدرب بالمذهب والتشوف إلى الحقائق، والوقوف عليها، والتصدي لجزئيات دقائق الفقه. ونحن الآن نلخص هذه المسألة تلخيصًا لم نسبق إليه، ونحصل الإشكال الواقع في الكتاب، وما احتوت عليه بواطن الأبواب، فنقول -وبالله التوفيق: لا يخلو اختلافهما من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يختلفا في الكراء. والثاني: أن يختلفا في نوعه وجنسه. والثالث: أن يختلفا في عدده وصفته. فإن اختلفا في نوعه وجنسه؛ مثل أن يقول أحدهما: وقع الكراء بدنانير، وقال الآخر: بدراهم، أو قال أحدهما: بطعام، وقال الآخر: بل بدنانير: فالحكم في هذا الوجه التحالف والتفاسخ من غير اعتبار بالأشباه، باتفاق المذهب قبل الركوب وبعد الركوب، ويكون له فيما ركب كراء المثل. فإن اختلفا في عدده وصفته؛ مثل أن يقول أحدهما: وقع الكراء بعشرة، وقال الآخر: بل بخمسة، أو يدعي أحدهما أن الكراء بدنانير

هاشمية، والآخر يقول: بدنانير عتق: فلا يخلو من أن يختلفا قبل الركوب، أو بعد الركوب يكون عليه الرجوع ضرر. فإن كان قبل الركوب، أو بعد ركوب يسير لا ضرر عليه في الرجوع: فقد اختلف فيه المذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: التحالف والتفاسخ من غير اعتبار بالأشباه، وهو نص "المدونة". والثاني: مراعاة الشبه فيه؛ فيقبل قول من ادعى منهما، وهو ظاهر قوله في "كتاب السلم الثاني" من "المدونة" حيث قال: القول قول مدعي الحال منهما. وعلى القول بأن الأشباه لا تراعى، فهل يعتبر النقد فيقبل قول من أجازه وجوزه؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة من "كتاب الرواحل والدواب"، و"كتاب تضمين الصناع". أحدهما: أنه لا يعتبر النقد، ولابد من التحالف والتفاسخ مع وجوده، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يعتبر، وأن القول قول المكري إذا انتقد، وهو قول غيره. فإن اختلفا بعد ركوبه يكون عليه في الرجوع ضرر: فالقول قول المكتري إن أشبه ما قال -نقد أم لا- لأنه قد فوت بعض المنافع بالتمكين، على القول بأن فوات البعض كفوات الكل. فإن لم يأت بما يشبه: فالقول قول المكري مع الشبه. فإن ادعياه: فالقول قول المكتري. فإن اختلفا: فلا يخلو موضع الاختلاف من أن يكتري: فالتحالف

والتفاسخ بينهما في الحال، ومن نكل منهما: قُبل عليه قول الحالف. وإن نكلا جميعًا هل يكون النكول كالتحالف أم لا؟ على قولين؛ وقد قدمناهما في "كتاب السلم الثاني". فإن كان في مسبعة ومضيعة، هل يقع التحالف بينهما في الحال، أو يكون له في المستوفي كراء المثل، أو لابد أن يبلغه رأس كراء المسافة، أو يجد مستغنيًا دونه؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه لابد من التحالف والتفاسخ في الحال دون امتداد، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الرواحل والدواب". والثاني: أنه لابد من المد إلى رأس المسافة، أو يجد محطًا دونه، وهو ظاهر قول الغير في "كتاب كراء الأرض" من "المدونة" في باب الدعوى في الكراء، ويكون له في الجميع كراء المثل. ولا فرق عند ابن القاسم بين المعين والمضمون وغيره في المدونة فرق بين الراحلة المعينة والمضمونة. وقد اختلف المتأخرون في تأويل قوله؛ فمنهم من حمل قول الغير على مسألة التفليس؛ لوقوع كلامه عقيب التفليس، فيكون المكتري أولى بالمعين من الغرماء، وهو في المضمون أسوة، وهو ظاهر كلام حمديس، وعليه تأوله القاضي ابن سهل الأندلسي من شيوخ المذهب، وهو قول ابن المواز. ومنهم من تأوله على مسألة المسافة -وهو الأصح- بيد أنهم اختلفوا في هذا الوجه من التأويل أيضًا في ماذا يقع التحالف على قولين: أحدهما: أن التحالف والتفاسخ في بقية المسافة في الراحلة كالدور؛ لأن الدور محل الاتفاق؛ إذ لا ضرر عليها في الفسخ، بخلاف الراحلة

المضمونة، فإنها في الذمة، وهو تأويل ابن أبي زمنين على "المدونة". والثاني: أن التفاسخ بعد التحالف في المضمون دون المعين؛ لأن المضمون في الذمة غير مقبوض، والتحالف يكون فيما لم يقبض، وأما المعين فيبلغه إلى رأس المسافة. والجواب عن السؤال الثاني: إذا اختلفا في المسافة؛ مثل أن يقول المكري إلى برقة بمائة، ويقول المكتري: إلى أفريقية بمائة. فلا يخلو من أن يكون قبل الركوب، أو بعد الركوب الكثير. فإن كان قبل الركوب، أو بعد الركوب اليسير: فالكلام فيه كالكلام في فصل اختلافهما في مقدار الكراء صرفيًا، وقد بيناه. وإن كان بعد الركوب الكثير، وقد بلغا الغاية أم لا. فلا يخلو من أن يكون قبل النقد أو بعده. فإن كان قبل النقد، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتفقا في الشبه، أو ينفرد به المكتري. والثاني: أن يتفقا على مخالفة الشبه. والثالث: أن ينفرد به المكتري دون المكترى. فإن اتفقا على مصادقة الشبه، وانفرد به المكتري. فإنهما يتحالفان، ويفسخ الكراء بينهما في الغاية المختلف فيها، ويقبل فيها قول المكري أنه لم يناوله العقد، من غير اكتراث بالأشباه، ويقبض الكراء على المسافتين، فما ناب المسافة المتفق عليها كان للمكري، ويستوفي المكتري بقيمتها قبل التناهي إلى نهايتها. وما ناب المسافة المختلف فيها يسقط عن المكتري بفسخ الكراء فيها.

ومن نكل منهما كان القول قول الحالف؛ لأن النكول كالإقرار على مشهور المذهب. وإن اتفقا على مخالفة الشبه: فالتحالف والتفاسخ في المسافتين جميعًا باتفاق المذهب، ويكون له في المستوفي كراء المثل إن بلغ الغاية المتفق عليها. فإن اختلفا قبل بلوغها: فإنه يتخرج على التفصيل الذي قدمناه إذا كانت في متعتب أو في مسبعة، فلا معنى لإعادته مرة أخرى. والناكل منهما كالمقر كما تقدم، والحالف مصدق لنكول صاحبه، وإن أخطأ الشبه. فإن انفرد المكري بالشبه دون المكتري: فالقول قوله مع يمينه، فإن نكل: كان القول قول المكتري، ويركب إلى حيث ادعى، وإن أخطأ الشبه؛ لأن المكري قد مكنه بنكوله. فإن كان اختلافهما بعد النقد: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتفقا في الشبه، أو يتفرد به المكري. والثاني: أن يتفقا على خطأ الشبه. والثالث: أن يتفرد به المكتري. فإن اتفقا في الشبه، أو تفرد به المكري: كان القول قول المكتري مع يمينه، ويكون له جميع ما انتقد إلى الغاية المتفق عليها، فإن نكل: حلف المكتري وركب إلى الغاية التي ادعاها بما نقد. فإن اتفقا على عدم الشبه: فإنهما يتحالفان ويتفاسخان في المسافة المختلف فيها [وللمكتري] (¬1) المسافة المتفق عليها بكراء المثل إن استوفاها، ¬

_ (¬1) في أ: وللمكري.

وله الركوب إلى غايتها: إن اختلفا قبل بلوغها على التفصيل الذي قدمناه، وكراء المثل في ذلك بالغ ما بلغ، كان أكثر مما انتقد أو أقل -ومن له الدرك على صاحبه فليرجع عليه به. فإن انفرد المكتري بالشبه: فإنهما يتحالفان ويقبض الكراء المنقود على المسافتين؛ فما ناب المسافة المتفق عليها كان للمكري، وما ناب المختلف فيها سقط عن المكتري. والجواب عن الوجه الثالث: وهو اختلافهما في الأمرين؛ المسافة والكراء؛ مثل أن يقول المكري: اكتريت منك إلى المدينة بمائتين، ويقول المكتري: إلى مكة بمائة: فالتحالف والتفاسخ في المسافة المختلف فيها من غير اعتبار بالنقد، ولا بالشبه؛ لأن المكري مدعى عليه بيع ما لم يقر ببيعه، كاختلافهما في مبتدأ الأمر قبل الركوب، سواء إذا نكل المكري عن اليمين: كان القول قول المكتري من غير اعتبار بالنقد، ولا بالقيمة؛ لأن المكري قد مكنه بنكوله. وأما المسافة المتفق عليها: فلا يخلو الأمر فيها من أن يكون ذلك قبل الركوب، أو بعد الركوب. فإن كان ذلك قبل الركوب: فالتحالف والتفاسخ اتفاقًا من غير مراعاة الشبه، ولا النقد. فإن كان بعد الركوب الكثير، وقد بلغ الغاية المتفق عليها أم لا: فلا يخلو من أن يكون قبل النقد أو بعد النقد. فإن كان قبل النقد، فإن اتفقا في الشبه، وانفرد به المكتري: فالقول قوله مع يمينه، ويقبض ما أقرَّ به من الكراء على المسافتين؛ فما ناب مسافة المدينة كان للمكري، وما ناب مسافة مكة سقط عن المكتري، ويكون له

الركوب إلى المدينة إن اختلفا قبل بلوغها. فإن اتفقا في عدم الشبه: فإنهما يتحالفان، ويكون للمكري كراء المثل في المسافة المتفق عليها بالغ ما بلغ، فمن نكل منهما: قبل عليه قول صاحبه مع يمينه، كما سبق. فإن انفرد المكري بالشبه دون المكتري: كان القول قوله مع يمينه، ويكون له جميع ما ادعاه. فإن كان اختلافهما بعد النقد: فإن اتفقا في الشبه، أو انفرد به المكري: كان القول قوله فيما انتقد مع يمينه -كان ما انتقد كل الذي ادعى أو بعضه- ويحلف له المكتري فيما لم ينقده. فإن اتفقا على عدم الشبه: فالتحالف والتفاسخ، ويكون المكري في المسافة المتفق عليها كراء المثل. فإن انفرد المكتري بالشبه: فالقول قوله مع يمينه، وتقبض المائة على المسافتين؛ فما ناب المسافة المتفق عليها: كان المكري، وما ناب المسافة المختلف فيها: رده المكري على المكتري. فإن نكل عن اليمين: كان القول قول المكري، ويأخذ ما ادعى؛ لأن المكتري مكنه بنكوله، والحمد لله حده.

المسألة الرابعة في الحمل التالف قبل بلوغ الغاية

المسألة الرابعة في الحمل التالف قبل بلوغ الغاية ولا يخلو تلفه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون بسبب حامله. والثاني: أن يكون بسبب سماوي. والثالث: أن يجهل السبب. فأما الوجه الأول: فلا يخلو من أن يكون ذلك على معنى الغلبة والاضطرار؛ كالعثار غير المعتاد، وانقطاع الحبال المشدود بها المتاع، ولم يفر منها، وانفلات الدابة والسفينة بما عليها حتى تكسر أو تبدد، هل الكراء بينهما قائم، أو يفسخ؟ قولان: أحدهما: أن الكراء يفسخ بينهما، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب"، ولا فرق عنده بين السفينة والدابة والحامل على رقبته. والثاني: أن الكراء قائم بينهما، وهو قول الغير في "الكتاب" فيما عدا السفينة. وسبب الخلاف: اختلافهم في العمل المستأجر على حمله، هل يتعين أو لا يتعين؛ فمن قال يتعين: قال بفسخ الكراء، ومن رأى أنه لا يتعين قال: الكراء بينهما قائم، ويكلف المكتري الإتيان بمثل الحمل الأول يحمل إلى الغاية التي وقع الكراء إليها. وعلى القول بأن الإجارة تنفسخ، هل للمكري من الكراء بحساب المستوفي من المسافة أم لا؟

على قولين منصوصين في "الكتاب": أحدهما: أنه لا شيء له، ولا عليه جملة، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أن له حساب المستوفي في السفينة دون غيرها، وهو قول ابن نافع في "الكتاب". وسبب الخلاف: اختلافهم في ذلك، هل ذلك إجارة، أو جعالة؛ فمن رأى أن طريقه طريق الجعالة قال: لأنه ولاه عليه ولا يطلب، ولا يطالب بدليل العرف؛ لأن الناس على البلاغ يدخلوا في مثل ذلك، والمتعارف كالمتشارط لا جرم علق الاستحقاق بالفراغ به الذي هو تمام النفع، إلا أن يشترط التوزيع فيحكم به؛ لأن ذلك من خاصية الإجارة. ومن رأى أنها من طريق الإجارة قال: يوزعها على المسافة؛ لأنه على الإجارة عقد فنحا نحوه، على ما قدرنا في ملاحظة الفرق من حيث اللفظ في "كتاب الجعل والإجارة" قال: فإنه يكون له بحساب ما مضى من المسافة. فإن كان ذلك على معنى الترفه والاختيار؛ كالحمل على الدابة المتمرنة على الكبو والعثور، أو الشد على الحبال المتمزقة هما للعدول، فهناك يفترق العروض من الطعام في الكراء، ويتفقان في الضمان؛ ففي العروض يكون له كراء المستوفي من المسافة ويضمنها، وينفسخ ما بينهما أيضًا. واختلف في وقت الضمان على قولين منصوصين في المدونة: أحدهما: أنه ضامن في موضع التلف، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه ضامن من وقت التعدي إن أراد المكتري، وهو قول غيره

في "الكتاب". ووجه قول ابن القاسم: أن المكري لم يتحقق تعديه إلا وقت التلف لجواز السلامة، وإنما يتحقق وصفه بالتعدي؛ لأن وقع الأمر المحذور، ويوجب ضمانه حينئذ لا قبله. ووجه قول غيره: أن الكري غار، ووبال الغرور على الغار؛ لأن المعرض كالمصرح في بعض المحال، وهذا الغار قد عرضه للتلف حين حمله على النعت المذكور، فصار كالتلف حينئذ، وإن شاء ضمنه وقت التلف لكمال العدوان ساعتئذ قطعًا؛ لأنه من يوم العقد والرفع صار متعديًا، والعداء مصطحب عليه إلى أن يتحقق التلف، فيكون مخيرًا عليه، بخلاف الغاصب؛ لأن ضمانه تفويت يد، وتفويت يد كتفويت عين؛ فلم يتخير في الغاصب لكمال العدوان بوضع اليد المبطلة بإزاء اليد المحقة. وقد ذهب بعض المتأخرين إلى التعليق والتأليف بين قول ابن القاسم والغير؛ وهو أن قول ابن القاسم لم ينف التخيير الذي صار إليه الغير، وإنما قال قيمته في موضع التلف؛ لأنه ذكر في صدر المسألة أن قيمته بالعريش أضعاف قيمته بالفسطاط، والإنسان عادة وعرفًا يختار الأكثر، وعليه خرج جوابه. وهذا تأويل ينتج منه تلفيق الأقوال. ومسألة "الكتاب" صورها في الزيت والطعام إذا جهلت مكيلته ووزنه: فحكمه حكم العروض في القيمة، وأما الطعام: فإن الحمال يضمن مثله في البلد الذي اشترط الوصول، ويكون له جميع الكراء. وإنما كان ذلك كذلك؛ لأنَّا لو لم نقل به لأدى ذلك إلى خرم أحد الأصلين من المتماثلين؛ إما ألا يضمن أصلًا ورأسًا مع تحقق العدوان،

وذلك ما لا سبيل إليه؛ لأنه إهدار في محل الإحرام والإكرام. أو يضمن في موضع التلف، وذلك أيضًا إبطال لما أصلناه، وإهدام لما أسسناه من المصير إلى الفسخ مهما كان الفوات بسبب صدر من المكري الحامل؛ لأن مثل ماله مثل كعينه في نظر الشرع ومقتضى السمع، ولهذا لا يفوت في العقود المردودة، فكان الحكم بغرم المثل في موضع التلف داعية إلى الانعقاد في مظنة الانفساخ. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان التلف بسبب سماوي، أو بسرقة أو يغصب: فهذا لا ينفسخ الكراء بينهما، والكراء للجمال كاملًا، ويأتي المكتري بالحلف إن شاء؛ وإنما قلنا ذلك؛ لأن نفي الفسخ بتلف الحمل هو الأصل، كما أسلفناه، وإنما خرج عنه الفسخ بالإتلاف لما تقدم بيانه. والجواب عن الوجه الثالث: إذا جهل سبب التلف، فإنه يضمن الطعام في بلد الشرط، ويكون له جميع الكراء، وقد قدمنا ذلك. وأما أصل الضمان، فقد تكلمنا عليه فيما مضى من "الكتاب"، ويصدق في العروض. واختلف في الكراء هل ينفسخ بينهما أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا ينفسخ، وعليه أن يأتي بالخلف، وهو المشهور. والثاني: أنه ينفسخ، وله كراء ما استوفى من المسافة؛ كالغار، وبه قال ابن حبيب، والحمد لله وحده.

المسألة الخامسة في هروب أحد المتكاريين

المسألة الخامسة في هروب أحد المتكاريين ولا يخلو الهارب من أن يكون مكريًا، أو مكتريًا. فإن كان مكتريًا: فالكراء قائم بينهما، ويكري السلطان الإبل عليه، ويستوفي للجمال أجرته من ذلك كأن لم يقبضها، ويتبعه بالباقي إن كان هناك، قال في "الكتاب": فكذلك لو استأجره يحمل له متاعًا من عند وكيله في بلد من البلدان، ثم لم يصادف الجمال الوكيل. فإن الإبل تكرى للمكتري بعد التلوم إن لم يجد الجمال الوكيل، أو وجده وقد تلف المتاع الذي عنده: فلا يخلو من أن يكون الكراء موجود، أو غير موجود. فإن كان الكراء غير موجود في البلد الذي فيه الوكيل: فللجمال الرجوع دون أن يرفع أمره إلى السلطان، إلا أنه يلزمه أن يطلب وينشده في إنشاء الطريق، فإن وجده كان ذلك ما يجب للمكتري ورزقه، وإلا فلا شيء عليه، ويكون له جميع الكراء، ولا يكلف الرجوع ثانية. فإن كان الكراء موجودًا: فلا يخلو من أن يرجع فارغًا، أو أكرى إبله. فإن رجع فارغًا: فهل ينفسخ الكراء بينهما، أو يكلف الرجوع ثانية؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الكراء ينفسخ بينهما، ولا شيء للجمال، ولا عليه؛ لأن تكليف الرجوع عليه ضرب وظلم به. وهذا القول مروي عن مالك، وهو ظاهر رواية ابن وهب عنه في

"الكتاب"؛ لأنه قال: إذا انصرف ولم يدخل على الإمام، ولم يكن والكراء موجود: فلا شيء له، ولم يقل: يكلف الرجوع ثانية. والثاني: أن الكراء قائم بينهما، وأنه يكلف الرجوع ثانية؛ لأنه باع منافعًا فيجب عليه الوفاء بتحصيلها، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". وقد قال بعض حذاق المتأخرين: إنه إذا لم يجد الكراء في البلد، وكان السلطان، ولم يرفع أمره إليه، ولا دخل عليه أن الكراء بينهما قائم، فيكون الدخول عليه كحكمه بفسخ الكراء على الغائب، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "الكتاب"، فكيف إذا كان الكراء موجودًا، خلاف ما نص عليه ابن وهب في "الكتاب". فإن أكرى إبله فلا يخلو من أن يكريها لنفسه، أو للمكتري. فإن أكراها لنفسه، هل يكلف الرجوع ثانية، أو يخير عليه المكتري؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يكون له الكراء، ويكلف الرجوع ثانية في حق المكتري، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب"؛ لأن الكراء غير معين، بل هو في الذمة، فينفذ فيه بيعه؛ لأنه باع ما ضمانه منه. والثاني: أن المكتري مخير عليه؛ إن شاء سلم له ما أخذ في الكراء، ويكلف له الرجوع ثانية، وإن شاء أخذ الكراء إن كان ما به اكترى أولا أو أقل، فإن كان في الثمن فضل فهو للمكري إن انتقد الكراء الأول من المكتري؛ لأنه إن أخذه المكتري، فقد أخذ أكثر مما دفع؛ فصار سلفًا بزيادة. وهو قول ابن حبيب في الواضحة. فإن اكترى للمكتري: فلا يخلو أن يكون الجمال هو المتولي للكراء،

أو السلطان هو المتولي له. فإن كان الجمال هو المتولي للكراء، فلا يلزم ذلك المكتري؛ لأن الكراء عليه بيع، فلا يتولاه إلا السلطان، أو من أقيم مقامه، وعليه الرجوع ثانية على أصل ابن القاسم. وإن رضي المكتري بصنعه، وأخذ ذلك الكراء: فإن ذلك له -قلَّ أو كثر- إن كان لم ينقده. وإن نقده: لم يجز له أخذ ما زاد على الأول؛ خيفة أن يأخذ أكثر مما أعطى، كما تقدم. فإن كان السلطان هو المتولي للكراء، فذلك لازم للمكتري -قلَّ أو كثر- ويكون عليه الكراء الأول، وإن لم ينقده؛ لعدم التهمة في فعل السلطان؛ لأن ذلك من باب دفع الضرر على معنى النظر. فأما الوجه الثاني: إذا كان الهارب مكريًا: فلا يخلو من أن يهرب بإبله، أو يتركها في يد المكتري. فإن تركها في يد المكتري: استعملها، ويرجع على الجمال بما أنفق عليها، وبما أكرى به من يترحلها، وغير ذلك مما كان اشترطه على الجمال. فإن هرب بإبله، فذلك على وجهين: إما أن يكون الكراء مضمونًا، أو معينًا. فإن كان مضمونًا: فلا يخلو من أن يكون له مال أم لا. فإن كان له مال: فإن السلطان يكرى عليه للمكتري، ويرجع عليه بذلك. فإن لم يكن له مال، هل يكري عليه أم لا؟ على قولين:

أحدهما: أنه لا يكري عليه، وهو قول في "كتاب ابن المواز". والثاني: أنه يكرى عليه إذا طلب ذلك المكتري لأجل الضرورة، وهو ظاهر "المدونة". فإن كان الكراء معينًا: لم يكر عليه، وإنما مقال المكتري في الفسخ، وهو على ثلاثة أقسام: مفتقر إلى حكم حاكم، أو غير مفتقر إليه، ومختلف فيه. أما المفتقر إليه: فهو إذا لم يتعين الزمن، ولا فات المقصود، فإنه إن رفع إلى السلطان نظر في ذلك، فيفسخه عنه إن كان في الصبر مضرة، ولا يتعجل في الفسخ إن لم يكن فيه مضرة. وأما غير المفتقر إليه فهو الكراء الذي يتقدر بزمن معين، فإنه يفوت بفواته، وإن لم يحكم حاكم. وأما المختلف فيه: فهو ماله إبان يفوت بفواته؛ كالحج، أو يريد الخروج إلى البلدان المتباينة مع القوافل المتعاظمة، فجاءه الجمال بالإبل بعد أن فات له المأمول: فلا يخلو من أن يحكم الإمام بفسخه، هل ينفسخ بعد فوات ذلك كالمعين أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدهما: ينفسخ بفوات الإبان، أو ما هو مثل الإبان كفوات القوافل. والثاني: أنه لا ينفسخ؛ لأنه العقد لازم من طرفيه. والثالث: أنه يفسخ في الحج دون غيره، وهو قول مالك في "الكتاب"، والحمد لله وحده.

المسألة السادسة في إقالة أحد المتكاريين في الدواب لزيادة

المسألة السادسة في إقالة أحد المتكاريين في الدواب لزيادة وهذه الترجمة كثيرة الفصول، متشعبة الفروع، طافحة الينبوع، ولنقتصر فيها على اللطيف إيثارًا للتخفيف، فنقول وبالله التوفيق. ما نورده في إقالة أحد المتكاريين لا يخلو من وجهين: إما أن يكون من قبل المكري، وإما أن يكون من قبل المكتري. فإن كانت الإقالة من قبل المكري: فلا يخلو الكراء من أن يكون على التعجيل، أو على التأجيل، مثل أن يتأخر بشرط، أو عرف، أو حكم. فإن كان على التأجيل والزيادة من المكري: فالإقالة جائزة إذا عجلت الزيادة -عرضًا كانت أو ذهبًا. ولا يجوز إذا تأجلت ما كانت سلعته فيه أن المكتري فسخ الركوب فيما لا يتعجله، وذلك فسخ دين في دين، وإذا عجلها فقد فسخ منقودًا [. .] (¬1) فلا مكروه. ثم هكذا الجواب إذا كان الكراء على التعجيل، إلا أنه لم ينتقد، أو انتقد ولم يغب عليه، فلا نطول بذكر التعجيل. وأما إن كانت الزيادة بعد أن غاب على النقد: فلا يجوز إن كانت مؤجلة ما كانت الزيادة؛ لأنه فسخ دين في دين؛ لأنه فسخ الركوب فيما لا يتعجله. واختلف إذا كانت معجلة من أي نوع كانت على ثلاثة أقوال، كلها ¬

_ (¬1) طمس بالأصل.

قائمة من المدونة. أحدها: أن [. .] (¬1) حوز؛ لأنه سلف بزيادة؛ لأن المكري غاب على النقد، ثم يرده بعد الغيبة بزيادة، إلا أنه سار من الطريق ما يرفع التهمة عن الضرورة التي تلحق، إما أن يدبر إبله، أو بسوء عشرة صاحبه، وهو قول ابن القاسم في المدونة. بخلاف الدار؛ إذ لا مضرة عليه إن كان لها جيران سوء، فهو عيب إن لم يعلم به. والثاني: أن ذلك لا يجوز بزيادة المكري بوجه؛ لأنه سلف بزيادة [. .] (¬2) سلف ما استوفى، فهو نفع والمردود سلف. ويجوز إذا غيبت الإقالة عن الزيادة للضرورة التي ذكرناها في حد الدار أيضًا. وهو قول الغير في "الكتاب". والثالث: أن الإقالة لا تجوز متى انتقد واستوفى المكترى شيئًا من المنافع، بيع وسلف، وهو قول سحنون، وهذا القول قائم من المدونة من مسألة الدار. فإن كانت الزيادة من قبل المكتري، فلا يخلو الكراء من أن يكون على التعجيل، أو على التأجيل. فإن كان الكراء على التعجيل وقبل النقد: فلا يخلو من أن تكون الزيادة مؤجلة، أو معجلة. فإن كانت مؤجلة: لم يجز على كل وجه، من أي نوع كانت؛ لأنه ¬

_ (¬1) طمس بالأصل. (¬2) طمس بالأصل.

فسخ دين في دين. فإن كانت معجلة: جاز، وإن كانت عرضًا أو ذهبًا، والكراء بذهب لا مانع، وإن كانت دراهم والكراء بذهب: فهو بيع وصرف؛ لأنه ذهب بفضة مع أحدهما سلعة وهي الركوب: فلا يجوز إلا على مذهب ابن القاسم، ويجوز على مذهب أشهب، وهذا إذا كان أكثر من صرف دينار. فإن كان أقل منه: فيجوز باتفاق بين ابن القاسم وأشهب. فإن كانت الزيادة بعد الانتقاد، وكانت ذهبًا والكراء ذهب: فقد قال في "المدونة": يجوز إن كانت مقاصة؛ لأن المكري يأخذ أقل مما يدفع. وإن لم تكن مقاصة لم يجز؛ لأنه ذهب بذهب مع أحدهما سلعة -وهي الركوب- لأن المكتري دفع الزيادة من الذهب مع الركوب الذي وجب له، وأخذ ذهبًا، ولهذا اعتبار في هذا الوجه بغيبة الكراء على النقد بعد القبض، وإنما يعتبر ذلك في زيادة المكري، وقد قدمناه. فإن كانت عرضًا: فجائز معجلة ومؤجلة؛ لأن المكتري باع عرضًا معجلًا أو مؤجلًا مع الركوب الذي وجب له أن يسترجعه من الذهب. فإن كان الكراء على التعجيل والمسألة على حالها. فإن كانت الزيادة عرضًا: جاز إن كان معجلًا، ولا يجوز إن كان مؤجلًا؛ لأنه فسخ دين في دين. فإن كانت بفضة على وجه: فإنه صرف مستأجر؛ لأن الذمة مشغولة إلى ذلك الأجل. فإن كانت ذهبًا: لم يجز إلا إلى محل الأجل على معنى المقاصة إما نقدًا أو إلى دون ذلك الأجل: فلا يجوز؛ لأنه ضع وتعجل، ولا إلى أبعد من الأجل؛ لأنه بيع وسلف.

ولا فرق فيما وصفناه بين الكراء المضمون، والمعين؛ لأن المنافع كالدين على أحد قولي المذهب. وعلى القول الآخر: يجوز في المعين زيادة المكري بعد أن غاب عن النقد؛ كالبائع المستقيل في السلعة المعينة بزيادة بعد أن غاب على النقد. وإنما لا تجوز الإقالة إذا انعقدت بمجردها على ما لا يجوز، وذلك في المواضع التي عللنا فيها في الكراء المضمون بفسخ الدين في الدين. وأما الدور: فهي كالدابة المعينة في جميع ما وصفنا، إلا في زيادة المكري للدابة بعد أن غاب على النقد، وقد سار من الطريق ما يرفع التهمة على أصل من رأى ذلك فيها، بخلاف الدار، فلا تجوز الإقالة فيها بزيادة على وجه إن كان ذلك بعد استيفاء البعض؛ سدًا للذريعة؛ أي: جواز البيع والسلف. فإن كانت بغير زيادة فقولان: الجواز، والمنع، والقولان لابن القاسم. فوجه الجواز: قياسًا على السلع المعينة. ووجه المنع: تشبيهًا بما في الذمة. وإلى هذا أشار الشيخ أبو إسحاق، وهذا إذا انتقد الكراء. فإن لم ينتقد: جاز؛ لعدم العلة التي هي البيع والسلف. وحكم الإقالة في كراء الأرض كحكم الإقالة في كراء الدار، إلا أن تكون غير مصونة. فإن تقابلا فيها، والزيادة من المكري، والموضع الذي تصح فيه الإقالة على الزيادة منه: لم يجز أن ينتقد الزيادة، وتكون موقوفة عينًا كانت أو عرضًا، إلا أن تكون الأرض مأمونة؛ لأن المكري رجع بإقالة مكتريه.

فإن لم تروي الأرض انفسخ الكراء الأول، ولم تصح الزيادة، وقال بعضهم: كذلك يجب في زيادة المكتري، والأرض غير مأمونة ألا تجوز، وإن أوقفها؛ لأن المكري فسخ كراؤه فيما لا يتعجله، والحمد لله وحده.

كتاب كراء الدور والأرضين

كتاب كراء الدور والأرضين

كتاب كراء الدور والأرضين تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها سبع مسائل: المسألة الأولى فيمن أكرى دارًا وفيها نخلة، أو دالية فاشترط ثمرها فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون بعد طيب الثمرة. والثاني: أن يكون قبل طيبها. فإن كان ذلك بعد طيب الثمرة: فذلك جائز -كانت قيمتها أكثر من الثلث أو أقل- لأنها كسلعة ثانية، وكأنه اشترى دارًا، أو اشترى ثمر تلك الشجرة صفقة واحدة لجواز اجتماع الكراء والبيع في عقدة واحدة؛ إذ لا فرق بين بيع المنافع وبين بيع الأعيان. فإن انقضى أمد الكراء قبل جذاذ الثمرة: فهي له، قولًا واحدًا في المذهب. فإن كان ذلك قبل طيب الثمرة، وقبل أن تخلق الثمرة أصلًا، فلا يخلو من أن تكون مثل الثلث، أو أقل، أو أكثر. فإن كانت قيمة الثمرة أكثر من الثلث: فلا يجوز اشتراطها باتفاق المذهب؛ لأن ذلك بيع الثمرة قبل بدو الصلاح على البقاء. وهل يجوز أن يشترط منها الثلث، أو ما دونه، أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو مشهور المذهب، وهو قول ابن المواز.

ويتخرج القول الثاني من مسألة العرايا بالجواز إذا أعرى أكثر من خمسة أوسق؛ حيث قال في "الكتاب". يجوز للمعري أن يشتري منها خمسة أوسق يخرصها ثمرًا عند الجذاذ، والعلة في الجميع واحدة، ولاسيما أن مسألة اشتراط الثمرة مقاسة على العرايا للضرر الداخل على المكتري في ترداد المكري إلى دخول الدار لافتقاد شجرة وسقيها وعلاجها، والنظر في مصالحها؛ ولهذه العلة جوز الشارع من بيع العرية يخرصها على مشهور مذهبنا. فإن كانت قيمتها أقل من الثلث: جاز باتفاق المذهب بشرط أن تطيب الثمرة قبل انقضاء المدة. فإن كانت المدة تنقضي قبل أن تطيب الثمرة: فلا يجوز الكراء ويفسخ، وهو قول ابن المواز، وابن حبيب، وبه قال أصبغ في "العتبية" ووجهه: أنه لما انقضت المدة، والثمرة لم تطب كأنه كما ابتدأ العقد عليها الآن، وكأنها اشتراها مفردة. ويتخرج في المسألة قول آخر بجواز الكراء؛ لعدم القصد إلى شراء الثمرة، وإنما المقصود الانتفاع والارتفاق بمنافع الدار مدة الكراء، وشراء الثمرة غير مقصود، وإنما الغرض في اشتراطها دفع ضرر المكري إلى انقضاء أمد الكراء. فإن كانت قيمتها مثل الثلث، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الثلث في حيز اليسير فيجوز. والثاني: أنه في حيز الكثير فلا يجوز.

والقولان لمالك رضي الله عنه. وعلى القول بجوازه في الثلث، وأنها في حيز اليسير: فلا يخلو من أن يشترط الثمرة كلها، أو بعضها. فإن اشترطها كلها: فلا يخلو من أن يكون الكراء سنة واحدة، أو سنتين. فإن كان الكراء سنة واحدة: فلا إشكال في الجواز. وإن كان الكراء سنتين: فلا يخلو من أن تكون الثمرة تبعًا في كل سنة، أو تكون تبعًا في بعض السنين وغير تبع في بعضها. فإن كان تبعًا في كل سنة: فلا إشكال في الجواز أيضًا. فإن كان تبعًا في بعض وغير تبع في بعض، إلا أنه إذا أضيف جملتها كجملة الكراء كانت تبعًا لكان ينبغي ألا يجوز ذلك؛ لأن كل سنة لها حكمها، فلا تعوض زيادة الثمرة في سنة عن نقصها في سنة أخرى؛ كما لو اكترى دورًا في صفقة في بعضها ثمرة أكثر من الثلث، ولا شيء في بقية الدور، أو فيها أقل من الثلث، فإذا جمع الجميع كان أقل من الثلث، فإن ذلك لا يجوز. فإن اشترط بعض الثمرة هل يجوز ذلك أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في "كتاب كراء الدور والأرضين" أوله. والثاني: أن ذلك جائز، وهذا القول يؤخذ من "كتاب العرايا"؛ حيث جوز للمعري أن يشتري بعض عريته ويترك الباقي. فإن اكتري سنة، فانهدمت الدار بعد أن سكن ستة أشهر، فإن لم

تطب الثمرة فهي للمكري، فإن طابت فهل تكون للمكري أو للمكتري؟ قولان. فإن كانت قيمتها ثلث الكراء، وكراه أشهر السنة متساوية: فعلى المكتري ثلثا الكراء؛ الثلث منها قيمة الثمرة، والثلث الآخر فيما لزمه من نصف كراء الدار بلا ثمرة، وهو قول ابن القاسم في "الواضحة" و"العتبية". والثاني: أن الثمرة للمكري -طابت أو لم تطب- وهو اختيار ابن المواز والحمد لله وحده.

المسألة الثانية في اكتراء الدار مشاهرة ومساناة

المسألة الثانية في اكتراء الدار مشاهرة ومساناة (¬1) ولا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يعقدا على مدة معينة. والثاني: أن يسمى الكراء، ويتفقان عليه، ولا يتواجبان على مدة معينة. فأما الوجه الأول: إذا عقده المتكاريان لمدة معينة معلومة: فإن ذلك جائز لازم لهما -نقدا الكراء أو لم ينقداه - قبض الدار أو لم يقبضها- ولم يكن للمكتري أن يخرج، ولا لصاحب الدار قبل تمام المدة، إلا أن يشترط المكتري أن يخرج متى شاء، فيجوز ذلك ما لم ينقد بشرط أو طواعية؛ لأنه كراء بخيار طوعًا، ولا يجوز فيه النقد بشرط ولا طوعًا، وهذه المدة تتعين بخمسة ألفاظ: أحدها: أن يقول أكرى منك هذا الدار، أو هذا الحانوت شهرًا أو سنة بكذا. والثاني: أن يقول: أكرى منك هذا الشهر أو هذه السنة. والثالث: أن يقول: أكرى منك ذلك شهرين أو سنتين. والرابع: أن يقول: أكرى منك ذلك إلى شهر كذا أو إلى سنة كذا؛ فضرب أجلًا. والخامس: أن ينقده المكتري كراء شهر أو سنة أو سنتين. ¬

_ (¬1) أي: كل شهر بكذا أو كل سنة بكذا.

واختلف في السادس إذا قال: أكري منك شهرًا بدرهم أو سنة بدينار، هل ذلك وجيبة معينة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك وجيبة بمنزلة ما لو قال: هذه السنة، وهو الأظهر والأشهر، وهو أسعد بظاهر "الكتاب"، وهو مبني من قوله في "الكتاب": إن استأجرت دارًا سنة أو سنتين: فذلك جائز، وله أن يسكن، ويسكن من شاء. فإن كان لربها الخيار في إخراجه لم يخرج المكتري إن أسكن من شاء، ومن ذلك قوله: استأجرت دارًا سنة بعد ما مضى عشرة أيام من هذا الشهر تحسب هذه الأيام، ثم تحسب أحد عشر شهرًا، ثم يكمل مع الأيام التي بقيت من الشهر ثلاثين يومًا، وهو قول ابن القاسم في آخر "كتاب المدبر" من "المدونة": إذا قال لعبده: أخدمني سنة فأنت حر، فقال: هذه السنة بعينها، أو لم يقل فهو سواء، وتحسب السنة من يوم قوله. وإن أبق فيها العبد أو مرض، فصح بعد زوالها: عتق ولا شيء عليه. وقال: ألا ترى في أن من أكرى داره، أو دابته، أو غلامه، فقال: اكترها سنة، وإنما يحسب من يوم قوله، ولو قال هذه السنة بعينها: كان ذلك أيضًا. والثاني: أن قوله سنة لا يقتضي التعيين، وله الخروج، ولرب الدار إخراجه متى شاء؛ مثل قوله: كل سنة، وهو ظاهر قوله في "كتاب ابن المواز"؛ في الذي قال: أكريك شهرًا بكذا، فسكن شهرًا، ودخل في الثاني، فخرج قبل تمامه، فقال: عليه بحساب ما أكرى، ولو كان بعينه لكان عليه في الثاني كراء المثل، وهذا نص قوله، وإليه ذهب بعض المتأخرين. فإذا انعقد الكراء بينهما بأحد هذه الألفاظ: لزمهما، ولم يكن

لأحدهما الخروج قبل تمام المدة، ويكون أول الشهر أو أول السنة من يوم العقد. فإن كان في أول الشهر: كانت السنة كلها على الأهلة. فإن كان في أثناء الشهر: فهما بالخيار؛ إن شاءا أمضياها على ثلاثين يومًا كل شهر، وإن شاءا عدا بقية أيام هذا الشهر، ثم أحد عشر شهرًا بالأهلة، ثم أكملا على ما كان بقى من الشهر الأول تمام ثلاثين يومًا. وهذا قولهم في الكراء والأيمان في العدد. ولا يقع الكراء، ولا اليمين على بقى من السنة إذا [. .] (¬1) فإن نوى بقية السنة: فله نيته في الفتيا. وإن لم تكن له نية: فإنه يبتدئ السنة من يوم وقع العقد. وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في "العتبية". واختلف إذا وقع العقد في بعض النهار، هل يلغي بقية ذلك اليوم، أو يحسب إلى مثل تلك الساعة؟ على [قولين] (¬2): عن مالك -رحمه الله-، وذلك في الكراء، والعدة، والطلاق، والفوات، والأيمان، ووجود النصاب في الزكاة، والمسافر إذا دخل بلدًا في أثناء النهار، ونوى إقامة أربعة أيام في تلك البلدة. والذي اختاره ابن القاسم: أن يلغي بقية ذلك اليوم. وأما الوجه الثاني: إذا سمى الكراء واتفقا عليه من أن يتواجبا مدة معينة؛ وذلك أن يقول: أكرى منك الشهر بكذا، أو السنة بكذا، أو في كل شهر بكذا، أو كل سنة بكذا، أو كل شهر أو كل سنة، أو في الشهر ¬

_ (¬1) غير واضح بالأصل. (¬2) سقط من أ.

بكذا، أو في السنة بكذا، هل له الخروج متى شاء؟ وهل للمكتري أن يخرجه متى شاء؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدهما: أن له أن يخرج متى شاء، ولا فرق بين الشهر الأول والثاني. وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وهو المشهور. والثاني: أنه يلزمه الشهر الأول بالشروع فيه، ولا يلزمهما ما بعدها، وهو قول عبد الملك بن الماجشون. والثالث: أنه يلزمه كراء الشهر بالشروع فيه -كان أول الشهر أو لم يكن. وهو قول ابن أبي أويس عن مالك. وكذلك إذا أكراه كل سنة بكذا، هل يلزمهما الكراء في السنة الأولى، أو لا يلزمهما لا في أولها ولا في أثنائها، ولأحدهما الخروج متى شاء، ويلزمهما الكراء في كل سنة بسكن بعضها؟ فالثلاثة الأقوال التي قدمناها في المشاهرة داخلة في كراء المساقاة، فتدبر ذلك تجده مبينًا إن شاء الله صحيحًا، والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة في انهدام الدار أو استحقاقها

المسألة الثالثة في انهدام الدار أو استحقاقها ولا يخلو ما انهدم منها من أن يكون يسيرًا، أو كثيرًا. فإن كان يسيرًا: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون لا مضرة فيه على الساكن، ولا ينقص الدار شيئًا. والثاني: أن يكون لا مضرة فيه على الساكن، إلا أنه ينقص من قيمة كراء الدار. والثالث: أن يكون فيه مضرة على الساكن من غير أن يبطل من منافع الدار شيئًا. فأما الأول: فكانهدام الشرفات ونحوها: فلا خلاف فيه أن الكراء للمكتري لازم ولا يحط منه شيء. وأما الثاني: فهو ما لا مضرة فيه على الساكن، إلا أن ينقص من قيمة الكراء: فهذا يلزمه السكنى، ويحط عنه ما حط ذلك من قيمة الكراء إن لم يصلحه رب الدار، ولا يلزمه إصلاحه، فإن سكت وسكن: لم يكن له شيء. وأما الثالث: فهو ما فيه مضرة على الساكن من غير أن يبطل من منافع الدار شيئًا؛ كالهطل، وشبهه: فهذا قد اختلف فيه على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن رب الدار لا يلزمه الإصلاح إلا أن يشاء، فإن أبى: كان المكتري بالخيار بين أن يسكن: بجميع الكراء، أو يخرج، فإن سكت

وسكن: لزمه جميع الكراء، وهو قول غيره في "الكتاب" أيضًا. فأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: وهو أن يكون الهدم كثيرًا، فلا يلزم الإصلاح رب الدار اتفاقًا في المذهب، وهو على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعيب السكنى، وينتقص من قيمة الكراء، ولا يبطل شيئًا من المنافع؛ مثل أن تكون الدار مبلطة مجصصة، فيذهب تبليطها وتجصيصها: فهذا يكون فيه المكتري بالخيار بين أن يسكن بجميع الكراء، أو يخرج إلا أن يصلح رب الدار. فإن سكن وسكت: فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يلزمه جميع الكراء، وهو مذهب ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يلزمه الكراء، ويحط عنه مقدار ما نقص من قيمة ثمن الكراء؛ كالبيت ينهدم من الدار. والثاني: أن يبطل اليسير من منافع الدار؛ كالبيت ينهدم منها، وهي دات البيوت، فهل يلزمه السكنى ويحط عنه ما ناب البيت المنهدم؟ والثالث: أن يبطل أكثر منافع الدار، أو منفعة البيت الذي هو وجهها، أو انهدم الحائط الذي هو سترة لها، أو ما أشبهه: فهذا يكون المكتري فيه مخير بين أن يسكن بجميع الكراء، أو يخرج. فإذا أراد أن يسكن على أن يحط عنه من هدم من ذلك لم يكن له ذلك إلا برضا رب الدار، فإن رضي بذلك جرى جوازه، على الخلاف في جواز جمع الرجلين سلعتيهما في البيع. وموضع التشبيه بين المسألتين: إذا رضي أن يحط عنه ما ينو -ما انهدم من الكراء، وهو مجهول في الحال، ولا يعرف إلا بعد التقويم؛ ولهذا

منع الجمع بين السلعتين في البيع. فإن بني المكري الدار قبل أن يخرج المكتري: لزمه الكراء، ولم يكن له أن يخرج. وإن خرج المكترى، ثم بناها ربها، فهل يلزمه الرجوع أم لا؟ فلا يخلو البناء من أن يكون يسيرًا، أو كثيرًا. فإن كان كثيرًا: فإن المكتري لا يلزمه الرجوع، إلا أن يشاء، ولا خلاف في ذلك. فإن كان ذلك البنيان [يسيرًا] (¬1) مثل الأيام أو فوق ذلك قليلًا مما لا ضرر فيه، هل يلزمه ما بقى من المدة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يلزمه، وهو ظاهر قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا يلزمه ما بقى من المدة، ويسقط عنه ما بين ذلك، وهو قول أصبغ في "كتاب محمَّد". وقال ابن ميسر: يريد أصبغ في العمارة، لا في هدم البناء من أصله. والاستحقاق: كالهدم في التفضيل بين القليل والكثير في جميع ما قدمناه، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الرابعة إذا أكرى داره من النصراني، أو من الخمار من المسلمين

المسألة الرابعة إذا أكرى داره من النصراني، أو من الخمار من المسلمين ولا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكريها منه على أن يسكنها، أو يبيع فيها ما يشاء من الأشربة الحلال. والثاني: أن يكريها منه على أن يبيع فيها خمرًا، أو ما لا يجوز من الحرام. والثالث: أن يكريها منه مجملًا ومبهمًا. فأما إذا أكراها منه على أن يسكنها، أو يبيع فيها ما شاء من الأشربة الحلال: فلا شبهة في الإجزاء، وإنما الكلام إذا صرفها المكتري إلا ما لا يجوز؛ كبيع الخمر وغيره: فلا يخلو ربها من أن يعلم، أو لا يعلم. فإن علم: فله منعه من ذلك. وإن تركه مع الإمكان، فهل يتصدق بالأجرة أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يتصدق بجميع الثمن كما لو ابتدأ العقد على ذلك، وهو قول ابن حبيب. والثاني: أنه لا يلزمه ذلك لملك المكتري منافع الدار بالكراء ملكًا لا يمكن لربها نزعه منه، فلم يلزمه الصدور بالكراء كما لو باعها منه، وقال: هذا القابل إنما كلفنا له منعه على طريق الاستحسان؛ لئلَّا يقول له أنه قد صدق ذلك في حين العقد.

وهذا القول لبعض المتأخرين. والثالث: بالتفصيل؛ فإن كان أكراها له ليسكنها، ثم صرفها إلى بيع الخمر فيها: فإنه يتصدق بجميع الكراء فيه؛ لأنه كأنه فسخ الأول في الثاني إذا لم يمنعه. فإن كان أكراها له ليبيع فيها الأشربة إذا لم يمنعه. فإن كان أكراها له ليبيع فيها الأشربة الحلال، ثم أخذ يبيع فيها الخمر والخنازير: فإنه يتصدق بما زادت قيمة كرائها على أن يبيع الخمر على كرائها على أن يبيع فيها الحلال. وهذا القول لبعض المتأخرين. فإن لم يعلم بذلك: فلا خلاف أنه لا يجب أن يتصدق إلا بما زادت قيمة كرائها على أن يبيع فيها الخمر على الكراء الذي كان أكراها ليبيع الأشربة الحلال. وأما الوجه الثاني: إذا أكراها على أن يتصرف فيها بما لا ينبغي؛ كبيع الخمر، وما أشبه ذلك: فلا يخلو من أن يتصرف فيها المكتري بمقتضى عقده، أو ينقلها إلى تصرف مباح. فالأول فاسد بلا خلاف، ويتصدق بجميع الكراء إذا فات. وفي تقليل الصدقة قولان: قيل: لأنه حرام عليه، وقيل: على وجه الأدب. وقد وجه القولان بالقياس على ثمن الخمر، وبيان الأصل قد تقدم في موضعه. فإن نقلها إلى تصرف مباح: فالمذهب على قولين:

أحدهما: أن العقد فاسد، وتكون فيه القيمة بعد الفوات -بالغة ما بلغت- هنيئة مريئة للمكتري. وهو قول ابن القاسم في "الواضحة" وغيرها، ولا يضرها الشرط. والثاني: أن الكراء سائغ للمكري، ولا يضره الشرط العري عن العمل، ويتصدق بالمزيد لأجل الشرط إن كان ثم. وأما الوجه الثالث: إذا وقع العقد مبهمًا: فقد تنازعت فيه الأوهام الفقهية؛ فريق يحمل العقد على الصحة حتى لا يصير بعلم الجنان الخفي على [ما] (¬1) يطوي اللسان، وله منعه من ذلك، وإن لم يمنعه: فعلى ما تقدم، وبه قال ابن حبيب. وفريق يحمل العقد على الفساد حتى كأنه اشترطه نصًا لما في تغييب شائبة الصحة من ترك الاحتياط، وهو مذهب ابن القاسم في "المدونة". واتفقا على منع عصير العنب لمن يعلم أنه يعصره خمرًا، وأنه يتصدق بالثمن إن فعل. والفرق على رأي من فرق عدم قدرة البائع على [. .] (¬2) يفسخ أو يباع العنب على المشتري على خلاف. وتوجيه مشهور في هذا الأصل، لا خفاء به على من طالع المذهب، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) قدر سطر غير واضح بالأصل.

المسألة الخامسة في حكم العقد والتعدى في كراء الأرض

المسألة الخامسة في حكم العقد والتعدى في كراء الأرض اعلم أنهم قالوا: الأرضون على ثلاثة أقسام: أرض نيل، وأرض مطر، وأرض تسقى بالآبار والأنهار والعيون. والكلام عليها من ثلاثة أوجه: أحدها: في حكم العقد العري عن النقد. والثاني: في حكم النقد، وهل يجوز أو لا يجوز؟ والثالث: لزومه، هل يلزم أم لا؟ أما الكلام في جواز العقد: فلا خلاف عند من يقول بجواز كراء الأرض أن العقد يجوز عليها قرب الزراعة، وعند توقع الغيث. واختلف المذهب هل يجوز تقدم العقد على زمن العمل على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: جواز تقدمه على زمن العمل بقليل أو بكثير لعام واحد ولأعوام -كانت الأرض مأمونة أو غير مأمونة- وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه لا يجوز كراؤها إلا بقرب الزراعة في أرض النيل، وقرب الأمن من وقوع المطر في أرض المطر. ولا يجوز كراء أرض المطر إلا لسنة واحدة، وأما أرض النيل، فيجوز كراؤها للأعوام الكثيرة بقرب ريِّهَا. وأما أرض السقي بالآبار والأنهار: فيجوز كراؤها لعشرة أعوام

لا أكثر. وأما أرض السقي بالعيون: فلا يجوز كراؤها إلا لثلاثة أعوام والأربعة. وهذا مذهب عبد الملك بن الماجشون، وبعضه له في "المدونة"، وله بعض آخر في "الواضحة". ووجه قول ابن القاسم: أن العقد العري عن النقد لا يمنع منه مخافة فوات المقصود مع التمكين من تسليم العين، وإنما يتأثر بتعذر تسليم العين، لا مع إمكانه، وإنما يؤثر فوات المقصود دون النقد، لا في العقد. ووجه قول الغير: أنه لا فائدة في هذا العقد قبل وقت العمل، لا محض التخيير على صاحب الأرض من البيع وغيره؛ فواجب أن يكون ممنوعًا منه. وأما جواز النقد: فذلك يختلف باختلاف الأراضي؛ فما كان منها مأمونًا كأرض النيل، وأرض المطر المأمونة: فلا خلاف في جواز النقد فيها بالري، والإمكان من أيِّ أرض كانت. ومعنى المأمونة: أن تكفيها سقية واحدة، لا التي ينقطع عنها السقي؛ لأنها لو كانت كذلك لم تكن أرض النيل مأمونة؛ لأن السقي ينقطع عنها. وأما غير المأمون: فالمذهب في جواز النقد فيها على قولين: أحدهما: أنه لا يجوز فيها النقد إلا بعد أن تروى، وتتمكن من الحرث -كانت من أرض النيل، أو المطر، أو السقى بالعيون والآبار. وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: التفصيل بين أرض المطر وأرض السقى؛ فأرض المطر لا يجوز السقى فيها حتى تروي ريًا مبلغًا للزرع أو لأكثره، مع رجاء وقوع

غيره من المطر. وأما أرض السقى بالآبار: فإنه يجوز النقد فيها قبل الري. وهو قول عبد الملك في "المدونة" و"الواضحة". وأما وجوب النقد ولزومه: فذلك يختلف باختلاف الأراضي: أما أرض النيل: فالري يجب النقد وفاقًا؛ إذ به يصير قابضًا. واختلف هل يلزم بالشرط قبل الري أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا يجب بالشرط دون الري، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وهو المشهور. والثاني: أنه يجب بالشرط قبل الري. وهذا القول يؤخذ من "المدونة" من قوله: ويجوز أن تكتري من رجل أرضه تزرعها أنت العامر بأرضك قابلًا ليزرعها هو إن كانت أرضك مأمونة يجوز النقد فيها؛ لأن أرضه كعرض انتقده في أرضك، وهذا ظاهر لا إشكال فيه. وأما أرض المطر والسقى الغير المأمون: فلا يلزم فيها النقد إلا باستغناء الزرع عن الماء، وفاقًا. وأما أرض السقى المأمون: فقد اختلف فيه المذهب أيضًا على قولين: أحدهما: أنه كأرض المطر، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه كأرض النيل، وهو قول عبد الملك في "الكتاب" أيضًا. فإن كانت تزرع بطونًا كالقصب، والبقل: ففيه قولان في "الكتاب" أيضًا:

أحدهما: أنه يلزمه النقد بتمام كل بطن أن ينقد ما ينوبه، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه ينقد بابتداء كل بطن، وهو قول أشهب في "الكتاب"، والحمد لله وحده.

المسألة السادسة فيمن [. .]

المسألة السادسة فيمن [. .] (¬1) عليه في ذلك بالإبان، فلا يخلو الذي حرث الأرض من أربعة أوجه: أحدها: أن يصدق رب الأرض في أنه حدثها بغير إذنه. والثاني: أنه يقر بالتعدي، إلا أنه يدعي أنه حرثها بعلمه، وهو حاضر، لا يغير ولا ينكر. والثالث: أن يدعي عليه أنه أكراها منه. والرابع: أن يدعي عليه أنه اكتراها منه، وأنه حرثها بعلمه، وهو حاضر. فالجواب عن الوجه الأول من الوجه الأول: إذا صدقه بأنه حرثها بغير إذنه: فإن لصاحب الأرض أن يأخذ أرضه، ويأمر الزارع بقلع زرعه، فيقلعه إن كانت له فيها منفعة، ولا يجوز لصاحب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعًا كالبنيان؛ لأنه يدخله بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه على التبقية. وقيل: إن ذلك جائز؛ لأنه في أرض مبتاعة، وبالعقد يدخل في ضمانه، فيرتفع الغرر في ذلك، وإلى هذا ذهب الشيخ أبو إسحاق التونسي. وهذا الخلاف ينبني على الخلاف فيمن اشترى على القلع، ثم اشترى الأرض بعد ذلك، فأبقاه فيه، أو اشترى الأرض أولًا، ثم اشترى الزرع بعد ذلك فأبقاه، والخلاف في السؤالين جميعًا. وإن لم تكن فيه منفعة بعد قلعه: لم يكن للزارع أن يقلعه؛ لقول ¬

_ (¬1) غير واضح بالأصل.

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1)، ويبقى لصاحب الأرض ليس لعرق ظالم حق. والجواب عن الوجه الثاني: وهو أن يصدقه في أنه هل يكثر منه إلا أن يدعي أنه حرثها بعلمه، فلم يغير ذلك عليه، ولا أنكر: فإن اليمين يلزم رب الأرض إن لم يكن للمدعي حرث الأرض على ذلك، ولم يقلع زرعه، وكان عليه في الأرض كراء مثلها. وكذلك الحكم مع قيام البينة على حرثه إياها بعلمه ومعرفته. والجواب عن الوجه الثالث: وهو أن يدعي أنه أكراها منه: فالقول قوله صاحب الأرض مع يمينه، فإن حلف استحق أرضه، وكان الحكم في الزرع على ما تقدم. وإن نكل عن اليمين: حلف الذي حرث الأرض: لقد اكتراها منه بكذا وكذا. فإن ادعى ما لا يشبه هل يكون القول قوله أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن القول قوله؛ لأن رب الأرض قد مكنه بنكوله، وهذا هو المشهور في المذهب. والثاني: أن القول قوله فيما يشبه، وهو ظاهر قوله في "كتاب القراض" من "المدونة": إذا ادعى رب المال أنه دفع إليه المال على معنى البضاعة، وادعى العامل أنه دفعه إليه على سبيل القراض، فنكل صاحب المال عن اليمين: أن العامل يحلف إذا كان مثله يستعمل في القراض، فراعى هنا الشبه مع تمكين رب المال إياه من اليمين بنكوله. ¬

_ (¬1) تقدم.

والجواب عن الوجه الرابع: وهو أن يدعي عليه أنه اكترها منه، وحرثها بعلمه ومعرفته، فإن لم يكن للذي حرثه بينة: فالقول قول أصحاب الأرض، ويحلف على الوجهين جميعًا أنه ما أكرى، ولا علم. فإن حلف: كان مخيرًا بين أن يأخذ الكراء الذي أقر به، وبين أن يأخذ أرضه، ويأمر الزارع بقلع زرعه إذا لم يكن للزارع في قلعه منفعة. وأما إذا لم يكن في قلعه منفعة، وكان الحكم يوجب بقاءه لصاحب الأرض: فلا يجوز للمكتري أن يتركه بما أقر به من الكراء، أو بكراء المثل؛ لأن ذلك بيعه من الكراء؛ لأن الشرع أوجبه له. وإذا كان له في قلعه منفعة، فقد تم بعد الكلام عليه. وإن نكل عن اليمين: حلف الذي حرث الأرض: لقد أكراها بكذا -قلَّ أو كثر- فيقبل قوله فيما يشبه بالاتفاق، وفيما لا يشبه: على الخلاف الذي قدمناه. فإن قال رب الأرض: أنا أحلف أني ما علمت بحرثه إياها، ولا أحلف أني ما اكتريتها: لم يمكن ليمينه على هذا معنى إلا أن ينكل الذي حرث الأرض عن اليمين، فيقال لرب الأرض: احلف أنك ما علمت بحرثه إياها، وخذ أرضك، واقلع الزرع إن شئت. وإن أبى رب الأرض أن يحلف على الوجهين جميعًا، وقال: أحلف ما اكتريت منه، ولا أحلف أني ما علمت بحرثه إياها، هل يمكن من اليمين أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا يمكن من اليمين؛ لأنه إن نكل عن أن يحلف ما

علمت بحرثه إياها [. .] (¬1). لقد علمت بحرثي إياها، ولقد اكتريتها منه بكذا: فيكون القول قوله إذا أشبه ما ادعى كراءها. فإن لم يشبه: لم يصدق في ذلك، وحلف رب الأرض أنه ما أكراها منه، واستحق كراء مثلها، ولم يكن له أن يقلع زرعه إذا حلف الذي حرث الأرض أنه حرثها بعلمه ومعرفته. فإن لم يحلف على ذلك، ونكل عن اليمين: كان لصاحب الأرض أن يأخذ أرضه، ويقلع الزرع، وهذا قول ابن القاسم في "المدونة". والقول الثاني: أنه يمكن من اليمين، وأن القول قوله ما أكراها منه، فإذا حلف على ذلك: استحق كراء المثل، وهو قول غيره في "المدونة". فلم ير حرثها بعلم ربها بشبهة توجب أن يكون القول قوله في مبلغ الكراء. فإن كان الذي أقر به المكتري من الكراء أكثر من كراء المثل: فلا يكون اليمين على واحد منهما. وسواء على قول غيره -علم أو لم يعلم- فلا يحلف على مذهبه أنه لم يعلم بحرثه الأرض، وإنما يحلفه أنه ما أكراها منه، ويستحق كراء المثل، ولو نكل عن اليمين على ذلك: حلف الذي حرث الأرض، وإن أتى بما لا يشبه. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: وهو أن يقوم عليه في ذلك بعد الإبان، فإن صدقه أنه لم يكر منه، فله كراء المثل دون يمين، ادعى عليه أنه حرثها بعد علمه أم لا. ¬

_ (¬1) قدر سطر غير واضح بالأصل.

وأما إن ادعى عليه في ذلك بعد الإبان صدقة أنه لم يكر منه: فله كراء المثل دون يمين ادعى عليه أنه حرثها بعد علمه أم لا. وأما إن ادعى عليه أنه أكراها منه، ولم يدع أنه حرثها بعلمه ومعرفته: فإن رب الأرض يحلف أنه ما أكراها منه، ويأخذ كراء المثل. فإن نكل عن اليمين: حلف الذي حرثها على ما ادعاه من ذلك. وأمَّا إن ادعى عليه أنه أكراها منه، وأن حرثها بعلمه ومعرفته: فيحلف على الوجهين جميعًا. فإن حلف: أخذ كراء المثل. وإن نكل عن اليمين على الوجهين جميعًا، وعلى أنه لم يكر منه: حلف الذي حرث الأرض على ما ادعى من الكراء. وإن كان الذي أقرَّ به من الكراء أكثر من كراء المثل: فلا يمين على واحد منهما. وإن نكل رب الأرض: أن يحلف ما حرثه بعلمه ومعرفته، ولقد اكتريتها منه بكذا وكذا إذا أشبه ذلك. فإن لم يشبه: حلف رب الأرض أنه ما اكتراها منه، ويأخذ كراء المثل، والحمد لله وحده.

المسألة السابعة في المغارسة

المسألة السابعة في المغارسة اعلم أن المغارسة على جزء من الأرض: لا تجوز إلا على شروط: منها: أن يذكر شبابًا معروفًا. ومنها: أن يكون هذا الشباب قبل الإثمار، ولا يجوز أن يكون بعد. واختلف إذا قيداه بالإثمار، فقد اختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو المشهور، وهو قول ابن القاسم في "العتبية" و"الموازية". والثاني: أن ذلك لا يجوز؛ لأن قوله: "إذا أثمرت" لا يدري متى تثمر. وهو قول ابن القاسم في "الموازية" أيضًا. فإن قيداه بالأجل، فإن كان أجلًا يثمر الشجر قبله: فعلى الخلاف الذي قدمناه. وإن كان أجلًا ينقضي قبل الاندمال، وبعد نبات الأشجار فلا خلاف في الجواز. فإن أبهم الأمر فقولان: أحدهما: الجواز، ويحمل على الإثمار، وهو قول ابن حبيب. والثاني: أن ذلك فاسد حتى يسمي شبابًا معروفًا، أو إلى الإثمار، وهي رواية حسين بن عاصم عن ابن القاسم في "العتبية". وهذه المغارسة لها حكم الجعالة تارة، والإجارة تارة أخرى؛ فهي

شبيهة بالإجارة في أنها تلزم بالقول، وشبيهة بالجعالة في أنه لا شيء له إلا بعد بلوغه للحد المشروط؛ فإن بطل قبل ذلك: لم يكن له شيء. وهل من حقه أن يعيده مرة أخرى؟ قولان: فإن وقعت هذه المغارسة على الوجه الذي منعنا إيقاعها عليه: فذلك على وجهين: إما أن يجعل له جزءًا من الأرض، أو لا يجعل له. فإن لم يجعل له جزءًا من الأرض، ولكن دخل الغارس على أن يكون له جزء من الغرس على الخصوص أو من الثمار بانفرادها: فلا خفاء بفساد ذلك، واختلف في حكمه على قولين: أحدهما: أنه كراء فاسد. والثاني: أنه إجارة فاسدة. ومن جعله كراء فاسدًا كأن الغارس اكترى منه الأرض إلى أمد غير معلوم بنصف الثمرة، أو بنصف الشجر، يدفع ذلك إليه عند الحد المشروط والغروس على ملك الغارس، أو يكون عليه كراء الأرض. واختلف في حد ما يلزمه فيه الكراء على ثلاثة أقوال: قيل: يوم أخذه وقبضه. وقيل: من يوم وضع فيه الغرس. وقيل: من يوم أثمر الشجر. وكل ذلك عن ابن القاسم -رحمه الله-. وتكون له الغلة جميعها، ويرد رب الأرض ما فوت منها، ويقلع غرسه إلا أن يشاء رب الأرض أن يأخذ بقيمته.

ومن جعله إجارة فاسدة: إذا كان رب الأرض استأجر الغارس على أن يغرس له هذه الأرض بجزء من الثمار أو الشجر يدفع ذلك عند بلوغ الحد المشروط: رأى أن الغرس على ملك رب الأرض، ويكون عليه للغارس قيمتها يوم وضعها في الأرض مقلوعة، وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه، وتكون الغلة كلها لرب الأرض، ويرد الغارس عليه ما فوت منها مكيلتها إن عرفت، أو خرصها إن جهلت. فإن جعل له جزءًا من الأرض، ولكنه أخلَّ ببعض الشروط المذكورة في الصحة، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنها إجارة فاسدة، وعلى رب الأرض قيمة الغروس وقت وضعت في الأرض، وأجرة المثل للغارس في قيامه به، وخدمته، وحرسه، ومحافظته عليه، وله جميع الغلة، ويرد عليه العامل ما فوت منها، كما تقدم، وهذا مذهب سحنون. والثاني: أنه بيع فاسد في نصف الأرض، وقد فوته الغارس بالغرس، وتكون عليه فيه قيمته يوم غرسه براحًا، وكراء فاسد في النصف الثاني، ويكون على الغارس فيه كراءه لرب الأرض، إما يوم الأخذ، أو الغرس، أو الإثمار على ما تقدم من الخلاف. وللغارس قلعه، إلا أن يعطيه رب الأرض قيمته مقلوعًا، وللغارس جميع الغلة، ويرد عليه رب الأرض ما فوت منها. وهذا القول مروي عن ابن القاسم. والثالث: أنه بيع فاسد في نصف الأرض -كما قدمنا- وفي النصف الثاني إجارة فاسدة، يكون فيه على رب الأرض للغارس قيمة غرسه مقلوعًا يوم وضعه، وأجرة مثله في غرسه، وقيامه عليه إلى وقت الحكم بينهما على ما اشترطناه.

وقيل: إنه يكون عليه للغارس نصف قيمة الغرس قائمًا، ويحكم فيه من أجل سقيه وعلاجه، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم. وقيل: إنه يكون عليه قيمة نصف غرسه يوم بلغ وأثمر، وأحرثه من يومئذ في قيامه عليه إلى يوم يحكم فيه، وهو قول ابن حبيب في "الواضحة". والغلة بينهما في جميع ذلك على ما اشترطناه، والصحيح من ذلك ما بدأنا به أن يكون عليه نصف قيمة الغرس مقلوعًا يوم وضعه في الأرض، وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه إلى يوم الحكم، وهذا يأتي على أن الغرس نصفه على ملك الغارس ونصفه على ملك رب الأرض، وصلى الله على نبينا محمَّد.

منَاهِجُ التَّحصِيلِ وَنتَائجُ لَطائِفِ التَّأوِيلِ في شَرحِ المدَوَّنَةِ وحَلِّ مُشكِلاتهَا تَأليف أبي الحَسَن عليّ بن سَعيد الرجراجي تَقديم فَضيلَة الشّيخ الأستاذ الدكتور عَلي عَلي لُقَم اعتَنَي بِه أبو الفَضل الدّميَاطي أحمَد بن عَليّ الجُزءُ الثَّامِن مَركز التّراث الثقَافي المغربي دار ابن حزم

حُقُوقُ الطَّبع مَحفوظَةٌ الطّبعَة الأولي 1428هـ - 2007م ISBN 9953 - 81 - 431 - 7 الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها مركز التراث الثقافي المغربي الدار البيضاء - 52 شارع القسطلاني - الأحباس هاتف: 442931 - 022/ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هاتف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

منَاهِجُ التَّحصِيلِ وَنتَائجُ لَطائِفِ التَّأوِيلِ في شَرحِ المدَوَّنَةِ وحَلِّ مُشكِلاتهَا (8)

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الشركة

كتاب الشركة

كتاب الشركة تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها خمس مسائل: المسألة الأولى في تقاسم الشركة اعلم أنهم قالوا: إن الشركة على ثلاثة أضرب: شركة مال، وشركة أبدان، وشركة ذمم. فأما الشركة بالمال: فالإجماع على جوازها على شروط مختلف فيها، يأتي بيانها في مسألة مفردة إن شاء الله. فعندنا: أن الربح فيها يتوزع على قدر مالية كل واحد منهما، وعليه يكون العمل. فإن تفاضلا في المال على شريطة تشطير الربح: لم يجز، وكذلك لو تماثلا في رأس المال على أن يتفاضلا في الربح لم يجز، وفاقًا في الصورتين من المدني والحجازي، خلافًا للعراقي فيهما. ومستندنا كلام مخيل نجمعه في تحرير، فنقول: الاشتراط على غير سبيل الاشتراك فلم يجز؛ لأنَّا معاشر العباد ليس إلينا تغيير وضع الأسباب، وإنما إلينا مباشرة الأسباب، وترتيب أحكامها إلى الله تعالى، فإذا كان الأمر هكذا وجب توزيع النماء المستفاد من متخذ الاشتراك على قدر المالية؛ قياسًا للاشتراط على إطلاق المسببات أبدًا لابد أن تكون على وفق الأسباب. وأما شركة بدن: فهي جائزة وفاقًا من العراقي والمدني، خلافًا للحجازي.

ولها على رأى المدني ثلاثة شروط: اتفاق الصنعة، واتحاد البقعة، وعدم التفاضل إلا الشيء المغتفر. وقولنا: اتفاق الصنعة، مثل أن يكونا خياطين، أو صائغين، أو حدادين؛ احترازًا من أن يكون أحدهما خياطًا والآخر حدادًا، فإن ذلك لا يجوز باتفاق المذهب؛ لما في ذلك من الغرر والخطر؛ إذ قد تتفق صنعة أحدهما وتكسد صنعة الآخر، وذلك من باب أكل المال بالباطل. وقولنا: اتحاد البقعة؛ احترازًا من أن يكونا في موضعين، هذا في موضع، وهذا في موضع. فإذا اتحدت الصنعة وتفرقا في المواضع، فهل تجوز الشركة بينهما أو لا تجوز؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها لا تجوز؛ لأن ذلك غرر وأكل المال بالباطل؛ إذ قد يعمل أحدهما، ويتعطل الآخر. والثاني: أن ذلك جائز، وهو قول أصبغ عن ابن القاسم في "العتبية"؛ حيث قال: فإن اتفقت الصنعة، والحانوتان متفرقان: فلا بأس به. وقد اختلف المتأخرون في تأويل ما وقع في العتبية هل هو وفاق للمدونة أم لا؟ فمنهم من حمل الكلام على ظاهره، وقال: إن ذلك خلاف. ومنهم من قال: إن ذلك تباعد المواضع؛ حيث يصير هذا في بلد، وهذا في بلد فلا يجوز، وإن تقاربت المواضع، وتدانت الحوانيت حتى تكون أيديهما تلج في الحانوتين جميعًا، ويتعاونان في العمل: فذلك جائز؛ إذ ليس المقصود بالجلوس في موضع واحد إلا لتقارب

الأسواق ومنافعه. وعلى هذا التأويل يتلفق [ما] (¬1) في الكتابين. وقولنا: وعدم التفاضل إلا الشيء المغتفر؛ احترازًا من أن يتفاضلا في العمل، ويتفقا في الكسب. ولا تخلو شركتهما من أن يحتاجا [فيها] (¬2) إلى رأس المال أم لا، فإن لم يحتاجا [فيها] (¬3) إلى رأس المال؛ كالشركة في تعليم الصغار، فإن تساويا في الحفظ وحسن التعليم: فلا إشكال في الجواز. فإن كان أحدهما أغزر علمًا، أو أجود تعليمًا، والكسب بتفاضل ذلك، فالمذهب على جواز شركتهما على قولين: أحدهما: الجواز. والآخر: المنع. والقولان لمالك في "الموازية". فإن احتاجا في شركتهما إلى رأس المال؛ كالحدادين، والإسكافة والقرازين: فإنهم يحتاجون إلى آلة الصنعة والصيد بالجوارح والحمل على الدواب، فهذا لابد لهم من الاعتدال والتساوي فيما يخرجاه، وهل من شرطها الاشتراك في الرقاب أم لا؟. أما ما لابد فيه من عمل الأيدي؛ كالصناعات بأسرها: فقد اختلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه لابد لهما من الاشتراك في الرقاب. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فيه. (¬3) في أ: فيه.

والثاني: أنه يجوز، وإن لم يشتركا في الرقاب، ولكنهما يتكاريان ما أخرجاه بينهما، ويؤدي كل واحد منهما كراء نصف ما أخرج صاحبه. والثالث: أن الشركة جائزة، وإن لم يشتركا في الرقاب، ولا يتكاريانها. والثلاثة الأقوال كلها لمالك، قائمة من "المدونة" من كتاب [. .] (¬1) وهي أظهر من أن تتعرض للتنبيه على مواضعها. وأما ما لا مدخل فيه لعمل اليد لكون عمل اليد فيه تبعًا؛ كالصيد بالبزاة والكلاب، والاحتشاش، والاحتطاب، والحمل على ظهور الدواب: فالمذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه لابد من الاشتراك في الرقاب، والتعاون في العمل، ولا يجوز الافتراق يكون هذا في موضع، وهذا في موضع، وهو قول ابن القاسم، ومالك في "الكتاب". والثاني: أنه يجوز وإن لم يشتركا في الرقاب إذا اكترى كل واحد منهما نصف ما أخرج صاحبه، ويكون عملهما في موضع واحد، وحملها إلى غاية واحدة، ولا يجوز لهما أن يفترقا، وهو قول مالك في "الكتاب" أيضًا. والثالث: أن الشركة جائزة، وإن لم يشتركا في ملك الرقاب، ولا تكارياها إذا كان عملهما في موضع واحد، وحملهما إلى غاية واحدة، وهو قول مالك في "الكتاب" أيضًا. والرابع: التفصيل بين أن يشتركا في الرقاب، أو لم يشتركا؛ فإن اشتركا في ملك الرقاب: فالشركة جائزة، وإن افترقا. ¬

_ (¬1) اسم الكتاب سقط من الأصل.

وإن لم يشتركا في الرقاب: فلا تجوز الشركة حتى يكون عملهما في موضع واحد. وهو قول ابن حبيب في المشتركين في الدابتين، وهو تأويل بعض الأشياخ على المدونة في الاشتراك في الصيد بالبزاة، والكلاب على اختلاف الروايات في "الكتاب" في إثبات الألف وإسقاطه؛ وذلك أنه سئل هل الاشتراك في الصيد بالبزاة والكلاب؟ فقال: لا أرى ذلك، إلا أن تكون البزاة والكلاب بينهما، ويكون الكلبان، والبازان بيعًا وإن طلبهما واحد، وأخذهما واحد، لا يفترقان. هكذا في أكثر النسخ، وهي الرواية المشهورة أنه لابد من الاشتراك في الرقاب، وأنه لا يجوز الافتراق. ووقع في بعض الأمهات رواية بزيادة الألف في قوله: "أن يكون الكلبان والبازان يتعاونان"، فاستخرج منها بعض الأشياخ أن الاشتراك إذا حصل بينهما في الرقاب: لم يلزم اجتماعهما، وجاز الافتراق، كما هو منصوص عليه في الدواب في "كتاب ابن حبيب"؛ بناء على أن الجوارح كرؤوس الأموال؛ لأن الجوارح معظم عمل الصيد، إذا اشتركا فيها لم يضرهما الافتراق؛ كما لو اشتركا بالمال، فسافر هذا إلى ناحية، وهذا إلى ناحية. فأما الضرب الثالث: وهي الشركة بالذمم: فلا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يشتركا في شيء بعينه: فهذا جائز، ويتتبع كل واحد من ثمن تلك السلعة بقدر نصيبه. والثاني: اشتراكهما في معين على أن يتعين كل واحد منهما لصاحبه؛ فإن كانا معتدلين فيها: جازت الشركة والبيع، وإن كانا مختلفين فيها: لم تجز.

والثالث: أن يشتركا على غير معين: فهذا لا يجوز، فهذا من باب تحمل عني وأتحمل عنك، وأسلفني وأسلفك، فإن نزل ووقع هل ينفرد كل واحد منهما بما اشتركا، أو يكون بينهما؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك لا يجوز، ولكل واحد منهما ما اشتراه، وهو ظاهر "المدونة"؛ لأنه قال: لا تعجبني هذه الشركة، وهو مذهب سحنون. والثاني: أن كل ما اشتراه أحدهما، فإنه يكون بينه وبين صاحبه، وهو ظاهر قوله في باب شركة المفاوضة؛ لأن صاحبه قد أمره أن يشتري عليه. وقال بعض المتأخرين: هكذا كان في هذا الباب في "الأسدية" بعد قوله لا تعجبني هذه الشركة، قال: فإن نزلت: رأيت أن يكون ما اشترى كل واحد منهما يلزم نصفه صاحبه؛ لأنه قد اشتراه بإذن صاحبه. وقال حمديس: كأنه حمله على محمل الوكالة، ولأصبغ نحوه.

المسألة الثانية في الشركة في النصف المتحد والمتعدد

المسألة الثانية في الشركة في النصف المتحد والمتعدد اعلم أن المال الذي ذكرنا الإجماع على جواز الشركة به لا يخلو من وجهين: إما أن يكون صنفًا واحدًا، أو أصنافًا. فإن كان صنفًا واحدًا؛ كالدنانير من كليهما، أو الدراهم، أو الطعامين من صنف واحد، أو العرضين من صنف واحد؛ أما العين: فالإجماع على جواز الشركة به عند اتحاد الجنسية، وكذلك العرضين من صنف واحد -عندنا. أما بالطعامين المتفقين ففي جواز الشركة بينهما قولان منصوصان في الكتاب: أحدهما: أنها جائزة، وهو قول ابن القاسم، وهو أحد قولي مالك في "الكتاب": وقد رجع مالك عن إجازة الشركة بالطعامين إن تكافئا، فلم يجزه لنا منذ لقيناه، ولا أعلم للكراهية فيه وجهًا. وهذا القول الثاني منصوص عن مالك في "الكتاب"؛ حيث قال: ولا تجوز الشركة عند مالك بشيء من الطعام، والشراب -كان مما يكال أو يوزن أم لا، من صنف واحد، أو من صنفين. فإن كانا أصنافًا مختلفة؛ كالطعامين المختلفين أو العرضين المختلفين، أو الدنانير من عند واحد والدراهم من عند الآخر، أو العرض من عند أحدهما، والعين من عند الآخر، أو بالعرض والطعام: فقد جوز ذلك كله سحنون، واختلف فيه قول مالك، واضطرب فيه قول ابن القاسم. أما الصنف المحدد: فقد اتفق المذهب على جواز الشركة فيه، إلا في

الطعامين على ما تقدم. والدليل الدال على جواز الشركة عند اتحاد الجنسية: الإجماع الواجب الاتباع، المحرم التداع. أما العرضين المتحدين: فالدليل عليه: عدم العلتين، وفقد المحذورين -البيع والشركة- وعدم جريان الربا فيهما. أمَّا البيع: فإنه يتصور عند اتفاق الأعراض؛ لأن ما بيد أحدهما مثل ما بيد الآخر، وإنما يتصور التشوف عند اختلاف الأعراض بأن يطمح كل واحد منهما إلى ما بيد صاحبه. وأما الطعامان المختلفان: وسبب الخلاف فيه أن يقال: من جوزها قاسها على العين؛ لعلة أنه مال ربوي كهو. ومن منعها: فقد وجه قوله بأربعة معان: منها: عدم المناجزة ببقاء يد كل واحد منهما على شبه الذي باعه، وساغ ذلك في العين؛ لأنها رخصة لا يعقل لها معنى، فلم تقس عليه لخروجه عن قياس الأوضاع ومنهاج القواعد. ومنها: أن ذلك من جهة الخلط للطعام الجيد بالطعام الردىء، وإذا لم يخلطاهما فكمكتل؛ لأنه بيع عرى عن التقابض. ومنها: أنه بيع الطعام قبل الاستيفاء؛ لكون كل واحد منهما متصرفًا في النصف الذي باعه لشريكه قبل قبضه له؛ لبقاء يد كل واحد منهما على عين شيئه. ومنها: أن الشركة تفتقر إلى الاستواء بين الكيل والقيمة، وحصول ذلك عزيز، بخلاف البيع الذي لا يفتقر إلى الاستواء في المعيار الشرعي، ويلزم هذا على ما قاله إلزامًا ينطبق عليه انطباقًا، مخففًا تحرير ذلك في

الطعامين المختلفين؛ لسقوط الاستواء في المعيار الشرعي فيه، وكل ذلك معدوم في العرضين المتفقين، وكذلك ارتفع النزاع عندنا فيهما. أما النصف المتعدد: فقد ذكرنا الخلاف فيه؛ فمن جوز على الإطلاق، فقد تحسس إلى جواز البيع، والشركة، ولاسيما إذا كان داخلًا فيهما، وهو مذهب سحنون؛ لأن الدليل الدال على جواز الشركة لم يفصل بين كونها مقرونة، أو مفروزة. ومن منع ذلك على الإطلاق لم يسلم اجتماع البيع والشركة، وإن كان داخلًا فيهما؛ لأنهما متناقضي المعنى، متنافرين في المغزى. أما ابن القاسم: فقد أنبأناك باضطراب مذهبه؛ لأنه منع الشركة بالطعامين المختلفين وبالدنانير والدراهم؛ حذار الإخلال بالقاعدتين المدعمتين؛ وهما: عدم المناجزة المشروعة، وجواز البيع والشركة، وجوزها في العرضين المختلفين، وفي العين من واحد، والغرض من آخر؛ لسقوط قاعدة الربا، وإن كان ثم بيع وشراء كمتفقد اغتفره لدخوله فيهما؛ ولأن الدليل الدال على الإجزاء عام في كونها جائزة حسًا وركزًا، فإذا جوزنا الشركة فيما يحرم فيه التفاضل، فإنما نراعي الاتفاق في الكيل والقيمة، وإذا جاز التفاضل، فإنما يراعى الاتفاق في القيمة، والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة في اعتبار الخلط في مال الشركة

المسألة الثالثة في اعتبار الخلط في مال الشركة فينبغي أن تعلم أن الأصحاب ترددوا في الخلط، هل هو شرط في صحة عقد الشركة أم لا؟ فذهبت طائفة إلى أن خلط المالين شرط في انعقاد الشركة، فمتى لم يحصل لم ينعقد عقد الشركة بينهما، وهو نص قول الغير في المدونة، وذهبت طائفة إلى أن الخلط شرط في صحة العقد، وبه قال بعض المحققين. وذهب ابن القاسم إلى أن الخلط شرط الانعقاد في الثواء، لا في النماء؛ لأنه قال: ما اشتراه أحدهما بماله قبل الخلط فهو بينهما، وما ضاع فهو من صاحبه. فأنت ترى ترداد هذا المذهب في الخلط، وقد يعتذر عن هذا التناقض بأن يقال: أن المشتري إنما كان بينهما ليكون لذكر الشركة تأثير بأن يشتركا في النماء، وأما الثواء فإنه اختص به صاحب المال الثاوي؛ لبقاء التوفية عليه كالبيع، حتى إذا تناقداها ووزناها، ثم ائتلفت في ملكه لتوزيع الثواء توزيع النماء عليهما. ثم لا يخلو المشتري ماله منهما من أن يشتري بعد تلف مال صاحبه، أو قبل تلفه؛ فإن اشترى قبل تلف مال الآخر: فالمشتري بينهما لا محالة، فإن اشترى بعد التلف -وهو عالم به: كان المشتري له، قولًا واحدًا، وإن لم يعلم فهو بالخيار بين أن يشركه فيه ويلزمه له، أو يتفرد به دونه؛ لأنه يقول لو علمت بالتلف لاشتريت لنفسى بخلاف ما اشتراه قبل التلف كما تقدم.

وعلى القول بأن الخلط شرط إما في الانعقاد، وإما في الصحة، فإن الشركة موضوعها التعاون في العمل، والإذن في الاتجار مطلقًا بتعافي العقود مرة بعد أخرى على وجه يكثر به المال، ويحصل به الربح، وذلك لا يحصل كما يجب إلا بالخلط؛ لأنه إذا كثر المال اتسعت التصرفات فيه، وكثر الربح، وظهر النماء، وإذا قلَّ عسر استنماؤه، وتعذر استمداده؛ لأن نفس الشركة هي خلط المالين؛ إذ لا تسمى الشركة في عرف الشرع إلا كذلك، وإلا فلا يطلق عليها ذلك الاسم إلا مجازًا. فإذا ثبت ذلك، فما الخلط المعتبر؟ هل الخلط الحسي أم الخلط المعنوي؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المراعى الخلط الحسي؛ بأن تخلط العين حتى لا يتمكن التمييز أصلًا، وهو مذهب سحنون، وهو ظاهر قول الغير في المدونة. والثاني: أن المعتبر الخلط المعنوي؛ فإذا وجد صحت الشركة؛ وهو أن يجمع المال أحدهما في تابوته، أو في خريطته، وإن لم يخلطا وكانت كل صرة على حدة، وهو قول ابن القاسم في المدونة.

المسألة الرابعة في حكم المزارعة

المسألة الرابعة في حكم المزارعة اعلم أنهم قالوا: إذا سلم المتزارعان من أن تكون الأرض التي لها بالٌ في الكراء من واحد، والبذر من الآخر: جاز إذا تكافئا. واختلف في التكافؤ المعتبر على قولين: أحدهما: أن التكافؤ لا يكون إلا بالتساوي في الرقاب حتى يستويا في ضمان التالف. والثاني: أنه يجوز وإن لم يشتركا في الرقاب بأن تكون قيمة كراء ما يخرجه أحدهما مكافئًا بقيمة كراء ما يخرجه صاحبه. والقولان لمالك في أصل "الكتاب"، وقد قدمناهما في شركة الأبدان، بيد أن لنا في التكافؤ، هل هي معتبرة أم لا؟ أربعة أقوال: أحدها: أنه معتبر، ولا يصح التفاضل، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه غير معتبر، والتفاضل سائغ، وهو قول سحنون. والثالث: مقيد بأن لا يتفاحش بما لا يتغابن بمثله، وهو قول ابن حبيب. والرابع: التفصيل بين التفاضل المتصل والمنفصل؛ فيجوز في المتصل، ولا يجوز في المنفصل. ومعنى المتصل: هو المقابل له عوض، ومعنى المنفصل: وهو المتبارز الذي لم يقابل بشيء؛ مثل أن يخرج أحدهما ما ليس له نظير من الآخر،

وهو قول سحنون أيضًا. وهذان القولان المقيدان آيلان عن العفو عن قليل الفضل دون جمهوره، ولهما وجه في الجملة، وإن لم يشف غليلًا، ولا يبرئ قتيلًا، وهو كيف وصلنا بين الحظير والحقير من الغرر في البيع. وأما القولان المطلقان فحاصلان، وشاهدهما ومثارهما تردد المزارعة بين أصلين متنافري المعنى؛ أحدهما: الإجارة، والتماثل ليس من خصائصها، فمن محض النظر إلى أحد الأصلين خرج له منه حكمها حتى صمم على الجواز أو على المنع، وهذا محض التحقيق. فإن وقعت على وجه فاسد على التفاضل على رأي من منعها، أو يكون مخرج البذر غير مخرج الأرض لمن يكون الزرع؟ فالمذهب على ستة أقوال: أحدها: أن الزرع لصاحب البذر، ويؤدي لأصحابه كراء ما أخرجوه، وهو مذهب ابن غانم. والثاني: أن الزرع لصاحب العمل، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم فيما حكاه عنه ابن المواز. والثالث: أن الزرع لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أصول؛ وهي البذر والأرض، والعمل، فإن كانوا ثلاثة فاجتمع لكل واحد منهم شيئان، أو انفرد كل واحد منهم بشيء منها كان الزرع بينهم أثلاثًا، وإن اجتمع لواحد منهم شيئان منها دون أصحابه: كان له الزرع دونهم، وهو مذهب ابن القاسم، واختيار ابن المواز على ما تأول أبو إسحاق. والرابع: أنه يكون لمن اجتمع له ثلاثة أشياء على هذا الترتيب؛ وهي: الأرض، والبقر، والعمل.

والخامس: أنه يكون لمن اجتمع له شيئان من أربعة أشياء على هذا الترتيب أيضًا؛ وهي البذر، والأرض، والبقر، والعمل. والسادس: أن الفساد إذا سلم من كراء الأرض ما يخرج منها: كان الزرع بينهم على ما اشترطوه وتعادلوا فيما أخرجوه. وإن دخله كراء الأرض بما يخرج منها: كان الزرع لصاحب الأرض، وهو قول ابن حبيب. وهذا الخلاف تارة يقدر أنه أكرى الأرض كراء فاسدًا، وتارة يقدر إجارة العامل إجارة فاسدة، والحمد لله وحده.

المسألة الخامسة في إقرار أحد الشريكين على الشركة

المسألة الخامسة في إقرار أحد الشريكين على الشركة فلا يخلو ذلك من وجهين: إما أن يكون ذلك قبل افتراقهما، أو بعده. فإن كان الإقرار قبل الافتراق: فلا يخلو أن يكون شريكًا مفاوضًا، أو شريك عنان. فإن كان شريك عنان: فلا يخلو إقراره من أن يكون في شيء بعينه، أو فيما يتعلق بالذمة. فإن كان في شيء بعينه: فلا يجوز إقراره على شريكه بوجه إلا أن المقر شاهد لمن أقر له يحلف معه، ويستحق حقه إن كان عدلًا. فإن كان مما يتعلق بالذمة: فحكمه حكم المفاوض، وها أنا أتكلم عليه إن شاء الله. فإن كان مفاوضًا حيث يصير حميلًا عن صاحبه حتى صار في حكم المتحد، فهل يجوز إقراره عليه بدين أم لا؟ فلا يخلو من أن يكون ممن يتهم عليه، أو لا يتهم عليه. فإن كان المقر له ممن يتهم عليه كالصديق الحميم وغيره من قرابته، فإنه يتخرج على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن ذلك لا يلزم المقر عليه، وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن ذلك جائز، وهذا القول يؤخذ من المدونة من "كتاب

التفليس" من إقران مفترق الذمة قبل التفليس لمن لا يتهم عليه حيث قال بجوازه ببقاء الدين في ذمته فلم يتهم، والمنع أظهر لإضراره لشريكه؛ فهذا دأب الشرع في كل إقرار يتضرر به الغير، ويرجع وباله على غير ألا يجوز كالعبد، والمريض، والمديان، فإن كان المقر له ممن لا يتهم عليه: فلا إشكال في جوازه، ولزوم إقراره لشريكه. فأما الوجه الثاني: إذا كان الإقرار بعد الافتراق: فلا يجوز إقرار الشريك الخاص. وهل يجوز إقرار العام؟ فلا يخلو من أن يكون ذلك بقرب الافتراق، أو بعد طول الزمان. فإن كان ذلك بعد طول الزمان: فلا يجوز إقراره لانقطاع الحبل وانفتات الوصل بينهما كالأجنبي. فإن كان بالقرب هل يجوز أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أن ذلك جائز، وهو قول سحنون. وكذلك الحكم في إقرار أحدهما بعد موت الآخر في التفصيل بين القرب والبعد، وإن كان ابن القاسم قد أطلق في "الكتاب" في أن ذلك لا يجوز، والمقر شاهد للمقر له، فإذا قلنا بقول ابن القاسم، فهل هو شاهد ويحلف معه صاحب الدين، فإن نكل أخذ منه حصته أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه شاهد ويحلف معه، ويستحق حقه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في آخر "كتاب الشركة" من "المدونة".

والثاني: أنه ليس بشاهد؛ لأنه مطلوب بجميع الدين لكونه حميل، فيدفع عن نفسه الغرم بشهادة كالخلاف في شهادة الحميل على ما لا خفاء به على من طالع المذهب، والحمد لله وحده.

كتاب القراض

كتاب القراض

كتاب القراض المسألة الأولي في تسميته قراضًا ومضاربة على لغة أهل العراق فالقراض: مأخوذ من القرض؛ قال صاحب العين: أقرضت الرجل إذا أعطيته ليعطيك، وهي عطية يجازي بها صاحبها؛ قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (¬1). والقراض عطيه ليجازي عليها بجزء من ربحها، والقرض في السلف من هذا، فكأن القرض ينتفع به آخذه لكن لا ضمان عليه فيه، وعليه رده ومكافأة ما صنع مع صاحبه ما يدخله عليه من ربح، ولهذا سمى هذا مقارضة؛ إذ المنفعة فيه والرغبة من اثنين، التي هي المفاعلة، ولا يكون ذلك في السلف؛ إذ النفع فيه للمسلف وحده. وقد قيل: سمى هذا قرضًا؛ لأن الله تبارك وتعالى يجازي عليه بثوابه، وهذا معترض؛ لأن هذا الاسم كان في الجاهلية معروفًا، وهم لا يطلبون عند الله جزاءً، ولا يعترف أكثرهم بمعاد. وأما تسميته مضاربة: فمن الضرب في الأرض، وهو السفر بها، قال الله العظيم: {يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬2)، وكان أصل القرض في الجاهلية دفع المال للمسافر، فتكون المضاربة هنا إما بمعنى السفر الذي جاء فيه فاعل من المؤاجر، فقالوا سافر أو لأجل عقد من اثنين. ولا خلاف في جوازه بين المسلمين، وأنه رخصة مستثناة من الإجارة ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية (245). (¬2) سورة المزمل الآية (20).

المجهولة، ومن السلف بمنفعة، وهو معنى قول بعض شيوخنا أنه سنة أي: إباحة أو رخصة، وهو من العقود الجائزة، ولأحدهما الترك متى شاء ما لم يتعلق بالمال حق لأحدهما، والحمد لله وحده.

المسألة الثانية في معرفة ما يجوز به القراض

المسألة الثانية في معرفة ما يجوز به القراض والقراض لا خلاف في جوازه بالدنانير والدراهم. وفي جوازه بنقار الذهب والفضة قولان لمالك في الكتاب في "أول كتاب القراض" من "المدونة". وفي جوازه بالفلوس قولان: المنع: وهو المنصوص المشهور، ويستقرأ من المدونة الجواز من غير ما موضع؛ بناءً على أن لها حكم العين. ولا يجوز بشيء من العروض المعينات، ولا بشىء من المكيلات والموزونات عند مالك وجميع أصحابه، ولا عند أحد من فقهاء الأمصار؛ لأن القراض في الأصل غرر؛ لأنه إجارة مجهولة؛ إذ لا يدرك العامل، فهل يربح في المال أم لا؟ ولا مقدار ما يربح إن ربح، إلا أن الشرع جوزه للضرورة إليه، وحاجة الناس إلى التعامل به، فيجب ألا يجوز منه إلا مقدار ما جوز الشرع، وأن يكون ما عداه ممنوعًا بالأصل. وأيضًا فإن القراض بالعروض لا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يجعل رأس المال القراض العروض بعينه. أو ثمنه الذي يببيعه به. أو قيمته يوم العقد. أو قيمته يوم التفاضل؛ لأن معرفة رأس المال ومقداره لابد منه في القراض ليعرف العامل على ما يعمل، فإن كان عين القراض هو رأس المال

فذلك غرر؛ لأنه يأخذ السلعة وقيمتها مائة دينار ويردها وقيمتها عشرة دنانير، ويذهب العامل ببعض رأس المال، فيأخذها وقيمتها عشرة فيردها وهي تساوي مائة دينار، فيذهب رب المال بأجرة العامل. فإن كان الثمن الذي يبيعه به هو رأس المال، فقد اشترط رب المال المنفعة لشيئه على العامل فيما تحمل عنه من مؤنة البيع وما يكفيه من ذلك. وإن كان قيمتها يوم يدفعها إليه هو رأس المال كان رب المال قد باع منه العروض بما قوماه به على أنه إن باعه بأقل من ذلك: جبره من ربحه، وإن باعه بأكثر من ذلك: كان له نصف الفضل، وذلك من الغرر البين والمزابنة؛ كمن دفع إلى رجل ثوبًا ليبيعه بعشرة دنانير على أن عليه ما نقص وله بعض زاد. وإن كان رأس المال قيمته يوم التفاضل: فذلك أيضًا غرر بين؛ لأن قيمته يوم التفاضل مجهولة فيكون العامل يعمل على رأس مال مجهول قد يكثر، ويغرمه ربحه أو يقل، فيذهب ببعض مال رب المال، فصارت جميع وجوه هذه المسألة إلى غرر وفساد، غير أن الحكم يختلف فيها إذا نزلت على مذهب ابن القاسم. فأمَّا إذا جعلا رأس المال الثمن الذي يبيعه به: فإنه تكون له إجارة المثل في بيعه العروض، ثم يرد إلى قراض المثل في الثمن إذا لم يعثر عليه إلا بعد العمل، وهي في سائر الوجوه أجير له إجارة مثله على خلاف وتحصيل قد قدمناه في كتاب المساقاة، فلا نطول بذكره مرة أخرى، والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة في نفقة العامل من مال القراض

المسألة الثالثة في نفقة العامل من مال القراض ولا يخلو العامل من أن يكون في السفر أو في الحضر، فإن كان في الحضر: فلا يخلو من أن يكون في موضع استيطان أم لا. فإن كان في موضع له فيه استيطان: فلا نفقة له. وإن لم يكن فيه استيطان كالغريب المقيم في بلد ليس له فيه أهل، ولا هي له بوطن: فهذا تكون له النفقة، ووجهه: أنه إذا كان غير مستوطن تلك البلدة، ولا فيها أهل، فما حبسه فيها إلا العامل بالمال، فصار كالمسافر. وإن كان في السفر: فالسفر ضربان: سفر القرب والطاعات، وسفر طلب المتاجر والحاجات. فأمَّا سفر البر والطاعات كالسفر إلى الحج، أو إلى الغزو إذا خرج بمال القراض: هل تكون له فيه النفقة أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا نفقة لحاج ولا لغاز في طوري الإياب والذهاب، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أن لهما النفقة من مال القراض في الإياب والذهاب، وهو قول ابن المواز. والثالث: التفصيل بين الإياب والذهاب؛ فتكون له النفقة في الذهاب دون الإياب، وهذا القول يؤخذ من المدونة من مسألة المسافر في طلب

الأرباح؛ حيث قال: "فإذا رجع إلى أهله لم يأكل منه"، إلا أن المشهور ما بدأنا به ألا نفقة لهما. ويتخرج في المسألة قول رابع: أن النفقة تقصي على قدر نفقته في سفره إلى الحج، وعلى مال القراض، وهذا القول يؤخذ من "المدونة" من مسألة الذي سافر إلى حاجته، ثم أخذ مالًا قراضًا، حيث قال تقصي النفقة، على ما سنبين كيفية التقصيص إن شاء الله. فأما الوجه الثاني وهو السفر في طلب المآرب والحاجات فلا يخلو من وجهين: إما أن يكون في موضع استيطان، فللمذهب في ثبوت النفقة وإسقاطها على قولين: أحدهما: إسقاطها في طوري الإياب والذهاب، وهو مذهب المدونة وعليه الجمهور. والثاني: ثبوتها فيهما، وهو قول أشهب فيما رواه البرقي عنه في "المدونة". فإن سافر من موضع استيطان إلى غير استيطان، فهل تكون له النفقة في طوري الإياب والذهاب؟ فلا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يكون السفر بعيدًا والمال كثير. وإما أن يكون السفر قريبًا، والمال قليل. وإما أن يكون السفر بعيدًا، والمال قليل. وإما أن يكون السفر قريبًا، والمال كثير. فأما الوجه الأول: إذا كان السفر بعيدًا والمال كثير، فله الأمران جميعًا -الكسوة والنفقة- في الذهاب، قولًا واحدًا، وفي الإياب قولان:

أحدهما: وجوب النفقة والكسورة، وهو نص قوله في المدونة؛ قياسًا للإياب على الذهاب. والثاني: أنه لا نفقة له ولا كسوة، وهو ظاهر قوله في المدونة؛ حيث قال: "فإذا رجع إلى مصره لم يأكل منه"، فيحتمل أن يريد بقوله: "إذا رجع": أي: إذا وصل إلى مصره، ويؤخذ أيضًا من قوله في "الكتاب" في الذي أخذ مالًا قراضًا من بلد له فيها أهل فخرج به إلى بلد له فيها أهل: وإنه لا نفقة له في الذهاب والرجوع؛ لأنه ذهب إلى أهله ورجع إلى أهله، وهذا الاستقراء ظاهر جدًا. وأما الوجه الثاني: إذا كان السفر قريبًا والمال قليل، فلا كسوة له قولًا واحدًا، وفي النفقة قولان: أحدهما: وجوب النفقة له، وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى عنه في "العتبية". والثاني: أنه لا نفقة له، وهو ظاهر المدونة و"الواضحة"، وقد قال في "الكتاب": "إنما تكون له النفقة إذا كان المال يحمل ذلك". وأما الوجه الثالث: إذا كان السفر بعيدًا، والمال قليلًا: فلا نفقة له ولا كسوة، ولا أعرف في هذا الوجه نص خلاف. وأما الوجه الرابع: إذا كان السفر قريبًا، والمال كثير: فله فيه النفقة دون الكسوة، إلا أن تكون له إقامة بموضع مثل الشهر والشهرين حتى يحتاج فيه إلى الكسوة، فيجوز له أن يكسي منه، وهو قوله في "المدونة" و"العتبية". وحد المال الكثير الذي تجب فيه النفقة والكسوة: إذا سافر مثل الأربعين دينارًا أو الخمسين، وهو نص قول مالك في "الموازية".

واختلف إذا خرج لحاجة تعرضت له في بلد من البلدان، فأخذ مالًا قراضًا فخرج، هل له فيه النفقة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن له فيه النفقة على قدره، وأنه ينظر إلى قدر نفقته في سفره، فيجعلها كمال آخر، فتقصي النفقة عليها وعلى ما أخذ من المال؛ فإن كانت قدر مائة والقراض سبعمائة: فعلى المال سبعة أثمان النفقة، وعلى العامل ثمن في خالص ماله، وهذا قول ابن القاسم في "المدونة"، و"العتبية"، و"الموازية". والثاني: أنه لا نفقة له في مال القراض أصلًا؛ لأنه إنما خرج لحاجته لا بسبب القراض، وهو قول سحنون في بعض روايات المدونة في رواية "المدونة" في رواية ابن لبابة، وهو قول ابن عبد الحكم في "مختصره"، ويؤخذ لابن القاسم من "المدونة" من مسألة الحاج إذا أخذ مالًا قراضًا فخرج به إلى الموسم والأصل في هذه الجملة: أن المراعي في استحقاق النفقة أن يكون خروجه من أجل المال، وأن يكون السبب الباعث له على الخروج طلبًا لتنميته بتكثير المالية دون أن يكون ليبتاع حاجته، وعارض ضرورة؛ لأن الأصل عدم التسليط وعدم التصرف في ملك الغير إلا بحصول شرطه، فإذا ثبت ذلك، فإنه إنما يستحق من مال القراض على الشريعة المتقدمة ما لا ينفك منه الإنسان غالبًا كالنفقة، والكسوة، وكراء الركوب، وكراء المسكن، ودخول الحمام، والحاجة، وحلق الرأس، وغسل الثوب، وما أشبه ذلك، وما فضل عند العامل إذا قدم من سفره، فإنه يرده ويكون من جملة المال. وأما خلق الثوب، والجبة، والقربة، والغرارة، والإداوة: فلا يرده، وهذا قول ابن القاسم عن مالك في "المدونة"، و"الموازية". والبضاعة إذا أخذها مثل القراض ينفق منها إذا شخص بها، ولا

يكتسي منها. وكذلك إذا دفع إليه سلعة يبيعها له، فله أن ينفق منها إذا باع، ويكون ذلك على وجه المعروف، وكان المال يحمل ذلك مثل القدر الذي قدرناه في القراض، وهذا كله قول مالك في "كتاب محمَّد"، والحمد لله وحده.

المسألة الرابعة في خلط المالين المأخوذين في القراض

المسألة الرابعة في خلط المالين المأخوذين في القراض ولا يخلو المالان من أن يكونا لملَّاك متعددة، أو لمالك متحد. فإن كانا لملاك متعددة: فالخلط جائز للعامل ابتداءً، وهل يجوز له بشرط أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز. [والثاني: المنع] (¬1). ووجه القول الأول: أنه لا تهمة في ذلك؛ إذ لا يأخذ كل واحد منهما إلا ربح ماله. ووجه القول الثاني: كون رب المال يفيد له هذا الشرط غرضًا ناجزًا من استقراء الربح بمال العامل وغيره؛ لأن التجارة لكثرة المال أشد تأتيًا وأشد تمكنًا. وأما إذا كان لمالك متحد؛ مثل أن يعطي له مالًا قراضًا، ثم زاد له مالًا آخر: فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: إما أن يكون قبل العمل بالأول، وإما أن يكون ذلك بعد التنضيض. فإن كان ذلك قبل العمل: فلا يخلو من أن يشترط عليه الخلط، أو لا يشترطه عليه. فإن اشترط عليه الخلط: فالإجزاء حاصل -اتفقت الأجزاء أو اختلفت. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن اشترط ألا يخلطهما، وأن يعمل بكل مال على حدة: فلا يخلو من أن تتفق الأجزاء أو تختلف. فإن اتفقت الأجزاء، فقولان: أحدهما: الجواز، وهو ظاهر المدونة من قول الغير. والثاني: أنه لا يجوز إلا بشرط الخلط؛ كما في اختلاط الأجزاء. فإذا اختلفت الأجزاء: فلا يجوز قولًا واحدًا، للغرر والخطر. فإن أخذ الثاني بعد استشغال الأول: فلا يخلو من أن يشترط الخلط، أو لا يشترطه. فإن لم يشترط الخلط: جاز، ويعمل بكل مال على حدة، ثم لا جبران بعد المالين. فإن اشترط الخلط: فالإجزاء غير حاصل -اتفقت الأجزاء أو اختلفت. حذار الخسران المفتقر إلى الجبران في الثاني، ولزوم إجباره من الأول ظلم على العامل. وأما الوجه الثالث: وهو أن يكون أخذه للثاني بعد تنضيض الأول: فلا يخلو من وجهين: إما أن يكون المنضود هو رأس المال الأول من غير أن يزيد، أو ينقص، فإن لم يزد ولا نقص، فإن اشترط الخلط: فالإجزاء حاصل -اتفقت الأجزاء أو اختلفت. فإن أخذه على ترك الخلط: فالإجزاء غير حاصل، وعند اتفاقهما قولان، وقد قدمناهما في الوجه الأول. فإن نقص عن رأس المال: لم يجز أخذ الثاني على وجه -اتفقت

الأجزاء أو اختلفت، اشترط الخلط أم لا- كأنه زيادة ازدادها رب المال؛ إذ كأنه قصده ملاقاة الوضيعة ولزوم الإبقاء لقدرة العامل على رد رأس المال بالتنضيض. فأما إذا زاد على رأس المال: فإن اختلفت الأجزاء، أو اشترط ألا يخلطهما: فالإطباق على أن ذلك لا يجوز، كما قدمناه في الوجه الأول للغرر والخطر؛ فكأنه أخذ أحدهما لأجل الآخر. فإن اتفقت الأجزاء، أو شرط ألا يخلطهما: فالمذهب على قولين منصوصين في "الكتاب": أحدهما: أن ذلك لا يجوز جملة، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أن ذلك جائز، وهو قول غيره في المدونة لبعد التهمة لزوال الخسران المفتقر إلى الجبران. ووجه قول ابن القاسم: ما قدمناه من قدرة العامل على فك عقد القراض عن نفسه بالتنضيض فكان أخذ الثاني عوضًا عن ترك الفك ولزوم الإبقاء، وذلك زيادة، والقراض لا يغلبها، والحمد لله وحده.

المسألة الخامسة في نهي المالك للعامل عن الاسترسال في التصرف

المسألة الخامسة في نهي المالك للعامل عن الاسترسال في التصرف اعلم أن رب المال إذا نهاه عن التصرف في بعض الأعيان وأباح له بعضها: فلا يخلو ذلك البعض المباح من وجهين: إما أن يكون أكثر من البعض الآخر، وإما أن يكون أقل منه. فإن كان أكثر منه: فذلك غير جائز؛ لأنه يخل بمقصود القراض الذي هو الاستمناء والاستكثار لسهولية وجوده شرقًا وغربًا، متهمًا ومتحدًا في كل صوب وأوب. وإن كانت أقل منه: فلا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن يعين له سلعة، وينهاه عن التصرف في غيرها. وأما القسم الأول: فلا يجوز إلا أن تكون تلك السلعة عامة الوجود في الشتاء والصيف. وأما الثاني: فلا يجوز على الإطلاق، وسواء كان ذلك الرجل موسرًا لا تقدم منه السلع والمتاجر، أو معسرًا يعدم ذلك عنده لإخلاله بمقصود القراض الذي هو النمو والزيادة لتجويز امتناعه عن مبايعة العامل صنفًا منه بماليته، أو أنه لا يبيع إلا بالثمن المجحف العري عن الربح، وبهذا فارق القسم الأول لبعد فرض امتناع كافة ملاكها عن بيعها. وأما تعيين البلد: فذلك على قسمين: أحدهما: أن تكون البلد حيث عقد القراض، فذلك جائز؛ لأنه يتجسم مشقة الحل والترحال، وهذا إذا كان البلد المسمى لا تعدم منه السلع والمتاجر لسعته.

وأما إن كانت تلك المتاجر تعدم منه لصغره: فلا يجوز، وتجري مجرى ما تقدم في إخلاله بمقصود القراض الذي بيناه. والثاني: أن تكون البلد بغير موضع العقد حيث يتجسم الحل والترحال إليه، فذلك على ضربين: أحدهما: أن يخرج إليه ليتجر به، وكانت التجارة موجودة فيه: فذلك جائز. والثاني: أن يخرج إليه ليبيع فيه ما يحمل إليه أو يجلب منه ما يشتري فيه: فهذا للأصحاب فيه قولان: الجواز، والمنع والتوجيه مأخوذ مما تقدم، والحمد لله وحده.

المسألة السادسة في اشتراء العامل من يعتق عليه أو على رب المال

المسألة السادسة في اشتراء العامل من يعتق عليه أو على رب المال وهذه الترجمة تحتوي على أربعة أسئلة: الأول: أن يشتري من يعتق على نفسه. والثاني: أن يشتري من يعتق على رب المال. والثالث: أن يشتري أن يعتق عبدًا من مال القراض. والرابع: أن يطأ جارية من مال القراض فيحبلها. فالجواب عن السؤال الأول: إذا اشترى العامل من يعتق إلا إذا كان له فيه شبهة، واختلفت الأصحاب في تلك الشبهة ما هي على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها هي المال، فمتى كان له عتق عليه، ولا اعتبار بما سواه من علم وفضل، وبه قال ابن المواز. والثاني: أنها هي الربح، فمتى كان هناك ربح عتق على العامل حصته منه، ويقوم عليه نصيب رب المال إن كان موسرًا يوم الحكم. وإن كان معسرًا: لم يعتق عليه نصيب رب المال؛ بل يباع عليه للقراض، إلا أن يريد رب المال أن يقومه عليه ويبيعه به دينًا: فإنه يتخرج على قولين، وقد قدمناهما في "كتاب العتق الأول" في عتق أحد الشريكين. وإن لم يكن هناك ربح: لم يعتق عليه ويباع ولا يعتبر عمله في شيء من ذلك، ولا يسره إلا من باب التقويم، وبه قال المغيرة. والثالث: أن الشبهة المعتبرة هي اليسر إذا انضم إليه أحد الوصفين على

البدل، إما العلم، وإما الفضل؛ فمتى كان موسرًا وهو عالم وفيه فضل: فإنه يعتق عليه ويغرم لرب المال الأكثر من رأس المال وحصته من الربح يوم الشراء أو يوم الحكم إن كان فيه فضل؛ لأنه لما علم فقد رضي بالتزام الأكثر، أو الأكثر من ثمنه الذي اشتراه به أو قيمته يوم الحكم إن لم يكن فيه فضل؛ لأنه لما علم فقد رضي بالتزام الأكثر أيضًا. وإن لم يعلم وفيه ربح أيضًا: عتق عليه نصيبه، وقوم عليه نصيب رب المال، كما قال المغيرة في القسم الثاني، وهذا معنى قوله في "الكتاب": "ويرد إلى رب المال رأس ماله وربحه"، وتأثير العلم عنده في لزوم الأكثر. وأما إن انفرد اليسر بلا علم ولا ربح: فلا يعتق منه شيء ويباع. وكذلك إذا عدم وكان عالمًا أو غير عالم، ولم يكن فيه فضل: فإنه يباع كله أيضًا. وأما إن كان فيه فضل: عتق عليه نصيبه، ويباع منه لرب المال رأس ماله وحصته من الربح يوم الحكم إن لم يعلم. وإن علم: بيع منه لرب المال أيضًا برأس ماله وربحه يوم الحكم، إلا أن يكون الثمن الذي اشتراه به أكثر من ذلك، فيتبع بالزائد في ذمته، وتأثير العلم في لزوم الأكثر أيضًا، وبه قال ابن القاسم. وسبب الخلف: اختلافهم في الربح متى يملكه العامل، هل يملكه بالظهور من غير اعتبار بالمفاضلة، فيكون له حكم الشريك، وإنما يملكه بالتنضيض والمفاضلة، فلا يكون له حكم الشريك. والجواب عن الوجه الثاني: إذا اشترى من يعتق على رب المال -مليًا كان العامل أو معدمًا- موسرًا كان رب المال أو معسرًا إن لم يكن في العبد ربح.

فإن كان فيه ربح: قوّم عليه نصيب العامل إن كان موسرًا، وإن كان معسرًا بقى حظ العامل رقيقًا كالشريك المبعض للعتق سواء. فإن كان عالمًا: فلا يخلو من أن يكون موسرًا أو معسرًا. فإن كان موسرًا: فإنه يعتق عليه، ويغرم لرب المال رأس ماله وحصته من الربح إن كان في الثمن ربح يوم الشراء؛ مثل أن يكون رأس المال مائة فربحه مائة ثم يشتري بمائتين: فإنه يغرم لرب المال مائة وخمسين، منها مائة رأس ماله وخمسون حصته من الربح، ولا شيء لرب المال في قيمته يوم الحكم. وإن كان أكثر من الثمن؛ إذ لا يربح فيمن لا يجوز له أن يملكه، والولاء لرب المال في ذلك كله. فإن كان معسرًا: فلا يخلو من أن يكون في الثمن الذي اشتراه به ربح، أو لم يكن. فإن لم يكن فيه ربح، وإنما اشتراه برأس مال القراض: فإنه يباع جميعه إلى أن يفي بيع بعضه برأس المال، فلا يباع منه إلا ذلك، ويعتق الباقي، ولكون ولاؤه لرب المال، وإن كان فيه ربح بيع لرب المال منه برأس ماله وحصته من الربح يوم الشراء إن كان هناك؛ مثل أن يكون رأس المال مائة، فربح آخر يشتريه بمائتين: فإنه يباع منه بمائة وخمسين، ويعتق الباقي على العامل، ولا يربح فيه رب المال أيضًا إن نابت قيمته على ذلك يوم الحكم؛ لأن الربح المعتبر في "الكتاب": ما كان في الثمن الذي اشترى به لا ما كان في قيمة العبد بعد الشراء، ولم يفِ جميع العبد بحظ رب المال، وابتع العالم بالباقي لتعديه، وهذا تحصيل مذهب ابن القاسم في "المدونة" في هذه المسألة، ولا خفاء بتوجيهه على من يشم رائحة

التفصيل. وأما تحصيل ما فيها من الاختلاف على الجملة: إذا اشتراه وهو عالم على ما أشار إليه في الكتاب حيث قلل: وقد اختلف في هذه المسألة، وهذا أحسن ما سمعت، والذي تحصل عندي من الخلاف المشار إليه ستة أقوال، أكثرها قائمة من "المدونة": أحدها: أنهم يعتقون عليه إن كان له مال ويباعون عليه إن لم يكن له مال، وهو قوله في "الكتاب". والثاني: أنهم يعتقون على رب المال جملة، وهذا القول قائم من المدونة من "كتاب الرهن" على ما وقع في بعض روايات "المدونة". والثالث: أن البيع لا يجوز، وهذا القول قائم من "المدونة" من "كتاب العتق الثاني": في الأب يشتري من يعتق على ابنه الصغير. والرابع: أنه لا يعتق على واحد منهما، وهو قول ابن القاسم في سماعه في "العتبية". والخامس: أن العامل يضمن الثمن، ويكون له العبد وهو قول مالك في رواية ابن أبي أويس عنه، وهذا القول قائم من "المدونة" من مسألة الوكيل على ظاهر "الكتاب". والسادس: أن رب المال بالخيار؛ إن أحب أن يأخذ فيعتق عليه، ويكون للعامل إن كان فيه فضل حصته من الربح، وإن أحب أن يضمن العامل لتعديه: كان ذلك له، وهذا القول أيضًا قائم من "المدونة" من "كتاب السلم الثاني" و"كتاب الوكالات" في تعدي الوكيل. والجواب عن السؤال الثالث: إذا أعتق العامل عبدًا من مال القراض: فلا يخلو من أن يعتقه العامل، أو يعتقه رب المال.

فإن أعتقه العامل: فلا يخلو من أن يشتريه للعتق، أو للقراض. فإن اشتراه للعتق، فإن كان موسرًا: فإنه يعتق عليه ويغرم لرب المال رأس ماله وربحه إن كان هناك ربح. وإن كان اشتراه للقراض: فلا يخلو من أن تكون له قيمة تشبهه أم لا. فإن لم تكن له شبهة: فلا ينفذ فيه عتقه، ويباع في رأس رب المال. فإن كان له فيه شبهة: فإنه ينفذ عتقه. واختلف الأصحاب في تلك الشبهة على قولين منصوصين في "الكتاب". أحدهما: أن الشبهة المعتبرة: الإيسار، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أن الشبهة المعتبرة: الربح؛ فإذا كان فيه ربح عتق عليه حظه وقوّم عليه إن كان موسرًا على حسب الشريك المبعض للعتق، وإن لم يكن فيه ربح: لم يعتق عليه منه شيء، وإن كان موسرًا، وهو قول الغير في "الكتاب". وعلى القول باعتبار الإيسار دون الربح، فإن كان موسرًا: فإنه يعتق ويغرم. واختلف ماذا يغرم على قولين: أحدهما: أنه يغرم لرب المال رأس ماله وحصته من الربح إن كان ثم، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يغرم له قيمته يوم العتق إلا قدر حظه فيه من الربح إن كان ثم؛ لأنه من حينئذ فوته، وهو قول بعض المتأخرين.

وإن كان معسرًا على قول ابن القاسم فإنه لا يباع ولا يعتق منه شيء إن لم يكن فيه فضل. فإن كان فيه فضل: عتق عليه حظه منه، وتبعث البقية لرب المال يستوفي منها رأس ماله وربحه. وإن أعتقه رب المال: فإنه يقوم عليه حظ العامل إن كان موسرًا. وإن كان معسرًا: فقولان أيضًا: أحدهما: أنه يعتق عليه بحصة العامل من الربح دينًا إن كان هناك ربح، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يعتق منه حق رب المال، ويبقى حظ العامل، ويباع له، وهو قول الغير في "الكتاب"، وهو الأظهر في النظر. والجواب عن السؤال الرابع: إذا أحبل العامل جارية من مال القراض: فلا يخلو من أن يشتريها للقراض، أو يشتريها للوطء، أو جهل أمره. فإن اشتراها للقراض، ثم تعدى عليها فأحبلها: فلا يخلو من أن يكون موسرًا، أو معسرًا. فإن كان موسرًا: فإنه يغرم قيمتها وتكون له أمّ ولد. واختلف في القيمة متى تعتبر على قولين: أحدهما: أنه يغرم قيمتها يوم الوطء إلا قدر حظه من الربح، وهو قوله في "كتاب محمد". والثاني: أنه يلزمه الأكثر من قيمتها يوم الوطء أو يوم الحمل من الثمن الذي اشتراها به، وهو قول ابن المواز. ولا شيء عليه من قيمة الولد في الوجهين جميعًا.

فإن كان الواطىء معسرًا هل تباع عليه، أو يتبع؟ قولان: أحدهما: أنه تباع عليه فيما يجب لرب المال. فإن كان فيها فضل بيع منها بقدر رأس المال وربح رب المال ويتبع بنصف قيمة الولد، فإن لم يفِ ثمنها بما وجب عليه من القيمة: فإنه يتبع الزائد. والثاني: أنه يتبع بالقيمة دينًا في ذمته، ولا تباع عليه. والقولان لمالك في كتاب محمد، وهما قائمان من المدونة من مسألة الأمة بين الشريكين، فعلى القول بأنها لا تباع، هل يتبع بقيمة الولد أو بنصفها إن كان فيه فضل، وكان القراض على النصف أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يتبع بالقيمة، أو بنصفها، وهو قول مالك في "المدونة" و"الموازية". والثاني: أنه لا شيء عليه من قيمة الولد، وهذا القول أيضًا قائم من "المدونة" وغيرها. وسبب الخلاف: القيمة متى تعتبر؟ هل يوم الوضع أو يوم الحمل؟ وإن كانت حائلًا وكان موسرًا: خير رب المال بين التقويم والترك. وإن كان معسرًا هل تباع فيما لزمه من القيمة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها تباع فيما لزمه من القيمة بناء منه على أنه بنفس التعدي تعلقت القيمة بذمته. والثاني: أنها لا تباع وتبقى بحالها؛ بناءً على أن الخيار في التقويم لرب المال.

والقولان لمالك في "الموازية". وأما الوجه الثاني: إذا تسلف مال القراض فاشتراها لنفسه فأحبلها: فلا يخلو من أن يكون له مال أو لا؛ فإن كان له مال فإنه يغرم لرب المال. واختلف ما الذي يغرم له على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يغرم قيمتها يوم الوطء. والثاني: أنه يغرم الثمن. والثالث: أنه يغرم الأكثر من الثمن أو قيمتها يوم الوطء أو يوم الحمل. والأقوال الثلاثة لابن القاسم. فإن لم يكن له مال، هل تباع عليه، أو يتبع في الذمة؟ قولان: أحدهما: أنها تباع كلها إن لم يكن فيها فضل، فإن كان فيها فضل: بيع منه بقدر رأس المال أو حصة رب المال من الربح، وهو قول ابن حبيب وغيره. والثاني: أنها لا تباع، ولا خيار في ذلك لرب المال، وأن الحمل فوت يتبع العامل بالثمن في ذمته، وهو قول ابن القاسم في "كتاب محمد". وهكذا الحكم في الذي اشترى أمة بمال البضاعة فأحبلها، فالجواب وحد في هذا كله إذا ثبت وتقرر أن العامل اشتراها لنفسه أو للقراض. وأما الوجه الثالث: إذا اشتراها وأبهم الأمر، ولا يدري إن كان لنفسه اشترى أو للقراض، هل يصدق أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يصدق وتكون له أمّ ولد ويتبع بالقيمة في ذمته؛ لأنه يتهم في بيع أمّ ولده، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه يصدق لأنه أمين على التصرف في المال إذا ادعى الضياع،

فكيف إذا ادعى الشراء والملاقاة، وكونه تعدى على الوطء لا يدل على الشراء لنفسه، بل ينبغي أن لا يقبل قوله إن ادعى الشراء لنفسه إذا كان معسرًا، لما في ذلك من الضرر برب المال، وهو ظاهر قول ابن حبيب؛ لأنه لا فرق عنده بين أن يشتريها لنفسه أو للقراض إذا كان معسرًا أنها تباع عليه أو يباع منها بقدر رأس ماله وحصته من الربح إن كان فيها فضل. وذهب بعض المتأخرين إلى أن الخلاف في بيعها في العدم إنما يتصور فيها إذا وطىء، ولم يعلم إن كان اشترى للقراض أو لنفسه بمال استسلفه من مال القراض: فحمله مالك على ما رواه عنه ابن حبيب على أنه اشتراها للقراض، ولم يصدقه أنه اشتراها لنفسه، ولذلك قال: إنها تباع في القيمة إذا لم يكن له مال، وحمله ابن القاسم على أنه اشتراها لنفسه بمال تسلفه من مال القراض، ولم يصدقه على أنه اشتراها من مال القراض؛ ولذلك قال: إنه لا تباع في عدمه، وأما لو علم أنه اشترها لنفسه من القراض، فلا تباع ويتبع بالثمن الذي اشتراها به قولًا واحدًا، والحمد لله وحده.

المسألة السابعة في اختلاف دافع المال والمدفوع إليه

المسألة السابعة في اختلاف دافع المال والمدفوع إليه والكلام في هذه المسألة في ثلاثة أسئلة: أحدها: إذا قال الدافع: دفعته قراضًا، وقال المدفوع إليه: بل وديعة. والثاني: إذا قال المدفوع إليه: أخذته قراضًا، وقال الدافع إليه: بل أبضعته معك لتعمل به. والثالث: إذا قال المدفوع إليه: أخذته قراضًا، وقال ربا المال: بل قرضًا. والجواب عن السؤال الأول: إذا قال الدافع: دفعته قراضًا وقال المدفوع إليه: بل وديعة: فلا يخلو الأمر فيه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون المال حاضرًا. والثاني: أن يكون غائبًا. والثالث: أن يكون قد تلف قبل أن يحركه المدفوع إليه أو بعد أن حركه. فإن كان حاضرًا: فليس بمسألة، يأخذ رب المال ماله. وإن كان غائبًا: ففي ذلك قولان: أحدهما: أن القول قول الدافع، وهو قول ابن القاسم، وروايته عن مالك في "المدونة". والثاني: أن القول قول المدفوع إليه المال؛ لأنه لا يؤخذ أحد بغير ما

أقرَّ به على نفسه، وهو قول أشهب، وابن عبد الحكم، وروايتهما عن مالك. وأما إن تلف قبل أن يحركه أو بعد أن حركه ثم رده في موضعه: ببينة على القول بأن المودع إذا تجر في الوديعة لا يصدق في ردها إلى موضعها إلا ببينة، أو بغير بينة على القول بأنه يصدق في ردها إلى موضعها، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن القول قول رب المال، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أن القول قول المدفوع إليه. وإن تلف بعد أن حركه: كان القول قول الدافع، وهو قول أشهب. وأما على القول بأن المودع إذا حرك الوديعة لا يبرأ من ضمانها إلا بصرفها إلى ربها، فإنه يكون ضامنًا دون يمين يلزم الدافع. والجواب عن السؤال الثاني: إذا قال المدفوع إليه: أخذته قراضًا، وقال الدافع: بل أبضعته معك لتعمل فيه، هل يكون القول قول رب المال على حكم المدعى والمدعى عليه، ويحمل على أن كل واحد منهما مدع على صاحبه؟ فبين المتأخرين قولان تأويلًا على المدونة: أحدهما: أن ذلك حكم المدعي والمدعى عليه، وبكون القول قول رب المال مع يمينه، ويكون عليه للعامل الأقل من إجارة المثل، أو ما يدعيه من الربح، وهذا تأويل أبي إسحاق التونسي على "المدونة"، وهو أسعد بظاهر "الكتاب"؛ ولأن رب المال قد ادعى ما يشبه لكون القابض قد أقرَّ له بالمال، ثم ادعى فيه جزءًا من الربح، فصار مدعيًا. والثاني: أن كل واحد منهما مدع على صاحبه؛ فرب المال يدعي على العامل أنه عمل له في المال باطلًا، والعامل يدعي أنه عمل له فيه على

نصف الربح: فوجب أن يتحالفا جميعًا، فإن حلفا جميعًا، أو نكلا جميعًا عن اليمين: كان للعامل الأقل من إجارة المثل، وما يدعيه من الربح، ويكون معنى قوله في "الكتاب": إلا أن يكون إجارة مثله أكثر من نصف الربح فلا يزاد عليه يريد بعد أن يحلف، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر: كان القول قول الحالف منهما، وهذا تأويل القاضي أبي الوليد ابن رشد قال: وعلى هذا ينبغي أن تحمل الرواية وتصرف العناية إليه بالتأويل، ولا يلتفت إلى ألفاظها التي تدل على أنه جعل القول قول رب المال، فإن نكل: كان القول قول العامل. وقد وقع له في "الكتاب" في آخر هذه المسألة لفظ فيه إشكال تنازع المتأخرون في تأويله؛ وذلك أنه قال: القول قول رب المال، فإن نكل كان القول قول العالم إذا كان ممن يستعمل مثله في القراض. وقال بعضه: إن ذلك حشو, لأنه لفظ يستغني عنه، وإن المسألة تتم دونه. وقال بعضهم: بل ذلك اختلاف قول؛ لأن المعهود من أصله في "الكتاب" أن المدعى إذا نكل عن اليمين، فإن المدعى عليه يحلف إذا أتى بما يشبه أم لا، فكذلك ينبغي أن يكون في هذه المسألة؛ لأن رب المال قد مكنه من دعواه بنكوله؛ فوجب أن يحلف وإن لم يأت بما يشبه. وقال بعضهم: بل ذلك لفظ صحيح لا إشكال فيه ولا اعتراض عليه؛ لأن قوله: "إذا كان ممن يستعمل مثله في القراض"، ليس من تمام المسألة، وإنما المعنى في المسألة: أن الكلام قد تم بقوله: "فإن نكل عن اليمين كان القول قول العامل مع يمينه" ثم ابتدأ وقال: "هذا الذي وصفته من الأيمان إنما يكون إذا كان ممن يستعمل مثله في القراض"، فيكون كل واحد منهما قد ادعى على صاحبه ما يشبه فوجبت عليه اليمين على ما قلناه؛

لأن المسألة على ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون المدفوع إليه المال لا يشبه أن يستعمل مثله في القراض. والثاني: أن يكون ممن يشبه أن يستعمل مثله في القراض. والثالث: أن يكون ممن يعلم أنه يستعمل مثله في القراض. فأما إذا كان ممن يشبه أن يستعمل مثله في القراض: فلا يمكَّن من اليمين؛ لإتيانه بما لا يشبه، ويكون القول قول رب المال، فإن حلف استحق ما ادعاه من أنه كان أبضع معه المال. فإن نكل عن اليمين: كان القول قول العامل. فإن كان مثله لا يستعمل في القراض؛ لأن رب المال قد مكَّنه من دعواه بنكوله. فأمَّا إن كان مما يشبه أن يستعمل مثله في القراض كان لكل واحد منهما مدع على صاحبه بما يشبه، فوجب أن يحلفا جميعًا، فإن حلفا أو نكلا جميعًا: كان له الأقل، على ما تقدم. وإن كان مما يعلم أن مثله يستعمل مثله في القراض: لوجب أن يكون القول قوله، على قول ابن القاسم في المدونة في مسألة الصانع في "كتاب الجعل والإجارة" في الصانع ورب الثوب يختلفان، فيقول رب الثوب: عملته باطلًا، ويقول الصانع: بل عملته بكذا وكذا أن القول قول الصانع، وهذا تأويل القاضي أبي الوليد بن رشد، والذي قاله ظاهر في المعنى، بعيد في اللفظ. والجواب عن السؤال الثالث: إذا قال المدفوع إليه المال: أخذته قراضًا، وقال رب المال: بل دفعته إليك قرضًا: فلا يخلو من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يكون المال قد تلف كله أو بعضه قبل أن يحركه. والثاني: أن يكون تلف أو نقص بعد أن حركه. والثالث: أن يكون زاد بربح فيه. فأما إذا تلف المال كله أو بعضه قبل أن يحركه: ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن القول قول المدفوع إليه، وهي رواية ابن عبد الحكم عن مالك. ... والثالث: التفصيل بين أن يتلف قبل أن يحركه أو بعد أن حركه. فإن تلف قبل أن يحركه: كان القول قول المدفوع إليه. وإن تلف بعد الحركة: كان القول قول الدافع، وهو قول أشهب. وأما إن تلف المال أو نقص بعد أن حركه: فالقول قول رب المال باتفاق بين ابن القاسم وأشهب؛ لأن المدفوع إليه مدع في مال قد حركه أنه لا ضمان عليه. وأما إذا أدار المال فربح فيه: فقد اختلف فيه المذهب أيضًا على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن الربح يوقف ممن أكذب نفسه، ورجع إلى قول صاحبه كان الحكم على ما يدعيه المرجوع إلى قوله الذي أقر له. والأقوال الثلاثة تقاس على ما في "كتاب إرخاء الستور"، و"كتاب الرهون" من "المدونة"، والحمد لله وحده.

كتاب الأقضية

كتاب الأقضية

كتاب الأقضية بسم الله الرحمن الرحيم. قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1). ففرض الله تبارك وتعالى على الحكام العدل في الحكم، وأن لا يتبعوا الهوى، ولا يشتروا بآياته ثمنًا قليلًا، وفرض لهم على الناس التسليم، وبذل السمع، والطاعة، والانقياد، فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (¬2)، وقال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬3)، فقرن طاعته بطاعة رسوله وبطاعة أولي الأمر من عباده. وقال عليه السلام: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني" (¬4) ومن عصى إمامًا، أو قاضيًا، أو حاكمًا من الحكام في ما أمر به من الحق، أو حكم به من وجه العدل، فقد عصى الله ورسوله وتعدى حدوده. وأما إن قضى بغير العدل، أو حكم بغير الحق فطاعته غير لازمة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (¬5) إلا أن يخشى أن تؤدي مخالفته إلى الهرج والمرج بالفساد، وسفك الدماء، وسبي الأموال، وهتك ¬

_ (¬1) سورة ص الآية (26). (¬2) سورة النساء الآية (65). (¬3) سورة النساء الآية (59). (¬4) أخرجه البخاري (2797)، ومسلم (1835). (¬5) أخرجه أحمد (1095) بسند صحيح.

الحرم: فتجب طاعته حينئذ على كل حال. فالحكم بالعدل من أفضل أعمال البر، وأعلى درجات الأجر، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - "المقسطون على منابر من نور يوم القيامة على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين" (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم القيامة لا ظل إلا ظله" (¬3)، فبدأ بالإمام العادل. والجور في الأحكام، واتباع الهوى فيها من أعظم الذنوب، وأكبر الكبائر، قال الله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (¬4)، يقال: قسط: إذا جار، وأقسط: إذا عدل. والقضاء محنة، ومن دخله فقد ابتلى بعظيم؛ لأنه قد عرض نفسه للهلاك؛ إذ التخلص على من ابتلى به عسير، وخرج أبو داود عن بريدة الأسلمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، ورجل قضى في الناس بجهل فهو في النار" (¬5). وروى عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا حكم الحاكم فاجتهد [فأصاب] (¬6) فله أجران، وإذا حكم واجتهد فأخطأ فله أجر واحد" (¬7). ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية (42). (¬2) أخرجه مسلم (1827). (¬3) أخرجه البخاري (629)، ومسلم (1031). (¬4) سورة الجن الآية (15). (¬5) أخرجه أبو داود (3573)، والترمذي (1322)، وابن ماجه (2315)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬6) سقط من أ. (¬7) أخرجه أبو داود (3574)، والترمذي (1326)، والنسائي (3581)، وابن ماجة (2314)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله.

وطلب القضاء، والحرص عليه حسرة، وندامة يوم القيامة، وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستحرصون على الإمارة، وستكون حسرة وندامة يوم القيامة فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة" (¬1). وروى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "من طلب القضاء وكل إليه، ومن لم يطلبه، ولم يستعن عليه أنزل الله إليه ملكًا يسدده" (¬2). وروى عنه أبو موسى الأشعري أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا نستعمل، ولن نستعمل على عملنا من أراده" (¬3). قال مالك: كان مما يتحدث به الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسأل الإمارة، فإنك إن تولها عن غير مسألة تعن عليها، وإن تولها عن مسألة توكل إليها" (¬4). وروى ابن القاسم عن مكحول قال: لو خيرت بين القضاء، وبين المال لاخترت القضاء، ولو خيرت بين القضاء وضرب عنقي لاخترت [ضرب عنقي] (¬5). قال قتادة: إن موسى قال: يا رب ما أقل ما وضعت في الأرض؟ قال: العدل. وقال يحيى بن سعيد: وليست قضاء الكوفة، وأنا أرى أنه ليس على الأرض شيء من العلم إلا وإِني قد سمعته، فأول مجلس جلست للقضاء ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (4211)، وأحمد (9790) وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬2) أخرجه أبو داود (3578)، وأحمد (13326)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬3) أخرجه البخاري (2142)، ومسلم (1733). (¬4) أخرجه البخاري (6248)، ومسلم (1652). (¬5) سقط من أ.

اختصم إليَّ رجلان في شيء ما سمعت فيه شيئًا. وأول ما استقضى معاوية رضي الله عنه ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأبي بكر ولا لعمر، ولا لعثمان قاض، وكان الولاة هم الذين يقضون، وهذا قول مالك في "العتبية"، و"الموازية"، و"الواضحة"، وأنكر قول أهل العراق وأن عمر استقضى شريحًا، وقالوا: كيف يستقضى بالعراق، ولا يستقضى بالشام واليمن وغيرهما, وليس كما قالوا، وروى العلاء بن كثير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظر إلى شاب قد وفد عليه، فاستحلاه عمر وأعجبه، فإذا هو يسأله القضاء، فقال له عمر: كدت تغرنا بنفسك، إلا أن هذا الأمر لا يقوى عليه من يحبه. وقال مالك في المجموعة: ومن عيب القضاء أنه إذا عزل أنه لا يرجع إلى المجلس الذي كان يتعلم فيه. وأما صفة القضاة: فاعلم أنهم قالوا: للقضاة خصال مشترطة في انعقاد الولاية، وخصال مشترطة في استدامتها، وتوجب عزل القاضي عن الولاية إذا أخل بشيء منها، وخصال مستحبة فيها. فأمَّا الخصال المشترطة في انعقاد الولاية: فإذا عدمت، أو واحدة منها لم تنعقد له الولاية، وهي ستة خصال: أن يكون حرًا، مسلمًا، بالغًا، عاقلًا، واحدًا؛ فإن ولي من لم تجتمع فيه لم تنعقد له الولاية، وإن انخرم شيء منها بعد انعقاد الولاية سقطت الولاية. وقلنا: أن يكون حرًا احترازًا من العبد، وقد قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: لا خلاف بين المسلمين أنه لا يكون قاضيًا.

ووجه ذلك: أن منافع العبد مستحقة لسيده، فلا يجوز له أن يصرفها للنظر بين المسلمين؛ ولأنه ناقص الحرمة نقصًا يؤثر في الإمامة كالمرأة. وقولنا: مسلمًا؛ احترازًا من الكافر، ولا خلاف بين المسلمين أن من هو في محل الغباوة وغزارة الحداثة وعدم الحكمة، فالهداية وقلة المعرفة، والدراية لا ينبغي أن يتقلد شيئًا من أمور المسلمين لعدم الخطاب، والوقوف على مراسم الكتاب. وقولنا: ذكر؛ احترازًا من الأنوثة. وقد اختلف فقهاء الأمصار في المرأة، هل يجوز أن تلي القضاء أم لا، فذهب مالك والشافعي إلى أنها لا يجوز أن تلي شيئًا من النظر في أمر من أمور المسلمين، وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز أن تلي القضاء دون القصاص، وذهب محمد بن الحسين، ومحمد بن جرير الطبري إلى أنه يجوز أن تكون قاضية على كل حال [. .] (¬1) ما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة". ومن طريق العموم أنه أمر يتضمن فصل القضاء فوجب أن تنافيه الأنوثة كالإمامة الكبرى. قال القاضي أبو الوليد: ويكفي في ذلك عندي عمل المسلمين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يقدم لذلك في عصر من الأعصار، ولا مصر من الأمصار امرأة [للقضاء] (¬2) كما لم [يقدمها] (¬3) للإمامة. وقولنا: عاقلًا: احترازًا من المجنون، ولا خلاف في ذلك أيضًا. وقولنا: واحدًا منفردًا: احترازًا من أن يتولى القضاء قاضيان فأكثر على وجه الاشتراك، فلا يكون لأحدهما الانفراد بالنظر في قضية ولا قبول ببينة ¬

_ (¬1) قدر كلمة غير واضحة بالأصل. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

ولا إنقاذ حكم قال الشيخ أبو إسحاق بن شعبان في "الزاهي": فالحاكم لا يجوز أن يكون نصف حاكم، فلا يجمع اثنان فيكونان جميعًا. وأما أن يستقضي في البلد القضاة، والحكم ينفرد كل واحد منهم بالنظر فيما يرفع إليه من ذلك فجائز، والدليل على ذلك: إجماع الأمة؛ لأنه لم يختلف في ذلك واحد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا, ولا أعلم أنه أشرك بين قاضيين في زمن من الأزمان، ولا في بلد من البلدان. ودليل آخر: أن المذهب مختلف والأغراض متباينة، ولا يصح أن يتفق رأى رجلين في كل شيء حتى لا يرى أحدهما فيه خلاف ما يرى الآخر. وإذا أشركا بين الحكمين عاد ذلك إلى اختلافهما في المسائل وتوقف نفوذها كالإمامة؛ لأنهما يحكمان في قضية واحدة وليس بولاية، فإن اتفقا نفذ حكمهما، وإن اختلفا لم ينفذ حكمهما وحكم ما لم يكن في ذلك مضرة، ولا مفسدة، وهذا بناء في الولاية؛ لأن من ولى القضاء لا يمكن الاستبدال عند المخالفة، فيؤدي ذلك إلى توقف الأحكام وامتناع نفوذها. وأما الخصال المشترطة في الاستدامة [والتي] (¬1) توجب عزل القاضي عند الإخلال بشيء منها فهي: أن يكون سميعًا، بصيرًا، متكلمًا، عدلًا. فهذه الأربع خصال لا يجوز أن يولي القضاء إلا من اجتمعن فيه، فإن ولى من لم يجمع فيه وجب أن يعزل متى عثر عليه، ويكون ما مضى من أحكامه نافذًا جائزًا إلا الفاسق الذي يعزل: فاختلف في أحكامه التي صادف فيها وجه الحلم، وعثر على الصواب على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أحدهما: أنها جائزة، وهو قول أصبغ. والثاني: أنها مردودة؛ لأن مصادفته للحق من غير قصد إلى إيقاعه كنقد الأعمى إذا صادف درهمًا زائفًا، وهذا مشهور المذهب، فعلى هذا القول تكون العدالة من شروط صحة انعقاد الولاية كالإِسلام وأخواته. وأما السمع والبصر: فقد حكى فيهما أصحابنا الإجماع إلا ما حكاه الماوردي عن مالك في جواز قضاء الأعمى، وهو غير معروف من مذهبه. والدليل على أن ذلك لا يجوز: أن في تقديمه تضييق على المسلمين في طريق القضاء، وإنفاذ الأحكام، والحاكم مضطر إلى أن ينظر لكل من يطلب عنده مطلبًا من مطالب الحق، والأعمى وإن كان يميز الأصوات فلا يميز إلا من يكرر عليه صوته، وليس كل من يشهد عنده بشهادة من يتكرر إليه يعقل عليه؛ فقد يشهد بها عنده من لم يسمع كلامه قبل هذا. وأما السمع: فإنه يفتقر إلى أن يسمع دعوى الخصم وأداء الشهادة، وليس كل شاهد يمكنه أن يكتب شهادته فيعرضها عليه، ومنهم من لا يكتب، مع ما في ذلك من تضييق الحال على الناس، وتعذر سبيل الحكم، وذلك يجب أن يمنع منه. وهل يجوز أن يكون الأمي الذي لا يكتب حاكمًا إن كان عالمًا عدلًا لم أر فيه لأصحابنا نصًا لا لمتقدم ولا لمتأخر، ولأصحاب الشافعي قولان: الجواز، والمنع، والأظهر: الجواز؛ لأن إمام المرسلين، ورسول رب العالمين، وأفضل الحكام كان لا يكتب، ولا يعترض على ذلك بأن يقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالف لغيره من البشر، فإن المخالفة في غير ذلك. وأما في فصل القضاء فهو فيه مع سائر المكلفين على سواء، والدليل على ذلك الحديث المشهور قد خرَّجه مالك وغيره من طريق أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم لتختصمون إليَّ .. " (¬1) الحديث. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6566)، ومسلم (1713).

فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من البشر، وأنه لا يعلم الغيب، ولا المحق من الخصمين من المبطل، وأخبر بأن حاله في ذلك كحال غيره؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا ما اطلع عليه بالوحي. ولما كانت الدنيا دار تكليف، وكانت الأحكام تجري على ذلك أجرى في غالب أحواله في هذا الوجه على أحوال سائر الحكام؛ ولذلك لم يقل في مسألة المتلاعنين أنه أعلم بالكاذب منهما؛ بل قال: يعلم الله أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟. وأما الخصال المستحبة فكثيرة، قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا ينبغي للرجل أن يكون قاضيًا حتى تكون فيه خمس ضلال: حتى يكون ورعًا، ويكون نزيهًا، ويكون عالمًا بما كان قبله من الأقضية. وفي رواية أخرى عنه: ويكون عالمًا بالفقه والسنة ذا نزاهة عن الطمع مستحقًا كالأئمة، حليمًا على الخصم، مستشيرًا لذوي الرأي. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يصلح أن يلي هذا الأمر إلا حصيف العقل، قليل الغرة، بعيد المهمة، لا يطلع الناس منه على عورة، ولا يخشى في الله لومة لائم (¬1). وقال أيضًا رضي الله عنه: لا يصلح أن يلي هذا الأمر إلا الشديد في غير عنف، اللين في غير ضعف، [الجواد] (¬2) في غير سرف، البخيل في غير وكف، وربما قال: الممسك في غير بخل (¬3). قال مالك -رحمه الله: ولا أرى خصال القضاء تجتمع في أحد، فإذا ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 11). (¬2) في أ: الجود. (¬3) أخرجه أبو عبيد في الغريب (2/ 89).

اجتمعت منها خصلتان في رجل رأيت أن يولي العلم والورع. قال ابن حبيب: وإن لم يكن في الرجل علم وورع، فعقل وورع؛ فإنه بالعقل يسل وبالورع يقف، فإذا طلب [العلم] (¬1) وجده، وإن وجد العقل لم يجده. ومن سيرة القضاة اتخاذ المجلس، وأن يكون في المسجد، ويرضى فيه بالدون من المجلس؛ ولهذا قال مالك -رحمه الله- القضاء في المسجد من الحق، وهو من الأمر القديم. فإذا اتخذ المجلس وعين الوقت للجلوس، فقد استراح وأراح غيره، ولا يطول في المجلس؛ لأن ذلك مما يضر به ويذهب بفطنته، وإنما تكون أوقات واسعات معلومة للجلوس. ولا ينبغي أن يقضي وهو يمشي إلا في الشيء اليسير، وأجاز ذلك أشهب إذا كان ذلك يضرُّ به. واختلف هل يجلس للقضاء فيما بين العشاءين أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يجلس من حدث في تلك الساعة يأمر فيه، وينهى مما يخشى فواته، وأما أن يجلس لفصل القضاء واستيعاب البينات والتعرض لاستيفاء حجج الخصوم فلا، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يجوز الجلوس بين المغرب والعشاء لمن أراد المجيء، ولا يكلف ذلك أحد، ولا يجلب الكاره، وهو قول أشهب في "المجموعة". وقال محمد بن عبد الحكم: لا ينبغي للحكم أن يجلس أيام النحر، ولا يوم الفطر، ولا ما قاربه مما يضر فيه بالناس في حوائجهم ولابد لهم، وكذلك يوم عرفة، ويوم التروية مما جرى عليه من الناس، وكذلك إذا ¬

_ (¬1) في أ: العمل.

كان الطين والوحل وأضر ذلك بالناس. وأنه يترك الجلوس إذا دخل عليه هم، أو نعاس، أو ضجر، أو كان شبعانًا، أو [جائعًا] (¬1): فليقم ولا يجلس. وكذلك أمر يمنعه من استيفاء النظر فيما بين الخصمين. واختلف فيما إذا استشعر الملك من نفسه في مجلس حكمه، هل يتحدث مع أهل مجلسه أو يقم على قولين: أحدهما: أنه يتحدث مع أهل مجلسه في غير الحكم، وهو قول ابن عبد الحكم. والثاني: أنه يقوم ولا يجلس. [فهذه] (¬2) لمع من آداب القضاء مما لا يمكن أن نخلي الكتاب من ذكرها، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: جيعانًا. (¬2) في أ: فهذا.

المسألة الثانية فيما يتوجه على القاضي إذا دنا إليه الخصمان

المسألة الثانية فيما يتوجه على القاضي إذا دنا إليه الخصمان وإذا جلس الخصمان بين يدي القاضي: فهو بالخيار إن شاء سألهما عن خصومتهما، وإن شاء سكت حتى يبتدئاه. فإذا ابتدءاه أو سألهما، فإن علم المدعي منهما فليبادر له بالكلام، فإن تكلم المدعي أسكت المدعى عليه، واستمع من المدعي حتى يأمره بالسكوت، ويستنطق الآخر. فإن لم يعلم أيهما المدعي فلا بأس أن يقول لهما: أيكما المدعي، فإن قال هذا سأله, وأسكت صاحبه، فإن قال أحدهما: أنا، وسكت صاحبه ولم ينكر: فلا بأس أن يسأله عن دعواه، واستحب بعض العلماء ألا يسأله حتى يقر له بذلك الآخر. فإن ادعى كل واحد منهما أنه هو المدعي، وأن صاحبه هو المدعى عليه، فإن علم الذي استعدى على صاحبه وجلبه إلى القاضي: فإنه يسمع منه أولًا. فإن لم يدر من جلب منهما صاحبه: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القاضي يقيهما عنه حتى يأتي أحدهما إلى الخصومة، فيكون هو الطالب، وهو ظاهر قول أصبغ في "كتاب ابن حبيب". والثاني: أنه يبدأ بمن شاء منهما، وهو قول ابن عبد الحكم، ومن المدونة: قلت لابن القاسم: ما قول مالك في الخصمين إذا أتيا إلى القاضي، فيتبين له أن الحق لأحدهما، فأراد أن يحكم للذي اتضح له

الحق؟! قال: سمعت مالكًا وهو يقول من وجه الحكم في القضاء إذا أدلى الخصمان حجتهما، وفهم القاضي عنهما، فأراد أن يحكم بينهما أن يقول لهما: أبقيت لكما حجة، فإن قالا: لا. قضى بينهما وأوقع الحكم، فإن أتيا بعد ذلك يريدان نقض ذلك لم يقبل ذلك منهما إلا أن يأتيا بأمر يرى أن لذلك وجه، قال: معناه أنه إن أتى بشاهد عند من لا يرى الشاهد واليمين يريد أو بينة لم يعلم بها، قاله في "كتاب السرقة" من "المدونة" وقال الخصم: لا أعلم لي شاهدًا آخر، فوجه القاضي الحكم عليه ثم قدر على شاهد آخر بعد ذلك أنه يقضي بهذا الآخر، وما أشبه هذا مما قال مالك يعرف به وجه حجته، والكلام في هذه المسألة في ثلاثة مواضع: أحدها: قوله: "إذا فهم القاضي منهما". والثاني: قوله: "أبقيت لكما حجة". [والثالث] (¬1): قوله: "إذا أتى بشاهد عند من لا يرى القاضي بالشاهد واليمين فوجه الحكم عليه ثم قدر على شاهد آخر بعد ذلك". فأما الموضع الأول: وهو القول إذا فهم القاضي عنهما، فأراد أن يحكم بينهما: قال الشيخ أبو القاسم بن محرز: جعل فهمه منهما مقام ما يسمعه منهما، والذي قاله هو ظاهر "الكتاب". وقال غيره من المحققين: ليس مراد صاحب "الكتاب" ما قاله أبو القاسم، فإن معناه: أنه فهم عنهما ما سمعه وحققه تحقيقًا يدفع عنه الريب والاحتمال من مقاصدهما؛ لأنه فهم من معرض كلامهما ولحن خطابهما؛ إذ ليس ذلك مما تقوم به الأحكام. وقد قال أشهب وسحنون وغيرهما: لا يقضي القاضي حتى لا يشك ¬

_ (¬1) في أ: والشاهد.

أنه قد فهم، وأما أن يظن أنه فهم، وهو يخاف ألا يكون قد فهم لما يجد من الكسل، والحيرة فلا ينبغي أن يقضي بينهما، فهذا الفهم الذي أراد صاحب "الكتاب" لا [غيره] (¬1). وأما قوله: "أبقيت لكما حجة": قيل: إنما صوابه أن يقوله للمحكوم عليه، وعلى هذا اختصر المسألة أبو محمد بن أبي زيد أن يقال للمطلوب: أبقيت لك حجة، فهو الذي يعذر إليه. وأما المحكوم له: فإنه الذي يطلب الحكم، ولا أعذار له، وقد قيل: يحتمل صواب ما قال؛ لأن المطلوب إذا ذكر حجة سأل الطالب عن جوابه كأنه قال: أبقى لكما كلامًا أسمعه منكما وأنظر فيه، أو حجة تترافعانها. وقيل: إن الذي قاله صواب، وأنهما اثنان؛ طالب ومطلوب، فمرة يتوجه الحكم على المطلوب، ومرة يتوجه على الطالب بتعجيزه ودفعه عن المطلوب ورفع يديه عن الخصام، فقوله: "أبقيت لكما حجة" لما كان له أن يقول ذلك لكل واحد منهما على الانفراد إذا توجه عليه الحكم؛ اختصر الكلام ولفه في لفظ واحد، فكأنه يقال لكل واحد من الخصمين ممن يتوجه الحكم عليه , أو بتعجيزه ودفعه عن صاحبه من طالب أو مطلوب أبقيت لكم حجة، وهذا يتخرج على الخلاف في المدعى عليه، هل يكتب له الحكم بدفع دعوى المدعي إذا طلب ذلك؟ فللأصحاب في ذلك قولان: فمطرف، وأصبغ يقولان: ذلك له، وابن القاسم يقول: ليس له ذلك. وأما قوله: "مثل أن يأتي بشاهد عند من لا يرى الشاهد واليمين، فوجه القاضي الحكم ثم جاء بشاهد آخر بعد ذلك، وأتى ببينة لم يعلم بها ¬

_ (¬1) في أ: يغيره.

على ما في "كتاب القطع في السرقة"، هل ينظر فيما أتى به آخرًا، ويحكم له به؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدهما: أنه ينظر فيما أتى به بعد الحكم مما له وجه سواء كان القاضي بنفسه أو بغيره، وهو ظاهر "الكتاب" على ما تأوله التونسي وغيره. والثاني: أنه لا ينظر فيما أتى به بعد الحكم لا القاضي نفسه ولا غيره، وهو مذهب سحنون؛ لأنه حكم قد مضى. أما الأول فمذهبه أنه لا يقضي بشاهد ويمين، والشاهد الأول قد حكم بإسقاط شهادته فلا تلفق شهادته مع شهادة الثاني، وأما القاضي الذي تولى بعده: فلا يجوز له التعرض لما قضى به من قبله من الجور البين. والقول الثالث: التفصيل بين القاضي نفسه الذي حكم عليه، فيجوز له النظر فيما أتى به آخرًا. وأما من يتولاه بعده فلا يجوز له النظر في ذلك، ولا التعرض له، وهو قول ابن المواز، وهو ظاهر "المدونة" على ما تأوله أبو عبد الله التونسي. ومن هذا القبيل اختلافهم فيمن أقام شاهدًا على حق من الحقوق، فأبى أن يحلف معه، وحلف المدعى عليه، ثم وجد شاهدًا لآخر هل يحلف مع الثاني، أو تلفق شهادته مع الأول على ثلاثة أقوال: أحدها: أن شهادة الثاني تلفق مع الأول؛ لأن تورعه عن اليمين مع شهادة الأول لا يؤثر في إسقاطها. والثاني: أنه لا يجزئه إلا شاهدان سوى الأول؛ لأنه لما نكل مع الأول، فكأنه أخبر أنه لا يحلف مع شاهد على حال.

والثالث: أنه يحلف مع الثاني لإمكان سكون نفسه إليه، وكونه يتق شهادة الأول. والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة فيمن مر برجل فسمعه يطلق، أو يعتق، أو يعترف بحد أو حق من غير أن يشهده المطلق أو المعترف

المسألة الثالثة فيمن مر برجل فسمعه يطلق، أو يعتق، أو يعترف بحد أو حق من غير أن يشهده المطلق أو المعترف وقد وقع في هذه المسألة في "الكتاب" إشكال، وفيها ألفاظ توهم أن قول مالك اختلف فيها، وأنا أورد عليك نص "الكتاب" حتى يتبين لك محل الإشكال أو ما أوجب الإيهام من الكلام. قلت: أرأيت إن سمع رجل رجلًا يقول: إن لفلان على فلان كذا وكذا، أو يقول: رأيت فلانًا قتل فلانًا أو قال: سمعت فلانًا قذف فلانًا، أو سمعت فلانًا طلق فلانة، ولم يُشهده، إلا أنه مر فسمعه وهو يقول هذه المقالة، أيشهد بهذا، وإنما مر فسمعه يتكلم به، ولم يشهده، قال: لا يشهد بها ولكن إنما مر فسمع رجلًا يقذف رجلًا، أو سمع رجلًا يطلق امرأته ولم يشهداه، قال مالك: فهذا الذي يشهد به، وإن لم يشهداه. قال: ويأتي من له الشهادة فيعلمه أن له عنده شهادة. قال: وسمعت من مالك هذا في الحدود: أنه يشهد بما سمع من ذلك إذا كان معه غيره. وأما قولك الأول في "كتاب الشهادات"، فإني سمعت مالكًا، وسئل عن الرجل يمر بالرجلين وهما يتكلمان في الشيء، ولم يستشهداه فإنه لا ينبغي أن يشهد، قال ابن القاسم: إلا أن يكون استوعب كلامهما؛ لأنه إن لم يستوعبه لم يجز أن يشهد لعل الذي نقله قد كان قبل هذا الكلام كلام يبطله، فيدعوه أحدهما إلى الشهادة فلا يشهد، وهذا نص المسألة في الأمهات.

واختلف المتأخرون في تأويلهما؛ فمنهم من حمل الكلام على ظاهره، ورأى أن الذي في "الكتاب" اختلاف قول واضطراب رأي، فيتحصل في المسألة على هذا المذهب أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يشهد وأنه لا فرق بين الحدود والحقوق، وهو ظاهر قول مالك في "الكتاب"؛ حيث قال: لا يشهد بها. والثاني: التفصيل بين الحدود والحقوق؛ فيشهد في الحدود بما سمع وإن لم يشهداه، ولا يشهد في الحقوق إذا لم يشهداه، وهو قول مالك الأول على ما نص عليه في "كتاب الشهادات". والثالث: التفصيل بين أن يستوعب كلامهما فيشهد، أو لا يستوعبه فلا يشهد، وهو قول ابن القاسم، وهو ظاهر قول مالك فيما جوز فيه شهادته إذا استوعب. وأما إذا لم يستوعب الكلام فلا يشهد، قولًا واحدًا. والرابع: التفصيل بين أن يسمع ذلك من شاهد يحكيه أو يسمعه من المباشر, فيستدق أو من القاذف: فيشهد، وإن سمعه من شاهد يحكيه: فلا يشهد، وهو ظاهر قول مالك في المسألة هنا. بيد أن أرباب المذهب اختلفوا في نقل الشهادة عن الشاهد، هل يفتقر إلى إذن الشاهد المنقول عنه أم لا؟ على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن ذلك لا يجوز إلا بإذنه، وهو نص المدونة في كتاب [. .] و" كتاب الشهادات". والثاني: أنه يجوز ولا يفتقر إلى إذنه، وهو ظاهر قوله في "كتاب

الأقضية" من "المدونة" حيث قال: إن القاضي المحدث لا ينظر في شيء من أمر البينة التي شهدت عند المعزول وثبت في ديوانه فقال: لا يجوز في شيء من ذلك إلا أن تقوم عليه بينة. قال الشيخ أبو القاسم بن محرز: قوله: إلا أن يقوم عليه ببينة [. .] (¬1) على ما ثبت من خط الشهود، فقد أفادت المسألة جواز الشهادة على الخط. وإن كان أراد به إقامة البينة على سماعهم الشهادة من الشهود حين أثبتوها عند القاضي، فقد أفادت المسألة جواز نقل الشهادة، وإن لم يأذن الشاهد المنقول عنه بذلك، وإلى هذا نجا بعض المتأخرين أيضًا، وقال: لا فرق بين أن ينقل عنهما أو قد ذكراها عند الحاكم أو نقلت عنهما، وقد ذكراها عند غير الحاكم. والقول الثالث: أنه يجوز النقل عنهما إذا رفعت عند الحاكم؛ لأن ذلك موضع التحرير والاحتفاظ على الزيادة والنقصان. ولا يجوز النقل عنهما إذا ذكراها في معرض ما حكى له وكثير من الناس من يستعمل في كلامه المعاريض والمزاح الذي هو مباح، ولو علم أنها تنقل عنه لتحقق وتحرز، وإلى هذا ذهب بعض المتأخرين أيضًا. ومنهم من قال: إن ذلك ليس باختلاف قول، وإنما هو اختلاف أسئلة، وإن كلام ابن القاسم تفسير لقول مالك، وليس مراده عندهم بقوله الأول قولًا ثانيًا، واختلافًا من قوليه لتقدم الكلام في المسألة، وسماعه القول في أحدهما قبل الآخر؛ فيكون معنى قوله: وأما على قول مالك الأول يريد بالأول في السماع، لا أنه الأول في الأقوال؛ إذ هي ثلاث مسائل: الأولى: إذا سمع شاهدًا أو شهودًا يذكرون أنهم سمعوا فلانًا يقول ¬

_ (¬1) قدر كلمة غير واضحة بالأصل، وأظنه الأقضية.

لفلان: علىَّ كذا وكذا، وسمعنا فلانًا يقذف فلانًا أو يطلق امرأته: فلا يشهد السامع لها ولا الشهود على هذا القول حتى يُشهداه على شهادتهم على ما قدمناه من الخلاف. الثانية: إذا سمعه يقذف رجلًا، أو يطلق زوجته: فهذا يشهد بما سمع إذا كان معه غيره؛ وذلك لأنه في القذف إذا كان وحده، ولم تتم الشهادة على القاذف خشى أن يكون قاذفًا أو معرضًا فيحد. والثالث: إذا سمع رجلين يتراجعان في كلام ويتقاربان في شيء بينهما: فهذا يشهد إذا استوعب كلامهما من أوله إلى آخره كما قال ابن القاسم، ولا يشهد إذا لم يكن كذلك كما قال مالك، وهذا أيضًا يشترط في المسألة التي قبلها، وأنه لا يشهد حتى يستوعب كلامهم في كل شيء؛ لأنه إذا لم يستوعب قوله في الطلاق والقذف أولًا وآخرًا، فكيف يصح له أن يشهد مع الاحتمال أن يكون القائل حاكيًا في غيره، وفي هذا الفصل يتصور الخلاف على ما في "كتاب محمد"، وتأويل بعضهم على ظاهر "المدونة". والحمد لله وحده.

المسألة الرابعة في القصاص في الجراح بشاهد ويمين

المسألة الرابعة في القصاص في الجراح بشاهد ويمين وإذا ادعى على رجل جراحات عمدًا وقطع يد عمدًا في القصاص: فلا يخلو من أن يقوم له على بينة أو لم تقم. فإن قامت له بينة: فلا خلاف في وجوب القصاص فيما يجب فيه القصاص ويتمكن. فإن قام له شاهد واحد، هل يحلف معه ويقتص أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال، كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه لا يقتص في الجراح والأعطاب بشاهد ويمين، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الشهادات" من المدونة، وهو قول الغير في "كتاب الشهادات". والثالث: التفصيل بين ما صغر من الجراح وما عظم منها؛ فما صغر منها مما ليس فيه عقل مسمى، كما به قال مالك في المبسوط، أو فيه عقل مسمى إلا أنه ليس بمتلف كالموضحة وقطع الإصبع، على قول عبد الملك: فإنه يقتص منه بالشاهد واليمين. وما عظم منها وخيف منه التلف: فإنه لا يقتص فيه بالشاهد واليمين. والرابع: أن الجروح لا يمكن من اليمين، وإنما يحلف الجارح، وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب الأقضية" حيث قال: أرأيت إن ادعيت قبل رجل قصاصًا أو أنه ضربني بالسوط، وما أشبه ذلك أيستحلف لي أم لا؟ في قول مالك قال: لا يستحلف إلا أن تأتي بشاهد عدل، فيستحلف لك.

فانظر فقد جعله في هذه المسألة كالشاهد الواحد على الطلاق أو على العتق؛ لأن اليمين مع الشاهد إنما يحكم بها في الأموال دون الحدود، والقسامة إنما وردت في النفوس خاصة. ومن رأى أن القصاص يجب بشاهد ويمين المجروح فاسدًا على النفوس، إلا أنها في النفوس خمسون يمينًا، وفي الجراح يمينًا واحدًا. وعلى القول بأن القصاص يجب بشاهد ويمين، فإن نكل المقطوعة يده عن اليمين، ونكل القاطع عن اليمين بعده، هل يقطع أو يحبس؟ قولان: أحدهما: أنه يحبس كالقطع، وهو مذهب المدونة. والثاني: أنه يقطع. وسبب الخلاف: النكول هل هو كالإقرار أم لا؟. وعلى القول بأن القصاص لا يجب بشاهد ويمين: فإن المجروح أو المقطوع يحلف ويأخذ الدية، وهو قوله في "كتاب الشهادات" من "المدونة". وعلى القول بأن القاطع يحلف: فإن نكل عن اليمين، فالذي ينبغي أن يرد اليمين على المقطوعة يده، فيحلف ويستحق القصاص والدية على اختلاف الروايات، ويحتمل أيضًا أن يجري فيه من الخلاف ما يجري في الزوج إذا نكل عن اليمين في الطلاق لكون اليمين في جنبة المشهود عليه في مسألتنا؛ لأنه فيمن أقام شاهدًا واحدًا على رجل بالقذف، فقال: لا يحلف المقذوف، فقيل له: فعلى المشاتم اليمين، قال: نعم فعسى به، وليس كل ما رأى المرء أرادوا معه أن يجعلوه بينة. وأما الوجه الثاني: إذا لم يأت ببينة على القطع ولا شاهد ولا شبهة

على دعواه: فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يمين على المدعي عليه، وهو قول مطرف. والثاني: أن عليه اليمين، وهي رواية أشهب عن مالك. والثالث: أنه لا يمين عليه إلا أن يكون مشهودًا بذلك، وهي رواية عبد الملك بن الماجشون والأقوال الثلاثة. فإن نكل عن اليمين على قول من يقول: إنه يحلف إما على الإشهاد أو مع عدمه: فإنه يسجن حتى يحلف، فإن طال سجنه، فإنه كان مشهودًا بالشر مبررًا فيه، فإنه يخلَّى سبيله، وهل يؤدب أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يؤدب على قول أصبغ. والثاني: لا يؤدب، على قول مالك. والحمد لله وحده.

المسألة الخامسة في يمين العواتق وغير العواتق من النساء، ومن هو في ثقاف الحجر من السفهاء

المسألة الخامسة في يمين العواتق وغير العواتق من النساء، ومن هو في ثقاف الحجر من السفهاء ومعنى العواتق -هاهنا: الأبكار، فاليمين على وجهين: يمين أوجبتها الظنة والشبهة: فلا يتوجه على العواتق وعلى من هو في ثقاف الحجر من السفهاء، فأمَّا اليمين مع الشاهد: فلا يخلو المشهود به من وجهين: إما أن يكون معينًا أو غير معين. فإن كان معينًا فهو على وجهين: مولى عليه، وغير مولى عليه. فإن كان غير مولى عليه: فإنه يحلف مع شاهده، ويستحق الحق الذي يشهد له به سواء كان مؤمنًا أو كافرًا، حرًا أو عبدًا، ذكرًا، أو أنثى؛ لأنهم لما تساووا في الملك والتصرف وجب أن يتساووا في وجه الاستحقاق. فأمَّا المولى عليه فعلى ضربين: صغير وكبير. فإن كان صغيرًا وانفرد بالحق وحده قبل شاهده، فهل يحلف المشهود عليه أو يوقف الحق حتى يحتلم الصغير, فيحلف: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المشهود عليه يحلف، وبه قال ابن القاسم في "العتبية"، ورواه مطرف، وابن الماجشون في "الواضحة". والثاني: أن الحق يوقف إلى بلوغ الصبي، فيحلف ويأخذ، أو ينكل عن اليمين فتسقط دعواه، وهو قول سحنون في "كتاب ابنه". ووجه القول الأول: أن الصغير لما لم يكن من أهل اليمين ثبت اليمين في جنبة المدعى عليه كما لو شهد الشاهد لغير معين.

ووجه القول الثاني: أنه معين يرجى أن يزول المانع له من اليمين، فينتظر به ذلك أصله المغمى عليه. فعلى القول بأن المطلوب يحلف، فإن حلف بقى الحق عنده سواء كن ذلك الحق معينًا أو ثابتًا في الذمة حتى يبلغ الصغير، فيحلف ما شاهده، فيستحق حقه ما كان منه في الذمة، وما كان معينًا إن كان المعين باقيًا، فإن فات حقه يوم حكم به للصبي إن كان سبب الفوات من الذي هو في يده أو من أجنبي. فإن كان سبب الفوات من عند الله: فلا شيء عليه إلا أن يكون غاصبًا أو متعديًا، ورواه ابن حبيب عن مطرف، وابن عبد الحكم، وابن الماجشون، وأصبغ. ووجهه: أن الصغير لا يصح منه اليمين؛ فيحلف المطلوب، ويترك الحق عنده، فإذا بلغ الصبي وصار ممن يحلف: حلف مع شاهده كما أمكنه ذلك، ويأخذ حقه. فإن نكل الصبي عن اليمين بعد أن يبلغ، هل يحلف المطلوب مرة أخرى أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يحلف المطلوب مرة أخرى، وهو قول أصحاب مالك في "الموازية"، و"العتبية" وغيرهما وهو مشهور المذهب؛ لأن يمينه بذلك قد تقدمت. والثاني: أنه لابد للمطلوب أن يحلف يمينًا ثانية بعد نكول الطالب. ووجه القول الأول: أن يمين المطلوب لتقدمها في الرتبة عليها، وإنما تقدمت هذه لضرورة توقف تلك اليمين، وإن لم يحلف المدعي: صحت يمين المطلوب، وصح له الحكم بها.

ووجه القول الثاني: أن يمين المطلوب لتوقف الحق بيده خاصة لما تعذرت يمين الطالب التي يتعجل بها حقه، فإذا حلف الطالب أخذ حقه بشاهد ويمينه، فإن نكل: حلف المطلوب فبرأ من الاستحقاق وقضى له، وإن لم يحلف: قضى عليه بنكوله؛ لأنه لو كانت يمينه أولًا يمين الاستحقاق: لوجب ألا يبقى بعدها للمدعي يمين، فإذا نكل المطلوب عن اليمن أولًا: غرم الحق وأخذ. فإذا بلغ الصبي فغلبه اليمين، فإن حلف: قضى له بحقه، وإن نكل عن اليمين: رد الحق إلى المطلوب، ولا يؤخذ عليه باليمين ثانية، رواه ابن حيب عن مطرف، وابن كنانة، وبه قال ابن المواز. فإذا ثبت ذلك فإن الصغير إذا كبر يحلف مع شاهده على البت، وهل من شرطه أن يقع العلم عنده بصحة ما شهد به الشاهد، فعند ذلك يحلف أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يحلف الوارث على ما لم يحضره، ولم يعلم وهو لا يدري هل يشهد بحق أم لا؟ فيحلف مع شاهده على خبره فيصدقه، كما جاز أن يأخذ ما شهد به الشاهدان من مال وغيره وهو لا يعلم صحة ذلك إلا بقولهما، وهو قول مالك في "كتاب ابن سحنون"، وهذا القول يؤخذ من "المدونة" من غير ما موضع؛ منها أيمان القسامة، فإن الأولياء يقسمون على شهادة الشاهد، أو على قول الميت: دمي عند فلان، وهم على أسرتهم نائمون وفي غفلاتهم متقلبون، ولا يتيقنوا بصحة ما يحلفون عليه. ومنها يمين الصبي إذا ثبت له حق بشاهد واحد قبل أن يولد، فإنه

يحلف معه على البت إذا بلغ وغير ذلك مما لا يحصى كثيره. والثاني: أنه لا يحلف حتي يقع عنده العلم، ويحصل له بالخير المتواتر، فإن لم يبلغ هذا الحد: امتنع من اليمين، واستحلف المدعي عليه؛ لأنه [لا يصح] (¬1) لأحد أن يحلف على ما لا يتيقنه، وهو اختيار القاضي أبي الوليد الباجي، قال: وهو ظاهر قول مالك والمعلوم من مذهبه. وصفه يمينه: أن يحلف على حسب ما شهد به الشاهد، فإن شهد بالإقرار: لم يكن له أن يحلف أن له عليه كذا وكذا, ولا أنه غصب منه كذا وكذا, ولكن يحلف بالله لقد أقرَّ له فلان بكذا وكذا، وهو قول محمد بن عبد الحكم. فإن كان المدعى عليه غائبًا: زاد في يمينه أن حقه عليه لباق، وما عنده به رهن، ثم يقضي له بذلك. فأمَّا إن كان المولى عليه كبيرًا، هل يحلف مع شاهده ويستحق حقه، أو يحلف المطلوب أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يحلف مع شاهده، ويستحق حقه، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في "العتبية"، فإن نكل: حلف المطلوب وبرئ، وإن نكل: غرم كالعبد والذمي. والثاني: أن المطلوب يحلف، ويؤخر السفيه، فإذا رشد: حلف مع شاهده إن شاء وقفى له. وإن أبى أن يحلف: لم يكن له على المطلوب يمين، وهي رواية ابن حبيب عن مطرف، وهو الصحيح، وقيل بأن اليمين ترد على المطلوب، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وقد قدمنا توجيه ذلك في فصل الصغير يكبر. ووجه القول الأول: أن هذا يلزمه الحدود والطلاق فكان له أن يحلف، ويستحق كالرشيد. ووجه القول الثاني: أن من لم يحلف في دفع حق عن نفسه، فإنه لا يحلف في استحقاقه كالصغير. وعلى القول بأن السفيه يحلف أولًا، فإن نكل عن اليمين وحلف المطلوب، هل ترد اليمين على السفيه إذا بلغ الرشد أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يمين له، ولا للبكر بعد صلاح حالها، وهي رواية ابن سحنون عن أبيه في "العتبية". وعلى القول بأن المطلق يحلف أولًا: فإن نكل أخذ منه الحق. فإذا رشد السفيه: حلف ومضى له، وإن نكل: رد إلى المطلوب بلا يمين، وهو قول مطرف، وابن كنانة، ولا ترد اليمين عليه؛ لأن ذلك يفضي إلى الدور العقلي. فإذا قلنا: أن السفيه يحلف مع شاهده حال سفهه: فإنه إن حلف: قبض ما استحقه بيمينه الذي هو الناظر عليه والمتكفل به كقبضه لسائر ماله. قال الشيخ أبو إسحاق: والاختيار أن يحلف ويقبض هو ما حلف عليه، فإذا صار إليه قبضه منه من له النظر عليه؛ لأنه لا يستحق بيمينه شيئًا إلا من إليه قبضه. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كانت الشهادة لغير معين: فلا يخلو من أن يحاط بعددهم، أو لا يحاط بعددهم. فإن كانوا لا يحاط بعددهم؛ مثل أن يشهد شاهد بصدقة لبني عم، أو

للمساكين، أو في سبيل الله، فقد قال ابن القاسم وأشهب: لا يحلف فيه مع الشاهد، ولا يستحق بشهادة حقًا؛ لأنه لا يتعين لهذا الحق مستحق، فيحلف معه؛ لأن كل من حلف مع الشاهد يجوز أن يخرج عن هذا الحق، ويصرف إلى غيره. وإنما يحلف في الحقوق من يستحق بيمينه الملك والقبض. فإن كانوا معينين، إلا أنه يحاط بعددهم، وأضيف إليهم من لا يحصى؛ مثل أن يقول: حبست هذا الملك على ولد زيد وعقبهم، أو قال: تصدقت به عليهم فيشهد لهم بذلك شاهد واحد: فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يمين فيه، وقد قال في كتاب ابن المواز أن الذي يقول به أصحابنا أن كل محبس ومبتل ومعقب فلا يصح فيه الثمن. والثاني: أنه إذا حلف منهم الجل نفد لهم الصدقة، ولغيرهم ولغائبهم ولمولدهم وللسبيل بعدهم، وهي رواية عبد الملك عن مالك في "الموازية"، و"المجموعة". والثالث: أنه يحلف من أهل الصدقة رجل واحد مع الشاهد، ويثبت جنسًا له ولجميع أهلها، وإن لم يحلف عليها غيره، ولكل من يأتي ممن شرطت له من صغير وكبير، وهي رواية ابن وهب، ومطرف، وابن الماجشون عن مالك في "المجموعة"، وبهذا قال المغيرة إذا كانت الشهادة لمعين وغير معين؛ مثل أن يشهد الشاهد أن فلانًا حبس على فلان، وعلى عقبه أنه يحلف مع شاهده ويحق الحق له، ولمن يأتي بعده، فإذا ثبت فما كيفية اليمين التي بها يحلف من وجبت عليه، وأين يحلف؟

أما كيفية اليمين: فإنه يحلف بالله تعالى، ولا يقبل منه غير ذلك باتفاق العلماء، ثم لا يخلو الحالف من أن يكون مسلمًا، أو كافرًا. فإن كان مسلمًا: فإنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ولا يزيد على ذلك الرحمن الرحيم، ولا الطالب المدرك، قال ابن القاسم: ورأينا المدينين يزيدون ذلك في اليمين عند المنبر، فأبى ذلك مالك، وقال: هذه أيمان الأعراب. واختلف في أيمان اللعان، والقسامة، هل يزاد عليها على ما قدمناه أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يزاد، وأن اليمين فيهما كاليمين في سائر الحقوق، وهو قول ابن القاسم، وأشهب، وهو الأشهر. والثاني: أنه يزاد فيهما: عالم الغيب، والشهادة الرحمن الرحيم، وهو قول عبد الملك في "كتاب محمد". ولو حلف فقال: "والله" من غير أن يقول: لا إله إلا هو، هل يجزئه ذلك أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك جائز، ويكفيه ذلك من الزيادة عليه، وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب النذور". والثاني: أنه لا يجزئه حتى يضيف إليه: "الذي لا إله إلا هو"، وهو نص قول أشهب في "الموازية"، وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب الأقضية". فإن كان الحالف كافرًا، وكان يهوديًا أو نصرانيًا، فهل يقتصرون على اليمين بالله خاصة، أو يكلف الزيادة عليه؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة":

أحدهما: أنهم لا يحلفون إلا بالله خاصة، ولا يكلفون أن يزيدوا عليه: الذي لا إله إلا هو، ولا يكلف اليمين بما لا يدينون به، ولا يعتقدونه من إثبات الألوهية فقط، وهو مذهب ابن شبلون، وهو ظاهر المدونة؛ حيث قال: لا يحلفون إلا بالله فقط. والثاني: أنهم يحلفون كما يحلف غيرهم من المسلمين في تتمة الشهادة وعليه اختصر الشيخ أبو محمد، وهو بين في "كتاب محمد" قال: يمين الحر والعبد والنصراني في الحقوق سواء، ولا يعد منهم إسلامًا، وإنما هو حكم يجريه عليه الإسلام كما يلزمهم حكم الإسلام إذا تحاكموا إلينا؛ ويدل على ذلك استحلاف المجوس بالله، وهم ينفون الصانع، ولا يثبتونه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، فكذلك اليهود والنصارى، وأنهم لا يقولون بالتوحيد فإنهم لا يلزمهم أن يزيدوا في اليمين بالله الذي لا إله إلا هو، وهو ظاهر المدونة أيضًا في المجوس حيث قال: يحلف المجوس في بيت نارهم، قال: ما سمعت من مالك فيه شيئًا. وأرى أن يحلفوا حيث يعظمون، فأمر له أن يحلفه بالله، وإن كان لا يعتقد الصانع، تعالى الله عن قولهم. وأما أن يحلف: فذلك يختلف باختلاف الأحكام الموجبة لليمين، وهي أقسام منها [ما] (¬1) لا يغلظ على الحالف فيه بالزمان والمكان. ومنها: ما يغلظ عليه فيه بالمكان دون الزمان. ومنها: ما لا يقع فيه التغليظ، لا بالزمان ولا بالمكان. فأما ما يغلظ فيه بالزمان والمكان: فكأيمان القسامة واللعان؛ فإنهم يغلظ عليهم فيهما بأن يجلبوا إلى أشرف أماكن بلادهم فما كان من أهل ¬

_ (¬1) سقط من أ.

مكة والمدينة وبيت المقدس، فإنهم يجلبون إليها حيث ما كانوا، وأما أهل الآفاق: فإن كانت مواضعهم قريبة من مصر عشرة أميال ونحوها: فإنهم يجلبون إليها فيقسمون فيها. وأما ما بعد عن المصر فوق عشرة أميال، هل يقسمون في مواضعهم أو أو يجلبون إلى المصر؟ فإنه يتخرج على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنهم يقسمون في مواضعهم، ولا يجلبون إلى مصر، وهو نص قول مالك في "المدونة". والثاني: أنه لابد من جلبهم إلى العصر، ولا يمكنون من أن يقسموا في أماكنهم، وإن بعدوا، وهذا القول قائم من المدونة من قوله: ولا يقام القتل بمصر كلها إلا في الفسطاط، إلا أن يكتب صاحب الفسطاط إلى من يقيمه. وأما التغليظ بالزمان: فكون أيمان القسامة واللعان في دبر الصلوات، وقال في "كتاب اللعان": وما كان في دبر العصر أشدهما -بالشين والسين، على اختلاف الروايات- وقال الله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} الآية (¬1). وأما ما يغلظ بالمكان دون الزمان كالأيمان الواجبة في الحقوق مما له بال؛ مثل ربع دينار فصاعدًا: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب أنه لا يجوز أن يجلبوا فيها إلى العصر من عشرة أميال؛ لأن ذلك ضرر عليهم، وإنما يحلف في الجامع حيث يعظم، غير أن الحالفين على ضربين؛ رجال، والنساء الحرائر، فأمَّا الرجال: فإنهم يحلفون بالجامع وهو المسجد الأعظم الذي تقام فيه الجمعة، حيث يعظم منه، وإن كان في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -: فعند المنبر، وإن كان في غيره: فحيث يعظم منه؛ عند المحراب وعند ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية (106).

المنبر، وقال مالك في "المدونة": لا أعرف المنبر إلا منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأما مساجد الآفاق فلا أعرف المنبر فيها، وقال القاضي أبو الوليد الباجي: يحتمل من جهة اللفظ أن يريد بقوله: "لا أعرف المنبر" في مساجد الآفاق. وقد أجمع المسلمون من عهد الصحابة رضي الله عنهم على اتخاذها في كل بلد، وهو من أعلم الناس بذلك فمحال أن يريد هذا. قال: والصحيح أنه أراد بذلك أن لا يعرف أن حكم سائر منابر البلاد حكمها في هذه حكم منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هذا حكم يختص بمنبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد روى ابن وهب عن مالك مفسرًا: أنه لا يحلف عند منبر من المنابر إلا عند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويغيرها في مسجده الأعظم حيث يعظمون منه عند منبرهم، أو تلقاء قبلتهم، فقال القاضي أبو الوليد: ووجه ذلك عندي -والله أعلم- أن منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في وسط المسجد، وهو موضعه الذي كان فيه زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وسط المسجد، وهو موضعه الذي أحدث حين زيد في المسجد، فصار المنبر في وسط المسجد، فكانت اليمين عند المنبر أولًا؛ لأنه موضع مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعند منبره. وأما القبلة والمحراب فشيء بني بعده، وأما منابر سائر المساجد فهي عن المحراب، فمن حلف فإنما يحلف عند المحراب، ولكن بقرب المنبر، وأعظم شيء في المساجد المحاريب , ولو اتفق أن يكون المنبر في بعض البلاد في وسط المسجد لكانت اليمين عند المحراب دون المنبر، فهذا معنى قول مالك في "الكتاب"، وربك أعلم. واختلف هل يغلظ فيها بالزمان أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يغلظ فيها بالزمان كما يغلظ في الدماء واللعان، وهو قول ابن القاسم وأصبغ، وهو مشهور المذهب.

والثاني: أنه يغلظ بالزمان في المال العظيم كما يغلظ في الدماء واللعان، وهي رواية ابن كنانة عن مالك في "كتاب ابن سحنون". واختلف هل يغلظ بالمكان في القليل والكثير على قولين: أحدهما: أنه لا يغلظ به، وهو المشهور. والثاني: أنه يغلظ به، وإنها لا تكون إلا عند المنبر في القليل والكثير، وهذا القول حكاه القاضي أبو محمد عبد الوهاب عن بعض المتأخرين. وأما النساء الحرائر: فإنهن ينقسمن إلى من تخرج بالنهار، ومن لا تخرج. فمن تخرج منهن: فحكما حكم الرجال فيما تحلف عليه، وفي موضع يمينها. ومن لا تخرج منهن: فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحاكم يبعث إليها من يحلفها في بيتها, ولا يمكن خصمها من إعناتها، وهذا القول ذكره القاضي أبو محمد عبد الوهاب. والثاني: أنهن يخرجن ليلًا، ويحلفن في أقرب المساجد اليمين، وإليه ذهب بعض شيوخ الأندلسيين، وذكر أن سحنون كان يفعل ذلك. والثالث: التفصيل بين حق لها أو عليها؛ فما كان عليها من حق وشهد عليها به: فإنها تحلف في بيتها، وما تدعيه من حق لها: فلابد لها من أن تخرج إلى موضع اليمين، وهذا القول متأول على المدونة، ومثله لابن كنانة. والأقوال الثلاثة متأولة على المدونة. ووقع في بعض روايات المدونة: فإن كانت ممن لا تخرج نهارًا، وفي

بعضها، فإن كانت ممن لا تخرج فظاهره أنها لا تخرج جملة كنساء الملوك. وعلى القول بأنها تخرج وتحلف في المسجد، ففي كم تخرج؟ فقد اختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أنهن كالرجال وأنهن يخرجن في ربع في دينار فصاعدًا، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في "الواضحة"، وبه فسر أبو محمد عبد الوهاب ما له بال من المال، وهذا القول متأول على "المدونة". والثاني: أنها لا تخرج في ربع دينار، ولا تخرج إلا في المال الكثير وهي رواية ابن المواز عن ابن القاسم، وهو ظاهر "المدونة" عند بعضهم، وحمل قوله في "المدونة": "إن كل شيء له بال": فهو المال الكثير. وعلى القول بأن القاضي يبعث إليها من يحلفها في بيتها، هل يكتفي بذلك الواحد، أو لابد من اثنين؟ ففي ذلك قولان. وسبب الخلاف: في هل طريقه طريق الإخبار أو طريقه طريق الشهادة؟ وأما ما لا تغليظ فيه على الحالف لا بالزمان ولا بالمكان، وهو اليمين على أقل من ربع دينار: فمشهور المذهب على أنه يحلف في أي موضع شاء، ولا يلزمه اليمين في الجامع، ولا في مساجد العشائر خلاف ما حكاه القاضي أبو محمد عن بعض المتأخرين أن يحلف عند المنبر في القليل والكثير، والحمد لله وحده.

المسألة السادسة في الشهادة على الخط

المسألة السادسة في الشهادة على الخط ولا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يشهد على خط نفسه. والثاني: أن يشهد على خط شاهد غيره. والثالث: أن يشهد على خط المقر على نفسه. فأما الوجه الأول: إذا عرف خطه في الكتاب، ونسى الشهادة، ولا عقد عليها، فهل يشهد أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يشهد ولا يرفعها جملة، وهو قول ابن القاسم، وابن نافع، وأصبغ وغيرهم من أصحاب مالك في "العتبية" و"الموازية" و"الواضحة". والثاني: أنه إذا لم يسترب في الكتاب محوًا, ولا حكًا, ولا بترًا: فإنه يرفعها، ويشهد، وينتفع بها المشهود له، وهو قول سحنون في "العتبية". والثالث: أنه يرفعها إلى الحاكم ويؤديها كما علم، ثم لا ينتفع بها المشهود له، وهو قول مالك في المدونة. والرابع: التفصيل بين أن يكون بخط يده، أو بخط غيره؛ فإن كان جميع الكتاب بخط يده، وأثبت خطه، ولم يستنكر في الكتاب محوًا، ولا بترًا ولا إلحاقًا: فشهادته جائزة، وإن لم يرفع الشهادة، وإن كان الكتاب بخط غيره: فلا يشهد، وهو قول ابن نافع في "المجموعة"

وهذا القول أشبه في النظر، ولاسيما في وقتنا هذا؛ لأن الغالب على الناس النسيان. فإذا تحقق أنه خطه، وكان ممن لا يشتبه عليه في الخطوط عليه إلا أن يدخله ريبة، فيتوقف وقد اعترض على قول مالك في "الكتاب" حيث قال: "يؤديها كما علم، ثم لا ينتفع بها"، وذلك تناقض من القول؛ لأنه إذا كان ينتفع بها فما فائدة رفعها إلى الحاكم. وقد وجه بعض المتأخرين قوله في "المدونة" بأن قال: إنما أمر بأدائها ورفعها إلى الحاكم لاحتمال أن يكون ممن يرى ذلك في مذهبه، ويصوب الحكم به؛ ولأنه مسألة اختلف فيها. وهذا التوجيه يرد ظاهر "الكتاب"؛ لأنه قال: "ثم لا ينتفع بها الطالب"، وهذا مثل ما قاله في "كتاب الصيام" من "المدونة" في الذي يرى هلال رمضان وحده: فإنه يرفع شهادته إلى القاضي، ثم لا يلزم الناس الصيام بشهادته. وأما من دعى إلى شهادة، فقال عند القاضي: لا أذكرها: فلا يخلو من أن يقول: أخروني حتى أنظر، وأتفكر أو قال: ما عندي علم. فإن قال: أخروني لأتذكر وأنظر، ثم جاء بعد ذلك فشهد: جازت شهادته إن كان مبرزًا، أو كان ذلك بالقرب. فإن قال: ما عندي علم، ثم رجع فأخبر بعلمه: فقد اختلف فيه عن مالك؛ إذا كان مبرزًا فمرة جوزها إذا كان بالقرب، ومرة منعها. وإن كان غير مبرز: رجعت قولًا واحدًا. ووجه القول في إجازتها: أن قوله: ما عنده علم في ذلك الوقت لا ينفي أن يكون علم ذلك قبله، فإن تذكر بعد ذلك ما تقدم علمه به:

جازت شهادته كما لو تقيدت شهادته شهد عليه، فإن أكثر الناس نسى ذلك، فإذا وقف على العقد، ورأى خطه تذكر شهادته، وجاز أداؤها. ووجه القول بردها: أن قطعه بنفي علمه ظاهر أنه ليس عنده أصل ولا سبب يتذكر منه. وقال ابن حبيب: إنما هذا إذا سئل عند الحكم، أو سئل المريض عن نقلها عنه. فأما في غير هذين الوجهين: فلا يضره ذلك، وقوله تفسير للمذهب، والله أعلم. فإن قال الشاهد: كل شهادة أشهد بينكما زور لم يضره ذلك وليشهد، وهذا القول حكاه ابن المواز عن أشهب. قال ابن حبيب: وكذلك إن قال الشاهد لخصم: ما أشهد عليك بشيء ثم شهد: فإنه يقبل ذلك منه، ولا يضره القول الأول، وإن كانت عليه بينة، ومعنى ذلك أنه وعده بأن لا يقيم عليه، ثم رجع عن ذلك إلى الواجب من إقامتها عليه، أو يكون قد نسى الشهادة ثم ذكرها فأدَّاهَا. وأما الوجه الثاني: وهو الشهادة على خط الشاهد، وقد مات أو غاب، فهل يجوز أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الشهادة على الخط لا تجوز؛ لأن الشهادة على خط الشاهد بمنزلة أن يسمعه بنص شهادته، فلا يجوز له أن ينقلها عنه إلا بإذنه على مشهور المذهب، وهذا القول قائم من "المدونة" من باب نقل الشهادة. والثاني: أن الشهادة على خط الشاهد جائزة، ولا يجوز في ذلك أقل

من شاهدين، ويحلف الطالب مع شهادتهما، ويستحق حقه كما نقلاها عنه في حياته، وهي رواية ابن القاسم، وابن وهب عن مالك في "العتبية"، و"الموازية" وهذا القول قائم من المدونة أيضًا من مسألة الذي شهد عند القاضي ثم يموت، ويعزل القاضي فيشهد قوم على شهادته: فقد قال في "كتاب الأقضية" من "المدونة": إن ذلك جائز. ووجه القول بالمنع: أن الناس قد دخلو وأحدثوا من الفجور والضرب على الخطوط ما لا يخفى، قال محمد بن عبد الحكم: وقد كان فيما مضى يجيزون الشهادة على طابع القاضي، ورأى مالك ألا تجوز. ووجه القول بالجواز: أن ذلك أمر دعت إليه الضرورة لاندراس البينات، وانقراضها. فالقول بمنعها ذريعة إلى إبطال الحقوق وإتلاف أموال الناس. والفرق بين الشهادة على خط الشاهد، والنقل عنه: أن الشاهد إذا كتب شهادته لا يضعها إلا بعد أن يحققها وينزلها على حسب ما هي عليه لعلمه أنها تستنقل عنه، بخلاف النقل عنه، فإنه إذا لم يأذن في النقل عنه: فلا تنقل عنه. فإن سمعها عنه الشاهد لكونه لا يكاد يتحفظ في إيرادها وحكايتها على وجهها، فخيف أن ينقلها عنه الناقل على خلاف ما هي عليه، فلذلك منع النقل إلا بإذن المنقول عنه، فإذا قلنا: تجوز الشهادة على خط الشاهد، فإنما تجوز في الأموال وحيث يقضي باليمين مع الشاهد، وبه قال مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ. وأما الوجه الثالث: وهو الشهادة على خط المقرّ على نفسه؛ مثل أن يكتب على نفسه ذكر حق بخط نفسه، ثم جحد فيشهد رجلان أن ذلك

خطه، فهل تجوز هذه الشهادة ويؤاخذ بها المشهود عليه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز. والآخر: المنع. والقولان حكاهما ابن الجلاب عن مالك، وقال ابن المواز: لم يختلف قول مالك في الشهادة على خط المقرّ، قال: وهي بمنزلة أن يسمع المقر بنص إقراره الشهادة، وإن لم يأذن في ذلك. والخلاف عن مالك كما حكيناه، وقد قدمنا قبل هذا أن قول ابن المواز لا يقبل في حكايته الإجماع في المذهب، وربما حكى الإجماع، والخلاف فيها منصوص، وهذا مجرب عنه كثير، والصحيح من ذلك أن الشهادة على خط المقر على نفسه جائزة لاتفاقهم أن الخط رسم يدرك بحاسة البصر، ووجد البصر بيمين بين الخطين والشخصين مع جواز اشتباه ذلك فلما جوزها في الشخص مع الأشباه جازت في الخط، فإذا قلنا بجواز الشهادة على خط المقر، فهل يحلف المشهود له مع شهادة الشاهدين أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يحكم له بمجرد الشهادة دون يمين؛ لأنها شهادة كاملة تتناول الإقرار كالشهادة على لفظ المقر. والثاني: أنه لا يحكم له حتى يحلف، فيستحق حقه: والقولان حكاهما ابن الجلاب عن مالك. وسبب الخلاف: هل هي شهادة كاملة فلا تحتاج إلى اليمين كما لو شهد إقراره، أو إنما هي بعض الشهادة كالنقل. فإن شهد على خط المقر شاهد واحد، هل يحكم له بشهادته مع يمينه

أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يحكم له بالشاهد مع يمينه. والثاني: أنه لا يحكم له بذلك، ولا يستحق بشهادته شيئًا، والقولان حكاهما ابن الجلاب. ووجه القول الأول: أنها شهادة على ما يثبت به إقرار المقر بالمال، فأشبهت الشهادة على لفظه. ووجه الرواية الثانية: أنها شهادة لا تتناول الإقرار، وإنما تتناول معنى يجري إليه كالشهادة على الوكالة في المال، والشهادة على الشهادة.

المسألة السابعة إذا قضى القاضي بقضية فيها اختلاف بين العلماء ثم تبين له أن الحق في غير ما قضى به

المسألة السابعة إذا قضى القاضي بقضية فيها اختلاف بين العلماء ثم تبين له أن الحق في غير ما قضى به فلا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقضي بما اختلف فيه المذهب. والثاني: أن يقضي بما اختلف فيه مذاهب العلماء. فأما الوجه الأول: إذا قضى بما اختلف فيه المذهب: فلا يخلو ذلك الخلاف من أن يكون اختلافًا شاذًا، أو يكون اختلافًا مشهورًا. فإن كان اختلافًا شاذًا يخالف ظاهر الكتاب والسنة، كاختلافهم في إيقاع ثلاث تطليقات في كلمة واحدة، وكاختلافهم في تحليل المطلقة بالعقد دون الدخول، أو كاختلافهم في بيع أمّ الولد في الدين، وغير ذلك من الخلاف الشاذ، فهذا لا خلاف أن القاضي نفسه ينقضه، وهل ينقضه غيره ممن يلي بعده من القضاة أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين: أحدهما: أنه يجوز لمن يأتي بعده أن ينقضه، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه لا يجوز لمن يأتي بعده أن ينقضه؛ لأنه حكم قد مضى على مذهب من يرى ذلك فيعتقده، وهو ظاهر "المدونة" من قوله: و"إنما الذي لا يرجع فيما قضى به القضاة مما اختلف الناس فيه على رواية الضم على ما لم يسم فاعله؛ لأنه اعتبر الخلاف على الجملة؛ فإن كان

اختلافًا مشهورًا: فلا خلاف فيما يأتي بعده أنه لا يجوز أن ينقضه، ولا التعرض لأقضيته. وهل يجوز له هو أن ينقض قضاء نفسه أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال، كلها متأولة على "المدونة": أحدها: أنه ينقض قضاءه، ويرجع إلى ما رأى من الصواب ما دام في ولايته من غير اعتبار بحاله حين الحكم من أن يكون ذلك منه وهمًا أو غلطًا أو نسيانًا، أو انتقالًا من اجتهاد إلى اجتهاد، وهو قول مطرف، وعبد الملك، وعليه أكثر أصحاب مالك، وهو المشهور، وهو ظاهر "المدونة" على رواية فتح الياء في "كتاب الأقضية" من "المدونة"، على رواية ضم الياء في "يُرجع"، ووقع له في "كتاب الرجم" ما هو أبين من هذا في قوله: "وإنما لا يرجع فيما حكم به غيره"، وعلى هذا اللفظ اختصرها أبو محمد بن أبي زيد، وحمديس وغيرهما. والثاني: أنه لا يرجع في شيء من حكمه مما اختلف فيه إلا في الجور البين الذي ينقضه من جاء بعده، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وهو ظاهر المدونة على رواية فتح الياء في "يرجع". والثالث: التفصيل بين ما حكم به وهمًا وغلطًا، وبين ما انتقل فيه اجتهاده؛ فأما ما حكم به وهمًا، وغلطًا، ونسيانًا: فإنه يرجع فيه وينقضه، وما حكم فيه بانتقال من اجتهاد إلى اجتهاد: فإنه لا ينقضه وهو لا ينقضه، وهو مذهب سحنون، وحكى عن عبد الملك مثله، وهو أظهر وأقرب للصواب؛ إذ لو سوغ ما تأولوه أولًا باجتهاد وغلبة ظن. وأما الوجه الثاني: إذا قضى بما اختلف فيه المذهب: فلا يخلو من أن يكون من أهل النظر والاجتهاد، أو يكون من أهل التقليد.

فإن كان من أهل النظر والاجتهاد، فقضى بما يراه من قضائه، ثم تبين له بعد ذلك ما هو أحسن منه، فهل ينقض قضاءه أم لا؟ على قولين قائمين من "الكتاب". وسبب الخلاف: اختلافهم في تصويب المجتهدين، هل كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد؟ فمن رأى أن كل مجتهد مصيب، قال: لا ينقض حكم نفسه لظهور اجتهاد آخر. ومن رأى أن المصيب واحد قال: ينقض حكم نفسه [لظهور] (¬1) الحق في واحد من أقاويل المجتهدين. وإن كان من أهل التقليد: فلا يجوز له أن ينقض ما حكم فيه لتقليد بانتقال إلى تقليد آخر، قولًا واحدًا. وأما الوجه الثالث: إذا حكم بما خالف فيه مذاهب العلماء، فإن كانت القضية قضية اجتهادية فقضى بها بما يغلب على ظنه: فلا خلاف أن حكمه نافذ، ولا ينقضه، لا هو ولا غيره -وافق ذلك بعض المذاهب أو خالفها- لأنه من آحاد المجتهدين. فإن كان فيها نص من كتاب أو سنة، أو كانت قضية اجتهادية، فقضى فيها بالحدس والتخمين: فلا خلاف أنه يرجع في حكم نفسه، ولمن يتولاه بعد أن ينقضه، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الثامنة في القاضي هل يحكم بعلمه وما أقر به عنده دون بينة تشهد عليه

المسألة الثامنة في القاضي هل يحكم بعلمه وما أقر به عنده دون بينة تشهد عليه وذلك على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقر بذلك عنده قبل أن يستقضي. والثاني: أن يقر بذلك عنده بعد أن يستقضي في غير مجلس حكمه. والثالث: أن يقر بين يديه في مجلس حكمه. فأما القسم الأول: إذا أقر عنده قبل أن يستقضي: فلا خلاف بين أحد من أهل العلم أنه لا يجوز له أن يحكم بذلك الإقرار، فإن فعل: رد ذلك الحكم، وفسخه هو، أو من يأتي بعده، وهكذا حكى القاضي أبو الوليد ابن رشد في كتاب "البيان والتحصيل". وأما الوجه الثاني: إذا أقر عنده في غير مجلس حكمه بعد أن استقضى: فلا خلاف في المذهب أنه لا يجوز له أن يحكم عليه بذلك الإقرار دون بينة تشهد، وأهل العراق في ذلك يفرقون بين الحدود والإقرار؛ فيحكم عليه بعلمه في الحقوق دون الحدود، والشافعي يجوز ذلك على الإطلاق. فإن قضى عليه بذلك الإقرار هل ينقضي حكمه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن له أن ينقضه ما لم يعزل، وهو قول ابن القصار، وهو مشهور المذهب.

والثاني: أنه حكم ماض، ولا ينقضه هو ولا غيره، وهذا القول حكاه القاضي أبو الحسن بن القصار عن بعض الأصحاب، واتفقوا أنه لا ينقض بعده للخلاف في ذلك. وأما الوجه الثالث: إذا أقرَّ به عنده في مجلس حكمه ثم جحده، ولا بينة عنده، فهذا الوجه اختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أنه يقضي عليه بما أقرّ به عنده، وهو قول مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وهو دليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فأقضي له على نحو ما أسمع منه" (¬1)، ولم يقل ما ثبت عندي. والثاني: أنه لا يقضي عليه بما أقرَّ به إذا جحد ذلك، وهو ظاهر "المدونة"، وهو المشهور، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) تقدم.

المسألة التاسعة في الشاهد إذا طلب الإقالة من شهادته

المسألة التاسعة في الشاهد إذا طلب الإقالة من شهادته ولا يخلو ذلك من وجهين: إما أن يكون ذلك قبل الحكم، أو بعده. فإن كان ذلك قبل الحكم بشهادته، فجاء يستقيل منها: فلا يخلو من أن يدَّعي شبهة، أو لا يدَّعيها. فإن لم يدَّع شبهة ولا وهمًا: فإن شهادته مردودة في هذه وفيما يستقبل، قولًا واحدًا في المذهب؛ لأنه إذا لم يدَّع أنه أشبه عليه، أو ادّعاه إلا أنه لم يتبين لدعواه وجه: فقد تبين كذبه، وظهر أنه شاهد زور، فهل يؤدب أم لا؟ فالمذهب على قولين من "المدونة": أحدهما: أنه يؤدَّب، وهو قوله في "كتاب القطع في السرقة" من "المدونة"، ولو أُدِّب لكان لذلك أهلًا. والثاني: أنه لا يؤدب، وهو قول سحنون؛ لأن الراجع عن الشهادة قبل الحكم بها لا يؤدب؛ لئلَّا يمتنع من يشهد على باطل من الرجوع، وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب الأقضية" من "المدونة". فإن ادَّعى وهمًا وأنه قد شبه عليه: فلا يخلو من أن يكون مبرزًا في العدالة، أو غير مبرز. فإن كان مبرزًا في العدالة: فالقول قوله في أنه شبّه عليه، فتقبل شهادته فيما يستقبل إلا أن يتبين كذبة. فإن كان غير مبرز: فهل يصدق في الوهم والتشبيه أم لا؟

فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يصدق ويقبل قوله، وإن لم يكن مبرزًا، وهو ظاهر قوله في "كتاب الأقضية" من "المدونة". والثاني: أنه لا يصدق، ولا يقبل قوله: أنه شُبِّه عليه إلا أن يكون مبرزًا، وهو ظاهر قوله في "كتاب القطع في السرقة" من "المدونة"، وبه قال مطرف وابن الماجشون فيما حكاه ابن حبيب، وهو مذهب. فأما الوجه الثاني: إذا رجع الشاهد عن شهادته بعد الحكم بها: فلا يخلو من أن يكون قد شبه عليه أم لا. فإن شبه عليه: فإن الحكم لا يرد، واختلف هل يضمن أم لا؟ وهل ترد شهادته في المستقبل أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يضمن ما أتلف بشهادته، وإن شهادته في المستقبل لا تجوز، وهو قول مالك في "كتاب القطع في السرقة" في الغرم، وهو ظاهر قوله في "كتاب الأقضية" في قبول الشهادة، حيث قال: إذا طب الإقالة بعد الحكم بشهادته، ولا يقبله، إلا أنه كان يقول: لا تجوز شهادته فيما يستقبل، وهذا تأويل بعض المتأخرين على "المدونة"، وعلى "العتبية"؛ لأنه قال فيها أيضًا: وإن رجع بعد الحكم فلا يقبل منه، فقيل: إنه لا يقبل منه في إسقاط الغرم عنه؛ بل يغرم وإن شبه عليه كما قال في "كتاب السرقة". وقيل: معناه أن شهادته لا تقبل فيما يستقبل وإن شبه عليه، وقيل: غير ذلك. وهذا كله حكاه القاضي أبو الوليد بن رشد في "البيان والتحصيل".

والثاني: أنه لا يغرم إذا شبه عليه، وإن شهادته مقبولة فيما يستقبل وهو قول سحنون في قبول الشهادة في المسألة، وتأويل على "المدونة" في إسقاط الغرم عنه إن كان مبرزًا في العدالة على الاتفاق، أو كان غير مبرز على الخلاف. فإن لم يشبه عليه، وتبين كذبه: فإنه يغرم ما أتلف بشهادته، ولا تقبل له شهادة في المستقبل، قولًا واحدًا. وهل يؤدب أم لا؟ قولان. والحكم نافذ، ولا يؤدب، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب القطع في السرقة"، وفي "كتاب الرجم" من "المدونة". تم الكتاب والحمد لله رب العالمين، ومسائل الأقضية قد تداخلت مع مسائل الشهادات؛ لأن "كتاب الأقضية" من "المختلطة" ولم يدونها سحنون مع جملة كتب حتى مات رحمة الله عليه، وهي كتب معلومة لا خفاء بها على من تعنى فدرس المدونة، والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد نبيه وآله.

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها عشر مسائل: المسألة الأولى في شهادة ذوي القربى بعضهم على بعض أما شهادة الأب لابنه، والابن لأبيه، والابن لأمه، والأم لابنها: فقد اختلف العلماء في جوازها؛ فذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أنها لا تجوز جملة، بلا تفصيل، ويدخل في ذلك الجد والجدة من قبل الأم والأب. وذهب داود وشريح، وأبو ثور إلى أن شهادة بعضهم لبعض جائزة؛ وعمدتهم: التمسك بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (¬1)، والأمر بالشيء يقتضي إجراء المأمور به إلا ما خصصه الإجماع من شهادة المرء لنفسه أنها لا تجوز، وعمدتهم من طريق المعنى أن قالوا رد الشهادة بالجعلة إنما هو لموضع اتهام الكذب، وهذه التهمة إنما أعملها الشرع في الفاسق. ومعنى إعمالها في العادل؛ إذ لا تجتمع العدالة والتهمة، وعمدة الجمهور: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين (¬2) ولا جار إلى نفسه" (¬3)، والتهمة أصل يؤثر في إسقاط الشهادة على الجملة، وهي فيما بين الأبوة والبنوة في الابن إذا شهد لأحد الأبوين ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (135). (¬2) أي: المتهم في دينه. (¬3) أخرجه مالك (1403)، والبيهقي في الكبري (20650) بلاغًا.

على الآخر: على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها جائزة في القليل والكثير إذا كان الابن عدلًا، وخرج من ولاية الأب، وهو قول ابن نافع في "المجموعة" إلا أن يكون الأب قد تزوج على أمه، فيتهم الابن حينئذ أن يكون غضب لأمه. والثاني: أن الشهادة لا تجوز -لا في القليل ولا في الكثير- وهو ظاهر قول مالك في "المدونة"؛ لأن التهمة قائمة من أداء الجهتين. والثالث: التفصيل بين اليسير والكثير؛ فتجوز شهادة بعضهم على بعض في اليسير دون الكثير، وهي رواية أشهب عن مالك في "العتبية" و"الموازية" و"المجموعة"، قال: والابن [عتاب أباه] (¬1) وربما ضربه. وأما شهادة الأب لأحد ابنيه على الآخر: فقد اختلف [أنها] (¬2) المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها جائزة جملة بلا تفصيل. والثاني: أنها لا تجوز جملة بلا تفصيل، ولا على حال من الأحوال، وإن كان لكبير على كبير، والقولان لسحنون في "المجموعة". والقول الثالث: بالتفصيل بين أن يشهد لكبير على صغير، أو لصغير على كبير؛ فإن شهد لكبير على صغير، أو لسفيه على كبير رشيد، ولا يجزيه، وهي رواية عيسى بن القاسم في "كتاب ابن سحنون". وسبب الخلاف: قوة التهمة وضعفها. وأما شهادة أحد الزوجين لصاحبه: فقد اختلف [فيها] (¬3) العلماء على ثلاثة مذاهب: ¬

_ (¬1) هكذا بالأصل. (¬2) ........... (¬3) في أ: فيه.

أحدها: [أنها] (¬1) لا تجوز جملة بلا تفصيل، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: أنها جائزة إطلاقًا، وبه قال الشافعي، وأبو ثور، والحسن. والثالث: أنها تقبل شهادة الزوج لزوجه، ولا تقبل شهادتها له، وبه قال النخعي، وابن أبي ليلى. وأما شهادة الأخ لأخيه فقد قال الأوزاعي: لا تجوز جملة بلا تفصيل، وأما مالك: فقد اختلف فيه مذهبه في جوازها على خمسة أقوال: أحدها: أنها جائزة جملة بلا تفصيل إذا كان عدلًا، وهو قول مالك في "كتاب الشهادات". والثاني: أنها لا تجوز جملة بلا تفصيل، وهذا القول وقع في بعض روايات "المدونة" في "كتاب الشفعة": أيجوز أن يشهد في وكالة أبي أو ابني، وزاد: أو أخي؟ فقال: لا يجوز إن كان هو الوكيل، وإن كان أبو عمران قال: معناه غير مبرز. والثالث: التفصيل بين أن يكون مبرزًا، أو غير مبرز، فإن كان مبرزًا: جازت شهادته له، وإن كان غير مبرز: لم تجز شهادته له، وهو ظاهر قول مالك في "المدونة" في أول "كتاب الشهادات". والرابع: التفصيل بين اليسير والكثير؛ فتجوز شهادته له في القليل دون الكثير، وهو قول ابن كنانة في "كتاب ابن سحنون". والقول الخامس: أنه تجوز شهادته له في الحقوق دون الحدود؛ مثل القصاص والقربة بما ليس مما تقع فيه الحمية، والتهمة، وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، و"الموازية"، والأصل في ذلك ما قدمناه من قوة التهمة وضعفها، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: أنه.

المسألة الثانية في شهادة النساء

المسألة الثانية في شهادة النساء ولا يخلو ذلك من وجهين: إما أن تكن فيما يطلع عليه الرجال، أو تكون فيما لا يطلع عليه الرجال. فإن كان فيما يطلع عليه الرجال: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون مالًا على الخلوص. والثاني: ألا يكون في نفسه مالًا إلا أن يتوصل [به] (¬1) إلى المال. والثالث: ما ليس بمال، ولا هو وسيلة إلى المال كالولادة. فأما الوجه الأول: وهو أن يشهدن على ما هو مال على الخلوص: فلا خلاف بين العلماء في جواز شهادتهن في ذلك، فإن شهد معهن في ذلك رجل واحد: كانت شهادة مستقلة، وإن انفردن: فإن المشهود له يحلف مع شهادتهن ولا يجوز في ذلك أقل من امرأتين. وأما الوجه الثاني: وهو أن يشهدن على ما ليس بمال إلا أنه يؤول إلى المال؛ كشهادتهن على الولادة على المال أو على الوصية بالنظر في المال: فالمذهب في جوازها على قولين منصوصين في المدونة: أحدهما: جواز شهادتهن في ذلك كجوازها على المال الخاص، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، ورواه ابن حبيب عن عبد الملك بن الماجشون، وقال عبد الملك: ما علمت أن مالكًا جوز شهادتهن على الوكالة، ولا في نقل الشهادة، ولا في إسناد الوصايا. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ووجه قول مالك: أن شهادته مقصودها المال فجازت كالبيع. ووجه قول أشهب: ما احتج به سحنون من أني لو أجزت شهادة امرأتين، ورجل في الوكالة لأجزت فيه شاهدًا ويمينًا. وأما الوجه الثالث: وهو شهادتهن على ما ليس بمال مما لا يطلع عليه الرجال كالحيض، والحمل، والولادة، والاستهلال , وعيوب الفرج: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب في جواز شهادتهن في ذلك, ولا يجزيء فيه أقل من امرأتين، وشهادتهن في ذلك جائزة دون يمين. وأما شهادتهن على الرضاع: إذا شهد امرأتان على رضاع الصبى, هل تقع المحرمية بشهادتهما أم يقارنها الفشور والعرف؟ فذلك على قولين، وقد قدمنا الكلام في الشهادة على الرضاع في مسألة مفردة. وهل من شرط جواز شهادتهن على الولادة بقاء بدن الصبى, أو ليس ذلك من شروطه؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة" في "كتاب الشهادات" وغيره: أحدهما: جواز الشهادة إطلاقًا -بقى البدن أو فات- وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن شهادتهما إنما تجوز على ذلك إذا بقى البدن أو فات, وهو قول حتى يشهد عليه الرجال بالنظر إليه ميتًا؛ لأن البدن لا يفوت، والاستهلال يفوت، وهو قول سحنون في "المدونة", و"العتبية". وأما شهادتهما على أنه ذكر، فهل تقبل شهادتهما أو لابد من وقوف الرجال عليه؟

فالمذهب على قولين: أحدهما: أن شهادتهما في ذلك كافية، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه لابد من وقوف الرجال على جثته؛ لأن شهادة النساء إنما تجوز للضرورة، ولا ضرورة في اطلاع الرجال على الجثة، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في "العتبية"، قال: لأن ذلك يصير نسبًا قبل أن يصير مالًا. وعلى القول بأن شهادتهن على ذلك جائزة من غير حاجة إلى اطلاع الرجال، هل يحلف مع شهادتهن أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن شهادتهن جائزة مستقلة دون يمين، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وغيرها. والثاني: أنه يحلف مع شهادتهما؛ لأنها شهادة على مال، وهي رواية يحيى بن يحيى، وعيسى عن ابن القاسم في "العتبية"، و"الموازية". وعلى القول بأن شهادتهن لا تجوز على أنه ذكر، وقبلت شهادتهن على الولادة والاستهلال، فبماذا يرث ويورث؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يرث ويورث بأدنى المرتبتين، وهو قول سحنون في "كتاب ابنه" وأشهب في "الموازية". والثاني: أنها ترث وتورث على أنها أنثى، كما قال أشهب وسحنون، إلا أن تكون الولادة بموضع لا رجال فيه ينظرون إلى الجسد، والجسد لا يبقى، ويخاف عليه إن أخر دفنه إلى وجود الرجال، فإنه يرث ويورث على أنه ذكر كما قال ابن القاسم، وهو قول سحنون.

والثالث: أنه إن فات بذلك في طول مكثه، ولا يمكن إخراجه لتغيره, فينظر فإن كان فضل المال يرجع إلى بيت المال والعشير البعيد: جازت شهادتهما أو ورث بالذكورية كما قال ابن القاسم. وإن كان يرجع إلى بعض الورثة الأقرباء: ورث بالأنوثة كما قال أشهب، وهو قول أصبغ في "الموازية". فلو ولدت ثم ماتت هي والولد في ساعة واحدة, فتشهد النساء أن الأم ماتت قبله، أو ورثة الولد يحلفون على ذلك ويستحقون ما يرث عن أمه؛ لأنه مال، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". واختلف إذا شهد رجل وامرأة على استهلال الصبى في جواز شهادتهما على قولين: أحدهما: أنها لا تجوز، وهو قول عبد الملك, وابن عبد الحكم, وأصبغ. ووجهه: أن الضرر قد ارتفع بحضور الرجال, فتسقط شهادة النساء, ولا تتم الشهادة برجل واحد. والثاني: أن شهادتهما جائزة، وهي أقوى من شهادة امرأتين, وهو قول ابن حبيب؛ قال: وقد سمعته ممن أرضى من أهل العلم ,وهو أحب إليَّ، وذلك أن ابن وهب روى أن أبا بكر، وعمر, وعليًا, ومروان رضي الله عنهم أجازوا شهادة المرأة وحدها، وروى عن عمر رضي الله عنه ورَّث صبيًا على أنه استهل ثم مات هو وأمه بشهادة القابلة, فإذا أضيف إليها شهادة رجل عدل كانت أحرى، والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة في شهادة الصبيان في القتل والجراح والحقوق

المسألة الثالثة في شهادة الصبيان في القتل والجراح والحقوق وتلخيص القول في المسألة أن تقول: لا خلاف في المذهب أن شهادة الصبيان الذكور جائزة في الجراح، ولا خلاف أن شهادتهم في الحقوق غير جائزة. وفي شهادتهم في القتل قولان منصوصان في "الكتاب": أحدهما: جوازها، وهو قول ابن القاسم. والثاني: منعها، وهو قول أشهب. وهل بينهم قسامة إذا شهدوا أن بعضهم جرح بعضًا ثم ثوى في جرحه فمات منه؟ على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أنه لا قسامة فيهم، وهو قول مالك في "الكتاب". والثاني: أن القسامة فيهم يحلف؛ ولأنه خمسين يمينًا لمن جرحه مات، ويستحقون الدية على العاقلة، وهو قول ابن نافع في "الكتاب". واختلف في شهادة الإناث منهم، هل تجوز في القتل والجراح على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنها جائزة في القتل والجراح، وهو ظاهر قول المغيرة في "المدونة" ونص قوله في "العتبية". والثاني: أن شهادتهن لا تجوز، لا في القتل، ولا في الجراح، وهو قول أشهب في "المدونة".

والثالث: أنها تجوز في الجراح دون القتل، وهو قول ابن القاسم في آخر "كتاب الديات" في بعض روايات "المدونة" خلاف ماله في "كتاب الشهادة" والقولان منصوصان لابن القاسم في "المجموعة". وعلى القول بأن شهادة الإناث جائزة -إما في القتل والجراح على قول، وإما في الجراح خاصة- هل يكتفي في ذلك بشهادتهن، أو لابد من أن يشهد معهن غلام؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن شهادتهن في ذلك مستقلة جائزة، وإن لم يكن معهن غلام، وإن شهادة اثنتين فما فوقهما جائزة، وهو ظاهر قول المغيرة، وابن القاسم في "كتاب الديات". والثاني: أنه لابد أن يشهد معهن غلام، فإن شهد بذلك غلام وجاريتان: جازت الشهادة. فإن شهد غلام وجارية، وانفرد الجواري بالشهادة: لم تجز، وهي رواية معن بن عيسى، ومطرف عن مالك، وبه قال عبد الملك. وعلى القول بأن شهادة الصبيان جائزة على القتل، وهل من شرطها شهادة العدول على رواية البدن أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: جواز شهادتهم من غير حاجة إلى رؤية البدن، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنها لا تجوز إلا بشرط وقوف العدول على البدن، وهو قول أكثر أصحاب مالك على ما نقله القاضي أبو الوليد الباجي، وهو قول سحنون في المدونة في شهادة النساء على الاستهلال، فإذا ثبت ذلك، فإن

شهادتهم جائزة إذا كانوا مسلمين أحرارًا ما لم يتفرقوا أو ينجبوا أو يدخل بينهم كبير، فإذا تفرقوا لم تجز شهادتهم بعد ذلك إلا أن يشهد العدول على شهادتهم قبل الافتراق: فتجوز، ولا ينظر إلى ما أحدثوه من الانتقال بعد ذلك؛ لأنها شهادة؛ جوزت لأجل الضرورة، فتقبل قبل التنجيب والافتراق؛ لأن الصبيان ليس لهم رأي، ولا عندهم عدالة تصدهم من الانتقال من قول إلى قول فكان الموجه الحكم بأول قولهم، والأخذ بما ضبط منه قبل تفرقهم وتنجبهم، والتنجب تعلم الخبث؛ وهو أن يدخل بينهم كبير، أو كبار على وجه يمكنهم أن يلقنوهم الكذب ويصدوهم عما يحصل عندهم من يقين، أو يزينوا لهم الزيادة فيها والنقصان منها، فإذا كان ذلك: لم تقبل وبطلت، ولا تقبل إلا على الوجه الذي قدمناه. وقولنا: أن يدخل بينهم كبير، فإذا دخل بينهم كبير، فلا يخلو من أن يكون شاهدًا، أو مشهودًا له، أو مشهودًا عليه. فإن كان شاهدًا: فلا يخلو من أن يكون عدلًا، أو غير عدل. فإن كان عدلًا: فلا خلاف أن شهادة الصبيان ساقطة لوجود الكبير العدل. فإن كان ليس بعدل، فهل يؤثر حضوره في إسقاط شهادة الصبيان أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن شهادتهم جائزة مع حضوره؛ لأن وجوده وعدمه سيان، وهو قول ابن الماجشون، وأصبغ، وروى ابن سحنون عن أبيه مثله كما لو كان عبدًا أو نصرانيًا. والثانى: أن شهادتهم لا تجوز لحضور الكبير، وإن كان ليس بعدل، وهو قول سحنون في "كتاب ابنه" أيضًا.

وكذلك إن كان مشهودًا عليه: فلا تجوز شهادة الصبيان عليه باتفاق المذهب. فإن كان مشهودًا له: فلا يخلو من أن يشهدوا له بالجراح، أو بالقتل، فإن شهدوا له بالجراح: فلا خلاف في المذهب أيضًا أن شهادتهم لا تجوز، سواء شهدوا له على صغير أو كبير. فإن شهدوا له على القتل: فلا يخلو من أن يموت من ساعته، أو عاش حتى يعرف ما هو فيه. فإن مات من ساعته؛ مثل أن يدفعه أحد من الصبيان من علو عظيم لا يكاد يعيش من سقط منه، أو يلقيه من علو في بحر يغرق فيه: فإن شهادتهم جائزة له، وهو قول ابن المواز. فإن عاش بعد ذلك حتى يعرف ما هو فيه ثم مات: فإن شهادتهم له لا تجوز، قولًا واحدًا مخافة أن يكون قد لقنهم الشهادة، ويخدعهم في عقولهم حتى يشهدوا له. والدليل على جواز شهادة الصبيان على الحالة الموصوفة: الأثر، والنظر؛ فأما الأثر فما رواه مالك (¬1) رضي الله عنه عن عروة أن عبد الله بن الزبير كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح، وهو قول أهل المدينة، وبه قال من الصحابة: علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ومنع من ذلك: الشافعي، وأبو حنيفة، والثوري، وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه فقال مالك: معناه عندنا: في شهادتهم على الكبار، وروى وكيع عن ابن ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1407)، والبيهقي في الكبرى (20399).

جريج عن أبي مُليكة أنه قال: ما رأيت القضاة أخذت إلا بقول ابن الزبير. وأما النظر: فإن القواعد أسست على أن الدماء يجب الاحتياط لها، والاحتياط على صيناتها في أهبها، وجرت عادة الصبيان بالانفراد بالملاعنة حيث لا يخالطهم كبير، ويجري بينهم من اللعب، والترامي ما ربما أن يسبب القتل والجراح، فلو لم يقبل بينهم إلا كبير، وأهل العدل في الشهادة، لأدَّى ذلك إلى هدر دمائهم وجراحهم، فقبلت شهادتهم على الوجه الذي يقع على الصحة في غالب الحال، على ما بيناه. ولا خلاف بين من قال بجواز شهادتهم أن العدالة غير معتبرة في شهادتهم؛ لأن عارض الطفولية مناف لوجود العدالة. واختلف في اعتبار العداوة والحرابة بينهم، هل تعتبر في شهادتهم كما تعتبر في شهادة الكبار؟ ففي اعتبار العداوة بينهم قولان: أحدهما: اعتبارها كاعتبارها في شهادة الكبار، وهو قول ابن القاسم في "الموازية". والثاني: أنها لا تعتبر بعداوتهم وهو قول عبد الملك، وابن المواز، قال سحنون: لأن عداوتهم لا أصل لها. وفي اعتبار القرابة أيضًا، قولان: أحدهما: أنه لا ينظر في شهادتهم إلى قرابة كما لا ينظر إلى الجرحة والعدالة، وهو قول ابن المواز. والثاني: أن شهادتهم تسقط في القرابة كما تسقط بها في الكبار، وهو قول عبد الملك في "المجموعة". فإن اختلفوا في شهادة فشهد اثنان معهم أن فلانًا، وقال آخرون: بل شجه فلان: فإن شهادتهم باطلة، وهو قول مالك في "المجموعة"،

و"الموازية"، و"كتاب ابن سحنون": إن شهادتهم إنما تقبل ما لم يكن فيها تهاتر. فإن شهد صبيان أن صبيًا قتل صبيًا، وشهد آخران أنه لم يقتله، وإنما أصابته دابة: قضى بشهادة الذين شهدوا بالقتل، وهو قول ابن الماجشون في "المجموعة"، و"العتبية"، ووجه ذلك: لو كانوا كبارًا عدولًا: يحكم بشهادة شاهدي القتل، وكذلك هذان؛ لأن من أثبت الحكم أولى ممن نفى. ولو كانوا ستة صبيان لعبوا في البحر، فغرق واحد منهم، فشهد ثلاثة على اثنين أنهما غرَّقاه، وشهد الاثنين على الثلاثة أنهم غرقوه، هل تجوز شهادتهم، أو تسقط؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن العقل على الخمسة جميعًا؛ لأن شهادتهم مختلفة، وهي رواية ابن وهب عن مالك في "المجموعة"، و"الموازية". والثاني: أن شهادتهم لا تجوز لأجل اختلافهم وتسقط، وهو قول ابن المواز، وحكى عن ابن حبيب ومطرف مثله. وقول مالك أصح؛ لأن اختلاف شهادتهم لا يمنع قبولها, ولاسيما على القول بأن اختلاف الشهادة وتقابلها لا يقتضي التأثير [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الرابعة في الشاهد يشهد في شيء له فيه حق ونصيب

المسألة الرابعة في الشاهد يشهد في شيء له فيه حق ونصيب ولا تخلو شهادته من وجهين: إما أن يكون في ذكر حق، أو على وصية. فإن كانت في ذكر حق له فيه نصيب: فلا يخلو من أن يشهد معه شاهد آخر، أو انفرد بالشهادة. فإن شهد معه شاهد آخر: فإن الأجنبي يأخذ حقه بغير يمين، ولا يأخذ هو حقه إلا بيمين، وسواء كان ماله فيه قليل أو كثير. فإن انفرد بالشهادة: فلا يخلو ما شهد به لنفسه من أن يكون يسيرًا، أو كثيرًا. فإن كان كثيرًا: فلا خلاف في المذهب أن شهادته باطلة في حق نفسه، وهل تبطل في حق غيره أو لا؟. قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنها باطلة، وهو نص "المدونة"؛ إذ لا يقبل بعض الشهادة ويرد بعضها. والثاني: أنها جائزة في حق الأجنبي، وهو قائم من مسألة شهادة رجل وامرأتين على رجل بالسرقة حيث قال في الكتاب: يغرم قيمة السرقة؛ لأنها مال، ولا يقطع لأن شهادة النساء في الحدود مردودة، فقد قبل في هذه المسألة بعض الشهادة ورد بعضها. فإن كان الذي فيه يسير: فالمذهب فيه على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة":

أحدها: أنها باطلة في حق الشاهد والأجنبي، وهو ظاهر "المدونة" في التعليل؛ إذ لا يقبل بعض الشهادة ويرد بعضها، وهو مشهور المذهب. والثاني: أن الشهادة جائزة له وللأجنبي، فيأخذ الأجنبي حقه بيمينه ويأخذ الشاهد حقه بغير يمين لتناهيته وتبعيته لحق الأجنبي، وهو ظاهر "المدونة" أيضًا من مسألة الوصية، وهو قوله في "كتاب ابن المواز". والثالث: أنها جائزة في حق الأجنبي، ولا تجوز في حق الشاهد على ما تأول على المدونة من جواز تبعيض الشهادة. وأما الوجه الثاني: إذا شهد على وصية قد أوصى له فيها بشيء: فعلى التقسيم الذي قدمناه لأنك تقول: لا يخلو من أن يشهد معه غيره، أو ينفرد بالشهادة. فإن شهد معه شاهد آخر: فإن الأجنبي يأخذ حقه بغير يمين، قولًا واحدًا، وفي حق الشاهد التفصيل بين اليسير والكثير؛ فإن كان كثيرًا: أخذه بيمينه قولًا واحدًا، وإن كان يسيرًا هل يأخذ بيمين أو بغير يمين؟ قولان يتأولان على المدونة، والتأويل ظاهر. فإن انفرد بالشهادة: فلا يخلو ما شهد به في الوصية من أن يكون يسيرًا، أو كثيرًا. فإن كان كثيرًا: فالشهادة باطلة في حق نفسه، قولًا واحدًا، وهل تبطل في حق الأجنبي أم لا؟ قولان قائمان من "المدونة" منصوصان في المذهب المشهور: جوازها ونفوذها في حق الأجنبي مع يمينه؛ وفاء ونفاذًا لوصية الموصى وتتميمًا لغرضه، ولا يبطل عليه مراده مع عدم القدرة على استدراكه. فإن كان يسيرًا: ففي المذهب ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة":

أحدها: أن الشهادة جائزة له وللأجنبي، ويأخذ الأجنبي حقه بيمينه، ويأخذ الشاهد بغير يمين؛ لأن حقه في حين التبع، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب" وبه قال مطرف. والثاني: أنه لا يجوز له ولا لغيره، وتبطل في الجميع؛ إذ لا يقبل بعض الشهادة، ويرد بعضها وهي رواية ابن وهب في "الكتاب"، وبه قال ابن عبد الحكم. والثالث: أنها جائزة في حق الأجنبي، ويحلف ويأخذ حقه، وتبطل في حق الشاهد للتهمة اللاحقة به، وبه قال عبد الملك بن الماجشون، وهو ظاهر "المدونة" من مسألة شهادة رجل وامرأتين على السرقة التي قبل فيها بعض الشهادة ورد بعضها، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الخامسة في الشهادة على السماع

المسألة الخامسة في الشهادة على السماع وينبغي أن تعلم أن تحمل الشهادة على وجهين: أحدهما: تحمل نقلها على الأصل. والثاني: تحمل نقلها عن الشهود. فأما تحمل نقلها من الأصل: فعلى ضربين: أحدهما: أن يسمع لفظ الذي عليه الحق بالشهادة له، أو إقراره. والثاني: أن يشهد على ما تقيد في "الكتاب". فأما الضرب الأول: وهو أن يسمع ما يشهد به، فإذا وعاه: جاز له أن يشهد به، ويلزمه ذلك إن لم يعلم غيره بالشهادة؛ وعلى هذا تجوز شهادة الأعمى خلافًا لأبي حنيفة في قوله: "ولا يجوز له أن يشهد بما سمع في حال العمى"، وللشافعي في قوله: "لا تجوز شهادته إلا أن يكون المشهود عليه والمشهود له في يديه، ويؤدي الشهادة بالإشارة إليهما". والدليل على ما نقوله: أن كل من صح له التمييز بين المقر والمقر له جاز أن تقبل شهادته بينهما كالبصير والأعمى يعرف ذلك بمعرفة الصوت، وإذا [كان] (¬1) أعمى أو عمى بعد ذلك، فإن لم يع جميع ما أشهد عليه، فإن كان ما نسى منها مما لا يخل بما حفظ منها: فليشهد بما حفظ دون ما شك فيه. فإن كان مما يخاف أن يؤثر فيما حفظ ويغير الحكم: فلا يشهد به، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

على التفصيل والتحصيل الذي قدمناه في "كتاب الأقضية" بما يغني عن إعادته مرة أخرى. وأما الضرب الثاني: إذا ما شهد على ما تقيد في كتاب: فلا يخلو من أن يكون غير مختوم أو مختوم. فإن كان غير مختوم: فإنه يلزمه أن يقرأ ما قيدت به الشهادة في آخر العقد إذا كان يقرأ، أو يقرأ عليه إن كان أميًا أو أعمى؛ ليعلم من ذلك موافقة تفيد البينة الشهادة بما شهد به. فإن كان الكتاب مختومًا، فهل تجوز عليه الشهادة أم لا؟ على قولين منصوصين عن مالك -رحمه الله: أحدهما: أن الشهادة جائزة، وإن كان الكتاب مختومًا أو مطبوعًا. والثاني: أنهم لا يشهدون إلا أن يقرأه وقت تحمل الشهادة. وهذان القولان حكاهما القاضي أبو محمد عبد الوهاب عن مالك فيمن دفع إلى شهود كتابًا مطويًا، وقال اشهدوا على ما فيه، أو الحاكم إذا كتب كتابًا إلى حاكم وختمه، وأشهد عليه الشهود بأنه كتابه، ولم يقرأه عليهم: فوجه القول بالجواز أنه أشهدهم على إقراره في كتاب قد عرفوه، فصح تحملهم للشهادة أصله إذا قرأه عليهم، واستدل القاضي رضي الله عنه لذلك بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفع كتابًا إلى عبد الله بن جحش، وأمره أن يسير ليلتين ثم يقرأ الكتاب، فيتبع ما فيه. ووجه القول بالمنع: قوله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} (¬1)، وإذا لم يقرؤوا الكتاب لم يعلموا ما يشهدون به، فلم تجز شهادتهم، وقال القاضي أبو الوليد الباجي: والصحيح عندي جواز الشهادة في ذلك، وأنه ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية (81).

لا يلزمه إلا تصحيح موضع تقييد الشهادة خاصة، ولذلك يشهد على الحكام بالسجلات المطوية التي فيها الأرزاق، ولا تقرأ إلا في العدد الطويل مع القدرة على ذلك، والتفرغ له، وربما اجتمع النفر الكثير للإشهاد فيه، ولو لزم كل إنسان قراءته وتصفحه، وتحفظه لتعذر الإشهاد فيه، فإذا ثبت أنه لا يلزمه قراءته ولا معرفة ما فيه حين تقييده شهادته بأن لا يلزمه ذلك عند الأداء أولى، وقال: وما احتج به من قوله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} (¬1)، ليس فيه كبير حجة، ولا هو بلازم؛ لأنه إخبار عن شهادة معينة؛ إذ لا يقول أحد بأن الشهادة بالمعلوم غير جائزة، وإنما الخلاف في الشهادة بما لم يعلم، والآية لا تتضمن حكم هذا، وأيضًا فإنا نقول بموجب ذلك، فإن الشاهد إنما يشهد بعلمه من صحة تقييده الشهادة في العقد على الوجه اللازم في ذلك. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: وهو تحمل الشهادة عن الشهود: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: في نقلها عن شهود معينين. والثاني: في نقلها عن شهود غير معينين. فأما نقلها عن المعينين: فلا يخلو من وجهين: أن يكون ذلك بإذنهم، أو بغير إذنهم. فإن نقلها عنه بغير إذنهم؛ مثل أن يسمع شاهدًا ينص ما عنده من الشهادة في معرض الحكاية، أو يسمعه، أو يؤديها عند الحاكم، فهل يجوز له أن يشهد على شهادته أم لا، وإن لم يشهده عليها؟ فالمذهب يتخرج على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية (81).

أحدها: أن ذلك لا يجوز جملة وهو مشهور المذهب وهو مذهب "المدونة". والثاني: أن ذلك جائز جملة، وهو ظاهر قوله في "كتاب الأقضية" من "المدونة" في البينة التي تشهد في ديوان المعزول حيث قال: لا ينظر المحدث في شيء منها إلا أن تقوم عليه بينة. والثالث: التفصيل بين أن يسمعه يذكرها في معرض الحكاية: فلا يجوز له الشهادة على شهادته، أو [يسمعه] (¬1) يؤديها عند الحاكم أو لمن يأذن له بالنقل عنه: فيجوز له أن يشهد على شهادته. وهذا القول متأول على "المدونة" أيضًا، وهو المنصوص في المذهب في "الموازية" وغيرها. فإن كان النقل بإذنهم فلا يخلو من أن يكون ذلك لعذر، أو لا لعذر. فإن كان ذلك لغير عذر: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب أن ذلك لا يجوز. وإن كان لعذر كالمرض، والغيبة البعيدة: فلا خلاف في الجواز؛ احتياطًا للحقوق، واحتفاظًا عليها لكيلا تضييع باندراس البينة وانقراضها. فإن كانت غيبتهم قريبة كاليومين والثلاثة، فقد قال في كتاب ابن المواز: أنه لا تقبل شهادته، وقال القاضي أبو الوليد: ومعنى ذلك -عندي- أن يغيب الشاهد عن مكانه اليومين والثلاثة ثم يرجع. وأما من كان بين موضعه وموضع القاضي مسيرة يومين أو ثلاثة: فلا يلزمه أداء الشهادة عند القاضي، ويجوز له أن ينقل عنه. وفي "كتاب ابن سحنون" عن أبيه: إذا كان الشاهد على مثل ما ¬

_ (¬1) في أ: يسمعها.

تقصر فيه الصلاة لم يلزمه الشخوص عن مثل ذلك، وليشهد عند من يأمر له القاضي في ذلك البلد، ويكتب بما شهدوا به عدال القاضي. فأما من كان على بريد أو بريدين: فإنه يؤدي شهادته عن الحاكم. ثم لا يخلو الشاهد حينئذ من أن يكون غنيًا أو فقيرًا؛ فإن كان غنيًا يجد نفقة ومركوبًا في شخوصه إلى أداء الشهادة: فلا يجوز للمشهود له أن يقيم لهم بذلك، فإن فعل سقطت شهادتهم، وهو قول سحنون؛ لأن ذلك من باب الرشوة والمنفعة التي لا تلزم المشهود له؛ لأن ذلك أمر لازم للشاهد، قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (¬1)، وقال سبحانه: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} (¬2)، وقال جلّ من قائل: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (¬3). فإن كان فقيرًا ولم يجد نفقة ولا مركوبًا: فلا بأس أن يقيم لهم الشهود بذلك من ماله؛ لأنها مؤونة لا تلزم الشهود، فلم تبطل شهادتهم بتكلف المشهود له كسائر نفقاته، وكذلك لو استشهد إلى مسافة بعيدة ليعاينوا حدود أرض وصفتها، فلا بأس أن يركبوا دوابه للشهود له ويأكلون طعامه، وهو قول مطرف في "كتاب ابن حبيب"، وروى ابن سحنون عن أبيه في الشاهد يأتي من البادية يشهد لرجل، فينزل عنده في ضيافته حتى يخرج: فإنه لا ترد شهادته بذلك إذا كان عدلًا، وهذا ضعيف فإذا قلنا بجواز نقل الشهادة عن الشاهد على الوجه المشروع: فلا خلاف -عندنا- في المذهب أنه لا يجوز في ذلك نقل الواحد عن الواحد؛ لأنه ربع الشهادة، وقال في "المدونة": لو جاز ذلك لم يتوصل إلى الحق إلى بيمين، وإنما ينقل الاثنان عن واحد، وينقل عن كل واحد اثنان، ويجوز ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية (2). (¬2) سورة البقرة الآية (283). (¬3) سورة البقرة الآية (282).

نقل الاثنين عن الاثنين، وعن أكثر من ذلك فيما كان من الشهادة على الحقوق، فإن نقل اثنان عن واحد: حلف المدعي مع نقلهما فيما يجوز فيه الشاهد واليمين. واختلف إذا شهد اثنان على شهادة واحد، ثم شهد واحد منهما مع غيره على شهادة الآخر على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى أن واحدًا أحيا شهادتهما، وهو قول عبد الملك في "الموازية"، و"المجموعة". والثاني: أن ذلك جائز؛ لأن الواحد جمع رجلين ولا وصم في ذلك، وهو قول ابن المواز. واختلف في نقل الشهادة في الزنا على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يجزئ في ذلك إلا ستة عشر رجلًا: أربعة على شهادة كل واحد. والثاني: أنه يجزئه من ذلك شاهدين يشهدان على شهادة أربعة، وبه قال ابن المواز. والثالث: أنه لا يجزئ في ذلك أقل من أربعة يشهدون على شهادة كل واحد منهم. وحكى القاضي أبو محمد عبد الوهاب الروايتين عن مالك. والرابع: التفصيل بين أن يفترقوا، أو لم يفترقوا. فإن افترقوا: جاز أن يشهد على كل شاهد من شهود الأصل اثنان حتى يصير عدد الناقلين ثمانية. فإن لم يفترقوا: جاز أن يشهد على جميعهم أربعة، يكون عدد الناقلين أربعة.

وهو قول ابن الماجشون في "الواضحة". وسبب الخلاف: هل يغلظ بالعدد في شهود النقل كما يغلظ في شهود الأصل أم لا؟ فأما الوجه الثاني في نقل الشهادة عن غير معينين: وهي شهادة السماع التي ترجمت عليها المسألة، وهي على وجهين: أحدهما: أن تكون فيما لا تتغير حالة، ولا ينتقل الملك فيه كالنسب والموت. والثاني: مما يتغير حاله، وينتقل من ملك إلى ملك، فأما ما لا يتغير حاله، ولا ينتقل الملك فيه كالنسب، والموت، والولاء، والوقف المحرم. فأما الموت: فإنما يشهد فيه على السماع فيما بَعُد من البلاد، وأما ما قرب من البلاد، أو الشهادة ببلد الموت، فإنما تقع الشهادة فيه على البت والقطع، وإن كان سبب هذه الشهادة السماع إلا أن لفظ شهادة السماع إنما ينطلق عند الفقهاء على ما لا يقع به العلم للشاهد؛ ولذلك يؤدي شهادته على أنه سمع سماعًا فاشيًا على ما ينصه من شهادته، وإنما إذا تواتر الخبر حتى وقع له العلم: فإنما يشهد على علمه فيقول: أشهد أن فلانًا مات وكذلك إذا سمع النياح، والصياح، فقيل له: فلان مات، وتكرر ذلك عليه حتى يحصل له العلم بموته: فإنه يشهد على العلم، وإن لم يشهد جنازته. وأما النسب والولاء: فقد اختلف قول مالك في شهادة السماع فيهما، على قولين:

أحدهما: [أنه] (¬1) يقضي له بالولاء، والنسب، والمال، وهو قول الغير في "المدونة"، وأكثر قول مالك، وابن القاسم في "كتاب ابن المواز". والثاني: أنه يقضي له بالمال دون النسب والولاء، وهو قول مالك في المدونة في كتاب الولاء والمواريث، ويأخذ المال بعد الاستيفاء، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم في "العتبية" إلا أن يكون أمرًا مستفيضًا مشتهرًا كاشتهار نافع مولى ابن عمر رضي الله عنه، فإنه يستحق المال والنسب ويجزئه الولاء، والخلاف في ذلك؛ لأنه بلغ مبلغ التواتر الذي يقع به العلم، ولا يقول الشاهد في تلك الصورة: سمعنا، وإنما يقول: علمنا. وأما الوجه الثاني: وهو ما يتغير حاله، وينتقل كالأشربة، والحيازات، والصدقات، والأحباس غير المحرمة، وشبه ذلك: فإن شهادة السماع فيه جائزة مع طول الزمان؛ لأنه إذا طال الزمان فقد تندرس العقود، وتموت البينات، ولم يبق إلا السماع، واختلف في مقدار الطول على ثلاثة أقوال: أحدها: أن حد الطول في ذلك خمسون سنة فما فوقها، وهو قول مالك في المدونة وغيرها. والثاني: أن حد الطول خمسة عشر سنة لتقاصر أعمار الناس في هذا الزمان، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في "الواضحة". والثالث: أن الوباء إذا وقع وكثر الموت جازت شهادة السماع في المدة التي لو لم يكن وباء ما جازت فيها؛ لأن كثرة الوباء كطول السنين واندراس الأمر، وهو قول في "كتاب ابن المواز". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وشهادة السماع يتقرر بها ما تحت الحوز، ولا يستخرج بها ما في البلد؛ ولذلك لا تصح فيما يحول وينتقل إلا مع طول الزمان؛ مثل أن يقيم رجل غائب البينة أن هذه الدار لأبيه أو لجده، وثبتت المواريث، ثم يقيم الذي في يديه الدار البينة يشهدون على السماع أنه اشتراها من أبى هذا المدعي أو من جده، أو من أحد ادعى هذا المقام: أنه ورثها منه، أو ممن صارت إليه ممن ذكرنا: فإنه يقضي له بها، وتقر يده عليها، وترفع عنه يد المدعي، وينهى عن التعرض له. فإن قالوا: سمعنا أنه اشتراها من قوم قد انقرضوا من غير أن يسموا ممن اشتراها منه، فلا تقبل شهادتهم في ذلك. ومن شرط شهادة السماع: أن يقولوا سمعنا من قوم عدول. فإن انطلقوا ولم يقولوا عن قوم عدوم: ففيه قولان: ولا يحتاجوا إلى تسميتهم؛ لأنهم إن سموهم خرج عن شهادة السماع إلى الشهادة على الشهادة. ويجزئ في الشهادة على السماع شهادة رجلين، وما كثر فهو أحسن قاله مطرف، وابن الماجشون عن مالك ما لم يكن هناك أمر يوجب التوقيف عن شهادتهما؛ مثل أن يشهد على السماع رجلان، وفي القبيل مائة من أترابهم لا يعرفون شيئًا من ذلك، وهو قول ابن القاسم في "المجموعة" إلا أن يشهد بذلك شيخان قد باد جيلهما ولم يبق من أترابهما أحد فتجوز شهادتهما. وأما شهادة السماع في الضرر بين الزوجين: فإنها جائزة، ويكون السماع من الأهل والجيران، وإن لم يكن أهله من العدول، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في "العتبية"، وفي "النوادر" عن حسين بن

عاصم: قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة السماع إلا عند العدول في الرضاع، فيجوز أن يشهد العدول على لفيف القرابة، والأهل، والجيران. واختلف قول مالك في جواز شهادة السماع في النكاح على قولين: فوجه القول بجوازها في النكاح: أنه ثابت لا يتغير إذا مات أحد الزوجين، فأشبه الولاء. ووجه القول بأنها لا تقبل: أن أصله غير مستند بدليل جواز التنقل فيه فكان كالشهادة على الأملاك، وقال سحنون في "العتبية" وجل أصحابنا يقولون في النكاح إذا انتشر خبره في الجيران أن فلانًا تزوج فلانة وسمع الدفوف: فله أن يشهد أن فلانًا زوج فلان، زاد محمد بن عبد الحكم: وإن لم يحضر النكاح. فإذا شهد بالسماع شاهدان فيما تجوز فيه شهادة السماع، هل يحلف المشهود له مع شهادتهما أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يحلف مع شهادتهما، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في "الواضحة". والثاني: أنه لا يمين عليه، وهو ظاهر "المدونة"، وفي "النوادر" قال أصبغ عن ابن القاسم: وفي التي تفتدي من زوجها ثم يشهد لها قوم بالسماع أن زوجها كان يضربها: فذلك جائز بالسماع من الأهل والجيران، وشبه ذلك من الأمر الفاشي قبل، فيجوز في هذا شاهد على السماع البين والأمر بالمعروف، قال عيسى فيه أنه يجوز، قيل: أفتحلف مع ذلك؟ قال: لا قيل فيشهد [لها] (¬1) شاهد على البيان للضرر وتحلف معه، ¬

_ (¬1) في أ: له.

قال: كيف يعرف ذلك؟ قال: يقول: سمعت واستبان لي، قال: إن كان هذا فعسى وانظر فيه، قال أصبغ: هذا جائز، وإن لم يكن معه غيره، وكان سماعًا قاطعًا، وإن كان سماعًا غير مقاطع: فإنها تحلف معه إن كان سماعًا منتشرًا، ويرد عليها ما أخذ؛ لأنه مال، فتحلف مع شاهدها، ويمضى الفراق، وقد قاله ابن القاسم بعد ذلك أنه كالحقوق، فانظر إذا كانت لا تحلف مع الشاهد الواحد على السماع الفاشي بالضرر، فبأن لا تحلف مع الشاهدين أولى وأجدى، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السادسة فيمن ادعي على رجل دعوى، فأراد أن ينافيه

المسألة السادسة فيمن ادعي على رجل دعوى، فأراد أن ينافيه فلا تخلو دعواه من وجهين: إما أن تكون فيما يتعلق بالذمة، أو في شئ معين. فإن كان فيما يتعلق بالذمة: إما بتراض منهما؛ كالسلف وثمن المبيع، أو بغير تراض منهما؛ كالغصب، والتعدي، فلا يخلو المدعي من أن يكون تبين [وجه] (¬1) لدعواه أم لا. فإن لم يتبين لدعواه وجه، فهل له الإيقاف أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أنه لا يوقف له، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن له الإيقاف، وهو قول الغير في "الكتاب"، والقولان في "كتاب الشهادة". فإن تبين لدعواه وجه: فلا خلاف في المذهب أن له الإيقاف، فهل يكفل له به إن طلب ذلك أم لا؟ قولان لابن القاسم: أحدهما: أنه يكفل له به، وهو قوله في "كتاب الشهادة" من "المدونة" مثل قول غيره فيه. والثاني: أنه لا يؤخذ له منه كفيل، وهو قوله في "كتاب الكفالة". فإن كان الدعوى في شئ بعينه: فلا يخلو من أن يكون مأمونًا كالدور والأرضين، أو في غير المأمون كالحيوان والعروض. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن كان في المأمون فطلب الإيقاف، فإن كان بمجرد دعواه فقولان، وقد [بيناهما] (¬1) في الفصل الأول. فإن ثبت لدعواه وجه، فطلب الإيقاف، فهل يوقف له أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة" من "كتاب الشهادات": [أحدها] (¬2): أنه يوقف وقفًا يمنع فيه من الإحداث يريد البيع وأنواعه، وهو قول مالك في "الكتاب". والثاني: أنه يوقف وقفًا يمنع فيه من الخدمة، والتصرف والاستغلال، وهو قوله في مسألة المياه: والى في الغبن. والثالث: أنه لا يوقف له أصلًا، والذي هو في يديه أن يبيع ما لم يحكم عليه، وهو أضعف الأقوال. وتوجيه كل قول ظاهر. فإن كان في غير المأمون كالحيوان، والعروض: فلا يخلو من أن يكون مما يقع الإشهاد على عينه، أو مما لا يقع الإشهاد، فإن كان مما لا يُشهد على عينه: فإنه يعزل ويوقف بيد أمين مخافة الاستبدال والعنف في الاستعمال، فيتطرق إلى هذا الغبن الاحتمال، فيدخل على الشاهد عند معاينة الإشكال ثم لا يقدر على حزم الشهادة بحال، فتسقط الشهادة على تلك على كل حال. فإن كان مما لا يشهد على عينه؛ كالمكيل والموزون من الطعام والعروض: فلا يخلو من أن يكون مما يسرع إليه الفساد كرطب الفاكهة، واللحم الطري، والطعام المصنوع، أو مما لا يسرع إليه؛ كالحبوب والحناء، وغيرهما. ¬

_ (¬1) في أ: بيناه. (¬2) سقط من أ.

فإن كان مما لا يسرع إليه التغيير: فإنه يبقى بيد المدعى عليه من غير إيقاف، حتى إذا أثبت المدعي حقه واستحقه فيأخذه، وإلا فلا شيء له شبيه للمدعى عليه، وإنما قلنا: أنه لا يوقف؛ لأنه مما لا يشهد على عينه، ومثله يقوم مقامه. فإن كان مما يسرع إليه التغيير كرطب الفواكه، وما كان في معناه: فلا يخلو المدعي من أن يكون قد أشرف بحجته على فصل القضاء كبينة ينتظر تزكيتها، أو لم يكن له إلا شبه، أو مجرد الدعوى في الوجه الأول: يبيع القاضي الشئ المدعى فيه إذا خشى عليه، ويوقف الثمن، ويكون لمن غلب. في الوجه الثاني ينتظر القاضي بالطالب ما لم يخش على الشيء المدعى فيه بإسقاط حجته، وقال في "الكتاب" في هذا الوجه: فإن كان الماء شهد به للمدعي شاهد واحد وأثبت لطخا: فإن القاضي يؤجل المدعي بإحضار شاهد آخر ما لم يخشى الفساد، فجعل الشاهد الواحد العدل كاللطخ، ومعناه: أن المدعى يقول: لا أحلف مع الشاهد أصلًا، فإن أثبت بشاهد آخر: أخذت حقي بشاهدين، وإن عجزت: فلا حق لي، فهذا معنى قوله في "الكتاب" على القول بالإيقاف في جميع ما شرع فيه الإيقاف على من تكون النفقة، ولمن تكون الغلة. وأما ما يوقف وقفًا يمنع من الاستخدام، فإن كانت له غلة: فنفقته من غلته، وإن لم يكن له غلة، فقولان: أحدهما: أن نفقته على من يقضى له به، وهو مذهب "المدونة". والثاني: أن النفقة عليهما معًا فمن يقضي له به رجع عليه الآخر بما اتفق، وهذا القول في غير "المدونة" وهو أصح وأولى بالصواب. وأما ما يوقف وقفًا يمنع فيه من الأحداث كالأصول على القول

بالوقف: فقد قال ابن القاسم في "الكتاب": إن الغلة لمن كان الشيء في يديه، والنفقة على من يقضي له به، وهذا اضطراب من القول. وقد اختلف المذهب في غلات هذا الشيء لم تكون على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها للذي في يديه حتى يقضي بها للمدعي؛ فعلى هذا يجب أن تكون النفقة عليه، والأصول موضوعة على أن النفقة على من له الغلات. والثانى: أن الغلات موقوفة مع الأصول، وتكون النفقة عليها منها إن كانت، أو على من يقضي له بها إن لم تكن. والثالث: أن النفقة عليهما معًا، فإذا قضى بها لأحدهما رجع عليه الآخر بما أنفق، على الخلاف الذي قدمناه، وهو قول يحيى بن عمر، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة السابعة فيمن أقام شاهدا على خمسين وشاهدا على مائة

المسألة السابعة فيمن أقام شاهدًا على خمسين وشاهدًا على مائة ولا يخلو ذلك من أن يكون في مجلس واحد، أو في مجلسين. فإن كان في مجلس واحد: فلا يخلو المشهود عليه من أن يكون منكرًا للشهادتين، أو مقرًا بإحداهما. فإن كان منكرًا للشهادتين جميعًا: فقد اختلف فيه قول مالك على قولين: أحدهما: أن ذلك زيادة ويحلف مع شاهد المائة، ويأخذها وهو قوله في "المدونة". والثاني: أن ذلك تكاذب، وهو قول مالك أيضًا. ثم لا يخلو الطالب من أن يقوم بالشهادتين، أو بإحداهما. فإن قام بالشهادتين جميعًا: بطلت دعواه؛ لأن كل واحد من الشهود كذب صاحبه، قال الشيخ أبو إسحاق التونسي: كما لو شهد له شاهدان أحدهما يقول: له عليه بغل، وقال الآخر: بل الذي له عليه حمار فإن قام بأحد الشهادتين وأسقط الآخر: كان له ذلك، وحلف مع الذي قام بشهادته. فإن كان المشهود عليه مقرًا بشهادة الخمسين منكرًا لشهادة المائة: كان تهاترًا يقضي فيه بأعدل البينتين. فإن تكافأت إليه البينتان: سقطتا، وكان القول قول المطلوب، وهل ذلك بيمين، أو بغير يمين؟ قولان: أحدهما: أن القول قوله مع يمينه، وهو قول ابن القاسم.

والثاني: أن القول قوله بلا يمين، وهو قول أشهب. ووجه قول ابن القاسم: أن البينات لما تكاذبت سقطت، فكأنها لم تكن، وصار مدعًا عليه، ومدعًا عليه بعد إثبات الخلطة يكون القول قوله مع يمينه. ووجه قول أشهب: أن المدعي لما أقام مع المدعي عليه ببينة سقط عنه اليمين، وفيما قاله أشهب ضعف؛ لأنه بينته لم تصح بمكافأة بينة المدعي. وأما الوجه الثاني: إذا كان ذلك في مجلسين فهما حقان، فإن ادعاهما المدعي: فإنه يحلف مع كل شاهد، ويأخذ مائة وخمسين. وإن أراد أن يأخذ خمسين بغير يمين: فالمذهب على قولين قائمين: أحدهما: أن ذلك له. والثاني: أنه ليس له ذلك. والقولان لابن القاسم. وبالأول قال ابن المواز؛ لأن البينات قد اتفقت على إثبات الخمسين له كما لو شهد عليه شاهد بطلقة، وشاهد بطلقتين يوم البت أنهما قد اتفقا على طلقة، وتلفق شهادتهما فتعد عليه طلقة، وقد نص مالك في "الكتاب" في مسألة الخمسين والمائة على أن للمدعي أن يأخذ الخمسين بغير يمين إن شاء، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثامنة في كيفية القضاء عند تكافؤ البينات

المسألة الثامنة في كيفية القضاء عند تكافؤ البينات ولا يخلو الشيء المدعى فيه من ثلاثة أوجه: إما أن يكون في يد أحدهما، وإما أن يكون في يد غيرهما، وإما ألا يكون بيد أحد. فإن كان بيد أحدهما وأتى كل واحد منهما ببينة: فلا يخلو من وجهين: إما أن تتكافأ وتتساوى، أو تفاضلت وتباينت. فإن تكافأت وتساوت حتى لا مزية: سقطتا ويبقى الشيء بيد حائزة، وهل ذلك بيمين أو بغير يمين؟ قولان: أحدهما: أنه يأخذه بيمين، وهو مذهب "الكتاب". والثاني: أنه يأخذه بغير يمين، وهو قول أشهب في غير "المدونة". وسبب الخلاف: سقوط البينتين هل هو كالتجريح ثم لابد من اليمين؛ لأن أدنى درجة المدعي مع قيام بينته أن تكون شبهة توجب اليمين، وهو كالعدم في نظر الشرع، ثم لا يمين على المدعى عليه إلا على القول بوجوب اليمين لمجرد الدعوى، وهو قول ضعيف في المذهب. واختلف في التكافؤ المعتبر، هل هو في العدد أو في الصفة على قولين: أحدهما: أن التكافؤ المعتبر في الصفات دون العدد حتى أن الشاهدين يقابلا مائة شاهد، وهو قول ابن القاسم في "المدونة".

والثاني: أن التكافؤ في العدد لا في الصفة، وهو قول الغير في بعض نسخ المدونة، وهو قول منصوص. فإن تفاضلت وتباينت: فالحق لمن أرتب بينته، وهل ذلك بيمين أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك بيمين، وهو قوله في "الكتاب"؛ فيجعل زيادة العدالة كشبهة [أضيفت] (¬1) إلى الجبارة، فيدفع بها شهادة بينة خصمه. والثاني: أنه بغير يمين، وهو قول أشهب. وقيل: فائدة بيمين من كانت بينته أعدل أنها يمين القضاء التي لا يستقر القضاء للقاضي إلا بها استبراءً واستقصاء. والوجه الثاني: إذا كان الشيء المدعى فيه بيد غيرهما: فلا يخلو من هو في يده من أن يدعيه لنفسه، أو لا يدعيه. فإن ادعاه ولا بينة له غير الحوز، فهو لمن قبلت بينته ممن لم يكن في يده. فإن تكافأت بينتهما أو سقطتا، فهل يبقى لحائزه أو ينزع منه؟ قولان: أحدهما: أنه يبقى له ملكًا. وهو قوله في "المدونة". والثاني: أنه يؤخذ منه؛ لأن كلتا البينتين شهدتا أن الحائز لا حق له فيه، فوجب أخذه منه، فيقسم بين المدعيين الآخرين على ما يأتي بيانه. فإن كان لا يدعيه، وهو الوجه الثالث: إذا لم يكن في أيدي المتداعيين، فمن زادت بينته في العدالة أخذه، فإن تكافأت وتساوت، فما الحكم في ذلك؟ فلا يخلو من أن يكون مأمونًا كالدور والأرضين، أو غير مأمون ¬

_ (¬1) في أ: أضافت.

كالعروض والحيوان. فالمأمون هل يوقف أبدًا حتى يأتي أحدهما بأثبت مما أتى به أولًا أو يقسم بعد الطول؟ ففي "المدونة" قولان: أحدهما: أنه لا يقسم أبدًا، وهو قوله في "الكتاب": يبقى كغيره من عفو بلاد المسلمين. والثاني: أنه يقسم بينهما بعد الطول، وهو قوله في "الكتاب" أيضًا. فإن كان غير مأمون كالحيوان والعروض: فلا يخلو من أن يكون مما يخشى عليه في الحال كرطب الفواكه: قسم بينهما في الحال من غير استثناء. واختلف في شاهد ويمين، وشاهد وامرأتين، هل يعارض بها شهادة الشاهدين أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: إذا تساوى الشاهدان في العدالة: حلف صاحب الشاهد وكافأ شاهده ويمينه شاهدي الآخر، وكذلك شاهد وامرأتان يكافئا شاهدين إذا استووا في العدالة، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن الشاهد واليمين، ورجلًا وامرأتين لا يعارض به شهادة الشاهدين، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: هل ذلك من باب الترجيح أو ذلك من باب التجريح؟ وأشهب جعله من باب التجريح، والتجريح لا يقع بشاهد ويمين، ولا بشاهد وامرأتين؛ إذ لا مداخل لشهادتين في ذلك باتفاق المذهب في ذلك، وابن القاسم يجعله من باب الترجيح، وهو أقرب إلى النظر، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة التاسعة في الشهادة على الصفة والاعتراف ومن اعترف عبدا أو دابة بيد رجل فطلب قيام البينة على عينه

المسألة التاسعة في الشهادة على الصفة والاعتراف ومن اعترف عبدًا أو دابة بيد رجل فطلب قيام البينة على عينه فلا يخلو العبد المستحق من أن يكون في بلد البينة، أو غائبًا عنه. فإن كان حاضرًا في بلد البينة: فلابد من الجمع بينهما حتى يشهدوا على عينه. فإن كان قريبًا، فهل تجوز الشهادة على صفة العبد أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: تجوز فيه الشهادة على الصفة، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الشهادة"، و"كتاب العتق الثاني"، و"كتاب الآبق" إذا وصفته البينة أو حكته فيقضي له به. والثاني: أنه لا يجوز، ولا تقع الشهادة إلا على عينه، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب" حيث قال: يجوز له وضع القيمة، ويخرج به إلى بلد بينته، وبه قال ابن كنانة. وعلى القول بأنه لابد من الشهادة على عينه، فإذا طلب المستحق أن يخرج به إلى بلد البينة: فلا يخلو من أن يأتي بشبهة، أو لا يأتي بشيء. فإن أتى بشبهة مثل أن يأتي بشاهد واحد، أو سماع أنه سرق له عبد على صفة كذا، فأراد أن يأخذ العبد ويضع القيمة، فهل ذلك له أم لا؟ على قولين:

أحدهما: أن ذلك له، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه لا يمكن من ذلك، وهو قول غيره في "الكتاب". فإن لم يأت ببينة إلا مجرد الدعوى: فلا يمكن من الخروج ووضع القيمة قولًا واحدًا. وعلى القول بأن له وضع القيمة والخروج به، فإذا شهدت البينة على عينه، فوجه شهادتهم: أن يقولوا ما علمنا أنه ما باع، ولا وهبه, ولا خرج من يده بوجه من وجوه الملك حتى سمعناه ينشده، فلو قطعوا أنه ما باع، ولا وهب: فقد شهدوا بزور وشهادتهم ساقطة، وما يدريهم أنه [ما باع] (¬1) ولا وهب. فإن أبى الشهود أن يزيدوا على الملك أنه ما باع ولا وهب، وقالوا ما تريدون على هذا، هل يقضي بشهادتهم أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يقضي بشهادتهم، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يقضي بشهادتهم، وهو قول أشهب. وذهب بعض المتأخرين إلى التلفيق بين القولين، وقال معنى قول أشهب: أنه لا يقدر على سؤالهم؛ لكونهم ماتوا أو غابوا، ومعنى قول ابن القاسم: أنه قادر على سؤالهم، والوقوف على حقيقته. فإن كان [العبد في موضع] (¬2) بعيد عن موضع البينة مما يلحق فيه الضرر المستحق في الذهاب، والرجوع بالعبد والدابة: فلا يخلو الطريق من أن يكون مأمونًا، أو مخوفًا. فإن كان الطريق آمنًا: فحكمه حكم القريب الغيبة على سواء. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: في موضع العبد.

فإن كان مخوفًا وهناك غرر وخطر: فالذي ينبغي أن تجوز الشهادة على الصفة في هذا الوجه قولًا واحدًا، ويأتي المستحق إلى بينته، ويكتبون له أنه سرق له عبدًا صفته كذا ونعته كذا على حسب ما عرفوا فيه من الصفات التي لا تعتبر ولا تزول، وينتقل له على عقده، فإذا وصل إلى البلد الذي فيه العبد، فيقصد إلى قاضي تلك البلدة، فإذا ثبت عقده أن ذلك كتاب القاضي الذي كتب إليه بشهادة البينة أو يستدل عليه بطابعه -على القول بالعمل بالطابع: فإنه يأمر بإحضار ذلك العبد فيعرضه على تلك الصفات، فإن [وقعت] (¬1) فيه أو صادف أكثرها: فلا إشكال أنه ينفذ فيه الحكم للمستحق بعد أن يحلفه على البت بيمين أنه ما باع، ولا وهب، ولا أخرجه من يده بوجه من وجوه الملك إلى أن سرق منه أو أبق. فإن [خالفت] (¬2) تلك الصفات صفاته، أو صادف أقلها: فلا شيء للمدعي، ويكتب القاضي للمدعى عليه بإسقاط دعوى المدعى عنه. فإذا ثبت له الملك ثم طلب المستحق منه وضع القيمة، ويخرج بالعبد إلى بلد بائعه يستخلص به الثمن من عنده: كان ذلك له ويجبر المستحق على ذلك -قرب الموضع أو بعد- ويكتب له القاضي نسخة الاستحقاق، ويطبع على عنق تلك الدابة أو العبد ليتبين أنه مستحق قضى به، ولم يزل ذلك من عمل القضاة والحكام. والحكم في الدابة أو العبد إذا هلك في الطريق إذا أصابه عيب، أو عجف، أو كسر، أو نقص، أو حوالة الأسواق مبين في الكتاب بما لا يزيد عليه [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: وقع. (¬2) في أ: خالف. (¬3) زيادة ليست بالأصل.

المسألة العاشرة في الحيازة

المسألة العاشرة في الحيازة والأصل في الحيازة ما رواه عبد الجبار بن ربيعة عن عمر عن سعيد بن المسيب مرفوعًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من حاز شيئًا عشر سنين فهو له" (¬1) فالخبر وإن لم يسند فالنظر يؤيده؛ إذ التصرف في أملاك الأغيار محظور شرعًا إلا بأمر جائز، فكان التصرف في المتمولات بما لا يحدثه فيها إلا أهلها، أو إلى مدة لا تسامح النفوس إليها بمعين مالكها دليلًا على الملك أخذًا بالعرف واستصحابًا للحال. ودليل اعتبار [عشر] (¬2) سنين: أن الله تبارك وتعالى جعلها أبلغ شيء في العدد؛ إذ أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بتأخير المشركين، فلم يأذن له في الانتصار بالسيف إلا بعد عشر سنين، فقال سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (¬3)، فهذه أول آية نزلت في الجهاد؛ إذ بالاستئناس بهذا الظاهر يقوى جأش المجتهد في التحديد بعشر سنين، ومنبع أقوال المجتهدين وجدان في التسامح، وفقدان التشاحح، فيمتد الأمد في استقرار المواصلة، ويقصر في التنافر والمفاصلة، ومناط القول فيه بالمتداعين والمحاز والمحاربة، ومدة الخيار وهيئتها، والكلام في هذه الفصول يتداخل، ولا يتمكن إفراد كل فصل بالكلام عليه على حسب العادة المألوفة في وضع هذا الكتاب؛ وذلك لامتزاج الأسئلة وتداخل الأجوبة، غير أنَّا نبلغ المجهود في التحصيل حتى نورد في المسألة ما عليه ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة الحج الآية (39).

التعويل من الأقاويل بفضل الله وتعالى، وهو حسبي ونعم الوكيل، فنقول وبالله التوفيق: المتداعى فيه ضربان: مأمون، وغير مأمون، والمتداعيان ضربان: أقارب، وأباعد. فأمَّا تداعي الأقارب في المال المأمون كالدور والأرضين: فهم على ضربين: الأقارب بالنسبة، والأقارب بالسبب، فأقرب الأقربين: الابن , فلا يخلو ما حازه على أبيه من أن يحيزه بهبة، أو صدقة، أو غير ذلك. فإن حازه بهبة، أو صدقة: فلا خلاف في المذهب في أن الحيازة عاملة نافعة للابن في حياة الأب وبعد مماته. فإن حازه بغير ذلك: فلا يخلو من أن يحيزه بالعمارة أو بالسكنى والزراعة. فإن حازه بالعمارة كالبناء، والغرس، وشق العيون، وحفر الآبار، ولم ينقله عنه الأب إلى أن مات، أو طال الزمان، فهل يكون ذلك حوز أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك للولد ويصح حوزه فيه إذا ادعاه ملكًا لنفسه، وهو قول محمد بن أبي قديم بن دينار، ومطرف في "العتبية". والثاني: أنه ليس بين الوالد وولده في مثل هذا حيازة، وإن طالت عمارة، وإن بني وغرس وسكن، اتصل أم انفصل؛ لأن ذلك كالحوز لأيهم، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في العتبية. فإن حازه بالسكنى والزراعة: فلا خلاف في هذا في المذهب أنه لا يصح به الملك للولد -طال الزمان أو قصر، حضر الأب أو غاب. وكذلك حيازة غير المأمون من العبيد والحيوان: فلا حيازة للابن علي الأب في ذلك جملة، وينبغي إذا حاز جارية من جواري الأب للاستخدام

والاستشغار زمانًا طويلًا ثم استشغرها بعلم الأب، ووالدها: أن ذلك حوز له إياها كالأجنبي. والأقارب غيره بنسب أو بسبب كالولاية والصهر: فلا تخلو حيازة بعضهم على بعض بأن تكون بالسكنى، أو الزراعة، أو بالعمارة، أو بالبيع، وأشكاله. فإن حاز بالسكنى والزراعة، هل يستحقونه بذلك أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم لا يستحقون المحاز بذلك -طال الزمان أو قصر- وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنهم يستحقونه بطول خمسين عامًا، وإن خلا من عمارة، وهو قول أصبغ، ومطرف في "كتاب ابن حبيب"، وسواء حضروا أو غابوا. والثالث: أنهم يستحقونه بحيازة عشر سنين كالأجانب، وهو قول ابن وهب وابن القاسم في "المجموعة"، وهذا القول قائم من "المدونة" من "كتاب الأقضية والشهادات" من المدونة من قوله: أرأيت لو أن دارًا في يدي ورثتها عن أبي ثم أقام ابن عمي بينة أنها دار جده، وطلب مورثه، فقال هذا من وجه الحيازة التي أخبرتك بها، فساوى بين الأقارب والأجانب في الحيازة. وهل الأوراث والأشراك كالقرابة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنهم كالقرابة، وهو أحد أقاويل ابن القاسم في "العتبية" و"الواضحة" وغيرهما، وأن الثلاثة الأقوال التي حكيناها في الأقارب تجري في الأوراث والأشراك وهو نص مطرف في "كتاب ابن حبيب":

أن خمسين سنة حد السكنى بينهم في الحيازة والزراعة. والثاني: أن الأقارب كالأجانب في أن حيازة عشر سنين بينهم تفيد الملك، والإوراث، والإشراك بخلاف ذلك، وهو قول مطرف في "الواضحة"، فيتحصل في المسألة على هذا التخريج أربعة أقوال: أحدها: أنهم لا يستحقون المحاز بالسكنى والزراعة جملة بلا تفصيل طال الزمان أو قصر، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنهم يستحقوه بحيازة خمسين عامًا، وإن خلا من عمارة وهو قول أصبغ، ومطرف في "كتاب ابن حبيب". والثالث: أنهم يستحقونه عشر سنين، وهو قول ابن وهب، وابن القاسم في "المجموعة"، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم، على ما حكاه ابن حبيب: أن الحيازة بالحرث، والسكنى على الورثة وغيرهم مثل الهدم، والبناء، وهو قائم من "المدونة". والرابع: التفصيل بين الأقارب والأوراث والأشراك؛ فالأقارب كالأجنبيين في أن حوز عشر سنين يقطع دعوى المدعي، والأشراك لا يقطع الحوز الدعوى بينهم إلا من خمسين عامًا فأكثر، وهو قول مطرف في "الواضحة". وأما إذا كانت حيازتهم بالعمارة كالبناء، والغرس، وشق العيون والأنهار: فقد اختلف في حد الحوز على ذلك على قولين: أحدهما: أن الحيازة بذلك تفيد الملك في عشر سنين، وتحفظ دعوى المدعي، وهو قول مطرف في "الواضحة": إذا كان المحاز عليه حاضرًا عالمًا, ولم ينكر ولم يغيره إذا ادعى ذلك الحائز لنفسه، وهو قول ابن القاسم في "العتبية" في رواية عيسى عنه أن عشر سنين، أو سبع، أو

ثمانية تقطع دعوى إذا كان حاضرًا عالمًا. والثاني: أنهم لا يستحقوه إلا بحيازة خمسين، وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، والأشراك والأوراث في ذلك سواء. وأما إذا جاوزه بالبيع وأشكاله؛ مثل أن يبيع أو يهب أو يتصدق أو يصدق للنساء والباقون حضور لم يغيروا ولم ينكروا: فلا حق لهم في المبيع إن لم يقوموا من حينهم. فإن لم يقوموا من حينهم حتى انعقد البيع، ومضى وهو حاضر عالم ثم قام بعد ذلك، فلهم القيام في الثمن بعد أن يحلفوا أنهم ما تركوه يبيع إلا ليقوموا بحقهم في الثمن، فيصدقوا. فإن قاموا بعد طول الزمان: فلا حق لهم في الثمن، ولا في المثمون من غير خلاف في المذهب، وكذلك في الإصداق، والتصديق، فلا قيام لهم بعد تراخ أيضًا، وهو قول مطرف في "الواضحة". وهذا كله في حوز الجملة. وأما إن حاز الشريك الوارث، وكان إنما حاز بعضًا, ولم يحز البعض، فإن كان ما حازه مثل سهمه فهو له بسهمه فلا شيء له في الباقي، وإن ادعى بقاء حقه فيه، وإن عمر أقل من سهمه: أتم له بقية سهمه فيما بقى، وإن عمر أكثر من سهمه فهو له كله قدر سهمه بسهمه وما زاد فبسهمه، وهذا كله قول مطرف في "الواضحة" وهو المذهب. فإن حاز كل واحد من الورثة شيئًا يعمله لنفسه؛ مثل الأخوة يرثون الأرض عن أبيهم، أخذ كل واحد طائفة يحرث، ويعمر حتى يموت بعضهم فكان ولده كذلك فيما ترك وقد اقتسموا ورثته ولم يقتسموا، ثم طلب ورثة الجد القسم، فإن طال الزمان فيما يندرس فيه علم المقاسمه، فذلك باق

على حاله، ولا يقبل قول من طلب إعادة القسم مرة ثانية، إلا أن تكون عند من طلب القسمة منهم بينة أو سماع أن ذلك منهم على التجاوز والتسامح دون المقاسمة، فليأتنف فمن وقع حقه فيما بني أو غرس: فهو له وما وقع بناؤه في حق غيره: فليحلف ما بني إلا بمقاسمة، ثم يخير صاحبه بين أن يعطيه قيمة البناء قائمًا، وبين أن يعطيه الثاني قيمة أرضه، وإن أبيا: كانا شريكين إلا أن تقوم بينة قاطعة أنه حازه بغير مقاسمة، أو ينكل عن اليمين، ويحلف الآخر: فإن صاحب الأرض يعطيه قيمة بنائه منقوضًا، أو يأمره بقلعه، فإن لم تكن له بينة قاطعة، أو نكلا، أو أعطاه قيمته قائمًا على ما ذكرنا، وهذا كله قول أشهب في "المجموعة". وأما الأجانب: فلا يخلو المحاز عليه من أن يكون حاضرًا، أو غائبًا. فإن كان حاضرًا: فإن الحائز يستحق المحاز بحيازة عشر سنين، وإن لم يبن ولم يغرس إذا تصرف فيها بعين حاضرة من غير نكر فيه، فإن عرف أصله للمحاز عليه. واختلف هل يكلف الحائز إثبات ما تملكه أم لا، على قولين: أحدهما: أنه لابد أن يكلف ذلك إن كان بشرًا، أو هبة، أو صدقة، أو أمر يدعى فيه انقراض البينة واندراسها، وإلى هذا صار أكثر المتأخرين. والثاني: أنه لا يكلف إثبات ذلك إذا ادعى أمرًا لا يريد إظهاره، أو لم يدع شيئًا إلا مجرد الحيازة، وهو قول مطرف في "كتاب ابن حبيب"، وهو ظاهر "المدونة" في الذي قامت الدار بيده سنين ذوات عدد يحوذها ويمنعها، ويكرى ويهدم ويبني، ثم أقام رجل البينة أن الدار داره، وأنها لأبيه حيث قال: فإن كان هذا المدعي حاضرًا يرى يبني، ويهدم، ويكري: فلا حجة له، وذلك يقطع دعواه، ولم يقطع إليه يسأل من أين صارت

إليه، والتسع سنين والثمانية، وما قاربها بمنزلة العشرة، وهذا كله قول ابن القاسم في "العتبية" وغيرها. فإن بني أو غرس، فهل يكون ذلك حوز من حينه ووقته أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن البناء، والغرس، والهدم حوز من حينه ووقته، وهو قول عبد الملك بن الماجشون. والثاني: أنه يكون حوزًا بعد عشر سنين فما دونها وهو قول ابن القاسم. فإذا كان المحاز عليه غائبًا: فلا تخلو غيبته من أن تكن قريبة أو بعيدة. فإن كانت غيبته قريبة مثل اليومين واليوم، فإن لم يعلم بحيازة الأجنبي: فهو على حقه إذا قام -طال الزمان أو قرب- وإن علم، ولا مقال له في هذا الوجه. فإن كانت الغيبة بعيدة: فلا تخلو من أن تكون غيبة بعيدة بعيدة، أو بعيدة ليست ببعيدة. فإن كانت بعيدة بعيدة كالأندلس من مصر، وشبه ذلك: فإن حيازة الحائز تقطع الملك المحوز عليه -علم بذلك أو لم يعلم، طال الزمان أو قصر- ولا خلاف -أعلمه- في هذا الوجه إلا أنه يستحب له إذا علم أن يشهد بأنه على حقه، وإن لم يشهد لم يضره ذلك، ورواه مطرف عن مالك. فإن كانت غيبة ليست ببعيدة جدًا: فلا خلاف في المذهب أنه على

حقه إذا لم يعلم بالحوز، واختلف فيه إذا علم هل يقطع حجته أم لا على قولين: أحدهما: أنه مهما علم ولم يخرج ولم يوكل فهو كالحاضر فلا حق له بعد ذلك، وهي رواية عن ابن القاسم في "العتبية". والثاني: أن علمه لا يقطع حجته، ولا تعمل عليه الحيازة إذا كان له عذر مثل أن يكون في جواز عدو أو من وراء الحيازة إذا كان له عذر مثل أن يكون في جوار عدو أو من وراء بحر، أو ضعيفًا، أو امرأة محجوبة، وهي رواية حسين بن عاصم عن ابن القاسم، وابن وهب، وابن نافع في "العتبية"، و"الواضحة"، قيل لابن القاسم: فإن لم يكن به ضعف ولا عذر؟ فقال: كم يتبين عذره، ولا يكون معذورًا. واختلف في حد الغيبة التي يعذر بها، وإن علم على ثلاثة أقوال: أحدها: مسيرة ثمانية أيام، أو تسعة، وهو قول مطرف، وبه قال أصبغ في "كتاب ابن حبيب". والثاني: أن حدها مثل مسيرة ثلاثة أيام، أو أربعة، وأنه معذور بذلك العذر، وإليه رجع ابن القاسم على ما حكاه أبو محمد بن أبي زيد في "النوادر". وأما حوزهم في غير المأمون كالحيوان، والثياب، وسائر العروض: أما حوزهم بالاستخدام، والامتهان على عين حاضرة: فقد اختلف فيه المذهب على قولين:

أحدهما: أنها كالرياع جملة بلا تفصيل، وهو مذهبه في المدونة، وهو قول مطرف في "كتاب ابن حبيب" أن الحيازة في ذلك عشر سنين، وما قاربها له حكم العشرة. والثاني: أن حيازة الثوب السنة إذا لبس وامتهن بعلم صاحبه، وإليه والسنتان، والثلاثة في الدواب، والإماء إذا كانت الدواب تركب وتكرى، وبه قال أصبغ في "كتاب ابن حبيب"، ويقول أصبغ: قال ابن أبي زمنين، وهو أقرب للمذهب. واختلف في الورثة، والأشراك هل حكمهما في ذلك حكم الأجانب أم لا، على قولين: أحدهما: أن حكمهم في ذلك واحد، وإنهم يستحقونها بحيازة عشر سنين، وهو قول عيسي بن دينار. والثاني: أن الورثة والأشراك لا يستحقونها إلا بزيادة على عشر سنين باجتهاد الحاكم، وهو قول مطرف وأصبغ. فإن تداعوا فيه قبل عشر سنين: حلف المحاز عليه مع بقاء ذلك عند الحائز، فيبقى على حقه. فإن فوت الحائز هذه الأشياء ببيع، أو هبة، أو بصدقة، أو صداق، أو عتق، أو إيلاد قبل انقضاء أمد الحيازة: فلا يخلو من أن يبادروا بالإنكار عليه من حين علمهم، فإن تراخوا عنه، فإن تبادروا بالإنكار في الحال من غير تراخ: فلهم رد البيع، والعتق، والصدقة، والإصداق فإن لم يبادروه بالإنكار إلا أنهم قاموا بالقرب: فلهم الثمن في البيع والقيمة في العتق والإيلاد بعد أن يحلفوا أنهم ما سوغوه ذلك ولا تركوه إلا ليأخذوا الثمن أو القيمة.

والهبة والصدقة والإصداق مردودة أيضًا بعد أيمانهم أنهم ما تراضوا عن القيام بنفس العلم إلا للتدبير والتبري في إقامة الحجة، وهذا تفسير ما وقع لمطرف في "الواضحة". فإن توانى عن الإنكار مدة طويلة يفهم منها إسقاط الحجة، وتسلم الشيء لحائزه وتسويغ فعله: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب أن ذلك يدل على أن الملك للحائز، وأن المحاز عليه قد انصرم ملكه من الشيء المحوز، وأما الأصول فلا يستحقها بحيازة الغلة، ويصدقون أنهم وكلوه على الغلة مع أيمانهم أو أنهم ساغوا له بالغلة خاصة دون الأصل [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

كتاب المديان

كتاب المديان

كتاب المديان تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها خمس مسائل: المسألة الأولى في حبس المديان واختبار أحواله وأصل تسميته مديانًا: كثرة ما عليه من الديون. والدين من المذلة، يقال: دان الله، إذا أطاعه، ومنه الحديث: "الكيس من دان نفسه" (¬1) أي: أذلها. والدين مذلة على من هو عليه، وقد استعاذ منه - صلى الله عليه وسلم -، وقال أيضًا: "إياكم والدين، فإنه هم بالليل ومذلة بالنهار"، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إياكم والدين، فإن أوله هم، وآخره حرب" (¬2): بفتح الراء، أي: سلب، يريد والله أعلم أنه بالتفليس يسلب حتى لا يبقى عنده مال، وقد رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - آثار كثيرة في التشديد في المديان [منها ما] (¬3) رواه ابن أبي قتادة عن أبيه أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر أيكفر الله به خطاياي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - نعم: فلما أدبر الرجل ناداه أو أمر به فنودى له فقال: "كيف قلت؟ "، فأعاد عليه قوله، فقال: "نعم إلا الدين فإنه كذلك قال لي جبريل" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2459)، وابن ماجة (4260)، وأحمد (17164)، والحاكم (191)، وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬2) أخرجه مالك (1460)، والبيهقي في الكبرى (11046). (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه مالك (986)، والنسائي (3155)، وأحمد (22679)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله.

ومنها: ما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان جالسًا مع أصحابه في موضع الجنائز إذا رفع رأسه ثم نكسه ثم وضع راحته على جبهته ثم قال: "سبحان الله ماذا أنزل الله من التشديد" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "صاحب الدين مأسور يوم القيامة بالدين" (¬2) وقال: "نفس المؤمن [معلقة] (¬3) بدينه" (¬4) أو قال: "من كان عليه دين حتى يقضي [دينه] (¬5) ". والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى، فقيل: إن في ذلك كله ما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تفتح عليه الفتوحات، وقبل فريضة الزكاة على المسلمين، فلما فرضت الزكاة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك مالًا فلورثته، ومن ترك دينًا فعلي" (¬6)، وقيل: إن هذه الآثار إنما وردت فيمن تداين في سرف أو فساد غير مباح، أو من تداين وهو يعلم أن ذمته لا تفي بما تداين به؛ لأنه مهما فعل، فقد قصد إلى استهلاك أموال المسلمين، وهذا هو الصحيح، فإذا ثبت ذلك فالغرماء على ثلاثة أقسام: غريم غني، وغريم معسر غير معدم، وغريم معسر معدم. فأما الغريم الغني: فتعجيل الأداء عليه واجب، ومطله بالحق حرام غير جائز؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مطل الغني ظلم" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (928). (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط (893)، وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬3) في الأصل: متعلقة، والمثبت من أصول الحديث. (¬4) أخرجه الترمذي (1078)، وابن ماجة (2413)، وأحمد (10607)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬5) سقط من أ. (¬6) تقدم. (¬7) أخرجه البخاري (2166)، ومسلم (1564).

وأما المعسر الذي ليس بمعدم، وهو يفرحه تعجيل القضاء ويطريه: فتأخيره إلى أن يوسر ويمكنه القضاء من غير مضرة تلحقه مرغب فيه ومندوب إليه، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أنظر معسرًا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" (¬1). وأما المعسر المعدم: فتأخيره إلى أن يوسر وأجب، والحكم بذلك لازم، فهو في نظرة الله تعالى إلى أن يوسر، ولا يحبس، ولا يؤاجر، ولا يستخدم، ولا يستعمل؛ لأن الدين إنما تعلق بذمته، فلا يصح أن يؤاجر فيه، خلافًا لأحمد بن حنبل الذي يقول: إن المعسر يؤاجر في الدين. والدليل على ما عليه الجمهور: قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬2): معناه إن حضر ذو عسرة، أو وقع ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، فالآية عامة في كل من أعسر بدين كائنًا ذلك الدين ما كان، ربًا كان أو غيره، فإذا ثبت ذلك، فالغريم مجهول على الملأ حتى يتبين عدمه كان قد أخذ في الدين الذي يطلب به عوضًا أم لا؛ لأنه إن كان أخذ به عوضًا فهو مال قد حصل إليه فلا تقبل منه دعوى العدم حتى يبينه، وإن كان لم يأخذ به عوضًا: فالمعلوم من حال الناس الحرص على الطلب، الجد في الكسب، فهو محمول على ما يعلم من حال الناس، وما جبلهم الله عليه، هذا قول الشيخ أبي إسحاق التونسي وغيره من المحققين. فإذا لم يتبين عدمه ولم يظهر فقره: فعلى الحاكم بذل وسعه في استبراء حاله، فإن أدَّى اجتهاده إلى حبسه: فليحبسه فإن ذلك جائز له باتفاق الأمصار، والدليل على إجازة حبسه قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (3006). (¬2) سورة البقرة الآية (280).

مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (¬1)، أي: ملازمًا، فإذا جاز ملازمته ومنعه من التصرف جاز حبسه فإذا اقتضى نظر الحاكم حبسه فحبسه: على ثلاثة أوجه: أحدها: حبس تلوم، واختبار فيمن جهل حاله. والثاني: حبس من ألد واتهم بأنه خبأ مالًا وغيبه. والثالث: حبس من أخذ أموال الناس، وتعدى عليها، وادعى العدم، فلم يبين عدمه؛ إذ لم يعلم أنه جرى عليه بسببٍ أذهب ما حصل عنده من أموال الناس. فالجواب عن الجواب الأول: وهو حبس التلوم والاختبار في المجهول الحال: فإنه يحبس قدر ما يستبرأ، ويكشف عن حاله، وذلك يختلف باختلاف الدين؛ فما روى ابن حبيب عن ابن الماجشون: فيحبس في الدريهمات اليسيرة: قدر نصف شهر، وفي الوسط: شهران، وفي الكثير من المال: أربعة أشهر، ووجه ذلك: أنه يحبس على وجه اختيار حاله، فوجب أن يكون على قدر الحق الذي يسجن لأجله. فإن طلب المحبوس التلوم، والاختبار أن يعطي حميلًا حتى يتبين حاله، ويكشف عن أمره، ولا يحبس؛ فقد قال مالك في "المدونة" في هذا الوجه: لا يحبس، ويؤخذ عليه حميل، وفي بعض روايات "المدونة": يأخذ عليه وكيل، وحكى أبو عمران أنه رواها، والصواب رواية من رواها "حميلًا"؛ إذ لا فائدة للوكيل في هذه الصورة. ولم يبين إن كان الحميل بالوجه أتى بالمال، والصواب هنا أن يكون ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية (75).

بالوجه، وقد نص عليه أبو عمران، وأبو إسحاق التونسي رضي الله عنهما، وغيرهما من شيوخنا القرويين والأندلسيين، ولا يقتضي النظر سواه؛ لأن هذا لم يثبت أنه ملي، ولا أنه غيب مالًا، فعاقب بالسجن والأدب، ولا قويت عليه التهمة بذلك، فيستبرئ أمره بسجنه، والتضييق عليه لعله يخرج منه، فيخرج ما عنده من المال، وإنما كان ذلك يسجن هذا توقيفًا له ليكشف حقيقة حاله، ويستخبر باطنه، فإذا أعطى حميلًا بالوجه إلى مدة الاختبار التي شرع سجنه لذلك، فإن ظهر للحاكم وجه للشدة أمر الحميل بإحضاره وبرئ من الضمان، ويحبس حتى يؤدي المال إن تبين أن له مالًا. وإن لم يتبين له مال: أطلق بعد اليمين، وإن لم يحضره غرم المال -وإن تبين أنه عديم- من أجل اليمين اللازمة له. والجواب عن الوجه الثاني: وهو حبس ما ألد واتهم بأنه خبَّأ مالًا وغَيَّبَه، فإنه يحبس حتى يؤدي , أو يثبت عدمه فيحلف، ويسرح. فإن سأل أن يعطي حميلًا: إلى أن يثبت عدمه أو ينال النظرة ووعد بالقضاء، أما إذا سأل أن يعطي حميلًا حتى يثبت أمره، أو حتى تزكي البينة إن شهدت له بالعدم، هل يقبل منه الكفيل بالوجه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يقبل منه إلا أن يريد أن يسجن، وطلب أن يعطي حميلًا غارمًا لا يسقط عنه الغرم إثباته العدم؛ لأن التضييق بالحبس واجب عليه للتهمة اللاحقة رجاء أن يؤدي، وهو ظاهر قول سحنون في "كتاب ابنه". والثاني: أنه يجوز أن يؤخذ منه الحميل بالوجه، وهو قول ابن القاسم.

وذهب بعضهم إلى أن ذلك ليس باختلاف، وأن ابن القاسم إنما تكلم على من لا يعرف بالناس، وسحنون إنما تكلم على من لا يعرف به، ويتوسم بأن عنده ما يؤدي منه عليه من الحق. والجواب عن الوجه الثالث: وهو الذي أخذ أموال الناس، وتعقد عليها، وادعى العدم، فتبين كذبه؛ إذ لم يعلم أنه اجتيح بحريق أو بسرقة: فإنه يسجن أبدًا حتى يؤدي أموال الناس، أو يموت في السجن، وروى عن سحنون أنه يضرب بالدرة المرة بعد المرة حتى يؤدي أموال الناس. وقال القاضي ابن رشد: وليس قول سحنون بخلاف لمذهب مالك؛ فقد قال مالك: وضرب الإمام الخصم على اللدد، وأيّ لدد أبين من هذا، فالقضاء بما روى عن سحنون في مثل هؤلاء الذين يقعدون على أموال الناس، ويرضون بالسجن، ويستحقونه ليأكلوا أموال الناس ويستهضموها؛ بل هو الواجب الذي لا تصح مخالفته إن شاء الله تعالى. وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: تحدث للناس أقضيه بقدر ما أحدثوا من الفجور (¬1). وما حكاه ابن الهندي عن سحنون رضي الله عنه أنه قال في ابن أبي الجواد إذا ضربه حتى مات إن صح فلا يدل على رجوعه عن مذهبه، وإنما يدل على ثبوته عليه، واستنصاره فيه مع ورعه وفضله؛ لأنه قال: لم أقتله أنا، وإنما قتله الحق، وأشفق -مع ذلك- إشفاق المؤمن الحذر الخائف لربه؛ مخافة أن يكون جاوز في اجتهاده، اقتداءًا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله: ¬

_ (¬1) تقدم الكلام على هذا الأثر.

لو مات جمل بشاطئ الفرات ضياعًا لخشيت أن يسألني الله عنه. فإذا حبس في دين، فإنه لا تدخل عليه امرأته؛ لأنه إنما يراد التضييق عليه، وقول سحنون، وقال محمد بن الحكم: ولا يخرج للجمعة ولا للعيدين، واستحسن إذا اشتاد مرض أبويه أو ولده أو أخته أو أخيه، وخيف عليه الموت أن يخرج، ومن يقرب من قرابته فيسلم عليهم، ويؤخذ منهم كفيل بوجهه، ولا يفعل ذلك في غيرهم من القرابة، ولا يخرج لحجة الإسلام، ولو أحرم بحجة أو عمرة , أو نذر فقيم عليه بالدين، فإنه يحبس وبقى على إحرامه، ولا يحله منه إلا الطواف بالبيت [وإن] (¬1) طال الزمان، وهو نص قول مالك في "كتاب الحج الثاني" من "المدونة" في قوم اتهموا بالدم، فأخذوا وهم محرمون بالحج: إنهم يحبسون، ولا يحلهم إحرامهم إلا الطواف بالبيت. وقال ابن الحكم: ولو ثبت الدين عليه يوم نزوله بمكة أو منى, أو عرفة استحسنت أن يؤخذ معه كفيل حتى يفرغ من الحج، ثم يحبس بعد النفر الأول، وهذا كله منصوص لابن عبد الحكم في "كتاب ابن سحنون". وكل من وجب عليه حق من الحقوق لقريب أو لأجنبي، فإنه يحبس فيه إذا طلب ذلك صاحب الحق, إلا الوالدين، فإنهما لا يحبسان فيما ترتب لولد في ذمتيهما من الدين، ولا يحلفهما؛ لأن ذلك من باب العقول؛ لأنه حق لا يوصل الولد إليه إلا بعد ارتكاب محظور. فإن شح الابن في استحلاف أبيه استحلف له، وكانت جرحه على الابن، وهو قول ابن القاسم في "الواضحة" و"الموازية" ونصه في "المدونة": "إن استحلفه وهى جرحه"، ولم ينص على أنه يستحلف له ¬

_ (¬1) سقط من أ.

إن طلب ذلك، فأمعن النظر في هذا المعنى كيف يجوز للحاكم مساعدة الولد على تحليف الأب وسجنه، وهو من الكبائر، وكيف يحمله على ارتكاب محظور متفق على حظره. فإن قلنا: إن الولد طلب أمرًا أباحته الشريعة على الجملة، فنقول أيضًا في ضمن امتثاله أمر قد حصرته الشريعة على الجملة، والأصول على أن كل طاعة لا يتوصل إلى فعلها إلا بارتكاب محظورة في نفسها. أصل ذلك الحج على مشهور المذهب، فإن الولد إذا تعينت عليه فريضة الحج، فمنعه أبوه من السفر لأدائها أنه لا يخرج، ولا يكون عاصيًا بترك المبادرة إلى أدائها؛ بل هو عاص بالخروج، مطيع بالتخلف عن الخروج، ولو مات قبل أن يحج على الصورة المفروضة لكان غير مأثوم، وهذا كما تراه، ولاسيما على مذهب البغداديين من أصحابنا القائلين بأن فريضة الحج على الفور. وقال بعض المتأخرين غاية المقدور في ذلك أن يقال للولد قد طلبت حقًا واجبًا في مقتضى الشرع، فأنت عاص في استيفائه. فانظر لنفسك ما هو أرشد لها. وأما إذا امتنع الأب [من] (¬1) الإنفاق على ولده الصغير: فإنه يحبس في ذلك، وهو قول محمد بن عبد الحكم في "كتاب ابن سحنون": والفرق بين النفقة، وما له عليه من الدين أن ترك الإنفاق على ولده الصغير من الإضرار به، فالسلطان يأخذه بذلك، ويلزمه إياه. ويحبس الوصي فيما على الأيتام من دين إذا كان لهم في يده مال، وكذلك الأب يحبس في الدين الذي على الولد إذا كان له بيده ¬

_ (¬1) في أ: على.

مال، و [ما] (¬1) رواه ابن سحنون عن ابن عبد الحكم معناه أنه قبض له مالًا , ولم يعلم له نفاذه، ولا يقبل قوله أنه يدعي خلاف الظاهر من حاله. ولا يمتنع المحبوس أن يسلم على أحد معه، أو يسلم عليه، ولا يخرج، وإن اشتد به المرض إلا أن يغلب على عقله، فيخرج بحميل، فإن احتاج إلى أمة تباشر منه لا يباشر غيرها، وتطلع على عورته، فلا بأس بذلك. فإذا حبس الزوجان في دين عليهما، فطلب الغريم أن يفرق بينهما في الحبس، وطلب الزوجان أن يجتمعا، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك للزوجين إن كان السجن خاليًا فليجتمعا، وإن كان فيه غيرهما: حبس الرجل مع الرجال، والمرأة مع النساء، وهو قول ابن عبد الحكم. والثاني: أنه يفرق بينهما, ولا يمكن أن يكون معه امرأته وتبيت عنده؛ لأنه إنما سجن ليضيق عليه، وهو قول سحنون في "كتاب ابنه"، [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثانية في طرآن الغريم

المسألة الثانية في طرآن الغريم والكلام في هذه المسألة على ثلاثة أسئلة: الأول: طروء الغريم على الغرماء. والثاني: طروء الغرماء على الورثة بعد قسمة التركة. والثالث: طروء الغريم على الغرماء وعلى الورثة. فالجواب عن السؤال الأول: وهو طروء الغريم على الغرماء؛ مثل أن يموت رجل وعليه من الدين ما يفترق ماله، فقام عليه غرماؤه وأخذوا ماله، وقسموه على قدر ديونهم، ثم طرأ غريم، فلا يخلو الورثة من أن يعلموا بنفقة الغرماء، أو لم يعلموا. فإن علموا بنفقة الغرماء، وكان الميت موصوفًا بالدين: فإن الغريم الضاري يرجع إما على الورثة، وإما على الغرماء. وقد اختلف على من يرجع في الابتداء على قولين منصوصين في الكتاب: أحدهما: أن الغريم القادم يرجع أولًا على الورثة بقدر ما هو به في الحصاص أن لو حضرتم ثم يرجع الورثة، أو الوصي على الغرماء الذين اقتضوا أولًا لذلك القدر. والثاني: أن الضاري يرجع على الغرماء أولًا، فإن وجدهم أمينًا أخذ منهم ما ينوبه في المحاصة أن لو حضر معهم، ثم لا رجوع لهم على الورثة بشيء.

وإن وجدهم عدمًا: فإنه يرجع على الورثة بذلك القدر, ثم يرجع الورثة على الغرماء الأولين بما ادعوا من ذلك إلى التقادم. والقولان لابن القاسم في "الكتاب". وسبب الخلاف: اختلافهم في المسبب والمباشر أيهما أولى بالمؤاخذة، ولاسيما في مسألتنا أن المسبب قد تعدى فيه الدفع والتمكين بعلمه بأن المال الذي مكن فيه الغرماء تعين في الحق لغيرهم إما بمحض العلم كعلمه ببقية الدين, وإما بغلبة ظن لكون الميت موصوفًا بالدين, وعلى القول بأن عهدة الطارئ على الغرماء إما بطريق الإيصاء لكون الوارث الوصي غير عالم ببقية الدين , وإما على القول بأنه العهدة أولًا على الغرماء. وإن علم للوارث فلا تخلو التركة من أن تكون مما يرجع إلى المثل, أو ما يرجع إلى القيمة. فإن كان التركة مما يرجع إلى المثل؛ كالمكيل والموزون: فإنه يرجع على واحد منهم بما ينوبه في المحاصة أن لو حضر القسمة أولًا، ولا يأخذ الملي بالمعدم، وسواء كان عين ما أخذوه قائمًا أو فائتًا؛ لأنه إن كان قائمًا أخذه، وإن كان فائتًا أخذ مثله؛ لأن المثل في المكيل والموزون يقوم مقام العين، ولا تنتقض القسمة بينهما في ذلك، ولا خلاف -أعلمه- في هذا الوجه. فإن كانت التركة مما يرجع إلى القيمة؛ كالعروض والحيوان فلا يخلو ما أخذوه من أن يكون قائمًا بأيديهم , أو فائتًا. فإن كان قائمًا: فالطارئ مخير بين أن ينقض القسمة بينهم حتى يأخذ حقه من الوسط؛ لما يدخل عليه من الضرر في تبعيض حقه، أو يبقيها

على ما كانت عليه، ويأخذ من كل واحد منهم ما ينوبه مما قبض. فإن كان فائتًا: فلا يخلو فواته من أن يكون بسبب قابضه، أو بسبب سماوي. فإن كان بسببه: فإنه ضامن النصيب الطارئ من غير اعتبار بكمية الأخلاف من البيع، والهبة والصدقة، والعتق، والإيلاد، وغير ذلك من أنواعه. فإن كان بسبب سماوي فلا يخلو ذلك من أن يكون مما يغاب عنه، أو مما لا يغب عنه. فإن كان مما يغاب عنه، فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن كل واحد منهم ضامن للطارئ مما ينوبه مما قبض، وإن قامت له البينة على تلفه، ولا فرق في ذلك بين العين وغيره. والثاني: أنه لا ضمان عليه في العين، ولا غيره إذا قامت البينة على تلفه، وإن لم تقم البينة كان ضامنًا. والثالث: الفرق بين العين وغيره؛ فيضمن بالعين، وإن قامت البينة على التلف، ولا يضمن غير العين إذا تلف ببينة، وهو قول أصبغ في "العتبية". فإن كانت التركة مما لا يغاب عليه، هل يصدق في دعوى التلف بغير سببه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا ضمان عليه ويحلف. والثاني: أنه ضامن على كل حال. وسبب الخلاف: اختلافهم في ديون الغرماء هل هي متعينة في عين

التركة؟ أو في ذمة الميت؛ فمن رأى أنها متعينة في عين التركة: قال بأنهم ضامنون من غير اعتبار بصورة التلف كان ببينة أو بغير بينة، كان ذلك الشيء مما لا يغاب أم لا؛ لأن ذلك ضمان أصل بمنزلة من استهلك مال غيره يظن أنه ماله ثم تبين له أنه مال غيره، فإنه يضمنه. ومن رأى أنها متعينة في ذمة الميت: فيفصل بين قيام البينة على التلف، وعدم قيامها، وبين ما يغاب عنه، وما لا يغاب عنه؛ لأنه ضمان تتمة، لا ضمان أصل. ومن فرق بين العين وغيره، فليس لتفرقه وجه، اللهم إلا أن يلاحظ من فرق بين العين وغيره فيما إذا تلف المال قبل أن يقسم على الغرماء، وسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. وهكذا الحكم في طروء الوارث على الورثة في جميع فصول المسألة ووجوهها. وأما إن كان الورثة غير عالمين بدين بقية الغرماء، ولا كان الميت موصوفًا بالدين: فلا رجوع للغرماء الطارئين عليهم بوجه ولا على حال، سواء وجدوا الغرماء الماضين أملياء أم غرماء؛ لأنهم ما أخذوا لأنفسهم شيئًا, ولا تسببوا في تلف مال أحد، وإنما فعلوا ما وجب عليهم من تسليم التركة للغرماء خاصة. والجواب عن السؤال الثاني: في طروء الغرماء على الورثة بعد قسمة التركة، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون الورثة عالمين بدين الغرماء، أو كان الميت موصوفًا بالدين. والثاني: أن يكونوا غير عالمين، ولا كان الميت موصوفًا بالدين، فإن

علموا بالدين، أو كان الميت موصوفًا بالدين: فلا يخلو الورثة من أن يقسموا جميع التركة، أو عزلوا منها مقدار الدين، ثم قسموا ما بقى. وإن قسموا جميع التركة: فلا تخلو التركة من أن تكون قائمة، أو فائتة. فإن كانت قائمة إما بأيدي الورثة، وإما في أيدي غيرهم مثل أن يبيعوها، أو يهبوها، أو يتصدقوا بها، فهل تنتقض القسمة أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن القسمة تنتقض، وهي رواية أشهب عن مالك، وإن رضي الورثة بدفع الدين من أموالهم، وينتقد ما عقدوا فيها من العفو وتسترجع السلع من يد من قبضها -مشتريًا كان أو موهوبًا له؛ لأن الميراث لا يصح إلا بعد قضاء الدين؛ لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬1) , فصار بيعًا منهيًا عنه لحق الله تعالى، فأشبه بيع يوم الجمعة أو الثنية، أو بيع التفرقة، وما أشبه هذا، فيجب فسخه لمكان النهي عنه، وإن كان لا غرر في ثمنه، ولا مثمونة. والقول الثاني: أن القسمة لا تنتقض، فإن كان الورثة أملياء، أو كان الثمن الذي باعوا به قائمًا بأيديهم، ويدفع للغرماء، ويمضي البيع؛ لأن الغرماء لا حق لهم في أعيان السلع، وإنما حقهم في دين يأخذونه، فمتى أخذوه لم يكن لهم في السلع كلام. فإن لم يكن للورثة مال، ولا وجد معهم الثمن الذي باعوا به: كان للغرماء أخذ السلع من أيدي المشتريين، إلا أن يشاء المشترون أن يدفعوا قيمة ما نمى في أيديهم لو نقص قيمته يوم قبضوه، فذلك لهم. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (11).

وإن كان قائمًا ويرجع المشتري على الورثة بالثمن، وهو قول مالك في "الموازية"، وهو تفسير لما في "المدونة"؛ لأنه لم يبين في "الكتاب" هذا البيان. وسبب الخلاف: النهي هل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟ وقد اتفق المسلمون قاطبة أن الدين قبل الميراث. فإن كان التركة قد فاتت: فلا يخلو فواتها من أن يكون فواتًا حسيًا، أو فواتًا معنويًا. فإن كان فواتا حسيًا: فالورثة ضامنون لقيمة ما قبضوه من التركة يوم قبضوه، سواء فات بتلف أو بإتلاف؛ لأنهم بوضع اليد ضامنون لعلمهم بتعيين حق الغير فيما أخذوه ولا إشكال في هذا الوجه. فإن كان فواته فوات معنى؛ مثل أن يعتقوا، أو يدبروا، أو أكروا، أو فعل ذلك من صارت إليه تلك الأعيان بشراء أو بهبة أو بصدقة من الورثة، فلو كان الورثة أملياء: أخذ منهم الثمن أو القيمة، على ما قدمناه, وسواء كان الفوات من فعلهم أو من فعل غيرهم. فإن كانوا غرماء: أخذت منهم تلك الأعيان، ويبعث للغرماء فيما وجب لهم، ولا تأثير بفعلهم إن هم فعلوا ذلك، غير أنه يدرأ عنهم الحد في وطء الجواري للشبهة؛ لأجل أن حق الغرماء لم يتعين في عين التركة، وبدليل أن لو ظهر للميت مال آخر لكان للورثة أن يردوا منه الدين، ويمضي فعلهم فيما فعلوا؛ لأنهم يؤدبون لاقتحامهم في التحكم في مال ليس لهم فيه حق في ظاهر الأمر. فإن فعله غيرهم ممن صار إليه بشراء أو صدقة، أو هبة، فإن كان الفاعل موسرًا: أخذت منه قيمة ذلك يوم قبضه، ومضى فعله، ويرجع بذلك على الورثة.

وإن كان عديمًا: فلا يخلو من أن يكون عالمًا بفعل الورثة، أو لم يعلم. فإن كان عالمًا بتعدي الورثة على التصرف بالبيع وغيره: فحكمه حكم الورثة، وقد بيناه. وإن كان غير عالم بتعديهم هل للغرماء رد ذلك، ويبطل العتق، والإيلاد أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن للغرماء رد العبد، ويبطل العتق والإيلاد، وهو قول مالك في "كتاب الغصب" في الذي اشترى أمة من غاصب، ولم يعلم بأنه غاصب، فأعتقها ثم استحقها ربها؛ حيث قال: له أخذها، ويبطل عتقه؛ فقد تساوى في التعدي، وتسليط الشرع إياهما على تلك الأعيان، إلا أن أحدهما يسلطه على ملك عين الشيء المستحق لكونه من ملكه غصب، ومن حوزه استخرج، والغصب عندنا لا يقطع الملك، فصار ملك المالك مستدامًا، والآخر سلطه على استيفاء حقه من تلك الأعيان وحقه فيها متعين لعدم القدرة على غيرها في الحال، فأشبه الغاصب من هذا الوجه. والثاني: أنه لا رد لهم، والعتق والإيلاد نافذ؛ لأنهم غير متعدين فيما فعلوه؛ لأنهم تصرفوا بوجه شبهة والغرماء لم يستحقوا الأعيان بكل حال، ولا لهم البيع دون النظر ممن يجب له النظر في ذلك وأمثاله، وإلى هذا أشار بعض المتأخرين، وهو ظاهر "المدونة" من غير ما موضع والأول أصح. وأما الوجه الثاني: إذا عزلوا من التركة مقدار الدين، ثم اقتسموا ما

بقى، ثم قدم الغريم وقد تلف المال في الإيقاف بسبب سماوي، هل يكون ضمانه من الورثة, أو من الغرماء؟ فالمذهب يتخرج على قولين: أحدهما: أن ضمانه من الغرماء إذا كان المال الموقوف مثل ديونهم قدرًا وصفة، وهو قول مطرف, وابن الماجشون في "كتاب ابن حبيب" وهذا هو المشهور. والثاني: أن ضمانه من الورثة حتى يقبضه الغرماء، وهو قول مالك في "كتاب المديان". وسبب الخلاف: اختلافهم في المال إذا تلف بعد أن وقف ليقسم على الغرماء، هل يكون ضمانه من الغرماء، أو من الغريم؟ وإيقاف الورثة المال بالإشهاد كوقف الحاكم إياه؛ لأن الجماعة العادلة تقوم مقام السلطان إذا كانوا بموضع لا سلطان فيه. وأما الوجه الثاني من السؤال الثاني: إذا كان الورثة غير عالمين بالدين، وكان الميت موصوفًا بالدين: فلا تخلو التركة من أن تكون قائمة بأيدي الورثة، أو فائتة. فإن كانت التركة بأيدي الورثة قائمة أو بعضها؛ مثل أن يفوت ما أخذ بعضهم، وبقى ما أخذ البعض، هل تنتقض القسمة بطرءان الغرماء عليهم أم لا؟ فالمذهب على خمسة أقوال: أحدها: أن القسمة تنتقض بين جميعهم حتى يخرجوا الدين من جملة المال ثم يقتسموا ما بقى, وهي رواية أشهب عن مالك في "كتاب محمد" وغيره، وظاهره أن القسمة تنتقض، فإن رضي الورثة بإخراج الدين من

أموالهم ليقروها؛ لأنها قبض لحق الله تعالى؛ لأنها قسمة وقعت قبل خروج الدين. والثاني: أنها لا تنتقض جملة بلا تفصيل، وهو قول أشهب، وسحنون. والثالث: أنها تنتقض بين جميعهم، إلا أن يشاء الورثة أن يخرجوا الدين، ويقروا قسمتهم بحالها، أو يتطوع أحدهم بإخراج جملة الدين من عنده لاغتباطه بحقه، فيكون ذلك له. ولا تنتقض القسمة بمنزلة ما لو وهبه صاحبه. وليس لأحدهم أن يخرج ما ينوبه من الدين، ويتمسك بحظه الذي صار إليه بالقسمة إلا أن يرضى بذلك جميعهم، وهو أحد قولي ابن القاسم. فإن رضوا بإخراج الدين من أموالهم إلا واحد، فإن كان الدين ثبت بغير شهادة بعض الورثة: كان ذلك للآبى، ولا يلزم ذلك برضاهم. فإن كان الدين ثبت بشهادة أحدهم مع يمين الطالب، وكان الشاهد هو الآبي ألا تنتقض القسمة، هل يقبل ذلك منه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يقبل منه، ويلزمه ما دعى إليه أصحابه، ويقال له: إما أن تخرج منابتك من الدين، وإلا بعنا عليك ما صار لك بالقسم، وهو نص قول ابن القاسم في المدونة في "كتاب القسمة" "وكتاب الشهادات"، وغيرهما؛ لأنه يتهم على أنه إنما أراد نقض القسمة ليزداد حظه؛ إما لغَبْن جرى عليه فيها، أو لإتلاف حظه، أو بعضه بأمر من الله، أو ما أشبه ذلك، وهو اختيار القاضي أبو الوليد.

والثاني: أن قوله في ذلك مقبول، وأنه لا يلزمه ما دعاه إليه أصحابه، وأن له نقض القسمة، إلا أن يؤدوا الدين على ألا يتبعوه في نصيبه بشيء، فإن ذلك لهم، وهو ظاهر قوله في "المدونة"؛ لأن الشاهد الآبي بين إحدى حالتين؛ إما أن يتهم على نقض القسمة لغرض له في نقضها، فذلك يسقط شهادته من أصلها، وإما ألا يتهم: فلا يلزمه ما فعل أصحابه إلا أن يؤدوا عنه الدين كما قدمناه. وعلى القول بأن القسمة تنتقض بينهم إلا أن يشاء الورثة أن يخرجوا الدين من عندهم، فإذا أبوا من إخراجه، وانتقضت القسمة، فإن ما بقى من التركة بعد قضاء الدين يكون بين جميع الورثة؛ من فات بيده منهم بآفة سماوية أو بعضه، ومن بقى جميع سهمه، فإنهم يقتسمون ذلك على فرائضهم، ويحطونه كأنه جميع التركة، وهو أحد قولي ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب القسمة". والقول الرابع من الأقوال: أن القسمة إنما تنتقض بين من بقى حظه بيده، أو شيء منه، أو استهلكه. وأما من تلف جميع حظه بأمر من السماء: فلا يرجع عليه بشيء من الدين، ولا يرجع هو مع سائر الورثة فيما بقى من التركة بعد تأدية الدين؛ فلا له ولا عليه، وهذا القول لابن القاسم في "كتاب القسمة" أيضًا. وأما من تلف حظه: فإن الدين جميعه يؤخذ، فمن بقى سهمه بيده، فإذا أخرج الدين نظر إلى الباقي بعد خروجه، فيضم إلى قيمة ما أتلف هؤلاء، فيكون هو جميع التركة، فيرجع الذي أدى الدين عليهم بقدر ما ينوب كل واحد منهم، فهذا قوله في "الكتاب"، فتأمل هذا الكلام، فإن ظاهره يؤذن بالاضطراب أيضًا، وقوله: كأنه جميع التركة يؤذن بأن

القسمة تنتقض، ومن بقى سهمه بيده قائمًا رده، ومن استهلك ما أخذ أخرج قيمته يوم أخذه، ويضم إلى ما بقى من التركة فيقسم بينهم على فرائض الله تعالى. وقوله: "يضم ما بقى بيد هذا الوارث بعد الدين إلى ما أتلف بقية الورثة، فكان هو التركة، فما بقى بيد الغارم كان له، ويسع جميع الورثة بتمام مورثه من مال اليتيم" يؤذن بأن القسمة لا تنتقض؛ لأنها لو انتقضت لضم بقية الورثة إلى قيمة المتلف، ويقسم بينهما على فرائض الله تعالى؛ فهذا لم يمشه على أنها تنتقض، وعلى أنها لا تنقضض، وجعلها تنتقض بين ما بقى سهمه بيده من غير اعتبار بنمائه ونقصانه فلم يجعل فوات البعض كفوات الكل. ولا شك أن نقصان الذات بسبب سماوي كذهابها [كلها] بذلك السبب؛ لأنه قال في أحد قوليه: من فات سهمه بسبب سماوي: لا له، ولا عليه. وكذلك كله اختلاف قول، واضطراب رأي. والقول الخامس: أن القسمة تنتقض بين جميعهم؛ مثل قول ابن القاسم الأول إلا أن لمن شاء منهم أن يعد نصيبه بما ينوبه من الدين، وكان ذلك له، إلا أن يكون ما بأيدي سائر الورثة، قد تلف شيء منه بموت أو جائحة، فليس ذلك إلا أن يشركهم في ضمان ما مات من ذلك أو أجيح، فإنه يحمل منه ما ينوبه، وهو قول ابن حبيب في "الواضحة". وعلى قول سحنون، وأشهب بأن القسمة لا تنتقض فما كيفية إخراج الدين وتفضيضه؟. فقد اختلف فيه على قولين:

فذهب سحنون إلى أنه يفض على قيمة ما بيد كل واحد منهم يوم الحكم. وذهب أشهب في أحد قوليه إلى أن الدين يفض على الأجزاء التي فيها اقتسموا عليها -زادت قيمتها أو نقصت- ما دامت قائمة لم تتلف. ومعنى قول أشهب: يغض الدين على الأجزاء التي اقتسموا عليها يريد بالسهام سهام المسألة؛ كالنصف والربع والثلث والسدس، وعلى ذلك يفض الدين، وهذا مراده، والله أعلم. ولا فرق على مذهب أشهب، وسحنون بين أن يكون الدين قد ثبت بشهادة شاهدين، أو بشهادة أحد الورثة مع يمين الطالب؛ إذ لا انتفاع للشاهد بشهادتهما على مذهبهما. فإذا فات ما بأيدي الورثة من التركة، فلا يخلو فواتها من ثلاثة أوجه إما أن يكون بإتلاف، أو بإحداث، أو بتلف من السماء. فإن كان بإتلاف؛ مثل أن يأكلوه ويستنفقوه، هل يضمنون بذلك أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال، كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنهم ضامنون لديون الغرماء باستنفاق التركة واستهلاكها، وهو نص قول ابن القاسم في "كتاب القسمة" من "المدونة" و"الموازية"، وظاهره: ألَّا فرق بين الصغار والكبار، وهو قول أشهب في "الموازية"؛ حيث قال: إن طرأ دين رجع عليهم أجمع، وإن لم يكن عند الصغار شيء؛ لأنه أنفق عليهم أخذ من الكبار، ويرجع الكبار على الصغار بحصتهم، وإن لم يوجد أيضًا عند الكبار شيء اتبع الغرماء الصغار والكبار بقدر حصصهم التي ورثوا، وبه قال أصبغ، وهو قول المخزومي في "كتاب

النكاح الثاني" من "المدونة". والثاني: أنهم لا يضمنون بالاتفاق عند طرءان الغرماء، وهو قول ابن القاسم في الصغير في "كتاب النكاح الثاني" من "المدونة" في الوصي إذا أنفق التركة على اليتيم، ثم طرأ غريم؛ حيث قال: لا ضمان على الوصي، ولا على اليتيم. والكبير يقاس على الصغير بعلة إتلاف مال الغير على وجه الشبهة. وغاية ذلك أن يحمل منها محمل الخطأ، والعمد والخطأ في أموال المسلمين سواء، ولا خلاف عندنا في المذهب أن جناية الصغير على الأموال لازمة لماله وذمته. والقول الثالث: التفصيل بين الصغير والكبير؛ فالكبير ضامن والصغير غير ضامن، وهو ظاهر المدونة؛ حيث نص على الصغير في كتاب النكاح أنه لا يضمن، وهو نص قوله في "العتبية"، ونص في "كتاب القسمة" على الضمان جملة ولم يفصل. وسبب الخلاف: الدين الطارئ على الميت هل هو متعلق بعين التركة أو هو واجب في ذمة الميت. فأمَّا إتلافها بإحداث؛ كالبيع، والهبة، والصدقة، والعتق: فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهم يضمنون بذلك، ويلزمهم أن يؤدوا قيمة ما أتلفوا بغير عوض، ولا يرجع على الموهوب له بشيء، وهو قول ابن حبيب في "الواضحة"، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب القسم في البيع"؛ حيث قال: وما بيع فعليه ثمنه، لا قيمته إن لم يحاب. والثاني: أنهم لا يضمنون بذلك شيئًا فيما لم يؤخذ منه عوضًا, ولا

لهم في المبيع إلا الأثمان، ولا رجوع لهم على المشترين في عدم البائع، إلا أن يكون في المبيع محاباة، فيكون حكمه حكم الهبة؛ يريد: فيرجع عليهم صاحب الدين بالمحاباة كما يرجع الموهوب له بعد قيام الهبة دون فواتها، وهو قول أشهب وسحنون. فأما ما تلف بسبب سماوي: فلا يخلو ذلك الشيء من أن يكون مما يغاب عنه، أو مما لا يغاب عنه. فإن كان مما لا يغاب عنه، فهل يضمنه الوارث بالتلف أم لا؟ فالمذهب على قولين: فإن كان مما يغاب عنه: فالمذهب في ضمانه بالتلف مع قيام البينة على قولين: أحدهما: أنهم لا يضمنون، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنهم ضامنون مع قيام البينة على التلف، وهو ظاهر قول ابن القاسم في سماع يحيى في "العتبية". والثالث: أنهم يضمنون العين دون ما سواه، وهو قول أصبغ. وسبب الخلاف: ما تقدم في دين الغرماء، هل هو متعلق بالذمة أو بعين التركة؟ والجواب عن السؤال الثالث: في طروء الغريم على الغريم، وعلى الورثة؛ مثل أن يقوم الغرماء على ميت، فأخذوا ديونهم من تركته، وفضلت فضلة، ثم طرأ غريم آخر لم يعلم به: فلا يخلو الورثة من أن يبيعوا التركة مبادرة، أو بعد الاستيفاء. فإن باعوها مبادرة وقد قسم الورثة الفضلة، واستهلكوها، فإن وجد الورثة أملياء: كان له الرجوع عليهم بجميع دينه إن كان في الفضلة كفاف

دينه، فإن لم يكن فيها كفاف دينه رجع على الغرماء بما بقى له، ويتبع كل واحد بقدر ما ينوبه في المخاصمة أن لو كان معهم في حين الحصاص، ولا يأخذ الغني منهم بالمعدم، بخلاف رجوعه على الورثة يأخذ منهم الملي بالمعدم، وله أن يستوفي جميع حقه من واحد، إلا أن يكون دينه أكثر من سهم الوارث من التركة، فلا شيء عليه أكثر من ذلك، فإن وجد الورثة فليرجع على الغرماء بما كان ينوبه معهم، ثم يرجع جميعهم على الورثة، وهو قول عبد الملك في "الموازية"، وهو تفسير للمذهب. فإن كان بيعهم بعد توان وتربص: فإن بيعهم هاهنا يجرى مجرى بيع السلطان، فلا رجوع له على الغرماء بوجه، وإنما له اتباع الورثة إذا كان في تلك الفضلة كفاف دينه، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثالثة في إقرار من أحاط الدين بماله بالدين لمن لا بينة له أو إقرار من هو في معناه ممن تلحقه من وجه ما

المسألة الثالثة في إقرار من أحاط الدين بماله بالدين لمن لا بينة له أو إقرار من هو في معناه ممن تلحقه من وجه ما ولا يخلو هذا المقر بالدين على نفسه من أن يكون مريضًا، أو صحيحًا. فإن كان صحيحًا: فلا يخلو من أن يحجر عليه الغرماء في التصرف، أو لم يحجروا عليه بعد. فإن حجروا عليه في التصرف فلا خلاف في المذهب أن تصرفاته بعد الحجر مردودة -كانت بعوض كالبيع، أو بغير عوض كالهبة، والصدقة، والعتق. وإقراره بالدين بعد الحجر لازم في ذمته، وما يفيد من المال بعد التفليس، وهو نص قول مالك في "المدونة" في "كتاب التفليس"، إذا رفعوه إلى الإمام وحبسه لهم؛ حيث قال: ولك وجه التفليس، فلا يجوز إقراره إلا ببينة. فأما قبل الحجر عليه وقبل التفليس ومقدماته: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب نصًا أو تصرفه في المعاوضات جائزة كالبيع والكراء وهبة الثوب، ما لم يكن في ذلك محاباة، إلا ما يستقرأ من "المدونة" من "كتاب المديان" و"التفليس" من قول الغير أن القضاء كالبيع. وقال في موضع آخر في "الكتاب": إن الرهن مثل البيع، وهو قوله في "كتاب المديان" من "المدونة"، فيوهم هذا الظاهر أن الخلاف يدخل في البيع كما هو في القضاء والرهن.

ولا خلاف في المذهب أيضًا أن تصرفه في المعارف في ماله كالهبة، والصدقة، والعتق لا يجوز، وأن للغرماء رد ذلك وفسخه. وأما قضاؤه ورهنه لبعض غرمائه دون بعض: فقد اختلف فيه المذهب على أربعة أقوال: أحدها: المنع جملة. والثاني: الجواز ما لم يتشاور الغرماء في تفليسه، والقولان في "الكتاب". والثالث: أنه يجوز قضاؤه، ولا يجوز رهنه، وهذا القول حكاه القاضي أبو الوليد بن رشد، ولم يسم قائله، وقال: إنه يؤخذ من المدونة، ولم يتبين من "الكتاب" ما أشار إليه. والقول الرابع: أن رهنه وقضاءه جائز، وإن تشاوروا تفليسه ما لم يفلسوه، وهو قول أصبغ. وهذا كله فيمن لا يتهم عليه. وأما إقراره بالدين قبل التفليس لا يخلو من أن يكون لمن يتهم عليه، أو لمن لا يتهم عليه. فإن كان لمن لا يتهم عليه، فإقراره له جائز، ويتحاص المقر له مع الغرماء بما بيد المقر من المال. فإن كان لمن يتهم عليه كالأخ والصديق، ومن كان في معناهما، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه جائز. والثاني: أنه لا يجوز، وهو قوله في المدونة. ومعنى قوله أنه لا يجوز: يريد أنه لا يتحاصص مع الغرماء فيما بيده

من المال، وإلا فذمته عامرة بإقراره، وهو مأخوذ به فيما يطرأ من المال. ووجه القول بالجواز: أن التهمة في ذلك ضعيفة بالنسبة إلى ما يدركه من الضرر في عمارة ذمة نفسه بإقراره، وذلك يربو على ما يلحق الغرماء من الضرر في نقصان ماليتهم بالحصاص؛ لأن ذمة الغريم قائمة بخلاف المريض لانخرام ذمته. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان المقر مريضًا: فلا يخلو من أن يكون مديانًا، أو غير مديان. فإن كان مديانًا: فتصرفه في المعاوضات جائز، قولًا واحدًا ما لم يحاب، وتصرفه في المعارف صحت، قولًا واحدًا إلا بإجازة، وفي قضائه ثلاثة أقوال: المنع لابن القاسم، والجواز للغير في "كتاب المديان"، والتفصيل بين القضاء والرهن وهو القول الذي حكاه القاضي أبو الوليد. ولا يدخل في القول الرابع الذي حكيناه عن الغير وإقراره بالدين لمن يتهم عليه لا يجوز، قولًا واحدًا. وفي إقراره لمن لا يتهم عليه القولان؛ الجواز لابن القاسم، والمنع لابن وهب في "الموازية" حيث قال: لا يجوز إقرار العبد المأذون إلا ببينة؛ لأن ذلك يؤول إلى الإضرار بالسيد؛ كما أن المريض المديان يضر بالغرماء. وتحصيل القول في ذلك: أن إقرار من أحاط الدين بماله إذا كان صحيحًا لمن لا يتهم عليه جائز قولًا واحدًا، وفي إقراره لمن لا يتهم عليه قولان، وإقرار من أحاط الدين بماله إذا كان مريضًا لمن يتهم عليه، فلا قولًا واحدًا، وفي إجازته لمن لا يتهم عليه قولان. فإن كان غير مديان: فبيعه وشراؤه غير جائز أيضًا ما لم تكن فيه محاباة، فتصرف إلى الثلث، وتصرفه في المعارف كالعتق وغيره موقوف

على الثلث، والزائد عليها موقوف على إجازة الورثة، وإقراره بدين. فإن كان لمن لا يتهم عليه: جاز قولًا واحدًا. وإن كان لمن يتهم عليه: فلا يجوز -كان وارثًا أو أجنبيًا كالصديق الملاطف، إلا أن تقوم له بينة على أنه كان يطالبه ويتقاضاه في صحته، فيكون الإقرار جائز له، وهو قوله في "الكتاب". فإن أقر لوارث أو أجنبي: تحاصا؛ فما صار للأجنبى أخذه، وما صار للوارث دخل عليه فيه الورثة. وهل للوارث المقر له الرجوع على الأجنبي أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يرجع عليه بشيء، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يرجع على الأجنبي، فإذا أخذ منه شيئًا شاركه فيه الورثة، فإذا شاركوه انتقض ما أخذ، فرجع على الأجنبي حتى لا يبقى في يد الأجنبي شيء، وهذا نص قول أشهب وقوله في مسألة الدور، وكلام ابن القاسم فيها أصح، وأسلم من الاعتراض، وأما قول أشهب فقد اعترض من وجهين: أحدهما: حتى لا يبقى في يد الأجنبي شيء، وليس ما قالوه بصحيح؛ إذ لابد أن يبقى بيد الأجنبي شيء ما؛ لأنهما لو كانا أخوين، وترك مائة دينار، فأقر لأحد الوارثين ولأجنبي بمائة: أخذ كل واحد منهما خمسين، ثم إن أخاه شاركه فيما أخذ فأخذ منه خمسة وعشرين، فإنه يرجع على الأجنبي باثنتي عشر ونصف حتى يتساويا في القسم لاستوائهما في الإقرار، فإذا أخذها دخل معه الأخ فيقاسمه، فيأخذ أخوه منها ستة وربعًا، ثم يرجع على الأجنبي بنصف الستة وربع، وذلك ثلاثة وثمن فضلة الأجنبي بها, ولابد أن يبقى في يد الأجنبي كثير، فكيف يقال لا

يبقى بيد الأجنبي شيء. والوجه الثاني: مراجعة الأخ المقر له على الأجنبي بما أخذ أخوه من سهمه يوجب رجوع الأجنبي على الأخ الذي لم يقر له؛ وذلك أنا إذا صورنا مشاركة الأخ لأخيه فيما أخذ بالإقرار وهي خمسون دينارًا، وقلنا إن الأخ المقر له يرجع على الأجنبي المقر له بنصف ما أخذ منه أخوه حتى يتساوى معه في العدد كان يجب للأجنبي الرجوع على الأخ الذي لم يقر له، فيقول له إقرار الميت لازم لي، وأنا قبضت بعض ديني فلا يصح أن ترث أنت، ولم يتم لي ما أقر به الميت. فإذا أخذ منه شيئًا رجع عليه الوارث المقر له، فقال له أنا وأنت في الإقرار سواء، فيجب أن أرجع عليك بنصف ما أخذت من أخي، فإذا رجع إليه رجع الوارث الذي لم يقر له، فقال: أنت وارث معي فلا يجوز الإقرار لك، فدخل عليه، فذلك يؤدي إلى الدور العقلي، وصورة الدور في مسألتنا إذا أوجبنا الرجوع إلى الأخ المقر له على الأجنبي بنصف ما أخذ منه أخوه وجب للأجنبي على الأخ الوارث الذي لم يقر؛ إذ لا ميراث إلا بعد وفاء الدين، فإذا أخذ منه شيء رجع عليه الأخ المقر له بنصف ما أخذ، فإذا أخذ منه رجع عليه الأجنبي بما انتقض من حقه، فهذا أبد الآباد، وذلك ظاهر لمن تأمله. وأما إذا أقر بدين لوارث فلا يخلو ذلك الوارث من أن يكون زوجة أو ولدًا؛ فإن كان زوجة فأقر لها بدين أو ببقاء مهرها في ذمته في بلد جرت عادة أهله بقبض المهر قبل البناء، ففي ذلك تفصيل وتحصيل، وتلخيصه على منهاج قول مالك وأصحابه أن أمره لا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعلم منه ميل إليها وصبابة بها.

والثاني: أن يعلم منه الشنئان لها والبغض. والثالث: أن يجهل مذهبه فيها وحاله معها. فأما الوجه الأول: إذا علم منه الميل إليها وصبابة بها: فلا يجوز إقراره لها إلا أن يجيزه الورثة -كان موروثًا بولد أو بكلالة- ولا إشكال في ذلك. وأما الحال الثاني: إذا علم منه البغض فيها، والشنآن لها: فإقراره جائز على الورثة جملة بلا تفصيل بين الكلالة والولد. وأما الحال الثالث: إذا جهل حاله معها في الميل إليها، والبغض لها: فلا يخلو أمره من وجهين: أحدهما: أن يورث بكلالة. والثاني: أن يورث بولد. فأما إذا ورث بكلالة: فلا يجوز إقراره لها. وأما إذا ورث بولد: فلا يخلو من أن يكونوا إناثًا، أو ذكورًا، صغارًا أو كبارًا، واحدًا أو عددًا منها أو غيرها. فاما إذا كان الولد إناثًا يرثنه مع العصبة، فسواء كان واحدة أو عددًا، صغارًا أو كبارًا من غيرها، أو كبارًا منها: فذلك يتخرج على قولين: أحدهما: أن إقراره جائز. والثاني: إقراره لا يجوز. وهذا الخلاف يتخرج على اختلافهم في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنة وعصبة، فقد اختلفوا في ذلك على قولين منصوصين في المذهب: أحدهما: الجواز. والآخر: المنع.

حكاهما أبو إسحاق التونسي، والقول بالجواز مذهبه في "المدونة". فأما إن كن صغارًا منها: لم يجز إقراره لها، قولًا واحدًا؛ لأنه يتهم أن يقر بماله عن العصبة. وأما إن كان الولد ذكرًا وكان واحدًا: فإقراره لها جائز إلا أن يكون بعضهم صغيرًا منها، وبعضهم كبيرًا منها أو من غيرها، فلا يجوز إقراره لها؛ لأنه يتهم بالميل إليها لأجل الولد الصغير, والنفوس مجبولة على حب الأولاد الصغار أكثر من حب الكبار. فإن كان الولد الكبير في الموضع الذي ترتفع التهمة عن الأب في إقراره لزوجته عامًا، فإن التهمة لا ترتفع عنه، والإقرار باطل على ما في سماع أصبغ من "العتبية"، وهو قوله في "المدونة" إذا تفاهم ما بينه وبين الولد. فإن كان بعضهم بارًا به وبعضهم عاقًا له: فإنه يتخرج الخلاف الذي قدمناه في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنه وعصبته، وكذلك الحكم سواء في إقرار الزوجة لخروجها ولا فرق أيضًا بين أن يقر أحدهما لصاحبه بدين، أو يقر أنه قبض ماله عليه من دين. فهذا تحصيل ما قيل في هذه المسألة وتلخيص القول فيها، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الرابعة في مال الميت أو المفلس يوقف للغرماء, فيهلك في الإيقاف

المسألة الرابعة في مال الميت أو المفلس يوقف للغرماء, فيهلك في الإيقاف وإذا جمع القاضي مال المفلس وأوقفه ليقبضه غرماؤه، ثم تلف، فلا يخلو من وجهين: إما أن يبيعه، وأوقف ثمنه ليفرقه عليهم، أو أوقف الشركة حتى يبيع ما يباع منها من غير جنس الدين. فإن باعه وأوقف الثمن: فلا يخلو من أن يوقفه لمعين، أو لغير معين. فإن أوقفه لغير معين، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ضمانه ممن وقف له، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن ضمانه من المفلس دون الغرماء، وهو قول ابن عبد الحكم. فإن جمع المال ليبيع ما ليس من جنس الدين إن كان في التركة ثم تلف المال ممن ضمانه، فالمذهب على خمسة أقوال: أحدها: أن ضمانه من المفلس -كان عرضًا، أو حيوانًا، أو عينًا- حتى يصل إلى الغرماء، وهي رواية أشهب عن مالك في كتاب ابن المواز. والثاني: أن ضمانه من الغرماء -كان عينًا، أو حيوانًا، أو عرضًا أو ما كان، وهي رواية ابن الماجشون عن مالك؛ لأن السلطان احتجبه فصار ضمانه من غرمائه من حضر منهم أو غاب، علم أو لم يعلم، كان دينه عرضًا، أو حيوانًا. والثالث: التفصيل بين أن تكون التركة عينًا، أو عرضًا؛ فإن كانت عينًا: فضمانها من الغرماء، وإن كانت عروضًا: فضمانها من الغريم الذي عليه الحق، وهو مذهب ابن حبيب، وابن وهب، ومطرف في

"الموازية"، و"الواضحة"، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والرابع: أن ضمان الذهب ممن له عليه ذهب، وضمان الورق ممن له عليه ورق، وضمان العروض ممن له عليه عروض مثلها، وهو ظاهر قول عبد الملك بن الماجشون، على ما نقله الشيخ أبو القاسم بن الجلاب. والخامس: أن الضمان في الموت من الغرماء، وفي التفليس من المفلس، وهو قول أصبغ. وسبب الخلاف: قبض الحاكم مال المفلس ورفعه يد الغريم هل هو كقبض الغرماء إياه أم لا؟ وعلى القول بأن ضياعه من الغرماء، فلو بيعت دار الميت بأمر القاضي لدين عليه؛ وهو مائة دينار، فبيعت بمائة دينار، وأودعها القاضي فهلكت في الإيداع، ثم استحقت الدار لرجع مشتريها على الذي بيعت له الدار -وهو طالب الدين- لأنه كان الثمن في ضمانه فكأنه قبضه، وهو قول أصبغ، وعبد الملك فيما حكاه ابن المواز عنهما في النوادر قال: وكذلك لو كان عبدًا، فباعه القاضي لغرمائه، فضاع من رسول القاضي، وقد استحقه العبد بحرية أن الثمن من الغرماء وعليهم يرجع المشتري بالثمن إلا أنه قال في هذا الفصل: فإن لم يجد عند الغرماء شيئًا رجع ذلك في مال المفلس أو الميت أن يبقى له شيء، أو طرأ له مال يأخذ ذلك منه، ويحسب ذلك على الغرماء؛ لأنه عنهم يأخذه، فإن لم يوجد للميت شيء: رجع ويتبعهم في ذممهم، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الخامسة في الذى أمر رجلا أن يدفع عنه مالا إلى رجل

المسألة الخامسة في الذى أمر رجلًا أن يدفع عنه مالًا إلى رجل والكلام في هذه المسألة في ثلاثة [أسئلة: أحدها: إذا قال له ادفع إلى فلان مائة درهم صلة مني له، فقال: نعم، وليس للواصل قبل المأمور شيء. والثاني] (¬1): إذا أمرته أن يدفع لفلان دنانير سلفًا منه، فدفع غيرها. الثالث: إذا كان لرجل دين على رجل، فأمره أن يدفعه إلى من استقرضه مثل ذلك القدر. فالجواب عن السؤال الأول: إذا قال له ادفع إلى فلان مائة درهم صلة مني له، فقال: نعم، وليس للواصل قبل المأمور شيء، فمات الذي أمر قبل أن يدفع المأمور الصلة: فلا يخلو الآمر من أن يشهد على الصلة، أو لم يشهد عليها. فإن لم يشهد عليها: فلا خلاف في المذهب أن الصلة باطلة، ولا شيء فيها للموصول. فإن أشهد عليها، فقولان منصوصان في "الكتاب": أحدهما: أنه مضت للموصول بالإشهاد -قبضها في حياة الواصل أو بعد مماته- وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه إذا مات الواصل قبل أن يقبضها الموصل حتى تصير دينًا على الواصل يطلب، ولا ينفعه الإشهاد، وهو قول غيره في "الكتاب". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والصحيح ما قاله ابن القاسم؛ وذلك أن الواصل لما التزم المأمور السلف، وأشهد الواصل أنه وصل به فلانًا صار كدين له على من أسلفه، وصار الموهوب قد أشهد له الواهب بدين له على رجل، فكان ذلك حوزًا؛ كمن وهبت له هبة فباعها الموهوب له قبل أن يقبضها، ثم مات الواهب: أن الهبة صحيحة لا يبطلها موت الراهب قبل الحوز؛ لتعلق حق المشتري بها، وهو غير محتاج إلى حيازة لكونه مشتريًا، والموهوب له قد خرجت من يده بالبيع. والجواب عن السؤال الثاني: إذا أمرته أن يدفع لفلان دنانير سلفًا منه لي، فدفع له غير ما أمرته به، فلا يخلو من أن يدفع له دراهم عن دنانير، أو دفع له عرضًا. فإن دفع له عرضًا عن عين ما الذي يجب على الآمر دفعه ورده؟ فقد اختلف المذهب في ذلك على ثلاثة أقوال، كلها قائمة من المدونة: أحدها: أنه يرد عليه ما أمره بدفعه. والثاني: أنه يرد عليه مثل ما دفع مخافة أن يكون ما دفع عنه المأمور أقل مما أمره بدفعه، فيؤدي إلى أن يربح في السلف. والقولان لمالك في "الكتاب". والثالث: الآمر مخير إن شاء دفع ما أمره بدفعه، وهذا القول أيضًا متأول على "المدونة". ويتخرج في المسألة قول رابع: أنه لا شيء على الآمر؛ لأنه يقول: إذا كنت أمرته أن يدفع ذلك سلفًا لي لم يلزمني أما ما دفعه مما هو خلاف ما أمرته، وكأنه لم يمتثل أمري، فلا يلزمني شيء. وينبني الخلاف: على الخلاف فيما أمر بدفعه عنه؛ هل هو دين على

الآمر بنفس الإنعام به من المأمور، أو لا يكون دينًا إلا بإخراجه ودفعه إلى من أمر بقبضه؟ فإذا قلنا: أنه بنفس الإذن والإنعام: صار دينًا في ذمة الآمر، كما يقول ابن القاسم في مسألة الصلة، فإن الآمر يدفع عند القضاء ما أمر بدفعه، لا ما عوض عنه؛ لأنه بالالتزام صار ملكًا للمأمور له بالدفع، وجازت فيه مبايعته ومصارفته كدين ثابت له. فإذا قلنا بأنه لا يجب، ولا يلزم إلا بإخراجه وقبضه كما قال الغير في مسألة الصلة كتمان الآمر مخير على قول، أو يدفع للمأمور ما دفع إليه على قول، أو لا يلزم الآمر شيء على قول؛ لمخالفته المأمور، فدفع غير ما أمر به. فإن دفع دنانير عن دراهم، أو دارهم عن دنانير: دخله ما قدمناه من الربح في السلف ما فيه من الخيار في صرفها، على القول بتخيير الآمر. والجواب عن السؤال الثالث: إذا أمر لمن له عليه دين أن يدفعه إلى من استقرضه مثل ذلك قدرًا وصفة، فدفع المأمور خلاف ما أمر به؛ مثل أن يدفع ذهبًا عن ورق، أو ورقًا عن ذهب: فإن الأقوال الثلاثة التي قدمناها في السؤال الثاني تدخل في هذا السؤال، ولا يدخل فيه القول الرابع؛ لأجل اختلاف السؤالين؛ لأن ذمة المقرض في هذا السؤال عامرة على كل حال، وعهدة المقرض عليه؛ إذ لا سبيل للآمر أن يرجع على الذي عليه الدين أولًا بوجه، ولا على حال ما نقله أهل المذهب، وإن كان يجوز أن يقول: إن الآمر لم يوسع للذي عليه الدين أن يدفع الإمالة عليها فيهما دفع غيره، كأن الخيار للآمر إن شاء جوز فعله، وأخذ من المقرض ما قبض، وإن شاء رد مصارفته، ويرجع على الذي كان عليه الدين بما ترتب في ذمته، إلا أنهم لم يقولوا ذلك، وإنما قالوا: إن ذمته

برئت بالدفع سواء دفع عين ما به عمرت، أو دفع عنه عوضًا إذا وقع التراضي بينه وبين المقرض؛ فكان المقرض كالموسع للذي عليه الدين فيما يعطي هذا، وكأنه لم يقرضه إلا ما قبض؛ ولأجل هذا يجوز له أخذ ما قبض عوضًا عما أمر به على أحد قولي مالك، إلا أن فيه بعدًا. وفي السؤال الثاني يتعين فيه هذا الاعتراض، ويلزم ألا تعمر ذمة الآمر إذا دفع عنه المأمور خلاف ما أمر به لزومًا صحيحًا. تم الكتاب بحمد الله وعونه، وصلى الله على محمد نبيه.

كتاب التفليس

كتاب التفليس

كتاب التفليس تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها أربع مسائل: المسألة الأولى في الغرماء إذا قاموا على الغريم وطلبوا تفليسه والحجر على يده ومعنى الحجر: المنع؛ قال الله تعالى: {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} (¬1) أي حرامًا محرمًا لا يباح , ومنه تسمية الدار حجرة؛ لأنها حجرت أي: منعت من التصرف فيها بالدخول إلا بإذن أهلها، ومنه تسمى حجرة الكعبة الحجر؛ لأنه يمنع أن يستباح به، بل حرمته حرمة الكعبة. ومعنى الفلس: العدم، وأصله من الفلوس؛ أي: أنه صاحب الفلوس بعد أن كان صاحب ذهب وفضة، ثم استعمل في كل من عدم المال، ويقال: أفلس الرجل، بفتح اللام، فهو مفلس. وإذا طلب الغرماء أو واحد منهم تفليس الغريم وخلعه من ماله ليقضي به ما عليه من الديون، هل يمكنهم السلطان من ذلك، ويظفرهم بمقصودهم أم لا؟ فلا يخلو المديان من أربعة أوجه: أحدها: أن يكون المال والمديان حاضرين. والثاني: أن يكونا غائبين. والثالث: أن يكون المال حاضرًا والغريم غائبًا. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان الآية (53).

والرابع: أن يكون الغريم حاضرًا، والمال غائبًا. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان المال والمديان حاضرين: فالتفليس جائز، ويقسم ماله بين غرمائه، ومن كان غائبًا وقف على نصيبه. فأما في الموت: فإنه تكون قسمته بعد الاستيناء لانقطاع ذمة الميت، ولاسيما إذا كان الميت موصوفًا بالدين. وأما في الفلس: فقد اختلف فيه على قولين: أحدهما: التعجيل فيقسم مال المفلس بعد الإشهار والإعلان، وهو المشهور؛ والدليل عليه قول عمر رضي الله عنه في أسيفع جهينة حين قال: فإنَّا نقسم ماله بالغداة؛ فمن كان له عليه شيء فليأتنا. والثاني: أن الحي والميت سواء، ويتأخر القضاء إذا كان معروفًا بالمزابنة، وهو قول غيره في "المدونة" في أول "كتاب التفليس"، والأول رواية ابن وهب في "الكتاب". وإذا أمر القاضي بالنداء على غرماء المفلس ليجتمعوا على قسمة ماله، فحضر بعضهم ولم يحضر البعض، فقسم الحاضرون جميع ما عنده من المال، وتحاصوا فيه، وبقيتهم حاضرون في البلد بتفليس غريمهم، ويرون ماله يقسم، فهل لهم القيام على من أخذ حقه من الغرماء أم لا؟ فلا يخلو من أن يكون لهم عذر، أو لا عذر لهم. فإن كان لهم عذر ظاهر في الحضور على المحاصة: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب أن لهم الدخول معهم فيما أخذوه. فإن لم يكن لهم عذر، فهل لهم الدخول معهم فيما أخذوه [أم لا؟ على قولين:

أحدهما: أن لهم الدخول معهم فيما أخذوه] (¬1) ودينهم باق في الذمة؛ كما لو أعتق وغرماؤه سكوت: فلا رد لهم للعتق، لكن سكوتهم لا يبطل دينهم، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يوقف لهم حقوقهم كما توقف للغائب، وسكوتهم لا يبطل حقهم في المحاصة، إلا أن يتبين من الحاضر تركه لدينه في ذمة الغريم، ورضى بما قبض غيره، وهو قول غيره في "المدونة". ولا أعلمهم يختلفون في الموت أن سكوتهم لا يبطل، ولا يعد ذلك منهم رضًا بترك المحاصة؛ لذهاب ذمة الميت، وبقاء ذمة المفلس، ويكون له اتباع الغرماء بعذر ما يصح له في المحاصة. ومعرفة وجه التحاصص أن يصرف مال الغريم من جنس ديون الغرماء؛ دنانير ودراهم إن كانت ديونهم دراهم، أو طعامًا إن كانت طعامًا على صفة واحدة. فإن كانت ديونهم مختلفة؛ دنانير ودراهم، أو دنانير وعروضًا ودراهم وطعامًا، وما أشبه ذلك: صرف مال الغريم عينًا إما دنانير، وإما دراهم على الاجتهاد في ذلك إذا كان الصنفان جاريين في البلد، ويباع ماله من الديون، إلا أن يتفق الغرماء على تركها حتى تقبض عند حلولها، ثم تحصل جميع ديونهم إن كانت صفة واحدة، أو قيمتها إن كانت مختلفة إن كانت الديون كلها على الحلول بالاتفاق، وقبل الحلول على الاختلاف بين ابن القاسم وسحنون؛ فإن ابن القاسم يساوي بين ما حل منها، وما لم يحل في أن الاعتبار بعد الدين، لا بقيمة الدين المؤجل لأن التفليس معنى يفسد الذمة، فاقتضاء حلول الدين كالموت. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وسحنون يقول: إن العرض المؤجل يقوم يوم التفليس على أن يقبض إلى أجله، وهذا بعيد؛ لأن المال لو كان فيه وفاء لعجل له حقه أجمع، وإذا قاله في العروض، فيلزمه مثله في العين المؤجل، وهذا لم يقله هو ولا غيره. ثم ينظر ما يكون من ذلك من جميع مال المفلس، فإن كان النصف كان لكل واحد من الغرماء نصف دينه، وأتبع الغريم بالنصف الباقي وإن كان الثلث: كان له الثلث وأتبع الغريم بالثلثين، وإن كان الربع كان له الربع، وأتبع الغريم بالثلاثة الأرباع دينه. فمن كان دينه منهم من صنف مال الغريم دنانير أو دراهم: دفع إليه ما وهب له منهم. ومن لمن يكن دينه من صنف مال الغريم اشترى له ما وجب من العروض، أو الطعام بما ينوبه من العين في المحاصة، ولا تسلم إليه الدنانير. فإن اشترى له بالعين أقل مما صار إليه في المحاصة لغلاء السعر، أو اشترى له أكثر لرخص السعر: فلا تراجع في ذلك بينه وبين الغرماء إلا أن يشتري له بتلك الدنانير أكثر من جميع حقه، فإنه يدفع الفضل إلى الغرماء، وإنما التحاسب في زيادة ذلك ونقصانه على ما خرج للغرماء في المحاصة من النصف أو الثلث بينه وبين الغريم، فيتبعه بما بقى -قلَّ لغلاء السعر أو كثر لرخصه. فإن أراد الذي دينه عرضًا أو طعامًا أن يأخذ العين الذي خرج له في المحاصة، ولا يشتري له شيء: فلا يخلو دينه من أن يكون من سلم، أو من قرض.

فإن كان من سلم: فلا يخلو من أن يكون طعامًا، أو عرضًا، فإن كان طعامًا: فلا يخلو العين الذي صار به في المحاصة من أن يكون مثل رأس ماله، أو أقل أو أكثر. فإن كان مثل رأس ماله، فهل يجوز له الرضا بأخذ العين أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة" من "كتاب السلم الثاني" وغيره: أحدهما: أن ذلك جائز، وتكون إقالة. والثاني: أنه لا يجوز. وينبني الخلاف: على الخلاف في الإقالة، هل تنعقد بغير لفظها أم لا؟ فإن كان أكثر من رأس ماله أو أقل: فإن ذلك لا يجوز قولًا واحدًا؛ لأن ذلك بيع الطعام قبل قبضه، وهذا إذا طلب لمن يأخذه عوضًا عن جميع حقه. فإن أراد أخذ العين عما وجب له في المحاصة، ويبقى الباقي في ذمة الغريم: فإنه يدخله بيع الطعام قبل قبضه، مع ما في ذلك من بيع وسلف، وما بقى في الذمة فهو بيع. وإن كان الذي له عرض من مسلم، فإن أخذه عوضًا عن جميع حقه، وكان مثل رأس ماله، أو أقل: فإن ذلك جائز؛ إذ لا يتهم أحد أن يدفع كثيرًا ليأخذ قليلًا فيما لا ضمان فيه. وإن كان أكثر من رأس ماله: فلا يجوز؛ لأن ذلك سلف بزيادة. فإن أخذه على أن يبقى الباقي في الذمة إلى يسره: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز؛ لأنه بيع وسلف؛ ما استرجع فهو بيع وما بقى فهو سلف، وهو مذهب "المدونة".

والثاني: أن ذلك جائز؛ لأن الحكم بالتفليس يرفع التهمة. فإن كان دينه قرضًا: جاز -كان عرضًا أو طعامًا- ولا علة في ذلك، لا على وجه، ولا على حال. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا غاب المال والمديان جميعًا: فلا تخلو غيبته من أن تكون قريبة، أو بعيدة. فإن كانت قريبة كالأيام اليسيرة: لم يفلس، ولكنه يكتب فيه ليكشف ملاه من عدمه. فإن كانت بعيدة: فلا يخلو من أن يعرف ملاه من عدمه، أو جهل حاله، ولا يدري أين هو. فإن عرف ملاه من غيبته، هل يفلس وتحل ما عليه من الديون المؤجلة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يفلس، والديون التي عليه تبقى إلى أجلها، وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، و"الموازية". والثاني: أنه يفلس كما لو كان حاضرًا والمال غائبًا، وهو قول أشهب في "العتبية" وغيرها؛ لأنه إذا خيف ثواء ماله، وهلاكه وجب تفليسه فكذلك يفلس أيضًا إذا كان هو وماله غائبين، وقال أصبغ: ويكتب تفليسه حيث هو، فيستقم ذلك عليه في الموضع الذي هو فيه. وعلى القول بأنه يفلس، وتحل ما عليه من الديون المؤجلة، فلو قدم بماله، وقد بقى للذين تحاصوا بقية، وللذين لم تحل ديونهم بقية، وقد كان له مال حاضر، فيتحاصوا فيه إلا أنه ليس فيه وفاء، فأراد الذين لم تحل ديونهم أن يأخذوا بقية ديونهم حالة، وآجالها لم تحل بعد، هل لهم أخذ ذلك على الحلول، أو تبقى إلى آجالها؟

فالمذهب يتخرج على قولين: أحدهما: أن ديونهم تبقى إلى أجلها، وحصاصهم إنما كانت للضرورة مخافة عدم الغريم، والآن قد انكشف الغيب إنه في حالة لا يجوز تفليسه. والثاني: أنهم يأخذون بقية ديونهم على الحلول، وكأنه حكم قد مضى باجتهاد الحاكم، وهو ظاهر قول أصبغ. فأمَّا إن جهل حاله أو عرف عدمه: فإنه يجوز تفليسه باتفاق المذهب. والجواب عن الوجه الثالث: إذا كان المال حاضرًا، أو الغريم غائبًا، فقام غرماؤه وطلبوا تفليسه: فإن السلطان يساعدهم على ذلك، فيفلسه لهم بغير تأني إن كان الغائب غير موصوف بالدين. وفي التأني بتفليس المعروف بالدين، قولان: أحدهما: أنه لا يستأني به؛ لأن ذمته باقية، وهي رواية مطرف، وابن وهب عن مالك في "كتاب ابن حبيب". والثاني: أنه يفلس بعد الاستيناء، وهو ظاهر المدونة. ولا خلاف فيمن عرف أنه ليس عليه دينًا أنه يحاصص به مع الحاضرين ويوقف به سهمه بيد أمين حتى يقدم إن كان غائبًا. والجواب عن الوجه الرابع: إذا كان الغريم حاضرًا والمال غائبًا: فإنه يفلس، قولًا واحدًا؛ لأنه لا يدري ما حدث في ماله، وهو نص قول أشهب في "العتبية" فيمن كان حاضرًا بمصر، وله مال بالأندلس، فإنه يفلس [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثانية في الغريم إذا فلس ثم رد إليه بعض الغرماء ما وقع له في الحصاص، ثم فلس ثانية

المسألة الثانية في الغريم إذا فلس ثم رد إليه بعض الغرماء ما وقع له في الحصاص، ثم فلس ثانية فلا يخلو هذا المال بيد الغريم من أن يكن من ربح ما أبقى بعض الغرماء في يده من المال الأول، أو فائدة أفادها، أو من معاملة أحدثها بعد مع قوم آخرين. فإن كان أصله فائدة أو ربح ما أبقاه بعض الغرماء في يده بعد التفليس: فإن الغرماء الأولين والآخرين يدخلون في ذلك، ولا حجة لبعضهم على بعض؛ لأنه ليس بعين مال واحد منهم بعد الاتفاق على أنه لا حق للغرماء الآخرين في عين ما أبقاه الأولون في يد الغريم في الفلس. وفي الموت قولان: وهما متأولان على "المدونة": وإلى التفريق بين الموت والتفليس، وأن الآخرين يدخلون أشار أبو إسحاق إلى هذا. وأما قولهم: إن أرباح ما ترك بيد الغريم كالفوائد، فذلك من ابن القاسم تناقض؛ لأنه جعل ربح العين كأصله في "كتاب الزكاة"، وجعل أن الربح لم يزل كامنًا في المال قبل أن تظهره الحركة، وكيف يقول إنه كالفوائد، وأن الأولين والآخرين يدخلون فيه؟، وإنما يتمشى ذلك لأشهب الذي جعل الربح كالفائدة في باب الزكاة، بيد أنهم قالوا: إن الأرباح تابعة للأصول إلا في ثلاث مسائل؛ منها هذه. والثانية: مسألة الغاصب إذا غصب دنانير، فاتجر فيها ثم ربح، أنه يرد رأس المال دون الربح. والثالثة: من اتجر بالوديعة فربح فيها، وفي ذلك كله نظر.

فإذا قلنا: إنهم يتحاصون جميعًا في الربح والفائدة؛ فإن الغرماء الآخرين يضربون فيه بجميع ما عليهم من الدين والأولون يضربون فيه بقدر ما بقى لهم بعد الذي تركوا في أيديهم من المحاصة أولًا إن بقى ذلك في أيديهم إلى يوم المحاصة الثانية، فإن هلك قبل ذلك فإنهم يتحاصون بجميع دينهم -ما بقى لهم وما ردوه إلى يد الغريم- وهذا نص قوله في "المدونة". وقد يعترض على هذا الكلام بأن يقال: لا يخلو المال الذي ردوه إلى يد الغريم من أن يكون على ملك الغرماء الذين أخذوه بالمحاصة، أو على ملك الغريم الذي ردوه إليه. فإن كان على ملك الغرماء، فكيف يكون ضمانه من الغريم إن هلك بأمر سماوي؟ أو كيف يشتركون مع الآخرين في ربحه؟ فإن كان على ملك الغريم، فكيف يختص من كان رده إلى يد الغريم دون من شاركه في أصل ذلك الدين، وإن كان هو قد استوفى ما ينوبه في المحاصة أولًا، وليس بذلك ببدع، وقد قال في "كتاب العتق" في العبد بين الرجلين إذا انتزعا ماله ثم رد أحدهما نصيبه إلى يد العبد: أن المال مال العبد، لا الذي رده، وأنه إن بيع بماله: كان الثمن بينهما على قدر سهامهما في العبد، ولا يختص الذي رد المال إلى يد العبد بما زاد الثمن لأجل المال، والاعتراض ظاهر. فأمَّا إذا كان المال الذي بيده من معاملة أحدثها مع قوم آخرين، هل يختص بذلك الآخرون؟ أما في الفلس: فلا خلاف في المذهب أن الآخرين أولى بذلك من الأولين؛ لأن ذلك من غير أموالهم، أو ما تولد منها؛ لأن معاملة

الأولين قد انقطعت. وأما في الموت: فالمذهب يتخرج فيه على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الأولين يدخلون مع الآخرين في ذلك؛ لانقطاع ذمة الغريم بالموت، وإليه أشار الشيخ أبو إسحاق التونسي. والثاني: أنهم لا يدخلون معهم في ذلك في الموت كما لا يدخلون معهم في الفلس، وهو ظاهر "المدونة". فانظر ما الفرق بين التفليس الثاني، والتفليس الأول؛ لأنه لا فرق في التفليس الثاني بين أن يكون المال الذي بيد الغريم أصله من فائدة، أو يكون أصله من معاملة حدثت، ولم يقل كذلك في التفليس الأول؛ بل قال: كل من له عليه دين، فإنه يضرب بين الغرماء بقدر دينه. فذهب بعضهم إلى أن ذلك اختلاف قول، وبعضهم يجعل ذلك اختلاف حال؛ وذلك أن أول التفليس قد طالت معاملة الغرماء للمديان وتناسل أصل معاملتهم حتى لا يدري أصل ما بيده من المال من معاملة أقوام معروفين لا يفردون بذلك كانفرادهم به في التفليس الثاني، وهذا الفرق لا بأس به، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثالثة في معرفة ما يتحاص به من الديون مما لا يتحاص به منها

المسألة الثالثة في معرفة ما يتحاص به من الديون مما لا يتحاص به منها فإن التحاصص لا يجب إلا بما تقرر في الذمة، لا بما كان معينًا؛ لأن من اشترى سلعة بعينها، ففلس البائع: فالمبتاع أحق بها من الغرماء، بإجماع من العلماء. وأما الديون الثابتة المتقررة في الذمة: فإنها تنقسم على قسمين: أحدهما: أن تكون واجبة عن عوض. والثاني: أن تكون واجبة عن غير عوض. فأما ما وجب منها عن عوض يتمول ولا يتمول، فلا يخلو من أن يكون العوض مقبوضًا، أو لا يكون مقبوضًا. فإن كان مقبوضًا كأثمان السلع المقبوضة، وأرش الجنايات، ونفقة الزوجات لما سلف من المدة، ومهور الزوجات المدخول بهن، وما خولعن عليه من شيء موصوف في الذمة: فإن المحاصة بذلك واجبة. وأما ما كان منها من غير مقبوض: فإن دلك ينقسم على خمسة أقسام: أحدها: ألا يمكنه دفع العوض بحال. والثاني: أن لا يمكنه دفع العوض، ويمكنه دفع ما يستوفي فيه. والثالث: أن يمكنه دفع العوض ويلزمه. والرابع: أن يمكنه دفع العوض ولا يلزمه. والخامس: أن لا يكون إليه تعجيل دفع العوض.

فأمَّا ما لا يمكنه دفع العوض؛ كنفقة الزوجات لما يأتي من المدة: فلا محاصة في ذلك بوجه. وأما ما لا يمكنه دفع العوض فيه، ويمكنه دفع ما يستوفي منه؛ مثل أن يكتري الرجل دارًا بالنقد، فيقاس المكتري قبل أن يقبض الدار، أو بعد أن قبض وسكن بعض السكنى: فلا خلاف أن المكري يحاص الغرماء بما مضى من المدة. واختلف في الحكم فيما بقى منها على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن المكري بالخيار إن شاء سلم السكني ويحاص الغرماء بكراء ما بقى، وإن شاء أخذ بقية السكنى، ويكون أولى به من الغرماء. وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، و"العتبية". والثاني: أنه يحاص الغرماء بكراء ما مضى، ويأخذ داره، ولا يكون له أن يسلمها، ويحاص الغرماء بجميع الكراء، وهذا الذي يأتي على أصل قول ابن القاسم في "المدونة" في قبض الأوائل في الكراء هو كقبض الأواخر أم لا؟ وأما تخيير ابن القاسم المكتري بين أخذ بقية السكنى، أو تسليمه، أو يحاص بجميع الكراء إنما يأتي على قول أشهب الذي يرى قبض أوائل الكراء كقبض أواخره، وهو أحد قولي ابن القاسم. ولو لم يشترط النقد في الكراء، ولا كان العرف فيه النقد لوجب على قول ابن القاسم الأول إذا حاص أن يوقف ما وجب له في المحاصة؛ فكما سكن شيئًا أخذ بقدره من ذلك. وأما ما يمكنه دفع العوض، ويلزمه كرأس المال المفلس إذا أفلس المسلم إليه قبل دفع رأس المال: فلا يخلو من أن يكون رأس المال عينًا، أو عرضًا.

فإن كان رأس ماله عينًا، هل يكون أحق برأس ماله من الغرماء أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يلزمه أن يدفعه، ويحاص به الغرماء، ولا يكون أحق به، وهو قوله في "كتاب ابن المواز"، وهو ظاهر قول أشهب الذي يقول: لا سبيل له إلى العين، وهو فيه أسوة الغرماء، وهو نص قوله في "العتبية". والثاني: أن له أن يمسكه، ولا يلزمه أن يدفعه ويحاص الغرماء؛ بل هو أحق برأس المال الذي بيده منه، وهو ظاهر قول ابن القاسم الذي يقول: إنه أحق بالعين في التفليس. وينبني الخلاف: في العين الذي بيده هل هو كالرهن أم لا؟ والصحيح أنه كالرهن؛ لأن التفليس يحل على المفلس، فإذا حل بالتفليس كان للذي له السلم أن يحبس رأس ماله. وللخلاف فيه مطلع بسبب آخر؛ وهو العين هل يتعين أو لا يتعين؟ فإن كان رأس المال عروضًا: كان له أن يمسكه، وهو أحق به من الغرماء، قولًا واحدًا؛ لأن سببه قائم بعينه. وأما ما يمكنه دفع العوض ولا يلزمه؛ كالسلعة إذا باعها، ففلس البائع قبل أن يدفعها إليه المبتاع، وهو بالخيار بين أن يمسك سلعته أو يسلمها، ويحاص الغرماء بثمنها، فلا خلاف في هذا الوجه، وهو ألا يكون إليه تعجيل بعض العوض؛ وذلك مثل أن يسلم الرجل إلى الرجل دنانير في عروض إلى أجل، فيفلس المسلم قبل أن يدفع رأس المال، وقبل أن يحل الأجل المسلم، فإن رضي المسلم إليه أن يعجل العروض، ويحاص الغرماء برأس مال السلم: فذلك جائز إن رضي بذلك الغرماء، فإن أبى ذلك

أحدهم حاص الغرماء برأس المال الواجب له فيما وجد للغريم من مال، وفي العروض التي عليه إذا حلَّت، وإن شاؤوا أن يبيعوا بالنقد ويتحاصوا فيها الآن، فذلك لهم. وهذا كله إنما يتخرج على القول بجواز تأخير رأس مال المسلم إن كان حيوانًا بلا كراهية، أو من العروض التي يغاب عليها مع كراهية لمالك في ذلك. فأما إن فلس المسلم بعد حول المسلم على المسلم إليه، فهو برأس المال أسوة الغرماء فيما حل عليه من السلم. وهل له أن يمسكه، فيكون أحق به من الغرماء أم لا؟ فالمذهب على قولين: وقد قدمناهما لابن القاسم، وأشهب، وبينَّا سبب الخلاف فيهما. ولا يخرج عن هذا التقسيم الذي قسمنا إلا الحكم في مهور الزوجات؛ فإن المحاصة بها واجبة على الجملة، وإن لم يقبض العوض؛ مثل أن يفلس الزوج قبل الدخول، فهل للزوجة الخيار بين الحصاص أو الفراق أم لا؟ على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن له الخيار إن شاءت حاصت الغرماء، وتبقى زوجة، وإن شاءت تركت الحصاص وطلب الفراق، وهو قول مالك في "كتاب النكاح الثاني" في المسعر بالصداق قبل البناء؛ حيث قال: يتلوم، فإن جاء بالصداق، وألَّا فرق بينهما. والثاني: أن المقاصة واجبة، ولا خيار لها، وهو اختيار القاضي ابن رشد.

وسبب الخلاف: اختلافهم في الصداق هل هو عوض، أو نحلة فمن جعله عوضًا قال: لها الخيار، ومن جعله نحلة قال: لا خيار لها. وعلى القول بأنها تحاص الغرماء على اختيارها، أو بغير اختيارها هل تحاص بجميع الصداق أو بنصفه؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تحاص بجميع صداقها. والثاني: أنها لا تحاص إلا بنصفه. وسبب الخلاف: اختلافهم في المرأة، هل تستوجب جميع الصداق بالعقد، أو إنما يجب لها النصف بالعقد، وجميعه بالموت؟ وعلى القول بأنها تحاص بجميع الصداق، فإن طلقها الزوج قبل البناء بها، وبعد الحصاص، ما الذي ترد مما قبضته؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها ترد الزائد على النصف إن صار لها في المحاصة أكثر من النصف، وهو قول ابن دينار. والثاني: أنها يكون لها نصف ما صار لها بالمحاصة، وترد النصف لأنه قد تبين بالأحرى أن الحصاص إنما كان بنصف الصداق خاصة، وهو قول ابن القاسم. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: وهي الحقوق الواجبة في الذمة من غير عوض، فإنها تنقسم على قسمين: أحدهما: أن تكون واجبة بالشرع من غير أن تلتزم. والثاني: أن تلتزم بالشرع إلا أن تلتزم. فأما ما كان منها واجبًا بالشرع، وإن لم تلتزم؛ كنفقة الآباء،

والأبناء، وما تحمله العاقلة من الدية، فاختلف فيه على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن المحاصة لا تجب بها، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن المحاصة تجب بها إذا لزمت بحكم السلطان، وهو قول أشهب. وأما ما لا تجب بالشرع إلا بأن تلتزم؛ كالهبات، والصدقات، والنحل التي لم تنعقد عليها الأنكحة، فلا خلاف -أعلمه- في المذهب أن المحاصة لا تجب بها؛ لأن الفلس يبطلها كما يبطلها الموت. وأمَّا النحل التي تنعقد عليها الأنكحة، وحمل أثمان السلع في عقود البيع، وحمل الصدقات في عقود الأنكحة؛ ففي النحل التي تنعقد عليها الأنكحة قولان. وأما حمل الصداق في عقد النكاح، وحمل الأثمان في عقود المعاوضات: فالمحاصة بها واجبة؛ لأنها لزمت عن عوض. وفي حمل الثمن بعد العقد، والصداق بعد العقد قولان: أحدهما: أن المحاصة بها واجبة؛ لأن الحميل له ترك اتباع ذمة غريمه من أجل ذلك، فأشبه العوض. والثاني: أن المحاصة بها غير واجبة؛ لأنها خرجت عن غير عوض. والقولان حكاهما بعض المتأخرين، ولم يسم قائلهما، [والحمد وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الرابعة في معرفة ما يكون به الغريم أحق من الغرماء في الموت والفلس، أو في الفلس دون الموت مما لا يكون أحق به لا في الموت، ولا في الفلس

المسألة الرابعة في معرفة ما يكون به الغريم أحق من الغرماء في الموت والفلس، أو في الفلس دون الموت مما لا يكون أحق به لا في الموت، ولا في الفلس وتحصيله: أن الأشياء المبيعة بالدين تنقسم في التفليس على ثلاثة أقسام: عرض يتعين، وعين اختلف فيه هل يتعين أم لا، وعين لا يتعين. فأمَّا العرض: فلا يخلو من أن يكون باقيًا في يد بائعه، ولم يسلمه إلى المشتري، وإما أن يكون قد أسلمه إليه وقبضه منه. فإن كان في يد بائعه لم يسلمه إلى المشتري حتى فلس، والبائع أحق به في الموت والفلس، ولا خلاف في ذلك. وإن قبضه المشتري منه، وصار في حوزه، ثم أفلس المشترى والسلعة في يده: فقد اختلف فيه فقهاء الأمصار على ثلاثة مذاهب: أحدها: أن يكون أحق بها في الموت والفلس جميعًا، وهو مذهب الشافعي. والثاني: أنه يكون أسوة الغرماء في الموت والفلس جميعًا، وهو مذهب أبي حنيفة. والثالث: أنه يكون أحق بها في الفلس، وهو في الموت أسوة الغرماء وهو مذهب مالك، رضي الله عنهم أجمعين، وهو أقرب إلى الصواب. وسبب الخلاف بين مالك والشافعي: تعارض الأخبار، وتجاذب الاعتبار.

فأما الأخبار: فمنها ما خرَّجه مالك من مرسل ابن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما رجل باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه شيئًا فوجده بعينه، فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه، فصاحب المتاع أسوة الغرماء" (¬1). ويعارضه ما رواه ابن أبي ذئب عن أبي هريرة قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيما رجل مات أو فلس، فصاحب المتاع أحق به (¬2). فسوَّى في هذه الرواية بين الموت والفلس. وأما الاعتبار: فإن مالكًا فرق بين الموت والفلس بناء على أن ذمة الغريم في الفلس قائمة؛ فيتبعه غرماؤه بما بقى عليه، وذلك لا يتصور في الموت، وهذا قياس معنى. وأما الشافعي: فإنه قال: هذا مال لا يتصرف فيه لمالكه إلا بعد أداء ما عليه، فأشبه مال المفلس، وهذا قياس. وقياس مالك أولى من قياس الشافعي، ويرجح حديثه على حديث [ابن أبي ذئب] (¬3) من جهة موافقة القياس له؛ وذلك أن ما وافق من الأحاديث المتعارضة قياس المعنى، فهو أقوى مما وافقه قياس الشبه. ومن مثل ما خرَّج مالك خرَّجه عبد الرزاق. فإذا قلنا: إنه في الفلس أولى بسلعته، فإن أراد الغرماء أن يفتكوها ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1357)، وأبو داود (3520)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬2) أخرجه ابن ماجة (2360)، والحاكم (2314)، والدارقطني (3/ 29)، وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى. (¬3) في أ: ذؤيب.

منه بالثمن الذي بيعت منه، فهل لهم ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لهم، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه لا يجوز لهم أن يأخذوها إلى أن يزيدوه زيادة يحطونها عن المفلس من دينهم. وهو قول أشهب في "العتبية" و"الموازية"، و"الواضحة". وعلى القول بأنهم يأخذونها بالثمن من غير زيادة عليه، هل يفتكونها بمال المفلس أو بأموالهم؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الثمن من مال الغريم، وضمانها منه إن هلكت. وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وبه قال ابن كنانة في "الواضحة" وغيرها. والثاني: أن الثمن من مال الغريم، أو من أموالهم [فأيًا] (¬1) كان فإنه يجوز، وما كان فيها من وضيعة، أو هلكت بكليتها، فذلك من الغرماء، وضمانها منهم. وهو قول ابن الماجشون في "العتبية"، و"الموازية"، و"الواضحة" وشبهها بعبد الرهن يجرح، فأبى سيده أن يفديه، ويسلمه فيفتكه المرتهن بأرش جنايته، ثم يموت: فضمان ما أفتكه به المترهن منه، ويتبع سيد العبد بالدين الأول، دون ما فدى به العبد. والثالث: التفصيل بين أن يتقدم إليهم المفلس، أو لا يتقدم إليهم؛ فإن تقدم إلى الغرماء، فنقول لهم: إما أن تحبسوا السلعة كأنفسكم وتبروني ¬

_ (¬1) في أ: فأي.

منها، أو يكون ضمانها منكم، وإلا فدعوه يأخذه. فإن قال لهم هذا، ثم حبسوها ودفعوا الثمن: فضمانها منهم، ولا شيء منها على المفلس، فما كان فيها من ربح، ونماء فهو للمفلس. وإن لم يتقدم إليهم: فضمانه منه. وهذه رواية يحيى بن يحيى عن ابن وهب في "العتبية". وكذلك الحكم فيما إذا قبض بعض الثمن ويبقى البعض، في جميع ما ذكرناه وبيناه. وكذلك الحكم فيما يشبه البيع من جميع المعاوضات؛ كالهبة للثواب وغيرها. وأما الرد بالعيب إذا اشترى سلعة فوجد بها عيبا، ثم ردها على البائع وقد فلس: فلا يخلو من أن يكون التفليس قبل الرد، أو بعده. فإن فلس البائع بعد أن ردت إليه السلعة وصارت في يده، ثم قام المشتري بالثمن، والسلعة قائمة بيد البائع، هل يكون أحق بها من الغرماء أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يكون أحق بها من الغرماء. والثاني: أنه لا سبيل له إلى السلعة، وإنما يكون أحق بالثمن الذي دفع إن وجده بعينه في الموت والفلس، فإن لم يجده بعينه فهو أسوة الغرماء. وسبب الخلاف: الرد بالعيب هل هو نقض بيع، أو بيع مبتدأ؟ فعلى القول بأنه بيع مبتدأ: يكون أحق بها في الفلس دون الموت. وعلى القول بأنه نقض بيع: فلا حق له في السلعة، وحقه في الثمن.

فإن فلس البائع والسلعة في يد المشتري، والرد قد وجب هل يكون أحق بها من الغرماء حتى يستوفي الثمن أم لا؟ أما على القول بأن الرد بالعيب ابتداء بيع: فلا خلاف في المذهب أنه أحق بها. وأما على القول بأنه نقض بيع: فالمذهب يتخرج على قولين. أما من اشترى سلعة شراء فاسدًا، ففلس البائع بعد أن رد المشتري السلعة: فإنه لا سبيل له إليها قولًا واحدًا، وإنما حقه في عين ثمنه إذا وجده. فإن فلس بعد أن فسخ البيع، وقبل أن يرد المشتري السلعة، هل يكون أحق بالسلعة حتى يستوفي ثمنها أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يكون أحق بها، وهو قول سحنون، وهو ظاهر "المدونة" من "كتاب الرهون" من مسألة: الرهن الفاسد. والثاني: أنه لا يكون أحق بها، وهو قول ابن المواز. والثالث: أنه إن كان ابتاعها بنقد فهو أحق بها، وإن ابتاعها بدين فلا يكون أحق بها، وهو أسوة الغرماء، وهو قول ابن الماجشون. ولا خلاف بينهم أنه إن وجد الثمن الذي دفعه بعينه أنه أحق به في الموت والفلس جميعًا، وما ذكرنا أن صاحبه يكون أحق به إذا أدركه بعينه؛ فتعيينه يكون بأحد وجهين: إما ببينة تقوم على أنه عين شيئه، وإما بإقرار المفلس به قبل التفليس. واختلف إذا اعترق به بعد التفليس على ثلاثة أقوال:

أحدها: أن قوله مقبول، قيل: مع يمين صاحب السلعة، وقيل: بغير يمين. والثاني: أن قوله غير مقبول، ويحلف الغرماء أنهم لا يعلمون أنها سلعته. والثالث: أنه إن كان على أصل المعاملة ببينة قبل قوله في تعيينها، وإلا لم يقبل. وهي رواية ابن أبي زيد عن ابن القاسم في "ثمانيته". وأما العين فهو أحق به في الموت والفلس ما كان بيده. واختلف إذا دفعه إلى من بايعه به ثم فلس أو مات، وهو قائم يعرف بعينه، هل يكون أحق به أم لا، على قولين: أحدهما: أنه يكون أحق به في الفلس دون الموت كالعروض، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا سبيل له إليه، وهو أسوة الغرماء، وهو قول أشهب. وينبني الخلاف: على الخلاف في العين، هل تصح الشهادة على عينه أم لا؟ فإذا لم يعرف بعينه: فهو أسوة الغرماء في الموت والفلس، قولًا واحدًا. وأما العمل الذي لا يتعين؛ كالأجير على خدمة، أو على خياطة فتوق، أو صياغة، أو حياكة، وما أشبههم ممن لم يبع إلا العمل، وهؤلاء إذا وقع التفليس قبل استيفاء العمل: فإنهم أحق بما عليهم من بقية العمل في الموت والفلس. فإن وقع التفليس بعد الفراغ من العمل: فلا يخلو من أن يسلم السلعة

لصاحبها، أو يمسكها عنده. فإن حبسها عنده، ولم يسلمها لربها: فإنه يكون أحق بها في الموت والفلس حتى يستوفي أجرته؛ لأنها في يده كالرهون، وهو مذهب المدونة. فإن سلموها لأصحابها: فهم أسوة الغرماء في الموت والفلس، إلا أن يخرج من عنده شيئًا؛ كخياط أخرج من يده رقاعًا فرقع الثوب، أو صباغ صبغ الثوب، ولا شك أن هؤلاء أحق بما أخرجوه في الفلس، وهو في الموت أسوة الغرماء. واختلف في وجه العمل في ذلك، على قولين: أحدهما: أنه يكون أحق بما زاد في الثوب لأجل الرقاع والصباغ، وهو قول محمد بن المواز في الصباغ. والثاني: أنهما يكونان شريكين بقدر قيمة ما أخرجاه، وهو قوله في "كتاب ابن حبيب". ويتخرج في المسألة قول ثالث: في عين الثوب، وما قارب أجرتهما في عملهما تحاصا به مع الغرماء. واختلف في الأجير على سقي الزرع، وفي رب الأرض إذا أكرى أرضه، ثم فلس رب الزرع، هل يكون الأجير ورب الزرع أولى بالزرع من الغرماء أم لا؟ على أربعة أقوال: أحدها: أنه أحق بالزرع في الموت والفلس، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم، وهو ظاهر قول أشهب، وابن القاسم في "كتاب ابن حبيب"؛ لأنهم قالا فيه: أن رب الأرض أولى بالزرع حتى يأخذ جميع الكراء إلا أن أن يدفعوا إليه، وهو نص رواية أصبغ في أجير السقي. والثاني: أنهما في الموت والفلس أسوة الغرماء، وهو اختيار القاضي

أبي الوليد بن رشد. والثالث: أنهما أحق بالزرع في الفلس، وهما في الموت أسوة الغرماء، وهو نص المدونة فيهما جميعًا. والرابع: الفرق بين أجير السقي، ورب الأرض؛ فرب الأرض أولى به في الموت والفلس، وأجير الأرض أولى به في الفلس وهو في الموت أسوة الغرماء، وهذا القول حكاه أبو إسحاق التونسي رحمه الله. فوجه القول الأول: أن الأرض لربها، والأجير يده على ما أخرج لم يسلمه؛ بل هو باق في حرزه، وتحت يده، فأشبه الصانع إذا فلس رب المتاع قبل أن يخرجه من يده. ووجه القول الثاني: أن الأرض غير قابضة على ربها، والزارع قد أخرج البذر والزرع عنه يكون ما أجرى الله عليه عادته، وأطرد به سنته بين عباده، ويده على الزرع والأجير على السقي ليس في يده من عمله شيء؛ لأنه في حكم المقبوض عنه، فأشبه المستأجر على رعاية غنم، أو إبل، أو رحلها الذي هو محل الاتفاق. ووجه القول الثالث: أن الأرض هي المتمة للزرع، فكان ربها مخرجًا للزرع بما استأجر أرضه، فأشبه بائع الزرع إذا أخرجوه من يده، والأرض غير قابضة، وأجير السقي كذلك أيضًا كأن عمله خرج من يده، والزرع في ملك الزارع وتحت يده وفي حوزه، لا في حوز الأجير بجواز بيعه إياه لمن يحصده في الحال. ووجه القول الرابع: بالتفصيل أنه جعل الأرض قابضة على ربها والأجير خرج عمله من يده، وحصل في حوزه غيره، فكان أحق به

في الفلس مع قيامه خاصة. وأما مكري الدابة أو مكتريها إذا فلس أحدهما: فإنهما أولى بما في أيديهما على تفصيل وتحصيل. أما المكري إذا أكرى دوابه على حمل متاع إلى بلد، فأفلس المكتري: فلا يخلو من أن يكون سائرًا مع داوبه، أو تخلف عنها. فإن سار معها: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب أنه أحق بما على ظهور دوابه في الموت، والفلس ما دام المتاع على ظهور دوابه أو سفينته. فإن فارق ظهور دوابه وقبضه ربه، هل يكون المكري أحق به، أو يكون أسوة؟ فالمذهب على قولين متأولين على المدونة: أحدهما: أنه يكون أسوة الغرماء في الموت والفلس، وهو قوله في "العتبية"، وهو ظاهر المدونة؛ حيث قال: وهو كالرهن، والرهن إنما يكون المرتهن، أحق به ما دام في حوزه، فإذا خرج من حوزه بطل حقه في الرهن. والثاني: أنه يكون أحق به، وإن فارق ظهور دوابه، وقبضه المكتري وهو تأويل أحمد بن خالد على المدونة، وتعلق في ذلك بقوله في "الكتاب": ولأن على دوابه وصل إلى البلد. فإن لم يكن معها المكري، وإنما سلم دوابه للمكتري، هل يكون الجمال أحق بها أم لا؟ فالمذهب يتخرج على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يكون أحق بالمتاع في الموت والفلس كما لو كان معها، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب".

والثاني: أنه يكون أسوة الغرماء في الموت والفلس؛ قياسًا على الصانع إذا سلم العمل من يده. والثالث: أنه يكون أحق به في الفلس، وهو في الموت أسوة الغرماء؛ قياسًا على مكري الأرض، وأجير السقي. وسبب الخلاف: الأملاك هل هي قابضة على ملاكها أم لا؟ فمن قال أنها قابضة على ملاكها قال: إنه يكون أحق بالمتاع في الموت والفلس لأن ظهورها حوز لما عليها -كان معها صاحبها أم لا. ومن رأى أنها غير قابضة قال: يكون أسوة الغرماء في الموت ولظهور الدواب هناك بعض التأثير، فأشبهت يد الساقي؛ لأن المتاع ينمو في ثمنه يسير الدواب كما أن الزرع ينمو بسقى الساقي، وأما المكتري فإنه أولى بالدواب والسفينة إذا فلس الجمال، ورب السفينة حتى يبلغ الغاية التي إليها اكترى في الموت والفلس؛ لأنه جائز بما معه من الجمال والسفينة. وأما الدور والحوانيت إذا فلس أحد المتكاريين: فإذا فلس المكري: فإن المكتري أحق بها، قولًا واحدًا -سكن أو لم يسكن- لأنه شيء بعينه فلس صاحبه؛ كالسلعة المشتراه بعينها بفلس بائعها، وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، و"الواضحة". فإن فلس المكتري، هل يكون رب الدار والحانوت أولى بالمتاع أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يكون أحق به، وهو أسوة الغرماء في الموت والفلس، وهو مذهب "المدونة"، وهو المشهور في النقل. والثاني: أن رب الدار أحق بما فيها كالدابة، هو قول عبد الملك، على

ما نقله الشيخ أبو إسحاق التونسي، غير أنه لم يبين إن كان أحق به في الموت والفلس، أو في الفلس دون الموت. وتلخيص القول في ذلك أن تقول: لا خلاف أن البائع أحق بما في يده في الموت والفلس، ولا خلاف أيضًا أنه أحق بما أسلمه، وأخرجه من يده فألقاه قائمًا أنه أحق به في الفلس، وفي الموت أسوة الغرماء. ولا خلاف أيضًا فيما لم يكن بيده، ولا ألقاه عند مبتاعه قائمًا يعرف بعينه أنه فيه أسوة الغرماء في الموت والفلس. وما يوجد من الخلاف في بعض المسائل فليس بخلاف لما أصلناه وحصلناه، وإنما وقع الخلاف بينهم فيه؛ لاختلافهم من أي قسم هو. تم الكتاب والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

كتاب المأذون له في التجارة

كتاب المأذون له في التجارة

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد. كتاب المأذون له في التجارة تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها أربع مسائل: المسألة الأولى في الفرق بين الذمة والرقبة حقيقة وحكمًا فإن كان أكثر مسائل هذا الكتاب أحكامها جارية على ما يترتب في الذمة، أو يكون في الرقبة؛ فلأجل هذا يجب أن نبتدئ بها، ثم نتعقبها بمسائل الكتاب على الولاء إن شاء الله، فنقول -وبالله التوفيق: إن الفرق الحقيقي؛ وهو أن الرقبة عبارة عن شهامته، وهيكله، ودأبه؛ فإذا قيل في حكم من الأحكام هو في رقبة فلان، فالمراد أن يقضي منها عينًا، لا بدلًا. وأما الذمة: فليست بعبارة عن ظرف ووعاء أثبتها الشرع لتكون محملًا للإلزام والالتزام شرعًا، لا وجود لها في الأعيان، وإنما وجودها في الأذهان؛ كالإنسانية في الإنسان، وكالحيوانية في الحيوان؛ وذلك أن الآدمي لما فارق سائر الحيوانات بخطاب الشرع فارقها بذمة تكون محملًا للالتزام في العقود والحقوق والتمليكات، وغير ذلك من أسباب الأحكام، وهو نوع كرامة لبني آدم لما أكرموا بالخطاب الملزم محقوق أكرموا بالمحل لذلك. وأما الفرق الحكمي: فهو كل دين التزمه برضا من له الدين، فهو في ذمته، وسموا هذا بأنه دين معاملة. وكل ما التزمه بغير رضاه فهو في رقبته، وسموا هذا دين جناية.

ولا خلاف في أروش الجنايات أنها في الرقبة، ولا خلاف أيضًا فيما استدانه بغير إذن سيده أنه لا يعلق بالرقبة؛ بل هو في الذمة ما لم يفسخه السيد عنه، وبينهما أوساط مشكلة؛ وذلك أن ما استدانه بإذن السيد فيه للعلماء المتقدمين مذهبان: فمن جعله في الرقبة قاسه على الجنايات، ومن جعله في الذمة قاسه على الدين، وبه نقول -نحن المالكية- والشافعية. والفرق بينه وبين الجنايات: أن الخطاب في الجنايات للسيد لما كان قضاؤها من رقبة يملكها، وخطاب السادات في الذوات، والخطاب في الديون للعبد، وخطاب العبيد في الأموال لتصديهم للمعاملات تصدي الأحرار لها، بيد أنا نقول: تعلق الجناية بالرقبة خارج عن قياس الأصول، ومنهاج القواعد، فإشكال الجناية وارد على المذهبين، لازم للخصمين، فدفعه متعين على الفريقين، وفيه غموض، وإزاحته [محالة] (¬1) على فن الأصول، [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: محال. (¬2) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثانية في إذن السيد لعبده في التجارة

المسألة الثانية في إذن السيد لعبده في التجارة ينبغي أن تعلم أن العبد -وإن قلنا نحن معاشر المالكية أنه يملك على الحقيقة- فإنه منزوع من التصرف في ماله؛ لعقد الرق الذي ارتكب فيه؛ إذ لا يصح للمالك التصرف في ماله إلا بأربعة أوصاف: البلوغ، والحرية، وكمال العقل، وبلوغ الرشد. فأما اشتراط الحرية: فلأن العبد -وإن كان يملك- فإن ملكه غير مستقر؛ إذ للسيد انتزاعه منه، فهو محجور عليه فيه لحق السيد، فلا يجوز له فعل، ولا تصرف إلا بإذن سيده. فإن أذن له السيد: فلا يخلو إذنه من أن يكون إذنًا مطلقًا، أو يكون إذنًا خاصًا. فإن كان إذنًا عامًا: فتصرفه في جميع أنواع المعاوضات جائزة على اختلاف أنواعها وتباين صفاتها من المتأخر، ولا اعتراض عليه، وله أن يبيع بالدين أو يشتري به، ولا خلاف في ذلك. فإن كان إذنه إذنًا خاصًا: فلا يخلو من أن يكون خاصًا بالصيغة، والإشهاد، أو خاصًا بالصيغة دون الإشهاد. فإن كان إذنًا خاصًا بالصيغة والإشهاد، والإشهار على رؤوس الأشهاد؛ مثل أن يأذن له في نوع له من المتاجر، وأشهر ذلك وأعلنه: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب نصًا أنه محجور عن التصرف فيما عدا ذلك النوع، وأنه فيه باق على المنع، وأن من عامله في غير ذلك النوع قد عرض ماله للتلف.

وإن كان إذنًا خاصًا بالصيغة دون الإشهاد والإشهار؛ مثل أن يأذن له في نوع من المتاجر، ولم يشهر ذلك، هل يجوز له أن يتصرف في غير ذلك النوع، ويلزم السيد؟ وهل يجوز له أن يبيع بالدين أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك لازم للسيد، وهو قول ابن القاسم في المدونة، في أول "كتاب المأذون"؛ حيث قال: لأنه أقعد للناس، ولا يدري الناس لأي أنواع التجارة أقعده، فيجوز له أن يبيع بالدين وغيره، وهو قول أصبغ في التحجير في الدين؛ إذ لا فرق بين أن يحجر عليه في التجارة في الدين، أو يحجر عليه في التجارة في نوع من الأنواع. والثاني: أنه لا يجوز له أن يتجر في الدين إذا حجر عليه في التجارة به، وهو قول سحنون، وكذا يلزم على قوله إذا حجر عليه في التجارة في نوع من المتاجرة. وأما الرشد: فإن الله تعالى جعل الأموال قوامًا للعيش، وسببًا للتجارة، وصلاحًا للدين والدنيا، ونهى عن إضاعتها وتبذيرها في غير وجوهها؛ نظرًا منه لعباده، ورأفة بهم، فقال تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (¬1)، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} الآية (¬2). وأمرنا أن لا نمكن منه السفهاء؛ حراسة لها من أن تبذر وتنفق في غير وجوهها؛ فقال تبارك وتعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (¬3). وأما اشتراط البلوغ: إذ لا يصح الرشد من صبي لضعف ميزه بوجوه ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآيتان (26، 27). (¬2) سورة الفرقان الآية (67). (¬3) سورة النساء الآية (5).

منافعه، ولا من مجنون؛ لسقوط ميزه وذهاب رأيه. فوجب الاحتياط للأموال، وقطع مادة النظر عنها بأن يمنع من التصرف فيها من ليس من أهل التصرف فيها، ويحجر عليه، ويحال بينه وبينها؛ خشية الإضاعة لها، امتثالًا لأمر الله فيها. وأما البلوغ: فحده الاحتلام في الرجال، والحيض في النساء, أو يبلغ أحدهما من السن أقصى سن من يحتلم، وقد اختلف فيه عندنا من خمسة عشر إلى ثمانية عشر عامًا. وأما العقل: فمحله القلب عند مالك، على مشهور مذهبه، وحده: علوم يتميز من اتصف بها عن البهيمة والمجنون؛ كالعلم بأن الاثنين أكثر من واحد، وأن الضدين لا يجتمعان، وأن السماء فوقنا والأرض تحتنا، وأن الجمل [لا يلج] (¬1) في سم الخياط. فحد البلوغ وكمال العقل تدرك معرفتهما بأدنى حظ من النظر والاستدلال. وأما الرشد حده في المال، فحبس النظر، ووضع التصرف فيها، واختلف هل من شرط كماله الصلاح في الدين أم لا، على قولين قائمين من كتاب الأيمان في الطلاق وغيره، وهو مما يخفى ولا تدرك معرفته إلا بطول الاختبار في المال والتجربة له فيه؛ ولهذا المعنى وقع الاختلاف بين أهل العلم في الحد الذي يحكم فيه للإنسان بالرشد، ويدفع إليه ماله، ويمكَّن من التصرف فيه، والاختلاف في هذا إنما هو على حسب الأحوال؛ وهي تنقسم على أربعة أقسام: حال الأغلب من صاحبها السفه، فيحكم له فيها، بحكمه وإن ظهر رشده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وحال محتملة للرشد والسفه، والأظهر من صاحبها الرشد: فيحكم له به ما لم يظهر سفهه، على اختلاف كثير من أصحابنا في هذه الأقسام على ما سنبينه إن شاء الله. والجواب عن الحال الأول: الذي يحكم له فيها بحكم السفه، وإن ظهر رشده؛ فمنها حال الصغير: فلا خلاف في المذهب أن الصغير -الذي لم يبلغ الحلم من الرجال، والتي لم تبلغ الحيض من النساء- لا يجوز له التصرف في ماله بالمعروف من هبة، ولا صدقة، ولا عتق، وإن أذن له في ذلك الأب أو الوصي إن كان ذا أب، أو وصي. فإن باع أو اشترى، أو مغل ما يشبه البيع أو الشراء مما يخرج عن عوض، ولا يقصد فيه إلى معروف: كان موقوفًا على نظر وليه -إن كان له وليّ- فإن رآه سدادًا، أو غبطة: أجازه وأنفذه، وإن رآه خلاف ذلك: رده وأبطله. وإن لم يكن له وليّ قدم له القاضي وليًا ينظر له، وإن غفل عن ذلك حتى يلي أمره: كان النظر إليه في إجازة ذلك أو رده. واختلف إذا وافق فعله السداد، والنظر مما كان يلزم الوليّ فعله، هل له أن يرده، ولاسيما إن تغير ذلك بنماء أو نقصان؟ على قولين؛ ومشهور المذهب أن ذلك له. وعلى القول بأن له أن يرده هل يستحب له إمضاء فعله أم لا؟ على قولين، كليهما متأول على المدونة: أحدهما: أنه يستحب له الإمضاء في الجميع، وهو ظاهر قوله في "المدونة" لإطلاقه، وعله اختصر المختصرون، وألَّا فرق بين العتق، والصدقة، والبيع.

والثاني: أنه يستحب ما لله فيه قربة أن يقضي دون ما بينه وبين العباد، وعليه تأول ما في المدونة، وهو قول أشهب في سماعه، ويلزم ما أفسد أو كسر مما لم يؤتمن عليه في حاله. واختلف فيما أفسد أو كسر مما ائتمن عليه على قولين: أحدهما: أنه لا يلزمه، وهو مذهب "المدونة" وعليه الجمهور. والثاني: أنه يلزمه، وهو قول ابن كنانة. ومنها حال البكر ذات الأب أو الوصي ما لم تتعنس على مذهب من يعتبر تعنيسها، أو ما لم تتزوج، ويدخل بها زوجة على مذهب من لا يعتبر تعنيسها. ومنها حالة من ثبتت عليه ولاية من قبل الأب، أو سلطان حتى يطلق منها على قول مالك وجميع أصحابه إلا ابن القاسم قال: إن بيعه وشراءه جائز إذا كان سدادًا. والجواب عن الحال الثاني: التي يحكم له فيها بحكم الرشد، وإن علم سفهه: فمنها حال السفيه إذا كان لم تثبت عليه ولاية من قبل أب أو سلطان على اختلاف بين أصحاب مالك في ذلك، وقد اختلفوا فيه على أربعة أقوال: أحدها: أن بيعه وشراءه وقضاءه جائز حتى يولي عليه، وسواء خرج من الولاية بالبلوغ وإيناس الرشد منه، أو لم يخرج منها من يوم بلغ إلى وقته، وبه قال ابن كنانة، وابن نافع، وأكثر أصحاب مالك. والثاني: أن بيعه وشراءه وقضاءه في ماله لا يجوز جملة بلا تفصيل؛ لأنه لم يزل في ولاية السلطان مذ كان، والسلطان وليّ من لا وليّ له،

وليس ترك السلطان ما يلزمه من التولية عليه مما يخرجه من ولايته. وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، و"المدونة". والثالث: التفصيل بين أن يتقدم عليه الحجر والولاية ثم خرج برشد الحال، ثم حجر عليه ثانية، فتكون أفعاله نافذة ماضية، فإن لم يأت عليه حال رشده، وهو منذ بلغ سفيهًا: فأفعاله مردودة كما قال ابن القاسم لأنه لم يخرج من ولاية السلطان. وهو قول مطرف، وابن الماجشون في "كتاب ابن حبيب". والقول الرابع: أنه إن كان معروفًا بالسفه، معلنًا به. فأفعاله له غير جائزة، وإلا فأفعاله جائزة جملة بلا تفصيل بين أن يتصل سفهه أم لا. وهو قول أصبغ في "العتبية". والجواب عن الحال: التي يحكم له فيها بحكم السفه ما لم يظهر رشده: فمنها حال الابن بعد بلوغه في حياة أبيه، على الخلاف بين أصحابنا في ذلك، وقد قدمناه في أول "كتاب النكاح الأول"، وقد كنا استقرأنا من "الكتاب" ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون رشيدًا بنفس البلوغ، ويخرج من ولاية الأب. والثاني: أنه لا يخرجه من ولايته إلا الرشد، وصلاح الحال، وهو قوله في "كتاب الصدقة" وغيرها. والثالث: التفصيل بين النفس والمال، وهو تأويل الشيخ أبي محمد بن أبي زيد على "المدونة"، وهذا في المجهول الحال. ومنها: حال البكر، أو اليتيمة التي لا وصي لها إذا تزوجت، ودخل بها زوجها من غير حد، ولا تفرقة بين ذات الأب واليتيمة، على رواية

ابن القاسم عن مالك، خلافًا لمن حد في ذلك حدًا، أو فرق بين ذات الأب واليتيمة، على ما سنذكره بعد إن شاء الله. والجواب عن الحال: التي يحكم له فيها بحكم الرشد ما لم يظهر سفهه: فمنها حال البكر المعنس -على مذهب من يعتبر تعنيسها- وقد اختلف في حده. أو التي دخل بها زوجها، ومضى لدخوله بها العام، أو العامان أو السبعة الأعوام، على الاختلاف في الحد المؤقت في ذلك بين من وقته. ومنها: حال الابن ذي الأب بعد بلوغه، والابنة البكر بعد بلوغها على رواية زياد عن مالك. ولا يخرج عن هذا التفصيل الذي فصلناه وقسمناه شيء من الخلاف الحاصل بين أصحابنا في هذا الباب، وأنا أذكر من ذلك ما حضر في حفظي بأقرب تلخيص، وأحسن تحصيل: أما الابن فهو في ولاية أبيه ما دام صغيرًا لا يجوز له فعل إلا بإذن أبيه، فإذا بلغ فلا يخلو أمره من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون معلوم الرشد. والثاني: أن يكون معلوم السفه. والثالث: أن يكون مجهول الحال لا يعلم رشده من سفهه. فإن كان معلومًا بالرشد: فأفعاله جائزة ليس للأب أن يرد منها شيئًا وإن لم يشهد على إطلاقه من الولاية، فقد خرج منها ببلوغه مع ما ظهر من رشده.

وأما إن كان معلومًا بالسفه: فلا يخرجه الاحتلام من ولاية أبيه، وأفعاله كلها مردودة غير جائزة. وأما إن كان مجهول الحال لا يعلم رشده من سفهه: فقد اختلف فيه المذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه محمول على السفه حتى يثبت رشده، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الصدقة"، و"الهبة"؛ حيث قال: ليس الاحتلام بالذي يخرجه من ولاية أبيه حتى يعرف حاله، ويشهد العدول على صلاح أمره، وهو ظاهر سائر الروايات عنه، وعن مالك في "المدونة" وغيرها. والثاني: أنه محمول على الرشد حتى يثبت سفهه، وأنه بالاحتلام يخرج من ولاية أبيه إذا لم يعرف سفهه ولا رشده، روى ذلك زياد عن مالك، وهو ظاهر ما وقع في أول "كتاب النكاح الأول" من "المدونة". والثالث: التفصيل بين النفس والمال؛ ويحمل على الرشد في نفسه، وعلى السفه في ماله، وهو تأويل أبي محمد على "المدونة" في قوله: وإذا احتلم الغلام، فله أن يذهب حيث شاء، إلا أن يخاف عليه من ناحية السفه، فللأب أن يمنعه، وقال الشيخ أبو محمد: يريد بنفسه لا بماله. والرابع: أنه لا يخرج بالاحتلام من ولاية أبيه حتى يمر به العام ونحوه، وإليه ذهب ابن العطار في وثائقه. ولا زلت قط أتأمل قوله في "كتاب النكاح الأول" أنه إذا احتلم يجوز أن يذهب حيث يشاء، فأباح له الأسفار والجولان في الأمصار بغير رضي الأب والاختيار. ووقع في "العتبية" من رواية أشهب عن مالك أنه سأله رجل فقال: إن ابني تزوج امرأة، وهو يريد أن يذهب معها ويدعني وأنا شيخ كبير لا

أقدر على نزع الشوكة من رجلي؟ فقال: إن كان قد بلغ، وليس بسفيه ولا ضعيف العقل، وهو يلي نفسه: فذلك جائز له، وهو رجل يخرج إن شاء إلى العراق، وإن كان لا يلي نفسه، وهو سفيه مأخوذ على يديه: فليس ذلك له. فانظر كيف أباح له مالك الخروج إلى العراق إذا كان رشيدًا -شاء الأب أو أبى- ومنعه في مشهور مذهبه أن يخرج لحجة الفريضة إلا بإذن أبويه وهذا الذي لم أزل أتفكر فيه مع عموم الأزمان. فإن كان في ولاية وصي: فلا يخلو من أن يكون وصيًا من قبل الأب، أو من قبل القاضي. فإن كان وصيًا من قبل الأب، هل يخرج من الحجر بإطلاق الوصي أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يخرج منه بإطلاق الوصي، وإن لم يعلم رشده إلا من قوله، وهو مصدق فيما يذكر من حسن حاله كالأب. والثاني: أنه لا يجوز إطلاقه إلا أن يتبين رشده وحسن حاله، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في "العتبية". فإن كان وصيًا من قبل القاضي -أعني: مقدمًا: فقد اختلف في إطلاقه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يطلقه من ولايته إلا بإذن القاضي الذي قدمه عليه. وهو قول ابن زرب وغيره، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في وصي الأب، فكيف عند وصي المقدم من جهة القاضي. والثاني: إن إطلاقه جائز دون إذن القاضي، وإن لم يعلم رشده إلا من قوله.

والثالث: أنه إذا عرف بالرشد، واشتهر به جاز إطلاقه دون القاضي، وإذا لم يعرف إلا من قوله: فلا يطلقه إلا السلطان. والثلاثة الأقوال حكاها بعض الشيوخ. واختلف هل حكمه مع الوصي كحكمه مع الأب في الخروج من الحجر بنفس البلوغ على قولين: أحدهما: أنه حاله مع الوصي كحاله مع الأب، وأنه يخرج من ولاية الوصي إذا علم رشده أو جهل حاله، على الخلاف المتقدم، وهو ظاهر ما وقع في "كتاب الهبة"، و"الصدقة" من "المدونة" من قوله: وقد منعهم الله من أموالهم مع الأوصياء بعد البلوغ بالرشد، فكيف مع الآباء الذين [هم] (¬1) أملك بهم من الأوصياء، وإنما الأوصياء بسبب الآباء. ونحوه لابن الماجشون في "الواضحة" قال: إن البكر إذا عنست أو نكحت: جازت أفعالها -كانت ذات أب أو وصيّ-. والثاني: أن أفعالها كلها مردودة، وإن علم رشدها ما لم تطلق من ثقاف الحجر الذي لزمه، وهذا هو المشهور الذي عليه أكثر أصحاب مالك. وأما الابنة البكر: فلا خلاف في المذهب أن أفعالها مردودة غير جائزة ما لم تبلغ المحيض، فإذا بلغته فلا يخلو أمرها من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون ذات أب. والثاني: أن تكون يتيمة ذات وصي، وقد أوصى عليها الأب، أو قدم عليها السلطان. والثالث: أن تكون يتيمة لا وصى لها من قبل أب، ولا مقدمًا من قبل السلطان. فإذا مات الأب، فاختلف فيها المذهب على سبعة أقوال: أحدها: رواية زياد عن مالك أنها تخرج بالحيض من ولاية أبيها، ومعنى ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ذلك -والله أعلم: إذا علم رشدها أو جهل حالها، وأما إن علم سفهها فهي باقية في ولايته. والثاني: أنها باقية في ولاية أبيها حتى تبلغ ويدخل بها زوجها ويعرف من حالها، ويشهد العدول على صلاح أمرها. وهو قول مالك في "الموطأ"، و"المدونة"، و"الواضحة" من رواية مطرف عنه، فعلى هذا ما لم تنكح أو يدخل بها زوجها في الولاية أفعالها مردودة، وإن علم رشدها، فإذا دخل بها زوجها حُملت على السفه وردت أفعالها، فإذا ظهر صلاحها وعلم رشدها خرجت من ولاية أبيها وإن كان ذلك بقرب بناء زوجها بها. والثالث: أنها في ولاية أبيها ما لم تعنس أو يدخل بها زوجها، ويعرف صلاح حالها، وهي رواية عن مالك في "كتاب الكفالات" أيضًا في اعتبار التعنيس محمولة على الرشد جائزة أفعالها ما لم يعلم سفهها. والرابع: أنها في ولاية أبيها حتى تمر بها سنة بعد دخول زوجها بها وهو قول مطرف، وابن الماجشون في "الواضحة". فعلى هذا القول تكون أفعالها قبل دخول زوجها مردودة، وإن علم رشدها، وبعد دخول زوجها ما بينها، وبين القضاء العام جائزة الأفعال ما لم يعلم سفهها. والخامس: أنها في ولاية أبيها حتى يمر بها عامان، وهو قول ابن نافع في "العتبية". والسادس: أنها في ولاية أبيها حتى يمر بها سبعة أعوام، وهذا القول يعزى إلى ابن القاسم. والسابع: أنها تخرج من ولاية أبيها إذا مضى لها في بيت زواجها من

الستة الأعوام إلى السبعة ما لم يجدد عليها الأب السفه قبل ذلك، وهو اختيار ابن زمنين. فعلى القول بتجديد السفه عليها بعد الدخول، وقبل انقضاء المدة التي حديث لجواز أفعالها، ثم تراخى الأمر إلى أن يبلغ ذلك الحد، ثم يموت الأب بعد ذلك، هل يلزمها حكم الولاية أم لا؟ فبين المتأخرين قولان: أحدهما: أن إيصاء الأب عليها لازم لها كتجديد السفه عليها الذي لا تخرج منه إلا بثبات رشدها بالبينة العادلة. والثاني: أن ذلك لا يلزمها بخلاف تجديد السفه عليها، بمنزلة الأب يولي على ابنته البكر ثم زوجها، فتقيم مع زوجها سبع سنين، أو أكثر فيموت: أن الإيصاء ساقط عنها. وأما إن كانت يتيمة ذات وصي من قبل أب أو سلطان: فقد اختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أنها لا تخرج من الولاية، وإن عنست، أو تزوجت ودخل بها زوجها، وطال زمانها: لم تطلق من ثقاف الحجر الذي لزمها بما يصح إطلاقها منه، وهذا هو المشهور في المذهب. والثاني: أن حالها مع الوصي كحالها مع الأب في خروجها من ولايته بالتعنيس أو النكاح مع طول المدة وتبين الرشد، وهي رواية مطرف، وابن عبد الحكم، وعبد الرحيم عن مالك. وأما إن كانت يتيمة لم يولَّ عليها بأب ولا وصي: فقد اختلف فيها على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن أفعالها جائزة إذا بلغت المحيض، وهو قول سحنون في "العتبية"، وهو قول الغير في "كتاب النكاح الثاني" في باب نكاح

التفويض إذا رضيت بأقل من صداق مثلها، وهي رواية زياد عن مالك. والثاني: أن أفعالها مردودة ما لم تعنس، وهو أحد قولي مالك في "كتاب الكفالات". واختلف في حد تعنيسها على خمسة أقوال: أحدها: ثلاثون سنة، وهو قول ابن الماجشون. والثاني: من الثلاثين إلى دون الأربعين، وهو قول ابن نافع. والثالث: أربعون، وهي رواية مطرف عن مالك، وأصبغ عن ابن القاسم. والرابع: من الخمسين إلى الستين, وهي رواية سحنون عن ابن القاسم. والخامس: أن حد تعنيسها أن تقعد عن المحيض، وهي رواية ابن القاسم عن مالك في "المدونة" قال: لا تجوز أفعالها حتى تعنس، وتقعد عن المحيض، أو ما لم تتزوج ويدخل بها زوجها، وتقيم معه مدة يحمل أمرها فيها على الرشد قبل انقضاء هذه المدة العام، وهو قول ابن الماجشون، وإليه ذهب ابن العطار. وقيل: ثلاثة أعوام ونحوها. وقيل: السنتين، والثلاثة، وهو اختيار محمد بن أبي زمنين، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الثالثة في معرفة ما يلزم السفيه من إقراره وأفعاله

المسألة الثالثة في معرفة ما يلزم السفيه من إقراره وأفعاله أما ما كان من حقوق الله تعالى التي أوجبها على عبادة في بدنه وماله، فإنه يلزمه ما وجب في بدنه من حد أو قصاص، ويلزمه الطلاق -كان بيمين حنث بها أو بغير يمين- وكذلك الظهار، وينظر له وليه فيه بوجه النظر؛ فإن رأى أن يعتق عنه ويمسك عليه زوجته فعل، وإن رأى ألا يعتق عنه، وأزال ذلك الفراق بينهما كان ذلك له. وهل له أن يكفر بالصيام رقبته؟ وهل منعه الولي العتق أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجوز أن يكفر بالصيام إذا كان له مال يحتمل رقبته وهذا هو المشهور. والثاني: أنه يجوز له أن يكفر بالصيام إذا لم ير وليه أن يكفر عنه بالعتق، وهو قول ابن المواز. والثالث: أن الوليّ يكفر عنه بالعتق -كان ذلك منه أول مرة، فإن عاد إلى الظهار لم يعتق عنه؛ لأن المرة الواحدة تأتي على الكليم والسفيه وهو قول ابن كنانة. وعلى القول بأنه لا يكفر عن بالعتق، هل يدخل عليه الإيلاء أم لا؟ فأمَّا على قول من ذهب أنه لا يجوز أن يكفر بالصيام، فإنه لا يدخل عليه إذا طلبت المرأة ذلك؛ لأنه لم يبق له أمر ترضى بالتربص، وهو قول أصبغ، ويحتمل أن يضرب له من أجل الإيلاء لعل الزوجة ترضى بالمقام معه بلا وطء، كما قال في "كتاب الظهار" و"كتاب

الإيلاء" مع الاحتمال أن يرشد في باقي الأجل، ويملك التصرف في ماله، فيكفر بالعتق. وأما على مذهب من يرى أن يكفر بالصيام: فإنه يضرب له أجل الإيلاء إذا تراخى عن الصيام، وطلب المرأة ذلك. وأما الإيلاء فلا يخلو من أن يدخل عليه بسبب يمين الطلاق وهو فيها على حنث، أو حلف على ترك الوطء، فلا يخلو من أن يكون يمينه بعتق، أو صدقة، أو ما لا يجوز له فعله، ويحجر عليه في ذلك وليه لم يلزمه به الإيلاء. وإن كانت بالله تعالى، فيلزمه الإيلاء إذا لم يكن له مال، وإن كان له مال، فقولان: أحدهما: أنه لا يلزمه الإيلاء، وهو المشهور. والثاني: أنه يلزمه، وهو قول ابن المواز. وإن كانت يمينه بصلاة، أو صيام، أو ما أشبه ذلك مما يلزمه: لزمه به الإيلاء، ولا تلزمه هبة، ولا صدقة، ولا عتق، ولا شيء من المعروف في ماله، إلا أن يعتق أمَّ ولده، فقد اختلف في لزومه على قولين: أحدهما: أنه يلزمه عتقها؛ لأنها تشبه الزوجة التي ليس له فيها إلا الاستمتاع بالوطء، وهو المشهور. والثاني: أنه لا يلزمه عتقها. وهل يتبعها مالها أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يتبعها، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه. والثاني: أنه لا يتبعها، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم. والثالث: التفرقة بين أن يكون مالها قليلًا، أو كثيرًا؛ فيتبعها إذا كان

قليلًا، ولا يتبعها إذا كان كثيرًا، وهو قول أصبغ: وأما ما كان من حقوق الآدميين على الخلوص؛ كبيعه وشرائه، ونكاحه، وما أشبه ذلك مما يخرج على عوض، ولا يقصد به المعروف: فإنه موقوف على نظر وليِّه إن كان له وليّ؛ فإن رأى أن يجيزه جوزه، وإن رأى أن يرده رده بوجه النظر له والاجتهاد. فإن لم يكن له وليّ: قدم القاضي ناظرًا ينظر له في ذلك نظر الوصي. وإن لم يفعل حتى ملك أمر نفسه: كان هو مخير في رد ذلك وإجازته. فإن رد بيته وابتياعه، وكان أتلف الثمن الذي باع، أو السلعة التي ابتاعها: فلا يخلو من أن ينفق الثمن فيما لابد له منه، أو في غيره. فإن أنفقه في غير واجبه مما هو عنه في غنى: فإنه لا يتبع بذلك، ولا يتقرر في ذمته. وإن أنفقه فيما لابد له منه مما يلزمه إقامته من ماله، فهل يتبع بذلك في ماله أم لا؟ على قولين متأولين على "المدونة"، ولا خلاف أنه لا يتبع بذلك في ذمته. فإن كان الذي اشترى المشتري منه أمة، فأولدها أو أعتقها، أو غنمًا فتناسلت، أو بقعة فبنى فيها، أو شيئًا له غلة فاغتلها: كان حكمه في جميع ذلك حكم من اشترى من مالك فيما يرى فاستحق من يده ما اشترى بعد أن أحدث فيها ترد إلى المولى عليه الأمة التي ولدت من المشتري وقيمة ولدها، على اختلاف قول مالك في ذلك.

وإن كان الولد من غيره بتزويج: أخذه مع الأم، وكذلك يأخذ الغنم ونسلها، وكان عليه فيما بناه قيمة بنائه قائمًا، وكان الغلة التي اغتل له بالضمان، وهو قول أصبغ في "كتاب ابن حبيب". هذا كله إن لم يعلم بأنه مولى عليه لا يجوز بيعه. وأما إن علم أنه مولى عليه: فهو متعد في البيع بغير إذن وليه لسفهه، فحكم المشتري حكم الغاصب يرد الغلة، على الخلاف المألوف فيه , ويكون له فيما بناه قيمته منقوضًا. واختلف فيما فوت السفيه من ماله بالبيع، والهبة وغير ذلك، فلم يعلم به حتى مات، هل يرد بعد الموت أم لا؟ على قولين. وكذلك اختلف إذا تزوج، ولم يعلم وليه بنكاحه حتى مات، هل ترثه المرأة، ويلزمه الصداق أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا ميراث لها, ولا صداق إلا أن يدخل بها، فيكون لها قدر ما يستحل به فرجها، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في "الواضحة". والثاني: أن لها الميراث وجميع الصداق، وهو أحد قولي مالك في "المدونة" في النكاح الذي لأحد الزوجين، أو لغيرهما إجازته أو رده، وهو اختيار ابن القاسم. والثالث: أن لها الميراث، وينظر الولي في النكاح؛ فإن كان نكاح غبطة هل لو نظر فيه الولي في حياته لم يفسخه، وأجازه فلها الصداق مع الميراث دخل بها أم لا. فإن كان نكاح غير غبطة مما لو نظر فيه الولي لم يجوزه: وجب لها الميراث، وردت الصداق دخل بها أم لا، ويترك لها في الدخول ربع دينار

وهو قول أصبغ. والقولان المتقدمان لابن القاسم. وينبني الخلاف: على الخلاف في فعله، هل هو على الرد حتى يجاز، أو على الجواز حتى يرد؟ فإن كانت المرأة هي التي ماتت، وبقى المولى عليه فقولان أيضًا. أحدهما: أن النظر لوليه قائم، فإن رأى إجازة ذلك خير له وغرم الصداق لما يأخذ من الميراث أجازه، وإلا رده، وهو الذي على قول مطرف، وابن الماجشون، وأحد قولي ابن القاسم إذا مات الزوج. والثاني: أنه جائز، ويكون لها الصداق، ويرثها الزوج، وهو قول ابن القاسم؛ لأن موضع النظر قد فات ومضى. واختلف هل يجيزه الولي على النكاح، أم لا كما يجيز الصغير على قولين قائمين من المدونة، وقد بيناهما في "كتاب النكاح الأول"، وهما منصوصان في "الواضحة". وكذلك اختلف أيضًا هل يخالع عنه بغير إذنه أم لا؟ على قولين: فله في "المدونة": أنه لا يخالع عنه إلا بإذنه، وله في "العتبية" من رواية عيسى عنه أنه يخالع عنه بغير إذنه كالصبي، وهو قائم من "المدونة" على القول بأن الخلع حكمه حكم المعاوضة المحضة، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة ليست بالأصل.

المسألة الرابعة في الإذن في التجارة، هل يتناول الإجارة؟

المسألة الرابعة في الإذن في التجارة، هل يتناول الإجارة؟ اعلم أن أرباب المذهب اختلفوا في الإذن في التجارة هل ينتظم الإذن في الإجارة أم لا، على قولين: أحدهما: أنه يتناوله وينتظمه، وهو مذهب ابن القاسم، ومن تابعه على ذلك؛ لأنه أباح للمأذون له في التجارة أخذ القراض، وذلك محض الإجارة. والثاني: أنه لا ينتظمه ولا يقتضيه، وهو مذهب أشهب وسحنون ومن تابعهما؛ ولأجل ذلك منعا المأذون له في التجارة من أخذ القراض ورأياه من باب الإجارة. وشبهة ابن القاسم: أن الإجارة عنه مقصوده حصول المالية على أي وجه كان، وقد تحصل ذلك بالإجارة حصوله بالتجارة؛ لأنه عوَض في مقابلة معوض، والإجارة في تحصيل مقصوده الذي هو استجلاب المال، واكتسابه كالتجارة، فوجب أن يفهم الإذن بها إذنًا الإجارة؛ إذ لا مضادة بينهما في باب المقصود. وشبهة سحنون وأشهب: أن التجارة لا يستفاد من الإذن بها إذن في الإجارة؛ لأن الإجارة سبب لرفع التجارة، وتعطيل حركتها؛ لأن التجارة إنما تحصل بانتهاز الفرص، وتجرع الغصص، وطلب الغرة والتماس الغفلة، ومخالطة التجار، ومجالستهم، والتصرف معهم وبينهم، وارتصاد الأوقات، والتصرف في الحالات التي تحصل الأرباح فيها، وهذا الاستعداد يبطل بكونه أجر نفسه، كما يبطله بيعه لرقبته؛ لأن منفعته ملك من أملاك السيد؛ فبالطريق الذي به يمنع له بيع رقبته يمنع به بيع منافعه له؛ ولأنه متصرف بالإذن فلا يتعدى تصرفه محل الإذن. وما قاله ابن القاسم أظهر؛ لأنه أذن له في طلب الكسب.

كتاب الرهون

كتاب الرهون

كتاب الرهون تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها اثنتا عشرة مسألة. المسألة الأولى في الرهن المشاع أصل الرهن معناه (¬1): اللزوم، وكل شيء ملزوم، فهو [رهين] (¬2)، يقال: هذا مرهون لك أي: محبوس دائم لك، وكل شيء ثبت [لك] (¬3) ودام فهو رهن، يقال: أرهنتك، فأنا راهن، وأنت مرتهن بكسر الهاء، ولا يقال إرتهنت، وأما المرتهن -بفتح الهاء: فالشيء المرهون، ويسمى رهنًا بالمصدر. وقد ينطلق المرتهن -بفتح الهاء- على آخذ الرهن؛ لأنه وضع عنده الرهن، وينطلق على الرهن؛ لأنه سبب للرهن، فإذا ثبت ذلك، فرهن المشاع جائز عندنا، خلافًا لأبي حنيفة. ثم لا يخلو ذلك المشاع من وجهين: أحدهما: أن يكون مشاعًا يملك الراهن جميعه، أو يكون مشاعًا بينه وبين غيره. فإن كان مشاعًا يملك جميعه، فلا يخلو من أن تكون يده باقية على ما لم يرهنه، أو رفع يده عنه. فإن رفع يده، وقبض المرتهن جميع المشاع، وحازه: فلا خلاف في المذهب في الجواز. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط (ص/ 1551). (¬2) في ب: رهن. (¬3) سقط من أ.

وإن بقيت يد الراهن مع المرتهن: فالمذهب على قولين [قائمين] (¬1) من المدونة: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، ولا يصح فيه [الحوز] (¬2) للمرتهن مع بقاء يد الراهن عليه؛ لأن القدر الذي حازه المرتهن مجهول غير معلوم وهو قول ابن القاسم في أول كتاب الرهون. والثاني: أنه يجوز، وتكون يد الراهن [والمرتهن] (¬3) [متساويين] (¬4) في الرهن [في] (¬5) التصرف فيه، وبذلك يكون المرتهن أحق من الغرماء، وهذا القول قائم من المدونة من كتاب الرهون من مسألة الذي رهن رهنًا من رجلين، فقضى لأحدهما ما له عليه من الدين، فإن له أخذ حصته من الرهن، فهذا نص قوله في المدونة (¬6). فإذا رجع نصف الرهن إلى يد الراهن، فقد عاد الرهن مشاعًا بين الراهن والمرتهن. والقولان منصوصان في المذهب. فإن كان مشاعًا بينه وبين غيره، فرهن الراهن حصته من المشاع، فلا يخلو من وجهين: إما أن يكون [الرهن] (¬7) مما [يتحول] (¬8) ويزول، [أو مما لا يتحول ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الحق. (¬3) بيان في أ. (¬4) في أ: سواء. (¬5) في أ: و. (¬6) المدونة (4/ 164). (¬7) سقط من أ. (¬8) في ب: يحول.

ولا يزول] (¬1). فإن كان مما [يتحول به] (¬2) ويزول؛ كالعبد والدَّابة، والثوب: فلا يخول من أن يكون على يد المرتهن وحده، أو يكون تحت يده، ويد الشريك. فإن كان على يد المرتهن وحده أو على يد غيرهما: فلا خلاف في الجواز. وإن كان على يديهما جميعًا -يد المرتهن والشريك- فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه رهن جائز محوز، وهو قول ابن القاسم في المدونة وغيرها. والثاني: أنه لا يكون حوزًا, ولا ينتفع به المرتهن ما دامت عليه يد الشريك، وهو قول أشهب. ولو كان العبد أو الثوب عند الشريك وتحت يده: فلا يخلو من أن يكون حائز للمرتهن، أو غير حائز له. وإن رضي الشريك أن يكون حائزًا للمرتهن، وكان بإذنه: فلا خلاف في الجواز، ويكون رهنًا محوزًا. وإن كان بغير إذن [المرتهن] (¬3): فإنه يتخرج على قولين قائمين من المدونة (¬4): أحدهما: أن ذلك حوز. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: يحول. (¬3) في ب: الشريك. (¬4) المدونة (4/ 133).

والثاني: أن ذلك ليس بحوز. وينبني الخلاف: على الخلاف في حوز الغير، هل هو حوز، وإن لم يأذن المحوز له في ذلك؟ وهو قائم من مسألة رهن فضلة الرهن، ومسألة من وهب خدمة عبده لرجل سنة، ثم رقبته لآخر. فإن كان غير جائز له، ولا رضي بذلك: فالرهن غير محوز، قولًا واحدًا. ولا خلاف عندنا أن الحوز مشروط في الرهن، خلافًا للشافعي الذي يقول [إنه] (¬1) بنفس الرهن صار مقبوضًا محوزًا، والدليل على ما نقوله: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬2)؛ فوصفه الله بصفة زائدة على تسميته رهنًا. فإذا ثبت ذلك، فحوز كل شيء على حسبه. فإن كان الرهن مما يبان كالثوب والعبد وسائر العروض لم يصح الحوز إلا بمعاينة البينة لقبض المرتهن، أو من وضع على يده. وأما ما لا [يتحول] (¬3) ولا ينقل؛ كالدور والأرضين، وما لا يمكن البينونة به؛ كالسفن والأعدال فيجزئ في ذلك الإقرار والتسليم ويكون المرتهن رقيبًا ومانعًا للراهن أن يضع يده على تلك الأشياء المرهونة. وكذلك الأرضون والشجر والبساتين: فالإقرار بالتسليم والمرتهن يمنع الراهن في المستقبل من التصرف فيه، على حسب ما هو مذكور في الأمهات، فلا نطول في إيراده [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة البقرة الآية (283). (¬3) في ب: يحول. (¬4) زيادة من ب.

[المسألة الثانية] في تعدي أحد المتراهنين في بيع الرهن

[المسألة الثانية] (¬1) في تعدي أحد المتراهنين في بيع الرهن ولا يخلو بيعه من أن يكون بتعدي الراهن، أو بتعدي المرتهن. فإن كان بتعدي الراهن فلا يخلو من أن يكون ذلك قبل قبض الرهن، أو بعده. فإن كان ذلك قبل قبضه فلا يخلو من أن يبيعه مبادرة أو بعد التراخي. فإن باعه مبادره دون توان من المرتهن في القبض، فإن لم يعلم المرتهن بالبيع فله نقض البيع، واسترجاع الرهن قولًا واحدًا، إلا أن يرضى الراهن بتعجيل الحق وكان مما له تعجيله، ويجبر المرتهن على قبضه كالعين وعروض [العوض] (¬2)، وفي رد البيع إن علم قولان: أحدهما: أن البيع في الرهن ماض، ويكون الثمن رهنًا، وهو تأويل أبي محمد على المدونة من قوله لأن تركك إياه حتى باعه، وقد أمكنك أخذه يدل أنه إن لم يتراخ في القبض لم يبطل الرهن ومضى البيع، وكان ثمنه رهنًا. والثاني: أن البيع لا يجوز ويرد، ويبقى رهنًا. وإن باعه بعد توان المرتهن وتراخيه عن القبض، فهل له رد البيع أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن البيع ماض ولا يرد، وهو قول مالك وابن القاسم في ¬

_ (¬1) في ب: المسألة الثالثة. (¬2) في أ: العروض.

المدونة في مسألة ميمون (¬1) أن البيع ماض، وليس له أخذه برهن غيره، قال: لأن تركك إياه حتى باعه، وقد أمكنك منه كتسليمك بذلك، وبيعك الأول غير منتقض، وهو قوله في بعض روايات كتاب محمد، وهو قائم من المدونة من كتاب الصدقة [والهبات] (¬2) في الواهب إذا باع الهبة قبل القبض، وهو قول أشهب في "النوادر" (¬3). والثاني: أن للمرتهن أن يرد البيع وينقضه، إلا أن يأتي الراهن برهن ثقة، فيمكن من ذلك، وهو أحد قولي مالك في كتاب محمد أيضًا، وعليه اختصر أبو محمد في المختصر، وعليها نقل في "النوادر" أيضًا قال: "وليوضع له رهنًا إلى أجله"، وعليها نقل ابن أبي زمنين من كتاب محمد أيضًا، وهو قول عبد الملك فيمن غر برهن ثم استحق، فهو في التعدي على الرهن بعد صحته أبين. والثالث: التفصيل بين أن يكون موسرًا، أو معسرًا. فإن كان الراهن موسرًا نقد البيع، وعجل للطالب حقه. وإن كان معسرًا، لم [ينفذ] (¬4) البيع في الرهن والرهن على حاله، والبيع مردود، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". والرابع: التفصيل بين أن يكون الرهن مشروطًا في عقد البيع أو القرض، أو تبرع به بعد العقد. فإن كان مشروطًا في أصل العقد فللمرتهن نقض البيع، واسترجاع الرهن مع القيام، إلا أن يأتيه برهن ثقة. ¬

_ (¬1) المدونة (4/ 155). (¬2) سقط من أ. (¬3) النوادر (10/ 170). (¬4) في أ: ينقض.

وإن تبرع به بعد العقد: فلا مقال للمرتهن في نقض البيع، ولا الرجوع في عين شيئه، وهذا القول لبعض المتأخرين. وعلى القول بأنه لا مقال له في نقض البيع، هل له في الثمن مقال أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه لا مقال له في الثمن، وأنه للراهن، ولا يعجل له الحق، ولا يوضع له رهن آخر، ولا ينتقض ما بينهما من بيع أو قرض، وهو قول مالك، وابن القاسم في كتاب محمد، وهو قول أشهب في الهبة في أول كتاب الصدقة من المدونة. والثاني: أن له في الثمن مقالًا؛ لأنه عوض رهنه، فيوقف له رهن، ويطبع عليه، إلا أن يأتي الراهن برهن ثقة فيأخده، وهو قول ابن الماجشون في الغرور بالرهن، وهو قول ابن القاسم في مسألة الهبة في كتاب الصدقة من المدونة. وذلك بيمين المرتهن أنه ما رضي ببيع الرهن [ما لا] (¬1) ليكون الثمن رهنًا ثقة لحقه، أو بغير يمين؟ فإنه يتخرج على قولين. وسبب الخلاف: اختلافهم في السكوت هل يعد كالرضا أم لا، وهو أصل [ينبني] (¬2) عليه كثير من فروع المذهب [وبالله التوفيق] (¬3). وأما الوجه الثاني في الوجه الأول: إذا باع الراهن بعد قبض المرتهن، ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: بنينا. (¬3) زيادة من ب.

وحوزه إياه فلا يخلو من [أن] (¬1) يبيعه بإذن المرتهن، أو بغير إذنه. فإن باعه بإذنه: فلا يخلو من أن يسلم له الرهن، أو يبيع وهو في يده. فإن سلمه المرتهن للراهن، وخرج من يده، فباعه الراهن فقد خرج من الراهن، ولا حق له في الثمن ولا في المثمون، وهو قوله في المدونة، وقيل: إنه يحلف ويكون أولى بالثمن من الغرماء إذا أسلمه، وهو قول أشهب في "الموازية". فإن باعه الرهن وهو في يد المرتهن، ولم يسلمه في يده [إلى] (¬2) المبتاع: فإنه يأخذ منه الثمن بعد أن يحلف أنه ما أذن له في البيع إلا لإحياء الراهن لا ليأخذ الراهن الثمن، ويقال للراهن: إما أن تأتي برهن ثقة، وتأخذ الثمن، وإلا بقى الثمن رهنًا مطبوعًا عليه. فإن باعه [بغير] (*) إذن المرتهن: فلا يخلو من أن يبيعه بجنس الدين، أو بغير جنسه. فإن باعه بجنسه قدرًا وصفة: فلا يخلو من أن يكون الدين مما يقدر على تعجيله، أو مما لا يقدر على تعجيله، وكان مما يجبر الطالب على قبوله كالعين وعروض القرض فالبيع نافذ، ولا مقال في ذلك للمرتهن، ويجبر على قبول حقه إذا دفعه إليه الراهن. فإن كان الدين مما لا يقدر على تعجيله كعروض البيع، أو طعامه، أو كان مما يملك تعجيله إلا أن الراهن لم يرض بتعجيله لم يجز البيع، وللمرتهن رده وفسخه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (*) قال معد الكتاب للشاملة: ما بين المعقوفتين زيادة يتطلبها السياق.

فإن أجازه المرتهن جاز، ويجبر المرتهن على تعجيل الحق، وهذا كله معنى ما في المدونة. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا تعدى المرتهن وباع الرهن: فلا يخلو من أن يكون ذلك قبل الحلول أو بعده، فإن كان ذلك قبل حلول الدين: فإن البيع يفسخ ويوقف على يد عدل لئلَّا يتعد عليه المرتهن، فيبيعه مرة أخرى. فإن كان بعد الحلول: فلربه نقضه أيضًا، ويدفع ما عليه أيضًا للمشتري إن كان ما عليه من الدين مثل الثمن الذي دفع فيه المشتري. وإن كان الثمن أكثر من الدين: فإن المشتري يتبع المرتهن ببقية ثمنه. وإن كان الدين أكثر من الثمن: فإن المرتهن يرجع على الراهن ببقية دينه. وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وأشهب معه في "الموازية" مع قيام السلعة. فإن فاتت عند المشتري: غرم المرتهن أكثر من الثمن والقيمة.

[المسألة الثالثة] في الرهن يستحق

[المسألة الثالثة] (¬1) في الرهن يستحق ولا يخلو من وجهين: أحدهما: أنه يستحق كله. والثاني: أن يستحق بعضه. فإن استحق كله، فلا يخلو الرهن المستحق من أن يكون مضمونًا أو معينًا. فإن كان مضمونًا، فلا يخلو من أن يستحق قبل القبض أو بعده. فإن استحق قبل القبض، فإن الراهن يجبر على أن يأتي بغيره؛ لأن الرهن في الذمة. فإذا أعطاه [. .] (¬2) بقى الرهن في ذمته على حاله. فإن استحق بعد القبض، فلا يخلو من أن يكون غره به أو لم يغره. فإن غره به، فيخير في أخذ سلعته إن كانت قائمة أو قيمتها مع [. .] (¬3) أو يأتيه برهن ثقة. فإن لم يغره به، هل يتعين بالقبض أو يجبر على أن يأتيه برهن ثقة، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يتعين بالقبض، ويكون له حكم المعين، قاله أبو إسحاق ¬

_ (¬1) سقطت هذه المسألة بكاملها من أ، وتم إثباتها من ب. (¬2) طمس في ب. (¬3) طمس في ب.

التونسي -رحمه الله. والثاني: أنه لا يتعين بالقبض، ويجبر على أن يأتيه برهن آخر، وهو قول سحنون. فإن كان الرهن معينًا، فلا يخلو من أن يغره به، أو لم يغره به. فإن غره به، فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يجبر الراهن على خلفه، ويكون مقال المرتهن في سلعته، ولا يجبر المرتهن على قبوله، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يجبر عليه، ويأتي برهن آخر، وهو قول عبد الملك. والثالث: أنه لا يجبر على أن يأتي به. فإن أجبره المرتهن على أن يأتي به، فإن أتى به خير المرتهن على قبوله، وإن لم يأت به عاد مقال المرتهن في سلعته، وهو قول محمد بن الموّاز. والرابع: أنه يجبر على تعجيل الحق، وهو قول سحنون في "العتبية"، فإن لم يغره به، فلا يخلو ذلك من أن يكون ذلك قبل القبض أو بعده. فإن كان قبل القبض، فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن البائع بالخيار في سلعته بين أن يمضيها بغير رهن أو يردها إن كانت قائمة أو يأخذ قيمتها إن كانت فائتة. وسواء تطوع برهن آخر أم لا. وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه إن طاع وأَقَرَّ بِهِ أُجبر على قبوله. فإن لم يطع به كان بالخيار في سلعته، وهو قول ابن الماجشون. والثالث: أنه لا مقال له في سلعته، ولا في قيمتها إن فاتت، ولا في

رهن آخر، وإنما مقاله في الثمن خاصة، وهو قول مالك في بيع الرهن؛ لأنه قال: إذا تعدى الراهن على الرهن، فباعه قبل القبض، لم يكن فيه للمرتهن مقال في رد بيع الرهن، ولا في أخذ ثمنه، ولا في سلعته، ولا في ثمنها إن بيعت. وإذا لم يكن له مقال إذا تعدى عليه بالبيع، كان إذا استحق أبين. فإن كان الاستحقاق بعد القبض لم يكن فيه للمرتهن مقال. واختلف فيما يفوت السلعة على القول بأنه يكون أحق بها ما لم تفت على قولين: أحدهما: أن حوالة الأسواق تفيتها، وهو المشهور من المذهب. والثاني: أنه لا يفوتها إلا العيوب المفسدة، وهو قول ابن المواز. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم إذا استحق نصف الرهن. فإن النصف الباقي رهنٌ لجميع الحق، ثم إن ضاع الرهن، فلا يخلو من أن يكون الراهن حاضرًا أو غائبًا. فإن كان حاضرًا وكان ضياعه في يد المرتهن، فنصفه للراهن دون النصف المستحق؛ لأنه عنده أمانة. فإن وضعاه على يد المستحق أو غيره، فلا ضمان على المرتهن. فإن كان الراهن غائبًا، فطلب المستحق أن يوضع على يده أو على يد فلان أو طلب ذلك المرتهن، لم يكن ذلك لواحد منهما دون نظر الحاكم. فإن وقفه على يد المستحق أو غيره، فضاع لم يضمن المرتهن شيئًا, ولو ادعى المرتهن ضياعه قبل الاستحقاق، وكان ضياعه على يده، ضمن نصيب الراهن إن كان الرهن مما يغاب عليه. وفي نصيب المستحق قولان:

أحدهما: أنه يضمنه، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن يحلف لقد ضاع ثم لا شيء عليه. فإن قال المستحق: أنا أبيع حصتي، قيل للراهن والمرتهن بيعا معه، ويقال للمرتهن لا تسلم رهنك. فإذا بيع كان الثمن رهنًا في يديه بجميع حقه. فإن أراد الراهن أن يأتي برهن ثقة إلى أجل الدين، ويأخذ العين كان ذلك له، ولا حجة في ذلك للمرتهن. وإن أراد تعجيل الدين من ثمن الرهن، فلا يخلو ذلك الدين من أن يكون مما يقدر على تعجيله أو لا يقدر على تعجيله. فإن كان الدين مما يقدر الذي عليه على تعجيله قبل أجله، فله أن يعجله من ثمن الرهن، ويجبر المرتهن على قبوله؛ إذ لا تبعه له في التأخير. فإن كان الدين مما لا يقدر على تعجيله إلا برضا المرتهن، فإن تراضيا على التعجيل، فذلك جائز. فإن طلبه أحدهما وأبى الآخر، كان ذلك لمن أبى منهما قيمتها يوم باعها أو يوم رهنها، ويتعجل الحق مع الحلول، ويبقى إلى أجله إن لم يحل على ما فصلنا، وهو قول أشهب في كتاب محمد. وهذا كله إذا علمت صفته ببينة، أو تصادقا [المتراهنان] (¬1) عليهما. فإن جهل الراهن والمرتهن صفته، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المرتهن يحلف على ما باعه به، ثم يجعل ما بيع به ¬

_ (¬1) في أ: المرتهنان.

ثمنه، وهو قول ابن القاسم في "العتبية" (¬1). والثاني: أن عليه قيمته يوم باعه على الصفة التي كان عليها يوم ارتهنه، أو صفته يوم باعه إن كانت أفضل من صفته يوم ارتهنه، وهو قول عبد الملك، وابن حبيب في "الواضحة"، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) البيان والتحصيل (11/ 108).

المسألة الرابعة في ضمان الرهان

المسألة الرابعة في ضمان الرهان اختلف فقهاء الأمصار في الرهن يهلك عند المرتهن ممن ضمانه؟ على ثلاثة مذاهب: أحدها: أن الرهن أمانة، وهو من الراهن، والقول قول المرتهن مع يمينه أنه ما فرط فيه، ولا جنى عليه، وممن قال بهذا القول الشافعي وأحمد، وأبو ثور، وجمهور أهل الحديث. والثاني: أن [ضمان] (¬1) الرهن من المرتهن ومصيبته منه، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة، وجمهور الكوفيين. والذين قالوا بالضمان انقسموا على ثلاثة طوائف: فمنهم من يقول: إن الرهن بما فيه من الدين -كانت قيمته أقل من الدين أو مثله أو أكثر منه، ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء [من دينه] (¬2). ومنهم من يقول: هو مضمون بقيمته قَلَّت أو كثرت، وأنه إن فضل للراهن شيء من قيمة رهنه رجع به على المرتهن، وإن فضل للمرتهن شيء [من دينه] (¬3) لكون الرهن أقل من الدين: رجع به المرتهن علي الراهن ويروى ذلك عن ابن عمر، وعليّ بن أبي طالب، وعطاء، وإسحاق رضي الله عنهم، ومنهم من قال: إنه ينظر، فإن كان الرهن مثل الدين أو ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب.

أكثر منه: فهو رهن بما فيه، وإن كان أقل من الدين ذهب من الدين بقدره، ورجع المرتهن على الراهن فيما نقص من حقه. والمذهب الثالث: التفصيل بين ما يغاب عليه أو ما لا يغاب عليه، وهو مذهب مالك، والأوزاعي، وعتبان الليثي -رضي الله عنهم. وسبب الخلاف: تعارض الآثار, وتجاذب الاعتبار؛ فمنها حديث ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يغلق الرهن -وهو ممن رهنه- له غنمه وعليه غرمه" (¬1)، وبهذا احتج من جعله أمانة محضة غير مضمون أبى له غلته، وخراجه وعليه فكاكه ومصيبته منه. ومن طريق المعنى: أن الراهن قد رضي أمانة المرتهن، فأشبه المودع. ومنها ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلًا رهن فرسًا لرجل، فنفق في يديه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرتهن: "ذهب حقك" (¬2)، وبهذا استدل من يقول: إن ضمانه من المرتهن، وربما تأولوا قوله عليه السلام: "له غنمه وعليه غرمه"، أن غنمه [ما فضل منه على الدين] (¬3)، وغرمه ما نقص. وعمدتهم من طريق النظر: أنه عين تعلق به [حق] (¬4) الاستيفاء ابتداء، فوجب [أن يسقط تبعتها] (¬5) [بتلف] (¬6) أصله تلف المبيع عند البائع إذا أمسكه حتى يستوفي حقه في الثمن، [وهذا] (¬7) متفق عليه عند ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1411)، وابن ماجة (2441)، وابن حبان (5934)، والحاكم (2315)، والدارقطني (3/ 32)، والبيهقي في الكبرى (11001)، وضعفه الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى. (¬2) أخرجه الطحاوي في شرح المعاني (5449)، وهو ضعيف. (¬3) في ب: ما فضل من الدين. (¬4) سقط من أ. (¬5) بياض في ب. (¬6) سقط من أ. (¬7) في أ: وهو.

الجمهور، إلا مالك فإنه قد اختلف فيه قوله، هل حكمه حكم الرهن أم لا. وأما مالك -رحمه الله- فقد فصل بين ما يغاب عليه [وما لا يغاب عليه: فأما ما يغاب عليه] (¬1) فإنه ينقسم إلى ما هو غير مستقل [بنفسه] (¬2) كالثياب، والبسط، والسلاح، وما أشبه ذلك، وإلى ما يغاب عليه، ودخل المرتهن على ألا [يغاب] (¬3) عليه، ودخل على أن يبقى في موضعه كالثمار في رؤوس النخل، والشجر، والزرع القائم: فهذا [حكمه] (¬4) حكم العبيد والحيوان في سقوط الضمان، وثبوته، على ما نصف إن شاء الله. فأما ما يغاب عليه مما لا يستقل بنفسه كالثياب، وسائر العروض: فلا يخلو من أن تقوم البينة على الضياع أو لم تقم. فإن قامت البينة على تلف الرهن بغير سبب المرتهن، هل يسقط عنه الضمان أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: سقوط الضمان [عنه] (¬5) مع قيام البينة [على] (¬6) التلف، وهو قول ابن القاسم في المدونة (¬7) وغيرها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: نفسه. (¬3) في أ: يغيب. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: مع. (¬7) المدونة (4/ 139).

والثاني: أنه ضامن مع قيام البينة، وهو قول أشهب (¬1). وسبب الخلاف: هل ضمانه ضمان تهمة أو ضمان أصل؟ والصحيح أنه ضمان تهمة؛ لأن الرهن لم ينقل الملك، وهلاك كل ملك من مالكه. فإن اشترط المرتهن إسقاط الضمان فيما فيه الضمان: فلا يخلو من أن يكون الشرط في عقد البيع والقرض، أو تبرع به بعد العقد. فإن اشترطه في [أصل] (¬2) العقد، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك الشرط لا يفيد، ولا يغير الضمان الواجب عليه، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن الضمان يسقط عنه بالشرط وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: من اشترط شرطًا لا يفيد، هل يوفي له [بعمدة] (¬3) شرطه أم لا؟ وأما إن تبرع به بعد العقد: كان له شرطه، قولًا واحدًا؛ إلا أن تطوعه بالرهن معروف منه، وإسقاط الضمان معروف ثان، إلا أن يتناول فيه الخلاف من مسألة العارية؛ لأن مشهور المذهب فيها أن الضمان لا يسقط عن المستعير بشرطه؛ لأن ذلك من باب إسقاط الشيء قبل وجوبه، وهو أصل مختلف فيه. وأما لا يغاب عليه مما هو مستقل بنفسه كالعبيد والحيوان، وما هو غير مستقل بنفسه إلا أنه دخل المرتهن على ألَّا يغيب عليه؛ فأما ما لا ينقل ولا ¬

_ (¬1) النوادر والزيادات (10/ 188 - 189). (¬2) في أ: "أهل" والصواب ما أثبتناه من ب. (¬3) في أ: بفائدة.

يتحول كالدور، والأرضين، وجميع الثمار، والأشجار المتعلقة بها والزرع القائم، أو ما كان في الجرين، والأندر مما [لا] (¬1) يمكن المغيب عليه، ولا يكاد [يكون] (¬2) هلاكه يخفى على أحد: فإن المرتهن مصدق إذا ادعى ضياع ذلك، قولًا واحدًا. وأما العبيد وسائر الحيوان: فلا يخلو المرتهن من أن يدعي الهروب أو الموت؛ فإن ادعى إباق العبيد، وهروب الحيوان: فالقول قوله فيما يدعيه؛ لأنه أمر لا يكاد المرتهن يقيم عليه البينة؛ لأنه [كثير ما] (¬3) يكون ذلك في وقت الغفلة [و] (¬4) في حين لا يمكن إقامة البينة به؛ قال مالك: لأن أصل ما أخذه عليه على غير الضمان حتى يتبين كذبه. وأما إن ادعى الموت: فإنه يصدق، ويقبل قوله ما لم يتبين كذبه وهو قول [مالك] (¬5) في المدونة (¬6) والموازية؛ ومعنى ذلك أنه يصدق إذا ادعى موته في الفيافي، والقفار، وبحيث لا يدرى صدقه من كذبه لأن أصله على الأمانة. وإن ادعى ضياع ذلك بموضع لا يخفى هلاكه كالقرى، والمناهل وحيث يكون الناس، ولم يعلم أحد منهم موت ذلك: فلا يصدق. واختلف هل من شروطهم أن يكونوا عدولًا أم لا؟ على قولين قائمين من المدونة. فإذا قلنا إنه لا يضمن ما لا يغاب عليه إذا ادعى الضياع بموضع لا يعلم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) المدونة (3/ 384).

صدقه من كذبه، وأن قوله في ذلك مقبول، وهل يصدق مع يمينه أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه [يصدق] (¬1) دون يمين. والثاني: أنه يقبل قوله مع يمينه. والثالث: التفصيل بين المتهم، فيحلف وغير المتهم فلا يحلف. والأقوال الثلاثة لأصحابنا المتأخرين، وعلى القول بأنه يحلف على الجملة؛ كان متهمًا أو غير متهم. أنه إن كان غير متهم يحلف: ما ضيعت، ولا فرطت، ويزيد إن كان متهمًا، ولقد ضاع. وأما ما يُغاب عليه، فقد اختلف في يمينه [مع] (¬2) وجوب الضمان عليه على قولين: أحدهما: أنه يحلف وهو قوله في "العتبية"، وقال ابن مزين [يحلف] (¬3): لقد ضاع بلا دلسة دلسها فيه، ولا علم له موضعًا منه. والثاني: أنه لا يمين عليه، وهو قول الشعبي، وقال: كيف يحلف ويضمن إلا أن يقول الراهن: أخبرني مخبر صدق أنه رأى الرهن عنده قائمًا، وأنه كذب في دعواه، فحينئذ يحلف، وإلى هذا ذهب ابن لبانة فإن اشترط الراهن وجوب الضمان على المرتهن فيما لا يغاب عليه هل يوفى له بشرطه أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين على المدونة: ¬

_ (¬1) في أ: لا يصدق. (¬2) في أ: و. (¬3) سقط من أ.

أحدهما: أنه شرطه باطل، ولا يوفى له بشرطه، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه يوفى له به قياسًا على إسقاط الضمان، فيما فيه الضمان إذا اشترط ذلك على قول أشهب؛ لأن الشرط في مسألتنا بأحد القولين؛ لأن الحيوان مختلف في ضمانه من غير شرط بين أهل المذهب. وقد وقع عندنا في المذهب ما يشبه مذهب أبي حنيفة في وجوب الضمان في الحيوان، وهو ما رواه أبو الفرج في "الحاوي" عن ابن القاسم فيمن ارتهن نصف عبد وقبضه كله، وتلف عنده، أنه لا يضمن إلا نصفه يريد النصف [المرهون] (¬1)، وأما النصف الباقي، فهو فيه مؤتمن. فإذا كنا نقول بهذا، فبأن يضمنه على الشرط أولى، فإذا قلنا بوجوب الضمان، أما فيما يغاب عليه مع عدم البينة. والشرط قولًا واحدًا، وأما مع [عدم] (¬2) الشرط فيما لا يُغاب عليه على الخلاف فيما يضمنه فقد اختلف فيه المذهب على قولين: أحدهما: أنه يغرم قيمته يوم ضاع عنده. والثاني: أنه يغرم قيمته يوم ارتهنه. والقولان لابن القاسم في "العتبية" وحجة مالك - رضي الله عنه - في تفريقه بين ما يغاب عليه، وما لا يغاب عليه هي أن الرهن يجري مجرى [الأمانات] (¬3) المحضة. ولا يجري [مجرى] (¬4) المضمون المحض؛ لأنه أخذ شبهًا من الأمرين ¬

_ (¬1) في أ: المرتهن. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: الأمانة. (¬4) سقط من أ.

فلم يكن له حكم أحدهما على التحديد؛ وذلك لأن [الأمانات] (¬1) المحضة هي التي لا ينفع فيها لقابضها، بل النفع فيها للمالك كالوديعة. والمضمون المحض هو ما كان النفع [فيه لقابضه] (¬2) بل النفع [فيه] (¬3) للمالك كالوديعة. والمضمون المحض هو ما كان النفع [فيه لقابضه] (¬4) كله كالقرض أو تعدي جناية كالغصب، وفي مسألتنا لم يكن تعديًا ولا جناية فيضمن، وما لا ينفرد المالك بالمنفعة، فيسقط الضمان عن المرتهن، وكانت المنفعة لهما، أما للمالك، فلكونه حصل له ما ابتاعه أو أتلفه، وبقى الدين في ذمته لأجل الرهن ولولاه لم يملك، وللمرتهن لحصول التوثق له فلم يقبضه لمالكه، فلم يجز أن يتفرد بحكم أحدهما: على التجديد لأخذه شبهًا منها جميعًا، وإنما وجب به في الجملة ألا يحكم فيه بحكم أحدهما، ووجب الفصل بينهما حصل من ذلك ما قلناه، فهذه نكتة المسألة وفقهها، وهذا هو الاستحسان الذي [انفرد به] (¬5) مالك. [وقد اختلفوا في معنى الاستحسان الذي ذهب إليه مالك كثيرًا فضعفه] (¬6) قوم وقالوا له: مثل استحسان أبي حنيفة في تقديمه القياس الجلي على أخبار الآحاد. وحد الاستحسان عند الأصوليين: اختيار القول بغير دليل (¬7). ¬

_ (¬1) في ب: الأمانة. (¬2) في أ: فيها لقابضها. (¬3) في أ: فيها. (¬4) في أ: فيها لقابضها. (¬5) في أ: ذهب إليه. (¬6) سقط من أ. (¬7) انظر: الفصول في الأصول (3/ 223)، وأصول الفقه لابن مفلح (4/ 1461) =

وذهب قوم إلى أنه حجة قوية؛ لأنه جمع بين الأدلة المتعارضة، وإذا كان ذلك كذلك، فليس هو قول بغير دليل، وهو اختيار القاضي أبى الوليد الباجي، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

= والمنخول (ص/ 476)، والغيث الهامع (3/ 810). (¬1) زيادة من ب.

المسألة الخامسة في (غلة) الرهن

المسألة الخامسة في (غلة) (¬1) الرهن وأجمع [العلماء] (¬2) على أن المرتهن لا يجوز له الانتفاع بشيء من الرهن فيما سوى الحيوان، واختلفوا في الحيوان، فذهبت طائفة إلى أن الرهن إذا كان حيوانًا: شاة، أو بقرة، أو ناقة، أو دابة له أن يحلب الشاة، والبقرة، والناقة، ويركب الدابة بقدر ما يعلفها، وعليه نفقة ما يركب ويحلب. وهو [قول] (¬3) أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه. وقال جمهور أهل العلم: ليس له أن ينتفع بشيء من الرهن حيوانًا كان أو غيره، وبه قال مالك، والشافعي - رضي الله عنهما. وسبب الخلاف: اختلافهم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الرهن محلوب [و] (¬4) مركوب بقدر نفقته" فمن قال: أن للمرتهن أن يستعمل الحيوان [و] (¬5) [الدابة] (¬6) حمل الحديث على ظاهره ورأى [أن] (¬7) ذلك مباح للمرتهن، ومن ¬

_ (¬1) في ب: غلات. (¬2) في ب: المسلمون. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: الدواب. (¬7) سقط من أ.

قال: إنه لا ينتفع من الرهن بشيء، فإنه يصرف الكلام [عن] (¬1) ظاهره بالتأويل، ويكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الرهن مركوب ومحلوب بنفقته" معناه أن غلاته وكراء ظهره للراهن؛ لأن عليه نفقته، ويعضد هذا التأويل ما رواه ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحلب أحدكم ماشية أحد إلا بإذنه" (¬2). فإذا قلنا بمذهب مالك -رحمه الله- أن المرتهن ليس له من نماء الرهن، ولا من غلته شيء. فهل يدخل ذلك في الرهن أم لا؟ فذلك على ضربين: نما متميزًا عن الرهن، ونما غير متميز عنه. فأما من كان غير متميز عنه كسمن الدابة، والجارية، وكبر الصغير وما أشبه ذلك، فلا خلاف أنه يدخل في الرهن، وأما ما كان متميزًا عنه، فذلك أيضًا على وجهين: أحدهما: أن يكون [على] (¬3) خلقته وصورته. والثاني: ألا يكون على خلقته وصورته. وأما ما كان على خلقته وصورته كالولد، فإنه داخل مع الأم في الرهن من بني آدم وسائر الحيوان، وكذلك ما كان في معناه من فسلات النخيل، فإنه داخل مع الأصول في الرهن. فأما ما لم يكن على خلقته، وصورته كثمر النخل ولبن الغنم وصوفها، وكراء [الدور] (¬4) وخراج العبد، فقد اختلف فيه المذهب على ¬

_ (¬1) في أ: على. (¬2) أخرجه البخاري (2303)، ومسلم (1726). (¬3) في أ: في. (¬4) في ب: الدار.

قولين: أحدهما: أن ذلك لا يدخل في الرهن، كان متولدًا عنه كثمر النخل، ولبن الغنم، وأصوافها. أو غير متولد عنه ككراء الدابة، وخراج العبد، وهذا هو المشهور في المذهب [المعول عليه] (¬1) من قول مالك. والثاني: أن ذلك كله داخل في الرهن كان متولدًا عنه أم لا، وهذا القول مروي عن مالك أيضًا على ما نقله القاضي أبو الوليد بن رشد [رحمه الله] (¬2) أيضًا. فإذا قلنا بالقول المشهور الذي عليه الجمهور أن [الغلة] (¬3) لا تكون رهنًا مع الأصول، فهل يجوز ارتهانها [على] (¬4) التجديد دون الأصول أم لا؟ فلا تخلو الغلات المرهونة من أن تكون موجودة في حين الرهن، أو غير موجودة بعد. فإن كانت موجودة، فلا خلاف في المذهب في جواز رهنها، وجوزها أن تحيز الأصول معها، فإذا قامت الغرماء، فإنه يكون أحق [بالغلة] (¬5) دون الأصول، فإن كانت الغلات [غير] (¬6) موجودة في حين الرهن بعد، وإنما ارتهن [منه ما يأتي من الثمار و] (¬7) ما يأتي من غلات. وما يأتي من الغلات، فلا يخلو من أن يكون ذلك في أصل عقد البيع ¬

_ (¬1) في ب: المعمول به. (¬2) زيادة من ب. (¬3) في ب: الغلات. (¬4) في أ: مع. (¬5) في ب: الغلات. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

أو بعد العقد، فإن كان في أصل العقد، فهل يجوز البيع أم لا؟. [فالمذهب] (¬1) على قولين الجواز والمنع. وقد قال ابن القاسم في كتاب الحمالات: إن البيع إذا وقع على حمالة غرر أنه بيع فاسد. وجوزه أصبغ، ولا فرق بين غرر الحمالة، وغرر الرهن، وكلاهما ثقة للبائع، والخلاف في رهن الغرر بأسره إذا كان في أصل البيع على ما حكاه الشيخ أبو إسحاق التونسي [رحمه الله] (¬2). وسبب الخلاف: اعتبار الحال والمآل، فمن اعتبر الحال جوَّز؛ لأن ثمن المبيع في ذمة المشتري [مرتب] (¬3) والرهن ثقة باطمئنان النفس، والحق غير متعين فيه على كل حال. ومن اعتبر المآل منع؛ لأن المشتري قد يفلس أو يموت، فتنخرم ذمته ولا يوجد له من أين يأخذ دينه إلا من ذلك الرهن، والأصول قد تكون مرهونة لغيره، فيؤول ذلك إلى الغرر في ثمن المبيع؛ إذ لا يدري هل يكون أو لا يكون، فإذا كانت هل تقل أو تكثر. فإن كان بعد العقد، فلا خلاف أعلمه في المذهب في الجواز؛ لسلامة الثمن والمثمون من الغرر إلا ما يتأول من [مسألة] (¬4) رهن الجنين، فقد منعه مالك في المدونة، وجوزه أحمد بن ميسر، والمنع أشهر في النقل ولا فرق في التحقيق بين رهن الجنين، وبين [رهن] (¬5) ما يأتي من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب. (¬3) في ب: مترتبة. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ.

الثمار، إما الجواز في الجميع وإما المنع في الجميع، وما فرقوا فيه بين الأجنة والثمار من أن الأجنة تابعة للأمهات في البيع. و [لا] (¬1) يجوز استثناؤها. والثمرة المأبورة لا تدخل في البيع إلا باشتراط غير مسلَّم، ولا هو جار على سنن التحقيق، وإن كان مالك -رحمه الله- قد أشار إلى مثل هذا الفرق في "الموطأ"، لأن الجمع بينهما كونه غررًا من الجهتين ولا فرق بين غرر و [غرر] (¬2). ولا إشكال فيما في [الشجر] (¬3) والنخل من الثمار المأبورة أنه لا يدخل في الرهن إلا باشتراط، إلا خلافًا لهذا حكاه القاضي أبو الوليد [الباجي] (¬4) واختلف فيما كان من الصوف الثابت على ظهور الغنم يوم الرهن، هل يدخل في الرهن أم لا؟ على قولين قائمين من المدونة (¬5): أحدهما: أنه يدخل في الرهن مع الغنم، وهو قول ابن القاسم؛ لأن الصوف كسلعة مع الغنم رهنهما جميعًا. والثاني: أنه لا يدخل مع الغنم في الرهن؛ لأنه غلة وهو قول أشهب. وأما الصوف الحادث بعد الرهن إذا جز قبل بيع الرهن، فهو غلة للراهن. واختلف إذا قام المرتهن بالبيع قبل جزازه، بماذا تكون غلة؟ على ثلاثة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: خطر. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) المدونة (4/ 273).

أقوال: أحدها: أنه يكون غلة بتمامه وكمال نباته. والثاني: أنه لا يكون غلة إلا بتعسيله. والثالث: أنه لا يكون غلة حتى يجز. والخلاف فيه ينبني على الخلاف في الثمار بماذا تكون غلة في مسائل الاستحقاق، والرد بالعيب وغيرها من الأقوال الخمسة التي قدمناها في كتاب العيوب. فإذا قلنا: أن الغلة لا تدخل في الرهن إلا بالشرط. فإذا اشترط المرتهن أن يستوفي حقه منها، فلا يخلو من أن يكون ذلك في عقد البيع أو بعده. فإن اشترط ذلك في أصل عقد البيع، فذلك لا يجوز قولًا واحدًا لأنها تقل وتكثر، وذلك جهل بأجل الثمر وخطر، وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، وكتاب محمد. فإن تبرع بذلك بعد العقد، فلا يخلو من أن يكون الدين لا يتحول عن أجله، ووقته أو كان يتحول بتقدم أو تأخر. فإن كان الدين لا يزول عن أجله، ولا يتقدم عنه ولا يتأخر بتقدم الغلة، وتأخرها [وكان سببًا، فذلك جائز، وإن كان يتحول عن أجله] (¬1) بتقدم الغلة وتأخرها، وأنه لا يوفيه حقه إلا من الغلة، فذلك ممنوع ولا يجوز؛ لأن ذلك مخاطرة؛ إذ لا يدري هل يستوفي جميع حقه من الغلة التي [تأتي] (¬2) قبل الأجل، ويبقى شيء يستوفيه بعد الأجل، وقد تجتاح ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الغلة، فينتظر إلى وجود غلة أخرى، وهو قول محمد بن المواز، وهو تفسير لقول ابن القاسم في "الموازية"؛ لأنه أطلق وقال: لو رهن بعد تمام البيع بهذا الشرط كان حائزًا. ثم فسر محمد هذا التفسير، ولا يصح الكلام إلا على ما ذكر، وذلك جائز في السلف؛ إذ لا غرر هناك. وأما إذا اشترط المرتهن الانتفاع بالرهن ما بينه وبين حلول أجل الدين، فلا يخلو من أن يكون الدين من قرض أو بيع. فإن كان من قرض، فأي ذلك لا يجوز كان في عقد السلف أو تبرع به بعد السلف؛ لأنه سلف جر منفعة إن كان في العقد مع ما فيه من قبول هدية المديان [وإن كان] (¬1) بعد العقد، فإن كان من بيع، فلا يخلو من يكون ذلك في أصل العقد أو بعده، فإن كان بعد العقد؛ فلا يجوز؛ لأنه من باب قبول هدية المديان. فإن كان في العقد فلا يخلو الرهن من أن يكون دارًا أو أرضين أو حيوانًا أو عروضًا. فإن كان دورًا فلا خلاف في الجواز. وهل ذلك مع الكراهة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز دون كراهة، وهو قول مالك في المدونة. والثاني: الجواز مع الكراهة، وهي رواية ابن القاسم، وابن وهب عن مالك في "المجموعة". قالا: فإن وجه الكراهة في ذلك، أنه إن هلكت الدار باحتراق أو غيره بطل ما اشترطه، وبطل ما وضع من ثمن سلعته لأجل الانتفاع، فإن كان أرضين، فهل يجوز ذلك أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإنه يتخرج على قولين قائمين في "المدونة": أحدهما: الجواز، وهو قوله في "كتاب الرهون". والثاني: المنع، وهو ظاهر قوله في "كتاب كراء الأرض" من "المدونة"؛ لأن ذلك من باب النقد في أرض غير مأمونة بشرط قبل الري. وعلى القول بالجواز، فلا يخلو المثمون من أن يكون مما يجوز أن تكرى به الأرض أولًا. فإن كان مما يجوز أن تكري به الأرض، فذلك جائز. وإن كان مما لا يجوز أن تكرى [الأرض] (¬1) كالطعام على اختلاف أنواعه وجميع ما تنبته الأرض، وينقطع من عامه، فإن ذلك لا يجوز؛ لأن الانتفاع بالأرض له حقه من الثمن، وذلك كراء الأرض بما يخرج منها. فإن كان الرهن مما ليس بمأمون من الأموال كالحيوان، وجميع العروض فاختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: المنع جملة بلا تفصيل، وهو قول مالك في الكتاب، قال: لأنه لا يدري كيف يرجع إليه؛ لأن الحيوان، والعروض يسرع إليه التغيير. والثاني: الجواز جملة؛ لأن ذلك رهن وإجارة، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب"، وسواء اشترط الانتفاع به إلى أجل الدين أو إلى أبعد منه أو إلى دونه، وهو قوله في "الموازية" و"العتبية" وغيرهما. والثالث: التفصيل بين المصحف وغيره من جميع العروض والحيوان، فيجوز اشتراط المنفعة [فيما] (¬2) سوى المصحف من جميع الحيوان، والعروض، ولا يجوز ذلك في المصحف، وهو قول ابن المواز. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: وما.

وهذا الخلاف ينبني على الخلاف في جواز إجارة المصحف، فمن جوز إجارته جوز اشتراط المنفعة به [وهو قول ابن القاسم في كتاب الجعل والإجارة من المدونة (¬1) ومن منع إجارته منع اشتراط المنفعة به] (¬2) وهو قول ابن المواز في كتابه؛ لأنه نص فيه أن إجارته لا تجوز، ويؤخذ من تعليل مالك في الكتاب في [منفعة] (¬3) رهن الحيوان، والعروض أن لا يجوز رهن الغرر كالثمرة التي لم يبد صلاحها والعبد الآبق في أصل البيع؛ لأنه لا يدري كيف يكون ذلك عند حلول الأجل، وعلى أي صفة يصير عليها، وهل يوجد أو لا يوجد؛ وما قاله ابن القاسم أظهر وأصح. وتوجيه كل قول ظاهر مشار إليه، وعلى القول بجواز الانتفاع بما يغاب عليه من سائر العروض. فإذا اشترط منفعة الرهن، وهو ثوب ثم ادعى ضياعه، فلا يخلو من [أن] (¬4) يدعي ذلك حين قبضه أو عند حلول أجل الدين. فإن قام بدعوى الضياع حين قبضه، فإنه ينظر إلى القدر الذي ذهب منه بالانتفاع مثل أن يقال: إذا استعمل شهرًا، فإنه ينقص منه الربع، فيكون قدر ربعه غير مضمون؛ لأنه مستأجر وثلاثة أرباعه مضمونة؛ لأنها مرتهنة إذا لم تقم بينة بضياعه، وينظر ذلك كم هو من جملة دينه، فيسقط منه أعني قيمة ثلاثة الأرباع الباقية المضمونة عليه. فإن قام بدعوى الضياع عند حلول الأجل، وادعى أنه ضاع قبل ذلك ¬

_ (¬1) المدونة (3/ 429). (¬2) سقط من أ. (¬3) غير واضحة في أ، والمثبت من ب. (¬4) سقط من أ.

فهل يصدق؛ أو يلزمه قيمة [جميع] (¬1) الثوب؟ فعلى قولين: أحدهما: أنه لا يصدق في إسقاط ما وجب عليه من الأجرة، ويلزمه قيمة جميع ثوب الرهن؛ لأنه قد استوفى جميع ما اشترط من منافع الثوب في الظاهر ثم ادعى الضياع، فيُصدق في الضياع، ولا يُصدق في إسقاط الأجرة، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الجعل"، و"الإجارة" من "المدونة". والثاني: أنه يصدق في الأمرين ويسقط عنه ضمان الربع، وهو قول الغير في الكتاب المذكور، واختلف في الرهن الواقع على هذه الصفة، هل يكون محوزًا أم لا؟ فذلك على ثلاثة أوجه: أحدها: وقوع الإجارة والرهن معًا. والثاني: تقدم الإجارة على الرهن. والثالث: تقدم الرهن على الإجارة. والخلاف في ذلك كله واحد [وتحصيله] (¬2) عندي يرجع إلى ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرهن يجوز في جميع ذلك، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب" إذا وقع الرهن، والإجارة معًا، فجعل الحوز بالإجارة وحوزًا [للمرتهن] (¬3)؛ لأن تصرفه فيه باستيفاء المنافع حوز. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: للرهن.

والثاني: أن ذلك ليس بحوز؛ لأن التصرف [فيه] (¬1) برسم الإجارة يبطل حكم الرهن، ويفسخه إذا أفلس الراهن وهو في يد المرتهن قبل أن يستوفي ما اشترط فيه من المنافع، وهو قول عبد الملك بن الماجشون في "المبسوط" و"الموازية": إذا تقدمت الإجارة على الرهن، وهو قول أحمد ابن المعدل إذا تقدم الرهن على الإجارة. والثالث: التفصيل بين أن يردا معًا أو يتقدم أحدهما على الآخر. فإن وردا معًا فذلك حوز، ولا يسقط أحدهما حكم الآخر. فإن ورد أحدهما على الآخر، فليس ذلك بحوز، والأظهر في النظر أنه غير محوز في جميع هذه الوجوه؛ لأن حوزه ليس لأجل الرهن، وإنما هو لأجل الإجارة [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: به. (¬2) زيادة من ب.

المسألة السادسة في جناية عبد الرهن

المسألة السادسة في جناية عبد الرهن وإذا جنى عبد الرهن جناية كان الخيار لسيده بين أن يفديه أو يسلمه. فإن فداه بقى في الرهن على حاله. وإن أسلمه رجع الخيار إلى المرتهن، ويخير بين ثلاثة أشياء: بين أن يسلمه كما أسلمه الراهن، أو يفديه [بقدر أرش الجناية، أو يفديه] (¬1) بزيادة على أرش الجناية ولو بدرهم واحد. فإن فداه بالزيادة على أرش الجناية، فإنه يكون مملوكًا للمرتهن ويخرج من الرهن، ويحط من الدين الذي على الراهن، قدر تلك الزيادة، وهو قول ابن المواز. فإن فداه بقدر أرش الجناية، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يفديه بإذن الراهن. والثاني: أن يفديه بغير إذنه. فإن فداه بإذنه كان سلفًا في ذمة السيد، ولا يباع حتى يحل أجل الدين قولًا واحدًا. وهل يكون رهنًا بما فدى به مع الدين الأول أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه يكون رهنًا [فإن أسلمه كما أسلمه الراهن كان لأهل ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الجناية ملكًا] (¬1) في وهو قول مالك وابن القاسم "كتاب محمد"؛ لأنه قال: فإن افتكه فداءً أن في رقبته الدين، وما افتكه به وهو أحد قولي أشهب [أيضًا. والثاني: لا يكون أحق بما أفداه به، ولا يكون به رهنًا وهو أحد قولي أشهب أيضًا] (¬2) وبه قال ابن المواز. وينبني الخلاف [على الخلاف] (¬3): فيمن أمر رجلًا يشتري له سلعة وسلفه ثمنها. هل للمأمور حبس ما اشترى حتى يقبض سلفه، فإن أشهب يقول: له أن يحبسها كما كان للبائع أن يحبسها حتى يقبض الثمن. وابن القاسم يقول في المدونة: ليس له حبسها؛ بل يسلمها للآمر ويتبعه بسلفه، فإن افتداه بغير إذن الراهن لم يكن ذلك سلفًا في ذمة السيد بل هو متعلق برقبة العبد ويفدى بما فدي به. فإن كان في ثمنه وفاء بما فداه به، وبالدين الأول برأت ذمة الراهن من الدين. فإن عجز عن الدين وفيه وفاء بما فداه [به] (¬4) بقى الدين في ذمة الراهن. وإن عجز ثمنه عما فداه به، فإن الباقي من الفداء يسقط عن الراهن ولا يتبع به؛ لأنه لم يأذن له في فدائه. واختلف هل يباع قبل أجل الدين إذا طلب ذلك المرتهن أم لا؟ على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

أحدهما: أنه لا يباع حتى يحل الأجل، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يجوز أن يباع قبل أن يحل الأجل، وهو قول سحنون. وسبب الخلاف: هل تغلب شائبة الجناية أو تغلب شائبة الرهن؟ فمن غلب شائبة الجناية قال: يعجل البيع؛ لأنه أسلمه ولا مقال له في تأخير البيع؛ لأنه رضي بإسلامه، وملك المرتهن منه ما كان يملك المجني عليه. ومن غلب حكم الرهن على الجناية قال: لا يباع حتى يحل الأجل لأن الرهن ثقة لحقه إذا حَلَّ أجله. والقول الأول أظهر وأصح عند أهل النظر. وهل يباع بماله فيما فدى به أم لا؟ فلا يخلو ماله من أن يكون داخل معه في الرهن أو لا يدخل معه. فإن دخل معه في الرهن أو لا، فلا إشكال فيه؛ لأن مال العبد لا يدخل معه في الرهن إلا بشرط على مشهور المذهب، وهو قول مالك في "المجموعة" وغيرها. وإن لم يدخل معه في الرهن هل يدخل معه فيما فدى به أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يتبعه ماله، ولا يكون رهنًا معه في الجناية، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يكون رهنًا معه في الجناية، ويباع بماله، وهو قول مالك في "كتاب محمد"، وهو الصحيح [أيضًا] (¬1) لأن المرتهن، إنما فدى ¬

_ (¬1) سقط من أ.

العبد وماله، وقد ملك ما كان المجني عليه يملكه. فإذا قلنا: إنه يباع بماله فيما فدى به، فإن الجناية تؤخذ من جميع ما بيع به: كما تقدم ثم ينظر بعد ذلك إلى ما زاد ماله في ثمنه، فإن كان مثل النصف: كان نصف ما بقى بعد الجناية للمرتهن يأخذه في دينه، والنصف [الباقي] (¬1): الذي زاد من جهة المال الذي لم يكن رهنًا معه للغريم يدخل فيه جميع غرمائه. مثال ذلك: أن تكون قيمة العبد بغير ماله خمسين دينارًا، وقيمته بماله مائة دينار، والجناية خمسون دينارًا. فيكون للمرتهن نصف الثمن خمسون عن جناية، وتبقى خمسون ينوب نصف العبد منها بغير مال خمسة وعشرون دينارًا [يأخذه المرتهن عن دينه، وتبقى خمسة وعشرون] (¬2) يضرب فيه المرتهن مع الغرماء بما بقى له من دينه [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: الثاني. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب.

المسألة السابعة في الرهن إذا رجع إلى يد الراهن بإيداع أو غيره

المسألة السابعة في الرهن إذا رجع إلى يد الراهن بإيداع أو غيره فإذا رجع الرهن إلى يد الراهن بإيداع أو إجارة أو عرية، فلا يخلو من أن يقوم إلى استرجاعه قبل أن قيام الغرماء، أو بعد قيامهم. فإن كان قيامه إلى استرجاعه بعد قيام الغرماء، فإنه يكون أسوتهم، قولًا واحدًا، وسواء اشترط استراجاعه أو لم يشترطه. فإن كان قيامه قبل قيام الغرماء إما بديون استجدها الغريم بعد الرهن أو كانت ديونًا قديمة قبل الرهن على أحد قولي مالك: إن رهن من أحاط الدين بماله جائز فهل له مطالبة الراهن باسترجاع الرهن أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن له المطالبة بالاسترجاع في الوديعة والإجارة بعد انقضاء أمدها، والعارية إذا انقضى أجلها إن ضربا لها أجلًا، وسواء عارها إياه بشرط الاسترجاع أم لا ما لم يقم على الراهن الغرماء، وهو قول أشهب. والثاني: التفصيل بين العارية وغيرها. فغير العارية الحكم فيها كما قال أشهب. وأما العارية فليس للمرتهن أن يسترده، إلا أن يكون أعاره على ذلك، فله أن يستردها ما لم يقم عليه الغرماء، وهو قول مالك في "الكتاب". وهذا له ما لم يحدث فيه الراهن حدثًا، وأما إن أحدث فيه بيعًا أو تدبيرًا أو تحبيسًا، أو ارتهانًا لغريم آخر، فذلك كله يسقط حق المرتهن الذي أخرجه من يده. واختلف في العارية إذا لم يضربا لها أجلًا، هل يسترجعها الآن؛ لأن

العارية لا أمد لها، ويبقى إلى أمدٍ يرى أنه يعار إلى مثله؟ فالمذهب على قولين قائمين في المدونة [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الثامنة في النفقة [على] الرهن والضالة

المسألة الثامنة في النفقة [على] (¬1) الرهن والضالة ولا خلاف أعلمه في المذهب أن النفقة على الضالة في [عينها] (¬2) وأن المنفق أحق بها [من الغرماء] (¬3) حتى يستوفي [نفقته] (¬4). وأما النفقة على الرهن، فلا تخلو من أن تكون بإذن الراهن أو بغير إذنه، فإن كانت بأمره، هل تكون في عين الرهن أو [تكون] (¬5) في ذمة الراهن؟ قولان: أحدهما: أن النفقة في الذمة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو المشهور. والثاني: أن النفقة مُبَّداة على الدين، وهي في عين الرهن، وأنه أحق [بها] (¬6) من الغرماء، ولا يسقط ذلك من الذمة كالأجير على سقى زرع أنه أحق به من الغرماء، وهو قول محمد بن مسلمة، فعلى قول ابن القاسم الذي يقول: إن النفقة في "الذمة" فلا يخلو الراهن من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يأذن له بالنفقة [مطلقًا] (¬7). ¬

_ (¬1) في أ: و. (¬2) في أ: غيبتها. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: نفقتها. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

والثاني: أن يأذن له بها على أن نفقته في الرهن. والثالث: أن يأذن له بالنفقة على الرهن رهنًا بنفقته، فإن أذن له في النفقة إذنًا مطلقًا، فلا خلاف أنها دين في الذمة ولا تعلق لها بالرهن عند قيام الغرماء إلا ما حكيناه عن محمد بن مسلمة. فإن أذن له في النفقة على أن الرهن رهنًا بالنفقة فلا خلاف أيضًا أن الرهن رهنًا بالنفقة [و] (¬1) بالدين معًا. فإن قال له: أنفق على أن نفقتك في الرهن، هل يكون أحق به من الغرماء أم لا؟ فالمذهب على قولين [متأولين على] (¬2) المدونة: أحدهما: [أنه] (¬3) ليس له حبس الرهن بنفقته، ولا يكون أحق [به] (¬4) من الغرماء إذا قاموا بتفليس الراهن، وهو ظاهر قوله في "الكتاب" إلا أن يقول له: أنفق على أن نفقتك في الرهن: فيكون أحق بذلك ما لم يقم الغرماء، فلا أراه أحق بفضلها، وإليه ذهب ابن شبلون. والثاني: أنه يكون أحق بها من الغرماء بالنفقة والدين؛ كما لو قال [له] (¬5) أنفق: والرهن بما أنفقت رهن، ولا فرق بين اللفظين، وهو تأويل [الشيخ] (¬6) أبي إسحاق التونسي وغيره على المدونة. وسبب الخلاف: الرهن هل ينعقد بغير لفظه أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: قائمين من. (¬3) في ب: أن. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) زيادة من ب.

فمن رأى أنه ينعقد بغير لفظه قال: إنه يكون رهنًا بالنفقة، كما لو صرح به [لفظًا] (¬1) ومن رأى أنه لا ينعقد إلا بلفظه قال: لا يكون رهنًا ويكون معنى قوله أنفق على أن نفقتك في الرهن أي: تتبعني بها وتستوفيها من الرهن -يريد وغيره من ماله. وعلى القول بأن قوله: أنفق على أن نفقتك في الرهن تكون رهنًا بالنفقة: كالتصريح [به] (¬2) هل يتعدى الرهن إلى الذمة أو يقتصر عليه كالضالة. فأما إن قال له: أنفق على أن نفقتك في الدين لا في ذمتي: فإنه يبدأ بالنفقة قبل الدين، وحقه في النفقة متعين في الرهن، ولا [يتعدى] (¬3) إلى الذمة. فإن [هلك] (¬4) قبل البيع لم يتبع الراهن بشيء، ولا إشكال في ذلك. فإن لم يتبين هذا البيان، وإنما قال له: أنفق على أن نفقتك في الرهن: فالمذهب يتخرج على قولين: أحدهما: أن حقه مقصور على الرهن، ولا يتعدى إلى الذمة، كما لو صرح بذلك، وهو تأويل الشيخ أبي إسحاق التونسي. والثاني: أنه يتعلق بالرهن، والذمة كسائر الديون، وهو تأويل [الشيخ أبي الحسن] (¬5) اللخمي وغيره. ¬

_ (¬1) في أ: نطقًا. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: يتعمدا. (¬4) في ب: هلكت. (¬5) زيادة من ب.

فإن كانت النفقة على الرهن بغير إذن المرتهن: فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن النفقة في ذمة الراهن -كانت بأمره أو بغير أمره، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن النفقة على الرهن بغير إذن الراهن كالنفقة على الضالة وليست في ذمة الراهن، وهو قول أشهب في "العتبية". والثالث: أن النفقة مُبَدَّاة على الدين كأجير السقى، فإذا عدم الرهن رجع إلى الذمة، وهو قول [محمد] (¬1) بن مسلمة. والفرق بين النفقة على الرهن والضالة على مشهور المذهب: أن النفقة على الرهن سلف للراهن لوجوب النفقة عليه، وكون المرتهن قادرًا على أن يكلفه ذلك. والضالة لا يقدر على مولاها ولا عرف له موضعًا يطلبه [فيه] (¬2) ولابد لها من النفقة؛ إذ لو ترك النفقة عليها لضاعت، فصارت نفقة المنفق عليها في عينها لا في ذمة [ربها] (¬3) ولذلك تعين حقه في عين الضالة [والله أعلم، والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: به. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من ب.

المسألة التاسعة في الرهان بالعقود الفاسدة وضمانها في ذلك

المسألة التاسعة في الرهان بالعقود الفاسدة وضمانها في ذلك ولا شك، ولا خفاء أن الرهن تارة يكون صحيحًا، والمعاملة فاسدة وتارة تكون المعاملة صحيحة والرهن فاسد، وتارة تكون المعاملة والرهن فاسدين، فتيك أيه المسترشد أن تصرف جميع عنائك إلى فهم هذه الفصول، وكيف تداخلت، وكيف يحكم بهذا الرهان بحكم الرهان الصحيحة تارة، وبحكم البيوع الفاسدة تارة. فلا تبتهل حتى نضع لك الفوائد، ومثل هذه الفوائد لا يفهمها إلا من ألقى السمع، وهو شهيد، ومثال ما تكون المعاملة فيه الصحيحة والرهن فاسد، أن يقع البيع أو السلف على نعت الصحة واللزوم إلى أجل، ثم [رهن له] (¬1) رهنًا على أنه إن مضت السنة خرجت من الرهن، وأنه إن مضت السنة، ولم يأته بدينه [فالرهن له بدينه] (¬2) أو كان لك عليه دين إلى أجل بغير رهن، ثم سأله الغريم أن يؤخره إلى أبعد من أجله على أن يرهن [به] (¬3) رهنًا [متقدمًا] (¬4). ومثال ما تكون المعاملة فيه فاسدة، والرهن صحيح: كأن يقع البيع على نعت الفساد بثمن إلى أجل، فيرهن له [بالثمن فيه رهنًا صحيحًا] (¬5) إلى ذلك الأجل. ¬

_ (¬1) في أ: يرهن. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أله. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: رهنًا بالثمن صحيحًا.

ومثال ما تكون فيه المعاملة والرهن فاسدين: مثل أن يبيع [منه] (¬1) سلعة بثمن إلى أجل [أو أقرض على أنه يرهن له رهنًا إلى أجل] (¬2) فإن جاء بحقه، وإلا فالرهن له [بدينه] (¬3)، وأمثلة ذلك كثيرة وأحكامها متداخلة متشاكلة لا يقع التباين إلا في بعضها. فأما المثال الأول: إذا كانت المعاملة صحيحة، والرهن فاسد أصلًا هل يكون فيه أحق بالرهن من الغرماء أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يكون أحق به، وهو ظاهر المدونة؛ لأنه قال في الكتاب من بيع أو من قرض؛ ولأنه إنما تكلم في الكتاب على أحكام الرهن، ولم يذكر صيغ البيع، فرأى أن البيع كان صحيحًا في أصله. والثاني: أنه لا يكون أحق به من الغرماء؛ لأنه لم يخرج من يده بالرهن شيئًا، وهو قول ابن حبيب. والأول أصح؛ لأنه لولا الرهن ما أخره بالثمن عن وقته، ولا بالسلف، فصار ذلك سلفًا جر [نفعًا] (¬4) مع ما فيه من بيع تارة وسلف تارة، وذلك يرجع إلى بيع الغرر؛ لأنه إن وفاه أخذ رهنه، وإن لم يوفه كان ملكًا للمرتهن، فذلك غرر وخطر. وأما المثال الثاني: إذا كانت المعاملة فاسدة، والرهن [صحيحًا] (¬5): فإن البيع فيه مفسوخ، وترد السلعة مع القيام، ويرد الرهن إلى الراهن. فإن فاتت السلعة بما يفوت به البيع الفاسد، فإن المرتهن أحق بالرهن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: في دينه. (¬4) في ب: منفعة. (¬5) سقط من ب.

من الغرماء حتى يقبض القيمة قولًا واحدًا. وإنما الخلاف إذا لم يكن في البيع الفاسد رهن، هل يكون المشتري أحق بالسلعة في قيامها من الغرماء حتى يقبض الثمن الذي دفع أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه [يكون] (¬1) أحق بها من الغرماء، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وسحنون في "الواضحة" وغيرهما. والثاني: أنه يكون أسوة الغرماء، وهو قول ابن المواز. واتفقوا في الرد بالعيب أن المشتري يكون فيه أسوة الغرماء إذا أفلس البائع؛ لأنه مختار في الرد. و [هو] (¬2) في البيع الفاسد مجبور على الرد فافترقا. وأما المثال الثالث: إذا كانت المعاملة والرهن فاسدين: فالحكم فيه أن القرض والبيع يفسخان، ويردان مع القيام، والقيمة مع الفوات، ولا يؤخران إلى أجلهما وحكم الدين إن كان برضا حكم البيع في القيام والفوات [وأما الحكم في الرهن الفاسد، فله حالتان: حالة يحكم له فيها بحكم الرهن الصحيح، وحالة يحكم له فيها بحكم الرهن الفاسد على تردد في ذلك لصاحب المذهب] (¬3). فأما الحالة التي [يحكم] (¬4) فيها [للرهن] (¬5) بحكم الرهن الصحيح فما كان قبل حلول الأجل: فله فيها حكم الرهان الصحيحة فيما يضمن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: يكون. (¬5) سقط من أ.

وفيما [لا] (¬1) يضمن، وله أن يحبس الرهن حتى يقبض الثمن عند حلول الأجل في المعاملة الصحيحة، أو حتى يقبض القيمة [على الحلول] (¬2) في المعاملة الفاسدة في فوات السلعة. وأما الحالة التي يحكم له فيها بحكم البيع الفاسد على تفصيل وترد وهي إذا حل الأجل الذي جعل فيه الرهن ملكًا للمرتهن إن لم يأت بالثمن. فإذا كان الرهن قائمًا: فلا يخلو من أن يكون على يدي عدل، أو على يدي المرتهن. فإن كان على يدي عدل، فهل يضمنه المرتهن بحلول الأجل أو لا يضمنه يقبضه؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه في ضمان المرتهن من يوم حل الأجل قبضه من يد أمين أم لا. والثاني: أنه في ضمان الراهن حتى يقبضه المرتهن، فإذا قبض صار في ضمانه، فات أو لم يفت على حكم البيع الفاسد، فيرد مع القيام، ويغرم القيمة مع الفوات. والثالث: أنه لا يدخل في ضمان المرتهن، وإن قبضه من يد أمين إلا بعد أن يفوت في يده، وهذا أبعد الأقوال عن الصواب أن تكون المبيعات بيعًا فاسدًا أَلَّا تضمن إلا بعد الفوات، وإن قبضها المشتري؛ لأن ردها قد وجب يوم فاتت تضمن، ومن يومئذ تجب قيمتها، وليس هذا بمعتاد المذهب، ولا بمشهوره. ¬

_ (¬1) في أ: لا. (¬2) سقط من أ.

والأقوال الثلاثة نقلها [الشيخ] (¬1) أبو إسحاق التونسي، ولم يُسَم قائلها. فوجه القول الأول: أن يد الراهن قد ارتفعت عنه بحلول الأجل، فصارت يد الأمين عليه كيد المرتهن سواء؛ لأنه وكيله بعد حلول الأجل على قبضه، وهذا [كقول أشهب] (¬2) في البيع الفاسد: أن التمكين فيه قبض، والمرتهن هاهنا قد مكن من قبضه بحلول الأجل؛ لأن الرهن مبيع بالدين الذي في ذمة الراهن، والمرتهن لا يدري ما يصح له عند الأجل إن كان الثمن أو الرهن، ومن هذا الوجه يشبه البيع الفاسد. ووجه القول الثاني: أن الأمين [صار] (¬3) حائزًا لهما جميعًا بحلول الأجل ليس بالذي يدفع يد الراهن عنه، ولا بالذي يصيره ملكًا للمرتهن حتى يقبضه، فإذا قبضه حصلت له فيه شبهة ملك [فيما يضمن] (¬4). ووجه القول الثالث: أنه لما كان تصرف البائع في السلعة المبيعة بيعًا فاسدًا نافذًا ما دامت قائمة في يد المشتري على أحد قولي المذهب على ما قدمناه في "كتاب البيوع الفاسدة" واستقرأناه من كتاب ["التدليس] (¬5) بالعيوب" وجب ألا تدخل في ضمان المرتهن إلا بعد الفوات، وإن قبضها لكونها باقية في [ملك] (¬6) البائع [الأول] (¬7) الذي هو المرتهن؛ إذ لا ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) في ب: القول لأشهب. (¬3) في أ: كان. (¬4) في أ: فيها. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: يد. (¬7) سقط من أ.

[ينفد] (¬1) تصرف المتصرف إلا فيما هو في ملكه وتحت نظره. فإن كان الرهن على يد المرتهن: فلا يخلو من أن يكون قائمًا أو فائتًا. فإن كان قائمًا، هل يضمنه بالقبض أم لا؟ على قولين: أحدهما: [أنه يضمنه بالقبض و] (¬2) حلول الأجل كالبيع الفاسد وهو نص قول مالك في "كتاب الرهون" في "المدونة" أنه ضامن لقيمته يوم يحل الأجل إن فاتت. والثاني: أنه لا يضمنه إلا بعد الفوات، وإن حَلَّ الأجل، وهو القول الثالث الذي ضعفناه إذا قبضه من يد الأمين. فإن فات: فلا يخلو فواته من أن يكون بسبب المرتهن، أو بسبب غيره. فإن كان بسبب غيره: ففي وجوب الضمان على المرتهن قولان: أحدهما: أنه ضامن كما لو فات بسبب نفسه، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وغيرها، وهو المشهور. والثاني: أنه لا ضمان عليه إلا أن يكون الفوت من سببه كالعتق، والإيلاد، والبيع، والبناء، والغرس. ولا يضمن ما كان بسبب غيره؛ لأن يده كانت عليه بالارتهان، والرضا الذي تراضيا أن يأخذه من حقه فاسد، ويفسخ ويقر تحت يد المرتهن [حسبما] (¬3) كان حتى يقبض حقه، ففارق بهذا البيع الفاسد إذا قبض ولم يكن رهنًا، وهو قول ابن عبد الحكم في "المبسوط". ¬

_ (¬1) في أ: ينفك. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: كما كان.

فإن كانت بسببه فهو ضامن قولًا واحدًا، واختلف في القيمة متى تعتبر على قولين: أحدهما: قيمته يوم يحل الأجل؛ لأنه من يومئذ صار له قابضًا قبل الملك، وهو قوله في المدونة. والثاني: قيمته يوم الفوت، وهذا القول حكاه ابن عبد الحكم عن مالك، وحكاه محمد في كتابه، ولم يسم قائله. فرع من المدونة: ومن لك عليه دين لم يحل، فسألك أن تزيده في الأجل على أن يعطيك رهنًا أو حميلًا: لم يجز، وتسقط الحمالة متى علم بذلك، وأما الرهن فإن أدرك قبل أن يدخل في الأجل الثاني، فإنه يفسخ الرهن [ويرد] (¬1) ولا يكون أحق به من الغرماء. فإن أدرك بعد أن دخل في الأجل: فإنه لا يرد؛ لأنه سلف لا يحل، وفيه رهن مقبوص، والرهن ثابت حتى يقضي. وأما لو كان الدين قد حل لكان ذلك جائزًا في الحميل، والرهن كابتداء السلف. وإذا كان لك عليه دين مؤجل، فسألك قبل محله أن تسلفه، وتؤخره بالمالين إلى أبعد من [الأجل] (¬2)، أو لم يسألك تأخيرًا في الأجل: لم يجز؛ لأنه سلف جر نفعًا، وهو زيادة التمسك بالرهن في السلف الأول. فإن نزل، وقد فلس الراهن، أو مات هل يكون الرهن كله رهنًا [بالدين في السلف الأول غرم نصفه، فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الأجلين.

أحدهما: أن كله رهنًا] (¬1) بالسلف الآخر؛ كالرهن بثمن سلعتين تستحق إحداهما، فالمذهب [على قولين] (¬2): أحدهما: أنه رهن كله بحصته الباقية من الثمن؛ كالمرأة تأخذ الرهن بالصداق، ثم تطلق قبل البناء، فجميعه رهن بنصف الصداق، وهو اختيار ابن المواز، وهو مذهب المدونة. والثاني: أن نصف الرهن رهن بالسلف الآخر لا كل الرهن، وهذا القول حكاه ابن المواز أيضًا عن بعض الأصحاب، وحكاه أبو إسحاق بن شعبان في [كتابه] (¬3) الزاهي، والأول أظهر و [أصح في النظر] (¬4) [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: أوضح. (¬5) زيادة من ب.

المسألة العاشرة في اختلاف الراهن والمرتهن

المسألة العاشرة في اختلاف الراهن والمرتهن ولا يخلو اختلافهما من ثلاثة [أوجه] (¬1): أحدها: أن يختلفا في الدَّين. والثاني: أن يختلفا في الرهن. والثالث: أن يختلفا فيهما جميعًا. [فالجواب عن الوجه الأول إذا] (¬2) اختلفا في الدين: فلا يخلو من أن يختلفا في قدره أو يختلفا في جنسه. فإن اختلفا في قدره، فقال المرتهن: هو في عشره، وقال الراهن: بل هو في خمسه: فلا يخلو الرهن من أن يكون قائمًا أو فائتًا. فإن كان قائمًا: فلا يخلو من أن تكون قيمة الرهن مثل ما يدعيه المرتهن، أو مثل ما يدعيه الراهن، أو أقل مما يدعيه الراهن، أو أقل مما يدعيه المرتهن أو أكثر مما يدعيه الراهن؛ مثل أن يدعي المرتهن أن الدين عشرون، ويدعي الراهن أن الدين عشرة، وقيمة الرهن خمسة عشر. فإن كانت قيمة الرهن مثل ما يَدَّعِيه المرتهن: فلا يخلو من أن يكون الرهن على يده، أو على يد غيره. فإن كان على يده: فالقول قول المرتهن مع يمينه. وفي يمين الراهن قولان: ¬

_ (¬1) في ب: أقسام. (¬2) في أ: فإن.

أحدهما: أنه لا يحلف، وهو قول محمد؛ إذ لا فائدة ليمينه. والثاني: أنه يحلف [لأن] (¬1) المرتهن يقول: لا أتكلف بيعه، وتكون العهدة عليَّ؛ لإمكان أن يستحق أو يوجد به عيب. وسبب الخلاف: الرهن هل هو شاهد على الذِّمة، أو هو شاهد على نفسه خاصة. فإن كان الرهن على يدي غيره، هل يكون القول قول الراهن، أو قول المرتهن؟ على قولين قائمين من المدونة [بالمعنى] (¬2). أحدهما: أن القول قول المرتهن مع يمينه، وهو قول ابن المواز. والثاني: أن القول قول الراهن [مع يمينه] (¬3)، وهو قول أصبغ في "العتبية"، وبه قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب. وهذا الخلاف ينبني على الخلاف الذي قدمناه في الرهن، هل هو شاهد على الذمة، أو هو شاهد على نفسه [خاصة؟. فعلى القول بأنه شاهد على نفسه] (¬4) لا على الذمة؟ فإن المرتهن يحلف مع شهادته الرهن يستحق منه العشرة التي شهد له بها, ولا يمين على الراهن؛ لأن الرهن لم يشهد عليه بشيء. وعلى القول بأنه شاهد على الذمة: فإن الراهن يحلف ليدفع عن نفسه ما شهد به عليه الرهن مخافة أن يتلف الرهن أو يستحق. فإن كانت قيمة الرهن مثل ما يَدَّعِيه الراهن: فالمذهب أيضًا على ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

قولين: أحدهما: أن القول قول الراهن مع يمينه، وهو قول ابن المواز. والثاني: أن القول قول المرتهن، وهو قوله في "العتبية"، وهذا ينبني على ما تقدم أن الرهن ليس بشاهد على الذمة؛ لأنه يرهن في أقل من قيمته، وفي أكثر منها. فأما إذا كانت قيمته أكثر مما يَدَّعِيه [الراهن وأقل مما يَدَّعِيه] (¬1) المرتهن؛ مثل أن يَدَّعِي المرتهن أن الدَّين عشرون، ويَدَّعِي الراهن أن الدَّين عشرة، وقيمة الرهن خمسة عشر، فهاهنا يحلفان جميعًا. واختلف من المبدى باليمين على قولين: أحدهما: أن المرتهن هو المبدى اليمين، وهو قول مالك في الموطأ، وهو المشهور لقبضه الرهن [وحوزه] (¬2) له سواء كان بيده أو وضعاه على يد عدل؛ لأن يد العدل حائزة للمرتهن، وهو نص قول ابن المواز؛ لأن الرهن شاهد له. والثاني: أن التخيير لهما في ذلك؛ فمن بدأ باليمين منهما جاز ذلك، هو قول [الشيخ: أبو الحسن] (¬3) اللخمي [رحمه الله] (¬4) لأنه قال: فإن [بدأ] (¬5) المرتهن باليمين كان بالخيار. وعلى القول بأن المرتهن يبدأ باليمين، فعلى ماذا يحلف؟ فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: وحيازته. (¬3) زيادة من ب. (¬4) زيادة من ب. (¬5) في ب: ابتدأ.

أحدهما: أنه يحلف على عشرين دينارًا، وهو جميع الدين، وهو قول مالك في ["الموطأ"] (¬1). والثاني: أنه يحلف على خمسة عشر، وهي قيمة الرهن، كما لو ادَّعى عشرين، وشهد له شاهد بخمسة عشر، فإنه يحلف على الخمسة [عشر] (¬2) التي شهد له بها شاهد، وهذا القول حكاه الشيخ أبو محمد عبد الحق عن بعض شيوخه. والثالث: أنه مخير إن شاء حلف على جميع الدَّين، وإن شاء حلف على قيمة الرهن خاصة، وهو قول ابن المواز. وعلى القول بأنه يحلف على جميع الدَّين: فإنه إذا حلف رجع اليمين على الراهن، فيحلف ويسقط عن نفسه الخمسة الزائدة على قيمة الرهن. فإن نَكَلَ دفع للمرتهن ما حلف عليه، فإن حلف المرتهن [أولًا] (¬3) على خمسة عشر -على تخيير ابن المواز، أو على قول الصقيلي- فإن الراهن يحلف ليسقط عن نفسه بقية دعوى المرتهن وهو ما زاد على قيمة الرهن، فإن نَكَل الراهن لم يقض للمرتهن بالزيادة على قيمة الرهن إلا بعد يمين ثانية أنه في عشرين. وإن بدأ الراهن باليمين على القول بالتخيير في التبدئة: فهو مخير في صفة اليمين، فإن شاء حلف أنه لم يرهنه إلا في عشرة، فإن نكل المرتهن بعد ذلك [دفع الراهن وأخذ رهنه، وإن شاء حلف أنه لم يرهنه في عشرين دينارًا منه، فإن نكل المرتهن بعد ذلك] (¬4) حلف [الراهن] (¬5) ¬

_ (¬1) في ب: المدونة. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: أو. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

يمينًا ثانية أنه لم يرهنه إلا في عشرة، ثم لا يكون للمرتهن إلا قيمة الرهن. فإن أراد الراهن أن يعطيه قيمة الرهن، ويأخذ رهنه، هل يمكن من ذلك أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يمكن من ذلك إلا أن يدفع له جميع ما يَدَّعِيه من العشرين الدينار فيأخذه، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم في "العتبية". والثانى: أنه مخير إن شاء دفع له قيمة الرهن ويأخذه، وإن شاء أسلمه له، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو قول ابن نافع في "العتبية". والثالث: أن الراهن بالخيار إن شاء أن يعطيه ما قال المرتهن، وإلا بيع الرهن ويدفع له من ثمنه ما ذكر، وهو قوله في "كتاب ابن عبدوس". واختلف في القيمة في ذلك متى تعتبر. أما مع قيام الرهن ففيه قولان منصوصان في المدونة: أحدهما: قيمته يوم الحكم، وهو قول ابن القاسم في الكتاب، وهو قول ابن نافع في "النوادر". والثاني: أنه ينظر إلى قيمته يوم القبض، وهو قول الغير في بعض نسخ "المدونة" في كتاب "الرهون". وأما في فواته إذا كان مما يضمن: فقد اختلف في وقت اعتبار قيمته على ثلاثة أقوال: أحدها: اعتبار قيمته يوم القبض، وهو قول ابن القاسم في [في الكتاب. والثانى: اعتبار قيمته يوم الفوات، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم

في] (¬1) "العتبية". والثالث: اعتبار قيمته يوم الرهن، وهو قول ابن القاسم في موضع آخر على ما نقله القاضي أبو الوليد الباجي [رحمه الله] (¬2). وأما الوجه الثاني [من الوجه الأول] (¬3) من القسم الأول: وهو أن يكون الرهن فائتًا، وقد تصادقا على مقدار قيمته، هل يكون القول قول الراهن أو قول المرتهن؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن القول قول الراهن مع يمينه، وهو ظاهر قول ابن المواز. والثاني: أن القول قول المرتهن مع يمينه. والثالث: التفصيل بين أن يكون الرهن مما يضمن، أو مما لا يضمن. فإن كان مما يضمن بالغيبة [عليه] (¬4)، ولم تقم على هلاكه بينة كان القول قول المرتهن. فإن كان مما لا يضمن إما لكونه مما لا يغلب عليه كالعبيد، والحيوان، أو مما لا يُغاب عليه، إلا أن البينة قامت على هلاكه، [كان] (¬5) القول قول الراهن. وسبب الخلاف: اختلافهم في الرهن، هل هو شاهد على نفسه خاصة، أو هو شاهد على الذِّمة؟ فعلى القول بأنه شاهد على نفسه خاصة لا على الذمة: يكون القول قول الراهن -كان مما يضمن أو مما لا يضمن-؛ لأن حكم الرهن قد سقط ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من ب. (¬5) في أ: فإن.

فيرجعان إلى ما يغرمه الراهن من ذمته، إذا كان الرهن مما لا يضمن، أو كان مما يضمن على القول بأنه قيمة الشيء لا تقوم مقام عينه، فصار بمنزلة ما لم يكن فيه رهن؛ لأنه يشبه أن يرهن الرهن في مثل قيمته أو في أكثر منها أو أقل، وهذا القول قائم من "المدونة" من قوله: إن شاء الراهن أدى قيمة رهنه، ويأخذه إن أحب، وإلا فلا سبيل له إليه، وهو ظاهر ما في كتاب محمد، وما في سماع يحيى أنه إنما يكون الرهن شاهدًا على نفسه لا على الذمة وأنه حقه إنما يكون في عين الرهن لا فيما سواه حتى لو تلف الرهن، أو هلك إن كان مما لا يغاب عليه، واستحق لم يطالب الراهن بغير ما أقر به بعد أن يحلف. ولو كان الرهن شاهدًا على الذمة: ما كان يجبر الراهن على فداء الرهن بقيمته أو تركه على قول، ولا على قول آخر لا سبيل له إليه، ولكان يقول: إنه يباع عليه، ويدفع للمرتهن من قيمته ما ذكر، كما هو منصوص في "كتاب ابن عبدوس"، وتكون العهدة في ذلك على الراهن. وعلى القول بأنه شاهد على الذمة: يكون القول قول المرتهن، وهو تأويل بعضهم على "المدونة" من قوله: إن القول قول المرتهن ما بينه وبين قيم الرهن؛ بناء منه على أن العادة المألوفة أن الناس لا يرهنون في ديونهم إلا ما يساويها، أو ما يقاربها, لا ما لا يفي بها، وهو ظاهر قول أصبغ، والقاضي أبي محمد عبد الوهاب. فعلى هذا إذا استحق الرهن، أو جرى عليه أمر من الأمور أن القول قول المرتهن ما بينه وبين ما [له شهد] (¬1) الرهن، ويتبع [به] (¬2) ذمة ¬

_ (¬1) في ب: شهد له. (¬2) سقط من أ.

الغريم. وأما على القول بالتفصيل: فيجري على اختلافهم في قيمة الشيء، هل هي كعينه أم لا؟. وأما الوجه الثاني من القسم الأول: إذا اختلفا في جنس الدَّين؛ مثل أن يقول المرتهن: هو رهن عندي بمائة دينار، وقيمة الرهن مائة فأكثر، وقال للراهن: بل في مائة أردب قمح، فإن كان قيمة المائة أردب مائة دينار فأكثر: فالراهن مصدق وتؤخذ منه وتباع، ويدفع للمرتهن مائة، والزائد يوقف إن كان هناك، فمن رجع منهما إلى تصديق صاحبه أخذه. فإن كانت قيمته أقل من مائة دينار: فالمرتهن مصدق كما يصدق في كثرة الدين إذا تصادقا على نوع واحد [و] (¬1) الرهن يشهد له. والجواب عن القسم الثاني: إذا اتفقا في مقدار الدين، واختلفا في قيمة الرهن، وقد فات: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يدعي كل واحد منهما معرفة قيمته. وإما أن يدعيها واحد، والآخر يقول: لا أدري. وإما أن [يجهلاها] (¬2) جميعًا. فإن ادعى كل واحد منهما معرفة قيمة الرهن: فإنهما [يتواصفاه] (¬3) ثم لا يخلو من أن يتصادقا على الصفة، أو يختلفا فيها. فإن تصادقا على الصفة: فإنه يُدعى المقومون لتلك الصفة، فإن ¬

_ (¬1) في أ: من. (¬2) في أ: يتجهلا لها. (¬3) في ب: يتواصفانه.

قوموها بمثل، ما يدعيه المرتهن: [كان] (¬1) القول قوله. فإن قدروها بأكثر مما يدعيه الراهن، أو أقل مما يدعيه المرتهن جرى على ما قدمناه من التفصيل، والتحصيل في قيام الرهن. فإن اختلفا في قيمة الرهن، وقال الراهن: قيمته عشرة، وقال المرتهن: قيمته خمسة، والدين عشرة، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قول المرتهن، وهو قوله في "المدونة"، وقال ابن حبيب: وإن أتى بما لا يشبه، فإنه يقبل قوله؛ لأن الرهن [يرهن] (¬2) في أقل من قيمته وأكثر. والثاني: أن القول قول الراهن، وهو قول أصبغ، وهذا يصح بأن الرهن شاهد على الذمة. وسبب الخلاف: اختلافهم في الدَّين، هل هو دليل على قيمة الرهن، أم لا؟ فمن رأى أن مقدار الدَّين دليل على قيمة الرهن يقول: القول قول الراهن؛ لأن الغالب أن الرهن لا يكون إلا بما يساوي الدَّين. ومن رأى أن الدَّين لا يكون دليلًا على قيمة الرهن يقول: القول قول المرتهن؛ لأن الناس يرهنون ما يفي بالدَّين وما لا يفي به. والقولان قائمان من "المدونة"، إلا أن قول ابن القاسم في هذه المسألة مخالف لقوله في اختلافهما في مقدار الدَّين. فإن ادعى أحدهما معرفة قيمة الرهن، وقال الآخر: لا أدري ما قيمته: فالقول قول من ادَّعَى معرفة القيمة ما لم يأت أمر يستنكر بما لا ¬

_ (¬1) في أ: فإن. (¬2) سقط من أ.

يشبه، إما لكثرته إن كان ذلك من [الراهن، وإما لقلته جدًا إن كان ذلك من] (¬1) المرتهن. فإن جهلاها جميعًا: فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يكون الرهن بما فيه، ولا تباعة بينهما، وهو قول مالك في "المدونة"، وعليه حمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الرهن بما فيه" (¬2)، [فقال] (¬3) معنى ذلك إذا عُميت قيمته، وجهلت صفته؛ لأن ذلك غاية المقدور. والثاني: أنه يجعل من أدنى الرهون، وهو قول أشهب -يريد من أدنى ما يرهن في مثل ذلك الدين. ووجه القول الأول: أنه لما كان احتمل أن يرهنه في مثل عدد الدين أو في أكثر منه أو أقل: كان الأعدل أن يكون بالدين قطعًا لمادة النزاع كما قالوا -إذا قال له: "عندي من الخمسين إلى الستين": إنه يكون عليه خمسة وخمسون؛ يقيم المشكوك فيه بينهما كما يقسم بينهما إذا تساوت فيه الدعاوى. ووجه القول الثاني: أن الذِّمة على أصل البراءة: فلا تعمر بالشك؛ فلأجل ذلك يجعل من أدنى الرهون كما قالوا: إذا أقر أن له عنده دراهم أنه يجعل عليه أقل أعداد الدراهم؛ وذلك ثلاثة دراهم. والجواب عن القسم الثالث: إذا اخلتفا في مقدار الدين [وقد ضاع، فقال الراهن: الدين خمسة، وقيمة الرهن عشرة، وقال المرتهن: الدين ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه الدارقطني (3/ 32)، والبيهقي في الكبرى (11006)، وابن الجوزي في التحقيق (1518)، وهو حديث ضعيف. انظر: الضعيفة (3661). (¬3) في أ: فقيل.

عشرة] (¬1) وقيمة الرهن خمسة: فإن المذهب يتخرج على قولين: أحدهما: أن القول قول الراهن [فيما يدعيه الراهن] (¬2) ويحلف أن الدين خمسة، والقول قول المرتهن، ويحلف أن قيمة الرهن خمسة، ثم لا تباعة بينهما وهو اختيار اللخمي. والثاني: أن القول قول المرتهن فيما يدعيه الراهن، والقول قول الراهن، فيما يدعيه المرتهن. وسبب الخلاف: الرهن هل هو شاهد على الذمة؟ والدين هل هو دليل على قيمة الرهن أم لا؟ وذلك أنا إذا قلنا: إن الرهن شاهد على الذمة، يكون القول قول المرتهن فيما يدعيه الراهن؛ لأنه يَدَّعي أن الدَّين خمسة، وقيمة الرهن عشرة، والعادة أن الناس يرهنون في الدَّين ما يفي به. وإن قلنا: إن الدَّين لا يكون شاهدًا على الذِّمة: يكون القول قول الراهن في مقدار الدين. وإذا قلنا: إن الدَّين دليل على قيمة الرهن: يكون القول قول الراهن فيما يَدَّعِيه المرتهن؛ لأنه يَدَّعِي أن الدَّين عشرة، فينبغي أن تكون قيمة الرهن [كذلك] (¬3). وإذا قلنا: إن الدَّين لا يكون شاهدًا على الذَّمة، وإن الدَّين لا يكون دليلًا على قيمة الرهن: كان القول قول كل واحد منهما يَدَّعيه مع يمينه؛ لأنه غارم مطلوب: وفروع هذا الباب كثيرة، فقس ما يَرِدُ عَليك [منها على هذا الأسلوب] (¬4) [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: عشرة. (¬4) في ب: على هذه الأسئلة. (¬5) زيادة من ب.

المسألة الحادية عشر في ارتهان [فضلة الرهن]

المسألة الحادية عشر في ارتهان [فضلة الرهن] (¬1) ولا تخلو تلك الفضلة من أن تكون فضلة في عين الرهن، أو تكون فضلة في قيمة الرهن. ومعنى الوجه الأول: أن يرهنه نصف الثوب [في عشرة دنانير والنصف الآخر غير مرتهن بقبض المرتهن جميع الثوب يقيم له الحوز، ومعنى الوجه الثاني: أن يرهن الثوب] (¬2) في خمسة وهو يساوي عشرة. وفائدة اختلاف الصور معرفة ما يصح للمرتهن الثاني، ويكون أحق به من الغرماء إذا صح له القبض والحوز، ففي الوجه الأول يكون أحق بنصف الثوب من الغرماء سواء كان النصف الثاني يفي بحق الرهن الأول أو يعجز عنه. وفي الوجه الثاني: يكون المرتهن الثاني أحق بما ناف عن دين المرتهن الأول من قيمة الرهن إن كان في قيمة الزيادة. فإن كانت قيمته كفافًا لدين الأول، أو أقل منه: فهو أحق بجميع الرهن من الغرماء، ولا حق فيه للمرتهن الثاني. فإذا ثبت ذلك، فلا يخلو من وجهين: إما أن يرهن تلك الفضلة للمرتهن الأول أو لغيره. فإن رهنها من الأول: فلا يخلو من أن يكون الرهن على يده، أو على يد عدل. ¬

_ (¬1) في أ: فضلة. (¬2) سقط من أ.

فإن كان على يده: فلا خلاف في الجواز كان المرتهن عين الرهن أو صفته، إلا على مذهب من يرى أن رهن الغرر لا يجوز، فيمنع رهن الصفة؛ وهو ما يزيد من قيمة الرهن على قدر الدَّين الأول؛ لأن ذلك غرر، وقد يكون، وقد لا يكون. فإن كان على يدي عدل: فيجري فيه من الخلاف ما نذكره في الوجه الثاني إن شاء الله تعالى. فأما إذا رهنه من غير الأول: فلا يخلو من أن يضعاه على يده عدل، أو على يد المرتهن الأول. فإن وضعاه على يد عدل، فإن رضي بالحوز للثاني: فالمذهب على قولين: أحدها: أن ذلك جائز -رضي المرتهن الأول أو سخط- وهو قول أصبغ، وهو ظاهر [المدونة] (¬1). والثاني: أن ذلك لا يجوز [إلا برضا الأول] (¬2)، وهو قول مالك في "كتاب محمد"، وهو أضعف الأقوال؛ إذ لا فائدة لرضاه. وأما إذا كان الرهن على يد المرتهن الأول، ففيه في المذهب ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدهما: أن ذلك جائز -رضي المرتهن الأول [بذلك] (¬3) أم لم يرض- وهو ظاهر قول مالك في "كتاب الوصايا الثاني" وغيره من "المدونة": فيمن أخدم عبده رجلًا سنة، ثم قال: هو لفلان: حيث قال: إن ذلك جائز، وقبض المخدم قبض للموهوب له الرقبة. ¬

_ (¬1) في أ: الرواية. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ.

والثاني: أن ذلك لا يجوز، ولا يكون حوزه حوزًا للثاني؛ وإن رضي لأن قبضه وحوزه أولًا إنما كان لنفسه لا لغيره، وهي رواية محمد بن المواز عن ابن القاسم في كتابه، ورواه أبو القاسم بن الجلاب أيضًا. والقول الثالث: بالتفصيل بين أن يرضى المرتهن الأول: بالحوز للثاني، أو لا يرضى. فإن رضي أن يجوز له: فذلك جائز. وإن لم يرض: فلا يجوز. وهو نص قول مالك في "كتاب الرهون"، وذهب بعض المتأخرين إلى أن ذلك كله اختلاف أحوال، وأن معنى الجواز عنده إذا كان أَجَلُ الدَّينين سواء أو كان الآخر [أبعده حلولًا] (¬1) فذلك يجوز، وإن لم يرض الأول. وإن كان الثاني أقرب حلولًا، ودين الأول عرضًا، ودخل الثاني على أن يقتضي دينه إذا حل أجله: لم يجز إلا برضا الأول؛ لأن الأول يقدر على تقديم حقه قبل أجله. وإن كان دين الأول عينًا أو عرضًا من قرض: جاز إذا دخل على أن يعجل حقه إذا حل الدين الأول. واختلف في ضمان الفضلة إذا كان الرهن على يد المرتهن الأول على قولين: أحدهما: أنه لا ضمان عليه للفضلة؛ لأنها عنده على الأمانة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". ¬

_ (¬1) في ب: أبعد الحلول.

والثاني: أن ضمانه كله من الأول، وهو قول أشهب، وهذا كله في رهن فضلة القيمة. وأما فضلة عين الرهن: فلا خلاف أن ضمانها من الراهن، كما لو كان على يد عادل. ولو كان على يد المرتهن الثاني لتخرج فيه الضمان على قولين قائمين من "المدونة". وسبب الخلاف: اعتبار الحال والمآل. [فمن اعتبر الحال قال بوجوب الضمان على المرتهن الثاني؛ لوجود الفضلة في قيمة الرهن في الحال. ومن اعتبر المآل] (¬1) قال: لا ضمان عليه في تلك الفضلة؛ لأن الفضل مترقب إلى الحلول، فقد تحول أسواق الرهن، أو يحدث به عيب، ولا يكون فيه فضل عند حلول أجل الدين، وإن كان لا يعلم كم هو في عين البيع [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب.

المسألة الثانية عشر في تصرف الراهن [في الرهن بالعتق] والإيلاد

المسألة الثانية عشر في تصرف الراهن [في الرهن بالعتق] (¬1) والإيلاد فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون تصرفه فيه قبل الحوز. والثاني: أن يكون بعد الحوز. فإن كان ذلك قبل الحوز: فلا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يعتق، أو يكاتب، أو يدبر، أو يطأ. فأما العتق: فلا يخلو الراهن من أن يكون موسرًا أو معسرًا. فإن كان موسرًا: فالعتق نافذ، ولا يرد، ثم ينظر إلى قيمة العبد: فإن كانت كفافًا للدَّين أو أكثر منه: فإن الراهن يطالب بتعجيل الدَّين من أي نوع كان تعصيبًا للعتق، وكون الرهن فوته بالعتق قبل الحوز. فإن كانت قيمته أقل من الدَّين، فهل يُعَدّ ذلك منه رضا بتعجيل الدَّين أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك يُعَدّ من الراهن رضا بتعجيل جميع الدَّين، وعليه أن يعجله كله، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الرهون". والثاني: أنه لا يُعَدّ ذلك منه رضا بتعجيل الدين جميعه، وإنما عليه تعجيل قدر قيمة العبد خاصة، وهو أحد القولين في البيع إذا باع الرهن، وهو قول ابن القاسم في العارية: إذا استعار عبدًا ليرهنه ثم أعتقه المعير, ¬

_ (¬1) في أ: بالرهن في العتق.

حيث قال ابن القاسم في أحد قولين: إن كان له [مال] (¬1) جاز عتقه، ويغرم الراهن الأقل من قيمته أو من الدَّين بتعجيله، ولا فرق بين العارية وغيرها؛ إذ لا يجب عليه أن يغرم أكثر مما فوته، وهو ظاهر قول ابن القاسم أيضًا في "كتاب الجنايات" من المدونة: إذا أعتق السيد العبد الجاني، حيث قال: إنه يحلف ما أراد بعتقه تحمل الجناية، وعلى أنه يغرم قيمة العبد: فإن الباقي من الدَّين يبقى في ذمة الراهن، ويكون به المرتهن مع الغرماء أسوة. فإن كان الراهن معسرًا: فإن العتق لا ينفذ، والعبد موقوف إلى محل أجل الدَّين. فإن أفاد الراهن مالًا: أخذ منه الدَّين وعُتق العبد بالعتق الأول، وإلا فيباع العبد في الدَّين، فإن استغرق قيمته بطل العتق. وإن كان بيع بعضه يَفِي بالدَّين: فإن الباقي ينفذ فيه العتق. وأما الكتابة والتَّدْبِير: فقد اختلف فيهما المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن للمرتهن أن يقبض رهنه، ويكون محازًا وهو مكاتب ومدبر، وهو قول أشهب في "كتاب محمد"، وظاهره: ألا فرق بين أن يكون الراهن موسرًا أو معسرًا، بخلاف العتق. والثاني: أن الكتابة والتدبير كالعتق يعتبر فيهما اليُسر والعُسر في حين عقدهما لما يخاف من مآل [أمرهما] (¬2) في العسر عند حلول الأجل إن كان الراهن موسرًا عند عقد الكتابة والتَّدْبِير. والثالث: التفصيل بين أن تكون [الكتابة و] (¬3) التَّدْبير في يُسْر الراهن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: أحدهما. (¬3) سقط من أ.

وعسره؛ فإن كان الراهن مُوسرًا: تَسَاوَى حكم الكتابة والتدبير. وإن كان الحكم في المُدَبّر الانتظار إلى محل الأجل في الكتابة يستوفي الحق منها، فإنه إذا كان حرًا وخرج من الرهن، فإن عجز كان رهنًا، وهذا يتخرج على قول أشهب في "كتاب محمد" أن الكتابة تكون رهنًا مع رقبة المكاتب. وأما الوجه الثاني: من أصل التقسيم: إذا تصرف [الراهن] (¬1) في هذه الأشياء بعد القبض والحوز: فلا يخلو الراهن من أن يكون مُوسِرًا أو مُعسِرًا. فإن كان مُوسِرًا: فلا خلاف في نفوذ العتق المبتل، وهل يغرم جميع الدَّين، أو قيمة الرقبة خاصة، ويبقى الباقي في ذمته إلى أجله بلا رهن أم لا؟ على قولين قائمين من المدونة، وقد قدمناهما. وسبب الخلاف: تَصَرُّف الراهن في الرهن بما يفوته، هل يُعَدّ ذلك منه رضًا بتعجيل الدَّين على وفائه، وكماله أم لا؟ وهل للراهن أن يعطيه رهنًا آخر، ويبقى الدَّين إلى أجله أم لا؟ على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه لا يمكن من ذلك، وعليه تعجيل الحق من ساعته، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أنه يمكن من ذلك، فإذا أتى برهن آخر، فالحق يبقى إلى أجله، ولا حجة في ذلك للمرتهن، وهذا القول حكاه القاضي أبو محمد عبد الوهاب عن الشيخ أبي بكر الأبهري. فإن كان الراهن مُعْسِرًا: فإن عتقه موقوف، ويبقى العبد رهنًا إلى ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أجل الدَّين. فإن جاء الأجل والراهن مُوسِر بقدر ما عليه من الدَّين: فالعتق نافذ. فإن جاء وهو مُعْسِر: فالعبد يباع فيما رهن فيه من الدَّين؛ فإن كانت قيمته كَفَافًا للدَّين: بطل العتق فيه، فإن كانت قيمته أكثر من الدَّين: فإنه يباع [منه] (¬1) بقدر الدَّين ثم يعتق ما بقى بالعتق الأول. وأما الكتابة والتَّدْبِير: فإن كان الراهن مُعْسِرًا، فإنه يبقى رهنًا إلى أجل الدَّين -مكاتبًا كان أو مدبرًا- وإن كان مُوسِرًا: فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من المدونة: أحدها: أنه يبقى رهنًا إلى أجل الدَّين -مدبرًا كان أو مكاتبًا- وهو قول مالك في المدونة في المدبر، والمكاتب [كالتدبير] (¬2) وهو قول ابن المواز. والثاني: أنه يعجل الدَّين من حينه ووقته، وهو قول ابن القاسم في الكتاب في العتق، والكتابة، وهو قول ابن وهب في التَّدْبِير حيث قال في الكتاب: التدبير كالعتق، ويؤدي الدين، وهو قول أشهب في "الموازية": إن الكتابة والتَّدْبِير كالعتق. والثالث: التفصيل بين الكتابة والتدبير؛ فالكتابة كالعتق يعجل فيها الرهن والدَّين، والتدبير: يبقى [فيه] (¬3) العبد رهنًا حتى يحل الأجل لجواز رهن المدبر، وهو قول ابن القاسم في [الكتابة] (¬4)، وفي "كتاب محمد": فإن حلَّ الأجل، ولا ماله له: بيع في الدَّين، ويبطل التدبير. ووجه القول الأول: أن المُدَبَّر يجوز رهنه؛ لأنه ليس بعتق ناجز، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: كالمدبر. (¬3) في أ: من. (¬4) في أ: الكتاب.

فينبغي أن تكون الكتابة كذلك [وكأنهما] (¬1) عقد عتق طرأ بعد الرهن، وقد يتم فيهما العتق، وقد لا يتم. ووجه القول الثاني: اعتبار الطوارئ؛ لأن الراهن إذا كان مُوسرًا يوم دَبَّرَه، فقد يعسر يوم يحل الأجل، فيبطل التدبير مع القدرة على نفوذه؛ لأنا إذا أغرمناه الدَّين لم يبطل التَّدْبير إلا ما يكون من دين بعد الموت. وكذلك [الكتابة] (¬2) لأنه قد يعسر يوم حلول الأجل، فلا يكون في ثمن الكتابة إذا بيعت وفاءً بالدين، فتبطل الكتابة كلها؛ إذ لا يكاتب بعض عبد، ولا يُدَبَّر بعض عبد. وأما القول الثالث: فقد أشرنا إلى توجيهه في أثناء الجواب. واختلف إذا كان بيع بعد المُدَبَّر يَفي بالدَّين، هل يباع منه بالدَّين، ويبقى الباقي مُدَبّرًا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يباع منه على أنه مدبر، ولا يقاويه بخلاف أم الولد التي يجوز أن يبقى بعضها على حساب أم الولد، وهو قول ابن المواز. والثاني: أنه يجوز أن يباع منه، ويبقى الباقي على أنه مُدَبَّر، وهو ظاهر المدونة؛ إذ لا مانع من ذلك ولا غرر فيه، ولا خطر بخلاف الكتابة. فلو لم يكن مع السيد مال فقضى العبد ما هو فيه مرهون من مال نفسه، فإنه يتم عتقه. وهل يرجع على سيده بذلك أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه لا يتبعه بشيء، وهو مذهب أبي الزناد، وهو ظاهر ¬

_ (¬1) في أ: وكلاهما. (¬2) في أ: الكتاب.

[المدونة] (¬1)؛ لأن عتقه في العبد لم يكن عتقًا يتم إلا بقضاء الدَّين، فصار كأنه أَدَّى الدَّين و [هو] (¬2) في ملك سيده؛ لأنه لو مات على تلك الحال مات رقيقًا. والثاني: أنه يرجع على السيد ويتبعه بما أدى عنه، كما لو أداه أجنبي من الناس إذا قال: إنما أَدَّيت: لأرجع عليه؛ لأن السيد رضي ببقاء الدَّين في ذمته؛ ولأن الغُرَمَاء لو شاؤوا أن يصبروا بدينهم ويجيزوا [عتقه] (¬3) ففعلوا لكان ذلك لهم، فصار تأخير العبد للسيد بما أَدَّى عنه كتأخير الغُرماء له، وهذا هو الصحيح. وأما قوله في القول الأول كأنه أدَّى الدَّين، وهو في مِلك السيد: فلا يصح به الاستدلال على تمشيته ما يريد؛ لأنه لو دَايَنَ السيد ثم أعتقه، ولم يكن السيد استثنى ماله حين العتق لكان عتقه جائزًا، ويبقى دينه في ذمة السيد، وهو مذهب "المدونة"، وليس له أن يَرد عتق نفسه لما كان له على سيده من دين؛ لأنه إذا رَدَّ عتق نفسه كان أضر به؛ لأن السيد أخذ ماله، فلا فائدة له في هذا؛ فلا يكون حرًا ويتبع سيده بدينه أولى من أن يرد عتق نفسه، فيأخذ سيده ماله إذا شاء كما قيل [فيما] (¬4) إذا [زوج] (¬5) إذا تزوج أمته من عبد وقبض صداقها ثم أعتقها قبل البناء بها ولا مال للسيد، فاختارت نفسها، فقال الزوج: أنا أطالب السيد بالصداق الذي قبض، وأرد فيه عتق الأمة؛ فقال: لا يكون ¬

_ (¬1) في أ: المذهب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: تزوج.

لها خيار وتبقى تحته؛ لأن اختيارها [الطلاق] (¬1) يوجب سقوط عتقها. [وسقوط عتقها] (¬2) يوجب ألا يكون لها اختيار؛ فلأن تبقى حرة تحت عبد خير من إرقاقها الذي يؤدي إلى سقوط خيارها. وهذا منه بناء على أن المرأة لا تملك الصداق إلا بالدخول، ويؤخذ من "المدونة" أنها تعتق ويتبع السيد بالصداق، ولا يرد فيه عتقها من قوله في السيد إذا أخذ مهر أمته [وأعتقها] (¬3) ثم طلقها الزوج قبل البناء: أن العتق نافذ ولا يرد؛ لأنه دين حدث بعد الطلاق بناءً [منه على] (¬4) أنها تملك جميع الصداق بالعقد، وقد [أشبعنا] (¬5) الكلام في هذا المعنى في غير هذا الموضع. وأما تصرفه في أمة الرهن [بالوطء] (¬6): فلا يخلو من وجهين: إما أن يكون بمباشرة من الراهن، أو بسبب منه. فإن كان ذلك بمباشرة من الراهن؛ مثل أن يَطَأها الراهن، فحملت من وطئه، فإن كان ذلك قبل الحوز: فحكمه حكم العتق في جميع ما ذكرناه. وإن كان ذلك بعد الحوز: فلا يخلو من أن يكون وطؤه بإذن المرتهن، أو بغير إذنه. فإن كان ذلك بإذنه: كان ذلك خروجًا من الرهن، وتكون أُمّ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: أوسعنا. (¬6) سقط من أ.

ولد، ويبقى الدين في ذمته بلا رهن. وإن كان بغير إذنه: فالمذهب على قولين: أحدهما: التفصيل بين أن تكون الجارية تذهب وتجيء في حوائج المرتهن، ثم وطئها الراهن فحملت: فإن الرهن يبطل، ولم يعجل الحق ورجعت إلى الراهن أُمّ ولد. أو تكون لا تذهب وتجيء، وإنما تَسَوَّر عليها الراهن: فإن ذلك لا يبطل الرهن، وهو قول ابن القاسم في المدونة (¬1). والثاني: أن وطاه بغير إذن المرتهن لا يبطل الرهن، وإن كانت تذهب وتجيء، وهو كالتسور. والقولان عن مالك، على ما رواه ابن القاسم في "المجموعة". وعلى القتل [بأن ذلك] (¬2) لا يبطل الرهن: فلا يخلو الراهن من أن يكون موسرًا، أو معسرًا. فإن كان موسرًا: فلا يخلو الدين من أن يكون عينًا أو عرضًا. فإن كان عينًا: فإن الدَّين يعجل قبل أجله، ويجبر المرتهن على قبضه، وكانت أُمُّ ولد للراهن. وإن كان الدَّين عَرَضًا أو طعامًا من سَلَم: فالخيار للمرتهن إن شاء عَجَّل حقه، وسَلَّم الجارية، وإن شاء حبسها رهنًا، وأرجأ الطعام إلى أجله؛ لأن ذلك من حقه، وهو قول سحنون في "المجموعة". وقوله تفسير للمذهب وليس بخلاف. فإن كان الراهن مُعْسِرًا: فإنها تباع، وهل تباع في الحال، أو بعد ¬

_ (¬1) المدونة (4/ 158). (¬2) في أ: بأنه.

الأجل فقولان: أحدهما: أنها تباع في الحال، ولا ينتظر بها الأجل. والثاني: أنها لا تباع حتى يحل الأجل، فتباع بعد الوضع، وهو قول أشهب. ثم ينظر، فإن كان الدَّين يستغرق جميع قيمتها: فإنها تباع جميعها قولًا واحدًا في المذهب، ولا يباع الولد معها؛ لأنه حر. فإن كان بيع بعضها يفي بما عليه من الدَّين، هل تباع كلها أو يباع منها [بقدر] (¬1) الدين؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه يباع منها بقدر الدَّين، ويعتق الباقي في الحال، وهو قول ابن القاسم في "كتاب أمهات الأولاد" في وطء [أحد] (¬2) الشريكين أمة بينهما. والثاني: أنها تباع جميعها، وما كان فيها من فضل، فإنه [يكون] (¬3) للسيد؛ إذ لا يكون بعض [الأمة] (¬4) أمّ ولد، وهو قول أشهب في "المجموعة". فإن كان ذلك بسبب [من] (¬5) الراهن مثل أن يزوجها بعد الرهن والحوز، فهل يجوز هذا النكاح أم لا؟ ¬

_ (¬1) في أ: بغير. (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ: لا يكون. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: إلى.

فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن النكاح فاسد، ويفسخ قبل البناء، فإن بني [بها] (¬1) بعلم المرتهن فسخ رهنه، فإن لم يعلم: فله أن يَحُول بينه وبينها ما دامت في الرهن، ولا يفسخ النكاح، ولها الأكثر من صداق المثل أو المسمى لها، وهو قوله أشهب في "المجموعة". والثاني: أن النكاح جائز، ويعجل الراهن حقه للمرتهن بمنزلة أن لو أعتقها أو بتلها عمدًا، وهو قول سحنون في الكتاب المذكور. والثالث: أن النكاح موقوف على إجازة المرتهن ورده؛ لأن النكاح يعيب الرهن؛ فإن رضي به جاز النكاح، وإن لم يرض به فسخ النكاح -دخل أو لم يدخل- وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في آخر "كتاب [الرهون] " (¬2). فإن بني [بها] (¬3) بغير علم المرتهن فافتضها إن كانت بكرًا، فعلى الزوج صداق المثل يوقف معها في الرهن كالجناية عليها، وإن نقصها الافتضاض أكثر مما أخد السيد من الصداق غرم السيد الزائد، ويوقف مع الصداق رهنًا، وهو قول ابن عبد الحكم. وتفصيل أشهب بين أن يعتق على ذلك قبل البناء أو بعده ضعيف من وجهين اثنين: أحدهما: أن جواز النكاح يكر على الرهن بالبطلان؛ لأن ذلك مما ينقصه ويخرجه عن الحوز. والثاني: أن إجازته تؤدي إلى إجازة النكاح حيث لا يحوز الوطئ؛ لأن الزوج قد دخل على ألا يطأها حتى تخرج [من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

الرهن] (¬1)، فصار كمن تزوج امرأة على ألا يطأها سَنَة: فقد نص مالك في "المدونة" على أن النكاح لا يجوز إلا أن يكون هناك عذر بيِّن؛ مثل أن تكون الزوجة صغيرة، ويكون زوجها غريبًا، فاشترطوا عليه ألا يبني بها سنة، وقد قال مالك في غير ما موضع من المدونة: أن النكاح لا يجوز إلا حيث يجوز الوطء، إلا في دم النفاس، والحيض، وما أشبههما. ثم إنا بحثنا فوجدنا في المذهب مسائل كثيرة [جوزوا] (¬2) النكاح [فيها] (¬3) حيث لا يجوز الوطء؛ منها: مسألة نكاح المعتكفة، ومنها: مسألة من تزوج امرأة وتحته أختها، وكان يطؤها بملك يمينه على أحد قولي ابن القاسم. ومنها: مسألة التي [واجرت] (¬4) نفسها للرضاع مدة معلومة: فقد نص في "المدونة" على أن زوجها يمنع من وطئها إذا واجرت نفسها برضاه، فعلى هذا لا يجوز نكاحها بعد الإجارة؛ لأن زوجها يمنع من الوطء، فيلزم على قول أشهب أن يجوز النكاح. وسبب الخلاف: في مسألتنا: الخيار الحكمي، هل هو كالخيار الشرطي أم لا؟ فرع: وأما إذا وطئها المرتهن، فلا تخلو من أن تكون بكرًا أو ثيبًا. فإن كانت بكرًا: فإن أكرهها، فعليه ما نقصها قولًا واحدًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: جوز. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: آجرت.

وفي [الطوع] (¬1) قولان: أحدهما: أنه كالإكراه، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه لا شيء عليه مما نقصها الوطء إذا طاوعته، وهو قول أشهب في غير المدونة. فإن كانت ثيبًا وأكرهها: فعليه ما نقصها الوطء. وإن طاوعته فقولان: أحدهما: أنه لا شيء عليه [مما نقصها الوطء] (¬2)، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، ويلزم [في] (¬3) المسألة قول آخر: أنه يغرم ما نقصها الوطء؛ لأن طوعها لا يسقط الحق الواجب للسيد على الواطئ. والحد واجب على المرتهن في جميع ذلك، ولا يسقطه عنه طوع ولا إكراه، وتبقى الأمة رهنًا مع الولد إن ولدت من المرتهن في ذلك [كله] (¬4)، ولا يلحق به الولد. وقد قال في "المدونة": ولو اشترى المرتهن هذه الأمة وولدها لم يعتق عليه ولدها؛ لأنه لم يثبت نسبه منها [تم الكتاب والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: إكراهه، والصواب ما أثبتناه من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: من. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من ب.

كتاب الحمالة

كتاب [الحمالة]

كتاب [الحمالة] (¬1) تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها تسع مسائل: المسألة الأولى في اشتقاق الحمالة، وييان تقاسيمها ومعناها: الحفظ، والحياطة، والتزام القيام بالشيء، وهي الضمان، ولها سبعة أسماء؛ وهي: زعيم، وكفي [وقبيل] (¬2) وحميل، و [أذين] (¬3)، وضامن، وصبير، وكلها موجودة في القرآن، والسنة، والآثار، والنثر، والأشعار، قال الله تعالى في الزعيم: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬4) وقال جلَّ وعلا: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} (¬5)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الزعيم غارم" (¬6)، وقال: "لا تقوم الساعة حتى يكون زعيم القوم أرذلهم" (¬7). والزعيم: هو السيد، أي: من يحتمل الكلام عنهم، ويتقدم فيه دونهم، وينوب فيه منابهم، ومنه قول الشاعر: ¬

_ (¬1) في ب: الحمالات. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الأذين. (¬4) سورة يوسف، الآية (72). (¬5) سورة القلم، الآية (40). (¬6) أخرجه الترمذي (1265)، وابن ماجة (2405)، وأحمد (22348)، (22349)، والدارقطني (3/ 40) من حديث أبي أمامة، وصححه الألباني -رحمه الله. (¬7) أخرجه الترمذي (2210)، والطبراني في الكبير (18/ 51) حديث (91)، والأوسط (469)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 359) من حديث علي رضي الله عنه، وضعفه الشيخ الألباني -رحمه الله.

وإن زعيم القوم لا يقبل الرشا ... يكون إمام القوم في الحادثات وقال عز من قائل: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ابتغاء مرضاته أن يدخله الجنة، أو يرده إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما كان من أجر وغنيمة" (¬2). وقال سبحانه في القبيل: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} (¬3). والأذين: مأخوذ من قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (¬4). وقال تبارك اسمه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬5). وأصله من الأذان، وهو الإعلام الذي لا يكون إلا بمعلوم متيقن حاصل، لا يصح أن يوجد بخلاف مخبره [إذ هو مأخوذ من العلم الذي هو معرفة المعلوم على ما هو به بخلاف الأخبار التي يصح أن توجد بخلاف مخبره] (¬6) لما يدخله من الصدق والكذب؛ كأن يقول الرجل أنا أدين بما لفلان على فلان إيجابًا منه على نفسه [أدى المال] (¬7)؛ إذ لا يستعمل ذلك اللفظ إلا في الواجب المتيقن الذي لا يصح أن يكون الأمر بخلافه. وقال امرؤ القيس: ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية (91). (¬2) أخرجه البخاري (2955)، ومسلم (1876). (¬3) سورة الإسراء الآية (92). (¬4) سورة إبراهيم الآية (7). (¬5) سورة الأعراف الآية (167). (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

وإني [زعيم] (¬1) إن رجعت مملكًا ... لسير ترى منه الفرانق أزورا [على لا حب لا يهتدي بمناره ... إذا ساق العدد النباطي جرجرًا] (¬2) والحميل: [مأخوذ] (¬3) من قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (¬4). وفي بعض طرق الحديث: "الحميل غارم". [والضامن] (¬5): مأخوذ من الضمان، وهو الحرز، فمن ضمن شيئًا فقد أحرزه، وهو [كثير] (¬6) في المعنى في عرف الاستعمال. والصبير: مأخوذ من الصبر؛ وهو الثبات، فكأنه أثبت على نفسه حقًا وحبس نفسه لأدائه. وهي -أعني الحمالة- على ثمانية أوجه: حمالة مبهمة مطلقة؛ وهو أن يقول: أنا لك [حميل] (¬7) أو زعيم، ونحوه: وحمالة بالمال مطلقة وحمالة بالمال على أنه [لا] (¬8) رجوع للتحمل على المتحمل عنه، وهو [الحمل] (¬9)، وحمالة بنفس مطلقة، وحمالة بنفس مقيدة أي: ليست من المال في شيء، وحمالة مترقبة: لما ثبت على ¬

_ (¬1) في ب: أذين. (¬2) زيادة من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سورة فاطر الآية (18). (¬5) في ب: والحميل. (¬6) في ب: بيّن. (¬7) في ب: كفيل. (¬8) سقط من أ. (¬9) في أ: الحميل.

فلان، وبما يوجبه الحكم عليه، وحمالة بالجناية، وما لا يمكن استيفاؤه من الحميل. وهذه الوجوه كلها لازمة على الجملة جائزة. فأما الحمالة المبهمة المطلقة إذا عَرِبتْ من ذكر المال، أو دليل الحال، هل تحمل على المال أو على النفس؟ فبين المتأخرين قولان. وأما الحمالة بالمال المطلق: فلازمة للحميل، وفيها الرجوع بالمال على المتحمل عنه بكل حال إلا في مسألة واحدة؛ وهي حمالة الصداق عند عقد النكاح: فإن المذهب فيها على قولين: أحدهما: أن الحميل يرجع على المتحمل عنه بما أدى كسائر الحمالات، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم. والثاني: أنه على الحميل يحمل، ولا رجوع له عنه حتى يتبين أنه أراد الحمالة، وهو قوله في المدونة، وقول ابن حبيب في "الواضحة"، ورواية سحنون عن ابن القاسم في "العتبية". وأما الحمالة بالمال على ألا يرجع: فهو الحمل، وقد اختلف فيه هل يفتقر إلى الحوز كالهبة أم لا، على قولين: أحدهما: أنه يفتقر إلى الحوز، وأنه يلزمه في الحياة، ويسقط عنه بعد الوفاة كالهبة إذا لم تقبض حتى مات الواهب، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم، وقاله ابن حبيب في "الواضحة". والثاني: أنه لا يفتقر إلى الحوز، وأن ذلك لازم في الحياة، وبعد الممات، وهو قول ابن الماجشون في حمالة الواضحة؛ قال: لأنه ثمن لما ترك المحمول له من ذمة غريمه، ومن حقه عليه، فكأنه قال: له ابتداء عقد كذا وكذا من مالك، وهو لك عليّ، أو أعطه ثوبك وثمنه

لك عليّ. وأما الحمالة بالنفس، أو الوجه المطلقة من غير أن يشترط المال على نفسه عند عجزه عن الإتيان بالغريم، وإحضاره، ولا التبرئة منه: فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المال لازم للكفيل سواء أحضر الأصيل أو لم يحضره، وهو قول مالك في كتاب ابن الجهم. والثاني: أنه لا [يلزمه] (¬1) المال في الوجهين -يعني: سواء أحضره أو لم يحضره- إلا إذا فرط في إحضاره حتى أعوزه، وهو قول محمد بن عبد الحكم. والثالث: أنه إذا أحضره سقط عنه الغرم على أيّ وجه أحضره من اليسر والعسر، وإن لم يحضره لزمه الغرم، وهو مذهب المدونة وهو المشهور. ثم لا يخلو المكفول بوجهه من أن يكون حاضرًا أو غائبًا. فإن كان حاضرًا: فإن [الكفيل] (¬2) يبرأ إذا جمع بينه وبين غريمه في موضع يقدر على الانتصاف منه، فإن أمكنه في موضع لا يقدر الطالب على الانتصاف منه مثل أن يمكنه في مفازة، أو في العمران حيث لا سلطان: فإن ذلك لا يبرئه من الحمالة. فإن لقيه الطالب بموضع يقدر فيه على الانتصاف منه من غير أن يكون الحميل هو الذي جاء به هل [يكون] (¬3) ذلك براءة للحميل أم لا؟ ¬

_ (¬1) في أ: يلزم. (¬2) في أ: الحميل. (¬3) سقط من أ.

فلا يخلو من أن يشترط ذلك الحميل على الطالب، أو لم يشترطه. فإن اشترط على الطالب إن لقيك غريمك، فتلك براءتي، فهي براءة للحميل، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". وإن لم يشترط ذلك، فهل يكون [ذلك] (¬1) براءة للحميل أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن ذلك ليس ببراعة للحميل حتى يكون هو أو وكيله هو الذي مَكَّنه منه، ووصَّلَه إليه، وهو نص قوله في المدونة. والثاني: أن ذلك براءة للحميل إذا لقيه بموضع يقدر على الانتصاف منه، وهو ظاهر قوله في المدونة: إذا حصل الغريم في الحبس، ولم يكن الحميل هو الذي حبسه حيث قال: فإن كان ذلك براءة للحميل إذا تخلص مما سجن فيه، ولا فرق بين أن يكون هو الذي مكنه من نفسه باختياره دون واسطة الحميل، أو يكون مقدورًا عليه في الحبس، ولم يكن الحميل حبسه، ففي كلتا المسألتين تمكن منه الطالب بغير سبب الحميل. فأما إن كان الغريم غائبًا: فلا تخلو غيبته من أن تكون قريبة أو بعيدة. فإن كانت قريبة: قال في "المدونة": "مثل اليوم وما أشبه"، وفي "الموازية": "اليوم واليومين"، وفي "العتبية": "أو الثلاثة"، هل يتلوم له أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الإمام يتلوم للحميل ليحضره [على] (¬2) قدر ما يرى، وهو قول ابن القاسم في "الموازية". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وقال بعض المتأخرين: إن كانت غيبته يومًا تلوم له ثلاثة أيام يوم خروجه، ويوم إقامته، ويوم مجيئه؛ إذ لا يتأتى له وجوده يوم وصوله. وإذا كانت غيبته يومين [صار التلوم له خمسة أيام: يومين] (¬1) في سفره، ويومين في قدومه، ويوم إقامته فيكثر التلوم، وإذا كانت الغيبة ثلاثة أيام كان التلوم سبعة أيام. والثاني: [أنه] (¬2) لا يتلوم له، وأنه [يعطي] (¬3) عليه بالغرم، ولا يضرب له أجلًا ليطلبه، وهو قول ابن وهب في "الموازية". فإن كان بعد الغيبة، فلا يتلوم له قولًا واحدًا، وليغرم مكانه، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في العتبية، ولا [مخالف] (¬4) له في المذهب فيما علمت. فإذا حكم على حميل الوجه بالغريم، فلم يغرم حتى قدم للغريم أو أتى به، فهل يبرأ مما حكم عليه به أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المال يلزمه غرمه بالحكم، فإذا حكم عليه الحاكم بالغرم فإنه يلزمه، وإن لم يدفع المال، ولا يسقط عنه إتيانه [بالغريم] (¬5) على صفة الإيسار، والإعسار، وهو قول عبد الملك، وهو ظاهر قوله في المدونة. والثاني: أنه مهما أتى بالغريم قبل أن يدفع المال المحكوم عليه به برأ من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: يعصي. (¬4) في أ: مخالفة. (¬5) في أ: بالغرم.

الضمان -كان الغريم موسرًا أو معسرًا أتى به قبل الأجل أو بعده- وهو ظاهر المدونة أيضًا؛ لقوله في الكتاب: "متى أتى بالمضمون برئت ذمته ما لم يغرم المال"، ومثله في سماع [عيسى] (¬1) عن ابن القاسم، ونحوه عن سحنون، وهو تأويل ابن لبابة على المدونة، فحملوا الحكم المذكور في الكتاب على الغرم دون الإشهاد، والقول الأول أظهر في النظر أن يلزمه الغرم [بالحكم] (¬2) وإن لم يدفع المال. والثالث: التفصيل بين أن يأتي به [عند] (¬3) [حلول] (¬4) الأجل أو بعد حلوله؛ فإن أتى به [عند] (¬5) الأجل: فإنه يبرأ ولا يغرم. فإن حلَّ الأجل، ولم يأت به فإنه يغرم، ولا ينفعه أن يأتي بعد الأجل، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم في "ثمانيته"، وظاهر كلامه: ألَّا فرق بين أن حكم عليه بالغرم قبل الأجل أم لا ما لم يغرم. فإن مات الغريم قبل الأجل أو بعده، في البلد أو في غيبته، هل يبرأ الكفيل بذلك أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن [الكفيل] (¬6) يبرأ بموت المضمون مات في البلد أو في غيبته قبل الأجل أو بعده؛ لأن النفس المكفولة قد ذهبت، وإنما تنفع الكفالة بالنفس ما كان حيًا، وهو قول ابن القاسم في "الموازية" إذا مات في البلد، وهو قول أشهب في "الموازية" أنه لا غرم عليه -مات في البلد ¬

_ (¬1) في أ: يحيى. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: قبل. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: قبل. (¬6) في أ: الحميل.

أو في غيبته. وظاهر "المدونة": أن لا فرق بين أن يموت في البلد أو في غيرها إذا ثبت موته قبل أن يغرم أو يحكم به عليه على القول بأن الحكم بالغرم على الحميل كالغرم، وأنه لو غرم ثم ثبت بالبينة أن الغريم مات في غيبته قبل القضاء لرجع الحميل بما أدى على رب الدين. والثاني: أن موته لا تبرأ به ذمة الحميل -مات في البلد أو في غيرها- وهو أحد قولي مالك في "كتاب محمد"؛ قال محمد عن ابن القاسم: قيل لمالك: فإن مات في البلد أيلزم الحميل شيء؟ قال: أرأيت إن غاب إلى سفر، ألم يكن عليه أن يعطيه حقه؟ قال مالك: والخروج [منها] (¬1) أبين، قال محمد: وهو المعروف من قول مالك وأصحابه. والثالث: التفصيل بين أن يكون الدين حالًا، أو إلى أجل؛ فإن كان الدين حالًا: فإن الغريم يغرم -قربت الغيبة أو بعدت. فإن كان مؤجلًا ومات الغريم بعد حلول الأجل: ضمن الحميل -قربت غيبته أو بعدت. فإن مات قبل حلول الأجل: فانظر فإن مات قبل حلول الأجل بأيام كثيرة لو خرج فيه الحميل لجاء به قبل الأجل، فلا شيء عليه. وإن كان لو طلب فخرج، ولم يأت به إلا بعد الأجل: فهو ضامن، وهو قول ابن القاسم في "العتبية" و "الموازية"، وأما الحمالة بالنفس المقيدة، فإنها ليست من المال في شيء، فهذا لا يلزمه إلا إحضار الغريم خاصة، وعليه طلبه حتى يأتي مع القدرة عليه، ويلزمه طلبه فيما قرب من البلاد على مسيرة يوم أو يومين، أو ما لا ضرر فيه على الحميل. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وأما طلبه في [البلاد] (¬1) النائية: فلا خلاف أنه لا يلزمه طلبه فيها. واختلف فيما بين ذلك مما ليس ببعيد متفاحش مما جرت عادة الناس بالسفر إليه، هل يجب عليه الطلب فيه أم لا على قولين: أحدهما: أنه يلزمه الخروج بنفسه، أو يرسل أو يغرم، وهو قوله في كتاب ابن حبيب. والثاني: أنه لا يلزمه طلبه إلا في مسافة قريبة، كاليوم واليومين، وهو قول أصبغ، وهذا كله إذا عرف مكانه. وأما إن جهل مكانه: فليس عليه طلبه، ولا الغرم عنه. فإن ترك الطلب، أو قدر على إحضاره، فلم يفعل: فإنه يعاقب بالسجن بقدر ما يرى الإمام، ويأمره بإحضاره إن قدر عليه، وأما أن يضمنه المال: فلا، إلا أن يلقاه فيتركه، أو غيبه في بيته فلم يظهره. وأما حمالة الطلب: فتصح في كل شيء، وتصح فيما يتعلق بالأبدان، وحقوق الآدميين، والقصاص، إذا رضي بذلك صاحب الحق يتركه على أن يحضره له الحميل متى شاء، ولا شيء على الحميل إن لم يحضره مما لزمه من إقامة الحد عليه، أو أخذ القصاص منه، إلا أن يعلم أنه يقره وأمكنه إحضاره حين طولب بإحضاره فتركه حتى أعوزه: فهذا يسجن حتى يحضره، ويعاقب بقدر [عوزه] (¬2) وما أدخله على نفسه. وأما الحمالة المترقبة: فلازمة بما ثبت ببينة؛ مثل أن يقول: داين فلانًا فما داينته به من شيء، فأنا له ضامن، أو يقول: ما دَانَ لك قبل فلان فأنا له ضامن، أو بايع فلانًا فما بايعته به فأنا له ضامن، وما أشبه ذلك ¬

_ (¬1) في أ: البلد. (¬2) في ب: غروره.

مما يترقب أمره، وجهل قدره في الحال: فالكفالة [بذلك كله] (¬1) جائزة، وهي جائزة بما لم تعلم كميته ولا كيفيته؛ لأنها معروف، والمعروف يجوز فيه الغرور والمجهول، وهي لازمة -أعني: كفالة مترقبة- فيما ثبت ببينة، ولا خلاف في ذلك. واختلف فيما ثبت بإقرار المدعى عليه هل [يلزم] (¬2) الحميل أم لا؟ على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه لا يلزم الحميل إلا ما ثبت ببينة دون ما ثبت بالإقرار، وهو ظاهر قوله في المدونة فيمن ادعى قِبَل رجل حقًا، وهو منكر، فقال رجل للطالب: أنا به حميل إلى غد، فإن لم [أوفيك] (¬3) به في غد، فأنا ضامن للمال، فمضى الغد ولم يأت [به] (¬4)، فقال: لا يلزم الحميل شيء حتى يثبت الحق ببينة، وهو نص قوله في "كتاب محمد". والثاني: أن ذلك لازم للكفيل، وأن ما ثبت بالإقرار بمنزلة ما ثبت بالبينة سواء، وهو ظاهر المدونة أيضًا من قوله في الذي قال: لي على فلان ألف درهم فقال له رجل: أنه به كفيل، فأتى فلان فأنكرها , لم يلزم الكفيل شيء حتى يقيم الطالب بَيَّنة؛ لأن الذي عليه الحق جحد، وظاهر اعتلاله أنه لو أقر لزم الحميل الغرم. وأما الحمالة: بالجناية وما يتعلق بها من الحدود والقصاص، والعقوبات بالأبدان مما لا يصح فيه النيابة. فقد اختلف العلماء في لزومها وصحتها، ¬

_ (¬1) في أ: كله بذلك. (¬2) في أ: يلزمه. (¬3) في ب: أجئك. (¬4) سقط من أ.

فذهبت طائفة من العلماء أنها لا تصح ولا يلزم وهو مشهور، مذهب مالك رضي الله عنه، وذهب آخرون إلى جوازها، وصحتها، وجعلوا حكمها حكم الحمالة بالأوجه المفيدة، وأنه لا شيء عليه إن لم يأت به إلا عثمان البتي منهم، فإنه يلزم الحميل إن لم يأت به في القتل والجراح دية القاتل وأرش الجراح، ووقع لأصبغ من أصحابنا في واضحة ابن حبيب ما ينحو نحو مذهب البتي، فقال في الفاسق المتعسف على الناس بالقتل، وأخذ المال يؤخذ، فيعطى حميلاه فيتحملون [عنه] (¬1) كل ما اجترم من قتل وأخذ مال أن ذلك يلزمه، ويؤخذوا بكل ما يؤخذ به غير أنهم لا يقتلون، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الثانية في اختلاف الحميل والطالب في: الألف] المقبوض

المسألة الثانية في اختلاف الحميل والطالب في: الألفّ] (¬1) المقبوض مثل أن يكون عليه ألف من قرض، وألف من كفالة فدفع إليه ألفًا، فادعى الدافع أنها من القرض وقال القابض: هي من الكفالة، ولا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتفقا على الإبهام، وأنهما لم يبينا شيئًا. والثاني: أن يدعي أحدهما الإبهام [وادعى] (¬2) الآخر البيان. والثالث: أن يتفقا على البيان واختلفا في نوعه. فأما الوجه الأول: [إذا] (¬3) اتفقا على الإبهام، وأنهما لم يذكرا شيئًا ولا فسرا نوعًا، فلا يخلو الدينان من أن تتفق آجالهما أو تختلف، فإن اتفقت آجالهما، فالألف تقسم بين [الحقين] (¬4) حلا أم لم يحلا؛ إذ لا مزية لأحدهما على الآخر. فإن اختلفت الآجال وحل أحدهما ولم يحل الآخر، فالقول قول من ادعى أنه من الحق الحال؛ إذ الغالب [أن] (¬5) الناس إنما يقضون من الديون ما حل منها. وأما الوجه الثاني: إذا ادعى أحدهما الإبهام، والآخر ادعى البيان، فالذي يأتي على مذهب ابن القاسم أن يكون من ادعى الإبهام قد [يعلم] (¬6) القسمة، فيكون النصف قد ثبت لمدَّعِي البيان، والتعيين في ¬

_ (¬1) في أ: الدفعة. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: إن. (¬4) حقين. (¬5) في أ: من. (¬6) في ب: يسلم.

القضاء، ثم يكون النصف الثاني مقسومًا بينهما بعد أيمانهما لتساوي دعواهما فيه، فيكون ثلاثة أرباع القصاص عن الحق الذي سَمَّاه أحدهما، والربع عن الآخر الذي ادّعَى الإبهام، وإلى هذا المعنى أشار بعض المتأخرين. وأما الوجه الثالث: إذا اتفقا على البيان، واختلفا في نوعه مثل أن يدعي الدافع أن الألف الذي دفعت هي من القرض، وقال القابض: بل هي من الكفالة. فالمذهب على قولين منصوصين في المدونة: أحدهما: أن الألف تقسم بين الحقين، فيكون نصفها من القرض ونصفها من الكفالة، وهو قول مالك في المدونة. والثاني: أن القول قول المقتضي مع يمينه؛ لأنه مدعى عليه، وقد [ائتمنه] (¬1) الدافع حين دفع إليه، وهو قول الغير في الكتاب، ولا يخلو المكفول من أن يكون موسرًا أو معسرًا. فإن كان معسرًا أو قال الذي له الدين: إنما أخذت الألف عن الكفالة كراهة [مني] (¬2) في مطالبة من عليه الدَّين بالكفالة لعسره، ووجوب طلبه للكفيل على تلك الحال، وقال: أنا آخذ الكفيل بما عليه من قرض، ففي هذا الوجه يشبه أن يكون الحكم كما قال ابن القاسم. وأما إن كان موسرًا فلا فائدة [لدعوى الطالب] (¬3) أنها من الكفالة؛ لأنها إن كانت من القرض كما قال الدافع كان للذي له الدَّين اتباع ذمتين ¬

_ (¬1) في ب: أمنه. (¬2) في أ: منه. (¬3) في أ: للطالب.

بالألف الباقية: ذمة الكفيل، والذي عليه الدَّين فهو خير له من اتباع ذمة واحدة. لأن الكفيل لو كان موسرًا، والذي عليه الدَّين مُعْدَمًا لغرم الكفيل الألف الأخرى إما عن قرض، وإما عن كفالة، فلا فائدة هناك [لاختلافهما] (¬1) واختلافهما إنما يتخرج على أن الذي عليه الدَّين مُعْسِرًا أو على أحد القولين في تخيير الطالب في الطلب من الكفيل أو الأصيل في يُسْر الغريم. وأما على القول بالتبرئة، وأن الكفيل لا يطالب إلا في عدم الغريم، فينبغي أن يكون القول قول الدافع؛ لأنه عن ذمته يقضي والغرم بالكفالة [لم يجب عليه بعد] (¬2)، فتدبر هذا المعنى تجده صحيحًا إن شاء الله تعالى، وهو معنى ما في الكتاب [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في ب: في اختلافهما. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الثالثة في أحد الشريكين [في الدين] يغيب أحدهما، ويقتضي الآخر حقه بإذن الإمام

المسألة الثالثة في أحد الشريكين [في الدَّين] (¬1) يَغِيبُ أحدهما، ويقتضي الآخر حقه بإذن الإمام ولا يخلو الغريم من أن يكون مليًا بحقهما جميعًا [أو بحق أحدهما فإن كان مُوسِرًا بحقهما جميعًا فإنّ] (¬2) الحاكم [يحكم] (¬3) للحاضر باقتضاء جميع حقه. ثم قدم الغائب والغريم معسر، فقد قال في كتاب [الحمالات] (¬4) من المدونة: إنه لا يدخل مع الحاضر فيما قبض من [غريمهما] (¬5)؛ لأنه كان ملِيًا بحقهما جميعًا، والحاضر قد اقتضى حقه بحكم الحاكم. وقد قال في كتاب "القطع في السرقة" في السارق يسرق من رجلين مالًا قطع فيه، وأحدهما غائب، والسارق موسر بقيمة سرقتهما جميعًا، فاقتضى الحاضر جميع حقه، ثم قدم الغائب والسارق عديم. فقال ابن القاسم: إن له الدخول مع الحاضر فيما قبض، ويتبعان جميعًا ذِمَّة السَّارق. والغريم مليٌ بحقهما جميعًا في الموضعين، فجعل له الدخول مع الحاضر في أحد الموضعين، ومنعه في الآخر. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: الحمالة. (¬5) في أ: غيرهما.

وقال بعض المتأخرين: وذلك اختلاف أسئلة، والفرق بينهما [أنه] (¬1) في مسألة الكفالة قد رضي بذمة الغريم حين معاملته إياه. فإذا قضى القاضي للحاضر بأخذ حقه والغريم مليٌ بحق الغائب، فلا حجة له إذا قدم على أي حالة وجد الغريم، إن وجده موسرًا أخذ منه حقه، وإن وجده معسرًا اتبع [الذمة] (¬2) التي رضي بها أولًا بخلاف مسألة السرقة، فإن الغائب لم يرض بذمة السارق، ولا عامل عليها, ولا [دخل] (¬3) على اتباعها، فكأن الحاكم قد أخطأ في تمكين الحاضر من استيفاء حقه، وأبقى حق الغائب في ذمة لم يكن بها راضيًا, ولا عامل على اتباعها؛ فلذلك جاز له الدخول على الحاضر فيما قبض ثم يتبعان جميعًا الغريم بما بقى لهما. فاختلف الجواب لاختلاف السؤال. وأما الوجه الثاني: إذا كان الغريم موسرًا بمقدار حق أحدهما ثم [أذن] (¬4) الحاكم للحاضر، فقبض حقه فلا يخلو من أن يحكم له الحاكم بقبض جميع حقه، وحكم له بقبض القدر الذي ينوبه في المُحَاصَّة لو كان معه صاحبه [فإن قضى له بقدر جميع حقه، فقد أخطأ الإمام في قضائه، ويكون للعادم أن يدخل معه فيما قبض؛ لأنه كالمفْلِس، ولا خلاف في هذ الوجه. وأما الخلاف إذا حكم له بقبض القدر الذي يُنوبه في المُحَاصَّة معه لو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ذمة. (¬3) في أ: حل. (¬4) سقط من أ.

كان صاحبه معه] (¬1)، ثم قدم [الغائب] (¬2) والغريم مُعْسِر هل يدخل معه فيما قبض أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في المدونة: أحدهما: أنه لا يدخل معه فيما قبض؛ لأنه كالتفليس، وذلك أن الغريم إذا أَفْلَس، وبعض غرمائه غائب، فإن الإمام يعزل له حقه، ويوقفه بيد من رأى. فإن أراد أن يوقفه بيد الغريم جاز ذلك، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن القادم يدخل معه فيما قبض؛ لأنه كالتفليس، وهو قول غيره في المدونة، وكلاهما جعل التفليس أصلًا يقاس عليه. وسبب الخلاف: اختلافهم في حكم القاضي للحاضر بأخذ حقه من الغريم، هل ذلك مقاسمة أو تفليس؟ فإن قلنا: إن ذلك مقاسمة بين الحاضر، والغائب، فلم يفلسه كان كما قال ابن القاسم: إن القادم لا يدخل مع الحاضر فيما قبض، غير أنه [لا يلزم] (¬3) على ما قال ابن القاسم في الحاضر إذا قبض جميع حقه، وهو جميع ما بيد الغريم ألا يدخل معه فيما قبض؛ لأن من أحاط الدين بماله يجوز له أن يقضي بعض غرمائه ما لم يحجر عليه على مشهور المذهب. فإن قلنا: إن ذلك تفليس [كان] (¬4) كما قال الغير؛ لأن الحاكم قد أخطأ في رَدّ نصيب الغائب إلى الغريم، وتركه في يده؛ لأن الواجب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: القائم. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

توقيف ذلك للغائب، فيجب أن يكون القضاء فاسدًا، فيرجع على صاحبه، فيقاسمه فيما قبض، فعلى هذا يكون قول الغير أوجه و [أليق] (¬1) بالقياس على التفليس، وقياس ابن القاسم عليها فاسد إلا من وجه أن الإمام يندب إلى الحَيْطَة لمال الغائب والنظر فيه إلى صونه، فكان تركه إياه في يد الغريم بعد المقاسمة من سوء نظر، فوجب فساد قسمته من ذلك، فأشبه التفليس [من هذا الوجه] (¬2)، وربك أعلم، [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في ب: أبين. (¬2) في أ: من ذلك. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الرابعة في تأخير الطالب الحميل أو الغريم بعد محل الحق

المسألة الرابعة في تأخير الطالب الحميل أو الغريم بعد محل الحق ولا يخلو تأخيره من أن يكون للحميل أو للأصيل، فإن كان تأخيره للحميل بعد محل الحق هل يكون تأخيره تأخيرًا للغريم أم لا؟ فإنه يتخرج على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن تأخيره للحميل لا يكون تأخيرًا للأصيل [بوجه ولا على حال أن ذمة الأصيل مشغولة على الحقيقة، وذمة الحميل مشغولة من طريق المجاز، لاحتمال قيام الشيء الواحد بالمحلين واتصافه به كما قدمنا الإشارة إليه في "كتاب السلم الثاني". ولهذا لا يطالب الكفيل إلا بعد عجزٍ على أشهر الروايتين. فإذا فهم هذا المعنى يتبين أن تأخير الحميل لا يفهم منه تأخري للأصيل] (¬1) إلا أن يحلف صاحب الحق ما كان ذلك مني تأخيرًا للغريم أصلًا فكما يجوز له ترك مطالبة الحميل والانتقال إلى مطالبة الأصيل، فكذلك يجوز له تأخيره، ثم لا يكون ذلك بتأخير للأصيل. والثاني: أن تأخيره للحميل تأخري للأصيل إلا أن يحلف صاحب الحق ما كان ذلك مني تأخيرًا للغريم] (¬2) فيكون له مطالبته. فإن نكل لزمه تأخيره، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. فانظر، فإنه لم يجعل هاهنا أن اليمين ترد على الغريم، وهو من أدل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الدلائل على أن يمين التهمة لا ترد، ولها شواهد كثيرة [في المدونة] (¬1) وفي المذهب قولان. وأما تأخيره للغريم، فلا يخلو من أن يكون موسرًا أو معسرًا، فإن كان موسرًا فأخره تأخيرًا بينًا، هل تسقط الحمالة عن الحميل أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن الحمالة ساقطة، وهو قول غيره في الكتاب. والثاني: أن الحمالة ثابتة، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. واتفقوا: أن تأخيره تأخير [للحميل] (¬2)، وعلى القول بأنه إسقاط للحمالة فلا تفريع، وعلى القول بأنه تأخير لا إسقاط، فإن الطالب يحلف أنه لم يؤخره إسقاطًا للحمالة، فإن نكل عن اليمين سقطت [عنه] (¬3) الحمالة، وإن حلف لزمته الحمالة. ثم لا يخلو الحميل من أن يعلم بذلك أو لم يعلم. فإن علم وأنكر عليه فيما فعل كان الخيار للطالب، فإما أبرأ الحميل من حمالته، ويصح التأخير وإلا لم يكن له ذلك إلا برضا الحميل خوفًا من إعدام الغريم. فإن علم وسكت لزمته الحمالة، وإن لم يعلم الحميل حتى حل الأجل أجل التأخير حلف الطالب ما آخره ليبر الحميل، وثبت التأخير، وهذا كله قول ابن القاسم في الكتاب. وأما إذا كان الذي عليه الدَّين مُعسرًا، فإن تأخيره لا يكون تأخيرًا للحميل، وله مطالبة الكفيل، أو تركه، وهو قول الغير في الكتاب ولا يخالفه ابن القاسم في ذلك؛ إذ له الإعراض عن الكفيل أو اتباع الغريم في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: الغريم. (¬3) سقط من أ.

اليُسر والعُسر. والخلاف في أصل المسألة: مبني على الخلاف في طلب الطالب، هل هو على الترتيب أو على التخيير؟ وهذا الخلاف أيضًا ينبني على الخلاف في ذمة الحميل، هل هي كذمة الأصيل أم لا؟ فإذا قلنا: إن ذمة الحميل كذمة الأصيل كان تأخيره للحميل تأخيرًا للأصيل؛ لأن ما ثبت لأحد الذمتين ثبت للأخرى، ولاسيما أن الشرع سلط الطالب عليهما بمطالبة أيهما شاء ابتداءً بلا شرط ولا اشتراط. فإن قلنا: إن ذمة الحميل ليست كذمة الأصيل، فلا يكون تأخيره تأخيرًا للأصيل بوجه، وإن كان بين الذمتين مضادات وبينهما بون بعيد. وعلى القول بأن الغالب على الترتيب هو المشهور. فإن اشترط الطالب على الحميل أنه إن شاء أخذ بجميع حقه، ويترك الغريم مع يسره وملائه هل يجوز [له] (¬1) ذلك أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من المدونة: أحدها: أن ذلك جائز له حمله بلا تفصيل، وهو الأظهر من المدونة من مسألة [الثلاثة كفلاء] (¬2) إذا اشترط عليهم أيكم شئت أخذته بجميع حقي حيث قال: إن ذلك جائز، ويأخذ جميع حقه ممن شاء منهم. فقد جوز له في هذه المسألة مطالبة الحميل بجميع حقه مع قدرته على استيفائه من الغريم، وما ذلك إلا ليوفي له بعهدة شرطه، وهو قول غيره في مسألة الكفلاء الستة أيضًا، وبه قال أصبغ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الكفلاء.

والثاني: أن الشرط باطل، وهو شرط لا يوفى به، وهو قول أشهب، وابن كنانة، وابن الماجشون في كتاب ابن حبيب. والثالث: التفصيل بين الملك وغيره، فإن كان الغريم قبيح المطالبة، أو ذا سلطان لا يقدر الطالب على الانتصاف [منه] (¬1) كما يريد، فالشرط جائز، ويجب أن يوفي له بمقتضاه. وإن كان الغريم في الجانب سهل المعاملة، فالشرط باطل، ولا يوفى له بموجبه، وهو قول ابن القاسم أيضًا، والقولان لابن القاسم منصوصان في "الواضحة" وغيرها، وفي "المدونة" دليل على الأقوال كلها، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

المسألة الخامسة في الكفالة الفاسدة

المسألة الخامسة في الكفالة الفاسدة أن [يشتري] (¬1) من رجل سلعة ويعطيه كفيلًا بما أدركه فيها من درك. فلا يخلو من أن يقصد بالكفالة تخليص الثمن ورده [إلى] (¬2) المشتري إذا أدركه درك في السلعة أو إنما قصد إلى استخلاص السلعة وردها على المشتري. فإن قصد بالكفالة استرجاع الثمن [وردها] (¬3) إلى المشتري فلا يخلو البيع من أن يكون في نفسه صحيحًا أو فاسدًا. فإن كان صحيحًا، فالكفالة جائزة لازمة قولًا واحدًا. فإن كان البيع واقعًا على نعت الفساد إما لفساده في نفسه، وإما لشروط فاسدة اقترنت به، فهل تلزم فيه الكفالة بالقيمة إذا فات أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الكفالة ساقطة بكل حال، وهو قول أشهب، وابن القاسم في ["الموازية"] (¬4)، ومثله لابن القاسم في "العتبية" أيضًا. والثاني: أن الكفالة ثابتة على الكفيل إذا فات المبيع، ويكون عليه الأقل من قيمة السلعة، أو الثمن وهو قول مالك في "المبسوط". والثالث: التفصيل بين علم الكفيل بفساد البيع، وعدم علمه، فإن ¬

_ (¬1) في أ: يبيع. (¬2) في أ: على. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: المدونة.

علم بفساد البيع، فالكفالة لازمة له، وإن لم يعلم، فالكفالة ساقطة عنه، وهو قول ابن القاسم في "العتبية" أيضًا. وأما إن قصد بالكفالة تخليص السلعة، واسترجاعها، وعقد البيع على المطالبة بذلك، والقيام به فالبيع فاسد قولًا واحدًا. وهل تسقط الكفالة عن الكفيل بفساد البيع أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في المدونة: أحدهما: أن الكفالة ساقطة عن الكفيل، وهو قول ابن القاسم. [والثاني: أن الكفالة لازمة للكفيل، وعليه أقل من قيمة السلعة يوم اشترى أو الثمن الذي] أعطى، وهو قول غيره في الكتاب. ووجه قول ابن القاسم: أن المعاملة قد وقعت فاسدة بين المتبايعين، ودخلا فيها مدخلًا واحدًا، فلم تلزمه فيها الكفالة؛ لأن الفساد من قبلهما، والثمن الذي يحمل [له] (¬1) الحميل غير لازم، فبطل عنه لسقوطه في أصل الشراء. ووجه القول الثاني: أن الحميل لما أخرج من يد البائع شيئًا، فللبائع حجة في أن يقول: لولا حمالته لم أرض بمبايعة المشتري، فيكون حميلًا بقيمة ما أخرج من يده إلا أن تكون أكثر من الثمن، فلا يكون حميلًا إلا بمثل الثمن لحجة الحميل، أن يقول: إنما دخلت على أن أحمل بالثمن الذي هو عشرة مثلًا، فإذا كان قيمة السلعة خمسة عشر لم أرض، فيكون حميلًا بالأقل كما قدمناه. وقد اختلف أيضًا في هذا البيع: إذا لم يعقدوه على هذا الشرط، ولا ¬

_ (¬1) في ب: به.

على القيام، والمطالبة بمقتضاه، هل يفسخ أم لا؟ على قولين قائمين من المدونة من اختلاف الروايات في ذلك: أحدهما: أن البيع نافذ، ولا يؤثر ذلك الشرط في فساده؛ لأنهم لا يقصدون بذكر الدرك تخليص السلعة، وهو المشهور من الروايات، [وهي] (¬1) معنى قوله في الكتاب: "لولا أن الناس يشترطون هذه الشروط في البيع الأول على أنهم لا يريدون بذلك الخلاص، وإنما كتبوه على وجه التوثيق، والتشديد لنقضت به البيع" كذا في أكثر النسخ. وعليه اختصر الشيخ أبو محمد وغيره وهو أبين الروايات؛ لأنهم لم يعقدوا بيعهم على القيام، والمطالبة [بها] (¬2)، وإنما يكتبه الموثِّقُون تشديدًا في التوثيق؛ فلذلك لم ينقض به البيع. ومعنى قوله في البيع الأول: حين العقد لا حين الوثيقة؛ لأنها كتبت في ثاني حال، فصار ذكرهم الدرك [في البيع] (¬3) لم يقصدوا به القيام والمطالبة بخلاص عين المبيع إذا وقع الاستحقاق. والقول الثاني: أن ذلك الشرط يؤثر في بطلان البيع، وفساده، وعليه تَدُل [الرواية] (¬4) الواقعة في الباب بإسقاط "لا"؛ لأنه وقع في نسخ كثيرة، [ولولا] (¬5) أن الناس اشترطوا، وأن ما [يكتب وما يعقد] (¬6) عليه على سواء و [لا] (¬7) على إسقاط لاختصر ابن أبي زمنين المسألة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بهذا. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: الروايات. (¬5) في ب: ولو. (¬6) في ب: يكتبوا وما يعقدوا. (¬7) سقط من أ.

ووقع في بعض الأمهات أيضًا: "ولو ما أن الناس"، وهي بمعنى الرواية الثانية التي [اختصرها] (¬1) ابن أبي زمنين، وما صلة الكلام زائدة، وعلى مقتضى هذه الرواية أن الشرط أفسد العقد، ولا يراعى فعلهما، وهذه الرواية أسعد بظاهر الكتاب؛ لقوله في البيع الأول: "يريد في نفس العقد" فاعتبر ما تقتضيه ظواهر هذه الألفاظ، ومدلولاتها يتبين لك ما أشرنا إليه من الخلاف، ويتضح لك [فائدة اختلاف] (¬2) الروايات [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في ب: اختصر عليها. (¬2) في أ: اختلاف فائدة. (¬3) زيادة من ب.

المسألة السادسة في ثلاث رجال اشتروا سلعة من رجل

المسألة السادسة في ثلاث رجال اشتروا سلعة من رجل وتحمل بعضهم لبعض على أن يأخذ منهم من شاء بحقه، فمات أحدهم فادَّعى ورثته أنه قد يدفع [الثمن] (¬1) إلى بائع السلعة، وأقاموا شاهدًا واحدًا. قال في "الكتاب": "يحلفون مع شاهدهم، ويبرؤون، ويجعلون على الشريكين الباقيين لما أدَّى صاحبهم عنهما". قلت: فإن أبى الورثة أن يحلفوا [أخذ] (¬2) الشريكين أن يحلفا قال: لا؛ لأنهما يغرمان. [و] (¬3) في جواب هذه المسألة إشكال يفتقر إلى بيان وإيضاح، وقد اضطربت آراء حُذَّاق المتأخرين في تأويله، وشرحه اضطرابًا يوجب صرف العناية إلى شرح المسألة شرحًا يزيل الإشكال، ويرفع الاحتمال إن شاء الله، وبه أستعين. فنقول [وبالله التوفيق، وهو الموفق للصواب] (¬4): إذا نكل الورثة عن اليمين مع شاهدهم، فإن الأمر لا يخلو من أن يكون الميت مليًا أو معدمًا. فإن كان مليًا فلا يخلو الأمر فيها من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يصدق الشريكان الورثة فيما ادعوا من [أن] (¬5) الميت دفع ¬

_ (¬1) في أ: المال. (¬2) في أ: أنا. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من ب. (¬5) سقط من أ.

جميع الحق من ماله إلى البائع عن نفسه وعنهما ليرجع عليهما بما ينو بهما منه. [والثاني: أن يقولا: إنما دفع جميع ذلك من أموالهما فوكالتنا إياه على ذلك] (¬1). [والثالث] (¬2): أن يقولا: إنما دفع جميع ذلك من ماله، وأموالنا إلى البائع؛ إذ كنا قد دفعنا إليه ما ينوبنا منه، ووكلناه على دفعه عنا. والجواب عن الوجه الأول: وهو أن يصدق الشريكان والورثة فيما ادعوا من أن الميت دفع جميع الحق من ماله عن نفسه، وعنهما، ليرجع عليهما بما ينوبهما منه. فإن اليمين ترجع على البائع، فيحلف على تكذيب ما شهد به الشاهد، ويرجع بجميع حقه، فيأخذ ثلثيه من الشريكين، وثلثه من مال المتوفى، وليس للورثة أن يرجعوا على الشريكين بما ينوبهما عن المال الذي أن أقر مورثهم أَدَّاه على ما شهد به الشاهد، وإن كان قد صدقاه في [شهادته] (¬3) بذلك؛ لأن الميت [قد] (¬4) ضيع في تركه الإشهاد، فالمصيبة منه. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد: إلا أن يكون الدَّفع بحضرتهما، فيكون [لهما] (¬5) الرجوع بذلك عليهما على ما رواه أبو زيد عن ابن القاسم [وعلى الجملة] (¬6) ففي المسألة قولان: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: والثاني. (¬3) في أ: شهادتهما. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: لهم. (¬6) في أ: وعليه الجماعة.

أحدهما: أن [لهم] (¬1) الرجوع عليهما إذا كان الدفع بحضرتهما، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم، واختيار الشيخ أبي محمد. والثاني: أنه لا رجوع لهم عليهما، وإن كان الدفع بحضرتهما، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم قال في هذا الوجه في "الكتاب": "ولا يحلف الشريكان؛ لأنهما يغرمان". فأما قوله: فإنهما لا يحلفان؛ فصواب لأن الشاهد لم يشهد لهما، وإنما شهد للورثة عليهما. وأما قوله: "لأنهما يغرمان"؛ فتعليل فيه نظر؛ لأنه يوهم أنه [إنما] (¬2) أراد أنهما لا يحلفان؛ لأنهما إن حلفا غرما للورثة، وإن لم يحلفا غرما للبائع؛ ولذلك لم يحلفا، فلو كان ذلك مراده لكان من حقهما أن يحلفا إن شاءا ليسقطا حق البائع عن أنفسهما لما قد [يرجوا] (¬3) من تسامح الورثة في الاقتضاء. ولا يصح أن يكون مراده ذلك؛ لما بيناه من أنه لا رجوع للورثة عليهما بما ينوبهما [مما] (¬4) أَدَّى الميت عنهما من ماله، وإن صدقاه على الدَّفع إلا أن يقرأ أنه كان بحضرتهما على أحد القولين المذكورين، وإنما [كان] (¬5) يجب أن يقول: ولا يحلف الشريكان، ويغرمان للبائع، فإن نكل البائع عن اليمين في هذا الوجه بعد نكول الورثة سقط حقه، ويرجع الورثة على الشريكين بما ينوبهما من الحق. ¬

_ (¬1) في أ: لهما. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: يرجون. (¬4) في أ: من ما. (¬5) سقط من أ.

والجواب عن الوجه الثاني: وهو أن يقولا: إنما دفع جميع ذلك من أموالنا بوكالتنا إياه على الدفع، ففي ذلك بين المتأخرين اختلاف في التأويل. فذهب الشيخ أبو محمد: إلى أن الشريكين يحلفان: لقد دفع الميت [جميع] (¬1) ذلك من أموالهما، ويبرآن، ويرجع البائع على الورثة بما ينوبهم لنكولهم بعد يمينه أنه ما قبض من وليهم شيئًا. وللشريكين أن يحلفا للورثة إن كانوا كبارًا: [أنهم لا] (¬2) يعلمون أنهما دفعا إلى وليهم شيئًا، فإن نكلوا عق اليمين حلفا لقد دفعا جميع الحق إليه، ويرجعان عليهم بالثلث الذي ينوبهم منه. وذهب الشيخ أبو إسحاق التونسي [رحمه الله] (¬3): إلى أن البائع يحلف ويأخذا من جميعهم حقه، ويحلف الورثة للشريكين أنهم ما يعلمون أنهما دفعا إلى وليهم شيئًا، فإن نكلوا عن اليمين حلف الشريكان لقد دفعا ذلك إليه، ورجعا عليهم في التركة بما ينوب الميت من ذلك [قال] (¬4): ولا يكون للشريكين أن يحلفا لقد دفع الميت ذلك من أموالهما؛ ويبرآن لأن ما في يد الميت على ملكه حتى يثبت الدَّفع إليه. وذهب بعض الأندلسيين: إلى أن الشريكين يحلفان [لقد دفع الميت ذلك من أموالهما] (¬5) ويبرآن من نصيبهما، ويرجعان على الورثة بما ينوبهما منه إذا لم يحلفوا، فيتحصل في هذا الوجه ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ما. (¬3) زيادة من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من ب.

أحدها: أن الشريكين يحلفان ويبرآن من نصيبهما, ولا يرجعان على الورثة بما ينوبهما. والثاني: أنهما يحلفان ويبرآن من نصيبهما، ويرجعان على الورثة بما ينوبهما. والثالث: أنهما [يُمَّكنَانِ] (¬1) من اليمين. والجواب عن الوجه الثالث: وهو أن يقولا: إنما دفع ذلك إلى البائع من ماله وأموالنا. ففي قول ابن أبي زيد: يحلف الشريكان ويبرآن ويحلف البائع، ويرجع على الورثة بما ينوبه من ذلك. وعلى ما ذهب إليه الشيخ أبو إسحاق التونسي لا يمكَّن الشريكان من اليمين، ويحلف البائع، ويرجع على جميعهم بماله. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كان الميت معدمًا، فلا يخلو من الثلاثة الأوجه المذكورة. فالجواب عن الوجه الأول منها: وهو أن يصدق الشريكان الورثة فيما ادعوا من أن الميت دفع جميع الحق من ماله إلى البائع عنهما وعن نفسه؛ ليرجع عليهما بما ينوبهما منه. فذهب ابن أبي زيد: إلى أن الشريكين يحلفان مع الشاهد ليبرآن من حمالة الثلث الذي [به الميت] (¬2) عديم. قال: فإذا حلفا غرما للورثة الثلثين، ويرجع البائع عليهم في ذلك بالثلث إذا حلف أنه لم يقبض من وليهم شيئًا. ¬

_ (¬1) في أ: يسكنان. (¬2) في أ: الميت به.

وذهب أبو إسحاق: إلى أن الشريكين إذا حلفا مع الشاهد ليبرآن من حمالة الثلث الذي [به الميت] (¬1) عديم لا يغرمان الثلثين للورثة، وإنما يغرمان ذلك للبائع بعد يمينه، وهو الصحيح على ما بَيَنَّاه من أنهما لا يلزمهما للورثة ما دفع الميت عنهما من ماله؛ لأنه أتلف ذلك عن نفسه بتضييعه إياه الإشهاد، وقد مضى القول على الوجه الثاني. والثالث: إذا كان الميت مَلِيًا [و] (¬2) لا فرق فيهما بين أن يكون الميت مَلِيًا أو مُعْدَمًا إلا في اتباع ذمته مما يلزمه إن طرأ له مال [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: الميت به. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب.

المسألة السابعة فيمن أقر في مرضه أنه أعتق في صحته أو تصدق

المسألة السابعة فيمن أَقَرَّ في مرضه أنه أعتق في صحته أو تصدق أو قال: في مرضه: تكفلت في صحتي عن وارث، أو أجنبي، ونص المسألة في المدونة: "أرأيت إن أقر في مرضه أنه تكفل في صحته عن رجل وارث أو غير وارث، فقال: إقراره لوارث بالدين في مرضه لا يجوز، وقال في الرجل يُقِرُ في مرضه فيقول: تصدقت على فلان بداري في صحتي أو بدابتى أو حبست كذا أو أعتقت عبدي في صحتي، لا يكون هذا في ثلث ولا غيره، فإقراره هذا باطل كله"، وهكذا جاء هذا الكلام في الكتاب. واختلف المتأخرون في تأويله على أربعة أقوال: أحدها: أن إقراره بالكفالة كإقراره بالعتق، والصدقة، وغير ذلك؛ لقوله في "الكتاب" فإقراره هذا كله باطل، ورد هذا الكلام على جميع ما تقدم، وهذا تأويل ابن أبي زيد، وابن أبي زمنين وغيرهما. والثاني: أن الكفالة بخلاف ما ذكرناه من العتق، والصدقة؛ لأنها دين من الديون [ويلزمه] (¬1) إقراره بها في المرض كما [يلزمه] (¬2) إقراره بها في الصحة، وهو تأويل الشيخ أبو عمران الفاسي، وابن لبابة وغيرهما. وقالوا: إنما بطل ما كان منها لوارث، ومن لا يصح له إقراره في المرض، وإنما لغيره فيصح. ¬

_ (¬1) في ب: ويلزم. (¬2) في ب: ويلزم.

وهناك تحت مسألة الإقرار بالكفالة مفرده ثم جاء بمسألة الصدقة، والحبس، والعتق. والثالث: التفصيل بين أن يكون إقراره بالكفالة في مرضه أنه تكفل في صحته في أصل عقد بيع أو قرض أو أنه تكفل بعد العقد، فإن أقر أنه تكفل في أصل عقد بيع أو قرض، فهو دين يلزم، وليس بمعروف صنعه؛ لأنه أخرج بكفالته مالًا من يد مالكه. وإن أقر بالكفالة بعد عقد البيع، فهو معروف صنعه كالعتق، والحبس، والصدقة. وأما العتق فكما قال في "الكتاب": لا يلزم في ثلث ولا غره: كالصدقة، والحبس وغير ذلك؛ لأنه اعترف بفعل في الصحة، وهو في مرض لا يجوز فيه أفعاله إلا في الثلث. والرابع: التفصيل بين العتق، والهبة، والصدقة، فإن العتق ينفذ في الثلث؛ إذ لو ثبت أنفذ من رأس المال بخلاف الصدقة، والحبس؛ إذ لو ثبت لم ينفذ؛ لعدم الجواز، وهي رواية عن مالك على ما ذكره ابن المواز. وعلى القول: بأن ذلك كله باطل مردود في الكفالة، والعتق، والصدقة، هل تدخل فيه الوصايا أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن الوصايا لا تدخل في الجميع؛ لأن الموصي قد أخرج هذا القدر من ماله، وقصده إخراج الوصايا مما عداه. والثاني: أنه تدخل في القدر الذي تكفل به دون العتق، والصدقة؛

لأن الكفالة مال يرجع به على وجه، ولم يخرجها عن ماله بالكلية، والعتق والصدقة قد أخرجهما من جملة ماله بإقراره بكل حال دون عوض يرتقبه، وهذا القول أظهر في النظر. والحمد لله وحده.

المسألة الثامنة في كفالة العبد بدين على سيده

المسألة الثامنة في كفالة العبد بدين على سيده فلا يخلو من أن يكون ذلك بتراضٍ منهما أو بإجبار السيد العبد، فإن كان ذلك بتراضٍ منهما، فإن ذلك جائز، ثم إن فلس السيد أو مات، فإن العبد يباع في الدين قولًا واحدًا. فإن رضي الطالب أن يترك السيد ويتبع العبد، هل يمكن من ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين في المدونة: أحدهما: أن ذلك له، وأنه إن شاء اتبع ذمة السيد، وباع العبد، وإن شاء اتبع ذمة العبد ولا يباع، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أنه لا يُمكَّن من ذلك، وإنما له ذمة السيد ولا يتبع العبد إلا بما عجز عنه مال السيد، وهو قول غيره في المدونة. واختلف في قول ابن القاسم على ماذا بناه؟ فقيل: إنما بناه على أحد قولي مالك، أن للطالب اتباع الكفيل مع يسر [الغريم] (¬1) وليس هو اختيار ابن القاسم، وقيل: إنما قال ابن القاسم هذا في هذه المسألة؛ لأن العبد مع سيده بخلاف غيره، وذمته، وذمة السيد شيء واحد. وقيل: إن ابن القاسم بني المسألة على أصله، ولعل السيد أفلس أو مات وخاف الغريم المخاصمة؛ فلذلك جَوَّزَ له اتباع ذمة العبد. فإن كان ذلك بغير اختيار العبد مثل أن يجبره سيده على الكفالة، فهل [تلزمه] (¬2) الكفالة أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة. ¬

_ (¬1) في ب: الأصيل. (¬2) في أ: تلزم.

أحدهما: أن الكفالة غير لازمة للعبد إذا قال: لا أرضاها؛ لأني إن أُعتقت لزمتني هذه الكفالة وهو نص قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أن ذلك لازم للعبد، وإن للسيد أن يجبره على الكفالة، وهو قول مالك على ظاهر استدلال ابن القاسم في الكتاب. ويقول مالك في الذي يعتق عبده وعليه مائة دينار: إن ذلك لازم للعبد وإن كره، فأدخل سحنون هذه المسألة لينبه على الخلاف، وإن مذهب ابن القاسم مثله في المسألة خلاف قول مالك، وأنه يأتي على قول مالك الإجبار، وهو قول عبد الملك، ولابن القاسم مثله في رواية أبي زيد عنه، إلا أنه لا يلزم قياس الجَبْر على الكفالة على الجَبْر على المال بعد عتق؛ إذ لا ضرر على العبد في العتق على مال؛ لأن مَنْ عَجَّلَ عتق عبده على مال لا يحَاص السيد بذلك المال غرمًا العبد، فهو لو كان عبدًا لخارجة، ويأخذ منه هذا القدر، فلا حجة له في الامتناع من هذا بعد حريته، والجبر على الكفالة ليس فيه عتق لا متجر، ولا مترقب، وليس فيه إلا عمارة الذمة [من] (¬1) غير فائدة للعبد في ذلك. ولأن السيد إن أعتقه يومًا كان في ذمته دينًا لأجنبي ليس ثمنًا لرقبته، فيجب أن يحاص به الغرماء، وقيل: إن سحنون أشار إلى التفريق بين العتق والكفالة؛ لحرمة العتق، لا أنه أشار إلى الخلاف [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في ب: في. (¬2) زيادة من ب.

المسألة التاسعة في قضاء ذات الزوج في مالها

المسألة التاسعة في قضاء ذات الزوج في مالها اعلم أن محجورين عليهم عن التصرف في أموالهم ينقسمون إلى قسمين: قسم حجر عليه في ماله عن التصرف لحق نفسه، وقسم حجر عليه لحق غيره، فأما المحجور عليهم لحق أنفسهم [فهم] (¬1) ممنوعون عن التصرف [في أموالهم] (¬2) جملة لا بالعوض ولا بغيره، كالصبيان، والسفهاء، فإنهم ممنوعون من التصرف في أموالهم جملة بلا تفصيل حتى يونس منهم الرشد على حسب ما قدمناه وبسطنا فيه الكلام في كتاب المأذون. وأما المحجور عليهم لحق غيرهم، فمنهم من حجر عليه في التصرف في ماله جملة لا بعوض ولا بغير عوض كالقسم المتقدم كالعبيد، وسائر الأرقاء إلا أن تصرف ما ولاه مع الإذن من السادات سائغ نافذ في جميع أنواع التصرفات؛ لأن الحجر حق للسادات. ومنهم من حجر عليه في التصرف [في المعارف] (¬3) فيما قل منها أو جل أو أطلق يده في التصرف في المعاوضات، إلا أن يضرب على يده بالكلية عند إرادة التفليس والمديانون الذين استغرقت ذمتهم بديون الناس، ومنهم من أذن له في التصرف في المعاوضات في جميع ماله، ومنع من التصرف بالمعارف إلا في ثلث ماله حقًا للغير وهم المرضى، وذوات الأزواج ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

[والرُّشَّد] (¬1) من النساء؛ لأن المريض مُنِعَ من التصرف في ماله بالمعروف إلا في ثلثه حقًا للورثة. وذات الزوج منعت من التصرف بالمعروف في مالها إلا في الثلث إلا أن يأذن لها الزوج في ذلك، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تتصدق من مالها بأكثر من ذي بال". فقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب في "شرح المسألة": وأجمع العلماء على أن ذا بال هو الثلث، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تنكح المرأة لدينها، ومالها، وجمالها، فعليك بذات الدين تربت يداك" (¬2)، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المرأة تكثر الرغبة فيها، والتنافس في المغالاة في صداقها لأجل مالها، فإذا تغالى [الزوج] (¬3) في الصداق لأجل كثرة مال المرأة أو رجاءً لما يتوقع لها من المال في ثاني حال. إما لميراث يتوقع حصوله من أب، أو أم، أو أخ فيما قرب من الزمان [في] (¬4) أغلب الأحوال. فمن هذا الوجه أثبت الشرع حقًا للزوج في [رد] (¬5) معارف الزوجة على ما يأتي بيانه مفصلًا. فهذا على الجملة، ونحن نتكلم على التفصيل، فنقول وبالله التوفيق: لا يخلو الزوج من أن يكون حُرًا أو عبدًا، فإن كان حُرًا فلا تخلو زوجته من أن تكون حرة أو أمة، فإن كانت حرة فلا تخلو من أن تكون ¬

_ (¬1) في ب: والرشيدة. (¬2) أخرجه البخاري (4802)، ومسلم (1466) من حديث أبي هريرة. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: على. (¬5) سقط من أ.

محجورًا عليها أو غير محجور عليها، فإن كانت محجورًا عليها مضروبًا على يديها بولاية أب، أو وصي فقد تقدم الكلام عليها في مسألة مفردة بما لا مزيد عليها، فإن كانت غير محجور عليها؛ لكونها رشيدة مالكة أمر نفسها عارفة بجميع مصالح [أمورها] (¬1) فتصدقت بشيء من مالها أو أعتقت، فلا يخلو ذلك القدر من أن يكون [مثلث] (¬2) ثلث مالها أو أقل أو أكثر، فإن كان بمثل مالها فأقل فلا يخلوا من أن تقصد بذلك البر والطاعات، أو تقصد به الضرر بالزوج، فإن قصدت بذلك البر والطاعات فلا تخلو من أن تكون في العتق أو في الصدقة، فإن كان ذلك في الصدقة، فلا خلاف في جواز فعلها ونفوذه، وإمضائه. فإن كان ذلك في العتق، فلا يخلو من أن تعتق عبدًا كاملًا، أو تعتق ثلث عبد، فإن أعتقت عبدًا كاملًا فلا خلاف في الجواز والنفوذ، وإن أعتقت بعض عبد مثل أن تعتق ثلث عبد فلا يخلو من أن تعتق [ثلث عبد] (¬3) تملك جميعه، ولا تملك غيره، أو ثلث عبد بينها وبين غيرها، فإن أعتقت ثلث عبد تملك جميعه، هل يجوز ذلك أو يرد؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن العتق نافذ، ولا مقال للزوج، وهو قول ابن القاسم في "الموازية"، وابن أبي حازم. والثاني: أن للزوج أن يرد عتقها كأنها أعتقته كله بعتق عبده لإيجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تتميم العتق على من أعتق شقصًا فكيف بمن يملك جميع العبد؟!! فلما منعها الزوج من ذلك رد جميعه، وبه قال مطرف، وابن الماجشون، والمغيرة، وابن دينار، ورووه عن مالك -رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) في أ: أمرها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وسبب الخلاف: [اختلافهم في] (¬1) استتمام العتق على مبعضه فيما يملك جميعه، هل هو بالسراية أو بالحكم؟ فمن رأى أنه بالسراية قال: للزوج أن يرد عتقها؛ لأنه كأنها اعتقت جميعه إذا لم تملك غيره. ومن رأى أن التكميل بالحكم قال: [عتقها] (¬2) ماضٍ لا مقال فيه للزوج؛ لأن الاستكمال بشيء أوجبته الأحكام، فإن أعتقت ثلث عبد بينها وبين غيرها، فإن كانت لا تملك إلا ذلك القدر، وليس [لها] (¬3) مال سواه، فإن للزوج أن يرد ذلك قولًا واحدًا، وإن كان لها مال سواه يكون القدر الذي أعتقت من العبد ثلثه، هل للزوج أن يرد عتقها أم لا؟ فالمذهب على قولين. وسبب الخلاف: التقويم الواجب عليها في الشرع إذا اختارها الشريك، هل يراعى أو لا يراعى؟ وأما الصدقة إذا تصدقت: بثلث مالها، وقصدت بذلك البر والطاعات. فلا خلاف في جواز ذلك ونفوذه، ولا مقال في ذلك للزوج، وأما إن قصدت بذلك الضرر بالزوج، وعلم ذلك وظهر، فهل للزوج أن يرد فعلها أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن ذلك نافذ، ولا مقال فيه للزوج، وهو قول ابن القاسم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: العتق. (¬3) سقط من أ.

في المدونة. والثاني: أن للزوج أن يرد ذلك، ولا يجوز من فعلها ما قصدت به الضرر قَلَّ أو جَلَّ، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في "الواضحة" وغيرها، وقاله أشهب عن مالك، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "الكتاب" حيث قال: إذا زادت على الثلث ماله قدر وبال، فإنه يرد الجميع لقصدها الضرر. فيستفاد من ذلك أنها مهما قصدت الضرر كان للزوج أن يرد فعلها. وأما إذا تصدقت بأكثر من ثلث مالها، فلا يخلو الزائد على الثلث من أن يكون يسيرًا أو كثيرًا. فإن كان يسيرًا كالدينار والدينارين، فإن صدقتها ماضية ولا مقال للزوج فيها، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، واحتج عليها في "الكتاب" بقول مالك في التي أوصت بعتق جاريتها إن وسعها الثلث، فإن لم يحملها الثلث، فلا تعتق، فتزاد على قيمتها في الثلث دينار أو دينارين. فقالا: لا يحرم العتق بمثل هذا، فبين أن تلك الزيادة لا تأثير لها في بطلان [العتق، ولا تأثير لها في بطلان] (¬1) الصدقة أيضًا، وإن كان قد اختلف في مسألة الوصية فيما زاد على الثلث من قيمة الجارية، على ثلاثة أقوال كلها متأولة على "المدونة": أحدها: أن يعتق جميعها, ولا يرق منها شيء، ولا تغرم شيئًا, ولا تتبع بشيء، وهو ظاهر قول مالك في "الكتاب". والثاني: أن الجارية تغرم الزائد على الثلث إن كان لها مال، ولا تتبع ¬

_ (¬1) سقط من أ.

به دينًا، وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة". والثالث: أن يرق منها قدر ذلك، ويعتق ما بقى، وهذا هو الأظهر في النظر، والجاري على [أسباب] (¬1) الوصايا، فعلى هذا القول يرد من الصدقة ما زاد على الثلث، وإن قَلَّ، فإن كان الزائد على الثلث كثيرًا في فعل [الصدقة] فللزوج أن يرد ذلك إن شاء، ولا خلاف أن له أن يرد الزائد. واختلف هل له أن يرد معه الثلث أم لا؟ على قولين منصوصين [في] (¬2) "المدونة": أحدهما: أن له أن يرد الجميع الثلث، وما زاد عليها، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه يجوز من ذلك الثلث، ويرد الزائد خاصة، وهو قول المغيرة في "الكتاب". وسبب الخلاف: ما يتوصل به إلى الشيء، هل هو مثل ذلك الشيء أم لا؟ ولا شك أنه قد توصل بالثلث إلى الزائد عليها [واختلفا إذا] (¬3) لم يعلم الزوج بفعلها حتى مات أو طلق أو علم فرد، ولم يخرج ذلك [عن يدها] (¬4). فأما إذا لم يعلم الزوج بفعلها حتى تأيمت بموت أو طلاق، هل يحكم عليها بإنفاذ ذلك وإمضائه أم لا؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) في أ: أسلوب. (¬2) في أ: من. (¬3) في أ: فإن. (¬4) سقط من أ.

أحدهما: أنه يحكم عليها بإمضاء ذلك جملة [بلا] (¬1) تفصيل بين الموت، والطلاق، والعتق، والصدقة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، و"الواضحة" وغيرهما. والثاني: أنه يحكم عليها بإمضائه في الطلاق دون الموت؛ لأنه بالطلاق قد سقط حق الزوج بالكلية، وزالت سلطته عن المرأة بخلاف الموت؛ لبقاء الميراث للزوج في مال زوجته، وهو قول مطرف، وابن الماجشون. وأما ابن القاسم فقد أجرى المسألة على أصل مذهبه فيها، أن أفعال ذات الزوج على الجواز حتى يردها الزوج، فإذا طلق أو مات قبل الرد والبطلان، فالشيء على ما كان عليه. وأما مطرف وعبد الملك، فقد قدمنا أصليهما، وذلك أنهما قالا: إن أفعالها على الرد حتى تجاز، فكيف يقولان: إن الإمضاء يلزمهما إذا طلقها، وكيف يمضي ما كان مردودًا إلا إذا أنشأت فيه حالًا آخر باختيارها. وأما إذا رَدَّ الزوج ذلك، فلم تخرجه من يدها حتى مات أو طلق، هل يحكم عليها بإمضاء ذلك ونفوذه أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يحكم عليها بالإمضاء والنفوذ جملة [بلا] (¬2) تفصيل [والثاني: أنه لا يحكم عليها بذلك جملة أيضًا، وأن لها أن تتصرف فيها بما شاءت، وهو قول ابن القاسم في "الواضحة"، وفيها قول ثالث بالتفصيل] (¬3) بين العتق وغيره، فيلزمها نفوذ العتق، دون ما عداه من الهبات، والصدقات، وهو ظاهر قول مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ ¬

_ (¬1) في ب: من غير. (¬2) .......... قال معد الكتاب للشاملة: حدث خلط في هوامش المحقق، ولعل حاشية هامش: (1) هي حاشية هامش (2)، والله أعلم. (¬3) سقط من أ.

في "الواضحة"، والأقوال الثلاثة قائمة من المدونة. والمنصوص فيها في آخر "كتاب الحمالة": أنها إذا مات زوجها أو طلق أنها تعتقهم بغير قضاء. وسبب الخلاف: اختلافهم في رَدّ الزوج، هل هو رد إبطال أو رَدّ إيقاف. والتفصيل بين العتق وغيره ضرب من الاستحسان، وتعصيب للعتق لا غير ذلك، وبالله التوفيق. وأما إن كانت زوجته أمة، فلا حجر له عليها؛ لأن مالها لسيدها، وهي لا تختلع إلا بإذنه، فكان القول في مالها للسيد دون الزوج. وأما الوجه الثاني: إذا كان الزوج عبدًا وتحته حُرَّة، فهل له أن يحجر عليها في التصرف في أكثر من ثلثها كما يكون للحُرِّ أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه ليس له منعها، وأن لها أن تتصرف في جميع مالها [ما] (¬1) شاءت، وكيف شاءت، وهي رواية أصبغ عن ابن وهب في "العتبية"، فقيل له: فإنه يعتق، فقال: ما اتفق الناس في الحُر، فكيف [بالعبد] (¬2). الثاني: أن له ما للحُرّ وهو زوج، وهو حق له، فله أن يمنعها من التصرف في الثلثين بالمعروف كما للحُرّ أن يمنعها، وهو قول أشهب، وابن نافع عن مالك في "العتبية"، و"الموازية". وسبب الخلاف: الطوارئ، هل تُراعى أو لا تُراعى؟ فمن اعتبرها ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: في العبد.

قال: فإنه كالحُرّ لجواز أن يعتق قبل الموت، فيثبت له [من] (¬1) الميراث ما ثَبَتَ للحُرّ. ومن لم يعتبرها قال: لا حق له في ذلك؛ لأن العتق قد يكون، وقد لا يكون. وأما إن أعتقت رأسًا من رقيقها ثم رأسًا والزوج غائب ثم قدم، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يتقارب ذلك جدًا. وإما أن يتباعد جدًا. وإما أن يتوسط. فإن تقارب جدًا مثل أن يكون [بين] (¬2) ذلك اليوم واليومين، وذلك أكثر من ثلثها، فللزوج أن يرد عتق جميعهم كما لو أعتقهم في كلمة واحدة. فإن تباعد ما بين ذلك مثل أن يكون بين عتق وعتق ستة أشهر، فهو عتق مُؤتَنَفَ فيبتدأ لها فيه نظر الثلث في كل واحد [في] (¬3) [الزمن] (¬4) الذي أعتقته فيه، فإن حمله ثلث مالها نفذ عتقه، وهكذا يفعل بالذي يليه ثم الذي يليه إلى آخرهم. وإن توسط الأمر في ذلك مثل أن يكون بين المعتقين مثل الشهر، والشهرين جاز الأول إن حمله الثلث ورد ما بعده، وإن حمله الثلث مع الأول؛ لأن مخرجه الضرر لتقاربه مع الأول قربًا تتمم في الثاني دون ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: من. (¬4) في ب: الزمان.

الأول، وهذا كله قول أصبغ في "الواضحة". واختلف في تَدْبيرِهَا، هل هو كالعتق أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن التَّدْبيرِ كالعتق سواء، وله منعها من التَّدْبير كما له منعها من العتق، وهو قول ابن الماجشون في "الواضحة". والثاني: أنَّ التَّدْبِير بخلاف العتق، وليس له أن يمنعها منه؛ إذ لم يزل رقه من يدها، وإنما منعت نفسها [من] (¬1) بيعه، وقد كان [لها] (¬2) أن ألا تبيعه بلا تَدْبير، وهو قول ابن القاسم، وروايته عن مالك في كتاب المذكور. واختلف أصحابنا المتأخرون: إذا أفادت الزوجة مالًا لم يدخل عليه الزوج، ولا كان يرتجيه، هل للزوج أن يمنعها من التصرف في ثلثي ذلك المال كما كان له أن يمنعها من مال دخل عليه، وتغالى في الصداق لأجله؟ على قولين متأولين على المدونة: أحدهما: أنه ليس له أن يمنعها من ذلك، وهو ظاهر قوله في المدونة، حيث قال: "لأن الرجل إنما يتزوج المرأة لمالها، ويرفع في صداقها لأجله"، فَدَلَّ والحالة هذه أن ما كان من فائدة طرأت عليها من وجه لم يعلم به الزوج [ولا دخل عليه] (¬3)، ولا حسب عليها أن الزوج لا يمنعها من التصرف في ثلثيه بما شاءت، وهو قول بعض المتأخرين. والثاني: أن للزوج أن يمنعها عمومًا لا خصوصًا، وأنه لا فرق في ذلك بين مال علم به، ودخل عليه وبين مال لم يعلم به [ولم يدخل عليه] (¬4) وهو ظاهر الكتاب لعموم الخبر الوارد في ذلك. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

فرع: وإذا تكفلت المرأة بزوجها ثم ادَّعَت الإكراه، فلا يخلو من وجهين: إما أن تكفل بزوجها، أو تكفَّلَت له، فإن تَكفَّلَت بزوجها بدَين له على غيره ثم ادَّعَت أن الزوج أكرهها، فإنه ينظر في ذلك، فإن كان الزوج ظاهر الإساءة إليها، وقلة [ورعه] (¬1) وقهره لها وتحمله عليها بما لا يحل، وأنها إن لم تفعل ركبها بما لا يحل، وذلك كله ثابت بالبينة العادلة, فإن الحمالة ساقطة [عنها] (¬2) وتحلف، وإن كان غير ذلك حلف الزوج ما أكرهها ولا خَوَّفَهَا ولزمتها [الحمالة] (¬3)، وهو قول أشهب في "كتاب محمد". وأما إن تَكَفَّلَت لزوجها لرجل أجنبي، ثم ادَّعَت أنه أكرهها على ذلك، فإن الحمالة لازمة لها, ولا يقبل لها قول، وهو قول مالك في المدونة، وقال أشهب: إلا أن يكون الأجنبي صاحب الحق عالمًا بذلك. قال محمد: أو تقوم بينة بأن زوجها أكرهها، فإن أنكر الأجنبي أن يكون عالمًا بذلك، فإنه ينظر إلى الأجنبي، فإن كان قريب الجواز ممن يظن به علم ما ادَّعَت، فإنه يحلف، فإن نَكَلَ حلفت المرأة لقد علم وبرئت. وأما غير الجار [و] (¬4) من لا يمكنه علم ذلك، فلا يمين عليه، وهو قول أشهب، ومحمد [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: زرعها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من ب.

كتاب الحوالة

كتاب الحوالة

كتاب الحوالة تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها مسألتان: المسألة الأولى في جواز الحوالة، وشروطها وهي مأخوذة من التحول؛ لأن المال قد تحول من ذمة غريمه إلى ذمة [غيره] (¬1) وهي أصل في نفسها مستثناة من [بيع] (¬2) الدَّين في الدَّين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مطل الغني ظلم، ومن اتبع على ملىء، فليتبع" (¬3)، وهذا [القول] (¬4) أمر، والأمر [هنا] (¬5) المراد به الندب، والإرشاد، لا الوجوب والإلزام. ومن أصحابنا المتأخرين من حمله على الإباحة؛ لأنها رخصة استخرجت من [بيع] (¬6) الدين [في الدين] (¬7)، ورخص في الحوالة، وأباحها, ولا خلاف بين العلماء أن المحال لا يجبر على التحول إلا [بإذنه ورضاه] (¬8) [خلافًا لما] (¬9) انتحلته الظاهرية. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فسخ. (¬3) أخرجه البخاري (2166)، ومسلم (1564). (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة يقتضيها السياق. (¬6) في أ: فسخ. (¬7) في ب: بالدين. (¬8) في أ: برضاه. (¬9) في أ: إلا ما.

فإنهم حملوا الأمر على ظاهره، وزعموا أن المراد به الوجوب، واختلف الرواة في ضبط هذين الحرفين في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن اتبع على ملىء فليتبع" (¬1)، فمنهم من قرأه في الحرفين بسكون التاء في قوله: "من اتبع"، وفي قوله: "فليتبع" يقال: أتبعت فلانًا بحقي، وأنا أتبعه بالتاء الساكنة، ولا يقال: اتبعه بفتح التاء وتشديدها إلا من المشي خلفه واتباع أثره [في] (¬2) أمر من الأمور. ومنهم من يقرأه بتشديد التاء، والأول أصوب. ولجوازها شروط [ستة] (¬3): أولها: حُلول الدَّين المحال به. والثاني: أن تكون الحوالة على أصل دَيْن. والثالث: أن يكون [الدين] (¬4) المُحال به عليه من نوع الدَّين المُحال قدرًا وصفةً. والرابع: رضا المُحِيل والمُحَال بذلك. والخامس: ألا يكون الدَّينان طعامًا من سَلَم أو أحدهما, ولم يحلَّا على خلاف [في ذلك] (¬5). والسادس: ألا يغيره [بتفليس] (¬6) المُحَال عليه أو لِرَدّه على خلاف لنا في هذا الشرط مما سنبينه إن شاء الله. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) في أ: من. (¬3) في أ: خمسة. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: في فلس.

وقولنا: [أن] (¬1) يكون الدَّين المُحال به حَالًا احترازًا من أن يكون مؤجلًا. ولا يخلو الدَّينان المُحَال به، والمَحَال عليه من أن يحلَّا، أو لم يحلَّا أو أحل أحدهما, ولم يحل الآخر. فإن حلَّا جميعًا فلا إشكال في الجواز، وإن لم يحلَّا، فلا إشكال في المنع، وإن حَلَّ أحدهما, ولم يحل الآخر، وكان الحالّ هو المُحَالَ به، فلا خلاف في المذهب في جوازها من غير اعتبار بحلول المُحَال عليه. وإن كان الحال هو الدَّين المُحَال عليه، فإن قبضه في الحال جاز، وإن تَوَانَى في قبضه؛ فلا يجوز لأن ذلك فسخ دَيْن في دَيْن. وقولنا: أن تكون على أصل دين، معناه أن يحيله على من له عليه ذلك القدر احتراز من أن يحيله على غير دَيْن كان للمُحِيل على المُحَال عليه. فلا يخلو المحال من أن يعلم بذلك أو لم يعلم، فإن لم يعلم فلا خلاف أن ذلك حمالة لا حوالة، وأحكامها معروفة مفروغ منها. فإن علم بأنه لا دين له عليه، واشترط عليه المحيل براءة ذمته، وأنه لا يطالب بشيء، هل ذلك حمل [أم] (¬2) حمالة. فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن ذلك [حمل] (¬3) لا حمالة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" حيث قال: وإذا أحاله على من لا دَيْن له عليه، وشرط المحيل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

براءة ذمته من ذلك [الدَّين] (¬1) فرضى المحال [عليه] (¬2)، فإن ذلك يلزمه، ولا رجوع له على المحيل إذا علم أنه [لا] (¬3) دَيْن له عليه، فإن لم يعلم فله الرجوع. والثانى: أن ذلك حمالة بشرط التبرئة على [المحال عليه] (¬4) حتى إذا عجز وتَبَيَّن عجزه، وفلسه رجع المحال [عليه على المحيل] (¬5)، وهي رواية ابن وهب عن مالك في الكتاب، [واتبعه] (¬6) في الذي قال لرجل: حرق صحيفتك التي لك بِدَيْن، واتبعني فيها من غير حوالة بِدَيْن كان له عليه، فأتبعه حتى فلس الضامن، أو مات ولا قاله أن للطالب الرجوع على الأول، وإنما يثبت من الحول ما أحيل به على أصل دَيْن. وقولنا: أن يكون ذلك بتراضٍ من المحيل والمحال عليه؛ إذ لا يجبر على الحوالة من أباها منهما على ما قدمناه في صدر المسألة [من أن] (¬7) قوله عليه السلام: "ومن اتبع على مليء فليتبع" (¬8) أن المراد [به] (¬9) الندب، والإرشاد دون الوجوب. وقولنا: أن يكون الدَّين المُحَال عليه من نوع الدَّين المُحَال به قَدْرًا وصفة، احترازًا من أن يكون الدَّين المُحَال به أكثر من الدَّين المُحَال عليه، أو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: المحيل. (¬5) في أ: على المحال عليه. (¬6) سقط من ب. (¬7) سقط من أ. (¬8) تقدم. (¬9) سقط من أ.

أقل، أو أجود صفة أو أدنى صفة؛ لأنه إن كان أقل أو أكثر أو أجود أو أدنى صفة خرج عن الرُّخصة، وصار بيعًا، وذلك حرام، ولا يحل، ولا خفاء في توجيه ذلك. وقولنا: وألا يكون الدَّيْنَان طعامًا من سَلَم أو أحدهما, ولم يحلَّا على ما سنذكره من الخلاف [في ذلك] (¬1) فإن كانا جميعًا [طعامًا] (¬2) من سلم، فلا يجوز قبل حلولهما أو حلول أحدهما، قولًا واحدًا. وإن حلا واختلفت رؤوس أموالهما [فكذلك أيضًا، وإن اتفقت رؤوس أموالهما] (¬3) فالمذهب في الجواز على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يجوز إن حلَّا جميعًا، وهو قول أشهب؛ لأنه تولية بغير لفظها كما قال في المقاصة. فإن كان أحدهما من سَلَم، والآخر من قرض، فإن حلَّا جميعًا جاز من غير خلاف إلا متأولًا، وإن لم يحلَّا لم يجز، وإن حَلَّ المُحَال به، فالمذهب في الجواز على قولين: أحدهما: الجواز، وهذا القول حكاه ابن حبيب عن جماعة أصحاب مالك. والثاني: المنع، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، فإذا أثبت ذلك، فإنَّ المُحال يَتَنَزَّل في الدَّين الذي أُحِيل عليه منزلة من أحاله، ومنزلته في الدّين الذي أحيل به، فيما يزيد أن يأخذه به منه أو يبيعه به من غيره، فإن احتال بطعام كان له من قرض في طعام، فإن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

كان بسلم أو بطعام كان له من سلم في طعام من قرض لم يجز له أن يبيعه من غيره قبل استيفائه؛ لأنه إن كان احتال من القرض في السلم لم يجز له أن يبيعه قبل أن يقبضه لنزوله [فيه] (¬1) منزلة من أحاله. وإن كان احتال من السلم في القرض لم يجز له أن يبيعه قبل أن يستوفيه؛ لنزوله فيه منزلته في الطعام الذي احتال به، ولا يجوز له أن يأخذ منه إلا الطعام الذي أحيل به أو مثل رأس مال السلم سواء، يصير بمنزلة الإقالة. وإن كان جميعًا من قرض جاز له أن يبيعه قبل أن يقبضه منه، أو من غيره بكل ما يجوز أن يباع به طعام القرض؛ لأنه كان يجوز [له] (¬2) أن يبيع الطعام الذي احتال به قبل أن يقبضه، وكان للذي أحاله أن يبيع الطعام الذي أحاله عليه قبل أن يقبضه لكونهما جميعًا من قرض. وكذلك لو احتال بعرض كان له من قرض في عرض من قرض، فإن كانا جميعًا من سلم، وكان أحدهما سلم دنانير، والآخر سلم دراهم لم يجز له أن يبيع تلك العروض منه، قبل أن يستوفيها بدنانير، ولا بدراهم، لما قدمناه، وجاز له أن يبيعها منه بعروض تخالفها إن كان الأجل لم يحل، وبما شاء من العروض إن حَلَّ الأجل، وأما [بغيره] (¬3) فيجوز له أن يبيعها بما شاء من الدنانير، والدراهم، والعروض المخالفة لها إذا تعجلها، ولا يجوز له أن يبيعها بعروض من صنفها أقل منها أو أكثر، وإن تعجلها إلا أن يعجلها هو أيضًا، فيكون ذلك يَدًا بِيَدّ مثل الصرف. وإن كان يسلم كل واحد منهما في عرضه دنانير أو دراهم مثل ما سلم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: من غيره.

صاحبه، جاز له أن [يبيعه منه] (¬1) بمثل ذلك أو أقل، ولا يجوز بأكثر منه؛ لأنه يدخله سلم دنانير أو دراهم في أكثر منها إلى أجل. وإن كان سلم أحدهما في عرضه أكثر مما أسلم الآخر في عرضه، لم يجز له أن يبيع العرض الذي أحيل عليه إلا بمثل الثمنين فأقل، ولا يجوز بأكثر من أحدهما، وإن كان [مثل] (¬2) الآخر أو أقل منه، وإن كان أحدهما من قرض، والآخر من سلم فاحتال بأحدهما في الآخر لم يجز له أن يبيعه إلا بمثل رأس مال السلم، فأقل كان الذي احتال [به] (¬3) عليه هو القرض أو السلم لما قدمناه من مراعاة الوجهين. ولو كانت له دنانير من قرض، فاحتال بها على ثمن طعام، فلا يجوز له أن يأخذ من الذي أحيل عليه بها طعامًا؛ لأنه يتنزل منزلة من أحاله، فيدخله الاقتضاء من ثمن الطعام طعامًا. وكذلك إن كان له دنانير من ثمن طعام باعه، فأحيل بها على دنانير من قرض لم يجز له أن يأخذ منه فيها طعامًا؛ لأنه يتنزل فيها منزلته فيما كان له على الذي أحاله، فكما لا يجوز له أن يأخذ من الذي أحاله طعامًا، فكذلك لا يجوز له أن يأخذ من هذا الذي أحيل عليه طعامًا؛ لأنه غريم غريمه. وقولنا: وألا يغره بفلس المحال عليه [أو لدده] (¬4) لأن ذلك عيب في ذمة المحال عليه. فلا يخلو المحال من أن يكون عالمًا بحال المحال عليه، أو جاهلًا به. ¬

_ (¬1) في أ: يبيعه. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: أولاده.

فإن كان عالمًا بحاله، وما هو عليه من خراب الذمة، فلا خلاف في المذهب أنه لا حجة له بعد ذلك. فإن كان جاهلًا [به] (¬1) والمحيل عالم بحاله فغره بعدمه، فهل ذلك عيب يوجب الرجوع للمحال على ذمة [المحيل] (¬2) أو لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك عيب يوجب [له] (¬3) الرجوع على ذمة المحيل، وهو نص قوله في "المدونة" في "كتاب الحوالة". والثاني: أن ذلك ليس بعيب، ولا يمكن من الرجوع عليه بشيء, وهذا القول يؤخذ من "المدونة" من قول مالك في الذي يبيع سلعة من رجل فوجده [معدمًا] (¬4) مفلسًا كتم ذلك عنه حيث قال: لم ينتقض البيع بذلك، ولم يكن لبائع السلعة حجة؛ إذ لا يمكن الكشف عن ذمة كل من يبيع منه شيئًا؛ لما يدرك الناس من المشقة. والحوالة بيع، فينبغي ألا يمكن من الرجوع على المحيل أيضًا. اللهم إلا أن يقال: إن بيع الدَّين أمر نادر، فلهذا لم يجز بيع الذمة إلا [بعد] (¬5) العلم بعدم الغريم من [ملائه] (¬6) وكان عيبًا في الحوالة إذا غَرَّه. وعلى هذا يتخرج الخلاف فيما إذا أحاله عليه ثم أنكر المحال [عليه] (¬7) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: المحال. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: عديمًا. (¬5) في أ: بعدم. (¬6) في أ: ماله. (¬7) سقط من أ.

أن يكون عليه للمحيل [دَيْن] (¬1) هل يكون ذلك عيبًا في الحوالة أم لا؟ فلا يخلو من أن يكون المحال عليه حاضرًا في حين الحوالة أو كان غائبًا. [فإن كان غائبًا] (¬2) تم قدم، فأنكر أن يكون للمحيل عليه دين، فذلك عيب في الحوالة قولًا واحدًا، فإن كان حاضرًا لمجلس الحوالة، واعترف على نفسه بالدَّين ثم أنكر بعد ذلك ولا بَيَّنة على إقراره، هل يكون ذلك عيب في الحوالة أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين: أحدهما: أن ذلك ليس بعيب في الحوالة؛ لأن التفريط من جهة المحال حين ترك الإشهاد عليه وقت إقراره. والثاني: أن ذلك عيب في الحوالة؛ لأن المحال يقول: لو علمت أن ليس عليه بَيَّنة ما قبلت الحوالة عليه. والأول أظهر في النظر، وهو اختيار [الشيخ أبي إسحاق] (¬3) التونسي [رحمه الله، والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) في أ: شيء. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب. (¬4) زيادة من ب.

المسألة الثانية في الحوالة بالكتابة والحمالة بها

المسألة الثانية في الحوالة بالكتابة والحمالة بها فأما الحمالة بالكتابة، فلا تجوز باتفاق المذهب؛ لأن الكتابة ليست [من الديون الثابتة] (¬1)، ولا يجب على الكفيل بالكفالة إلا ما ثبت من الدّين على المكفول. وأما الحوالة بالكتابة: فلا يخلو من أن يحيله بها على ما ليس بِدَيْن ثابت، أو ما هو بدين. مثل أن يحيله على مكاتب له آخر، فإن حَلَّت كتابة الأعلى، فهل تجوز الحوالة أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن الحوالة لا تجوز؛ لأن السيد [المحيل] (¬2) لا يدري ما يصح له؛ إذ قد يعجز المحال عليه، فتكون رقبته للسيد المحال، وذلك بخلاف الأصل الذي تثبت عليه الحوالة، وهو أن يكون الدَّين المحال [عليه] (¬3) من جنس دين المحال [له] (¬4). وإن كان ذلك موجودًا في بيع الكتابة على الجملة إلا أنَّ الأصول المستثناة من أصول فاسدة يكون التوقي، والتحري فيها آكد مما يمهد، وينشأ من ابتدائه [في الحال ثم الحكم يوجب ذلك بمهد وببعث] (¬5) وعلى ¬

_ (¬1) في ب: بدين ثابت. (¬2) في أ: المحال. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: به. (¬5) سقط من أ.

القول بجواز ذلك، هل من شرطه أن يثبت السيد عتق المكاتب المحيل في الحال، أم الحكم يوجب ذلك. فإنه يتخرج على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن من شرط جوازها أن يثبت السيد عتق مكاتبه في الحال، وهو قول مالك في "المدونة" في "كتاب الحوالة". والثاني: أن الحوالة جائزة، والحكم يوجب ثبات عتق المكاتب، والتزامه بنفس تمام عقد الحوالة من غير تجديد عتق، كما لو أدَّى المكاتب كتابته، أو أعطى عوضًا لم يحتج إلى تجديد عتق؛ بل بنفس [قول] (¬1) سيده العوض وديعه للكتابة، هو العتق، فكان يجب على هذا إذا رضي السيد بالحوالة على مكاتب مكاتبه أن يكون حُرًا بنفس الحوالة؛ لأن الأصول موضوعه على أن اسم الحوالة براءة لذمة المحيل. فلم يبق لقوه في الكتاب إلا أن يكون السيد قد أثبت عتقه معنى، ولا فائدة، وهو ظاهر قول الغير في كتاب الحوالة. وأما إن أحاله على ما هو دَيْن ثابت، فلا تخلو الكتابة من أن تكون حَالَّة أو غير حَالَّة. فإن حَلَّت الكتابة، فالحوالة جائزة إذا كان دين المحال عليه على صفة دين المحال به، ويعتق المكاتب مكانه. فإن لم تحل الكتابة، فهل تجوز الحوالة بها أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في الكتاب: أحدهما: أن الحوالة لا تجوز؛ لأنها ذمة بذمة وربًا بين السيد ومكاتبه، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. ¬

_ (¬1) في ب: سؤال.

والثاني: أن الحوالة جائزة، ويعتق العبد مكانه؛ لأن ما على المكاتب ليس بدين ثابت، فكأنه عجل عتقه على دراهم نقدًا أو مؤجلة، والكتابة دنانير لم تحل، وكمن قال [لعبده] (¬1): إن جئتني بألف درهم فأنت حُر ثم قال [له] (¬2) إن جئتني بخمسمائة درهم أو بعشرة دنانير فأنت حُر، فإن جاء بها فهو حُر، ولم يكن بيع فضة بذهب، ولا فسخ الدَّين في أقل منه، وكأن لم يكن قبله إلا ما أدى، وهو قول الغير في الكتاب [أيضًا. والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب.

كتاب الغصب

كتاب الغصب

كتاب الغصب تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ثمان مسائل: المسألة الأولى في معرفة حقيقة الغصب، وحقيقة التعدي لغةً وشرعًا أما حقيقتهما في اللغة: فإن الغصب والتعدي ينطلقان على أخذ كل ملك بغير رضا مالكه من جميع ما يتمول من مال أو أشخاص أو منافع، سرًا كان أو جهرًا، وسواء أخذه على وجه الغصب أو التَّعَدِّي، أو حرابةً، أو سرقة، أو اختلاسًا، أو خيانة، أو أخذه على وجه الجحد والاقتطاع. وأما حقيقة الغصب في تعارف الفقه: فهو أخذ الأعيان المتملكات بغير رضا أربابها على وجه القهر، والغلبة، والملك، والرقبة من ذي سلطان وقوة. وأمَّا التَّعَدِّي: فإنما يستعمل عرفًا في أخذ المنافع والتصرف في استيفائها بغير إذن المالك ولا رضًا منه سواء كان ذلك [مستندًا] (¬1) إلى إذن المالك في استيفاء المنافع على وجه ما أو إلى زمن ما كالكراء و [العرية] (¬2) أو مستندًا إلى إذن في التصرف في المال، إما لمنفعتهما جميعًا كالإقراض، واستئجار الصانع على صنعة ذلك الشيء كالصَّبَّاغ والخَيَّاطة. وإما لمنفعة المالك وجده كالبضائع [والودائع] (¬3) أو كان تعديه غير ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: العارية. (¬3) سقط من أ.

مستند إلى إذن كاستعمال العبد أو الدَّابة بغير إذن مالكهما، ويكون من يَدّ قاهرة أو غير قاهرة. وفرق الفقهاء بين الغصب والتعدي بوجوه: منها: أن الغاصب ضامن السلعة يوم الغصب قولًا واحدًا في المذهب؛ لأنه يوضع اليد صار ضامنًا بشرط الفوات على ما سنوضحه آنفًا إن شاء الله تعالى. والمتعدي يضمن قيمتها، وإن جاء بها سالمة، وإن كان ابن شعبان قد حكى عن ابن وهب، وأشهب، وعبد الملك: أن الغاصب إذا أمسكها عن أسواقها حتى انتقصت قيمتها، فهو ضامن كالمتعدي على ما سنشرحه في مسألة مفردة إن شاء الله تعالى. ومنها: أن الغاصب يضمن بالفساد اليسير والمتعدي لا يضمن إلا بالفساد الكثير. ومنها: أن المتعدي يغرم كراء ما تعدى عليه استعمله أو عطله بكل حال، والغاصب لا إكراه عليه على أحد الأقوال في المذهب [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الثانية في حكم التعدي على الخصوص

المسألة الثانية في حكم التعدي على الخصوص ومن تعدى على مال رجل، فجنى عليه جناية تفسده: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك الفساد [لا يبطل] (¬1) منه الغرض المقصود. والثاني: أن يبطل منه الغرض المقصود. فإن كان لا يبطل منه الغرض المقصود مثل أن يكون ثوبًا، فشقه شقًا قليلًا، أو عبدًا قطع له أصبعًا أو أصبعين، وهو من عبيد الخدمة أو عبيد التجارة، أو جرحه جرحًا لا يؤثر في فساده، ولا في ذهاب منافعه أو كانت دابة من ذوات الخدمة والسخرة، فقطع أذنها أو أذنيها أو فقأ عينها، وهي مما لا يُرَاد للركوب، فلا خلاف أعلمه في المذهب أن الجاني يغرم ما نقصته الجناية، وليس لرب السلعة المجني عليها أن يضمن الجاني قيمتها، فإن كان ثوبًا رفاه أو قصعة أصلحها وغرم ما نقص بعد الرفو، والإصلاح فألزمه الإصلاح؛ لأن صاحب الثوب، والقصعة، لا يقدر على استعمالها إلا بعد الإصلاح. وقد رام بعض متفقهة الزمان أن تستقرأ من هذه المسألة: جواز القضاء بالمثل في العروض بناء منه على أن التوب المشقوق بعد الرفو إذا أخذه رب الثوب كأنه أخذ غير ثوبه، أو أنه أقام الرفو مقام ما قطع من الثوب؛ لكونه أخذ عوضًا عنه. وذلك خيال؛ لأن الذي نقص من الثوب لا مثل له، والرفو الذي رفاه ¬

_ (¬1) في ب: لا يفسد.

المتعدي لا يماثل ما قطع من الثوب ولا يقاربه. وحقيقة المماثلة: مساواة العوض للمعوض عنه في المثلية، ولو كان الرفو مماثلًا لما نقص من الثوب ما غرم المتعدي النقص بعد الإصلاح؛ لأن من غرم مثل ما تعداه عليه لم يكن عليه غرم آخر. فإذا فهمت ما ذكرناه تَبَيَّن لك اضمحلال ما خيل به من قصر ذهنه عن النظر في استقصاء المعاني. فإن كان عبدًا أو دابة فإن الجاني يغرم ما نقصه القطع أو الجرح. واختلف هل يغرم الجارح أجر الطبيب أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه على الجارح كالرفو، ثم إن برئ الجرح على شين غرمه أيضًا. والثاني: أن أجر الطبيب على [المالك] (¬1) دون الجارح بخلاف الرفو. وقد اختلف تأويل المتأخرين في ذلك: - فمنهم من قال: أن ذلك اختلاف قول، وأنه يلزم في قطع الثوب ألا يلزم القاطع المتعدي الرفو. - ومنهم من قال: إن ذلك اختلاف سؤال، وإن الفرق بينهما أن الرفو في الثوب أمر معلوم قدره، ونهايته، وأن الناس فيه على بصيرة أنه بالرفو يمكن الاستمتاع بالثوب، والانتفاع به على حسب ما كان ينتفع به قبل القطع. فلهذا أمر المتعدي بالرفو؛ لأنه كلف أمرًا معلوم قدره وعاقبته، ومداواة الجرح أمر غائب عَنَّا لا ندري هل ينجح فيه الدواء، فيبرأ أو يموت ¬

_ (¬1) في ب: المجروح.

العبد أو الدابة قبل البُّرء، فيذهب مال الجاني [وعمله] (¬1) وعناؤه باطلًا. [والمخدم له] (¬2) لابد له إن مات بسبب الجرح أو برئ على شين، ولا فرق على هذا الوجه بين أن يكون الفساد يسيرًا أو كثيرًا، وإليه ذهب أبو الحسن اللخمي، وهو صحيح. وأما الوجه الثاني: إذا ذهب منه الغرض المقصود مثل أن يكون الفساد في الثوب يؤثر حتى يكون لباسه بعد الرفو [تشويهًا] (¬3) ومثلةً بين الخلق، أو كان عبدًا، أو دابة، فذهب بالجناية عليه الغرض المقصود منه. فلا يخلو من أن يكون الفساد كثيرًا أو يسيرًا [فإن كان يسيرًا] (¬4) كقطع يد العبد أو رجليه أو فقء عينه، أو كان دابة أو فرسًا ففقأ [عينها] (¬5)، وقطع يدها، أو كانت بقرة، أو ناقة، أو شاة ففعل بها ذلك. أما الثوب، وسائر الحيوان الصامت، فإن "مالك" اختلف فيها قوله، فمرة قال: إن المتعدي [يضمن] (¬6) ما نقصه، ولم يفسر قليلة كانت جنايته أو كثيرة. وليس لرب المال المجني عليه أن يضمنه قيمة شيئه، وهذا قوله الأول. ومرة قال: إن الخيار في ذلك لرب الشيء إن شاء أخذه معيبًا، وإن شاء ضمنه قيمته يوم التعدي. وهو الذي اختاره ابن القاسم من قول مالك، فعلى القول بأنه بالخيار. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: والمجني. (¬3) في أ: تشبيهًا. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: عينيها. (¬6) في ب: يغرم.

فإن اختار أخذه معيبًا، هل له أن يأخذه مع ما نقصه العيب أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن له أخذه مع ما نقصه العيب، وهو قول مالك، وابن القاسم؛ لأن الحق له، وهو المشهور. والثاني: أنه لا شيء له من قيمة النقص، وإنما له أخذ شيئه منه ناقصًا، أو أخذ قيمته، فإذا عدل عن أخذ القيمة إلى أخذ عينه ناقصًا، فقد رضي بنقصه، ولا شيء له من أرشه، وهو قول أشهب، ومحمد، وسحنون، وهذا القول قائم من "المدونة" من غير ما موضع منها. وقوله في كتاب القطع في السرقة في السارق تنهزل الدابة من ركوبه ثم أخذها ربها. وفي "كتاب أمهات الأولاد"، و"كتاب القذف"، وفي الأمة بين الشريكين يطؤها أحدهما، أن الشريك لا يضمن الواطئ ما نقصها الوطء؛ لقدرته على التضمين، فإن هلكت بَقِيَّت الأجزاء أو الجناية كثيرة، هل يكون الجاني ضامنًا لجملة المجني عليه؛ لما كان لربه أن يضمنه جملة أو لا تدخل البقية في ضمانه إلا باختياره أن يضمنه، فإنه يتخرج على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه ضامن لجملته؛ لأنه أفسد البقية، وصار ضامنًا لها حتى يدفع ربها عنه الضمان، وهو ظاهر الكتاب في الأمة بين الشريكين يطؤها أحدهما، فتموت أن الواطئ ضامن لها لإمكان أن تكون حاملًا من الواطئ؛ لأنها تعلقت بضمانه بنفس الفداء عليها حتى تظهر براءة رحمها، فكذلك السلعة المجني عليها، فإنها تعلقت بضمان الجاني حتى [يبرئه] (¬1) ربها من الضمان. ¬

_ (¬1) في أ: يبرئها.

والثاني: أن الجاني لا يضمن إلا ما [هلك] (¬1) بسبب جنايته خاصة، وهو الذي يتعلق بضمانه بنفس الجناية [وبقية الأجزاء] (¬2) لا تدخل في ضمان الجانى إلا باختيار ربه بالتضمين، وهذا القول أيضًا قائم من "المدونة" من غير ما يوضع، وعند ذكر موضع الخلاف يتبين لك موضع الاستقراء. وسبب الخلاف: من ملك أن يملك، هل يقدر كالمالك قبل أن يملك أم لا؟ وهذا أصل متداعٍ كبير وبنى عليه [مشايخنا] (¬3) ومسائل لا تتعدد. وأما الحيوان الناطق كالعبيد إذا جنى عليها جناية مفسدة ذهبت بأكثر منافعها كما فصلناها في أول الفصل، فلا خلاف أعلمه في المذهب أن الجاني ضامن بقيمة العبد يوم التعدي عليه. واختلف: هل ذلك بإيجاب الشرع، أو إيجاب السيد؟ فقيل: إن ذلك بإيجاب الشرع، ولا خيار في ذلك لسيد العبد، وهو قول مالك في "المدونة"، وفي "كتاب محمد". والثاني: أن ذلك بإيجاب السيد، وأنه بالخيار إن شاء ضمنه قيمته، وإن شاء [ضمنه] (¬4) ما نقص. واختلف هل يعتق على الجاني؟ على قولين: أحدهما: أنه يعتق عليه، وهو قوله في "المدونة". والثاني: أنه لا يعتق عليه؛ لأن العتق بالمثلة إنما يكون فيما يملكه ابن ¬

_ (¬1) في أ: هلكت. (¬2) في أ: وبقيته الأخرى. (¬3) سقط من ب. (¬4) في أ: أخذ منه.

آدم. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ مَثَّلَ بَعبده عُتِق عليه" (¬1). وهذا القول أظهر في النظر، والأول أشهر في النقل. وسبب الخلاف: ما قدَّمْنَاه من اختلافهم في إيجاب القيمة على الجاني، هل ذلك بإيجاب الشرع أم بإيجاب السيد. وأما إن كان الفساد يسيرًا كقطع اليد الواحدة [أو الرِّجل الواحدة] (¬2) أو فقء العين الواحدة، أو قطع أذن دابة القاضي أو أذنيها، وأما قطع اليد الواحدة، أو الرجل الواحدة، أو فقء العين الواحدة، أو قطع الأصبع الواحد من العبد الصانع الذي صنعته في يده، ولا حرفة له إلا صنعته، وليس هو من عبيد خدمه، ولا من عبيد التجارة، فقد اختلف فيه المذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه لا يضمنه الجاني، وإنما عليه ما نقصه، وهو قوله في "كتاب [الديات] " (¬3) من المدونة، وهو ظاهر قوله في "كتاب الغصب"، وهو قول عبد الملك في "ثمانية أبي زيد" في الفرس الغازة تفقأ عينه، وأحد قوليه في أذن دابة القاضي، وهو قول مطرف، وأصبغ، ولا فرق في جميع ذلك بين العبد والدَّابة. والثاني: أن الجاني يضمن قيمة تلك الجناية، وهو قول مالك في المجموعة، وقول مطرف، وابن الماجشون في "الواضحة" في العبد الصانع الذي عظم خراجه ومنفعته في صنعته، وهو ظاهر قول مالك في ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (8102)، وابن عدي في الكامل (2/ 377) من حديث ابن عمر، وفيه حمزة الجزري، يروي الموضوعات. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ.

"كتاب الغصب" أيضًا فيمن تعدَّى على عبد رجل ففقأ عينه أو قطع له جارحة أو جارحتين حيث قال: يضمن قيمة العبد كلها إذا كانت جنايته قد أفسدته، بمنزلة ما أفسد من العروض. فعلق ضمان جميع قميته بفساد الجناية دون اعتبار عدد الأعضاء المقطوعة. وقال في الدَّابة إذا قطع يدها، أو رجلها، أو فقأ عينها، أو قطع أذنيها: إن ذلك عيب أفسد الدَّابة حتى لا يبقى فيها كبير منفعة أخذها الجاني، ويغرم قيمة جميعها، والغنم، والبقر، والإبل مثل الثوب، وهذا نص قوله في "الكتاب". فقلت: وأي منفعة تبقى في الدَّابة بعد ذهاب يدها أو رجلها, ولا ينبغي مساواة فقء العين الواحدة، وقطع اليد الواحدة أو الرِّجل في الدَّواب، وإنما ينبغي موازاة العينين فيها باليد الواحدة أو الرِّجل الواحدة؛ بل ينبغي فيها بعض المنفعة مع ذهاب العينين دون قطع اليد والرِّجل. وذلك أنها تستعمل في جر الرحى، والزرانيق مع ذهاب عينيها, ولا يستعمل المقطوعة [اليد أو] (¬1) الرِّجل في ركوب، ولا حمل، ولا عمل. والثالث: التفصيل بين العبد والدَّابة، فيضمن العبد فيما يوجب العتق في المثلة، وإن لم يبطل له منفعة، والدَّابة لا [يضمنها] (¬2) إلا بما أبطل منها أكثر منافعها، وهو ظاهر قوله في "المدونة" أيضًا حيث قال: إذا كان فسادًا لا منفعة [فيه] (¬3) حتى يضمنه من تعدى عليه عتق عليه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يبطلها. (¬3) سقط من ب.

وإلى هذا أشار بعض حُذَّاق المتأخرين في الاستقراء، وأما قطع أذن دابة القاضي أو ذنبها، أو قطع عمامته، أو طيلسانه، فقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ضامن لجميع قيمته لذهاب الغرض المقصود منه لصاحب الدَّابة، وكذلك إن فعل بمركوب القاضي خاصة ما يوجب على عراجه، فإنه ضامن لجميع قيمته، وهو قول ابن القصار ومثله في "كتاب ابن حبيب"؛ لأن عادة ذوي الهيئات، والمناصب اجتناب ركوب ما به ذلك من الدَّواب. والثاني: أنه لا يضمن منها إلا أرض الجناية خاصة بناءً على أن ذلك لم يذهب بأكثر منافعها [لأن فيها منافع] (¬1) سواء ركوب من ذكرنا [وغيره] (¬2) وهذا أحد قولي مالك في التعدي في العروض، والدَّواب، ولم يفصل بين أن يكون الفساد يسيرًا أو كثيرًا. والثالث: التفصيل بين الأذن، والذَّنَب، فيضمن جميع قيمتها في الذَّنَب، وفي الأذن يضمن [قيمة] (¬3) ما نقص، وهو أحد قولي عبد الملك في "كتاب ابن حبيب". وسبب الخلاف: هل النظر إلى بطلان المنافع بالإضافة إلى رب الدَّابة وحده أم النظر إلى اعتبار المنافع على الجملة؟ فمن اعتبر بطلان المنافع بالإضافة إلى رب الدَّابة بانفراده؛ لكونه ممن لا يركب مثل ذلك من الدواب. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: مقدار.

قال بوجوب [ضمان] (¬1) القيمة على المتعدي. ومن نظر إلى اعتبار منافع الدَّابة على الجملة قال: لا يضمن المتعدي إلا قيمة العيب خاصة لبقاء أكثر منافع الدَّابة في الحملان، والاستعمال، وركوب من لا يستنقص بذلك، ولا يراه وصمًا في حقه. ومن فرق بين الأذن والذَّنَب يرى أن قطع الذَّنَب أشوه من قطع الأذن. والشاة، والبقرة إذا ضربها فانقطع درها مثل الدَّابَة في جميع ما ذكرناه إذا كان شأنها اللبن، وهو المقصود منها. فإذا كان عبدًا فأخصاه ضمن ما نقصه، فإن لم ينقصه فلا شيء عليه، فإن زادت قيمته هل يضمن شيئًا أم لا؟ [فالمذهب] (¬2) على قولين: أحدهما: أنه لا يغرم الجاني شيئًا, ولا يضمنه، ويعاقب على فعله ذلك. والثاني: أنه ينظر إلى تلك الزيادة، فإن كانت قدر ثلث قيمتها أو ربعها، فإن الجاني يغرم قدر ذلك كله كأنه نقص من قيمته، والقولان حكاهما اللخمي [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الثالثة في الحكم في الغصب

المسألة الثالثة في الحكم في الغصب فلا يخلو [الشيء المغصوب] (¬1) من أن يكون قائمًا بيد الغاصب، أو فائتًا من يده. فإن كان قائمًا فلا يخلو من أن يتغير أو لا يتغير. فإن لم يتغير لا في الذَّات، ولا في الصفة، فلا يلزم الغاصب إلا رده بعينه، ولا غرم عليه؛ لأن ضمان الغاصب بوضع اليد بشروط فوات الشيء المغصوب، أو تغييره عن حاله، وعليه الأدب الوجيع من السلطان. فإن تغير عن حاله، فلا يخلو من أن يتغير في ذاته أو في سوقه. فإن تغير في ذاته، فلا يخلو تغييره من أن يكون بزيادة أو نقصان. فإن تغير بزيادة فلا تخلو تلك الزيادة من أن تكون من فعل الله تعالى، أو تكون من فعل [الغاصب] (¬2)، فإن كانت من فعل الله تعالى كالصغير يكبر [والهزيل] (¬3)، يسمن، والعيب يذهب، فليس ذلك بفوات على [كل] (¬4) حال. فإن كان من فعل الغاصب، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون قد أخرج فيه من ماله عينًا قائمة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: المغصوب. (¬3) في أ: والهزول. (¬4) سقط من أ.

والثاني: ألا يكون أخرج فيه من ماله سوى العمل. فأما إن كان قد أخرج فيه من ماله عينًا قائمة، فإنه على وجهين أيضًا: أحدهما: أن يكون ذلك الشيء يمكنه إعادته. والثاني: ألا يقدر على إعادته، فإن كان مما يقدر على إعادته كالبقعة بينهما، وما أشبه ذلك، فالمغصوب منه يخير بين أن يأمر الغاصب بإعادة البقعة على حالها، وإزالة ما له فيها [أو أخذها بقيمة ما فيها] (¬1) من النقص مقلوعًا مطروحًا بالأرض. وهل ذلك يعد طرح أجرة القلع [أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك بعد أجرة القلع] (¬2). والثاني: أنه لا يحط من ذلك أجر القلع، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة. والثالث: التفصيل بين أن يكون الغاصب ممن يتولى ذلك بنفسه أو بغيره، فلا يحط من ذلك أجر القلع، أو يكون ممن يستأجر عليه، فلا يحط من القيمة شيء، وهذا القول مخرج غير منصوص عليه، وإن لم يكن في البنيان الذي بني الغاصب ما له قيمة إذا قلعه لم يكن للغاصب على المغصوب منه [شيء] (¬3)؛ لأن من حقه أن يلزم الصمت هدم البناء، وإعادة البقعة إلى حالها، فإذا أسقط ما له من الحق قبله في ذلك، فلا حجة له، ويؤيد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لعرق ظالم حق" (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه أبو داود (3073)، ومالك (1424)، والشافعي في المسند (1757)، والدارقطني (3/ 35)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله.

فأما إذا كان ذلك مما لا يقدر على إعادته على حاله كالثوب يصبغه، والجلد يدبغه، والسويق يلتّه، فالمذهب على خمسة أقوال: أحدها: أن المغصوب منه يخير بين أن يدفع قيمة الصبغ، وما أشبهه، ويأخذ ثوبه، أو يضمنه قيمة الثوب يوم غصبه، إلا في السويق الذي يلتّه بالسَّمن، وما أشبه ذلك من الطعام، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب الغصب"، و"كتاب اللقطة". والثاني: أن الخيار للمسروق منه دون السارق، وإن شاء أعطاه قيمة الصبغ، وإن أبا بيع الثوب، وهو قوله في "كتاب القطع في السرقة" من المدونة، ولم يجعل الخيار للسارق. والثالث: أنه يأخذ ثوبه، ولا شيء عليه في العمل من طحين، وطبخ، وصبغ [وغيره] (¬1) وهو قول أشهب. والرابع: أنهما يكونان شريكين هذا بقيمة ثوبه، وهذا بقيمة صبغه إذا أبا رب الثوب أن يدفع قيمة الصبغ [وأبا الغاصب أن يدفع قيمة الثوب , وهذا القول أنكره في "كتاب اللقطة" من "المدونة"، وقال: إن الشركة لا تكون إلا فيما كان بوجه شبهة. والخامس: أن الصبغ تفويت يلزم الغاصب به القيمة يوم الغصب، ولا يكون للمغصوب منه أن يعطيه قيمة الصبغ، ويأخذ الثوب، وكذلك ما أشبه الصبغ] (¬2)، وأما السويق، والحنطة إذا طحنها، أو الفضة إذا صاغها، أما الحنطة، والفضة، فقد اختلف فيهما في المذهب على قولين [من المدونة] (¬3): ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: قائمين من الكتاب.

أحدهما: أنه يكون على الغاصب مثل الحنطة، ومثل الفضة، ولا يأخذ ما عمل من فضة، ولا ما طحن من حنطة، وهو قول ابن القاسم في الكتاب، وعلل ذلك بأن قال: إن أخذت ذلك من الغاصب بلا أجرة ظلمته، وإن دفعت إليه ثمن العمل كان ذلك من التفاضل في الطعام، والفضة. والثاني: أن له أن يأخذ ما عمل من فضته، وما طحن من قمحه [لأن الطعام طعامه، والفضة فضته] (¬1) ولاسيما على مشهور المذهب أن الطحين ليس بصنعة، ولا شيء عليه في الأجرة، وهو قول أشهب. وأما إذا غصبه سويقًا فَلَتّه بسمن، فهل يخير المغصوب منه بين أن يضمنه المثل، ويأخذه ويعطيه قدر ما لَتَّ به من السمن أو لا خيار له أصلًا، وإنما يكون له المثل؟ قولان: أحدهما: أنه لا خيار له، وإنما يضمنه مثل سويقه؛ لأن ذلك فوت، وهو قول ابن القاسم في الكتاب، ووجهه أنه لو حاول أخذ السويق الملتوت، ودفع ما لَتَّ به من السَّمن لكان ذلك ربًا لأجل التفاضل بين الطعامين؛ لأن قدر ما يدخله من السمن مجهول، والجهل بالتماثل كتحقيق التفاضل. والثاني: أن له الخيار في ذلك، وأن القدر الذي [أدخله] (¬2) من السَّمن يُدْرك مقداره بالتحري من أهل المعرفة، والتحري معيار في الشرع. وأما إذا لم يخرج الغاصب فيما أحدثه في الشيء المغصوب سوى العمل، فذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك يسيرًا لا ينتقل به الشيء عن اسمه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: وكله.

[والثاني: أن يكون العمل كثيرًا ينتقل به الشيء المغصوب عن اسمه. فإن كان يسيرًا لا ينتقل به الشيء المغصوب عن اسمه] (¬1) كخياطة الثوب، والرفو، وما أشبه ذلك، فلا حق فيه للغاصب ويأخذ [المغصوب] (¬2) منه الشيء المغصوب معمولًا. فإن كان العمل كثيرًا ينتقل به الشيء المغصوب منه عن اسمه حتى يكسب بذلك اسمًا آخر كالخشبة يعمل منها تابوتًا، أو أبوابًا، أو القمح يطحنه، أو الغزل ينسجه، أو الفضة يصوغها حُليِّا، أو يضربها دراهم، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك كله فوت يوجب للمغصوب منه أخذ القيمة يوم الغصب أو المثل فيما يقضي بمثله، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن للمغصوب منه أخذ ذلك كله، ولا شيء عليه فيما لا يقدر الغاصب على أخذه من الخياطة، والرفو، والنسج، والطحين، وعمل التابوت، والأبواب، وغير ذلك، وهو قول أشهب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لعرق ظالم حق" (¬3). وأما الوجه الثاني من الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا تغير بنقصان ذاته، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون [ذلك] (¬4) بسبب سماوي. والثاني: أن يكون بسبب آدمي. فإن كان ذلك بسبب سماوي، فلا يخلو ذلك النقص من أن يكون ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) تقدم. (¬4) سقط من أ.

يسيرًا أو كثيرًا. فإن كان كثيرًا، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المغصوب منه يخير بين أن يضمنه قيمته يوم الغصب، أو يأخذه ناقصًا, ولا شيء له من قيمة النقص، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه يأخذه ويضمن الغاصب قيمة النقص يوم الغصب، وهو قول سحنون. فإن كان العيب يسيرًا، هل يضمن به الغاصب أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يضمن بالعيب اليسير كما يضمن بالكثير، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه لا يضمن بالعيب اليسير كالتعدي، وهو ظاهر قول مالك في المدونة "في كتاب الغصب"، حيث قال: [في] (¬1) الغاصب للجارية إذا أصابها [عيب] (¬2) غير مفسد: قال [لي] (¬3) مالك: ليس له إلا جاريته إلا أن تنقص في بدنها، ولم يقل لي نقصان قليل، ولا كثير. فقال ابن القاسم: وذلك عندي سواء نقصت قليلًا أو كثيرًا إن أحب أن يأخذها معيبة على حالها، وإن أحب يضمنه قيمتها يوم غصبها. وظاهر قول ابن القاسم، هذا مخالف لقول مالك لقوله: "وذلك عندي سواء" [لأنه] (¬4) يشعر بخلاف ما تقدم من قول مالك، وظاهر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ.

[قول مالك] (¬1) أن الغصب، والتعدي سواء لا يلزمه القيمة إلا في اليسير دون الكثير، وهو ظاهر قوله في "كتاب محمد"، وهو نص أبي القاسم ابن الجلَّاب في "التفريع" (¬2): أن العيب اليسير لا يضمن به الغاصب. فإن كان بسبب آدمي فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك بجناية الغاصب. والثاني: أن يكون بجناية غيره. فإن كان بجناية الغاصب، فالمغصوب منه مخير قولًا واحدًا. واختلف فيما يخير على خمسة أقوال: أحدها: أنه مخير بين أن يضمنه القيمة يوم الغصب، أو يسقط عنه حكم الغصب، فيأخذه، وما نقصته الجناية يوم جنايته، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه مخير إن شاء ضمنه القيمة يوم الغصب، أو يأخذه، وما نقصته الجناية يوم الغصب، وهو مذهب سحنون. والثالث: أن للمغصوب منه أن يضمنه القيمة يوم الغصب أو يأخذه ناقصًا, ولا شيء له في الجناية، وهو مذهب أشهب، ويوجد لابن القاسم مثله في "المدونة" في السارق بهزل ركوبه الدَّابة: أنه لا شيء عليه مما نقصه [الهزال] (¬3)، وفي "كتاب القذف" في الأمة بين الشريكين يطؤها أحدهما, ولم تحمل. والرابع: أن للمغصوب [منه] (¬4) أن يضمن للغاصب في الوجوه كلها التي تفيت المقصود والقيمة قيمته أي يوم شاء، فيكون له عليه أرفع القيم، ¬

_ (¬1) في أ: قوله. (¬2) التفريع (2/ 274، 275). (¬3) في أ: الهزل. (¬4) سقط من ب.

حكى هذا القول ابن شعبان عن ابن وهب، وأشهب. وعبد الملك قال: لأن الغاصب مخاطب برد الشيء المغصوب كل يوم، وكل وقت، ومتى لم يرده كان مبتدئ الغصب حينئذ مثل أن تكون قيمته حين غصبه خمسين ثم بلغت [بعد] (¬1) ذلك مائة ثم عادت إلى خمسين، ثم فات فوتًا يوجب التضمين. والخامس: التفصيل بين أن يكون الشيء المغصوب للقنية أو للتجارة, فإن كان للقنية، فعليه قيمته يوم الغصب، وإن كان للتجارة [فإنه يكون عليه أرفع القيم، وهو اختيار بعض المتأخرين، ووجهه أنه إنما كان للقنية لم يفت له فيه غرض مرتقب إلا قدر ما فيه من الخدمة لا غير؛ فلذلك تكون عليه قيمته يوم الغصب؛ لأن بوضع اليد صار ضامنًا فشرط الفوات، وإذا كان للتجارة] (¬2) فقد ارتقب به زيادة الأسواق وغزارة الأرباح، فإنه يغرم أرفع القيم؛ لأنه حرمه البيع بحبسه إياه عن أسواقه، فوجب [بذلك] (¬3) أن يكون عليه الأكثر، وهو قول الغير في كتاب [كراء] (¬4) الرواحل، والدواب في المكترى يحبس الدابة بعد [أمد] (¬5) الكراء، وربها غائب. وأما إن كانت الجناية من الأجنبي: فالمغصوب منه مخير بين أن يضمن الغاصب ويتبع الغاصب الجاني أو يسقط عن الغاصب طلبه، ويتبع الجاني ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: إمكان.

[بحكم الجناية] (¬1)، وهو قول ابن القاسم في المدونة. فإن اختار تضمين الغاصب، فأي قيمة يضمنه؟ فإنه يتخرج على ثلاثة أقوال: أحدها: قيمته يوم الغصب على مذهب ابن القاسم، أو الأكثر على ما حكاه ابن شعبان. أو التفصيل على اختيار ما حكاه بعض المتأخرين على ما قدمناه. فأما إن تغير سوقه، أو طال مكثه في يد الغاصب، ولم يتغير سوقه، ولا يد له، فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا ضمان على الغاصب بذلك، وإنما للمغصوب منه أخذ عين شيئه، ولا خيار له في ذلك، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وغيرها. والثاني: أن الخيار للمغصوب منه بين التضمين وأخذ عين شيئه، وهو ظاهر ما علل به ابن شعبان حيث قال: لأنه مخاطب بالرد كل يوم، وكل وقت، فصار كمبتدئ الغصب في الحال، فجعل له أرفع القيم؛ لأنه ردها بعد [تعطيل] (¬2) أسواقها، وفوته الفرصة فيها، وإذا كانت أسواقها لم تتغير إلا أنها طالبت إقامة الشيء المغصوب عنده فيضمن؛ لأنه حبسه عن منافعه، وعطّله عن الانتفاع به، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب الغصب" من المدونة حيث قال: لولا ما قاله مالك لجعلت على السارق مثل ما جعلت على المتكاري من كراء ركوبها، وأضمنه قيمته إذا حبسها عن أسواقها، والغاصب، والسارق في الضمان واحد. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: اطلاع.

والثالث: التفصيل بين أن يكون قد سافر عليها أو حبسها في داره. فإن سافر عليها إلى بلد بعيدة مثل ما بين مكة، والمدينة أو أكثر، فإنه يضمنه أو يأخذها وكراء المثل كالمكترى يعتاد المسافة، فحيث [لم] (¬1) يلزم المكترى القيمة لم تلزم الغاصب أمرهما واحد، فإن حبسها في داره قدر ما لو سافر بها للزمته، ولم يلزمه فيها قيمة، وهو قول عبد الملك في "ثمانية أبي زيد". والرابع: التفصيل بين أن يكون للقنية أو للتجارة، فإن كانت للقنية، فلا يضمن بحوالة الأسواق، وإن كانت للتجارة فإنه يضمن، وهو اختيار بعض المتأخرين على ما قدمناه. والجواب عن الوجه الثاني من أصل [المسألة] (¬2): إذا كان المغصوب فائتًا، فلا يخلو فواته من وجهين: إما أن يفوت فوات عين. أو يفوت فوات معنى. فإن فات فوات عين: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يموت حتف أنفه. والثاني: أن يموت مقتولًا. فإن مات حتف أنفه، فعلى الغاصب قيمته يوم غصبه، ولا خلاف في ذلك. وإن مات مقتولًا، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون القتل من الغاصب. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: التقسيم.

والثاني: أن يكون من غير الغاصب. فإن كان الغاصب هو الذي قتله، فإن الغاصب يضمن القيمة. واختلف متى تعتبر القيمة على قولين: أحدهما: أن القيمة في ذلك يوم الغصب، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو أحد قولي سحنون في "المجموعة". والثاني: أن له أن يضمنه قيمته يوم القتل، وهو قول ابن القاسم في "الدمياطية". [وأحد قولي سحنون في "المجموعة"]، (¬1)؛ لأن القتل فعل حادث غير الغصب، وقد اختلف فيه قول ابن القاسم، وسحنون. فإن قتله أجنبي غير الغاصب، فلا يخلو من أن تكون قيمته يوم القتل ويوم الغصب متفقة أو مختلفة. فإن كانت متفقة، فله أن يتبع أيهما شاء إن شاء الغاصب، وإن شاء القاتل، فإن اختار اتباع القاتل كان ذلك براءة للغاصب، فإن اختار [اتباع] (¬2) الغاصب كان للغاصب الرجوع على القاتل بمثل ما غرم ما لم يخرج عن النقد المألوف بينهم في بلدهم. فإن اختلفت القيمة فلا يخلو من أن تكون قيمته يوم الغصب أكثر أو قيمته يوم القتل أكثر. فإن كانت قيمته [يوم الغصب] (¬3) أكثر مثل أن تكون قيمته يوم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ.

الغصب مائة وعشرون وقيمته يوم [القتل] (¬1) مائة؛ فله الخيار في ذلك إن شاء أتبع الغاصب، وإن شاء أتبع القاتل. فإن أتبع الغاصب، فإنه يأخذ منه مائة وعشرين ثم يرجع الغاصب على القاتل بمائة، وإن أتبع القاتل، فيأخذ منه مائة ثم ينظر، فإن قصد باتباع القاتل رفع حكم الغصب عن الغاصب، فلا يرجع عليه بشيء، فإن لم يقصد ذلك، فله الرجوع على الغاصب بتمام ما عجز عنه القاتل، وهو عشرون دينار [وإنما سوغنا له اتباع القاتل أولًا؛ لأنه غريمه في ذلك الشيء، فإن كانت قيمته يوم القتل مائة وعشرون وقيمته يوم الغصب مائة، فالخيار للمغصوب منه أيضًا، فإن اختار اتباع القاتل أخذ منه مائة وعشرين] (¬2). وكان ذلك براءة للغاصب، وإن اختار اتباع الغاصب، فإنه يأخذ منه مائة، ثم يرجع الغاصب على القاتل. واختلف هل يرجع عليه بما غرم خاصة أو بجميع قيمته يوم القتل، على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه يرجع بمائة وعشرين جميع قيمته يوم القتل، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". ووجهه أنه لما غرم الغاصب قيمته يوم الغصب وجب أن يكون [النماء] (¬3) الحادث فيه من زيادة القيمة، واختلاف الأسواق للغاصب كما عليه نقصه إن نقصت. والثاني: أنه لا يرجع عليه إلا بالمائة التي غرمها خاصة، والعشرون ¬

_ (¬1) في أ: الجناية. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

الزائدة تكون للمغصوب منه؛ لأن الغاصب، والمتعدي لا يربح، وهو قول أشهب على ما نقله التونسي، وهو قول ابن القاسم أيضًا في "كتاب السلم الثاني" من "المدونة" في باب: تعدي الوكيل. فأما إذا فات الشيء المغصوب فوات معنى، فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يبيع. والثاني: أن يهب أو يتصدق. والثالث: أن يعتقه إن كان عبدًا. والرابع: أن يطأها إن كانت أمة. فأما الوجه الأول: إذا باع الشيء المغصوب، فلا يخلو من وجهين: إما أن يكون قائمًا بيد المشتري، أو فائتًا. فإن كانت قائمًا: فالخيار في ذلك للمغصوب منه إن شاء أجاز البيع، وأخذ الثمن، وإن شاء أخذ عين شيئه، ويفسخ البيع. فإن اختار إجازة البيع، وأخذ الثمن: فإن ذلك لازم للمشتري ولا حجة له، وتكون عهدته على المستحق، إلا أن يكون المغصوب منه فاسد الذمة بحرام أو أنه سيئ المعاملة، فلا يلزم البيع للمشتري إلا أن يشاء، وهو قول بعض المتأخرين، وما قاله تفسير للمذهب، فإذا قلنا بلزوم البيع للمشتري في الصورة التي لا خيار له فيها، فإن لم يقبض الغاصب الثمن أو قبضه، وهو موسر فلا إشكال في الجواز. فإن قبضه الغاصب، وهو في حين جواز البيع معسر، فهل يغرم المشتري الثمن ثانيًا أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يرجع عليه المستحق، ويغرمه الثمن ثانيًا.

ذمة الغاصب على مقتضى هذا القول. والقولان حكاهما اللخمي، ولم يُسم قائلها. وسبب الخلاف: اختلافهم في العقد بانفراده، هل يسمى بيعًا، وإن لم يقارنه قبض أو لا يسمى بيعًا حتى يقارنه القبض؟ فإذا قلنا: إن [العقد يسمى بيعًا] (¬1) كان له الرجوع بالثمن على المشتري ثانية؛ لأنه يقول: إنما أجزت البيع دون القبض. وإذا قلنا: إن العقد لا يسمى بيعًا إلا بالنقد، لم يكن له الرجوع على المشتري بالثمن ثانية؛ لأنه قد جوز البيع على الصفة التي وقع عليها من المنافذة والمقابضة، اللهم إلا أن يصرح ويقول: إنما [أجزت] (¬2) البيع بشرط أن أقبض الثمن في الحال، وإلا فلا أُجَوِّز، فيكون على شرطه. فإن كان فائتًا، فلا يخلو من أن يكون الفوات بسبب سماوي أو بسبب آدمي. فإن كان بسبب سماوي، فلا يخلو المشتري من أن يعلم بالغصب أو لا يعلم، فإن علم بالغصب فحكمه حكم الغاصب في جميع ما ذكرناه في الغاصب، فإن لم يعلم بالغصب فلا [ضمان] (¬3) على المشتري، وضمان الشيء المغصوب [على] (¬4) الغاصب. فإن فات بسبب آدمي، فلا يخلو من أن يكون بسبب المشترى, أو بسبب أجنبي. فإن كان فواته بسبب المشترى مثل أن يكون عبدًا فقتله أو قطع يده. فإن قتل فلا يخلو من أن يكون قتله عمدًا أو خطأ، فإن قتله المشتري ¬

_ (¬1) في ب: البيع يسمى قبضًا. (¬2) في أ: جوزت. (¬3) في أ: شيء. (¬4) في أ: من.

عمدًا، فالمغصوب منه يخير بين مطالبته الغاصب، ومطالبته المشتري، فإن اختار مطالبة الغاصب كان مخيرًا بين شيئين، إما أخذ الثمن الذي باع به الغاصب، وإما أن يأخذه بحكم الغصب، فيضمنه القيمة. إما قيمته يوم الغصب على مذهب الكتاب. وإما قيمته يوم البيع على قول ابن القاسم في "الدمياطية"؛ لأنه تعدٍ ثانٍ على قوله في [الكتاب] (¬1) وفي كلا الوجهين لا رجوع للغاصب على المشتري بشيء. فإن اختار مطالبة المشتري فيأخذه بقيمته يوم قتله، ثم لا رجوع للمشتري على البائع الذي هو الغاصب في الثمن؛ لأن العوض الذي أخذه منه قد أتلفه. فإن قتله خطأ هل يرجع عليه المغصوب منه بشيء أم لا، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يأخذه بالخطأ كما يأخذه بالعمد. والثاني: أنه لا يأخذه كما لو مات حتف أنفه؛ لأنه أخطأ على مال نفسه في الظاهر، والمستحق قادر على أن يضمن الغاصب ويجيز البيع، ويأخذ الثمن، والقولان حكاهما اللخمي وغيره. ووجه القول الأول أنه أخطأ على مال غيره، فيجب أن يضمنه؛ لأن العمد والخطأ في أموال المسلمين سواء. وعلى القول بأن له مؤاخذة المشتري في قتل الخطأ، فإن المشتري يرجع على الغاصب بما قبض منه من الثمن. ¬

_ (¬1) في ب: القتل.

وعلى القول بأنه لا يؤاخذ المشتري في قتل الخطأ، فإنه يتبع الغاصب، وكذلك الحكم إذا قطع يده عمدًا أو خطأ، فيكون للمستحق أن يأخذ العبد وما نقصته الجناية، ويرجع المشتري على البائع بالثمن. ويختلف فيه إذا كان القطع خطأ، فإن كان القطع من أجنبي تساوى فيه العمد، والخطأ، فإن قتله أخذ منه قيمته، وإن قطع [يده] (¬1) أخذ العبد وأرش الجناية من الجاني إن شاء المستحق، ويرجع المشتري على البائع بالثمن الذي أخذه منه، وإن شاء أخذ الثمن أو القيمة من الغاصب على ما بيناه. وأما الوجه الثاني: إذا وهبه الغاصب أو تصدق به، فلا يخلو من أن يكون قائمًا أو فائتًا. فإن كان قائمًا بيد الموهوب له أو المتصدق عليه لم يكن له إلا أخذه ونقضه للهبة أو الصدقة لا غير ذلك. فإن كان فائتًا فلا يخلو من أن يكون بسبب الموهوب له أو بسبب سماوي. فإن كان بسبب سماوي، فلا يخلو من أن يكون عالمًا بالغصب أو غير عالمٍ. فإن كان عالمًا فحكمه حكم الغاصب في جميع ما قدمناه. فإن لم يعلم بالغصب، فلا ضمان عليه قولًا واحدًا. فإن كان [ذلك] (¬2) بسبب الموهوب له مثل أن يكون عبدًا فأعتقه أو قتله، أو ثيابًا، فلبسها حتى أبلاها، أو طعامًا فأكله ثم استحق ذلك ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ.

رجل العضب فلا يخلو الغاصب من أن يكون موسرًا أو معسرًا. فإن كان معسرًا فلا خلاف أن المستحق بالخيار إن شاء جَوَّز فعل الغاصب وأتبعه بقيمة شيئه إما يوم الغصب على قول، وإما يوم الهبة على قول، [وإن شاء] (¬1) أتبع الموهوب له بقيمة شيئه يوم استهلكه ثم لا رجوع للموهوب له على الواهب بذلك. فإن كان الغاصب موسرًا، هل يخير [المستحق] (¬2) في التبدئة أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا خيار له، فإن طلبه على الواهب [أولًا] (¬3)، فيأخذ منه قيمة شيئه، فإن لم يقدر عليه، فعند ذلك يرجع على الموهوب له، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن الموهوب له هو المُبَدَّىء ولا يرجع على الغاصب إلا في عدم الموهوب له، وهو قول الغير في "كتاب الاستحقاق" من المدونة، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الشركة"، وهو قول أشهب في "العتبية" وغيرها. والثالث: أنه مخير يرجع على أيهما شاء، وهذا القول حكاه ابن عبدوس عن أشهب، واختاره سحنون. وعلى القول بأنه يرجع ابتداءً على الغاصب، فإن وجده عديمًا، فيرجع على الموهوب له، فهل للموهوب له الرجوع على الغاصب أم لا؟ [فالمذهب] (¬4) على قولين، والصحيح أنه لا يرجع عليه، وهو قوله في ¬

_ (¬1) في أ: وإما. (¬2) في ب: الواهب. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ.

"كتاب الدور" من المدونة. وعلى القول بأنه يرجع على الغاصب إذا وجد الموهوب له عديمًا، هل للغاصب أن يرجع على الموهوب له بما أدى للمغصوب منه أم لا؟ فالمذهب أيضًا على قولين. فانظر كيف جعل ابن القاسم المستحق في هذه المسألة يبدأ بالمسبب الذي هو الغاصب، ولم يقل ذلك فيمن استأجر عبدًا على تبليغ الكتاب إلى بعض المواضع، فعطب أنه يضمن، والجمع بينهما أن الموهوب له، والمستأجر قد تصرفا فيما يضمنانه ملكًا لمن أذن لهما في التصرف. والفرق بينهما أن العبد لا يمكن أن يضمن منافع نفسه لسيده، والغاصب [ضامن] (¬1) الدّابة لربها؛ فلهذا لم يضمن واضع يده على منافعها؛ لوجود من يضمن له رقبتها, ولما كان العبد لا يضمن لسيده؛ لأنه [هو] (¬2) ماله صار واضع يده على منافعه كالمخطئ في مال غيره بغير إذنه، فوجب أن يضمن قيمته؛ فلهذا قلنا في الغاصب إذا وهب: إنه يضمن، ولا يضمن الموهوب، فإذا لم يوجد عنده شيء ضمنه الموهوب، فالعبد أحرى أن يضمنه الذي استأجره لعدم من يضمن بحال. وسبب الخلاف: بين ابن القاسم , وأشهب في المسألة اختلافهم في المسبب، والمباشر أيهما أولى بالضمان، فلو كان عبدًا فأعتقه الموهوب له، ثم اختار المستحق إتباع الغاصب بالقيمة، فلا خلاف أن عتقه يمضي بالعتق الأول، ولا يحتاج إلى تجديد عتق. واختلف فيما مضى من أفعاله كنكاحه، وموارثته وشهادته، هل يمضي ذلك أو يرد؟ ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من ب.

على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن ذلك صحيح جائز، ولا يرد منه شيء. والثاني: أن ذلك من [عتق] (¬1) مردود؛ لأنه عتق موقوف على الرد والإجازة، كعتق المِدْيَان إذا أجاز الغرماء عتقه، وقد كان العبد شاهدًا، ووارثًا أن ذلك كله مردود، وهو قول ابن القاسم في "عتق المِدْيان"، وظاهر قول أشهب: أنه يجوز في المِدْيَان؛ لأنه قال في المكاتب يعتق عبدًا له فيموت، فيريد السيد أن يجيز عتقه، ويرثه. فقال: ذلك له، وهذا أصل عتقه غدًا كعتق المديان. والفرق بين عتق الموهوب له، وعتق المديان على أصل ابن القاسم أن الموهوب له لم يتعد في عتقه، والمديان متعد في عتقه، وهذا الفرق كما تراه، فلو عكس الجواب لكان أولى، وذلك أن حقوق الغرماء لم تتعلق بعين مال المديان، وإنما تعلقت بذمته، فإذا أفاد مالًا يقضي به ديونهم مضى عتقه، ولا مقال لهم فيه، فإذا جوزوا عتقه، وسوغوا فعله كانت تصرفاته قبل الجواز، وبعده [نافذة] (¬2). وأما العبد الموهوب، فحق المستحق متعلق بعينه؛ لأنه عين شيئه، فإذا أجاز فيه المستحق عتق الموهوب [له] (¬3) يأخذ القيمة من الغاصب كان الموهوب له كمبتدئ العتق حينئذ، فتدبر ذلك تجده صحيحًا. والمشتري من الغاصب [في عتقه] (¬4) كالموهوب له على سواء. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: نافلة، والصواب ما أثبتناه من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب.

وأما الوجه الثالث: إذا أعتقه الغاصب، وكان عبدًا [فلا يخلو] (¬1) من أن يتغير بعيب أو لا يتغير. فإن دخله عيب، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء ضمنه القيمة يوم الغصب، وإن شاء أخذه، وبطل العتق. وهل يرجع عليه بما نقصه العيب إذا كان بسبب سماوي أم لا؟ فإنه يتخرج على الخلاف الذي قدمناه في أثناء فصول المسألة. فإن لم يدخله عيب، ولا يتغير، فلربه أخذ عبده، ويبطل عتق الغاصب، فإن طلب رب العبد أن يلزم الغاصب [قيمة عبده] (¬2) وينفذ فيه عتقه بغير اختيار الغاصب. هل يلزمه ذلك أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يلزم الغاصب؛ لأنه أعتق [ما لا يملك وهو الأظهر، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق التونسي. والثاني: أن ذلك لازم للغاصب؛ لأنه أعتق] (¬3) ما في ضمانه كأنه راضٍ بالتزام القيمة لما أعتق. [كما] (¬4) قال مالك: في الأب إذا أعتق عبد ابنه الصغير أنه ينفذ عتقه، ويغرم قيمته إن كان له مال. وأما الوجه الرابع: إذا كان أمة فوطئها أو غاب عليها، فلا يخلو من ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

أن يغيب عليها بعد [الغصب] (¬1) أم لا. فإن لم يغب عليها، وهي على حالها، فليس للمغصوب منه إلا أخذها بوجهها. فإن غاب عليها, ولم يطأها، فلا يخلو من أن تكون فارهة أو وخشية، فإن كانت وخشية، فليس للسيد [على الغاصب] (¬2) إلا أخذها. فإن كانت فارهة وغاب عليها, ولم يعلم هل أصابها أم لا؟ فلا يخلو سيدها من أن يكون قد اعترف بإصابتها أم لا، فإن كان السيد مُقِرًا بالإصابة، فإن القيمة تؤخذ من الغاصب وتوقف. فإن ظهر بها حمل ردت القيمة على الغاصب، وتكون الأمة أم ولد لسيدها، فإن حاضت أخذت القيمة لسيدها [إن شاء ويضمنها الغاصب. وإن ماتت قبل أن يتبين هل هي حامل أو غير حامل أخذ المغصوب منه القيمة أيضًا، والظالم أحق أن يحمل عليه، وإن أنكر سيدها الوطء عجلت له القيمة] (¬3) في الحال إلا قدر قيمة عيب الحمل، فإنه يوقف، فإن تَبَيَّن أنها حائل أخذها المغصوب منه، وإنْ تَبَيَّن أنها حامل ردت إلى الغاصب. فأما إن [ثبت] (¬4) أن الغاصب وطئها، فلا فرق في هذا الوجه بين أن تكون فارهة أو وخشية، فللسيد أن يضمنه، ويأخذ منه قيمتها إما يوم الغصب، وإما يوم الوطء على اختلاف قول ابن القاسم، وسحنون في ¬

_ (¬1) في ب: القبض. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: تبين.

ذلك. فإن ولدت عند الغاصب، فلا يخلو ذلك [الولد] (¬1) من ثلاثة أوجه: إما أن يكون من وطء الغاصب أو بزنًا من غيره [وإما أن يكون بنكاح أو بملك يمين، فأما إن كان الولد من الغاصب أو بزنًا من غيره] (¬2) فالحكم فيهما سواء للمغصوب منه أن يأخذ الأمة، والولد، فإن مات الولد، فهل يضمنه الغاصب أم لا؟ فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يموتا جميعًا الولد، والأم. وإما أن تموت الأم دون الولد. وإما أن يموت الولد دون الأم. فإن ماتا جميعًا الولد والأم، فلا يخلو من أن يموتا حتف أنفهما أو ماتا مقتولين. فإن ماتا حتف أنفهما فلا خلاف في المذهب أن الغاصب يغرم قيمة الأم، وهل يغرم قيمتها يوم الغصب [أو يوم الوطء] (¬3) قولين، وقد قدمناهما. واختلف في الولد، هل يضمن قيمته أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه [لا] (¬4) يضمن قيمة الولد، وهو قول ابن القاسم في المدونة وغيرها. والثاني: أن عليه قيمة الولد يوم ولد، وهو قول أشهب في "الموازية"، ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ.

ووجهه: أن الولد مغصوب كالأم، وقد كان رده واجبًا [عليه] (¬1). وعلى قول من اعتبر أعلى القيم يغرم قيمته يوم مات، فإن قتلا أو أحدهما. أما إن قتلا جميعًا، فلا خلاف أيضًا أنه يغرم قيمة الأم إما يوم الغصب، وإما يوم القتل على ما قال ابن القاسم في "الدمياطية". وفي الولد قولان: أحدهما: أنه لا يغرم عنه شيئًا؛ إلا أن يكون مقتولًا قتله أجنبي، فأخذ له أرشًا، فإنه يغرم ذلك الأرش قولًا واحدًا [وكأنه هو الذي قتله، وهذا قول ابن القاسم في "المدونة": والثاني: أن الغاصب يغرم قيمة الولد إما قيمته يوم ولد كما قال أشهب. وإما قيمته يوم قتل على ما حكاه ابن شعبان عن أشهب، وابن وهب، وعبد الملك. فإن مات أحدهما، وبقى الآخر، فإن ماتت الأم، وبقى الولد، فإن الولد يرد مع قيمة الأم قولًا واحدًا] (¬2) على التفصيل الذي قدمناه بين أن تموت حتف أنفها، أو ماتت مقتولة، فإن ماتت مقتولة، فعلى ما ذكرناه. فإن ماتت حتف أنفها، فعلى قولين: وابن القاسم يقول: الخيار للمغصوب منه إما أن يأخذ [قيمة] (¬3) الأم يوم الغصب، ولا شيء عليه في الولد، أو يأخذ الولد، ولا شيء عليه ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ.

في الولد، أو يأخذ الولد، ولا شيء عليه من قيمة الأم. وأشهب يقول: يأخذ الولد وقيمة الأم يوم الغصب، فإن مات الولد وبقيت الأم، فللمغصوب منه أن يأخذ الأم يبيعها قولًا واحدًا، ثم ينظر في الولد، فإن قتله الغاصب أو غيره، فأخذ له أرشًا، فإنه يرد قيمته مع الأم قولًا واحدًا. والخلاف في وقت اعتبار القيمة قد قدمناه إما يوم ولد وإما يوم قتل. فإن مات حتف أنفه أو قتل ولم يؤخذ له أرش، ولا قدر على قاتله أو جهل القاتل أصلًا، ففي غرم الغاصب قيمته قولان بين ابن القاسم، وأشهب، وقد قدمناه. فإن قتل أحدهما، ومات الآخر فالقيمة في الأم على أي حال ماتت أو قتلت غير أنها إن ماتت، فالقيمة فيها يوم الغصب، فإن قتلت فقولان: قيل: يوم الغصب، وقيل: يوم قتلت. وفي الولد إن مات حتف أنفه قولان، فابن القاسم يقول: لا شيء عليه فيه، وأشهب يقول: يغرم قيمة الولد. فإن مات مقتولًا، فإنه يغرم ما أخذ في أرشه أو كان [الغاصب هو] (¬1) الذي قتله، فإنه يغرم قيمته يوم القتل على قول، أو يوم ولد على قول. وأما إن كان الولد من وطء نكاح أو ملك يمين، فلا يخلو الزوج من أن يعلم أنها أمة، أو دخل على أنها حُرّة، فإن علم أنها أمة، فالولد [تابع] (¬2) لأمه في حكم الاستحقاق، فإن دخل على أنها حُرّة أو كان وطؤه إياها بملك يمينه، فالكلام يأتي فيه في "كتاب الاستحقاق" في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يتبع.

مسألة مفردة إن شاء الله. وأما نقل الشيء المغصوب من بلد إلى بلد، هل يكون ذلك فوتًا يوجب تضمين الغاصب أم لا؟ فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون المغصوب حيوانًا أو عروضًا. والثاني: أن يكون مكيلًا أو موزونًا مأكولًا. فإن كان حيوانًا أو عروضًا، فالمذهب فيه على ثلاثة أقوال: أحدهما: أن ذلك فوت، والمغصوب منه بالخيار بين أن يأخذ منه متاعه بعينه، أو يضمنه قيمته يوم الغصب، وهو قول أصبغ، وظاهر روايته عن أشهب في سماعه. والثاني: أن ذلك ليس بفوت، فليس للمغصوب منه إلا أن يأخذ متاعه، وهو قول سحنون؛ لأنه [رأى] (¬1) أن نقل ذلك كله من بلد إلى بلد بمنزلة حوالة للأسواق. والثالث: التفصيل بين الحيوان والعروض، فتفوت العروض بذلك، ويكون المغصوب منه فيها بالخيار بين أن يأخذها، وبين أن يضمن الغاصب فيها قيمتها يوم غصبها في البلد الذي غصبها فيه، ولا يفوت الحيوان بذلك، فيأخذها المغصوب منه حيث وجدها, ولا يكون له أن يضمن الغاصب قيمتها، وهذا في الحيوان الذي لا يحتاج إلى الكراء على حملانه كالعبد، والدّابة، والبقرة، فهذا يجبر صاحبه على قبوله إن طلبه الغاصب، ويجبر الغاصب على دفعه إن طلبه المغصوب منه. وأما ما يحتاج إلى الكراء على الحملان كالجواري، وصغار العبيد، ¬

_ (¬1) سقط من ب.

فهو كسائر العروض، وهو قول مالك في "المجموعة". قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: وهذا إذا كان الطريق من البلد إلى بلد المغصوب منه مأمون. وأما إن كان غير مأمون فلا يجبر المغصوب منه على قبوله. وأما الكيل والموزون من الطعام، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ليس للمغصوب منه إلا مثل طعامه من البلد الذي اغتصبه [فيه] (¬1). والثاني: أن المغصوب منه بالخيار بين أن يأخذ طعامه بعينه، وبين أن يضمنه مثله في البلد الذي اغتصبه فيه. والثالث: تفرقة أصبغ بين أن يكون البلد الذي حمله إليه قريبًا أو بعيدًا، فإن كان قريبًا كان الخيار له بين أن يأخذ طعامه، وبين أن يضمنه مثله في البلد الذي اغتصبه فيه، وإن كان بعيدًا لم يكن له إلا مثله في البلد الذي اغتصبه فيه [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب.

المسألة الرابعة في اختلاف الغاصب والمغصوب منه

المسألة الرابعة في اختلاف الغاصب والمغصوب منه ولا يخلو اختلافهما من أربعة أوجه: أحدها: أن يختلفا في قدره [أحدهما] (¬1) يقول: غصبني مائة، ويقول الآخر: خمسين. والثانى: أن يختلفا في الجنس، يقول: غصبني هذا العبد، ويقول الغاصب: بل هذا الثوب. والثالث: أن يتفقا في الجنس أنه عبد أو ثوب، فيقول هذا: جيد، ويقول الآخر: ردئ، أو يأتي الغاصب بعبد، فيقول: هذا الذي غصبتك، ويقول الآخر: عبدي أفضل. والرابع: أن يتفقا أنه العبد، أو الثوب، ويأتي به معيبًا أو خلقًا، فيقول: هكذا كان، ويقول الآخر: بل كان جديدًا أو سليمًا. فالجواب عن الوجه الأول: إذا اختلفا في المقدار، واتفقا في الجنسية. فقد اختلف المذهب في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن القول فيه قول الغاصب سواء طرحها أو غاب عنها إذا ادعى معرفة ما فيها، وهو قوله في "المدونة" و"العتبية" فيمن انتهب صبرة، والناس ينظرون إليه أن القول [قول الغاصب] (¬2)، ولم يفصل بين أن يغيب أو يكون قد طرحها. والثانى: أن القول قول المنتهَب منه، وهو قول أشهب، ومطرف، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: قوله.

وابن كنانة، وهو الأظهر؛ لأن من غصب وفعل مثل ذلك لا يقر بالحق على وجهه، ويعترف بجميع ما أخذ، وهو بمنزلة من كتم، ولم يُقِر بشيء، فإن القول قول المغصوب منه إلا أن يأتي بما لا يشبه. والثالث: التفصيل بين أن يغيب عليها الغاصب، أو يكون قد طرحها، فإن غاب عليها كان القول قول الغاصب؛ لأنه ادعى التحقيق، فإن طرحها يكون القول قول المغصوب منه؛ لأنه ادعى التحقيق والغاصب ادعى التخيير، فالقول قول من ادعى التحقيق ما لم يأت [بأمر] (¬1) يستنكر. والجواب عن الوجه الثاني: إذا اختلفا في الجنس يقول: غصبني هذا العبد، ويقول الغاصب: بل هذا الثوب فلا يخلو من أن يأتي الغاصب بما يشبه أو لم يأت به، فإن أتى بما يشبه، فالقول قول الغاصب. وإن أتى بما لا يشبه، فهل يقبل قوله أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يقبل قوله، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يقبل قوله، وهو قول أشهب فيمن غصب جارية، وقال: قد كانت صَمَّاء بَكمَاء عَمْيَاء، أن القول قوله، والذي قاله أشهب [في الجارية] (¬2) فيه نظر؛ إذ لا يكاد تجتمع هذه العيوب، ويرغب أحد في غصبها. والجواب عن الوجه الثالث: إذا اتفقا في الجنس، واختلفا في الصفة. مثل: أن يتفقا أنه عبد أو ثوب، فيأتي الغاصب بثوب أو عبد، فيقول: هذا الذي غصبتك، ويقول الآخر: عبدي أفضل، فالقول قول ¬

_ (¬1) في أ: بما. (¬2) زيادة من ب.

الغاصب مع يمينه. والجواب عن الوجه الرابع: إذا اتفقا على عين الشيء المغصوب، واختلفا في صفته. مثل: أن يتفقا على [أنه] (¬1) ثوب أو عبد، فأتى بعبد معيب، أو ثوب خلق، فيقول: هكذا اغتصبته، ويقول الآخر: بل [كان] (¬2) سليمًا وجديدًا، كان القول قول الغاصب مع يمينه ويسلمه لربه، فإن وجد المغصوب منه بينة أنه سليمًا أو جديدًا، أو الثوب قائم بيده، أو هلك، أو باعه، أو كان عبدًا، فأعتقه المغصوب منه، فإنه ينظر، فإن كان اختلافهما ليغرمه ما بين القيمتين رجع عليه بما بين قيمته جديدًا أو خلقا من غير مراعاة لحال الثوب، والعبد من وجود أو [فوات] (¬3). وإن كان اختلافهما ليضمنه، فقال الغاصب لا [أضمن] (¬4)؛ لأنه كان خَلِقًا كان للمغصوب منه أن يرجع على الغاصب بقيمته يوم غصبه جديدًا، ثم ينظر في الثوب، فإن كان قائمًا رده المغصب منه، وإن هلك كانت مصيبته من الغاصب؛ لأنه أكرهه على رده إليه، والقول قول ربه مع يمينه أنه هلك، ويرجع بالقيمة، وإن باعه أسلم الثمن الذي باعه به، وإن لبسه، فأبلاه غرم القيمة، وإن وهبه فقولان: أحدهما: أنه يتبع بقيمته كما لو لبسه، فأبلاه وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم. والثاني: أنه لا شيء عليه؛ لأن الغاصب باع له ذلك ظلمًا، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: فوت. (¬4) في ب: لا ضمان.

وعدوانًا، وجحودًا، لكن يتبع الموهوب له، فإن كان عبدًا فأعتقه، فعلى قول أشهب لا يغرم قيمته، ويلزم على قول ابن القاسم أن يغرمها. فاما إذا ادعى الغاصب هلاك ما غصب، فإن اتفقا على صفته، فهو ذاك، وإن اختلفا في صفته كان القول قول الغاصب على ما قدمناه. فإن ظهر المغصوب بعد ذلك، فلا يخلو من أن يظهر [من] (¬1) عند الغاصب أو من عند غيره. فإن ظهر من عند الغاصب، فلا يخلو من أن يكون الغاصب هو الذي أخفاه أم لا، فإن كان الغاصب هو الذي أخفاه لرغبته فيه وتحامله عليه بالغصب؛ لعلمه أن صاحبه لا يتبعه أصلًا ظنًا به، فلربه أن يأخذه ويرد ما أخذ من القيمة إذا علم ذلك من الغاصب، وسواء ظهر ذلك على وفق الصفة أو على خلافها. فإن لم يعلم أن الغاصب أخفاه أو ظهر من عند غير الغاصب، فإن ظهر على وفق الصفة فلا إشكال، وإن ظهر على صفة هي أعلى مما وصف الغاصب، هل يرجع على الغاصب بتمام القيمة أو يرد ما أخذ، ويأخذ شيئه؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة. أحدهما: أنه يرجع عليه بتمام القيمة، فكأن الغاصب وجبت عليه القيمة، فجحد بعضها، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو أشهر الروايات. والثاني: أنه يرد ما أخذ من القيمة ويأخذ عين شيئه إن شاء، وهكذا وقع في بعض روايات "المدونة"، وهي رواية أبي زيد، وأصبغ عن ابن القاسم في "المبسوط". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ووجه [القول بأنه يرجع بتمام القيمة ظاهر كما علل في الكتاب؛ لأن الحكم أوجب عليه القيمة، فجحد بعضها ووجه] (¬1) القول الثاني: أن القيمة إنما تجب على الغاصب بفوات الشيء المغصوب، فإذا حكم بها ثم ظهر، وانكشف أنه قائم، فالخيار للمغصوب منه بين التمادي على تتميم ذلك الحكم، أو نقضه ويأخذ عين شيئه؛ لانكشاف الأمر عن خطئه، وأنه وقع في غير محله [والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب.

المسألة الخامسة فيمن غصب شيئا ثم استحقه ربه وقد استهلكه الغاصب

المسألة الخامسة فيمن غصب شيئًا ثم استحقه ربه وقد استهلكه الغاصب ولا يخلو الشيء المغصوب من أن يكون مما يرجع إلى القيمة، أو مما يرجع إلى المثل. فإن كان مما يرجع إلى القيمة، فإنه يرجع بقيمة ذلك ببلد [الغاصب] (¬1) يوم الغصب يأخذه بتلك القيمة أينما لقيه من البلد إن نقصت القيمة، أو زادت في غير البلد، ولا خلاف في ذلك. وأما إن كان المغصوب مكيلًا أو موزونًا، فاستهلكه، فلا يخلو من أن يكون جزافًا [لا يعلم] (¬2) كيله أو مكيلته عرفت مكيلته. فإن كان جزافًا لم يعرف كيله، فهو كالعروض يغرم قيمته يوم غصبه. فإن قال المغصوب منه: أنا أغرمه من المكيلة ما لا شك أنه كان فيه. هل له ذلك أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك له. والثاني: أن ليس له ذلك. والقولان نقلهما اللخمي، ولم يذكر قائلهما، فإن كان مكيلًا عرف قدر مكيلته، فلا يخلو من أن يكون ذلك الجنس من الطعام موجودًا أو غير موجود. فإن كان موجودًا أو بأيدى الناس كثيرًا، فلا يخلو من أن يتغير سوق ¬

_ (¬1) في ب: الغصب. (¬2) في ب: لا يعرف.

ذلك الطعام أم لم يتغير سوقه، فإن تغير سوقه مثل أن يغصبه [في شدة] (¬1) ثم صار إلى رخاء، هل يغرم مثله أو قيمته؟ على قولين: أحدهما: أنه يغرم مثله، وهو قول ابن القاسم وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه يغرم قيمته، وهذا يتخرج على ما حكاه ابن شعبان أنه يغرم أعلى القيم؛ لأنه قد حرمه ذلك السوق. فإن لم يتغير سوقه، فلا يخلو من أن يلقاه بالبلد الذي غصبه فيه , أو في غيرها، فإن لقيه بالبلد الذي غصبه فيه، [فإنه يغرم قدر ذلك الطعام مكيله قولًا واحدًا، فإن لقيه بغير بلد الغاصب، فأراد أن يغرم المثل هناك، هل يمكن من ذلك أم لا] (¬2) فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يُمكَّن من ذلك، وإنما له المثل في بلد الغصب، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن ذلك جائزًا له أن يأخذ [منه] (¬3) المثل أينما لقيه؛ لأن المكيل، والموزون لا تختلف أقداره، وهو قول أشهب. فإن كان ذلك الجنس من الطعام غير موجود في ذلك الوقت، فالمذهب على قولين قائمين من المدونة. أحدهما: أنه ليس له إلا مثل طعامه في الموضع الذي غصبه فيه إلا أن يصطلحا على أمر جائز، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أن المغصوب منه بالخيار بين أن يصبر أو يأخذه بالقيمة الآن، وهو قول أشهب. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ.

وينبني الخلاف على الخلاف في السلم في الفاكهة إذا انقطع إبانها قبل أن يستوفي رب السلم كيله أو وزنه. إلا أن أشهب قد ناقض أصله في مسألة السلم؛ لأنه قال هناك: "ليس له إلا رأس ماله، ولا يكون مخيرًا؛ لأنه يصير دينًا في دين"، فينبغي على قوله ألا يكون له إلا القيمة هاهنا؛ لأنه إذا كان له أن يتعجل القيمة، فرضي بأخذ المثل إذا وجد صار كناسخ القيمة في شيء إلى أجل [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة السادسة في غلات الشيء المغصوب في الضمان

المسألة السادسة في غلات الشيء المغصوب في الضمان وغلات الشيء المغصوب تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: غلة متولدة [عن الشيء المغصوب على هيئته وشكله، وخلقته، وهي الولد. والثاني: غلة متولدة عنه] (¬1) على غير خلقته وهيئته وهي ثمر النخل، ولبن الماشية، وجبنها، وصوفها، وما أشبه ذلك. والثالث: غلل [غير] (¬2) متولدة عن الشيء المغصوب، وهي الأكرية، والخراجات وما أشبه ذلك. فأما ما كان متولدًا عنه على هيئته [وصفته] (¬3) وصورته، وهو الولد فلا خلاف بينهم أن على الغاصب رده مع الأم إن كانت الأم قائمة، وإن ماتت الأم كان مخيرًا بين الولد، وقيمة الأم. وأما ما كان متولدًا عنه على غير خلقته وهيئته، فاختلفوا فيه على قولين: أحدهما: أن ذلك للغاصب بالضمان لا يلزمه رده، وهذا القول حكاه ابن القصار عن مالك. والثاني: أنه يرده مع العين المغصوبة مع القيام أو مثلها مع الفوات، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وهي رواية أشهب، وعلي بن زياد عن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

مالك. وإن ادعى الغاصب ضياع الغلة لم يصدق؛ لأنه غير مأمون عليها، فإذا ظهر هلاكها، وأخذ الرقاب ربها لم يضمن ذلك الغاصب؛ لأنها ليست المغصوبة، وإن تلف الشيء المغصوب كان مخيرًا بين أن يضمنه قيمته، ولا شيء له في الغلة، وبين أن يأخذه بالغلة، ولا شيء له من القيمة. وأما ما كان غير متولد عنه، فقد اختلفوا فيه على ستة أقوال: أحدها: أنه يلزمه ردها جملة بلا تفصيل، وهي رواية أشهب، وعلي [بن زياد] (¬1) عن مالك، وهو قول ابن القاسم في المدونة في "كتاب الاستحقاق" في العقار، والحيوان، وفي "كتاب الجعل"، والإجارة في الحيوان. والثاني: أنه لا يردها جملة بلا تفصيل، وهذا قول حكاه ابن القصار عن مالك -رحمه الله. والثالث: أنه يغرم الغلة إن أكرى، ولا يلزمه شيء إن انتفع أو سكن أو عطل. والرابع: أنه يلزمه الغرم إن أكرى أو انتفع، ولا يلزمه إن عطل. والخامس: أنه يغرم غلة الزراع، والبقر، والغنم، والإبل، ولا يغرم غلة العبيد، والدَّواب، وهو قول ابن القاسم عن مالك على ما نقله اللخمي. والسادس: التفصيل بين الحيوان، والأصول، فيغرم غلة ما لا يسرع ¬

_ (¬1) سقط من أ.

إليه التغيير كالدور، والعقار، ولا يغرم غلة ما يسرع إليه التغيير كالعبيد، والحيوان، وهو قول أحمد بن المعدل. وسبب الخلاف: تعارض العمومين في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان" (¬1) وهو قول عام في كل من وجب عليه الضمان أن الغلة سائغة له بضمانه على عموم الخبر، وإن كان هذا الخبر واردًا [على سبب] (¬2) وهو الغلام الذي اختصما فيه عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وقد رده المشتري بالعيب، فمكنه النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) من الرد ثم إن البائع طلب الغلة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان" (¬4). إلا أن الأشهر عند الأصوليين أن اللفظ المستقل بنفسه إذا ورد على سبب أنه يجمل على عمومه، ولا يقتصر به على سببه. والثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لعرق ظالم حق" (¬5) يريد أن الظالم هو الغاصب، ولا حق له في المغصوب لا غلة ولا غيرها. [وقيل] (¬6) لعرقٍ بالتنوين [لا بالإضافة] (¬7)، والعرق ما أحدثه الغاصب من بناء أو غرس أو حفر على ما يأتي بيانه في كتاب تحريم الآبار إن شاء الله. فهذا الخبر أيضًا عام في كل ظالم، فمن رجح أحد الخبرين قال ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3508)، والترمذي (1285)، والنسائي (4490)، وأحمد (24270) من حديث عائشة، وحسنه الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى. (¬2) في أ: بسبب. (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه أبو داود (3509)، وحسنه الألباني -رحمه الله. (¬5) تقدم. (¬6) في أ: وقال. (¬7) في ب: لا على الإضافة.

بمقتضاه، ولا جرم، فإنه لم يخرج على منهاج الأصول إلا القولان المتقابلان لا غير. وما عداهما من جملة الأقاويل بموضع الاستحسان جارية على غير قياس، وهذا كله إذا غصب الأصل. وأما إذا غصب المنفعة دون الأصل، فإنه يرد الغلة قولًا واحدًا، سواء استغل أو استعمل أو عطل. واختلف في الغاصب إذا رد الغلات، هل يرجع بما أنفق على العبد، والدَّابة، وبالسقى، والعلاج، على ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه يرجع بذلك ما لم يجاوز الغلة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، و"الموازية". والثاني: أنه لا يرجع بشيء من ذلك، وهو قول ابن القاسم في "الموازية". والثالث: التفصيل بين أن يكون المغصوب منه ممن يتولى خدمة ذلك الشيء وعنايته أم لا؟ فإن كان ممن يتولى الخدمة بيده ويباشر السقى، والعلاج بيده، فلا شيء عليه في السقى، والعلاج. وإن كان ممن عادته أن يستأجر على مثل ذلك دون أن يباشره بنفسه، فإنه يغرم السقى، والعلاج، وهو قول أصبغ في "كتاب ابن حبيب" فيمن تعدّى على بقعة رجل فزرعها أو تعدى على زرعه فحصده. ووجه القول بأنه لا شيء له من قيمة السقى والعلاج، أن السقى لا عين له قائمة، فأشبه خياطة الغاصب، فإن صاحبها يأخذها بلا غرم؛ لأن الخياطة مستهلكة العين، والمغصوب منه إنما يغرم ما لو قلع [فانتفع] (¬1) ¬

_ (¬1) في ب: لا تنفع.

به. ووجه القول الثاني بأنه يرجع بقيمة السقى والعلاج، أن الثمرة كأنها هي عين السقى؛ لما كانت عنه ألا ترى أن الأجير يكون أحق بها في التفليس؛ لأنه لما أخرجها بعمله، فكأنه باعها، فكان أحق بها في التفليس، وهو في الموت أسوة الغرماء، والثمرة على هذا كأنها هي السقى، فلهذا وجب ألا يأخذها المغصوب منه حتى يدفع أجر السقى والعلاج. فإن كانت النفقة على ما لا غلة له كصغير لم يبلغ الخدمة أو دَابّة لم تبلغ أن تركب فأنفق عليه الغاصب حتى كبر، فالمذهب فيه على قولين: أحدهما: أنه لا يرجع عليه الغاصب بشيء مما أنفق، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أنه يرجع عليه بما أنفق؛ لأن ذلك مما لم يكن للمغصوب منه بد؛ لأن القصد بالإنفاق على ما له غلة ما ينال من غلته، فكان مقال الغاصب فيما نقلته نفقته من الصغر إلى الكبر أقوى منه فيما نما من الغلة، وهو قول أصبغ في الذي حصد زرع غيره، وقام عنه بالوظيفة بغير إذنه، وهو ظاهر قول محمَّد بن مسلمة في الذي ابتاع صغيرًا، فكبر عنده أو دابة عجفاء فسمنت [عنده] (¬1) أو [وديًا] (¬2) صغيرًا، فغرسه ثم استحق ذلك رجل أنه بالخيار بين أن يجيز البيع، أو يأخذ القيمة من المشتري؛ لأن الكبر فوت فمنع المستحق من أخذ الأصول لما نمت بنفقة المشتري، فإذا كان ذلك كان مقال الغاصب في النفقة في هذا الوجه أقوى منه في الغلة، فإن كان المغصوب عينًا، فاغتله بالتجارة فيها، أو كان طعامًا فاغتله بزرعه في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) وديًا: صغار النخل.

أرضه، فالغلة له [بضمانه] (¬1) قولًا واحدًا [في المذهب. والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) زيادة من ب.

المسألة السابعة فيمن ادعى على رجل أنه غصبه، أو ادعت امرأة على رجل أنه استكرهها

المسألة السابعة فيمن ادعى على رجل أنه غصبه، أو ادعت امرأة على رجل أنه استكرهها أما الأول إذا ادعى عليه أنه غصبه، فلا يخلو المدعى عليه من أربعة أحوال: أحدها: أن يكون معروفًا بالخير، والصلاح. والثاني: أن يكون مستور الحال. والثالث: أن يكون مما يشار إليه بذلك، ولم يشتهر به. والرابع: أن يكون معروفًا بذلك مشتهرًا به. فأما الوجه الأول: إذا كان المدعى عليه معروفًا بالخير والصلاح، فإنه لا يمين على المدعى عليه. وهل يؤدب المدعي أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يؤدب، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: [أنه] (¬1) لا يؤدب أصلًا، وهو قول أشهب. وأما الحال الثاني: إذا كان المدعى عليه مستور الحال من أوسط الناس، فإنه لا يمين له عليه، ولا يؤدب المدعى بذلك. وأما الحال الثالث: إذا كان ممن يشار إليه بذلك، وليس بمعروف به، فإن المدعى عليه يحلف، ولا يعاقب المدعي، فإن نكل المدعى عليه عن اليمين حلف المدعي واستحق. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وأما الحال الرابع: إذا كان معروفًا بذلك مشتهر به حلف، وضرب، وهُدِّد وسُجن، فإن تمادى على الجحود ترك، وإن اعترف بعد التهديد، هل يؤخذ بإقراره أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يؤخذ بإقراره سواء عَيَّنَ الشيء المدعى فيه أو لم يعينه؛ لأنه مكروه، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب القطع في السرقة". والثاني: إن عَيَّنَ الشيء أخذ بإقراره، وإن لم يعينه لم يؤخذ به، ومعنى تعينه أن يدعي عليه أنه غصبه ثوبًا مثلًا، فأخرج ذلك الثوب [بعينه] (¬1) بعد الضرب، والتهديد. والثالث: أنه يؤخذ بإقراره على كل حال جملة من غير تفصيل بين أن يُعَيِّن أو لم يُعَيِّن، وهو قول سحنون قال: ولا يعرف ذلك إلا من ابتلى به يريد القضاة، ومن شابههم. قال: لأن ذلك الإكراه كان بوجه جائز، وإذا كان من الحق عقوبته [ضربه] (¬2) وسجنه لما عرف من حاله لم لا يأخذه بإقراره أو لا فائدة للتضييق عليه إلا لذلك. قال: وإنما الإكراه الذي لا يؤخذ به ما كان ظلمًا أن يهدد، ويضرب من لا يجوز فعل ذلك به. وقد أجمع المسلمون على أن من أسلم بعد القتال، والسيف أنه مسلم كالطائع بغير إكراه؛ لأنه إكراه بحق، ولو أكره ذمي على الإسلام لم يكن إسلامه إسلامًا إن رجع عنه، وادعى أنه إكراه؛ لأن الذّمة التي عقدت لهم تمنع من إكراههم على ذلك. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وأما الوجه الثاني: إذا ادعت امرأة أن فلانًا استكرهها، فلا يخلو من أن تكون لها بَيِّنَة على ما تَدَّعيه أم لا. فإن كان لها بَيِّنَة على ما تَدَّعِيه، فلا يخلو من أن تعاين البينة الغَصب والإصابة، أو تعاين الغصب دون الإصابة. فإن عاينت الغصب، والإصابة على حسب ما هو مشروط في الشهادة على الزنا، فإنه يغرم الصداق، ويقام عليه الحد. فإن عاينت الغصب دون الإصابة مثل أن يحملها بمعاينة البَيِّنَة حتى دخل بها ثم خرج فتقول: وطئني، فإنه لا يحكم عليه حكم الغاصب إلا أنه يؤدب، وعليه للمرأة جميع الصداق. وهل تحلف أم لا؟ قولان. فإن لم يعاينوا الغصب، ولا الإصابة، وادَّعت عليه أنه استكرهها، وغاب عليها, ولا بَيِّنة لها على دعواها، فإن ذلك ينقسم على وجهين: أحدهما: أنْ تَدَّعِي ذلك على رجل صالح لا يليق به ذلك. والثاني: أنْ تَدَّعِي ذلك على رجل متهم يليق به ذلك، وكل واحد من هذين الوجهين ينقسم على وجهين: أحدهما: أن تأتي مستغيثة متعلقة به متشبثة به فاضحة لنفسها تدمى إن كانت بكرًا. والثاني: أن تَدَّعِي ذلك من غير [أن تكون] (¬1) متشبثة به، ولا تدمى وهي بكر، فيأتي في جملة المسألة أربعة أقسام: فأما الوجه الأول من القسم الأول: وهي أن تَدَّعِي ذلك على رجل صالح لا يليق به ذلك، وهي غير متعلقة به. فلا شيء على الرجل قولًا ¬

_ (¬1) سقط من أ.

واحدًا، أو تحد حد القذف، وحد الزنا إن ظهر بها حمل، وإن لم يظهر بها حمل، فهل تحد حد الزنا؟ فالمذهب يتخرج على قولين: أحدهما: أنها تحد، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم. والثاني: أنها لا تحد، وهو الذي يأتي على [قول] (¬1) أشهب. وهذا الخلاف ينبني على اختلافهم فيمن أقر بوطء أمة رجل، وادعى أنه اشتراها منه أو ادعى أنه تزوجها، فقد قال ابن القاسم: إنه يحد، وقال أشهب: إنه لا يحد. وكذلك الحكم في المجهول الحال في هذا الوجه إذا كانت [هي] (¬2) مجهولة الحال، ولم تكن من أهل الصون، وأما إن كانت من أهل الصون، وكان مجهول الحال: فإنه يتخرج وجوب الحد للقذف عليها له على قولين؟ ويحلف بدعواها على القول بأنها لا تحد له، فإن نكل عن اليمين حلفت هي، وكان لها صداقها عليه. وأما الوجه الثاني من القسم الأول: وهي أن تدعي ذلك على رجل صالح لا يليق به ذلك، وتأتي متعلقة به متشبثة قد بلغت من فضيحة نفسها: فإنها يسقط عنها حد الزنا في هذا الوجه، وإن ظهر بها حمل؛ لما بلغت من فضيحة نفسها. واختلف هل تحد له حد القذف أم لا؟ على قولين: [أحدهما] (¬3): أنها تحد حد القذف، وهو قول ابن القاسم. ¬

_ (¬1) في ب: مذهب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

والثاني: أنها لا تحد له حد القذف، وهو قوله في "الواضحة". وعلى القول بأنها تحد له: فلا يمين لها عليه، وعلى القول بأنها لا تحد له: فيحلف على تكذيب دعواها، فإن نكل عن اليمين حلفت، واستحقت عليه صداقها، وهذا إذا كانت [ممن] (¬1) تبالي بفضيحة نفسها: فإنها تحد له، قولًا واحدًا. وأما الوجه الأول من القسم الثاني: وهو أن تدعي ذلك على من يشار إليه بالفسق، ولا تأتي متعلقة به: فهذا الوجه لا يجب عليها فيه حد القذف للرجل، ولا حد الزنا لنفسها إلا أن يظهر بها حمل، ولا صداق لها، وينظر الإمام في أمره؛ فليسجنه ويبحث عن أمره، ويفعل فيه بما ينكشف له منه، فإن لم ينكشف في أمره بشيء: استحلف، فإن نكل عن اليمين: حلفت المرأة، واستحقت عليه صداق مثلها. وأما الوجه الثاني من القسم الثاني: وهو أن تدعي [بذلك] (¬2) على من يشار إليه وتأتي متعلقة به متشبثة تدمى إن كانت بكرًا: فهذا الوجه يسقط عنها فيه حد القذف للرجل، وحد الزنا إن ظهر بها حمل، واختلف في وجوب الصداق لها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها يجب لها صداق مثلها، وهي رواية أشهب عن مالك؛ لأنه أوجب للأمة ما نقصها، فأحرى أن يجب للحرة صداق المثل. والثاني: أنها لا يجب لها عليه صداق، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم. والثالث: أنها يجب لها الصداق، وإن كانت حرة، ولا يجب لها شيء إن كانت أمة، وهو قول ابن الماجشون في "الواضحة". ¬

_ (¬1) في أ: مما. (¬2) سقط من أ.

وعلى القول بأنها يجب لها الصداق بدعواها مع ما بلغت بنفسها، هل يجب بيمين، أو بغير يمين؟ قولان: أحدهما: أنها تأخذه بغير يمين، وهو قول أشهب. والثاني: أنها لا تأخذه إلا بيمين، وهو قول ابن القاسم، وهو الأظهر عند أهل النظر. فإن كان الرجل مجهول الحال لم يكن لها عليه صداق إن حلف، فإن نكل وحلفت: أخذت صداقها [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الثامنة فيمن اشترى أرضا أو غصبها فبنى فيها ثم استحقت

المسألة الثامنة فيمن اشترى أرضًا أو غصبها فبنى فيها ثم استحقت فإن غصبها وبنى فيها ثم استحقت: فالمستحق بالخيار؛ إن شاء ضمنها [قيمة] (¬1) أرضه، وإن شاء أمر بقلع بنيانه، ويعطيه قيمته [منقوضًا] (¬2)، ويأخذه إن كانت له قيمة، على التحصيل الذي في أثناء الكتاب. فإن اشتراها وبنى فيها: فقد قال ابن القاسم في المدونة: إن المستحق بالخيار؛ فإن أحب أخذها، وأعطى المشتري قيمة [بنائه] (¬3)، وإن أبى قيل للباني: أعطه قيمة أرضه براحًا، فإن أبيا: كانا شريكين؛ هذا بقيمة أرضه، وهذا بقيمة بنائه قائمًا، وهذا نص المدونة في المسألة. والخلاف في المذهب في هذه الوجوه الثلاثة. فإذا اختار أن يعطيه قيمة بنائه، هل يعطيه قيمة بنيانه أو ما زادت قيمته؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن عليه قيمة البناء قائمًا، وهو قول ابن القاسم [في المدونة] (¬4). والثاني: أن عليه ما أنفق، لا القيمة، وهو [نص] (¬5) قوله في "العتبية". ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: مقلوعًا. (¬3) في ب: بنيانه. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ.

والثالث: أن يعطيه ما زاد البناء على قيمة الأرض، وهو قول محمد ابن مسلمة، فإن لم يزد شيئًا، فلا شيء له. والرابع: أن عليه [الأقل] (¬1) من قيمة البناء أو ما زاد. فإن كان قيمته أقل: أخذها، [فكأنه] (¬2) قد أخذ قيمة سلعته، فإن كانت الزيادة أقل: لم يكن له غيرها؛ لأن الأرض أصل وصاحبها يقول: قيمة أرضي اليوم براحًا مائة دينار، وهي قائمة العين لم يذهب منها شيء، وقد كنت قادرًا على أن آخذ فيها ذلك الآن، فليس لك إلا ما زاد على المائة. فإن اختار أن يضمنه قيمة الأرض، ويسلمها للباني، ولا يعطيه قيمة العمارة: فقد اختلف فيه على قولين: أحدهما: أن الباني يعطيه قيمة أرضه من الآن، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن له قيمة أرضه يوم كان بني فيها، وهو قول أشهب في "المجموعة". والأول أَبْيَن وأصح؛ لأن البناء لم يفوتها على صاحبها، وقد كان له أن يأخذها. فإن امتنع المستحق من دفع قيمة البناء، هل يجبر على أن يأخذ قيمة أرضه، أو يكونا شريكين؟ أو رضي يأخذ قيمة أرضه، هل يجبر الباني على دفعها، أو يكونا شريكين؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: فكان.

فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الباني يمكن من دفع قيمة الأرض إذا طلب ذلك، أو أبى صاحب الأرض من دفع قيمة البناء. والثاني: أن الباني لا يمكن من ذلك، ويكونا شريكين؛ لأن المستحق يقول له: أنت، وإن كنت بنيت بشبهة، فليس ذلك مما يوجب عليَّ أن أشتريه منك، أو أخرج لك من ملكي. والقولان لمالك -رضي الله عنه. ولا يختلف أنه لو وقع الثوب في قدر صباغ، ولم يرض صاحب الثوب بدفع قيمة الصبغ: أنه ليس لصاحب الصبغ أن يدفع قيمة الثوب جبرًا، فإذا لم يكن ذلك له مع كون ذلك من غير سببه، كان إذا كان ذلك من سببه، وهو كالمخطئ على [ملك] (¬1) غيره أبين ثم تكون الشركة بالأقل من قيمة البناء أو ما زادت القيمة، فإن استحق [نصف] (¬2) تلك الأرض، ودفع العوض عن البناء: كانت الشفعة في النصف الآخر. فإذا لم يرض بأخذ البناء، وأخذ قيمة الأرض، هل تسقط الشفعة أم لا؟ على قولين، والصحيح: أنها تسقط إذا سلم الأرض المستحقة، وأخذ القيمة؛ لأنه قد باع ما يستشفع به، ولم يبق له في الأرض [شيء] (¬3). فإذا كانا شريكين، هل تسقط شفعته أم لا؟ على قولين أيضًا، والصحيح: أنها لا تسقط شفعته، وأنها واجبة [له] (¬4)؛ لأن الشفعة ¬

_ (¬1) في ب: مال. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: لها.

تجب في الشيء الكثير بالجزء اليسير؛ لأنه قد بقى له من الأرض التي استحقها بشيء له يستشفع. تم الكتاب، والحمد لله، وصلى الله على محمد وآله.

منَاهِجُ التَّحْصِيلِ وَنَتائجُ لَطائِفِ التَّأْوِيلِ في شَرْحِ المدونةِ وحَلِّ مُشكِلاتهَا تَأليف أبي الحسَنَ عَليّ بن سَعيد الرجْراجي تَقديم فَضيلَة الشّيخ الأستَاذ الدكتور عَلي عَلي لُقَم اعتَنَى بهِ أبو الفَضل الدّمَياطي أحمَد بن عَليّ الجُزُء التَّاسِع مَركز التّراث الثقَافي المغربي دار ابن حزم

حُقُوقُ الطَّبْعِ مَحْفُوظَةٌ الطبْعَة الأولى 1428هـ -2007م ISBN 9953 - 81 - 431 - 7 الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها مركز التراث الثقافي المغربي الدار البيضاء - 52 شارع القسطلاني - الأحباس هاتف: 442931 - 022/ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هاتف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

منَاهِجُ التَّحْصِيلِ وَنَتائجُ لَطائِفِ التَّأْوِيلِ في شَرحِ المدَوَّنَةِ وحَلَّ مُشكِلاتهَا (9)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كتاب الاستحقاق

كتاب الاستحقاق

كتاب الاستحقاق تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها خمس مسائل: المسألة الأولى فيمن اكترى أرضًا فزرعها, أو غرسها، أو دارًا فسكنها ثم استحقها رجل فلا يخلو المكري من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون مشتريًا. والثاني: أن يكون غاصبًا. والثالث: أن يكون وارثًا. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان المكري مشتريًا، فلا يخلو المكري من ثلاثة أوجه: إما أن يسكن أو يبني، أو يغرس، أو يزرع. فأما الوجه الأول من الوجه الأول: إذا كانت دارًا، فسكنها المكتري، ثم استحقها رجل: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يستحقها قبل أن يسكن المكتري. أو بعد انقضاء [أمد السكنى] (¬1). أو استحقها في أثناء المدة. فأما إن استحقها بعد عقد الكراء، وقبل الشروع في السكنى: فالخيار ذلك للمستحق بين الفسخ، أو إمضاء الإجارة بالمسمى. ¬

_ (¬1) في ب: المدة.

فإن اختار الإمضاء: فلا مقال في ذلك للمكتري، ولا خلاف في ذلك إلا ما تأول من مسألة الغاصب، ويكون جميع الكراء للمستحق إن أجاز الكراء، ولا شيء فيه للمكري الذي استحق من يده، سواء انتقد الكراء أو لم ينتقده. فأما إن استحقها بعد انقضاء أمد الإجارة: فإن جميع الكراء يكون للمكري؛ لأن الغلة له بالضمان؛ لكونه مشتريًا، وقد استغل بوجه شبهة بخلاف الغاصب، على ما سنذكره في حكمه إن شاء الله. وأما إن استحقها في أثناء المدة: فإن الماضي من المدة يكون كراؤها للمكري، ولا مقال فيه للمستحق، وإنما مقاله في الباقي إن شاء فسخ فيه الكراء، وإن شاء جوزه [فيه] (¬1) بقدر ما ينوبه من المسمى. وأما الوجه الثاني من الوجه الأول: إذا كانت أرضًا، فبنى فيها أو غرس: فلا يخلو من أن يستحقها المستحق قبل انقضاء المدة، أو بعد انقضائها. فإن استحقها قبل انقضاء المدة، فإن ما مضى من المدة للمكري، ويخير المستحق في الباقي بين أن يفسخ الكراء أو يجيزه [على أحد القولين في جواز جميع السلعتين في البيع. وعلى القول الآخر يمنع من جواز ذلك؛ لأن حقه] (¬2) على ما بقى من مدة الكراء مجهول، وذلك بيع بثمن مجهول؛ إذ لا يعرف ذلك إلا بعد التقويم. فإن اختار فسخ الكراء على القول بأن له أن يجيزه: فإنه يعطي للغارس قيمة غرسه، وبنائه قائمًا إلى أجل، فإن أبى: أعطاه الغارس قيمة أرضه براحا، فإن أبيا: كانا شريكين ثم يرجع المكتري على المكري بما بقى له من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الكراء إن انتقده منه. واختلف بماذا يكون المكتري شريكًا على قولين: أحدهما: أنه يكون شريكًا بقيمة بنائه، وشجره على بقائه [وثباته] (¬1) في تلك الأرض إلى ذلك [الأمد] (¬2)، وهو مذهب المدونة. والثاني: أنه يكون شريكًا بما زاد البناء، والغرس كما قال في الصبغ في أحد أقوال المذهب، وقد اعترض على قول ابن القاسم في الكتاب، حيث قال: إن المكتري يرجع على المكري بجميع الثمن مع أن المكتري قد انتفع بتقويم غرسه وبنائه على أنه باق [إلى] (¬3) عشر سنين، فتزيد بذلك قيمته، فيصير قد انتفع بعض الانتفاع بالأرض التي اكتراها، فكيف يرجع على المكري بجميع كراء ما بقى له مع انتفاعه بالكراء الذي أكرى منه، وهذا الاعتراض لازم لابن القاسم، ولا انفصال عنه. فإن استحقها بعد انقضاء المدة: كان الكراء للمكتري، ولا حق فيه للمستحق، ويبقى سلطانه على المكتري، فيخير [عليه] (¬4) بين أن يأمره بقلع غرسه، ونقض بنيانه، أو يعطيه قيمته مقلوعًا، على نعت ما تقدم في كتاب الغصب. وأما الوجه الثالث [من الوجه الأول] (¬5): إذا كانت أرضًا فاكتراها للحرث، ثم استحقت: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يستحقها قبل أن يعمل فيها عملًا، أو بعد أن حرثها, ولم يزرع، أو بعد أن زرع. فأما إن استحقها قبل أن يعمل فيها المكتري عملًا، وكان ذلك في زمن ¬

_ (¬1) في أ: ونباته. (¬2) في ب: الأجل. (¬3) في أ: على. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ.

عملها: فالخيار في ذلك للمستحق، إن شاء جوز الكراء، ويكون له جميع الكراء، وإن شاء فسخه،، ولا إشكال في ذلك. فإن استحقها بعد أن حرثها المكتري، وقبل أن يزرع: فقد اختلف فيه على قولين: أحدهما: أنه لا شيء للمستحق [في الكراء] (¬1). والثاني: أنه بالخيار بين أن يعطيه قيمة حرثه، فإن أبى: أعطاه الآخر قيمة كرائها، فإن أبى: هل يكونان شريكين أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن المكتري إذا أبَى أن يدفع قيمة كرائها: أنه يسلم الأرض بحرثه لربها, ولا شيء له عليه، وهو قول ابن القاسم في المستخرجة، وهو أحد الأقوال في كتاب "تضمين الصناع": إذا لم يدفع القاطع قيمة الثوب أسلمه بخياطته. والثاني: أنه يكون [شريكًا له] (¬2) في كراء هذه السنة بقيمة الحرث إن أكريت، فيكون لهذا قيمة الأرض بلا حرث، ولهذا قيمة الحرث، فما [أكريت] (¬3) به اقتسماه على ذلك، وإن لم يجد من يكتريها منه، وأكريت في العام الثاني: فعلى مثل ذلك إلا أن تذهب منفعة ذلك الحرث فلا يكون للذي حرثها شيء، وهو قول سحنون في مسألة تضمين الصناع: أن القاطع يشاركه [بالخياطة] (¬4). فإن باعها المستحق لم يكن للذي زرعها شيء إلا أن يزيد الحرث في الثمن: فيكون له ذلك الزائد. ¬

_ (¬1) في أ: للكراء. (¬2) في أ: له شريكًا. (¬3) في ب: اكتريت. (¬4) في أ: في الخياطة.

فأما إن استحقها بعد أن زرعها المكتري: فلا يخلو من وجهين: إما أن يكون ذلك قبل فوات الإبان، أو بعد فواته، فإن كان ذلك قبل فوات الإبان: فالكراء للمستحق. واختلف في القدر الذي يصير له منه على قولين: أحدهما: أنه يكون له جميع الكراء، وهو قول ابن القاسم في المدونة؛ لأنه جاء في إبان الزراعة، وهو يدرك أن يزرع لولا ما عطل به المكتري الأرض، وهو أيضًا زرع بوجه شبهة، فلا يقدر المستحق على أن يأمر له بقلع زرعه. والثاني: أنه إن ذهب أول الإبان: كان للمكتري الأول بقدر ذلك من الكراء؛ لأن بقاء الزرع ذلك الأمد قبل قدوم المستحق له قدر من الكراء، وقد لا يكون زرعه اليوم لو ابتدأ زرعه مثل تبكيره بالزرع، فيكون للمستحق قدر ما ينوب الوقت الذي يستحقها فيه، وهو قول عبد الملك. واختلف إذا قدم المستحق في الإبان، وخاصم فحكم له بعد ذهابه، هل يكون للمكتري، أو للمستحق؟ على قولين حكاهما اللخمي. وأما إن قدم بعد فوات الإبان: فلا يخلو من أن تكون الأرض تزرع بطنًا واحدًا، أو أرضًا تزرع بطونًا. فإن كانت أرضًا تزرع بطنًا واحدًا: فالكراء في هذا الوجه للمكري، قولًا واحدًا. فإن كانت أرضًا تزرع بطونًا، فزرع بطنًا فاستحق قبل أن يزرع [البطن] (¬1) الثاني: كان الماضي للمكري الأول، والباقي للمستحق، ويكون ¬

_ (¬1) سقط من أ.

له الخيار بين أن يجيز الكراء، أو يفسخه، فإن جوزه: كان له الخيار أيضًا إن شاء لزمه المسمى، وإن شاء لزمه كراء المثل؛ لأن حق الزارع في ألا يقلع زرعه فقط، وليس حقه في أن يكون ما عقد به المكري لازمًا للمستحق. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كان المكري غاصبًا: فلا يخلو المكتري من الأقسام التي قدمناها؛ إما أن يكون سكن، أو بناء أو غرس، أو زرع. فإن كان دارًا فسكنها: فلا خلاف في المذهب أن له الخيار فيما بقى من المدة إن شاء جوز فيها الكراء، وإن شاء [فسخه] (¬1) على الخلاف الذي قدمناه إذا جوز هل يجوز أم لا. واختلف في كراء ما مضى من المدة، هل يكون للمكري، أو للمستحق. ومبنى هذا الخلاف: على الخلاف الذي قدمناه في غلَّات الشيء المغصوب لمن تكون. فإن بني أو غرس: فلا يخلو من أن يعلم المكتري بالغصب، أو لا يعلم. فإن علم بالغصب: فحكمه حكم الغاصب في جميع وجوه الغصب. فإن لم يعلم به: فإن المستحق يخير بين أن يجيز الكراء بقية المدة، أو ينقضه فيعطيه قيمته قائمًا إلى الأجل الذي أكرى إليه، على ما بيناه في الفصل الذي قبله. فإن زرع: فلا يخلو من أن يعلم بالغصب، أو لا يعلم. ¬

_ (¬1) في أ: فسخ.

فإن لم يعلم بالغصب: فحكمه حكم من اكترى من مشترٍ، وقد قدمناه. فإن علم بالغصب: فحكمه حكم الغاصب إذا غصب أرضًا، فزرعها ثم استحقها ربها: فلا يخلو من أن يستحقها في إبان الزراعة، أو بعد فوات الإبان. فإن استحقها في إبان الزراعة: فهو أحق بأرضه سواء أدركها قبل أن يزرعها الغاصب [أو] (¬1) بعد أن زرعها، إذا لم يبرز الزرع من الأرض، فإن برز من الأرض، وظهر: فلا يخلو من أن يبلغ مبلغًا [يقع به الانتفاع أو لا يبلغه. فإن بلغ أن] (¬2) ينتفع به إن قلع: فالزرع للغاصب، وللمستحق أن يأمره بقلعه ليفرغ له أرضه، ويتمكن من زراعته. فإن اختار المستحق أن يدفع قيمته مقلوعًا، ويقر الزرع في أرضه، هل يجوز ذلك له أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك له، وهو مذهب المدونة. والثاني: أن ذلك لا يجوز له؛ لأن ذلك من باب بيع الزرع قبل بُدُو صلاحه على التبقية. والأول أظهر؛ لأن النهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها على البقاء: إنما أراد بذلك إذا كان للبقاء ثمنًا, ولا يدري هل يسلم أو لا يسلم، وفي مسألتنا: فإنه يدفع قيمته مقلوعًا مطروحًا، وليس للبقاء ثمن. ¬

_ (¬1) في أ: أم. (¬2) سقط من أ.

فإن بلغ للزرع مبلغًا لا يقع به الانتفاع في حين الاستحقاق: فإن الزرع لصاحب الأرض بلا قيمة؛ كما لو كان الاستحقاق قبل البروز، إلا أن يشاء أن يكلف الزارع [قلعه] (¬1): فإن ذلك له. وأما إذا وقع الاستحقاق بعد خروج الإبان، هل يكون الزرع للغاصب، أو للمغصوب منه؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الزرع للغاصب، وعليه كراء الأرض، وهو قول مالك في المدونة. والثاني: أن الزرع للمغصوب منه الأرض، وإن خرج الإبان وطاب الزرع أو حصد، وهذا القول مروي عن مالك أيضًا. والثالث: أن الزرع للغاصب، وللمستحق أن يقلعه، ويأخذ أرضه، وهي رواية ذكرها أبو محمَّد عبد الوهاب القاضي في المذهب، والرواية الثانية حكاها الشيخ أبو الحسن اللخمي. فوجه القول الأول: أن المستحق إذا استحق أرضه، وقد فات إبان الزرع: لا حق له في الزرع، وإنما حقه في كراء أرضه الذي انتفع به الغاصب لا أكثر، فإذا أخذه لم يظلم. ووجه القول الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لعرق ظالم حق" (¬2). ووجه القول الثالث: ما رواه الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من زرع أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته" (¬3)، ولم ¬

_ (¬1) في أ: قطعه. (¬2) تقدم. (¬3) أخرجه أبو داود (3403)، والترمذي (1366)، وابن ماجة (2466)، وأحمد (17308) من حديث رافع بن خديج، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى.

يفرق بين القيام في الإبان، ولا بعده. والجواب عن الوجه الثالث من أصل التقسيم: إذا كان المستحق وارثًا؛ مثل أن تكون دارًا بيد رجل فسكنها، أو أكراها من غيره، أو كانت أرضًا فزرعها واستغلها زمانًا: فلا يخلو من كان ذلك الشيء بيده من ثلاثة أوجه: إما أن يكون استغل، أو استعمل، أو عطل. فإن استغل: فلا يخلو من أن يكون وارثًا طرأ عليه من يشاركه في الميراث، أو كان وارثًا ثم طرأ عليه من يحجبه عن الميراث. فإن كان وارثًا وبيده دار أو أرض يستغلها ويأخذ خراجها، وما يتولد منها من سائر أنواع الغلات، ثم طرأ عليه أخ يشاركه في الميراث: فلا يخلو الأخ الذي أكرى أو استغل من أن يكون قد حابى في الكراء, أو لم يحاب. فإن لم يحاب في الكراء: فلا يخلو المكتري من أن يكون عالمًا بتعدي المكري، أو غير عالم، فإن كان عالمًا: فحكمه حكم المتعدي سواء في جميع وجوه التعدي، على حسب ما بيناه في كتاب الغصب. فإن كان غير عالم: فلا شيء عليه من قبل المستحق؛ لأنه استغل بوجه شبهة، وإنما سلطانه على أخيه الذي يقبض الغلة لنفسه. فأما إذا حابى في الكراء: فلا يخلو أمرهما من ثلاثة أحوال: إما أن يكونا موسرين، أو معسرين، أو أحدهما موسر، والآخر معسر. فإن كان المكتري والمكري موسرين: فلا يخلو المكرى من أن يكون عالمًا بأخيه، أو غير عالم؛ فإن كان عالمًا، فهل يبدأ بالمحابِي، أو بالمحابَي

الذي هو الموهوب له؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من المدونة: أحدها: أنه يبدأ بالأخ المحابي، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أنه يبدأ بالموهوب له -وهو المكتري- وهو قول الغير في الكتاب. والثالث: أنه مخير يبتدئ بأيهما شاء، وهو قول أشهب. وسبب الخلاف: ما قدمناه في المسبب والمباشر أيهما أولى بالغرامة، والقول بالتخيير مساواة الجانبين في وجوب الضمان، فكل واحد من الوجهين على الانفراد. فإن كانا معسرين: فله أن يتبع من أيسر منهما أولًا. فإن كان أحدهما موسرًا، والآخر معسرًا: فله أن يتبع الموسر منهما، فإن كان المتعدي هو الموسر منهما على القول بأن التبدئة للموهوب له، هل للمتعدي المحابي أن يرجع على المحابى بما غرم من قيمة المحاباة أم لا؟ على قولين، وقد قدمناهما في كتاب الغصب. فإن كان المحابي المكتري هو الموسر على القول بأن التبدئة بالمحابي المتعدي هل للمكتري المحابي أن يرجع بذلك القدر على المكري المحابى أم لا، على القولين. فإن لم يعلم بأن له أخًا، فعلى من يرجع المستحق؟ فالمذهب على قولين منصوصين في المدونة: أحدهما: أنه يرجع على الموسر منهما، فإن استويا في اليسر: كان له الرجوع على أخيه، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أنه يرجع بالمحاباة على المكتري في اليسر والعسر، ولا يتبع

الأخ بشيء، وهو ظاهر قول غيره في المدونة في "كتاب الاستحقاق"، ووقع لابن القاسم في "كتاب السرقة" مثل قول غيره هاهنا، واختلف المتأخرون هل قول الغير خلاف لقول ابن القاسم، أو وفاق؟ فمنهم من ذهب إلى الوفاق، وأن جواب ابن القاسم فيما إذا علم أن له أخًا، وأما إذا لم يعلم، فيكون كما قال الغير، وهو تأويل الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد، واستدل على ذلك بقوله في المدونة في كتاب الاستحقاق: "وفي المكتري يهدم الدار، فيهب له المكري قيمة الهدم، ثم يستحقها رجل: أن المستحق يطلب الجاني"، وقوله في العبد يسرق، فيموت فيهب المسروق منه قيمته للسارق ثم يستحق: أن المستحق يطلب السارق، ولا يطلب الواهب؛ لأنه فعل ما يجوز له، ولم ينتفع ولا باع، وذهب غيره إلى أنه خلاف، وسواء علم أو لم يعلم -على قول ابن القاسم- وهو أسعد بظاهر الكتاب؛ لأنه متعد في هبة شيء في يديه من ملك المستحق، ومسألة هبة الهادم والسارق ليس بهبة شيء حصل في يديه، ولا تعدى عليه، وهبته له في الحقيقة كهبة الأجنبي لما ليس في يديه، فلا يلزمه منه شيء. والحكم فيما بقى لم يستوفى من مدة الكراء في حين الاستحقاق تقدم فيه الكلام في كتاب الغصب. وأما إن طرأ عليه من يحجبه عن الميراث جملة؛ مثل أن يكون أخًا للميت ثم طرأ له ولد: فإنه يكون حكمه حكم من استحق بيده شيء، وليس هو بغاصب ولا علم بالغصب في جميع وجوه المسألة: فلا فائدة للتكرار. وأما الوجه الثاني من الوجه الثالث: إذا استعمل؛ مثل أن تكون دارًا فسكنها، أو أرضًا فزرعها، ثم طرأ عليه من يشاركه في الميراث , أو من يحجبه جملة.

فأما إذا طرأ عليه من يشاركه في الميراث: فلا يخلو من أن يكون عالمًا، أو غير عالم. فلو كان عالمًا: فللأخ الرجوع عليه بحصته من الكراء فيما سكن أو زرع. فإن كان غير عالم هل يرجع عليه أخوه بالكراء أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يرجع عليه بشيء، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه يرجع عليه بكراء نصيبه فيما سكن أو زرع، وهي رواية علي بن زياد عن مالك في المدونة. والثالث: التفصيل بين أن يكون في نصيبه ما يكفيه في السكنى والزراعة، ولم يصن بذلك ماله: فإنه لا يرجع عليه بشيء، وبين ألا يكون في نصيبه ما يكفيه في سكناه أو حرثه: فيلزمه لأخيه نصف الكراء؛ لأنه قد صون بذلك ماله، ولولاه لاكترى من ماله موضعًا يسكن فيه أو يزرع، وهي رواية عن ابن القاسم أيضًا، وهذا القول قائم من المدونة أيضًا من قول ابن القاسم في الكتاب، وعنى به: أن لو علم لم يسكن نصيب الأخ، ولكان في نصيبه من الدار ما يكفيه، وظاهره: أنه إذا لم يكن فيه ما يكفيه لزمه الكراء. وأما إذا طرأ عليه من يحجبه عن الميراث: فينبغي أن يرجع بكراء ما سكن أو زرع، قولًا واحدًا. وأما الوجه الثالث من الوجه الثالث: إذا عطل؛ مثل أن تكون دارًا فغلقها، أو أرضًا فبورها: فإنه لا شيء عليه في نصيب الطارئ؛ لأنه لم يستغل ولا استعمل ولا غصب شيئًا، والحمد لله وحده.

المسألة الثانية في استحقاق الأمة في البيع وقد وطئت

المسألة الثانية في استحقاق الأمة في البيع وقد وطئت فلا تخلو من وجهين: إما أن توطأ بملك، أو بنكاح. فإن وطئت بملك اليمين: فلا تخلو من أن تلد من وطء واطئها، أو لم تلد. فإن لم تلد من واطئها: فلا تخلو من أن تستحق بحرية أو بملك. فإن استحقت بحرية، فهل لها الصداق على الواطئ أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها لا شيء لها من الصداق ولا غيره، وهو قول ابن القاسم في المدونة في كتاب الاستحقاق. والثاني: أن لها صداق المثل، وهو قول المغيرة. فإن استحقت بملك بعد أن وطئها المشتري، فإن كانت ثيبًا: فلا شىء عليه، وإن كانت بكرًا، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا شيء عليه مما نقصها الافتضاض، وهو قول مالك، وابن القاسم في المدونة. والثاني: أن عليه ما نقصها بمنزلة من اشترى طعامًا فأكله أو ثيابًا فلبسها، وهذا القول أيضًا قائم من المدونة من مسألة الثياب والطعام، وهو الصحيح؛ لأن المشتري لم يكن ضامنًا لها لو هلكت؛ لأنه يرجع على بائعه بالثمن.

فإن ولدت من واطئها: فلا يخلو الواطئ من أن يكون [وطئها] (¬1) بنكاح، أو وطئ بملك؛ فإن وطئ بنكاح وهو يظن أنها حرة، فهل يأخذها وقيمة الولد أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يأخذها وقيمة الولد، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه ليس له إلا قيمتها خاصة، وهو قول غيره [في] (¬2) مختصر ابن الجلاب. فإن وطئها بملك: فقد اختلف فيه قول مالك على ثلاثة أقوال كلها قائمة من المدونة منصوصة في المذهب: أحدها: أنه يأخذها وقيمة ولدها. والثاني: أنه يأخذ قيمتها وقيمة الولد. والقولان منصوصان في المدونة. والثالث: أنه يأخذ قيمتها ولا شيء عليه في الولد، وهذا القول الذي أفتى به مالك لنفسه في أم ولده إبراهيم لما استحقت، وبه أخذ من أصحابه ابن كنانة، وابن أبي حازم، وابن دينار، وابن الماجشون، والمغيرة، وأكثر المدنيين، وهذا القول قائم من المدونة، ولاسيما في بعض الروايات، وذلك أنه قال في الكتاب: يأخذها وقيمة الولد من والدهم، وهو الذي أخذ به ابن القاسم، وعليه جماعة الناس، ثم قال: وقد قال مالك مرة بقوله، ثم رجع عن ذلك فقال: يأخذ قيمة الجارية؛ لأن ذلك ضرر على المشتري -معناه: قيمتها فقط- ويؤخذ أيضًا من قول مالك آخر الباب حيث قال: وأما الجارية: فإنها ترد ما لم تحمل، فإذا حملت: كان على ¬

_ (¬1) في أ: وطئ. (¬2) في أ: من.

سيدها الذي حملت منه قيمتها للذي استحقها، فظاهره: قيمتها على تلك الحال. ولم يختلف قول مالك أنه لا يأخذ الولد، وإنما اختلف قوله هل يأخذ قيمته أم لا؟ وعلى القول بأنه يأخذ قيمة الولد هل قيمته يوم الحكم، أو يوم ولد؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة. أحدهما: أنه يأخذ قيمته يوم الحكم، وهو قوله في المدونة، وهو المشهور في المذهب. والثاني: أنه يأخذ قيمته يوم ولد، وهو قول المغيرة في كتاب ابن حبيب؛ لأنه من يومئذ تعينت قيمته للمستحق؛ إذ لا سبيل له إلى أخذه بعينه، فإذا عاش الولد إلى يوم الاستحقاق كانت له تلك القيمة كأنه لم يزل مالكًا لها. واختلف هل يقوم بماله [إن كان له مال. على قولين: أحدهما: أنه يقوم بغير ماله، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أنه يقوم بماله] (¬1) وهو أحد قولي المذهب في أمِّ الولد إذا جنت؟ وعلى القول بأنه يأخذ قيمتها، فهل يجبر المستحق على قبول القيمة، ويكون الخيار للمستحق منه؟ أو المستحق منه مجبور على دفع القيمة، ويكون الخيار للمستحق؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أحدهما: أن الخيار في ذلك للمستحق منه؛ إن شاء سلم له جاريته، وإن شاء أعطاه قيمتها، ويجبر على قبولها، وهو قوله في المدونة في كتاب الاستحقاق، وكتاب القسمة [لقوله: لأن في ذلك ضرر على المشتري ومعنى الضرر كون أم الولد رقًا لغيره، وقد يلحقه العار من ذلك ولاسيما إن كان من ذوي الهيبات، والمناصب فيستضر بذلك هو وولده، فإذا سلمها له، ورضى بإسقاط حق نفسه، وحق ولده فلا مقال في ذلك للمستحق. والثاني: أن الخيار في ذلك للمستحق، إن شاء أخذ شيئه، وإن شاء كلفه القيمة، فإذا اختار القيمة خير المستحق منه على دفعها، وهي رواية ابن القاسم في رواية عيسى عنه في العتبية، والموازية وهو قائم من المدونة من بعض الروايات، وقد قال في بعض روايات المدونة: إلا أن يكون في ذلك ضرر على سيدها، فترد إليه. هكذا وقعت الروايات في بعض نسخ المدونة في كتاب الاستحقاق وكتاب القسمة] (¬1) والضرر المعتبر في قطع المستحق، مثل أن يكون بها مغرمًا، وفيها محبًا، وبه ميل للصبابة إليها، فكونه مجبورًا على أخذ قيمتها، والحالة هذه -يكون مضرًا؛ إذ هو المالك، فيغلب ضرره على ضرر من ليس بمالك. وعلى هذه الرواية اعتدم بعض شيوخنا، وقال الشيخ أبو عمران الفاسي [رحمه الله] (¬2): أو يكون المستحق منه عديمًا بالقيمة، فيلحق الضرر المستحق في ذلك لا هو إلى القيمة، ولا هو إلى عين شيئه مع قيامه، وهذا التأويل أيضًا لائق بالرواية. وهل القيمة في ذلك يوم الحكم أو يوم الوضع؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب.

قولان، وقد قدمناهما في ذكر الابن، والكلام فيهما واحد. وعلى القول بأنه يأخذها وقيمة الولد: فإنه يؤخر حتى تضع فيأخذها وقيمة الولد، فإن أسقطته قبل ذلك، أو ماتت حتف أنفها: لم يكن له على الأب شيء. وعلى القول بأنه يأخذ قيمتها وقيمة الولد: فله أن يأخذ قيمتها الآن، ولا ينتظر الوضع، فإن ماتت قبل الحكم: فلا شيء عليه من قيمتها وعلى [القول بأنه ليس له إلا قيمتها ولا شيء عليه في الولد، فإنه يأخذ قيمتها يوم حملت، فإن ماتت قبل] (¬1) الوضع، وقبل الحكم لم تسقط عنه القيمة؛ لأنها بالحمل وجبت، كما قال في الأب إذا وطئ أمة ابنه، وكما قال في أحد الشريكين إذا وطئ أمة بينهما فحملت من وطئه، وهو نص قوله في كتاب ابن حبيب؛ فعلى هذا تكون أم الولد للواطئ بنفس الحمل. وعلى القول بأنه يأخذها مع قيمة الولد [أو قيمتها] (¬2) وقيمة الولد، فلا يخلو الولد من أن يكون حيًا، أو ميتًا. فإن كان الولد ميتًا: فلا يخلو من أن يموت حتف أنفه، أو مات مقتولًا. فإن مات حتف أنفه: فلا شيء على الأب من قيمته؛ لأن القيمة عوض عن تسليمه لما لم يتمكن فيه التسليم، فإذا مات فقد سقط العوض، ولا خلاف -أعلمه- في هذا الوجه إلا على القول باعتبار القيمة يوم ولد على مذهب المغيرة: فإنه لا ينظر إلى موته، ولا إلى قتله -عمدًا أو خطأ- ولا إلى ما أخذ فيه -قليلًا كان أو كثيرًا- لأن القيمة ثابتة عليه. فإن مات مقتولًا: فلا يخلو من أن يقتل عمدًا، أو خطأ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن قتل عمدًا فقتل فيه قاتله: فلا شيء على الأب أيضًا، فإن عفا الأب عن القود: فلا يخلو من أن يعفو على مال، أو على غير مال. فإن عفا على غير مال: كان الحكم فيه كما لو اقتص، فلا شيء عليه للمستحق. فإن عفا على مال: فللمستحق على الأب الأقل من قيمته يوم قتل، أو ما صالح به وعفا عليه، ويرجع المستحق على القاتل إن صالح على أقل من الدية بالأقل من بقية القيمة أو الدية، أو يرجع عليه بجميع الدية إن عفا الأب على غير مال، ما لم تكن أكثر من القيمة. فأما إن كان قتله خطأ: فالدية للأب. وهل يتبع المستحق الأب بشيء أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يتبعه بقيمة الولد، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا يتبعه بشيء كما لو مات؛ لأنه أخذ دية حر، وهو قول أشهب في الموازية، على القول بأن الأب يغرم القيمة، فلا يخلو من أن يقوم عليه المستحق قبل أن يقبض الدية من العاقلة، أو بعد ما قبضها. فإن قام عليه قبل أن يقبض الدية: فلا شيء عليه حتى يقبض فيقضي من أول نجم، فإن لم يوف منه فمن الثاني أو من الثالث حتى يستوفي جميع القيمة، وهذا إذا كانت القيمة أقل من الدية، وأما إذا كانت أكثر: فإن المستحق يتولى اقتضاءها من العاقلة. فإن قام عليه بعد أن قبضها، فإن كانت قائمة بيده أو أنفقها وعنده مال: فإنه يأخذ من عنده المستحق الأقل من قيمة الولد، أو ما أخذ في ديته. فإن لم يكن عنده مال، وقد أنفق الدية: فإن المستحق يتبع الأب، ولا

رجوع له على العاقلة؛ لأنهم غرموا دية الحر، والمقال فيها للأب، والسيد يستحق بالرق، والمقال له على الأب. وأما إن كان الولد حيًا: فلا يخلو من أن يكون سليمًا، أو جنى عليه فإن كان سليمًا: فالقيمة على الأب إن كان موسرًا من غير اعتبار بحال الابن في اليسر والعسر. فإن كان الابن معسرًا، أو الابن موسرًا، هل يغرم الابن [القيمة] (¬1) أم لا؟ [فالمذهب] (¬2) على قولين منصوصين في "المدونة" في "كتاب الاستحقاق": أحدهما: أن الابن يغرم القيمة؛ لأنها عنه أُدِّيَت، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا شيء على الابن، ويتبع المستحق الأب بالقيمة حتى ييسر، فيأخذها منه، وهو قول غيره في الكتاب. فإن وقع الاستحقاق بعد موت الأب: فلا يخلو الأب من أن يموت موسرًا، أو معسرًا. فإن مات موسرًا، فهل تؤخذ القيمة من ماله أم لا؟ أما على القول بأن القيمة وجبت يوم ولد: فلا تفريع، وأما على القول بأن القيمة [تجب] (¬3) يوم الحكم: فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: أن القيمة تؤخذ من مال الأب، وهو قول ابن القاسم في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

كتاب الجنايات من المدونة في أم الولد إذا جنت، ثم بموت السيد قبل أن يقام عليه، فقال ابن القاسم: لا شيء عليه، ولا عليها إذا مات فقيرًا. والثاني: أنه لا شيء على الأب بعد موته، ولا يؤخذ من ماله شيء، وهو قول الغير من مسألة أم الولد؛ لأنه قال: إنما يكون ذلك على السيد مع اليسر إذا أقيم عليه قبل أن يموت، وإلا فذلك عليها, ولا شيء على السيد، فخالف ابن القاسم في الوجهين؛ في يسره إذا مات، وفي أخذ القيمة من أم الولد [فعلى القول بأنه لا تؤخذ القيمة من مال الأب بعد الموت إن مات موسرًا أو مات وهو معسر، هل تؤخذ القيمة من الولد] (¬1) أم لا؟ فذلك على قولين: أحدهما: أن القيمة تؤخذ منه إن كان موسرًا، ويتبع بها إن كان معسرًا، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في المدونة؛ لأنه قال: فإن القيمة تؤخذ من الابن في عسر الأب إذا كان موسرًا، فإن كانا معسرين: فإن المستحق يتبع أولهما يسرًا. والثاني: أنه لا يتبع بشيء في العسر واليسر، وهو ظاهر قول غيره. فأما إن كان الولد مجنيًا عليه؛ مثل أن تقطع يده خطأ، فأخذ الأب نصف دية ولده، ثم استحق رِجل أمة، فإنه يكون للمستحق قيمة الولد أقطع اليد يوم يحكم له، فهذا نص المدونة على ما سنوضحه وضوحًا يزيح الإشكال، ويرفع الاحتمال إن شاء الله. وقد اختلف في دية [اليد] (¬2) التي أخذها الأب لمن تكون على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تكون للأب، فيؤدي منها القيمة، فإن فضل شيء فهو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

له، وهو ظاهر قوله في المدونة؛ حيث قال: يغرم الأب ما بين قيمته صحيحًا وقيمته أقْطع اليد، وكان الفضل للأب. والثاني: أن الأب يغرم القيمة من الدية، وما فضل يكون للابن، وهذا أحد أقوال سحنون، وهو تأويل أكثر المتأخرين على المدونة من قوله: "وكان الفضل للأب"، قالوا: معناه: يكون له النظر فيه؛ وهو الصحيح لأن الولد الصغير تحت نظر أبيه؛ لأن ذلك ملك للأب؛ إذ هو أرش الجناية على الولد، فبأي شيء يأخذه الأب، ويدل على هذا أيضًا قوله في أول المسألة: إذا قطعت يد الولد، فأخذ الأب نصف دية ولده، فدل أنه إنما قبض دية ولده لصغره. والثالث: أن الدية كلها للابن، وعلى الأب غرم قيمته ما لم تكن أكثر مما أخذ، وهو قول سحنون أيضًا. والرابع: أن دية اليد للابن، ولا شيء للمستحق على الأب ولا على الابن، وهو قول أشهب في الموازية في القتل إذا قتل خطأ، وحكاه ابن وضاح عن سحنون أيضًا، وقال: أنكر سحنون أن يكون على الوالد من قيمة ولده شيء، وقال: إنما تكون الدية للابن، وقول سحنون فيه اضصراب؛ لأنه [وإن قال: إن] (¬1) القيمة جميعها [لازمة] (¬2) للأب فيبقى أرش اليد للولد، فلم قال: لا يلزمه ما زاد على ما أخذ في اليد. فإذا قلنا بمذهب المدونة أن الأب يغرم الأقل من قيمته أقطع اليد يوم الحكم أو ما أخذ في ديته؛ وبيان ذلك أن ينظر إلى القطع، هل كان قبل الاستحقاق أو كان يوم الاستحقاق. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن كان [قبل] (¬1) الاستحقاق، فإن الولد يقوم ثلاث تقويمات: قيمته يوم الاستحقاق أقطع [وقيمته يوم الجناية سليمًا] (¬2) وقيمته يوم الجناية أقطع اليد، فيضاف ما بين قيمته يوم الجناية سليمًا، وقيمته يوم الجناية أقطع إلى قيمته يوم الاستحقاق، فيأخذه المستحق إلا أن يكون ما بين قيمته سليمًا يوم الجناية، وقيمته يوم الجناية أقطع أكثر من دية اليد التي أخذ الأب فلا يزاد عليها. وإنما يعتبر الأقل والأكثر فيما بين قيمته [سليمًا] (¬3) يوم الجناية، وقيمته أقطع يوم الجناية، وبين ما أخذ من الدية خاصة دون قيمته أقطع اليد يوم الاستحقاق؛ لأنها مستحقة للمستحق على كل حال؛ لأنها [عضو من] (¬4) الأعضاء الباقية القائمة التي لا يقدر على أخذها لحريتها [فتقدر] (¬5)؛ مثلًا: إن المستحق استحق الولد، وهو أقطع: فله قيمته يوم الاستحقاق، وعلى الحالة التي هو عليها، واستحق اليد يوم قطعت فله قيمتها يومئذ، فتكون له قيمة الولد دون يد يوم استحقه، وله قيمة الولد يوم قطعت ما لم تكن أكثر من دية اليد، فيكون هذا الولد قد استحق بعضه في وقت [وبعض في وقت] (¬6) آخر فقدر أن اليد مستحقة على حيالها يوم قطعت، وباقي أعضائه مستحقة يوم استحقت، فهما مستحقان؛ استحقت اليد يوم زالت عن الجسد، واستحق الولد دون يد يوم الاستحقاق، ويقوم كل مستحق يوم استحق كذا يتقرر، ويزول الإشكال الواقع في الكتاب فيها، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: سقيمًا. (¬4) في أ: عوض عن. (¬5) في ب: فيتقدر. (¬6) سقط من أ.

فتكون له قيمة الولد دون اليد يوم الاستحقاق، وتكون له قيمة اليد يوم قطعت ما لم تكن أكثر من ديتها، واليد بانفرادها لا قيمة لها، فاحتيج إلى أن يُقَوّم الولد يومئذ صحيحًا، ويُقَوّم أقطع، فما بين القيمتين هو قيمة الولد. ولولا اختلاف أوقات التقويم لغرم الأقل من قيمته صحيحًا، أو من قيمته مع ما أخذ من ديته، وكان الجواب مختصرًا. ولو كان القطع يوم الاستحقاق والحكم لقيل له ادفع الأقل من قيمته سليمًا الآن قبل قطعه، ومن قيمته مقطوعًا, ولا يحتاج هاهنا إلا إلى قيمتين: سليمًا ومقطوعًا. فإن كانت قيمته سليمًا أقل: لم يلزمه سواها، وكان ما فضل من الدية للابن، أو للأب على الخلاف الذي قدمناه. وصورة المسألة أن تقدر أن قيمته صحيحًا: مائة دينار والجناية يوم الاستحقاق، وقيمته أقطع: ستون دينارًا، فقيمته سليمًا -في هذه الصورة- أقل، فهذا الذي يغرم الأب، وليس للمستحق سواها؛ إذ لا مظلمة عليه في ذلك؛ لأنه يأخذ قيمة عبد. فإن قدرت أن قيمته سليمًا: ألف دينار، وقيمته أقطع: أربعمائة دينار: كانت القيمة -هاهنا- أكثر، ولا يغرم الأب إلا قيمته مقطوعًا مع ما أخذ من الدية. فافهم هذا التفسير والبيان، فما أظن وقع في المدونة أشكل من صورة هذه المسألة، ولا أصعب منها على المتعلمين. واعلم أنه إذا اختلفت أوقات التقويم، وكانت الجناية قبل يوم الاستحقاق حيث يقوم ثلاث تقويمات: أن قيمته يوم الاستحقاق أقطع

لازمة للأب على كل حال؛ لأن قيمته على تلك الصفة عوضًا عن الأعضاء الباقية، وإنما يعتبر الأقل، والأكثر فيما بين قيمته سليمًا يوم الجناية، وقيمته يومئذ أقطع، وفيما أخذ من ديته: فأيهما أقل فيؤديه مع قيمته مع الاستحقاق أقطع، فافهم هذا ترشد إن شاء الله. واختلف في الولد هل يقوم بماله أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يقوم بغير ماله، وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، وابن كنانة في "المجموعة". والثاني: أنه يقوم بماله، وهو قول المخزومي. والصحيح ما قاله ابن القاسم؛ لأنه أسعد بظاهر المدونة، وهو أسلم من الاضطراب؛ وذلك أنه قال في الكتاب: فإن ما فضل من دية يده تكون للأب، وقال أيضًا: فإذا كان الأب معسرًا، والابن موسرًا: فإن القيمة تؤخذ من مال الابن، فلو كان يقوم بماله، فأيّ فضل يبقى من الدية، وأي مال يكون للولد، فتؤدى منه القيمة؛ لأن القيمة لابد أن تكون أكثر من المال؛ لأن ماله من بعض صفاته. [فهذه] (¬1) غائلة غفل عنها من قال: [إنه] (¬2) بماله [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في ب: فيده. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الثالثة في الاستحقاق بعد الصلح

المسألة الثالثة في الاستحقاق بعد الصلح ولا يخلو الصلح من أن يكون على الإقرار، أو على الإنكار. فإن كان على الإقرار: فحكمه حكم البيع , ولا إشكال في ذلك. وإن كان على الإنكار؛ كمن ادعى دارًا فصالح على عبد، ثم استحق أحدهما: فلا يخلو من أن يكون العبد هو المستحق، أو الدار هي المستحقة؛ فإن استحقت الدار التي بيد المدعى [عليه] (¬1) [فيما] (¬2) يرجع على المدعي: فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يرجع في عين شيئه، وهو العبد الذي دفع إن كان [قائمًا أو قيمته إن كان] (¬3) فائتًا، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه دفع الخصومة عن نفسه بالعبد الذي دفع [فقد] (¬4) نال مقصوده بما أعطى، فلا يرجع فيه، وهو قول سحنون. والثالث: التفصيل بين أن يطول الزمان، أو يقصر؛ فإن طال الزمان: لم يرجع [في] (¬5) العبد بشيء؛ لأن المدعي يقول: فاتت ببينتي التي كنت أقيمها، فلولا صلحك لكنت أقيمها, ولم يقدر هذا المستحق أن يستحق شيئًا؛ لأن الذي أتى به باطل. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فيها. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: بعدما. (¬5) في أ: على.

فإن كان الاستحقاق بقرب الصلح: فله الرجوع في عين شيئه إن كان قائمًا، أو قيمته إن فات، وهذا القول في "المجموعة". فإن استحق العبد كيف يرجع المدعي؟ وفيما يرجع؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يرجع إلى الدعوى؛ لأن الصلح قد انتقض، وهو قول ابن القاسم، وهو مذهب المدونة في غير ما موضع؛ لأن هذا حكمه حكم البيع أيضًا؛ لكون المدعى إنما دفع عما ادعى عليه فيه. والمذهب على أن من باع عرضًا بعرض ثم استحق العرض الذي أخذ: فإنه يرجع في عرضه إن كان [قائمًا أو قيمته إن كان فائتًا] (¬1). والثاني: أنه يرجع بقيمة العبد المستحق من يده، وهو قول سحنون، وهذا القول قائم من المدونة أيضًا من مسألة النكاح والصلح عن دم عمد، وهو الصواب؛ لأن الرجوع إلى الخصومة رجوع إلى الغرر، والرجوع بقيمة ما استحق أولًا. والقول الأول يؤخذ من المدونة أيضًا من "كتاب الشفعة" فيمن ادعى سدس دار بيد رجل، فأنكر، فصالحك منه على شقص آخر دفعه لك من دار له أخرى؛ حيث قال ابن القاسم فالشفعة في الشقص الذي لا دعوى فيه بقيمة المدعى فيه؛ لأن قابضه مقر أنه اشتراه، ودفع في ثمنه السدس المدعى فيه، وهذا دليل على أنه يرجع إلى الخصومة عند استحقاق العبد؛ لأن العوض الذي قبضه قد استحق، فكان الحكم أن يرجع إلى رأس أمره. وقول ابن القاسم إذا استحقت الدار أنه يرجع في عين العبد مع قيامه أحسن؛ لأن المستحق من يده يقول المدعي إن كنت محقًا فهو شراء مني ¬

_ (¬1) سقط من أ.

منك، فعليك أن ترد العوض، فإن كنت مبطلًا، وتقول: إنها الآن داري: لم يحل أن تتماسك بما تقر أنك أخذته بالباطل، ولا وجه للقول أنه دفع خصومة؛ لأن المستحق من يده يقول: إنك مقر أنك بائع مني، وأنك أخذت [ذلك] (¬1) مني على وجه المعاوضة، فيكون له الرجوع، وإن طال الأمد؛ لأنه يقول: إن كنت محقًا فلا أكلفك أن تثبت ملكك، وقد اشتريت منك. فإن استحق نصف العبد: فأما على أصل ابن القاسم: فإن للمدعي أن يرد الباقي، ويرجع في طلبه، أو يمسك ويرجع في المطالبة بنصف الدار، ثم ينقلب الخيار للمدعى عليه، فإن أحب أمضى البيع في نصف الدار، ويقول للمدعي: إن شئت تمسكت بنصف العبد على أن لا شيء لك، أو ترده، وترجع في الخصومة؛ لأني قصدت بالصلح رفع الخصومة، فإذا كنت تعود تخاصمني: كان عليّ في ذلك ضرر. وأما على قول سحنون: فإن له أن يرجع بنصف قيمة العبد، أو يرد الباقي بعيب الشركة، ويرجع بجميع قيمته، وهو أقيس، وقوله في الكتاب في هذا الباب في الذي له على رجل ألف درهم، فحط عنه خمسمائة درهم على أن يعطيه بالخمسمائة الدرهم الباقية عبده ميمونًا، فاستحق العبد؛ حيث قال: فإنه يرجع بالألف كلها، وقال أبو عمران الفاسي: فيه دليل على أن الغبن [اليسير] (¬2) في البيوع جائز، وإن زاد على الثلث خلاف ما ذهب إليه البغداديون، ووفاقًا لما في "كتاب ابن حبيب"، قال: يستدل على ذلك أيضًا بمسألة الوكيل إذا باع ما وكِّل على بيعه بما لا يتغابن الناس فيه وفات: أنه ماض، ويضمن الوكيل، وما قاله ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: الكثير.

أبو عمران ليس بظاهر؛ إذ ليس في مسألة الوكيل ما يدل على أنه أكثر من الثلث، ومسألة الألف أيضًا ليس فيها بيان على الغبن، ولعل قيمة العبد الألف، أو ما يقارب منه [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الرابعة في الرجل يوصي عند موته بوصية، فتنفذ وصاياه وقسم ماله، ثم استحق رجل رقبته أو شهد بموته ثم ثبت أنه حي بعد أن زوجت زوجته وقسمت تركته

المسألة الرابعة في الرجل يوصي عند موته بوصية، فتنفذ وصاياه وقسم ماله، ثم استحق رجل رقبته أو شهد بموته ثم ثبت أنه حيّ بعد أن زوجت زوجته وقسمت تركته فأحد السؤالين أصل، والآخر فرع، ونص ما في المدونة: قلت: أرأيت لو أن رجلًا أوصى أن يحج عنه، فأنفذ الوصي ذلك، ثم أتى رجل فاستحق رقبة الميت، هل يضمن الوصي أو الحاج عن الميت المال، وكيف [يصنع] (¬1) فيما قد بيع من مال الميت، فأصابه قائم بعينه؟ قال: أرى إن كان الميت حرًا عند الناس يوم بيع ماله، فلا يضمن له الوصي شيئًا، ولا الذي حج عن الميت، ويأخذ ما أدرك من مال الميت، وما أصاب مما باعوا من مال الميت قائمًا بعينه: فليس له أن يأخذه إلا بالثمن، ويرجع على من باع تلك الأشياء، فيقبض منه ثمن ما باع من مال [عبده] (¬2)، قال: لأن مالكًا (¬3) [قال] (¬4) في رجل شهد عليه أنه مات فباعوا رقيقه، وتزوجت امرأته، ثم أتى الرجل بعد ذلك فقال: إن كانوا شهودًا [بزور] (¬5): ردت إليه امرأته، وأخذ رقيقه حيث وجدهم، أو الثمن الذي بيعوا به إن أحب ذلك. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: العبد. (¬3) انظر: المدونة (1/ 485). (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: مبرزين، والصواب ما أثبتناه من ب.

قال مالك: وإن كان شبه عليهم -وكانوا عدولًا- ردت إليه امرأته، وما [وجدوا] (¬1) من متاعه، ورقيقه لم يتغير عن حاله وقد بيع: أخذه بعد أن يدفع الثمن إلى من ابتاعه. وما تحول عن حاله ففات، أو جارية وطئت فحملت من سيدها، أو أعتقت: فليس له إلا الثمن يرجع به على من باع الجارية إلى آخر ما قال. فجعل ابن القاسم مسألة الميت الذي شهدوا بموته أصلًا، فاستدل بها على مسألة الميت الذي استحقت رقبته، فموضع اشتباه المسألتين: إذا كان الميت حرًا عند الناس، وإذا [شبه] (¬2) على الشهود بما شهدوا به، وفي كلا السؤالين نظر، واعتراض لازم، ونحن -بحمد الله- نفرد كل سؤال بالكلام، ونورد ما يلزم [عليه] (¬3) من الاعتراض: أما السؤال الأول: إذا استحق بأنه عبد بعد اشتهاره بالحرية في حياته: فالأصل فيه أن يكون السيد أحق بماله حيث ما وجده بغير عوض، وأن يكون متصرفًا ضامنًا لما هلك من سبب تصرفه؛ لأن الحكم الذي حكم به أن العبد حر ليس يحكم على السيد، والأصول موضوعة على أن الحكم إذا كان لرجل، ثم تبين أن ذلك الحكم الآخر أن يكون الثاني على حقه ولا يفيت ماله بيع ولا عتق، وله أن يأخذه بغير ثمن حيث ما وجده، وسواء كان الأول تصرف بتعدٍ أو بوجه شبهة؛ فلو غصب رجل عبدًا، فباعه الغاصب من رجل، وهو لا يعلم بالغصب، فأعتقه المشتري أو باعه، وتداولته [الأملاك] (¬4) أو باعه [عليه حاكم] (¬5) في دين، أو مات ¬

_ (¬1) في ب: وجد. (¬2) في أ: شبهوا. (¬3) في أ: عينه. (¬4) في ب: الأحكام. (¬5) في ب: الحاكم.

فورث عنه: كان لمستحقه أن يرد جميع ذلك، ويأخذه بغير ثمن، ولو مات رجل، شهود لولده شهدوا أنهم لا يعلمون له وارثًا سواه، فحكم له وباع تركة أبيه، وتداولته الأملاك، أو أعتق، أو اتخذ أم ولد، ثم قدم من أثبت أنه ولد للميت: كان له أن [يقوم] (¬1) في نصيبه من ذلك على سنة الاستحقاق ويأخذه بغير ثمن، ولا [يفيت] (¬2) شيء مما تقدم، وهذا هو أصل المذهب، وما وجد على غير ذلك، فهو خارج عن الأصول. فسيد العبد هاهنا كالأخ الطارئ؛ يرد العتق [والبياعات] (¬3)، وإن كان الأول تصرف بوجه شبهة؛ لأن الحكم لم يكن عليه. ولا يعترض على هذا الأصل بما بيع في المقاسم؛ لأن صاحبه لا يأخذه إلا أن يدفع الثمن، وإن لم يكن [الحكم] (¬4) بالبيع على أصله لأجل الاختلاف في الأصل؛ لأن غير واحد من أهل العلم [رأى] (¬5) أن لا شيء لصاحبه فيه، وإن أدركه قبل القسم. وأما السؤال الثاني: إذا شهد عليه أنه مات، فقد كان الحكم عليه؛ ولأجل ذلك قال في الكتاب: إذا وجد ماله قد بيع أنه يأخذ بالثمن، على تفصيل المسألة أيضًا؛ وذلك أن الشهود لا يخلو حالهم من وجهين: أحدهما: أن يشبه عليهم. والثاني: أن يتعمدوا الزور. فأما إن أشبه عليهم: فلا يخلو من أن يدرك ماله قائمًا أو فائتًا. ¬

_ (¬1) في ب: يقيم. (¬2) في أ: يفوت. (¬3) في ب: البيوعات. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

فإن كان قائمًا لم يدخله بيع، ولا عتق، ولا غيره: فإنه يأخذه؛ لأنه باق على ملكه. فإن كان فائتًا ببيع: فلا يخلو من أن يكون قائمًا بيد المشتري لم يدخله فوت، أو دخله فوت. فإن كان قائمًا لم يدخله فوت في بدن، أو سوق: فلا خلاف في المذهب أنه يكون أحق بالثمن. وهل يكون أحق به بغير ثمن أم لا: فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: أنه لا يأخذه إلا بالثمن، وهو نصه في المدونة في كتاب الاستحقاق. والثاني: أنه أحق به بغير ثمن؛ لأن الشهود -وإن لم يتعمدوا الكذب- إذا تبين باطل قولهم بمجئ الرجل، ولا فرق بين أن يؤتي عليهم أو لا يؤتى عليهم بعد أن تحققنا باطل قولهم، والرجل غير أذن في متاعه، ولا ملك عليه لأحد، وهل هو إلا كمن أخطأ على ماله من غير أن يكون له هو في ذلك إذن، ولا تأثير في ذلك بحكم القاضي إذا سلطه الشهود، وإنما يكون للغالط عذر إذا سلطه المالك نفسه، وإلى هذا المعنى أشار بعض حذاق المتأخرين. فإن فات عند المشتري في بدن أو سوق، أو كان عبدًا فأعتقه، أو جارية فأحبلها، هل له أن يأخذه بالثمن على القول بأنه لا يأخذه إلا بالثمن أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا سبيل له إلى أخذه، وأن ذلك فوت. والثاني: أن له أخذه بالثمن، ولا يفتيه عتق، ولا إيلاد ولا تغيير بدن

ولا سوق، وهو نص قول أشهب فيما بيع في المقاسم: أن العتق والإيلاد ليس بفوت [خلاف مذهب "المدونة" في "كتاب الجهاد"، وقد نص مالك هناك: أن العتق، والإيلاد فوت] (¬1) فيما بيع في المقاسم. وعلى قول أشهب: يكون للمشهود عليه بالموت أن يأخذه، ولا يفيته عتق، ولا نماء، ولا نقصان، وإن كان لا يأخذه إلا بعد دفع الثمن؛ لأن حقه في عين ماله؛ فيمكَّن من أخذه، وحق المشتري في الثمن الذي وزن ومقالة الشهود عليه في هذه في الرد أقوى منه فيما بيع في المقاسم، ولاسيما على القول الذي خرجناه من طريق النظر: أن له أن يأخذه بغير ثمن. والعجب من ابن القاسم الذي جعل فوته بزيادة أو نقصان يمنع المشهود عليه من الأخذ بالثمن، وهو قول لا دليل له. فأما إذا تعمدوا الكذب، وشهدوا بالزور من غير شبهة دخلت عليهم: فلا تخلو شهادتهم من أن تكون عند القاضي أو عند غيره. فإن كانت شهادتهم عند الورثة: فإنه أحق بما بيع من ماله حيث وجده بغير ثمن، قولًا واحدًا، وإن شاء أخذ الثمن الذي بيع به. فإن كانت شهادتهم عند القاضي، هل يكون حكمهم حكم من شبه عليه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا فرق بين أن تكون شهادتهم عند الورثة أو عند القاضي، فإن المشهود عليه بالموت أحق بماله بغير ثمن حيث ما وجده، ¬

_ (¬1) سقط من ب.

وهو قول مالك في المدونة. والثاني: أنها إن كانت عند القاضي: فحكمه حكم من شبه عليه، ولا فرق سواء وهو تأويل [القاضي إسماعيل] (¬1) على المدونة أنهم مهما شهدوا عند القاضي، فإنه لا سبيل له إلى أخذ ماله إلا بالثمن، سواء شهدوا بزور أو شبه عليهم. وهذا الذي قاله مخالف لنص المدونة؛ بل نص المدونة أنهم مهما شهدوا بالزور، فإنه يكون أحق بماله شهدوا بها عند القاضي أو عند الورثة؛ لقوله في الكتاب: "فشهدوا بذلك عند القاضي، وهو لا يعلم أنهم لم يتعمدوا [الزور] (¬2) ". وأما الزوجة: فلا خلاف -أعلمه- في المذهب أنها ترد إليه على العصمة الأولى، سواء شهدوا بالزور أو شبه عليهم، كان بحكم قاض أو بحكم غيره، إلا ما ذكره الأصحاب عن إسماعيل القاضي، فإنه قال: "إذا كان ذلك بحكم قاضٍ: فلا ترد إليه كامرأة المفقود"، وما قاله ليس بصحيح، والزوجة ليست كالمال؛ لأنه يصح زوال الملك عن المال إذا بيع بوجه شبهة، ولا يصح أن تمضي زوجة رجل عند آخر تزوجها بشبهة من غير طلاق من الأول، وليست كزوجة المفقود؛ لأن الحكم كان لها لأجل قيامها بالضرر مع الإمكان أن يكون حيًا؛ ولهذا طلق عليه، ولم يقسم ماله، والآخر حكم بموته ليقسم ماله، وليس القصد الطلاق، وإنما الحكم بالموت يوجب لها أن تتزوج؛ لأنها ترقبت حياته [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: إسماعيل القاضي. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الخامسة إذا أسلم ثوبين في فرس فاستحق أحدهما

المسألة الخامسة إذا أسلم ثوبين في فرس فاستحق أحدهما فقد اختلفت الروايات في الأمهات في صورة المسألة، وتنزيلها [ونصها] (¬1) في المدونة، قلت: فإن أسلمت ثوبين في فرس [موصوف] (¬2) فاستحق أحد الثوبين؟ قال: لا أحفظ عن مالك فيه شيئًا؛ قال: وأرى إن كان الثوبان متكافئين، وهو وجه ما اشترى، وفيه الفضل: انتقض السلم. وفي بعض النسخ: إن كان الثوب المستحق هو وجه ما اشترى انتقض السلم، وعليه اختصر أبو سعيد وغيره. وفي بعضها: فإن كان مستحق هو وجه الصفقة: بطل السَّلم. وإن كان الأدنى: أو كانا متكافئين يرجع السَّلم إليه بقيمة [وما استحق] (¬3)، ويثبت السَّلم، فعلى الرواية الأولى: إن كان الثوبان متكافئين، أو هو وجه ما اشترى يكون قوله هناك خلاف لما وقع لابن القاسم، والغير في "كتاب العيوب"؛ لأنه جعل النصف في العروض يسيرًا لا يجب به رد الجميع في العيوب، بخلاف الطعام، وجعله في هذا الكتاب في حيز الكثير يجب به الرد كالطعام، وعلى الجملة: ففي النصف ثلاثة أقوال كلها قائمة من المدونة: أحدها: أن النصف في حيز الكثير، في الطعام والعروض، وهو قوله في "كتاب الاستحقاق" على إحدى الروايات. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: المستحق.

والثاني: أنه في حيز اليسير في الجميع. والثالث: التفصيل بين الطعام والعروض. وموقع الأقوال في الكتاب لا يخفى على من طالع كتابنا هذا، ولاسيما وقد أفردنا لهذا المعنى مسألة مفردة في "كتاب العيوب". وعلى الرواية بأنه إذا استحق الأدنى [وكان الثوبان] (¬1) متكافئين يكون ما وقع في "كتاب الاستحقاق" موافقًا لما في "كتاب العيوب" إن شاء الله. وقوله في هذه الرواية: إذا كان المستحق ليس بوجه الصفقة ولا لأجله اشترى: كان عليه [قيمة] (¬2) ما استحق وثبت السَّلم، فقد اختلف المختصرون والشارحون في تأويل قوله، وعليه قيمة ما استحق على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أراد بذلك قيمة المستحق من الثوبين، وأنه ينظر إلى قيمة الباقي، فإن كان ثلثًا أو ربعًا: رجع على رب السَّلم في ماله وذمته، ولا ينظر إلى معرفة ذلك القدر من قيمة الفرس، وهو تأويل أبي الوليد بن رشد في "البيان والتحصيل"، وغيره من المتأخرين، وهذا التأويل أسعد بظاهر الكتاب؛ لقوله: يرجع بقيمة ما استحق ويثبت السلم، وكاد هذا الظاهر أن يكون نصًا لولا قلة وجود النص في المعلومات، ولا جرم، وقد أنكر وجوده بعض الأصوليين. وقوله: "ويثبت السَّلم": دليل على أنه يرجع في المسلم فيه. والثاني: أن معنى ذلك يرجع المسلم إليه بقيمة المستحق في قيمة الفرس ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

المسلم فيه، وهو قول ابن المواز، ومثله في سماع عيسى عن ابن القاسم، فإنه قال: يرجع بقيمة [الدابة] (¬1) ولا يكون معه شريكًا فيها. والثالث: أنه ينتقض من السَّلم بقدر ما استحق من رأس المال؛ إن كان الربع أو الخمس: سقط من [الفرس] (¬2) ربعه أو خمسه، ويكون [ربه] (¬3) بذلك القدر شريكًا في الفرس، وهو تأويل حمديس على المسألة، وهو مذهب سحنون، وهذا يأتي على مذهب أشهب، وأما على قول ابن القاسم: فلا؛ لأنه [منعه] (¬4) في "كتاب العيوب" من الرجوع في عين [شيئه] (¬5)، وإن كان قائمًا لأجل ضرر الشركة، إلا أن يحمل على أن ذلك منه اختلاف [قول] (¬6). فعلى القول بأنه يرجع بقيمة [ما استحق] (¬7) في ذمة مشتري الفرس: فلا تفريع، وإن كان الجاري على أصول المذهب أن من باع عرضًا بعرض فاستحق العرض الذي أخذ أنه يرجع في عين شيئه إن كان قائمًا، إلا أن ابن القاسم اعتبر [على] (¬8) هذا التأويل ما يدخل على مشتري الفرس من ضرر الشركة، وهو لم يدخل على ذلك، فلأجل ذلك أجابه بهذا الجواب، وقد نص في كتاب العيوب في مسألة العبد المشتري بالثوبين إذا [تعين] (¬9) أدناهما؛ حيث قال ابن القاسم: فإنه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: السلم. (¬3) في أ: له. (¬4) في أ: معه. (¬5) سقط من ب. (¬6) سقط من أ. (¬7) في ب: المستحق. (¬8) سقط من أ. (¬9) في أ: تعينت.

يرجع بقيمته، ولا يرجع في عين العبد، وإن كان قائمًا. وعلى القول بأنه يرجع بقيمة المستحق في قيمة الفرس: فقد اختلف أصحابنا المتأخرون في صفة التقويم على ثلاثة أقوال: أحدها: أن يقوم الثوب المستحق، ويقوم الذي لم يستحق، فإن كان قيمة المستحق عشرة، وقيمة غير المستحق ثلاثين: قُوِّم الفرس على أنه يقبض إلى أجل من ذمة مثل بائعه بقيمته نقدًا، فما قوم به من شيء، فإن المستحق منه يرجع في ربع تلك القيمة، فيأخذها من مشتري الفرس نقدًا -قلَّت تلك القيمة أو كثرت- وهذا قول ابن المواز. والثاني: أنه لا يُقَوَّم حتى يحل الأجل، فإذا حل الأجل قوم حالًا، وهذا القول حكاه القاضي أبو الفضل، ولم يسم قائله، وإلى مثله أشار أبو إسحاق التونسي في اعتراض أورده؛ لأنه عند حلول الأجل يدفع المسلم إليه الفرس، ومن يومئذ وقعت فيه الشركة المؤدية إلى الإضرار؛ فوجب أن يعطي ربع قيمته، أو ما وجب عليه منها يوم دفع الفرس، فقال أبو إسحاق التونسي: يحتمل أن يقال هذا إلا أن ظاهر "كتاب محمَّد" مخالف له. والثالث: أنه إن تأخر الحكم بالقيمة بعد الاستحقاق حتى يحل الأجل، أخذ المشتري الفرس، ودفع قيمة ما [رجع] (¬1) من الفرس يوم يأخذه. وإن كان قبل حلول الأجل: كان المسلم إليه بالخيار بين أخذه قيمة ذلك على أن يقبضه إلى بقية أجله، وإن أحب أمهل حتى يحل الأجل، ويقع التقابض، فيدفع القيمة ويأخذ الفرس، وهو اختيار اللخمي. وعلى القول بأن المستحق منه يرجع شريكًا في الفرس بقدر قيمة ما ¬

_ (¬1) في أ: وقع.

استحق من قيمة الفرس، هل يكون لمشتري الفرس أن يرده بعيب الشركة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن له الرد، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا يُمكَّن من الرَّد، وهو الذي يأتي على مذهب أشهب. وحكم ما بيع يدًا بيد حكم ما بيع إلى أجل في جميع ما ذكرنا في فصول هذه المسألة ووجوهها [والحمد لله وحده] (¬1). فلو كان الثوبان أسلما في فرسين صفقة واحدة، والثياب في القيمة سواء: لوجب أن يسقط أحد الفرسين لاستحقاق أحد الثوبين، ويبقى عليه فرس إلى أجل، وإن كان كل ثوب له نصف [فرس، وليس له فرس كامل، فلا يضرنا ذلك؛ لأن كل ثوب له نصفًا] (¬2) فرسين: فيجمعان له في فرس واحد؛ لاتفاق الصفة واتحاد الصفقة، ويجبر على الإتيان بالفرس كما لو أسلم إليه في نصف فرس، ثم أسلم إليه في نصف فرس مثل صفة الأول إلى مثل أجله: لأجبر على أن يأتيه بفرس كامل؛ كمن باع له بنصف دينار آخر لأجبر على أن يأتيه بدينار كامل. وأما إن أسلم ثوبين في طعام فاستحق أحد الثوبين، وهما متكافئان فرضي بالباقي، فقال مشتري الطعام: قد ذهب إلى نصف ما اشتريت من الطعام [وقد قصدت كثرة ما اشتريت لرخصه] (¬3)، إذا كثر فهل له حجة [في فسخ] (¬4) البيع [كما لو استحق نصف الطعام ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

أم لا؟، فإنه يتخرج على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه له حجة في فسخ البيع] (¬1) كاستحقاق نصف الطعام. والثاني: أنه لا حجة له في فسخه بخلاف الاستحقاق؛ لأن الاستحقاق وسببه من بائع الطعام، وبطلان نصف الطعام هاهنا سببه من قبل مشتري الطعام، وهو بائع الثوبين اللذين استحق أحدهما. والقولان متأولان على المدونة، وكلاهما له وجه في النظر [تم الكتاب بحمد الله وعونه، والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب.

كتاب الشفعة

كتاب الشفعة

كتاب الشفعة تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ثمان عشرة مسألة: المسألة الأولى في [شفعة] (¬1) أهل الذمة والذي نبدأ به: اشتقاق هذا اللفظ وتسميته: فالشفْعة بسكون الفاء، وقد اختلف في تسميته بذلك على أربعة أقوال: قيل: مأخوذ من الشفع، وهو ضد الوتر؛ لأن الشفيع يضم هذا المشفوع فيه إلى ماله، فتصير الحصة حصتين والمال مالين. وقيل: هو من الزيادة؛ لأنه يجمع مال ذلك إلى ماله، ويضيفه إليه ويزيده له، والشفعة: الزيادة؛ قال تعالى: {مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} (¬2)، قيل: يزيد عملًا صالحًا إلى عمله، وهو قريب من المعنى الأول. وقيل: هو من الشفاعة؛ لأنه شفع بنصيبه إلى نصيب صاحبه، وقيل: بل كانوا في الجاهلية إذا باع الرجل حصته أو أملاكه أتى المجاور مشافعًا إلى المشتري ليوليه إياه ليصله بماله، ويخلص له الملك. فإذا ثبت ذلك: فلا يخلو الشفيع من أن يكون مسلمًا، أو ذميًا. فإن كان مسلمًا: فلا خلاف في وجوب الشفعة على المشتري -كان مسلمًا أو ذميًا- ثم لا يخلو الثمن الذي اشترى به المشتري إن كان ذميًا أن ¬

_ (¬1) في ب: تشافع. (¬2) سورة النساء، الآية (85).

يكون مما يجوز تملكه والمعاملة به أم لا. فإن كان مما يجوز تملكه، والمعاملة به: فحكمه حكم ما لو كان مسلمًا, ولا إشكال في ذلك. فإن كان مما لا يجوز تملكه، والمعاوضة [به] (¬1) عليه كالخمر، والخنزير، فبماذا يستشفع؟ فقد اختلف فيه المذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه يستشفع بقيمة الشقص لا بقيمة الخمر، وهو قول أشهب في "العتبية". والثاني: أنه يستشفع بقيمة الخمر، وهو قول يحيى بن عمر، وابن عبد الحكم في "العتبية". ويقومها من يعرف قيمتها من المسلمين، أو من هو قريب العهد بالإِسلام كما قيل في ذلك. وينبني الخلاف: على الخلاف فيمن استهلك لذمي خمرًا، هل يغرم قيمتها أم لا؟ فعلى القول بأنه يغرم القيمة، كما به قال ابن القاسم في المدونة، قال: يستشفع بقيمة الخمر. وعلى القول بأنه لا قيمة عليه، كما به قال عبد الملك، قال: يستشفع بقيمة الشقص؛ لأن الخمر إذا لم تكن لها قيمة بالتعدي، فبأن لا يكون له قيمة إذا دفعها بالطوع أولى. وأما الوجه الثاني: إذا كان الشفيع ذميًا: فلا يخلو المتبايعان من أن يكونا مسلمين، أو ذميين، أو أحدهما مسلم، والآخر ذمي. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

فأما إذا كانا مسلمين: فلا خلاف في وجوب الشفعة للذمي؛ لأنه حكم بين مسلمين [وذمي] (¬1)، وكذلك إذا كان المشتري مسلمًا، فإن كانا ذميين، أو كان المشتري ذميًا. فأما إن كانا ذميين: فلا يخلو من أن يتحاكموا إلينا أم لا، فإن لم يتحاكموا إلينا فلا خلاف في أنه لا شفعة له. فإن تحاكموا إلينا، هل يحكم بينهما بالشفع أم لا؟ فإنه يتخرج على الخلاف الذي قدمناه في كتاب تضمين الصناع، ونصه في المدونة في أول كتاب الشفعة. وإن كان البائع مسلمًا، والمشتري فهل تجب الشفعة أم لا؟ على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن له الشفعة لما كانت بسبب مسلم، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب القسمة"، ونقلها أبو سعيد في "التهذيب" في كتاب الشفعة. والثاني: أنه لا يحكم له بالشفعة؛ لأنه حكم بين ذميين، وهي رواية يحيى بن عمر عن ابن القاسم في "العتبية"، وقال أشهب: إذا كان أحد الثلاثة مسلمًا بائعًا، أو [متبايعًا] (¬2) أو شفيعًا، ففي ذلك الشفعة، وهو قوله في "المجموعة" [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: مبتاعًا. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الثانية في تشافع الورثة [والشركاء]

المسألة الثانية في تشافع الورثة [والشركاء] (¬1) فلا تخلو المسألة من أربعة أوجه: أحدهما: أن يكونوا أهل سهم. والثاني: أن يكونوا عصبة [و] (¬2) ذوي سهم. والثالث: أن يكونوا في حكم العصبة. والرابع: أن يكونوا موصى لهم. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كانوا ذوي سهم: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكونوا [ذوي سهم واحد، أو يكون معهم موصى له أو يكون معهم شريكًا، فإن كان] (¬3) معهم ذو سهم غيرهم، فلا يخلو من أن يكونوا مما هو في حكم السهم [الواحد] (¬4) أو كان سهامًا مختلفة. فأما إن كان هو في حكم السهم الواحد كأخوات مع البنات، فباع أحد البنات، هل تكون الشفعة لبقية البنات، أو لجميع الأخوات والبنات؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الشفعة للجميع. والثاني: أن الشفعة للبنات خاصة. والقولان حكاهما اللخمي. ¬

_ (¬1) في أ: للشركاء. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

فعلى القول بأنهن كأهل سهم [واحد يكون من حق البنات أن تقسم الدار أثلاثًا، وعلى القول بأنهن كأهل سهم] (¬1) مختلفة، هل يكون من حق الأخوات أن تقسم أولًا أتْسَاعًا. فأما إن كانت سهامًا مختلفة كالزوجات أو الجدات، والإخوة للأم، فباع أحد الزوجات: فالشفعة لبقية الزوجات. وهل يدخل معهن أحد من ذوي السهام الباقية والعصبة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يدخل معهن أحد في الشفعة، لا ذوي السهام ولا العصبة، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أن العصبة وبقية ذوي السهام يدخلون معهن في الشفعة، وبه قال المغيرة على ما نقله الحفيد في كتاب النهاية. وعلى القول بأنهم لا يدخلون معهن، فإن أسلمن الشفعة كانت لبقية ذوي الفرائض والعصبة إن كانوا، فإن سلموها كانت لبقية الأشراك إن كانوا هناك. فإن كان معهم موصى له بالثلث، هل يدخل معهم مع ذوي السهام في الشفعة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يدخل معهم، وهو مذهب المدونة. والثاني: أنه يدخل معهم على مذهب المغيرة الذي يقول: إن ذوي السهام يدخل بعضهم على بعض في الشفعة. فإن كان معهم شريك، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الشفعة لبقية الورثة دون أشراكهم، وهو مذهب المدونة، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وهو مشهور المذهب. والثاني: أن الأشراك بالملك يدخلون معهم في الشفعة، وهذا يتخرج على قول المغيرة. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان مع ذوي السهام عصبة، وباع بعض العصبة، فهل يدخل معهم بقية ذوي السهام في الشفعة أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يدخل ذوو السهام على العصبة، [ولا] (¬1) العصبة على ذوي السهام، وهو مذهب الكوفيين، وبه قال أشهب -من الأصحاب. والثاني: أن ذوي السهام يدخل على العصبة، ويدخل العصبة على ذوي السهام، وبه قال المغيرة المخزومي -من أصحابنا- وهو أحد قولي الشافعي [رحمه الله] (¬2). والثالث: أن ذوي السهام يدخل على العصبة، ولا يدخل العصبة على ذوي السهام، وهو قول ابن القاسم في المدونة. وسبب الخلاف بين القولين المتقابلين: معارضة قياس الشبه لعموم الخبر، وقد قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة بين الأشراك، ولم يخصص ذوي السِّهَام من غيرهم، ويعارضه قياس الشبه، فخصص به [ذوي] (¬3) السِّهَام من العصبات، ويقال: لما كانت الشركة مختلفة الأسباب -أعني [بين] (¬4) - ذوي السِّهام وبين العصبات -وجب ألا يدخل ¬

_ (¬1) في أ: و. (¬2) زيادة من ب. (¬3) في أ: ذو. (¬4) سقط من أ.

بعضهم على بعض في الشفعة قياسًا للشركة المختلفة الأسباب [على الشركات] (¬1) إذا تميز محالها الذي هو المال بالقسمة. وأما من أدخل ذوي السِّهام على العصبة، ولم يدخل العصبة على ذوي السِّهام، فهو استحسان على غير قياس، ووجهه: أنه رأى ذوي السِّهام أقعد من [العصبان] (¬2). والجواب عن الوجه الثالث: إذا كانوا في حكم العصبة؛ مثل أن يموت رجل عن ثلاثة بنين، ثم مات أحدهم قبل القسمة [عن] (¬3) ثلاث من الولد: فإنه إن باع أحد الأعمام نصيبه كانت الشفعة لأخويه ولبني أخيه، ولا خلاف -أعلمه- في هذا الوجه. وإن باع أحد من بني الأخ، هل تكون الشفعة لهم دون الأعمام أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الشفعة لبقية بني الأخ دون أعمامهم، وهي رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة. والثاني: أن بقية الأعمام يدخلون معهم. والقولان حكاهما ابن القصار عن مالك في "كتاب عيون الأدلة". وتلخيص القول في ذلك أن نقول: لا تخلو الدار الموروثة عن الميت الأول من ثلاثة أقسام: إما أن تنقسم أتْسَاعًا، وإما أن تنقسم أثلاثًا، وإما ألا تنقسم بحال. فأما إن كانت تنقسم أتساعًا: كان الجواب على ما قاله في المدونة؛ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: العصبة. (¬3) في أ: على.

لأن الدار تنقسم قسمين [أو أثلاثًا] (¬1) فإذا صار إلى بني الابن ثلثهم: قسموه أثلاثًا كدار قائمة بنفسها، فبعضهم أحق بدفع الضرر ممن لا يصير [له] (¬2) في ذلك الثلث شرك. فأما إن كانت الدار لا تنقسم أثلاثًا ولا أتساعًا: كانت الشفعة [لجميع من] (¬3) له فيها شرك بوراثة أو غيرها، وعلى القول بأن الشفعة فيما لا ينقسم؛ لأن الأصل الذي جعلت له الشفعة فيما لا ينقسم خوفًا من أن يدعو المشتري إلى البيع، فتخرج الدار من أملاكهم، ومضرة خروج الملك أشد من مضرة المقاسمة. فأما إن كانت الدار تنقسم أثلاثًا خاصة، فباع أحد الأعمام: كانت الشفعة لجميعهم؛ لأن بني الأخ شركتهم مع أعمامهم فيما ينقسم، وإن باع [أحد بني] (¬4) الإخوة كان فيها قولان: فعلى أحد قولي مالك: أن الشفعة فيما لا ينقسم يتشافعون دون أعمامهم. وعلى قولًا أن لَّا شفعة فيما لا ينقسم: تكون الشفعة للأعمام دون بني الإخوة؛ لأن الأعمام يقولون: نحن نشفع فيما [يحمل] (¬5) القسم ولا شفعة لبعضكم على بعض؛ لأن نصيبكم لا يحمل القسم. وتحصيل ذلك: أن كل موضع يكون للمشتري أن يدعو إلى القسم، ¬

_ (¬1) في أ: أولًا. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: لمن. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: لا يحمل.

فله أن يستشفع منه، وكل موضع لا يكون له أن يدعو إلى القسمة، وله أن يدعو إلى البيع؛ فإنه يختلف في وجوب الشفعة فيه على قولين، وكل موضع ليس له أن يدعو إلى القسم، ولا إلى البيع: فلا شفعة له، قولًا واحدًا في المذهب؛ مثل أن تكون دارًا لا تنقسم، وإن باع هذا نصيبه على الانفراد لم ينقص عن بيع الجملة. والجواب عن الوجه الرابع من أصل التقسيم: إذا كان موصىً لهم، هل هم كالعصبة، أو هم كأهل سهم واحد؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كالعصبة، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنهم كأهل سهم واحد، وهو قول أشهب. والثالث: التفصيل بين أن يكون الموصى [له] (¬1) جماعة، أو واحد؛ فإن كانوا جماعة: فإنهم لا يدخلون على الورثة في الشفعة، وإن كان واحدًا: دخل معهم، وهو ظاهر قول ابن المواز في كتابه حيث قال: وإذا أوصى أحد ولد الميت لرجل واحد، فباع إخوة الموصى [البيت] (¬2): أن الموصى له يدخل معهم، وقال محمَّد: لأنه رجل واحد، فظاهر قوله: أنهم لو كانوا جماعة ما دخلوا [مع] (¬3) الورثة؛ لأنهم يتشافعون فيما بينهم دون الورثة؛ فعلى هذا أن من كان يتشافع [مع صاحبه لا يدخل] (¬4) [مع] (¬5) الورثة، وإن كان لا أصحاب له يشافعهم دخل على الورثة، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: بيته. (¬3) في أ: على. (¬4) في ب: مع أصحابه لا يدخلون. (¬5) في أ: في.

وما قاله ضعيف جدًا؛ لأن أهل السهم الواحد يتشافعون فيما بينهم، ولا يمنعهم ذلك من الدخول على بقية الورثة [الذين لا يشافعونهم] (¬1) [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في ب: الذي لا يشافعهم. (¬2) زيادة من ب.

المسألة الثالثة في الشفعة إذا وجبت هل هي على عدد الرؤوس أو على عدد الأنصباء؟

المسألة السادسة (*) في الشفعة إذا وجبت هل هي على عدد الرؤوس أو على عدد الأنصباء؟ ولا يخلو ما يستشفع فيه من أن يكون مما ينقسم، أو مما لا ينقسم. فإن كان مما ينقسم، هل تنقسم الشفعة فيه على عدد الرؤوس، أو على قدر الأنصباء؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن الشفعة على قدر الأنصباء، وهذا هو [القول] (¬1) المعروف من المذهب، وهو نص قوله في المدونة. والثاني: أنها على عدد الرؤوس، وهذا القول حكاه ابن الجهم عن بعض أصحاب مالك، على ما نقله أبو الفضل، وخرجه اللخمى من قول عبد الملك في تقويم العبد المعتق بعضه إذا أعتق بعض الأشراك حصته في مرة واحدة؛ وكانوا جماعة وكلهم مياسير: أن التقويم عليهم بالسواء على عدد رؤوسهم؛ لأنه لو كان [الكثير] (¬2) النصيب معسرًا لقوم جميع العبد على القليل النصيب، وعلى هذا تكون الشفعة على العدد؛ لأن القليل النصيب لو انفرد لكان [له] (¬3) جميع الشفعة، وقد خرجه غيره من المدونة من كتاب الأقضية حيث قال: أجرة القسام على عدد الرؤوس. وأما لا ينقسم إذا حكم فيه بالشفعة على عدد الرؤوس؛ لأن القصد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: كثير. (¬3) سقط من أ. (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعلها " المسألة الثالثة"، والله أعلم.

فيه رفع الضرر عند البيع، وذلك يستوي فيه القليل النصيب والكثير، وإلى هذا ذهب اللخمي -رحمه الله.

المسألة الرابعة في معرفة ما تجب فيه الشفعة مما لا تجب فيه

المسألة الرابعة في معرفة ما تجب فيه الشفعة مما لا تجب فيه والشفعة سلطانية حكمية وقضية شرعية أثبتها الشرع للأصيل على الدخل درءًا [للإضرار] (¬1) وقطعًا لمادة الاختيار، وهي متعلقة بالعقار، وما يتصل بها من الأشجار، وهي للشريك دون الجار خلافًا لأبي حنيفة الذي يقول: إنها للجار. فإذا ثبت ذلك، فقد اختلف العلماء في وجوب الشفعة على الجملة على ثلاثة مذاهب: أحدها: وجوبها في كل [شيء] (¬2) جملة بلا تفصيل، قاله: بعض أهل مكة. والثاني: أن الشفعة غير واجبة جملة بلا تفصيل، وإليه ذهب من لا يرى بيع الشقص المشاع، وهو مذهب الأصم على ما نقله ابن حارث. والثالث: أن وجوبها وثبوتها في الدور، والأرضين، والعقار، وهو مذهب فقهاء الأمصار على تفصيل، وتحصيل لبعضهم في ذلك. ولا يخفى على من له أدنى فهم ضعف ما ذهب إليه الأصم، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قضى بالشفعة. وأما من ذهب إلى أنها [واجبة] (¬3) في كل شيء، فيشهد له الأثر، والنظر؛ فأما الأثر: ما خرجه الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في أ: للضرر. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: وجبت.

قال: "الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء" (¬1)، وهذا نص لا يحتمل التأويل إن صح الحديث، وقد طعن بعض العلماء في سنده. وأما المعنى والنظر: فضرر الشركة موجود في كل شيء. وأما فقهاء الأمصار فقد تمسكوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعة فيما لا ينقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة" (¬2)، فكأنه قال: الشفعة فيما لم تكن فيه القسمة ما دام لم تقسم، فدل على أن الشفعة فيما ينقسم؛ لأن ما لا ينقسم لا يقال يثبت فيه حكم كذا، وكذا ما لم ينقسم لما كانت القسمة لا تأتي فيه، وإن كان هذا من باب الاستدلال بدليل الخطاب، وهو أصل مختلف فيه، إلا أن فقهاء الأمصار أجمعوا على الاستدلال به في هذا الموضع، والأمر الموجب لاجتماعهم ما فهموه من صيغة لفظه - صلى الله عليه وسلم -. وأما مذهب مالك: فتحصيله أن الشفعة في ثلاثة أنواع: أحدها: مقصود، وهو العقار من الدور، والحوانيت، والبساتين. والثاني: ما تعلق بالعقار مما هو ثابت، ولا ينقل كالبئر، وفحل النخل. والثالث: ما يتعلق بالأصول كالثمار. وأما الدُّور، والأرضون، والبساتين: فلا يخلو ذلك من أن يكون مما ينقسم، أو مما لا ينقسم؛ فإن كان مما ينقسم على غير ضرر: فلا خلاف في مذهب مالك في وجوب الشفعة فيه. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (1371)، والدارقطني في الكبير (11244)، والبيهقي في الكبرى (11378)، والطحاوي في شرح المعاني (5563)، قال الألباني: منكر ضعيف. (¬2) أخرجه ابن ماجة (2497)، وابن حبان (5185)، والبيهقي في الكبرى (11344)، وصححه الألباني -رحمه الله تعالى.

فإن كان لا ينقسم إلا على ضرر أو لا ينقسم جملة، فهل تجب فيه الشفعة للشريك أم لا؟ فعلى القولين: أحدهما: أنه لا شفعة فيه، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: وجوب الشفعة فيه، وهو أحد قولي مالك في المدونة أن الشفعة مشروعة في القليل والكثير من الرِّياع، والعقار، وهو أحد قوليه أيضًا في المذهب فيما لا ينقسم جملة، ومن هذا المعنى اختلافهم في الحمام، والبيت الصغير, والدُّكان في السوق مما لا ينقسم إلا على ضرر مثل منصب الرَّحَى، أو مما لا ينقسم كالشجرة الواحدة، والنخلة الواحدة، والماجل، والبئر الواحدة إذا لم يكن معها أصل، ولا أرض، وغير ذلك من الرياع والأصول مما لا ينقسم إلا على ضرر، أو لا ينقسم أصلًا: فقد اختلف في جميع ذلك على قولين: وجوب الشفعة وإسقاطها في النخلة الواحدة، والشجرة الواحدة، قال مالك وابن القاسم: لا شفعة فيهما، وبه قال محمَّد. وقال أشهب، وعبد الملك، وأصبغ: [الشفعة فيهما] (¬1) في "الواضحة". وسبب الخلاف: اختلافهم في الضرر المعتبر في الشفعة، هل هو ضرر الشركة، أو ضرر القسمة؟ فمن اعتبر ضرر الشركة؛ لكون الأصيل يستضر بالدخيل لما يخاف من ناحيته من السرقة، والخيانة، وأن يدخل عليه أمرًا لم يألفه من شريكه البائع مما كان عليه من حسن الطوية، وجميل المعاشرة معه، وربما كان يكفيه مؤنة بعض العمل، ويسامح له في أخذ بعض الأشياء، والدخيل على خلاف هذه الصفة، قال بوجوب الشفعة فيما ينقسم، وفيما لا ينقسم. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

ومن اعتبر ضرر القسمة: قال بوجوب الشفعة، فيما ينقسم خاصة؛ لأن القسمة تضيق الواسع، وخراب العامر؛ وذلك أن كل واحد من الشريكين كان يجول في جميع الحائط مثلًا، وكان يتصرف في جميع تصرف المالك الواحد، فإذا قسم اقتصر تصرفه على سهمه خاصة، ويعود ضيقًا بعدما كان واسعًا، وعادت يده مقيدة بعدما كانت مطلقة. وأما كونها خراب العامر؛ مثل أن يكون الذي لم يبع ضعيف التصرف، قليل المعرفة، وشريكه عنده من النجابة، والدراية، وجميل العشرة ما يتولى له خدمة جميع الحائط، أو يحتمل على نفسه أكثر [مؤنة العمل] (¬1) فيما بينهما من الشركة، ولا يؤاخذ بذلك شريكه؛ بل يسامحه ولا يناقشه، وقد يكون الدخيل على غير هذه الصفة، وربما يدعوه إلى القسمة، فيستضر بذلك الأصيل؛ إما لكونه إذا قسم الشيء المشترك بينهما انتقصت قيمته، وقل ثمنه، وإما لما يحتاج إليه من النفقة في استحداث المرافق في نصيبه، فليزمه في ذلك مؤنة كباب يحدثه، أو ما يلزمه من المؤن، والآخر الذي يختص بقسمة الأصول؛ إذ ليس كل واحد يحسن قسمتها، فلابد في أغلب الحال أن يستأجر على قسمتها من يختص بمعرفة ذلك، وهي علة صحيحة يشهد بصحتها اطرادها وانعكاسها، ألا ترى أن العروض التي تنقسم بالكيل، والوزن لا شفعة فيها؛ إذ لا [مؤنة] (¬2) في قسمتها. وأما ما هو متعلق بالعقار مما هو ثابت لا [ينقل] (¬3) ولا يتحول كالبئر، وفحل النخل ما دام الأصول فيهما على صفة ¬

_ (¬1) في أ: مؤونة العامل. (¬2) في أ: مؤونة. (¬3) في أ: ينعقد.

تجب فيه الشفعة: فإن الشفعة فيما بيع منهما من بئر، أو فحل، أو غيره، وهو أن يكون الأصل الذي هو الأرض مشاعًا بينه، وبين شريكه غير مقسوم، فكانت الشفعة إنما تجب في البئر، والفحل، والشرب في الماء إذا باع أحد الأشراك شربه لأجل اشتراكهما في الأصل الذي هو الأرض، فإذا باع أحدهم حصته من الأرض، وبقى شربه في الماء [أو في البئر أو في الفحل فسلم إذا باع أحد الأشراك فسلم أصحابه بالشفعة إن استشفعوا ثم باع أحدهم حصته من الماء] (¬1) بعد ذلك: كانت الشفعة لمن بقى سهمه في الأصل والماء، ولا يدخل معهم فيها من باع سهمه في الأصل بسبب ما بقى له في الماء؛ لأنه في حيز التبع، والشفعة في البئر، والشجرة الواحدة لأجل الأرض، و [هو] (¬2) قول مالك في المدونة في "كتاب الشفعة" و "القسمة"، وفي "كتاب حريم الآبار". وأما ما يتعلق بالأصول: فلا يخلو قيام الشفيع من أن يكون قبل يبس الثمرة، أو بعده؛ فإن كان قيامه بعد يبس الثمرة، وقد اشترى المشتري الثمرة دون الأصل، هل للشريك فيها الشفعة أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الشفعة للشريك في الثمرة كان الأصل لهما أو لم يكن لهما غير الثمن، وهو قول أشهب في "الموازية"، وقول مالك في "المدونة"؛ لأنه قال: وكان الأصل لهم أو بأيديهم حبس أو مساقاة. والثاني: أن الشفعة في الثمار إذا -كان الأصل بينهما [وهو قول محمَّد بن المواز. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

[والثالث: أنه لا شفعة في الثمار أصلًا كان الأصل لهما] (¬1) أو لم يكن [لهما] (¬2) إلا الثمرة، وهو قول عبد الملك في "الموازية". ولأشهب في موضع آخر مثل قول محمَّد: أن الشفعة في الثمرة إذا كان الأصل بينهما؛ لأنه قال: إذا اقتسما الأصل دون الثمرة، ثم باع أحدهما حظه من الثمرة بعد الطياب، فلا شفعة فيها بعد قسمة الأصل، قال: والثمرة -هاهنا- كالبئر. والشفعة في الثمرة من المسائل التي انفرد بها مالك -رحمه الله-، وقال: ما علمت أحدًا قاله قبلي. وأما إن قام [الشفيع] (¬3) بعد يبس الثمرة، وكان بيع الشريك ساعتئذ: فلا شفعة له، قولًا واحدًا؛ لأنها كالثمرة المجذوذة؛ إذ لا منفعة لها في تعلقها بالأصول. ولا فرق في جميع ما ذكرناه بين النخل، والعنب، وسائر ما يبس من الثمار إذا بيعت بعد طيبها [وقبل] (¬4) يبسها. وأما ما عدا هذه الأنواع الثلاثة من جميع [الأنواع] (¬5): فلا خلاف -أعلمه- في المذهب -عندنا- أنه لا شفعة فيها. واختلف فيما يتعلق منها بالذمة، هل تكون فيه الشفعة أم لا، على قولين: أحدهما: أنه لا شفعة في الدين أصلًا، وهو قول ابن القاسم، وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بينهما. (¬3) في أ: الشريك. (¬4) في ب: وبعد. (¬5) في أ: الأموال.

مشهور المذهب في النقل. والثاني: أن الشفعة في الدين، وبه قال أشهب. ومعنى ذلك: إذا كان دينًا على رجل، ثم باعه مولاه أن الذي عليه الدين أولى بما بيع به، وقد قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في الدين. ولم يختلف في المذهب -فيما علمت- في إيجاب الشفعة في الكتابة بحق العتق، وإن المكاتب أحق بما بيعت [به] (¬1) كتابته. واختلف في بيع المنافع، هل هو كبيع الأعيان، أو لا، على قولين: فقيل: إن الكراء كالبيع، وقيل: ليس كالبيع، وكذلك الصدقة والهبة بغير عوض، وقيل: فيها الشفعة بقيمة الشقص، وقيل: لا شفعة فيها، وهو المنصوص في المدونة، وهو الصحيح إن شاء الله، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الخامسة في الشفعة في المناقلة

المسألة الخامسة في الشفعة في المناقلة وهي المبادلة؛ مثل أن يبادله شقصًا بشقص آخر، ولا يخلو المتبادلان من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يشتركا في الطرفين. والثاني: أن يشتركا من أحد الطرفين خاصة. والثالث: ألا يكون بينهما شركة في الطرفين جميعًا. فأما الوجه الأول: إذا اشتركا في الطرفين جميعًا؛ مثل أن يكون له شقص في موضع من المواضع، وللآخر معه شقص في موضع آخر، فتبادلا على أن يخرج كل واحد منهما لصاحبه من ذلك الموضع لينقل له ملكه، ويتوسع في حظه، وربما كان معهما شريك آخر في الطرفين جميعًا أو في أحدهما، هل تكون الشفعة لذلك الشريك أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن له الشفعة، وهو قول ابن القاسم، وروايته عن مالك. والثاني: أنه لا شفعة له في ذلك؛ لأنهما لم يقصدا إلى البيع، وإنما أراد كل واحد منهما التوسع في حظه بما صار إليه من حظ شريكه، وهو قول مطرف، وابن الماجشون، وهو أحد أقاويل مالك أيضًا، وهو الأظهر. فأما إن كانت الشركة من أحد الطرفين خاصة؛ مثل أن تكون الدار بين ثلاثة أشراك، فبادل أحدهما صاحبه شقصه على أن يعوضه بشقص له في

دار أخرى لا [شرك] (¬1) للذي انتقل إليها [فيها] (¬2) هل لأشراكه الشفعة أم لا؟ على قولين: أحدهما: [أن] (¬3) الشفعة في الطرفين جميعًا، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا شفعة في ذلك حتى تكون الناقلة من الطرفين، وهو أحد قولي مالك أيضًا، وعليه بني بعض المتأخرين. ويتخرج [فيه] (¬4) قول ثالث بوجوب الشفعة للشريك في الطرف [الذي ليس للمنتقل إليه فيه شرك؛ لأن ذلك بيع، ولا شفعة في الطرف الآخر الذي للمنتقل إليه فيه شرك؛ لأنه أراد أن يتوسع، وأما إذا لم تكن بين المتناقلين الشركة في الطرفين] (¬5) جميعًا؛ مثل أن تكون دار بين رجلين، فناقل أحدهما رجلًا أجنبيًا شقصه في هذه الدار على أن يأخذ سهم ذلك الأجنبي في دار [أخرى] (¬6) لم يكن للذي ناقله فيها شرك، فهل تجب فيها الشفعة أم لا؟ على قولين: أحدهما: وجوب الشفعة في الناقلة على الجملة، وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، وهذا [القول] (¬7) قائم من المدونة من مسألة الصالح من دعوى في سدس دار على الإنكار بشقص من دار أخرى. والثاني: أنه لا شفعة في المناقلة جملة، وهو أحد أقوال المذهب. ¬

_ (¬1) في أ: شريك. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: فيها. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

وسبب الخلاف: اختلافهم في المناقلة، هل هي كالبيع، أم لا؛ فمن جعلها كالبيع [قال بوجوب الشفعة، ومن لم يجعلها كالبيع] (¬1) قال: لا شفعة، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة السادسة في الشفعة في النقض إذا كانت العرصة لغير بائع النقض

المسألة السادسة في الشفعة في النقض إذا كانت العَرْصَة (¬1) لغير بائع النقض وقد ذكر في الكتاب مسألة الذي أذن لرجلين أن يبنيا في عَرْصَة له، فبنيا، ثم باع أحدهما نصيبه من النقض، وقال: إن رب العَرْصَة مقدم على الشريك في النقض بالأخذ في الشفعة، ثم قال: ليس ذلك من باب الأخذ بالشفعة، وإنما هو من باب دفع الضرر؛ لقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2) ثم استدل عليها بمسألة الشركاء الذين بنوا في الحبس، فباع بعضهم حصته من البعض أن الشفعة لبقية الورثة. وقد اختلف قول ابن القاسم في مسألة الحبس، فقال في "كتاب الشفعة": إن البناد موروث عن الباني، ويجوز فيه البيع لورثته، وتكون فيه الشفعة لبقية الأشراك، وقال في كتاب الحبس: إن ذلك لا يورث، وهو حبس لا يباع إلا أن يوصي الميت بذلك لورثته، فيورث عنه على معنى الملك. وقال المغيرة: لا يكون [من] (¬3) ذلك صدقة محرمة إلا الشيء اليسير كالميزاب أو خشبة أدخلها في الحائط، وأما ماله بال وقدر: فإنه يورث عنه على معنى الملك، وقول المغيرة -هاهنا- كقول ابن القاسم في "كتاب الشفعة". ¬

_ (¬1) العرصة: بوزن الضربة، كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء. (¬2) تقدم. (¬3) سقط من أ.

وقد ذهب [بعض المتأخرين] (¬1) إلى التلفيق بين ما وقع في الكتابين بما لا خفاء به على من طالع كتب الشرح. وأما مسألة العَرْصَة: إذا باع أحد الشريكين حصته من النقض، وإن رب العَرْصَة مُقَدَّم في الأخذ على الشريك، هل يجوز هذا البيع أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن البيع في ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن البيع لا يجوز؛ لأن ذلك غرر وخطر؛ إذ لا يدري [المشتري] (¬2) ما الذي يصح له إن كان النقض أو القيمة أو الثمن الذي دفع، وهو قول أشهب، وسحنون. وعلى القول بجواز البيع وصحته ممن يأخذ رب العرصة، هل من البائع أو [من] (¬3) المشتري؟ فالمذهب على قولين؛ قيل: من البائع، وقيل: من المشتري. وعلى القول بأنه يأخذه من البائع: فقد اختلف فيه المتأخرون على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يأخذه بالأقل من القيمة أو الثمن قائمًا. والثاني: [أنه] (¬4) يأخذه بالثمن فقط. والثالث: أنه يأخذه بقيمته مقلوعًا، وهو ظاهر قوله في "الكتاب" في اشتراء النقض والشريك غائب، حيث قال: يعطيه قيمة بنيانه، ولا يأخذ الثمن الذي اشتراه به. والأقوال كلها متأولة على المدونة. ¬

_ (¬1) في أ: المتأخرون. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

وعلى القول بأنه يأخذه من البائع أو بالأقل: فإن [البيع] (¬1) بينه وبين المشتري، ويرجع عليه المشتري بما دفع له. وعلى القول بأنه يرجع على المشتري فيأخذه، فبماذا يأخذه؟ هل بالثمن أم بالقيمة أم بالأقل؟ فعلى الثلاثة الأقوال التي قدمناها. وسبب الخلاف: هل ذلك من باب الأخذ بالشفعة، أو ذلك من باب دفع الضرر؟ وإن كان الأخذ بالشفعة في أصله من باب دفع الضرر، فمن رأى أن ذلك من باب الأخذ بالشفعة [حقيقة وحكمًا قال: يأخذ من المشتري بالثمن إلا أن كونه من باب الشفعة] (¬2) بعيد عن مذهب المدونة ومشهور المذهب؛ وذلك أنا [قررنا] (¬3) أن الشفعة إنما تجب للشريك في عين المبيع الذي عليه في قسمته ضرر، ورب العَرْصَة لا شركة له في الأنقاض، فبأي شيء يستوجب الشفعة، وقد قال في "الكتاب" في الذي باع نقض دار على أن يقلعه المشتري، فجاء رجل فاستحق القاعة، وأراد أن يأخذ النقض: أنه يأخذه من المشتري بقيمته منقوضًا , ولا يأخذه بالثمن؛ إذ لا شركة له في النقض، وكيف يصح أن يستشفع في النقض بسبب ملكه، وقد منع ذلك في هذه الصورة، وذلك منه اختلاف قول. وقال بعض المتأخرين: كان الأشبه ألا يأخذه بالثمن، ولعلهم إنما سامحوا في هذا؛ لأن ثم من يأخذ بالشفعة، وهو الشريك في النقض فكان هذا لما كان مقدمًا عليه حل محله، وعلى هذا الاعتلال لو لم يكن ¬

_ (¬1) في أ: البائع. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: قدرنا.

معه شريك في النقض، وكان واحدًا هو البائع لنقضه لم يأخذ ذلك رب الأرض إلا بقيمته كما قال في الذي استحق [القاعة] (¬1)، وقد باع نقضها من كانت بيده على القلع أنه لا يأخذ النقض إلا بقيمته مقلوعًا. ¬

_ (¬1) في أ: القاعدة.

المسألة السابعة في الحد الذي تنقطع إليه الشفعة

المسألة السابعة في الحد الذي تنقطع إليه الشفعة ولا يخلو الشفيع من أن يكون حاضرًا، أو غائبًا. فإن كان غائبًا: فلا يخلو من أن تكون غيبته قريبة أو بعيدة. فإن كانت بعيدة: فهو على شفعته -علم بالبيع أو لم يعلم طال الزمان أو قصر- إلا أن يطول الزمان جدًا مما يجهل في مثله أصل البيع، ويموت الشهود: فإن ذلك يقطع شفعته، وهو قول مالك في كتاب محمَّد. فإن كانت قريبة مما لا ضرر فيه على الشفيع في الشخوص للحضور، ولا كلفة مؤنة فيعد كالحاضر، وللإمام أن يكتب إلى قاضي البلدة التي هو فيها فيوقفه، إما أن يأخذ وإما أن يترك. وإن كان حاضرًا: فلا يخلو من أن يكون عالمًا بالبيع، أو غير عالم به. فإن كان غير عالم: فهو على شفعته، ويصدق أنه لم يعلم ما لم يطل ذلك. واختلف إذا قام بعد أربع سنين، وقال: لم أعلم بالبيع، هل يصدق ويمكن من أخذ الشفعة أم لا، على قولين: أحدهما: أنه يصدق، ولو بعد أربع سنين، وهو قول ابن عبد الحكم في "الموازية". والثاني: أنه لا يصدق في الزائد على أربع سنين، وهو قول ابن المواز.

وإن كان عالمًا بالبيع: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون له عذر. والثاني: ألَّا عذر له. فإن كان له عذر كالمرض [والصغر. فأما المريض فهو على شفعته حتى يصح أو يموت، فإن صح كان له الأخذ بالشفعة] (¬1)، وهل يكون الأخذ فيه على الفور، ويستأنف له الأجل أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن له من الأجل بعد برئه ما للحاضر، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في "الواضحة". والثاني: أن المريض كالصحيح فيما تنقضي فيه الشفعة، إلا أن يشهد في مرضه قبل مضي وقت الشفعة أنه على شفعته، وهو قول أصبغ في الكتاب المذكور. وأما الصغير العاجز غير البالغ، أو البكر البالغ، والغائب يقدم، هل يبتدأ لهم أمد الشفعة من يومئذ، أو يكون [وقفهم] (¬2) في الحال إما سلموا، وإما أخذوا؟ أما الصبي الصغير، والبكر البالغ: فلا يخلو من أن يولَّى عليهما، أو [لم] (¬3) يولَّى عليهما. فإن ولى عليهما بأب، أو وصي، فسلم الأب أو الوصي الشفعة، أو كانا مهملين، فسلمها عليهم السلطان: فلا شفعة لواحد منهما إذا بلغ مبلغ الأخذ [بالشفعة] (¬4) بنفسه، وهو نص المدونة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: وقوفهم. (¬3) في أ: لا. (¬4) سقط من أ.

فإن أهملوا الأمر، ولم يأخذوا, ولا صرحوا بالترك إلى أن بلغ الصبي؛ أما ترك الأب الأخذ بالشفعة: فإنه كترك الولد، فلا قيام له بعد بلوغه ورشده، وأما غير الأب من سائر الأولياء؛ كالوصي، والمُقَدَّم من جهة الحاكم، أو الحاكم نفسه إذا ترك الأخذ بالشفعة، وأهمل النظر فيها إلى بلوغ الصبي: فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: أنه لا قيام للصبي، بعد [بلوغه] (¬1) ولا شفعة له، وإن كان ذلك منهم تضييع، وتفريط كما لو فطر هو في الأخذ حتى انقضى الأمد، وهو بالغ رشيد، وهو قول مالك، وابن القاسم، وأشهب في "المجموعة". ويتخرج فيها قول آخر [أن] (¬2): له القيام بها بعد البلوغ. وينبني الخلاف: على الخلاف في الأخذ بالشفعة، هل طريقها طريق البيع، أو طريقها طريق الاستحقاق؟. فمن قاسها على البيع قال: لا قيام له بعد البلوغ، ومن قاسها على الاستحقاق قال: له القيام. فإن لم يولَّى عليه بأب، ولا وصي، وكان بموضع لا سلطان فيه: فله القيام بشفعته إذا بلغ، وهل يبتدأ له الأجل أجل الشفعة من يومئذ، أو يوقف من ساعته؟ فيتخرج على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه من يومئذ يصير كالحاضر الرشيد العاقل يكون له أجل الشفعة من يومئذ، وهو قول أشهب، وعبد الملك، ومطرف في "الواضحة" وهو قائم من المدونة من "كتاب الإيلاء" في الذي آلي من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

صبية صغيرة لا يوطأ مثلها: فإنه لا يؤجل حتى يمكن [من] (¬1) وطئها، فمن يومئذ يضرب له أجل المولى. والثاني: أنه لا يؤجل، ويوقف من ساعته، فإما أخذ وإلا ترك، وهو قول يستقرأ من المدونة من غير ما موضع. والغائب إذا قُدِّم كالصغير إذا بلغ. فإن كان الشفيع لا عذر له، وكان عالمًا بالبيع: فلا يخلو من أن يوقفه السلطان على الأخذ أو الترك، أو لم يوقفه. فإن أوقفه السلطان فصرح بالأخذ أو الترك، فلا إشكال، فإن صرح بالترك: فلا قيام له بعد ذلك، ولا خلاف في ذلك. وإن صرح بالأخذ: فلا رجوع له عنه بعد ذلك أيضًا، فإن كان له مال: أخذ منه الثمن، وإن لم يكن له مال: بيع عليه حظه الذي استشفع به، والشقص الذي استشفع فيه حتى يتم المشتري جميع الثمن، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في "العتبية". فإن كان أوقفه السلطان، فطلب منه التأخير حتى يرتئي وينظر، هل يمكن من ذلك وَيَتَلَوَّم له أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يتلوم [ويوقفه] (¬2) في الحال إما أخذ، وإما ترك، وهو قوله في "كتاب ابن المواز"، وهو قول أشهب في "المجموعة" أيضًا. والثاني: أنه يؤخره الإِمام اليومين والثلاثة لينظر ويستشير، وهو قول مالك في "مختصر ابن عبد الحكم": فأما إن قال: أنا آخذ، وطلب التأخير بالثمن اليومين والثلاثة: فذلك له، قاله مالك في "العتبية"، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: ويوقف.

و"الموازية" وغيرها. فأما إذا لم يوقفه السلطان، ولا تعرض له، فأي أمد ينقضي إليه الأخذ بالشفعة، وإلى أيّ مرد؟ فقد اختلف المذهب في ذلك على سبعة أقوال: أحدها: أنه على شفعته أبدًا, ولا تنقطع حتى [يوقف] (¬1) أو يصرح بتركها، وهو قول عبد الملك بن الماجشون عن مالك، وهو مذهب الشافعي. والثاني: الأخذ بالشفعة على الفور، فإذا علم بالبيع، وترك القيام فلا شفعة له بعد ذلك، وهو قول ابن وهب، وهو مذهب أبي حنيفة. والثالث: أن أمد الشفعة سنة، فإذا غربت الشمس من آخر تمام السنة، فلا شفعة له بعد ذلك، وهو قول أشهب في "العتبية" و"المجموعة". والرابع: أن السنة في حيز القليل، ولا تنقطع الشفعة إلا بالزيادة على السنة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، و"الموازية"، وقال في "الوثائق": مثل الشهر والشهرين، وحكى الصديني مثل ثلاثة أشهر، وهو موافق لقول ابن القاسم في الكتاب: وأن ما قرب الشيء فله حكمه، كما قال في كتاب الزكاة: إذا قدمها قبل الحول، وكما قال في كتاب الرضاع من المدونة. والخامس: أنّ أَمَد الشفعة لا ينقطع إلا بعد [أربع سنين] (¬2) وهو قول ابن الماجشون على ما حكاه ابن المعدل، ومثله لأصبغ في "الواضحة". والسادس: أن شفعته لا تنقطع إلى عشر سنين، اعتبارًا بالحيازة. ¬

_ (¬1) في ب: ينقطع. (¬2) في ب: أربعين سنة.

والسابع: أنه على شفعته ما لم يوقفه السلطان على الأخذ أو الترك، أو يصرح بتركها طوعًا منه، ويشهد بذلك على نفسه، أو يمضي من الزمان ما يدل على أنه تارك لها، أو يحدث فيها المبتاع بناء، أو غرسًا، أو هدمًا، أو تغييرًا وهو حاضر: فتنقطع شفعته إلا أن يقوم بحدثان ذلك، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في "الواضحة" وأنكر أن يكون مالك حد سنة، وقالا: سمعناه، وقد سئل عن شفيع حاضر قام على شفعته بعد خمس سنين، وربما قيل له أكثر من ذلك، فقال: في هذه لا أراه طولًا ما لم يحدث المشتري بنيانًا، أو تغييرًا بينًا وهو حاضر، فإن أجله أقصر من أجل الذي لم يحدث عليه، وإن كان قبل السنة، وهي رواية أصبغ عن أشهب في "العتبية" إذا بني أو غرس أنها تنقطع قبل السنة. والقولان المتقابلان هما الجاريان، وما عداهما من الأقاويل، فلا وجه له في طريق القياس [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الثامنة في الذي ابتاع دارا فهدمها أو باع النقض ثم استحق رجل نصفها، فهل يضمن الهادم للمستحق شيئا أم لا؟

المسألة الثامنة في الذي ابتاع دارًا فهدمها أو باع النقض ثم استحق رجل نصفها، فهل يضمن الهادم للمستحق شيئًا أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يضمن له؛ لأنه هدم بوجه شبهة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه يضمن، وهو ظاهر ما وقع في "كتاب محمَّد" في الثوب إذا قطعه بوجه شبهة، فقد قال محمَّد: إنه يضمن الثوب، وظاهر "المدونة" لا يضمن في الثوب إذا قطعه. وما فرق [فيه] (¬1) محمَّد من أن الثوب يرجع إلى هيئته، والدار لا ترجع إلى هيئتها ليس بين، وقد يقال: إن المشتري إذا وجب أن يضمن جناية الخطأ في العبد إذا اشتراه في أحد القولين: جاز أن يضمن الهدم والقطع. وعلى القول بأنه لا يضمن: فلا يخلو المستحق من وجهين: إما أن يجيز البيع، أو لا يجيزه؛ فإن أجاز البيع على أن يأخذ نصف الثمن: فلا إشكال، وإن أبى أن يجيز البيع في نصيبه: فلا يخلو قيام المستحق من أن يكون قبل فوات النقض من يد المشتري، أو بعد فواته. فإن كان قبل فواته: فإن المستحق يأخذ نصف العرصة، ونصف النقض، ويأخذ النصف الآخر بنقضه مهدومًا بالشفعة بنصف جميع الثمن إن شاء، ولا يحط عنه للهدم شيء. ¬

_ (¬1) في أ: به.

فإن قام بعد فوات النقض من يده فلا يخلو من أن يكون فواته بسبب سماوي، أو ببيع، أو هبة. فإن فات بأمر من الله تعالى: لم يكن على المشتري في النصف المستحق شيء، [وإن أراد أخذ النصف الباقي بالشفعة أخذه بجميع الثمن، ولا يحط عنه لتلف النقض شيء كما لو بيت المساكين ثم جاء الشفيع، وكذلك إن تلف] (¬1) بيد الموهوب له بأمر من الله تعالى: لم يضمن الواهب، ولا الموهوب له شيء. فإن كان فواته ببيع، أو هبة: فلا يخلو من أن يكون قائمًا بيد المشتري، أو فائتًا. فإن كان قائمًا: هل ينتقض فيه البيع، أو يأخذ المستحق ثمنه؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن النقض ينتقض فيه البيع، ويأخذ المستحق نصفه مع نصف العرصة بالاستحقاق، ويأخذ النصف الباقي من العرصة، والنقض بالشفعة إن شاء، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، و"الموازية". والثاني: أنه يأخذ الثمن الذي بيع به النقض مع القاعة من مشتري الدَّار يعطيه ثمن الذي به اشترى، وهو قول ابن القاسم في "كتاب ابن عبدوس" ولأشهب مثله في "كتاب ابن المواز" على ما حكاه عنه محمَّد وسحنون: أنه يأخذ [نصف] (¬2) النقض ويقاصص به المشتري فيما له عليه من ثمن نصف العرَصَة والنقض؛ مثل أن يباع النقض بخمسين ومائة، وكان شراؤه لجيمع الدار بمائة: فإن المستحق يأخذ نصف القاعة بالاستحقاق، ويأخذ النصف الآخر بالشفعة بخمسين دينارًا , وله في ثمن النقض خمسة ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: ثمن.

وسبعون دينارًا أو به ويتقاصا معه في خمسين، ويأخذ خمسة وعشرين، وأنكر هذا سحنون، وابن المواز؛ قال ابن المواز: هذا وهم، ولم يقله أحد من الناس. قالا: وقد أجمعوا على أن من ابتاع شقصًا له فيه شفيع، ثم باعه قبل أن يأخذه الشفيع بالشفعة، ثم قال الشفيع: أنا أجيز البيع، وآخذ الثمن، وأدفع إلى المشتري ما أشتري به: لم يكن له ذلك، قال سحنون: وهذا خلاف الاستحقاق؛ لأن المستحق إنما يبيع معه ملكه، والشفيع إنما يبيع ملك غيره، وهذا من باب ربح ما لم يضمن. فإن رضي المستحق بأخذ العرصة بما ينوبها من الثمن مع وجود النقض، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فإنه يتخرج على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك لا يجوز؛ لأنه صار آخذًا للعَرْصَة بثمن مجهول، لما كان قادرًا على أخذ النقض، وهو المشهور. والثاني: أن ذلك جائز، وهو أحد قولي ابن القاسم في جميع السلعتين في البيع، وعلى ذلك [الخلاف] (¬1) ينبني الخلاف [على الخلاف] (¬2) في هذه المسألة. فإن عرف ما ينوب النقض من الثمن وعرف ما ينوب العَرْصَة: فإن ذلك لا يلزم بائع النقض إلا برضاه؛ لأنه يقول: إنما رضيت ببيع النقض برخص من الثمن رغبة في بقاء الأصل في يدي، فإن أخذ الأصل من يدي فلا أرضى بثمن النقض، فإذا رضي بذلك جاز؛ لأنه كمن راضاه على أن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

يأخذ بعض ما له فيه الشفعة ويسلم بعضه. فإن كان النقض فائتًا عند مشتريه: فلا يخلو تلفه وهلاكه من أن يكون بأمر من الله، أو بسبب آدمي. فإن كان بسبب آدمي: فإن المستحق يأخذ نصف العَرْصَة، ونصف ثمن النقض من بائع النقض، فإن أراد الأخذ بالشفعة في النصف الباقي: فإن الثمن نقض على قيمة القاعة يوم وقع البيع، وعلى قيمته منقوضًا، فيحط من ذلك ما قابل الأنقاض في النصف المستشفع، ويأخذ القاعة بما ينوبها من الثمن. وهل يستشفع بما ينوبها من الثمن [فأبلغ أو إنما يستشفع بالأقل مما أخذ من ثمن الأنقاص؟ على قولين: أحدهما: أنه يستشفع بما ينوبها من الثمن] (¬1) قلَّ أو كثر؟ وهو قول ابن القاسم في "المدونة". [والثاني] (¬2): أنه يستشفع بالأقل مما أخذ من ثمن الأنقاض أو ما ينوب ذلك من الثمن، وهو قول ابن المواز. فإن فاتت بأمر من الله تعالى، فبماذا يستشفع؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يستشفع في العَرْصَة بقدر ما ينوبها من الثمن، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يستشفع بالأقل، وهو قول محمَّد. والثالث: أنه يستشفع بجميع الثمن، ولا يوضع عنه مما يقابل الأنقاض ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

شيئًا؛ لأن [ثمن] (¬1) الأنقاض يؤخذ بالشفعة مع العرصة لما كانت في حكم التبع. فإذا هلكت بأمر من الله تعالى كان على الشفيع إذا أخذ أن يأخذ بجميع الثمن، وهو قول أشهب. فإن بناها بعدما هدمها ثم استحق رجل نصفها: فإنه [لا يأخذ] (¬2) النصف المستحق، وقيل له: ادفع إليه قيمة البناء قائمًا، فإن أبى، قيل للمشتري: ادفع إليه نصف قيمة القاعة، فإن فعل فأراد أن يأخذ النصف الثاني بالشفعة، هل يمكن من الأخذ أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يمكن [من الأخذ] (¬3) بالشفعة؛ لأن الشقص الذي به يستشفع قد باعه، وهو مذهب المدونة. والثاني: أنه يمكن من الأخذ] (¬4) ويفضل الثمن على قيمة الأنقاض منقوضة، وقيمة العَرْصَة يوم وقع البيع، يأخذ بذلك وبنصف قيمة البناء قائمًا. وينبني الخلاف: على الخلاف في الشقص الذي به يستشفع إذا باعه بعد وجوب الشفعة، هل يجوز [له] (¬5) الأخذ بالشفعة أم لا؟ والخلاف في ذلك في المذهب معلوم، وهذا كله إذا هدمها المشتري. وأما إذا هدمها رجل أجنبي بتعدٍ منه، فترك له المشتري القيمة أو لم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: يأخذ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ.

يتركها له، ثم جاء رجل فاستحق نصف الدار، والهادم غائب، ولم يقدر عليه: فإن المستحق يأخذ نصف القاعة باستحقاقه، ويتبع الهادم بنصف [قيمة] (¬1) ما هدم، فإن أراد أخذ النصف الباقي بالشفعة فض الثمن على قيمة الأنقاض منقوضة، وعلى قيمة العرصة، فيأخذ الشفيع بما ينوبه من ذلك، ويتبع المشتري الهادم بقيمة ذلك قائمًا إن كان ما ترك له قيمة الهدم، وهو قول ابن المواز في كتابه، وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب الشفعة" [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في ب: قائمة. (¬2) زيادة من ب.

المسألة التاسعة في الشفعة فيما بيع بيعا فاسدا من الرياع والعقار

المسألة التاسعة في الشفعة فيما بيع بيعًا فاسدًا من الرياع والعقار ولا يخلو ما بيع بيعًا فاسدًا من أن يكون قائمًا بيد المشتري أو فائتًا. فإن كان قائمًا: فلا شفعة للشفيع مع علمه، فإن لم يعلم بفساد البيع وأخذ الشفعة: فإنه يرد إلا أن يفوت عند الأخذ بالشفعة بما يفوت به البيع الفاسد، فيكون عليه الأقل من قيمته يوم قبضه هو أو القيمة التي وجبت على المشتري؛ لأنه لا يقدر على رده لفواته عنده. فإن كان فائتًا: فلا يخلو من أن يكون فواته ببيع، أو بتغيير الذات؛ فإن فوته ببيع: فلا يخلو من أن يبيعه بيعًا صحيحًا، أو فاسدًا. فإن باعه بيعًا صحيحًا: فذلك فوت للبيع الفاسد، قولًا واحدًا إذا لم يعلم بفساد البيع الأول، فأما إذا علم بفساده وقصد ببيع الثاني تفويته البيع الفاسد: فالبيع الأول والثاني مردود، فإذا قلنا: بأن البيع الصحيح يفيت البيع الفاسد إذا لم يقصد بذلك الحيلة: فللشفيع أن يأخذ بالشفعة بالبيع الصحيح، وليس له أن يأخذ بالبيع الفاسد؛ لأنه إن أخذ به كان ذلك نقضًا للبيع الصحيح الذي به أمضى البيع الفاسد، وهو قوله في "المدونة" في رواية ابن وضاح. فإن باعه بيعًا فاسدًا: فلا يخلو من أن يكون قد فات، أو لم يفت. فإن لم يفت عند واحد منهما: فإنه يفسخ البيعتان جميعًا الأولى، والثانية. فإن فات عند المشتري الأول، ثم باع للآخر بيعًا فاسدًا، ثم قام الشفيع قبل أن يفوت عند الآخر: فبيع الآخر مفسوخ، وللشفيع الشفعة

بالبيع الأول. فإن فات عند الآخر: فللشفيع أخذها من أيهما شاء بالقيمة التي لزمته بعد علمه. فإن باعها للثاني من الثالث بيعًا صحيحًا: فذلك فوت للبياعات الفاسدة، وللشفيع أن يأخذ بأي صفقة شاء؛ فإن أخذها من الأول: فبالقيمة [لأنه] (¬1) قبضها، ويرجع كل واحد من الباقين بما دفع. وإن أخذ من الثاني: فبالقيمة يوم بيعه وقبضه بعد علمه بذلك كله. وإن أخذ من الثالث: فبالثمن وعهدته على من يأخذ منه، وإن أخذ من الأول زالت العهدة عن الباقين، ولا يأخذ من الأول، ومن الثاني حتى يتراجعا القيمة ويعرف، ولو فعل ذلك قبل ذلك لنقض البيع الصحيح وما قبله، وزالت الشفعة، أخذها من الأول أو من الثاني، وهذا كله قول أشهب في "الموازية" , و"المجموعة"، وهو مذهب "المدونة". فأما إذا كان فواته بتغيير الذات؛ مثل أن يبنى فيه المشتري أو يهدم، أو يغرس، أو يقلع الغرس، وأما البنيان العظيم مثل البيوت، والقصور يبنيها المشتري، أو غرس يغرسه، أو بنيان يهدمه: فلا خلاف فيه [في المذهب] (¬2) أن ذلك فوت، وللشفيع أن يأخذ بالشفعة بالقيمة مع قيمة ما أنفق المشتري في العمارة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". وفي الهدم يأخذ بقيمتها يوم القبض، ولا يوضع عن الشفيع للهدم شيء، ويقال له: خذ بجميع القيمة التي لزمت المشتري أو دع. ¬

_ (¬1) في أ: لأنها. (¬2) سقط من أ.

واختلف في البنيان اليسير، والإصلاح الخفيف هل حكمه حكم [البنيان] (¬1) الكثير، أو حكمه حكم تغيير البناء من غير هدم على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن اليسير من البنيان كالكثير منه، وهو ظاهر المدونة من غير ما موضع؛ لأنه يقول: البناء والهدم فوت، ولم [يفصل] (¬2) ولا فسر. والثاني: أن اليسير من البنيان كتغيير البنيان، وهذا قول استقرأه بعض المتأخرين من قوله في "كتاب الشفعة" من "المدونة": وكان فيها بنيان القصور، والبيوت، فهذا فوت أيضًا، فقال هذا تفسير ما أجمله في غير هذا الموضع، وكان البناء اليسير، والإصلاح الخفيف حكمه حكم تغيير البناء من غير هدم، وإلى هذا المعنى أشار [القاضي] (¬3) أبو الفضل -رحمه الله. واختلف في حوالة الأسواق في الرياع، هل هي فوت أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك ليس بفوت، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وغيرها، وهو المشهور في المذهب. والثاني: أنها فوت في الرياع كغيرها، وهو قول أشهب في "الموازية" وغيرها. ويؤخذ لابن القاسم من "المدونة" مثل قول أشهب من قوله في اختلاف البائع والمشتري والشفيع: إن كانت الدار في يد البائع أو في يد ¬

_ (¬1) في أ: البناء. (¬2) في أ: يقصد. (¬3) سقط من أ.

المشتري: لم تفت بطول الزمان، أو بهدم، أو تغيير المساكن إلى آخر ما ذكر: فالقول قول البائع يريد، ويتحالفان، ويتقاسمان. وإن تغيرت بما ذكرت لك، وهي في يد المشتري: فالقول قوله؛ لأن طول الزمان يتضمن حوالة الأسواق، والاستقراء ظاهر، وإليه [نحا] (¬1) أبو عمران الفاسي وغيره، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: أشار.

المسألة العاشرة إذا اشترى شقصا بطعام بعينه ثم استحق ذلك الطعام

المسألة العاشرة إذا اشترى شقصًا بطعام بعينه ثم استحق ذلك الطعام فلا يخلو استحقاقه من أن يكون قبل الأخذ بالشفعة، أو بعده، فإن كان قبل الأخذ، هل يفسخ البيع أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن البيع يفسخ، ولا شفعة [فيه] (¬1) وهو مذهب المدونة، وهو مشهور المذهب. والثاني: أن البيع لا ينتقض، وعليه أن يأتي بطعام مثله، وهو قول محمَّد في كتابه. وسبب الخلاف: اختلافهم في الطعام هل هو مراد لعينه، [أو مراد] (¬2) لغرضه. فإن كان الاستحقاق بعد الأخذ بالشفعة: فالبيع ماض ولا يرد، ويغرم الشفيع مثل الطعام الذي به وقع الشراء للمشتري. واختلف ما الذي به يرجع للبائع على المشتري على قولين متأولين على "المدونة". أحدهما: أنه يرجع عليه بمثل طعامه، وهو قول ابن المواز، وهو تأويل بعضهم على "المدونة". والثاني: أنه يرجع على المشتري بقيمة شقصه، وهو تأويل بعضهم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

على "المدونة" أيضًا؛ لأنه قال في الكتاب: ولو أخذ الشفيع الشقص ثم استحق الطعام لم يرد وغرم له مثل طعامه؛ فتأول بعضهم أن الشفيع هو الذي يغرم للمشتري مثل الطعام الذي به اشترى، ويغرم، وهو للبائع قيمة شقصه، وهذا التأويل أسعد بظاهر الكتاب، وأجرى على أصول المذهب، وهو تأويل أبي الحسن بن القابسي. وسبب الخلاف: ما قدمناه من اختلافهم في الطعام المعين، هل هو مراد لعينه، أو مراد لغرضه. ومن هذه المسألة يؤخذ جواز السلم الحال أيضًا على ما نبهنا عليه في كتاب المرابحة؛ وذلك أن مشتري الشقص قد أسلمه في كذا وكذا قفيز حنطة في ذمة الشفيع على وجه الحلول [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة [الحادية] عشر في [عهدة] الشفيع على من تكون

المسألة [الحادية] (¬1) عشر في [عهدة] (¬2) الشفيع على من تكون ولا خلاف في مذهب مالك -رحمه الله- أن عهدة [الشفيع] (¬3) على المشتري لا على البائع، سواء أنفد المشتري الثمن أم لا إلا شيئًا استقرأه بعض المتأخرين من "المدونة": أن الشفيع مخير إن شاء كتب عهدته على البائع، وإن شاء على المشتري، والموضع الذي يُستقرأ منه ذلك، إذا بيع الشقص وتداولته الأملاك؛ حيث قال: فإن الشفيع يأخذ بأي صفقة شاء. ولا شك أنه إذا أخذ ببعض الصفقات المتوسطات، فإن عهدته على الذي أخذ منه الشقص، وهو بائع ومبتاع. فإن كان المشتري لم يدفع الثمن إلى البائع: فلا يخلو من أن يكون حاضرًا، أو غائبًا -أعني: المشتري-؛ فإن كان حاضرًا: فعلى المشتري دفع الثمن للبائع على المشتري إن كان الثمن نقدًا، وعلى المشتري تسليم الشقص [للشفيع] (¬4) إن كان قد قبضه من البائع، وإن لم يقبضه: فللبائع أن يقبضه للشفيع، وعهدته في ذلك كله على المشتري لا على البائع، وإنما تكون عهدة الشفيع على البائع -في مذهبنا-[في] (¬5) العامل إذا اشترى بمال القراض شقصًا هو شفيعه: فإن عهدته على البائع لا على رب المال إذا لم يرض رب المال بشرائه لما يكون عليه من عهدته، ¬

_ (¬1) في أ: الحادي. (¬2) في أ: مذهب. (¬3) في أ: المشفع. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: على.

وهذا قول أشهب في "المجموعة". وروى بعض المتأخرين [أن سحنون] (¬1) يقول: إذا أخذ العامل بالشفعة فعهدته على رب المال، وهذا القول حكاه القاضي أبو الفضل، فإن اشترى العامل شقصًا بمال القراض، ورب المال شفيعه: فعهدته على البائع قولًا واحدًا؛ إذ لا سبيل إلى أن تكون عهدته على العامل؛ لأن ذلك يؤدي [إلى أن تكون] (¬2) عهدته على نفسه؛ لأن المال ماله وفيه تكون العهدة، فيتحصل في العامل إذا كان هو الشفيع قولان: أحدهما: أن عهدته على البائع. والثاني: أنها على رب المال. وإذا كان رب المال هو الشفيع: فعهدته على البائع قولًا واحدًا. وإذا كان الشفيع أجنبيًا: فعهدته على المشتري، قولًا واحدًا. فإن كان المشتري غائبًا، فأبى البائع من دفع الشقص: فالمذهب علي قولين: أحدهما: أن السلطان ينظر في ذلك، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، و"الموازية". والثاني: أنه ينظر فإن قربت غيبته كتب إليه السلطان حتى يقدم، فيكتب عليه العهدة، فإن بعدت غيبته: قضى للشفيع بشفعته، وقضى للبائع بقبض الثمن منه إن لم يكن قبضه، وإن كان البائع [قد قبضه أخذه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

الإِمام من الشفيع، فأوقفه للمبتاع، وكتب عليه العهدة، فإذا قدم] (¬1) أشهد بذلك على نفسه، وهو قول أشهب في "المجموعة"، و"الموازية". قال محمَّد: وإن مات فالعهدة على ورثته -يريد في تركته- وإذا حكم على المبتاع [بالشفعة] (¬2) فأبى من أخذ الثمن قال: يحكم له بها ويكتب له العهدة على المبتاع، ويأخذ الثمن [فيوقفه] (¬3) له وهو مال من ماله، والشفيع منه بريء. وأما إذا اشتراه بثمن إلى أجل، ثم قام الشفيع، فطلب الأخذ بالشفعة: فلا يخلو قيامه من وجهين: إما أن يكون قبل حلول الأجل، أو بعده. فإن قام بالشفعة قبل حلول الأجل: فلا يخلو من أن يرضى بتعجيل الثمن نقدًا، أو قال: تؤدي عند حلول الأجل. فإن رضي بتعجيل الثمن على الحلول: فذلك جائز، ويجبر المشتري على قبضه، ثم لا يلزمه تسليمه للبائع حتى يحل الأجل، وليس للبائع أن يمنع الشفيع من قبض الدار، وهو قوله في "المدونة". فإن قال الشفيع: لا أدفع [الثمن] (¬4) إلا إلى الأجل: كان ذلك له. فإن طلب قبض الدار من ساعته: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يتساويا في الملاء، أو يتساويا في العسر، أو يختلفا. فإن تساويا [في اليسر والملاء، فإنه الشفيع يقبض الشقص من ساعته، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: بشفعته. (¬3) في ب: فيوقف. (¬4) سقط من ب.

ولا شيء عليه لا حميل ولا غيره، حتى يحل الأجل، ولا خلاف أعلمه في هذا الوجه، فإن تساويا] (¬1) في العسر، فأبى المبتاع تسلم الشفعة إلا [بحميل] (¬2) هل له ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن للشفيع أن يأخذها بغير حميل، ولا حجة للمشتري [بتعضل البائع عليه بتأخيره بلا رهنٍ ولا كفيل، وهو قول مالك في المجموعة والموازية. والثاني: أن الشفيع] (¬3) لا يأخذها إلا بحميل مهما كان عديمًا، وسواء كان المشتري موسرًا أو معسرًا، وهو قول ابن المواز. فإن اختلفت حالاتهما؛ مثل أن يكون أحدهما موسرًا، والآخر معسرًا، أو كانا جميعًا موسرين أو معسرين إلا أن أحدهما أيسر من الآخر، أو أعسر منه؛ أما إن كان موسرًا (¬4) والمشتري معسرًا، أو كانا موسرين إلا أن الشفيع أيسر منه: فإنه يأخذ بالشفعة بلا رهن، ولا حميل، قولًا واحدًا. وإن كان المشتري موسرًا، والشفيع معسرًا: فلا يأخذه الشفيع إلا برهن أو حميل، قولًا واحدًا. فإن كانا موسرين، إلا أن المشتري أيسر منه، هل [يأخذه] (¬5) الشفيع بحميل، أو بغير حميل؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يأخذه إلا بحميل ثقة، وهو قول أشهب في "الموازية". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بشفيع بحميل. (¬3) سقط من أ. (¬4) أي: الشفيع. (¬5) في ب: يأخذ.

والثاني: أنه يأخذه بغير حميل إن كان مَلِيًا، وإن كان المشتري أملى منه، وهو قول ابن المواز. ولو اشتراه المشتري بثمن إلى أجل على أن أعطى للبائع حميلًا أو رهنًا: لم يكن للشفيع أن يأخذه إلا بذلك -كان موسرًا أو معسرًا- وهو قول أشهب في "الموازية"، ولا أظنهم يختلفون في ذلك. فأما إذا قام الشفيع بعد حلول أجل الثمن، وقد قبضه البائع أو لم يقبضه، فقال الشفيع: أنا آخذ بالشفعة على أن يكون الثمن [عليّ] (¬1) إلى مثل ذلك الأجل، أرتفق أنا كما ارتفقت به أيها المشتري، هل يمكن من ذلك أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يمكن من ذلك، ويرتفق بالأجل مثل ما ارتفق به المشتري، وهو قول عبد الملك في "المجموعة"، و"الموازية"، وبه أخذ ابن حبيب، قال: وهو قول مالك. والثاني: أنه لا يأخذه إذا قام بعد حلول الأجل إلا بنقد، ولا يستأنف له الأجل، وهو قول أصبغ في الواضحة، والقول الأول أظهر في النظر. وأما إن اشترى الشقص بدَين كان له على البائع إلى سنة، فقام الشفيع، هل يأخذه بالثمن نقدًا أو إلى أجل أو إنما يأخذه بالقيمة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يأخذه بالثمن الذي اشترى به المشتري نقدًا ولا يؤخر، وهو قول مالك في كتاب محمَّد، وبه قال أصبغ؛ لأن ما على المشتري من الثمن قد حَلَّ بقبض الدّار، وحاصَصَ البائع بالثمن فيما له عليه من الدَّين برضاهما. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثاني: [أنه يأخذه] (¬1) بمثل الدنانير التي له عليه إلى مثل الأجل، وهو قول ابن المواز على ما نقله التونسي [رحمه الله] (¬2). وعلى القول بأنه يأخذه بالقيمة، هل بقيمة الدين، أو بقيمة الشقص؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يأخذه بقيمة ذلك الدين عرضًا نقدًا يدفعه؛ لأن الدين عرض من العروض، وهو قول ابن الماجشون في "الموازية"، و"المجموعة"، و"الواضحة". والثاني: أن الدين يقوم بالعرض ثم يقوم العرض بالعين، ثم يأخذ الشفيع بذلك العين، وهو قول سحنون في "كتاب ابن عبدوس"، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) زيادة من ب.

المسألة الثانية عشر في قيام الشفيع في الأرض بالشفعة وهي مبذورة

المسألة الثانية عشر في قيام الشفيع في الأرض بالشفعة وهي مبذورة فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك قبل طلوع البذر [من الأرض] (¬1). والثاني: أن يكون ذلك بعد ظهوره. فإن كان ذلك قبل بروز الزرع، مثل أن تكون [الأرض] (¬2) بين الشريكين، فيبيع أحدهما نصيبه منها، فيريد الشريك الأخذ بالشفعة، وهي مبذورة: فلا يخلو الأمر فيها من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون المبتاع هو الباذر لها. والثاني: أن يكون البائع هو الباذر لها، وباعها مبذورة. والثالث: أن يكون البذر لغيرهما؛ مثل مكترٍ، أو ممنوح، أو ما أشبه ذلك. فالجواب عن الوجه الأول من الوجه الأول: إذا كان المشتري هو الذي بذرها، هل يأخذ الشفيع الأرض ببذرها، أو يبقى للمشتري أم لا؟ على قولين قائمين من المدونة. أحدهما: أن الشفيع يأخذ الأرض [ويبقى البذر للمبتاع الذي بذره، وهو نص قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن الشفيع يأخذ الأرض] (¬3) والبذر، وهذا القول يستقرأ من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

المدونة، وعند ذكر سبب الخلاف يتبين [موضع الاستقراء، وعلى القول بأن الزرع يبقى للمشترى، فلا يصح له الأخذ بالشفعة إلا بعد طلوع البذر] (¬1)؛ إذا لا يصح للرجل أن يبيع أرضه، وهي مبذورة، فيستثنى البذر. وعلى القول بأنه يأخذه مع الأرض بالشفعة فبماذا يأخذه؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يأخذه مع الأرض بقيمة البذر مع العمل. والثاني: أنه يأخذه بقيمته على الرَّجاء، والخوف، والقولان حكاهما [أبو الوليد بن رشد -رحمه الله] (¬2). وسبب الخلاف: اختلافهم في الأخذ بالشفعة، هل طريقه طريق البيع، أو طريقه الاستحقاق؟ فمن رأى أن طريقه طريق البيع، قال: يأخذ الأرض مع الزرع بالشفعة، كما يكون البذر للمشتري إذا اشترى الأرض، ولاسيما على أحد قولي المذهب أن الشفعة في الزرع إذا بيع [مع] (¬3) الأرض، وهو قول بعض أصحابنا، وهو ظاهر قول مالك في سماع أشهب عنه: أن الشفعة في الأرض في كل ما أنبتت الأرض. ومن رأى أن [طريقه] (¬4) طريق الاستحقاق قال: الزرع يكون للمشتري دون الشفيع. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان البائع هو الباذر لها: فليأخذها الشفيع مبذورة بجميع الثمن على القول الذي يرى [أن] (¬5) في الزرع ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ابن رشد. (¬3) في أ: من. (¬4) في أ: طريقها. (¬5) سقط من أ.

الشفعة، وعلى القول الذي يقال فيه: أن الأخذ بالشفعة طريقه طريق البيع، وأما على القول الذي يحمل فيه الأخذ بالشفعة محمل الاستحقاق، فإنه يأخذ الأرض بما ينوبها من الثمن خاصة. والجواب عن الوجه الثالث: إذا كان غيرهما هو الباذر لها: فإنه يأخذ الأرض بالشفعة دون البذر بجميع الثمن، ولا كلام في هذا الوجه. وأما [الجواب عن] (¬1) الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا قام الشفيع بعد طلوع البذر وظهوره: فلا يخلو من الأقسام التي قدمناها، غير أن الوجهين يستوي الحكم فيهما؛ وهو أن يكون البذر للمبتاع، أو يكون لأجنبي: فإن الشفيع يأخذ [فيهما] (¬2) الأرض دون الزرع بجميع الثمن. وأما إن كان البذر قد بذره البائع: فلا يخلو قيام الشفيع من أن يكون قبل يبس الزرع، أو بعده. فإن كان قيامه قبل يبس الزرع وطيبه، هل يأخذ الزرع والأرض بالشفعة أم لا؟ على قولين، وقد قدمناهما في الوجه الأول: أحدهما: أنه يأخذ الزرع، والأرض بجميع الثمن على القول بوجوب الشفعة في الزرع، وعلى القول بأن محملها محمل البيع. والثاني: أنه يأخذ الأرض بما ينوبها من الثمن، على القول الذي لا يرى في الزرع شفعة. فإن قام الشفيع بعد يبس الزرع: فلا يخلو من أن يكون البذر للبائع، أو للمشتري. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن كان للبائع: فإن الشفيع يأخذ الأرض بما ينوبها من الثمن، قولًا واحدًا، ولا يأخذ الزرع. فإن كان [للمبتاع] (¬1) أو الأجنبي: فإن الشفيع [لا يأخذ إلا] (¬2) بجميع الثمن؛ لأنه إن كان البذر له: فقد أحرثه بعد الشراء، وإن كان للأجنبي: فالبيع في الأرض دون الزرع، ولا إشكال في ذلك. ويلتحق بهذه المسألة فصل آخر [وهو] (¬3) طروء المستحق على الأرض، وقد زرعت: ولا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يستحق الأرض والزرع. والثاني: أن يستحق الأرض دون الزرع. فأما إذا استحق الأرض والزرع؛ مثل أن يزرع الرجل أرضه، فيتعدى عليه فيها رجل فيبيعها: فهو بالخيار بين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن، وبين أن يأخذ أرضه [بزرعها] (¬4) ولا كلام في هذا الوجه. وأما إذا استحق الأرض دون الزرع: فلا يخلو الأمر في ذلك من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون البذر بذره المستحق منه. والثاني: أن يكون بذره البائع. والثالث: أن يكون الأجنبي. فأما الحال الأول: إذا بذره المستحق منه: فإن كان غاصبًا: فحكمه ¬

_ (¬1) في أ: للبائع. (¬2) في أ: يأخذ الأرض. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: ويزرعها.

حكم الغاصب، وهو معلوم، فإن كان غير غاصب: فلا شيء للمستحق في الزرع، ولا له قلعه، وإنما له الكراء إن لم يكن فات الإبان. وأما الحال الثاني: إذا كان البذر لأجنبي بوجه صحيح فهو له، ويأخذ المستحق أرضه، وله على [الزارع] (¬1) الكراء إن [كان] (¬2) أكرى منه، وإن كان الغاصب هو الذي أكرى منه، فله الكراء أيضًا إن كان الإبان لم يفت، وإن كان الإبان قد فات: جرى ذلك على الخلاف الذي في غلة الأرض المغصوبة، وقد تقدم القول بها. وأما الحال الثالث: إذا بذره البائع فباع الأرض مبذورة من المستحق منه: فإن المستحق يأخذ أرضه، وهل ينفسخ البيع في الزرع أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن البيع ينفسخ فيه، ويرجع المبتاع بجميع الثمن على البائع، وهو قول مالك في المدونة. والثاني: أن الزرع يبقى للمبتاع، ويرجع على البائع فيما ينوب الأرض من الثمن، وهو قوله في "كتاب ابن المواز". وينبني الخلاف على: الخلاف فيما يوجبه الحكم، هل هو مثل ما يوجبه الشرط أم لا؛ فمن رأي أن مثل ما يوجبه الحكم مثل ما يوجبه الشرط قال: يفسخ البيع في الزرع كأنه اشتراه دون الأرض على البقاء. ومن رأى أن ما يوجبه الحكم خلاف ما يوجبه الشرط، قال: الزرع يبقى للمبتاع؛ لأن ذلك شيء أوجبته الأحكام [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: الزرع. (¬2) سقط من ب. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الثالثة عشر في شراء الأنقاض على الهدم، أو النخل على القلع، والشفعة في ذلك

المسألة الثالثة عشر في شراء الأنقاض على الهدم، أو النخل على القلع، والشفعة في ذلك اعلم أن هذه المسألة تحتوي على ستة أسئلة: أحدها: [أن] (¬1) يشتري النخل على القلع، ثم يستحق الأرض أو بعضها؟ والثاني: أن يشتري النخل [ثم] (¬2) يشتري الأرض بعد ذلك , فيستحق الأرض أو بعضها؟ والثالث: أن يشتري الأرض [أولًا] (¬3) ثم يشتري النخل، فيستحق الأرض أو بعضها؟ والرابع: أن يشتري النخل على القلع، ثم يشتري الأرض، فيستحق رجل نصف الأرض ونصف النخل؟ والخامس: أن يشتري الأرض أولًا، ثم يشتري النخل بعد ذلك، فيستحق رجل نصف الأرض ونصف النخل؟ والسادس: أن يشتري النخل خاصة على أن يقلعها، فيستحق نصف الأرض ونصف النخل. فالجواب عن السؤال الأول: وهو أن يشتري النخل على القلع، ثم يستحق الرجل الأرض أو بعضها، هل ينتقض البيع في الأنقاض أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

على ثلاثة أقوال: أحدها: أن البيع جائز في الأنقاض، ولمستحق الأرض أن يأخذ من المبتاع النخل [بقيمتها مقلوعة] (¬1)، وليس من وجه أنه شفيع؛ إذ لا شركة له معه فيها, ولكن من وجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2)، فإن شاء خلَّى بينه، وبين قلعها، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن ذلك البيع لا يجوز، ويفسخ؛ إذ لا يدري المشتري ما يصح [له] (¬3) إن كان النقيض [أو] (¬4) قيمته مقلوعًا، ويرجع النخل إلى البائع، ولا يكون لمستحق الأرض عليها سبيل. والثالث: التفصيل بين أن يكون البائع للنقض غاصبًا للأرض، أو مشتريًا. فإن كان غاصبًا: فإن المستحق يدفع إلى البائع الغاصب قيمة النخل مقلوعة، ويأخذها إن شاء، وينقض شراء المشتري لها، وإن شاء أسلمها إليه فقلعها. وإن لم يكن غاصبًا: فالمستحق بالخيار بين أن يدفع إلى البائع قيمة النخل قائمة، وينتقض شراء المشتري، وليس للمبتاع أن يأخذ من البائع هذه القيمة التي أخذ من المستحق، وإنما له أن يأخذ منه الثمن الذي دفع إليه على القلع؛ لأنها قد استُحقت من يده كمن باع سلعة بمائة، ثم باعها من آخر بتسعين، فأخذها المبتاع الأول: فليس للمبتاع أن يأخذ من البائع الثمن الذي أخذ من المبتاع الأول، وإنما له أن يرجع بالثمن الذي دفع إليه؛ ¬

_ (¬1) في ب: بقيمته مقلوعًا. (¬2) تقدم. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ.

[لأنّ] (¬1) السلعة استحقت من يده، وهو قول سحنون [رحمه الله] (¬2). فإن قال مستحق الأرض: لا أعطيه قيمة البناء، قيل للبائع: أعطه قيمة الارض براحًا، ويتم البيع للمبتاع في النخل، ويقلعها على ما اشتراها عليه، فإن أبى من ذلك أيضًا: كانا شريكين في النخل، والأرض؛ هذا بقيمة النخل قائمة، والمستحق بقيمة الأرض بيضاء، وينتقض شراء المشتري فيما صار لمستحق الأرض من الأنقاض، ويمضى شراؤه فيما صار منها للبائع إن كان الذي صار له منها جلها، ويرجع عليه من الثمن بقدر ما صار منها للمشتري. وإن كان الذي صار منها للبائع غير الجل مما يكون للمشتري فيه أن يرد: فليس له أن يمسك، وإن كان الجزء معلومًا؛ لأن ما يصير له بالقسمة مجهول؛ إذ لا ينقسم إلا مع الأرض على الاختلاف في هذا الأصل في غير ما موضع من المدونة. فإن استحق المستحق بعض الأرض مثل نصفه: فإن المستحق يأخذ نصف الأنقاض، وهو ما قابل النصف المستحق بقيمتها مقلوعًا على مذهب ابن القاسم في المدونة. واختلف في النصف الثاني، هل يأخذه بالشفعة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يأخذه بالشفعة بالثمن، وهذا القول حكاه [الشيخ] (¬3) أبو محمَّد عبد الحق عن شيوخه، وهو قائم من "المدونة" من "كتاب الشفعة" من "مسألة الأنقاض". والثاني: أنه يأخذه بقيمته مقلوعًا على معنى دفع الضرر، لا معنى ¬

_ (¬1) في أ: فإن. (¬2) زيادة من ب. (¬3) زيادة من ب.

الأخذ بالشفعة، وهو نص قوله في المدونة. وينظر في النصف المستحق على مذهب سحنون المتقدم إن كان البائع غاصبًا أو مشتريًا، بمثل ما تقدم. والجواب عن السؤال الثاني: إذا اشترى النخل على أن يقلعها، ثم يشتري الأرض فيستحقها رجل: فإن المبتاع يرجع على البائع بثمن الأرض الذي استحقت من يده، ثم يكون الحكم بين مبتاع النخل، وبين المستحق في الأنقاض على ما تقدم في السؤال الأول من قول ابن القاسم، وسحنون، فلا نُطَوِّل بتكراره. والجواب عن السؤال الثالث: إذا اشترى الأرض أولًا، ثم اشترى الأنقاض، فيستحق الأرض رجل: فإن المستحق للأرض هاهنا لا يأخذ الأنقاض على مذهب ابن القاسم إلا بقيمتها قائمة؛ لأنه زاد في ثمن الأنقاض [ليبقيها] (¬1) في أرضه، وليس هو بمنزلة من اشتراها للقلع، كذا حكاه أبو محمَّد عبد الحق في كتابه، وهو الصحيح. وينبغي على هذا أنه إذا أبى أن يدفع إليه قيمتها قائمة أن يقال للمشتري: [أعطه] (¬2) قيمة أرضه براحًا، فإن أبى من ذلك: حملا على ما تقدم من الشركة. وينبغي على مذهب سحنون أن ينظر؛ فإن كان البائع غاصبًا: فللمستحق أن يدفع إليه قيمة النقض منقوضًا، وينتقض البيع فيه بينه وبين المشتري، فيرجع عليه بالثمن الذي دفع إليه، فإن أبى من ذلك: مضى ¬

_ (¬1) في أ: ليقلبها. (¬2) في أ: أعلمه.

النقد للمشتري [في] (¬1) شرائه، وبقى فيه على حقه [والمستحق للأرض على حقه] (¬2) فيها. فإن لم يتفقا في ذلك على شيء يجوز بينهما: بيعت الدار، وقسم الثمن بينهما على قدر قيمة الأنقاض وقيمة العَرْصَة براحًا. وإن كان البائع للأنقاض مشتريًا: قيل للمستحق: ادفع إليه قيمة الأنقاض قائمة، فإن فعل انتقض البيع فيها. فإن أبى من ذلك قيل للبائع: ادفع إليه قيمة البقعة براحًا، فإن فعل: كانت له البقعة، وللمبتاع النقض، فإن اتفقا فيه على شيء يجوز بينهما، وإلا بيع الجميع، واقتسما الثمن على القيم، وإن أبيا من ذلك: حملا على الشركة، على ما تقدم، وانتقض [البيع فيما صار للمستحق من النقض ومضى فيما صار فيه للبائع على ما تقدم من التفسير. والجواب] (¬3) عن السؤال الرابع: إذا اشترى النخل على القلع أولًا، ثم يشتري الأرض، فيستحق رجل نصف الأرض. [وعن الخامس: إذا اشترى الأرض أولًا، ثم اشترى النقض في صفقة أخرى، فيستحق رجل نصف الأرض] (¬4) والنخل: فقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا شفعة في النخل، وهو قول أشهب، وأحد قولي ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن الشفعة فيها، وهو القول الآخر لابن القاسم في المدونة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

والثالث: التفصيل بين أن يشتريها قبل الأرض: فتكون فيها الشفعة، أو يكون اشتراها بعد الأرض: فلا شفعة فيها، وهو اختيار ابن المواز. فأما على القول بوجوب الشفعة في النخل: فإن المستحق يأخذ نصف الأرض، ونصف النخل بالشفعة بنصف الثمن، وإن شاء أخذ نصف الأرض بالشفعة، وترك نصف النخل، فيقلعها المبتاع في السؤال الرابع، ويبقى على حقه فيها السؤال الخامس إذا لم يشترها على القلع، وإن شاء أخذ النخل بالشفعة وترك الأرض. وأما على القول بأن لا شفعة في النخل: فقد اختلف هل له أن يأخذها بالقيمة من أجل قوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1) أم لا على قولين: [أحدهما] (¬2): أن ذلك له. والثاني: أنه ليس له ذلك. فإذا قلنا: إن ذلك له، فإنه يأخذها بالقيمة قائمًا في المسألتين ما وقع في بعض [روايات المدونة. وعلى قياس ما حكاه أبو محمَّد عبد الحق لا يأخذها بالقيمة قائمة إلا في السؤال] (¬3) الخامس؛ وهو إذا اشترى الأرض قبل النخل. والجواب عن السؤال السادس: إذا اشترى النخل خاصة على أن يقلعها، فيستحق رجل نصف النخل، ونصف الأرض: فإن البيع ينتقض فيما بقى في يد المشتري من النخل مما لم يستحق على البائع، ويرجع بجميع الثمن على البائع؛ إذ لا يقدر على الوصول إلى نصف ما اشترى ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) في أ: قيل. (¬3) سقط من أ.

إلا [بمقاسمة البائع] (¬1) لمستحق الأرض مع النخل [وهذا] (¬2) إذا قاسمه قد يقل ما يصير له في نصيبه لجودة الأرض، أو يكثر لرداءته، فلا يجوز له أن يتمسك بما بقي في يد البائع منها؛ لأن ذلك مجهول فينقض البيع كما قال ابن القاسم فيمن اشترى نصيب رجل في نخل وشريكه غائب: أن ذلك لا يجوز؛ لأنه لا يستطيع قسمة النخل وحدها دون الأرض، فيؤول ذلك إلى الجهل إذا قسم مع غيره، على أن ابن القاسبم قد قال في "المدونة": إذا اشترى نقض دار على أن يقلعه ثم أتى رجل، فاستحق نصف الدار أن له أن يرد ما بقي في يده من النقض بما لم يستحق على البائع، وظاهر قوله: أن له التخيير، وأن له أن يمسك, وهو كلام فيه نظر؛ إلا أن يكون معنى ما تكلم عليه ابن القاسم أن الأرض والنقض متساويين لا يختلفان في القسم، وإنما يصير له فيه النصف حقيقة، وهو معنى قول سحنون في هذه المسألة أنها تجوز في حال، ولا تجوز في حال، وجواب ابن اللقاسم فيها في "المدونة" على القول بأنه لا شفعة في النقض؛ ولذلك قال: يتخير المبتاع، ولو تكلم فيها على القول بوجوب الشفعة في النقض لبدأ بتخيير الشفيع قبل تخيير المبتاع على المعلوم من مذهبه في ذلك خلاف قول أشهب، وسحنون [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في ب: بمقاسمته على البائع. (¬2) في أ: وهو. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الرابعة عشر فيما يباع على خيار

المسألة الرابعة عشر فيما يباع على خيار ولا شفعة في بيع الخيار حتى يختار إمضاء البيع من له الخيار من بائع، أو [مبتاع] (¬1) أو غيرهما، فإن باع أحد الشريكين على خيار، وباع الآخر بيع بتل. ولا يخلو من له الخيار في بيع الخيار من وجهين: إما أن يختار رد البيع، أو يختار الإمضاء. فإن اختار الرد: فالشفعة لبائع الخيار قولًا واحدًا. فإن اختار إمضاء البيع، فلمن تكون الشفعة؟ فالمذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من المدونة: أحدها: أن الشفعة لمشتري الخيار على مشتري البتل، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أن الشفعة لبائع البتل على مشتري الخيار، وهذا القول قائم من المدونة على ما نصف. والثالث: أن الشفعة لمشتري البتل على مشتري الخيار، وهذا القول أيضًا متأول على المدونة. والرابع: أن الشفعة لبائع الخيار على مشتري البتل، وهو قول عبد الملك، وأشهب في "الواضحة" وغيرها. وسبب الخلاف: اختلافهم في بيع الخيار، هل هو منعقد من مبدئه، ¬

_ (¬1) في ب: مشتري.

ومنشئه، أو منعقد من حينه ووقته؛ فمن رأى أنه [منعقد من مبدئه ومنشئه: قال بوجوب الشفعة إما لمشتري الخيار على قول ابن القاسم؛ لأنه إذا اختار الشراء كان البيع لم يزل] (¬1) منعقدًا، والمشتري على البت قد اشترى بعد [دفع] (¬2) ذلك، فوجب عليه الشفعة للمشتري على خيار، وإما لبائع البتل على قول؛ لأنا إذا قدرنا أن بيع الخيار [منعقد] (¬3) من مبدئه ومنشئه: فقد باع بيع بتل بعد أن وجبت له الشفعة؛ لأنه يتبين [بالآخرة] (¬4) أن بيع الخيار منعقد [قبله] (¬5). و [هذا] (¬6) يتخرج على أحد قولي المذهب أن الشفيع إذا باع الشقص الذي به يستشفع بعد وجوب الشفعة [فإن ذلك لا [. . . .] (¬7) الأخذ بالشفعة وهو أحد قولي مالك في العتبية، وقد اختلف قوله في ذلك إذا باع الشقص الذي به يستشفع بعد وجوب الشفعة] (¬8) على قولين: فمرة يقول: إنه لا شفعة [له] (¬9)؛ لأن المعنى الذي لأجله شرعت قد زال، وهو ما يدخل شكليه من تضييق الواسع، وخراب العامر، وبه أخذ أحمد بن المعدل. ومرة يقول: إن له الشفعة؛ لأنه أمر قد وجب [له] (¬10) فلا يسقطه ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: بالأثرة. (¬5) سقط من ب. (¬6) سقط من أ. (¬7) قدر كلمة غير واضح. (¬8) سقط من أ. (¬9) سقط من أ. (¬10) سقط من أ.

بيعه لسهمه، وبه أخذ ابن المواز، والأول مذهب المدونة. وهكذا اختلف [بعض] (¬1) أصحابه إذا باع بعض سهمه على قولين: أحدهما: أنه لا شفعة له مع الشريك بما بقي له؛ لأنه باع راغبًا في البيع، وإنما الشفعة [في] (¬2) الضرر، وهو قول أشهب في "المجموعة". والثاني: أن له الشفعة بما يبقى له من سهمه، وهو قول أحمد بن المعدل. ومن رأى أنه غير منعقد، وأنه إنما انعقد من حينه، ووقته: قال بوجوب الشفعة إما للبائع بالخيار على قول من يقول: إن بيعه للشقص الذي يستشفع لا يُسْقِطُ شفعته؛ لأنه باع بعد أن وجبت له الشفعة، وهو نص قول ابن الماجشون في "الموازية" وغيرها. وإما لمشتري البتل على القول بأن ما يجب للبائع قد انتقل إلى المشتري، وأن المشتري يتنزل في الأخذ [بالشفعة] (¬3) منزلة الشفيع البائع، وهو اختيار ابن لبابة، وابن الحباب من فقهاء الأندلس -وعليه تأول ابن لبابة رواية ابن القاسم في "الكتاب" في أنه لا يجوز أن يبيع الرجل شفعة قد وجبت له، ولا يهبها، فقال: معناه: من غير المبتاع؛ فجعل المشتري من الشفيع كالوارث، وقد قال في "الكتاب": إن الشفعة تورث عن الميت، والوارث بمنزلة الموروث في الحق الذي كان له من الأخذ والترك وسواء مات الموروث، والشقص الذي يستشفع به بيده فورثه عنه، أو مات بعد بيع الشقص، على القول بأن البيع لا يسقط الشفعة، فكان ينبغي أن منزلة المشتري منزل الشفيع، فافهم هذا التنزيل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: من. (¬3) في أ: في الشفعة.

الذي نزلنا عليه هذه المسألة؛ فقد جعلنا بائع البتل كالمشتري على خيار وجعلنا مشتهي البتل كبائع الخيار، فإذا أمعنت النظر [في المسألة] (¬1) تبيَّن لك المعنى الموجب لذلك إن شاء الله، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الخامسة عشر في الشفعة في هبة الثواب

المسألة الخامسة عشر في الشفعة في هبة الثواب وإذا وهبت شقصًا على ثواب: فلا يخلو من أن يسمى ثوابًا، أو لم يسم. فإن سمى ثوابًا: فهل للشفيع أن يأخذ بالشفعة قبل أن يثاب الواهب أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه إذا سمى الثواب: فله أن يأخذ بالشفعة، وهو قوله في كتاب [الشفعة. والثاني: أنه لا يأخذ بالشفعة حتى يثاب، وهو قوله في "كتاب] (¬1) الهبات" من "المدونة". فإن لم يُسَم ثوابًا: فلا شفعة في ذلك إلا بعد الثواب، ولا خلاف في ذلك. ثم لا تخلو الهبة من أن تكون قائمة أو فائتة. فإن كانت قائمة: فلا يخلو الموهوب له من أن يثيبه بمثل قيمة الهبة، [أو أكثر، فإن أثابه بمثل قيمة الهبة] (¬2) هل يلزم الواهب قبول الثواب أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا يلزمه القبول إلا أن يشاء؛ لأن الناس إنما يهبون على ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ.

أن يعوضوا [أكثر] (¬1) وهو قوله في "كتاب الهبات". والثاني: [أنه] (¬2) يلزمه القبول مهما عوضه مثل قيمة الهبة، وهو [نص] (¬3) قول ابن القاسم في "كتاب الشفعة"؛ حيث قال: فإن عوضه مثل قيمة الهبة لزم الواهب، وإن أثابه أقل لم يلزمه إلا أن يشاء، وله أن يأخذ هبته. فإذا أثابه مثل قيمة الهبة: فلا خلاف في المذهب أن للشفيع أن يأخذ الشفعة بقيمة [العوض] (¬4). واختلف إذا أثابه بأكثر من قيمتها، هل يسقط الزائد عن الشفيع أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يستشفع بجميع ما أثابه، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، ووافقه على ذلك أشهب. والثاني: [أنه] (¬5) يستشفع بالأقل مما دفع من الثواب أو من قيمة الشقص، ولا يستشفع بالزائد؛ لأن الموهوب له قد تطوع بدفعه على القول بأنه إذا عوضه القيمة [لم] (¬6) يلزم الواهب القبول. وهذا ينبني على الخلاف الذي قدمناه في الواهب، هل يجبر على قبول العوض إذا عوضه مثل القيمة أم لا. فأما إذا عوضه بعد فوات الهبة أكثر من قيمة الهبة، فهل يستشفع ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من ب. (¬6) سقط من أ.

[الشفيع] (¬1) بجميع القيمة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يستشفع بجميع ما أثابه به، وهو قول ابن القاسم؛ إذ لا فرق عنده بين قيام الهبة وفواتها. والثاني: أنه يستشفع بالأقل مما دفع من الثواب، أو من قيمة الهبة، وهو قول أشهب؛ لأن الزائد على القيمة كالهبة، إلا أنه يلزم أشهب أن يقول مثل ذلك [إذا كان ذلك] (¬2) قبل الفوات [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب.

المسألة السادسة عشر في الشفعة فيما ناكح به، أو خالع، أو صالح عليه من دم عمد، أو أخذ من دم خطأ

المسألة السادسة عشر في الشفعة فيما ناكح به، أو خالع، أو صالح عليه من دم عمد، أو أخذ من دم خطأ فأما ما ناكح به من شقص في دار، أو في أرض، فقد اختلف بماذا يستشفع به الشفيع إذا طلب الأخذ بالشفعة، على قولين: أحدهما: أنه يستشفع بقيمة الشقص، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه يستشفع بصداق المثل، وهو قول عبد الملك، وهو قائم من "المدونة" من مسألة: الكراء فيما إذا اكترى إبلًا إلى مكة بشقص من دار؛ حيث قال: فللشفيع الأخذ بالشفعة بمثل كراء الإبل إلى مكة، ولم يقل يستشفع بقيمة الشقص، وصداق المثل ككراء المثل في النظر والاجتهاد. وأما ما خولع به: فإن فيه الشفعة بقيمة الشقص، قولًا واحدًا؛ إذ لا قدرة على أكثر من ذلك؛ إذ ليس هناك عوض متقدر له قيمة كما عمل في النكاح، والكراء. وأما ما أخذه صلحًا [عن] (¬1) دم: فلا يخلو من وجهين: إما أن يكون ذلك عن [دم] (¬2) عمد، أو عن خطأ. فإن كان ذلك عن دم عمد: فإن الشفيع يأخذ الشقص بقيمته؛ لأن دم العمد لا عوض له أصلًا إلا ما وقع عليه الاصطلاح. ¬

_ (¬1) في أ: من. (¬2) سقط من أ.

وأما ما أخذ صلحًا عن دم الخطأ: فلا يخلو القاتل من وجهين: إما أن يصالح عن جميع الدية على شقص، ولا يرجع بذلك على العاقلة [وإما أن يصالح على أن يرجع عليهم. فإن صالح عن جميع الدِّية على ألا يرجع بذلك على العاقلة] (¬1)، فإن ذلك جائز جملة بلا تفصيل بين أن يكونوا أهل إبل، أو أهل ذهب. فإن أراد الشفيع أن يستشفع، فلا تخلو العاقلة من أن يكونوا أهل إبل، أو ذهب، أو وَرِق. فإن كانوا أهل إبل: فاختلف بماذا يستشفع على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بقيمة الإبل؛ معناه تُقَوَّم الآن بالنقد على أن تقبض إلى آجالها في [الذمة] (¬2) ثم يأخذ الشفيع إن شاء، وينقد القيمة في الحال، وهو تأويل سحنون على "المدونة" في "كتاب ابن عبدوس"، وهو مذهب عبد الملك فيما بيع بثمن مؤجل، وقد قدمناه قبل هذا. والثاني: أن الإبل تقوم على آجالها كما قال في الكتاب، ومتى حلت سنة قومت فيها الإبل نقدًا حنيئذ قبضت تلك القيمة في الحال هكذا إلى آخر سنة، وهذا تأويل بعضهم على المدونة، واعترض سحنون وغيره -رحمة الله عليهما- وقالا: هذا من بيع الدين بالدين. والثالث: أن الشفيع يستشفع بمثل الإبل على آجالها لا بقيمتها؛ لأنها أسنان معلومة موصوفة، وهذا القول أيضًا حكي عن سحنون، ويحيى بن عمر، على ما حكاه القاضي أبو الفضل. ولا يصح أن تُقَوَّمُ الإبل إلا على أن تؤخذ القيمة على آجالها؛ لأن ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: الدية.

ذلك دَيْن بِدَيْن. [فأما إن] (¬1) كانوا أهل ذهب وفضة، هل يستشفع الشفيع بعددها، أو بقيمتها؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يستشفع بمقدار الدِّية [في] (¬2) عددها من غير اعتبار بقيمتها؛ إذ لا قيمة في العين، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن الدِّية تُقَوَّم بالعروض نقدًا على أن تقبض إلى آجالها، ثم يستشفع الشفيع بالعرض الذي قُوِّمَت [به] (¬3)، وهو قول عبد الملك. والثالث: أن الدِّية تُقَوَّم بالعرض، ثم يُقَوَّم العرض بالعين وبه يستشفع، وهو قول سحنون. وعلى القول بأنه يستشفع بمقدار الدِّية في عددها -وهو مذهب "المدونة"- فإنها تقطع على الشفيع نجومًا كما تقطع على العاقلة؛ إن كانت الدِّية كاملة ففي ثلاث سنين، والثلثان في سنتين، والثلث في سنة، والنصف يجتهد فيه الإِمام؛ إن رأى أن يجعله في سنتين، أو في سنة ونصف فعل. وقال ابن القاسم: يؤخر بالنصف عامين. وقال أشهب: يؤدي الثلث في أول السنة، والسدس في الثانية، وقال سحنون: ولا يجوز أن يأخذ في الشقص شقصًا, ولا غيره حتى تمضي فيه قضية من حاكم يقطعها على العاقلة في سنتين أو غير ذلك؛ لأن ذلك ¬

_ (¬1) في أ: فإن. (¬2) في أ: على. (¬3) سقط من أ.

إلى اجتهاد الحاكم، فهو مجهول فلا يباع حتى يعرف بالحكم. فأما إذا صالح على أن يرجع بذلك على العاقلة: فلا يخلو ما صالح به من أن يكون مما يرجع إلى القيمة، أو مما يرجع إلى المثل. فإن كان مما يرجع إلى القيمة: فذلك جائز، ويرجع على العاقلة بالأقل مما صالح به، أو مما عليهم، وهو قول ابن القاسم، فإن كان مما يرجع إلى المثل حيث هم مجبورون عليه: فالمذهب على قولين منصوصين عن مالك، وقد قدمناهما في مصالحة الكفيل [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة السابعة عشر في الموضحتين

المسألة السابعة عشر في الموضحتين إذا شجه في الموضحتين، واحدة عمدًا، والأخرى خطأ، فصالحه من ذلك على شقص من دار، فبماذا يستشفع؟ فقد اختلف المذهب في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يستشفع بخمسين دينارًا، دية موضحة الخطأ، وبنصف قيمة الشقص، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن الشقص يقوم؛ فإن كانت قيمته مائة: حمل عليه موضحة الخطأ؛ وذلك خمسون دينارًا، فصار للعمد ثلثا الشقص، فيستشفع بخمسين دينارًا، وبثلثي قيمة الشقص؛ وهي ستة وستون دينارًا وثلثا دينار، وكذلك الحكم فيما قلَّ من الأجراء أو أكثر، وهو قول المخزومي في "الكتاب". والثالث: أنه ينظر إلى قيمة الشقص، فإن كانت خمسين فأقل: أخذه بخمسين؛ دية موضحة الخطأ، فإن كانت قيمته ستين دينارًا: أخذه بخمسين دينارًا، وسدس قيمة الشقص، وهو مذهب ابن نافع. ووجه قول ابن القاسم: أن الشقص يفضل على الموضحتين جميعًا لتساويهما، فوجب أن يكون نصفه للخطأ بخمسين، ونصفه للعمد بقيمته؛ إذ العمد ليس فيه دِيَة مقدرة إلا ما اصطلحوا عليه، فجعل أن المعلوم والمجهول إذا اشتركا في الشيء، فإن ذلك ينقسم بينهما أنصافًا، إلا أن ابن القاسم ناقض أصله في هذا في اختلافهما في أصل الشركة، وفي المسألة الواقعة في أول "كتاب النكاح الثاني": إذا تزوجها بعبد على

أن أعطته دارًا أو مالًا؛ حيث قال: لا يجوز [النكاح] (¬1) ويفسخ قبل البناء، ويثبت بعده، ويكون لها صداق المثل، فكأن الشقص عند ابن القاسم مأخوذ عن الجملة، ونظر إلى قدر الديات لو كانت قد صُولح عنها، فجعل ذلك [كله] (¬2) كالمعدوم؛ إلا أنه لا يأخذ ما قابل العمد إلا بالقيمة. ويجب على قول ابن القاسم لو أخذ شقصًا [من] (¬3) موضحة خطأ، ونفس عمد أن يأخذ الشقص بخمسين دينارًا موضحة الخطأ، وبقيمة عشرين جزءًا من الشقص من أحد وعشرين جزءًا؛ وذلك أنك تقسم ألف دينار، فتجعلها خمسين خمسين، فذلك عشرون جزءًا من الشقص، ثم تضيف إليها موضحة الخطأ، وذلك خمسون، فجميع ذلك أحد وعشرون، فموضحة الخطأ جزء من أحد وعشرين، لها خمسون دينارًا أو بقيت الأجزاء بالقيمة؛ لأنها عن عمد. ووجه قول المخزومي: أن الشقص كله للعمد إلا ما نقص منه لموضحة الخطأ؛ لأن العمد لو انفرد به لاستغرقه جميعًا، والخطأ لو انفرد به لم يكن إلا قيمة دينه خمسون دينارًا، فشُبهة العمد في المجهولات في الوصايا التي يكون لها الثلث كلها، وإن كان معها من الوصايا المفسرات ضرب للمجهولات معها بجميع الثلث؛ لأنها لو انفردت بها لاستوعبتها كلها؛ كمن أوصى بوقيد المسجد على الدوام، أو بإطعام رغيف خبز كل يوم على الدوام، وما أشبه ذلك. ووجه قول ابن نافع: أن الشقص كله للخطأ، ولا يكون للعمد منه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: عن.

إلا [ما زاد] (¬1) على دية الخطأ، على ضد قول المخزومي، فإن كانت قيمة الشقص خمسين دينارًا فأقل: أخذه الشفيع بخمسين دية موضحة الخطأ، وإن كان العمد عنده لم يأخذ منه شيئًا. فإن كانت قيمته أكثر من خمسين دينارًا: كان الزائد هو المأخوذ عن موضحة العمد قليلًا كان أو كثيرًا. ومذهب عبد الملك في ذلك أقرب إلى الصواب على أصول المذهب [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب.

المسألة الثامنة عشر فيمن غصب عبدا ودنانير فاشترى بها شقصا

المسألة الثامنة عشر فيمن غصب عبدًا ودنانير فاشترى بها شقصًا فلا يخلو العبد من أن يكون قائمًا أو فائتًا. فإن كان قائمًا: فلا شفعة الشفيع؛ لأن لرَبِّه أخذه، فإذا أخذه فسخ البيع. فإن كانت فائتًا: فلا يخلو فواته من أن يكون فوات عين، أو فوات عيب؛ فإن فات فوات عين، فأراد الشفيع الأخذ بالشفعة؛ إما على القول أن الأخذ بالشفعة [طريقه] (¬1) طريق الاستحقاق: فله الأخذ بالشفعة قولًا واحدًا، وإما على القول بأن طريقها طريق البيع: فإن جواز الأخذ بالشفعة يتخرج على شراء السلعة إذا اشتريت بمال حرام؛ فمن جوز شراءها: جوز للشفيع الأخذ بالشفعة في مسألتنا، وهو نص قول ابن القاسم في آخر "كتاب الشفعة": أن له الأخذ بالشفعة، ومنه يؤخذ جواز شراء السلعة بثمن حرام، وبه قال محمَّد بن سحنون، وابن عبدوس، وغيرهما. ومن كره شراءها: كره له الأخذ بالشفعة، وهو مذهب سحنون وغيره [في] (¬2) شراء تلك السلعة. فإن كان فواته فوات عيب، هل للشفيع الأخذ بالشفعة أم لا؟ فإنه يتخرج على قولين متأولين على الكتاب. أحدهما: أنه يأخذ بالشفعة، وهو ظاهر قوله في الكتاب، حيث قال: ¬

_ (¬1) في أ: طريقها. (¬2) في أ: و.

إذا فات فواتًا يوجب على الغاصب قيمته، فللشفيع [الأخذ والقيمة تجب عليه بتغيره في ذاته. والثاني: أنه لا شفعة فيه للشفيع] (¬1) لقدرة المستحق على أخذ عين العبد. [وهو] (¬2) تأويل الشيخ أبي إسحاق التونسي: فإذا أوجبت القيمة للمستحق، هل يأخذ قيمة عبده يوم غصب، أو قيمته يوم اشترى به الشقص؟ فالخيار في ذلك للمستحق إن شاء أخذ قيمته يوم غصبه، وإن شاء قيمته يوم اشترى به الشقص، ولا سبيل له إلى أخذ الشقص المشترى بعبده؛ لأنه يؤخذ منه بالشفعة لو أخذه. إلا أن الغاصب قد أخذ عن الشقص قيمة العبد يوم اشترى به الشقص، فكان لصاحب العبد [أخذ] (¬3) تلك القيمة التي أخذها الغاصب عوضًا عن عوض العبد، فصار المستحق مخيرًا في القيمة. وأما الدنانير والدراهم [إذا غصبها فاشترى بها، فإن للشفيع الأخذ بالشفعة على الحال كانت الدنانير أو الدراهم] (¬4) قائمة بيد البائع [أو فائتة غير أن المغصوب منه إذا وجد دنانيره أو دراهمه بعينها قائمة بيد البائع] (¬5) وأقام [عليها] (¬6) بينة أخذها، ويرجع على المبتاع بمثلها، والبيع تام بينهما، وهو نص قوله في "المدونة"، وقد جعل أن الدنانير والدراهم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: وعلى. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: عليه.

مما يشهد على عينها، وهو قوله في كتاب الغصب من المدونة أيضًا، إلا أنه قال هناك: "أقام عليه بينة لم تفارقه حين قبضها"، وهو معنى قوله في هذه المسألة أيضًا. تم الكتاب، والله الموفق للصواب، والحمد لله وحده.

كتاب القسمة

كتاب القسمة

كتاب القسمة تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها أربع عشرة مسألة. المسألة الأولى في تقاسيم أنواع القسمة، وفي الحكم فيها إذا دعى [لها] (¬1) بعض الأشراك والحكم بقسمة ما ينقسم إذا دعى [إلى] (¬2) ذلك بعض الأشراك واجب، وبيع ما لا ينقسم وقسم ثمنه بينهما إذا دعى إلى الانفصال في ذلك بعضهم: لازم لا اختلاف بين أهل العلم في هذه الجملة، وإنما اختلفوا عند تفصيلها في تعيين ما ينقسم مما لا ينقسم، و [في] (¬3) صفة القسم فيما ينقسم، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى، فنقول: القسمة تكون في شيئين: أحدهما: رقاب الأموال. والثاني: منافعها. فأما قسمة الرقاب: فإنها تكون على ثلاثة أوجه: قسمة قرعة بعد تقويم وتعديل، وقسمة مراضاة بعد تقويم وتعديل، وقسمة مراضاة بغير تقويم ولا تعديل. ولكل وجه من هذه الوجوه الثلاثة أحكام يختص بها دون ما سواها. فأما قسمة القُرعة بعد التعديل والتقويم: فهي القسمة التي يوجبها ¬

_ (¬1) في ب: إليها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب.

الحكم، ويجبر عليها مَنْ أباها فيما ينقسم، ولا يصح إلا فيما تماثل أو تجانس من الأصول، والحيوان، والعروض لا فيما اختلف وتباين من ذلك، ولا شيء من المكيل، والموزون، ولا يجمع فيها [حظين أعني] (¬1) حظ اثنين في القسم، ويجب القيام فيها بالغبن إذا ثبت؛ لأن كل واحد منهم دخل على قيمة مقدرة ودرع معلومة، فإذا وجد نقصًا من ذلك وجب له الرجوع به. وأما قسمة المراضاة بعد التقويم والتعديل: فتصح في الجنس الواحد, وفي الأجناس المختلفة المتباينة، وفي الكيل والموزون، إلا ما كان منه صنفًا واحدًا مدخرًا لا يجوز فيه التفاضل، وهذه المسألة أيضًا متى ظهر فيها غبن في درع، أو قيمة كان للمغبون الرجوع بذلك، للعلة التي قدمناها. وكذلك الحكم في قسمة المراضاة والمهاباة بغير تعديل، ولا تقويم تجوز في الجنس الواحد، وفي الأجناس المختلفة، وفي المكيل كله، والموزون، إلا فيما يجوز فيه التفاضيل من الطعام، إلا أنه لا قيام فيها بالغبن لواحد منهم على صاحبه؛ لأنه لم يأخذ ما أخذ بعينه على أن يخرج فيما سواه من جميع حقه، سواء كان أقل منه أو أكثر كبيع المكايسة سواء. وهذه القسمة على الوجهين الأولين اختلف فيها، هل هي تمييز حق، أو بيع من البيوع؟ فنص مالك في المدونة على أنها بيع من البيوع، وذهب سحنون إلى أنها تمييز حق، واضطرب قول ابن القاسم في ذلك على ما تقتضيه مسائله في المدونة وغيرها. ووجه قول من قال: إنها تمييز حق: أنها غير موقوفة على اختيار ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المتقاسمين؛ بل قد تجوز فيها المخاطرة بالقرعة، وذلك ينافي البيع، فثبت أنها تمييز حق. ووجه قول من قال: [إنها] (¬1) بيع من البيوع هو أن كل واحد من المتقاسمين عاوض صاحبه حصته بحصته، فملك حصة صاحبه من الجزء الذي [صار إليه بحصته عن الجزء الذي] (¬2) خرج عنه، وهذه معاوضة محضة، والمعاوضة مبايعة. والأظهر في قسمة القرعة أنها تمييز حق، وفي قسمة المراضاة بعد التقويم والتعديل: أنها بيع من البيوع. وأما قسمة المراضاة بغير تعديل ولا تقويم: فلا خلاف أنها بيع من البيوع في جميع الأحكام كما ذكرناه. فأما قسمة المنافع: فإنها لا تجوز بالشبهة على مذهب ابن القاسم، ولا يجبر عليها من أباها, ولا تكون إلا على المراضاة والمهاياة، وهي على وجهين: أحدهما: أن [يتهاينا] (¬3) بالأزمان. والثاني: أن [يتهاينا] (¬4) بالأعيان. فأما التهاين بالأزمان: وهو أن يتفقا على أن يستغل أحدهما العبد، أو الدابة، أو يستخدم العبد، أو يركب الدابة، أو يسكن الدار، أو يحرث الأرض مدة من الزمان، والآخر مثلها أو أقل أو أكثر: فهذا يفترق فيه ¬

_ (¬1) في أ: أنه. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: يتهايا. (¬4) في أ: يتهايا.

الاستغلال والاستخدام في العبد والركوب [في الدابة] (¬1) والسكنى في الدار، والإزراع في الأرض. وأما التهاين على الاغتلال: فلا يجوز في المدة الكثيرة باتفاق، واختلف في المدة اليسيرة كاليوم ونحوه على قولين: أحدهما: جواز ذلك في اليوم الواحد، وهو قول مالك في "كتاب محمَّد". والثاني: أنه لا يجوز [ذلك] (¬2) في العبد والدابة، وإن كان ذلك يومًا واحدًا، وهو قول محمَّد في كتابه أيضًا. وأما التهاين في الاستخدام: فاتفقوا على أن ذلك لا يجوز في المدة الكثيرة، واتفقوا على جوازها في الأيام اليسيرة، إلا أنهم اختلفوا في حدها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجوز في مثل الخمسة أيام فأقل لا أكثر. والثاني: أنه يجوز في الشهر، وهي رواية ابن القاسم عن مالك في "المجموعة". والثالث: أنه يجوز في أكثر من الشهر، وهو قول ابن القاسم. وأما التهاين في الدُّور والأرضين: فيجوز فيها الشؤون المعلومة، والأجل البعيد ككرائها، قاله ابن القاسم في "المجموعة"، ووجه ذلك: أنها مأمونة، إلا أن التهاين إذا كان في أرض الزراعة، فلا يجوز إلا أن تكون مأمونة مما يجوز فيه النقد. وأما التهاين في الأعيان بأن يستخدم هذا عبدًا، وهذا عبدًا، أو يسكن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

هذا دارًا , وهذا دارًا , أو يزرع هذا أرضًا، وهذا أرضًا: ففي "المجموعة" عن ابن القاسم أن هذا يجوز في سكنى الدار، وزراعة الأرض، ولا يجوز في الغلة، والكراء، ولا على قياس التهاين بالأزمان فيسهل في اليوم الواحد، على أحد قولي مالك، ولا يجوز في أكثر من ذلك باتفاق؛ لأنه غرر ومخاطرة. وكذلك استخدام العبد، والدواب يجري على الخلاف المتقدم في التهاين بالأزمان. وقسمة المهاناة -تُقَال بالنون- لأن كل واحد منهما [هنأ صاحبه ما أراده. ويقال بالباء أيضًا؛ لأن كل واحد منهما] (¬1) وهب لصاحبه الاستمتاع بحقه في ذلك الشيء مدة معلومة، ويقال: بالياء تحته ثنتين؛ لأن كل واحد منهما هيأ لصاحبه ما [طلب] (¬2) منه [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: طاب. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الثانية إذا اقتسما دارا على أن رقبة الطريق لأحدهما، وللآخر فيه الممر، واقتسما على أن يأخذ أحدهما الغرف، والآخر السفل

المسألة الثانية إذا اقتسما دارًا على أن رقبة الطريق لأحدهما، وللآخر فيه الممر، واقتسما على أن يأخذ أحدهما الغرف، والآخر السفل وأما اقتسام [الدار] (¬1) فأخذ هذا طائفة، وهذا طائفة على أن لأحدهما رقبة الطريقة، وللآخر فيه الممر: فلا يخلو من أن تكون قسمتها على المراضاة، أو بالسهمة، فإن اقتسما على المراضاة: جازت القسمة، قولًا واحدًا. وإن اقتسما بالسهم، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين متأولين على المدونة: أحدهما: أنها لا تجوز إلا على المراضاة، وهو قول سحنون، وعليه حمل جواب ابن القاسم في "الكتاب" حيث أطلق الجواز. والثاني: أنها جائزة بالقرعة والمراضاة، وهذا تأويل أبي عمران الفاسي [رحمه الله] (¬2). ووجه قول سحنون أنها على المراضاة لا بالقرعة: لما يجب قبل القسمة من إخراج الطريق، ورفعها من الوسط فعند ذلك يقسمون ما بقى من سائر [الدار] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: الطريق. (¬2) زيادة من ب. (¬3) في أ: الدواب.

ووجه قول أبي عمران: أنه قد لا يحتاج إلى إخراج الطريق [في] (¬1) قسمة كل دار لإحاطة الطريق ببعضها، فحيث يخرج نصيبه يخرج بابه لما يليه من المحجة، وقد يضطرون إلى خروجهم النصيبين علي باب الدّار نفسها, ولا يقسم الباب، فتقوم رقبته في أحد النصيبين على أن الممر للآخر، وكذلك قسمة [العُلوي] (¬2) والسُّفلي أطلق ابن القاسم جوازهما في "الكتاب" ولم يبين هل ذلك بالقرعة أو بالتراضي؛ فأما قسمتها بالتراضي: فإنها جائزة، قولًا واحدًا، وأما بالقرعة: فعلى قولين: أحدهما: الجواز، وهو مذهب أكثر الأصحاب، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة"، وتباين الأغراض فيما بين العلوي والسفلي أهون وأخف من تباينهما فيما بين الجيد والرديء، وقد جوزه ابن القاسم في الأرض. والثاني: المنع، وهو قول عبد الملك بن الماجشون، ومثله في "كتاب ابن شعبان" كجمع السلعتين المختلفتين في القسم؛ إذ لا حاجة للعُلوي في السُّفلي، وإنما هو مرتفق كالساحة مع البيوت. ¬

_ (¬1) في أ: و. (¬2) في ب: العلي.

المسألة الثالثة في قسمة الرياع والعقار، وما يجمع منها في القسم وما لا يجمع

المسألة الثالثة في قسمة الرِّياع والعقار، وما يجمع منها في القسم وما لا يجمع واتفق أهل العلم على جواز قسمتها بالتراضي وبالقرعة إذا عدلت بالقيمة، واتفقوا على ذلك اتفاقًا مجملًا. واتفقوا أيضًا أنه لا يجمع في قسمة القرعة الدور مع الحوائط، ولا الحوائط مع الأرضين، ولا الدور مع [الأرضين. وإنما يقسم كل شيء من ذلك على حدة، ويضم بعضها إلى بعض على شروط نصفها إن شاء الله تعالى بعد] (¬1) تقسيم وتفصيل في أنواع التركة وأجناسها، فنقول: لا تخلو التركة من ثمانية أوجه: أحدها: أن تكون دورًا، أو دارًا. والثاني: أن تكون أرضًا، أو أرضين. والثالث: أن تكون جنة، أو بساتين. والرابع: أن تكون حيوانًا. والخامس: أن تكون عروضًا. والسادس: أن تكون مكيلًا أو موزونًا. [والسابع: أن تكون مكيلًا أو موزونًا من النقدين] (¬2). والثامن: أن تكون التركة اشتملت على جميع ذلك. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فالجواب عن الوجه الأول: إذا كانت التركة دورًا: فلا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتباعد موضعها، ويختلف فيها في الرغبة والتشاحح. والثاني: أن تتقارب مواضعها، وتتفق فيها الرغبة والنفاق. والثالث: أن تتباعد مع [اتحاد] (¬1) الرغبة [أو تتقارب مع اختلاف الرغبة] (¬2). فإن تباعدت المواضع، واختلفت فيه الرغبة والنفاق: فلا تجمع في القسم، قولًا واحدًا، وتُقَسَّم كل دار على حِدَة؛ لأن جمعها في القسم مع تباعدها وتباينها في الرغبة خطر، وذلك محظور في القسمة؛ لأن القسمة في نفسها خطر إذا وقعت على ما هو معتدل متساوٍ، فكيف إذا وقعت على ما هو مختلف متباين، وهذا كله في قسمة القُرعة. وأما قسمة التراضي: فتجوز؛ إذ لا غرر فيه. فإن تقاربت المواضع، وتساوت فيه الرغبة والتشاحح: فلا تخلو من أن تكون كلها جديدة، أو كلها قديمة، أو بعضها جديد، وبعضها رثيث. فإن كانت كلها جديدة، أو كلها قديمة: فلا خلاف في المذهب أنها تجمع في القسمة. فإن كان بعضها جديد، وبعضها رثيث، فهل تجمع في القسم أم لا؟ فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: أنه يجمع بينهما في القسم، وإن كان بينهما تفاوت يسير؛ مثل أن تكون قيمة أحدهما مائة، والأخرى تسعون، فلا بأس أن يقترعا ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ.

على أن من صارت إليه التي قيمتها مائة أعطى لصاحبه [خمسة] (¬1) دنانير؛ لأن هذا مما لابد منه، ولا يتفق في الغالب أن تكون قيمة الدارين سواء، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "الكتاب" في العُلوي والسُّفلي. والثاني: أن ذلك لا يجوز، وتُقَسَّم كل دار على حِدَة؛ لأنها كالأصناف المختلفة، وهو قول عبد الملك في العُلوي والسُّفلي. وهذا كله إذا كان [كل] (¬2) نوع منها لا يحتمل القسم. وأما إذا كان الجديد ذوات عدد، والقديم ذوات عدد قسم الجديد بانفراده، والقديم بانفراده: فإن تقاربت [المواضع] (¬3) واختلفت الرغبة، أو تباعدت المواضع، واتفقت الرغبة، والتشاحح، هل يجمع في القسم أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجمع في القسم بحال، وتُقَسَّم كل دار على حِدَة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنها تجمع في القسم، وهو قول أشهب في مدونته إذا كانت متقاربة [في] (¬4) نَمَطٍ واحد، وبعضها أكرم من بعض. والثالث: التفصيل بين أن تكون كل دار تحتمل القسم بانفرادها فلا يجمع بينهما، وبين أن تكون كل دار لا تحتمل القسم، فيجمع بينهما في القسم، وهذا القول متأول على المدونة. وحد القرب فيما بين الدور: الميلين والثلاثة، وحد الكثير البعيد: اليوم واليومين. ¬

_ (¬1) في أ: عشرة، والصواب ما أثبتناه من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: المنافع. (¬4) في أ: من.

وأما الدار الواحدة، أو الأرض الواحدة المتصلة، فإن احتمل القسمة حتى يصير لكل واحد من الورثة ما ينتفع به: قسم بينهم إذا دعا إلى القسمة بعضهم، فإن كانت الدار أو الأرض لا تنقسم إلا على ضرر، فهل يقسم بينهم إذا دعا إلى القسمة بعضهم، ويجبر عليها من أباها أم لا؟ على ستة أقوال: أحدها: أنها تُقَسَّم بينهم، وإن لم يَصِر في نصيب كل واحد منهم إلا قدر قدم وما لا [له] (¬1) منفعة فيه، وهو قول مالك في المدونة، وتلا [في ذلك] (¬2) قوله تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (¬3)، ولم يتابعه على ذلك أحد من أصحابه إلا ابن كنانة. والثاني: أنه لا يقسم بينهم إلا أن يصير لكل واحد [منهم] (¬4) ما ينتفع به في وجه من وجوه المنافع، وإن قلَّ نصيب أحدهم حتى لا يصير له بالقسمة إلا ما لا منفعة له فيه في وجه من الوجوه: فلا تقسم، وهو قول ابن الماجشون. والثالث: أنها لا تقسم إلا أن تقسم من غير ضرر، ويصير لكل واحد منهم موضع ينفرد به، وينتفع بسكناه من غير اعتبار بنقصان الثمن، وإنما يراعى ذلك في العروض، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والرابع: أنه إن صار في [نصيب] (¬5) [كل] (¬6) واحد منهم ما ينتفع ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة النساء الآية (7). (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: حظ. (¬6) سقط من ب.

به [قسم بينهم، وإن لم يصر لكل واحدٍ ما ينتفع به] (¬1) دعا إلى ذلك صاحب النصيب القليل الذي لا يصير له في نصيبه ما ينتفع به، أو صاحب النصيب الكثير الذي يصير له في حظه ما ينتفع به، وهو قول مطرف. والخامس: أنها لا تقسم إلا أن يدعو إلى ذلك صاحب النصيب القليل. والسادس: أنها لا تقسم إذا دعا إلى ذلك صاحب النصيب الكثير. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كانت التركة أرضين: فعلى التفصيل والتحصيل الذي قدمناه في قسمة الدور حرفًا حرفًا، والخلاف الذي فيه إذا تقاربت المواضع، واختلفت الرغبة، أو تباعدت المواضع، واتفقت الرغبة: داخل فيه، ولا نُطَوِّلُ بالتكرار. والجواب عن الوجه الثالث: إذا كانت جنة، وبساتين فلا تخلو من وجهين: إما أن تكون جنسًا واحدًا، أو أجناسًا. فإن كان جنسًا: فلا يخلو من أن يكون حائطًا، أو حوائط، فإن كان حائطًا واحدًا كالنخيل كلها أو الاعناب كلها، والزيتون كله، أو الفواكه كلها: فإنه يقسم بين الورثة إن كان الجنان تحتمل القسمة حتى يصير لكل واحد منهم ما ينتفع به. فإن كان حوائط: فلا تخلو من الأقسام التي قدمناها أولًا، إما أن تكون متقاربة، واتحدت فيها الأغراض، وإما أن تكون متباعدة، والأغراض فيها مختلفة، وإما أن تختلف فيها الأغراض، وتقاربت المواضع. فإن تقاربت المواضع، واتحدت فيها الأغراض: فإنها تجمع في القسم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قولًا واحدًا. وإن تباعدت المواضع، واختلفت الأغراض: فلا يجمع في القسم بالقرعة، قولًا واحدًا. وإن تقاربت المواضع واختلفت الرغبة، أو تباعدت المواضع، واتفقت الرغبة: فالمذهب على ثلاثة أقوال، وقد قدمناها في قِسْمَة الدّور. فإن كانت أجناسًا؛ كجنات من نخيل، وأعناب، وزيتون، وفواكه: فهذه الأربعة الأصناف لا خلاف أنها تجمع في القسم في قسمة التراضي بغير قرعة، وهل تجمع في قسمة القرعة بالتراضي دون جبر أم لا؟ على قولين: أحدهما: [المنع] (¬1)، وهو مشهور المذهب، وهو أحد قولي ابن القاسم؛ لأن دخول القرعة في [القسمة] (¬2) [ينفي] (¬3) الاختيار. والثاني: أن ذلك جائز، وهو مذهب أشهب، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في مسألة النخلة والزيتونة، والفواكه كلها نوع واحد؛ كالرمان، والخوخ، والتفاح، والأترج، والكمثري، جميع أنواع الفواكه صنف واحد. فإن كان لكل نوع منها جنان على حدة كالرمان جنان على حدة، والتفاح جنان على حدة، والخوخ جنان على حدة، فإنه يقسم كل نوع منه على حدة، وكل جنان على حِدَة بالقيمة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: القرعة. (¬3) في ب: به في.

وإن اختلطت كلها في جنة واحدة، فإنها تُقَسَّم كلها مجتمعة بالقيمة؛ كالحائط فيه البرني، والصماني، والجعروري، على ما سنبين صفة القسم فيه إن شاء الله. ويراعى في الجميع في القسمة البَعْلِي، والسقى، واختلاف أنواع السقى من [العيون] (¬1) والآبار، فنقول: لا تخلو الأرض من ستة أوجه: أحدها: أن تكون بعلًا لا سقي لها، وإما أن تسقيها العيون، وإما أن يسقيها بالقرب، وإما أن تسقى إحداهما بالبَعْل، والأخرى بالعين، وإما بعلًا، وذوات بئر، وإما ذوات عين، وذوات بئر؛ فيجمع البَعْلِي إلى البَعْلِي والعيني إلى العيني مع تساوي العينين في الغزر [وذوات البئر مع ذوات البئر مع تساوى البئرين في الغزر] (¬2)، ولا خلاف في ذلك على الشروط التي قدمناها. وأما البَعْلِي مع السقي: فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجوز الجمع بينهما في القرعة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو قول أشهب أيضًا. والثاني: أنه يجوز جمع البَعْلِي مع ذوات العين إذا تشابها في الكرم، والجودة، وهي رواية ابن وهب عن مالك. والثالث: أنه يقسم البعل مع العيون، ولا يقسم مع النضح إلا برضا أهله، وهو قول محمَّد بن مسلمة، ولا وجه لقوله؛ بل البَعْل مع النضح أقرب من البَعْل مع [العين] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: العين. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: العينين.

والجواب عن الوجه الرابع والخامس: إذا كانت حيوانًا، أو عروضًا فقسمتها على التراضي من غير سهمة جائزة باتفاق [العلماء] (¬1) وأما قسمتها بالسَّهْم والتعديل: ففي المذهب فيها قولان: أحدهما: أنها لا تجوز قسمتها بالقرعة، جملة بلا تفصيل، وأنها تباع، ويقسم الثمن بينهم، وهو قول ابن الماجشون في سماع يحيى. والثاني: جواز القسمة بالقرعة في الصنف الواحد منهما، وهو مشهور مذهب مالك، ولا يجوز في الصنفين المختلفين، وفي تمييز الصنف الواحد من الصنفين في ذلك اختلاف بين أصحاب مالك؛ أما أشهب فأجرى القسمة في ذلك مجرى البيع، وحملها عليه، فقال: ما جاز سلم بعضه في بعض [فلا يجوز] (¬2) جمعه في القسمة بالسهمة، وما لم يجز سلم بعضه في بعض: فجائز جمعه في القسمة بالسهمة. وأما ابن القاسم: فقد اضطرب قوله في "الكتاب"، ولم يجر مذهبه في ذلك على قياس؛ لأنه جعل القسمة في بعض المواضع أخف من البيع؛ فأجاز القسمة [بالسهمة] (¬3) فيما يجوز سلم بعضه في بعض، وذلك قوله في البزِّ: أنها تجمع في القسمة، والبز أصناف كثيرة في البيع يجوز سلم بعضها في بعض، وجعلها في بعض المواضع أشد من البيع، فمنع من القسمة بالسهمة فيما هو عنده في البيع صنف واحد لا يجوز أن يسلم بعضه في بعض، وهو قوله في "المدونة": تقسم الخيل على حِدَة، والبراذين على حِدَة، والبغال على حدة، والحمير على حدة إذا كان في كل صنف منها ما يحتمل القسم، فيكون ذلك مثل ظاهر قوله في البز في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: فجائز. (¬3) سقط من ب.

أحد الموضعين من "المدونة"، ومثل قول عيسى بن دينار في قسمة الأرض الدنيئة والكريمة: أنها تُقَسَّم كل واحدة على حِدَة إذا كانت تحتمل القسم، فإن كانت لا تحتمل جمعت وقسمت بالقيمة، ولا ينظر إلى مساحة ما يصح لكل واحد منهم من الأرض؛ ولهذا قال في كتاب الوصايا: فإن صار لهذا مبذر خمسة أمد من كرم الأرض، وللآخر مبذر أربعين مديًا من رداء الأرض: قسمت بالقرعة. فيتحصل من مذهبه على هذا التأويل في الحبوب ثلاثة أقوال، وفي العروض والبز وغيره: أربعة أقوال: أحدها: تجمع الخيل والبراذين، والبغال، والحمير، والبزور على اختلاف أنواعه، وإن كان كل صنف منها يحتمل أن يقسم على حدة. والثاني: أنه لا يجمع في القسم بحال، وإن كان كل صنف منها لا يحتمل القسم إلا بإضافته إلى غيره. والثالث: التفصيل بين أن يكون كل صنف منها يحتمل القسم أو لا؛ فإن كان كل صنف [منها] (¬1) يحتمل القسم: [لم يجمع] (¬2) كان كان كل صنف منها لا يحتمل القسم: [جمع] (¬3) في القسم. والقول الرابع في البز: بالتفصيل بين ما تقارب وتشاكل فيجمع في القسم، وما تباين [وتغاير] (¬4): فلا يجمع في القسم، وهو قول ابن حبيب، فجعل الخز والحرير صنفًا، والقطن والكتان صنفًا، والصوف ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: جمع. (¬3) في أ: لم يجمع. (¬4) في ب: وتباعد.

["والمُدَعَّر" (¬1)] (¬2) صنفًا، والقز، وإن اختلفت أجناسها صنفًا. وأما ما هو فرد من ذلك، أو ما هو زوج منه لا يستغني أحدهما عن صاحبه كالخفين، والبابين، والقرارتين أو ما هو فرد كالثوب الواحد، والخيل [والبغل] (¬3) والبعير الواحد، فلا يقسم بين الشريكين، قولًا واحدًا إلا بالتراضي؛ لأن قسمة ذلك فساده. والجواب عن الوجه السادس: إذا كانت مكيلًا أو موزونًا من المأكول وغيره من العروض: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون صنفًا واحدًا. والثاني: أن يكون صنفين. فإن كان صنفًا واحدًا: فلا يخلو من أن يكون صبرة واحدة، أو صبرتين. فإن كان صبرة واحدة: فلا خلاف في وجوب قيمته على الاعتدال في الكيل، أو الوزن، أو على التفصيل البين، كان ذلك مما يجوز فيه التفاضل أو من الطعام المدخر الذي لا يجوز فيه التفاضل. ويجوز ذلك كله بالكيل المعلوم والمجهول، وبالصنجة المعلومة والمجهولة. ولا خلاف أيضًا: أن قسمته جزافًا بغير كيل، ولا وزن، ولا تحرٍ لا يجوز؛ لأن ذلك غرر ومخاطرة. فإن كان من الطعام المدخر: دخله أيضًا عدم المماثلة. ¬

_ (¬1) المُدَّعر: اللون القبيح من جميع الحيوان. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ.

وأما قسمته تحريًا لا يجوز في المكيل، ويجوز في الموزون. فأما إن كان صبرتين فزائد: فلا يخلو من أن يكون مما يجوز فيه التفاضل، أو مما لا يجوز التفاضل. فإن كان مما لا يجوز فيه التفاضل مثل محمولة وسمرًا، وقمح، وشعير، ونقي، ومغلوت: فلا تجوز قسمته إلا على الاعتدال في الكيل بالكيل المعروف فيما يُكال، وعلى الاعتدال [في الوزن] (¬1) بالصنجة المعروفة [فيما يوزن] (¬2)؛ لأنهما إذا اقتسما القمح، والشعير [بالمكيال] (¬3) المجهول، فأخذ أحدهما القمح، وأخذ الآخر الشعير: لم يجز، وإن اعتدلا في الكيل. وإن اقتسما الزائد من القمح على الشعير، أو الشعير على القمح بينهما نصفين إن وجدا في أحدهما زيادة على الآخر؛ لأن ما كان من القمح مساويًا للشعير في الكيل قد بادل كل واحد منهما صاحبه في نصفه بالمكيال المجهول. ولا تجوز مبادلة القمح بالشعير بالمكيال المجهول، كما لا يجوز بيع أحدهما بالمكيال المجهول؛ لأن ذلك غرر؛ إذ لا يدري ما يقع المكيال المجهول من المعلوم؛ لأن الذي أخذ الشعير يقول: لو علمت أنه يبلغ هذا العدد لم أرض أن آخد الشعير وأعطيه القمح. ولو اقتسما القمح على حدة، والشعير على حدة لجاز بالمكيال المجهول، على ما تقدم في قسم الصبرة الواحدة. وأما إن كان مما يجوز فيه التفاضل مثل ما لا يدخر من الأطعمة، ومثل ¬

_ (¬1) في أ: بالوزن. (¬2) في ب: بينهما. (¬3) في ب: بالمكيل.

الحناء، والعصفر، وشبه ذلك: فتجوز قسمته على الاعتدال، والتفاضل البين بالمكيال المعلوم، والصنجة المعروفة، ولا يجوز بالمكيال المجهول، ولا بالصنجة المجهولة؛ لأن ذلك غرر، على ما بيناه في الصبرتين من جنس واحد لا يجوز [فيه] (¬1) التفاضل مثل القمح والشعير. وإذا اقتسمت كل صبرة على حدة: جازت قسمتها بالمكيال المجهول كما يجوز بالمكيال المعلوم؛ لأن قسمة الصبرة الواحدة على الكيل تمييز حق، وليس ببيع. وأما إذا كان صنفين كالقمح، والشعير، أو التمر، والزبيب، أو القمح والزبيب: فلا خلاف في جواز قسمته على الاعتدال في الكيل والوزن، ولا غير الاعتدال إذا تبين الفضل [لجواز التفاضل] (¬2) بين الجنسين، ولا يجوز ذلك إلا [بالمكيال] (¬3) المعلوم أو الصنجة المعلومة. وأما في واجب الحكم فلا يقسم كل صنف إلا على حدته، وإذا قسم كل صنف على حدته جاز ذلك بالمكيال المعلوم، والمجهول حسب ما مضى بيانه. ولا تجوز القرعة في شيء مما يكال [أو يوزن] (¬4)؛ لأن القرعة لا تطيب لأنفس المتقاسمين، وليس بعد الكيل، والوزن في النفوس ريب. والجواب عن الوجه السابع: إذا كان موزونًا من النقدين مثل أن تكون التركة ذهبًا أو فضة، أو بعضها حلي -ذهب أو فضة- ولا يخلو من أن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: بالكيل. (¬4) سقط من أ.

يكون الذهب والفضة خالصًا غير مربوط بغيره، أو يكون مربوطًا، ربط صياغة مرصعًا غير منظوم. فإن كان الذهب والفضة خالصًا غير مركب على غيره: فإنه يقسم بين الورثة بالوزن، فإن تساوت قيمته [والوزن] (¬1) جازت قسمته بالقرعة. وإن تتساوى في الوزن واختلفت قيمته: فلا تجوز فيه القسمة بالقرعة، ولا ينظر إلى اختلافه في الجودة إذا تساوى في الوزن. وأما إن كان الحلي مربوطًا مرصعًا بالجواهر والياقوت، أو كانت سيوفًا محلاة بالفضة: فلا يخلو ما فيه من الذهب والفضة من أن يكون تبعًا أو متبوعًا؛ فإن كان تبعًا مثل الثلث فأدنى: فله حكم العروض في البيع، والقسمة على ما قاله ابن القاسم في "كتاب [الصرف] (¬2) "، وفي "كتاب القسمة" من "المدونة". فإن كانت متبوعًا: فله حكم الذهب والفضة في البيع والقسمة، ولا يقسم إلا وزنًا, ولا تجوز قسمتها بالقيمة. فإن كان ما في التركة من الذهب والفضة لا يحتمل القسمة: فإن الورثة بالخيار إن شاؤوا أن يسلموه لبعضهم بوزنه، وإن شاؤوا فليبيعوه ويقسموا ثمنه، أو يضيفوه إلى بقية [التركة] (¬3). والجواب عن الوجه الثامن: إذا اشتملت الشركة على جميع ما ذكرناه من الأنواع، والأصناف: فإنك تنظر، فإن كان كل صنف منها يحتمل القسم: عمل فيه على ما تقدم. وما لا يحتمل القسم فيه: يكون فيه الخيار للورثة؛ إما يتراضون على ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الحركة.

قسمته بلا قرعة، وإما يبيعوه ويقتسموا الثمن [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الرابعة في القسمة على الغائب في الرياع

المسألة الرابعة في القسمة على الغائب في الرِّياع ولا خلاف عندنا في المذهب أنه يقضي على الغائب في غير الرياع -قربت غيبته أو بعدت- وأما الرياع: فلا تخلو من أن تكون غيبته غيبة انقطاع، أو غيبة ارتجاع؛ فإن كانت غيبة ارتجاع؛ مثل أن يغيب في البلاد التي يسافر الناس إليها، ويقدمون، فهل يحكم عليه السلطان في غيبته أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه يقضي عليه بما ادَّعَى به عليه [وهو قول عبد الملك، وهو ظاهر قوله في كتاب النكاح الثاني وغيره. والثاني: أنه لا يقضي عليه] (¬1) في غيبته، وأن السلطان يكتب إليه إما أن يقدم أو يوكل، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". وأما البعيد الغيبة [المنقطع] (¬2) كالأندلس، وطنجة من المدينة: فهذا يقضي عليه في الرياع، قولًا واحدًا، ويكون على حجته إذا قدم، ولا ينبغي للقاضي أن يقيم للغائب أو للطفل وكيلًا يقوم بحجته. وهذا كله إذا ادعى على الغائب في ريعه. وأما إذا طلب بعض أشراكه القسمة في ريع بينه، وبين الغائب: فإن القاضي يمكنه من القسمة، ويقضي بها على الغائب، قولًا واحدًا في المذهب فيما علمت؛ لأن الغائب مُقر بالشركة في الشيء المقسوم؛ ولذلك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

جوز القسمة [عليه] (¬1) وهو منكر بدعوى من ادعى الملك عليه، فلذلك منع [القضاء] (¬2) عليه في الريع في أحد الأقوال. والفرق بين الرياع وغيرها في جواز القضاء على الغائب: أن الرِّياع أمره خطر، والتنافس فيه يكثر، فقد لا يصادف الإنسان دارًا أو جنانًا يشتريه على وفق مراده لقلة وجود ذلك، ووقوعه في النداء في كل وقت؛ إذ ليس [للرِّياع] (¬3) سوق يُنتحى [ويُقصد] (¬4) عند [طلب] (¬5) الشراء، فإذا فوت الإنسان ريعًا، فقليل ما يخلفه بمثله، وما عدا الرِّيع من جميع المتمولات على اختلاف أنواعها، فإن لها أسواقًا يجتمع منها فيها ما هو مثل ما فوت عليه أو أفضل منه. وعلى القول بأنه يقضي على الغائب -إما [في] (¬6) ما عدا الرِّيع بالاتفاق، وإما [في] (¬7) الرِّياع على قول عبد الملك، وأصبغ، وابن عبد الحكم، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الشفعة" حيث قال: ويباع ريعه في الدين، وتكون فيه الشفعة- فهل يمكن من حجته إذا قدم أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يبقى على حجته إذا قدم، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه لا حجة له إذا قدم؛ لأنه إنما يقضي عليه بعد التلوّم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الفضل. (¬3) في ب: للريع. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ.

والاستبيان، وهو قول سحنون. وعلى القول بأنه على حجته إذا قدم: فإنه يعرف بمن شهد عليه، فإن كان عنده ما يدفع به شهادة الشهود عن نفسه؛ مثل أن يثبت أنهم عبيد، أو على غير الإِسلام. فالحكم بالقضاء عليه مردود، قولًا واحدًا في المذهب، وهو قول مالك في "كتاب الرجم" إذا صح فيما [إذا] (¬1) شهدوا على مال ثم تبين أن أحدهما عبد، فنكل الطالب عن اليمين مع الشاهد الباقي فحلف المطلوب: أن الحكم يرد. وأما إن جرحهم بأمر ينافي العدالة، وهم أحرار مسلمون كالزنا وشرب الخمر أو بأمر يوجد مع العدالة كالعداوة في غير حق الله، فهل ينتقض الحكم بذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الحكم لا يرد، ويكون البيع نافذًا، وهو قول عبد الملك في "كتاب ابن حبيب": فإن قدم الغائب، فأقام بينة على البراءة من الحق الذي [قضى] (¬2) عليه به، وبيع فيه ريعه لمضى البيع لمبتاعه، ولا ينتقض، ويكون للقادم الرجوع على المقضي له بما أخذ من الثمن، وهو قول مالك وأصحابه في "الموازية" وهو قول أصبغ في "الواضحة"؛ لأن ذلك حكم قد مضى على وجه شبهة، ولا فرق في ذلك بين الرياع وغيره في جميع ما بيع عليه من ماله ثم قدم وأثبت البراءة من ذلك أن البيع يمضي ويكون حقه في الثمن. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يقضي.

المسألة الخامسة في قسمة الأصول بالثمار والأرض بما فيها من زرع

المسألة الخامسة في قسمة الأصول بالثمار والأرض بما فيها من زرع والكلام في هذه المسألة في هذين السؤالين. فالجواب عن السؤال الأول: في قسمة الأصول بالثمار: ولا تخلو الثمار المتصلة بتلك الأصول من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون الثمار غير مأبورة. والثاني: أن تكون مأبورة. والثالث: أن تكون مزهية. فأما إذا كان ما فيها من الثمار غير مأبور: فلا يخلو من أن يقتسما على أن تبقى لأربابها، أو على أن تدخل في المقاسمة. فإن اقتسما على أن تبقى الثمار لأربابها، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن القسمة لا تجوز جملة، وهو قول ابن القاسم؛ لأن استثنائها في البيع لا يجوز عنده، وهو من بيعها قبل قبضها، والقسمة بيع من البيوع على أحد قولي المذهب، وهو نص المدونة. والثاني: أن ذلك جائز، وهذا القول قائم من المدونة أيضًا. وينبني الخلاف: على الخلاف في المستثنى، هل هو مشتري أو مبقى؛ فعلى القول بأنه مشتري: منعت القسمة في مسألتنا، وعلى القول بأنه مبقى: جازت القسمة. وقد حكى الشيخ أبو الحسن اللخمي في استثناء ما لم يؤبر من الثمار

في البيع قولان. فإن اقتسما على أن تدخل في القسمة، فهل يجوز ذلك أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز؛ لأنها تؤول إلى أن تصير طعامًا، فيؤدي ذلك إلى طعام بطعام متفاضل، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أن ذلك يجوز، وهو ظاهر قول محمَّد بن مسلمة؛ لأنه قال فيمن باع [نخلًا وفيها] (¬1) تمر لم يطب -أبر، أو لم يؤبر- فلا بأس أن يبيعها بالطعام والشراب من قبل أن [المقصود] (¬2) بالبيع، والشراء الأصل، فإذا جوز بيعها مع الأصول بسائر أنواع الطعام، ولم يعتبر لها وجودًا، فبأن تجوز قسمتها مع الأصول أولى [وأحق] (¬3). وسبب الخلاف: اختلافهم في اعتبار الحال والمآل، هل يراعى أم لا؟ فإن اشتراها أحدهما أن ما وقع في نصيبه من الثمن، فهو داخل في القسمة، وما وقع في نصيب صاحبه فهو باق على أصل الشركة: فذلك جائز، ولا أظنهم يختلفون في ذلك لعدم العلة المتقاة. وإن كانت إحدى الثمرتين مأبورة، والأخرى غير مأبورة: فالتي هي مأبورة: غير داخلة في القسمة، وإنها باقية على أصل الشركة، قولًا واحدًا، وغير المأبورة داخلة في القسمة بلا إشكال، وهو يجوز استثناؤها أم لا؟ قولان: الجواز، والمنع. فإطلاق القسمة دون إدخال المأبورة فيها بالشرط، وإخراج غير المأبورة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) القصدر. (¬3) في ب: وأحرى.

منها غير المأبور منها بالاستثناء: جائز من غير خلاف في المذهب بأنه يركب [على] (¬1) كل شائبة مقتضاها. فأما إن اشترطا إدخال المأبور [في القسمة] (¬2)، وقد استثنى غير المأبورة: فإنه يتخرج على الخلاف الذي قدمناه؛ لأنها إذا أدخلا المأبورة بالشرط وغير المأبورة داخلة بمقتضى الإطلاق، وهي تؤول إلى أن تصير طعامًا، فيؤدي ذلك إلى طعام بطعام متفاضلًا. فإن وقع الاستثناء في غير المأبورة: فإنه يتخرج على الخلاف الذي قدمناه أيضًا في استثناء ما لم يؤبر من الثمار، وأما إن كانت الثمار مأبورة، وهي بلح صغير أو كبير: كان إطلاق المقاسمة على الجواز؛ لأن الثمار في جميع ذلك غير داخلة في القسمة؛ بل هي باقية على أصل الشركة. فإن اشترطا دخولهما في المقاسمة، فهل يجوز أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وهو المشهور. والثاني: أن ذلك جائز، وهو ظاهر قول محمَّد بن مسلمة؛ لأنه جوز بيع الأصول مع ما فيها من الثمار المأبورة بالطعام إلى أجل كالسيفين مع حليتهما إذا كانت الحلية تبعًا، فإنه يجوز بيع أحدهما بالأخرى نقدًا أو إلى أجل على القول بأن الأتباع لا تراعى جملة. وسبب الخلاف: الأتباع هل تراعى أو لا تراعى؟ فإن كانت إحداهما مأبورة، والأخرى غير مأبورة: قد تقدم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الكلام عليه. وأما إذا كان [ما] (¬1) فيه من الثمار مزهية: فإطلاق المقاسمة على الجواز؛ لأن الثمار غير داخلة، وهي باقية على أصل الشركة. فإن اشترطا دخولها في المقاسمة، فهل يجوز ذلك أم لا؟ [فالمذهب] (¬2) على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، جملة بلا تفصيل، وهو مذهب ابن القاسم في "المدونة" وغيرها. والثاني: أن ذلك جائز، وهو ظاهر قول سحنون في "السليمانية"؛ لأنه قال: من اشترى نخلًا فيه ثمر قد طاب، أو لم يطب بطعام نقدًا أو إلى أجل: لا بأس به؛ لأن الثمر [تبع للنخل] (¬3) كالعبد يباع، ويستثنى ماله، فإن ذلك جائز نقدًا، أو إلى أجل؛ لأن ماله ملغي، وهو قول سحنون، وهو أضعف الأقوال. وقول محمَّد بن مسلمة أقرب إلى الصواب؛ لأن التقابض والمناجزة قد حصلت فيما بينهما؛ لأنها إن كانت في [حين] (¬4) المقاسمة طعامًا فقد حصل التناجز، وإن كان غير طعام؛ لأنها تصير طعامًا بعد انتقال الملك [بعد أن] (¬5) صارت في سهمه بخلاف إذا كانت مزهية؛ لأنها مقصودة حينئذ فيدخلها التفاضل. والجواب عن السؤال الثاني: في قسمة الأرض بما فيها ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: مع النخل. (¬4) في أ: حيز. (¬5) في أ: عقد من.

من الزرع: فلا يخلو من الأوجه الثلاثة التي قسمنا عليها الثمر؛ إما أن تكون قبل إبار الزرع، أو بعد الإبار، وقبل أن يطيب، وإما أن تكون بعد طيب الزرع. فأما إن كانت القسمة قبل إبار الزرع، فهل تجوز القسمة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها لا تجوز، جملة بلا تفصيل؛ لأن إطلاق القسمة يقتضي دخول الزرع في القسمة، وذلك يؤول إلى التفاضل بين الطعامين، واستثنى الزرع من القسمة وبقاؤه على أصل الشركة لا يجوز أيضًا؛ لأن ذلك بيعه قبل طيبه على البقية، وذلك حرام، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن القسمة جائزة استثنى، أو دخل في القسمة؛ لأن [استثناءها] (¬1) جائز على أحد قولي المذهب، ودخوله في القسمة لا تأثير له على قول محمَّد بن مسلمة وغيره؛ لأنه ليس بطعام في الحال، وما يؤول إليه في ثاني حال غير معتبر. فأما إن كان الزرع مأبورًا: فإطلاق القسمة جائز؛ لأن الزرع غير داخل في القسمة إلا بالاشتراط، فإن أدخلاه في القسمة، هل يجوز ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن القاسم؛ لأن ذلك طعام بطعام متفاضل. والثاني: أن ذلك جائز، وهو قول محمَّد بن مسلمة. وسبب الخلاف: اختلافهم في الأتباع هل تراعى، أو لا تراعى؛ فمن قال أنها تراعى منع، ومن قال لا تراعى جوز. فإن كان أحد الزرعين ¬

_ (¬1) في أ: استثناؤه.

مأبورًا، والآخر غير مأبور: وقعت القسمة على إطلاقها، فهي جائزة اتفاقًا؛ لأن المأبور بقى على أصل الشركة وغير المأبور داخل في القسمة. فإن وقع الشرط إما بإدخال المأبور في القسمة مع الأرض، وإما باستثناء غير المأبور [وبقائه] (¬1) على أصل الشركة، ففي كل فصل من ذلك قولان. وقد اختلف في إبار الزرع على ثلاثة أقوال: أحدها: ظهوره وبروزه من الأرض، وهو قول ابن القاسم في المدونة في كتاب الشفعة. والثاني: أن إبار الزرع بذاره في الأرض، وإن لم يطلع، وهو قول [القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب] (¬2). والثالث: أن إبار الزرع أن يَسْبل، وهو قول محمَّد. والأظهر [في الصواب] (¬3): ما ذهب إليه القاضي؛ لأن البذر كسلعة أودعت [في] (¬4) الأرض، فوجب حمل المقاسمة على الأرض دون ما فيها بخلاف الثمار التي هي ولادة. وأما إن كان ذلك بعد طيب الزرع: فلا خلاف في هذا الوجه أن الزرع لا يقسم مع الأرض، بل تقسم الأرض على حدة، ويبقى الزرع شركة بينهما [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: وبقيته. (¬2) في أ: أبي محمَّد عبد الوهاب القاضي. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من ب.

المسألة السادسة في قسمة الثمار والزروع

المسألة السادسة في قسمة الثمار والزروع والكلام في هذه المسألة في أربعة أسئلة: أحدها: قسمة الثمرة. والثاني: قسمة الزرع. والثالث: قسمة البقل. والرابع: قسمة اللبن. والجواب عن السؤال الأول: في قسمة الزرع: ولا يخلو من أن يكون [ذلك] (¬1) قبل طيب الزرع، أو بعد طيبه. فإن كان ذلك قبل طيب الزرع، فأراد قسمته فصيلًا: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يتفقا على جذه في الحال، وإما أن يتفقا على تركه حتى يطيب، وإما أن يجد أحدهما ويترك الآخر. فإن كان على أن يجذا جميعًا في الحال: فذلك جائز، ويقسم بينهما بالتحري إن كان يستطاع أن يعدل [بينهما] (¬2)، وهو قوله في "الكتاب". فإن حصد أحدهم حصته، وترك الآخر نصيبه حتى تحبب الزرع انتقض القسم؛ إذ لا يجوز بيع الزرع على أن يترك إلى طيبه، وليرد الذي حصد قيمة ما حصد فتكون تلك القيمة مع الزرع القادم بينهما، وقال في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ثلثهما.

"الكتاب": لأن القسمة هاهنا بيع من البيوع. فإن اتفقا على تركه جميعًا أو حصة أحدهما حتى يطيب: فإن القسمة فاسدة لا تجوز؛ لأن ذلك بيع الزرع قبل بدو صلاحه على البقاء. وأما إن كان ذلك بعد طيب الزرع: فلا تجوز قسمته فدادين، ولا مدارعة، ولا قتتا, ولا يقسم إلا كيلًا؛ لأن ذلك مزابنة. والجواب عن السؤال الثاني: في قسمة الثمار بعد طيبها، وقبل جذاذها، أو قبل طيبها، وهي بلح صغير أو كبير، ولا يخلو الشركاء في ذلك من وجهين: إما أن تتفق حاجتهم [في ذلك] (¬1)، أو تختلف. فإن اتفقت حاجتهم: فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يتفقا على التيبيس [وإما أن يتفقا على البيع] (¬2)، وإما أن يتفقا على الجذاذ. فإن اتفقا على التيبيس: فلا خلاف أنهما لا يقتسمان حتى ييبس الثمر، ويقتسماه كيلًا، وكذلك الحكم إذا اتفقا على البيع، وحاجة كل واحد منهما إلى بيع نصيبه رطبًا، فليبيعاه ويقتسمان الثمن بينهما, ولا يقتسمانها بالخرص. فإن اتفقت حاجتهما على الجذاذ للأكل: فلا يخلو من أن يتساويا عيالهما، أو يكون أحدهما أكثر عيالًا من الآخر. فإن تساوت العيال، ويكون الذي يجد كل واحد منهما في كل يوم مثل ما يجد الآخر: فلا يقتسمان بالخرص [لعدم الحاجة إليه، فإن كان ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

أحدهما أكثر عيالًا من صاحبه جاز أن يقتسماه بالخرص] (¬1) [ليتوسع] (¬2) صاحب العيال الكثير؛ لأنَّا إن قصرنا أكثرهما عيالًا عما يحتاجه أضربه، وإن كلفه الآخر أن يجد كثيرًا على قدر ما يحتاج إليه [صار] (¬3) صاحبه [فسد] (¬4) عليه، فاقتضت المصلحة القسم بينهما بالخرص حتى يأخذ كل واحد منهما القدر الذي يقوم به. فإن أخذ أحدهما، وأبقى الآخر نصيبه حتى أزهى: انتقض القسم، وكان الذي أزهى، وقيمة الذي لم يزه شركة بينهما، والقيمة يوم كان جذ على أنه مجذوذ، وليس على الرَّجاء والخوف؛ لأنه جذه بإذن شريكه. فأما إذا اختلف حاجتهم، فأراد أحدهما أن يأكل رطبًا، وأراد الآخر أن يتمر: جاز القسم بالخرص إذا وجد من يعرف ذلك لاختلاف الحاجة، والأغراض في ذلك. فإن أراد أحدهما البيع، وأراد الآخر أن يتمر: فلا يخلو الذي يريد أن يشتري من أن يكون مراده الجذاذ، أو الإتمار، فإن كان مراده الجذاذ: جاز القسم بالخرص لأجل اختلاف الأغراض. وإن كان مراده الإتمار: فلا يقسم بينهما بالخرص لاتحاد غرض المشتري والشريك. فإن أراد أحدهما الجذاذ، وأراد الآخر البيع: فلا يخلو المشتري من أن يشتري للبيع، أو يشتري للأكل. فإن اشترى للبيع: هل يجوز أن يقتسما بالخرص أم لا؟ على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ليتسع. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: فيسئل.

أحدهما: أن ذلك لا يجوز؛ لأن المشتري على الجذاذ اشترى، فقد اجتمعا عليه، وهو قول سحنون في البلح الكبير. والثاني: أن ذلك جائز، وإن لم يجد الذي حاجته للأكل إلا بعد يومين أو ثلاثة إذا لم يتركه حتى يزهو، وهو قول ابن القاسم؛ لأن المشتري، وإن اشترى على الجذ، وقد يجد ما اشتراه على مرة أو مرتين ليدرك بها الأسواق، والآخر يجذ شيئًا بعد شيء على قدر حاجته وعياله. وأما البلح: فلا يخلو من أن يكون صغيرًا، أو كبيرًا؛ فإن كان كبيرًا، فهل يقسم بينهما بالخرص مع اختلاف الحاجة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يقسم بينهما بالخرص إذا اختلفت حاجتهما كما تقسم إذا أزهت، وهو قول ابن القاسم في المدونة وغيرها. فإن أراد أحدهما أكله، والآخر بيعه، هل يقسم بينهما بالخرص أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يقسم [بينهما] (¬1)، وهو قول ابن القاسم، وأشهب. والثاني: أنه لا يقسم بينهما بالخرص؛ لأن ذلك ليس باختلاف حاجة، وهو قول سحنون. والقول الثاني من الأول: أنه لا يجوز قسمة البلح الكبير بالخرص، وإنما يجوز بالتراضي مع اختلاف الحاجة بخلاف الرطب، وهو قول بعض المتأخرين، وهو اختيار التونسي [رحمه الله] (¬2). فإذا قسماه بالخرص للحاجة، فجذ أحدهما نصيبه، وترك الآخر ما ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب.

صار له حتى أزهى: فإن القسمة تنتقض بينهما، ويرد الذي جذ حصته قيمة ذلك يوم جذه، ويقسمانه مع نصيب الآخر الذي تركه، بخلاف المزهي من الثمار إذا اقتسماه وترك أحدهما نصيبه حتى يتمر: فإن القسمة بينهما لا تنتقض؛ لأن البيع لو وقع على ذلك بالعقد على قول، وبالقبض على آخر. واختلف إذا اجتيح نصيب أحدهما، هل توضع فيه الجائحة أم لا على قولين؛ فقال ابن الماجشون: لا جائحة في ذلك، وظاهر قول ابن القاسم: أنه توضع فيه الجائحة؛ لأنه يقول في "الكتاب": إن القسمة تنتقض فيه إذا تركه حتى أزهى. وسبب الخلاف: اختلافه في القسمة، هل هي بيع، أو تمييز حق. وأما البلح الصغير: فقد اختلف فيه، هل له حكم الطعام، أو هو علف لا غير؟ فقد قال مالك في المدونة في كتاب القسمة أنه علف، وقال ابن القاسم: هو بمنزلة البقل، وإلى هذا التخريج أشار اللخمي. فعلى القول بأن له حكم العلف: جازت قسمته، وإن لم تختلف الحاجة فيه. وإن جذ أحدهما نصيبه، وأبقى الآخر إلى الآخر إلى الأيام ما لم يتركه حتى يصير زهوًا. وعلى القول بأن له حكم الطعام لم تجز المقاسمة إلا أن يجذا معًا. فإن اقتسماه على المفاضلة بالأمر البين جاز؛ لأن التفاضل فيه جائز يدًا بيد على القول [بأن له حكم الطعام، وإلى أجل على القول] (¬1) بأنه ¬

_ (¬1) سقط من أ.

علف. فإن اقتسماه ثم لا يجذا حتى صار بلحًا كبيرًا [فإنك تنظر. فإن اقتسماه على التعديل، وكان لا يختلف الآن إذا كبر فالقسمة جائزة، وإن اقتسماه على المفاضلة أو كان إذا كبر تفاضل انتقضت القسمة، فإن جذ أحدهما نصيبه، وترك الآخر حتى صار بلحًا كبيرًا] (¬1) لم تنتقض القسمة لجواز التفاضل بين البلح الصغير والكبير. وإن تركه حتى أزهى انتقض القسم بينهما، ويرد الذي جنى نصيبه قيمته يوم جناه ويقتسمانه مع نصيب الآخر. فانظر كيف جوز قسمة البلح الصغير بالتحري، وهو مما يكال، وما يكال [غيره] (¬2) لا يقسم بالتحري، وقد يعتذر عن ذلك بأن يقال: إنما أجاز هذا؛ لأنه لا يمكن كيله؛ لأنه مما أصله الخرص، فإذا خرجا من الخطار جاز. وأما قسمته الفواكه بالخرص: فلا تخلو من أن تتفق الحاجة أو تختلف فيها. فإن اتفقت الحاجة: فيمنع قولًا واحدًا، وإن اختلف الحاجة: ففي جواز قسمتها بالخرص قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو نص قول مالك في "المدونة" في "كتاب القسمة"، وقال: إنما مضى الخرص في النخل والعنب، وليس الخرص في هذا من عمل الناس. والثاني: أن ذلك جائز، وهو قول أشهب في "المجموعة"، وهذا القول يؤخذ من المدونة من "كتاب العَرَايا"؛ حيث قال فيما سوى النخل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: عنده.

والعنب: إذا أعرى يجوز أن تشتري بخرصها، فإذا جوز أن تشتري الفواكه بخرصها إذا أعرت فما المانع من أن تقسم بالخرص إذا اختلفت الحاجة، وذلك ظاهر. والجواب عن السؤال الثالث: في قسمة البقل: فلا تخلو من أن تتفق فيه الحاجة، أو تختلف. فإن اتفقت فيه الحاجة: فلا إشكال، وإن اختلفت، فهل تجوز قسمته بالخرص أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، واحتج بأن مالكًا لم يجوز الخرص فيما يجوز فيه التفاضل مثل التفاح وغيره. والثاني: أن ذلك جائز، وهو مذهب أشهب في "مدونته"، وهو ظاهر "المدونة" أيضًا؛ لأن ابن القاسم إنما منع ذلك لعدم من يعرف الخرص، فإذا تحققت المفاضلة بين القسمين فما المانع من الجواز، وواحد [في ذلك] (¬1) باثنين جائز، وهو قول ابن القاسم في قسمة اللبن إذا اقتسما الغنم للحِلَاب على ما يأتي في فصله إن شاء الله. والجواب عن السؤال الرابع: في قسمة اللبن في ضُرُوع الماشية مثل أن يشتركا في ماشية فيقتسماها للحلاب، فيأخذ هذا غنمًا يحلبها، ويأخذ هذا مثلها يحلبها: فلا يخلو من وجهين: إما أن يكون ذلك على أن من هلكت الغنم التي بيده فلا يرجع في حِلَاب ما بيد صاحبه. وإما إن هلك ما بيده من الماشية: لم يرجع فيما بيد صاحبه بشيء، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن ذلك لا يجوز، قولًا واحدًا؛ لأن ذلك مخاطرة وقمار. فأما إن كان ذلك منهما على وجه المعروف، وفضل أحدهما الآخر على أنه إن هلك ما بيد أحدهما رجع فيما بيد صاحبه، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك جائز -افترقا للحلَاب أو اجتمعا- وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب القسمة". والثاني: أن ذلك لا يجوز -افترقا أو اجتمعا- وهو قول أشهب؛ لأنه لبن بلبن متفاضلًا، وهو لا يجيز قسمته محلوبًا تحريًا، فإذا فَضَّلَه فهو حرام. والثالث: التفصيل بين أن يكون ذلك قبل التفرق، أو بعده؛ فإن حلباه قبل التفرق: جاز إذا فَضَل أحدهما الآخر بشيء بين. فإذا حلباه بعد التفرق: فلا يجوز؛ لأن ذلك طعام بطعام؟ وليس يدًا بيد، وهو قول سحنون، وهو ظاهر "المدونة"؛ لأنه أجاز في [القسمة] (¬1) أن يأخذ أحدهما أقل من نصفها بالأمر البين، ويسلم الآخر بقيمتها، فانظر كيف جوز ابن القاسم قسمة اللبن على التحري، وهو مما يكال، ومذهبهم أن التحري لا يجوز في المكيل من الطعام؛ وإنما يجوز في الموزون في القليل، والكثير منه على قول، وأما في اليسير منه على رواية عيسى عن ابن القاسم في "العتبية". وأما [ما لا يجوز] (¬2) في المكيل من الطعام: فلا يجوز جملة، وهذا القول حكاه أبو الحسن بن القصار عن مالك في كتاب "عيون ¬

_ (¬1) في ب: الصبرة. (¬2) سقط من أ.

الأدلة"؛ لأن بيع الجزاف بالجزاف من صنف واحد مخاطرة، وهو حرام، وإن كان ترابًا من أجل أن الميزان عندهم ربما يُعْدم في الأسفار والبوادي، والكيل لا يكاد يعدم، ولو كان بالألف، وبهذا فرق أكثرهم بين المكيل والموزون، وذلك فرق استئناس؛ لأن الكيل بمكيال غير الجاري، والكيل به ممنوع على مشهور المذهب؛ لأن ذلك مخاطرة، والمخاطرة فيه أشد من المخاطرة في التحري؛ لأن التحري معيار شرعي، وفي بعض الحالات يتوصل به إلى معرفة المقادير التي لا يمكن فيها الكيل والوزن [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة السابعة في الثمار إذا قسمت بعد الأصول على من يكون سقيها

المسألة السابعة في الثمار إذا قُسِّمَت بعد الأصول على مَنْ يكون سَقيِها مثل أن يقتسموا الأصول، وفيها ثمرة، وتركوا الثمرة ثم قسموها بعد زهوها لاختلاف حاجتهم في ذلك، فهل على كل واحد سقى نخله، وإن كانت ثمرته لغيره أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن السقي على صاحب الأصل، وإن كانت الثمرة لغيره، وهو مذهب ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن السقي على من له الثمرة دون صاحب الأصل كمن أوصى بالأصل لرجل، وفيها ثمرة مأبورة أو مزهية: فالسقي على ورثة الموصي بخلاف البيع، وهو مذهب سحنون. وسبب الخلاف: اختلافهم في القسمة هل هي بيع، أو تمييز حق، فمن رأى أنها بيع قال: السقي على من له الأصل كما لو باع الثمرة دون الأصل، فإن السقي على البائع ما دامت الثمرة متصلة بأصوله. ومن رأى أنها تمييز حق، قال: السقي على من له الثمرة، فيقدر الأصل الذي وقع له في القسم كأنه لم يزل، وكأن هذه الثمرة التي صارت في أصول هذا لغيره كأنها لم تزل ملكًا لصاحبها الذي وقعت له في القسم، فكان السقى على صاحب الثمرة كما لو وهب له الثمرة، فإن السقى على الوهوب له؛ لأنَّ صاحب الأصول لم يمنع منه الثمرة، فيكون قد التزم له السقى. وأما على قول ابن القاسم بأن القسمة بيع: فقد اعترضه بعض المتأخرين، وقال: إذا اقتسموا الأصول أولًا، فصار لهذا عشر نخلات،

ولهذا خمس عشرة نخلة، ولم يقتسموا الثمرة بعد، فإذا قدرنا أنه بيع: كان على كل واحد سقي نصف ما في يديه من النخل؛ لأنها للذي له في الأصل، والنصف الآخر اشتراه، وهو مذهب ابن القاسم: أن من اشترى أصلًا دون ما فيه من الثمرة أن السقي على البائع فيما أبقى من الثمرة، ومذهب المخزومي على أن مشترى الأصول يسقي ثمرة البائع. فإذا اقتسما الثمرة بعد ذلك فصار لصاحب الخمس عشر نخلات ما في العشر من الثمر، وصار لصاحب العشر ما في الخمس عشرة: كان على مذهب ابن القاسم أن يلزم صاحب خمس عشرة نخلة سقى نصفها؛ لأنه باع ثمرة نصفها، وكان على شريكه سقى النصف الآخر؛ لأنه باع نصف الأصل، وأبقى الثمرة له، ومن باع أصلًا دون ثمرته، فالسقي على البائع. وأما على قول المخزومي: فإنه يلزمه سقي الجميع؛ لأن نصف النخل له، وقد باع ثمرها، والنصف الآخر اشتراه، فعليه سقيه، وإن بقيت ثمرته للبائع. فإن كان ابن القاسم قد رجع إلى قول المخزومي استقام الجواب، وأما بناء مذهبه الذي يرى أن من باع الأصل: فالسقى على البائع فيما أبقى من الثمرة: فلا يستقيم الجواب إذا سلك بالقسمة مسلك البياعات [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الثامنة في قسمة الساحة والأبنية

المسألة الثامنة في قسمة الساحة [والأبنية فأما قسمة الساحة] (¬1) مع البيوت، فلا تخلو من أربعة أوجه: إما أن تحتمل الساحة الدار، وبيوتها القسمة. أو لا تحتمل القسمة لا الساحة ولا البيوت. وإما أن تحتمل البيوت القسمة دون الساحة. وإما أن تحتمل الساحة القسمة دون البيوت. فأما الوجه الأول: إذا احتملت الساحة، والبيوت القسمة: فإن البيوت تنقسم، قولًا واحدًا. وهل تقسم الساحة معها أو يجعل لكل نصيب من البيوت ما يقابله [من الساحة] (¬2) أم لا؟ على أربعة أقوال: أحدها: أن الساحة تقتسم مع البيوت، ويجعل لكل نصيب من البيوت ما يقابله من الساحة، وهو قول ابن القاسم [في "المدونة"] (¬3). والثاني: أن قسمتها مع البيوت تجوز بالتراضي، ولا تجوز بالقرعة, وهو ظاهر قوله في "كتاب القسم"، وهو مشهور المذهب إذا عدل ذلك بالقيمة ثم استهم عليها على ما تأوله الشيخ أبو عمران الفاسي. والثالث: أن البيوت تقسم [على حدة، ولا تقسم الساحة أصلًا، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب.

وهو قول مطرف، وعليه تأويل قول مالك حيث قال: تقسم] (¬1) الساحة بين الورثة، وإن احتملت القسمة. والرابع: التفصيل بين أن يكون على البيوت حجر، فلا تقسم الساحة أصلًا، أو لا يحجر عليها فتقسم، وهو قول ابن القاسم، وأشهب في "المجموعة". وأما الوجه الثاني: إذا كانت البيوت والساحة لم يحتملا القسمة، فهل تقسم أم لا؟ فقد تقدم الكلام على ذلك بما لا مزيد عليه. وأما الوجه الثالث: إذا كانت البيوت تحتمل القسمة دون الساحة: فإنهم يقسمون البيوت، ويتركوه الساحة يرتفقون بها على السواء، فيرتفق صاحب السهم القليل كما يرتفق صاحب السهم الكثير. فإن اتفقوا على قسمتها، فهل تقسم أو لا تقسم أصلًا؟ فإنها تتخرج على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنها تقسم إذا اجتمعوا على قسمتها، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنها لا تقسم أصلًا، وهو تأويل مطرف عن مالك في الساحة إذا كانت واسعة تنقسم، فإذا كنت ضيقة لا تحتمل القسم. وأما الوجه الرابع: إذا كانت البيوت لا تحتمل القسم، واحتملتها الساحة، فهل تجمع مع البيوت في القسم، فتكون البيوت قسمًا، وتكون الساحة قسمًا أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنهما لا يُجمعان في القسم، وأن الساحة بينهما إلا بالتراضي دون القرعة، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم؛ لأنها إن جمعت في القسمة بالسهم خرج سهم بعضهم في البيوت، وبعضهم في ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الساحة، فيؤدي ذلك إلى المخاطرة التي منع لأجلها الصنفين المختلفين في قسمة السهم، وهذا هو مشهور المذهب. والثاني: أنه يضم البنيان في القسمة إلى الساحة حتى كأنه منها ثم تقسم كلها قسمًا واحدًا، وإن لم يقع انقسام كلها في البنيان، وهو قول ابن حبيب، وهو مذهب أشهب في جوازه جمع الصنفين المختلفين في القسم بالسهم، وهو ظاهر قول ابن القاسم في مسألة النخلة، والزيتونة. وأما قسمة الأفنية: فإنها على قسمين فناء يكون أمام دور القوم إلى جنب الطريق، وفناء [يكون] (¬1) بين دور القوم. فأما فناء يكون أمام دار القوم إلى جنب الطريق: فلا خلاف في المذهب أنه لا يقسم ابتداء، وإن اجتمعوا على قسمته؛ لأن لعامة الناس فيه حق وموقف عند تضايق الناس في الزِّحَام. فإن اقتسموه هل ترد القسمة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تنتقض، ويبقى الفناء على حاله، وهو الأظهر. والثاني: أنها لا تنتقض، وهو قول أصبغ. وأما فناء يكون بأن دور القوم ليس إلى جانب الطريق، ولا لأحد من المارة فيه مرفق، فإن اتفقوا على قسمته قسم قسمًا واحدًا، فقيل [على] (¬2) ما تراضوا عليه، وهو قول ابن القاسم، وقيل: على حال منازلهم، وهي رواية ابن وهب، وابن نافع عن مالك. فإن أبا بعضهم القسمة لم يحكم بها بينهما على رواية ابن وهب، وابن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

نافع، وقيل: إنه يحكم بينهم به، وهو أحد قولي المذهب في الأنادر والمسارح، فعلى القول بأنها تقسم، فإن الفناء يُقَسَّم، وإن أبى بعضهم؛ إذ لا فرق بينهما [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة التاسعة في دعوى الغلط بعد القسمة

المسألة التاسعة في دعوى الغلط بعد القسمة فالكلام في هذه المسألة على فصلين: أحدهما: أنْ يَدَّعِي [أحدهم] (¬1) الغلط في القسمة. والثاني: أنْ يَدَّعِي أحد المتبايعين الغلط في البيع. أما الفصل الأول: إذا ادعى أحد المتبايعين الغلط في البيع، فذلك على وجهين: أحدهما: أن يتولوا القسم بأنفسهم. والثاني: أنْ يُقَدِّمُوا من يقسم بينهم أو يقدمه الحاكم. فإن كانوا تولوا القسم بأنفسهم ثم ادعى أحدهم الغلط، فلا يخلو ذلك من أربعة أوجه: أحدها: أن يعدلا [على] (¬2) ذلك بالقيمة، ثم يقترعا أو يأخذا ذلك بغير قرعة. والثاني: أن يقولا: هذه الدار تكافئ هذه، وهذا العبد يكافئ هذا من غير ذكر القيمة، ثم يقترعا أو يأخذا ذلك بغير قرعة. والثالث: أن يقول أحدهما لصاحبه: خذ أنت هذه الدار وهذا العبد، وآخذُ أنا هذه الدار، وهذا العبد من غير تقويم، ولا ذكر مكافأة. والرابع: أن يختلفا في الصفة التي وقعت عليها القسمة مثل أن يقتسما ¬

_ (¬1) في ب: بعضهم. (¬2) سقط من أ.

عشرة أثواب، فكان في يد أحدهما ستة أثواب، وفي يد الآخر أربعة، وادعى أن الثوب السادس في نصيبه. فأما الوجه الأول: إذا عدلا ذلك بالقيمة ثم يقترعا أو يأخذا ذلك بغير قرعة ثم يَدَّعِي أحدهما غلطًا: فهذا ينظر إليه أهل المعرفة، فإن كان سواء أو قريبًا من السواء وإلا نقض القسم، وكان القول قول من ادعى الوهم أو الغلط. وأما الوجه الثاني: إذا قالا: هذه الدار تكافئ هذه، وهذا العبد يكافئ هذا من غير [ذكر] (¬1) القيمة ثم يقترعان، أو يأخذا ذلك بغير قرعة، فإنَّ الحُكم فيه كالحكم في الوجه الأول؛ لأن مفهوم القصد إلى التعديل المساواة في القِيَم، وذلك إذا قالا: هذه الدار تكافئ هذا المتاع أو هذا العبد، ثم أخذ كل واحد منهم أحد الصنفين بالتراضي بغير قرعة، ثم ذكر أن القيمة مختلفة. وأما الوجه الثالث: إذا قال أحدهما لصاحبه: خذ أنت هذه الدار، وهذا العبد، وآخذ أنا هذه الدار وهذا العبد من غير تقويم، ولا ذكر مكافأة. فإن كانت القسمة بالتراضي: مضت المقاسمة على من كانت في نصيبه كما تمضي في البيع، إلا على القول بالقيام بالغبن فيما زاد على الثلث. فإن كانت [القسمة] (¬2) بالقرعة: فلا يخلو من أن يكونا عالمين، أو غير عالمين. فإن كانا عالمين بفسخ ذلك: فإن القسمة تفسخ بينهما بالجبر، وإن لم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: القيمة.

يدع واحد منهما إليه؛ لأن القرعة على ذلك غرر. فإن كانا غير عالمين بفساد ذلك، ويظنان أنه جائز: فإن [القسمة] (¬1) بينهما نافذة، ويكون القيام بالغبن في ذلك كالقيام بالعيب، فإن قام به من عنده ذلك الغبن: فسخت القسمة، فإن رضي به مضت. وأما الوجه الرابع: إذا اختلفا في الصفة التي وقعت عليها القسمة؛ مثل أن يقتسما عشرة أثواب، فكان في يد أحدهما ستة أثواب، وقال: هي في نصيبي، وعلى هذا اقتسمنا، وقال الآخر: بل الثوب السادس منها لي أنا، وقد كانت قسمتها خمسة خمسة، وإنما سلمته غلطًا: فلا يخلو من أن تكون القسمة بالقرعة، أو بالتراضي. فإن كانت بالقرعة: فالمذهب فيها على قولين: أحدهما: أن القول قول الحائز للثوب السادس مع يمينه إذا أتى بما يشبه أن يتقاسم الناس عليه، وهو قول ابن القاسم؛ لأن الآخر قد أقر بالقسم، وادعى ما في يد صاحبه. والثاني: التفصيل بين أن يدعي الآخر أنه سلمه إليه غلطًا، أو ادعى أنه سلمه على وجه الإيداع. فإن ادعى أنه سلمه على وجه الإيداع: كان القول قوله أنه قاسمه خمسة خمسة مع يمينه، ثم يكون الآخر بالخيار بين أن يسلمه، ويحلف أنه قاسمه ستة وأربعة، ويتفاسخان القسمة كلها، وهو قول أشهب في "مدونته". وقال محمَّد بن عبد الحكم: يتحالفان ويتفاسخان في ذلك الثوب وحده. ¬

_ (¬1) في أ: القيمة.

فيتحصل في التحالف والتفاسخ قولان: قيل: في الثياب كلها، وقيل: في الثوب وحده، ويكون بينهما شركة على السواء. فإن كانت القسمة بالتراضي: لم ينظر إلى الدعوى، وإن كان الغلط؛ لأنه كبيع المساومة، فيلزمه التغابن، وهو قول ابن حبيب، وهو وفاق المذهب. والجواب عن الوجه الثاني من الفصل الأول: إذا قدَّمُوا لأنفسهم من يقسم بينهم من غير أن يتولوا القسمة، فادعى بعضهم أن القاسم غلط: [أو جار] (¬1) فقد قال ابن القاسم في "المدونة": لا يلتفت القاسم إلى قولهم وليتم على قسمته، فإذا فرغ منها نظر السلطان [فيها] (¬2) فإن وجدها على التعديل مضى ما قسم ولا يرد، فإن رضي جميعهم بِرَده ونقضه ليستأنفا القرعة أو التراضي بقسمته مرة أخرى: لم يجز؛ لأنهم ينتقلون من معلوم إلى مجهول، وهو ما يخرج لهم في المستقبل، ولو تراضوا بنقضه بشرط أن يأخذ كل واحد شيئًا معلومًا معينًا: جاز فإن وجد فيه غيبًا: فلا يخلو من أن يكون غبنًا فاحشًا، أو غير فاحش. فإن كان فاحشًا: فللسطان أن ينقضه، قولًا وحدًا. وإن كان غير فاحش، هل تنتقض قسمته ويُرَد أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن قسمة يُرَد ويَرُده هو وغيره، وهو قول ابن القاسم في المدونة؛ لأنه قال في الكتاب: ولم ير مالك في قسم القاسم بمنزلة حكم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الحاكم. والثاني: أن القاضي والقاسم في ذلك سواء، وأن القاسم لا يَرُد من قسمه إلا ما كان غلطًا بينًا كالقضاء على سواء، وهو قول أشهب. ووجه [قول] (¬1) من يساوي بين القاسم والقاضي: أن كل واحد منهما يعمل على نظره، واجتهاده، فلا ينقض ما قسمه بنظره بنظر غيره إلا أن يتبين الغلط. ووجه من فرق بينهما: أن القاضي، والقاسم وإن اجتمعا أن كل واحد منهما عمل باجتهاد، إلا أن الحكم يختلف فيما أدى إليه الاجتهادان؛ فالذي يؤدي إليه اجتهاد القاضي مظنون، والذي يؤدي إليه اجتهاد القاسم محقق تُدْرَك معرفته قطعًا؛ لأن الغلط إن كان هناك يدرك حقيقة وقطعًا فافترقا، وهذا يحرك سلسلة باب تصويب المجتهدين، والكلام عليه مُحَال على فن الأصول. فالجواب عن الفصل الثاني: إذا ادّعى أحد المتبايعين الغلط في البيع؛ مثل أن يدعي المشتري أنه اشترى عشرة أثواب بعشرة دنانير، وقال البائع: بل هذه التسعة بعشرة، والعاشر غلط مني، أو هو عندك وديعة: فلا يخلو من أن تكون الثياب قائمة، أو دخلها فوت. فإن كانت قائمة: فالقول قول من ادّعى ما يشبه على الخلاف في اعتبار الشبهة مع القيام. فإن أتيا جميعًا بما يشبه، أو بما لا يشبه: فإنهما يتحالفان ويتفاسخان. فإن فاتت بحوالة الأسواق فاعلًا كان ذلك فوتًا في التسعة دون العاشر لم يُقر ببيعه، فيحلف المشتري أنه اشترى العشرة بعشرة دنانير، ويغرم ما ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ينوب التسعة على أنه ذلك العاشر داخل في البيع، ويُرَد العاشر على ما هو به من عيب، ولا شيء على المشتري إذا كان العيب من غير سببه، فإن كان من سببه، وكان العيب يسيرًا: أخذه صاحبه وما نقصه العيب، وإن كان كثيرًا غرم جميع قيمته إلا أن يكون الثمن أكثر [فيضمنه له بالثمن؛ لأنه قد أقر أنه اشترى بذلك الثمن، وإن باعه المشتري كان لصاحبه أكثر من ثلاثة أوجه من قيمته يوم باعه المشتري أو الثمن الذي باعه به، أو ما ينوبه من الثمن في العقد الأول، وأما إذا كان الثمن الأول أكثر] (¬1) فحلف المشتري: استغنى عن يمين البائع [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب.

المسألة العاشرة في قسمة الوصي على من يلي عليه من اليتامى

المسألة العاشرة في قسمة الوصي على من يلي عليه من اليتامى وقسمة الوصي لا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون بين صغير وكبير رشيد. والثاني: أن تكون بين صغيرين ورشيد. والثالث: أن تكون بين الصغار. فأما الوجه الأول: إذا كانت القسمة بين صغير وكبير رشيد: فمقاسمة الوصي على الصغير جائزة دون مطالعة الحاكم قولًا واحدًا؛ لأنه يتهم أن يميل عما هو في ولايته إلى من هو رشيد؛ إذ لا غرض. وأما الوجه الثاني: إذا [قسم الوصي] (¬1) بين صغيرين ورشيد: فلا يخلو ما يأخذه الوصي للصغيرين من أن يكون مشاعًا بينهما أو غير مشاع. فإن كان مشاعًا: فالجواز قولًا واحدًا كما لو كان صغيرًا واحدًا، [وإن] (¬2) كانا اثنين فأكثر فإن كان سهم كل واحد منهما مَفْرُوزًا، فهل تجوز قسمة الوصي عليهما أم لا؟ فعلى قولين: أحدهما: الجواز من غير كراهة، وهو مذهب "المدونة". والثاني: الجواز مع الكراهة مخافة أن يميل بالأفضل إلى أحد الصغيرين. ¬

_ (¬1) في أ: قاسم. (¬2) في أ: فإذا.

وأما الوجه الثالث: إذا كانوا صغارًا كلهم، وليس بينهم كبير، فهل تجوز قسمة الوصي بينهم أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: [أنها] (¬1) لا تجوز، وأنه لا يقسم بينهم إلا السلطان، وهو قوله في المدونة. والثاني: أنه يجوز مع الكراهة، وهو قوله في "الكتاب" أيضًا. والثالث: الجواز بلا كراهة، وهو قول سحنون، وهذا القول قائم من "المدونة" من "كتاب الرهون" من قول ابن القاسم حيث قال: يجوز للأب أن يشتري لابنه الصغير من ابن له صغير، والوصي كذلك. فعلى هذا يجوز أن يقسم بينهم. والقول بالجواز من غير كراهة أصح؛ لأن القسمة أعلى مراتبها أن تكون بيعًا، وبيع الوصي عليهم، وشراؤه لهم لبعض من بعض أو من غيرهم جائز، والقول بالرفع إلى السلطان ضرب من الاستحسان [والحمد لله وحده]. ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الحادية عشرة في قسمة الماء بالقلد

المسألة الحادية عشرة في قسمة الماء بالقِلْد والقِلْد: بكسر القاف وسكون اللام، واختلف أهل اللغة في تفسيره. فقيل: هي القِدْر [التي] (¬1) يقسم به الماء، وبه فسر في بعض نسخ المدونة، وثبت في كتاب ابن المرابط. وقيل: هو الحظ من الماء؛ يقال: سقينا أرضنا قلدنا، أي: حظنا من الماء، وهو قول ابن دُرَيْد. وقيل: هو سقي الزرع وقت حاجته؛ يقال: أقمت قلدي: إذا سقى زرعًا يوم حاجته إلى السقي، وهو قول ابن قُتَيْبَة. والمعنى الأول أقرب وأسعد بظاهر الكتاب؛ إذ هو المراد هنا. وأما صفة قسم الماء بالقلد: فقد اختلف فيه المتقدمون، والمتأخرون اختلافًا كثيرًا، وتعقب بعضهم كلام بعض، ولم يسلم المُتَعَقِب من الاعتراض فيما عقب به، فقال ابن حبيب عن ابن الماجشون وغيره من علماء المدينة، وأصبغ من المصريين: هو أن يؤخذ قدر من الفخار وغيره، فيثقب في أسفلها بمثقب يمسكه الأمين عنده، ثم يعلقونها عند انصداع الفجر، وقد جعلت تحتها قصرية، واستعدت جرار المياه، فإذا انصدع الفجر صب الماء في القدر فسال من الثقب، وكلما هم الماء أن ينضب ويفرغ زادوا الصب [في القدر] (¬2) حتى يكون سيل الماء من الثقب معتدلًا النهار كله، والليل كله فينحونها ويقتسمون ما اجتمع من الماء على أقلهم سهامًا ¬

_ (¬1) في أ: الذي. (¬2) سقط من أ.

كيلًا أو وزنًا، ثم يجعلون لكل وارث قدرًا يحمل سهمه من الماء، ويثقبون كل قدر بالمثقب الأول، فإذا أراد أحدهم السقى علق قدره، وصرف الماء إلى أرضه، فيسقى ما دام الماء يسيل من القدر، ثم كذلك بقيتهم. ثم إن تَشَاحّوا في التبدئة استهموا فيه، فيتتابعون على ذلك، انتهى كلامه. وقال بعض الصقليين: قوله: "ثم يجعلون لكل وارث قدرًا يحمل سهمه": فإنما يصح ذلك إذا تساوت أنصباؤهم خاصة، وأما إذا اختلفت وكان لبعضهم أكثر، ولبعضهم أقل: كان صاحب الكثير مغبونًا؛ لأن القدر كلما كثرت ثقل فيها [الماء] (¬1) وقوي جريه من الثقب لزوم الماء بعضه بعضًا إلى الخروج بالقوة حتى [يوافي] (¬2) [زمن] (¬3) خروجه وفراغه [زمن] (¬4) جريه، وفراغه من القدر الصغير؛ لأن أحدهم قد يكون له عشرة أسهم، وللآخر سهم، فإذا أخذ حقه في قدر صغير: خف جرى الماء منها، فيأخذ أكثر من حقه، قال: والذي أرى: أن يقسم الماء على أقلهم [سهامًا] (¬5)، فيأخذ صاحب السهم الواحد [سهمه] (¬6) في قدر واحد، ويأخذ الآخر سهمه في عشرة قدور، فيكون جري الماء على حد واحد. وقال بعضهم: وهذا الاعتراض الذي اعترض به أبو عبد الله الصقلي صحيح، إلا أنه يرد عليه هو [من الاعتراض مثل ما أوردوا على ابن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يوازي. (¬3) في ب: زمان. (¬4) في ب: زمان. (¬5) في ب: سهمًا. (¬6) سقط من أ.

حبيب؛ لأنه أغفل ما هو أشد مما تعقب به عليه، وذلك قوله أولًا: وكل ما هم الماء أن ينصب صبوًا، فهذا عليه من الاعتراض] (¬1) مثل ما ذكره؛ لأن صب الماء في القدر من الثقب، وهي بخلاف صبه بعد نقصها, ولو [قال] (¬2) كل ما نقص من الماء شيء داركوه، كان أسلم حتى يكون جري الماء من الثقب على جري واحد، وقد تفطن لهذا أبو عبد الله بن العطار، وقال: يصب [من الماء] (¬3) قدر ما ينتقص به الماء من القدر، ويبقى على ابن حبيب، والصقلي أيضًا في قسمة الماء على ما ذكروه من قدور متفرقة صغارًا كلها على قول الصقلي، أو صغارًا وكبارًا بقدر الأنصباء على قول ابن حبيب أن الليل والنهار ينقصان ويذهبان قبل تمام جري ماء هذه القدور؛ لأنه إن كانت قدرًا كبيرة يجري منها الماء يومًا وليلة، فلا يمكن أن يجري ذلك الماء من قدور صغار وكبار في تلك المُدَّة لقوة جري الماء في الكبار، وضعف اندفاعه من الصغار، فلو قسم الماء على ما قالاه لتمت الليلة واليوم، وبقي بعض الأنصباء ومن الأشراك من لم يسبق، وقد تكلم أبو عبد الله بن العطار فيها، وأخذ طريقًا آخر لم يسلم هو فيه من الاعتراض أيضًا، فقال: إذا أرادوا السقي بعد قسمة الماء، وابتدأ أحدهم بالقرعة أو التراضي يؤخذ ما جاز للمبتدئ بالسقي من مكيلة الماء، ويجمع في الغلة، فإذا فرغ أخذت منه مكيلة الذي يليه، ثم هكذا يفعل لكل واحد منهم إلى أن ينقضي اليوم والليلة [وهما] (¬4) الدَّهر كله. قال بعضهم: فاعتراض الصقلي على ابن حبيب لازم لابن العطار؛ لقوة اندفاع الماء الكثير وضعف القليل، وأنه قد يمكن أن يمتد جري هذا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: كان. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: وهم.

القليل لضعفه حتى يأخذ من النهار مثل ما أخذ من له مثل سهمه أو أكثر لقوة اندفاع الماء الكثير. قال: وكذلك يبقى عليه ما صورناه من الاعتراض بانقضاء اليوم والليلة قبل فراغ الماء، وهذا مما لا شك فيه، ولولا قولهم: "يفعل ذلك لكل واحد منهم إلى أن ينقضي اليوم والليلة، وهما الدهر كله"، لقيل: لعلهم لم يقصدوا في القسمة بهذا قسمة كل يوم وليلة، وإنما أرادوا بقية الماء قسم الدول المذكورة -كانت في يوم وليلتين، أو دون ذلك، أو أكثر- لكنه ليس مرادهم. ويبقى فيه أيضًا على هذا اعتراض آخر سنذكره في مراعاة سقي الليل من سقي النهار. ويمكن أن يحمل كلام ابن حبيب وأبي عبد الله الصقلي معناه، وأنهما لم يقصدا في القسمة كل يوم وليلة، وإنما قصدا ذلك في الاختيار في أول وهلة، ثم بعد ذلك عند شروعهم في السقي يبدأ الأول -أي: وقت شاء- حتى يتم سقيه، فيأخذ الذي يليه هكذا حتى تتم دولتهم متى تمت من الزمان، ثم يرجعون إلى الأول، كان ذلك في يوم وليلة أو أكثر من ذلك، ويستريح من الاعتراض باختلاف سقي الليل من سقي النهار على ما يأتي؛ إذ باختلاف الدول تأتي دولة بهذا مرة نهارًا ومرة ليلًا، وكذلك الآخر فيعتدلون في ذلك. وذهب ابن لبابة إلى مثل ما ذهب إليه ابن العطار في قسمته من قدر واحد غير أنه سلك في مسلكًا آخر، فقال: إنه يؤخذ قدر [مستوفيه] (¬1) ويثقب في جانب القدر ثقبًا بقدر الأنصباء لكل قسط من الماء ثقبه في جانب القدر بعد أن يوضع قسط الماء فيها وبعد أن يعلق الثقب الذي في أسفل ¬

_ (¬1) في ب: مستوية.

القدر, وتكون ثقبة القسط الثاني من مبلغ القسط الأول في جانب القدر، ثم يثقب للثالث ثقبه عند آخر القسط الثاني، وكذلك يفعل بكل قسط إلى آخرهم سهمًا، فمن خرج سهمه أولًا ألقى ماؤه في القدر، فإن خرجت القرعة لمن له ثلاثة أقساط فتح أول الثقب الأول، فإذا أنقض القسط الذي فوقه فتح للثاني، ثم كذلك الثالث، فإذا تم فقد انقضى سهمه، وكذلك يفعل بمن له قسط وقسطان. وهذا الذي قاله ابن لبابة أيضًا، وإن سَلِم من اعتراض الصقلي، فلا يَسْلَم من اعتراض الثاني؛ لأن خروج الماء من ثقب تحته في جانب القدر ليس في القوة كخروجه أولًا من أسفل القدر مملوءًا في حين الاختبار لقوة اندفاع الماء بسرعة في أول الاختبار إلا أن ذلك لا يضر، ولا يؤثر إلا على مذهب من اعتبر انقضاء الدول في كل يوم وليلة أبدًا على الدوام، وهو ظاهر قول ابن حبيب وغيره. وقد أشار ابن أبي زمنين إلى [نحو] (¬1) ما ذهب إليه ابن لبابة، وقال: يثقب لصاحب الثلث [في القدر] (¬2) ثقبه في مقدار ثلثها، ولصاحب النصف في مقدار نصفها على مقدار أسهامهم، قال: "هكذا رأيته لبعض العلماء"، وهذا يلزمه فيه من الاعتراض ما يلزم ابن لبابة. وقال القاضي أبو الفضل: والذي يظهر مما يقطع هذه الاعتراضات كلها، وهو أقرب في العمل، وأقل في التعب، وأكثر الأواني أن تكون صفة هذه القسمة على ما يرد، وذلك أنا نصبنا القدر مع الفجر، وهي ملأى ولم يغفل عن تدريك الماء [فيها] (¬3) أبدًا, ولا يتركوها تنقص حتى ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

يكون جري الماء من الثقب طول اليوم والليلة معتدلًا، وإن شئنا جمعنا الماء الخارج في أسفل القدر في آنية ثم قسمناه على أقلهم سهمًا، وإن شئنا جعلنا تحت القدر المعلق آنية عرفنا كيلها أو وزنها، وتدرك بالتي عزلنا هذا القدر المعلق، كلما نقص منها شيء، ثم هكذا يتداول تحتها الآنيتين اليوم والليلة، وقد عرفنا عدد ما ملأناه من الأواني، ونستغني بذلك عن استعداد الماء في الجِرَار لتدريك الماء في القدر، عن استعداد القمار بجميع الماء، فإذا عرفنا عدد الجميع من الأواني وما فيها: قسمنا ذلك على الأنصباء، وعرفنا ما يقع لكل سهم بتلك الآنيتين، فإذا احتاجوا إلى السقي علقنا القدر مملوءًا ونصبنا تحته تلك الآنية مع الفجر، وبدأنا بالأول على ما تقدم، وفتحنا الثقب، وكلما صب من الماء شيء داركناه على ما ذكرنا أولًا حتى يعتدل جريه عند السقي كما كان اعتدل عند الاختبار والقياس، وإذا امتلأت هذه الآنية، فإن كان ذلك قدر نصيبه: أمر بتحويل الماء وجعلت الأخرى لغيره، ورفعت هذه وأدرك بها ما يصب من القدر، ومن كانت له اثنان حتى يمتلئ اثنان، وكذلك من له ثلاثة وأكثر، فإن المدولة بين اثنين أبدًا على ما ذكرناه، ولا يحتاج لغيرهما، والقدر في أثناء ذلك يتعاهد في الصب منها في حين القسمة، والسقي على جريه ما كان منها في حين القياس والاختبار، قال: ولا خلاف ولا مزية أن اليوم والليلة لا يتمان إلا بتمام السقي وانقضاء الدول، واستيفاء جميع الأسهم من هاتين الآنيتين لاعتدل خروج الماء من الثقب الواحد في اليوم والليلة أولًا وآخرًا، قال: ولا يبقى على الاعتراض جملة إلا من وجه واحد لابد من تصويره على كل حال، وقد أشار إليه ابن لبابة، وهو من اختلاف السقي بالليل والنهار، فإن من الناس من يرغب في سقي الليل لكثرة الماء فيه، وسرعته والراحة من معاناة الشمس في تصرف الساقي؛ ولأنه أنفع لما يسقى.

وقد نقل ابن أبي زيد في آخر "كتاب الدور والأرضين" من "كتاب النوادر" من تعدي على نوبة رجل بالليل، فسقى بها، فأراد أن يعطيه فيها نوبة النهار: أن ذلك لا يلزم المتعدى عليه إلا برضاه؛ لأن سقي الليل أفضل من سقي النهار، ومنهم من يرغب في سقي النهار، لكونه أقل مؤنة ومشقة من معاناة الظلام والسهر. فإذا اختلفت الأغراض هكذا: فلا يصح جمعه في قرعته؛ لأن من خرج سهمه بالليل قد لا يوافقه ذلك [وكذلك من خرج له سهمه بالنهار قد لا يوافقه ذلك] (¬1) لما ذكرناه، فإذا قلنا بتفريق قسمة القِلد بين الليل والنهار، وأن تجعل قسمة الليل على حدة، والنهار على حدة: فإنه يسلم من هذا الاعتراض إذا كان مدة السقي قريبة من مدة القياس، والاختبار لأجل اختلاف الليالي والأيام بالطول والقصر، إلا أن يقال: إن الضرورة داعية إلى هذا، و [هو] (¬2) غاية المقدور كما يجوز أن تقسم الدَّار الواحدة، وبعضها جيد البناء، وبعضها رديء، والأرض الواحدة بعضها كريم، وبعضها رديء مع اختلاف الأغراض في ذلك. قال ابن لبابة: لو قسم ماء كل [ليلة وماء كل] (¬3) يوم عرف ما لكل ليلة، وكل يوم على شهور العجم كان أحب إليَّ وأجود لاختلاف الليالي والأيام. وقال بعض المتأخرين: ولكن مثل هذا يشق ويحتاجون أن يعملوا ذلك السنة كلها [للقيام] (¬4) ثم بعد [ذلك] (¬5) يجرون ما يأتي من السنين ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: للقياس. (¬5) سقط من أ.

المقبلة، ولياليها على ما تقرر عندهم في السنة التي اختبروا فيها، فإن كان بعض الأرض قريبة من البلد، وبعضها بعيدة منه فمتى يحسب [له] (¬1) شربه من الماء، فهذا يحتاج إلى تفصيل، وتحصيل القول ثم لا يخلو الشركاء في ذلك الماء من أن يكون ابتداء شركتهم في الأرض معلوم إما بميراث وغيره، أو كان أمرًا مجهولًا. فإن كان ابتداء شركتهم أمرًا معلومًا، ثم تقاسموها بعد ذلك، فإن من بَعُدَت أرضه يحسب له من حين علق سهمه في القدر، وليس له أن يقول: لا تحسبوا عليّ حتى يصل الماء أرضي؛ لأن أرضه حين القسمة قد قومت لبعدها من القلد بدون ما قومت به القريبة منه التي صارت لغيره، ولو كان لا يحسب له الماء حتى يصل أرضه لاستوت به القريبة التي صارت لغيره، ولو كان لا يحسب [له] (¬2) الماء حتى يصل أرضه [لاستوت] (¬3) في التقويم [القريبة] (¬4) والبعيدة، وذلك مما لا يعمل به في قسمة القرعة بعد التقويم والتعديل. فإن جهل أمر ذلك، ولم يعلم أصل هذه الأراضي، ولا كيف كان أصل ملكهم فيها إلا أنهم شركاء في الماء والقلد: فلا يحسب على البعيد الأرض السقي حتى يبلغ أرض، وإلى هذا ذهب [أبو] (¬5) عبد الله بن العطار في "ثمانية أبي زيد"، وعن [ابن القاسم وعبد الملك] (¬6) مثله في القوم يرثون الأرض، وعليها ماء مأمون كثير، فيقتسمون الأرض ¬

_ (¬1) في أ: منه. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: ابن. (¬6) في أ: عبد الله.

والشرب، وبعضهم أقرب إلى العين، ثم يقل الماء، فيقوم بمن قربت أرضه، ولا يقوم بمن بعدت، فأراد رد القسم فيقال: أما قسمة الأرض فقد مضت، وترك قسمة الماء، فيزاد لمن بعد على من قرب بقدر ما يستوي البعيد، والقريب في السقي، فيكون للبعيد منه أكثر مما للقريب على مثل ما لو قسمت بالماء قسمًا واحدًا لكانت كذلك، وهذا مثل ما قال ابن العطار لأن قسمتهم الأولى فيها مراعاة قرب الماء من بعده، لا من قلَّة الماء وكثرته كما لو كانت أرض مطر. وما قاله ابن العطار هو عين المذهب، ولا أعلم من أهل المذهب من يقول غير ذلك، وتأمل ذلك كله وقف عليه، فإنك لا تجده مجموعًا [ولا] (¬1) مشروحًا موضوعًا نحو هذا الموضع، وبه قال أصبغ: وكان ابن القاسم [يقول] (¬2) يقسم الماء بالقلد، ولم يفسره ولا شرحه [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الثانية عشر [في] طرءان الموصى له أو وارث على الورثة بعد القسمة

المسألة الثانية عشر [في] (¬1) طرءان الموصى له أو وارث على الورثة بعد القسمة وإن كان قد تقدم الكلام على طروء الوارث على الورثة بعد القسمة في كتاب المديان، فإنا نكرر ذكره في هذه المسألة لزيادة بيان ووضوح إشكال. فأما طروء الموصى له: فلا يخلو من أن يطرأ على الورثة، أو يطرأ على الموصى لهم. فإن طرأ على الورثة: فلا تخلو التركة من أربعة أوجه: أحدها: أن تكون عينًا. والثاني: أن تكون عروضًا. والثالث: أن تكون عقارًا أو رياعًا. والرابع: أن تشتمل على جميع ذلك. فإن كانت التركة عينًا؛ دنانير ودراهم، أو يقضي بمثله من المكيل، والموزون من الطعام والعروض: فلا يخلو الورثة من أن يكونوا كلهم مياسير، أو يكون بعضهم موسرًا، وبعضهم معسرًا. فإن استووا في اليسر: فإن الموصى له يتبع كل واحد من الورثة بقدر ما ينوبه من تلك الوصية، ولا تنتقض القسمة إلا على مذهب من يرى أن نقضها من حق الله تعالى. فإن كان بعضهم موسرًا، وبعضهم معسرًا، هل يتبع الموسر بقدره ¬

_ (¬1) سقط من أ.

[والمعسر بقدره] (¬1) أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يتبع كل واحد بقدر ما ينوبه، ولا يأخذ الملي بالمعدم، وهو قول مالك في "الكتاب". والثاني: أنه يقاسم الموسر جميع ما في يديه ثم يرجعان جميعًا على الوارث المعدم فيتبعانه، وهو قول أشهب، وابن عبد الحكم في الوارث يطرأ على الورثة، ويطرأ الموصى له بجزء غير معين على الورثة كطروء الوارث على الورثة على مشهور المذهب. والثالث: أنه يستوفي من الموسر جميع وصيته، ثم يرجع الموسر على بقية الورثة كغريم طرأ على الورثة، وهو قول ابن حبيب، ومثله في "كتاب ابن المواز". وسبب الخلاف: اختلافهم [في فهم] (¬2) طروء الموصى له بجزء على الورثة، هل هو كوارث طرأ على الورثة، أو كغريم طرأ على الغُرَمَاء؟ فمن شبهه بالغريم لاحظ قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬3). فمن شبهه بالوارث رأى أن له جزءًا معلومًا كواحد منهم، وهو المشهور في النقل. فإن كان التركة عروضًا لا تكال ولا توزن: فقد طرأ عليهم موصى له فقد ساوى في [جواب] (¬4) المسألة في "كتاب القسمة" من "المدونة" ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سورة النساء الآية (11). (¬4) في أ: جميع.

بين العين والعروض، فقال: إن كانت دراهم أو عروضًا: فإنما لهذا الموصى له أن يتبع كل وارث بما صار في يده من حقه، وقد اختلف في تأويل ذلك على قولين: أحدهما: أن تلك العروض مستوية القيم، وهو تأويل أصبغ، وقال بعض المتأخرين، يريد أصبغ: إذا كان يخرج نصيب الطارئ في عين من هذه العروض [لاستوائها] (¬1) واستواء أنصبائهم في الميراث؛ مثل أن يكون الورثة ابنين، أو أخوين، وترك الميت ستة أثواب أو ستة أعبد مستوية القيم، فقسماها ثلاثة ثلاثة: بهذا الطارئ الموصى له يأخذ ثلث كل ما بيد واحد منهما ثوبًا أو عبدًا؛ إذ هو حقه من وصيته، فحصل له ثوبان كما حصل لكل واحد منهما، ويكون ذلك كالعين ولا تنتقض القسمة. والثاني: أن مراده بالعروض المذكورة: المكيل والموزون دون المعدودة منها، وهو تأويل بعض الأصحاب، وضعفوا قول أصبغ في ذلك، وما قالوه ليس بظاهر، وتأويل أصبغ أظهر، وأصح علي ما فسر به بعضهم مراده، وهو أسعد بظاهر الكتاب، وأسلم من التناقض. وأما إن كانت التركة عقارًا، أو رياعًا: فلا يخلو الموصى له من وجهين: إما أن يوصى [له] (¬2) بشيء بعينه، وإما أن يوصى له بجزء شائع. فإن أوصى له بشيء بعينه: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون الوصية بعين بعينه. والثاني: أن تكون في جنس بعينه. ¬

_ (¬1) في ب: لاستوائهم. (¬2) سقط من أ.

فإن كانت الوصية في عين بعينه؛ مثل أن يوصى له بعبد بعينه أو بدار بعينها، والثلث يحملها، فللموصى له أن يأخذ ذلك من الوارث إن أدركه بيده كالاستحقاق، ويرجع الوارث المأخوذ منه على الورثة كأن الميت لم يخلف ذلك. فإن فات من يد الوارث: فلا يخلو ذلك الفوت من أن يكون باختياره أو بغير اختياره. فإن كان ذلك باختياره؛ مثل أن يبيعه، أو يهبه، أو يعتقه: فالهبة، والعتق يكون فيهما الرَّد للموصى، ويأخذ عين ما أوصى له [به] (¬1) وليس له إلى التضمين سبيلًا. وفي البيع يكون له الخيار مع قيامه عند المشتري، إن شاء أخذ عين شيئه، وإن شاء جوز البيع ويأخذ الثمن، فإن فات به المشتري، ولم يقدر عليه أو مات عنده أو هلك: فليس للموصى له إلا الثمن يأخذه من الوارث. فإن كان فواته بغير اختيار الوارث، ولا له فيه سبب؛ مثل أن يهلك بسبب من السماء: فلا يخلو من أن يصير إلى الوارث في سمهم بالقرعة، أو بالتراضي [فإن صار إليه بالقرعة لم يرجع عليه الموصى له بشيء، فإن صار إليه بالتراضي] (¬2) أو بوجه المبايعة كان له أخذ الثمن من أيدي الورثة، ويجوز فعلهم ويسقط من جملة الثمن نصيب الوارث الذي اشتراه؛ لأنه لم يشتر نصيب نفسه، وإنما اشترى سهام بقية الورثة. فإن لم يحمله الثلث كان [الموصى] (¬3) له في الاتباع [فيما] (¬4) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: فهل.

يحمله الثلث منه على نحو ما مضى إذا حمله الثلث؟ فأما إذا كانت الوصية في جنس بعينه؛ مثل أن يوصى له بعبد من عبيده أو بدار من دوره من غير أن يعين عبدًا, ولا دارًا كان الموصى له شريكًا للورثة، وهو في ذلك بمنزلة وارث طرأ على الورثة، فإن خلف الميت ثلاثة أعبد أو ثلاثة آدر كان شريكًا بالثلث، وإن كانوا أربعة فالربع. ثم لا يخلو ذلك الجنس الذي فيه الوصية من أن يكون مما يعتدل في القسم أم لا؛ فإن كان مما يعتدل في القيم حتى يخرج للموصى له عبدًا أو دارًا كان له أن ينقض القسمة ثم يقرع بينهم، فيأخذ ما يخرجه له القسم. فإن كانوا لا يعتدلون في القسم، هل تنقض القسمة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القسمة تنتقض. والثاني: أنها لا تنتقض، ويكون شريكًا في كل عبد، وفي كل دار بقدر وصيته، وهو المشهور. فأما إذا أوصى له بجزء مثل أن يوصى له بثلث عبيده، أو بثلث دياره، ولم يكن له مال سوى العبيد أو الدور: فالجواب فيه كالجواب إذا أوصى له في جنس بعينه، وقد قدمناه. فإن كانت التركة على دنانير ودراهم وعروض ورِيَاع: فلا تخلو من أن تكون وصية لمطلقة، أو مقيدة. فإن كانت مطلقة؛ مثل أن يوصى له بثلث جميع ماله، والثلث يحتمل ذلك: فإنه يكن شريكًا للورثة في كل ما قلَّ وجلَّ، وتنتقض القسمة فيما عدا العين من المعدود من العروض، وجميع الرياع إن كانت تحتمل القسمة، قولًا واحدًا. وفي انتقاضها في العين والمكيل والموزون، وفيما لا ينقسم من الرياع

قولان. وسبب الخلاف: هل يُغلَّب في ذلك حق الله فتنتقض، أو يُغلَّب حق الآدمي ثم لا تنتقض. فإن كانت وصية مقيدة في عين بعينه؛ مثل أن يقول: ثلث مالي لفلان يأخذها في الدار الفلانية أو في العبد الفلاني، فإن حمل ذلك الثلث: كان له أخذ ذلك من يد من هو فيه من الورثة، ويرجع على الورثة كما لو أوصى [له] (¬1) بذلك الشيء بعينه وحمله الثلث. فإن لم يحمله الثلث: فإنه يكون شريكًا بما حمل الثلث من ذلك العين مع الورثة، وهو في ذلك كواحد منهم. فأما طروء الموصى له على الموصى لهم: فلا يخلو الطارئ من أن تكون وصيته في شيء بعينه، ووصية الأول في شيء آخر بعينه، أو كانت وصية الأول في عين بعينه، ووصية الطارئ في شيء غير معين. فإن كانت الوصيتان في عين بعين [مثل أن تكون للأول بعبد بعينه] (¬2) فأخذه ثم طرأ آخر بوصية بعبد آخر صار إلى أحد الورثة، فإن كان الثلث يحمل الوصيتين جميعًا: مضى الأول لمن أخذه، ويرجع الطارئ على من أخذ العبد من الورثة، فيأخذه منه. وإن كان الثلث لا يحملهما: فإن الطارئ يأخذ من وصيته قدر ما ينوبه في المحاصة ثم يرجع الورثة على الموصى له الأول بما فضل عنده بما ينوبه في المحاصة. فإن اختلفت الوصيتان؛ مثل أن تكون الأولى في عبد بعينه، أو دارًا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

بعينها، والثانية بعبد أو بدار غير معينة، فإن حمل الثلث الوصيتين جميعًا: كان مقال الطارئ مع الورثة دون الموصى له الأول. فإن كان الثلث لا يحملهما: كان له الرجوع على الفريقين؛ فيرجع على الموصى بما فضل عنده، ويرجع على الورثة بما فضل عندهم من ثلث الميت. واختلف هل يكون كوارث طرأ على ورثة، فيتبع الموسر بما كان يتبعه لو استووا جميعهم في اليسر، أو هو كغريم طرأ على ورثة، فيأخذ وصيته من جميع ما بيد الموسر؟ فالمذهب في ذلك على قولين: والجواب عن السؤال الثاني: في طروء الوارث على الورثة بعد القسمة، وقد أومأنا بأن هذا الفصل مذكور قبل هذا لكنا نذكر هنا طرفًا منه غير مستوعب هناك، فنقول: وقد اختلف المذهب في طروء الوارث على الورثة، هل يتبع كل واحد [منهم] (¬1) بما ينوبه وجدهم أملياء أو عدمًا أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يتبع كل واحد منهم بقدر ما يَنُوبه من ميراثه، ولا يأخذ المَلِي بما على المُعْدَم، وهو قول ابن القاسم، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه إذا وجد واحدًا من الورثة شاركه فيما بيديه حتى كأنه لم يترك الميت غيرهما، ثم يتبعان بقية الورثة، فمن أيسر منهم دخلوا معه، وساووه وهكذا حتى يعتدلوا كغريم طرأ على الورثة، وهو قول أشهب، وابن عبد الحكم في "الموازية"، وعلى هذا القول بني محمَّد بن المواز المسألة الواقعة [في كتابه] (¬2) فيمن هلك وترك امرأة وابنًا، فأخذت المرأة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الثُمن، وأخذ الابن سبعة أثمان، ثم طرأت امرأة أخرى، فوجدت صاحبتها معسرة، والابن موسرًا: حيث قال: بأن الطارئة ترجع على الابن بثلث خمس ما صار له، وهو جزء من خمسة عشر جزءًا. يريد أن جملة المال ثمانية للمرأتين ثمن غير مقسوم عليهما، فانكسرت الفريضة، فصحت من ستة عشر، فللابن أربعة عشر، وللحاضرة جزء، وللطارئة جزء، وقد أخذت الحاضرة أكثر من نصيبها، فكان الباقي مقسومًا على ما لكل واحدة، فللطارئة جزء، وللابن أربعة عشر جزءًا, فلهذا وجب لها على الابن جزء من خمسة عشر جزءًا مما أخذ؛ لأن ما مضى عند المعسرة كالذاهب، وكأنه لم يكن. وعلى [هذا] (¬1) القول، فإن الطارئ يرجع على كل واحد من الورثة بمقدار ما ينوبه: فإنها لا ترجع إلا على صاحبتها متى أيسرت؛ لأن [الابن] (¬2) ليس في [يديه] (¬3) إلا حقه فقط. فلو قالت الطارئة لما قدمت [قد] (¬4) صار إلى ميراثي كان ذلك كقولها: قد تركت لكما ميراثي لا حاجة لي به: فإن القسمة تنتقض على قول أشهب، وابن عبد الحكم، ويقتسمان على خمسة عشر جزءًا للابن أربعة عشر جزءًا ولهذه جزء، ويعلم أنه قد صار لهذه الطارئة مثل ما أخذت هذه الحاضرة من الابن، فيصير ذلك ستة عشر سهمًا، فتقسم على العدل. وأما على قول ابن القاسم، فلا تنتقض أصلًا؛ لوصول كل واحد منهما إلى حقه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ابن القاسم. (¬3) في ب: يده. (¬4) سقط من أ.

المسألة الثالثة عشر في أجرة [القسامة] وشهادتهم على ما قسموا

المسألة الثالثة عشر في أجرة [القسَّامة] (¬1) وشهادتهم على ما قسموا فأما أجرتهم فلا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون أجرتهم راتبة في بيت مال المسلمين. والثاني: أن تكون أجرتهم في مال الأيتام قسموا أو لم يقسموا. والثالث: أن يستأجروهم أهل التركة على أن يقسموا بينهم. فأما الوجه الأول: إذا كان [للقسَّام] (¬2) رزقًا مطلقًا برسم من بيت المال: فلا بأس به، ولا يجوز لهم مع ذلك أن يأخذوا من [التركة] (¬3) قليلًا ولا كثيرًا؛ كالقاضي المرتزق. وقال ابن القاسم في "العتبية": وينبغي للإمام أن يختار رجلًا يرضاه يقيمه لذلك، ويجري له عطاء مع الناس كما يجري للقاضي وغيره ممن يحتاج إليه المسلمون. وأما الوجه الثاني: إذا كان يفرض لهم من أموال اليتامى -قسموا أو لم يقسموا- يجعل لهم على الناس جُعلًا معلومًا: فهذا حرام لا يحل بالإجماع، وبه علل سحنون مرة في الكتاب، وقال: لأنه يفرض لهم من أموال اليتامى. وأما الوجه الثالث: إذا [لم يكن] (¬4) لهم رزق في بيت المال، ولا ¬

_ (¬1) في ب: القسام. (¬2) في ب: للقاسم. (¬3) في ب: التركات. (¬4) في أ: كان.

رَسَم لهم في التركات جُعلًا معلومًا، ومن احتاج إليهم استأجرهم: فهذا لا خلاف في جوازه إذا كان القاسم عدلًا عارفًا بأحكام القسمة. وإنما اختلف هل يجوز ذلك بغير كراهة، أو يجوز مع الكراهة على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: الجواز من غير كراهة، وهو قوله في "كتاب الوثيقة". والثاني: الجواز مع الكراهة، وهو ظاهر قوله في "الكتاب": "وقد كان خارجة، ومجاهد [يقسمان و] (¬1) لا يأخذان لذلك [جعلًا] (¬2) "، وهو نص قوله في "كتاب ابن حبيب". فإذا وقعت الإجارة على قسمة الفريضة، هل تكون على عدد الرؤوس أم على عدد الأنصباء؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها على عدد الرؤوس؛ لأن استخراج السهم القليل أشد على القاسم من استخراج السهم الكثير؛ لأنه يحتاج إلى بسط الفريضة ونشرها، إلا إذا كان فيه السهم القليل كالثمن والسدس؛ إذ لا تكاد تسلم من الانكسار في أغلب الأحوال، وهو قول مالك في الكتاب. والثاني: أنها على عدد الأنصباء، وهذا القول أيضًا يؤخذ من المدونة من مسألة الشفعة، وهو الأظهر في النظر؛ لأن كل واحد لا يؤدي إلا على قدر العناء في حقه، وهو قول أصبغ في أجرة كاتب الوثيقة. وأما أجرة كاتب الوثيقة: فلا تخلو من وجهين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: أجرًا.

أحدهما: أنه يصدر الوثيقة، ولا يشهد فيها. والثاني: أنه يصدرها ويشهد فيها. فإن كان يصدر الوثيقة، ولا يشهد فيها: فهذا لا إشكال في جواز أخذ الأجرة على ذلك، وهل ذلك بكراهة أو بغير كراهة أم لا؟ على قولين. وهل ذلك على عدد الرؤوس أو على عدد الأنصباء؟ قولان: أحدهما: أن ذلك على عدد الأنصباء، وهو قول أصبغ. والثاني: أن ذلك على عدد الرؤوس، وهو قوله في "كتاب الأقضية" من "المدونة". فإذا ثبت ذلك، فعلى من تكون هذه الأجرة، هل على الدافع، أو على القابض، أو عليهما معًا؟ فهذا يحتاج إلى تفصيل وتحصيل؛ فنقول: لا يخلو هذا المال من أن يكون فيه عمل الفريضة، وحساب الأجزاء، أو لا يكون فيه إلا الدفع خاصة. فإن كان فيه عمل الفريضة، وحساب الأجزاء، والقبض، والدفع: فإن الأجر في ذلك على جميعهم، قولًا واحدًا؛ لأن المنفعة في ذلك لهم جميعهم، ولولا عمل حسابهم لم يطل، ولم يكثر كتابها, ولا حقق ما يقبض كل واحد منهم، ولا تفاضل بعضهم من بعض. فإن لم يكن فيها عمل ولا حساب، وإنما هو مجرد القبض لا غير، وليس فيه قسمة ولا كبير عمل، وإنما هو توثقة للدافع، وبراءة له: ففي هذا الوجه اختلف المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأجرة كلها على الدافع [وحده] (¬1) ولا شيء على ¬

_ (¬1) سقط من ب.

الآخرين، وهو قول سحنون. والثاني: أن الأجرة على القابض، ولا شيء على الدافع، وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى في "العتبية". والثالث: أن الأجرة عليهما جميعًا -على الدافع والقابض- وهو قول ابن القاسم عن مالك في "المدونة" في "كتاب القسمة"، و"كتاب الأقضية". فوجه قول من قال: إن الجعل على الدافع وحده؛ لأن المنفعة في التوثق وحده، فعليه أن يوثق لنفسه بما يبرئ به ذمته. ووجه القول الثاني: أن [المنفعة في] (¬1) التوثق للقابضين لئلَّا يتوجه له عليهم دعوى، أو لأحد من سببه أنه دفعه إليهم قرضًا، أو قراضًا، أو وديعة، أو دينًا كان لهم عليه، ولهم فيه منفعة أيضًا من وجه آخر مخافة أن يطرأ عليهم وارث أو غيره، فمن يثبت له في هذا المال حق، فيدعي عليهم أنهم قد قبضوا أكثر مما اعترفوا به، ولا شيء على الدافع؛ لأنه متطوع بقبض المال، والنظر فيه بغير منفعة له فيه إلا إعانة مسلم لمسلم؛ لأن المال في غير ذمة، وهذا كله في مثل الوديعة، والقراض. ووجه القول الثالث: أن المنفعة في ذلك للقابض والدافع، ولا مزية لأحدهما على الآخر. فأما الوجه الثاني: إذا كان يصدر الوثيقة ويشهد فيها، فهل يجوز أخذ الجعل عليها أم لا: أما الجواز فقد استمر عليه عمل أهل الزمان في مشارق الأرض ومغاربها، واتخذ الشهود أسواقًا في أمهات البلاد يبيعون فيها الشهادة بالدراهم، والفلوس، وجعلوا ذلك أحد الحرف، وأطيب ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المباحات، فليت شعري من أين لهم ذلك، وهل أوتوا في ذلك نصوص من إمام المذهب أبي عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنه أم اغتروا بما وقع له في أمهات المذهب من إطلاق الكلام في أجرة كاتب الوثيقة؟ فإن وقفوا على نص مالك رحمه الله أو واحد من أصحابه أنه يجوز للشاهد أن يأخذ الجعل على شهادته فسمعًا وطاعة وحبًا وكرامة، فإن لم يكن إلا التعلق بالظواهر فهيهات، وأنى ترجى النجاة لغريق يتعلق بأرجل الضفادع؛ بل الذي دلَّت عليه ظواهر المذهب خلاف ذلك، وأن ذلك لا يجوز منها، وأن ذلك من باب الشهادة بجعل، ولا أظن يخالف أحد من المسلمين أن رجلًا لو سأل شاهدًا أن يشهد له على حد أو حق، فقال: لا أشهد لك إلا بجعل، أن ذلك لا يجوز، وأن شهادته إن شهد على ذلك الوجه مردودة ساقطة [. .] (¬1) جوز بعض أرباب المذهب لمن طلب الشهود في البادية أن يؤدوا له الشهادة عند القاضي في البلد، ومسافتهم بعيدة: أن يكري لهم دوابًا يركبونها للضرورة الداعية إلى ذلك، ومن ذلك يؤدي إلى إسقاط الثقة بشهادته؛ لأن الحرص على أخذ الجعل يحمله على ترك الاستقصاء في تحمل الشهادة على وجهها؛ ولأنه من باب الجار إلى نفسه. ومنها أيضًا على ما هو عوهد من أحوالهم في [الحواضر] (¬2) أنهم يشتركون فيما يأخذونه من الجعل، وذلك أيضًا فيه ما فيه؛ لأنهم لا يخلو من أن يكون الشريكان في حانوت واحد، أو في حوانيت. فإن [كانا] (¬3) في حانوت واحد: فلا يخلو من أن يتساويا في الجعل، أو يختلفا. ¬

_ (¬1) قدر كلمتين لم نتمكن من قراءتهما. (¬2) في أ: الحاضر. (¬3) في أ: كانوا.

فإن تساوت سهامهما [في ذلك] (¬1)؛ كان من أكل المال بالباطل؛ لأن أحدهما يصدر الوثيقة ويشهد فيها، والآخر يشهد خاصة، ومعلوم أن الذي يصدر الوثيقة، ويشهد أكثر عناءً من الذي يضع اسمه خاصة، وشركة الأبدان مبنية على التساوي فيه العمل، والاعتدال على مشهور المذهب. فإن اختلفت سهامهما في الجعل، وأنه يقسم على قدر عملهما، فكيف يُدْرَك ذلك ويُعْرَف؟ ومن الوثائق ما يطنب فيها الكلام، ويحتاج فيها الموثق إلى أتعاب القرعة في استنتاج المقاصد؛ لأن الموثق مصنف، ومنها ما يختصر في الكلام، ومثل ذلك لا يتمكن فيه التجزئة. فإن افترقا فيه حانوتين: فقد زاد على ذلك الوجه في المنع وجه آخر؛ وهو اختلاف المواضع، وشركة الأبدان إنما جازت في مشهور مذهب مالك بثلاثة شروط: اتحاد الصنعة، واتحاد المنفعة، وعدم التفاضل، إلا الشيء المغتفر، على ما أشبعنا فيه الكلام في "كتاب الشركة". فكيف تقبل شهادة من تعرض لهذه المشكلات وتورط في هذه [الشبهات] (¬2) وبنى أصل دينه على الخلافيات، والله تعالى يقول في محكم كتابه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (¬3)، وقال سبحانه: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (¬4). ومن يأخذ الجعل على وضع الشهادة فما أقامها لله، ولا شهد لله؛ بل هو شاهد لنفسه، ومغتنم فلسه، وذلك مما نستجير الله فيه. ¬

_ (¬1) في أ: فيه. (¬2) في ب: الشهادة. (¬3) سورة الطلاق الآية (2). (¬4) سورة النساء الآية (135).

وأما شهاد القسَّام فيما قسموه إذا تنازع فيه الورثة، وأنكروا القسمة، أو اعترفوا بها إلا أنه يتجاوز بعضهم إلى حق صاحبه، هل تقبل شهادتهم أم لا؟ فلا يخلو من أن يكون ذلك ببعثة الحاكم، أو ببعثة الورثة؛ فإن كان ذلك ببعثة الحاكم: فلا يخلو الحاكم الذي يرفع إليه القاسم الشهادة من وجهين: إما أن يكون هو الذي بعثه، وإما أن يبعثه غيره ممن درج من الحكام. فإن كان هو الذي بعثه، فهل تقبل شهادته أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن شهادة القَسَّام في ذلك جائزة، والحاكم يقبلها إذا علم الآن أنه أمره بذلك، وكذلك كلما لا يباشره القاضي بنفسه من القود, ولا خلاف والنظر إلى العيب، وهو قول ابن الماجشون في "العتبية". والثاني: أن شهادة القسام في ذلك لا تقبل؛ لأنهم شهدوا على فعل أنفسهم، وهو قول سحنون في "كتاب ابنه"، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة"؛ لأنه أطلق المنع في "الكتاب"، ولم [يُفَصِّل] (¬1). [و] (¬2) القول بجواز شهادتهم، هل يجزئ من ذلك واحد، أو لابد من اثنين؟ فالمذهب على قولين، ومشهور المذهب أن الواحد يجزئ من ذلك. وسبب الخلاف: هل طريقه طريق الخبر، أو طريقه طريق الشهادة؟ فإن انقضى الذي بعثهم إلى القسمة، وتولى النظر غيره، أو كانوا ببعثة ¬

_ (¬1) في أ: يقصدوا. (¬2) سقط من أ.

الورثة، وهو الوجه الثاني من أصل التقسيم: فلا يخلو من أن تقوم له البينة على بعثهم، أو لم تقم. فإن لم تقم بينة عادلة على بعثهم: فلا تقبل شهادتهم، قولًا واحدًا. فإن قامت البينة على أن القاضي الذي درج قد بعثهم، وأنه قد نفذ قسمتهم، وأن الورثة تراضوا بذلك والتزموه بعد القسمة، فهل يقبل المتولي النظر بشهادتهم أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن شهادتهم جائزة، وأنه يلزم الحاكم العمل بمقتضاها، وهو قول ابن حبيب في "الواضحة" وغيرها. والثاني: أنها لا تجوز جملة بغير تفصيل [وهو قول سحنون] (¬1) في كتاب ابنه، وهو ظاهر "المدونة" على ما قدمناه [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب.

المسألة الرابعة عشر في صفة القسمة في الرياع والأرضين والأشجار [وكيف] تبدية [بعض] السهام على بعض في الخروج

المسألة الرابعة عشر في صفة القسمة في الرياع والأرضين والأشجار [وكيف] (¬1) تبدية [بعض] (¬2) السهام على بعض في الخروج أما الرِّياع: فإنها تنقسم بالقيمة، لا بالقياس، وقد اختلف في الطريق هل يرفع قبل القسمة، أو تجوز القسمة على أن يكون بنصيب أحد الورثة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الطريق يرفع من باب الدار إلى أقصى بيوتها، فيطرح ذلك، ولا يحسب على أحد، ثم يقوم الباقي فيقسم على الأنصباء بالقيمة، وهو مذهب سحنون في "العتبية". والثاني: أنه يجوز أن يضاف الطريق إلى سهم أحدهم، ويكون له ملكًا, وللباقين فيها الممر، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". وصفة القسم في ذلك أن يوازي القاسم البيوت بالقيمة فيُقَوِّم كل بيت، وما لها من مرفق على حِدَة، فيجزئ بيوت الدار على عدد سهام الفريضة، فإذا اعتدلت في القيمة وصح [في كل سهم] (¬3) ما ينتفع به صاحبه، فيرمي بينهم بالسهام. فإن لم يحصل لكل واحد منهم ما ينتفع به، أو كان يصح لصاحب النصيب الكثير دون صاحب النصيب القليل، فهل يقسم بينهم أم لا؟ وقد ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: في كل واحدٍ منهم.

تقدم الكلام على ذلك في مسألة مفردة. واقتسام الدار مع الساحة تقدم عليه الكلام أيضًا، فلا نعيده مرة أخرى. فإن خرج نصيب أحدهم في بيت ونصف بيت، هل يتم عليه القسم الذي يليه أو يشتركان في بيت كما قال في [قسمة] (¬1) الشجر أم لا؟ وهذا يتخرج على قولين: أحدهما: الجواز؛ قياسًا على الشجر للضرورة [الدَّاعية] (¬2) إلى ذلك. والثاني: أن ذلك لا يجوز؛ لأن الاشتراك في الشجر يخالف الاشتراك في البيت؛ [إذ ليس عليهم بالاشتراك في الشجرة كبير ضرر، وعليهم في البيت] (¬3) الضرر الكثير إذا كان البيت صغيرًا لا ينقسم في نفسه، وأما إذا كان يحمل القسم: فلا ضرر عليهم في ذلك. وأما قسمة الأرضين: فإنك تنظر، فإن اتصلت الأرض، وكانت كلها متساوية في الكرم، والدناءة: فإنها تقسم بالقياس. وإن اختلفت، وكان بعضها كريم، وبعضها رديء: فبالقيمة على قدر تفاضلها، فيقع لواحد مبذر قفيرين في النصف، لكرم الأرض، ويقع للآخر مبذر عشرة أقفزة؛ لدناءة الأرض، إلا أن القيمة مستوية. فإن استوت، فبالقياس على ما ذكرنا، فيأخذ ساحة الأرض على قدر سهامهم، ويعرف ما لكل واحد من الأسهم، فيعطيه من القيس بقدره، ¬

_ (¬1) في ب: مسألة. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

فإن كان في الفريضة السدس، فعلى ستة أجزاء يجزئ الأرض، وإن كان فيها الثمن، فعلى ثمانية، فإن انكسرت، وبلغت أكثر من ذلك فعلى ما انتهت إليه سهام [المسألة] (¬1) يقسم ويسهم بينهم على ما نصف إن شاء الله. وإن اختلفت: فإنه يقوم الأرض قيمة عدل، ثم تقسم تلك القيمة على أقلهم [سهامًا] (¬2). وأما قسمة الشجر، فوجه العمل فيها على ما حكاه ابن عبدوس عن سحنون؛ وهو أن يقوم القاسم كل شجرة على حدة بالعدل إن كان من أهل المعرفة بقيمة ذلك الموضع، وإلا جمع لذلك أهل المعرفة بالقيمة، ويسأل أهل المعرفة والخبرة عما عرف من حمل كل شجرة، فرب شجرة لها منظرة، ولا مخبرة لها، وأخرى يكثر حملها, ولا منظرة لها، فإذا قوم ذلك جمع جميع القيمة، فقسمها على قدر السهام حتى يعرف ما ينوب كل سهم ثم يضرب السهام بأي الطرفين يبدأ، فإذا عرفت كتبت أسماء الأشراك كل واحد في رقعة، ثم يدخلها في كمه فيخلطها، ويخرج أول سهم ثم ثاني ثم ثالث ثم رابع إلى آخر ذلك، فإذا تمت بدأها بالأول على تواليها، فأعطاه من الناحية التي وقع عليها السهم أولًا، فأعطاه شجرة شجرة حتى يكمل له ما صار [له] (¬3) من جملة القيمة. فإن استوفى كمال شجره: فقد استوفى، فإن لم يأت حقه على كمال شجرة، وبقى له كسر من القيمة: أعطى ذلك في شجرة، فكان شريكًا فيها بقدر ما بقى له، ويأخذ من بعده من الشجرة يضم إليه تمام حقه. ¬

_ (¬1) في أ: السلمة. (¬2) في ب: سهمًا. (¬3) سقط من أ.

وقد اختلف قول مالك في الكتاب [في أربعة فصول في مسألة القسمة أولها قوله: لا يجمع نصيب اثنين في القسم إن أرادوا. وقال في أول الكتاب] (¬1): لا يجمع بين رجلين في القسم، وهو قول ابن القاسم في مسألة العصبة [إذا أرادوا أن يجمعوا نصيبهم، وتسويغ مالك ذلك لهم، وذلك عندي في العصبة] (¬2) خاصة دون جميع أهل الميراث، فقالوا: هذا التأويل الذي تأوله ابن القاسم على مالك خلاف قول مالك، وغير مراده، ولم يرد مالك أنه جميع الأنصباء في سهم واحد في جميع الأقسام بالقرعة، وإنما أراد بذلك إذا انفرد سهم كل واحد منهم. وأما إذا اختلفت أنصباؤهم، فكان لقوم منهم الثلث، وللآخر منهم [السدس وللآخرين منهم] (¬3): فإنه يجمع أهل كل سهم في القرعة عليه، وإن كرهوا. وبذلك فسره عن مالك في العتبية ابن نافع، وأشهب، ومثله في "كتاب ابن حبيب" عن عبد الملك، ومطرف، وأصبغ، وقال: هو قول مالك، وجميع أصحابه؛ فإذا خرج سهمهم من الفريضة: قسم لهم على رؤوسهم إن أحبوا ذلك ودعوا إليه، وقوله في "المدونة" في الولد كقوله في العصبة حيث قال: ويضرب لهم في الناحية الثانية فما خرج للمرأة أخذته وضم باقي بعضه إلى بعض فقسم بين الورثة، فهذا يدل على أنه إنما يضرب لهم [بسهم] (¬4) واحد لحاجته بعد إلى القسمة عليهم [مرة] (¬5) أخرى، كما قال في العصبة، فابن القاسم تأول على قول مالك أنه لا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: سهمهم. (¬5) سقط من أ.

يجمع سهم اثنين جملة -اتفقا أو اختلفا، رضيا أو كرها، جمعهم سهم أو فرقهم إلا العصبة إذا رضوا. وغيره تأول على المشهور أو المنصوص له في غير المدونة أنه يجمع سهم أهل كل سهم في سهم واحد، ويضرب لهم به شاؤوا ذلك، أو كرهوا، ثم هم بعد ذلك بالخيار إن شاءوا أن يبقوا على الشركة في سهمهم، وإن شاؤوا استأنفوا القسمة فيما بينهم. الفصل الثاني: في تفسير هذه القسمة في قوله في الكتاب: إذا تشاحوا ضرب القاسم بأيِّ الطرفين [يبدأ فعلى أي الطرفين] (¬1) خرج السهم ضرب عليه أولًا، فمن خرج سهمه عليه أخذه وضم إليه بقية حقه، فإن تشاحوا أيضًا ضرب على أي الطرفين يبدأ به، فكذلك أبدًا، حتى إذا لم يبق إلا اثنان: ضرب على أيِّ الطرفين شاء، ولم يلتفت إلى تشاححهما؛ لأن الضرب على أحد الطرفين لأحدهما ضرب للآخر، كذا وقع في بعض روايات المدونة. وفي رواية ابن وضاح على ما ذكره ابن أبي زمنين: أنه إذا ضرب على أي الطرفين يبدأ بالقسم، فمن خرج سهمه في ذلك الطرف: أُعطيه، وأكمل له، ولا تبالى كانت زوجة، أو أما أو ابنة، ثم تقسم ما بقي على أقل من بقى منهم سهمًا، ويستأنف القسمة، والقرعة على أيِّ الطرفين يبدأ، هكذا قال ابن أبي زمنين، وأنكر ذلك سحنون، وكان يرى القاسم على أقل الأنصباء من أولها حتى تنفذ السهام، وكذلك روى عن ابن القاسم وغيره في غير المدونة. الفصل الثالث: [قوله] (¬2) يُسْهم للزوجة على أي الطرفين. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

قال ابن لبابة: مذهبه في الزوجة وغيرها سواء يبدأ بالضرب لصاحب النصيب القليل على صاحب النصيب الكثير، ويجعل في الطرف، وكذلك ذكره فضل عن ابن الماجشون، وذكر عن المغيرة أنه يسهم للزوجة حيث خرج سهمها، ومثله قال ابن حبيب، وذكر عن عبد الملك القولين جميعًا، ورجح أن يكون لها حيث خرج، قال: ابن عبد الحكم: إنما هذا إذا كانا نصيبين؛ يريد أن مالكًا إنما قال ذلك للضرورة، والقسمة تقتضي أن تكن في طرف ولابد، ومثلها بما تشابهها مما تكون فيه القسمة بين اثنين أو بين سهمين [ووافق] (¬1) ابن عبد الحكم على هذا التأويل فيما إذا وقع التشاحح على أحد الطرفين في صورة القسمة ابن حبيب وغيره، لكن ابن حبيب [خالفه] (¬2) في صورة إلقاء السهام، فقال: إنما [يأخذ سهمين] (¬3) فيلقيهما على الطرفين، من هنا واحد، ومن هنا واحد، ثم أعاد لمن بقي وتشَاحَّا هكذا حتى يتم القسم. وقد قال: فضل هذا [يرجع] (¬4) إلى ما قال ابن القاسم، لكنه [اختصر] (¬5) وأقل عناء، وقد طرح سحنون كلام ابن القاسم في المسألة كلها، وتفسيره يخالف أصل مالك؛ وذلك من قوله: ثم يضرب أيضًا بالسهام لما بقي منهم، إلى قوله: [و] (¬6) هذا تفسير مني لقول مالك. وقال ابن [أبي] (¬7) زمنين: اختلف [أصحاب] (¬8) مالك في صفة ¬

_ (¬1) في أ: وروى. (¬2) في أ: قاله. (¬3) في أ: يؤخذ سهمان. (¬4) في ب: يسمع. (¬5) في أ: أخصر. (¬6) سقط من أ. (¬7) سقط من أ. (¬8) سقط من ب.

القسمة، واختصرها على رواية ابن وضاح، وكان سحنون ينكر هذه الرواية , ويرى أن يقسم على أقلهم سهمًا حتى تنفذ السهام، وروى ذلك عن ابن القاسم وغيره، وهو أصل قول مالك. الفصل الرابع: في معنى التشاحح المذكور من حيث يبدأ [القاسم] (¬1) فظاهر قول ابن القاسم وغيره: ما تقدم من الضرب على أيِّ طرف يبدأ به. فأما ابن لبابة: فخالف في تأويل معنى قوله: "فإن تشاحوا على أي الطرفين يبدأ أولًا"، وقال: إنما معنى ذلك أن يقول بعضهم: تقتسم الأجزاء من قبلة إلى جوف، وقال آخرون: بل من شرق إلى غرب، فلا اعتراض لهم في ذلك، فإن القاسم يضرب بأي جهة يقسم إليها الأجزاء فإذا ضرب عليها، وخرجت ضرب بمن سبق وعلى أي طرف يبدأ؛ إذ قد تختلف أغراضهم في ذلك لكون جهة الغرب مثلًا أقرب لأرض أحدهم، فيريد أن يقع سهمه هناك، فيضمه إلى أرضه، أو يكون أقرب لمنزله، أو لمجاورة من يريد مجاورته، أو لمنفعة يرجوها هناك، فيريد أن يخرج نصيبه بتلك الجهة، فإذا جعلت رؤوس السهام عن تلك الجهة خرج له طرف سهمه إليه بكل وجه، فإن جعل بخلاف ذلك عرضًا، فقد يقع سهم غيره في ذلك، ويحول بينه وبين مراده ومرغوبه. قال ابن لبابة: ولا وجه لتشاحح الورثة إلا على هذا، وأما على قول ابن القاسم: فلا وجه له؛ لأن الضرب لأحدهم ضرب لجميعهم، كما قال: إذا بقي سهمان ويريد أن يخرج السهم للضرب، ولا يدري لمن هو فحكم ضربه للواحد كحكمه للجميع؛ لأنه غير معين، فلا وجه فيه للتشاحح. ¬

_ (¬1) في ب: القسم.

قال ابن لبابة: ولا يمكن التشاحح على الضرب بأي الطرفين يبدأ إلا في اختلافهم إذا طلب القليل النصيب أن يبدأ بأحد الطرفين، وهذا على ما تقدم من قول من قال: يضرب لأقلهم نصيبًا في أحد الطرفين، فيكون سهمه هناك معلوم، فمن حقه وحق غيره ألا يحصى طرفًا باختيار أحدهم، أو اختيار القاسم حتى يسهم بمن يبدأ له بقرعة أخرى، فإذا خرج سهمه على أحد الطرفين أخذه. فأما إذا لم يكن على هذا الوجه، واعتدلت على الطرف الذي يبدأ به إلا ما ذهب إليه ابن لبابة، وهو الأظهر ومسألة الاستحقاق إذا وقع بعد القسمة وجد أحدهما ببعض ما أخذ عيبًا؛ قد تقدّم الكلام عليها في "كتاب البيوع" في "التدليس بالعيوب" بما يغني عن إعادتها، والحمد لله وحده.

كتاب الوديعة

كتاب الوديعة

كتاب الوديعة تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ثمانية مسائل: المسألة الأولى فيمن استودع وديعة فاسترفعها لبعض عياله فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يسترفعها لزوجته، وإما أن [يسترفعها] (¬1) لخادمه، وإما أن [يسترفعها لعبده أو أجيره] (¬2). فإن استرفعها لزوجته، فلا يخلو من أن تكون عادته الرفع لها، أو لم تتقدم لها في ذلك عادة، فإن كانت عادتها الرفع له في ذلك، وأمثاله فلا ضمان عليه إن تلفت الوديعة قولًا واحدًا، وإن لم تتقدم لها في ذلك عادة، فهل يضمن ما ضاع بعد رفعها أم لا؟ على قولين قائمين في المدونة: أحدهما: أنه لا ضمان عليه، وهو المشهور، وهو قول مالك، وابن القاسم في أول كتاب الوديعة من المُدونة، وقال ابن القاسم: "لأن هذا مما لابد له منه، ومن يرفع له إلا زوجته". والثاني: أنها إذا لم تتقدم لها عادة معه برفع الوديعة وأمثالها، فهو ضامن؛ لأنه في حكم المودع لغيره دون ضرورة، وهو ظاهر قول ابن القاسم في الكتاب أيضًا، حيث قال بعد الاحتجاج: فكذلك في زوجته وخادمه اللتين يرفعان له لا ضمان عليه إذا دفعها إليهما ليرفعاها في بيته. ¬

_ (¬1) في أ: يستخدمها. (¬2) في أ: يسترقها لخديمه وأجيزه.

وعليه حمل بعض الشيوخ كلامه في الكتاب. والصحيح: القول الأول، ويدل عليه قياس ابن القاسم لها على قول مالك: إذا خاف فاستودعها [غيره] (¬1) أنه لا يضمن، قال: وذلك امرأته، وقال الشيخ أبو عمران: كأنه يقول إذا احتاج إلى رفع زوجته من أجل أنها ترفع له، وتطّلع على أسراره جاز للضرورة، كما جاز للذي أراد سفرًا أو خرب منزله. وأما العبد والأجير ممن هو في عياله، فلا يخلو من أن يكون عادتهما الرفع له أم لا. فإن كانت عادتهما الرفع له، [وأنه] (¬2) ائتمنهما على ذلك وأمثاله، فهل هما كالزوجة أم لا؟ على قولين متأولين على المدونة: أحدهما: أنهما كالزوجة، وهو ظاهر قوله في "المدونة"؛ لأنه قال: "وأما العبد والأجير فعلى ما أخبرتك"، فظاهره أنه كالمرأة. والثاني: أنهما بخلاف الزوجة، وأنه ضامن بهلاك ما رفعاه، وهو تأويل بعضهم على "المدونة" فيما حكاه القاضي ابن سهل في بعض تعاليقه. فإن لم تكن عادتهما الرفع، وإنما اتخذ للخدمة دون رفع للأمانة، والاطلاع على [خبايات] (¬3) السيد، فإن السيد ضامن ما ضاع برفعهم، وعليه -يحمل قول أشهب في "مدونته" على ما حكاه ابن المواز عنه حيث قال: "إذا أودع الوديعة [لغيره] (¬4) من عبدٍ أو خادم أو أجير ممن هو في ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: وأنهما. (¬3) في ب: خبايا. (¬4) في أ: من غيره.

عياله، أو في غير عياله فهو ضامن". واختلف في الخادمة: هل هي كالزوجة، أو كالعبد والأجير؟ على قولين: وظاهر المدونة أنها كالزوجة لا كالعبد. وأما إن استودع وديعة في المسجد أو في المجلس، فجعلها على [نعله] (¬1) فذهبت، فقال أصبغ في "العتبية": لا ضمان عليه , قال أصبغ: قلت له: ألم يضيع؛ إذ لم يربطها؟ قال: يقول: لا خيط معي، قلت: يربطها في طرف ردائه؟ قال: لا يضمن كان عليه رداء أو لم يكن. وأما إن نسيها في موضعه الذي دُفعت له فيه، فذهبت هل يضمنها أو لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه ضامن لها، وهو قول مطرف، وابن الماجشون. والثاني: أنه لا ضمان عليه، وأنه معذور بالنسيان، وهو أحد القولين فيمن أودعه رجل مائة دينار، ثم جاء هو وآخر، فقال كل واحد منهما: أنا أودعتك، وأيقن أن أحدهما أودعه ونسى من هو فيهما، فقال محمَّد: يضمن لكل واحد منهما مائة، وقيل: لا يضمن إلا مائة واحدة، يحلفان وتقسَّم بينهما، فإذا وجب ألا يضمن لهما إلا مائة واحدة، وأن غلبة النسيان عليه كضياع الوديعة ينبغي إذا نسي، وقام وتركها ألا يضمن أيضًا. وأما إن أودعه وديعة، وأمره أن يجعلها في موضع، فخالف فجعلها في غيره، ثم ضاعت، فهل يضمن أم لا؟ ¬

_ (¬1) في ب: نعليه.

فانظر فإن أمرهُ أن يجعلها في شيء [عليه العين، فجعلهما في شيء هو أدنى منه، فضاعت فلا ضمان عليه، فإن أمره أن يجلعها في شيء هو أدنى فوضعها في شيء هو أعلى ضمن] (¬1) مثل أن يأمره أن يجعلها في قدر نحاس، فجعلها في قدر فخار أو بالعكس، وكذلك إن أمرُه أن يجعلها في تابوته، ولا يقفل عليها فتعدى فقفل عليها، فهو ضامن؛ لأن القفل في الأواني الرفيعة مما يقصده السارق في البيت دون ما تزدريه العين من الأواني. وكذلك إذا رأى صندوقًا مقفولًا، فإنه يقصد إليه، ويغلب على ظنه أنه ما قُفل إلا على مال، ولو أمره أن يقفل عليها فقفل عليها بقفلين لكان لا ضمان عليه، وهذا كلُّه قول محمَّد بن عبد الحكم وغيره، فلو جعلها في جيبه لضمنها إن ضاعت، على مشهور المذهب على ما نقله أبو الوليد وحفيده، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

[المسألة الثانية] فيمن استودع وديعة فأودعها غيره

[المسألة الثانية] فيمن استودع وديعةً فأودعها غيرهُ ولا تخلو من [وجهين: أحدهما: أن يودعها في حضر. والثاني: أن يودعها في سفر، فإن استودعها في حضر، فأودعها غيره، فلا يخلو ذلك من] (¬1) أن يكون ذلك لعُذْرٍ أو لغير عُذر. فإن كان ذلك لغير عُذرٍ فهو ضامن؛ لأن رب الوديعة إنما رضي بأمانته دون غيره، وإن كان ذلك لعذر كسفرٍ أراده أو عورة منزله. وأما الذي أراد سفرًا، فإنه يجوز له أن يودعها لغيره، ولا ضمان عليه إن هلكت قولًا واحدًا. فإن خرج بها في طلب صاحبها، فضاعت هل يضمن أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه ضامن؛ لأنه عرضها للتلف، وهو نصُّ قول مالك في "المدونة". والثاني: أنه لا ضمان عليه، وهو قوله في المبضع تحدث له إقامة حيث جوَّز له أن يبعث بالمال إلى ربِّه، وهو قول أصبغ في "كتاب ابن حبيب" في جواز توجيه القاضي مال اليتيم ورفع [الضمان] (¬2) في ذلك، وهذا القول قائم في "المدونة" من "كتاب الجهاد" في مسألة: المستأمن يموت عندنا وترك مالًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

حيث قال ابن القاسم: يردُّ ذلك المال لورثته [ببلده] (¬1) وقال غيره: يدفع ماله حكامهم حتى كأنه مات عندهم. فإن أودعه لعورة منزله: فلا يخلو المودع من أن يكون عالمًا بخراب منزله أو غير عالم. فإن كان عالمًا بخراب منزله وخوفه، ولم يزد خرابه إلى ما هو أخوف، فالمودع ضامن. فإن لم يعلم أو كان عالمًا إلا أن خرابه قد ازداد إلى ما هو أخوف مما كان في علمه؛ فلا ضمان عليه؛ لأنه فعل ما يجوز له. فأما إن أودعه في سفرٍ، فأراد أن يودعها غيره: فإن ذلك لا يجوز له إلا لعُذرٍ بيِّن؛ لأن ربَّ الوديعة قد رضي بأمانته على تلك الحالة التي هو عليها بمنزلة ما لو علمَ بخراب منزلهِ وعورته. فإن كان ذلك لعُذرٍ مثْل أن يخرج عليه لصوص، فيُعطي الوديعة والبضاعة لمن يرجوا نجاته [بها] (¬2) فلا شيء عليه، وهو قولهُ في "كتاب ابن المواز". ولو كانت دراهم فأخذها يومًا فأدخلها في كُمِّهِ وخرج بها يظنُّها دراهمه فسقطت منه، فإنه يضمن. ولو استودعه جرارًا فيها إدام أو قوارير فيها دُهن، فنقلها من موضعٍ في بيته إلى موضع آخر فتكسَّرت في ذلك فلا ضمان عليه. وكذلك لو سقطت -من يده فانكسرت لم يضمن، ولو سقط عليها شيء [من يده] (¬3) فانكسرت أو رمى في بيته، وهو يريد إصابة غيرها، ¬

_ (¬1) في أ: بيده. (¬2) في أ: لها. (¬3) سقط من أ.

فأصابها فتكسّرت لضمن؛ لأنها جناية لم يتعمدها وهذا كلُّهُ قول أشهب، وعبد الملك على ما نقلهُ الشيخ في "النوادر" (¬1) [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) النوادر (10/ 444، 445). (¬2) زيادة من ب.

[المسألة الثالثة] في استنفاق الوديعة

[المسألة الثالثة] في استنفاق الوديعة اختلف المذهب في الوديعة: هل يجوز للمودع أن يستنفقها بغير إذن المودع أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز سواء كان المودع موسرًا أو معسرًا، وهو مشهور المذهب. الثاني: أنه يجوز أن يتسلفها [وينتفع بها] (¬1) إن كان له مال، وهو قول مالك في سماع أشهب عنه في "العُتبية". ووجهُ القول [بالمنع ابتداءً كون ذلك من باب التصرف في مال الغير بغير طيب نفس منه ووجه القول] (¬2) بالجواز كون استسلافها ينقلها من أمانة إلى ذمة، وذلك أحظى لربها وصيانةٌ لها، فعلى القول أنه يجوز له التصرف في الوديعة ابتداءً، فلا تفريع على القول بأن ذلك لا يجوز ابتداءً. فإن ترك ذلك واتَّجر فيها فالربح له قولًا واحدًا، وهو لرأس المال الضامن. وإنما اختلف في والي اليتيم إذا اتَّجر في مال يتيمه، وهو مُفلس هل يكون الربح للولي أو لليتيم؟ على قولين: أحدهما: أن الربح لولي اليتيم، وهو قول المغيرة، وبه قال المصريون من أصحاب مالك. والثاني: أن الربح لليتيم دون الولي، وهو قول مالك، وبه قال ابن الماجشون في "الواضحة". ¬

_ (¬1) في ب: وينفقها. (¬2) سقط من أ.

فإن تعدّى في الوديعة، فتصرّف فيها، ثم ردها فضاعت بعد الرد، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون الوديعة مما يرجع إلى المثل. والثاني: أن تكون مما يرجع إلى القيمة. فإن كانت مما يرجع إلى المثل كالعين، والمكيل، والموزون من الطعام، وسائر العروض، فهل يصدق في الرد أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يصدق إن ادعى الرد، وبه قال ابن القاسم في "المدونة"، وأشهب، وابن عبد الحكم، وأصبغ في "الموازية". الثاني: أنه لا يصدق ولا يبرأ؛ لأنه دين ثبت في ذمته، فلا يصدق في براءتها، وهو قول أهل المدينة من أصحاب مالك، وروايتهم عنه، [ورواه] (¬1) المصريون عنه، ولم يقولوا به. والثالث: [أنه] (¬2) إن ردّها بإشهاد برئ، وإلا لم يبرأ [وبه] (¬3) أخذ ابن وهب. والأقوال الثلاثة: حكاها يحيى بن عمر في "المنتخبة" على ما نقله الشيخ أبو محمَّد في "النوادر" (¬4). وعلى القول بأنه يصدق في الرد، ويبرأ في الضياع، هل ذلك بيمين أم بغير يمين؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك بيمين، وهو قول أشهب في "مدونته"، وهو قول ابن المواز. ¬

_ (¬1) في أ: وروى. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) النوادر (10/ 445).

والثاني: أنه يصدق بغير يمين، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة"؛ لأنه لم يذكر اليمين. ولو تسلَّفها بإذن ربها ثم ادعى أنه قدْ ردّها، [فلا يصدَّق في الرد] (¬1)، ولا يُبرئه إلا ردّه إياها إلى ربها، وهو قوله في "كتاب ابن شعبان"، ولا ينبغي أن يُختلف في ذلك. - فلو كان إنما تسلّف بعضها، ثم تلف ما بقى منها قبل أن يرد ما تسلّف، فهل يكون ضامنًا [له] (¬2) أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يضمن سواء كانت منثورة أو مصرورة، وهو قول ابن القاسم، وأشهب، وأصبغ. والثاني: التفصيل بين أن تكون مصرورة أو منثورة، فإن كانت مصرورة ضمنها على وثاق ربها أخذ منها شيئًا أم لا، فإن كانت منثورة، فلا ضمان عليه لما بقي، وهو قول ابن الماجشون في "واضحة ابن حبيب". ووجهه أنه غيرُ متعدٍ إلا فيما أخذ خاصةً لا فيما بَقِيَ. ووجه القول بالمنع ابتداءً كوْن ذلك من باب التصرف في مال الغير بغير طيب نفسٍ منه] (¬3). وأما إن كانت الوديعة مما يرجع إلى القيمة: كالعروض، والحيوان، فلا يخلو من أن يبيعها وينتفع بثمنها، أو ينتفع بها ويرد عينها. فإن باعها وانتفع بثمنها، ثم ردّ مثل ذلك العين، فلا خلاف أنه ضامن؛ لأن الأغراض تتعلق بالأعيان بخصائص صفاتها. ¬

_ (¬1) في ب: لا يضمن. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب.

فإن [انتفع بها] (¬1) أو ردّا بعينها كثوبٍ يلبسُهُ ثم يردُّهُ أو دابة يركبها ثم يردُّها فضاعت، فإن هلك ذلك قبل الرد, فلا خلاف في وجوب الضمان عليه، وإن ادعى هلاك [ذلك] (¬2) بعد الرد، فلا خلاف في وجوب الضمان عليه، وإن ادعى هلاك [ذلك بعد الرد، فلا] (¬3) يخلو من أن يكون قد أقَرّ بالتعدي أو غير مقرُّ به. فإن كان غير مُقرٍ بالتعدي وإنما قامت عليه به بيِّنة، فإنه ضامن قولًا واحدًا. فإن اعترف بالتعدي، وادعى أن الهلاك بعد الرد، فهل يُصدق أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن يُصدّق؛ لأنه في الضياع مع يمينه، وهو قول ابن الموّاز. والثاني: أنه لا يُصدّق؛ لأنه ضامن بنفس التعدي، وهو قول ابن سحنون في كتابه. ولو أقام البيِّنة أنه ردّها سالمة ثم هلكت بعد الرد، هل يضمن أم لا؟ فبيّن [أصحابنا] (¬4) أيضًا قولان على ما نقله أبو محمَّد بن أبي زيد في "النوادر". فإن ادعى المودع أن ربّه أمره بذلك، وهو مُنكر: فإن قامت له بيّنة صُدِّق قولًا واحدًا، وإن لم يكن إلا مجرد دعواهُ كان القول قول رب الوديعة [مع يمينه، والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في ب: استنفعها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: الأصحاب. (¬5) سقط من أ.

[المسألة الرابعة] في المودع إذا ادعى رد الوديعة إلى المودع وقد أمره الله تعالى برد الأمانات

[المسألة الرابعة] في المودع إذا ادَّعى رد الوديعة إلى المودع وقد أمره الله تعالى بردِّ الأمانات وقال عزّ من قائل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬1). وقال تعالى: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬2). وقال سبحانه: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} (¬3). وقال عز وجل: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا. .} (¬4). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخُن من خانك" (¬5). وأداءُ الأمانات من [علامة] (¬6) الإيمان وعمل المؤمنين، والخيانة من علامة النفاق وعمل الفسّاق. ودفع الأمانة على وجهين: أحدهما: دفعها إلى اليد الذي دفعتها إليه. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (58). (¬2) سورة الأنفال الآية (27). (¬3) سورة البقرة الآية (283). (¬4) سورة آل عمران الآية (75). (¬5) أخرجه أبو داود (3535)، والترمذي (1264) من حديث أبي هريرة، وصححه الألباني -رحمه الله تعالى. (¬6) سقط من أ.

والثاني: أن يدفعها إلى غير اليد [التي دفعتها] (¬1) إليه. فأما إذا دفع الأمانة إلى اليد [التي] (¬2) دفعتها إليه؛ فإنه لا يحتاج إلى الإشهاد إذا اعترف له بالقبض، فإن ادعى المودَع الرد، وأنكر المودِع القبض، فلا يخلو من أن يكن قبضها ببيِّنة أو بغير بينة. فإن قبضها بغير بيّنة، فإنه يَصدّق في الرد قولًا واحدًا، فإن قبضها ببيّنة، فهل يُصدّق في الردّ أم لا؟ فالمذهب يتخرج على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يُصدّق في دعوى الردّ إذا قبض بالبينة في الوديعة والقراض والشيء المستأجر، وهو نصُّ قول مالك في "المُدونة" وغيرها في الوديعة وهو المشهور؛ لأنه إذا قبضها بالأشهاد فقد ائتمنهُ على الضياع فيُصدّق فيه، وإن لم يأتمنُه على الرد، والقراض، والشيء المستأجَر مِثلُه. والثاني: أن يُصدّق في جميع ذلك، وإن قبضَهُ ببينة، وهو الذي يأتي على رواية أصبغ عن ابن القاسم في دعوى المستأجر رد ما استأجرُه من العُروض حيث قال: "فإنهُ يُصدّق قبض ذلك ببيّنة أو بغير بينة؛ لأن المستأجر قبض ذلك لمنفعتهما جميعًا. وكذلك القِراض، فإن العامل قد قبضهُ لمنفعتهما جميعًا، فبأن يسقط عنه الضمان في الوديعة، ويُصدق في دعوى الرد؛ لكونه قبضها لمنفعة المودع وحدهُ أولى وأحق. والثالث: التفصيل بين الشيء المستأجَر، والقراض، والوديعة، فيُصدّق في الشيء المستأجر، ولا يُصدق في الوديعة [والقراض. وهو ¬

_ (¬1) في أ: الذي دفعته. (¬2) في أ: الذي.

تأويل أصبغ على قول ابن القاسم. والرابع: التفصيل بين الوديعة، والقراض والشيء المستأجر، فلا يصدق في الوديعة] (¬1) ويَصدّق في ردّ الشيء المستأجر، والقراض، وإن دفع إليه ببينة، لاحتمال أن يكون القصد بالإشهاد إلى التوثق من الأجرة، ومن الجزء في القراض، لا إلى التوثق من عين الشيء المُستأجَر، ولا مِن القراض. وأما إذا دفعها إلى غير اليد الذي دفعتها إليه، فعليه ما على والي اليتيم من الإشهاد، قال الله تعالي: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} (¬2). فإن لم يُشهد على الدفع، فلا يخلو المدعَى عليه من أن يُنكر الدفع أو يُقرُّ به. فإن أنكر الدفع هل يُصدّق الدافع في الدفع أم لا؟ فإنه يتخرج على قولين قائمين من "المُدونة": أحدهما: أنه لا يُصدّق في الدفع أصلًا، وهو مشهور المذهب، وهو نصُّ "المُدونة" في غير ما موضع. والثاني: أنه يُصدّق، وإن لم يُشهد على الدفع وهو قول عبد الملك بن الماجشون فيمن بعث بمال مع [رجل] (¬3) إلى رجل أنه لا يلزمه الإشهاد في الدفع، ويُصدّق. [و] (¬4) إن أنكر القابض كان ديْنًا أوْصله، وهذا القول قائم في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة النساء الآية (6). (¬3) في أ: رجال. (¬4) سقط من أ.

"المدونة" من مسألة [اللؤلؤة] (¬1) في "كتاب الوكالات"؛ لأنها تقتضي تعمير ذمة الآمر بقول المأمور: قد فعلتُ ما أمرتني به. وإذا وجب أن يعمرها بقوله: قد فعلت ما أمرتني به من الشراء، وجب أن يخلي ذمة نفسه بقوله: قد فعلتُ ما أمرتني به من الدفع. وإذا وَجَبَ أن تُخلى ذمَّتَهُ [بقوله] (¬2) فإخلاء أمانتهُ بقولهِ أوْجب. فإن أقرّ بالقبض وادعا التلف، فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يكون قبضه مِن ذمة إلى ذمة. والثاني: أن يقبضهُ من أمانة إلى أمانة. والثالث: أن [يقبضها] (¬3) من ذمة إلىَ أمانة. والرابع: أن يقبضها من أمانة إلى ذمة. فأما الوجه الأول: إذا قبضه من ذمّة إلى ذمة، مثل: أن يكون له ديْنٌ على رجل، فأمره أن يدفعها إلى فلان سلفًا أو تسليفًا في سلعة أو إلى صانع يعمل له فيه عملًا، فلا يخلو من أن تكون الذمة قائمة أو خربة، فإن كانت قائمة، فإنه يبرأ بتصديق القابض قولًا واحدًا، لبقاء ذمة القابض وملائه بمثل ذلك القدر. وإن كانت خربة مثل أن يكون القابض مُعْسِرًا أو مديانًا مُفلسًا، فلا يخلو من أن يُقرّ بالقبض، أو لم يُقر، فإن أنكر القبض، فالمودع ضامِنْ قولًا واحدًا. وإن اعترف بالقبض، فهل يُصدّق المُودع بالدفع أم لا؟ على قولين: ¬

_ (¬1) في ب: اللؤلؤ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: يقبضه.

أحدهما: أنه لا يُصدق إلا ببينة، وهو نصُّ المذهب وهو المشهور. والثاني: أنه يُصدّق على أحد الأقوال في الأمانة. وكون الذمة القابضة بإقرارها مُتخرّبة يوجب تضمين الدافع؛ لأنه فرّط بترك الإشهاد، فيُوهم أن يكون اتفق مع المُقر بالقبض، فيُعاقب بنقيض مقصوده. وأما الوجه الثاني: إذا قبض من أمانة إلى أمانة، مِثْل: أن يكون لرجلٍ وديعةٌ عند رجل، فوكّل وكيلًا يقبضها منه فدفعها له المودع بغير بينة، وادَّعى الوكيل أنه [قد] (¬1) قبضها منه وضاعت، فهل يبرأ الدافع بإقرار القابض أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المُدونة: أحدهما: أن الدافع يبرأ بتصديق القابض، والضمان من الأمر، وهو قول ابن القاسم في كتاب الوديعة. والثاني: أنه لا يبرأ إلا بإقامة البينة على الدافع أو يأتي القابض بالمال، وهو قول ابن القاسم في "كتاب ابن المواز" أيضًا، وهو ظاهر "المدونة" أيضًا من غير ما موضع لإطلاقه عليه الضمان إلا أن يأتي بالمال أو يُقيم الدافع البينة على الدفع، ولم يفصِّل بين ما خرج من أمانة إلى أمانة ولا إلى ذمة، ولا مِنْ ذمة إلى ذمة ولا إلى أمانة، والقولان المنصوصان عن ابن القاسم في "ثمانية أبي زيد". وأما الوجه الثالث: إذا قبض مِن ذمة إلى أمانة، مثل: أن يكون له دين على رجل، فوكّل رجلًا بقبضهِ منه، فأقرّ الوكيل بقبضه منه، وأنه قد -ضاع بعد القبض، فلا يخلو من أن يدفَعَهُ إليه ببينة أو بغير بينة. فإن قبضه منه ببينة، فلا خلاف في براءة ذمة الدافع. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وإن دفعه إليه بغير بيّنة، فهل يُصدّق في الدفع بتصديق المأمور [بالقبض] (¬1) أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا يُصدق إلا بإتيان القابض بالمال، وهو نصُّ قوله في المدونة: في الذي باع الثوب من رجلٍ، وبعث معهُ عبدهُ أو أجيرُه ليقبض الثمن فقال: قبضتهُ وضاع منِّي. والثاني: أنه يُصدّق ويبرأ مِن الضمان، وهذا القول يؤخذ من مسألة اللؤلؤة؛ لأنه كما جاز له أن يعمر ذمة غيره بدعواهُ، فكذلك يجوز له أن يُبرئ ذمة نفسه بدعواه؛ لأنه [في] (¬2) دعواه استند إلى إذن في الموضعين جميعًا. وعلى القول بأن الدافع ضامن المال، فهل يرجع به على الوكيل القابض أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه قد ائتمنهُ في الدفع وصدّقه، وهو مذهب "المدونة" وهو [قول] (¬3) ابن الماجشون؛ إلا أن يتبين من الوكيل تضييع وتفريط [وتعريض] (¬4) ما قبض من المال للتلف فيضمن. والثاني: أنه يرجع عليه به؛ لأن الوكيل قد قبضهُ منه على معنى الاقتضاء وبراءة الذمة بوكالة [ثابتة] (¬5)، ولم يقبضه على معنى الأمانة من جهة [الدافع] (¬6)؛ لأنه مجبور على الدفع لثبوت الوكالة. ¬

_ (¬1) في أ: في القبض. (¬2) زيادة يقتضيها المعنى. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: ثانية. (¬6) سقط من ب.

فإن جحد الأمر بالوكالة، وأنكر أن يكون أمرَ الوكيل بالقبض، فهل يكون القول قولُ الوكيل أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قول الآمر، ويحلف أنه ما وَكَّله على شيء. والثاني: أن القول قول الوكيل؛ لأن الدافع قد صدّقه فيما ادعي من الوكالة. فعلى القول بـ: أن القول قول الآمر، فإن الوكيل ضامن لما قبضهُ، فإن اختار الآمر الرجوع على الدافع؛ كان للدافع الرجوع على الوكيل المُتعدي، فإن اختار [الآمر اتباع] (¬1) الوكيل المتعدي في القبض كان ذلك له؛ لأنه غريم غريمه ولم يكن له الرجوع على [أحد] (¬2) ويبرأ الدافع. وعلى القول بأن: القول قول الوكيل؛ لأن الدافع قد صدّقه؛ إذ دفعَ إليه بغير بينة، وهو قول ابن القاسم في "العتبية" كان للآمر الرجوع على الدافع. وهل يرجع هو على الوكيل القابض أم لا؟ فإنه يتخرج على الخلاف الذي قدّمناه إذا ثبتت الوكالة. وأما الوجه الرابع: إذا قُبض من أمانة إلى ذمّة، مثل: أن يأمر له أن يدفع وديعة له عنده إلى غيره سلفًا أو غيره، فلا تخلو الذمة من أن تكون قائمة أو خربة. فإن كانت قائمة، فإن الدافع يبرأ بتصديق القابض -قولًا واحدًا. فإن كانت خربة، فهل يبرأ الدافع بتصديق القابض أو لا؟ فالمذهب على قولين، وهما منصوصان في "ثمانية أبي زيد" ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وقد قدمناهما. وسبب الخلاف، واختلافهم في أمانة الوكيل [هل تضاهى أمانة المودع أم لا؟ وهل المأمور بمنزلة الآمر ويده كيده أم لا؟ فمن شبه أمانة الوكيل] (¬1) المأمور له بالقبض بأمانة المودع عنده، قال: القول قوله في دعواه التلف كما لو ادعى ذلك المُودع عنده. ومن رأى أن تلك الأمانة أضعف، قالا: لا يبرأ الدافع بتصديق القابض مع دعوى التلف، ومن رأى أن المأمور بمنزلة الآمر، قال: القول قول الدافع المأمور كم كان القول قولهُ مع الآمر، كما به يقول أبو حنيفة. ومن رأى أنه أضعف [منه] (¬2) قال: الدافع ضامن إلا أنْ يحضر [القابض] (¬3) المال [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: قابض. (¬4) زيادة من ب.

[المسألة الخامسة] إذا بعث معه في المال ليوصله إلى رجل

[المسألة الخامسة] إذا بعث معه في المال ليُوصِلَهُ إلى رجل فالكلام في هذه المسألة في ثلاثة أسئلة: أحدها: أن يموت الرسول، ولم يعلم ما فعل بالمال. والثاني: [أن يدعي] (¬1) أنه لم يجد المبعوث إليه، وأنه قد ردّ المال إلى الدافع. والثالث: أنه يوصِّلهُ إلى المبعوث إليه، فيدّعي أنه قد بعثَهُ إليه صلة أو صدقة، والباعث منكر. فالجواب عن السؤال الأول: إذا مات الرسول قبل الوصول أو بعده، وأنكر المبعوث إليه بالمال أن يكون قد قبضه، فهل يضمنهُ الرسول في ماله أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه ضامن للمال جملة بلا تفصيل، وسواءٌ مات في الطريق أو بعد الوصول [إلى البلد. والثاني: أنه لا ضمان عليه في ماله جملة مات في الطريق أو بعد الوصول] (¬2). والثالث: أنه يضمنه إن مات في الطريق، ولم يوجد معه المال، ولا شيء [عليه] (¬3) إن مات بعد الوصول، وهو قول مالك في "المدونة". والرابع: عكس هذا الجواب أنه إن مات في الطريق فلا شيء عليه، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وإن مات في البلد ضمنهُ، وهو قوله في "كتاب محمَّد". فوجه [القول] (¬1) بأنه ضامن بكل حال: لأنه [لما] (¬2) لم يذكر ضياعه بعد الوصول، ولا قال عند موته: إن المال بالموضع الفلاني، ولا وجد معه إن مات في الطريق كان ذلك دليلًا على أنه تسلفه، وأنه استنفقهُ، وأن ذلك ترتب في ذمته كالديون. ووجه قوله في "المدونة": أنه إذا مات في الطريق، ولم يوجد معه: حُمل الأمر فيه على أنه تعدٍ عليه، ولم يُحمل على الضياع كما لو أُودع وديعةً في الحضر، فمات ولم يدع ضياعها فلم توجد؛ أنها تُؤخذ من ماله. فإذا مات بعد وصوله البلد، وإمكان الدفع حُمل على أنه قد دفعها، وأنه لو كان حيًا لأخبر من شهد له على المُنكر. ووجه ما في "كتاب محمَّد": أنه إذا مات في البلد، فلا يمكن أن يخفى دفعه إذا بحث ورثته عمن أشهد؛ لأن عليه أن يُشهد عند الدفع. وإن مات في الطريق برئت ذمّتهُ؛ لأنه لم توجد البضاعة، والغالب أنه خرج بها دلَّ أنها ضاعت، ولم يحمل عليه العدا. ويلزم على هذا القول أنه لو أودع وديعة في الحضر فمات [في] (¬3) الحضر، ولم توجد الوديعة أنه لا ضمان عليه، ويحمل على أنها [ضاعت] (¬4) قبل ذلك. ووجه القول الرابع أنه: لا ضمان عليه: جملة إنْ مات في الطريق، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

ولم توجد معه، والغالب أنه خرج بها: حُمل الأمر فيها على الضياع. وإن مات بعد الوصول وإمكان الدفع، حُمل على أنه دفعها، وأنه لو كان حيًا لأخبر بمن يشهد [له] (¬1) على المُنكِر. والجواب عن السؤال الثاني: إذا ادعى الرسول أنه لم يجد المبعوث إليه بالمال، وأنه قد ردّه إلى [الدافع] (¬2)، فلا يخلو من أن يكون قد بعثه إلى رجلٍ معهُ في البلد، أو أن يكون المبعوثُ إليه به في بلدٍ آخر. فإن كان معه في بلدٍ واحدٍ، فإن الرسول يُصدّق في ردّ المال إليه قولًا واحدًا؛ لأن المفهوم من الباعث أنه إنما أعطاهُ ليُوصلها إليه إن وجده، فإن لم يجدْهُ فيردُّهُ إليه. فإن كان المبعوث [إليه] (¬3) ببلد آخر، فلا يخلو من أن يكون الدفع إلى الرسول ببينة أو بغير بينة. فإن كان الدفع ببينة، فلا يُقبل قولهُ إلا بِبَيِّنة في الردّ. وإن كان بغير بينة فهل يُقبل قولُهُ في الرد أم لا؟ فالمذهب على قولين: [أحدهما] (¬4): أنه يُقبل قولهُ مع يمينه، وهو المشهور. والثاني: أنه لا يُقبل قولهُ في الردّ؛ لأنه مُتعدٍ في الرد؛ إذ الواجب عليه أن يودعها هناك، وتعديه في ردّها يُوجب عليه الضمان، فإذا صارت في ذمّتِه لتعدِّيه في ردِّها وجبَ ألا يُقبل قوله في ردِّها، وهذا قول قياس. فإن قيل: إذا أسلمت في الرجوع برئت ذمتهُ منها كمتسلف الوديعة إذا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الباعث. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

ردها على أحد أقوال المذهب. فالجواب عنه: أن متسلف الوديعة [قدرها] (¬1) حيث كان [أذن له] (¬2) في نفاقها فيه، وهذا [إنما] (¬3) أمر أن يدفعها إلى رجلٍ في بلد فلم يجدُه فردّها، فإذا ردّها إلى بلدِ الباعث، فليس هذا الموضع الذي أذن له في إنفاقها فيه، فاندفع السؤال. والجواب عن السؤال الثالث: إذا ادعى [المبعوث] (¬4) إليه بالمال أن الباعث بعث به إليه صِلَةً أو صدقة، ويُصدّقَهُ الرسول، وربُّ المال جاحد لذلك، ويدّعي أنه بعثهُ ليكون عندهُ وديعة، فلا يخلو من وجهين: إما أن يكون ذلك قائمًا بيد الرسول لم يُسلِّمهُ بعد، وإما أن يكونَ ذلك بعد التسليم. فإن كان ذلك قبل الدفع إلى المبعوث إليه، فإن المبعوث إليه يَحْلفُ [مع شهادة الرسول] (¬5) إن كان عدلًا، ويأخذ المال ملكًا له، ولا خلاف في هذا الوجه. فإن كان ذلك بعد الدفع والقبض، فهل تجوز شهادة الرسول أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها جائزة، ويحلف معه المبعوث إليه، كما لو كان قبل الدفع، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو قول ابن عبد الحَكَم. والثاني: أن شهادته لا تجوز؛ لأنه يدفع عن نفسه الضمان، وهو قول ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: له إذن. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: المبعث. (¬5) سقط من أ.

أشهب، يريد أنه لما خرج المال من يده، وصار في حوْز القابض على معنى الملك، والباعث مُنكر لذلك، فاتهم في شهادته أن يكون قصد بها دفعَ العدا عن نفسه. والثالث: التفصيل بين أن يكون القابض مُوسرًا أو مُعسرًا، فإن كان القابض مُوسرًا جازت شهادة الرسول كما لو كان المال قائمًا بيده، وإن كان مُعسرًا فلا تجوز؛ لأنه يُتهم [في] (¬1) أن يدفع الضمان عن نفسه، وهو قول سحنون. وعلى قول أشهب بأن شهادة الرسول لا تجوز؛ وأنه يغرُم للباعث ما أتلف من المال عليه، هل له الرجوع على المدفوع إليه بما غرم [عنه] (¬2)؟ والذي يأتي على أصل أشهب أنه يرجع [عليه] (¬3)؛ لأنه قال: "إذا كانت لهُ وديعة عند رجُلٍ، فجاءه خطه لأمر أن يدفعها إلى فلان صِلَة أو أنها له، والذي عنده وديعة لا يشكُّ أنه خطُّه وأمارته، فدفعها إليه ثم جاء المودع فأنكر، وحلف، وأغرم المودّع أن لدافعها أن يرجع على الذي قبضها منهُ، وإن كان يعلم أنه مظلوم؛ لأنه يقول: بِسببك وصل تغريمي". وقد وقع لأشهب ما يدلُّ على أنه لا يرجع عليه بشيء، وقال: "إذا كانت له وديعةٌ عند رجل، فجاءه رجلٌ فقال: إن فلانًا بعثني إليك لآخذ الوديعة منك، فصدّقَهُ وَدَفعها إليه، فادعى ضياعها، فجاء صاحب الوديعة، فأنكر أن يكون بعثُه، وحلف على ذلك فغرم الوديعة لربها فقال: لا رجوع على الرسول، وكان ينبغي على مذهبه أن يرجع [عليه] (¬4)؛ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: إليه. (¬4) في أ: إليه.

لأنه بسببه غرِم؛ بل هذا [أحرى] (¬1)؛ لأنه يمكن أن يكون الرسول كذب. وقد اختلف قول ابن القاسم في هذا أيضًا فمذهبهُ في المُدونة: أن له الرجوع عليه و [إن] (¬2) عَلِمَ من نفسه أنهُ مظلوم، وهو قولهُ في مسألة "الوكيل على بيع ثوبٍ إذا جحده المشتري الثمن، حيث جوّز للآمر أن يغرم الثمن للمأمور، وإن علم أنه صادقٌ في دعواه"، وقال في غير المدونة: فيمن استحق من يدي سلعة كُنْتُ اشتريتها من رجلٍ، وأنا مقرٌ أنها نتجت عند البائع مني، فإن مُستحقها ظالم، وبينته زور أنه لا رجوع لي على بائعي بالثمن لعلمِي بأنه مظلوم [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: من. (¬3) زيادة من ب.

[المسألة السادسة] في المودع إذا أنزى على النوق المودعة أو بقرا فماتت أو كانت جارية، فوطئها فماتت أو زوجها

[المسألة السادسة] في المودع إذا أنزى على النوق المودعة أو بقرًا فماتت أو كانت جارية، فوطئها فماتت أو زوجها فأما البقرات والنوق وما كان في معناها، فلا يخلو من وجهين: إما أن يكون موتها من تحت الفحل. وإما أن يكون من الولادة. فإن ماتت تحت الفحل، فالمذهب في ضمانه على قولين قائمين من المُدونة: [أحدهما] (¬1): أنه ضامن لأنه مُتعدٍ، وهو قول مالك في المُدونة. والثاني: أنه لا ضمان عليه في ذلك، وهو قول أشهب في "مدونته"، قال: ولو سألني في البهائم قبل أن ينزيها هل ينزيها؟ لرأيتُ ألا يدعها [من الإنزاء] (¬2)؛ لأن ذلك مصلحة، وهو مثل قول الغير في "المدونة" في الراعي. فإن ماتت من الولادة، هل يضمن أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة" أيضًا: أحدهما: أنه ضامن لقيمة الحيوانات، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه لا ضمان عليه، وهو نصُ قول أشهب في "كتابه"، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وهو نص قول مالك في "المدونة" في كتاب "الوديعة" في: أمة الرهن إذا تعدى المرتهن، فتزوجها فماتت من النفاس، حيث قال: إن ضمانها من الراهن. وقال ابن القاسم: إن ضمانها من المرتهن، وهذا القول قائم من "المدونة" أيضًا من مسألة الغار إذا غرّ فَزَوّجَ أمة رجلٍ على أنها حُرّة فولدت من زوجها ثم استحقها سيدها، حيث قال ابن القاسم: فإن الغارِ لا يضمن للزوج ما أخذ منه المستحق من قيمة الأولاد، وقال: إنه لم يغرُه بولد. وقد قالوا فيمن غصب حُرّة، فزنى بها، وهو غير محصن، فَحَمَلَت فماتت من الولادة أنه لا يُقتل [بها] (¬1)، ولا يغرم ديَّتها؛ لأن هذا بسبب آخر ليس هو عين العدا. وينبني الخلاف: على الخلاف في السبب في الشيء، هل هو كمنْ باشرهُ أم لا؟ وكذلك الحكم في الأمَة إذا وطئها فماتت من الولادة. وأما إن ماتت من وطئهِ، فإنه ضامن لقيمتها قولًا واحدًا. وأما إن زوجها المودع، فالنكاح مفسوخ على كل حال. ثم لا يخلو من أن تلِد من زوجها أم لا: فإن لم يكن معها [ولد] (¬2) ولا حملت من زوجها، فإن المُودع يأخذ جاريته، ولا شيء لهُ على المودع؛ لأن تزويجها ليس بعيب، ولا يكون عيبًا إلا النكاح الذي يجوز المقام عليه. فإن ولدت من زوجها، فذلك عيبٌ مُفسد يُوجب لسيدها أخذ قيمتها من المُودع، وإن شاء أخذها، وما نقصها النكاح. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن كان معها ولدها أو مات الولد، ونمت في يدها، فهل يجبر نقصها بالولد [الذي] (¬1) معها أو بما فيها من النماء أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن النماء يجبر به النقص، كان ذلك النماء مُتصلًا بها أو مُنفصلًا عنها، وهو قوله في "كتاب الوديعة". والثاني: أن النماء لا يجبر به النقص كان متصلًا أو منفصلًا، وهو قول الغير في "كتاب العيوب". والثالث: التفصيل بين النماء المتصل كزيادة البدن، والنماء المنفصل كالولد، فيجبر بالنماء المنفصل ولا يجبر بالنماء المتصل، وهو قول مالك في "كتاب العيوب" من "المُدونة". ووجه القول: بأن النماء يُجبر به النقص جملة؛ لأن الأمة بإحبال الزوج [إياها] (¬2) وجب على المودع جميع القيمة، فصار النماء الحادث فيها من الولد، أو زيادة البدن بعد دخولها في ضمان المودع، فأشبهت المشتراة، وأنها بالشراء دخلت في ضمان المشتري، فحدث بها حمل، وهو نقص ونماء، وهو الولد في ضمان المشتري، فجبر ما دخلها من النقص الحادث في ملكه بالنماء الذي حدث في ضمانه. ووجه القول بأن النماء لا يُجبر [به] (¬3) النقص: أن هذا [النماء] (¬4) لو لم يحدث عند المشتري عيبًا ما كان يُشارك به البائع، ولا كان يأخُذ فيه عِوَضًا، بخلاف ما أحدث من صبغ أو خياطة، فإذا وجب ألا يأخذ فيه، ولم يحدث عنده عيبٌ، فكذلك يجبُ ألا يُجبر به ما حدثَ به من ¬

_ (¬1) في أ: إليه. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

عيبٍ عنده. ووجه القول بالتفصيل: أن النماء المُنفصل كسلعة ثانية وجبت للمشتري لحدوث الولد في ملكِه بعد وجوب الضمان إما بعقد الشراء في فصل البيع، وإمّا بحمل الجارية في فصل الوديعة، والنماء المتصل إنما هو بعض صفاتها؛ فلا يملكهُ من حدث عنده إلا كما يملكُ جميع أجزائها؛ إذ ليس في المُمْكن أن يملُك صفة الشيء دون عينهِ، وذلك لا يُتصور، ولا يدخل في المعقول فضلًا عن المنقول [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

[المسألة السابعة] [في المودع إذا ادعى] أنه أنفق الوديعة على أهل المودع في غيبته

[المسألة السابعة] [في المودع إذا ادعى] (¬1) أنه أنفق الوديعة على أهل المودع في غيبته ولا يخلو من وجهين: إما أن يكون قضى عليه السلطان في غيبته بالنفقة، أو لم يقض عليه بها. 1 - فأما إن قضى عليه بها، مثل أن ترفع امرأته إليه أمرها، وفرض لها عليه النفقة هي وأولادها، فلا يخلو المودع من أن يصدقه أهل المودع على ذلك أو كذّبوه. فإن صدّقوهُ على ذلك [فالقول قوله] (¬2) إذا كان ما أنفق عليهم يشبه. فإن أقامت للمودع البينة أنه قد ترك لهم النفقة أو كان يبعثُ إليهم بها، وأنها وصلت إليهم، أو كان ما يدعيه [المودع] (¬3) [لا] (¬4) يُشبه أن يكون نفقة مثلهم كان القول قول المودع، ويضمن المودع الوديعة، أو ما زاد على نفقة مثلهم. فإن كذّبوه على ما يدّعيه من إنفاق الوديعة عليهم كان ضامنًا قولًا واحدًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) في أ: مما.

وأما الوجه الثاني: إذا لم يقض السلطان عليه بذلك، ولا رفعت [المرأة] (¬1) أمرها إليه، فلا يخلو المودع من أن تقومَ له بيِّنةٌ على ذلك أو لم تقُم، فإن قامت له على ذلك بينة فالقول قولُ المودع المنفق، إذا كان ذلك يشبه نفقتهم، وكان المودع لم يبعث إليهم بالنفقة، ولا تركها لهم ببيّنة. فإن لم تقم له بينةٌ على الإنفاق، فلا يخلو من يُصدقه أهلهُ على ذلك أو كذّبوه، واعترف المودِع أنه لم يبعث إليهم بالنفقة، ولا تركها عندهم، فهل يبرأ المودع بإقرارهم أو لابد من قيام البينة أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المُدونة: أحدهما: أنه [لا يبرأ] (¬2) إلا بقيام البينة على النفقة، ولا ينفعه إقرار أهله وولدِه، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه يبرأ بتصديقهم إذا أقَرّ المودع أنه لم يبعث إليهم بالنفقة، ولا خلّفها عندهم، وهو قول الغير في بعض نُسخ "المدونة" في "كتاب الوديعة"، وهو الأظهر في النظر؛ لأنها لو قالت: من عندي كنتُ أُنفق لقُبلَ قولها، وكان له الرجوع على الزوج، ولا فرق بين قولها: مِن عندي أُنفق ولا من غيرها، هذا الذي عنده في الوديعة. وإن ادعى المُودع أنه كان يبعث إليهم بالنفقة، وأنها وصلت إليهم، فإنه يحلفُ على ذلك، وعلى وصولها إليهم، ثم يضمن المودع. وهل له الرجوع على أهل المودع أم لا؟ فلا يخلو من أن يدّعي على المودع أنه أمرهُ بالدفع إليهم، أو قال له: لم تبعث إليهم بشيء، كان له الرجوع على الزوجة، وعلى ما يلي نفسه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: لا يبين.

من أولاده بقدْر حِصَّته من النفقة. وإن ادعى عليه الإذن أو أنه لم يبعث إليهم بشيء، فهل يرجع على أهله بشيء أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يرجع؛ لأنه قد صدّقهم بأنهم قبضوا بوجهٍ جائزٍ عنده، وهو قول ابن القاسم [في "المدونة"] (¬1) في المأمور له بقبض المال من ذمّة غيره. والثاني: أنه يرجع عليهم بذلك؛ لأنه لم يتطوّع عليهم بذلك، وإنما أنفق عليهم ذلك، ظنًا منه أن ذلك يبرئه، وأنه من حقِّهم. وسبب الخلاف: اختلافهم في المخطئ في مال نفسه، هل هو كالمخطئ في مال غيره [أم لا] (¬2)؟ وذلك أنه لما أخطأ في مال غيره، فأنفقهُ على أهله بغير إذنه، ولا ثبت عندهُ أمرٌ يستحقون [به] (¬3) ذلك المال كان ذلك عين الخطأ في مالِ نفسه؛ لأن المال الذي أنفق عليهم هو عين مالهِ معنًا لكونه لابُد وأن يؤدى عنه عِوضًا بعدما أنفق عليهم كعين ماله معنىً لا حسًا، وذلك منه كالخطأ في ماله؛ إذ لا فرق بين أن يسلط الغير في مال نفسه [يظنه مال] (¬4) ذلك الغير، أو يُسلِّطه في استهلاك ما يظنُّ أنه استحقَّه من مال غيره، ثم تبيَّن له أن ذلك المستهلك غير متسحقٍ له، فإن المسبب يعزم بواسطة السبب، وهل يغرم المباشر أم لا؟ قولان: وعلى القول بأنه لا يغرم، فلِكَوْنهِ معذور بتسليط [المالك] (¬5)، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: الملاك.

وعلى أنه يغرم فلِكَوْن المُسلِّط غيرُ قاصد إلى التمكين في خالص ماله بالاستهلاك، وإنما هو مخطئ، والكلام في هذه المسألة مسُتوفىً في غير هذا الكتاب [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الثامنة فيمن جحد لرجل مالا ثم وقع له عنده مثل ذلك

المسألة الثامنة فيمن جحد لرجل مالًا ثم وقع له عندهُ مثلُ ذلك هل يسوغ له أن يجحده فيه أم لا؟ ولا يخلو الجاحد من أن يكون غاصبًا أو غير غاصب، فإن كان غاصبًا، وقد دلهُ المغصوبُ منهُ على أخذ الشىء المغصوب بعينهِ حقيقة، فلهُ أخذهُ قولًا واحدًا. فإن ظفر لهُ بغيره من ماله، ولم يظفر بالشيء المغصوب، هل يحلُّ له أخذهُ أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: جواز الأخذ جُملة بلا تفصيل، وهو قول مالك في "الموازية" قال: بخلاف من جحدك [لما جحدك] (¬1) لما جاء فيه من الأثر. والثاني: التفصيل بين أن يكون عليه ديّن، فلا يجوز له الأخذ، أو لا ديْن عليه فيجوز، وهو قول ابن المواز في "كتابه". والثالث: التفصيل بين أن يكون معلومًا بالغصب، فلا يجوز له الأخذ؛ لكوْن ذمته مستغرقةٌ بالتباعات، وبين ألا يُعلم بالغصب فيجوز له الأخذَ. فإن كان الجاحد غير غاصبٍ، مثل أن يكون له عليه ديْنٌ أو أودع عنده وديعة فجحدهُ فيها، ثم ظفر له بمثلِ ذلك أو ما يُساوى قيمتهُ -هل يحل لهُ الجحودُ أم لا؟ فالمذهب على ستة أقوال: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أحدها: المنعُ من الأخذ جُملةً، وهو ظاهر قول مالك في المُدونة في "كتاب الوديعة" في رواية ابن القاسم عنه حيث قال: لا يجحدهُ. والثاني: إباحة الأخذ له جملةً بلا تفصيل، وإن كان عليه دين، وهو قولُ ابن عبد الحكم. والثالث: التفصيل بين أن يكون عليه ديْنٌ، فيأخُذ القدْر الذي يصحُّ له في المحاصة مع الغرماء، وإن لم يكن عليه ديْن كان له أن يأخُذ، وهي رواية ابن وهب عن مالك. والرابع: أنه يأخذ جميع حقِّهِ، وإن لم يكن عليه ديْن، وإن كان عليه ديْن، فلهُ أخذ قدْر ما ينوبُه في الحصاص إن أمن أن يحلف كاذبًا، وهي رواية ابن نافع عن مالك. يريد إن قبل منهُ أن يحلف -[أن] (¬1) مالهُ عليه حق [على] (¬2) ما في سماع أصبغ. والخامس: أنه يأخُذُ ويحلفُ أنَّه مالهُ عندهُ وديعة، ولا غيره بخلاف الحقوق الثابتة في الذمم من المبايعات والقرض، وهو قول ابن شعبان في "الزاهي". والسادس: أنَّ الأخذ له جائز ما لم يكن عليه ديْن، فإن كان عليه ديْن فلا يأخذ شيئًا، [وهذا] (¬3) قولُ قياسي. ووجههُ أن الغُرماء لو جاؤوا لشاركوه فيما أخذ، فكأنه أخذ ما للغرماء فيه [مدخل] (¬4) إذا لم يأخذه بدفع من الغريم ولا بتفليس الإِمام، فيجب إيقاف أنصبائهم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: وهو. (¬4) في أ: دخول.

وسبب [الخلاف] (¬1) في المسألة: تعارض الحديثين: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تخُن من خانك" (¬2)، فهذا عام، ويُعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس [لما] (¬3) شكت إليه أن زوجها أبا سفيان بن حرب، لا يُعطيها من الطعام ما يكفيها هي وولدها، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬4). معناه: أن تأخذ مقدار ما يجبُ لها, ولا تتعدّ فتأخذ أكثر مما يجب لها. فمن أخذ بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تخُن مَن خانك"، قال: يُمنع من الأخذ عمومًا. ومن أخذ بمقتضى حديث هند قال: بجواز الأخذ عمومًا, ولاسيما على مذهب من قال: إن قولَهُ عليه السلام: "أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك ولا تخُن من خانك". وَرَدَ على سبب، وذلك أنَّ رجُلًا ائتمنَ رجُلًا على امرأة فخان فَوَطِئَهَا، ثم إنّ الخائن ائتمن ذلك الرجل على امرأته، فأراد أنْ يطأها، [فسأل] (¬5) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "أدّ الأمانة على امرأته، إلى مَن ائتمنك ولا تخُن من خانك". ومذهب بعض الأصوليين أنّ الاسم المُفرد إذا دخل عليه الألف واللام أنه يقصُر به عن سببه، ولا يُحمل على عمومه. والصحيح خلاف ذلك. ¬

_ (¬1) في ب: اختلافهم. (¬2) تقدم. (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه البخاري (5049). (¬5) في أ: فقال.

ومن أصحابنا مَنْ ذهب للجمع بين الحديثين، فحمل قولَه عليه السلام: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬1). على أن: تأخُذ مقدار ما يجبُ لها, ولا تتعدّى، فتأخُذ أكثر [مما يجب لها، وكذلك يتأول قوله عليه السلام: "ولا تخن من خانك" أي: لا تتعدى، فتأخذ أكثر] (¬2) من الواجب فتكون [خُنْته] (¬3) آخرًا كما خانك [هو أولًا] (¬4)؛ لأن مَنْ أخذ حقَّهُ الواجب فليس بخائن، فعلى المعروف الذي أباح به النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند تخرج الحديثان، ولا يحمل على التعارض، والأحاديث مهما أمكن الجمع بينها فلا يُطرح [بعضها، تم الكتاب] (¬5) والحمد لله. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: خيانتك. (¬4) في أ: أولًا هو. (¬5) سقط من أ.

كتاب العارية

كتاب العارية

كتاب العارية تحصيل مشكلات هذا الكتاب وجملتها ثلاثُ مسائل: [المسألة الأولى] في ضمان العارية ولا يخلو المستعير من وجهين: أحدهما: أن يدَّعِي فساد الشيء المُعار. والثاني: أن يدّعي هلاكَهُ وضياعَهُ. فإن ادعى فسادًا بالشيء المُعار مثل: أن يستعير قياسًا ليعمل به، فأتى به مكسورًا، أو سيفًا ليُقاتل به عدوًا، فأتى به مقطوعًا، فادعى أن فساد ذلك الشيء وكسْرهِ من سبب ما استعارُه له، فهل يُصدّق المستعير أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يُصدّق جُملةً حتى يُقيم البيّنة أنه ضرب به ضربًا يجوزُ له، وهو قولُ عيسى في "العتبية". والثاني: أنه يُصدّق ولا يضمن إذا أتى بما يُشبه، ويرى أن الكسْر يُصيبَه في ذلك العمل، وذلك لا يخفى، وهو قول عيسى بن دينار، ومطرف , وأصبغ. والثالث: أنه ضامن، ولا يَصدَّق على حال، وهو قول أشهب في "كتابه". والرابع: أنه لا يُصدّق، ويكونُ ضامنًا إلا أن يُقيم بيِّنة على ذلك أو عَرف أنه كان معهُ في اللقاء، وهو قول ابن القاسم في "المدونة".

وسبب الخلاف: هل يُقاس عينُ الشيء المعار وتغييبه على ذهاب عينه أم لا؟. فمن جعل تغييبُهُ كذهاب عينه قال: المستعير ضامن، ومن جعل تغييبُهُ مُخالف لذهاب عينه قال: القول قولُ المُستعير في إسقاط الضمان عنه. وبقية الأقوال جارية على الاستحسان على غير قياس. فإن ادعى هلاك الشيء المُستعار وضياعُه، فهل يُصدّق في ذلك أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المستعير ضامن للعارية، قامت البينة على التلف أو لم تقُم كانت مما يُغابُ عليه أم لا، وهو قول أشهب، وأحد قوليْ مالك، وهو مذهب الشافعي. والثانى: أنه لا ضمان عليه إلا أن يشترط الضمان، وهذا القول حكاه أبو إسحاق بن شعبان في "الزاهي" وعابهُ. والثالث: أنه يضمن فيما يُغابُ عليه إلا أن يقوم ببينة على التلف بغير سببه، ولا يضمن فيما لا يغاب [عليه] (¬1) إلا أن يكون سبب التلف من المُستعير، وهو المشهور من قول مالك، وهو قولُ ابن القاسم في "المدونة"، وهو أصح الأقوال وأوْلى بالصواب على ما نصف. وسبب الخلاف: تعارُض الآثار وتجاذب الاعتبار. فأما الآثار: فمنها ما رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمَّنَ صفوان بن سليم ثم إنه غزى حنينًا، فذكر له [- صلى الله عليه وسلم -] (¬2) أداة، وسلاح عند صفوان، فأرسل إليه فسأله: "إياها عارية"، فقال صفوان: [أين الأمان] (¬3): أتأخذها غصبًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن شئت أن تمسك أداتك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: بن الماهان.

فأمسكها، وإن [أعرتها] (¬1) فهي مضمونةٌ عليّ حتى ترِد إليك" فقال صفوان: ليس بهذا بأس، وقد أعرتُك يا محمَّد، فبعث إليه بمائة [درع] (¬2) وأداتُها -وكان صفوان كثير السلاح- فقال النبي: "اكفِنَا حَمْلَها" فحملها له صفوان (¬3). ورُوي أنه قال له: "أعاريةٌ مضمونة أم عاريةٌ مؤداة"، فقال عليه السلام: "بل عارية مؤداةٌ مضمونة". وفي بعض الآثار: "عارية مؤداة". ومنها: ما رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس على المُستعير ضمان" (¬4). ومنها: ما رُوي عنه أيضًا - صلى الله عليه وسلم -[أنه قال] (¬5): "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (¬6). فمن أَخذ بقوله عليه السلام: "بل عارية مضمونةٌ مؤداة" فقال بضمان العارية جُملة بلا تفصيل، كما به قال أشهب، والشافعي. ومن أخذ بقوله عليه السلام: "ليس على المستعير ضمان" فقال: بنفي الضمان جُملةً بلا تفصيل، كما به قال أبو حنيفة، إلا أن يشترطهُ كما حكى ابن شعبان. ¬

_ (¬1) في أ: أعرتنا. (¬2) في ب: درهم. (¬3) أخرجه البخاري (3562)، (3566)، وأحمد (15337)، (27677)، والحاكم (2300)، والدارقطني (3/ 39)، وصححه الألباني -رحمه الله تعالى. (¬4) أخرجه الدارقطني (3/ 41) بسند ضعيف. (¬5) سقط من أ. (¬6) خرجه أبو داود (3561)، والترمذي (1266)، وابن ماجة (2400)، وأحمد (20098)، وضعفه العلامة الألباني -رحمه الله تعالى.

ومَنْ فصل بين ما يُغاب [عليه] (¬1) وبين ما لا يُغاب [عليه] (¬2) فقد جمل؛ لأنه استعمل جميع الأحاديث ومازجها بوجه من النظر، فيتأول على ما رُوي عنه عليه السلام بوجُوب الضمان في العارية فيما يُغابُ عليه، [إذا لم يعلم هلاكه. وما روى عنه من سقوط الضمان فيما لا يغاب عليه] (¬3). وفيما يُغاب عليه إذا عُلم هلاكه يُحمل على أن قولُه عليه السلام: "بل عاريةٌ مضمونةٌ مؤداة" (¬4) من الألفاظ التي لا تستقل بأنفسها، فلا يصحُّ الاحتجاج بها على وجوب الضمان؛ لأن ما لا يستقل بنفسه فوجهُهُ أن يقصرُ على سببه، ولا يُحمل على عمومه، ولا خلاف بين الأصوليين في ذلك، وإنما اختلفوا في اللفظ العام المستقلُّ بنفسِه. وإنما يصحُّ [الاستدلال] (¬5) بظاهر هذا الحديث، [في وجوب] (¬6) الضمان؛ لو قال عليه السلام مجاوبًا لصفوان؛ إذ قال له: أعاريةٌ مضمونة؟ أو "العارية مضمونة مؤداة". وأيضًا فإن في مقابلة هذا الحديث ما رُوي عنه قال: "بل عاريةٌ مؤادة"، فنفى الضمان، وأوجب الأداء. ويتأول أيضًا قوله عليه السلام: "على اليد ما أخذت حتى تُؤديه" (¬7) على بقاء العين، فأمّا مع تَلَفِهِ فلا يصح، ولا يجوز حمله على القيمة؛ ¬

_ (¬1) في ب: عنه. (¬2) في ب: عنه. (¬3) سقط من أ. (¬4) تقدم. (¬5) في ب: الاحتجاج. (¬6) في أ: بوجوب. (¬7) تقدم.

لأنه لم [يجد] (¬1) لها ذكر. وأما النظر باعتبار العارية [بالإجارة] (¬2)؛ لأنه مالٌ مقبوض لمنفعة القابض، وَوَجَبَ ألا يضمن قياسًا على الإجارة؛ لاتفاق الأئمة الثلاثة مالك، والشافعي، وأبو حنيفة أن الإجارة غير [مضمونة] (¬3). فأما [إن اشترط] (¬4) المستعير إسقاط الضمان فيما فيه الضمان، أو اشترط المُعير على المستعير إيجاب الضمان فيما لا ضمان فيه. فإن اشترط المُستعير سقوط الضمان فيما فيه [الضمان] (¬5)، فهل يُوفّى له بعُهدةِ شرطهِ، أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الشرط باطل، والضمان لازم، وهو قول ابن القاسم في بعض المدونة، وهو قول أشهب، وابن القاسم في "العتبية". والثاني: أنه يُوفى له بعُهدة شرطه، ويُسقط عنهُ الضمان، وهو قولُ أشهب في الصانع يشترط الإضمان عليه أنّ شرطهُ جائز، ولا ضمان عليه، فإذا أسقط الضمان عن الصُنّاع بذلك الشرط، فأحرى أن يُلزم في المستعير إذا أعارهُ على أن لا ضمان عليه؛ لأنه قد فعل المعروف معهُ من جهتين: وينبني الخلافُ على الخلاف: فيمن أسقط حقًا قبل وُجوبهِ، هل ¬

_ (¬1) في أ: يجب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: أن يشترط. (¬5) سقط من أ.

يسقط أم لا؟ والقولان [في ذلك] (¬1) في المذهب. فإن اشترط المُعير على المُستعير إيجاب الضمان فيما لا ضمان فيه، أو مع قيام البيّنة فيما يُغاب عليه، فهل [يوفي] (¬2) له بمقتضى الشرط أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن الشرط باطل والضمان ساقط، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه إن كان شرط عليه الضمان لأمرٍ خافهُ من طريقٍ مُخوِّفة أو نهرٍ أو لصوص أو ما أشبه ذلك، فالشرط لازم إن عطبت في الأمر الذي خافهُ، واشترط الضمان من أجلِه، وهو قول مطرّف في "الواضحة". وسبب الخلاف: اختلافهم في الشرط هل يُخرج العارية عن سنتها أو لا؟ فمن رأى أن يُوفِّي بمقتضى الشرط قال [: يخرجها عن سنتها الشرط، ومن رأى أنه لا يوفى بمقتضاه قال: يبطل الشرط، ولا يوفى بمقتضاه لأنه] (¬3) يُخرج العارية عن سنتها. وقال بعض المتأخرين: وينبغي إذا اشترط المُعير على المستعير الضمان فيما لا يُغابُ عليه، فأبطل ذلك الشرط بالحُكم عن المُستعير أن يلزمُهُ إجارة المثل في استعماله العارية؛ لأن الشرط يُخرج العارية عن حُكم العارية، وسنتها إلى باب [إجارة] (¬4) الفاسدة؛ لأن رب الدَّابة لم يرض أن يُعيرُه إياها إلا بشرط أن [يحوزها] (¬5) في ضمانه، فهو عوضٌ مجهول يُردُّ إلى ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) في ب: يحرزها.

المعلوم. فإذا وجب ضمان العارية على المستعير، فإنما يضمن قيمة الرقبة يوم انقضاء أجل العارية على ما نقصها الاستعمال المأذون فيه بعد يمينه: لقد ضاعت ضياعًا لا يقدرُ فيه على ردها؛ لأنه يتهم على أخذها بالقيمة بغير رضا صاحبها. وعلى القول بأنه لا ضمان عليه فيما لا يُغاب عنه، فإن استعار دابة بعدتها ثم ادعى ضياعها، فإنه يصدُق في عينِ الدابة، ولا يُصدّق في سرجها ولجامها؛ لأن ذلك مما يُغاب عليه. فإذا ردّ المستعير الدابة [المستعارة] (¬1) مع عبده أو أجيره أو جارهِ؛ فعطبت أو ضلّت فلا ضمان على المستعير، ولا على الرسول؛ لأن شأن الناس [على ذلك] (¬2) أن يردّوه مع الذي [عندهم] (¬3) من عبدٍ أو أجير، وإن لم يُعرف ضياع ذلك إلا من قول الرسول، فلا يُصدّق، وهو قول مُطرف، وابن الماجشون في "الواضحة". وأُجرة حمل العارية على المستعير قولًا واحدًا. والدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - لصفوان في السلاح الذي أعَارَهُ إياه: "اكْفِنا حملها" (¬4). وفي أُجرة ردِّها قولان: فقيل: على المُستعير، وهو الأظهر. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: يرسله. (¬4) تقدم.

وقيل على المُعير؛ لأن العارية معروف، فلا يُكلّف أجرًا بعد معروفٍ صنعَهُ [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

[المسألة الثانية] فيمن استعار عرصة ليبني فيها أو يغرس، ثم أراد إخراجه

[المسألة الثانية] فيمن استعار عرصة ليبنِي فيها أو يغرس، ثم أراد إخراجه ولا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يضرب لعاريته أجلًا. والثاني: أن يُعيره ولا يضرب لذلك أجلًا. فإن ضرب لعاريته أجلًا، فليس له إخراجَهُ حتى يحلّ الأجل؛ وسواء رام ذلك قبل أن يبني ويغرس أو بعد ما بني وغرس. فإذا حلّ أجل العارية أو أراد المستعير أن يخرج قبل الأجل، فإنه يخرج، وهل يُعطيه المُعير قيمة عملهِ قائمًا أو منقوضًا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المُدونة: أحدهما: أنه يُعطيه قيمتُه منقوضًا، ويأمرُه بقلعِه، وهو نصُّ قول ابن القاسم في المُدونة. والثاني: أنه يُعطيه قيمتهُ قائمًا، وهو قول المغيرة، وابن كنانة، ومطرف، وابن الماجشون، وروايتهم عن مالك؛ على ما حكاه سحنون في "العتبية"، وابن حبيب في "الواضحة"، ووقع في بعض نسخ "المُدونة" في رواية ابن هلال: أنه يأخذ قيمتهُ ولم يذكر منقوضًا، وظاهره قائمًا. فإن لم يضرب لعاريته أجلًا، فرأى إخراجه، فلا يخلو من أن يرومُه قبل أن يبني، ويغرس أو بعد ما بَنى. فإن رامُه قبل أن يبني ويغرس، فلِلمُعير إخراجه.

وإن كان ذلك بعد ما بني، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك بعدما مضى من الزمان ما يُعار إلى مثلهِ. وإما أن يكون قبل أن يمضي ذلك. فإن كان بعدما مضى من الزمان ما يُعار إلى مثله، هل يُمكَّن من ذلك أم لا؟ فالمذهب على خمسة أقوال: أحدها: أن ذلك له، ويُعطيه ما أنفق، وقيمة ما أنفق على اختلاف الواقع في "الكتاب" على ما سنبين توجيهه إن شاء الله، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه لا يُمكَّن من إخراجه، وإن أعطاهُ ما أنفق حتى يمضي من الزمان ما يعارُ إلى مثله من الأمد، وهي رواية الدمياطي عن ابن القاسم في "العتبية". والثالث: أن له إخراجه فيما قرُب أو بعُد؛ لأنه فرّط إذ لم يضرب أجلًا، ويُعطيه ربُّ الأرض قيمة ذلك مقلوعًا ويأخذُهُ، أو يأمرُهُ بقلعِه، وهو قولُ أشهب في "كتابه". والرابع: التفصيل بين أن يكون ذلك لحاجته إلى عرصته أو إلى بيعها [لا] (¬1) لشرٍ وقع بينهما، فيجوز ذلك له. وإن كان لغير حاجة و [لكن] (¬2) لشر وقع بينهما، فليس ذلك له، وهي رواية الدمياطي عن أشهب في "العتبية". والخامس: التفصيل بين أن يكون ذلك قبل أن يسكُن فلا يُخرجه، وإن أعطاهُ قيمتهُ قائمًا إلا برضاه، أو يكون ذلك بعد أن سكن، فله إخراجه، وهو قولُ أصبغ، وبه أخذ يحيى بن عمر. فإن بنى وغرس على أنه إذا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

حلّ الأجل ترك الغرس، والبناء لرب الأرض، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يُعيرُه على أنهُ إذا [حل الأجل] (¬1) خرجَ وتَرَكَ [الغرسَ والبناء] (¬2) لربِّ الأرض. والثاني: أن يُعيرَهُ على أنه إذا دخل الأجل أخذ قيمتهُ قائمًا. والثالث: أن ينبني على أنهُ إذا حلّ الأجل قَلَعَ غرسهُ، ونقض بنيانهُ، وترك عرصته. فأما الوجه الأول: إذا أعارهُ على أنّهُ إذا خرج ترك البناء، والغرس لربِّ الأرض، فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يضرب لعاريته أجلًا ويُبين البناء. والثاني: أن يضرب الأجل، ولم يُبين البناء. والثالث: أن يبين البناء، ولم يضرب الأجل. والرابع: ألا يُبين [البناء] (¬3)، ولا يضرب الأجل. فأما إذا ضرب لعاريته أجلًا وبيّنَ البناء، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون [الأجل] (¬4) قريبًا أو بعيدًا. فإن كان قريبًا مما يجوز للبائع أن يستثنى سكناه إذا باع [داره] (¬5)، ولا يتغير البناء إلى ذلك الأمد [فإنه حوز قولًا واحدًا، فكأنه المعير قد أكرى أرضه إلى الأمد] (¬6) المضروب لذلك البناء. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: القيمة. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: الأمد. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

فإن كان بعيدًا مثل عشر سنين وما قاربها، فلا يخلو من بنَّاهُ من البنيان من أن يتغير إلى ذلك الأمد أو لا يتغير، فإن كان يتغير إلى ذلك الأمد؛ فإن ذلك لا يجوز، ولا يدري كيف يصير البناء في هذا الأمد، وهو مذهب "الكتاب"؛ لأنه ذكر في السؤال عشر سنين. فإن كان البناء لا يتغير إلى ذلك الأمد، مثل: أنْ يصِف [بناء] (¬1) مُتقنًا لا يُمكن تغييرهُ هذا الأمد، جاز ذلك، وهو تأويل ما في "المدونة". وإذا ضرب الأجل، ولم يُبين البناء أو بيّن البناء، ولم يضرب أجلًا، أو لم يُبين البناء، ولا ضرب أجلًا، كان ذلك فاسدًا قولًا واحدًا، وهل يُفسخ ذلك بينهما في الحال أو يمضي ذلك إلى أجله بالقيمة؟ فلا يخلو من أن يعثُر على ذلك قبل أن يبنى أو بعد ما بَنَى. فإن عُثر على ذلك قبل أن يبنى، فإنه يُفسخ قولًا واحدًا. فإن عُثر على ذلك بعدما بني، فهل يفوت بالبناء أو يُفسخ أم لا؟ على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أنه يُفسخ، ويكون النقض للباني، وعليه كراء القاعة، ويُخير عليه المُعير إن شاء أمرُه بقلعه، وإن شاء أعطاه قيمتهُ منقوضًا، وهو قول ابن القاسم [في الكتاب] (¬2) في "كتاب العارية". والثاني: أنه يفوت بالبناء، ولا يفسخ، ويسكن إلى الأمد المضروب أو [إلى مثله] (¬3) إن لم يضربا أجلًا، وعليه كراء المثل، وهو قوله فيمن أكرى كراءً فاسدًا، فبنى أنّ لهُ السُكنى إلى المُدة، وعليه كراء المثل. ¬

_ (¬1) في ب: بنيانًا. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: إلى ما يعار إليه.

وينبني الخلاف على الخلاف في الأصول، هل هي قابضة على ملاكها أم لا؟ فمن رأى أنها قابضة على ملاكها قال: إنه يفوتُ بالبناء، وله السُكنى إلى الأمد. ومن رأى أنها غير قابضة على ملاكها قال: بفسخه ولا يسكُن؛ لأن رب الأرض لم [يقبض] (¬1) البنيان بعدُ فكأنه باقٍ في يد بائعهِ. وأما الغرس: إذا أعارُه أرضه على أن يغرس فيه المُستعير إلى أجل كذا، فإذا حلّ الأجل كان الغرس للمُعير، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنّ ذلك لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في كتاب [كراء] (¬2) الدُور والأرضين. والثاني: أن ذلك جائز، وهو قولُ أشهب في: الكراء [إذا] (¬3) اكترى الأرض على أن يغرس فيها شجرًا على أن يكون لربِّ الأرض إذا حلَّ الأجل قياسًا على البُنيان. وعلى القول بأن ذلك لا يجوز، واختلف في علِّته على ثلاثة أقوال: أحدها: أن العلة في ذلك غرره؛ إذ لا يدري هل يُسلِّم الشجر إلى ذلك الأجل أم لا؟ وبهِ علل في [الكتاب] (¬4). والثاني: أن العلة في ذلك كراء الأرض بالطعام. ¬

_ (¬1) في أ: يمض. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: الكتب.

والثالث: أنّ العلة في ذلك بيع الطعام قبل بُدوّ الصلاح. وينبني الخلافُ فيها على الخلاف في المغارسة الفاسدة: هل الشجر فيها على ملكِ الغارس أو على ملك رب الأرض؟ فمَنْ علّل المنع بأن ذلك كراء الأرض بالطعام، فقد [جعل] (¬1) الشجرة على ملك الغارس؛ إذ قد يعطيها، وفيها ثمر، فيصير قد اكترى الأرض بالطعام، وهو مذهب ابن القاسم الذي يقول في المغارسة الفاسدة أنّ الشجر على ملك الغارس. ومَنْ علّل بأنهُ يبيع الثمر قبل بُدوّ [صلاحه] (¬2) جَعَلَ الغرسَ لربِّ الأرض؛ لأن أرضهُ قابضة له بوضع العامل ذلك فيها، ويكون للعامل قيمتهُ يوم وضعهُ في الأرض، فصار ربُّ الأرض أعطى للعامل في [إجارته] (¬3) ثمن هذا الغرس قبل أن يَبدو صلاحهُ [وذلك بيع الثمر قبل بدو صلاحه] (¬4) [وهذا] (¬5) مستوعب في "كتاب كراء الأرض" في مسألة مفردة. فأما الوجه الثاني: إذا بني على أنهُ إذا حلّ الأجل أخذ قيمتَه قائمًا، فإن ذلك لا يجوز، كأنه أكرى الأرض تلك المُدّة بما يُغادر فيها من البناء بقيمته، يوم يتركهُ، وهذا من الغَرَر وسلف جر منفعة، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في "الواضحة" وبه قال أصبغ، فإذا بني على هذا، فَلَهُ قيمة بنيانه قائمًا يوم فرغ منه أو ما أنفق فيه، ثم يكون لرب العرصة قيمة كرائها مبنية من يوم سكن، وهو قول من ذكرنا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: صلاحها. (¬3) في ب: أجرته. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: وفيها.

وأما الغرر فظاهر؛ إذ لا يدري كيف يصير البناء عند حلول الأجل، وأما كونُه سلفًا جرّ نفعًا، فلكون الغارس وجبت له القيمة بنفس ما فرغ من البناء على ربّ الأرض، فتأخيرُه إياه بتلك القيمة إلى الأجل سلفٌ منه لرب الأرض، وجرّ به نفعًا وهو استنفاعه بالأرض إلى الأمد المضرب. وأما الوجه الثالث: إذا بني على أنه إذا حلّ الأجل، قَلَعَ بُنيانه وفرغ العَرَصة لربها، فالشرط باطل، فإن ذلك من باب الضرر، وإنما يأخُذ قيمتُه باختيار ربّ العرصة، وهو قول مطرف، وابن الماجشون. واختلف هل يأخذ قيمتهُ منقوضًا أو قائمًا على قولين: أحدهما: أنه يأخذ قيمتهُ منقوضًا، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يأخذ قيمتهُ قائمًا، وهو قول مطرف، وعبد الملك. وقد اختلف المتأخرون في تأويل قوله في المُدونة: "يغرم ما أنفق"، وفي موضع آخر: يغرم قيمة ما أنفق. فمنهم من قال: إن ذلك اختلاف [قول] (¬1) وهو أسعد بظاهر الكتاب. ومنهم من قال: إن ذلك اختلاف حال، فيكون قولهُ "يغرم ما أنفق" إن كان تولّى العمل بنفسه، ولم يستأجر عليه، ولا اشترى أنقاضًا، وإنما أخرجها من عنده. والتأويل الثاني: أظهر في المعنى، وقد قيل غير ذلك، والتأويلات أقرب [وأشبه في الظاهر والمعنى، والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: من القول. (¬2) سقط من أ.

المسألة الثالثة في اختلاف المعير والمستعير وشهادة الرسول في ذلك

المسألة الثالثة في اختلاف المُعير والمستعير وشهادة الرسول في ذلك واختلافهما يرجع إلى اختلاف المُتكاريين، وقد استوفينا الكلام عليه في "كتاب الرواحل والدواب"، ونُفرد الكلام هاهنا على فصلٍ لم نتكلم عليه هناك، وذلك: إذا بعَث رسولًا إلى رجل يُعيرُه دابة يركبُها إلى "برقة"، فأعارَه فركبها المُستعير إلى "برقة" فعطبت، فقال المُعير: إنما أعرتُهُ إلى فلسطين. فلا يخلو الرسول من أن يُقرَّ بالتعدِّي أو لا يُقر. فإن أقرَّ بالتعدي واعترف بأنه قال لربّ الدابة غير ما أمرهُ به المُستعير، فلا تخلو المسافتان من أنْ تتساويا في السهولة، والوُعورة أو تختلفا. فإن تساوت، فلا ضمان على واحدٍ منهما، لا على الرسول، ولا على المستعير؛ لأن المُستعير نفسُه لو أصرفها إلى غير المسافة التي استعار إليها، وكانت مثلَها لسقَطَ عنهُ الضمان. وإن اختلفت في السهولة والمرونة، وكانت التي ركبها فيها أشق من التي أذن فيها المُعير، فالرسول ضامن لقيمة الدابة دون المستعير. فإن لم يعترف الرسول بالتعدِّي، والمُعير، والمُستعير قد اختلفا، فإن تساوت المسافتان، فلا ضمان على المستعير. وإن كان مسافة الركوب أشق، فلا يخلو اختلافهما من أن يكون قبل الركوب أو بعد الركوب. فإن كان قبل الركوب، فالقولُ قول المُعير مع يمينه قولًا واحدًا.

وإن كان بعد الركوب، وعطبت الدابة، فالقول قول المستعير في إسقاط الضمان عن نفسه، وهل يلزمهُ كراء ما بين المسافتين أم لا؟ فالمذهب على قولين [قائمين] (¬1) من المدونة: أحدهما: أنه لا كراء عليه، [وهو قول ابن القاسم في "المدونة"] (¬2) [فيما] (¬3) وجدهُ في "مسائل عبد الرحيم" في "كتاب العارية" من "المدونة". والثاني: أنه يلزمُهُ كراء [ما] (¬4) بين المسافتين، وهو قول سحنون في بعض روايات "المُدونة"، وإن القول قول المُستعير في إسقاط الضمان عن نفسه، والقول قولُ المُعير في وجوب الكراء له، وهو قول أشهب في "مدونته"، وبه أخذ ابن حبيب. وعلى القول بأن المُعير يأخذ الكراء، هل يأخذُهُ بيمين أو بغير يمين؟ فإن قامت له البينة أن الرسول قال له: إلى فلسطين، فيأخذهُ بغير يمين، وإن لم تقُم له بيّنة فلا يأخذُه إلا بيمين سواءً صدّقهُ الرسول أو كذّبهُ، ولا يُنظر إلى شهادة الرسول [لواحد منهما] (¬5) [والحمد لله وحده وصلى الله على محمَّد] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: في. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ. (¬6) زيادة من ب.

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة

كتاب اللُّقَطَة تحصيل مشكلات هذا الكتاب [وجملتها ثلاثة مسائل] (¬1): [المسألة الأولى] في أخذ اللُّقَطة وتركها، أيهما أفضل؟ واللُّقطة: بضمِّ اللام و [فتح] (¬2) القاف: ما التقط وأصل الالتقاط: وجود الشيء على غير قصد وطلب، فإذا ثبت ذلك، فلا تخلو اللُّقطة من أربعة أوجُه: أحدهما: أن تكون [اللقطة] (¬3) بين قومٍ مأمونين، والإمام عادل. والثاني: أن تكون بين قوم غير مأمونين، والإمام [عادل. والثالث: أن تكون بين قوم مأمونين، والإمام غير عادل. والرابع: أن تكون بين قوم غير مأمونين والإمام] (¬4) جائر. فأما إن كانت: بين قومٍ مأمونين، والإمام عدل، فلا تخلو من أن تكون: لُقطة مكة أو لُقطةُ الحاج أو تكون لُقطة سائر البلاد. فإن كانت لُقطة مكة أو لُقطةُ الحاج، فإنّ أخذها ورفعها ممنوع. أما لُقطة الحاج: فقد انعقد الإجماع على أنه لا يجوز التقاطها , لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فإن التقطها مُلتقط فعليه من تعريفها ما يجبُ عليه في غيرها. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

وأما لُقطة مكة: فقد رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - فيها لفظان: أحدهما: لا ترفع لُقطتها إلا لُمنشد. والثاني: "لا يُرفع لُقطتها إلا منشد" (¬1)، فالمعنى [الأول] (¬2) أنها: لا تُرفع إلا لمن يُنشدُها، فيُقال [له: هذا لك] (¬3). والمعنى الثاني: أنه لا يلتقطها إلا مَن يُعرِّف الناس بها. فعلى [المعنى] (¬4) الأول: تكون كلُقطة الحاج. وعلى المعنى الثاني: يكون حُكمها حُكم سائر البلاد إلا في التعريف، وأنَّهُ يُعرِّف بها أبدًا، وإن طال زمانه، كذا قال علماؤُنا [رضي الله عنهم] (¬5). فإن كانت لُقطة سائر البلاد، فلا خلاف في المذهب في جواز أخذها، وإنما اختلفوا في الأفضل في الأخذ، والترك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ تركها أفضل من أخذها جُملةً بلا تفصيل، وهو قولُ مالك، وجماعة من أهل العلم على ما نقلهُ القاضي في النهاية، وهو مذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وهذا القول قائم من "المدونة" من "مسألة الكساء" حيث قال مالك: بأنّه قد أحسن حين ردّهُ [وأصاب] (¬6). والثاني: أن أخذها أفضل من تركها؛ لأنه مالٌ يجمع على ربّه ويمسّك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6486)، ومسلم (1355). (¬2) في أ، ب: الواحد. (¬3) في أ: لها ذلك. (¬4) سقط من ب. (¬5) زيادة من أ. (¬6) في أ: وأطاب.

عليه، وهو أحد قولى مالك، وهو مذهب سعيد بن المسيب رحمه الله، [وذهب] (¬1) إلى أن حُرمة المال كحُرمة النفس. والثالث: التفصيل بين اليسير والكثير، فإن كان كثيرًا [فأخذه] (¬2) أفضل، وإن كان يسيرًا فتركَه أفضل، وهي إحدى [روايات] (¬3) ابن القاسم عن مالك، وهو قول أشهب. وعلى القول بأن تركها أفضل، فإن أخذها ثم ردها في موضعها، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يأخذها بنية الاختيار. والثاني: أن يأخذها بنية التعريف بها. فإن أخذها بنية الاختيار، مثل أن يمرَّ بها فيُعرفها لقومٍ سائرين، فيصيح لهم أهذا لكم فيقولون: لا، فيردها فضاعت فهذا لا خلاف أعلمه في المذهب أنه لا ضمان عليه قرب أو بعد. وإن أخذها بنية: التعريف بها ثم ردّها، فضاعت: فالمذهب في ضمانه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ضامِنٌ لها جُملة، وهو تأويل بعض الشيوخ على قول ابن القاسم في "الكتاب"، وعليه يدلُّ احتجاجُهُ في "الكتاب"، وهذا القولُ حكاهُ القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في المسألة، ولا فرق في ذلك بين القُرب والبُعد. والثاني: أنهُ لا ضمان عليه جُملة، رَدَّهَا بالقُرب أو بالبُعد، وهو قول أشهب. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: فأخذها. (¬3) في أ: رواية.

والثالث: التفصيل بين القُرب والبُعد، فإن ردَّهُ [بالقرب] (¬1) لا ضمان عليه، وإن ردّهُ بالبُعد ضمِن، وهو نصُ قول ابن القاسم في البُعد، وتأوّل عليه في "المدونة" أنه لا ضمان عليه، بدليل قوله في "الكتاب" فأرى أن من أخذها على غير هذا الوجه حتى يتبين بها عن ذلك الموضع إلى قوله: "فإن [رده] (¬2) بعدما ذهب به، ومكث في يده فهو ضامن"، ومن قوله أيضًا: "والذي أراد مالك أنه ردّها مكانُه من ساعته"، وإلى هذا التأويل نحا [الشيخ] (¬3) أبو الحسن اللخمي رحمه الله. وأما الوجه الثاني: إذا كانت بين قومٍ غير مأمونين، والإمام عدل، فأخذها واجب قولًا واحدًا، لما في ذلك من صيانة مال امرئٍ مسلم. وأما الوجه الثالث: إذا كانت بين قومٍ مأمونين، والإمام غير عدل، فالأفضل ألا يلتقطها, ولا يتعرض لها. وأما الوجه الرابع: إذا كانت بين قومٍ غير مأمونين، والإمام جائر، فهو مُخيّر إن شاء أخذها، وإن شاء تركها، وذلك بحسب ما يغلُب على ظَنِّه من سلامتها وهلاكها. فإذا ثبت ذلك: فما الحكم في التعريف بها إذا أخذها على سائر الوجوه التي ذكرناها؟ وذلك يختلف باختلاف اللُقطة [وهي تنقسم] (¬4) على ثلاثة أقسام: أحدها: [ما] (¬5) يبقى في يد ملتقطه، ويُخشى عليه التلف إن ترك. ¬

_ (¬1) في أ: في القرب. (¬2) في أ: ردها. (¬3) زيادة من ب. (¬4) في ب: وذلك ينقسم. (¬5) سقط من أ.

[والثاني: ما لا يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف: إن ترك] (¬1). والثالث: ما يبقى في يد ملتقطه ولا يخشى عليه التلف إن تُرك. فأما الوجه الأول: وهو ما يبقى في يد مُلْتقطه، ويُخشى عليه التلف إن تُرك كالدنانير، والدراهم، والعروض، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون يسيرًا [جدًا] (¬2) ولا بال له، ولا قدْر لقيمته، ويعلم أن صاحبهُ لا يطلبهُ لتفاهته. والثاني: أن يكون يسيرًا إلا أنّ له قدرًا ومنفعة، [وقد شح] (¬3) به صاحبهُ ويطلبهُ. والثالث: أن يكون كثيرًا له قدرٌ وبال. فأما الوجه الأول من الوجه الأول: إذا كان يسيرًا لا بال له، ويعلم أن صاحبهُ لا يطلبُهُ، فإن هذا لا يُعرّف به، وهو لمن وجده إن شاء أكلَهُ، وإن شاء تصدّق به. والأصل فيه: ما رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ بتمرةٍ في الطريق فقال: "لولا أنِّي خشيتُ أن تكون مِنْ الصدقة لأكلتها" (¬4)، لم يذكُر فيها تعريفًا، وهو قول أشهب في الذي يجد العصا أو السوْط: أنه يُعرِّف به، فإن لم يفعل، فأرجو أن يكون خفيفًا. وأما الوجه الثاني: إذا كان يسيرًا إلا أنّ له قدرًا وبالًا، ومنفعة، وقد يشح به صاحبهُ ويطلبُه، فهذا لا خلاف في وجوب التعريف به إلا أنه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: ويبيح. (¬4) تقدم.

يختلفُ في حدِّهِ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن التعريف به سنة كالذي له بال، وهو ظاهر ما حكى ابن القاسم عن مالك في المدونة. والثاني: أنه يُعرفها أيامًا، وهو قول ابن وهب في "العتبية"، و [هو] (¬1) قول ابن القاسم [من رواية] (¬2) في "المدونة". وأما الوجه الثالث: إذا كان كثيرًا له بال، وقدر، فهذا لا خلاف في وجوب التعريف به حولًا كاملًا. فإن استنفقهُ واستهلكهُ قبل السنة، فإنهُ يضمن قولًا واحدًا. فإن ضاعت بغير سببهِ فلا ضمان عليه، وهو مُصدّقٌ بغير يمين. وأما حكمها بعد التعريف بها سنة، فلا خلاف بين فقهاء الأمصار، أن لهُ أن يتصدق [بها] (¬3) بعد السنة غنيًا [كان] (¬4) أو فقيرًا. واتفقوا أيضًا أنَّ له أن يأكلها بعد السنة إن كان فقيرًا، ويضمنها. واختلف في الغنيّ، هل يجوز له أن يأكلها بعد السنة، ويضمن أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجوز [له] (¬5) أن يأكلها ويضمنها، وهو قولُ مالك، والشافعي. والثاني: أنه لا يأكلها , ولا يُنفقها قليلة كانت أو كثيرة، وهو قولُ ابن القاسم في "النوادر"، وهو مذهب أبو حنيفة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: من رأيه. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

والثالث: التفصيل بين اليسير والكثير، فالكثير لا يأكلُهُ، [واليسير] (¬1) يجوزُ له أن يأكله، وهو قول ابن وهب في "النوادر". أيضًا، وكُلُّهم مُتفقون على أنّهُ ضامِنٌ لها إن أكلها بعد السنة أو تصدّق بها، إلا "أهلُ الظاهر"، فإنه قالوا: لا ضمان عليه. وسبب الخلاف: تعارُض أحاديث اللُّقطة لأصل الشرع، فمن ذلك حديث يزيد بن خالد الجهني -وهو حديث متفق على صحته- قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله فسألهُ عن اللُّقطة فقال له: "اعرف عفاصها، ووكاءَهَا ثُمَّ عرّفها سنة، فإن جاء وإلا فشأنك بها" (¬2)، وبهذا الحديث استدلّ من يقول بجواز أكلها بعد العام مع الضمان. ومنها ما خرّجهُ البخاري، والترمذي عن سُويد بن غفلة، قال: لقيتُ أُبيّ بن كعب فقال: وجدتُ صُرّةٌ فيها مائة دينار، فأتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "عَرِّفها حوْلًا" فَعرّفها فلم أجد، فأتيته ثلاثًا، فقال: "احفظ عفاصها، ووكاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا فاستمتع بها" (¬3)، وزاد الترمذي وأبو داود: "فاستنفقها" (¬4)، وبهذا يستدلُّ أهلُ الظاهر. ومقتضى دليل الشرع أنه لا يحلُّ مال امرئٍ مُسلم إلا عن طيب نفسٍ منه. فمن غلّب أصل الشرع علي ظاهر الحديث قال: لا يجوز لهُ فيها التصرفُ إلا بالصدقة، على أن يخير صاحبها إذا قدَم. ¬

_ (¬1) في أ: والقليل. (¬2) أخرجه البخاري (2243)، ومسلم (1722). (¬3) أخرجه البخاري (2295). (¬4) أخرجه أبو داود (1704)، (1706)، (1707)، والترمذي (1372)، (1373)، وابن ماجة (2504)، وأحمد (17087).

ومن غلّب ظاهر الحديث على الأصل، ورأى أنه مُستثنى منهُ، قال: تحلُّ له بعد العام، وهي مالٌ من مالهِ، ولا يضمنها إن جاء صاحبها. ومن توسَّط، قال: يتصرّفُ فيها بعد العام، وإن كان غنيًا: على جهة الضمان. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: وهو ما لا يبقى في يدِ مُلتقطهِ، ويُخشى عليه التلف إن ترَك، كالشاة في القفر، أو الطعام الذي يُسرع إليه الفساد. وأما الشاة فلا تخلو من وجهين: إما أن يجدها بقُرب العمران. أو يجدها بعيد العمران. فإن وجدها بِقُربِ العمران فلا يأكلها، [وليعرف بها في أقرب العمران إليه، فإن وجدها بعيدًا من العمران، فلا يخلو من أن يحملها حكم إلى العمران أو يذبحها، فإن حملها إلى العمران فلا يأكلها] (¬1) وحُكمها ما وُجد في العمران [على] (¬2) سواء فإن لم يأكلها، فلا تخلو من: أن تكون [معه] (¬3) ماشية في [الفلاة] (¬4) أو لم تكن معه ماشية. فإن كانت معهُ ماشية، فلا يأكلها, ولا يذبحها، وتكون مع ماشيته، إن جاء، وله حلابُها, ولا يُتبع بها إن جزها، فإن ذبحها ضَمنَها، ذَبَحَهَا قبل السنة أو بعدها، إلا أن يخاف عليها الموتُ ثمّ لا شيء عَليه، إلا أن يقدر على بيع لَحمها، وهو قول ابن نافع عن مالك، قال سحنون: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: له. (¬4) في أ: الفلوات.

وكذلك شاة وجدها في غَنَمِه، فهي كاللُّقطة يتصدقُ بها بعد السنة ولا يذبحها, ولا بأس أن يأكل لَبَنَها، وهذا خفيف. فإن لم تكن معهُ ماشية، وإنَّمَا هو مُنفردٌ بنفسه، وبعياله، فلا خلاف في المذهب أن له أن يذبحها ويأكلها ثمَّ لا ضمان عليه [لصاحبها] (¬1) إن جاء بعد ذلك، لقوله عليه السلام: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" (¬2)، فأتى باللام التي هي للتمليك، وساوى [بينه] (¬3) وبين الذئب، الذي لا ضمان عليه. فإن ذبحها، وجاء بلحمها إلى العُمران فله أكلُهُ، كان غنيًا أو [فقيرًا] (¬4) أو يصير لحمها وجلدها مالًا من ماله، ويطيبُ له ذلك، وليس عليه أن يُعرِّفها، فإن جاء ربُّها بعد ذلك، فلا ضمان عليه إلا أن يأتي، ولحمُها قائمٌ بيدِهِ، فيكونُ أحَقُّ به. وهذا كلُّهُ نص قول أصبغ في "العتبية". وفي المسألة: قولٌ آخر أنَّهُ لا يأكلُهُ؛ بل يبيعُهُ، ويُوقف ثمنهُ، فإنْ أكلَهُ بعد قدومِه بهِ ضمِنَهُ لربِّه، وهو قول غير أصبغ في الطعام في "النوادر". وأمّا الطعام الذي لا يبقى، فلا يخلو مِنْ وجهين: إما أن يجدهُ في العُمران. أو يجدُهُ في فيافي الأرض. فإن وجدهُ في العُمران، فلا خلاف أنَّهُ يبيعَهُ ويُوقف ثمنهُ، فإنْ أكَلَهُ ¬

_ (¬1) في أ: لصاحبه. (¬2) تقدم. (¬3) في أ: بينها. (¬4) في ب: لم يكن.

أو تصدّق به، هل يضمن أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ضامنٌ له، أكلهُ أو تصدّق به، وهو ظاهر قولُ "أشهب" في "النوادر". والثاني: أنه لا ضمان عليه، أكلهُ أو تصدّق به، وهو ظاهر قولُ ابن القاسم في "المُدونة". والثالث: [أنه] (¬1) إنْ أكْلَهُ ضمنهُ لانتفاعه به، وإنْ تصدّق به لم يضمنْه، وهو قولُ ابن حبيب في "الواضحة". فإن وَجَدَهُ في فيافي الأرض: فلا يخلو من أن يأكُلَه هناك أو يصل به إلى العمران. فإن أكلهُ هناك فلا ضمان عليه قولًا واحدًا في المذهب غنيًا كان أو فقيرًا كالشاة. فإن حملَهُ إلى العُمران هل يضمنهُ إنْ أكلَهُ أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنّهُ ضامنٌ له؛ لأنَّ عليه أن يبيعَهُ ويُوقف ثمنُه، وهذا القول حكاهُ الشيخ أبو محمَّد في "النوادر". والثاني: أنه لا ضمان عليه، وهو قول أصبغ في "العتبية" في اللحم. وأمّا الوجه الثالث من أصل التقسيم: وهو ما يبقى في يدِ مُلتقطه، ولا يخشى عليه التلف إن تركَهُ كالإبل، فلا يخلو من وجهين: إما أن يجدها في مستعتب [من] (¬2) الأرض أو في مسبعة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن وجدها في مستعتب، فلا يخلو من أن يكون ذلك: في زمن العدل أو في زمن الجور. فإن كان ذلك في زمن عدْلٍ، وصلاح الناس، فلا يأخذها ولا يتعرض لها , لقوله عليه السلام: "ما لَكَ ولها، ومعها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها" (¬1). فإن أُخذت عُرِّفَت، فإن لم تُعَرَّف رُدَّت حيثُ وُجدت، على ما جاء عن عمر رضي الله عنه. فإن كان في زمن الجوز، هل يكونُ حكمها حُكمِ ضالة الغنم أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك عمومٌ في زمنِ العدل، أو في زمنِ الجور، وهو ظاهر قولُ مالك في "المدونة"، وهو قول أشهب في "العتبية". والثاني: أن ذلك خاصٌ بزمنِ العدل، وأما زمنِ الجور، وفساد الناس، فالحُكم [فيها] (¬2) أن تؤخذ وتُعرف، فإن لم تُعرف: بيعت، ووُقف ثمنُها لصاحبها. فإن لم تُعرف: بيعت، ووُقف ثمنُها لصاحبها. فإن لم يأتِ ويئس منه، فتصدّق به عنه، على ما فعلَهُ عثمان رضي الله عنه لمَّا دخل الناس زمن الفساد، وهو أحد قولي مالك أيضًا. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه بَنَى [للضوال] (¬3) [مربطًا] (¬4) يُعلِّقها فيه علقًا، لا يُسمِّنُها ولا يُهزلها من بيت المال، فمن أقام بينة على شيء أخذهُ، وإلا ثبتت على حالها لا يبيعها، واستحسن ذلك سعيد بن ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: مربدًا.

المُسَيِّب (¬1). فإن وجدها في مسبعةٍ: وحيث يَخاف عليها السِّباع، هل يُحكم [عليها] (¬2) بحُكم الغنم أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنّ لها حُكم ضالة الغنم لو أخذها فأكلها. والثاني: أنها تُؤخذ فتُعرّف؛ إذ لا مشقة في حلبها، وحكى القولين: القاضي أبو الوليد بن رشد. وضالة البقر كضالة الغنم إلا أن يكون لها من المنع بنفسها، والعيش في المرعى ما يكون للإبل، فيكون لها حُكم الإبل، وهو قول أشهب في "مدونته". وأما ضالة الدواب من الخيل، والبغال، والحمير، هل تؤخذ كضوالِّ الغنم، والبقر أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها كضوال البقر، والغنم، يُعرف بها، فإن لم يأت لها طالبٌ تصدّق بها، وهو قولُ ابن القاسم. والثاني: أنها لا تُؤخذ أصلًا ولا يُتعرض لها؛ لأن النفقة [عليها] (¬3) تسبب إلى إخراجها من أيدي أصحابها، ورُبَّما جاوزت النفقة ثمنها، وهو قولُ ابن كنانة في "النوادر". ولو أخذها [فله] (¬4) أن يركبها من موضع وجدها إلى موضعه، وأما في حوائجه فلا، فإن فعل ضمنها إن عطبت، وهو قول ابن حبيب عن مُطَرِّف. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 369). (¬2) في أ: لها. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من الأصول.

[المسألة الثانية] فيما تستحق به اللقطة من معرفة العفاص والوكاء

[المسألة الثانية] فيما تستحق به اللُّقطة من معرفة العفاص والوكاء والعفاص: الخِرقة، والوكاء: [الذي يكون فيه] (¬1) الشيء المُلتقط. والوكاء: مَدود الخيط الذي يُشد به، وقد قيل بعكس ذلك، وهو وَهْم، والأول أصوب عند أهل اللُّغَة. ولا يخلو واصف اللُّقطة من أربع أوجُه: إمّا أن: يصف العِفَاص والوكاء، والعدد، وصفة العدد. وإمَّا يُعرّف العِفاص، والوكاء، والعدد، وأخطأ في صفة الدنانير، والدراهم. وإما أن يُعرّف العِفاص والوكاء وصفة الدنانير والدراهم، وأخطأ العدد. وإما أن يعرف العفاص دون الوكاء أو الوكاء دون العِفاص. فإن عرّف العفاص، والوكاء، والعدد والسكّة، فإنها تُدفع له قولًا واحدًا. واختُلف هل تُدفع له بيمين أو بغير يمين؟ على قولين قائمين من المدونة: أنها تُدفع له بغير يمين، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنها لا تُدفع إليه إلا بيمين، وهو قولُ أشهب. وسبب الخلاف: اختلافهم في شاهد الحال، هل يقوم مقام الشاهدين أم لا، وإن عرف العفاص، والوكاء، وعرف العدد، وأخطأ [في] ¬

_ (¬1) سقط من أ.

صفة الدنانير [والدراهم: فإنه لا يعطاها، فإن عرف العفاص والوكاء، وصفة الدنانير، وأخطأ في عددها] (¬1) فلا يخلو خطؤهُ في العدد من أن يصف عددًا، فيُصيب أقل أو يصيب أكثر -فإن أصاب أكثر مما وصف، ولم يخطئ شيئًا كما لو أخطأ في السكَّة. فإن أصاب أقل، فإنه يُعطاها، وقال أشهب: لأني أخاف أن يغتال فيها. وقيل: إنّهُ لا يُعطى شيئًا كما لو أخطأ في الزيادة، وهو قول: أصبغ، وابن عبد الحكم، أنّهُ لا يُعطى في الخطأ شيئًا. وأمّا إن عرف العفاص، وجَهل الوكاء أو أخطأ فيه، ووصفهُ بصفةٍ ثم وُجد على صفةٍ أخرى أو عرف الوكاء، وجهل العفاص أو أخطأ فيه، وعرّف مع ذلك بقية الأوصاف أو جهلها، فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا شيء له إلا بمعرفة جميع الأوصاف، وهو قول أصبغ، وابن عبد الحكم. والثاني: أنه يستبرأ أمرُه، فإن لم يأت أحد بأثبت مما [أتى به دفعت إليه، وهو أحد قولي أصبغ في العتبية أيضًا. والثالث: أنه إن ادعى الجهالة] (¬2) استبرئ أمره، فإن غلط لم يُكن له شيء، وهذا هو المُختار عند حُذَاق المتأخرين "كالقاضي أبي الوليد، والشيخ أبي إسحاق التونسي". وسبب الخلاف: اختلافهم في قوله عليه السلام: "اعرف عفاصها ووكائها" (¬3) هل لابد من اعتبار الوجهين جميعًا حتى لو انخرم بعضها لم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) تقدم.

يصح منها شيء، وإنما تُعتبر الأوصاف على الجملة؟ فإذا انخرم بعضها، فتستحق بمعرفة ما عُرف منها كشروط الخلطة. ولو كان الموجود دينارًا غير مَصرور، فوصف سكّتَهُ: هل يُعطى بذلك أو لابد من زيادة وصف آخر أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يأخذه بصفة سكته، وهو قول يحيى بن عمر. والثاني: أنه لا يُعطاه حتى يذكر ذلك من صفة أو علامةٍ فيه، وهو قول سحنُون. فإن [عرف] (¬1) [واحدٌ] (¬2) العفاص، والوكاء، وعرّف آخر [عدد] (¬3) الدنانير ووزنها، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها لِمن عرّف العفاص، والوكاء، ولا حقّ فيها لمن وصف العدد، وهو قول أصبغ. والثاني: أنها تُقَسَّمُ بينهما كما لو تواردا على معرفة العِفاص، والوكاء بعد أن يتحالفا، وهو استحسان ابن حبيب. فإن استحقها رجلٌ فأخذها، ثم جاء آخر فادعاها، فلا يخلو ذلك من أربعة [أوجه] (¬4): أحدها: أن يأخذها الأول ببيِّنة، ثم ادعاها الآخر ببيّنة. والثاني: أن يأخذها بالصفة، ثمّ جاء آخر بتلك الصفة. والثالث: أن يأخذها ببيّنة، ثم جاء عليها الآخر بصفة. ¬

_ (¬1) في أ: وجد. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: عدة. (¬4) سقط من أ.

والرابع: أن يأخذها بالصفة، ثم ادعاها الآخر ببينة. فأما الوجه الأول: إذا أخذها الأول من مُلتقطها ببينة ثم جاء الآخر، فأقام بينة، فهي لأعدلهما بينة، فإن تكافأتا في العدالة، فلأقدمهما تاريخًا بالمُلك، فإن جُهل التاريخ أو تساوى هل يكون للأول أو تُقسَّم بينهما؟ فالمذهب على قولين قائمين من المُدونة: أحدهما: أنها تكون للأول، وهو قول أشهب في "مُدونته"، وهو قولُ الغير في "كتاب الولاء [والمواريث] (¬1) " من "المدونة". والثاني: أنها تُقَسَّم بينهما، وهو قولُ ابن القاسم في المُدونة أنَّ اليد إذا [عرف] (¬2) أصل ما أخذت، وجاء الثاني بالمعنى الذي جاء به الأول أنّ اليدّ لا حُكم لها، وهو قولهُ في الوارث يطرأ على [الورثة] (¬3) بعد القبض والحوز. وأما الوجه الثاني: إذا أخذها الأول بالصفة، ثم جاء بتلك الصفة، فلا يخلو الثاني من أن يُتهم على أنه سمع تلك الصفة، ووعاها من الواصف أو لا يُتَّهم. فإن اتُهِمَ على ذلك، كانت للأول، وإن لم يُتَّهم على ذلك لعلمنا بأنه لم يكن بالحضرة حين [الوصف] (¬4) [ولا دس] (¬5) مَنْ يسترق السَمع، هل تقسّم بينهما أم لا؟ فإنّه يتخرج على قولين قائمين من المُدونّة: أحدهما: أنها للأول دون الثاني، وهو قولُ أشهب وغيرهُ في "المدونة" ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: عرفت. (¬3) في أ: الوارث. (¬4) في أ: الصفة. (¬5) سقط من أ.

في "تكافؤ البيّنتين". [والثاني: أنها تقسم بينهما، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في تكافؤ البينتين] (¬1). وأما الوجه الثالث: إذا أخذها الأول ببيّنة، ثمّ جاء الآخر بصفة، فإن الأول أحق بها قولًا واحدًا. وأما الوجه الرابع: إذا أخذها الأول بصفة، ثم جاء الآخر ببينة، فلا يخلو الذي قبضها من أن يكون حاضرًا أو غائبًا. فإن كان حاضرًا، فالدافع بريءٌ مع قيامها في يد القابض، وفي ملائه مع الفوات، وتكون الخُصومة بينهما، ويُحكم بها لصابح البيّنة. فإن كان غائبًا، فلا يخلو الدافع من أن يدفعها بإشهاد أو بغير إشهاد. فإن دفعها بإشهاد، فلا ضمان عليه، وعليه أن يُعرّفه باسمه وموضعه إن عَرِفَهُ، وإلا فلا شيء عليه. فإن دفعها بغير إشهاد، ضمن للثاني قيمتها أو مثلها إن كان مما له مِثل، وهو قول ابن الماجشون وغيره [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب.

[المسألة الثالثة] في أخذ الآبق، وحبسه، والنفقة عليه

[المسألة الثالثة] في أخذ الآبق، وحَبسِهِ، والنفقة عليه أما أخذه: فقد قال مالك في "المدونة": إن تَركَهُ خيرٌ من أخذهِ إلا أن يكون لقريبِهِ أو لجارِهِ أو لِمَن يعرفهُ، قال: "فأحبُّ إليّ أن يأخُذه". وهو من أخذهِ في سعة. فإن أخذهُ فلا يخلو السلطان من أن يكون عدلًا أو جائرًا، فإن كان عدلًا فهو مُخيَّر، إن شاء رفعهُ إليه، وإن شاء عرّف به. فإن رفعهُ إلى السلطان، فإنّ السُلطان يحبسُهُ وينُفق عليه سنة، فإن جاء صاحبهُ أخذهُ، وغرِم النفقة، فإن لم يأت له طالب، باعهُ السلطان، ويأخذ النفقة من ثمنهِ، ويُرجع الباقي في بيت المال حتي يجيء صاحبهُ فيأخُذهُ. فإن جاء أحدٌ يدعيه فلا يخلو مِن أن يدّعيه ببينة أو بغير بينة. فإن ادعاهُ ببيّنة أقامها، فإن السلطان يدفعهُ. فإن أقام شاهدًا واحدًا، فإنّهُ يحلف معهُ. فإن ادعاهُ بغير بيّنة يُقيمها، فلا يخلو العبد من أن يُقر له بالرق أو لم يُقر. فإن أقر له بالملك، فإنهُ يأخذهُ بعد الاستيفاء قولًا واحدًا. وإن لم يُقر له بالملك، فعلى قولين: أحدهما: أنه يدفع [له] (¬1) بعد الاستيفاء ويضمنهُ كما لو اعترف، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وهو قول ابن القاسم في "المُدونة" وغيرها، كالأمتعة التي تُسرق بمكة. والثاني: أنه لا يدفع له، وهو قول أشهب في "مُدوّنته". واختُلف هل يجوز في كَتْب القضاة إلى القضاة على الصفة والتحلية أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك جائز إذا ثبت كتاب القاضي ببينة، وهو قول ابن القاسم في "المُدونة"، وهو مشهور المذهب. والثاني: أن ذلك لا يجوز، ولا يأخذهُ حتى ينظر إليه الشهود، ويعرّفونَه أنّه هو. فإن كان السلطان جائرًا: فلا ينبغي له أن يرفعهُ إليه، ويعرفُهُ سنة، وينفق عليه، ويكون حكمهُ في النفقة حكم السلطان. فإن جاء صاحبه، وعرفْت أنه هو، فإنّهُ يأخذهُ منك، فإن جهلته ولم تعلم أنه سيدهُ، فإن اعترف له العبد بالرِقِّ فلا ضمان عليك في دفعه، وإن لم يعترف له بالملك، فارفعهُ إلى الإِمام إنْ لم تخفْ ظُلمهُ، فإن خِفْتَه فيتخرج دفعك إياهُ على قولين: الجواز لابن القاسم في تضمينه إياه، والمنع لأشهب، وتضمنُه أنت إن دفعتَهُ له، وقال مالك في المُدونّة: "لم أزل أسمع أن الآبق يُحبس على ربّه سنة، وذلك يختلف باختلاف الأحوال". وتحصيلُهُ أنّ العبد لا يخلو من أن يُخشى عليه الضيعة في هذا الأمر أم لا: فإن خيف عليه أن يضيع، فإنّهُ يُباع قبل السنة، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في "العتبية"، وهو تفسير لقول مالك. فإن لم يُخشى عليه أن يضيع، هل ينتظر به سنة أم لا؟ على قولين:

أحدهما: أنه ينتظر به سنة، وهو [قول ابن القاسم في المدونة] (¬1) وهو المشهور. والثاني: أنه لا يوقف سنة، وإنما يوقف قدر ما يتبّين ضررهُ، وهو قول سحنون، قال: "يُباع ويُوقف ثمنهُ وتُكتب صفتُهُ حتى يأتي له طالب"، ولابن كنانة مِثلُهُ؛ لأنه قال: "لا يُدفع الآبق إلى الإِمام بحال لِمَا يَخاف من طول حبسِهِ". فإن باعه الإِمام بعد الاجتهاد ثمّ جاء سيدُهُ ثمّ ادعى أنه قد كان أعتقهُ قبل الإباق أو دُبُره، أو ادعى [أنها] (¬2) وُلدت منه إن كانت أَمَةً، فأراد نقض البيع بذلك. أمّا العتق، والتدبير، وسائر عُقود العتق غير الإيلاد، فلا يُقبل قولهُ في نقض البيع إلا ببينة عادلة. فإن ادعى أنها ولدت منه، فلا يخلو من أن يكون معها ولد أم لا: فإن كان معها ولد، هل تُردُّ إليه أم لا؟ على قولين منصوصين في "المُدونّة": أحدهما: أنها تُرد إليه سواءٌ اتُهم أو لم يُتهم، وهو قول أشهب؛ لأن استلحاق الولد قاطع كلِّ تُهمة. والثاني: أنها تُردُّ إليه إن لم يُتهم، وإن اتُهم فيها لم تُردُّ إليه، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الآبق"، وكتاب "أمهات الأولاد" وما به تكون التُهمة قد تقدّم تحصيلُه في "كتاب أمهات الأولاد". فإن لم يكن معها ولد، فلا يخلو من أن يُتهم فيها، أو لا يُتهم فيها: ¬

_ (¬1) في أ: مذهب. (¬2) في أ: أنه.

فإن اتُهم فيها لم تُرد إليه قولًا واحدًا. فإن لم يتهم فيها، فهل تُرد إليه أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المُدونة: أحدهما: أنها لا تُرُّد إليه، وهي رواية أكثر الأندلسيين، وهي رواية ابن اللباد. والثانى: أنها ترد إليه وهي رواية أكثر القرويين، وعليه اختصر الشيخ أبو محمَّد بن أبي زمنين، وأبو سعيد البراذعي، وذكرها ابن حبيب عن ابن القاسم قال: فضل، وكذلك [قال] (¬1) عبد الملك بن الماجشون. فإن هرب منه بعد أن أخذه: فلا يخلو من أن يأبق منهُ [أو يُرسلهُ باختياره] (¬2). فإن أبق منه، فلا يخلو من: أن يهرب من الدار أو يُرسلَهُ [في] (¬3) بعض حوائجهُ ثم يأبق. فإن أبق مِنْ دَارهِ، فإن ظهر ذلك واشتُهر، قُبل قوله بلا يمين قولًا واحدًا، كان مِمن يُتهم [أم] (¬4) لا؟ فإن لم يكُن إلا دعواهُ، هل يحلف أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهُ لا ضمان عليه، ولا يمين، وهو ظاهر قوله في "المدونة" حيث قال: "لا شيء عليه". والثاني: أنه يحلف: لقد انفلت منهُ من غير تفريط، وهو قول ابن الماجشون. والثالث: أنه إن كان من أهل التُهمة حُلِّف، وإلا فلا، وهو ظاهر قول ابن نافع. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: إلى. (¬4) في أ: أو.

فإن أرسلهُ في حاجةٍ فهربَ: فإن أرسلهُ في حاجة خفيفة أقرب منها، فلا ضمان عليه. فإن أرسله في حاجةٍ يأبق في مثله لبُعدها وما يلحقهُ من المشقَّة، فهو ضامن، وهو قول أشهب في "كتابه". فإن أرسله باختياره: فلا يخلو من أن يكون ذلك لعُذرٍ أو لغير عُذر. فإن كان ذلك لعُذرٍ وخاف أن يقتلهُ أو يضربهُ، أو يذهب لحوائج بينة، ونحو ذلك، فقد قال ابن عبد الحكم: لا ضمان عليه. وينبغي ألا يُختلف فيما قالهُ إذا غَلب على الظنِّ الخوفُ منه بما ظهر من ظواهر حال العبد. فإن أرسلهُ لغير عُذرٍ فهو ضامن، وليس شدة النفقة بعُذرٍ يسقط عنه الضمان، قالهُ ابن عبد الحكم، وسواء كان الذي أخذهُ ممن يأخذ الجُعل على طلب الآبق في جميع ما ذكرناهُ أم لا، والحمد لله وحده. [تم الكتاب بحمد الله وعونه] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

كتاب حريم الآبار

[كتاب حريم الآبار]

[كتاب حريم الآبار] تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ستة مسائل: [المسألة الأولى] في معنى هذه الكلمة ومعنى هذه الكلمة: حقّ البئر الذي يُمنع أن يحدث فيها أحدٌ ما يضرُّ بها. وأصل الحرام: التحريم، والحُرمة: المنع. والمحارم من النساء: الممنوع نكاحُهُنَّ من ذوات المحارم، والحرام: ما مُنع إتيانه. فحريم البئر هو: ما يتصلُ بها من الأرض إلا من حقِّها ألا يحدث فيها ما يضرُّ بها، لا باطنًا من حفرِ بئر يشتف ماءها أو كنيف نجاسة يصلُ [إليها] (¬1) وسَخه، أو ظاهرًا كالبناء، والحرث، والغرس، والنزول الذي يضرُّ بالمُنتفعين، ويُضيق عليهم في ورودهم الماء، ومسارحهم، ومعاطن إبلهم، [ومرابض] (¬2) مواشيهم. وكذلك إن حفرها ليزرع عليها في موات الأرض، فحريمها: قدر ما يحتاج إلى حَافِرها مما يقوم به، وسقيه ماءه، ويعمره بالتقدير دون التحديد على مشهور مذهب مالك -رحمه الله-، بيد أنّ أصحابهُ اختلفوا في تحديد حريم الآبار، والعيون على اختلاف أنواعها بين الماشية، وبين الزرع، والعادية، والبادية. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ومرابط.

قال ابن نافع في "البئر العادية -وهي القديمة: حريمها خمسون ذراعًا، والبادية وهي التي ابتدئ حفرها: خمسة وعشرون ذراعًا". وكذلك جاء في الحديث. وعن أبي مصعب الزهري عشرُ هذا في البادية والعادية، قالا في بئر الزرع: خمسمائة ذراع، وفي حريم الأنهار ألف ذراع. ومعناه: أن هذا كلُهُ من جميع نواحيها. وكذلك من اختطها في الموات يزرع عليها أو يغرس، ولا يضيق عليه في ذلك أحد، وهو أحق بذلك [القدر] (¬1) من غيره. والصحيح ما أصَّلَهُ مالك -رحمه الله- لعدم الأثر الصحيح يُعتمد عليه في ذلك، وإلا فالتفريق بين العارية، والبادية لا يُتلقى إلا من التوقيف، ولا مجال للقياس فيه [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: العدد. (¬2) زيادة من ب.

المسألة [الثانية] في منع فضل الماء

المسألة [الثانية] (¬1) في منع فضل الماء ولا يخلو الممنوع منهُ [فضل الماء] (¬2) من وجهين: إما أن يكون مَارَّة أو زراعة. فإن [كانوا] (¬3) مارة، مرُّوا بأهل ماء فمنعوهم الورود، فلا يخلو [بئرُهُم] (¬4) من أن يكون فيه فضل أو لا فضل فيه: فإن كان فيه فضل، فلا يخلو من أن يكون ذلك الماء ممّا يُملك أو ممّا لا يُملك. فإن كان مما يُملك ويحلُّ بيعهُ، فلا يخلو المسافرون من أن يكون معهم ثمن أو لا ثمن معهم. فإن كان معهم ثمن، فهل يجوز لأهل الماء أنْ يمنعوهم الورود إلا بالثمن أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المُدونة: أحدهما: أن لهم منعهم إلا بالثمن، وهو قوله في أول [كتاب] (¬5) حريم [الآبار] (¬6). والثاني: أن عليهم أن يُمكنوهم من الورود بغير ثمن، وهو قوله في الذي انهارت بئرهُ، وخاف على زرعهِ العطش، وحرمة النفوس أعظم من ¬

_ (¬1) في أ: الثالثة. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: كان. (¬4) في ب: ماؤهم. (¬5) في أ: الكتاب. (¬6) في أ: البئر.

حُرمة الزرع. فإن لم يكن معهم ثمن، فلا يخلو من: أن يكون [لهم] (¬1) أموال [في] (¬2) بلادهم أم لا: فإن كانت لهم أموال [في] (¬3) بلادهم، هل يُتبعون بالثمن أم لا؟ فإنه يَتخرّج على قولين قائمين من المدوّنة: أحدهما: [أنهم] (¬4) يتبعون بالثمن؛ لأنهم أملياء، ولا يعتذرون بغيبة المال. والثاني: أنه لا يُتبعون به؛ لأنهم أهل سبيل؛ يجوز لهم أخذُ الزكاة، ومواساتهم واجبة. فإن لم يكن لهم أموال في بلادهم، أو كانت لهم أموال، والماء لا يُملك، فلا يجوز بيعُهُ، كفضل بئر الماشية، فلا خلاف أنّ على أهل الماء أن يسقوهم، ويُمكنوهم من الورود. فإن منعوهم فهل يُقاتلهم المسافرون أم لا؟ فلا يخلو من أن يخافوا الهلاك على أنفسهم أم لا: فإن لم يخافوا الهلاك على أنفسهم وَدَوَابِّهم، ولهم قوة على الوصول إلى ماء غيرهم، فإنّ قتالهم يُؤدي إلى سفك الدماء، فذلك مكروه. فإن قدروا أن يغلُبوهم بغير فساد، فذلك جائز، وهو قول أشهب ويؤخذ من "المدونة" من "كتاب الجهاد" من مسألة: السلابة إذا طلبوا الطعام أو الثوب أو الأمر الخفيف، حيث قال ابن القاسم: [يعطون، ولا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: أنه.

يُقاتلون] (¬1)؛ لأنَّ مَنْ مَنَعَهُم فضل الماء الذي هو حقٌ للمساكين كأخذهم مال المسافرين. وإن خافوا الهلاك على أنفسهم، فحلالٌ لهم جهادُهم؛ لأنهم منعوهم ما وجب لهم عليه من المواساة؛ إذ واجب على كلّ مُسلم خافَ على أخيهِ المُسلم أن يُجيبهُ بما يقدرُ عليه. فإن جاهدوهم وقُتل أحدٌ من المارة، فالقصاصُ في ذلك واجبٌ، باتفاق المذهب. فإن منعوهم حتى ماتوا عطشًا [و] (¬2) لم تكن للمسافرين قوة على مُدافعتهم، هل يجب القصاص أم الدِّية؟ وذلك على تفصيل: فإن قصدوا أهل الماء بمنعهم ألا يسقوهم حتى يموتوا بعد علمهم أنّ ذلك لا يحلُّ لهم، وعُلم أنهم متى لم يسقوهم ماتوا [عطشًا] (¬3)، فهذا مما ينبغي أن يجب القصاصُ فيه. وقد اختلف المذهب [عندنا] (¬4) فيمن تعمّد الزور بشهادته حتى قُتل [بها] (¬5) المشهودُ عليه, على قولين: أحدهما: أنه يُقتل به. والثاني: أنه لا يُقتل به، وهو قول في "المُدونة". فإن لم يقصدوا ذلك، وإنما تأوّلوا أن لهم منع مائهم، وأنه أحقُّ به من غيرهم، فهذا أمرٌ خفي. ¬

_ (¬1) في ب: يعطوا ولا يقاتلوهم. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: عطشانًا. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: به.

وديّات المسافرين على عواقل المانعين [فإن كانوا عشرة فعشرة ديات، وعلى عواقل المانعين] (¬1) عتق مائة رقبة، على كل واحد منهم عشرُ رقبات كفّارة مع وجيع الأدب؛ لأنه قاتل العشرة. وكذلك الحُكم فيمن مات في سنة المجاعة بين أظهر القوم جوعًا، وهم قادرون على إحيائه بمواساتهم إياهُ، ذَكَرَ ذلك القاضي أبو بكر بن العربي، وغيرهُ، ويؤخذ من "المُدونة" من هذه المسألة. ورأيتُ في بعض الضرر [أيضًا] (¬2): أن المرأة إذا نَشَزَتْ على زوجها, ولهُ منها ولدٌ رضيع، فرمَتْ به، ولم يجد مَنْ يُرضِّعُهُ حتى مات، أن ديتهُ على عاقلة المرأة، وعليها هي الكفَّارة، واستقراء ذلك من مسألة المسافرين. فإن كان ذلك الماء لا فضل فيه جَهدهُ ما يقُوم بأهلهِ إلى وقت نزول الغيث، كالحُبوب، والقدر، بحيثُ أن لو شاركوهم نَشّفُوهم عليه وتركوهم في مَضيعَة، ولم يكن يقرُبُهم غيثٌ يَرْجُونها، فإنَّ لهم منعهم، وإن أدى ذلك إلى قتالهم؛ إذ لابد من هلاك إحدى الطائفتين على ظاهر الحال، فأهل الماء أولى بما في أيديهم من غيرهم، وإنما تجب المواساة إذا كان هناك ما يحتملها، وأما إن كان زارعًا فلا يخلو من أن يزرع على ماء، أو يزرع على غير ماء. فإن زرع على ماء، فانهارت بئره وله جار في مائه فضل وخاف العطش على زرعه ما بينه وبين أن يصلح بئره، فإنه يجوز له أن يسقي بفضل ماء جاره، وهل ذلك بثمن أو بغير ثمن؟ قولان قائمان من المدونة: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

أحدهما: [أنه] (¬1) بغير ثمن، وهو نص قوله في المدونة في "كتاب حريم الآبار". والثاني: أنه لا يأخذه إلا بالثمن، وهو قوله في مسألة المسافرين، والقولان منصوصان عن مالك في المذهب. فإن زرع على غير أصل ماء، فهل يحكم على الجار بصرف فضل مائة بثمن أو بغير ثمن؟ فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: أنه لا يقضي عليه بذلك لا بثمن، ولا بغير ثمن إلا أن يشاء، وهو قول مالك في المدونة. والثاني: أنه يقضي عليه بذلك، وهل ذلك بثمن أو بغير ثمن؟ قولان. وسبب الخلاف: اختلافهم في تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنع نقع بئر" (¬2) وقال أيضًا: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ" (¬3). وفي رواية: "لا يمنع وهو يرو"، وفي رواية: "إنه لا يمنع [نقع] (¬4) بئر بين بالماء" أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنع نقع بئر". فقد اختلف العلماء في تأويله على أربعة أقوال: أحدها: أن المراد بذلك الماء المجتمع فيه قبل السقي. والثاني: أن المراد بذلك فضل مائه. والثالث: أن المراد بذلك الموضع الذي يلقى فيه ماء ما ينكس منه، ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) أخرجه مالك (1428)، والطبراني في الأوسط (266)، والبيهقي في الكبرى (11626)، وهو صحيح. (¬3) أخرجه البخاري (2226)، ومسلم (1566). (¬4) في أ: فضل.

يريد ما يستنقع منه من الماطرة. والرابع: أن المراد به ما يخرج مسيل مائه، وهو الماء المجتمع [أيضًا] (¬1). قال الله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24]. واختلف في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنع نقع بئر" (¬2) هل يحمل على عمومه أم لا؟ [على] (¬3) ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك على عمومه، وأنه لا يحل منع الماء ولا منع [فضله] (¬4) بحال كان من بئر أو غدير أو عين في أرض متملكة [أو غير متملكة] (¬5) غير أنه إن كان متملكًا كان أحق بها بمقدار حاجته منه، وهو ظاهر قول يحيى بن يحيى في "العتبية"، وقالوا: أربعًا لا يرى أن [يمنعوا] (¬6) الماء، والنار، والحطب، والكلأ. والثانى: أن ذلك في مثل البئر تكون بين الشريكين، فيسقى هذا يومًا، وهذا يومًا أو أقل أو أكثر، فيسقى أحدهما يومه [فيروي زرعه أو نخله في بعض يومه، فيستغني عن الماء بقية يومه] (¬7) فليس له أن يمنع شريكه من السقي بقية ذلك اليوم؛ إذ لا منفعة له في منعه. والثالث: أن المراد به الذي يزرع على مائة، فينهار بئره، ولجاره فضل ماء أنه ليس لجاره أن يمنعه فضل مائه إلى أن يصلح بئره. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) تقدم. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ. (¬6) في ب: يمنعن. (¬7) سقط من أ.

فمن حمل الحديث على عمومه قال: يأخذ الجار بغير ثمن سواء زرع على أصل [ماء] (¬1) أو على غير ماء، ومن حمله على التأويل الثاني قال: لا يأخذه إلا بالثمن باختيار المالك، ومن حمله على التأويل الثالث قال بما قال به في الكتاب [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) زيادة من ب.

المسألة الثالثة في بيع الكلأ ومنعه

المسألة الثالثة في بيع الكلأ ومنعه ولا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك في أرض العفي. والثاني: أن يكون في أرض وقفها وبورها للكلأ. فإن كان في أرض العفي، فلا خلاف في المذهب أن الناس [فيه] (¬1) شرعًا سواء، [وليس] (¬2) لأحد بيعه. والعفو من الأرض ما ليس له مالك معين، ولا صاحب مبين. وإن كان في الأرض المملوكة له، فهل يجوز له منع الناس منه وبيعه إن شاء أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن له بيعه، ومنع غيره من رعيه احتاج إليه أم لا، وهو قول عبد الملك بن الماجشون، وسحنون، وهو ظاهر قول مالك في المدونة في كتاب "كراء الدور والأرضين". والثاني: أنه لا يجوز [له] (¬3) بيع خصب أرض أصلًا، وإنما يكون أحق به حتى يستغني، فيكون الناس في الفضل أسوة [سواء] (¬4) وهو قول أشهب، وسواء فيما حظره وبوره للكلأ أو في غيره، وهذان القولان متقابلان. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في ب: ولا. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من ب.

والثالث: بالتفصيل بين ما كان في مروجه وحماه وبين غيره: فما في حماه مما بوره للكلأ، فله بيعه ومنع الناس منه، وما لم يحظر عليه ولا حماه من جميع أراضيه، فليس له بيعه، والناس أسوة في فضله، وهو قول ابن القاسم، وعبد الملك، ومطرف. والرابع: التفصيل بين أن يحتاج إليه أو لا. فإن احتاج إليه، فله بيعه إذا بلغ أن يرعى، وإن استغنى عنه، فلا يجوز له بيعه، وليخل بين الناس وبينه، وهو قول مالك في كتاب "حريم البئر" من المدونة. وسبب الخلاف: اختلافهم في تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنع فضل [الماء] " يريد به الكلأ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنع] (¬1) الكلأ والناس فيه شركاء"، هل هو عموم أريد به العموم أو عموم أريد به الخصوص، فمن حمله على ظاهره، وأنه عموم أريد به العموم، قال بقول أشهب. ومن حمله على [أنه] (¬2) عموم أريد به الخصوص، قال بقول عبد الملك، وهو أصل قول مالك؛ لأنه قال في الكتاب: "لا أحسبه إلا في الصحاري وأما في القرى التي ملكها أهلها، فله أن يمنع الكلأ"، واعتبار الحاجة والحمى ضرب من الاستحسان. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ" (¬3) فللعلماء فيه تأويلان: أحدهما: أنه إذا منع أرباب المواشي من ورود بئر ماء منعوا أن يأتوا، فيرعوا ما بقربه من الكلأ، فيصير منع الماء سببًا لمنع رعي الحشيش. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) تقدم.

والثاني: أن معناه إذا مُنعت من الماء مُنعت من الكلأ، ولا تقدر [ترعى] (¬1) فيؤدي [ذلك] (¬2) إلى هلاك الماشية وموتها [والله أعلم] (¬3). وأما صيد [ما] (¬4) في البحائر والغُدر والبرك تكون في ملك رجل، فلا خلاف أنه لا يجوز بيعها لمن [يصيد] (¬5) ما فيها [من الحيتان؛ لأنه يقل، ويكثر، وذلك عين الغرر، والذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجوز له أن يصيد فيها] (¬6)، وهل له أن يمنع من يحاول الصيد فيها أم لا؟ ولا يخلو من أن يكون هو الذي طرح فيها السمك، وتناسل فيها أو كان جاء مع الماء، فإن كان صاحبها هو الذي طرحه فيها، وتوالد فله منع من يريد الصيد فيها, ولا ينبغي أن يختلف في هذا الوجه. وإن كان جاء مع الماء، ولا سبب له فيه، فالمذهب فيه على قولين: أحدهما: أنه لا يمنع أحدًا والناس فيه شرعًا سواء، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أن لهم منع من حاول ذلك من غيرهم، وهو قول مطرف، وابن الماجشون، وهو الأظهر في النظر [والحمد لله وحده] (¬7). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) زيادة من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: يصطاد. (¬6) سقط من أ. (¬7) زيادة من ب.

المسألة الرابعة في [السدود] وكنس الآبار وإصلاحها

المسألة الرابعة في [السدود] (¬1) وَكَنس الآبار وإصلاحها والكلام في هذه المسألة على فصلين: أحدهما: كنس الآبار وإصلاحها. والثانى: في سدِّ العُيون والقنوات. فالجواب عن الفصل الأول: في كَنْسِ الآبار، آبار الأراضين، وإصلاحها، فلا يخلو ما عليها من الأرض من أن يكون مقسومًا أو مشاعًا. فإن كان مقسومًا: فدعا بعضهم إلى الكنس والإصلاح، وأَبَا بعضهم، فهل يُجبر الآبى منهم أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يُجبر، وأنّ مَنْ أراد العلم يَعْمل، ويكونُ أحقَّ بما زاد [من] (¬2) الماء، حتى يدفع له الآبى مقدار ما يلزمه وينُوبُه من النفقة، وهو قوله في "المدونة". والثاني: أنّ الآبى يُجبر على العمل أو يبيع سهمَهُ مِمن يعمل، وإن كان مقسومًا، وهو قول ابن نافع، وسحنون. [نظراه] (¬3) في العلوي والسفلي إذا انهدم السفلي، وهو مُنفرد من العُلوي، فإنه يُقال لصاحبه: ابنِ أو بيع ممن بني، وما قالاه ليس بصحيح، وذلك أن السُفلى، وإن كان نائيًا عن العلوي بالقِسمة، فصاحب ¬

_ (¬1) في أ: السدد. (¬2) سقط من أ. (¬3) هكذا رسمها في أ، ب.

العُلُوي يَدخل عليه الضرر بهدم السفلي أو لا يُتوصل إلى الانتفاع به إلا بعد [بناء] (¬1) السُفلي ولا يجوز أنْ يُقال له: ابنِ السُفلي، وتكونُ أحقَّ به من [صاحبه] (¬2) حتى يدفع قيمة عملك، بخلاف البئر؛ لأن رقبتها [مشتركة] (¬3) بينهم، وإنْ قُسِّمت الأرض. وإن كان مشاعًا فإنهُ يُقال للآبى: إمّا أن تعمل، أو تبيع ممِن يعمل، وهذا إذا كانت الأرضَ مزروعة، والنخلُ [فيها ثمر؛ إذ لا يقدران على القسم والضرر لاحق بمريد العمل، فصار كصاحب السفلي والعلوي، وإن كانت الأرض غير مزروعة والنخل] (¬4) لا ثمَرَ فيها، فهاهُنا يُخيّر الآبى بين ثلاثة أشياء: إمّا أن يعمل، أو يُقسّم، أو يبيع ممِن يعمل. فانظر: كيف جعل ابن القاسم الذي عمل جميع ما زاد بالإصلاح في البناء، ولم يكُن للذي لم يَبنِ بقدر [جزئه] (¬5) في البئر من الماء. وقد اختلف المذهب في الرَّحَى إذا كانت بين النَفَر، فتُهدم، فيدعوا بعضهم إلى عَمَلِهَا، وأَبَا بعضهم، فلم ينظر حتى عَمِل وطَحَنتْ، واغْتُل منها غلة كثيرة على أربعة أقوال: أحدها: [أنّ الغلّة] (¬6) كلّها للعامل دون مَنْ لم يعمل حتى يُعطِي قيمة ما عَمِل، كالنهر يفُورُ ماؤُهُ، فيعمل أحدهم، ويأْبَى الباقونَ العمل. ¬

_ (¬1) في أ: بنيان. (¬2) في أ: صاحبك. (¬3) في أ: مشترك. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: جريه. (¬6) سقط من ب.

والثاني: أَنّهُ يَستوفي من الغلّة ما أنفق إن لم يقُم عليه، حتى استوفى ذلك، ثم يكونُ بينهما، والقولان لابن القاسم. والثالث: أنه يكون للعامل منها، بقدْر ما أنفق، وما كان له من سهمه قبل أن يُنفق، ويكون للذي لم يعمل ما بقى لهُ، [من] (¬1) قاعتها وبقيّة سدّها، وحجارتها، وهو قول ابن دينار. والرابع: أن تكون الغلّة كلّها للعامل، ويكون عليه كراء [نصيب] (¬2) صاحبِه من قاعة الرحى، وما كان باقيًا فيها من العمل: فإن أراد الدخول معهُ دفع إليه قيمة العمل اليوم في هذا القدْر الذي ينوبُهُ، ليس يوم عمله، ولا ما أنفق إلا أن يكون ذلك بحداثة ما عمل، وهو اختيار عيسى، وصوّب بعض المتأخرين قول عيسى، وضعّف قول ابن القاسم. والجواب عن الفصل الثاني: في سدِّ القنوات، والعيون، وترتيبهِ إذا انسدَّ من أولها أو آخرها، وعليها أرضٌ كثيرة لناسٍ شتَّى بعضُها فوق بعض، فوقع في "المستخرجة" أن الأولين يكنسون ولا كنس على مَنْ بعدهم. وإذا [انسدت] (¬3) في آخر القناة كنس الأولون مع الآخرين؛ لأن عناء الأولين سدّ الآخرين. قال أبو إسحاق التونسي: "وهذا ليس بالظاهر في القياس إلا أن يكون أراد معنىً آخر لم يُفسِّرهُ السائل". وما قالهُ صحيح، وذلك أن القناة إذا انسدّت من أول مجراها احتبست عن الأولين والآخرين، فزوال السدِّ يقع لجميعهم، فيجبُ أن يكون عليهم أجمعين. ¬

_ (¬1) في أ: بقدر. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وإذا انسدّ في آخرها لم يضُر الأولين شيء؛ لأنهم يقولون: نحنُ نُطلق ماءنا من أصل العين، قبل وصوله إليكم فلا يضرُّنا ما عندكم من السدّ، ولا يمنعنا من [وصول] (¬1) الماء إلى ضياعنا. وما في "العتبية": إنما يصحّ في القنوات التي تكون بالأتفال والنجاسات؛ لأن القناة إذا انسدّت من الأولين لم يَلزم مَنْ بعدهم أنْ [يكنسوا] (¬2) معهم؛ لأنهم يقولون: نحنُ نُجري مياهَنا في قنواتنا -لا تقف لنا- ولا يلزمُنا الكنس معكم أيها الأولون؛ إذ لا انتفاع لنا في ذلك. وإذا انسدّت القناة في الآخر: وجب على الأولين أن يكنسوا مع الآخرين؛ لأنَّ الأوّلين يقفُ ماؤهم إذا انسدّت في الآخر، ووقُوفُه يَضرُّ بهم، فيجبُ عليهم مشاركة من بعدهم في الكنس. وترتيب هذا أن يبتدئ من هو أول القناة، فيكنس وحدهُ، فإذا وصل إلى غيرهِ شاركهُ في الكنس، فإذا وصل إلى الثالث شاركهما في الكنس، فإذا وصل إلى الرابع شاركهم في الكنسِ، هكذا أبدًا، وعلى هذا السؤال يصحُّ ما في "المستخرجة" دون سؤال العيون. ¬

_ (¬1) في أ: أصول. (¬2) في أ: يكنس.

المسألة الخامسة في إحياء الموات

المسألة الخامسة في إحياء الموات وموات الأرض لم يُعمر منها. وإحياؤها: عمارتها. وكُلما بعُد عن العُمران ممّا تقلُّ فيه الرغبة والتنافس، فمن أحياهُ فهو له، ولا يحتاج فيه إلى إذن الإِمام، مِن أي أرضٍ كانت، عُنوةٌ أو صُلحًا أو أرضٌ أسلم عليها أهلها, لقوله عليه السلام: "مَنْ أحيا أرضًا مواتًا فهي له" (¬1). وإحياؤها يكونُ بعشرة أشياء: سبعةٌ مُتفقٌ عليها في المذهب، وثلاثةٌ مُختلَفٌ فيها. [فالمُتفق عليها] (¬2): تفجير الماء فيها بحفر بئر، أو شقِّ نهر، أو شقِّ عين. والثاني: إخراج الماء عن غامرها. والثالث: البناء. [و] (¬3) الرابع: الغرس. [و] (¬4) الخامس: الحرث، وتحريك الأرض [بالحفر] (¬5) ونحوهِ. [و] (¬6) السادس: قطع غياضها وشعاريها. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في ب: بالحرث. (¬6) سقط من أ.

[و] (¬1) السابع: كسر أحجارها، وتسوية [بزوغها] (¬2)، وتعديل أراضيها. فأمّا الثلاثة المُختلف فيها: أولها: التحجير عليها، وهو: ضربُ حدود حول ما يُريد إحياؤهُ منها, ولم يحجبه بعد. والثاني: رعى كلائها. والثالث: حفرٌ بئر ماشية فيها. فهذه الثلاثة [التي] (¬3) اختُلف فيها على قولين: أحدهما: أنها لا تحيا بذلك، وهو قول "ابن القاسم" في "المدونة" وغيرها. والثاني: أنها تحيا بذلك، وهو قول أشهب. واختلف عن أشهب في التحجير: فَرُوِيَ عنه أنه ينتظر ثلاث سنين كما جاء عن عمر - رضي الله عنه -، فإن أحياها، وإلا كان لغيره إحياؤها. وَرُوِيَ عنه أنَّهُ إنما يكون الحجرُ إحياء، إذا عُرف أنه حجرها ليعملها عن [قريب] (¬4) ويُقدر ما يُمكن عملُهُ فيها. وعلى هذا يكون قولُهُ وفاقًا لقول ابن القاسم، وعلى الرواية [الثانية] (¬5) يكون خلافًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: حروفها. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: قرب. (¬5) سقط من أ.

فإذا أحياها وتركها حتى دُثرت وعادت إلى ما كانت عليه أولًا، فأحياها غيرَهُ، هل يكون أحقُّ بها أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من المُدونة: أحدهما: أنّ الثاني أحق بها من الأول، وهو نصُّ قول ابن القاسم في "كتاب حريم الآبار". والثاني: أنّ الأولّ بها أحقُّ أبدًا, ولا يُخرجها من ملكه تركُها حتى دثرت، وهو قولُ مالك في الخطة [فإن كانت الخطة] (¬1) لا تزول عن [ملكه] (¬2) [باندراس] (¬3) الأرض ورجوعها إلى ما كانت عليه، فكذلك في الإحياء، والموات فلا فرق بينهما. وأمّا ما قرُب من العمران، وتشاحح الناس فيه، واستوت فيه الرغبة والتنافس، فلا يخلو من أن يكون ذلك بإذن الإِمام أو بغير إذنهِ: فإن أحياهُ بإذن الإِمام، فذلك جائز، ويصير ملكًا لهُ. فإن أحياهُ بغير إذنه، فعلى ثلاثة أقوال: أحدها: أنهُ لِمَن أحياهُ، ولا يتعقَّبهُ نظر الإِمام، وهو ظاهر المُدّونة لقوله في أول الباب: "مَنْ أحيا أرضًا ميتةً بغير إذن الإِمام، فهي له"، ولم يُفصِّل بين ما قَرُب وما بعُد. والثاني: أن الإمام ينظر في ذلك، فإن رأى إبقاءه لِمن أحياهُ فَعَل، وإلا أعطاهُ قيمتَهُ منقوضًا. والثالث: أنّ ذلك جائزٌ ابتداءً: أنْ تُحيي الأرض بغير إذن الإِمام، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: مالك. (¬3) في ب: بدروس.

كما قال أصبغ وغيرُهُ فيمن أراد أن يأخُذ من شارع المسلمين أو فنائهم ما لا ضرر [فيه] (¬1) عليهم، ويَردُّهُ إلى داره بالبنيان: أن ذلك جائزٌ لهُ، إنْ كان الطريقُ واسعًا. وحدُّ القُربِ: ما هو مرتفق لأهل البلد في سرْحِ مواشيهم، واحتطابهم واحتشاشهم، وما وراء ذلك، فهو الذي يجوز فيه الإحياء بغير إذن الإِمام قولًا واحدًا في المذهب، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة السادسة في نفى الضرر فيما يحدثه الرجل في ملكه، مما يضر بجاره، من بناء أو حفر أو كوة أو غير ذلك

المسألة السادسة في نفى الضرر فيما يُحدثُهُ الرجلُ في ملكه، مما يضرُّ بجارهِ، مِن بناء أو حفر أو كُوَّة أو غير ذلك فإذا حفر بئرًا في دارهِ، وهي بعيدة عن بئرِ جارهِ، فلا يخلو من أن يعلم أن أحدَ الأرضينِ أُحْييت قبل الأخرى أو جهل. فإن عُلم أن أحد الأرضين أُحييت قبل الأخرى، فيُنظر إلى الأُولى [منهما] (¬1) فإن كانت الأُولى [هي التي حفر فيها] (¬2) أولًا، مُنعَ الثاني من إحداث بئر في أرضِهِ، فإن حفرها فيها رُدمت عليه. فإن كانت الأولى في الإحياء هي التي أُحفر فيها أخرى، هل يُمنع إذا أضرَّ ببئر جارهِ أم لا؟ فإنهُ يتخرج على قولين قائمين من المُدونة: أحدهما: أنهُ لا يُمنع؛ لأن النظر [إلى] (¬3) مَنْ سبق [إلى] (¬4) الإحياء، لا إلى مَنْ سبق إلى الحفر، وهو قولهُ في "المدونة" حيث قال: " [فإن] (¬5) كان إحياؤهُ قبل ذلك". والثاني: أنه يُمنع، وأنَّ الاعتبار بالسبق [إلى الحفر] (¬6) لا بالإحياء. وسبب الخلاف: مَنْ مَلَكَ ظاهر الأرض، هل يملك باطنها [أم لا] (¬7)؟. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: من. (¬5) في أ: و. (¬6) في أ: بالحفر. (¬7) سقط من أ.

فمن رأى أنهُ يملك باطنها، قال: الاعتبار بسابقة [الإحياء ومن رأى أنه لا يملك باطنها قال: الاعتبار بسابقة] (¬1) الحفر. فإن جهل الإحياء، ولم يعلم مَنْ سبق منهما، فهل تُردم على المحُدث بئرها أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تُردم عليه، وهو نصُّ قول ابن القاسم في "المُدونّة". والثاني: أنها لا تُردم عليه، إنْ كان به ضرورة حافزة إلى ذلك، ولم يجد عنهُ مندُوحة. وإن أضرّ بجاره؛ لأنه يُضرُّ به؛ مَنَعَهُ كما أضرّ بجاره، حفرُهُ فهو أولى أن يمنع جاره أن يضرَّ به، في منعه له من الحفر في حقه؛ لأنه مالهُ، وهو قول أشهب وروايتهُ عن مالك. وأمَّا [ما أحدثه] (¬2) في عرصته ممَّا يضرُّ بجاره من بناء حمام أو فُرن للحديد، أو تسبيك الذهب، والفضة [وكير لعمل الحديد] (¬3) أو رحىً تضر بالجيران، فلهم منعُهُ، وهو [قول] (¬4) "مالك" في آخر "كتاب القسمة" من "المُدونة"، واستخفّ اتخاذ التنور. واختلف المتأخرون في الضرر المعتبر في نصبِ الأَرحية، هل الضرر اللاحق [بالجيران] (¬5) من دورانها وجعجعتها؟ وبه أفتى بعض المتأخرين، واستدل بقولهِ في "الكتاب": "فما أضرّ بجارهِ أو الضرر اللاحق بالجار ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: آخر قول. (¬5) سقط من أ.

من زلزلتها واضطرابها"، وهو أسعد بظاهر الكتاب، واحتجّ قائله بقول مالك في الحدّاد: أنه لا يُمنع من عملِ ضرب الحديد في دارهِ، وإن أضرّ ذلك بجاره في مسامعهِ ورأسهِ. وأمّا ما فَتَحَ عليه من الأبواب، والكوات يُشرف منها على جارِه، فإنهُ يُمنع مما فيه ضرر، وقضى عمر - رضي الله عنه -: أن يُوضع وراءَ الكُوات سرير، ويُوقف عليه رجل، فإنْ نظر إلى ما في دار جارهِ، مُنع منهُ، وما كان من ذلك لا يضرُ به لم يُمنع. ومعنى ذلك: أن يكون السريرُ عليه الفُرُش، فإن نظر الواقفُ عليه إلى وجه مَنْ هو في دار جاره، سُدَّ ذلك عَليه، وإلا فلا: فإن حُكِمَ عليه: بسدّ تلك الكوّة، فطلب أن يسدّها من خلف بابها مما يوالي داخل داره، فقال "سحنون" في كتاب ابنه: "ليس ذلك لهُ، وليُقلع، ويسدُّ ذلك كلَّهُ، وترك الباب يُوجب له حيازه بعد اليوم يشهدون لهُ أنَّهُم يعرفون هذا الباب، منذ سنين كثيرة، فيصيرُ حيازة، ولابد أن يقلع. وأمّا ما رفع من البناء، فمَنَعَ جارهُ من الشمس، وَمَهَبِّ الريح، هل يُمنع من ذلك أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يُمنع من ذلك، ولا حُجَّة [له] (¬1) في [كونه] (¬2) يُظلِمْ عليه دارَهُ، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وبه قال أشهب, وابن نافع، وظاهرُ قولهم أنه لا فرق بين أن تكون له منفعةٌ أم لا. والثاني: أنهُ يُمنع من ذلك إنْ لم يكن فيه منفعة؛ لأن على الجارِ فيه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

فرع

مَضرَّة، وهو قول ابن كنانة، والدليل على قوله قولهُ عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1) ومعنى قوله: "لا ضرر"، وهو ما لَكَ فيه منفعةٌ [و] (¬2) على غيرِك فيه مَضرَّة، فأنت المقدّم عليه، ومعنى قوله: "ولا ضرار" هو ما ليس لك فيه منفعة، وعلى جارك فيه مضرّة، فهو المقدّم عليك، وهذا قولُ بعض [شيوخ] (¬3) الحديث. فرع قال مطرف وابن الماجشون في رجلٍ يكون له أرض لاصقة بأندر رجل، فأراد أن يبني فيها بناء، وذلك يقطع الريح [عن] (¬4) الأندر، ويبطلُ نفعهُ، فقال: "لا يُمنع من ذلك؛ لأن [الأندر] (¬5) نفعُهُ ينصرف إلى غير ذلك، ولو مَنعَت صاحب الأرض من هذا كُنت مُضرًا به"، وروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم في "العُتبية": أنه يُمنع مما يضرُّ بجاره في قطع مرافق الأندر، الذي قد تقادم نفع صاحبهِ. فإنْ أراد [أن يحدث] (¬6) أندرًا قُرب دار رجلٍ أو قُرب جنانه أو مبقلتهِ، فإنهُ يُمنع من ذلك لِمَا يُدخل على رب الدار والجنان، لوقوع التبن عليهم في ذلك كمنْ أحدث فُرْنًا أو حمامًا، وهو قول مُطرف، وابن الماجشون في كتاب "ابن حبيب"، وبه قال سحنون. ولو أن أندر الرجل في جوار أندر الآخر، ويجمع زرعهُ ويُخزِّنهُ فيه، ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: شراح. (¬4) في أ: على. (¬5) في أ: الإنذار. (¬6) سقط من أ.

فاشتكى جارهُ أن [. .] (¬1) تمنعُهُ "الريح" (¬2)، وطلب أن يُزيلها". قال سحنون: "ليس لهُ ذلك". وأمّا الدبّاغ: يُؤذي جيرانَهُ بريح دِباغهِ ونتنهِ، فإنه يُمنع كالفُرن والحمام. وأمّا الغسّال والضرّاب: يُؤذي جارَهُ، وَقْع ضربهما فلا يُمنعان كالحداد [حولك] (¬3)، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في "الواضحة". ومن له قطعة من أرض [في] (¬4) فحصَ، فأراد أنْ يبنى في عرصته، وقال الذي حولهُ: لا تبنى فيها، فإنك تضرُّ بزرعنا. قال ابن كنانة في "المجموعة": "لا يُمنع أن يبني ما شاء إذا كان له مخرج إلى الطريقِ في أرضهِ". وقال عبد الملك بن الماجشون، ومطرف فيمن باع دَارَهُ، وقد أحدث عليه جارُهُ فيها كُوة أو مجرى ماءٍ أو غير ذلك من وجوهِ الضرر الذي كان لهُ في القيام، فلم يقُم عليه حتى باعها، فليس للمشتري أن يقومَ في ذلك، ولو كان البائع قد قام في ذلك وخاصم، ولم يتم له الحكم حتى باعها، فلِلمُشتري أنْ يحلّ محلّهُ، ويقومُ مقامهُ، وبه قال "أصبغ". قال سحنون فيمن بني مسجدًا على سطح حَوانيتِ، وجعلَ له سطحُهُ، فكُل مَنْ صار في السطح، يرى ما في دار رجلٍ إلى جانبه، فقام ¬

_ (¬1) كلمة بالأصل لم أتبينها. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ.

عليه بذلك، فقال: يُجبر باني المسجد [على أن يستر] (¬1) على سقف المسجد، وتُمنع الناسُ من الصلاة في المسجد حتى يسدُّ هذا على جارهِ. وقال أيضًا: فيمن له دار عن يمين الطريق، ودارٌ عن يسارِها مُتقابلين، فأرادَ أن يبني على جداري داره سطحًا يتخذ عليه غُرفة، أو مجلسًا: أنَّ [له] (¬2) ذلك، ولا يُمنع من هذا أحد. قال: وإنّما يمنعُ مَن يُضيِّف السكّة، فأمّا ما لا ضرر فيه على السكَّة، ولا على أحد مِن الناس، فلا يُمنع. تم الكتاب، والحمد لله [وصلى الله على محمَّد وآله وصحبه وسلم تسليمًا] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب.

كتاب الحبس

كتاب الحبس

كتابُ الحَبْس تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها أربع مسائل: المسألة الأولى في الحبس المُبهم والمُفَسَّر والحبس له ثلاثة ألفاظ: حبس، وصدقة، ووقْف. وأحكامها: تتَّفِق تارةً، وتختلف تارة. ولفظ الحبس لا يخلو: [من وجهين] (¬1): إمّا أن يكون مُبهمًا، وإمّا أن يكون مُفَسَّرًا. فإن كان مُبهمًا كقولهُ: داري حَبْس، فلا خلاف في المذهب أنها وقفٌ مؤبدٌ، لا تَرْجِعُ ملكًا، وتُصْرَف للفقراء والمساكين، إلا أن يكون بموضعه عُرْفٌ لمصارفِ الأحباس، ومقاصد المُحْبسين، فيُحمل عليه، كقول مالك في "الكتاب": إلا أن يكون بالإسكندرية رحل ما يحبس الناس بها في السبيل، فيجتهدُ في ذلك الوالي. وأمّا المُفسَّر: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون مُقيدًا بأمرٍ مخصوص. والثاني: أن يكون مُفسرًا غير مُقيدٍ بأمرٍ ما. فالجواب عن الوجه الأول: إذا كان الحبسُ مُقيدًا بصفةٍ، أو أَجَلٍ، أو شرطٍ، فالحكمُ يختلف باختلاف التقييد، والألفاظ التي بها حُبِس. فإن قال: حبسٌ، أو قال: وقفٌ، أو قال: صدقةٌ، بشهرٍ أو سنة ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أو حياتي، على معينِ أو مجهول، فلا خلاف أنّ ذلك هبة منفعة، وعمر إلى أجل، ويرجع عند تمامها إلى ربها أو إلى ورثته إن مات. فأمّا إن قال في المُعين: حياتهُ أو ما عاش، فتختلفُ الأحكام في هذه الألفاظ الثلاثة: وأما لفظُ الصدقة، فلا يُختلف أنها كالعمرى. واختُلف في الحبس، على قولين مُتأولين على "المدونة": أحدهما: أنه حبسٌ، ولا يرجعُ ملكًا، سواءٌ قيّدهُ بحياته أو ما عاش، وهو تأويل سحنون على "المدونة". والثاني: أنّه إن أطلقهُ فهو حبس، وإن قيّدهُ بحياته [فهو] (¬1) عُمرى، وهذا القول مُتأوّل على الكتاب أيضًا، وهو قولُ محمَّد، ومُطرف، وكذلك أيضًا لو قال: على فلانٍ بعينهِ. وأما في المجهول المحصور كقوله: على ولد فُلان، إذا قيّدهُ بحياتهم أو ما عاشوا، فعلى قولين أيضًا: أحدهما: أنه حبسٌ مُؤبدٌ كما لو لم يُقيدهُ، وهو مذهب "المدونّة". والثاني: أنه كالعُمري، ولو لم يُقيّدهُ، فإذا قيدّهُ فهو أولى، وأحقُّ أن يكون عُمرى، وهو ظاهر "المُدونة" أيضًا. وأمَّا إن قيّدهُ بالصفة: كقوله: حبس صدقة، أو صدقةُ حَبسٍ، أو قال: لا يُباع ولا يُوهب. فإن كان على مجهولين: فلا خلاف أنه حبسٌ مُؤبد. وإن كان علي مُعينين: فقولان قائمان من "المدونة": ¬

_ (¬1) في أ: فهي.

أحدهما: أنهُ حبسٌ مُؤبدٌ لا يُباع أبدًا، وهو نصُّ "المُدوّنة"، فقال فيها ابن القاسم: ولم يُختلف قولهِ في هذا قط يعني: مالكًا [رضي الله عنه] (¬1). والثاني: أنه يَرجعُ بعد انقراض المُحبَس عليهم إلى المُحْبِس مِلكًا إن كان حيًا، أو إلى ورثته إن كان ميتًا، كالعُمرى، وهي رواية ابن عبد الحكم عن مالك في "العُتبية"، وهو قائمٌ من "المُدونة" أيضًا مِن قول ابن القاسم حيث قال: "وهو الذي يقولهُ أكثرُ الرواة، وعليه يُعتمدون، يشعر بأنّ هناك قولًا لم يعتمد عليه، وهذا ظاهرٌ جدًا. والجواب عن الوجه الثاني: وهو الحبسُ المفسّر غير المُقيدِ بصفةٍ زائدةٍ على تفسيره، فلا يخلو من ستة أوجهُ: أحدها: أنْ يجعلهُ لشخصٍ مُعينٍ محصور. والثاني: أن يجعلهُ لوجهٍ معينٍ محصور. والثالث: أن يجعلَهُ لوجهٍ مُعينٍ غير محصور. والرابع: أن يجعله لغير معين محصور. والخامس: أن يجعله غير مُعين غير محصور. والسادس: أن يجعلهُ على معدوم بعد موجود غير محصور. فأمّا الوجه الأول من الوجه الثاني: إذا جعلهُ لشخص معين محصور كقوله: حبسٌ على فلان أو على أولاد فلان، وسمّاهم بأسمائهم، هل يكون حبسًا مؤبدًا أو يرجع ملكًا؟ فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما: أنه يكون حبسًا مؤبدًا لا يعود ميراثًا أبدًا. ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

فإن مات فلان رجعت إلى أقرب الناس بالمحبس حبسًا, ولا ترجع إليه، وإن كان حيًا، فإن لم يكن له قرابة رجعت إلى الفقراء والمساكين. والثانية: أنها ترجع بعد موت المُحبس عليه مِلكًا للمُحبِس إنْ كان حيًا أو لورثتهِ إن كان ميتًا كالعُمرى، والقولان قائمان من كتاب "الحبس"، وكتاب "الوصايا". وسبب الخلاف: هل النظر إلى لفظ المُحبس أم النظر إلى مقصوده؟ فمن نظر إلى لفظهِ قال: يعودُ مِلكًا؛ لأنَّهُ سمَّاهُ وعيّنَهُ. ومَنْ نظر إلى مقصوده، قال: لا يعودُ مِلكًا، ويرى أن فائدة تعيين المُحبَس عليه الحوز، والتبدئة على غيره لا أكثر. وأمّا الوجه الثانى: إذا جعلَهُ لوجهٍ معين محصور، كقوله: دَاري حبسٌ في وجهِ كذا، فعن مالك فيه روايتان: حكاهما "ابن الجلاب": أحدهما: أنه يبقى حبسًا مؤبدًا، فإن انقرض [عن] (¬1) الوجه الذي جعلهُ فيه [رجع حبسًا على أقرب الناس بالمحبس. والثانية: أنه يعود ملكًا بعد انقراض الوجه الذي جعله فيه] (¬2)، فيكون له إن عاش، أو لورثتهِ إن مات، كالوجهِ الأول على سواء، والمبنى واحد. وأمّا الوجه الثالث: إذا جعلهُ لوجهٍ مُعين محصور كقوله: حبس في السبيل أو في قيد مسجد كذا [أو في إصلاح قنطرة كذا] (¬3)، فحُكمهُ حكم الحبس المُبهم الذي قدَّمنَا ذِكْرهُ: يُوقَف على التأبيد والتخليد. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب.

فإن تعذّر ذلك الوجه لخلاء البلد، أو لفساد موضع القنطرة، حتى يُعلم أنهُ لا يُمكن أن تُبنى، ولا يُرجى لتلك البلدة عِمارة، فإنهُ يُوقَّف إلى أن ييأس مِن عودة عمارتها، فيصرف إلى مثله. وأمَّا الوجه الرابع: إذا جعلهُ في وجهٍ محصور غيرُ معين، كقوله: على بني زيد، أو على بني عمر، أو على فلان وولده، أو على عقبه، أو على مَن يطلُبُ العلمَ بمدينة كذا، هل يعودُ ميراثًا أم لا؟ قولان: أحدهما: أنهُ حبسٌ مؤبدٌ لا يعودُ مِلكًا أبدًا، ويَرجِع بعد انقراض الوجه الذي جعلهُ فيه إلى أقرب الناس بالمَحبِس يوم المرجع حبسًا عليه، وهو قولهُ في "المدونة". والثاني: أنه يعود مِلكًا بعد انقراض الوجه الذي جعلهُ فيه، وهذا القول نقلَهُ اللخمي عن ابن الجلاب (¬1). وسبب الخلاف: هل النظر إلى اللفظ أم إلى المقصد؟ وأمّا الوجه الخامس: إذا جعلَهُ لغير مُعين غير محصور، كقوله: على بني تميم، أو على المساكين، أو في إصلاح المساجد، أو لطُلَّاب العِلم، فلا خلاف أنَّهُ حبسٌ مُؤبدٌ كالمُبهم. وأمّا الوجهُ السادس: إذا جعلهُ حبسًا على معدومٍ بعد موجودٍ غير محصور، كقوله: على أولادي، وبعد انقراضهم يكونُ للمساكين، فماتَ ولم يترك ولدًا، أو آيس له من ولد، ففي ذلك قولان: أحدهما: أنهُ يرجعُ ملكًا، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الوصايا" التالي من "المُدونة" حيث قال: "إذا أوصى لولد فُلان، ولا ولدَ له يومئذٍ، والمُوصِي عالم، فإن مات فُلان قبل أن يُولدَ لهُ، فالوصية باطلة ¬

_ (¬1) التفريع (2/ 309 - 311).

مردودة". والثاني: أنها نافذة للمساكين، وهذا قول عبد الملك. وسبب الخلاف: هل النظر إلى مقصود المُوصِي، فتنفُذ الوصية للمساكين أم النظر إلى لفظهِ، فترجعُ ميراثًا؟ وأمّا لفظُ الوقف: [فقد اختلف فيه متأخرو الأصحاب على قولين: أحدهما: أن لفظ الوقف يفيد التأبيد كان لمعين أو مجهول، أو محصور، وهذا القول حكاه البغداديون. والثاني: مساواة لفظ الوقف] (¬1) ولفظُ الحبس: ويدخل الخلاف في لفظ "الوقف" في [الوجه] (¬2) الذي دخل ما في لفظ الحبس، وهذا القول حكاهُ المغارِبة من المالكية. وأما لفظ الصدقة: فلا يخلو من أن يجعلها لشخص معينٍ، أو لمجهولين غير محصورين، أو يجعلها في مجهولين محصورين، مما يُتوقع انقطاعهم: [فإن] (¬3) جعلها لشخصٍ معينٍ كقولهِ [صدقةٌ] (¬4) لِزيد. أو على مجهولين غير محصورين ممّا لا يُتوقع انقطاعهم، كقولهِ: للمساكين، فإنّ ذلك يكون ملكًا لهم، ويُقسّم عليهم إن كان مما ينقسم أو قيمتُهُ بعد البيع إن كان مما لا ينقسم بين [من حضر] (¬5) من المجهولين. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الواجب. (¬3) في أ: قال. (¬4) سقط من ب. (¬5) في أ: حضور.

وكان الحاضر [وقت] (¬1) القِسمة في حُكم المُعين؛ إذ لا يلزم انتظار جمع جميع المساكين وعمومهم, وذلك غيرُ مقدورٍ عليه، ويُحمل على أنهُ مقصد المُتصدّق. وأمّا أن يتصدق بها على مجهولين محصورين مما يُتوقّع انقطاعهم، كقوله: على ولدِ فلان، أو على فلان وولده، فاختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها حبسٌ مُؤبد، لا يُباع، ويرجع بعد انقراضهم إلى أقرب بالمحبس [حبسًا] (¬2) وهو قول مالك في المدونّة، ونصُّ رجاله فيها، وسواءٌ [قال] (¬3): ما عاشوا أم لا. والثاني: أنهُ يرجع إلى المُحبس عليهم مِلكًا، وهي رواية أشهب عن مالك. والثالث: أن حكمه حكم العُمرى، ويرجع بعد انقراضهم إلى أولى الناس بالمُتصدق ميراثًا أو إليه إن كان حيًا [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) في أ: فكيف. (¬2) في أ: جنسًا. (¬3) في أ: قالوا. (¬4) زيادة من ب.

المسألة الثانية في الشيء المحبس إذا خيف عليه الدمار، هل يجوز [بيعه و] استبداله أم لا؟

المسألة الثانية في الشيء المُحبَس إذا خيف عليه الدمار، هل يجوز [بيعه و] (¬1) استبداله أم لا؟ ولا يخلو الشيء المُحبس من وجهين: أحدهما: أن يكون رياعًا. والثاني: أن يكون عُروضًا أو حيوانًا. فإن كان رياعًا، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون الحاجة [دعت إلى بيعه] (¬2). والثاني: ألا تدعو [إلى بيعه] (¬3) الضرورة. فأمّا إذا دعت الحاجة إلى بيعه، وألحت إلى بيعهِ، وألّحت عليه الضرورة إلى استبداله، مثل: أن يكون الريع المُحبس بجوار مسجدٍ ضاق بأهلهِ، فاحتاج أن يُضاف إليه ليُوسَّع بها، فجائزٌ أن يباع ويُشترى بثمنه ريعًا مثلهُ يكونُ حبسًا، وهو قول سحنون في "النوادر"، وحكاهُ أصحاب المذهب قال: "وقد أُدخل في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - دورًا [حبسها] (¬4) كانت تليه،" وحكى ابن حبيب مثل ذلك عن مالك أنه: جائزٌ للمسجد، ولطُرقِ المسلمين، يتوسَّعُون بذلك فيها، وهو نفعٌ عام للمسلمين، وقال مطَرف، وابن الماجشون، وأصبغ، وابن عبد الحكم: أنّ ذلك في مِثل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: إليه. (¬4) في أ: حبسًا.

جوامع الأمصار، فأمّا مساجد القبائل فلا، والذي قالوهُ هو المذهب. وقال إبراهيم بن المُنذر: أول مَن زاد في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في قِبلتِهِ، ومِن ناحية دار مروان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وزاد في المسجد الحرام، وأدخل في ذلك دورًا مُحبسة وغير مُحبسة، ودفع أثمانها إلى أهلها، ثم زاد عثمان - رضي الله عنه - فيهما بعدهُ، وفَعَلَ كما فَعَلَ عمر - رضي الله عنه -، فَأَبَوْا مِن أخذ الأثمان وصاحوا، فأوْقَعَهَا عُثمان لهم، وأمر بحبسهم، واحتجَّ بفعلِ عمر. وأمّا بيعها لغير حاجة، ولا دعتْ الضرورة إلى ذلك، فالبيع في ذلك ممنوع قولًا واحدًا في المذهب، سواءٌ خرب أو كان قائمًا في موضع العُمران، أو تحوّلت عنه العمارة. وإن خرب وصار عَرْصَة، قال ابن القاسم: قال مالك: ولقد كان [البيع] (¬1) أمثل. وروى ابن وهب في "موطئه": أن ربيعة رخّص في بيع ريع حبس دُثِر وتعطّل، ويُعاوضُ بِثمنهِ في ريعٍ نَحوه في عمارةٍ تكون حبسًا، وذكرهُ سحنون في "آثار المُدوّنة" في "كتاب الحبس". وأمّا الوجهُ الثاني: إذا كان الشيءُ المحبوس حيوانًا وعُروضًا، فضعفت الدواب والعبيد، حتى بطُل ما يُراد منها، من النفع في استعمالها في الجهاد، والوجه الذي حُبس له، وبُلِيت الثياب حتى صارت خلقًا، فهل يجوز بيعها أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المُدونة" في "كتاب الحبس": أحدهما: أنّ بيعها جائز، وهو قولُ ابن القاسم. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثاني: أن بيعها لا يجوز، وهو قول غيره. فعلى القول بجواز البيع: فإنَّهُ يُباع، ويُشترى بثمنه مِثلُهُ إنْ كان فرسًا اشترى بثمنه فرس، وإن كان ثوب اشترى بثمنه ثوب، فإن لم يبلُغ ثمنهُ [قيمةُ مِثله] (¬1)، هل يَعانُ به في ثمنِ غيره أم لا؟ فأمّا الخيلُ: إذا عجز ثمنُهُ عن قيمة الفرس، فإنّهُ يُعانُ به في ثمن الفرس. وأمّا الثياب: فإنّهُ يتخرج فيها في الكتاب قولان: أحدهما: أنّ الثيابُ والخيل على سواء، وأنَّ ما وقعَ في الكتاب، إنما هو بحسب السؤال، ولو سُئل عن الثياب لقال فيها بمثلِ قولهِ في الخيل، وهو تأويل بعضهم. والثاني: أن ثمن الثياب إذا عجز عن قيمة الثوب، تَصدَّقَ به في السبيل، ولا يُعان به في ثمنِ ثوب، بخلاف الخيل، وهو تأويل بعضهم أيضًا، وهو أسعد بظاهر "الكتاب". والفرقُ بينهما على هذا التأويل: أنّ الخيلَ المقصودُ منها المنفعة [بها] (¬2) في الغزو، فينبغي أن تُجعل أثمانها في مِثلها مهما قَدَرْ، ليُحيى قصد المُحبس. وأمّا الثياب، فالمقصود بها الانتفاعُ بأعيانها [للغزاة] (¬3) فإذا بليت، وعُدِمَ الانتفاع بنفسها، أعطيت لهم أثمان ما بيع من خلقها، فينتفعون بها عوضًا عنها، وهذا الفرق لا بأس به. ¬

_ (¬1) في ب: قيمته. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: للعراة.

والفرق بين الرِّياع وغيرها من الحيوان والعُروض في: جواز بيع ما ضعفُ منها أن العروض والحيوان، لو لم يجز بيعها, لأدَّى ذلك إلى هلاكها، وانقراض أعيانها بالكُلية، وانقطاع مُراد المحبسِ منها، ما يحصُل له من الثواب؛ لأن الثواب إنما يُكتب لهُ مع دوام الانتفاع بها، فإذا عدم عينها، وانقطع الانتفاعُ المرادُ منها، فلا ثواب له، فبيعُهُ والشراءُ بثمنِهِ ما يُنتفع به في جنسهِ، والإعانة به في مثلهِ، يُحيي مراد المحبس. وأمّا الريع فإنّهُ وإن خرب واندرس، وصار قاعة، فلابد أن يقيِّض الله له مَنْ له رغبة في اكتساب الأجر، واقتراف الثواب في غالب الأحوال، فيبنيه ويحبسه حتى يُمكن الانتفاع به، ويعودُ إلى الحالةِ الأولى، ويكون أجرُهُ مُستدامًا لمُحبِسه ما دام الانتفاعُ به قائمًا، والحيوان والعروض بخلاف ذلك، مع ما في ذلك من السُنّة في إحباس السلف، وبقاؤها خراب دليلٌ على أنّ بيعها غير مستقيم [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الثالثة في تفسير مسألة ولد الأعيان الواقعة في الكتاب

المسألة الثالثة في تفسير مسألة ولد الأعيان الواقعة في الكتاب واعلم أنها من المسائل التي يتَّسِع فيها المقال، ويتفرعُ فيها السؤال، ويدق فيها الفهم، ويتَّسع الوهم. وقد قال سحنون: إنها من [حِسانِ] (¬1) المسائل وقيل مَنْ يعرفُها، قال: وهي في أكثر الكُتب خطأ. وإنما قال ذلك [الدقة] (¬2) معانيها، وغامض ما في تعريفها مِن خَفِيّ الفقه، ومِنْ حقّها وما بيَّن من ذلك ما حضرني، وبَلَغَتْهُ مَعْرِفتي، وبالله أستعينُ فيما أُحاولهُ مِنْ الشرح المُبين. فيمن حبس دينارًا في مَرَضه، على ولده وولدِ ولده، ولهُ أمٌ وزوجة، والثُلث يحملها، وترك من [البنين] (¬3) ثلاثة، ومِن ولدِ الولد ثلاثة: فاعلم أنه لمّا حبسَ على ولده وولد وَلَده وأعْقَابَهُم، وكان الثلثُ يحمل ذلك، فكان في ذلك حبسٌ علىَ غير وارَثٍ، وهم ولد الولد، والعقِب وعلى الولد، وهم ورثة فنحن لا نقدر أن نبطل ما كان للولد من ذلك، وإن شاء ذلك بقية الوَرَثة؛ لأن [فيه] (¬4) شرط لغيرِ وارثٍ من ولد الولد وما يتناسل من الأعقاب، فلم يكن لنا بُدٌ مِن إيقاف ذلك على معاني الإحباس، إلا أن ما صار من ذلك بيد ولد الأعيان قام فيه وَرَثةُ الميت من أُمٍ وزوجةٍ وغيرهم؛ إذ لا حُجة لورثةِ الميت على ولد الولد؛ إذْ ليسوا ¬

_ (¬1) في ب: أحسن. (¬2) في أ: لرفعة. (¬3) في ب: الولد. (¬4) في أ: فيها.

بوَرَثة، ولا لهم إبطال ما صار لهم من الحبس، ليكون موروثًا بمِلك يتمول ويُباع، لما فيه من حقّ الأعقاب، وهو خارج من الثُلث. وإنّما لهم الحُجّة على ولد الأعيان، في الدخول معهم، في الانتفاع بما في أيديهم؛ إذ ليس لوارثٍ أنْ ينتفع دونَ وارثٍ معهُ، وإذا لم يملكوا [الرقاب] (¬1)، ويملكون المنافع شاركوهم بالميراث في تلك المنافع حتى يزول ذلك عنهم إلى غير وارثٍ، فتنقطع حُجّة الورثة من الانتفاع. ويَصيرُ حَبسًا [صِرفًا] (¬2) لولد الولد إن عاشوا أو [للعقب] (¬3) إنْ ماتوا، والكلام في هذه المسألة في فصلين: أحدهما: في بيان فقهها، وغاية أقسامهِ. والثاني: في بيان حسابها، ونهاية أبوابه. فالجواب عن الفصل الأول: في بيان [فقهها] (¬4)، وغاية أقسامهِ: اعلم أن الزوجة أمٌ لجميع الولد [وعلى أن كل واحد من أعيان الولد] (¬5) ولدًا واحدًا، وهم الثلاثة المذكورون، وعلى أن ولدِ الأعيان ذكور، ولو كان بعضهم إناثًا لم يدخل أبناء الإناث في الحبس، كما قال الشاعر: بَنُونا بَنُو أَبنائِنا وبناتنا ... بنوهُنّ أبناء الرجال الأباعدِ فتجرى المسألة على هذا النسق [صردًا] (¬6) لسؤال الكتاب، وإيضاحًا لما احتوت عليه بواطن الأبواب، ويكونُ ذلك أسرع لفهم ذوي الألباب من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: للعصبة. (¬4) في ب: فقهه. (¬5) سقط من أ. (¬6) في أ: طردًا.

الطُلَّاب، إن شاءَ الله رَبُّ العالمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فإذا ثبت ذلك، فلا يخلو من أربعة أوجهُ: أحدها: أن يموت واحدٌ مِن ولد الأعيان. والثاني: أن يموت واحدٌ من ولد الولد. والثالث: أن يحدث ولد لبعض ولد الأعيان، أو لبعضِ ولد الولد. والرابع: أن يموت بعضُ الورثة مِمن يأخُذ بالميراث خاصةً. فالجواب عن الوجه الأول: إذا مات واحدٌ من ولد الأعيان عن سهمه من أصل المسألة، هل تنتقض القسمة في جميع المُحبس أو لا؟ فلا يخلو الحبس من وجهين: أحدهما: أن يكون مما تُقَسَّم غلتهُ على مَن وُجد [حيًا] (¬1) يومئذٍ. والثاني: أن يكون مما لا تُقسّمُ غلتهُ، كالدُور [تسكن] (¬2) والأرضين تزرع، فإنْ كان مما تُقسّمُ غلتهُ: فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنَّ القِسمة لا تنتقض في جميع الحبس، وإنّما يُؤخذ سهمهُ من أصل الحبس، وذلك [سدس] (¬3) جميعهِ؛ لأنَّا نأخُذ ما بِيدهِ مِنْ والدهِ، ونُعيد إليه من قبل الأم والزوجة ما أخذنا منه، وهو سُدس سهمهِ وثُمُنه، فيعود سُدسًا كاملًا، ويُقال لهما: قد كُنتما تحتجّان عليه, بأنهُ يستأثر بذلك دُونَكُما، وأنتما وارِثَان معهُ، فلما مات لمْ يَبْقَ لكمَا حُجَّةَ في بقاء ما أخذتُما منهُ بأيديكما لقيامِ ولدِ الولد فيهِ بمعنى الحبس، ولا حُجَّة لكما على ولد الولد؛ إذْ هُم غيرُ ورثة، فيُقسم ذلك السُدُس الذي كان ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: سدٌ من.

حظُّ الميت، مِن ولد الأعيان مِن أصل الحبس، على خمسةِ أسهُم، فالثلاثةُ أسهم لولدِ الولد مُضافة إلى ما بأيديهم مِن جدِّهم، وسهمَان لولدي الأعيان تقوم فيهما أُم الميت وزوجتُهُ، فيأخُذان الثُمُن والسُدُس منهما، ثمّ يُقَسَّم ما بقى من هذين السَهمين على ثلاثةِ أسهُم، فلِكُل واحدٍ من الحيين من ولد الأعيان منهم سهم، وسهمٌ لورثة الهالك من ولد الأعيان؛ لأنه يحيا بالذكر بين ولده وبقية من يَرِثُهُ إن كان، فيصير بيد ولده هذا نصيب بمعنى من الحبس من جدِّه في القسم الأول، والثاني نصيب بمعنى الميراث عن أبيه هذا الميت الثاني، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم فَي "العُتبية"، و"الموازية"، وهو ظاهر قوله في "المُدونَّة". والثاني: أن القسمة تنتقض في جميع الحَبس، ويردُّ كلَّ واحدٍ من ولد [الولد وولد] (¬1) الأعيان، والأُم، والزوجة، جميعَ ما في أيديهم، فيُقسم أصل الحبس على خمسةِ أسهم: فثلاثة منها لولد الولد، وسهمان لولدي الأعيان الباقين، تأخُذ زوجة أبيهما ثمنهما، وأُمَّهُ سُدُسها، والباقي يُقسَّم على ثلاثة أسهم: فسهمان للحيين، وسهمٌ لورثةِ الميت من ولد الأعيان، وهي رواية يحيى بن يحيى عن ابن القاسم، وبه أخذ ابن الموّاز. والثالث: أن القسْم [لا] (¬2) ينتقض في جميع الحبس، وإنما تنتقض فيما بين ولدي الأعيان، وزوجة الميت الأول، [وأمُّهُ] (¬3)، فإذا قُسِّم السُدُس الذي هو للميت من ولد الأعيان على خمسة أسهم، كما قال في القول الأول، فيَصير لولدِ الولد ثلاثة أسهم، ولولدي الأعيان سهمان، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: كل. (¬3) في ب: وبنيه.

فإنّهُ يأخذ ما بيدِ كلِ واحدٍ من ولدي الأعيان، والأُم والزوجة من القسم الأول، فيُضاف بعضهُ إلي بعض، ثم أخرج ثمنهُ للزوجة، وسدسه للأم، ثمّ أحيى الميت الثاني بالذكر، ويُقسَّم الباقي على ثلاثة أسهم: لولدي الأعيان، وسهمٌ لوَرَثَة الميت الثاني، وهذا تأويل أبي إسحاق التونسي على المسألة. والرابع: أن القسم لا ينتقض إلا فيما بين ولدي الأعيان خاصةً، بحقِّ وَرَثةِ الميت منهم [فإذا أخذ سهمين من سدس الميت منهم] (¬1)، وتأخذ الأُمُّ والزوجة السُدُس والثُمُن منهما، فإن الباقي يُضَمُّ إلى ما بأيديهما قديمًا من القِسم الأول، فيُقسَّم على ثلاثة أسهم: سهمان لهذين الحيين، وسهمٌ للميت، يدخُلُ فيه جميع من يرثُهُ، وهذا القول حكاهُ ابن عبدوس عن سحنون. وفائدة الخلاف وثمرته: اعتبار مساواة وَرَثة الهالك من ولد [الأعيان] (¬2) للحييِّن منهم فيما يصحُّ لكلِ واحدٍ منهم، هلَ [يُعتبر] (¬3) أم لا؟ فَمَنْ اعتبرهُ قال: بانتقاض القِسمة، إمّا من أصلها كما قال سحنون، وابن القاسم في رواية يحيى، وإمّا بانتقاضها فيما بين ولدي الأعيان والزوجة، والأُم أو فيما بين ولدي الأعيان أنفسهما. وَمنْ لم يعتبر ذلك قال: لا تنتقض القسمة بوجهٍ، كما هو ظاهر "المُدونة"، ورواية عيسى في "العُتبية"؛ لأنَها [إذا] (¬4) انتقضت تساوى ورثة الهالك مع ولدي الأعيان فيما يصحَّ لكلِ واحدٍ منهم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: يتعين. (¬4) سقط من أ.

فإن لم تنتقض كان الحيّان مِن ولد الأعيان، يأخُذان أكثر مما يأخذ ورثة الميت منهم، وفي "فصل الحساب" يتبيّن ذلك، ويتضّح إن شاء الله تعالى. وأمّا ما يُقسّم أَصلُهُ دون غلّتِهِ: كالدور تُسكن، والأرض تُزرع، فلابد من نقض القسْم فيه، وهو قول سحنون في "كتاب ابن عبدوس"، وما قالهُ صحيح؛ إذْ لا يُتصور قسمة نصيب الميت من أصل الحبس إلا بذلك. والجواب عن الوجه الثاني: إذا مات واحدِ مِن ولدِ الولد بعد ذلك، وقد مات قبلَهُ أبوهُ مِنْ ولد الأعيان، هل ينتقض القَسْم بموتهِ أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القَسْم ينتقض، فيُؤخذ ما بيدِ كُلِ واحدٍ من ولدي الأعيان وولدي الولد بمعنى الحَبْس والميراث، وما بيدِ الأُم والزوجة، فيُقسم جميع الحَبس على أربعة أسهم: سهمان لولدي الأعيان، يدخُلُ فيهما الأُم والزوجة على [ما فسّرنا] (¬1)، وسهمان لولدي الولد بمعنى الحبس، وهو قول سحنون، وابن عبدوس. والثاني: أن القسم لا ينتقض، وهو قول ابن القاسم، ووجهُ العمل في القسمة على هذا القول: أن يُؤخذ ما كان بيدِ هذا الميت مِنْ ولدِ الولد، وهو الخُمس المأخوذ في قِسمة الحبس عندَ مَوْت جدِّهِ، وعند موت أبيه بسبب موت أبيه دون ما بيده بالميراث عن أبيه فيُقسَّم هذا الخُمس على أربعة أسهم: لكل واحدٍ من ولدي الولد سهم، وسهمان للحيين من ولد الأعيان، وهل تأخُذ فيهما أُمُّ الجد، وزوجتُهُ السُدُس والثُمُن أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من ب.

فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهما يأخذان فيهما [الثمن و] (¬1) السُدُس، كما يأخُذان في موت واحدٍ من ولد الأعيان، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنهما لا يدخُلان فيهما، وهما لولدي الأعيان خُصوصًا، وهو قول سحنون. وينبني الخلاف على الخلاف: في السهميْن الراجعيْن إلى ولدي الأعيان، مِن خمس مَن هلك مِن ولد الولد، هل رجع إليهما بمعنى الوصية أو بمعنى مرجع الأحباس؟ فمن رأى أنّ رُجوعهما إليهما بمعنى الوصية، قال: تدخُل فيهما الأُم والزوجة بالثُمُن والسُدُس؛ إذ "لا وصية لوارث" (¬2) ولا يصح أنْ يكون بمعنى المرجع؛ لأنّ مرجعَ الأحباس لا يصح أن يرجع مع وجود المُحبس عليهم [لأن حكم المحبس عليهم] (¬3) إذا كانوا جماعة إنما يأخذون ما مات عنه بعضهم بأصل التخيير لا بمعنى المرجع؛ لأنَّ الميت قصدَ أن يكون للآخر منهم، بدليل أن لو كان المحبس عليهم أجنبيين, فمات بعضهم، لكان بقيتهم أولى بالحبس دون عصبة الميت، ولو كان نصيب مَنْ مات إنما رجع إليهم بمرجع الحبس لَوَجَبَ أنْ يكون قرابة الميت أوْلى مِن بقية الأجنبيين. فمن رأى أن [رجوعه] (¬4) إليهما بمعنى مرجع الأحباس قال: لا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه البخاري (2870)، (3565)، وابن ماجة (2713)، وأحمد (22348) من حديث أبي أمامة، وصححه الألباني. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: رجوعهما.

تدخُل فيهما الأُمُّ والزوجة، وهذا القول أضعف القولين، والذي قاله ابن القاسم أصح، وعليه أكثر الرواة. فعلى القول بدخُول الأُم والزوجة فيهما بالثُمن والسُدس، فإنّ الباقي يُقسَّم على ثلاثة أسهم: سهمان لولدي الأعيان الحيين، وسهمٌ لورثة أخيهما الميت يدخُل في ذلك كلُّ مَنْ يرثُهُ، والأُم والزوجة إن كانتا لهُ، والباقي لورثة ولده الذي مات بعدهُ، وإن لم يكن [له] (¬1) الآن ولد؛ لأنه إنّما قسّم ذلك على قسم ما ورَثَ عليه يوم مات لا اليوم. فإن كان لولدهِ الأم والزوجة: دخلتا فيه بالثلث والربع، وما بقي لعميْه؛ لأن ما قسم من هذه المسألة على معنى الميراث؛ فإنما يقسم على القسم الأول، ثم يكون لورثة ورثته أبدًا ما بقى [أحد] (¬2) من ولد الأعيان. فإن مات بعد ذلك ولدٌ آخر من ولد الأعيان، فانظر إلى ما نَابَهُ في مُقاسمة ولد الولد مِن أصل الحبس في أصل هذه الأقسام: وذلك بالرُبع، فرُدَّ إليه كُل ما خرج منهُ لأُمِّ زوجه، ولزوجة أخيه ولوَرَثة وَرَثته؛ لأن ما يُؤقت مِن القسْم بموته، إنّما هو لحجة ولد الولد في إقامة قِسْم الحبس، ولا حُجَّة عليهم لوَرَثة الجد فيما [لهم] (¬3) من توفير سهمهم على قسم الحبس بوصية الجد، فتجده أخذ من أبيه السُدس ثُمَّ عن أخيه خُمس السُدس، فصار ذلك خُمسًا. ثُمَّ أخذ رُبع الخُمس عن ابن أخيه، وصار لهُ الرُبع، ثُمَّ يُقسَّم هذا الرُبع بعد أن رُد إليه كُلما خرج منهُ مِن عند مَن دانَ إليه مِن وارث، ووارث وارثٌ على ثلاثة أسهم: فسهمان للباقين من ولد الولد، وسهمٌ للباقي من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

ولد الأعيان: تأخُذ منهُ زوجة الجَدِّ ثُمُنه، وأُمُّهُ سُدسه، ثُمَّ يقسَّم بَقِيَّتهُ علىَ ثلاثة أسهم: [فسهم] (¬1) لهذا الحي من ولد الأعيان ولوَرَثة كُل واحدٍ من ولدي الأعيان الميتين سهم سهم، يدخُل ورثة كلِ واحدٍ منهما في سهمه على ما سبق من التفسير، والخلاف الذي قدّمناهُ في الوجه الأول في انتقاض القِسمة داخلٌ في هذا الوجه، فلا فائدة لتكراره. فإن مات بعد ذلك أحدٌ مِن ولد الولد، وهو ابن الميت الثاني قبلَهُ، من ولدِ الأعيان، فقد علمت أن بيده عند موت جدِّه السُدُس [و] (¬2) عند موت عمِّه خُمس السدس، فصار ذلك الخُمسَ عند موت أخيه رُبع الخمس، فصار ذلك الرُبع، ثمّ عند موت ابنيه ثُلث الرُبع، فصار ذلك الثُلث: فيُقسَّم ذلك على سهمين: فسهمٌ للباقي مِن ولد الولد، وسهمٌ للباقي من ولدِ الأعيان، هل تدخلُ في الأُم والزوجة [أم لا] (¬3)؟ فعلى الخلاف الذي قدّمناهُ بين ابن القاسم وسحنون، فعلى القول بدخولهما، فإن الباقي يُقسّم على ثلاثة أسهم: فسهمٌ لهذا الحي من ولد الأعيان، وسهمان لوَرَثةِ الميتيْن [من ولد الأعيان يرث كل واحد منهما سهم تدخل أمه، وزوجته أو ورثتهما إن ماتا، والباقي الذي يجب لولدي الميتين] (¬4)، يأخَذهُ عَمُّهما؛ هذا إذ لا وارث لهما غيرهُ. وعلى القول بأن الأُم والزوجة، لا يدخلان فيما أخذ الباقي مِن ولدِ الأعيان مِنْ ولد الولد، فإنَّ ذلك [الثلث يقسم] (¬5) على سهمين: سهمٌ ¬

_ (¬1) في أ: قسم. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: يقسم الثلث.

للحي من ولد الأعيان، وسهمٌ للباقي من ولدِ الولد. وأمّا ما كان بيده بمعنى الميراث، مِن موت أبيه، فلا يدخلُ في هذا القسم على القولين جميعًا، ويبقى لوَرَثته سبيل الميراث ما بقي أحدٌ مِن ولد الأعيان، إلا على القول بانتقاض القسمة من أصلها. فإن مات بعد ذلك الباقي مِنْ ولد الأعيان، فإنَّهُ يأخذُ كُلَّ ما بيدهِ وكُلَّ ما بيدِ غيره من أهل الميراث مِن زوجة، وأم، وَوَرَثة ولدِ، وكُل مَن بيده شيءٌ من ذلك بميراثٍ، فيُدفع إلى ولد الولد الباقي، فيصير بيدهِ الحُبس بأسرِهِ. ثمّ إن مات ولد الولد -هذا- الباقي كان هذا الحبس، لأقرب الناس لمن حبسهُ حبسًا, ولا يدخُل فيه إلا مَن يدخُل في مراجع الأحباس. ولو مات أولاد ولد الولد الباقي، وبَقِيَ واحدٌ من ولدِ الأعيان، ولم يبق مِن أهل الحبس غيرهُ، أخذ هذا الباقي من ولد الأعيان كُلَّ ما بيد هذا الميت من الحبس، وهو النصف: فتأخُذ منهُ الأمُ والزوجة الثُمن والسُدُس على قولٍ، فيُقسّم الباقي على ثلاثة أسهم: فسهمٌ له، وسهمٌ لوَرَثةِ كُل واحدٍ مِن ورثة أخويه، وما كان بيد هذا الميت الذي هو ولدُ الولد، بسبب الميراث عن أبيه، فهو لِمن يرثُهُ عَلى سبيل الميراث، ما بقى مِن ولد الأعيان أحد. وعلى القول بأنّ ما مات عنه ولدُ الولد ممّا بيدهِ بمعنى الحبس، فإن مَرجِعَهُ إلى مَن بَقِي مِن ولد الأعيان مرجع الأحباس؛ فإنَّهُ لا يُقسَّم مع أحدٍ ثمَّ إن مات بعد ذلك، فإنَّهُ يُرجَع الحبس جميعُهُ إلى أقرب الناس بالمُحبِس حبسًا.

والجواب عن الوجه الثالث: إذا حدث ولد لبعض ولد الأعيان أو لبعض ولد الولد، فإن القسم ينتقض قولًا واحدًا، أو يقسم أهل الحبس على سبعة أسهم؛ فما صار لولد الأعيان دخلت الزوجة والأم على ما تقدم، ثم يقسم الباقي على ثلاثة أسهم؛ لكل واحد [منهم] (¬1) سهم [سهم] (¬2). والجواب عن الوجه الرابع: إذا مات بعض الورثة ممن بيده ذلك بمعنى الميراث خاصة، فلا ينتقض القسم بموته، ولا يؤتنف فيما ترك قسم بمعنى الحبس، ولكن [يقسم] (¬3) بين ورثته على معنى [الميراث] (¬4) أبدًا ما بقي أحد من ولد الأعيان، وإذا ماتت زوجة الجد، فورث ما بيدها ولد الأعيان، وهم بنوها؛ فلا حجة فيه عليهم لولد الولد؛ لأن الولد أخذه بالميراث بعد قسم الحبس على ما أوصى [المحبس] (¬5)، ثم إن مات بعد ذلك واحد من ولد الأعيان، فإن ما دار إليه هاهنا عن أمه مما دار إليهما من سهمه يدخل في قسم الحبس، وإن أخذه بميراث؛ لأن بموته ينتقض كل ما كان خرج من سهمه لأم وزوجة حتى يكمل أصل ما نابه من الحبس فيقسم، بخلاف غيره في هذا من أهل الميراث. والجواب عن الفصل الثاني: في بيان حسابها: اعلم أن أرباب المذاهب اختلفوا في قسمة الحبس إذا نص المحبس الولد وولد الولد هل [يساوى] (¬6) بينهم أو [يؤثر] (¬7) الآباء على الأبناء على قولين قائمين من "المدونة": ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: ينقسم. (¬4) في أ: المواريث. (¬5) في أ: الميت. (¬6) في أ: يسوي. (¬7) في أ: يؤثروا.

أحدهما: أنه يؤثر الآباء على الأبناء، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الحبس". [والثاني: أنه يساوي بينهما، وهو قول المغيرة في الكتاب، وهو مذهب أشهب، وعليه يتفرع حساب هذه المسألة] (¬1). فنقول -وبالله التوفيق: وإذا حبس على ولده، وهم ثلاثة [وعلى ولد ولده وهم ثلاثة] (¬2) في مرضه، والثلث- يحمله وله أم وزوجة فإن فريضتهم من ستة أسهم لكل واحد منهم سهم، ووجب للأم والزوجة أخذ الثمن والسدس من سهم كل واحد من ولد الأعيان، والسدس لا ثمن له؛ فالثمن والسدس من أربعة وعشرين لكل سهم ستة، والستة لها سدس ولا ثمن لها؛ فتضرب ستة في أربعة وعشرين؛ فيصير العدد مائة وأربعة وأربعين لكل سهم أربعة وعشرون للزوجة ثمن سهم كل واحد منهم وجملته تسعة أسهم، وللأم سدس سهم كل واحد منهم [وجملتها] (¬3) اثنا عشر. ثم مات واحد من ولد الأعيان وبيده سبعة عشر وردت الأم ما أخذت -وهو أربعة- والزوجة ما أخذت من سهمه -وهو ثلاثة- فعاد السدس كما كان وهو أربعة وعشرون، وهي لا تنقسم على خمسة فتضرب خمسة في مائة وأربعة وأربعين، فتصير سبعمائة وعشرين، ثم تقسمه على ستة، فيصير لكل سهم مائة وعشرون؛ فيقسم سدس الميت -الذي هو مائة وعشرون -على خمسة أسهم- عدة [الولد] (¬4) وولد الولد، وبقية ولد الأعيان، فيصير لكل سهم أربعة وعشرون؛ فتأخذ الأم والزوجة السدس، ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: وجملته. (¬4) سقط من أ.

والثمن من سهمي ولدي الأعيان وجملتها أربعة عشر سهمًا: للأم ثمانية أسهم، وللزوجة ستة، والباقي أربعة وثلاثون غير منقسمة على ثلاثة؛ لأن الميت يحيا بالذكر، فتضرب ثلاثة في جملة ما انتهت إليه الفريضة، وذلك سبعمائة وعشرين؛ فتصير ألفان ومائة وستون مقسوم على ستة؛ فالسدس لكل واحد ثلاثمائة وستون؛ فتأخذ الزوجة ثمن ما بيد كل واحد من ولد الأعيان؛ فيجتمع لها خمسة وثلاثون ومائة، وللأم السدس فيجتمع لها مائة وثمانون. فلما مات واحد من ولد الأعيان رد إلى ما بيده ما أخذت الزوجة منه؛ وذلك خمسة وأربعون، ومن عند الأم ستون؛ فيعود السدس كما كان ثلاثمائة وستون؛ فتقسم على خمسة، فخمسه: اثنان وسبعون لكل واحد من ولد الولد، وولدي الأعيان؛ فتأخذ الأم سدس ما بيد كل واحد من ولدي الأعيان؛ وذلك اثنا عشر، وتأخذ الزوجة تسعة من يد كل واحد منهم؛ يبقى بيد كل واحد منهم أحد وخمسون؛ فيجمع ذلك, فيكون مائة وسهمان؛ فيقسم على ثلاثة، فيصير لكل سهم أربعة وثلاثون ولورثة أخيهما سهم من ذلك أربعة وثلاثون؛ فيجمع بيد كل واحد من ولدي الأعيان تسعة وثمانون ومائتان، وبيد ورثة أخيهم أربعة وثلاثون، وبيد زوجة الأب ثمانية ومائة، وبيد أمه أربعة وأربعون ومائة، وبيد كل واحد من ولد الولد اثنان وثلاثون وأربعمائة. ثم إن مات واحد من ولد الولد وبيده اثنان وثلاثون وأربعمائة: فعلى القول بأن القسمة لا تنتقض فلا إشكال، وعلى القول بانتقاضها، فاقسم جميع الحبس على أربعة أسهم، فإن وقع الكسر في بعض الوجوه، فاضرب سهام من انكسرت عليه في ما انتهى بك العدد حتى ينتهي إلى عدد لا كسر فيه.

ولا تكاد المسألة تسلم من الكسر إلا بمضاعفة العدد إلى مئين الألف، ولكن ذلك يتفاحش جدًا, ولو بسطنا فيها الحساب والضرب لخرج بنا إلى حد الإكثار الذي لا يجدي فائدة، وقد بينت لك وجه العمل في المسألة، فاهتد بهديه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الرابعة في موت بعض من حبس عليهم ثمر الحائط

المسألة الرابعة في موت بعض من حبس عليهم ثمر الحائط ولا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يموت قبل إبار الثمرة، وقبل القسمة. والثاني: أن يموت قبل الإبار وبعد القسمة. والثالث: أن يموت بعد الإبار، أو بعد الطيب، وقبل القسمة. فأما الوجه الأول: إذا مات قبل الإبار، وقبل القسمة، فلا حق لورثته في الثمرة اتفاقًا، إلا شيئًا ذكره أبو الحسن اللخمي أنها تكون غلة بالظهور. وأما الوجه الثاني: إذا مات قبل الإبار، وبعد القسمة فسهمه لورثته، ولا ينزع منهم اتفاقًا, ولا إشكال في هذين الوجهين. وأما الوجه الثالث: إذا مات بعد الإبار أو بعد الطيب، وقبل القسمة لمن تكون الثمرة؟ فقد اختلف فيه على أربعة أقوال كلها قائمة من المدونة: أحدها: أن الثمرة لبقية أصحابه كانوا يتولون العمل أم لا. وهذا [القول الذي رجع إليه مالك في "الكتاب". والثاني: أن سهم الميت يرجع إلى المحبس عليهم سواء كانوا يتولون العلم أم لا، وهذا] (¬1) يتخرج من "الكتاب" غير منصوص عليه فيه؛ وذلك أنه لمَّا لم يكن لورثته ميراث؛ لكونه مات قبل أن تكون الثمرة غلة -على قول- لم يصح فيه لورثته ميراث بعد، ولم يتعين لبقية الأصحاب ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وجه يستحقون به سهم الميت تعين رجوعه إلى المجلس. أصل ذلك: لو ماتوا جميعًا قبل أن تصير الثمرة غلة، فإن جميع الثمرة ترجع إلى المحبس بلا خلاف؛ لأنهم قوم معينون، وبه تصح مسألة الكتاب، وهذا ظاهر لا مراء فيه. والقول الثالث: التفصيل بين أن يتولوا العمل، فيكون سهم الميت لبقيتهم، أو لا يتولوا العمل، وإنما تقسم عليهم الغلة، فيرجع سهم الميت إلى المحبس، وهذا القول الذي رجع عنه مالك في [الكتاب] (¬1). والقول الرابع: أن سهم الميت لورثته موروث عنه؛ لأنه مات بعد ثبوته له واستحقاقه إياه، وهو قول الرواة آخر الباب، وظاهر ألَّا فرق بين أن يتولوا العمل أم لا. وسبب الخلاف: اختلافهم في الثمرة بماذا تكون غلة؛ وقد اختلف فيها المذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: إنها تكون غلة بالإبار. وهو قول المدنيين في كتاب الشفعة من المدونة، وهو قول الرواة في كتاب الحبس. والثاني: إنها تكون غلة بالطيب، وهو قوله في كتاب الحبس من المدونة. والثالث: إنها لا تكون غلة إلا بالقسمة، وهو ظاهر قوله في "كتاب الوصايا الثاني" من "المدونة": إذا حبس ثمرة [حائطه] (¬2) على رجل وولده، فقال فيه: إذا حضرت الغلة إنما ذلك لمن حضر القسمة؛ [فقد ¬

_ (¬1) في أ: الكتب. (¬2) في أ: لحائطه.

بين] (¬1) أنها إنما تكون غلة بالقسمة، ومن مات قبل ذلك فلا شيء له، وإن مات بعد طيب الثمرة، فلا يورث عنه سهمه، ومن ولد قبل القسمة دخل فيها. ومثله لعبد الملك بن الماجشون في "واضحة ابن حبيب"، ولابن كنانة في "المجموعة"، وقد [نَبَّه] (¬2) ابن أبي زمنين على هذا الظاهر قال: ويحتمل أيضًا أن يكون معنى قوله: "حضرت الغلة" أي: طابت، ونظر في قسمتها، وإنما تعاينت لبيان هذا الاستقراء؛ لأني رأيت أكثر شيوخ المتأخرين في كتبهم حكوا إجماع المذهب في هذا الفصل أنها تكون غلة بالطيب، وإن مات من المحبس عليهم [أحد] (¬3) فسهمه موروث عنه بلا خلاف، وأين هم عما استخرجناه من "الكتاب"، واستشهدنا عليه بما هو مسطور في الأمهات، والتوفيق بيد الله يؤتيه من يشاء. وعلى القول بأنها لا تكون غلة بالإبار، أو الطيب إذا مات أحدهم -وقد تقدم- له فيها نفقة؛ فلا خلاف أن لورثة الميت الرجوع بالنفقة؛ لأن أصحابه قد انتفعوا بنفقته فيما عمل معهم. واختلف المتأخرون هل الرجوع بالأقل مما أنفق أو بما ينوبه من الثمرة أو إنما يرجع [عليهم] (¬4) بقيمة النفقة نقدًا. وفائدة الخلاف وثمرته: إذا اجتيحت الثمرة هل تسقط المطالبة [أم لا؟ فمن قال: يرجع بالأقل قال تسقط المطالبة] (¬5) وهو ظاهر "المدونة" في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بين. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

غير ما موضع فيمن سقى وعالج على وجه الشبهة؟ وعلى القول بأن ذلك على بقية الأصحاب [نقدًا] (¬1) فلا تسقط المطالبة، وهو ظاهر المدونة، ويكون ذلك دينًا لزمهم، وهو ضعيف. ولو كانت الثمرة محبسة عليهم حياة الحبس، فمات وفيها ثمرة، فهي للمحبس عليهم. وإن أبرت، فعلى الخلاف الذي قدمناه حرفًا حرفًا. تم الكتاب بحمد الله وعونه، وصلى الله على سيدنا محمَّد خير خلقه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كتاب الصدقة والهبة

كتاب الصدقة والهبة

كتاب الصدقة والهبة تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها أربع مسائل: المسألة الأولى في جواز الهبة، والصدقة، وافتقارها إلى الحوز أما الحوز: فلا خلاف بين العلماء في جواز الهبة، والصدقة [التي] (¬1) لغير ثواب، وإن اختلفوا في بعض أحكامهما. وأما افتقارهما إلى الحوز، فلا خلاف في مذهب مالك أنها تلزم بالقول، ومن تمامهما القبض، والحوز عنده من تمام الهبة لا من شروط صحتها. والحوز يختلف باختلاف الشيء المحاز؛ على ما سنفصله، ونحصله تحصيلًا لم يسبق إليه؛ فنقول -وبالله التوفيق: لا يخلو الواهب من أربعة أوجه: أحدها: أن يهب ما في حوز غيره. والثاني: أن يهب ما في ملكه وتحت يده. والثالث: أن يهب ما في حوز الموهوب له. والرابع: أن يهب له ما في ذمته، أو في ذمة غيره. فأما الوجه الأول: إذا وهبه ما في حوز غيره، فلا يخلو من أن يعلم ذلك الموهوب له، أو لم يعلم. فإن علم بذلك، فلا يخلو من هو في حوزه من أن يقبضه على معنى ¬

_ (¬1) سقط من أ.

اقتطاع ملك مالكه، أو على غير اقتطاع الملك. فإن قبضه على معنى اقتطاع ملك الغاصب، هل يكون حوزه حوزًا للموهوب له أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن حوزه له حوز، وهو قول أشهب، واختيار ابن المواز. والثاني: أن حوزه لا يكون حوزًا للموهوب له، وهو قول ابن القاسم، ورواه ابن حبيب عن أصبغ أيضًا. ووجه قول أشهب: أن الغاصب لما كان ضامنًا لما غصبه بوضع يده عليه؛ فصار ذلك كَدَيْن [عليه] (¬1) فيجوز بالإشهاد؛ إذ هو غاية المقدور. ووجه قول ابن القاسم: أن يد الغاصب مانعة للشيء الموهوب، فلم تصح فيه الحيازة للموهوب له كما لو كان تحت يد الواهب. فإن كان قبضه إياه على غير اقتطاع الملك، فلا يخلو من أن يقبضه لمنفعة مالكه على الخصوص أو يقبضه لمنفعة يستوفيها منه. فإن قبضه لمنفعة مالكه على الخصوص كالوديعة، هل يكون حوز المودع حوزًا للموهوب له أم لا؟ فلا يخلو من أن يعلم [المودع] (¬2) بذلك أو لم يعلم. فإن علم بالهبة، فحوزه حوز الموهوب له قولًا واحدًا في المذهب. وإن لم يعلم ففيه قولان: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

أحدهما: أن حوزه لا يكون حوزًا له، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن حوزه له حوز، وهو قول [الغير] (¬1). فإن قبضه لمنفعة يستوفيها منه، فلا يخلو من أن تكون مما يستوفيه من عينه أو تكون مما يستوفيه من منافعه. فإن كانت مما يستوفيه من عينه على وجه كالرهن، هل يكون حوز المرتهن حوزًا له أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من المدونة: أحدها: أن حوزه له حوز. والثانى: أن حوزه لا يكون حوزًا له [جملة] (¬2). والثالث: التفصيل بين أن يعلم بذلك المرتهن؛ فيكون حوزه حوزًا للموهوب له، أو لا يعلم؛ فلا يكون حوزه له حوزًا. والأقوال الثلاثة قائمة من "المدونة" من "كتاب الرهون"، و"كتاب الهبة". فإن كانت مما يستوفيها من منافعه مع بقاء عينه، فلا يخلو من أن يكون ذلك بِعِوَض أو بغير عِوَض. فإن كان ذلك بِعِوَض كالإجارة، فالمذهب فيها على قولين: أحدهما: أن حوز المستأجر لا يكون حوزًا للموهوب [له] (¬3)، وهو قول ابن القاسم. ¬

_ (¬1) في ب: غيره. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

والثاني: أن حوزه له حوز، وهو قول أشهب. وهذا كله إذا لم يهب له الإجارة مع الرقبة. وأما لو وهبها معها لكان كالعارية، وسيأتي الكلام عليها. ووجه قول ابن القاسم [أن الإجارة] (¬1) لما كان الواهب هو المستوفي لكراء المنافع، فكأن يده باقية على المنافع، فلم يجز ذلك الموهوب؛ لبقاء يد الواهب على المنافع التي هي المقصود من الأعيان. ووجه قول أشهب: أن يد الواهب لما ارتفعت عن الشئ الموهوب ملكًا وحوزًا كان حوز المستأجر حوزًا للموهوب له. فإن كان ذلك بغير عوض كالمخدم، والعارية، فالمذهب فيه على أربعة أقوال: أحدها: أن حيازة المخدم، والمستعير حوز للموهوب له جملة بلا تفصيل، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن حوزه ليس بحوز له جملة. وهذا أحد الأقاويل في رهن فضلة الرهن. والثالث: التفصيل بين أن يعلم الحائز بالهبة، أو لا يعلم؛ فإن علم بذلك ورضى أن يجوز للموهوب له، [فحوزه له جائز] (¬2)، وإن لم يعلم بالهبة، فلا يجوز حوزهما له، وهو قول ابن القاسم في المودع، وأحد القولين في رهن فضلة الرهن في "كتاب الرهون" من "المدونة". والرابع: التفصيل بين أن تقدم الخدمة، والعارية على الهبة ثم لا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

يكون حوزهما حوزًا له، فإن تأخرت الخدمة عن الهبة، أو كان ذلك كله في مرة واحدة، فحوزهما حوز للموهوب له، وهو قول ابن الماجشون. فإن لم يعلم الموهوب له بالهبة حتى مات الواهب هل يكون حوزه من ذلك الشيء بيده حوزًا أو لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه حوز، وهو قول أشهب. [والثاني: أنه لا يكون حوزه حوزًا، وهو قول ابن القاسم. وقول أشهب] (¬1) مثل قول مالك في "المدونة" في الذي وهب لغائب، وبعث ذلك إليه، وأشهد ثم مات الواهب قبل الوصول. وأما الوجه الثاني: إذا وهب له ما في ملكه، وتحت يده فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن [تكون] (¬2) الهبة حاضرة مع الموهوب له، أو غائبة عنه. فإن كانت حاضرة، فلا يخلو من أن تكون مما لا ينقل، ولا يحول كالأرضين، والأصول الثابتة، أو يكون مما ينقل ويحول، كالعروض والحيوان، [فإن كانت مما لا ينقل، ولا يحول كالأرضين والأصول الثابتة، فأما الأرضون، فإنها على ضربين: أحدهما: أن تكون من الأرض التي لا عمل فيها. والثاني: أن تكون من أرض [الزراعة] (¬3) والعمل. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الزرع.

فأما الضرب الأول: فإن الإشهاد فيه على قبول الموهوب له، ورضاه بهبته، والمشي إليها، والوقوف على حدودها يقوم مقام الحيازة، ويكتفي به كالدَّين على السواء، وذلك غاية المقدور عليه، وهو قول أصبغ في "كتاب ابن حبيب". وأما الضرب الثاني: إذا كانت من أرض العمل، فلا يخلو من أن يكون ذلك في إبان العمل، أو قبل إبانه. فإن كانت الهبة في إبان العمل، فلا يخلو الموهوب له من أن يتمكن من عمله، أو لا يتمكن منه. فإن تمكن من عمله، وترك القبض والحوز حتى مرض الواهب، أو مات، أو فلس. فأما الموت والتفليس: فإن ذلك مما يبطل الهبة قولًا واحدًا في المذهب. وأما المرض، فهل يمنع الموهوب له من قبضها وحوزها أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن [المرض] (¬1) يمنعه من حوزها وقبضها، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أن المرض لا يمنعه من قبضها إذا طلب ذلك، ويقضي له [بأخذها] (¬2) من الثلث إذا حمله، وإلى هذا القول أشار ابن المواز في كتابه، ويظهر من قول أشهب أيضًا؛ لأنه قال: يقضي له الآن بثلثها، وهو القول الثالث، وقال: لا أرى قول من قال: يحوز كلها من الثلث, ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بقبضها.

ولا قول من أبطل جميعها. واتفقوا على أنه إذا صح من مرضه أن الموهوب له يمكن من قبض هبته، ولا فرق بين أن يكون الموهوب [له] (¬1) وارثًا أو غير وارث. وسبب الخلاف: قوة التهمة وضعفها؛ فمن راعى قوة التهمة منع من القبض، كما يمنع منه في الموت والمرض من أسباب الموت؛ إذ لو جاز ذلك لو شاء أن ينتفع بماله حتى يمرض فيعريه عن وارثه، ويقول: تصدقت بكذا، أو وهبت كذا؛ فمنع ذلك سدًا للذريعة. ومن ضعف التهمة في ذلك قال بخروج جميع الهبة من الثلث، كما ولو وهب ساعتئذ؛ إذ له التصرف في ثلث ماله، وهو قول أشهب [ذهب إليه] (¬2) استحسانًا، وتوسطًا بين القولين. فإن لم يتمكن من قبضها، والعمل فيها، فلا يخلو من أن يكون المانع من قبله أو من قبل الواهب. فإن كان المانع من قبله، فلا يخلو من أن يكون عجز عن الآلة الخدمة مع قدرته على أن يساقي غيره أو يكري منه، أو يعجز عن الآلة، والخدمة، وعن الكراء، والمساقاة. فإن كان عجزه عن العمل، وعن آلة الخدمة، أو كان قادرًا على العمل، وعجز عن الآلة، فإنه يكري أو يساقي، أو يرفق [غيره] (¬3) ويتم له الحوز. فإن لم يفعل شيئًا من ذلك حتى مات الواهب أو فلس، فالهبة باطلة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

فإن عجز عن العمل والآلة وعن جميع ما ذكرنا بكل وجه، فإن الهبة هاهنا ماضية، والإشهاد في ذلك يجزئ، ولو قامت أعوامًا كهبة الديون ما لم ينتفع بها الواهب، وهي رواية يحيى بن يحيى عن ابن القاسم، وبه قال أصبغ. فإن كان المنع من قبل الواهب، فلا يخلو الشيء الموهوب من أن يكون قائمًا بيده أو أخرجه من يده. فإن كان قائمًا بيده كان للموهوب له مخاصمته، ومطالبته، والسعى في التمكين، والقبض جهده. فإن أثبت على الواهب، هل يكون الحكم كالقبض والحوز أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه كالحوز، وللموهوب له قبضها بعد موت الواهب، وهو قول مطرف، وأصبغ. والثاني: أن الحكم لا يكون حوزًا، وأنه إن مات قبل أن يقبضها الموهوب له، فلا حق له فيها، وهو قول ابن الماجشون في "الواضحة". فإن أخرجها من يده، فلا يخلو من أن يخرجها بعوض أو بغير عِوَض. فإن كان ذلك بعوض مثل أن يبيعها، أو يخرجها بغير عوض مثل أن يهب للثاني أو يعتق إن كان عبدًا، فقد قدمنا الكلام عليه في مسألة مفردة في "كتاب العتق الثاني" بما لا مزيد عليه هاهنا. وأما الدُّور فلا يخلو الواهب من أن يكون فيها ساكن أو غير ساكن. فإن كان فيها ساكنًا، فإنه يؤمر بالخروج منها وتفريغها للموهوب له.

فإن سكن البعض، وحوز البعض، فالهبة صحيحة فيما حازه اتفاقًا قليلًا كان أو كثيرًا، ويبطل فيما سكن، وسواء سكن فيها باكتراء أو [إرفاق] (¬1) أو إعمار وأيّ وجه كان، فإن ذلك يمنع الحيازة؛ إذ لا يصح فيها قبض، ولا حيازة مع سكنى الواهب لها إلا أن يكون الواهب زوجة الموهوب له، فتمادت على السكنى مع زوجها فيها، فإن ذلك لا يمنع صحة الحيازة؛ لأن السكنى على الزوج. فلو كان الزوج هو الواهب لزوجته دار سكناهما، فسكنها معها لمنع ذلك صحة الحوز؛ لبقاء يد الواهب على الهبة وانتفاعه بها. وهذا كله قول ابن القاسم في "العتبية"، فإن كان الواهب ساكنًا فيها، أو في غيرها ففرغها، ومكن الموهوب له من حوزها، فإن فعل فيها ما يدل على الحوز صحت له الهبة؛ مثل أن يسكن فيها أو يكريها من [غيره] (¬2) أو يسكن فيها من شاء بأيّ وجه شاء، أو أخذ مفاتيحها، وأغلقها؛ فإن ذلك حيازة تصح بها الهبة للموهوب في حياة الواهب، وصحته، ولو لم يعمل فيها عملًا، ولا أذن إليها بوجه، وتركها مهملة غير مغلقة، ولا انتفع بها بوجه من الوجوه حتى مات الواهب أو مرض لكان حكمها حكم الأرض التي لم يزرعها في إبان زراعتها حتى مرض الواهب أو مات، فإن الهبة فيها باطلة. فإن حازها الموهوب له ثم رجع إليها الواهب، فسكنها حتى مات فيها، فذلك يختلف. فإن كان سكناه إياها على وجه الاستخفاء مثل أن يخاف من سلطان أو من غريمه، فيختفي عنده فمرض فيها، ومات، فإن ذلك لا يبطل الحيازة ¬

_ (¬1) في أ: ارتفاع. (¬2) في أ: غيرها.

-قرب الزمان أو بعد- وإن كان بعد حيازة الموهوب له بيوم؛ لأن هذا ليس بسكنى على الحقيقة، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في "الواضحة"، وقاله ابن المواز. فإن كان سكناه إياها على وجه السكنى [باكتراء] (¬1) أو إرفاق، فلا يخلو من أن يرجع إليها بعد المدة القريبة أو بعد طول مدة. فإن رجع إليها بعد قرب المدة، فالهبة باطلة باتفاق المذهب. فإن رجع إليها بعد طول المدة كالسنة، ونحوها وسكنها حتى مات فيها، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لا [يبطل] (¬2) الهبة، وهذا القول رواه ابن المواز عن مالك في كتابه. والثاني: أن الهبة باطلة، وهي رواية ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون في "الواضحة". ووجه قول ابن المواز: أن الموهوب له لما كان مالكًا أمره، وحاز لنفسه حيازة بينة مدة تنتفي فيها التهمة وصحت له الهبة؛ فلا يضره ما حدث بعد ذلك من سكنى الواهب بأمر الموهوب له كما لو أسكن فيها غيره. ووجه القول الثاني: أن رجوع الواهب فيها، وسكناه فيها حتى مات يبطل الحيازة. أصل ذلك إذا كان الموهوب له صغيرًا، أو حاز له أبوه ما وهب له، ثم رجع الأب إليها قبل بلوغ الصغير ورشده، فسكن فيها حتى مات [فإن] (¬3) ذلك يبطل الهبة باتفاق المذهب. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ينقل. (¬3) في أ: أن.

وأما الأصول الثابتة في الأرض كالنخيل وغيرها، فلا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يهب الأصل دون الثمرة. والثاني: أن يهب الثمرة دون الأصل. والثالث: أن يهب النخل هبة مطلقة. فإن وهب الأصل، واستثنى ثمره عشر سنين، فالهبة صحيحة، والثمرة للواهب كالبيع، وحوز الموهوب له قبض النخل، والسقي، والعلاج في مال الواهب، ويكون الموهوب له هو المتولي لذلك إما بنفسه، أو بأجير يستأجره. ولو كان الواهب هو المتولي للسقي والعلاج حتى فلس أو مرض لبطلت الهبة، وسواء كان فيها [الثمرة] (¬1) في حين الهبة أم لا. فإن وهب الثمرة دون الأصل في عام أو أعوام، فإن ذلك جائز من غير اعتبار بحال الثمرة إن كانت موجودة في حين الهبة أو غير موجودة؛ لأن [هبة] (¬2) الغرر والمعدوم الذي يصح وجوده عندنا جائزة، وحوزها أن يقبض الأصول ويحوزها، ويمنع الواهب من التصرف فيها. فإن وهب الأصول هبة مطلقة، وفيها ثمرة مأبورة أو غير مأبورة، فإن كانت مأبورة، فهي للواهب كالبيع، وإن كانت غير مأبورة أو لا ثمر فيها أصلًا، فهي للموهوب له بغير شرط. فإن تصرف الموهوب له في الهبة قبل القبض بما لا يتصرف فيه إلا ¬

_ (¬1) في أ: الثمر. (¬2) سقط من أ.

المالكون؛ مثل أن يبيعها [قبل أن] (¬1) يقبضها من الموهوب له، فلم يقبضها المشتري حتى مات الواهب، هل يكون [للبائع] (¬2) حيازة، ويمكن المشتري من قبضها أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن البيع حوز، وهو قول مطرف، وابن الماجشون. والثاني: أن البيع ليس بحوز، وهو قول أصبغ. والأشبه أن ذلك حوز, لأن يد الموهوب له ارتفعت، وقابض الهبة هاهنا من الواهب إنما هو مشترٍ غير محتاج إلى حيازة. ولو وهبها الموهوب له قبل القبض، ثم مات الواهب قبل أن يقبضها الموهوب الثاني، هل تكون الهبة حوز أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن الهبة حوز، وهذا القول رواه ابن حبيب عن مالك. والثاني: أنها لا تكون حوزًا، وهو قول ابن القاسم، ومطرف، وابن الماجشون، وهو الأظهر؛ لأن الهبة لا تستغني عن الحيازة في نفسها، فلم يعين غيرها من الهبات. وأما الوجه الثاني: إذا كانت الهبة مما ينقل، ويتحول كالعبيد، والحيوان، وسائر العروض، فوجه الحيازة في ذلك أن يقبضه [الموهوب له] (¬3) من يد الواهب، ويمنعه من استعماله، والانتفاع به، ويستبد الموهوب له بجميع منافعه، واستعماله، واستخدامه إن كان عبدًا، أو أمة، فمهما شاركه الواهب في الاستعمال بطل الحوز بلا خلاف إلا إذا تقررت الحيازة، ¬

_ (¬1) في أ: أو. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

واستمر الملك للموهوب له، فلا يضره خدمته للواهب كما قلنا في سكنى الدار، إلا في وجه واحد، فإن المذهب [اختلف] (¬1) فيه بالجواز، والكراهة؛ وهو رجل تصدق على زوجته بخادم، وهي معه في البيت يخدمها كخدمتها لحال ما كانت قبل الهبة، أو وهبت هي له خادمها أو متاعًا من البيت، فأقام ذلك على حاله بأيديهما: فروى ابن القاسم عن مالك أن ذلك جائز، وهو قوله في "العتبية" و"الموازية"، وروى عنه أشهب في الكتابين إذا أشهد لها بالخادم، فتكون عندهما على الصفة الأولى، أو أشهدت له بخادمها كذلك، فذلك جائز مع الكراهة في ذلك. وأما الوجه الثاني: إذا كانت [الهبة] (¬2) غائبة، أو كان الواهب، والموهوب له غائبًا. فإن كانت الهبة غائبة، فلم يقبضها الموهوب له حتى [مات] (¬3) الواهب، فلا يخلو من أن يهب لابنه الصغير, أو الكبير، أو أجنبي. فإن وهب للصغير، فالجواز اتفاقًا. وإن وهب للكبير أو لأجنبي، فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن الهبة باطلة فرط الموهوب له في الخروج أو لم يفرط، وهو قول ابن القاسم في "العتبية" و"الموازية". والثاني: أنه إذا خرج لقبضها، فالهبة جائزة له سواء فرط أو لم يفرط، قبضها بعد موت الواهب أو قبله، وهو ظاهر قول ابن عبد الحكم في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: الصدقة. (¬3) في أ: يأتي.

العتبية؛ لأنه حكى عن مالك فيمن تصدق على ابنه البالغ [بدار] (¬1) في غير بلده، وأمر من يحوزها له، فمات الأب قبل أن تحاز أنها جائزة؛ بل ظاهر كلامه أن الهبة جائزة له إذا أمر له بحوزها، وإن مات قبل أن يخرج. والثالث: التفصيل بين أن يفرط في الخروج، فلا تصح له الهبة، أو لا يفرط، يصح له قبضها قبل موت الواهب أو بعد أن علم بموته، أو لم يعلم، وهو على التفريط حتى يثبت أنه لم يفرط، وهو قول ابن الماجشون، وابن كنانة في "العتبية"، و"الواضحة"، وهو أحد قولي مالك. والرابع: التفصيل بين أن يقبض، وقد علم بموت الواهب، وقد بادر بالخروج، ولم يفرط فتبطل الهبة، وإن قبضها بعد موت الواهب بأيام، ولم يعلم بموته إلا بعد القبض، فإن الهبة صحيحة جائزة له، وهو استحسان مطرف على ما حكاه عنه ابن حبيب. فلو تصدق عليه بعبده الآبق، فخرج في طلبه، فلم يجده إلا بعد موت المتصدق كان فيه قولان: أحدهما: أن الصدقة نافذة؛ لأنه لم يكن بيد المعطي، فالإشهاد فيه، وطلب المعطي إياه كالحوز، وكالدين، وهو قول عبد الملك في "الواضحة". والثاني: أن الصدقة باطلة، وهو قول ابن القاسم في الأرض، والدار الغائبة. فإن كان الموهوب له غائبًا، فمات الواهب قبل وصول الهبة إلى الموهوب له، فهل تنفذ له الهبة أم لا؟ فلا يخلو من أن يشهد على ذلك أو لم يشهد. فإن شهد على ذلك، هل يصح للموهوب له أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الهبة له نافذة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في الذي بعثه لرجل، ثم مات الباعث قبل وصولها إلى المبعوث، وهو قوله فيما يشتري من الهدايا من الحج وغيره لأهله وأولاده. والثاني: أن ذلك باطل إذا مات الواهب قبل الحيازة، وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، وإن شهد على ذلك. وسبب الخلاف: الإشهاد، وعدم التفريط هل يقوم مقام الحوز مع تعذر الحوز أم لا؛ قال مالك في "العتبية" فيمن تصدق في سفره على امرأته وابنته، وليسوا معه بعبد، والعبد يخدمه، ومات السيد قبل أن يخدم، فإن أشهد على الإنفاذ من يعرف المرأة والابنة، فذلك نافذ، وإن أشهد هكذا من لا يعرفهما؛ فلا أدري ما [هكذا] (¬1) فانظر قوله من يعرفهما ما فائدته؟ فإن لم يشهد على ذلك، وإنما كان يذكر للعدول عند الشراء من غير أن يقول لهما: اشهدوا علي بذلك، ففيه قولان: أحدهما: أنه يرجع لورثة الواهب، ولا شيء فيه للموهوب له، وهي رواية أشهب عن مالك في "الموازية". والثاني: أن الهبة نافذة للموهوب له، وهو قول ابن القاسم فيما حكاه عنه ابن عبد الحكم في "الموازية" في الذي قال: ادفعا ذلك إلى فلان؛ فإني وهبته ذلك فهي شهادة، وإن لم يقل: اشهدوا علي، وهو ظاهر المدونة من غير ما موضع. ¬

_ (¬1) في أ: هذا.

فإن مات الموهوب له قبل وصول الهبة إليه , هل يكون ميراثًا لورثة الواهب أو لورثته الموهوب له؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك يرجع إلى ورثة الواهب، وهو نص ابن القاسم في "المدونة". والثاني: [أنه] (¬1) يرجع إلى ورثة الموهوب له، وهو قوله في غير [المدونة من] (¬2) غير ما موضع أن ورثة الموهوب له، والموصى له يقوم مقام [موروثه] (¬3). وهو نص قوله في كتاب ابن المواز. وقد اختلف أصحابنا المتأخرون في تأويل ما وقع في المدونة، فمنهم من قال: إن ذلك اختلاف قول لخروجه [عن] (¬4) القانون المستقر، والمنهاج المستمر. ومنهم من قال: إن ذلك اختلاف حال؛ مثل أن يقول الواهب: إنما تصدقت بها صلة للمبعوث إليه بعينه إن وجد حيًا فيصدق؛ إذ لا يلزمه إلا ما أقر به من معروفه. ومنهم من قال: إن ذلك اختلاف سؤال، وإن الفرق بين المسألتين أن الغائب في هذه المسألة لم [يحصل] (¬5) منه قبول، فيخرج من هذا أن عدم القبول [يفسد] (¬6) الهبة، ويبطلها، وإن كان الواهب حيًا. ¬

_ (¬1) في أ: أن. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: موروثهم. (¬4) في أ: من. (¬5) في أ: يصح. (¬6) في ب: بعد.

وأما الوجه الثالث من أصل التقسيم: إذا وهبه ما في حوز الموهوب له: فلا يخلو ما في يده من أن يكون قبضه لمنفعة الواهب خصوصًا، أو لمنفعة القابض. فإن قبضه لمنفعة الواهب خصوصًا كالوديعة، فلا يخلو من أن يقبل المودع الهبة أم لا. فإن قال: قد قبلت، فالهبة نافذة اتفاقًا. فإن لم يقل: قبلت، حتى مات الواهب، هل يكون قبضه حوزًا للهبة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يكون حوزًا إلا بمقارنة القبول نطقًا، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن ذلك حوز لها، وهو قول غيره. والقولان في "المدونة" في "كتاب الهبة". فعلى قول ابن القاسم أن الهبة تفتقر إلى المبادرة بالقبول على الفور، فإن افترقا قبل أن يقبل فلا قبول له بعد ذلك كالبيع الذي يفتقر إلى الإيجاب، والقبول [على] (¬1) الفور. فإن قبضه لمنفعة نفسه خصوصًا كالمخدم، والعادية، فإن قبضه حوزًا له؛ لأنه يستخدم ومال الرقبة له. واختلف في الإجارة على قولين: وأما الوجه الرابع: إذا وهبه ما في ذمته أو ما في ذمة غيره من الديون، وأرش الجنايات، فما كان له ذكر حق، فحوزه قبض الذكر الحق، وما ليس فيه ذكر الحق، فحوزه القبول والإشهاد، وذلك غاية المقدور، ولا خلاف -أعلمه- في المذهب في هذا الوجه [والحمد لله وحده]. ¬

_ (¬1) في أ: في.

المسألة الثانية في هبة الأب لابنه الصغير وحوزه له

المسألة الثانية في هبة الأب لابنه الصغير وحوزه له ولا تخلو الهبة من أن تكون مما لا يحول ولا ينقل، أو تكون مما ينقل ويحول. فإن كانت مما لا ينقل ولا يحول كالدور، والأرضين، فلا يخلو الأب من أن يتولى حوز ذلك لنفسه أو جعله بيد من يحوزه. فإن تولى الأب حوزه لنفسه، فلا تخلو الهبة من أن تكون خالصة لابنه، أو تكون مشاعة. فإن كانت مشاعة، فلا تخلو من أن تكون مشاعة بينه، وبين الأب، أو تكون مشاعة بينه، وبين الموهوب له آخر من أخ كبير، أو أجنبي. فإن كانت الهبة مشاعة بينه وبين غيره من أخ كبير أو أجنبي، فلا تخلو من أن تحاز جميع الهبة عن الأب، أو بقيت في يده. فإن حيزت عنه، وصارت في حوز الكبير من أخ أو أجنبي، فالهبة نافذة للصغير وغيره قولًا واحدًا. وإن بقيت في يد الأب، فالحوز في حق الكبير باطل. وهل يصح في [حق] (¬1) الابن الصغير أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الهبة باطلة في حق الصغير, والكبير، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". ¬

_ (¬1) في ب: حوز.

والثاني: أن الهبة جائزة في حق الصغير بحوز الأب له، وباطلة في حق الكبير لعدم الحوز، وهي رواية عليّ بن زياد، وابن نافع عن مالك. والقولان منصوصان في "كتاب الهبة" من "المدونة". وينبني الخلاف: على الخلاف في هبة الجزء المشاع؛ فمن جوزها قال بنفوذ سهم الصغير من الهبة؛ لكونه في حوز الأب، ويده على جميع الهبة، ومن منعها قال ببطلان الحوز في سهم الصغير؛ لكون سهم الصغير غير متميز حتى يصح فيه حوز. وهل الحبس كالهبة [حوز] (¬1) سهم الصغير في أحد القولين أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن الحبس كالهبة في جريان الخلاف في سهم الصغير. الثاني: أن الحبس بخلاف الهبة [وأن الخلاف لا يدخل في الحبس] (¬2). وينبني الخلاف فيه: على الخلاف في الحبس، هل تجوز فيه القسمة أم لا؛ فعلى القول بجواز قسمته صار كالهبة والصدقة، وعلى القول بأن الحبس لا يقسم خالف الهبة، والصدقة؛ لأن الهبة والصدقة مملوكة الرقبة للموهوب له، والحبس غير مملوك الرقبة، وإنما تقسم غلته على المحبس عليهم. والقولان في قسمة الحبس في "كتاب الحبس" [و"الهبة"] (¬3) من "المدونة"، وقد نص في "كتاب الهبة": أن الحبس لا يقسم، ولا يملك أصله. ¬

_ (¬1) في أ: جواز. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: والصدقة.

فإن كانت الهبة مشاعة بينه، وبين الأب مثل أن يهب له الأب نصف داره أو نصف عبده، فحاز ذلك الأب، وصار بيده حتى مات قبل أن يبلغ الصغير ويرشد أو جعل الباقي للسبيل، فهل ينفذ من ذلك حق الصغير أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الهبة نافذة في حق الصغير، وحوز الأب له حوز؛ لأن يده على الجميع، ولا يضره شياع ذلك مع غيره، وهو قول ابن القاسم، وأشهب في "الموازية"، و"العتبية". والثاني: أن الهبة باطلة في حق الصغير, والسبيل وهو قول أصبغ. ووجه القول الأول: أن قبض الأب لا يؤثر فيه المشاع، وأنه صحيح كصحته في الشيء المنفرد. ووجه القول الثاني: أن قبضه الجزء المشاع لابنه وباقيه له، أو راجع إليه لا يصح؛ لأنه لا يتميز ما يقبض لابنه مما أبقاه على ملكه. وحكى القولين القاضي أبو محمد عبد الوهاب في "المعونة". فأما إن كانت الهبة خالصة للابن، مثل أن يهب له دارًا بعينها، فلا يخلو الأب من أن يكون ساكنًا فيها، أو في غيرها. فإن كان ساكنًا في غيرها، فالهبة نافذة للابن بحوز الأب قولًا واحدًا في المذهب، ويكتفي في ذلك بالإشهاد على الهبة، والإعلان بها، وإن كان الأب يحرث [الأرض] (¬1) ويستعمل غيرها، وهو قول ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك، كما قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) في أ: الإرث.

[حكاه عنه] (¬1) الحفيد في "كتاب النهاية". ولا يحتاج إلى الإشهاد وعلى [إبراز] (¬2) الغلة برسم الولد، فإن فعل ذلك فهو أحسن، وإن لم يفعل، فلا حرج. ولا فرق في ذلك بين الدار وغيرها في جميع ما يصح فيه حوز الأب لابنه الصغير. فإن كان الأب فيها ساكنًا حتى مات، فلا يخلو من أن تكون سكناه في جميع الهبة أو بعضها. فإن سكن في جميع الدار وأشغل جميع أرجائها لحق نفسه، فالهبة باطلة قولًا واحدًا. فإن سكن في بعضها، وحاز البعض للولد. فإن سكن النصف، وحاز النصف بطل ما سكن، وصح ما لم يسكن، ولم أر في هذا الوجه نص خلاف. وإن سكن الأكثر وحاز الأقل أو سكن الأقل وحاز الأكثر؛ فأما الأكثر فلا خلاف أنه يمضي إن حيز، ويبطل إذا لم يحز، واختلف في القليل على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأقل تبع للأكثر في الحبس والصدقة، وهو قول ابن القاسم، وأشهب. والثاني: أن الأقل له حكم نفسه؛ فيصح إن حيز، وإن قلّ ويبطل الباقي، وإن سكنه بطل، ويصح الأكثر المحاز، ولا فرق بين الصدقة والحبس. ¬

_ (¬1) في أ: حتى عند. (¬2) في أ: إقرار.

والثالث: التفصيل بين الصدقة والحبس، فالأقل تبع للأكثر في الحبس، وأما في الصدقة فالأقل معتبر في نفسه، وهو قول عبد الملك. وسبب الخلاف: [اختلافهم] (¬1) في الأتباع هل تراعى أم لا تراعى؛ فمن راعاها أعطاها حكم نفسها، ومن لم يراعها أعطاها حكم المتبوع. فأما إن جعل ذلك الأب بيد من يحوزه للولد إلى أن يبلغ مبلغًا يحوز فيه لنفسه، ورفع يده عن الهبة ومكنها من الحائز، فذلك جائز باتفاق المذهب، وهو الأحسن من كونها بيد الأب؛ لأن ذلك موافق للأثر الوارد عن عمر - رضي الله عنه - في قوله: ما بال رجال ينحلون أولادهم -وفي رواية: أبناءهم- نحلًا ثم يمسكونها، فإن مات ابن أحدهم قال: مالي بيدي لم أعطه أحدًا, ولو مات هو قال: لأني قد كنت أعطيته إياه من نحل نحلته إياه. فكان حمل هذا الأثر على عمومه أولى، إلا أنا خصصناه بخبر عثمان - رضي الله عنه -، وحملنا خبر عمر - رضي الله عنه - على ما لا يعرف بعينه، ولا يتمكن فيه حيازة الأب كالدنانير والدراهم؛ على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله. فإن تصدق على أن يحوز ذلك غيره، فأبقاها الأب في يده إلى أن مات، فالهبة باطلة [لأنه لم يكل ذلك إلى حوزه ولا أخرجها من يده، فإن جعلها في يد غيره، ثم ارتجعها فلا يخلو من أن يشهد على ذلك أو لم يشهد، فإن لم يشهد فالهبة باطلة] (¬2). وإن أشهد أني إنما ارتجعتها لأحوز لابني، هل يجوز ذلك أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك له. والثاني: أنه ليس له ذلك إلا أن يظهر من الحائز ما يوجب إزالتها من يده. وهذا الخلاف نقله التونسي. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كانت الهبة مما يحول وينقل: فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون مما يعرف بعد الغيبة. والثاني: أن تكون مما لا يعرف بعد الغيبة عليه. فأما ما يعرف بعد الغيبة عليه كالحيوان، والثياب، وسائر العروض، فلا يخلو من أن يتصدق عليه منها بشيء بعينه، أو يتصدق عليه منها بجزء أو بعدد غير معين. فإن تصدق عليه بشيء بعينه؛ مثل أن يتصدق عليه بمائة شاة معينة من غنمه أو بعدد معين من جملة الثياب، والرقيق، وجميع الحيوان، والعروض، فالهبة في ذلك جائزة، والحوز فيها [كالحوز] (¬1) في الدور والأرضين بالإشهاد، والإعلان، ولا يستعمل الأب شيئًا من ذلك لنفسه، فإذا ركب الدواب، ولبس الثياب بطلت الهبة؛ لعدم الحوز لما ظهر أنه إنما يستعمل لنفسه؛ إذ المراد من الثياب لبسها، والدواب استعمال ظهورها. فإن تصدق عليه بجزء مشاع أو بعدد غير معين؛ مثل أن يتصدق بربع غنمه أو ثيابه، أو رقيقه، أو بمائة غير معينة، هل يجوز ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أحدهما: الجواز كالمعين. والثاني: المنع؛ لتعذر حوز ما تصدق به [لشيوعه] (¬1) في جملة ما لم تقع فيه الصدقة. والقولان عن مالك في "العتبية"، و"الموازية". فأما ما لا يعرف بعد الغيبة عليه كالدنانير، والدراهم، والمكيل، والموزون من المأكول، وسائر العروض؛ فأما الدنانير والدراهم، فإنه يخرجها من يده، ويجعلها على يدي غيره؛ فبذلك يصح حوزها، فإن لم يخرجها من يده، وتولى هو حوزها حتى مات، فلا يخلو من أن يختم عليها أو لا يختم. فإن لم يختم عليها، فالهبة باطلة قولًا واحدًا، سواء عينها أم لا. فإن ختم عليها بمحضر الشهود، أو ختموا عليها الشهود أنفسهم، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه باطل كما لو لم يختم عليها، وهو قول مالك في "العتبية"، وبه أخذ ابن القاسم، والمصريون من أصحابه. والثاني: أن العطية نافذة، وبه أخذ مطرف، وابن الماجشون، والمدنيون من أصحاب مالك. ووجه القول الأول: مراعاة أصلها كونها لا تتعين في العقود، فلا تصح فيها الحيازة مع بقائها بيد المعطي كالتي لم يختم عليها. ووجه القول الثاني: أنها وإن لم تتعين بالعقد، فإذا تميزت بالختم عليها صحت الحيازة فيها، وهو الأظهر في النظر الصحيح. ¬

_ (¬1) في أ: لإشاعته.

فإن استرجعها الأب من عند من وضعها على يده [فمات] (¬1) وهي في يده، فلا يخلو من أن يكون لعذر أو لغير عذر. فإن كان لعذر كسفر أراده، فلا يخلو من أن يمضي لها مدة تكون في مثلها الحيازة أم لا. فإن مضت مدة تكون في مثلها الحيازة، فقبض الأب جائز. وهل يجوز له الانتفاع بها أم لا؟ فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: [جواز] (¬2) الانتفاع [بها] (¬3)، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "العتبية": "كالدار تُحاز ببينة مدة سنة"؛ فتشبيه ابن القاسم العين بالدار يفيد جواز الانتفاع بالعين بعد القبض، ولا يبطل ذلك الهبة إن مات الأب. والثاني: أن ذلك يبطل الهبة، وهو ظاهر قول مالك في "الموازية" في الذي تصدق بمائة دينار على ابنه الصغير، وجعلها بيد غيره، ثم تسلفها الأب، فمات أن ذلك باطل. وهو ظاهر قول مالك أن بطلان الهبة لأجل الانتفاع بها لا لأجل الارتجاع بدليل الدين؛ لأنه قال فيما إذا وهب له دينًا في ذمة رجل ثم اقتضاه الأب أن ذلك لا يبطل الهبة. فإن استرجعها قبل أن تمضي مدة تكون في مثلها الحيازة، فإن وضعها على [يد] (¬4) غيره، فالهبة جائزة اتفاقًا، فإن حبسها عند نفسه، فإنه يتخرج على التفصيل، والخلاف الذي قدمناه بين أن يختم عليها، أو لا ¬

_ (¬1) في ب: فهلك. (¬2) في أ: يجوز. (¬3) في أ: به. (¬4) في أ: يدي.

يختم. فإن استرجعها لغير عذر، فلا يخلو من أن يسترجعها لينتفع بها أم لا. فإن استرجعها ينتفع بها، وكان ذلك بعد مضي مدة تكون فيها حيازة، فإنه يتخرج على قولين: فظاهر قول ابن القاسم الجواز. وظاهر قول مالك المنع. فإن استرجعها قبل مضي المدة، فالهبة باطلة بالاسترجاع، إذا مات وهي بيده قولًا واحدًا. واختلف إذا وهب له دينًا في ذمة غيره ثم اقتضاه الأب، ولم ينتفع به، هل تبطل الهبة [أم لا] (¬1)؟ على قولين: أحدهما: أن الهبة جائزة، ولا يبطلها قبضه؛ لأنه لم يشترط في أصل الهبة حوز من عليه دين، وهو قوله في "الموازية". والثاني: أن قبضه يبطل الهبة، وهو قول أشهب، وابن وهب في "العتبية". فأما المكيل والموزون من المأكول وغيره من سائر العروض، فلا يخلو من أن يضعها على يد غيره أو وضعها عنده. فإن وضعها على يد غيره، فالهبة جائزة قولًا واحدًا. وإن وضعها عند نفسه، فلا يخلو من أن يكون قد ختم عليه أم لا. فإن لم يختم عليه، فلا خلاف في البطلان. فإن ختم عليها ووضعها في موضع يمكن الإشهاد عليه؛ لتمييزه من ¬

_ (¬1) سقط من أ.

غيره، فقد اختلف أصحابنا في ذلك على قولين: أحدهما: أنها كالدنانير والدراهم، وأن الخلاف الجاري فيها يجري في المكيل والموزون. والثاني: أن الخلاف لا يدخلها، وأنها بعد التمييز، والإشهاد عليها تكون كالعبد والثوب، وهو قول أبي بكر الأبهري، ويحتمل أن يكون الفرق بينهما على هذا القول أن الدنانير، والدراهم لا تتعين في العقود، والمكيل والموزون من الطعام وغيره، فلا يتعين بالعقد، لكونه مرادًا لعينه. فإن باع الأب ما تصدق به من دار أو غيره، هل ينتقض فيه البيع أم لا؟ فلا يخلو من أن يبيعه قبل الحوز [أو بعده، فإن باعه قبل الحوز] (¬1) مثل أن تكون دارًا فباعها قبل أن يخرج منها، فلا يخلو من أن يبيعها باسمه، أو باسم ولده أو جهل الأمر. فإن باعها باسمه، فلا يخلو من أن يعثر على ذلك في حياته أو بعد مماته. فإن عثر على ذلك في حياة الأب، فالبيع مردود. وإن لم يعثر على ذلك حتى مات الأب، بطلت الهبة أو الصدقة. فإن باعها باسم الابن أو جهل الأمر، فالصدقة جائزة والبيع نافذ، والثمن للابن سواء قبضه الأب أم لا. وهو قول أصبغ في "الواضحة". والذي قاله فيه نظر؛ لأن الأب لا يخلو من أن يقبض الثمن أم لا. فإن قبضه فكأنه تصدق بالعين، والأب لا يحوز العين على ما قدمناه من التفصيل، والتحصيل إلا على القول باعتبار الختم عليها ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بالإشهاد، ويقال: إنه لما باع صار كأنه تصدق بالدين الذي في الذِّمة، فلا يضره أن يقبضه بعد ذلك على أحد القولين، وقد قدمناهما. فإن لم يقبضه فيحمل على أنه تصدق عليه بدين في ذمة، والذمة حائزة [لما] (¬1) فيها، فإن باعها بعد الحوز، وخروجه منها، قال أصبغ: البيع مردود باع لنفسه أو لولده. أما إذا باع لنفسه وباسمه، فالحق كما قال، وأما إذا باعها باسم الولد، فكيف يقول بانتقاض البيع، اللهم إلا أن يرى أن تصرف الأب في ماله ابنه الصغير كتصرف الوصي في تعقب نظر الحاكم فعليهما، وقد اختلف المذهب على قولين: أحدهما: أن فعل الأب ماض وبيعه [لريع] (¬2) ابنه الصغير جائز، ولا يتعقب فعله نظر، وهو المشهور من المذهب بخلاف الوصي. والثاني: أن تصرفه فيما له بال من مال ولده بالبيع كبيعه ذلك من غير حاجة كتصرف الوصي يتعقبه النظر، وهو قول أصبغ في هذه المسألة، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب النكاح الأول" في وضع الأب من الصداق عند العقد وبعده [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: بما. (¬2) في أ: لرفع. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الثالثة في اعتصار الهبة، ومن يجوز له أن يعتصر

المسألة الثالثة في اعتصار الهبة، ومن يجوز له أن يعتصر ومعنى الاعتصار: الرجوع فيما وهب. وقد اختلفوا في الجد والجدة، هل يعتصران أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن لهما الاعتصار كالأب، وهو قول أشهب، وابن عبد الحكم في "الموازية". والثاني: عدم الاعتصار لهما، وهو قوله في الكتاب، وهي رواية ابن وهب عن مالك في "الموازية". ولا خلاف في جوازه للأب على شروط سنذكرها, لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث طاوس: "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد" (¬1). وهل يجوز قياس الأم على الأب أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الأم تقاس على الأب؛ فيجوز له الاعتصار، وهو مشهور المذهب، وهو قوله في "المدونة". والثانى: أنها لا تقاس على الأب، وأنها لا يجوز لها الاعتصار، وهي رواية عن مالك على ما نقله الحفيد في "كتاب النهاية". فإذا ثبت ذلك، فلا تخلو الهبة من أن تكون قائمة أو فائتة. فإن كانت قائمة، فللأب الاعتصار مع سلامة الابن في ذاته وذمته. ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في المسند (842)، والبيهقي في الكبرى (11795) مرسلًا.

فإن كان مشغول الذات [سليم] (¬1) الذمة مثل أن يكون مريضًا، فإن الأب يمنع من الاعتصار [لحق] (¬2) من يرث معه، وكذلك إذا مرض الأب، فلا اعتصار له؛ لأنه إنما [يعتصر] (¬3) لغيره كانتزاعه مال مدبره أو أمّ ولده. فإن صح الأب أو الابن من ذلك المرض، هل يصح له الاعتصار؟ قولان: أحدهما: أنه [لا] (¬4) يصح له، وهو قوله في النكاح، والدين، وهو مذهب "المدونة"، وبه قال أصبغ، وابن حبيب. والثاني: أن له أن يعتصر لزوال المانع، وهو قول قياسي، والأول نقلي، وهو قول ابن القاسم، والمغيرة، وابن دينار في "النوادر". فإن كان الولد سليم الذات مشغول الذمة إما بالمداينة، وإما بوظيفة التزويج. أما الابنة فلا اعتصار للأب فيما وهب لها إذا تزوجت قولًا واحدًا [لحجة] (¬5) الزوج أن يقول: إنما تغاليت في صداقها لأجل مالها. وأما الذكر ففيه قولان: أحدهما: أن الأب يمنع من الاعتصار، وهو مذهب "المدونة". والثاني: أن له الاعتصار، ولا يمنعه التزويج بخلاف الأنثى؛ لقدرة ¬

_ (¬1) في ب: بتسليم. (¬2) في أ: بحق. (¬3) في ب: يعترض. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

الزوج على الخروج مما دخل فيه، وهذا نص قول ابن دينار في الواضحة، وما أدري ما وجه قوله؛ إذ لا يقدر على الخروج إلا بغرم؛ فأشبه ما لو تداين. وأما مداينتهما، فإنها تمنع الأب الاعتصار قولًا واحدًا. فإذا زال المانع، هل يعود الاعتصار إلى الأب؟ فالنقل أن الاعتصار لا يعود إليه، والقياس أن يعود إليه لزوال المانع. وأما الأُم، فعلى القول بأنها تعتصر، فإنها كالأب في جميع ما ذكرناه في حياته. وأما بعد مماته ففيه [تفصيل] (¬1) فإذا وهبته الأُم، ثم مات الأب قبل بلوغهم أو وهبتهم بعد موت الأب، فلا يخلو من أن يكونوا فقراء أو أغنياء. فإن كانوا فقراء، فلا اعتصار لها قولًا واحدًا؛ لأن ذلك على معنى الصدقة [والصدقة] (¬2) ليس للأم اعتصارها بوجه. وإن كانوا أغنياء، ففيه قولان: أحدهما: أن [ليس لها] (¬3) الاعتصار كما لو كانوا فقراء، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أن لها الاعتصار، وهو قول أشهب، وكأنه يرى أن ما كان على وجه الإرفاق، وهو الذي لا يعتصر. فإن وهبتهم الأم في حياة الأب، ثم مات الأب بعد بلوغهم ورشدهم ¬

_ (¬1) في ب: تحصيل. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

جاز لها أن تعتصر؛ لأنه لم يمر بهم وقت يمنعها العصرة [فيها] (¬1). فإن كانت [الهبة] (¬2) فلا يخلو [فواتها] (¬3) من ثلاثة أوجه: إما أن يكون بحوالة سوق. وإما بتغيير الذات بزيادة أو نقصان. وإما بعتق أو وطءٍ إن كانت أمة. فأما حوالة الأسواق، فلا تمنع العصرة قولًا واحدًا. وأما الإيلاء، والتدبير، والعتق، فإنه يمنع العصرة قولًا واحدًا. وفي الوطء قولان: أحدهما: أنه يمنع الاعتصار، وهو قوله في "المدونة". والثاني: أنه لا يمنع الاعتصار، وتستبرأ؛ فإن كانت حائلًا أخذها الأب، وهو قول المخزومي في "الموازية". وأما تغيير الذات بزيادة أو نقصان، هل يمنع الاعتصار أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يمنع الاعتصار، وهو قول مطرف، وعبد الملك. والثاني: أنه [يمنعه] (¬4)، وهو قول أصبغ، وهو ظاهر المدونة. وأما الصدقة، فهل يجوز للأب اعتصارها من الابن أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: فواته. (¬4) في أ: يمنعها.

أحدها: أن الرجوع فيها لا يجوز إلا من ضرورة مثل أن تكون أمة فيتبعها نفسه، أو يحتاج فيأخذ منها لحاجته، وهو ظاهر قوله في "المدونة" والثاني: أن الرجوع فيها بالبيع، والهبة جائز له، وأن الاعتصار يجوز له، وهو قول مالك في سماع العتبية؛ لأنه أجاز أن يأكل مما تصدق به على ابنه الصغير, وذلك لا يكون إلا على معنى الاعتصار؛ لأن الصغير لا يصح منه إذن. والثالث: أن الرجوع فيها ممنوع من كل وجه. والأقوال الثلاثة مروية عن مالك [رحمه الله، والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الرابعة فيمن تصدق بأرض، وبها بئر، أو عين لم يذكرها في حين الصدقة

المسألة الرابعة فيمن تصدق بأرض، وبها بئر، أو عين لم يذكرها في حين الصدقة ولا تخلو العين، أو البئر من وجهين: أحدهما: أن تكون داخل الأرض أو خارجها. فإن كانت داخل الأرض التي تصدق بها، فلا يخلو المتصدق من أن يكون قادرًا على سقي الأرض بمائه، ويسوقه إليها من موضعه، أو قدر على استخراج العين، أو حفر بئر يغنيه عن مال المتصدق، أو لا يقدر على شيء من ذلك. فإن لم يقدر على شيء من ذلك، فالشرب داخل في الصدقة قولًا واحدًا، ولا يقبل للمتصدق [قول. وإن قدر على ذلك، وكان له غنى عن بئر المتصدق، أو عينه، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قول المتصدق] (¬1) عليه أن الماء داخل في الصدقة مع الأرض إلا أن يتبين حين الصدقة، أنه لم يتصدق به، وهو قول ابن القاسم، ومطرف، وابن الماجشون في "الواضحة". والثانى: أنه إن كان له عنه غنى بوجه من الوجوه بماله فيها أو خارج عنها، فلا شيء للمتصدق عليه في [ماء] (¬2) المتصدق, فإن لم يكن له غنى بوجه، ولا على كل حال، فالماء مع الأرض للمتصدق عليه، وهو قول أصبغ في "العتبية" و"الموازية". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: مال.

والقول الأول أظهر؛ لأنه كبناء فيها، وهو ظاهر "المدونة"، وإن كان الماء خارجًا عنها، فلا يخلو من أن يتصدق عليه بناحية من الأرض التي فيها البئر، والبئر في ناحية أخرى، أو يتصدق بالأرض، والبئر في أرض أخرى. فإن تصدق عليه بناحية من الأرض، والبئر في ناحية أخرى منها قولان: أحدهما: أن المتصدق يحلف، ويكون القول قوله، ولا يدخل الشرب في الصدقة، وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، و"الموازية". والثاني: التفصيل بين أن يكون له عنه غنى، أو لا غنى له عنه، كما قدمناه عن أصبغ. وقول أشهب في هذا الوجه أصوب. فإن تصدق بأرض، والبئر في أرض أخرى، وهي خارجة عن الأرض المتصدق بها، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن القول قول المتصدق مع يمينه أن الماء غير داخلة في الصدقة، وهو قول ابن القاسم. والثاني: على التفصيل المتقدم. وهو قول أصبغ. فلو اشترى أرضًا ونصفها شائع، فادعى البائع مثل هذا، وقال: بعتها على أن يسقيها بماء من عنده، وكذبه المبتاع، فإن كان الماء في الأرض، فالمبتاع مصدق -كان له ماء، أو لم يكن. فإن لم يكن الماء فيها، وإنما يأتيها الشرب من غيرها، فهو للمشتري أيضًا إلا أن يرى لدعوى البائع وجه، مثل أن يكون للمبتاع أرض تليها لها ماء يصرفه إليها، فيضم الأرض إلى الأرض، وتكون واحدة أو تكون مثلها

تحفر فيها الآبار، وكان المشترى مشاعًا، فإنهما يتحالفان. وما كان على غير هذا، فالماء للمشتري، وإن كان الماء [في] (¬1) غيرها تحالفا وتفاسخا، وهو قوله في "الموازية". ولو تصدق عليه ببيت من داره، ولم يُسَم له مرفقًا، فليس للمتصدق أن يمنعه من مدخل، ومخرج، ومرفق من بئر ومرحاض، وإن لم يُسَمه في الصدقة، وليس له أن يقول: افتح بابك حيث شئت، وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، و"الموازية". ولو تصدق عليه بثلث داره، وفيها طوب وخشب موضوع، فطلب المعطي ثلثه، ومنعه الورثة فليس له في الطوب والخشب شيء، وهو قول ابن القاسم [والحمد لله وحده] (¬2). تم الكتاب. ¬

_ (¬1) في أ: من. (¬2) زيادة من ب.

كتاب الهبات

كتاب الهبات

كتاب الهبات تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها مسألتان: المسألة الأولى في جواز الهبة للثواب والأصل في جوازها على الجملة قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} (¬1) الآية؛ وهو أن يعطي الرجل الرجل الشيء ليعطيه أكثر منه، فلما [أجزم] (¬2) تعالى أن من أعطى [عطية] (¬3) يبتغي بها النماء، والزيادة في ماله من مال المعطى له أن ذلك لا يربو عند الله تعالى [ولا يزكو لديه كل ذلك على أنه ليس بعطية إلا ما قصد به من الزيادة في ماله، أو الثواب من المعطي لا من الله تعالى] (¬4) وأن ذلك جائز، فليس لمن أعطى عطية للثواب في عطيته أجر، ولا عليه فيها وزر، وهي من قبيل الجائز المباح لا من قبيل المندوب [والمرغوب] (¬5) فيه، وهو مما أباحه الله تعالى لعباده وحرمه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - إكرامًا له وتنزيهًا، وترفيعًا لشأنه، فقال تعالى: {وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (¬6)، أي: لا تعطي لتعطى أكثر منه؛ لأن ذلك تعريض للمسألة، والمسألة مكروهة مذمومة، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره خيرًا له من يأتي رجلًا أعطاه الله ¬

_ (¬1) سورة الروم الآية (39). (¬2) في ب: أخبر. (¬3) في أ: عطيته. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: والمرغب. (¬6) سورة المدثر الآية (6).

من فضله، فيسأله أعطاه أو منعه" (¬1). فإذا ثبت ذلك، فلا تخلو الهبة للثواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يهب على ثواب، فيسميه ويشترطه. والثاني: أن يهب على ثواب يشترطه ولا يسميه. والثالث: أن يهب على ثواب يرجوه، ولا يسميه، ولا يشترطه. فالجواب عن الوجه الأول: إذا اشترط الثواب، وسماه فهذا حكمه حكم البيوع؛ يحله ما يحل البيوع، ويحرمه ما يحرم البيع، ولا خلاف -أعلمه- في المذهب في هذا الوجه. والجواب عن الوجه الثاني: إذا اشترط الثواب، ولم يسمه هل له حكم البيع أو حكمه الهبة للثواب؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن حكمها حكم الهبة الصحيحة، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن حكمها حكم البيع، ثم لا يجوز؛ لأن ذلك غرر، وخطر، وكأنه باع منه السلعة بقيمتها، وهو قول ابن الماجشون. والأول أظهر. والجواب عن الوجه الثالث: إذا وهبه على ثواب يرجوه، ولا يسميه، ولا يشترطه، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يتصادقا على أنه أراد الثواب. والثاني: أن يكذبه الموهوب له. فإن صدقه الموهوب له يخير في ذلك بين القبول والرد، فإن قبلها كان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1401) من حديث أبي هريرة.

كنكاح التفويض عند ابن القاسم، ويخير الموهوب له ما دامت الهبة قائمة لم تفت بين أن ينيبه ما يكون فيه وفاءً بقيمة الهبة أو يردها [عليه] (¬1) ولا تجب عليه القيمة إلا بالفوت. وعلى قول مطرف [وروايته] (¬2) عن مالك أنه لا يلزم الواهب الرضا بقيمة الهبة إلا بعد فواتها كقول ابن الماجشون في نكاح التحكم أنه لا يلزم المرأة الرضا بصداق المثل إذا حكم به [إلا بعد الدخول خلاف مذهب ابن القاسم، وابن عبد الحكم، وأصبغ في قولهم: إنها يلزمها الرضا بصداق المثل إذا فرض لها] (¬3) كنكاح التفويض سواء. واختلف في الفوات الذي يلزم به الموهوب له القيمة على أربعة أقوال: أحدها: أن القبض فوت يوجب القيمة على الموهوب له، وهو قول مالك في رواية [ابن عبد الحكم] (¬4)، وأنه ليس له أن يردها إلا عن تراضٍ منهما جميعًا عنده. والثانى: أن حوالة الأسواق [فيها] (¬5) فوت، وهو قول ابن القاسم في "الموازية"، وهو قول مالك في العوض في "كتاب الاستحقاق" من "المدونة": أنه يفيتها حوالة الأسواق، ولا فرق بين العوض والهبة. والثالث: أنه لا يكون فيها فوت إلا الزيادة والنقصان. وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، و"العتبية". والرابع: أنه لا يكون فيها فوت إلا النقصان، وأما الزيادة فليست ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ورواية. (¬3) سقط من أ. (¬4) في ب: عبد الملك. (¬5) سقط من أ.

بفوت، وهي إحدى روايتي عيسى عن ابن القاسم في "العتبية". وهذا الخلاف فيما تجب به القيمة على الموهوب له. واختلف فيما يجب على الواهب أخذ القيمة، ويلزمه قبوله من الموهوب له إذا أبدلها له، ولا يكون له أن [يسترد] (¬1) هبته إذا لم يرض منه على أربعة أقوال: أحدها: أنه نفس الهبة وقبولها يوجب على الواهب قبض القيمة فيها من الموهوب إذا أبدلها له، وإن لم يقبض الهبة. والثاني: أن القبض يوجب عليه قبض القيمة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وغيرها. والثالث: أنه التغيير بزيادة أو نقصان، وهو قوله في "كتاب الشفعة" من "المدونة". والرابع: أنه فوت عين الهبة جملة، إما بفوات حسي كالموت والاستهلاك، وإما بفوات معنوي كالعتق، والإيلاد. أما القول الأول والثاني فاختلافهما ينبني على الخلاف في الواهب، هل يلزمه دفع الهبة قبل أن يدفع إليه العوض أم لا؟؛ فمن رأى أنه يلزمه أن يدفع إليه الهبة قبل أن يقبض الثواب، قال: يلزم الواهب قبل القيمة بنفس الهبة، ومن رأى أن له أن يحبس الهبة حتى يقبض الثواب، وهو نص قول ابن القاسم "كتاب الهبة" من "المدونة" قال: لا يلزمه إلا بعد قبض الهبة منه. فعلى القول بأن الواهب يلزمه تسليم الهبة قبل أن يقبض الثواب كان ضمانها بعقد الهبة من الموهوب له على كل حال، ولا يدخل فيها من ¬

_ (¬1) في أ: يشتري.

الخلاف ما يدخل في المحبوسة بالثمن، وتلزمه القيمة إن فات يوم الهبة لا يوم القبض باتفاق المذهب. وعلى القول بأنه لا يلزمه تسليم الهبة أولًا، وأن له أن يمسكها بالثواب، فالاختلاف في مصيبتها ممن تكون قبل القبض كالاختلاف في المحبوسة بالثمن، هل هي من البائع أو من المشتري، وقد اختلف فيها المذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن الضمان فيها من البائع على كل حال؛ لأن عليه [فيها] (¬1) حق التوفية. والثاني: أنه من المشتري سواء كان مما يغلب عليه أم لا، وهو أحد قولي مالك في "كتاب العيوب" من "المدونة"، وعليه يأتي قول الغير في "كتاب الرواحل، والدواب" في دعوى البائع هلاك ما اشترط الانتفاع به في البيع: أنه مصدق، وإن كان بعضهم قد تأول أنه بناه على أن المستثنى مشترى فكأنهما انفصلا، وبأن المشتري بالسلعة ثم اكتراها منه البائع بعد ذلك؛ فوجب أن يصدق في دعوى تلف ما اكتراه. وليس هذا بصحيح؛ لأنهما لو كانا قد انفصلا لجاز أن يشترط منفعته شهرًا أو أكثر، وهو لم يجز ذلك إلا فيما قلّ كاليوم واليومين. والثالث: التفصيل بين ما يغاب عليه، وما لا يغاب عليه، وهو قول ابن القاسم. واختلف أيضًا على هذا القول متى تكون القيمة في الهبة إذا فاتت على قولين: أحدهما: [أنها] (¬2) تجب يوم الهبة، وهو قول مالك، وابن القاسم، ¬

_ (¬1) في أ: فيه. (¬2) في أ: أنه.

وأصبغ في العتبية، ومثله في آثار "كتاب الحبس" من "المدونة". والثاني: أنها تجب يوم القبض، وهو قول ملك في "موطئه" ومثله في "كتاب الشفعة" من "المدونة". واختلف [في] (¬1) ما الذي يجبر الواهب على قبوله من الثواب إذا عوضه الموهوب له على ثلاثة أقوال: أحدها: أن للموهوب له أن يثيبه بما شاء من العروض مما فيه وفاء بقيمة الهبة، ويجبر الواهب على قبوله ما لم يكن من العروض التي يتعاطاها الناس فيما بينهم في الثواب كالحطب، والتبن، وما أشبه ذلك، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". ولا فرق عنده بين أن يكون ذلك قبل الفوات أو بعده؛ إذ لم يفرق بين ذلك في "الكتاب". والثاني: أنه لا يعطيه في الثواب إلا الدنانير والدراهم، إلا أن يتراضيا على غير ذلك، وهو قول أشهب، ويلزم على قوله إذا تراضيا على غير الدنانير، والدراهم ألا يجوز على مذهبه إلا بعد معرفتها بالقيمة. والثالث: أن له أن يثيبه بما شاء من العروض إن كان فيه وفاء بالقيمة، ولا فرق بين الحطب وغيره، وهو قول سحنون. وأما الوجه الثاني من الوجه الثالث: إذا كذب الموهوب له الواهب في أنه أراد بهبته الثواب، فلا يخلو [الأمر] (¬2) إلا من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يرى أنه إنما أراد بهبته الثواب. والثاني: أن يرى لم يرد [بها] (¬3) الثواب. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: به.

والثالث: أن يجهل أمره، ولا يتبين مراده، هل كان للثواب أم لا. فإن رأى أنه أراد به الثواب، فحكمه كحكم الهبة للثواب، وقد تقدم الكلام [فيه] (¬1). وإن رأى أنه لم يرد به الثواب، فلا ثواب له [فيها] (¬2). فإن لم يتبين مراده فيها، فالقول قوله أنه أراد [بها] (¬3) الثواب؛ قيل: بيمين، وقيل: بغير يمين [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) في ب: عليه. (¬2) في أ: فيه. (¬3) في أ: به. (¬4) زيادة من ب.

المسألة الثانية فيما يجوز أن يعاوض به في هبة الثواب

المسألة الثانية فيما يجوز أن يعاوض به في هبة الثواب ولا تخلو الهبة من أن تكون قائمة أو فائتة. فإن كان قائمة، فلا يخلو ما عوضه به من أن يكون من جنس الهبة، أو من غير جنسها. فإن كان من جنسها، فلا يخلو من أن تكون الهبة ذهبًا، أو فضة، أو تكون عروضًا. فإن كانت ذهبًا أو فضة، فلا تخلو من أربعة أوجه: إما أن يثيبه مسكوكًا عن مسكوك، أو متبورًا عن متبور، أو مصوغًا عن مسكوك، أو مسكوكًا عن مصوغ. أما ثواب العين عن العين، فإن كان مثله عددًا أو وزنًا وصفة، فذلك جائز قولًا واحدًا، ويكون سلفًا، وفي الأكثر لا يجوز قولًا واحدًا، وفي الأقل قولان: إن كان يدًا بيد كانت فضة بفضة غير متماثلة. وإن كان بعد التفرق دخله ربا التفاضل، وربا النسيئة مع ما في ذلك من ضمان يجعل على القول بأن للعين فيه ضمان يجعل. وكذلك الحكم في المتبور عن المتبور، وأما إذا عاوضه مصوغًا عن مسكوك، فقد اختلف المذهب في جواز هبة الدنانير والدراهم على عوض، على قولين قائمين من "المدونة". أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو الأظهر؛ لأن القيمة إنما تكون

بالعين التي هي أصل في الأثمان، وقيمة للمتلفات، فإذا عادت الهبة عينًا، فإنما تكون قيمتها من أصناف العروض، فتثبت في الذمة غير مؤجلة، ولا موصوفة؛ وذلك يمنع صحة البيع، وما كان في معناه [مما يفتقر] (¬1) إلى العوض؛ فكأن الدنانير والدراهم بيعت بما لا يعرف من أصناف العروض. وهو قول مالك، وابن القاسم في "العتبية"، و"الموازية". والثاني: أن ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم في الموازية، وهو ظاهر قول مالك في المختصر حيث قال: لا ثواب في الدنانير والدراهم إلا أن يكون لذلك وجه. فعلى القول بالجواز، فما الذي يجوز أن يعاوض به عنه؟ أما العروض: فلا إشكال في جوازها على اختلاف أصنافها، وتباين صفاتها. أما الحلي المصوغ، فهل تجوز المعاوضة به عن العين أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو قول أشهب. والثاني: المنع، وهو قول ابن المواز. والقولان منصوصان في "كتاب محمَّد" في [أخذ] (¬2) العين عن هبة الحلي، وهو الوجه الرابع والذي يقول: إنه يجوز أن يعاوض عن الذهب ورقًا، وعن الورق ذهبًا إذا كان يدًا بيد، فإن كان بعد التفرق، فهذا الذي ينبغي أن يكون فيه الخلاف لما كانت الهبة مكارمة، فيجوز على قول؛ لأنهما لم يقصدا إلى المكايسة، فإن كانت الهبة عروضًا، وعاوضه من ¬

_ (¬1) في أ: حتى تفتقر. (¬2) سقط من أ.

جنسها، فلا يخلو من أن يكون مما فيه الربا، أو مما لا ربا فيه. فإن كان مما فيه الربا: أما ربا التفاضل، فيجوز فيه المثل، والأقل قبل التفرق، ولا يجوز الأكثر، وأما ربا [النسيئة] (¬1) فيجوز فيه المثل، والأقل، والأكثر قبل التفرق قولًا واحدًا، وبعد التفرق قولان؛ لأن الطعام المكيل، والموزون والمعدود يسمى عروضًا. وأما ما لا ربا فيه، فإنه يجوز كيف ما قدر وصور في الأقل والأكثر قبل الافتراق وبعده؛ إذ لا علة [تتقي] (¬2) مع قيام الهبة. وكذلك الحكم إذا كان العوض من غير جنسها. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا [فاتته] (¬3) الهبة ووجبت قيمتها على الموهوب له، فلا يخلو ما عاوضه به من أن يكون معينًا أو يكون ثابتًا في الذمة. فإن كان شيئًا معينًا، فلا يخلو من أن يكون مما يتعجل قبضه أم لا. فإن كان مما يتعجل قبضه في الحال [فالجواز] (¬4) اتفاقًا. فإن كان مما لا يتعجل قبضه في الحال كخدمة عبد أو سكنى دار، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: الجواز لأشهب. والمنع لابن القاسم. والتفصيل بين أن يشرع في السكنى، فيجوز أو يتراخى، فلا يجوز، ¬

_ (¬1) في أ: النساء. (¬2) في أ: تبقى. (¬3) في أ: فاتت. (¬4) في أ: فلا يجوز.

وهو قول ابن القاسم في "كتاب الحوالة" أيضًا. فإن كان ثابتًا في الذمة؛ مثل أن يعاوضه دينًا له على رجل حاضر مَلِي، فإن حَلّ الدَّين، وكان مما تقوم به الهبة، وقبضه في الحال جاز قولًا واحدًا. وإن تراخى القبض أو لم يحل الدين، فالمذهب على قولين: أحدهما: الجواز، وهو قول مالك في "كتاب ابن المواز"؛ لأنه من باب الحوالة إذا كان الدَّين مثل القيمة التي وجبت له أو أقل، فإن كان أكثر كان سلفًا بزيادة. والثاني: أن ذلك لا يجوز؛ لأنه دين بدين، وهو قول ابن القاسم وأشهب في "الموازية". وأكثر هذه المعاني تقدم ذكرها في "كتاب البيوع". تم الكتاب بحمد الله تعالى يتلوه "كتاب الوصايا الأول".

كتاب الوصايا الأول

كتاب الوصايا الأول

كتاب الوصايا الأول تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها عشر مسائل: المسألة الأولى فيمن أوصى ببيع عبده أو شراء عبد غيره فأما وصيته ببيع عبده، ففيه ستة أسئلة: الأول: أن يقول: بيعوا عبدي من فلان. والثاني: أن يقول: بيعوا عبدي ممن يعتقه. والثالث: أن يقول: بيعوا عبدي، ويسكت. والرابع: أن يقول: بيعوا عبدي ممن [أحب] (¬1). والخامس: أن يقول: بيعوا عبدي ممن أحب للعتق. والسادس: أن يقول: بيعوا عبدي لفلان للعتق. فالجواب عن السؤال الأول: إذا قال: بيعوا عبدي من فلان، فإنه يعرض عليه بقيمته، فإن لم يرض، فإنه يوضع له من الثمن إلى مبلغ ثلث قيمته. فإن امتنع من شرائه بعد وضيعة الثلث، فلا يخلو من أن يطلب الحطيطة من الثلثين الباقيين أم لا. فإن طلب الوضيعة من الثلثين، فهل يساعد بمطلوبه أم لا؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) في أ: أحبه.

أحدهما: أن الورثة بالخيار بين أن يبيعوه له بما طلب أو يقطعوا له بثلث العبد، وهو نص قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أنه لا شىء [عليهم] (¬1)، وهو قول أشهب في "الموازية"، وهذا القول قائم من "المدونة" من قول الغير في قوله: بيعوه ممن أحب، وهو الأظهر في النظر الصحيح؛ لأنه لما امتنع من الشراء بوضيعة الثلث، فكأنه رد الوصية، وكأن الموصى إنما [أوصى] (¬2) له بالحطيطة بشرط الشراء، وهو ظاهر قول ابن القاسم في فصل الشراء أيضًا إذا أوصى أن يشتري عبد فلان، فأبى من يبيعه بزيادة الثلث، فلم يجعل له ثلث الثمن. فيتخرج لابن القاسم من الكتاب قولان. وسبب الخلاف: هل ذلك وصية للموصى له بالبيع بوضيعة ثلث الثمن أم ذلك شيء أوجبته الأحكام. واختلف هل يجب على الورثة إعلام المشتري بذلك أم لا، على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ليس عليهم إعلامه، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه [يجب] (¬3) عليهم إعلامه، وهو قول أشهب. وهذا ينبني على الخلاف الذي قدمناه آنفًا. وأما إن امتنع من شرائه أصلًا فلا شيء له في العبد اتفاقًا لا على القول بأنها وصية له، ولا على القول بأن الوضيعة أمر أوجبته الأحكام؛ لأنه إن ¬

_ (¬1) في أ: عليه. (¬2) في ب: أرضي. (¬3) سقط من أ.

كان ذلك وصية له، فقد ردها. واختلف هل تدخل الوصايا في هذا العبد بعد الرد إن كانت في المسألة أم لا. على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن الوصايا تدخل فيه. والثاني: أنها لا تدخل، ويكون للورثة محاصته. والقولان قائمان من "كتاب الوصايا الثاني" من "المدونة" من مسألة بعض الموصى لهم إذا مات قبل موت الموصي. وينبني الخلاف: على الخلاف في الوصايا هل تدخل فيما علم الموصى به، وفيما لم يعلم من ماله أو لا تدخل إلا فيما علم به، وقد حكى اللخمي الخلاف في المسألة. وهذا كله إذا حمله الثلث، فإن لم يحمله الثلث خير الورثة بين أن يبيعوه بوضيعة الثلث أو يقطعوا للموصى [له] (¬1) بثلث الميت بتلًا. والجواب عن السؤال الثاني: إذا أوصى أن يباع عبده من فلان للعتق. وعن الثالث: إذا أوصى أن يباع ممن أحب للعتق. وعن الرابع: إذا أوصى أن يباع ممن يعتقه: فالحكم في الأسئلة الثلاثة واحد، ولا يخلو من أن يحمله الثلث أو لا يحمله. فإن حمله الثلث ووجد من يشتريه، فقد اختلف في القدر الذي يحط له من القيمة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يحط له ثلث قيمته، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أنه يباع بما أعطى فيه قل أو جل، ويبدي على الوصايا، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وهو قول مالك في "كتاب محمد"، وهو قائم من المدونة من قوله: بيعوه ممن أحب، ولم يجد من يحب فقال: يعتق الورثة ثلث العبد. والثالث: أنه ينظر إلى ما يسوي بشرط العتق، فإن قيل: عشرون كانت [العشرون] (¬1) كالثمن الصحيح [وهو] (¬2) يحط ثلثها، وهو اختيار اللخمي، وهو أقيس. وسبب الخلاف: هل ذلك وصية للعبد، فيباع بما يعطى فيه، أو ذلك وصية لمشتريه، فيحط عنه ثلث الثمن خاصة. وفائدة اعتبار زيادة ثلث القيمة في المشتري وحطها من قيمة المبيع؛ لأنها القدر الذي يقع به التغابن في البيع في غالب الأمر. [فحمل] (¬3) الأمر على الغالب المتفق عليه في المذهب أنه لا قيام فيه للمغبون بالغبن، والزائد على ذلك يجري على الخلاف الذي أتقناه في مسائل [البيوعات] (¬4). فإن لم يحمله الثلث، فالورثة بالخيار؛ إن شاؤوا جوزوا ذلك، وإلا أعتقوا منه ما حمل الثلث. والجواب عن السؤال الخامس: إذا قال: بيعوا عبدي فسكت، ولم يزد، فهل يلزم الورثة نفوذ الوصية إذا [حمله] (¬5) الثلث أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك غير لازم للورثة لا ندبًا ولا واجبًا، وهو قول أشهب. ¬

_ (¬1) في أ: عشرون. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: البياعات. (¬5) في أ: حملها.

والثاني: أن الورثة يؤمرون، ولا يخيرون. وسبب الخلاف: لفظ الموصى إذا عرى عن غرض ظاهر، هل يعد ذلك منه عبثًا، وسفهًا؛ لأن قوله: بيعوا عبدي، كلام لا يفهم منه فائدة، ولا تعقل له قرية فيطرح ويلغي، أو لا يعد ذلك عبثًا وسفهًا؛ لأن كلام الموصي في ماله لا يخلو من غرض، ولابد لوصيته من فائدة قصدها منها: إما ظاهرة، وإما باطنة، إما لنفسه، وإما لغيره. وفي مسألتنا قد يقصد بالوصية بيع عبده على معنى الرفق بالعبد، وصرف الأذى عنه لما علم من عض بعض الورثة أنامله من العبد لأجل ما يلقى منه من المغائظ في حياة السيد من كون العبد حريصًا على صيانة مال سيده، ولم يساعدهم على ما يريدون من بسط اليد إلى الخيانة فَيَسُومُونَه بالوعيد، ويحملون عليه بالتهديد، مهما حصل في ملكهم بالإرث، وخصوصًا إذا كان الوارث غاصبًا، أو بعكس ذلك أن يكون عبدًا مسخوطًا جافيًا يخشاه السيد على ولده، وهو ممن لا تؤمن غوائله، فرأى إخراجه من ملكه مصلحة لورثته، فعلى هذا ينبني الخلاف. والجواب عن السؤال السادس: إذا قال: بيعوه ممن أحب، فلم يوجد من يشتريه بوضيعة الثلث، وبعد انتقال العبد من عمرو إلى زيد، أو لم يجد من يساومه أصلًا. أما إذا لم يجد من يساومه ممن أحب، فلا شيء على الورثة باتفاق المذهب. وأما إذا وجد من يشتريه بالوضيعة من الثلثين، فأبى الورثة من بيعه، ففي الكتاب قولان: أحدهما: أن الورثة مخيرون بين أن يبيعوه بما سئلوا، أو يعتقوا ثلثه

بتلًا، وهو قول مالك في الكتاب. والثاني: ألا شيء على الورثة، ويكون جميع العبد ميراثًا لهم؛ لأنهم قد أنفذوا وصية الميت، وليس عليهم أكثر مما فعلوه، وهذا هو الأظهر في النظر. وقوله: يعتق ثلثه على الورثة إذا أبوا من بيعه بما سئلوا قولًا ضعيفًا ليس في كلام الموصي ما يدل عليه لا في لفظه، ولا في قصده، وهذا إذا حمله الثلث. فإن لم يحمله خير الورثة بين بيعه بذلك، أو يعتقوا منه ما حمل الثلث من مال الميت. وأما الفصل الثاني: وهو وصيته بشراء عبد غيره، ففيه ستة أسئلة [أيضًا] (¬1). الأول: أن يقول: اشتروا عبد فلان لفلان. والثاني: أن يقول: اشتروا عبدًا لفلان. والثالث: أن يقول: اشتروا عبد فلان للعتق. والرابع: أن يقول: اشتروا عبد فلان، ولم يزد. والخامس: أن يقول: اشتروا عبدًا للعتق. والسادس: أن يقول: اشتروا عبدًا ولم يزد. والجواب عن السؤال الأول: إذا قال: اشتروا عبد فلان لفلان: فلا يخلو من أن يحمله الثلث أو لا يحمله الثلث. فإن حمله الثلث، فإنه يشتري له بزيادة ما بينه، وبين ثلث ثمنه. ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

فإن أبي أن يبيعه بذلك، فلا يخلو من أن يمتنع من بيعه أصلًا ضنًا منه بالعبد. والثاني: أن يكون امتناعه طلبًا للزيادة على الثلث. فإن امتنع من بيعه أصلًا، فلا شيء للموصى له به اتفاقًا. فإن كان امتناعه التماسًا للزيادة، فإنه يتخرّج [فيها] (¬1) من المدونة ثلاثة أقوال: أحدها: أن الورثة [يسلموا] (¬2) إلى الموصى له به قيمة العبد، وزيادة ثلث ثمنه، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أن الورثة إذا زادوا على القيمة ثلثها، فلم يبع بذلك، وطلب الزيادة، فليس عليهم أكثر من ذلك، ثم لا شيء للموصي أن يشتري له العبد لا من الثمن، ولا من الزيادة، وهو قول الغير في "المدونة". والثالث: أن الثلث الزائد على القيمة يكون لسيد العبد، والقيمة تكون للموصى له بشراء العبد، وهو ظاهر قوله في "الكتاب" من مسألة: الذي أوصى أن يباع عبده من فلان، فطلب زيادة الوضيعة على الثلث، وأبى الورثة حيث قال: يقطعوا له بثلث العبد؛ فكما يقضي لهذا بثلث العبد إذا أبى أن يشتري، فكذلك يقضي للآخر بثلث الثمن إذا امتنع من البيع، وهذا الإلزام ظاهر قد ألزمه التونسي للكتاب، والأمر كما قال لا مراء فيه لم [تأمل] (¬3) ما في "المدونة". ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: تسلم. (¬3) في أ: تأول.

وسبب الخلاف: هل ذلك وصية لصاحب العبد، فيكون له الثلث الزائد أم ذلك وصية للموصى له بشراء العبد، فيكون له الثمن؟ ومن تعارض عنده الأمران وتساوى لديه الاحتمالان جعل الثمن للموصى له بالعبد، والثلث الزائد لصاحب العبد. فإن لم يحمله الثلث خير الورثة بين أن [يشتروا له] (¬1) أو يقطعوا له بثلث مال الميت بتلًا. والجواب عن السؤال الثاني: إذا قال: اشتروا عبدًا لفلان فالوصية نافذة إن حمل ذلك الثلث. واختلف هل يشتري له رقبة وسطًا، أو إنما يراعي قدر الثلث؟ على قولين: أحدهما: أن المراعى قدر الثلث لأكثر، وهو ظاهر المدونة إذا أوصى أن تشتري رقبة، فتعتق، قال: يشتري على قدر الثلث. والثاني: أن تشتري رقبة وسطًا، وذلك عدل بينه وبين الورثة، وهو الظاهر من غرض الموصي؛ إذ لو اعتبر مقدار الثلث لأوصى له بها تصريحًا وقطعًا. وليس للورثة أن يردوه إلى الأدنى ليوفروا لأنفسهم أكثر الثلث؛ لأن ذلك خروج عن مراد الموصي وغرضه، والموصي لا يقصد إلى الإيصاء بالدون؛ لما علم من خوفه على الوفر لحظ نفسه، ولاسيما إذا لم يوص بغير ذلك. والجواب عن السؤال الثالث: إذا أوصى أن يشتري عبد فلان للعتق، فلا يخلو من أن يكون وارثًا أو أجنبيًا. ¬

_ (¬1) في أ: يشتروه.

فإن كان أجنبيًا، وحمل الثلث وصيته، فإنه يشتري بالقيمة، وزيادة الثلث. فإن امتنع سيده من البيع أصلًا، وطلب الزيادة على الثلث، وأبى الوارث، هل يستأني بالثمن أم لا؟ فعلى قولين: أحدهما: أنه يستأني به، وهو نص "المدونة". والثاني: أنه لا يستأني به، وهو قول ابن المواز. وعلى القول بالاستيناء، فإلى أىّ أمد، وإلى أيّ مرد؟ فعلى قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أنه يستأني به إلى الإياس، والإياس على هذا القول طول الزمان مع بقاء العبد في ملك سيده، وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة"، ويكون قوله في "كتاب الوصايا الثاني" بيانًا لقوله في " [كتاب] (¬1) الوصايا الأول". والثاني: أن يستأني به حتى ييأس منه؛ والإياس في هذا القول عدم العبد كالموت، وإما معنى كالعتق، وهي رواية ابن وهب عن مالك في "الكتاب"، وهو نص قول ابن القاسم في غير "المدونة" أيضًا. وعلى القول بأنه لا يستأني بالثمن، أو أنه يستأني به إلى الإياس، فما الحكم في الثمن بعد الإياس، هل يعود ميراثًا، أو يجعل في رقبة أخرى؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه يعود ميراثًا، وهو ظاهر قول ابن القاسم، وابن وهب في "المدونة". والثاني: أن الثمن وزيادة الثلث يجعل في رقبة أخرى، وهو قول ابن ¬

_ (¬1) سقط من الأصول.

كنانة في غير "المدونة"، وهو ظاهر قول الغير في "الكتاب" من مسألة: [الوصية] (¬1) بالحج، وقد قال ابن القاسم فيمن أوصى أن يحج عنه رجل بعينه، وهو غير ضرورة، فأبى فلان أن يحج عنه أن الوصية تعود ميراثًا، وقال غيره: تدفع لغيره، ولا تعود ميراثًا؛ لأن الحج إنما أراد به البِّر لنفسه؛ يريد أن ثواب الحج عن الميت للميت، وفلان إنما أخذ المال على معنى الإجارة، وكذلك الوصية بالعتق. وسبب الخلاف: هل النظر إلى لفظ الموصي، أو النظر إلى غرضه؟ فمن جرد النظر إلى لفظه، قال: تعود الوصية ميراثًا. ومن لاحظ المعنى، واعتبر غرضه قال: لا تعود ميراثًا، وهو الأقيس. وعلى القول بأنها لا تعود ميراثًا، هل تدخل فيه الوصايا أم لا؟ قولان قائمان من "المدونة"، وقد بيناهما. ويتخرج الخلاف فيه على الخلاف في الوصايا، هل تدخل فيما علم وفيما لم يعلم [أم لا] (¬2)؟ فإن كان وراثًا، فأبى أن يبيعه إلا بزيادة الثلث على القيمة، هل يزاد له كما يزاد للأجنبي؟ قولان قائمان من المدونة: أحدهما: أنه لا يزاد له إذا كان وراثًا معه؛ لأن ذلك وصية لوارث، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يزاد له كما يزاد لغيره، وهو قول مالك في "كتاب ¬

_ (¬1) في أ: الوصي. (¬2) سقط من أ.

محمد". وسبب الخلاف: هل ذلك وصية للعبد أو وصية لسيده؟ والجواب عن السؤال الرابع: إذا قال: اشتروا عبد فلان، ولم يزد عليه، فإنه يشتري بالقيمة، وبزيادة الثلث. فإن طلب الزيادة على ثلث القيمة، وأبى الورثة، هل يعطي لسيده ثلث القيمة أم لا؟ قولان متأولان على المدونة؛ فعلى قول ابن القاسم إذا أوصى أن يشتري عبد فلان لفلان، وأبى سيده من البيع أن الثمن وثلثه لفلان الموصي أن يشتري [له] (¬1)؛ فيكون في هذه المسألة ثلث الثمن لسيد العبد، وعلى قول غيره: لا شيء له. والجواب عن السؤال الخامس: إذا أوصى أن يشتري للعتق، فالوصية تنفذ إن حملها الثلث. واختلف هل يجعل ذلك في وسط الرقاب، أو يعتبر قدر الثلث على التوجيه الذي قدمناه في السؤال الثاني إذا أوصى أن يشتري عبد فلان، فلا فائدة لإعادته مرة أخرى. والجواب عن السؤال السادس: إذا أوصى أن يُشترى عبد، ولم يزد على ذلك لم يلزم الورثة إنفاذ الوصية لخلوها من فائدة؛ لأنه لم يتعلق بذلك حق لله تعالى، ولا للآدمي؛ فيتعين إسقاطها عن الورثة ندبًا وإيجابًا [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب.

المسألة الثانية في الأب إذا اشترى ابنه في مرضه

المسألة الثانية في الأب إذا اشترى ابنه في مرضه وفي هذه المسألة ثلاثة أسئلة: الأول: إذا اشترى المريض في مرضه من يعتق عليه بالملك؟ والثاني: إذا اشترى ابنه مع من يعتق عليه؟ والثالث: إذا بتل عتق عبده في مرضه، واشترى ابنه. فالجواب عن السؤال الأول: إذا اشترى من يعتق عليه في مرضه، فقد اختلف فيه المذهب على خمسة أقوال: أحدها: أن عتقه من رأس المال كان ولدًا، أو ولد الولد أو أخًا، وهو قول أشهب في "الموازية". والثانية: أنه يخرج من الثلث أيًا كان، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثالث: التفصيل بين أن يكون العبد المشتري ممن يحجب غيره كالابن، والأب فيخرج من رأس المال، أو ممن لا يحجب فيخرج من الثلث كالأخ، والأم، وهو قول ابن وهب. والرابع: التفصيل بين الولد وغيره؛ فالولد يخرج من رأس المال، وغيره يخرج من الثلث. والخامس: التفصيل بين أن يكون معه وارث يشاركه في الميراث، فيخرج من الثلث، أو انفرد بالميراث، فيخرج من رأس المال، وهو قول أشهب أيضًا.

ووجه قول من قال: إنه يعتق من رأس المال أيًا كان [كونه] (¬1) عتق سنة أو عتق اقتراف، فتدخل فيه التهمة، وهذا القول قائم من "المدونة". ووجه قول من قال: إنه من الثلث أيًا كان؛ لكونه عتق اختياري لكون السبب الموصل إلى العتق باختياره، وهو الشراء. وهذا على القول بأن المسبب كالمباشر. ووجه قول: من فصل بين من يحجب، ومن لا يحجب؛ لأنه إن كان ممن يحجب كانت شبهته أولى، وسببه أولى، وأمره أقوى؛ فلهذا قال: من رأس المال، وهذا في الولد وولد الولد؛ لأنهما محل الإجماع فيمن يعتق بالملك، ومن عداهم من القرابة محل الخلاف. ووجه القول بالتفصيل: بين أن ينفرد بالميراث أو يشاركه فيه غيره؛ لأنه إذا انفرد بالميراث لم يضيق على أحد، ولا أدخل عليه ضررًا, ولا تهمة هناك، فيكون من رأس المال مع ما في عتقه على المالك من الإجبار الشرعي. فإن كان معه من يشاركه في الميراث اتهم المشتري على إدخال الضرر عليه، وسوق الضيم إليه، فيخرج من الثلث وزنًا بينهما بالمعيار الشرعي. ووجه قول: من فصل بين الولد وغيره، فجعل الولد يخرج من رأس المال، وأصرف غيره إلى الثلث كون الولد يملك [استلحاقه] (¬2) في الصحة والمرض، ولا تهمة تلحقه ولا [ضيم يرهقه] (¬3)، فيقوى أمره، ويترقى مقامه على من عداه ممن لا تصح فيه بهذا المعنى، ولا يتصور فيه هذا المغزى لمن ثنى نسبه، وتقاصر به سببه. ¬

_ (¬1) في أ: عتقه. (¬2) في ب: استحقاقه. (¬3) في أ: صحة ترهقه.

وعلى القول بأن عتقه من رأس المال أيًا كان، فإنه يرث المريض إذا مات وارتفعت الموانع. وعلى القول بأنه يعتق من الثلث ولدًا كان أو غيره، هل يرث من مال الميت بعد عتقه أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يرث بقية المال إذا انفرد أو ما يصح بفرض أو تعصيب إن ازدوج، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب الوصايا الأول". والثاني: أنه لا يرث أصلًا، وهو ظاهر "المدونة" أيضًا؛ لأنه نص في غير ما موضع منها، كما نص عليه في آخر "كتاب النكاح الثالث" أن الميراث لمن [وجب] (¬1) له يوم مات الميت، وهو قول أصبغ في المذهب، وهذا يوم مات الميت حكمه حكم العبد في حرمته وحدوده، وأنه لو مات قبل النظر في الثلث، فلا يرث، ولا يورث بالحرية. والثالث: التفصيل بين الولد وغيره؛ فيرث إن كان ولدًا, ولا يرث إن كان غيره لجواز [استلحاقه] (¬2) كما قدمناه، واستلحاق الولد قطع كل تهمة غير أنه في هذا القول أصرفه إلى الثلث ترددًا لا تعبدًا. ووجه قول ابن القاسم: في "الكتاب" أنه يرث بقية المال إذا انفرد، قال: وإن كان عتقه بعد الموت إلا أنه لما حمله الثلث، فكأنه لم يزل عتيقًا منذ اشتراه فكان وقفه استقصاء، واستبراء لمال الآمر في العاقبة كغريم يرد غرماؤه عتقه ثم أفاد مالًا قبل البيع. وهذا توجيه لائق لولا معارضته بمسألة المبتل في المرض؛ لوجود هذا ¬

_ (¬1) في أ: وجبت. (¬2) في ب: استحقاقه.

المعنى فيها مع أن الحكم استصحاب حال الرق معه إلى وقت خروجه من الثلث [معه] (¬1) وانسلاله من ربقة العبودية؛ فعند ذلك [تبتدأ] (¬2) عليه أحكام الحرية. ولو مات [وله] (¬3) من يرثه بعد البتل، وقبل خروجه من الثلث لم يوقف له منه ميراثه اتفاقًا، ويلزم ابن القاسم في مسألة [الولد] (¬4) المشترى أن يقول بذلك في مسألة المبتل، فإن التزم بذلك فقياس، وإن امتنع منه فإشكال والتباس. وسبب الخلاف: في توريث المشترى بعد عتقه من الثلث اختلافهم في الدور العقلي، هل يصح به الإبطال أم لا؟ ومعنى الدور ما يؤدي إثباته إلى نفيه، وصورته في مسألتنا أن إثبات الميراث يؤدي إلى إبطال الوصية؛ إذ لا وصية لوارث، وشراؤه إياه في المرض كالوصية له. وإبطال الوصية يؤدي إلى إبطال العتق، وإبطال العتق يؤدي إلى إبطال الميراث، وإبطال الميراث يؤدي إلى تصحيح الوصية، وتصحيح الوصية يؤدي إلى تصحيح العتق وثباته، وإثبات العتق يؤدي إلى إثبات الميراث. [فهكذا يكون] (¬5) إثبات البعض على إبطال البعض. والجواب عن السؤال الثاني: إذا اشترى ابنه مع من يعتق عليه، فلا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: تبدو. (¬3) في أ: وبعد. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: فهذا يكرر.

يخلو من أن يشتريهما صفقة واحدة أو اشترى واحدًا بعد [واحد] (¬1). فإن اشتراهما صفقة واحدة، فعلى ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يتحاصان في الثلث، [وهو قول] (¬2) أشهب في رواية البرقي عنه، وهو ظاهر "المدونة" أيضًا لمساواتهما في العتق [والملك] (¬3). والثاني: أن الابن يُبَدَّى من رأس المال ويرث ما بقي من المال، وهذا على القول بأن له أن يشتريه بجميع ماله إذا لم يكن معه وارث، وهو قول أشهب أيضًا، وهو ظاهر "المدونة" في "كتاب المكاتب" وغيره؛ لقوة أمر الابن؛ إذ له أن يستلحقه، وله أن يستحدثه. والثالث: أن الابن يُبَدَّى في الثلث، فإن حمله عتق، وإن بقى شيء في الثلث عتق [منه] (¬4) الأخ، أو ما حمل منه، وهو قول ابن المواز، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب الوصايا الثاني" من "المدونة". فإن اشترى واحدًا بعد واحد، فإن اشترى الابن أولًا، فعلى القول بأنه يخرج من رأس المال، فإن الأخ يخرج من الثلث إن وسعه أو ما حمل منه، ولا يرث الابن هاهنا إلا ما فضل عن عتق الأخ. [وعلى] (¬5) القول بأنه يخرج من الثلث، فالأخ يخرج مما فضل منها إن فضل. وإن اشترى الأخ أولًا، فإنه يخرج من الثلث إن حمله [أو ما حمل ¬

_ (¬1) في أ: أخرى. (¬2) في أ: وهي رواية. (¬3) في ب: بالملك. (¬4) في أ: فيه. (¬5) في أ: فعلى.

منه ثم يخرج الابن بعده من جميع ما بقى من المال إن حمله] (¬1) ويرث الفضل إن كان فيه بعد خروج قيمته. فإن لم يحمله بقية المال، وكانت قيمته أكثر منه لم يعتق منه إلا ما بقي من الثلث بعد خروج الأخ إن فضل منها شيء، ويرق منه ما بقي، وهو قول أشهب. وقال ابن القاسم: ثم إن صار ما رق منه ميراثًا لمن يعتق عليه عتق عليه بقيته. والجواب عن السؤال الثالث: إذا أبتل عتق عبد في مرضه، واشترى ابنه، فهل يتحاصان أو يبدأ بالابن؟ قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنهما يتحاصان، وهو ظاهر "المدونة" في مسائل التَّبْدِيَة لتساويهما في التبدية، واعتبار المال المأمون في كليهما. والثاني: أن الابن مُبَدَّى، وهو نص "المدونة"، و [هو] (¬2) ظاهر قوله فيها ألا فرق بين تقدم المبتل على الشراء أو تأخره؛ لقوله في "الكتاب": [لأن] (¬3) مالكًا إنما جعله وارثًا إذا خرج من الثلث كان بمنزلة ما لو اشتراه صحيحًا. وهذا لا يستقيم لابن القاسم؛ كيف يتساوى شراؤه في الصحة، وشراؤه في المرض، وهو لا يعتق إلا بعد الموت، وإن ماله لو تلف قبل الموت لرق لورثته، ولو مات له ابن أو أخ قبل النظر في الثلث، وبعد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: كان.

الشراء لم يرث منه شيئًا, ولا يوقف له منه ميراثًا؛ فهذا معضل أدب إلا أن يكون ابن القاسم اعتبر قول من يقول: إنه يعتق من رأس المال، والمبتل في المرض ماله إلى الثلث على كل حال، فيصح ما قال. وبالله التوفيق، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الثالثة في الوصية المطلقة والمقيدة

المسألة الثالثة في الوصية المُطْلَقَة والمُقَيَّدَة ولا تخلو الوصية من وجهين: أحدهما: أن تكون مطلقة. والثاني: أن تكون مقيدة. فأما الوجه الأول: إذا كانت مطلقة، فلا تخلو من أن تكون لفظًا من غير [كتاب] (¬1)، أو تكون بكتاب. فإن كانت لفظًا بغير كتاب، فلا خلاف في نفوذها إذا لم يغيرها, ولا نسخها حتى مات. فإن كانت بكتاب، فلا تخلو من أن يقر الكتاب بيده، أو يدفعه إلى غيره. فإن أقره على يده، ولم يغيره حتى مات، وشهدت البينة على عينه، فلا خلاف في نفوذ الوصية أيضًا. فإن وضعه على يد غيره، وأقره حتى مات، فكذلك أيضًا. فإن استرجعه من يد من وضع على يديه، هل يكون استرجاعه دليلًا على الرجوع، فتبطل الوصية، وإن وجدت عنده، أو لا يعد ذلك رجوعًا، فإنه يتخرج على قولين متأولين على "المدونة": أحدهما: أن ذلك دليل على الرجوع في الوصية، وإن وجد الكتاب عنده بعد الموت، وهو تأويل ابن شبلون وغيره على "المدونة". ¬

_ (¬1) في أ: كتب.

والثاني: أن استرجاعه لا يعد منه رجوعًا مع وجود ذكر الوصية عنده، وهو تأويل ابن أبي زيد على "المدونة"، وقال: معنى ما في "الكتاب" أنها تبطل إذا استرجعها إنما هو في المقيدة لا في المطلقة. وتردد الشيخ أبو عمران في التأويل، ولم يرجح أحد الجانبين على الآخر، وقال: لفظ "الكتاب" محتمل لمعنيين، وفيه إشكال. وهجم على المسألة أبو الوليد بن رشد، فأطرد وما تردد، وقال في هذا الوجه لا خلاف في البطلان؛ وذلك سَدٌ لباب التأويل والجمود على [اتباع الظواهر] (¬1)، وليس ذلك من ديدنه. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كانت الوصية مقيدة بسفر بعينه أو مرض بعينه، أو حصول غرض يرجوه بعينه؛ إما غرض دنيوي إن شفاه الله من مرضه، أو قدم غائبه، وإما غرض أخروي كقوله: إن فتح الله عليّ بحجة في هذا العام أو غيره، أو غزوة فعبدي فلان حر أو عليّ عتق رقبة، أو صدقة، كذا فلا يخلو من وجهين: إما أن يكون ذلك لفظًا بغير كتاب. والثاني: أن يكون لفظًا وكتابًا. فإن كان لفظًا بغير كتاب، ومات من ذلك المرض، أو ذلك السفر أو حصل [له] (¬2) الغرض المطلوب، فلا خلاف في نفوذ الوصية. فإن مات من سفر ثان، أو من مرض آخر، هل تنفذ الوصية أو تبطل؟ قولان: ابن القاسم أبطلها في المدونة، وأشهب أنفذها في غير المدونة. ¬

_ (¬1) في ب: إثبات الظاهر. (¬2) سقط من أ.

فإن كانت الوصية بكتاب، فلا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقر الوصية بيده. والثاني: أن يضعها على يد أمين. والثالث: أن يسلم الكتاب إلى البينة. فإن وضع الكتاب عند نفسه، ولم يخرجه [من يده] (¬1) حتى مات فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يموت من ذلك المرض أو من ذلك السفر. والثاني: أن يموت من مرض آخر. فإن مات من ذلك المرض، أو من ذلك السفر، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تكون مختومًا عليها بخاتم غيره. والثاني: أن تكون مفتوحة أو مختومًا عليها بخاتم نفسه. فإن كانت مختومة بخاتم البينة، ولم يسترب الشهود في خاتمهم عند الموت، فلا خلاف في نفوذها سواء قرأها الشهود أو قرأت عليهم [أو أشهدهم] (¬2) على عين الكتاب من غير أن يقرؤها, ولا قرئ عليهم فذلك جائز، إلا أن أكثر الناس لا يريدون الاطلاع على أسرارهم في وصاياهم في حياتهم. وإن كانت مفتوحة أو مطبوعة بطابع نفسه، فهل تجوز الشهادة بعد الموت أم لا؟ فعلى قولين قائمين من المدونة: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

أحدهما: أنه لا يجوز له الإشهاد عليها على تلك الصفة حتى يدفع الكتاب إلى الشهود؛ مخافة من الزيادة أو النقصان، [وهو ظاهر] (¬1) رواية ابن وهب في "المدونة"، وهو قول عبد الملك في غيرها. والثاني: أن الشهادة على تلك الصفة جائزة، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "الكتاب" إذا عرفوا الكتاب بعينه، وظاهر قوله هذا أن الكتاب كان بيد الموصي، وإلا فما فائدة تعيينهم الكتاب؟ واختلف المتأخرون في تأويل قول ابن القاسم على ثلاثة أقوال: فمنهم من قال: معنى قول ابن القاسم إذا لم يكن في الكتاب محو، ولا إلحاق، وأما إذا كان فيه محو أو إلحاق فلا تجوز الشهادة [عليها] (¬2)؛ لاحتمال أن يحدث ذلك بعد الشهادة. ومنهم من حمله على ظاهره؛ فجوز الشهادة عليه -كان فيه محو أو إلحاق أم لا- وينفذ الجميع إذا لم يغير المحو معنى، فإن غيره فإنه ينفذ ما لم يغير؛ [لأنه] (¬3) لما أشهدهم على ما فيها وعلى عينها، وعينها عنده، فكأنه أشهدهم على كل ما يريد فيها، أو يقر عليه أمره، وهو تأويل اللخمي. ومنهم من حمل قول ابن القاسم على أن كتاب الوصية كله مُسَوّد [بالكتابة] (¬4) لا بياض فيه، ولو كان البياض فيه، وأمكن فيه الاستلحاق أو وجد فيه محو فلا تنفذ الوصية، ولا تجوز الشهادة عليها، وهو تأويل أبي ¬

_ (¬1) في أ: وهي. (¬2) في أ: عليه. (¬3) في أ: فإنه. (¬4) في أ: بالكتاب.

عمران الفاسي. فأما إن مات [من] (¬1) غير ذلك المرض، أو من سفر آخر هل تنفذ وصيته، ويعمل بمقتضاها أم لا؟ فعلى قولين قائمين من المدونة، منصوصين لمالك في "المجموعة"، و"العتبية": أحدهما: جواز الوصية ونفوذها. والثاني: إبطالها حتى يخرجها من يده إلى يد غيره. أما [بطلانها] (¬2) فمن قوله في "الكتاب" في الباب الثاني: وليس من يريد أن يجيز وصيته يأخذها، ويجعلها على يدي نفسه، وإنما تنفذ إذا جعلها [على يد غيره] وهو قوله آخر الكلام: وإنما تنفذ إذا جعلها] (¬3) بيد غيره. ومن قوله أيضًا: إذا أمسكها عند نفسه حتى مات، فإن وصيته جائزة. قال ابن القاسم: وهذا إذا كانت الوصية مبهمة لم يذكر فيها من مرضه، ولا من سفره. وأما ما يدل على القول الثاني من الكتاب: فقوله بعد هذه المسألة: إذا أوصى فقال: إن حدث لي من مرضي هذا أو سفري هذا، فلفلان كذا، وكتب ذلك فبرأ من مرضه أو قدم من سفره. وهذا التخريج ظاهر صحيح. ويدل على القولين أيضًا قوله في الكتاب: وإنما اختلف الناس في السفر والمرض. ¬

_ (¬1) في أ: عن. (¬2) في أ: بطلانه. (¬3) سقط من أ.

وأما الوجه الثاني: إذا كتبها ووضعها على يد أمين، فإنها تنفذ ويعمل بمقتضاها إذا وجد الكتاب سليمًا من مَحْو أو لحْن. فإن وجد فيه محو أو لحن هل يعمل بمتقضاها؛ لأنه جعله أمينًا، أو لا يعمل بها؛ لأن المحو واللحن ريبة؟ فقولان قائمان من المدونة، وظاهر قول ابن القاسم في "الكتاب" ألا تجوز؛ لأنه قال: إذا قالت البينة: قد كتبت وصيتي، وجعلتها عند فلان فصدقوه، فقال فلان: إنما أوصى بها لابني: أنه لا يصدق. وظاهر قول الغير فيها أنه يصدق؛ لأنه أمين في السؤالين. وأما الوجه الثالث: إذا أسلمها إلى البينة، فلا يخلو من أن تكون مفتوحة أو مختومة بختم غيرهم أو بخاتمهم. [فإن كان الكتاب مختومًا بخاتمهم] (¬1) أو بخاتم الموصي، فلا خلاف في نفوذها. وإن كانت مفتوحة مطوية أو منشورة فوضعوها الشهود في موضع غلقهم [عليها] (¬2) وحده لتمكن الغيبة عليها لبعضهم دون بعض، فلا إشكال في النفوذ أيضًا. وإن كانت عند بعضهم، فهل تجوز شهادة الباقين [عليها] (¬3) أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن شهادتهم [كلهم] (¬4) عليها جائزة إذا عاينوا الكتاب ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: عليهم. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: كلها.

وعرفوه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "الكتاب" على تأويل من حمل قوله: إذا عاينوه، وعرفوه أن الكتاب كان موضوعًا عند الشهود. والثاني: أنه لا يشهد إلا من وضع عنده خاصة، وهو قول أشهب في غير المدونة، وهو ظاهر رواية ابن وهب في "الكتاب"؛ لأنه اشترط ألا يفضوا خاتمه إذا كان مختومًا؛ مخافة الزيادة فيه أو النقصان. وظاهر هذا الكلام أن شهادة الآخرين لا تجوز عليه كأنهم لا يدرون ما أحدث فيه من وضع على يديه. وقد سئل مالك -رحمه الله- عن هذه المسألة، فقال: يشهد من وضع على يديه، ولا أدري كيف يشهد الآخرون. والثالث: أنهم يشهدون على مبلغ علمهم، ويجهلوا ما تجهلوا. وهذا كله إذا مات، والكتاب بيد من وضع على يديه، ولم يسترجعه. وأما إن استرجعه بعد برئه، أو بعد قدومه من سفره، فالوصية باطلة اتفاقًا [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الرابعة فيمن قال: وصيتي عند فلان فصدقوه

المسألة الرابعة فيمن قال: وصيتي عند فلان فصدقوه وفي هذه المسألة ثلاثة أسئلة: أحدها: أن يقول الميت: وصيتي عند فلان، فأنفذوا ما فيها. والثاني: أن يقول: قد أوصيت فلانًا بوصيتي، فصدقوه. والثالث: أن يقول: فلان يجعل ثلثي حيث أراه الله أو حيث شاء. فالجواب عن السؤال الأول: إذا قال: وصيتي عند فلان، فأنفذوا ما فيها، وأشهدوا على ذلك، ثم مات الموصي، هل تنفذ وصيته أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الوصية جائزة، وعلى الورثة إنفاذها -كان الذي وضعت عنده عدلًا أو غير عدل-، وهو قول سحنون في "العتبية". والثاني: أن ذلك لا يجوز، ولا يلزم الورثة إنفاذها، إلا أن يكون عدلًا، فيجوز في العتق وغيره، وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، و"الموازية". والثالث: أنه يجوز فيما عدا العتق من الوصايا، ويلزم الورثة إنفاذه، ولا يجوز في العتق؛ إذ لا يلزم في العتق بشاهد واحد، وهو أحد قولي مالك في "العتبية"، و"الموازية". والجواب عن السؤال الثاني: إذا قال: أوصيت فلانًا بوصيتي فصدقوه، فإنه ينظر، فإن قال: إنما أوصى بها للمساكين أو لموضع كذا مما هو من وجوه الخير صدق قولًا واحدًا، وإن قال: إنما أوصى بها لنفسى أو

لولدي هل يصدق أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في المدونة: أحدهما: أنه لا يصدق، وهو قول ابن القاسم؛ لأنه شاهد لنفسه، ولمن لا تجوز له شهادته. والثاني: أنه يصدق، وهو قول أشهب؛ لأن الميت أمر بتصديقه، وليس مثل الذي شهد لابنه. والجواب عن السؤال الثالث: إذا قال: فلان يجعل ثلثي حيث أراه الله أو حيث شاء، فإنه يصرفها في سُبُل الخير، ووجوه البِّر، ولا ينبغي له أن يأخذ منها لنفسه، ولا لابنه شيئًا، فإن فعل وكان ذلك موضعًا لها لاستحقاقهم لها، وأعطاهم كما يعطي غيرهم جاز، فإن لم يستحقوا أخذ الصدقة، فإن ذلك مردود؛ لأنه فوض إليه ليجتهد فلم يجتهد، وهو قول أشهب في "المجموعة" و"الموازية". وكذلك لو أعطى منها [أقارب] (¬1) الميت، فلم يعطهم إلا كما يعطي غيرهم من الناس، وهي رواية علي عن مالك في "كتاب ابن عبدوس". وإن أعطاهم ولم تكن بهم حاجة، ولم يجز الورثة ما فعل، فإن ذلك مردود، ويعود ميراثًا إلا أن يجعلها في سبيل الخير؛ لأن الميت إنما قصد وجه الصدقة، وهو قول ابن القاسم. ولو أوصى إليه أن يجعل ثلثه في أفضل ما يراه، وأقربه إلى الله سبحانه، هل يعتق به رقابًا أو يتصدق؟ فأيهما أفضل؟ فقال مالك: الصدقة أفضل من العتق، وقال أصبغ: العتق أحب إلىّ. ¬

_ (¬1) في أ: أقاريب.

وذلك -والله أعلم- يختلف باختلاف الأحوال، ورب زمان تكون فيه الصدقة أفضل من العتق، ورب زمان يكون فيه العتق أفضل من الصدقة، وإنما يعرف ذلك عند النزول، والحمد لله وحده.

المسألة الخامسة فيمن أوصى لعبده بثلث ماله

المسألة الخامسة فيمن أوصى لعبده بثلث ماله ولا تخلو وصية السيد لعبده من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يوصى له بثلث ماله. والثاني: أن يوصى له بجزء دون الثلث أو بشيء بعينه. والثالث: أن يوصى له بدنانير أو بشيء معين، فإن أوصى له بثلث ماله، فلا يخلو من أن ينفرد بالثلث أو ضايقته فيها وصايا آخرين. فإن انفرد بالثلث فلا يخلو من أن تكون قيمة العبد كفاف الثلث، أو كانت أكثر من الثلث. فإن كانت قيمته كفاف الثلث، أو أقول فالعبد قد ملك من نفسه الثلث، فيعتق منه ما ملك من نفسه. وهل يستتم عليه عتق نفسه فيما بقى من الثلث أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يستكمل عليه، وهو قول مالك في "الكتاب". والثاني: أنه لا يستكمل عليه، ولا يعتق من العبد إلا الثلث خاصة، وهو قول المغيرة، والمخزومي. وسبب الخلاف: هل العبد مجبور على قبول الوصية ثم لا تقويم عليه؛ لأن العتق من السيد، وقد مات والميت لا يقوم عليه، أو غير مجبور، فيكون قبول الوصية من إيثار العد واختياره. فإذا قبل فكأن العتق منه صدر فيستتم عليه عتق بقية نفسه في بقية الثلث.

فإن كانت قيمته أكثر من الثلث، فلا يخلو من أن يكون بيد العبد مال أو لم يكن. فإن لم يكن بيده مال، فإنه يعتق منه ثلثه اتفاقًا، وباقيه مما حمل منه ثلث الميت على الخلاف الذي قدمناه. فإن كان له مال هل يستكمل فيه بقية عتقه أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أنه يستكمل فيه عتقه كما يستكمل بقية الثلث إذا كانت قيمته كفاف الثلث، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا يستكمل فيه، وهي رواية ابن وهب في "الكتاب". وسبب الخلاف: هل يغلب حق العبد في العتق على حق الورثة في مال العبد لقوة أمر العتق، ولتقدم السبب الموجب للتقويم -وهو الوصية- على السبب الموجب لثبوت حق الورثة في المال -وهو الموت- أو يغلب حق الورثة؛ لأن الشركة ثبتت لهم في مال العبد بنفس الموت، ووجوب الميراث ووجوب التقويم، وردا على محل من غير أن يسبق أحدهما الآخر إلى المحل، فيكون المال موقوفًا بيد العبد على سنة العبد المعتق بعضه، فيسقط التقويم إلا أن يدفع لهم العبد قيمة بقية رقبته من غير ذلك المال كما وهب له في الحال بشرط أن يفدي به نفسه، فيرجع الخيار إلى الورثة بين أن يعتقوا أو يقوموا. وفرق مالك -رحمه الله- بين ما بيد العبد من المال، وبين ما فضل من الثلث عن ثلث رقبته؛ [فجعله] (¬1) يقوم في بقية الثلث؛ لأنه مال لم يتقدم للورثة فيه شرك؛ لأن العبد معهم كالوارث، ومدخلهم في المال ¬

_ (¬1) في أ: فجعل.

مدخل واحد يكون هذا موصى له، وهذا وارث، بخلاف ما كان بيده من المال، فقد تقدم لهم فيه شرك؛ إذ بالموت يملك العبد من نفسه الثلث [وملك] (¬1) من ماله قدر ذلك، والباقي على ملك الورثة؛ فالشركة قد حصلت بينهم، وبين العبد قبل الحكم بينهما بما تقتضيه الشريعة، فافهم هذا المعنى، فإنه فقه جليل لا يتفطن له إلا نبيل. وأما إن زاحمته الوصايا أو ضايقته في الثلث، فلا تخلو تلك الوصايا من أن تكون وصية بمال أو وصية بعتق. فإن كانت وصية [بمال] (¬2) فقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أن يبدأ بثلث العبد، فإن فضل عن ثلثه من ثلث مال الميت شيء حاصص فيه أهل الوصايا [بما] (¬3) بقى من قيمة رقبته، وهو قول المغيرة. والثاني: أنه يبدأ بالعبد إلى منتهى عتقه، ثم يتحاصان مع أهل الوصايا فيما بقي له من الثلث في بقية الثلث؛ لأنه على الميت يعتق، وهو قول عبد الملك بن الماجشون. والثالث: أنهما يتحاصان مع أهل الوصايا بجميع الثلث، ولا يبدى من العبد شيء، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "الكتاب". وسبب الخلاف: هل العتق من العبد أو من السَّيد؟ فمن رأى أن العتق من السَّيد قال: [العبد] (¬4) يُبَدَّى، ومن رأى أن العتق من العبد قال: يتحاصان. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: بعتق. (¬3) في أ: لما. (¬4) في أ: العتق.

فإن كانت وصيته بالعتق، فهل يُبَدَّى بالعتق على الوصية للعبد بالثلث أم يتحاصان؟ فعلى قولين: أحدهما: أن العتق يُبَدَّى؛ لأنه من السيد مباشرة، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنهما يتحاصان؛ بناء على أن العتق في الوجهين من السيد، وهو قول المغيرة. والجواب عن الوجه الثاني: إذا أوصى لعبده بجزء من ماله دون الثلث؛ مثل أن يوصى لعبده بسدس ماله، وبثوب بعينه أو بعبد آخر وهو كفاف الثلث، فالعبد قد ملك من نفسه السدس، فالحكم في التقويم على ما بيناه في الوجه الأول فلا تكرار. والجواب عن الوجه الثالث: إذا أوصى له بدنانير، أو بشيء معين، فلا يخلو من أن يحمل الثلث وصيته أو لا يحمل. فإن حملها الثلث، فلا يعتق من العبد شيئًا اتفاقًا؛ لأن العبد لم يملك من نفسه شيئًا. وإن لم يحمله الثلث، فالخيار في ذلك للورثة؛ إن أجازوا وصيته، فلا يعتق من العبد شيء أيضًا، وإن لم يجيزوها قطعوا للعبد بثلث جميع مال الميت إما في ذلك الشيء بعينه [على قول] (¬1) ثم لا يعتق منه شيء أيضًا، أو في جميع مال الميت شائعًا، والعبد من حملة المال، وقد ملك من نفسه شيئًا؛ فيجري الحكم فيه على ما قدمناه في الوجه الأول حرفًا حرفًا. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في ب: على قولين.

المسألة السادسة في وصية المحجور عليه

المسألة السادسة في وصية المحجور عليه والمحجور عليه ضربان: محجور عليه لعارض الطفولية، ومحجور عليه لعارض السَّفَه، وعدم التمييز بين مصلحة المال ومفسدته. فأمَّا المحجور عليه لعارض الطفولية، فله حالتان: حالة لا يعقل فيها معنى القربة، وحالة يعقل فيها معنى القربة. فأما الحالة التي لا يعقل فيها معنى القربة، فهو فيها كالبهيمة لا يتوجه [عليه] (¬1) [فيها] (¬2) الخطاب في أمر من الأمور إلا فيما أفسد أو كسر إذا كان يعقل الأثر جاز، وإلا بكفاف إذا نهى على ما أشار إليه ابن المواز. والزكاة وإن كانت تؤخذ من ماله، وإنما خوطب بها الأولياء على ما هو مبسوط في أمهات المذهب. وأما الحالة التي يعقل فيها القربة كابن سبع سنين فما فوقها فلا خلاف -أعلمه- في المذهب في جواز وصيته؛ لأنه قصد [بها] (¬3) القربة لنفسه لكونه مندوبًا إلى فعل الطاعات في تلك الحال كالصلاة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للتي رفعت ابنها من المحفة، وقالت: ألهذا حج يا رسول الله؟ قال: "نعم، ولك أجره" (¬4). فإن كان ثابت الذهن، ولم يكن في وصيته اختلاط، وأصاب وجه الوصية، فوصيته نافذة باتفاق المذهب، خلافًا للحنفي، والشافعي في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فيه. (¬3) في أ: به. (¬4) تقدم.

أحد قوليه. فإذا ثبت ذلك، فإن أوصى إلى غيره وصية أن يفرق ثلثه في وجوهها، فلم يجز وصيه له ذلك، فذلك للوصي ألا يلي غيره تفرقة ثلثه؛ لأن ذلك من حقه، وهو من باب التصرف في مال الصغير بغير إذن وَلِيه. واتفق المذهب -فيما علمت- أن تدبير الصبي لعبده لا يجوز، وإن حمله الثلث بخلاف الوصية. فإن كان التدبير قربة تخرج من الثلث بعد الموت كالوصية، إلا أن جواز وصيته على خلاف الأصل، وإنما اتبع فيها أثر عمر - رضي الله عنه - عنه وبقي ما عداها على الأصل. وأما المحجور عليه لعارض السَّفَه، وعدم التمييز بين مصلحة المال، ومفسدته، فوصيته جائزة قولًا واحدًا في المذهب، وفي تدبيره لعبده أربعة أقوال: أحدها: أنها جائزة في الصحة، والمرض كالوصية، وهو قول ابن كنانة في "المجموعة"؛ لأن الوصية والتدبير لا يقعان عليه إلا بعد الموت؛ لأنه إنما يمنع في حياته من التصرف في ماله إلى رشد، فإذا جاء الموت لم يمنع من خير يفعله في ثلثه، ولو منع لكان توفيرًا على [الورثة] (¬1) وهو أحق من الوارث بالثلث. والثاني: أنه لا يجوز تدبيره أصلًا، ويبطل، وإن بقى العبد بيده حتى يلي أمر نفسه لم يلزمه، وهو قول أشهب في "المجموعة"، و"الموازية". والثالث: أنه يجوز في المرض، فإذا صح من مرضه بطل، وهو قول ابن القاسم في "الموازية". ¬

_ (¬1) في أ: الوارث.

والرابع: التفصيل بين أن يكون العبد المدبر غالي الثمن، فلا يجوز تدبيره، وبين أن يكون قليل الثمن، فيجوز تدبيره، وهو قول عبد الملك في "الموازية". واتفقوا على وصية المجنون والمغلوب [على عقله] (¬1) قبل إفاقته أنها باطلة، وبعد الإفاقة جائزة. وأما المرتد فإن قتل على ردته أو مات فوصاياه باطلة، وإن رجع إلى الإِسلام ثم مات، فإن كانت تلك الوصايا مكتوبة جازت كلها، وإن كان لفظها بغير كتاب فهي باطل، وكذلك لو أوصى بها في حال الردة، وهو قول أصبغ في "الواضحة" [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: عليه. (¬2) زيادة من ب.

المسألة السابعة في الوصية للقاتل

المسألة السابعة في الوصية للقاتل ولا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يوصي له بعد أن قتله. والثاني: أن يوصي له قبل أن يقتله. فإن أوصى له بعد أن قتله؛ مثل أن يضربه فأنفذ مقاتله ثم أوصى له: فلا يخلو من أن يكون قتله عمدًا أو خطأ. فإن كان عمدًا فلا يخلو من أن يعلم الموصي بأن الموصى له هو الذي ضربه أو لا يعلم. فإن علم بأنه الذي ضربه، فالوصية في ماله اتفاقًا. وهل [تدخل] (¬1) في الدِّية إذا قبلت أم لا؟ قولان: مذهب "المدونة" أنها لا تدخل فيها، وهو المشهور. والثاني: أنها تدخل فيها بناء على أن الوصية تدخل فيما علم به الموصي، وفيما لم يعلم. فإن لم يعلم بذلك هل تبطل الوصية أم لا؟ فالمذهب على قولين متأولين على "المدونة": أحدهما: أن الوصية جائزة في المال دون الدِّية، سواء علم بذلك أو لم يعلم، وهو تأويل ابن أبي زيد على المدونة، وهو نص قول ابن المواز، وهو قول أشهب، وإليه نحا ابن أبي زمنين، وما وقع لابن القاسم ¬

_ (¬1) في أ: تكون.

في "كتاب الهبات" يقوى هذا التأويل حيث قال: لأنه طلب تعجيل الوصية، فإذا كانت الوصية بعد الضرب فقد انتفت التهمة؛ لأنه لم يقصد إلى تعجيل شيء. والثاني: أنه متى لم يعلم أنه قاتله، فلا وصية له في مال ولا دية، وعليه حمل قوله في "الكتاب": إلا أن يكون علم أنه قاتله عمدًا، فأوصى له بعد علمه، [وهذا] (¬1) نص قوله في "كتاب الوصايا الأول"، وإليه نحا اللخمي. فإن قتله خطأ، فالوصية تدخل في المال مع العلم قولًا واحدًا، وفي عدم العلم قولان على ما قدمناه في العمد. وهل تدخل في الدِّية أو لا تدخل؟ على قولين متأولين على "المدونة": أحدهما: أنها تدخل فيها؛ لأنه مال علم به، وهو نص قوله في "كتاب الوصايا الأول"؛ ولأنه جوز له في "الكتاب" أيضًا أن يوصى له بما عليه من الدِّية، وإسقاطها عنها. والثاني: أن الوصية لا تدخل فيها إلا بالنص عليها؛ لأن القاتل [ممن] (¬2) يؤدي فيها، وعنه تؤدي؛ فصار كأنه لم يؤد شيئًا، وهو قول ابن المواز إذا تقدمت الوصية على الضرب، وعاش بعد ذلك. والثالث: التفصيل بين أن يعلم الموصي بذلك، أو لا يعلم؛ فإن علم كان في المال والدِّية، وإن لم يعلم كان في المال دون الدِّية، وهو ظاهر قوله في "كتاب الوصايا الأول" في "المدونة" في آخر الباب حيث قال: جاز له كل ما أوصى له في المال، والدية إذا علم ذلك منه في الخطأ. ¬

_ (¬1) في أ: وهو. (¬2) في أ: مما.

وإن كان المتأخرون قد اختلفوا في تأويل قوله في بعض الروايات، ونص قوله: إذا كانت الوصية بعد الضرب عمدًا كان أو خطأ جاز له كل ما أوصى له به في المال والدية جميعًا إذا علم منه ذلك في الخطأ، وهي كلمة فيها إشكال. وقال بعض المتأخرين: بيان ذلك أن قوله: "جاز له كل ما أوصى له به في المال" تمام الكلام وعائد كله على العمد والخطأ، ثم استأنف الكلام في مسألة الخطأ خاصة، فقال: "وفي الدِّية جميعًا إذا علم بذلك في الخطأ"، وخص ذكر الدِّية في الخطأ فقط، وعلى هذا المعنى فسرها سحنون، واختصرها عليه ابن أبي زمنين، واختصرها بعض المختصرين على خلاف هذا، وهو خطأ. وقال الشيخ أبو عمران الفاسي: لا يحمل كلامه أنه أراد دخوله في ديته في العمد، وإنما يعني ذلك الخطأ خاصة. وقوله هنا إذا علم تصحيح تأويل من ادعى العلم على مذهب الكتاب. وأما الوجه الثاني: إذا قتله بعد الوصية، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يموت بفور ما ضربه. والثاني: أن يعيش بعد ذلك أيامًا. فإن مات بفور ما ضربه، فإن كان القتل عمدًا، فالوصية باطلة، ولا تكون لا في المال، ولا في الدية؛ لأنه قد استعجل ما أجله الله تعالى، ولا خلاف في هذا الوجه. فإن كان القتل خطأ، فالوصية ثابتة في المال قولًا واحدًا، وهل تدخل في الدية أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها لا تدخل في الدية أصلًا، وهو نص المدونة، وهو

مشهور المذهب. والثاني: أنها تدخل في الدِّية كما تدخل في المال. وسبب الخلاف: اختلافهم في الوصايا، هل تدخل فيما علم به الموصي من المال، وفيما لم يعلم، أو لا تدخل إلا فيما علم خاصة، فمن رأى أنها تدخل فيما علم، وفيما لم يعلم قال: تدخل في الدِّية، وهذا القول حكاه اللخمي في المذهب، وذكر القاضي الحفيد في كتاب "النهاية" [أنه] (¬1) أحد قولي مالك، وأنه مذهب الشافعي. ومن رأى أنها لا تدخل إلا فيما علم قال: لا تدخل في الدية؛ لأنه مال لم يعلم به. فإن عاش بعد ضربه أيامًا ثم مات فلا يخلو من أن يكون قتله عمدًا أو خطأ. فإن كان عمدًا وعاش بعد ذلك، وعلم ما هو فيه، فلم يبطل الوصية، ولا غيرها حتى مات، هل تبطل الوصية أم لا؟ فإنه يتخرج على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن الوصية باطلة بكل حال حتى يجددها له بعد الضرب، وهو قوله في المُدَبَّر إذا قتل سيده عمدًا ثم حيى بعد ضربه إياه ثم مات أن تدبيره باطل حتى يجدد له الوصية بالتَّدْبِير. والثاني: أن الوصية ثابتة كما كانت، وتكون في المال؛ لأن سكوته عنها بعد علمه كالمجيز [لها] (¬2) وهو ظاهر قوله في "كتاب الديات" من "المدونة" حيث قال: إذا عاش وعرف ما هو فيه [ولم] (¬3) يغير ¬

_ (¬1) في أ: أنها. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: فلم.

الوصية، فإن الوصية جائزة له، وتدخل في الدِّية إن كان خطأ، وهو تأويل بعض الصقليين على المدونة. والثالث: التفصيل بين أن تكون الوصية بلفظ أو كتاب؛ فإن كانت بلفظ فهي باطلة حتى يجددها، وإن كانت بكتابة فهي نافذة حتى يغيرها أو يرجع فيها. وسبب الخلاف: الاستدامة هل هي كالإنشاء أم لا؟ فمن رأى أن استدامة الشيء كإنشائه قال: الوصية نافذة حتى ينص على الرجوع فيها؛ لأن سكوته عن تغييرها كالمجيز لها. ومن رأى أن الاستدامة ليست كالإنشاء قال ببطلان الوصية؛ لأن الموصى له قد أحدث ما يبطل وصيته، وهي في الجناية الصادرة منه على معنى العمد، فيعمل بمقتضى الجناية حتى يجددها الموصى مرة أخرى. فإن كان قتله خطأ، فالوصية تدخل في المال قولًا واحدًا. وهل تدخل في الدِّية أم لا؟ فإنه يتخرج على قولين قائمين من "المدونة" منصوصين في المذهب: أحدهما: أن الوصية تدخل في المال، والدِّية؛ لأنه مال علم به، وهو قول مالك في "كتاب الديات" من "المدونة". والثاني: أنها لا تدخل في الدية أصلًا، وهو قول مالك في "كتاب ابن المواز"، وهو أضعف الأقوال؛ ووجهه عندهم أن الموصى له هو الغارم مع العاقلة، فمتى دخلت فيها وصيته، فكأن بعض الدِّية قد بطل، وهذا الكلام ضعيف؛ لجواز وصية المقتول للقاتل بديته.

فرع

فرع فإن كان القتل عمدًا، فقال المقتول: إن قبل أوليائي الدِّية، فالوصية فيها، فهل تدخل [فيها] (¬1) الوصايا أم لا؟ فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: أن الوصايا لا تدخل فيه؛ لأنه مال غير محقق، والميت لم يعلم به، وهو قوله في "كتاب محمَّد". والثاني: أن الوصايا تدخل فيه؛ [لأن الميت أوصى أن تدخل فيه] (¬2) إن [قبلوا] (¬3). وهما قولان قياسيان. وأما إذا عدا ابن الموصى له على الموصي، فقتله فإن الوصية نافذة كان القتل عمدًا أو خطأ؛ إذ لا تهمة في ذلك، وهو قوله في "كتاب ابن المواز". وإن [وهبه] (¬4) في مرضه هبة، فعدا الموهوب له فقتل الواهب [بعد] (¬5) أن قبض الهبة أو لم يقبضها، فإن الهبة له جائزة في الثلث كان القتل عمدًا أو خطأ إذا كانت هبة بتل لا يمكنه الرجوع فيها، ولا تهمة في ذلك؛ لأن قتله قد أضر به؛ إذ لو عاش كانت من رأس المال، وهي الآن من الثلث [والحمد لله وحده] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: قبل. (¬4) في أ: وهب. (¬5) سقط من أ. (¬6) زيادة من ب.

المسألة الثامنة فيمن أوصى لوارث ثم صار قبل [أن يموت] غير وارث أو كان غير وارث ثم صار وارثا، أو أقر له بدين على هذا

المسألة الثامنة فيمن أوصى لوارث ثم صار قبل [أن يموت] (¬1) غير وارث أو كان غير وارث ثم صار وارثًا، أو أقر له بدين على هذا فإن أوصى لوارث ثم صار قبل موت الموصى غير وارث كامرأة أوصت لزوجها ثم طلقها البتة ثم ماتت، أو أوصى لأخيه وهو يرى أنه وارثه ثم مات فظهر له حمل إما بزوجة أو أم ولده. فهل تصح الوصية للموصى له أو لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الوصية له نافذة، سواء علم الموصى بحدوث الولد والحمل، أو لم يعلم، وسواء علمت الزوجة بالطلاق أو لم تعلم، وهو قول ابن القاسم، وأشهب في "العتبية"، و"المجموعة"، وهو قول أشهب في "المدونة" في "كتاب الوصايا الأول". والثاني: أن الوصية باطلة، إلا أن تعلم المرأة بالطلاق، أو لم يعلم الميت بالولد، فتجوز وتنفذ، وهو أحد قولي ابن القاسم عن مالك في "المجموعة". وينبني الخلاف: على الخلاف في الأمر إذا وقع موقع الفساد ثم انكشف عن السداد، هل تستصحب معه حالة الابتداء، أو يستصحب معه حالة الانتهاء؟ فمن رأى أنه يستصحب معه حالة الابتداء قال: الوصية باطلة؛ لوقوعها على الفساد. ومن رأى أنه يستصحب معه حالة الانتهاء قال بنفوذ الوصية؛ لأنه ¬

_ (¬1) في أ: الموت.

انكشف الأمر في العاقبة أنها وصية لغير وارث. وأما القول بالتفصيل بين العلم وعدمه [وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب الوصايا الأول"] (¬1) فمبني على اعتبار استدامة الشيء أنه كالإنشاء [لأنه] (¬2) إذا علم صار كالمبتديء [للوصية] (¬3) من ساعته. فإن أوصى لغير وارث ثم صار وارثًا؛ مثل أن يوصي لامرأة ثم تزوجها، أو أوصى لأخ له ولد ولد يحجبه عن الميراث ثم مات الولد، وعاد الأخ وارثًا، فالوصية باطلة [قولًا واحدًا] (¬4)؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أعطى لكل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث" (¬5). والنظر في الوصية إلى يوم الموت لا إلى يوم الوصية. وكذلك لو أوصى لابنه، وهو عبد أو نصراني فلم يمت حتى عتق أو أسلم بطلت الوصية قولًا واحدًا. ولو أقر بدين في مرضه لغير وارث ثم صار وارثًا، فذلك لازم له؛ لأن كونه غير وارث في حين إقراره له كإقراره في صحته، ولا رجوع عن ذلك، والوصية إذا صار الموصى له وارثًا كان له الرجوع عنها؛ فصار كأنه إذا نفذها بعد أن صار الموصى له وارثًا؛ لأن له الرجوع عنها [والحمد لله وحده] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) تقدم. (¬6) زيادة من ب.

المسألة التاسعة في معرفة ما تدخل فيه الوصايا من مال الموصي مما لا تدخل فيه

المسألة التاسعة في معرفة ما تدخل فيه الوصايا من مال الموصي مما لا تدخل فيه ولا يخلو حال الموصي من وجهين: أحدهما: أن يكون عالمًا بأصله. والثاني: أن يكون غير عالم بأصله. فإن كان عالمًا بأصله، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يملك التصرف فيه في الحال، وفي ثاني حال. والثاني: ألا يملك التصرف فيه في الحال، ويملكها في ثاني حال لتعلق حق الغير به كالعمرى أو الحبس الذي إليه مرجعه، فأما ما يملك التصرف فيه في الحال والمآل، فلا يخلو من أن يكون حاضرًا معه أو غائبًا [عنه] (¬1). فإن كان حاضرًا معه، فلا يخلو من أن يعمل فيه عملًا يدل على أنه لم يرد دخول الوصايا فيه، أو لم يعمل. فإن عمل فيه عملًا يدل على أنه لم يرد دخول الوصايا فيه مثل أن يوصي لوارث أو أجنبي، فإن الوصايا لا تدخل في حق الوارث، ويتحاصان به الورثة مع أهل الوصايا، فما صار للوارث رجع ميراثًا إن لم يجيزوا له بقية الورثة. فإن لم يعمل فيها عملًا، فإن الوصايا تدخل فيه قولًا واحدًا. فإن كان عنه غائبًا كعبد آبق، أو بعير شارد أو مال سفره في سفينة، ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

فلا يخلو من أن ينقطع عنه خبر ما غاب عنه، وجهل حاله، أو بلغه الخبر بأن سفينته قد غرقت، وأن العبد قد هلك. فإن انقطع عنه خبر ذلك وجهل حاله، فإن الوصايا تدخل فيه إذا رجع العبد إليه، والبعير الشارد، ووصلت السفينة بسلامتها، ولو كان إيابهم بعد الإياس، ولو بعد عشرين سنة، وهو قول مالك، وابن القاسم في "الموازية"، و"المجموعة". فإن بلغه الخبر أن السفينة قد غرقت، وأن العبد قد هلك، ثم ظهر سلامة ذلك بعد موت الموصي، هل تدخل فيه الوصايا أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الوصايا لا تدخل فيه جملة. والثاني: أن الوصايا تدخل فيه. والقولان رواهما أشهب عن مالك في "العتبية" وغيرها. والثالث: التفصيل بين أن تشهد بذلك عنده بينة أو لا؛ فإن شهدت عنده بينة بغرق السفينة، وموت العبد أو بلغه الخبر، فطال زمان ذلك، وآيس منه ثم مات فلا تدخل فيه الوصايا. وإن كان بلغه بلاغًا ثم مات بقرب ذلك، ولم يشهد بذلك عنده أحد، فإن الوصايا تدخل فيه، وهي رواية عيسى، وأصبغ عن ابن القاسم في "المجموعة". وأما أن كان ذلك المال مما لا يملك التصرف فيه في الحال ويملكه هو أو وارثه في ثاني حال؛ لتعلق حق الغير به كالعمرى أو الحبس الذي مرجعه إليه، فإن الوصايا تدخل فيه، وهو قول مالك في "الموازية"، و"المجموعة".

والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كان الموصي غير عالم بأصله كمال ورثه ببلد بعيد، ولم يعلم به حتى مات، أو دية العمد قبلت بعد موته. هل تدخل فيه الوصايا أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تدخل فيه جميع الوصايا كمالٍ علم به، وهذا القول حكاه الحفيد عن مالك في كتاب "النهاية". والثاني: أنه لا يدخل فيه إلا المدبر في الصحة خاصة، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثالث: أنه لا يدخل فيه إلا المُدَبَّر في الصحة والمرض خاصة، وهو قول ابن القاسم في "الموازية" وغيرها. فوجه قول من قال: إن جميع الوصايا تدخل فيه كمالٍ علم به [لحق] (¬1) الموصى له؛ لأنه مال للوصي داخل في ملكه وتحت ولايته، وأنه يورث عنه كمال علم به وجهله لا يؤثر؛ لأنه قال: ثلث مالي لزيد، والغائب من حمله ماله بلا خلاف. ووجه القول الثاني أنه لا يدخل فيه إلا المُدَبَّر في الصحة بناء على أن قصد الموصي بالوصية ما علم به من المال دون ما لم يعلم، والمدبر في الصحة ماله إلى الثلث بعد الموت، والمال الذي يخرج من ثلثه مجهول العين؛ إذ لا يدري سيده هل يخرج من هذا المال الذي بينه الآن أو يفنى هذا المال وينفد، ويستفيد مالًا آخر يخرج من ثلثه؛ ولهذا قال: يخرج المدبر في الصحة مما علم، ومما لم يعلم بخلاف المُدَّبر في المرض؛ لأن المرض من أسباب الموت، والمال الذي بيده معين، فكأنه قصد إلى خروجه ¬

_ (¬1) في أ: بحق.

من ثلثه كالوصية بمال. ووجه القول أن المدبر في المرض لما كانت له المزية بالتبدية على ما دونه من الوصايا وجب أن يكون له المزية عليها أيضًا في دخولها فيما علم به، وفيما لم يعلم كالمدبر في الصحة فيما لم يعلم به الموصى ما قدمناه، وهذا معنى معدوم في المدَبَّر في المرض [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة العاشرة في ترتيب الوصايا وتبدية بعضها على بعض في الثلث

المسألة العاشرة في ترتيب الوصايا وتبدية بعضها على بعض في الثلث ولا يخلو ثلث الموصى من أن يكون [فيه محمل] (¬1) لجميع الوصايا، أو ضاق عن بعضها. فإن كان فيه محل لجميع الوصايا، فلا إشكال. وإن ضاق عن بعضها، فهذا محل الكلام في اعتبار تبدية الأقوى على الأضعف، ونحن نبين ذلك على أحسن سياق، وأبلغ نظام إن شاء الله فنقول -وبالله التوفيق: لا يخلو الموصي من وجهين: أحدهما: أن يصرد وصاياه من غير أن ينص على تقدمة بعضها على بعض. والثاني: أن ينص على تقدمة الأضعف على الأقوى. فإن صرد وصاياه، ولم ينص على تقدمة بعضها على بعض، فإنه يبدي الآكد، فالآكد تقدم باللفظ أو تأخر. وإن نص على تبدية الأضعف على الأقوى، فإنه يبدأ بالذي نص على تبديته؛ اتباعًا لوصيته وما يقرضه. وقولنا: إنه يُبَدّى الآكد، فالآكد لا الأقدم فالأقدم، قال عبد الملك ابن الماجشون، قال عبد الملك بن الماجشون في "الواضحة": وذلك ما لم يكن الأقدم مما لا يجوز له الرجوع عنه كالمبتل في المرض، والمُدَبَّر فيه، والعطية البتل فيه، فإنه يبدأ بالأقدم فيه على الآخر. ¬

_ (¬1) في أ: محلًا.

فإذا ثبت ذلك فأول ما يخرج من الثلث المدبر في الصحة، وصداق [المريض] (¬1) إذا دخل في مرضه، وقد اختلف فيهما على ثلاثة أقوال، كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه يبدأ بالمُدَبَّر في الصحة، وهو ظاهر قوله في "كتاب الصيام" من "المدونة". والثاني: أنه يبدأ بصداق المريض، وهو ظاهر قوله في "كتاب النكاح الثاني"، و"كتاب الأيمان بالطلاق" من "المدونة". والثالث: أنهما يتحاصان. والأقوال الثلاثة لابن القاسم. ووجه القول بتقديم المُدَبَّر في الصحة؛ لأنه أمر لزم في الصحة، فكان مقدمًا على ما يلزم في المرض كما يقدم على العتق المبتل في المرض. ووجه القول بتبدية الصداق؛ لأنه مختلف في كونه من رأس المال، أو من الثلث؛ ولكونه إن صح من هذا المرض، صار كالدين يتعلق بالذمة، ويكون من رأس المال باتفاق المذهب. ووجه القول بالمحاصاة مساواتهما في المرتبة والقوة، وعدم الترجيح. ولا خلاف في المذهب في تقديم هذين الاثنين على ما عداهما من الوصايا إلا ما قاله أشهب في "المجموعة"؛ فإنه قال: إذا كان التدبير مع الزكاة والكفارة في لفظ واحد، وكان التَّدْبِير بعد ذلك، فالزكاة والكفارة مقدمة عليه. ووجه قول الجمهور أنّ التَّدْبِير أمر لازم حال الصحة مختص بالعتق، وللعتق تأثير في التقديم. ¬

_ (¬1) في أ: المنكوحة في المرض.

ووجه قول أشهب: أن هذه حقوق لازمة مقدمة بالشرع، فكانت مقدمة على ما يلزمه المرء نفسه؛ ولذلك قدمت على سائر الوصايا، ثم بعد ذلك على مذهب ابن القاسم ما فَرَّط فيه من زكاة الحرث، والعين، والماشية، ثم ما فرَّط فيه من زكاة الفطر، خلاف ما ذهب إليه ابن الماجشون على ما سنبينه آخرًا إن شاء الله، ثم العتق في الظهار، وقتل النفس في الخطأ. ولا يخلو من أن يكون في الثلث رقبة، وإطعام ستين مسكينًا، أو لم يكن فيها إلا الرقبة [فإن كان الثلث الرقبة والإطعام، فإن الرقبة تعتق عن القتل، ويطعم عن الظهار، وإن لم يكن فيه إلا الرقبة وبعض الإطعام] (¬1)؛ فقد اختلف فيها على خمسة أقوال: أحدها: أنه يبدأ بكفارة قتل النفس. والثاني: أنه يبدأ بكفارة الظهار، فإن بقى شيء أشرك به في كفارة القتل. والثالث: أنهما يتحاصان فما صار للظهار أطعم به، وما صار للقتل أعين به في رقبة. والرابع: أنه يقرع بينهما. والخامس: أن الورثة يخيرون، ويعتقدون على أيّ الكفارتين شاؤوا. وأوجه تبدية الزكاة على العتق في الظهار، وقتل النفس أن الزكاة واجبة بالشرع على معنى التزكية، والتطهير للمكلف، ولا بدل لها؛ فوجب تقديمها، والعتق في الظهار، وقتل النفس، وإن كان وجوبهما بالشرع المنقول، فإن لهما بدلًا -وهو الصيام في القتل والصيام أو الإطعام ¬

_ (¬1) سقط من أ.

في الظهار، وأيضًا فإن سبب وجوبهما جناية المكلف؛ فكانت الكفارة عقوبة عليه، والزكاة تطهير للنفس من داء البخل، وشكر لمالك الكل. واختلف فيما بينهما في الترتيب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه [يليهما] (¬1) في الترتيب كفارة اليمين، ثم كفارة الفطر في رمضان متعمدًا، ثم كفارة التفريط في قضاء رمضان. والثاني: أن الإطعام لقضاء رمضان يبدى على كفارة اليمين عند ابن القاسم. والثالث: أن المبتل في المرض، والمدبر في المرض مقدمان على كفارة اليمين، وكفارة رمضان، والأول أصح. وعلى القول بتبدية الكفارة على المبتل في المرض، هل يبدأ بكفارة اليمين على كفارة رمضان أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يبدأ بكفارة اليمين، وهو [ظاهر] (¬2) قول مالك في "كتاب الصيام" من "المدونة". والثاني: أنه يبدأ بكفارة رمضان. والأول أظهر وأصح. ووجهه أن كفارة اليمين بالله تعالى ثابتة بنص القرآن، وكفارة الفطر في رمضان متعمدًا ثابتة بأخبار الآحاد، وكفارة قضاء رمضان ثابتة بالاجتهاد. ثم النذر على قول ابن أبي زيد إذا أوصى به وعند غيره، ثم العتق المبتل في المرض، والمُدَبَّر فيه، وهو الصحيح. ولا يخلو من أن يكونا في فور واحد، أو كان أحدهما قبل الآخر. ¬

_ (¬1) في ب: بينهما. (¬2) سقط من أ.

فإن كان أحدهما قبل الآخر، فيبدأ بالأول منهما. وإن كانا في فور واحد، فاختلف في أيهما يبدي على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المبتل في المرض يبدي على المدبر فيه. والثاني: أن المدبر في المرض يبدي على المبتل فيه. والثالث: أنهما يتحاصان في الثلث. ثم بعدهما الموصي بعتقه بعينه، والموصي أن يشترى فيعتق، والموصي بعتقه على مال إذا عَجَّل المال، والموصي بكتابته إذا عَجَّل الكتابة، والموصى بعتقه إلى شهر، فقيل: إنهم يتحاصون جميعهم في الثلث، ولا يُبَدّى بعضهم على بعض. وقيل: إن الذي أوصى بعتقه بعينه يُبَدَّى على الموصي بشرائه للعتق. ثم بعد هذه الخمسة الموصى بعتقه إلى شهر، والموصى بكتابه، فقيل: إنهما يتحاصان، وقيل: إن الموصي بعتقه إلى سنة كالموصي بعتقه إلى سنتين. وقال غير الشيخ محمَّد بن أبي زيد: ثم النذر، وهو بعيد لتبدية الموصى بعتقه عليه؛ لأن الوصية بالعتق يصح الرجوع فيها، والنذر لازم لا رجوع فيه؛ فهو إذا أوصى به آكد منه. وقول ابن أبي زيد أصح. ثم الوصية بالعتق بغير عينه، وبالمال، وبالحج، وقد اختلف في ذلك على قولين: أحدهما: أنها كلها سواء، ويتحاصون في الثلث، وهو أحد قولي مالك في "المدونة".

والثاني: أنه يبدي بالعتق على الحج [ويتحاصان] (¬1) مع المال، وهو قوله الثاني فيها، ووجه هذا القول أن العتق عنده آكد ثم يليه المال، ثم يليه الحج؛ فيتحاص العتق مع المال، ولا يبدي أحدهما على صاحبه؛ لقرب ما بينهما في التأكيد، ويبدي العتق على الحج؛ لبعد ما بينهما على ما رتبناه. ووجه العمل فيه أن يتحاص العتق، والمال، والحج، فما ناب العتق، والحج بديء فيه العتق على الحج، ولم يكن للحج من ذلك إلا ما فضل عن العتق. وقيل: يبدأ بالحج، ثم يتحاص في المال، والعتق. وقيل: يُبَدّى العتق، ويتحاص في المال والحج. وسواء كانت الوصية بالمال جزء أو عدد. فإن اجتمعا جميعًا -الوصية بالعدد والوصية بالجزء- فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يبدأ بالجزء. والثاني: أنه يبدأ بالعدد. والثالث: أنهما يتحاصان. وهذا الاختلاف موجود لمالك، وابن القاسم، ومعناه في الضرورة. وأما في حجة التطوع، فلم يختلف [قولهما] (¬2) في أن العتق مبدى عليهما، ولا في أن الحج لا يبدى على المال. ¬

_ (¬1) في ب: ويتحاص. (¬2) سقط من أ.

واختلف [قول ابن القاسم] (¬1) في "العتبية" هل يبدى المال على الحج أو يتحاصان على قولين: أحدهما: أنهما يتحاصان، وهو قوله في "العتبية". والثاني: أن الوصية بالمال تُبَدَّى. فهذا ترتيب الوصايا على مذهب ابن القاسم. وأما على مذهب ابن الماجشون، فإن المُدَبَّر في الصحة يبدى عنده على المبتل في المرض، والمبتل في المرض يبدى على العطية المبتلة في المرض، والعطية المبتلة في المرض تُبَدّى على التَّدْبير في المرض، [والتَّدْبير في المرض يُبَدَّى] (¬2) على الزكاة التي فَرَّط فيها، والزكاة التي فَرَّط فيَها تُبَدّى على عتق كفارة الخطأ، وعتق كفارة الخطأ يُبَدّى على عتق كفارة الظهار. قال: وكل ما نعت لك من هذا، فسواء كان في فَوْر واحد أو في فَوْر بعد فَوْر؛ إنما يُبَدَّى الأوجب، فالأوجب، والأثبت، فالأثبت على [حال] (¬3) ما فسرت لك. وقال بعض المتأخرين: والذي ذهب إليه عبد الملك أقوى في الحجة مما ذهب إليه ابن القاسم؛ وذلك أن للموصى أن يرجع فيما أوصى به من الزكاة، ولا يجوز له أن يرجع عما بتله أو دبره في المرض، وما لا يجوز له الرجوع فيه آكد مما له الرجوع فيه، وأيضًا فإنه يتهم على أنه أراد أن يرجع فيما بتله أو دَبَّره، فأوصى بزكاة [ليس] (¬4) عليه، وحكى القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في "المعونة" أن الوصية ¬

_ (¬1) في أ: قوله. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

بالعتق المعين تُبَدّى على الزكاة، وهو بعيد في القياس، ووجهه اتباع ظاهر الحديث روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بتبدية العتق على الوصايا؛ فعم ولم يخص. وحكى ابن زرب أن الشيوخ أجمعوا على أن الوصية بالحج تُبَدَّى على كل شيء؛ المُدَبَّر وغيره. وكان أبو عمرو الاسبياني بدأ بتبدية ما أوصى به في فداء أسير على جميع الوصايا؛ المُدَبَّر في الصحة وغيره، ويحتج بما روى عن مالك أنه قال: لا يحل لأحد أن يقتني مالًا ما دام أحد من أسارى المسلمين في أيدي العدو، وحكى ذلك عنه ابن عتاب، وقال: إن الشيوخ أجمعوا على ذلك. تم [كتاب الوصايا الأول] (¬1) بحمد الله وعونه. ¬

_ (¬1) في أ: الكتاب.

مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها تأليف أبي الحسن علي بن سعيد الرجراجي تقديم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور علي علي لُقَم اعتنى به أبو الفضل الدمياطي أحمد بن عليّ الجُزءُ العاشر مركز التراث الثقافي المغربي دار ابن حزم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حُقُوق الطَّبْع مَحفُوظَةٌ الطبعة الأولى 1428 هـ - 2007 م 7 - 431 - 81 - 9953 ISBN الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها مركز التراث الثقافي المغربي الدار البيضاء - 52 شارع القسطلاني - الأحباس هاتف: 442931 - 022/ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هاتف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

كتاب الوصايا الثاني

كتاب الوصايا الثاني

كتاب الوصايا الثاني تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ثمان مسائل: المسألة الأولى في شهادة الوارثين أن أباهما أعتق هذا العبد والعبد هو الثلث وإذا شهد وارثان أن أباهما أعتق هذا العبد في مرضه والعبد هو الثلث. فلا يخلو من وجهين: إما أن يكون [معهما] (¬1) ورثة نساء أو وصية بثلث المال لأجنبي. وإما أن يكون الورثة كلهم ذكورًا، والميت لم يوص بشيء غير عتق ذلك العبد في المرض. فإن لم يكن معهما وارث من النساء، ولا أوصى الميت بوصية فشادتهما على العتق جائزة، ويعتق العبد اتفاقًا. وإن كان معهما من الورثة نساء، أو كان الميت قد أوصى بثلث ماله لأجنبي، فلا يخلو العبد من أن يكون ما يتهمان في جر ولائه أو لا. فإن كان العبد من دناة الرقيق مما لا يتهم في جر ولائه فشهادتهما على العتق جائزة، ويُبَدّى من الثلث. وإن كان ممن يرغب في ولائه، ويتهمان على إبطال الوصية، والاستبداد بالولاء دون الإناث [فهل يتهمان أم لا؟ فالمذهب على قولين: ¬

_ (¬1) في أ: معتمد.

أحدهما: أن التهمة تلحقهما، والظنة ترمقهما] (¬1) إذا كان معهما نساء أو وصية؛ لأن الرجال يحوزون الولاء دون النساء، والنساء لا يرثن من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو ولد من أعتقن، ويتهمون في الوصية أيضًا أن يقولوا: إن الوصية لا يرجع إلينا منها شيء إذا لم تكن عتقًا. وإذا كانت عتقًا، والمعتق يرغب في ولائه، وإخراجه خير لهم من إخراج الثلث؛ إذ أداء الثلث لا انتفاع لهم فيه، والولاء ينتفعون به، وهو قول ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنهم لا يتهمون بهذا؛ بدليل أن الميت جاز له أن يعتق في مرضه، والولاء للرجال دون النساء، فلم يكن عتقه محاباة للذكور لمصير الولاء لهم دون النساء؛ فعلى قول ابن القاسم أنهما لا يتهمان في العتق، فينفذ الثلث شهادة الأجنبيين، والعبد هو الثلث، هل يعتق كله على الشاهدين الوارثين أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يعتق جميعه على الوارثين، وهو قول ابن القاسم. ووجهه أنهما يقولان: إنه حر؛ لأن الثلث الذي ظلمنا فيه، وجعل الثلث الخارج بشهادة البينة كأنه باق بأيديهما، ولم يجعله كما لو غصب من المال شيء أو ضاع. والثاني: أنه لا يعتق من العبد إلا ثلثاه، وهو قول أشهب. ووجهه أن الثلث الذي أخذه الموصى له به كجائحة أتت على المال، فلم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

تُبق من المال إلا ثلثاه؛ فيعتق ثلثا العبد؛ لأنه ثلث ما بقى، وهذا هو الأشبه في النظر، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الثانية في الوصية بخدمة العبد

المسألة الثانية في الوصية بخدمة العبد فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن تصير رقبته بعد الخدمة إلى ملك. والثاني: أن تصير إلى حرية. فإن صارت إلى ملك؛ مثل أن يقول: يخدم عبدي فلانًا ثم هو لفلان: فلا يخلو من أن يضرب للخدمة أجلًا، أو لا يضرب لها أجلًا. فإن ضرب لها أجلًا مثل أن يقول: يخدم عبدي فلانًا سنة، أو قال: حياته: فلا يخلو من أن يوصي مع ذلك بوصايا لقوم آخرين، أو لم يوص بشيء. فإن أوصى مع ذلك بوصايا لقوم آخرين مثل أن يوصي مع ذلك بثلث ماله لرجل آخر أو أوصى له بمائة دينار: فلا يخلو من أن يحمل الثلث جميع الوصايا أو ضاق عنها. فإن حمل الثلث جميع الوصايا فلا إشكال، وإن ضاق عنها، فالورثة مخيرون بين أن يجيزوا وصية الميت أو يبروا من ثلث الميت لأهل الوصايا. فإن باروا لهم من الثلث، فإنه يتحاص فيه الموصى له بالمائة أو بالثلث، والموصى له بالخدمة، والموصى له بالرقبة، ولا يضرب [له] (¬1) الموصى له بالخدمة، والموصى له بالرقبة إلا بقيمة العبد؛ لأن وصيتهما واحدة فيما صار لهما من الثلث؛ بَدّي فيه صاحب الخدمة على صاحب الرقبة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإذا انقضى الأجل، أو مات صاحب الخدمة -إن كانت الخدمة حياته- صار لصاحب الرقبة ما صار لهما في محاصتهما في العبد؛ إن كان نصفًا فنصفًا، وإن كان ثلثًا فثلثًا، ويكون صاحب الثلث والمائة شريكًا للورثة بمقدار ما صار له في المحاصة في جميع مال الميت، وفيما بقي من العبد في يد الورثة مما لم يحمله الثلث، ولا تغيير في هذا الوجه، والموصى له بالثلث يتحاصى مع أهل الوصايا بجميع الثلث في ثلث الميت. فإن لم يوص مع ذلك بشيء، مثل أن يقول: عبدي يخدم فلانًا سنة أو حياته، ثم هو لفلان: فإن حمله الثلث خدم صاحب الخدمة أمد الخدمة، فإذا تمت الخدمة صار لفلان، وإن لم يحمله الثلث، فإنه يقطع لهما من العبد بقدر [محمل] (¬1) الثلث؛ فيخدم الذي جعلت له الخدمة إن كان ما حمل [الثلث منه] (¬2) النصف خدم الورثة يومًا، وخدم الموصى له بالخدمة يومًا، حتى إذا انقضى أمد الخدمة كان نصفه للموصى له بالرقبة بَتْلًا. فإن لم يضرب للخدمة أجلًا؛ مثل أن يقول: يخدم عبدي فلانًا، ولم يقل حياته، ولم يؤقت من السنين شيئًا، وأوصى أن رقبته لفلان -رجل آخر-[ولم يقل] (¬3) من بعده، هل هي وصية واحدة أو وصيتان؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنهما وصيتان، فتقوم الخدمة على غررهما حياة الذي أخدم، وتقوم [الرقبة] (¬4) ثم يتحاصان في رقبة العبد بقدر ذلك. ¬

_ (¬1) في أ: تحمل. (¬2) في أ: من الثلث. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: الرقبتان.

وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنها وصية واحدة، والخدمة حياة فلان، فإذا مات فلان رجع العبد إلى صاحب الرقبة ملكًا له. وهو قول أشهب في "المدونة" أيضًا. وعلى القول بالتحاصص، هل يتحاصص صاحب الرقبة بقيمة الرقبة على أنها لا خدمة فيها [أم لا] (¬1)؟ قولان متأولان على "المدونة": أحدهما: أنه يحاص بقيمة الرقبة على أنها لا خدمة فيها، وهو ظاهر قول ابن القاسم عند بعضهم. والثاني: أنه يحاص بمرجع الرقبة، وهو قول ابن المواز، وحكاه عن ابن القاسم، يقال: ما تسوى هذه الرقبة بشرط أن تخدم هذه سنة، ثم يكون مرجعها لمن أوصى له بها. فإن كان مرجعها بعد الخدمة إلى حرية أو إلى ورثة الموصى؛ مثل أن يقول: يخدم عبدي فلانًا سنة ثم هو حر، أو قال: ثم يرجع إلى ورثتي، وأوصى مع ذلك بوصايا: فلا يخلو من أن يحمل الثلث جميع الوصايا أو ضاق عنها. فإن حمل الثلث جميع الوصايا أخذ كل واحد [من] وصيته. فإن ضاق عنها فلا يخلو العبد من أن يكون كفاف الثلث، أو أكثر منها. فإن كانت قيمته كفاف الثلث [فإنه] (¬2) يعمر العبد أو الموصى له بالخدمة أيهما كان أقصرهما عمرًا على قدر ما يرى الناس، فينظر كم ذلك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فتقوم تلك السنين ذهبًا على غررها على الرَّجاء والخوف يقال: بكم يتكارى هذا العبد إلى أقصى عمره، أو عمر الموصى له -أيهما أقصر عمرًا على ما قدمناه- على أنه إن عاش إلى ذلك الأمَد، فهو من حق المستأجر وإن مات قبل ذلك فقد بطل حقه، ولا يرجع في بقية ذكر المدة؛ فيتحاص مع أهل الوصايا بأقل العمرين على ما فسرناه في خدمة العبد. فإذا هلك الموصى له بالخدمة فالعبد حر، ولا يُبَدّى في هذا الوجه بالعتق على الخدمة؛ لأن المعتق إلى أجل، ولا يعتق العبد إلا إلى الأجل الذي جعل عتقه إليه، وهو قبل الأجل عليه الخدمة؛ فتكون تلك الخدمة بين الموصى له بها، وبين الموصى له بالمائة. فإن انكشف [الغيب] (¬1) في التعمير خلاف ما عمر؛ مثل أن يزيد عمره على ما عمر أو قصر عن ذلك، هل يعمل على ما انكشف عنه الغيب أو يعمل على ما حكم به ابتداء؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يعمل على ما مضى عليه الحكم ابتداء، ويرد ما بقي بعد انقضاء عمره على أهل الوصايا يتحاصون فيه، وما بقي بعد تمام الوصايا يرجع إلى الورثة، وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، و"الموازية"، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أنه يعمل على ما انكشف عنه الغيب، ويؤتنف له التعمير، ويرجع [على] (¬2) أهل الوصايا، وهو قول أشهب، وهو القياس. والقولان حكاهما الباجي [في المنتقى] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: إلى. (¬3) سقط من أ.

وسبب الخلاف: اختلافهم في المجتهد، هل يعذر [باجتهاده] (¬1) أم لا؟ فإن كان الثلث لا يحمل جميع العبد، وأبَى الورثة أن يجيزوا وصية الميت، هل تسقط الخدمة، ويبدأ بالعتق أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الخدمة ساقطة، ويبدأ بالحرية، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، و"المجموعة". والثاني: أنه يبدأ بالخدمة، فيخدم ثلثه فلانًا سنة، ثم هو حر؛ كما يفعل إذا كان للعبد ثلث الميت، وهو قول أشهب، وأحد قولي مالك. ووجه القول الأول: أن العبد لو أعتق جميعه لزمته الخدمة [فإذا أعتق بعض كان أولى أن يخدم، فإذا لم تسقط الخدمة] (¬2) بعتق جميعه، فبأن لا تسقط بعتق بعضه أولى. ووجه القول الثاني: أن الثلث إذا ضاق عن الوصايا قدم العتق المعين، فتقديمه يقضي بإبطال الوصية. وإذا لم يعتق من العبد إلا ثلثه، ومنع ضيق الثلث من نفوذ جميع الوصية، وذلك يوجب إنفاذ عتق ما حمل الثلث منه، ولا يصح ذلك إلا بإبطال الخدمة، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: في اجتهاده. (¬2) سقط من أ.

المسألة الثالثة إذا أوصى بعبده لرجل، وأوصى بسدس ماله لآخر

المسألة الثالثة إذا أوصى بعبده لرجل، وأوصى بسدس ماله لآخر فقد قال مالك في "الكتاب": ينظر إلى قيمة العبد، فإن كان العبد هو ثلث مال الميت كان للموصى له بالعبد ثلث الثلث في العبد، وكان للموصى له بالسدس ثلث الثلث فيما بقى من العبد، ومن جميع مال الميت يكون شريكًا مع الورثة في ذلك التسع، أو بالسبع على اختلاف الروايات. قلت: أرأيت إن كانت قيمة العبد الذي أوصى به نصف الثلث، وقد أوصى لآخر بالسدس، قال: يكون للموصى له بالعبد جميع العبد، ويأخذ الموصى له بالسدس وصيته فيما بقى يكون شريكًا للورثة بالخمس، وهذا قول مالك؛ فهذا نص ما في المدونة. وهو كلام يحتاج إلى تفسير؛ لأن المسألة حسابية. وصورتها أن يترك الميت العبد، وأربعمائة دينار، وقيمة العبد مائتان، فالعبد هو الثلث، فيقطع لمن أوصى له بالعبد، فيأخذ ثلثيه؛ لأن وصيته سهمان ووصية صاحب السدس سهم؛ لأنه وصى له بالسدس، فيكون شريكًا بثلث الثلث، ولا يقوم ذلك إلا من تسعة؛ فثلث التسعة ثلاثة؛ فسهمان [منها] (¬1) للموصى له بالعبد، وسهم للذي أوصى له بالسدس؛ وهو سبع ما بقي بعد السهمين، وهو تسع جميع المال. وعلى هذا يتخرج ما في "الكتاب". وإن كان العبد هو نصف الثلث، وهو السدس، فعلى قول مالك في "الكتاب" يأخذ العبد صاحبه من ستة، وبقيت خمسمائة يأخذ الموصى له ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بالسدس مائة، فاستكملا الثلث. وعلى قول ابن القاسم في العتبية إذا كان العبد يساوي مائة وترك خمسمائة، فأوصى بالعبد لرجل وبالسدس لرجل آخر أن صاحب العبد يأخذ خمس أسداسه؛ لأنه انفرد بذلك [ويأخذ الموصى له بالسدس سدس الخمسمائة؛ لأنه انفرد بذلك] (¬1)، ويبقى سدس العبد وصى به لهذا، فيجب أن يقسم ذلك بينهما نصفين. فهذه صورة المسألة وتفسيرها، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الرابعة في الوصية بالحج

المسألة الرابعة في الوصية بالحج واتفق المذهب عندنا أن الوصية بالحج مكروهة في الابتداء. واختلف بعد وقوعها في وجوب تنفيذها على قولين: أحدهما: وجوب تنفيذها، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه لا يجب تنفيذها على الورثة إلا أن يشاؤوا، وهو قول ابن كنانة. وسبب الخلاف: اختلافهم في تصويب المجتهدين؛ وهل كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد؟ فعلى القول بوجوب تنفيذها، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يوصي بذلك إلى مجهول. والثاني: أن يوصي بذلك إلى معين معقول. فإن أوصى بذلك إلى مجهول؛ مثل أن يوصى أن يحج عنه بثلث ماله: فعلى الورثة أو الوصي أن يختاروا لذلك رجلًا حرًّا بالغًا مكلفًا، فيدفعوا له المال ليحج به عن الميت، ويختار لذلك من قد حج أحب إلى مالك، فإن دفع لمن لم يحج أجزأهم، وإن دفعوه إلى عبد أو صبي، أو من هو غير مخاطب بالحج، فلا يخلو من أن يكون ذلك منهم على معنى العمد، أو على معنى الخطأ والجهل. فإن فعلوه على معنى العمد، فلا خلاف في وجوب الضمان على من دفع.

وإن كان على معنى الخطأ، والجهل، فهل يضمنوا أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: سقوط الضمان عنهم؛ فإنهم بجهلهم معذورون. وهو قول ابن القاسم في "كتاب الوصايا الثاني" من "المدونة". والثاني: وجوب الضمان على من دفع، وهو نص قول الغير في "كتاب الوصايا [الثاني] (¬1) " من "المدونة"، ويؤخذ من قول ابن القاسم في "كتاب الزكاة الأول" من "المدونة" في المخطيء في الزكاة يدفعها إلى نصراني، أو غني، وهو لا يعلم حيث قال: إن الدافع يضمن. وسبب الخلاف: اختلافهم في المجتهد، هل يعذر باجتهاده أم لا؟ ثم لا يخلو قابض المال ليحج به عن الميت من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن يأخذه على البلاغ] (¬2). والثاني: أن يأخذه على الإجارة. والثالث: أن يأخذه على الضمان. فإن أخذه على البلاغ؛ فإنه يرجع بالنقصان، ويرد الزائد، مثل أن يقول [له] (¬3): خذ هذه الدنانير، فحج بها عن فلان، فإن فرغت قبل تمام الحج كان علينا التمام، وإن فضلت منها فضلة بعد الإياب كانت الفضلة لنا، فهذا معنى البلاغ. فإن ترك شيئًا من مناسك الحج مما يجب فيه الدم، فإن أخذ المال على ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ.

معنى الإجارة، فالدم عليه في ماله -تركه عامدًا أو ناسيًا- وإن أخذه على معنى البلاغ، فالدم في ماله إن تركه عمدًا، وفي مال الميت إن تركه ناسيًا. فإن أخذه على معنى البلاغ، وسقطت عنه النفقة في طريقه، فلا يخلو من أن يكون ذلك قبل الإحرام، أو بعد الإحرام. فإن ضاع قبل الإحرام، فإنه يرجع من موضع سقطت منه، ونفقته في رجوعه من مال الميت، فإن تمادى ولم يرجع فهو متطوع ولا شيء له عليهم في ذهابه. فإن ضاع بعد الإحرام، فليمض في حجه، فإنه لما أحرم لم يستطع الرجوع، ويَتَسَلَّق ما ينفق في ذهابه ورجوعه، ويرجع بذلك على الذي دفع إليه المال. ولو أخذه على الإجارة، فسقط لكان ضامنًا للحج أحرم، أو لم يحرم. وهذا كله نص قول مالك في "كتاب الحج الثاني" من "المختلطة". فإن أخذه على الإجارة؛ مثل أن يستأجره بكذا، وكذا دينار على أن يحج [عن] (¬1) الميت، فهذه الإجارة له ما زاد، وعليه ما نقص. وإن أخذه على معنى الضمان، فهو بمعنى الجعل. فإن مات قبل تمام الحج، فلا شيء له على سنة الجعل، وعلى هذا تأول ابن لبابة ما وقع له في "المدونة" في آخر الباب حيث قال: والناس يعرفون كيف يأخذون، إن أخذوا على البلاغ، فهو على البلاغ، وإن أخذوا على أنهم ضمنوا الحج، فقد ضمنوا. وخالفه في ذلك جماعة من المتأخرين، وقالوا: معنى الضمان أن ¬

_ (¬1) في أ: على.

يأخذه على الإجارة، فيرجع إلى وجهين. وأما الوجه الثاني: إذا أوصى به إلى معين معقول، فلا يخلو ذلك المعين من أن يكون وارثًا أو أجنبيًا. فإن كان وارثًا دفع له من المال قدر نفقته، وكرائه ذاهبًا وراجعًا، ويرد الزائد على ذلك؛ لأنه وصية لوارث. فإن كان أجنبيًا، فلا يخلو من أن يكون بالغًا مكلفًا، أو غير بالغ غير مكلف. فإن كان بالغًا مكلفًا؛ مثل أن يقول: يحج عني فلان بثلثي، فلا يخلو من أن يرضى ذلك الرجل، أو يأبي. فإن رضي بذلك فلا إشكال. وإن أبى وامتنع، هل يعطي المال لغيره أم لا؟ فلا يخلو الموصي من أن يكون ضرورة أو غير ضرورة. فإن كان ضرورة، فإنه يدفع لغيره قولًا واحدًا في المذهب. وإن كان غير ضرورة، فهل ترجع الوصية ميراثًا أم لا؟ فعلى قولين منصوصين في "الكتاب": أحدهما: أنها ترجع ميراثًا، ولا تعطى لغيره، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنها تدفع لغيره، ولا ترجع ميراثًا، وهو قول [غيره] (¬1) في "الكتاب"؛ لأن الحج إنما قصد به نفسه. فإن كان الموصى له غير بالغ، أو بالغ غير مكلف؛ مثل أن يقول في وصيته: يحج عني فلان، وهو صبي صغير، أو قال: يحج عني عبد ¬

_ (¬1) في ب: الغير.

فلان، فإن أذن سيده للعبد، وأذن والده للصغير فحجا عنه، فإنه يجزئه؛ لأنه لما قصدهما علمنا أنه أراد التطوع. فإن لم يكن للصبي والد، [أو] (¬1) أذن له الولي أن يحج عن الميت، فإن خيف عليه في ذلك مشقة وضيعة من السفر، فلا يجوز إذنه في ذلك. فإن لم يخف عليه في ذلك، وكان قويًا على الذهاب، فهل يجوز إذن الولي في ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "الكتاب": أحدهما: أن إذنه في ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن ذلك لا يجوز، وهو قول الغير. والقولان في "كتاب الوصايا الثاني" من "المدونة" [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: فإن. (¬2) زيادة من ب.

المسألة الخامسة في الذي يوصي بوصيتين واحدة بعد أخرى

المسألة الخامسة في الذي يوصي بوصيتين واحدة بعد أخرى ولا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يوصي بهما لشخص واحد. والثاني: أن يوصي بهما لشخصين. فإن أوصى بهما لشخص واحد، فلا يخلو من أن تكون الوصيتان من جنس واحد، أو من جنسين، فإن كانتا من جنس واحد، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون الوصيتان معينتان. والثاني: أن تكونا مجهولتين. والثالث: أن تكون إحداهما معينة، والأخرى مجهولة. فإن كانتا معينتين مثل أن يوصى لرجل بعبده ميمون، ثم أوصى له بعبده مرزوق: فلا خلاف في المذهب أن له الوصيتين جميعًا إن حملهما الثلث أو ما حمل الثلث منهما من غير التفات إلى اتفاق الوصيتين في العدد بعد التنصيص على التعيين. فإن كانتا مجهولتين، فلا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون الوصيتان بمسميين. والثاني: أن تكونا بجزءين. والثالث: أن تكون إحداهما بشيء مسمى، والأخرى بجزء. فإن كانتا بمسميين؛ مثل أن يوصي لرجل بعدد مسمى ثم أوصى له

بعدد من ذلك الجنس، فلا يخلو من أن يتفق العددان قدرًا وصفة أو اختلفا. فإن اتفقا قدرًا وصفة؛ مثل أن يوصي له بعشرة دنانير، ثم أوصى له مرة أخرى بعشرة دنانير، والسكة واحدة، فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن له العشرة خاصة، ويعد ذلك منه تكرارًا، وهو قوله في "كتاب محمَّد"، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أن له الوصيتين جميعًا، وهو قول مطرف، وابن الماجشون. والثالث: التفصيل بين أن يكون ذلك في كلام نسق، فتكون له الوصيتان، أو يكون في كلامين أو كتابين، فتكون وصية واحدة، وهو اختيار اللخمي. [فإن اختلفا قدرًا وصفة؛ مثل أن يوصي له بعشرة دنانير، ثم أوصى له بعد ذلك بعشرين، فالمذهب على ثلاثة أقوال] (¬1). أحدها: أن له الأكثر قدم الأكثر في [الوصية] (¬2) أو آخره، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: التفصيل بين أن يقدم الأكثر على الأقل، فتكون له الوصيتان؛ مثل أن يوصي له بعشرين، ثم بعشرة، فيكون له ثلاثون، أو قدم الأقل على الأكثر، فيكون له الأكثر، وهو قول عليّ بن زياد. والثالث: التفصيل بين أن تكونا بكتابين أو بكتاب واحد؛ فإن كانتا بكتابين، فله الأكثر كما قال ابن القاسم في "الكتاب". وإن كانتا بكتاب واحد، وقدم الأكثر فهما وصيتان، وهو قول مطرف، ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ.

وابن الماجشون. واختلاف الصفة كاختلاف الجنس، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله. فإن كانت الوصيتان بجزءين، فلا يخلو من أن يكونا جزءين متفقين أو مختلفين. فإن كانا جزءين متفقين؛ مثل أن يوصي لرجل بربع ماله أو سدسه، ثم أوصى له بذلك الجزء مرة أخرى، فالجواب فيه كالجواب في فصل المسمى إذا استوى العددان، ولا فائدة في التكرار. فإن كانا جزءين مختلفين؛ مثل أن يوصي له بالرُّبع ثم أوصى له مرة أخرى بالسدس، فإنه يجري على الخلاف الذي قدمناه في العين حرفًا حرفًا. إذا أوصى له بعد ذلك أقل أو أكثر، فلا فائدة للإطالة. وأما إن كانت إحدى الوصيتين بشيء مسمى، والأخرى بجزء؛ مثل أن يوصي له بعشرة دنانير ثم أوصى له بعد ذلك بثلث ماله: فلا يخلو ماله من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون كله عينًا. والثاني: أن يكون كله عروضًا. والثالث: أن يكون بعضه عينًا، وبعضه عروضًا. فإن كان ماله كله عينًا، فإنك تنظر، فإن استبَدّ بالوصية كان له جميع الثلث، فإن زاحمه أهل الوصايا ضرب معهم بالأكثر من العشرة أو جميع الثلث، وهو قول مالك في الكتاب على ما فسره سحنون في "المجموعة" أن ماله كله عين، ويكون قوله تفسيرًا على ما في المدونة.

فإن كان ماله [كله] (¬1) عروضًا ضرب مع أهل الوصايا بالثلث وبالتسمية، فإن لم يكن معه وصايا، فله الثلث إلا أن يجيز الورثة الوصيتين. فإن كان ماله عروضًا وعينًا، وانفرد بالوصية كان له ثلث جميع المال إن لم يجيزوا الورثة، فإن كان معه الوصايا ضرب معهم بثلث العروض، وبالأكثر من ثلث العين، والتسمية، وهو قول ابن حبيب. وأما الوجه الثالث من أصل التقسيم: إذا كانت إحدى الوصيتين معينة، والأخرى مجهولة؛ مثل أن يوصي له بعبده ميمون، ثم أوصى له مرة أخرى بعبد من عبيده: فإن كان ذلك في كلام نسق فله الوصيتان جميعًا إن حملهما الثلث، أو ما حمل منهما. فإن كان ذلك كلامًا منفصلًا؛ مثل أن يوصي له اليوم بعبده ميمون، ثم يوصي له يومًا آخر، أو ساعة أخرى بعبد من عبيده، فإن قدم المجهول، وأخر المعين فهي وصية واحدة، ويكون قوله آخرًا تفسيرًا لما قاله أولًا. فإن قدم المعين في الوصية، وأخر المجهول فقولان: أحدهما: أنها وصية واحدة، ولا يكون له إلا المعين. والثاني: أنهما وصيتان. والقولان متأولان على "المدونة". والجواب عن الوجه الثاني من الوجه الثالث من أصل التقسيم: وهو إذا كانت الوصيتان من جنسين؛ مثل أن يوصي له بعبد، ثم أوصى له بدار، أو بدابة، أو بعرض، أو بعين: فلا خلاف في المذهب أن له الوصيتين ¬

_ (¬1) سقط من أ.

جميعًا إن حملهما الثلث من غير اعتبار بتساوي العدد، واختلافه، وتقدم الأكثر وتأخره. واختلف في الوصية بالنوعين واحدة بعد أخرى؛ مثل أن يوصي له بدنانير ثم أوصى له مرة أخرى بدراهم، أو أوصى له بأرادب من سمراء، ثم أوصى له بعد ذلك بأرادب من محمولة، أو شعير هل هما كالصنفين، فتكون له الوصيتان أو كالصنف الواحد، فينظر إلى المساواة، والاختلاف في تقديم الأقل على الأكثر على حسب ما تقدم تفصيلًا وتأصيلًا. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: وهو أن يوصي بذلك لشخصين؛ مثل أن يوصي بثلث ماله لزيد، أو بشيء بعينه، ثم أوصى بذلك الشيء بعينه لعمرو: فلا يخلو من أن يكون في الوصية الثانية دليل على نقض الأولى أم لا. فإن كان في الثانية ما ينقض الأولى؛ مثل أن يقول: الشيء الذي أوصيت به لزيد هو لعمرو: فلا خلاف في هذا الفعل أن الأولى باطلة، والثانية صحيحة. وإن لم يكن فيها ما ينقضها، فإنهما مشتركان في الوصية، ويكون [كأنه] (¬1) أوصى لهما بوصية واحدة يشتركان فيها. واختلف إن رد أحدهما وصية، أو مات قبل موت الموصي، هل تكون جميع الوصية للباقي منهما، أو تكون لورثة الموصي محاصة الباقي بحق الراد أو الميت؟ على ثلاثة أقوال كلها منصوصة في "المدونة": أحدها: أن الوصية كلها للباقي منهما على الموصي بموت الميت منهما أم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

لا. والثاني: أن للورثة محاصة الباقي علم [الموصي] (¬1) بموته أم لا. والثالث: التفصيل بين أن يعلم الموصي بموت الميت، فتكون جميع الوصية للباقي، وإن لم يعلم، فللورثة محاصة الباقي. وسبب الخلاف: الاستدامة هل هي كالإنشاء أم لا؟ فإن أوصى بعبده لزيد، ثم أوصى ببيعه لعمرو، فإنه يباع لعمرو بثلثي الثمن، ويدفع ذلك الثمن لزيد. فإن أوصى به لزيد، ثم أوصى به للعتق، فعلى ثلاثة أقوال: أحدها: أن الآخرة أحق به من الأولى عتقًا كان أو ملكًا، وهو مذهبه في "المدونة". والثاني: أن العتق أولى -قدم أو أخر- وهو قول أشهب تعصيبًا للعتق، [وهو ظاهر قول ابن القاسم في "كتاب العتق" فيما إذا وهب عبده لرجل، فلم يقبضه الموهوب حتى أعتقه الواهب، فقال: إن العتق أولى من الهبة] (¬2). والثالث: أنهما يتحاصان فيه العتق، والملك؛ فيكون نصفه عتيقًا ونصفه مملوكًا للموصى له إذا حمله الثلث قياسًا على ما لو أوصى به لرجلين، وهو ظاهر "المدونة"، وليس وصيته به للعتق بأولى من وصيته [به] (¬3) لزيد [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) زيادة من ب.

المسألة السادسة في الوصية بمثل نصيب أحد بنيه

المسألة السادسة في الوصية بمثل نصيب أحد بنيه فالكلام في هذه المسألة على عشرة أسئلة: أحدها: أن يقول: لفلان مثل نصيب أحد بني. والثانى: أن يقول: لفلان مثل نصيب أحد ولدي. والثالث: أن يوصي له بمثل نصيب أحد ورثته. والرابع: أن يوصي له بنصيب أحد ولده، ولم يقل مثله. والخامس: أن يقول: اجعلوا فلانًا من جملة ورثتي أو كأحدهم. والسادس: أن يقول: لفلان سهم [مثل سهم] (¬1) أحد ورثتي. والسابع: أن يوصي له بجزء من ماله. والثامن: أن يوصي له بسهم من ماله. والتاسع: أن يوصي له بمثل نصيب أحد ولده، ولا ولد له يومئذ. والعاشر: إذا أوصى له بمثل نصيب أحد ولده، فمات بعضهم قبل موت الموصى، أو ولد له آخر قبل موته. فالجواب عن السؤال الأول: إذا أوصى له بمثل نصيب أحد بنيه، هل يكون ثالثهم إن كانا اثنين، أو رابعهم إن كانوا ثلاثة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يأخذ القدر الذي يصح لأحدهم دون انضمامه إليهم؛ مثل أن يكون اثنين، فيأخذ النصف، أو ثلاثة فيأخذ الثلث، وهو نص ¬

_ (¬1) سقط من أ.

"المدونة". والثاني: أنه كواحد منهم؛ فإن كانوا ثلاثة صار رابعهم، وهو مذهب أهل الفرائض من أهل المذهب. وسبب الخلاف: هل النظر إلى لفظ الموصي أم النظر إلى مقصده. والجواب عن السؤال الثاني: إذا أوصى له بمثل نصيب أحد ولده، فلا يخلو من أن ينفرد الأولاد بالميراث أو يشاركهم غيرهم فيها. فإن انفردوا بالميراث، فهل يكون كأحدهم، أو يأخذ النصيب الذي يصح لأحدهم؟ فعلى الخلاف الذي قدمناه، غير أن الذكر والأنثى في ذلك سواء. فإذا أخذ الموصى له ما أخذ رجع الورثة، فجمعوا متاعهم، وقسموا على فرائضهم للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن شاركهم غيرهم في الميراث كالأولاد مع الزوجة، والأبوين، فإن الذي يشاركهم في الميراث يأخذ سهمه، ويأخذ الأولاد سهامهم، ثم يأخذ الموصى له مثل نصيب أحدهم على عددهم، ثم يجمع نصيب الزوجة، والأبوين إلى الباقي بعدما أخذ الموصى له ما أخذ، فيقسمونه على فرائض الله تعالى. والجواب عن السؤال الثالث: إذا أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته، فهذا ينظر إلى عدد ما ترك من الورثة من الأولاد وغيرهم، فيقسم المال على عددهم، فيأخذ الموصى له مثل نصيب أحدهم، ثم يرجع الورثة فيقسمون ما بقي على فرائضهم؛ لأن الوارث اسم لكل من يرث ولدًا كان أو غيره. والجواب عن السؤال الرابع: إذا أوصى له بنصيب أحد ولده، ولم

يقل مثله، فقولان: أحدهما: أنه يأخذ مثل نصيب أحدهم على عددهم، الذكر والأنثى فيه سواء، وهو قول مالك وابن القاسم. والثاني: أن له نصف نصيب الذكر، ونصف نصيب الأنثي، وهو قول عبد الملك، وهو أقيس. والجواب عن السؤال الخامس: إذا قال: اجعلوا فلانًا من جملة ورثتي أو كأحدهم فلا خلاف في هذا الوجه أنه وارث من الورثة وواحد منهم؛ إن كان ذكرًا أخذ ميراث الذكر، وإن كان أنثى أخذ ميراث الأنثى، ما لم يكن ما يأخذ أكثر من الثلث فيكون الخيار للورثة. والجواب عن السؤال السادس: إذا قال: لفلان سهم مثل سهم أحد ورثتي أو أحد ولدي، فبمنزلة ما لو قال: له مثل نصيب أحد ورثتي، أو أحد ولدي، وقد تقدم الجواب فيه؛ فلا فائدة للتكرار. فالجواب عن السؤال السابع والثامن: إذا أوصى له بجزء، أو بسهم من ماله، فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن له الثمن؛ لأنه أقل سهم ذكره الله تعالى في الفرائض. والثاني: أنه يعطي له سهم من سهام الفريضة -قلت السهام أو كثرت- وهو الذي اختاره ابن المواز، وذكر أن عليه جُلّ أصحاب مالك. والثالث: أنه يعطي سهم من سهام [الفريضة] (¬1) إن كانت تنقسم على ستة، فأقل ما لم تجاوز الثلث فيرد إلى الثلث إن لم يجيزوا الورثة. فإن انقسمت فريضتهم على أكثر من ستة، فلا ينقص من السدس؛ لأن الستة أصل من أصول الفرائض، وهو أضعف الأقوال. ¬

_ (¬1) في أ: فريضته.

وهذا كله نقله التونسي من كتاب ابن المواز عن ابن عبد الحكم. والجواب عن السؤال التاسع: إذا أوصى له مثل نصيب أحد ولده، ولا ولد له بعد، وجعل يلتمس الولد حتى مات، ولم يولد له، فلا شيء للموصى له. والجواب عن السؤال العاشر: إذا أوصى له بمثل نصيب أحد ولده، فمات بعضهم قبل موت الموصى أو ولد آخرون قبل موته: فإنه ينظر إلى عددهم يوم مات الموصي لا قبل ذلك، فيكون للموصى له مثل نصيب أحدهم على ما تقدم [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة السابعة في الوصية لولد [فلان

المسألة السابعة في الوصية لولد [فلان فلا يخلو الحكم فيها من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون أولاد فلان محصورين محدودين، ولا يطمع لفلان في زيادة الولد بعد ذلك؛ إما] (¬1) لفقده، وإما لعلة طرأت عليه كالجب والعنة. والثاني: أن يكون له أولاد في حين الوصية، ويرجى له زيادة النَّسْل في ثاني حال. والثالث: أن يكون لا ولد له في حين الوصية، ويرجى له الأولاد في المستقبل. والجواب عن الوجه الأول: إذا كان أولاده محصورين في حين الوصية، ولا مطمع له في تزايد الولد في ثاني حال، فلا يخلو من أن يسميهم عند الوصية تصريحًا بالتعيين، أو ما يفهم منه التعيين كالإشارة؛ مثل قوله: على أولاد فلان هؤلاء، وأطلق دون تعيين، فلا خلاف في المذهب أن الوصية مقصورة عليهم، وأن المراعي فيها يوم الوصية، ومن مات منهم قبل القسم، فورثته يقومون مقامه. فإن لم يعينهم، ولا أشار إلى التعيين، فهل هم كالمعينين بحصرهم وعددهم، وقلة عددهم، أو كالمجهولين لعدم التصريح بالتعيين، أو ما يقوم مقامه؟ فالمذهب على قولين متأولين على "المدونة": ¬

_ (¬1) سقط من ب.

أحدهما: أنهم كالمعينين، وهو المشهور، وهو ظاهر "المدونة" من قوله: وولد ذلك الرجل عشرة، إلا أن يقول في هذا الوجه ولد فلان، وعقبهم، فيكونوا كالمجهولين قولًا واحدًا. والثاني: أنهم كالمجهولين، وهو قوله في "الكتاب" في مسألة الأخوال. فعلى القول بأنهم كالمعينين، فالنظر إلى يوم [الوصية، وعلى القول بأنهم كالمجهولين، فالنظر إلى يوم] (¬1) القسمة، ولا شيء لمن مات قبل ذلك، فعلى هذا القول، فهل يقسم بينهم بالسواء أو بالاجتهاد؟ فقولان. والجواب عن الوجه الثاني: إذا كان له أولاد حين الوصية، ويرجى له زيادة النسل في ثاني حال. فإن عين الموجودين وخصهم فلا خلاف. وإن أطلق وأبهم، فقولان منصوصان في المذهب متأولان على المدونة على ما ذهب إليه سحنون في الباب الثاني حيث قال: وولد ذلك الرجل عشرة أن الثلث بينهم بالسواء. قال سحنون: قول عبد الرحمن في هذه المسألة أحسن، والمشهور أنهم كالمجهولين. واختلف المتأخرون في التناقض الذي [ألزمه] (¬2) سحنون لابن القاسم، هل يلزم أم لا؛ فمنهم من يقول: إن ذلك لا يلزم، وإنما هو اختلاف السؤال؛ لأن السؤال الأول قال فيه: لولد ولدي؛ فأطلق فيحمل على المجهولين، والسؤال الثاني قال فيه: لولد فلان -وهم عشرة- فيحمل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ألزمها.

على التعيين أو يحمل على أنه اختلاف السؤال. ومنهم من ذهب إلى أن ذلك اختلاف حال؛ لأنه إنما تكلم في الباب الثاني على صفة اختلاف القسم بين الوصايا، والأحباس فساوى بينهم في قسمة الوصايا، والأحباس تقسم بالاجتهاد. وهذا هو الأظهر لمن أنصف وتأمل ما في الكتاب. ومنهم من أحسن [النظر] (¬1)، وقلد سحنونًا، وجعل ذلك اختلاف [قول] (¬2)، وحمل ما في الكتاب على ظاهره. وسبب الخلاف على هذا التأويل: هل المعتبر قصد الموصي أو المعتبر صيغة اللفظ؟ فمن اعتبر قصد الموصي جعلهم كالمعينين، فكأن الموصي قد قصد إلى أعيان الموجودين دون غيرهم؛ فيقسم بينهم بالسواء ملكًا لهم، ومن مات منهم قبل القسم ورث [عنه] (¬3) حقه. ومن اعتبر صيغة اللفظ أن ذلك لمن حضر القسم إما بالسواء، وإما بالاجتهاد على الخلاف الذي قدمناه؛ فعلى القول بالسواء يكون ملكًا لهم، وعلى القول بالاجتهاد يكون موقوفًا بأيديهم على معنى الاستغلال والانتفاع به، ويتجرون في العين، ويكون لهم الربح، ويضمنون رأس المال. وفائدة الإيقاف ليدرك من ولد بعد ذلك حقه فيه. فإن انقرضوا جميعًا، ولا ولد يرجى، وقد مات من كان [فلورثتهم] (¬4) الدخول في ذلك على قدر مواريثهم من آبائهم، ويكون ذلك ملكًا لهم. ¬

_ (¬1) في أ: الظن. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: عنهم. (¬4) في أ: فلورثته.

والجواب عن السؤال الثالث: إذا كان فلان لا ولد له حين الوصية، ولكن يرجى له النَّسْل في المستقبل، فإن كانت امرأته حاملًا حين الوصية، فالوصية لذلك الحمل وحده ذكرًا كان أو أنثى، ويحمل على أنه هو المقصود بالوصية. فإن ولد كانت له. فإن أسقطته أو وُلِدَ ميتًا بطلت الوصية، ولا شيء لمن يولد له بعده، وهذا نص اللخمي، وفيه نظر. فإن كانت حائلًا، فلا يخلو الموصي من أن يعلم أنه لا ولد له، أو لا يعلم. فإن لم يعلم، فالوصية ساقطة. فإن علم أنه لا ولد حملت الوصية على كل من يولد له بعد ذلك، وإن كثروا، وتوقف في يد الأب. فإن مات قبل أن يولد له، أو آيس له من ولد رجعت الوصية إلى ورثة الموصي يقسمونها على فرائضهم يوم مات الموصي؛ فمن ولد كانت جميع الوصية في يده على معنى الانتفاع، وكل من ولد يدخل فيها، ومن مات منهم لم يمكن ورثته من الدخول في حقه حتى ينقرضوا جميعًا ثم يكون لورثتهم أجمعين. فإن أوصى لتميم أو لقريش، فلا خلاف في المذهب أن ذلك لمن حضر القسم، وأن القسم فيها على الاجتهاد لا على السواء. واختلف هل يدخل معهم مواليهم في الوصية أم لا. على ثلاثة أقوال: أحدها: أن لا حظ فيها للموالي جملة، وهو قول مالك في "المدونة".

والثاني: أنهم يدخلون فيها جملة، وهي رواية ابن حبيب عن ابن الماجشون. والثالث: التفصيل بين قول الموصي لبني فلان، فلا يدخل معهم الموالي؛ لأن "بني" تقتضي الصلبية، وإن قال: لفلانة -كقولهم: لتميم أو لقيس- فإنهم يدخلون معهم؛ لأن الاسم [يشتمل] (¬1) الصلبية والموالي. وقوله: وصيتي لموالي فلان كوصيته لولد فلان لا فرق سواء، [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: يقتضي. (¬2) زيادة من ب.

المسألة الثامنة في إجازة الورثة للموصي أكثر من الثلث، وكان ذلك بسؤال من الموصي أو بغير سؤال

المسألة الثامنة في إجازة الورثة للموصي أكثر من الثلث، وكان ذلك بسؤال من الموصي أو بغير سؤال ولا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك في حالة الصحة. والثاني: أن يكون في حال المرض. والثالث: أن يكون بعد الموت. فأما الوجه الأول: إذا كانت الإجازة في الصحة، فلا يخلو من أن يكون ذلك لسبب أو لغير سبب. وإن كان ذلك لسبب كالغزو والسفر، فأذن له الورثة أن يوصي بأكثر من ثلثه، ثم مات بسفره ذلك، هل يلزم الورثة ذلك الإذن أو لا يلزم؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لازم لهم كالمرض، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". والثاني: أنه لا يلزمهم، وأن لهم الرجوع عنه، وهو قول ابن وهب، وبه قال أصبغ. فإن كان لغير سبب، فلا خلاف في المذهب أنه لا يلزم الورثة، وأن لهم الرجوع في ذلك؛ لأنها حال لم يتعلق لهم فيها بالتركة حق. وأما الوجه الثاني: إذا كانت الإجازة في المرض، فلا يخلو من أن يتخلل بين وصيته ومرض وفاته صحة، أو لا يتخللها.

فإن تخللها صحة بينة، فلا يلزم ذلك الإذن الورثة إن رجعوا عنه؛ لأنه تخلل بين الإذن والوفاة حالة لا يصح فيها الإذن -وهي حالة الصحة- وهي رواية يحيى عن ابن القاسم، وعليهم اليمين أن سكوتهم ما كان منهم رضا لاستدامة الإذن المتقدم، وهو قول ابن كنانة. فإن لم يتخلل بين الإذن والوفاة وقت صحة، فهل يلزم ذلك الإذن الورثة أو لا يلزم؟ فلا يخلو الوارث الذي أذن من أن يكون نائبًا عنه، أو هو في عياله. فإن كان نائبًا عنه، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك الإذن لازم له، ولا رجوع له عنه، وهو قوله في "المدونة"، وهو المشهور. والثاني: أنه لا يلزمه، وأن له الرجوع فيه، وهو قول عبد الملك في "المجموعة" في مريض باع عبدًا بأقل من قيمته بأمر بين أنه لا إجازة لورثته في ذلك قبل الموت، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة. ووجه القول الأول أنها حال يتعلق فيها للوارث بالمال حق، فوجب أن يعتبر إذنه؛ قياسًا على ما بعد الموت؛ لأن المريض محجور عليه في التصرف في الزائد على الثلث لحقهم. ووجه القول الثاني: أنها حال لا يجوز للوارث فيها التصرف في هذا المال؛ فأشبه حال الصحة؛ إذ لا يعلم لعل غيره هو الوارث له. فإن كان هذا الوارث المجيز باق في عيال الموصي، ومن جملة من يُمَوّنه، فلا يخلو من أن يكون محجورًا عليه، أو غير محجور. فإن كان محجورًا عليه كالبكر، والسفيه البالغ، فلا خلاف في المذهب، أن إذنهم غير معتبر وأنه غير لازم لهم.

فإن كان بالغًا رشيدًا، فهل له الرجوع فيما أذن فيه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن لهم الرجوع في ذلك، وأن إذنهم غير لازم لهم، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وغيرها. ووجهه أنه يخاف على نفسه إن لم يجوز [له] (¬1) ذلك إذا صح من مرضه أن يقطع عنه رفده ورفقه الذي يناله منه. والثاني: التفصيل بين من يخدع في عقله، ومن تغلب عليه الهيبة منه، فله الرجوع، ومن لا يُخْدَع، ولا تُدركه الهيبة منه، ولا يخاف فليس له الرجوع، وهو قول أشهب في "الموازية". وقال: ورب زوجة لا تهابه، ولا تخاف منه، فهذه لا ترجع، وكذلك الابن الكبير، وهو في عيال أبيه، فلا رجوع له إذا كان مما لا يُخدع. وهذا كله إذا كانت الإجازة بسؤال. فإن كانت بغير سؤال من الموصي، هل يكون الرجوع في الإذن لمن له العذر كما كان له إذا كان الإذن بسؤال أم لا؟ على قولين متأولين على الكتاب: أحدهما: أن جوازه على السواء؛ لأنهم يقولون: بادرنا بالإجازة لتطيب نفسه، وخشينا منه إن لم نبادر. وهو تأويل بعض الصقليين. والثاني: أن الإجازة متى كانت بغير سؤال لم يكن لمن أجاز رجوعًا -كان في عياله أو لم يكن- وهذا تأويل بعض القرويين، وإليه ذهب التونسي وغيره. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وأما الوجه الثالث: إذا كان الجواز بعد الموت، فلا خلاف في نفوذه وإمضائه؛ لأنه حال واجب لهم المال فيها بلا خلاف إذا كان ممن يجوز أمره، ويحكم عليه بإمضاء تصرفه. تم [كتاب الوصايا الثاني] (¬1) بحمد الله وعونه. ¬

_ (¬1) في أ: الكتاب.

كتاب القطع في السرقة

كتاب القطع في السرقة

كتاب القطع في السرقة تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ست مسائل: المسألة الأولى في الشروط المعتبرة في وجوب القطع في السرقة وجملتها تسعة شروط: البلوغ، والعقل، وألا يكون للسارق [في المسروق] (¬1) شبهة ملك، وألا يكون سارق مضطرًا إلى السرقة لمجاعة لحقته، وأن يكون الشيء المسروق مما يصح تملكه وتموله، وأن يخرجه من حرز مثله [وأن يكون نصابًا يوم السرقة] (¬2)، وأن يكون من الأموال التي يجب فيها القطع، وأن يكون على وجه الاستسرار والاختفاء. وهذه الشروط منها ما هو متفق في اعتباره، ومنها ما هو مختلف فيه. وقولنا: البلوغ؛ احترازًا من غير البالغ؛ لأن غير البالغ غير مكلف بحدود الشريعة، والقطع من جملتها، وإنما يخاطب برد ما أخذ مع قيامه، أو قيمته، أو مثله مع فواته. وقولنا: العقل؛ احترازًا من المجنون، والمغمى عليه، فإنه ليس بأهلية التكليف؛ إذ العقل مغرزها، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث" (¬3)، فذكر المجنون حتى يفيق، ومعناه: رفع المأثم. وقولنا: وألا يكون للسارق في الشيء المسروق شبهة ملك؛ احترازًا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه أبو داود (4398)، والنسائي (3432)، وابن ماجة (2041)، وأحمد (24738) من حديث عائشة، وصححه الشيخ الألباني.

ممن سرق من الغنيمة قبل أن تقسم وله [فيها] (¬1) نصيب، وقد اختلف المذهب عندنا في ذلك، هل يقطع السارق منها أم لا؟ على قولين منصوصين في "الكتاب". أحدهما: أنه لا يقطع حتى يسرق ما فوق حقه بثلاثة دراهم، وهو قول غيره. [والثاني: أنه يقطع جملة بلا تفصيل] (¬2) وهو قول ابن القاسم. وعلى القول باعتبار ما فوق حقه، هل أراد بذلك حقه من جميع الغنيمة، أو من الشيء المسروق؟ قولان. وسبب الخلاف: اختلافهم في الغنيمة بماذا تملك، هل بالإيجاف أو بالقسم؟ على ما أتقناه في "كتاب الجهاد". وقولنا: وألا يكون السارق مضطرًا إلى السرقة لمجاعة لحقته؛ فإنه إن لحقته المجاعة جاز له أن يمد يده في مال الغير، ويأكله ولا ضمان عليه في ذلك؛ لأن إحياء النفوس واجب؛ إذ لو كان رب المال حاضرًا لوجب [عليه] (¬3) أن يعطيه من ماله ذلك [ما] (¬4) يقوي به نفسه ويحييها من الهلاك؛ ولهذا لا قطع عليه إذا تحقق ذلك السبب. وقولنا: وأن يكون الشيء المسروق مما يصح تملكه وتموله؛ احترازًا مما لا يتمول، ولا يدخل تحت الملك بوجه كالحر. وقد اختلف المذهب عندنا، فيمن سرق صبيًا صغيرًا حرًا، هل يقطع ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

أو لا يقطع [على قولين] (¬1): أحدهما: أنه يقطع، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه لا يقطع، وهو قول عبد الملك، وهو الصحيح. وقولنا: أن نخرجه من حرز مثله؛ احترازًا ممن سرق من غير حرز. ولا خلاف في المذهب عندنا أن الحرز معتبر في السرقة، وأنه إن سرق من غير حرز، فلا يقطع؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع من ثمر معلق، ولا في حريسة جبل". فإذا آواها المراح أو الجرين، فالقطع فيما بلغ قيمته ربع دينار. فإذا ثبت ذلك فحرز كل شيء على حسبه، وليس من شرطه الأبواب والأغلاق؛ بل يسمى حرزًا، وإن كان في الفضاء إذا كان منزلًا نزله أو موضعًا عَيَّنَه لوضع متاعه أو لِرَبْط دابته في السوق أو غيره، وكذلك ما كان على ظهور الدواب أو ما نشر على البيوت أو على الجدران، فإن ذلك كله حرز، ومن سرق منه قطع -كان معه مالكه أو لم يكن- ما لم يكن الجدار مما يوالي الطريق. وقولنا: وأن يكون الشيء المسروق نصابًا يوم السرقة؛ احترازًا من أن يسرق نصابًا يوم السرقة؛ احترازًا من أن يسرق دون النصاب. ولا خلاف عندنا في المذهب أن النصاب معتبر فيما يجب فيه القطع في السرقة، وحده ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الورق، أو ما يساويهما من سائر الأموال؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "القطع في ربع دينار فصاعدًا" (¬2) [وقالت عائشة رضي الله عنها: ما طال عليّ ولا نسيت القطع في ربع ¬

_ (¬1) في أ: قولان. (¬2) أخرجه أبو داود (4384)، وصححه الألباني -رحمه الله تعالى-.

دينار (¬1)] (¬2) وقطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجن قيمته ثلاثة دراهم. فإذا ثبت ذلك فلا يخلو الشيء المسروق من أن يكون مسكوكًا، أو متبورًا، أو مصوغًا [أو عروضًا] (¬3). فإن كان المسروق عينًا أو متبورًا، فلا خلاف في اعتبار وزنهما. فإن كان المسروق مصوغًا، فلا خلاف في اعتبار وزنه أيضًا، وهل تعتبر قيمة ما فيه من الصياغة أم لا؟ قال بعض المتأخرين: وقد كان يجب أن تقوم؛ لأن الصياغة سلعة يتفاوت الثمن بتفاوتها. والذي قاله ظاهر، وهو قوله في "الكتاب" فيمن استهلك لرجل حليًا مصوغًا أن عليه قيمته. فإذا قلنا باعتبار قيمته، فإن كانت قيمته ثلاثة دراهم، فإنه يقطع، وإن كان وزنه أقل من ربع دينار. فإن كان المسروق عروضًا فلا خلاف في اعتبار القيمة فيها. واختلف بماذا تقوم هل بالدراهم أو بالذهب على ثلاثة أقوال كلها متأولة على "المدونة". أحدها: أن التقويم بالدراهم؛ فإن كانت قيمته ثلاثة دراهم قطع، وإن كان وزنه أقل من ربع دينار من الذهب، وإن [كانت قيمته] (¬4) أقل من ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (4927)، ومالك (1520)، وابن حبان (4462) من حديث عائشة، وصححه الألباني -رحمه الله-. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: من سائرها. (¬4) في أ: كان يساوي.

ثلاثة دراهم، فلا قطع فيه، وإن كان يساوي أكثر من ربع دينار، وسواء كانت المعاملة في البلد بالدراهم أو بالدنانير، وهو ظاهر قوله في "الكتاب" حيث قال: وإنما تقوم الأشياء كلها بالدراهم، وهو نص قوله في كتاب محمَّد. والثاني: أن التقويم بالذهب على كل حال في كل شيء من الفضة والعروض، وأن الثلاثة دراهم إذا كانت أقل من ربع دينار لارتفاع الصرف، فلا قطع فيها من غير التفات إلى معاملة أهل البلد، وهو قول ابن عبد الحكم، وهو ظاهر قول "المدونة" من قوله في مسألة الرهن: إن كانت قيمته إذا سالت ربع دينار، وقوله في الشاة أيضًا: إن كانت قيمتها يوم خرج بها ربع دينار قطع، فقد قوم هنا، وهو مذهب الشافعي. والثالث: أن التقويم إنما يكون بمعاملة أهل البلد من دنانير أو دراهم، وأن معنى قوله في "الكتاب": "تقوم بالدراهم" أن معاملتهم بها، هو تأويل بعض المغاربة، والبغداديين من أصحابنا. فإذا ثبت أن النصاب من الذهب ربع دينار، ومن الورق ثلاثة دراهم على مشهور المذهب إن كان نصاب كل واحد منهما معتبر في نفسه، فمن شرطه أن يكون صافيًا لم يخالطه نحاس ولا غيره، فإن خالطها نحاس أو كانت ناقصة الوزن، فإن كان نقصًا كثيرًا اتفقت عليه الموازين لا يجري جريان الوازنة [أو كان ما فيها من النحاس بهذه الشائبة، فلا قطع فيه قولًا واحدًا، وإن كان نقصًا يسيرًا مثل ثلاث حبات أو حبتين، وهي تجري جريان الوازنة] (¬1)، أما الحبة والحبتان فلا يمنع إلا القطع لقلة ذلك وخفته، وأما الثلاث حبات أو خروبة، وهي مع ذلك تجوز فلا قطع فيها، وهو قوله في "كتاب محمَّد" في الثلاث حبات من كل درهم، وهو قول أصبغ ¬

_ (¬1) سقط من أ.

في الحبتين من كل درهم. وقولنا: أن تكون من الأموال التي [يجب فيها القطع احترازًا مما لا يجب فيها القطع من الأموال التي] (¬1) تقتنى كجلد الميتة غير مدبوغ، أو كلب الصيد، أو ما كان في معناهما ما يجوز تملكه، ولا يجوز بيعه على الخلاف في ذلك في المذهب بين ابن القاسم وأشهب. وقولنا: أن يأخذه على وجه الاستسرار والاختفاء؛ احترازًا من المنتهب الذي ينتهب، ويختلس جهرة، فإنه لا قطع عليه باتفاق المذهب؛ لأنه ليس بسارق، والقطع إنما وجب على السارق؛ لأن السرقة أخذ الشيء على وجه الخفية. فهذه جملة الشروط المعتبرة في السرقة، وتجمعها عبارة شيقة وجيزة، وهي أن تقول: كل ما يباع، ويبتاع، وتمد إليه يد الأطماع، ويقع به في مستقر العادة الانتفاع، فإن القطع يتعلق به الإجماع -أعني: إجماع المذهب-. ولا يرتاب سليم الاعتقاد إذا نظر فيها بعين الانتقاد في صحة هذا العبارة وحصرها لما يجب فيه القطع [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب.

المسألة الثانية في السارق إذا أخذ، ومعه متاع فقال صاحب المتاع: أرسلني إليه

المسألة الثانية في السارق إذا أخذ، ومعه متاع فقال صاحب المتاع: أرسلني إليه وقد وقع في هذه المسألة سؤالان: أحدهما: قول ابن القاسم أولًا: وقد أخبرني أوثق أصحابي عندي أن مالكًا سئل عن رجل [كان] (¬1) يسكن الشام، وله مال بمصر، فقامت عليه البينة أن السارق أخذ المتاع سرًا، فقال السارق: صاحب المتاع أرسلني، فقال مالك: أرى أن تقطع يده، فقيل لمالك: فإن سئل صاحب المتاع، فقال: أنا أرسلته، فقال: لا ينظر في قول صاحب المتاع، وتقطع يده. والسؤال الثاني: قوله: ولقد سألنا مالكًا عن الرجل يلقى في جوف الليل، ومعه متاع، فيؤخذ فيقول: فلان أرسلني إلى منزله، فأخذت له هذا المتاع، قال مالك: أرى أن ينظر في ذلك؛ فإن كان الرجل [الذي] (¬2) معه المتاع يعرف له انقطاع إلى رب المتاع، ويشبه ما قال لم يقطع، فإن لم يعرف منه ما ذكرت لك، قال مالك: رأيت أن تقطع يده ولا يقبل قوله. فهذا نص السؤالين في "الكتاب". فقال في أحد السؤالين أنه يقطع، وقال في الآخر: لا يقطع. واختلف المتأخرون في ذلك؛ فمنهم من جعله اختلاف قول؛ لأن الذي أخذ المتاع مدعٍ في الوجهين، وكونه له إلى صاحب المتاع انقطاع في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

السؤال الثاني كتصديقه إياه في السؤال الأول. ومنهم من قال: إن ذلك اختلاف السؤال؛ لأنه قال في السؤال الأول: وقد قامت عليه بينة بالسرقة، فلم يلتفت إلى تصديق رب المتاع، وفي السؤال الثاني لم تشهد عليه البينة بالسرقة، ولا اعترف بها؛ [فركب] (¬1) على كل سؤال مقتضاه. ومنهم من قال: إن ذلك اختلاف حال؛ وذلك أن الأول قد ثبتت [عليه السرقة] (¬2) ببينة، فصار الحد قد وجب عليه، فلا يسقط بدعوى رب المتاع أنه أرسله كما لا يسقط الحد لو قال المسروق منه أن المتاع متاعه على أحد القولين. وظاهر المدونة إذا اعترف المسروق [منه] (¬3) أن المتاع متاعه أنه لا يقطع من قوله في السارق إذا دعى أن المتاع متاعه، وأنكر المسروق منه حيث قال: المسروق منه يحلف أن المتاع متاعه ليس للسارق وتقطع يده، وظاهره أنه لو اعترف له ابتداء لما قطع. ويؤخذ من الكتاب أيضًا [من موضع آخر] (¬4) لا [يدفع] (¬5) عنه اعترافه بالملك للسارق قطعًا. وهو قوله: إذا قال المسروق منه: لم يسرق مني شيئًا، وقد شهد الشهود عليه بالسرقة أنه يقطع، ولا يلتفت إلى قوله: لم يسرق مني شيئًا. فإذا كان لا يقبل قوله في ذلك، فكذلك إذا اعترف أن الشيء الذي ¬

_ (¬1) في أ: فركبت. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: يرفع.

سرق هو له، وهو نص قول مالك في آخر "الكتاب" إذا اعترف أنه سرق من فلان، فقال فلان: ما سرق مني شيء؛ بل المتاع متاعه، أو قال: إنه كان قد استودعنيه، فقال مالك: يقطع، ولا يلتفت إلى قول هذا. والقولان قائمان من "المدونة"، ولم يذكر في السؤال الثاني أن له إليه انقطاع، فلو كان له انقطاع ودخل من مدخله غير مستسر، وأتى في وقت يجوز أن يرسله فيه لما قطع، وإلى هذا [ذهب] (¬1) ابن حبيب. وأما إن أخذ المتاع مستسرًا، ودخل من غير مدخل أو دخل في حين لا يعرف فليقطع، ولا ينفعه انقطاعه. وأما إن لم يعرف منه انقطاعه، فإنه يقطع في الوجهين جميعًا إلا أن يصدقه رب المتاع، فلا يقطع إذا دخل في حين يعرف غير مستسر. أما إن كان مستسرًا أو في حين لا يعرف، فإنه يقطع، وإن صدقه رب المتاع. وهذا كله قول أصبغ في "الواضحة". والذي قاله صحيح موافق لقول ابن القاسم، وتأويل بعض الشيوخ؛ لأنه رأى أن تصديقه له إذا أخذه من مأخذه، ولم يأخذه مستسرًا هو الذي يصرف عنه القطع. وأما الذي [لقى] (¬2) في جوف الليل [فقال: إن فلانًا بعثني] (¬3) وله إليه انقطاع فلا يقطع؛ لأنه لم يقر بسرقة ولا شهد عليه بها، وقد أتى بما يشبه. ¬

_ (¬1) في أ: أشار. (¬2) في ب: وجد. (¬3) سقط من أ.

وإن لم يكن له إليه انقطاع، فعلى قول أشهب لا يقطع؛ لأنه لم يقر بسرقة، وإنما قال: صاحب المتاع أرسلني، والبينة لم تعلم بسرقته؛ فكان كقوله: تزوجت هذه المرأة ووطئتها، ولم يثبت نكاحه؛ فعنده أنه مقر بوطء حلال، فأشبه الراجع عن الزنا إذا أقر به، وعلى مذهب ابن القاسم يحد؛ لأنه متماد على الإقرار بالوطء، ولم يرجع عنه ومدعٍ تزويجًا لم يثبت له فكذلك يقر بأنه أخذ من حرز، وإن أخذه مأذونًا له فيه، فلا يصدق ويقطع إلا أن يكون له إليه انقطاع [لبطلان فحواه، والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الثالثة في التعاون على السرقة

المسألة الثالثة في التعاون على السرقة وإذا تعاون جماعة على سرقة، فلا يخلو حالهم من وجهين: أحدهما: أن يدخلوا جميعًا في الحرز حتى أخرجوا منه السرقة. والثاني: أن يكون بعضهم داخل الحرز، وبعضهم خارجه. فإن دخلوا جميعًا في الحرز؛ وتعاونوا على إخراجها، فلا يخلو من أن تكون السرقة مما يستبد بها الواحد لخفتها، أو تكون مما لا يستبد بها الواحد لثقلها. فإن كانت مما يستبد بحملها الواحد لخفتها فحملها واحد وخرج، فلا خلاف أنه لا يقطع إلا الخارج بها خاصة. فإن خرجوا بها جميعًا، ويد كل واحد منهم على بعضها؛ فلا قطع على واحد منهم حتى تكون قيمتها تسعة دراهم، وهم ثلاثة فيقطعوا ثلاثتهم. وقيل: إنهم يقطعون جميعًا كما لو سرقوا ما لم يستقل الواحد بحمله، وهذا القول حكاه ابن الحلاب عن بعض الأصحاب. فإن كان السرقة مما لا يستبد بها واحد، وهي مما يحتاجون إلى التعاون عليها لثقلها؛ فرفعوها جميعًا أو رفعوها على واحد منهم، وقيمتها ثلاثة دراهم، فهل يقطعون جميعًا، أو لا يقطع إلا الخارج بها؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهم يقطعون، وهي الرواية عن مالك، ونص قوله

في "المدونة". والثاني: [أنه] (¬1) لا قطع على واحد منهم إلا الذي انفرد بإخراجها إن رفعوها عليه في الحرز، ولم يمسكوها عليه بعد ذلك، وهذا القول مخرج غير منصوص عليه. وينبني الخلاف: على الخلاف في قيمة السرقة إذا وجبت هل يؤخذ كل واحد من سراقها بقيمتها على الكمال إذا وجد منفردًا، ثم يكون هو الراجع على أصحابه قياسًا على قتل العمد إذا تعاون جماعة على [قتل] (¬2) واحد أن كل واحد منهم يقتل، وهو قول ابن القاسم؛ لأن السرقة لما لم يتمكن لواحد إخراجها إلا بتعاون أصحابه، وتظاهرهم صار كل واحد كأنه أخرجها بكليتها؛ إذ لولاه لما أخرجها من سواه، فيعد كأنه أخرج نصابًا كاملًا. ومن رأى أنه لا يؤخذ من وجد منفردًا إلا بقدر ما ينوبه من قيمتها في جملة أصحابه، قال: لا قطع على واحد منهم. فإن كان بعضهم داخل الحرز، وبعضهم خارجه، فتعاونوا على إخراج السرقة من حرزها، وقد قربها الداخل إلى باب الحرز، ثم مد الخارج يده، فأخذها أو أخرجها من هو داخل الحرز من الحرز حتى صارت خارجًا، فرفعها الخارج أو التقت أيدي المتناولين في باب الحرز، أو في النقب إن كانوا نقبوا البيت، فأخذها الخارج ويد الداخل مصاحبة للمتاع حتى قبضه الخارج أو ربطه الداخل بحبل، فخرجه الخارج حتى أخرجه من الحرز، هل يقطعان جميعًا أو لا يقطع إلا الخارج بها خاصة؟ فالمذهب على خمسة أقوال كلها قائمة من "المدونة": ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

أحدها: أنهما يقطعان جميعًا، وهو أحد قولي مالك في الذي ربط المتاع وجره غيره، وفي اللذين التقت أيديهما في المناولة في الثقب، فيقطعان جميعًا في هذه الأسئلة كلها، وهو قوله في "كتاب محمَّد"؛ لأن الخارج لا يصل [إليه] (¬1) إلا بمناولة الداخل له، فصار كالمتعاونين على إخراجه كما إذا حملوه من الحرز على أحدهم. والثاني: أنه لا يقطع إلا الذي أخرجه من الحرز خاصة كان الذي هو داخل الحرز، أو الذي هو خارجه، وهو نص قول مالك في الكتاب، وعلى هذا قال مالك في اللذين التقت أيديهما في النقب أنهما يقطعان جميعًا لتساويهما في إخراجها من الحرز، وكل واحد منهما له تأثير في إخراجها، ولم يختص بها واحد دون الآخر. والثالث: أنه لا قطع على واحد منهما، وهو ظاهر توقف مالك في الذي أخذ في الحرز بعد أن ألقى المتاع خارجًا؛ لأن الداخل لم يخرجه من الحرز، والخارج لم يدخل في الحرز. والرابع: أنه لا يقطع الخارج المتناول للسرقة. والخامس: أنه يقطع الذي قربه إلى باب الحرز خاصة. وهذا الخلاف حكاه القاضي الحفيد ابن رشد. والأقوال كلها ظاهرة في "المدونة". وأما الذي أخذ في الحرز بعد أن ألقى المتاع خارجًا، فقد شك فيه مالك بعد أن قال: يقطع، وبه أخذ ابن القاسم، وموجب اختلاف قول مالك فيه، هل النظر إلى خروج المتاع من حرزه بسببه أم النظر إلى إخراجه هو به؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ونظير هذا إذا أخرج السرقة من حرزها بواسطة السبب من غير أن يدخل هو داخل الحرز، مثل أن يدخل قصبة، فأخرج بها المتاع، أو كانت شاة، فحرك لها العلق حتى خرجت، أو كان بازًا معلمًا فصفر له حتى خرج. وينبغي أن يدخل الخلاف في هذه الأسئلة كلها؛ لأن السرقة أخرجت من الحرز بسببه فكونه خارج الحرز غير داخل فيه كقبض أهل الدار إياه داخل الحرز، وقد رمى المتاع خارجًا فتدبر ذلك تجده صحيحًا. وقد نص مالك رحمه الله في "الكتاب" على الذي أخرجها بقبضه أنه يقطع، وما أفسد السابق في الحرز ثم أخرجه أو استهلكه في الحرز ثم خرج؛ فإن ساوى ما أخرجه من الحرز بعد فساده ربع دينار قطع، وإلا فلا، وإن استهلكه ثم خرج فلا يقطع، ويغرم قيمته أو مثله فيما له مثل. وسرقة الواحد من جماعة إنما يصير فيها النصاب على الجملة، ولا ينظر إلى حد كل واحد منهم إن كان فيه نصابًا أم لا، بخلاف سرقة الجماعة من واحد على ما فصلناه وحصلناه، والحمد لله وحده.

المسألة الرابعة في السرقة من الدار المشتركة أو المأذون فيها

المسألة الرابعة في السرقة من الدار المشتركة أو المأذون فيها وتحصيل القول في ذلك أن الدار تنقسم في السرقة منها على ستة أقسام: دار حجزها ساكنها، ومالكها عن الناس. ودار أذن فيها ساكنها، ومالكها لخاصٍ من الناس. ودار ينفرد الرجل بسكناها مع زوجته عن الناس. ودار أذن فيها ساكنها ومالكها [إذنًا عامًا] (¬1) لجميع الناس. ودار مشتركة بين ساكنيها مباحة لجميع الناس. ودار مشتركة بين ساكنيها محجورة عن سائر الناس. فأما الدار التي حجزها ساكنها ومالكها عن جميع الناس، فالقطع على من سرق منها ما يجب فيه القطع إذا خرج به من الدار. وإن سرق من بعض بيوتها، وأخذ ما في الدار قبل أن يخرج منها لم يقطع، ولا خلاف في ذلك. وأما الدار التي أذن فيها ساكنها، أو مالكها لخاص من الناس كالرجل يُضيف الضَّيْف، فيدخله داره أو يبعث الرجل رجلًا إلى داره ليأتيه من بعض بيوتها بمتاعه، أو ما أشبه ذلك، فيسرق بعض متاعه: فلا يخلو من أن يسرق من البيت الذي أذن له في دخوله أو سرق من بيت مغلق غير مأذون له فيه. ¬

_ (¬1) في أ: عن.

فإن سرق من بيت أذن له في دخوله، فلا خلاف أنه لا يقطع. وإن سرق من بيت مغلق قد حجر عليه دخوله، هل يقطع أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنه لا يقطع، وإن خرج بما سرق من جميع الدار؛ لأنه خائن، وليس بسارق، وهو قول مالك في "المدونة"، و"كتاب ابن المواز". والثاني: أنه لا يقطع حتى يخرج به من جميع الدار، وهو تأويل الشيخ أبي محمَّد عبد الحق على "المدونة"، وحكى أنه قول مالك في "كتاب ابن المواز". والثالث: أنه يقطع، وإن لم يخرج به من جميع الدار إذا خرج به إلى الموضع الذي أذن له بدخوله؛ كالشراء في ساحة الدَّار، وهو قول سحنون، وهو ظاهر قول مالك في "الكتاب" في الزوجة إذا سرقت من بيت حجرها عليها الزوج حيث قال: تقطع كالدار المشتركة بين ساكنيها المباحة لسائر الناس كالفنادق. وأما التي ينفرد الرجل بسكناها مع زوجته عن الناس، فإن سرق منها أجنبي، وأخذ في ساحتها لم يقطع، وإن أخذ بعد أن خرج من جميعها قطع. وإن سرق أحد الزوجين من بيت قد حجره عليه صاحبه، وأغلقه دونه، أو سرق عبد أحدهما من ذلك، هل يقطع أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقطع من سرق منهم، وخرج بما سرق من البيت الذي حجر عليه، وأغلق دونه، وإن لم يخرج به من جميع الدار، وهو ظاهر

ما في "المدونة". ونص قول سحنون؛ قياسًا على المتحاجرين بالسكنى في الدار الواحدة. والثاني: أنه لا يقطع، وإن خرج به من جميع الدار، وهو قول مالك في الضيف يسرق، وهو نص قوله في "كتاب ابن المواز". والثالث: أنه لا يقطع حتى يخرج به من جميع الدار، وهو الذي حكاه أبو محمَّد عبد الحق أنه لمالك في كتاب ابن المواز"، وهو ظاهر "المدونة" أيضًا؛ لأن بقية الدار من تمام الحرز. وأما الدار التي أذن فيها ساكنها أو مالكها إذنًا عامًا للناس كالعالم أو الطبيب يأذن للناس في دخولهم إليه في داره، أو كالرجل يحجر نفسه في ناحية من داره، ويترك بابها مفتوحًا يدخل منه بغير إذنه: فهذا يجب القطع على من سرق من بيوتها المحجورة إذا خرج بسرقته عن جميع الدَّار، ولا يجب القطع على من سرق من قاعة الدَّار؛ لأن بقيّة الدَّار من تمام الحجر؛ ففارقت المحجة في أنها لا تدخل إلا بإباحة صاحبها، وإنما لم يسقط عنه القطع إذا خرج من جميع الدار، كما يسقط عن الضيف على مذهب ابن القاسم؛ لأن الضيف خصه بالإذن، فصار مؤتمنًا، وكان له فيما أخذ -على مذهبه- حكم الخائن لا حكم السارق. وأما الدار المشتركة بين ساكنيها المباحة لسائر الناس كالفنادق التي يسكن كل واحد بيته على حدة، وقاعتها مباحة للبيع والشراء فيها، فحكم قاعتها حكم المحجة؛ فمن سرق من بيوتها شيئًا -كان من الساكنين فيها أو من غيرهم- وأخذ في قاعة الدار، فقد وجب عليه القطع، ولا خلاف في هذا أيضًا. وأمَّا الدار المشتركة بين ساكنيها المحجورة عن سائر الناس، فلا خلاف

أن السكان تقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذوا، وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار، وإن لم يخرج بها عن الدار، ولا أدخلها بيته، ولا خلاف في أنه لا قطع على من سرق منهم من قاعة الدَّار شيئًا، وإن أدخله بيته، وخرج به عن الدَّار إلا أن يكون الذي سرق من قاعتها دابة من مربطها المعروف، وما أشبه ذلك من المتاع الثقيل الذي يجعل بعضه [على بعض] (¬1)، فيكون ذلك الموضع حرزًا له كمربط الدابة؛ فيكون حكم من سرق شيئًا من ذلك منهم حكم من سرق من بيت من البيوت. وإن سرق أحد الزوجين من مال صاحبه من بيت من هذه البيوت، وقد حجره عليه وأغلقه دونه، فعليه القطع قولًا واحدًا أيضًا. واختلف إن سرق أجنبي من بيت من بيوت الدار، وأخذ من قاعتها قبل أن يخرج به من الدار، أو سرق من القاعة ما نشر فيها من ثوب أو غيره أوتى فيه، هل يقطع أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال كلها متأولة على المدونة: أحدها: أنه يقطع في الوجهين جميعًا، وهو نص ابن المواز في كتابه، وهو تأويل بعض الأندلسيين على المدونة. والثاني: أنه لا يقطع في الوجهين جميعًا إذا سرق من البيوت، وأخذ في القاعة، أو سرق من القاعة، فأخذ خارجها، وهو متأول أيضًا على المدونة. والثالث: أنه إن سرق من البيوت، وأخذ في القاعة قطع، وإن سرق من القاعة، وأخذ خارجًا لم يقطع، وهو ظاهر "المدونة"، وهو نص ما في "كتاب محمَّد" في الوجه الأول. والرابع: أنه لا يقطع إذا سرق من البيوت، فأخذ في القاعة، ويقطع ¬

_ (¬1) في أ: فوق بعض.

إن سرق من القاعة، وأخذ خارجًا، وهذا القول متأول على "المدونة" أيضًا. ووجه القول الأول: أن القاعة حرز بالإضافة إلى الأجنبي، وغير حرز بالإضافة إلى الساكن؛ فإذا سرق من البيوت، وأخذ في القاعة فيقطع؛ لأنه قد صيره إلى غير حرز بالإضافة إلى الأجنبي على الجملة، وبهذا عَلَّل ابن المواز. وإن سرق من القاعة، وأخذ خارجًا قطع؛ لأنه سرق من الحرز بالإضافة إليه، فأمر بقطعه في الوجه الأول. وإن أخذ في الموضع الذي إن سرق منه قطع؛ لأنه أباحه لأهل الدار وصيره إلى موضع لا قطع على من سرق منه منهم. ووجه قول من قال: إنه لا يقطع في الوجهين جميعًا؛ لأنه إذا سرق من البيوت، وأخذ في القاعة لم يقطع؛ لأن القاعة حرز بالإضافة إليه، وإن سرق من القاعة، وأخذ خارجًا فلا يقطع؛ لأنه سرق من غير حرز بالإضافة إلى السكان. وهذا على عكس الأول. ووجه القول الثالث: أنه يقطع في الوجه الأول، ولا يقطع في الثاني؛ لأنه قد صيره إلى غير حرز ثم إن سرق من ذلك الموضع لم يقطع؛ لأنه موضع يقطع فيه إذا أخذ المتاع من البيت، وأخذ فيه. ووجه القول الرابع: لا يقطع في الأول، ويقطع في الثاني؛ لأنه إذا سرق من البيوت، وأخذ في القاعة فقد أخذ في الحرز، والسارق إذا أخذ في الحرز، فلا قطع عليه، وإن سرق من القاعة، وأخذ خارجًا قطع؛ لأنه أخرجه عن جملة الحرز بالاتفاق. والقياس إذا قطع في الوجه الثاني ألا يقطع في الوجه الأول؛ وعلى

هذا حمل أبو محمَّد عبد الحق ما في "المدونة"، وإذا قطع في الوجه الأول ألا يقطع في الوجه الثاني؛ وعلى هذا حمل أبو إسحاق التونسي ما في "كتاب ابن المواز"، فتدبر هذا التخريج يتبين لك معناها، والحمد لله وحده.

المسألة الخامسة في معرفة ما يجب به القطع

المسألة الخامسة في معرفة ما يجب به القطع ولا يجب القطع إلا ببينة أو اعتراف. فأما البينة فشاهدا عدل، ولا يقطع بشاهد ويمين، ولا بشاهد وامرأتين. وأما الاعتراف، فإنه ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يأتي مستهلًا على نفسه بالسرقة من غير أن يؤخذ ويتهم به. والثاني: أن يقر على نفسه بها بعد أن يتهم، فيؤخذ دون خوف ولا تهديد، ولا وعيد. والثالث: أن يقر على نفسه بها بعد الضرب والتهديد والوعيد. فأما الوجه الأول: إذا استهل بذلك على نفسه من قبل أن يؤخذ، فإنه يقطع من غير تعيين قولًا واحدًا، وله أن يرجع عن إقراره إذا كان لرجوعه وجه يذكره. واختلف إذا جحد الإقرار أصلًا، ولم يأت لرجوعه بوجه يقبل، هل يقال أو لا يقال؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يقال، وهو قوله في "الكتاب" إذا جحد الإقرار أصلًا، وهو قوله في آخر "الكتاب" إذا أقر بغير محنة ثم جحد، فقال مالك: يقال.

والثاني: أنه لا يقال. وهو ظاهر قوله في "الكتاب" إذا أتى بأمر يعذر به [يقول أقررت لأجل كذا وكذا -فيقال. وظاهره أنه إذا لم يأت بأمر يعذر به] ألا يقال، وهو المشهور، وهو قوله في "كتاب الرجم". وأما الوجه الثاني: إذا كان إقراره بعد أن يؤخذ دون خوف، ولا تهديد، فلا يخلو من أن يعين السرقة أو لم يعينها. فإن عينها قطع قولًا واحدًا. وإن لم يعينها، هل يقطع بمجرد إقراره أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يقطع، وهو ظاهر قوله في آخر "كتاب السرقة" فيمن أقر أنه سرق ألف درهم بغير محنة، ولا شيء ثم جحد بعد ذلك، فقال: يقال. فظاهره أنه لو تمادى على إقراره لقطع. والثاني: أنه لا يقطع حتى يعين السرقة ويظهرها، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". فعلى القول بأنه يقطع بمجرد إقراره دون تعيين على ظاهر ما في "كتاب السرقة" من "المدونة"، فله أن يرجع عن إقراره، وإن لم يأت بوجه يعين به، وهو ظاهر "المدونة" في آخر "كتاب السرقة". وعلى القول بأنه لا يقطع إلا أن يعينها، فاختلف هل له أن يرجع عن إقراره بعد التعيين أم لا!! على قولين مرويين عن مالك في "العتبية" وغيرها. وهذا الخلاف إنما يجري في الذي قال: إنما أقررت لوجه كذا. وأما إن جحد الإقرار بعد التعيين أصلًا فلا يقال قولًا واحدًا. وأما الوجه الثالث: إذا أقر على نفسه بعد الضرب والتهديد، فلا يقطع

بمجرد الإقرار. فإن عينها هل يقطع أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا يقطع، وهو نص قول مالك في "الكتاب". والثاني: أنه يقطع، وهو ظاهر قوله في آخر "الكتاب" في الذي ادعى على رجل بالسرقة فقال: استحلفه لي حيث قال: فإن كان المُدعى عليه متهمًا بذلك موصوفًا به احتلف وامتُحن وهُدِّد، وإن كان غير ذلك لم يعرض له، وقوله: امتُحن وهُدِّد، فما فائدة الامتحان والتهديد إذا لم يعمل بمقتضاهما. فعلى القول: بأنه يقطع فإنما يقطع ما لم يرجع عن إقراره، فإن رجع عن إقراره أُقِيل بلا خلاف. وعلى القول الثاني بأنه لا يقطع، فإن تمادى على إقراره بعد ذلك، هل يقطع أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يقطع، وهو قوله في "المدونة". والثاني: إنه لا يقطع، وهو قول ابن الماجشون، والحمد لله وحده.

المسألة السادسة في اجتماع القطع مع [قيمة] الشيء المسروق

المسألة السادسة في اجتماع القَطْع مع [قيمة] (¬1) الشيء المسروق ولا يخلو الشيء المسروق من أن يكون مما يجب فيه القطع، أو مما لا يجب فيه القطع لتفاهته. فإن كان مما لا يجب فيه القطع لتفاهته، فالغرم واجب عليه في اليُسر والعُسْر، ولا خلاف في ذلك. فإن كان مما يجب فيه القطع، فلا يخلو من أن يكون الشيء المسروق قائمًا بيد السارق أو فائتًا. فإن كان فائتًا، هل يجب عليه الضمان مع القطع أم لا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: وجوب الضمان على السارق مع القطع بكل حال في العسر، واليسر، وهذا القول حكاه ابن شعبان عن المذهب في "كتاب الزاهي"، وهو مذهب الشافعي، وأبي ثور. والثاني: أنه لا يجب الضمان مع القطع في كل حال من يُسْر أو عُسْر، وهذا القول حكاه القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب عن بعض مشايخ المذهب، قال: وهو القياس، وهو مذهب أبي حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى. والثالث: التفصيل بين اليُسْر والعُسْر؛ فإن كان معسرًا فلا ضمان عليه، وإن كان موسرًا، فإنه يضمن قيمة السرقة مع القطع بشرط اتصال اليسر من يوم السرقة إلى يوم الحكم كما قال أشهب، وإما إلى يوم القطع ¬

_ (¬1) في ب: ثمن.

كما قال ابن القاسم، وهذا مذهب مالك، وأكثر أصحابه. وفائدة الفرق بين يوم الحكم بالقطع كما قال أشهب، وبين يوم القطع على قول ابن القاسم إذا حدث له يسر بعد الحكم، وقبل: القطع أو حدث له عسر؛ فعمدة من جمع بين الأمرين أنه اجتمع في السَّرقة حَقَّان: حق الله، وحق الآدمي، فإن اقتضى كل ذي حق موجبه ومقتضاه. وأيضًا، فإنهم لما أجمعوا على أنه يأخذ عين شيئه إذا وجده بعينه لزم إذا لم يوجد بعينه عنده أن يكون في ضمانه قياسًا على سائر الأموال الواجبة. وعمدة أبي حنيفة، ومن وافقه حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد" (¬1) وهذا الحديث خرَّجه النسائي، وفيه ضعف عند أهل الحديث. قال أبو عمر: لأنه عندهم مقطوع. وأبو حنيفة أيضًا يقول: إن اجتماع حقين في حق واحد مخالف للأصول. ويقولون: إن القطع هو بدل من الغرم؛ ومن هاهنا يرون أنه إذا سرق شيئًا ما يقطع فيه، ثم سرقه ثانية أنه لا يقطع. وأما تفرقة مالك، فاستحسان على غير قياس. وأما الوجه الثاني: إذا كان الشيء المسروق قائمًا، إما بيده، وأما بيد مشتريه منه، فلا يخلو من أن يدخله التغيير أو لا يدخله. فإن لم يتغير، فإنه يأخذه، فإن فات بيد مشتريه منه، فلا يخلو من أن يفوت بسببه أو بسبب سماوي. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (3/ 182)، والبيهقي في الكبرى (17060)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 322)، وضعفه الدارقطني والبيهقي.

فإن فات بسببه، فإنه يغرم قيمته، ويرجع على السارق كثوب لبسه، أو أحرقه، أو طعام أكله. فإن كان تلفه بسبب سماوي، فلا ضمان عليه. وهذا كله قوله في كتاب السرقة. فإن تغير في يد السارق مثل أن يكون ثوبًا، فصبغه أو خشبة فعمل منها بابًا أو حنطة، فطحنها ولتَّهَا سويقًا، أو نقرة فضة فصاغها حُلِيًا أو نحاسًا، فجعله قمقمًا أو ما أشبه ذلك، ولا مال له غير ذلك. أما إذا صبغه أو جعله طهارة لجبته. فإن جعله طهارة لجبته، أو قلانيس، فإن كان له مال كان ضامنًا لثوبه باختيار صاحب الثوب. فإن لم يكن له مال كان صاحبه مخيرًا بين أخذ عين شيئه، ويعتق الجبة، ويأخذه، وإن أدى ذلك إلى فساد الجبة، أو تباع الجبة، ويكون شريكًا في قيمتها بقيمة ثوبه يوم سرقته. فإن كانت قيمة الجبة مثل قيمة الثوب فأقل، كان ذلك لرب الثوب، ولا شيء فيه للسارق ولا عليه في النقص. وأما الثوب إذا صبغه السارق، هل يكون فوتًا أو لا يكون فوتًا؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يكون فوتًا، ولا سبيل لربه إلى أخذه، وإنما له قيمته يوم سرقه إن كان له مال، وإن لم يكن له مال بيع الثوب، ويأخذ قيمة ثمنه من قيمته. والثاني: أنه لا يكون فوتًا، ولربه أخذه، ولا شيء عليه من قيمة الصبغ كالجَصِّ في الدَّار، والخياطة في الثوب.

والثالث: أنه يكون شريكًا بقيمة الصبغ من قيمة الثوب أو بزيادة الصبغ على أحد القولين. وهل يكون الخيار في ذلك لصاحب الثوب بين أن يضمنه قيمة الثوب أو يكون معه شريكًا على القول بالشركة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه مخير. والثاني: أنه لا خيار له عليه، والشركة بينهما حكمية، ولا يجبر واحد منهما على بيع ماله في الثوب لصاحبه. والقولان متأولان على "الكتاب". والأقوال الثلاثة نص عليها أبو إسحاق التونسي، والقولان منهما في "الكتاب" على اختلاف الروايات فيها؛ لأنها وقع في بعضها أن صاحب الثوب مخير إن شاء أعطى السارق قيمة صبغه، ويأخذ ثوبه، وإن أبى بيع الثوب، وأعطى منه قيمته يوم السرقة، وعلى هذه الرواية اختصر أكثر المختصرين، وفي رواية ابن المرابط، وبعض الروايات قال: أرى أن يباع الثوب، ويعطي من قيمته لرب الثوب قيمته، ولم يجعل له الخيار. وفي "كتاب ابن عتاب": إن قال رب الثوب: أنا آخذ ثوبي، وأدفع إليه قيمه صبغه، قال: ليس ذلك له، فيعطي قيمة ثوبه على ما وصفت لك، ولا يكون بالخيار. وأما السويق إذا سرق حنطة، فطحنها سويقًا ولَتَّهُ بسمن، فقد قال في "الكتاب": إذا قال رب الحنطة: أنا آخذ هذا السَّويق بلتاته، فقال: هو ما وصفت لك -يريد في الثوب- يباع السَّويق، ويعطي له حنطة مثل حنطته تشتري له من ثمن السَّويق. وإنما منعه من أخذ السَّويق المطحون من حنطته؛ لأن عين شيئه قد تغير

وحول وسمي باسم آخر؛ فأشبه ما لو فات عينه كما لو سَرَقَ خشبة فعمل منها بابًا، فإنه يأخذ قيمة خشبته، ولا يأخذ ما عمل منها إلا برضا السَّارق. وأما الفضة إذا سرق نقرة فصاغها حليًا أو ضربها دراهم ثم أخذ ولا مال له غيرها، فقطع فقال ابن القاسم في "الكتاب": لا شيء له إلا وزن فضته؛ لأني إن أجزت له أخذ ما صيغ منها بلا شيء كنت قد ظلمت السارق في عمله، وإن قلت للمسروق [منه] (¬1) أعطه عمله كانت فضة بفضة، وزيادة، فهذا ربا. وما قاله صحيح لازم؛ لأن استفصال أجرة العمل زيادة في أخذ الفضتين، وذلك عندنا ممنوع [إلا] (¬2) في وجه واحد؛ فإن المذهب اختلف فيه إذا جاء تاجر إلى أهل دار الضرب بفضة، وراطلهم بها بمسكوك يزيد لهم عمل أيديهم، وقد بينا ذلك في "كتاب الصرف". وأما النحاس فقد أجاب فيه بالكتاب بمثل جوابه في الفضة، وذلك غير مستقيم؛ إذ لا ربا في ذلك، والتفاضل في النحاس إذا تبين التفاضل، ولا أدري لأي معنى منع المسروق منه أن يدفع عمل اليد، ويأخذ متاعه اللهم إلا أن يرى أن ذلك بغير عين شيئه حتى يكتسب اسمًا آخر، فوجب أن يأخذ مثل شيئه؛ لأنه من ذوات المثل. تم كتاب القطع في السرقة، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: له. (¬2) سقط من أ.

كتاب المحاربين

كتاب المحاربين

كتاب المُحَارِبين تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها مسألة واحدة في حَدِّ الحرابة، وتفصيل أحكام المحاربين. فَحَدُّ الحِرَابة إشهار السِّلاح، وقطع السُّبل خارج المِصْر. واختلفوا فيمن حارب المصر، هل يعطى له حكم المحارب أم لا؟ على مذهبين: أحدهما: أن له حكم المحارب كمن حارب خارج المصر، وهو مذهب مالك. والثاني: أنه لا يكون محاربًا حتى يكون خارج المصر، وهو الذي يقتضيه مذهب الشافعي؛ لأنه اشترط في الحِرَابة الشركة؛ ومعناها عنده قوة المغالبة؛ ولذلك اشترط البُعد عن العمران؛ [لأن المغالبة إنما تتأتى بالبعد عن العمران] (¬1) فإذا ثبت ذلك، فالحرابة على وجهين: حرابة على الفسق، والخلوع، وحرابة على التأويل. والجواب عن الوجه الأول: في الحِرابة فسقًا وخلوعًا؛ وهو الخارج عاصيًا [للسلطان] (¬2) قاطعًا للطريق مخوفًا للسبيل، فلا يخلو من أن يكون لهم مادة، وقوة، وسطوة، أو لم تكن لهم مادة. فإن كانت لهم مادة، وقوة، وسطوة، وسعوا في الأرض فسادًا بأخذ المال، وسبي الحريم، وهتك الحرمات، فيجب على المسلمين جهادهم، وهو قول مالك في آخر "كتاب المحاربين"، قال: وجهاد المحاربين ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

جهاد. فإن لم يكن لهم مادة، وسطوة، وقوة، وإنما هم نفر نصبوا على الطريق، وأخافوا السبيل، فإذا قدر عليهم الإِمام قبل التوبة، فإنه يستعمل فيهم ما أنزل الله في آيات المحاربين: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (¬1) الآية، فهذه العقوبات التي أمر الله تعالى الإِمام بإقامتها على المحاربين غير أن العلماء اختلفوا فيها، هل هي على الترتيب أو على التخيير؟ فمذهب الشافعي، وأبو حنيفة أنها على الترتيب مُرَتَّبة على الجنايات المعلوم من الشرع ترتيبها؛ فلا يقتل من المحاربين إلا من قتل، ولا يقطع إلا من أخذ المال، ولا ينفى إلا من لم يأخذ المال؛ فهكذا عرفت هذه العقوبات في الشرع أن من قتل يقتل، ومن سرق يقطع. وذهب آخرون إلى أن الإِمام مخير فيهم على الإطلاق، وسواء قتل أو لم يقتل أخذ المال أم لم يأخذه، وهو مذهب أبي مصعب الزهري من أصحاب مالك. وذهب مالك -رحمه الله- إلى أن الآية على التخيير، وهو راجع إلى اجتهاد الإِمام، فقال: إن قتل فلابد من قتله، وليس للإمام في ذلك تخيير لا في قطعه، ولا في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه [على ما يأتى بيانه، وأما إن أخذ المال، ولم يقتل فلا يخير في نفيه. وإنما التخيير في قتله، أو صلبه، أو قطعه من خلاف. وأما إذا خاف السبيل وقطعه. فالإمام عنده مخير في قتله أو صلبه] (¬2) أو نفيه. ومعنى التخيير عنده أن ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية (33). (¬2) سقط من أ.

الأمر راجع [في ذلك] (¬1) إلى اجتهاد الإِمام؛ فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير، فوجه الاجتهاد قتله، أو صلبه؛ لأن القطع لا يرفع ضرره، وإن كان لا رأي له، ولكنه ذو قوة، وبطش، وبأس شديد قطعه من خلاف، وإن كان ليس فيه شيء من هاتين الصفتين أخذنا بأيسر ذلك فيه وهو الضرب والنفي. وسبب الخلاف: هل حرف -أو- في الآية للتخيير أو للتفصيل على حسب جناياتهم. ومالك حمل البعض من المحاربين علي التفصيل، والبعض على التخيير. واختلف تأويل الأشياخ على مذهب "الكتاب" إذا طالت [إضافته] (¬2) وعظم شره، واشتهر أمره، ولم يقتل؛ فأكثرهم يرون أن الإِمام فيه مخير بما شاء، لكن لا يستحبون له النفي، ويجري الاستحباب في تفصيل صفاته كالتي قبله إذا أخاف السبيل، وأخذ المال، وإن لم تطل إقامته على ذلك. وهذا ظاهر لفظه في قوله: لا يخير الإِمام إذا قتل، وأخذ المال وأرى أن يقتل إذا أخذ، وإن لم يقتل؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (¬3)، فإذا أخذ المال، فهو من الفساد في الأرض، وإنما يجتهد الإِمام في الذي يخيف، ولا يقتل، ولا يأخذ [المال] (¬4). وتأول بعض الأندلسيين أن حكم هذا حكم الذي قتل لا تخيير للإمام ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: إقامته. (¬3) سورة المائدة الآية (32). (¬4) في أ: ماله.

فيه، ولابد من قتله؛ واستدلوا بقوله: وأما من أخاف، ونصب نصبًا شديدًا، فهذا لا تخيير فيه، ويقتله الإِمام، ولم يكن هذا الكلام في رواية الدَّبَّاغ وهو في "كتاب محمَّد": إذا طال زمانه، واشتدت محاربته، وأخذ المال قتل، وإن لم يقتل. وتأول الأولون ما في "الكتاب" أن له قتله لا أن ليس له تخيير في سواه. وهذا هو الصحيح. وحكى القاضي أبو الحسن الماوردي عن مالك في المسألة خلاف مذهبه، وأن العقوبات عنده -فيما حكى عنه- على الترتيب لا على التخيير بحسب اختلاف صفاته؛ فيقتله بكل حال إذا كان ذا رأي وتدبير، ولا يقطعه من خلاف، وإن كان ذا بطش وقوة، وإن كان بخلاف ذلك عزره وحبسه. فجعل ما استحسن مالك من إباحة التخيير مستحقًا مرتبًا، ولا يقوله مالك، ولا أصحابه. واختلف في معنى قوله: "أو يصلبوا" على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يصلب حتى يموت جوعًا. والثاني: أنه يقتل أولًا، ثم يصلب، وهو قول أشهب. والثالث: أنه يصلب حيًا ثم يقتل في الخشبة، وهو قول [ابن القاسم و] (¬1) ابن الماجشون. وعلى القول بأنه يقتل أولًا، ثم يصلب صلى عليه قبل الصلب. ومن رأى أنه يقتل على الخشبة، فهل يصلى عليه أم لا يصلى عليه؟ إذا قيل: إنه يصلي عليه، فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يصلى عليه، ويترك على خشبته حتى تأكله السباع، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والكلاب، ولا يترك أحد من أهله، ولا من غيرهم أن ينزله ليدفنه أو يصلى عليه، وهو قول عبد الملك بن الماجشون في "الواضحة". والثاني: أنه يصلى عليه، وهو مصلوب، ويصف خلف الخشبة، وهو قول ابن الماجشون في "ثمانية أبي زيد" أيضًا. والثالث: أنه ينزل عن الخشبة، ويصلى عليه، وهو قول سحنون. وهل يعاد إلى الخشبة بعد الصلاة عليه أم لا؟ فلسحنون في ذلك قولان. واختلف أيضًا في قوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} (¬1)، على ستة أقوال: أحدها: أن النفي هو السجن. والثاني: أن النفي هو أن ما ينفى من بلد إلى بلد يسجن فيه إلى أن تظهر توبته. وهو قول ابن القاسم عن مالك، ويكون بين أقل ما تقصر فيه الصلاة، والقولان لمالك. والثالث: أن النفي هو فرار المحاربين من الإِمام إذا طلبهم لإقامة الحد عليهم، فأمَّا أن ينفي بعد أن يقدر عليهم فلا، وهو قول ابن الماجشون. والأقوال الثلاثة مذهبية. والرابع: أن النفي غير مقصود، ولكن إن هربوا شردناهم في البلاد بالامتناع. والخامس: أن النفي عقوبة مقصودة، وينفي ويسجن، ولا ينفي دائمًا، والقولان للشافعي. والسادس: أن ينفوا من أرض الإِسلام إلى أرض الحرب. ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية (33).

والذي يظهر من الآية أن النفي هو تعريتهم عن وطنهم؛ لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} (¬1) الآية؛ فسوى بين النفي والقتل، وهي عقوبة معروفة بالعادة من العقوبات كالضرب، والقتل، وكل ما يقال فيها سوى ما ظهر من الآية، فليس معروفًا بالعادة، ولا بالعرف. فالجواب عن الوجه الثاني: إذا حاربوا على التأويل؛ مثل أن يحاربهم الإِمام، فإنه إذا قدر على أحد منهم لم يقتله إلا إذا كانت الحرب قائمة على ساقها؛ فإن مالكًا قال: للإمام أن يقتله إن رأى ذلك لما يخاف من عونه لأصحابه على المسلمين. وأما إذا أُسر بعد أن وضعت الحرب أوزارها، فإن حكمه حكم البدْعي الذي لا يَدْعو إلى بدعته؛ فإنه يُسْتَتَاب، فإن تاب خلي سبيله، فإن أَبَى هل يقتل أو يؤدب؟ قولان: أحدهما: أنه يقتل إن أبى من التوبة، وهو قول مطرف، وابن عبد الحكم. والثاني: أنه يؤدب ولا يقتل، وهو قول ابن الماجشون، وسحنون. وسبب الخلاف: أهل البدع، هل يكفرون بمآل قولهم أم لا؟ ومعنى الكفر بالمآل أنهم لا يصرحون بقول هو كفر، ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر، وهم لا يعتقدون ذلك اللزوم. وأما ما لا يلزم هؤلاء من الأحكام عند التوبة إذا ظفر بهم أو إذا تابوا، فإنهم لا يقام عليهم حد الحرابة، ولا يؤخذ منهم ما أخذوا من المال إلا أن يوجد بأيديهم شيء، فيرد إلى ربه، وإنما اختلفوا هل يقتل قصاصًا بمن ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (66).

فرع ملحق بهذا الموضع

قتل أم لا على قولين: أحدهما: أنه يقتل، وهو قول عطاء، وأصبغ من أهل المذهب. والثاني: أنه لا يقتل بمن قتل، ولا يقاد منه، وهو قول مطرف، وابن الماجشون عن مالك، ومثله في الأثر من آخر "كتاب الجهاد" من "المدونة" من قول ابن شهاب: هاجت الفتنة الأولى، فأدركت رجالًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى جماعة من البدريين أن يهدم أمر الفتنة، فلا يقام على أحد قصاص في تأويل القرآن. فرع ملحق بهذا الموضع وهو المحارب إذا امتنع فأمنه الإِمام على أن ينزل، هل له الأمان أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن له الأمان، ويسقط عنه حد الحرابة. والثاني: أنه لا أمان له؛ لأنه إنما يؤمن المشرك على أن يؤدي الجزية، ويكون على الذِّمة، وتأمين المحارب إنما هو على أن يعطل إقامة الحد فيه، وذلك مما لا يصح، وهو قول ابن الماجشون. تم كتاب المحاربين بحمد الله وحسن عونه.

كتاب الرجم

كتاب الرجم

كتاب الرَّجم تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ثلاث مسائل: المسألة الأولى في تقاسيم الحَدّ في الزنا والحَدُّ في الزِّنا ينقسم على قسمين: جَلْد، وَرَجْم. فأما الجَلْد: فإنه ينقسم على قسمين: ناقص، وكامل. فالناقص حَدُّ الأرِقَاء في الزنا، فإذا زنا العبد، أو الأمة، فحدهما خمسون جَلْدَة سواء زنا العبد بحرة، أو أمة، فلا خلاف في ذلك بين أهل العلم إلا ما يحكى عن الأوزاعي أن العبد إذا زنا بحرة رُجِم، وإذا زنا بأمة جلد. وهذا فاسد؛ لأن الزاني لا يختلف حده إلا باختلاف أحواله في نفسه لا باختلاف المزني بها؛ والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬1)، يريد: المحصنات بالحرية لا بالنكاح؛ لأن المحصنات بالنكاح حدهن الرجم، ولا تتأتى فيه القسمة، والعبد في معنى الأمة؛ لأنه قياس في معنى الأصل، ولا تغريب عليهم؛ فالكامل حد الأحرار الأبكار البالغين جلد مائة، وتغريب عام؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "البكر بالبكر وتغريب عام" (¬2) إلا أن التغريب مختص بالذّكران من الأحرار دون النساء والعبيد، ويُغرَّبُ الحُر سنة، ويسجن في الموضع الذي غُرِّب فيه، ولا يُغَرَّب العبد؛ لأنه لا وطن له؛ لأن المقصود من التغريب ما يدرك ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (25). (¬2) أخرجه البخاري (2506)، ومسلم (1697)، (1698).

المغرَّب من الوحشة لمفارقة الوطن ومباعدته عن الأهل، والقرابة؛ فيكون ذلك عقوبة [عليه] (¬1)، والعبد لا قرار له، ولا وطن، ولا عنده عشيرة تدركه الوحشة بمفارقتها، وهو كل زمان يتحول من يد إلى يد، وينتقل من عمرو إلى زيد بالبيع وغيره [ومن هذا] (¬2) عادته، فأيّ غربة تلحقه. وأما النساء إنما لم يغربن لمعنيين اثنين: أحدهما: الأثر. والآخر: النظر. فأمَّا الأثر فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها" (¬3). وأما النظر: فإن تغريبها إشلاء لها على ما حُدت لأجله من ارتكاب الفواحش، والإعلان بالزنا؛ لأنها إذا كانت بين أهلها ربما تنزجر وترتدع مخافة العار، وتكرار الحد عليها مرة أخرى، وإذا كانت غائبة عن وطنها، فربما يكون ذلك معينًا على التناهي في الفجور. وأمَّا الرجم [فهو] (¬4) حد من كمل إحصانه، وتوفرت أوصافه إذا كان مسلمًا حرًا بالغًا عاقلًا محصنًا بنكاح صحت عقدته، وصح الوطء فيه، فإذا تكاملت فيه هذه الأوصاف وزنا بآدمية، توطأ مثلها، لا شبهة له في ملكها، حية، ليست بحربية في بلد الحرب، طائعًا غير مكره، عالمًا بحرام ذلك: فإنه يرجم قولًا واحدًا، ويجلد إن كان بالغًا عاقلًا غير محصن قولًا واحدًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (1036)، ومسلم (827). (¬4) سقط من أ.

وقولنا: بآدمية؛ احترازًا من أن يزني ببهيمة من البهائم؛ فإنه لا حد عليه في ذلك إلا ما وقع في "كتاب ابن شعبان" من الحد واجب عليه في ذلك، وهو بعيد. وقولنا: ليست بحربية في بلاد الحرب؛ لأن أشهب يقول: من زنا بحربية في بلاد الحرب، فلا حد عليه. وقولنا: لا شبهة له في ملكها؛ احترازًا من أن يزني بأمة ولده أو بأمة له فيها شرك فلا حد عليه. وقولنا: وأن تكون حية؛ لأن ابن شعبان يقول: من زنا بميتة فلا حد عليه، وهو قول ابن عبد الحكم فيما حكاه ابن حارث. وقولنا: توطأ مثلها؛ احترازًا من الصغيرة التي لا توطأ مثلها؛ فقد روى عن مالك: أنه لا حد على من زنا بها. وقولنا: طائعًا غير مكره؛ احترازًا من المكره على الزنا؛ لأنه قد اختلف فيه على قولين: أحدهما: أنه لا حد عليه؛ لأن الإكراه يرفع الحرج عمن أكره فيما بينه وبين الله تعالى؛ فإن كانت المرأة هي التي أكرهته أن يزني بها ارتفع الحرج عنه في الزنا بها جملة، وإن كان غيرها هو المكره له على الزنا بها لم يكن عليه إثم إلا من قبلها، ووجب عليه الأدب من أجل ذلك كما وجب على الذي أكرهه على ذلك. والثاني: أنه يحد؛ لأن وجود الإنعاظ، والإيلاج من اختياره وإيثاره، وذلك ينافي الإكراه؛ لأن المكره يكون خائفًا منقبضًا منزويًا، ولا يوجد معه الانبساط، والإنعاظ. وقولنا: عالمًا بحرام ذلك؛ لأن أصبغ -من أصحابنا- يرى الجهل

بتحريم الزنا شبهة تسقط الحد، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وجماعة من السلف، وهو الصواب إن شاء الله إذا صحت الجهالة، والحمد لله وحده.

المسألة الثانية في معرفة ما يجب به الحد على الزاني

المسألة الثانية في معرفة ما يجب به الحَد على الزاني ولا يُحَدُّ الزَّاني إلا باعتراف، أو حمل يظهر، أو بأربعة شهود عُدول يشهدون على معاينة الفِعْل كالمِرْوَد في المِكْحَلَة. فأما وجوب الحد بالاعتراف فلا خلاف فيه إذا كان المعترف به على نفسه بالغًا عاقلًا آمنًا؛ والأصل في ذلك كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام؛ فأمَّا الكتاب: فقوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عَلَيْهَا} (¬1)، وإقرار الرجل على نفسه كسب عليها؛ فوجب أن يلزمه، ويؤخذ به. وأما السنة: فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا بإقراره على نفسه، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة من الأحاديث. والاعتبار في إقراره مرة واحدة لا أربعة، وبه قال الشافعي، ومالك -رضي الله عنهما- خلافًا للنخعي، فإن رجع عن إقراره بالزنا، هل يقال أو لا يقال؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يُقَالُ جملة، وإن جحد الإقرار أصلًا. والثاني: أنه يُقَالُ إن رجع إلى شبهة، وإن رجع إلى غير شبهة، فلا يُقَال، وهو قول عبد الملك. والقولان لمالك في "الكتاب". فأمَّا وجود الحد بظهور الحمل ممن لم يعلم لها في الظاهر زوج، فلا خلاف في إقامة الحد عليها على مذهب مالك، خلافًا للشافعي وأبي حنيفة إلَّا أن يكون لها بينة على أنها تزوجت أو استكرهت؛ لأن ظهور الحمل لا ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية (164).

يكون إلا من وطء. فإذا لم يثبت نكاحها أو استكراهها، فإنه من الزنا، وإن كان يجوز أن تؤتى وهي نائمة فتستمر حاملًا، إلا أنه يسلم الأمر فيها على الغالب. وأمَّا وجوب حد الزنا بالبينة فلا خلاف بين أحد من أهل العلم أن الحد لا يقام بأقل من أربعة شهداء رجال عدول على معاينة الفعل كالمرود في المكحلة؛ والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} (¬1)، وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (¬2) الآية. واختلف في تخصيص الشهادة بالزنا بأربعة شهداء من سائر الأشياء على ثلاثة أقوال: أحدها: أن القاذف لا ضرورة به إلى القذف، فغلظ عليه في ذلك بزيادة عدد الشهود ليتعذر عليه غالبًا فيحد؛ فيكون ذلك ردعًا له عن معاودة القذف ودفعًا للمضرة عن [المقذوف] (¬3). والثاني: أن الإنسان مأمور بالستر على نفسه، وعلى غيره فلما لم يكن على الشهود بالزنا القيام بشهادتهم، فقاموا بها من غير أن يجب عليهم، وتركوا ما أمر به من الستر غلظ عليهم في ذلك سترًا من الله على عباده، وهذا أحسن ما قيل في هذا. والثالث: أنه إنما احتيج في الزنا إلى أربعة شهداء؛ لأنه بمنزلة فعلين؛ لأن الزنا منه ومنها؛ منه الفعل، ومنها التمكين؛ فاحتاج كل فعل إلى شاهدين. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (15). (¬2) سورة النور الآية (4). (¬3) في أ: القذف.

فإنا شهد على الزنا أقل من أربعة شهود فلا يخلو من أن يشهدوا على معاينة الزنا، أو شهدوا على شهادة غيرهم. [فإن شهدوا على معاينة الزنا حدوا؛ لأنهم قذفه، ولم يعذروا بأنهم جاؤوا على وجه الشهادة لا على وجه القذف، ولا خلاف في ذلك. فإن شهدوا على شهادة غيرهم] (¬1)؛ مثل أن يشهدوا أقل من أربعة على شهادة أربعة بمعاينة الزنا، فهل يحدون أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهم يحدون، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: التفصيل بين أن يقول النقلة: هو زان أشهدنا فلان وفلان: حد النقلة، وإن قالوا: أشهدنا فلان وفلان أنه زان لم يحدوا. وهو قول ابن المواز، فكأنه فهم إذا ابتدؤوا بقولهم هو زان أشهدنا فلان صاروا قذفة له، وكأنهم صدقوا البينة، وإذا قالوا: أشهدنا فلان وفلان بأنه زان، فقد أخبروا عن قول أولئك، ولم يحققوا ذلك. ويجب عنده الحد على الشهود على شهادتهم إن كانوا أقل من أربعة؛ لأن هذين شهداء عليهم بقذف رجل، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الثالثة إذا رجع بعض شهود الزنا أو وجد أحدهم عبدا أو مسخوطا

المسألة الثالثة إذا رجع بعض شهود الزنا أو وجد أحدهم عبدًا أو مسخوطًا فإذا رجع [وبعض شهود الزنا] (¬1) فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يرجع قبل الحكم بشهادتهم. والثاني: أن يرجع بعد الحكم بها. فأمَّا الوجه الأول: إذا رجع أحدهم قبل الحكم بشهادتهم، فلا يخلو عدد الشهود من أن يكون أربعة أو أكثر. فإن كان عددهم أربعة فرجع واحد منهم، فإنهم يُحَدُّون جميعًا؛ لأنهم صاروا قذفة، وعدد من بقي على الشهادة دون النصاب، فإنهم يحدون جميعًا؛ لأنهم قذفة، وإن كان بعد الحكم بها. وإن كانوا أكثر من أربعة؛ مثل يكون عددهم خمسة أو ستة، فإن كانوا خمسة فرجع واحد منهم فلا خلاف في الأربعة الباقين على الشهادة أنهم لا يحدون، واختلف في الراجع الخامس، هل يحد أم لا؟ على قولين: أحدهما: إنه لا يحد الراجع؛ لأن الحد قد وجب على المقذوف بشهادة أربعة، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: إنه يُحَد، وهو قول ابن القاسم في "كتاب محمَّد". ووجهه أن وجوب الحد عليه؛ لأنه يقول: إني والأربعة تعمدنا شهادة ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الزور، وأما إن قال: أنا وحدي تعمدت الزور، ولا أدري ما فعلوا، فلا حد عليه؛ لأنه يقول: قد ثبت أربعة على أنه زنا؛ فقذفي إياه لا يوجب عليّ حدًا ولا غيره. وكذلك إن كانوا ستة، فرجع واحد أو اثنان. وأما الوجه الثاني: إذا رجع أحدهم بعد الحكم بشهادتهم، فإنه يحد الراجع وحده، وهل يغرم الدِّية كاملة أو ربعها إن كانت شهادتهم على محصن أم لا؟ فالمذهب يتخرج على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يغرم [ربع] (¬1) الدية خاصة، وهو ظاهر قوله في "كتاب الرجم". والثاني: أنه يغرم جميع الدِّية. وهو ظاهر قوله في "كتاب القطع في السرقة"؛ لأنه معاون لبقية الشهود على قتله؛ كالسارق إذا وجد أحدهم، وقد تعاونوا على سرقة أن من وجد منهم يغرم جميع قيمتها، ولولا شهادته هو معهم ما رجم؛ فصار معينًا على قتله. وأما الوجه الثاني من أهل التقسيم: إذا وجد أحدهم عبدًا أو مسخوطًا، فلا يخلو من أن يكون ذلك قبل الحكم بشهادتهم أو بعد الحكم به. فإن كان قبل الحكم بها، فإنهم يحدون جميعًا؛ لأنهم قذفة. وإن كان بعد الحكم بها؛ مثل أن يشهدوا على محصن فرجم بشهادتهم فلا يخلو من أن يعلموا بذلك، أو لا يعلموا. فإن علم بقية الشهود أنه عبد أو مسخوط، فإنهم يحدون، وتكون الدية عليهم في أموالهم، وهو قول مالك في "الكتاب". ¬

_ (¬1) في أ: جميع.

فإن لم يعلموا بذلك، فالدية على عاقلة الإِمام. وهل يحدون أم لا؟ فلا يخلو من أن يوجد أحدهم عبدًا أو مسخوطًا. فإن وجد أحدهم عبدًا حُدُّوا جميعًا، وحد العبد أربعين؛ لأن نصاب الشهادة لم يتم، وشهادة العبد لا تجوز في شيء من الأشياء، وصار ذلك خطأ من السلطان. فإن وجد مسخوطًا فلا حد على واحد منهم؛ لأن الشهادة قد تمت باجتهاد الإِمام في تعديله وتزكيته؛ فلا حد على المسخوط، ولا على غيره من الشهود. وهذا نص قوله في كتاب الرجم من المدونة. وعلى القول بأن الدية عليهم إن علموا بالعبد. فهل يغرم العبد معهم أم لا؟ فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: أنه لا شيء على العبد، وهو نص قوله في "المدونة". والثاني: أن العبد يغرم معهم؛ لأنه جانٍ على هذا المرجوم إذا علم أن شهادته لا تجوز؛ فكان يجب أن تكون رقبته مرتهنة في ربع الدِّية يسلم بها، أو يفديه سيده. ويلزم أيضًا إذا لم يعلموا بالعبد أن يشاركوا الإِمام في غرم الدية؛ لأنهم هم حملوه على الأمر بالرجم، ولولا هم ما قدر الإِمام على الأمر برجمه، وإنما كان يجب أن يكون ذلك على الذين وُلُّوا على الرجم؛ لأن الإِمام أمر بالرجم كالشهود لم يتولوا الرجم بيده، فإذا جاز أن تصرف الدية عن الشهود لما لم يَلُوا ذلك بأيديهم، وإنما ألزموا الإِمام فعله جاز أن يصرف ذلك عن الإِمام؛ لأنه لم يلِ بيده شيئًا، وإنما أمر كما أمر الشهود.

ولو شهد عليه الشهود بالزنا، فرجمه الإِمام ثم وجد مجبوبًا، فقال مالك في "الكتاب": لا حد عليهم؛ لأن من قال للمجبوب: يا زاني لم يحد؛ لأنه ليس له متاع الزنا، وعليهم الأدب الوجيع، والسجن الطويل، ولا يقصر في عقوبتهم، فهذا نص قوله في "الكتاب". وهل تكون الدية في أموالهم أو على العاقلة؟ قولان: أحدهما: أنها في أموالهم، وهو نص قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أنها على العاقلة، وهو قوله في "كتاب محمَّد". وهذا كله إذا كان مجبوبًا في حين رأوه. وأما إن قالوا زنا قبل أن يحد فشهادتهم جائزة ويرجم. وهو تأويل الشيخ أبي إسحاق التونسي. واختلف إذا شهد أربعة على الزنا، وشاهدان على أنه محصن فرجم بمجموع شهادتهم الستة، ثم رجعوا كلهم على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الدية على من شهد بالزنا خاصة. والثاني: أن الدية عليهم أسداسًا. والثالث: أنها بينهم أنصافًا؛ على شهود الزنا نصفها، وعلى شاهدي الإحصان نصفها. والأقوال الثلاثة حكاها الشيخ أبو إسحاق التونسي في المذهب. تم "كتاب الرجم" بحمد الله، وحسن عونه، وصلى الله على نبينا محمَّد خيرة خلقه، وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم.

كتاب القذف

كتاب القذف

كتاب القذف تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ست مسائل: المسألة الأولى فيمن وجد مع امرأة في بيت واحد والقذف: أصله الرمي إلى بعد؛ فكأنه رماه بما يبعد، ولا يصح. وقد سماه الله تعالى رميًا، فقال: {وَالَذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من رمى مسلمًا بغير ما فيه" (¬2) الحديث. فإذا ثبت ذلك، فلا يخلو من أن يدعيا الزوجية فيما بينهما أو لا. فإن لم يدعيا الزوجية فيما بينهما، ولا ملكًا، ولا شبهة نكاح، فإنهما يحدان قولًا واحدًا. وإن ادعيا النكاح بينهما، فلا يخلو من أن يكونا من أهل البلد أو يكونا طارئين. فإن كانا من أهل البلد، فلا تقبل دعواهما إلا ببينة. فإن أقاما بينة على النكاح، وإلا حدا، ولا إشكال في هذا الوجه. فإن كانا طارئين فلا يخلو من [أن] (¬3) يتصادقا على أن بينهما نكاحًا، أو ادعاه أحدهما دون الآخر. فإن تصادقا على ثبوت النكاح بينهما، ولم يقم دليل على تكذيب دعواهما، فإنهما يصدقان قولًا واحدًا في المذهب، ولا يحد واحد منهما. ¬

_ (¬1) سورة النور الآية (4). (¬2) أخرجه أبو داود (4883)، وحسنه الألباني رحمه الله تعالى. (¬3) سقط من أ.

فإن ادعاه أحدهما، ولم يصدقه صاحبه؛ فإن ادعته المرأة لم يقبل قولها إلا بتصديق الزوج قولًا واحدًا، وإن كذبها فإنها تحد، ولا يلحق [به الولد] (¬1)، وهذا إذا [اعترفت] (¬2) بالوطء [وادعت] (¬3) أنه زوجها، وهو قوله في "كتاب محمَّد". فإن اعترف بوطئها أو وجد يطأها، وهي تنكر أن تكون زوجته، فلا خلاف في حَدِّها. وهل يحد الزوج أم لا؟ فإن يتخرج على قولين: أحدهما: أنه يحد، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أنه لا يحد؛ لأنه أقر بوطء حلال، وكونها معه ممكنة له من الوطء شبهة تصديقه وتدرأ عنه الحد، وصارت كمدعية عليه حرامًا، وهو يدعي الحلال؛ فالقول قوله. وهذا إذا اعترف [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) في أ: بها الزوج. (¬2) في أ: اعترف. (¬3) في أ: وادعته. (¬4) زيادة من ب.

المسألة الثانية فيمن وطأ وطئا حراما بشبهة نكاح، هل يحد أم لا

المسألة الثانية فيمن وطأ وطئًا حرامًا بشبهة نكاح، هل يحد أم لا؟ مثل من تزوج خامسة أو أخته من النَّسَب أو رضاعة وما أشبه ذلك. هل يعذر بالجهل إن ادعاه أو لا يعذر؟. ولا تخلو تلك المحرمة التي تزوجها من وجهين: أحدهما: أن تكون محرمة لعينها. والثاني: أن تكون محرمة لعلة. فإن كانت محرمة لعينها مثل أمه، أو أخته من النسب، والرضاع، فإن تزوجه عالمًا بالتحريم، ووطئها فإنه يحد قولًا واحدًا. فإن تزوجها وهو جاهل بالتحريم؛ فإنه يعذر [بالجهل] (¬1) ولا يُحَد. فإن كانت محرمة لمعنى فيها، فلا يخلو من أن يكون تحريمها متفق عليه، أو يكون تحريمًا مختلفًا فيه. فإن كان تحريمًا متفقًا عليه مثل نكاح الخامسة، ونكاح الأخت على الأخت، ونكاح المبتوتة [قبل] (¬2) زوج إذا كان طلاقها مفترقًا ليس في كلمة واحدة، فإنه يعذر بالجهل قولًا واحدًا. وهل يحد في العمد أم لا يحد؟ قولان: أحدهما: أنه يحد، ولا يلحق به الولد. وهو قوله في "المدونة" في "كتاب القذف". ¬

_ (¬1) في أ: بجهل. (¬2) في أ: تحت.

فرع

والثاني: أنه لا يُحَد. وهو قوله في "كتاب ابن حبيب" فيمن تزوج أختًا على أخت عالمًا. وكذا يجب في الخامسة؛ لأن العلة الموجبة لتحريم الوطء هو الجمع، فإذا زال الجمع حل الوطء والخامسة لو طلق أحد الأربعة حل نكاحها ووطئها، فأشبه تحريم الأخت على الأخت سواء كانت الآخرة بالنسب أو بالرضاع. فإن كان تحريمها مختلفًا فيه كالنكاح في العدة، ونكاح المتعة، والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، فإنه لا يحد، وإن كان عالمًا بالتحريم، والولد في ذلك لاحق، وهو نص قوله في "المدونة". وفرق في "كتاب ابن حبيب" بين مطلقها ثلاثًا في كلمة واحدة فتزوجها قبل زوج، وهو عالم بتحريم ذلك، وبين من قال لها: أنت طالق البتة ثم تزوجها بعد علمه بتحريم ذلك، فقال: إنه يحد إذا تزوجها بعد قوله ثلاثًا إذا لم يعذر بجهل، ولا يحد عنده إذا تزوجها بعد طلاق البتة؛ لقوة الاختلاف عنده في البتة أنها واحدة، فضعف الحد في ذلك، وقواه في الثلاثة بضعف القول [في أنها] (¬1) غير لازمة، وإن العلماء مجمعون على إلزامه الثلاث إلا من لا يعتبر خلافه. فرع ولو وطيء أمة رجل، فقامت عليه البينة بذلك، وادعى أنه اشتراها من سيدها: فلا يخلو السيد من أن يصدقه على ذلك أو يكذبه. فإن صدقه، فقولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أنه لا يُحَد، وهو قول ابن القاسم؛ ودليله قول عمر -رضي ¬

_ (¬1) في أ: فإنها.

الله عنه- في "الكتاب": أنه لما اعترفت له الزوجة أنها وهبتها له خلى سبيله. والثاني: أنه يُحَد، ولا ينفعه اعتراف سيد الأمة، وهو قول أشهب؛ لأن البينة شهدت بالوطء، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب السرقة" في السارق إذا ادعى أن السرقة مال له وصدقه المسروق منه حيث قال: إنه يقطع. فأما إن كَذَّبَه السّيد، وأنكر أن يكون قد باعها، فقال ابن القاسم في "الكتاب": يحلف السيد أني لم أبعها منك، ويحد الواطيء، فإن نكل حلف الواطيء. وهل يسقط عنه الحَد أم لا؟ على قولين: أحدهما: سقوط الحَدِ عنه، وهو قول ابن القاسم. والثاني: وجوبه عليه، وهو قول أشهب. وعلى القول بسقوط الحد، فإن الولد لاحق بالواطيء، وتكون أمه أم الولد له. ولو أقام شاهدًا واحدًا على الشراء ما لحق به الولد، ولو وجب عليه الحد؛ لأن الشاهد واليمين إنما يقضي به في الأموال دون الحدود، والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة في العفو في القذف والقيام به

المسألة الثالثة في العفو في القذف والقيام به واختلف في القذف، هل تجوز فيه الشفاعة أم لا تجوز؟ ولا تخلو الشفاعة من أن تكون من المقذوف أو من غيره. فإن كانت من غيره، فلا أعرف في المذهب نص خلاف أنه لا تقبل. فإن كانت من المقذوف، فهل يجوز عفوه عن القاذف أم لا؟ فالمذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن العفو لا يجوز فيه جملة -بلغ الإِمام أم لا- وهو ظاهر رواية أشهب عن مالك في "العتبية"، وهو ظاهر "المدونة" من غير ما موضع منها قوله في "كتاب القذف" إذا ادعى المقذوف أن القاذف قذفه، وأقام بذلك بينة عند السلطان، ثم إن المقذوف قال للسلطان بعدما شهد شهوده أنهم شهدوا بزور حيث قال: هذا قد بلغ الإِمام، فلا ينظر في قوله؛ لأن الحد قد وجب، فهذا يريد إبطاله. وقال في موضع آخر في الكتاب المذكور: وإذا قذف رجل رجلًا عند الإِمام بمحضر العدول، والمقذوف غائب فإنه يقيم عليه الحد. فظاهر هذا كله أنه حق لله، فلا يجوز فيه العفو جملة. والثاني: أنه يجوز فيه العفو جملة -بلغ الإِمام أم لا- وهو ظاهر قوله في "كتاب السرقة"، و"كتاب الرجم" من "المدونة"؛ لأنه قال: يجوز العفو، وإن بلغ الإِمام [وسكت] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

والثالث: أنه يجوز العفو ما لم يبلغ الإِمام؛ فإنه إذا بلغ الإِمام، فلا يجوز فيه العفو، وإن أراد سترًا، وهو ظاهر قوله في "الكتاب" في الذي زور بنيته بعد أن شهدوا له بالقذف عند السلطان حيث قال: لأنه حد قد بلغ الإِمام، وهو نص قوله في "كتاب الرجم" حيث قال: أجازه مالك مرة بعد بلوغ الإِمام، ثم رجع عنه. معناه أنه منع العفو بعد بلوغ الإِمام جملة -أراد سترًا أم لا. والرابع: التفصيل بين أن يريد سترًا أو لا يريد سترًا؛ فإن أراد سترًا على نفسه جاز عفوه، وإن بلغ الإِمام، وإن لم يرد سترًا فلا يجوز عفوه بعد بلوغ الإِمام. وهو نص قوله في "كتاب القذف" من "المدونة". ومعنى قوله: أراد سترًا مخافة أن يُشد على القاذف، ولم يعف عنه حقق ذلك عليه بإقامة البينة. وهذا أحد التآويل في ذلك. وسبب الخلاف: هل القذف حق لله أو حق للمقذوف؟ فمن رأى أنه حق لله منع العفو فيه -بلغ الإِمام أو لم يبلغه- ومن رأى أنه حق للمقذوف جوز العفو جملة. ومن جوز ما لم يبلغ الإِمام، أو جوز إذا أراد سترًا رأى أنه تعلق به حقان: حق الله تعالى، وحق المقذوف، ويترجح أيهما أقوى. وعلى هذا المعنى اختلف، هل يجوز للأجنبي القيام به أو لا يجوز؟ وكذلك إذا عفى عنه المقذوف ثم [قام] (¬1) به، هل يمكن من ذلك أم لا، على قولين: ابن القاسم منعه، وأشهب مكنه. وذلك يتخرج على الخلاف في حد القذف، هل هو حق لله تعالى أو حق للمقذوف؟ والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: قاد.

المسألة الرابعة في التعريض بالقذف، هل يوجب الحد كالتصريح به أو لا؟

المسألة الرابعة في التعريض بالقذف، هل يوجب الحد كالتصريح به أو لا؟ وقد قال مالك رضي الله عنه لا يجب الحد إلا في قذف، أو نفي، أو تعريض بَيِّن. فالتصريح بالقذف لا خلاف في وجوب الحد فيه على ما قدمناه. وأمَّا التعريض به فكالتصريح به على منصوص المذهب؛ فلا أحفظ في المذهب نص رواية أنه خلاف التصريح إلا ما يستقرأ من "كتاب اللعان" من "المدونة" إذا قال: وجدت مع امرأتي رجلًا في لحاف واحد، أو قال: وجدتها عريانة مع عريان، فقال ابن القاسم: لا يلزمه اللعان. ومع أن هذا تعريض بين. وهذا ينحو إلى مذهب الشافعي الذي يقول: إن التعريض لا حَدَّ فيه. فعلى هذا التخريج يجري في التعريض قولان: أحدهما: ثبوت الحد. وهو نص "المدونة". والثاني: أنه لا حد فيه. وهو ظاهر قوله في "كتاب اللعان" من "المدونة". فإذا قلنا: إن التعريض يعد كالتصريح، فإذا قال لامرأته: زنيت وأنت مستكرهة، أو وأنت صبيه، أو زنيت وأنت نصرانية، أو أمة: فلا يخلو من أن تقوم له على ذلك بَيِّنة، أو لا تقوم له. فإن لم تقم له على ما يَدَّعِيه من زناهن على تلك الحالة بينة، فإنه

يحد في الجميع، ويلاعن للزوجة. فإن قامت له على ذلك بَيِّنة، فإنه يتخرج على ثلاثة أقوال: أحدها: سقوط الحَدّ عنه في جميع ذلك، وهو قوله في المستكرهة في "المدونة"، وهو قول عبد الملك في النصرانية إذا قال لها: زنيت، وأنت نصرانية. والثاني: وجوب الحَدّ على القاذف في الجميع، وهو نص "المدونة" في الصبية والنصرانية؛ لأن اسم الزنا لا يقع على ما فعل قبل البلوغ في الصبية، وقبل الإِسلام في النصرانية؛ لأن الإِسلام قد هدم ما كان قبله؛ وهو قوله في "كتاب محمَّد" في المستكرهة أيضًا؛ لأن الاستكراه لا حرج عليها فيه؛ فأشبه زنا الصبية. والثالث: التفصيل بين المستكرهة وغيرها؛ فالمستكرهة لا حد عليه فيها بإقامة البَيِّنة، والصبية والنصرانية يحد فيهما، وإن أقام البَيِّنة، وهو نص "المدونة". والأمة والعبد بمعزل عن جميع ما ذكرناه؛ لأنه أقام البَيِّنة على أنهما زنيا قبل العتق فلا حَدّ عليه؛ لأن ذلك يطلق عليه اسم الزنا، ويؤاخذان فيه، وإن لم يأت بالبينة على ذلك حد لهما، ولا خلاف في هذا الوجه. وسبب الخلاف: [في ذلك] (¬1) ما تلحق فيه المعرفة، وما لا تلحق فيه؛ فمن رأى أن المعرفة تلحق في الجميع، قال بوجوب الحَدّ عليه، وإن أقام البَيِّنة؛ لأن ذلك لا يطلق عليه اسم الزنا، والمعرة تلحقهن من ذلك، والمستكرهة ينفي عنها الإكراه ذلك. ومن رأى أن المعرة لا تلحق في الجميع قال: لا يحد؛ لأنه لم يقصد ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بذلك القذف وإنما قصد الإخبار، وقد أخبر عن الشيء على ما هو عليه. ومن فرق بين المستكرهة، والصبية، والنصرانية رأى أن الإِسلام هدم ذلك عن النصرانية، والصبية لا [يلحق] (¬1) ذلك اسم الزنا عليها [إلا أن] (¬2) المعرة تلحقها، لكونها توطأ مثلها، والمستكرهة لحق عليها اسم الزنا، وإنما سقط الحد عنها لأجل الإكراه. وأمَّا النفي فإنه يذكر في مسألة مفردة، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: يحقق. (¬2) في أ: لأن.

المسألة الخامسة في الحدود هل تتداخل أم لا؟

المسألة الخامسة في الحدود هل تتداخل أم لا؟ ولا تخلو الحدود الواجبة من وجهين: أحدهما: أن تتجانس. والثاني: ألَّا تتجانس. فإن كانت غير متجانسة كالقتل والجَلْد والقَطْع، فلا خلاف أنها تتداخل، ويجزيء القتل عن الجلد والقطع إلا القذف، فإنه يجلد ثم يقتل لحق المقذوف [أن يقال له: لولا صحة ما قذفك به لحد] (¬1). فإن تجانست الحدود كالجلد، ولا يخلو الجلد من أن يتحد موجبه، أو يتعدد. فإن اتحد موجبه كالزنا؛ مثل أن يزني مرارًا [يشرب مرارًا أو] (¬2) يقذف مرارًا، ثم أخذ، أو يسرق مرارًا، ثم أخذ. أمَّا الزنا، والشرب، والسرقة، فإن حُد حدًا واحدًا يجزيء عن كل زنا كان قبله، وعن كل شرب كان قبله، وقطع واحدًا عن كل سرقة كانت قبله، ولا خلاف في ذلك. وأمَّا القذف، فيأتي الكلام عليه في أثناء المسألة على تفصيل لنا فيه. فإن [تعدد] (¬3) الموجب كالزنا، والسرقة، والقذف، والسرقة، والزنا، والقذف فإن الحدود هاهنا لا تتداخل؛ بل يقطع، ويجلد للزنا ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: تعدي.

وللقذف، وللإمام أن يفرق ذلك عليه، أو يجمعه على حسب ما يغلب على ظن الإِمام من الخوف عليه، ولا خلاف في ذلك في المذهب. وأمَّا الشرب والقذف فحد واحد يجزيء عنهما جميعًا؛ لأنهما عن سبب واحد. وأمَّا القذف فلا يخلو القاذف من أن يقذف واحدًا أو يقذف جماعة. فإن قذف واحدًا ثم قام بحده، فلا خلاف أنه يحد له حدًا واحدًا قذفه مرة واحدة أو مرارًا. فإن قذف جماعة فلا يخلو من أن يقذفهم في كلمة واحدة، أو في مجالس. فإن قذفهم في كلمة واحدة، فلا يخلو من أن يقوموا في طلبه مجتمعين، أو مفترقين. فإن قاموا في طلبه مجتمعين؛ فإنه يحد لهم حدًا واحدًا قولًا واحدًا في المذهب. فإن قاموا في طلبه مفترقين، فالمذهب على قولين: أحدهما؛ أنه يُحَدّ لهم حَدًا واحدًا. وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه يُحَدّ لكل واحد منهم حدًا كاملًا، وهو قول المغيرة [والمخزومي] (¬1). وحكى ابن شعبان عن بعض أصحاب المذهب ما هو أغرب من هذا أن من قال لصاحبه: يا بن الزانيين، وأمه حرة مسلمة أنه يُحَدّ حَدَّين لحرمة الصحابي. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن قذفهم في مجالس، فلا يخلو من أن يقذف الثاني قبل الشروع في إقامة حَدّ الأول، أو بعد الشروع فيه. فإن قذفه قبل الشروع فيه، فعلى التفصيل الذي قدمناه من أن يقوما في الطلب معًا، أو واحدًا بعد آخر. فإن قذفه بعد الشروع في إقامة حد الأول، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن يقذفه بعد أن مضى أقل الحد. والثاني: أن يقذفه بعد أن مضى جُلّ الحد. والثالث: أن يقذفه بعد أن مضى أكثر الحد. فإن قذفه بعد أن ضرب أقل الحد مثل [الأسواط] (¬1) اليسيرة كالعشرة الأسواط على قول أشهب، أو أقل على قول ابن القاسم في "المدونة"؛ لأنه قال: فلما ضرب أسواطًا، وهي من أبنية القّلَّة، وهو قول عبد الملك، هل يبنى على ما مضى من الحد الأول أو يبتديء الحدين؟ فالمذهب على القولين: أحدهما: أنه يبتدئ الحد عليه ثمانين. وهو قول ابن القاسم في "كتاب [القذف] (¬2) " من "المدونة"، و"الموازية". والثاني: أنه يبنى على ما مضى ويتمادى، ويجزئه لهما جميعًا. وهو قول عبد الملك، وأشهب. فإن قذفه بعد ما مضى جل الحد كالنصف أو ما يقاربه في الكثرة، والقلة كالثلاثين والأربعين على قول عبد الملك؛ فقد نص أشهب، وعبد الملك على أنه يستأنف لهما الحَدّ، ولا يعتد بما مضى من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الرجم.

السِّياط، ولا شيء عليه من الحَدّ [الثاني] (¬1) عندهما. وأما ابن القاسم فلم أَرَ له في ذلك نصًا. وأما إن قذفه بعد أن مضى أكثر الحد الأول، ولم يبق إلا اليسير مثل السّوط، أو الأسْواط على قول ابن القاسم، أو العشرة، أو الخمسة على قول محمَّد، فإنه يتم الأول، ويبتديء الثاني. وهو قول ابن القاسم، وأشهب، وعبد الملك، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: الباقي.

المسألة السادسة فيمن نفى رجلا عن أبيه، أو عن قبيلته

المسألة السادسة فيمن نفى رجلًا عن أبيه، أو عن قبيلته ولا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يقطع نسبه من أبيه، أو من جده. والثاني: أن يقطع نسبه من قبيلته. فإن قطع نسبه من أحد أبويه مثل أن يقول: لست لأبيك، وأبوه مسلم، فإنه يُحَد، سواء كانت أمه حُرّة كتابية أو أمة، والابن حُر؛ لأنه حمل أباه على غير أمه، وصار قاذفًا لأبيه؛ فكأنه قال: زنا أبوك بامرأة أخرى، وهي التي ولدتك. ولو كان الابن عبدًا، وأبوه حُرّ مسلم، فقد توقف فيه مالك في "الكتاب". وأجاب فيه ابن القاسم بأنه يُحَدّ كما لو كان حُرًا. ولو قال له: لست بابن فلان لجده من أبيه، وجده كافر يحد؛ لأنه قطع نسبه، وهو نص قول مالك في "الكتاب". ولو قال له: لست لأمك هل يحد أم لا؟ فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: أنه لا حد عليه؛ لأنه لا يقطع نسبه إذا نسب من الأب، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: أنه يُحَدّ؛ لأنه زنا الأب، وأن معنى الكلام أن غير أمك ولدتك زنا بها أبوك؛ فيصير قاذفًا لأبيه؛ لأنه حمل الأب على غير أمه، وهو قول في المسألة المتقدمة إذا قال له: لست لأبيك.

فلو نسبه إلى غير أبيه لصلبه؛ مثل أن يقول له: أنت ابن فلان -لجد من أبيه أو من أمه- فلا يحد؛ لأنهما يسميان آباء؛ وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬1)؛ فما نكح الجد للأم محرم نكاحه على ابن الابنة. فأما إن قطع نسبه من قبيلته، فلا يخلو من خمسة أوجه: أحدها: أن ينسب العربي إلى غير العربي. والثاني: أن ينسبه إلى غير قبيلته. والثالث: أن ينسبه من قبيلة مخصوصة إلى عموم الاسم؛ مثل أن تقول لقرشي: يا عربي. والرابع: أن يقول لمن ليس بعربي من سائر أجناس الأمم: يا عربي. والخامس: أن ينسب من ليس بعربي من سائر الأجناس إلى غير جنسه. أما الوجه الأول والثاني: إذا قال لعربي: يا بربري أو قال لتميمي: يا قرشي أو لقرشي: يا مُفَرِي، فإنه يُحَدّ؛ لأنه قطع نسبه. وأما الوجه الثالث: إذا قطع نسبه من قبيلة مخصوصة إلى عموم الاسم؛ مثل أن يقوم لقرشي أو لتميمي: يا عربي فإنه لا حَدّ عليه. وقال في "الكتاب": لأن اسم العرب قد جمع اسم قريش وغيرها. ومعناه أنه إذا ذكر جنسًا عم به لم يُحَد؛ لأنه لم يقطع بذلك نسبه لدخوله في عموم هذا الاسم. وإن كان جنسًا خص به [لا] (¬2) يدخل فيه من نفي حد؛ لأنه قطع ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (22). (¬2) سقط من أ.

نسبه. وأما الوجه الرابع: إذا نسب من ليس بعربي من سائر أجناس الأمم إلى العرب؛ مثل أن يقول لبربري أو لفارسي: يا عربي: فلا حَدّ عليه. وأما الوجه الخامس: إذا نسب من ليس بعربي من سائر أجناس الأمم إلى غير جنسه؛ مثل أن يقول لبربري: يا فارسي، أو لفارسي: يا بربري، أو لبربري: يا رومي، أو لرومي: يا بربري أو يا فارسي أو يا حبشي: فهذا كله لا حَدّ فيه إلا في وجه واحد، فإن مالكًا اختلف فيه قوله، وهو إذا قال لبربري أو لرومي: يا فارسي، أو يا حبشي؛ فمرة قال: يحد، ومرة قال: لا يحد. ويمكن أن يكون سبب اختلاف قول مالك في ذلك أنه يقع عنده تارة أن البربري، والرومي يحفظون أنسابهم، ويضبطونها كالعرب؛ فيحد من نفاه، وتارة رأى أنهم بخلاف العرب، وأنهم لا يحفظون أنسابهم، ولا يحافظون عليها، وهو الأصح منهم. وأمَّا الموالي فلا تخلو من أن يقول للمولى: لست من موالي بني فلان، أو يقول له: لست من الموالي، أو يقول له: لست مولى. فإن قال له: لست من موالي بني فلان، فإنه يحد؛ لأنه نفاه من أبيه وقطع نسبه. ولو قال له: لست من الموالي جملة، وله أبي معتق، هل يُحَدُّ أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يُحَد، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب"؛ لأنه قطع نسبه من أبيه. والثاني: أنه لا يُحَد، وهو قول أشهب.

فإن قال له: لست مولى فلان، وفلان أعتقه دون أن يعتق أباه، فهل يُحَدُّ أم لا؟ فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: أنه يُحَد، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب"؛ لأنه ليس له أب معتق، فيقطع نسبه منه. والثاني: أنه يحد؛ لأنه إذا قال: لست مولى فلان قطع ولاءه من فلان العتق، والولاء كالنسب، وهذا القول مخرج غير منصوص عليه. [والحمد لله وحده، تم كتاب القذف بحمد الله وحسن عونه].

كتاب الجراحات

كتاب الجراحات

كتاب الجراحات تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ست مسائل: المسألة الأولى في اشتقاق هذه الكلمة وأصلها من الاجتراح، وهو الاكتساب، والعمل بالجوارح، قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} (¬1) أي: اكتسبوها. ومنه: جوارح الصيد لاكتسابها. ثم لما كان أكثر عمل الجوارح في الصيد في الأجساد، والدماء سمى لذلك جرحًا، وصار عرفًا فيما هو بتلك الصفة دون سائر الاكتسابات. وجرحة الشاهد من هذا المعنى؛ كأنه لما مرض في عدالته كان كمن جرح في جسمه؛ ولذلك يقال: طعن فيه كله تشبيهًا بالجارح. ومن الجراح الشجاج لكنها مختصة بالرأس؛ لأن معناها العلو؛ يقال: شجوت البلاد إذا علوتها، ومعنى شجه أي: جرحه في أعلاه. والجراح في جميع الجسد، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سورة الجاثية الآية (21).

المسألة الثانية شبه العمد

المسألة الثانية شبه العمد وقد اختلف فقهاء الأمصار في نفيه وإثباته؛ فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى إثباته، وبه قال جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم عمر بن الخطاب، وعثمان، وعليّ، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة. واختلف فيه قول مالك على قولين، وابن القاسم عنه بنفيه في "المدونة"، وهو مشهور مذهبه. وقال ابن وهب فيما رواه عنه ابن حبيب بإثباته، وحكاه أصحابنا العراقيون عن مالك. والذين قالوا به فرقوا بين ما هو شبه العمد مما ليس بعمد، وذلك عندهم راجع في الأغلب إلى الآلة التي بها يقع القتل، وإلى الأحوال التي كان من أجلها الضرب؛ فقال أبو حنيفة: كل ما عدا الحديد من [النيرة] (¬1) والقصب، وغير ذلك، فهو شبه العمد، وإن كان على وجه [النيرة] (¬2) والقصب. وقال أبو يوسف، ومحمد -من أصحابه: شبه العمد ما لا يقتل مثله. وقال الشافعي: شبه العمد ما كان عمدًا في الضرب خطأ في القتل، أي: ما كان ضربًا لم يقصد به القتل، فتولد عنه القتل، والخطأ ما كان ¬

_ (¬1) في أ: النايرة. (¬2) في أ: النايرة.

خطئًا فيهما جميعًا، والعمد ما كان فيهما عمدًا، وما قاله حسن. فعمدة من نفى شبه العمد أنه لا واسطة بين العمد والخطأ -أعني: بين أن يقصد القتل أو لا يقصده. وعمدة من أثبت الواسطة أن النيات لا يطلع عليها إلا الله تعالى، وإنما الحكم بما ظهر؛ فمن قصد ضرب آخر بآلة تقتل غالبًا كان حكمه [حكم من قصد القتل عامدًا، فقتل بلا خلاف. ومن قصد ضرب رجل بآلة لا تقتل غالبًا كان] (¬1) حكمه مترددًا بين العمد والخطأ. هذا في حقنا لا في حق الأمر في نفسه عند الله. أمَّا شبهة العمد فمن جهة ما قصد ضربه. وأما شبهة الخطأ فمن جهة أنه ضربه بما لا يقصد به القتل، وقد روى في ذلك حديث مرفوع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن قتيلًا يشبه العمد والخطأ قتيل [السوط] (¬2) والعصا فيه دية مغلظة مائة من الإبل؛ منها أربعون في بطونها أولادها" (¬3) إلا أنه حديث مضطرب عند أهل الحديث لا يثبت من جهة الإسناد فيما ذكره أبو عمر ابن عبد البر (¬4)، وإن كان أبو داود وغيره قد خرجه بهذا النحو من القتل عند من لم يثبته يجب فيه القصاص، ومن أثبته تجب فيه الدِّية. ولا خلاف في مذهب مالك أن الضرب الذي يكون على وجه الغضب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في الأصول: للسوط. (¬3) أخرجه النسائي (4791)، وأحمد (6533)، والدارمي (2383)، وابن حبان (6011) من حديث عبد الله بن عمرو، وصححه الألباني رحمه الله تعالى. (¬4) الاستذكار (8/ 45).

والنايرة يجب به القصاص. واختلف في الذي يكون عمدًا على وجه اللعب، أو على وجه الأدب لمن أبيح له الأدب، وتحصيل المذهب في ذلك أن نقول: إن الذي قصد إلى إتلاف النفس، أو الجارحة، وتعمد قتلها، وذهابها فهو العمد الذي فيه القصاص بإجماع. وأما إن قصد إلى الضرب، ولم يقصد إلى القتل، ولا إتلاف الجارحة فيما يظهر من حاله وقصده، فإنه لا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعمد إلى الضرب على وجه العداوة والغضب. والثاني: أن يعمد إليه على وجه الأدب ممن يجوز له الأدب. والثالث: أن يعمد إليه على وجه اللعب. فأمَّا الوجه الأول: إذا عمد إليه على وجه العداوة، والغضب فلا يخلو من أن يكون ضربه في غير الجارحة التالفة، أو في الجارحة نفسها. فإن كان ضربه في غير الجارحة التالفة؛ مثل أن يضربه في رأسه، فيذهب منها عينه، فإنه لا يقتص من العين باتفاق، وإنما فيه الدية. وهل ذلك في ماله أو على العاقلة؟ فالمذهب على قولين منصوصين لابن القاسم. فإن ضربه في الجارحة التابعة؛ مثل أن يضربه في عينه بحجر أو بحديد، أو ما أشبه ذلك مما يقع به التلف عامدًا، فتلف فإنه يقتص منه قولًا واحدًا. وأما إن ضربه بلطمة، أو بسوط، أو ما أشبه ذلك مما الظاهر فيه أنه لم يقصد إلى فقأ عينه، فأصاب عينه في ذلك ففقأها ففي ذلك قولان: أحدهما: وهو المشهور -أن ذلك عمد فيه القصاص إلا من الأب في

ابنه، ومن أشبه الأب. وهو نص قول مالك في "الكتاب" في "كتاب الجراحات". والثاني: أن ذلك يشبه العمد فلا قصاص فيه، وفيه الدِّية مغلظة في ماله. وهي رواية العراقيين عن مالك، ورواية ابن حبيب عن ابن وهب. والقول الأول أصح؛ والدليل عليه حديث أنس في شأن أمّ الربيع روى في الصحيح أن ابنت النضر أخت الربيع لطمت جارية فكسرت سنها، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بالقصاص فقالت أم الربيع يا رسول الله، أيقتص من فلانة؟ والله لا يقتص منها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا أم الربيع، القصاص في كتاب الله تعالى" فقالت: والله ما يقتص منها أبدًا، فما زالت حتى قبلوا الدِّية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" (¬1). وهذا الحديث خرَّجه مسلم على هذا السياق. وأما الوجه الثاني والثالث: إذا كان على وجه الأدب ممن يجوز له الأدب، أو على وجه اللعب كالمتصارعين والمتراميين؛ يموت أحدهما بفعل صاحبه ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: وجوب القصاص على أنه عمد محض، وهو قول مطرف، وابن الماجشون. والثاني: أنه لا قصاص فيه، وتُغَلَّظ فيه الدِّية على أنه شبه العمد، وهي رواية ابن حبيب عن ابن وهب. والثالث: أنه خطأ، وفيه الدِّية غير مغلظة على العاقلة فيما زاد على الثلث، وهو قوله في "المدونة"، وهو مشهور مذهبه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1675).

والأقوال الثلاثة جارية في الضرب على معنى الأدب إذا فعل الفاعل ما أبيح له على الوجه الذي أبيح، وحيث أبيح كالحاكم، وضارب الحد والمؤدب، والأب، والزوج، والخاتن، والطبيب. واختلف تأويل متأخري الأشياخ في قوله في "الكتاب": كالرجلين يصطرعان أو يتراميان، ويأخذ أحدهما برجل الآخر على وجه اللعب فيموت، فقال: إنما في ذلك كله دية الخطأ على قولين: أحدهما: أن ذلك كله إذا كان يتفاعلان ذلك كل واحد منهما يتصارع مع صاحبه، أو يترامى معه، وهو ظاهر لفظه في "الكتاب" حيث قال: يتراميان ويتصارعان، وهذه مفاعلة، ولا تكون إلا من اثنين. وأما إذا فعل أحدهما ذلك بالآخر على وجه اللعب، ولم يلاعبه المقتول، ولا رماه فهذا فيه القصاص كما روى مطرف، وابن الماجشون. وعلى هذا التأويل يكون قولهم وفاقًا. والثاني: أن ذلك سواء. متى كان ذلك على وجه اللعب كان منهما أو من أحدهما. وهو ظاهر قوله في "الكتاب" أيضًا حيث قال: وأخذ برجله فسقط، وهو الصواب إذا عرف أن مقصوده اللعب، ويكون قول مطرف خلاف، والحمد لله وحده.

المسألة الثالثة في حكم الدية المغلظة

المسألة الثالثة في حكم الدِّية المغلظة وإذا فعل الأب بابنه مثل ما فعل المدلجي بابنه، ففيه تغلظ الدية، وهو الذي قال فيه مالك: يشبه العمد بلا خلاف. والدِّية على ثلاثة أضرب: دية الخطأ: وهي مخمسة: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكور، وعشرون حِقّة، وعشرون جذعة. ودية العمد: مربعة، وهي: خمسة وعشرون بنت مخاض، وخمسة وعشرون بنت لبون، وخمسة وعشرون حقة، وخمسة وعشرون جذعة. ودية شبه العمد: مغلظة؛ وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها. ولا تكون -أعني: دية العمد- إلا في مثل ما فعل المدلجي بابنه حذفه بحديدة فقتله؛ فحكم فيه عمر رضي الله عنه بمائة من الإبل مغلظة على ما فسرناه. ولا يخلو قتل الأب ابنه من أن يكون عمدًا محضًا أو شبه عمد. فإن قتله عمدًا، هل يقتل به ويقتص منه من له القيام أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يقتل، وهو قول أشهب على ما نقله اللخمي. والثاني: أنه يقتص منه. ثم لا يخلو القائم بالدم من أن يكون عصبة أو يكون ابنًا له آخر.

فإن كان عصبة، فلهم أن يقتصوا منه بلا جرحة تلحقهم. فإن كان ابنًا له آخر، هل يمكن من قتله، ويكون ذلك جرحه في شهادته أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يمكن من قتله، ويكون ذلك جرحه في شهادته بعد أن يعرف بذلك، وهو قوله في "كتاب القذف" من "المدونة". والثاني: أنه لا يمكن منه، وهو قوله في أول "كتاب المِدْيَان" في اليمين. وقال ابن القاسم في "كتاب الديات" من "المدونة": كره له مالك القصاص منه، وكان يكره أن يحلفه في الحق، فكيف يقتله؟ فإن اجترأ وفعل، فإنه لا يؤدب فيه غير أن ذلك جرحة اكتسبها. وابن الابن في جميع ذلك كالابن في تغليظ الدية. واختلف في الجد أبى الأب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه كالأب، وتغلظ عليه الدية، ولا يقطع إن سرق من مال ولد ولده، وهو قوله في "كتاب القطع في السرقة"، وفي "كتاب الجراحات" من "المدونة" في تغليظ الدية. والثاني: أنه كالأجنبي، ولا تغلظ عليه الدية، وهو قوله في غير ما موضع من "المدونة". واختلف فيما عداه من الأجداد، والجدات مثل أم الأم، وأم الأب، والجد وأبو الأم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كالأجنبيين، وهو قوله في "المدونة".

والثاني: أن جميع الأجداد، والجدات من أيّ جهة كانوا كالأبوين، وهو قول عبد الملك في "المجموعة". والثالث: أن جميعهم كالأبوين الأب والأم، فهو كالأجنبيين، وهو قول ابن القاسم، وأشهب في "كتاب ابن المواز". وأما سائر القرابات فهم كالأجنبيين قولًا واحدًا إلا ما جرى على وجه الأدب من القرابة، فإنه يكون مثل خطأ المعلم، وذوي الصنعة ما لم يتعمده بسلاح أو شبهه. وهو قول ابن القاسم عن مالك في "المجموعة". فإذا ثبت ذلك، فلا يخلو ما فعله الأب بابنه من أن يكون قتلًا أو جراحًا. فإن كان قتلًا، فإنه تغلظ فيه الدية قولًا واحدًا في المذهب. ثم لا يخلو الأب من وجهين: إما أن يكون من أهل الإبل، أو يكون من أهل الذهب والورق. فإن كان من أهل الإبل، فالتغليظ عليه بالعدد قولًا واحدًا. فإن كان من أهل الذهب والورق، فهل تغلظ عليه الدية أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا تغلظ عليهم؛ وإنما عليهم ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم إن كانوا من أهل الورق. والثاني: أنها تغلظ عليهم. والقولان عن مالك في "الموازية" وغيرها. وعلى القول بتغليظ الدية، فما كيفية تغليظها؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال:

أحدها: أن ينظر إلى قيمة دية الخطأ المخمسة من الإبل. فإن قيل: ستمائة درهم، قيل: وما قيمة المغلظة من الإبل، وهي مثلثة، فإن قيل: ثمانمائة كان له من الدِّية دية وثلث. وكذلك لو كانت دِيَة المغلظة ألف وستمائة درهم كانت له ديتان، وهو قول مالك في "الموازية"، و"كتاب ابن عبدوس". وينظر ما زادت الغلظة على المخمسة، ولا يجوز أن يقال: كم هو جزء من المغلظة، وهو قول سحنون في "كتاب ابنه"؛ لأنه إذا نسب إلى المغلظة يكون أقل، وإذا نسب إلى المخمسة يكون أكثر. والثاني: أنه ينظر إلى قيمة أسنان المغلظة من الذهب، والورق، فيؤدي ما لم يكن أقل من ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم، ولا ينظر ما زادت على دية الخطأ، وهي رواية بعض البغداديين عن مالك في "كتاب ابن سحنون" وغيره. والثالث: أن يعرف ما بين القيمتين، فيزاد ذلك العدد على الذهب أو الورق؛ مثل أن تكون قيمة دية الخطأ ستمائة دينار، وقيمة دية المغلظة ثمانمائة دينار؛ فما بين القيمتين مائتا دينار؛ فذلك القدر هو الذي يزاد على أهل الذهب أو الورق. فإن كان بلد لا إبل فيه كالأندلس نظر إلى قيمة الإبل في أقرب البلدان إليهم، وهذا قول ابن القاسم فيما حكاه ابن حبيب في "النوادر". وعلى القول بأنها تغلظ على أهل المذهب والورق، فهل تقوم حالة أو مُنَجَّمة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها يُقَوِّمَان الدِّيتين على أنهما حالتين. والثاني: أنهما يُقَوِّمَان على أنهما مُنَجَّمَتَيْن.

والقولان لمتأخري الصقليين والقرويين من أصحابنا. وعلى القولين جميعًا، هل يكون في مال الجاني أو علي العاقلة؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها في مال الجاني حالة، وهو قوله في "المدونة". والثاني: أنها على العاقلة جملة. وهو قوله عبد الملك، ومحمد بن المواز في كتابه. والثالث: التفصيل بين أن يكون الجاني موسرًا، فتكون في ماله، أو يكون معسرًا، فتكون على العاقلة وهو قول مطرف, وابن الماجشون، وابن حبيب في كتابه. وعلى القول بأنها على العاقلة، هل تكون حالة أو منجمة؟ على قولين: أحدهما: أن تكون حالة على العاقلة، وذكر أن الأصحاب مجمعون على أنها حالة، وإنما اختلفوا هل هي على الأب أو على العاقلة. والثاني: أنها منجمة على العاقلة، وهو أحد قولي ابن القاسم في "النوادر"، وبه قال أصبغ. وهذا كله فيما إذا ثبت قتل الأب ابنه بِبيِّنَة. وأما إن كان ذلك بإقرار الأب، فلا تغلظ فيه الدّية، وهي في ماله بإجماعهم، وهذا قول سحنون في كتاب ابنه. وهل تغلظ في الجراح أم لا؟ فلا يخلو من أن تكون مما يمكن فيها القصاص أو مما لا يمكن فيها. فإن كانت الجراح مما يمكن فيها القصاص، فالمذهب على قولين:

أحدهما: أن الدِّية تُغَلَّظ فيها كالنفس. والثاني: أنها لا تُغَلَّظ. والقولان لمالك فيما حكاه ابن عبد الحكم في "كتاب ابن المواز". فإن كانت مما لا يمكن فيها القصاص كالجائفة، والمأمومة، والمنقلة، فإنها لا تغلظ فيها الدِّية. فلو قال الابن: دمي عند فلان أبى عمدًا أو خطأ، فلا يخلو من أن يكون منفوذ المقاتل أو غير منفوذ المقاتل. فإن كان غير منفوذ المقاتل ففيه القاسم في العمد والخطأ، ويستحق بذلك دية المغلظة، وهو قول ابن القاسم في العمد، وأشهب في الخطأ في "كتاب ابن سحنون" وغيره. فإن كان منفوذ المقاتل مثل أن يقول: ذبحني أو بقر بطني، ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يُقْسم مع قوله، يقتل الأب، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه لا يقبل قوله، ولا يقتل به الأب، وكيف يقبل قول من هو في عِدَادِ الموتى إلا أن يكون ذبحه، وبقيت أوداجه، ولم يجهز عليه؟ وهو قول سحنون في "كتاب ابنه" قال: وإن لم يفسر الابن كيف قتله غُلِّظَت الدية في مال الأب. وسبب الخلاف: في جميع ما تقدم من اختلافهم في الدية، هل هي على العاقلة أو في مال الأب؟ واختلافهم هل هي منجمة أو معجلة؟ واختلافهم في فعل الصحابي، هل يكون حجة أو لا يكون حجة؟ وذلك أن عمر رضي الله عنه قال لسراقة بن جعشم في قضية المدلجي: اعدد لى على قدر مائة وعشرين بعيرًا، وأمر سراقة بإحضار هذا العدد من غير أن

يكلف ذلك الأب دليل على أنها على العاقلة؛ لأن سراقة هو رئيس القوم ومقدمهم. وفيه أيضًا دليل على أنها حالة؛ لأنه لم يذكر فيها التنجيم. وقوله مائة وعشرون إنما أمره بزيادة العشرين ليختار فيها [وكأنها حالة] (¬1). ومن ذهب إلى أن فعله حجة، قال: فإنها على العاقلة وأنها حالة. ومن لم يره حجة جعلها مسألة نظرية. فمن غلب فيها شائبة العمدية جعلها على الأب. ومن غلب شائبة الخطأ جعلها على العاقلة منجمة. ومن قال حالة، فهو تردد لا تقييد؛ إذ لا مدخل للعبادة في هذا الفصل، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة الرابعة في أساس الجراح وأحكامها

المسألة الرابعة في أساس الجراح وأحكامها وأسامي الجراح والشجاج في الفقه، واللغة عشرة: أولها: الحَارِصَة: وهي التي حرصت الجلد، أي: خدشته وقشرته قليلًا. ثم الدَّامية: وهي التي تدمي من غير أن يسيل منها شيء. وقيل: إن الدَّامية أولًا ثم الحارصة. وقيل الدامغة: هي التي يسيل منها الدم. وقيل: الدامغة والدامية سواء. ثم البَاضِعَة: وهي التي تشق اللحم شقًا. ثم المُتَلَاحمة: وهي التي أخذ في اللحم. ثم السّمْحَاق: وهي التي أثرت في اللحم حتى لا يبقى بين العظم، واللحم إلا قشرة رقيقة، وهي الغشاء، ويقال لها: الملطاء. وقال ابن حبيب السمحاق هي: الحارصة. ثم المُوَضِّحة: وهي التي توضح عن العظم -أي: تبدى وضحه، وهو بياضه. ثم الهاشمة: وهي التي تهشم العظم. ثم المنقلة: وهي التي تكسر العظم، فتنقل منها العظام عن موضعها ليلتمي الجرح، وبينها وبين الدماغ صفاق رقيق؛ هكذا فسرها أبو بكر بن

العربي في "ترتيب المسالك [في موطأ مالك] (¬1) " وهي مختصة بالرأس. ثم المأمومة: وهي التي تبلغ أم الرأس، وهي الدماغ؛ ومعناه أنها تقيت الشفاف الذي فيه الدماغ. ثم الجائفة: وهي التي أفضت إلى الجوف -كبرت أو صغرت- ولو بمدخل إبرة. وأسماء هذه الشجاج مختصة بما وقع منها في الوجه، والرأس دون سائر البدن. واسم الجرح يختص بما وقع في البدن. فهذه أسماء هذه الجراح والشجاج. وأما أحكامها -أعني: الواجب فيها- فاتفق المذهب على أن ما دون الموضحة ليست فيه عقل مسمى، وسواء كان في الرأس , أو في سائر الجسد، وإنما هي عمد أو خطأ؛ فالعمدية القصاص؛ لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬2)، والخطأ إن برأت على غير شين , فلا شئ فيه غير الأدب علي الجاني، وإن برأت على شين، ففيها الاجتهاد. وقال السبعة الفقهاء: فيما دون الموضحة من الخطأ, وأجر المداوي, وأما ما عداها من الشجاج، والجراح مثل الموضحة، والمنقلة , والمأمومة, والجائفة، فإن فيها عقلًا مسمى بالسنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمدها وخطأها سواء إلا ما ليس فيه خطر عظيم كالموضحة؛ فإن المجني عليه مخير فيها بين القصاص، والعمد، والأرش؛ لأنها ليست بمتلف. وأما ما عداها فليس فيها إلا الأرش، ولا يمكن من القصاص لتفاقم الغرر, والخطر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة المائدة الآية (45).

في شأنها، فخاف أن يتعدى الأمر فيها إلى ذهاب النفس بالكلية، والقصاص موضوعه التساوي، وإنما فيه الدية، ودِيَة كل شجة منها مقدرة معلومة؛ وأول ذلك الموضحة ففيها نصف عشر الدية، وهو خمس من الإبل، وإن كانت في الوجه، فشانه فإنه يزاد فيها بقدر شينها على اختلاف أقوالهم في الشين، هل يزاد له أم لا؟ وقد اختلف المذهب في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يزاد في شينها جملة -أعني: موضحة الوجة- وهو قول ابن القاسم في "المدونة" و"الموازية" و"المجموعة". والثاني: أنه لا يزاد في شينها شيء؛ لأن فيها دية مؤقته، وهو قول أشهب في "المجموعة". والثالث: أنها لا يزاد فيها إلا أن يكون شينًا منكرًا، فيزاد في ذلك، وهو قول ابن نافع، وابن وهب عن مالك في "المجموعة". فإن كان الضرب خطأ في الموضحة كان له بعير من كل سن من أسنان دية الخطأ، وإن كان عمدًا كان له بعير وربع بعير من كل سن؛ وذلك خمسة أبعرة؛ لأنها مربعة. وأما الهاشمة: فقد أنكرها مالك في الكتاب، وقال: لا أرى هاشمة تكون في الرأس إلا كانت منقلة. وقد اختلف قول ابن القاسم وأشهب في وجوب القصاص منها على قولين؛ فابن القاسم منعه، وأشهب جوزه كالموضحة عنده. فإن اقتصر منها على قول أشهب، فبرأت موضحة، ولم يصب العظم هشم، فلا شيء للمستفيد له، وإن أصابه هشم فذلك حقيقة القصاص،

وإن ترامت إلى منقلة أو إلى نفسه، فذلك قتيل الله لا دية فيه. وأما المنقلة: ففيها عُشْر الدِّية، ونِصْف العُشْر؛ وهو خمسة عشر بعيرًا. فإن كانت الضربة خطأ كان له ثلاثة أبعرة من كل سن، وإن كانت عمدًا كان له أربعة أبعرة الأربعة من كل سن. وأما المأمومة ففيها ثُلث الدِّية؛ وهي ثلاثة وثلاثون بعيرًا وثلث بعير. وأما الجائفة: فإنها من جراح البدن لا من شجاج الرأس؛ وهي ما وصل إلى الجوف، ولو بمدخل إبرة، ولا تكون إلا في الظهر , أو في البطن، وفيها ثلث الدية أيضًا كالمأمومة , ولا قصاص فيها قولًا واحدًا بين أهل العلم، والعمد والخطأ فيهما سواء. واختلف قول مالك في الجائفة إذا نفذت على قولين: أحدهما: أن فيها ثلث الدية. [والثاني: أن فيها ثلثي] (¬1) الدية، وهو اختيار ابن القاسم. وروى أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه استقاد من المنقلة , وهو أحد قولي مالك على ما نقله الحفيد أن مالكًا اختلف قوله في القصاص من المنقلة؛ فلأجل هذا لم نطلق في المنقلة إجماع العلماء. ولا خلاف فيما كان من هذه الشجاج والجراح خطأ أن ديته ما بلغ منها ثلث الدية على العاقلة، واختلف فيما كان منها عمدًا علي ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك في مال الجاني جملة بلا تفصيل؛ لأنه عمد , والعاقلة لا تحمل العمد. والثاني: أن ذلك على العاقلة من غير تفصيل؛ لأنه يشبه الخطأ لامتناع ¬

_ (¬1) سقط من أ.

القصاص فيه، والقولان عن مالك. والثالث: أن ذلك في ماله إن كان له مال، وعلى العاقلة إن لم يكن له مال، وهو أحد قولي ابن القاسم، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الخامسة في ديات الأعضاء، والجراح، والحواس، والمنافع

المسألة الخامسة في ديات الأعضاء، والجراح، والحواس، والمنافع فأول ذلك العقد فيه الدية كاملة، وإن نقص بعضه، فبحساب ذلك. والسَّمع فيه الدِّية كاملة، وإن نقص بعضه، فبحساب ذلك. والبصر فيه الدية كاملة، وإن نقص فبحساب ذلك. والأنف فيه الدية كاملة إذا أوعى المارن جذعًا، وإن انقطع بعضه، فبحساب ما قطع منه. والشفتان فيهما الدية كاملة؛ في كل واحدة نصفها, ولم يخلتف أحد من العلماء في ذلك وإنما اختلفوا في العليا والسفلى أيهما أكثر؛ فذهب سعيد بن المسيب إلى أن في السفلى ثلثي الدية، وذهب ابن حبيب إلى أن العليا ثلثي الدية، وهو شذوذ من القول، وإن كان سعيد إنما أوجب في السفلي ثلثي الدية لضمها [العظام] (¬1)، واللعاب؛ فبأن يكون في العليا ثلثا الدية لجمال الوجه، والفم أولى كما قال ابن حبيب. واللسان فيه الدية كاملة، فإن قطع بعضه، فبحساب ما ذهب من كلامه، وهل يراعى عدد نقصان الحروف أو لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن النظر إلى نقصان الكلام بالاجتهاد لا بعدد الحروف بقدر ما يرسخ في القلب من نقصان ذلك، ويقع في نفسه أنه ذهب نصف ¬

_ (¬1) في ب: الطعام.

كلامه أو ثلثه؛ لأن من الحروف ما لاحظ للسان فيه مثل الهاء، والميم، والحاء، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وهو مشهور المذهب. والثاني: أن الدية تقسم على عدد الحروف المعجم ثمانية وعشرون حرفًا فما نقص من هذه الحروف أخذ بحسابه، والحرف الثقيل والخفيف سواء، وهو قول أصبغ، وابن حبيب في "الواضحة"، و"الموازية". والسن فيه خمس [من الإبل. والأضراس والأسنان سواء في كل واحد منهما خمس من الإبل] (¬1) على ما قضى به معاوية رضي الله عنه، وذكر مالك في موطئه عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أنه قال: قضى عمر رضي الله عنه في الأضراس ببعير بعير، وقضى معاوية رضي الله عنه في الأضراس بخمسة أبعرة خمسة (¬2). قال سعيد: والدية تنقص في قضاء عمر، وتزيد في قضاء معاوية، فلو [كنت] (¬3) أنا لجعلت فيها يعني: الأضراس -بعيرين بعيرين، فتلك الدية سواء، وذلك أن الأسنان اثنا عشر سنًا؛ وهي أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربع أنياب [فيجب] (¬4) لها ستون بعيرًا على خمسة أبعرة في كل سن. والأضراس عشرون وأربع ضواحك، وهي التي تلي الأنياب، واثنا عشر رحى ثلاثة في كل شق، وأربعة نواجذ -وهي أقصاها- فيجب لها أربعون بعيرًا على قول [سعيد بن المسيب] فيأتي في الأسنان مائة بعير، وتلك الدية كاملة، ويأتي على ما ذهب إليه مالك] (¬5) وقضاء معاوية في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه مالك (1554). (¬3) في ب: كانت. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

جميع الأسنان مائة بعير، وستون بعيرًا، وعلى قضاء عمر رضي الله عنه ثمانون بعيرًا. والصلب فيه الدية كاملة إذا أقعده، ولم يقدر على المشي. والذكر فيه الدية كاملة قطع كله أو الحشفة وحدها، فإن قطع بعضها [فبحسابه] (¬1). والأنثيان فيهما الدية كاملة، وهل هي بينهما أنصافًا أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الدية بينهما أنصاف، وهو مذهب المدونة، وهو مشهور المذهب. والثاني: أن في اليسرى منهما الدية كاملة، وهذا القول حكاه ابن حبيب في المذهب، وحكاه عنه أبو محمَّد في "النوادر". وذهب سعيد بن المسيب أن في اليسرى ثلثي الدية، وفي اليمنى الثلث؛ لأن الولد يكون من اليسرى. واختلف في الأُنثَيَين إذا قطعتا مع الذكر على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه في ذلك ديتين -كان القطع في مرة واحدة، أو قطع الذَّكر قبل الأُنثَيَين أو بعدهما- وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن الأولى [فيها] (¬2) الدية، وفي [الأخرى] (¬3) حكومة -ذكرًا كان أو أُنْثَيين- وهي رواية مطرف، وابن الماجشون عن مالك. ¬

_ (¬1) في أ: فبحساب ذلك. (¬2) في أ: فيه. (¬3) في أ: الآخر.

والثالث: أن في الذَّكر دية [قطع] (¬1) أولًا أو آخرًا، وإن قطعت الأنثيان بعد الذكر فلا دية فيهما، وبه أخذ ابن حبيب، وهو مذهب أهل العراق أنه إن بدأ بالقطع من أسفل فديتان؛ لأن الأنثيين قطعتا قبل الذكر. وإن بدأ بالقطع من فوق فدية وحكومة. واليدان فيهما الدية كاملة، وفي كل واحدة منهما نصف الدية. وفي أصبع كل واحدة منهما عشر من الإبل. وإن كان في إحدى اليدين أصبع زائد، فلا يخلو من أن تكون قوتها كقوة الأصابع، أو تكون أضعف منها. فإن كانت ضعيفة عن التناول والخدمة، فلا خلاف أنه لا دية فيها، ولا قصاص، وإنما فيها حكومة، وإن كانت قوية ومنفعتها كمنفعة سائر الأصابع، فلا تخلو من أن يكون قطعها عمدًا أو خطأ؛ وإن كان خطأ، هل تكون فيها الدية أم لا؟ المذهب على قولين: أحدهما: أنها لا دية فيها أصلًا، سواء قطعت وحدها، أو قطعت اليد التي هي فيها؛ وإنما فيها حكومة، وهو قول ابن سحنون عن أبيه في كتابه. والثاني: أن فيها دية الأصبع؛ وهي عشرة من الإبل. فإن قطعت اليد التي هي فيها، ففيها ستون بعيرًا أو ستمائة دينار إن كان الجاني من أهل الذهب، وهو قول ابن القاسم في "المجموعة"، و"الموازية". ¬

_ (¬1) في أ: القطع.

فإن قطعت عمدًا فلا قصاص فيها؛ إذ لا نظير له، وفيها الدية، وهو قول ابن القاسم في "المجموعة". وعلى هذا القول لو قطعت جميع اليد التي هي فيها عمدًا لكان فيها القصاص، ودية الأصبع. وأشراف الأذنين إذا قطعا قد اختلف فيها قول مالك؛ فمرة [يقول] (¬1) فيها الدية كاملة مع بقاء السمع، ومرة يقول: فيها الحكومة. فإذا ذهب السمع والأذن بضربة واحدة ففيهما قولان: أحدهما: أن الواجب فيهما دية واحدة، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه فيهما ديتين؛ على القول بأن الأذن فيها الدية إذا قطعت وبقى السمع. وثديي المرأة فيهما الدية كاملة؛ في كل واحد منهما نصف الدية. وإن قطعت الحلمتان، وبطل مخرج اللبن حتى لا ينتفع المرضع بذلك فقد وجبت الدية، وإن كان على غير ذلك ففيهما بقدر شينهما، وهو قول ابن القاسم، وعبد الملك. واختلف في ثديي الصغيرة، هل يستأنى بهما أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يستأنى بهما؛ إذ لا يطمع فيهما بنبات فيؤخر، وهو قول مطرف، وابن الماجشون، وأشهب. والثاني: أنه يستأنى بهما كسن الصغيرة، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في "المجموعة"، و"الموازية"، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وإن رجى لها نبات. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وإليتا المرأة: ففيهما الدية كاملة على قول أشهب، وفيهما حكومة على قول ابن القاسم. والشوي: وهو جلدة الرأس فيها الدية كاملة. والصدر: إذا هدم ولم يرجع إلى ما كان عليه، ففيه الدية كاملة، وهو قول أبي الفرج عن ابن الماجشون في جلدة الرأس، والصدر. والشم إذا ضرب، فأذهب شمه، والأنف قائم ففيه قولان: أحدهما: وجوب الدية بذهاب الشم، وإن كان الأنف قائمًا، وهو قول أبي الفرج في "الحاوي" و"كتاب الأبهري". وإن قطع الأرْنَبة -وهو المارن- وبقى الشم، ففيه الدية أيضًا، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو المشهور. والثاني: أن الأنف لا تجب فيه الدية حتى يستأصل من أصله، وهي رواية ابن نافع عن مالك في "الحاوي"، وهو قول شاذ، وقال: في الشم حكومة. والجماع إذا ضربه، فأذهب جماعه فإن فيه الدية كاملة؛ لأنه قد عطل منافع الذكر، وهذا القول يستقرأ من مسألة الصلب؛ لأن الدية إنما وجبت في الصلب؛ لأنه عطل منافع الرجلين. والذوق قد جعل فيه بعض أصحابنا المتأخرين الدية كاملة، ولا أعرف فيه نصًا للأصحاب. وفي شفري المرأة الدية كاملة إذا سلبتهما حتى يبدو العظم، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في "الموازية"، و"المجموعة". فالذي يتحصل فيما يجني به على الرجل من الديات [على المذهب] (¬1) ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ثمان عشرة دية: إحدى عشرة في رأسه، وسبع في جسده؛ فالتي في الرأس: العقل، والسمع، وأشراف الأذنين، والبصر، والشم، والأنف، والذوق، والكلام، والشفتان، والشوي -وهي جلدة الرأس- والأضراس، والأسنان. والتي في الجسد: اليدان، والرِّجلان، والصلب، والصدر، والذَّكر، والأنثيان، وإذهاب الجماع. وتجتمع في المرأة ثمان عشرة دية أيضًا؛ لأن فيها ثلاث ديات ليست في الرجل، وهي: الشفرتان، والحلمتان، والإليتان. كما أن في الرجل ثلاث ديات ليست في المرأة، وهي: ذهاب الجماع، والذَّكر، والأنثيان، [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة السادسة في معاقبة المرأة للرجل في ديات الجراح

المسألة السادسة في معاقبة المرأة للرجل في ديات الجراح ولا خلاف بين العلماء فيما زاد على ثلث دية الرجل أن المرأة فيه على النصف [منه] (¬1)، واختلف فيما دون الثلث؛ فذهب مالك -رحمه الله- إلى مساواتها مع الرجل إلى ثلث ديته، فإذا بلغت إلى ثلث الدية لم تستكملها، ورجعت إلى عقل نفسها، فكان لها في الثلث، وفيما زاد عليها نصف عقل الرجل. وذهب الشافعي، وأبو حنيفة إلى أن المرأة على النصف من عقل الرجل في القليل والكثير. والدليل لمالك -رحمه الله- أمران: أحدهما: الأثر، والثاني: النظر. فأمَّا الأثر: فما رواه مالك عن سعيد بن المسيب، وعن عروة بن الزبير أن المرأة مساوية للرجل إلى ثلث الدية (¬2). وهو قول زيد بن ثابت، وابن عباس، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وإن كان قد روى عنهما رضي الله عنهما خلاف هذا إلا أن الأشهر عنهما ما ذكرنا، وهو مذهب الفقهاء السبعة، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز، وروى ذلك أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مراسيل عمرو بن شعيب عن أبيه، وعكرمة. وذكر مالك في موطئه (¬3) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: سألت سعيد بن المسيب [كم] (¬4) في أصبع المرأة؟. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه مالك (2/ 854). (¬3) الموطأ (2/ 860). (¬4) سقط من أ.

فقال: عشر من الإبل، وقال مثل ذلك في الثاني والثالث قال: فقلت له: كم في أربع؟ فقال: عشرون من الإبل، فقلت: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها نقص عقلها، فقال: أعراقي أنت؟ قال: فقلت: بل عالم متثبت أو جاهل متعلم، فقال: هي السنة يا بن أخي. فقوله: هي السنة يا بن أخي، يحتمل أن يكون أرسله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمرسل عند مالك كالمسند في وجود العمل، ويحتمل أن تكون سنة مستنبطة من هذه الظواهر والآثار، ويحتمل أن تكون سنة البلد بلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه متظاهر في التابعين؛ ولهذا قال ابن هرمز: وهذا مما أخذناه عن الفقهاء، ولم نقله برأينا. وأما النظر: فإن الله تبارك وتعالى ساوى بين المرأة والرجل في أصل الخلقة، ومبدأها إلى الثلث، ثم فصل بينهما فيما بعد الثلث، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ثم أربعين يومًا علقة ثم أربعين يومًا مضغة، ثم يأتي الملك الموكل بالرحم، فيقول: أي رب ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما الرزق، وما الأجل؟ فينفخ فيه الروح (¬1). فيقع الفعل من الله بالتذكير إن شاء أو التأنيث بعد هذا المشترط فيه، وهو من العام ثلثه، وقال الله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} إلى قوله: {بِمِقْدَارٍ} (¬2)، وبين الاعتبار من قوله في الآيتين إحداهما: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (¬3)، والثانية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3036)، ومسلم (2643). (¬2) سورة الرعد الآية (2). (¬3) سورة البقرة الآية (233).

قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (¬1)، أن أمد الغيض -وهو النقصان- من أمد المعلوم في العادة، وهو تسعة أشهر في الأغلب، والأكثر ثلاثة أشهر، وأن الولد يصح نسبه من والده لستة أشهر؛ لأن الغيض نقصان ثلاثة أشهر من التسعة؛ فيثبت النسب بولادة ستة أشهر، فإذا اعتبرنا الزيادة بالنقصان اعتبارًا عدلًا حملنا على التسعة الأشهر ثلاثة أشهر كما نقصنا من التسعة ثلاثة أشهر في الغيض، وفي حملنا ثلاثة أشهر على تسعة تمام العام، وقد تقدم أن الأربعة الأشهر المسترد فيها ثلث العام، فكما اشتركا من العلم، وهو منتهى الأمد على الاعتبار الذي ذكرناه في ثلثه في الخلقة، ثم وقع الفصل بعد الثلث، وانفرد الذكر بتذكيره، والأنثى بتأنيثها فكذلك يشتركان في المعاقلة في الثلث ثم يرجع بعد الثلث كل واحد منهما إلى عقل نفسه كما رجع بعد ثلث العام إلى صورة نفسه، وحسبك بهذا الاعتبار بيانًا لائحًا، ودليلًا واضحًا، وهذا الاعتبار لبعض أصحابنا المتأخرين. فإذا ثبت ذلك، فينبغي أن يعلم أن في كل أصبع من أصابع الرجل عشر من الإبل، وفي كل أنملة ثلاثة أبعرة، وثلث خلا الإبهام، فإنه قد اختلف فيه المذهب على [قولين] (¬2): أحدهما: أن فيه مفصلين؛ في كل مفصل خمس من الإبل، وهو مذهب المدونة، وهو المشهور. والثاني: أن فيه ثلاث مفاصل كسائر الأصابع، وهو قول ابن كنانة في كتاب ابن سحنون. والمرأة تساوي الرجل في دية الأصابع حتى تقطع لها ثلاثة أصابع وأنملة ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف الآية (15). (¬2) في أ: ثلاثة أقوال.

ثم ترجع إلى عقل نفسها على ما نفصله ونحصله إن شاء الله، فنقول -وبالله التوفيق: فإذا ضربت المرأة، فزالت بعض أصابع يديها أو رجليها، فلا يخلو الضرب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون عمدًا. والثاني: أن يكون خطأ. والثالث: أن تذهب بعض أصابعها بضربة عمد، وبعضها بضربة خطأ. فأمَّا الوجه الأول: إذا كان الضرب عمدًا، ففيه القصاص قولًا واحدًا -كان الضارب رجلًا أو امرأة. وأما الوجه الثاني: إذا كان الضرب خطأ، فلا يخلو من أن يقطع من أصابعها ما يبلغ ثلث الدية، أو يقطع منها ما دون ذلك. فإن قطع منها ما يبلغ ثلث الدية، فلا يخلو من أن يكون ذلك في ضربة واحدة أو ضربات. فإن كان في ضربة واحدة، مثل أن يضربها فيقطع لها أربعة أصابع [أو ثلاثة أصابع] (¬1) وأنملة ففيها في كل أصبع خمس من الإبل سواء كان القطع من كف واحدة، أو من كفين، وكان الضرب من واحد، أو من اثنين في ضربة واحدة أو ضربتين إذا كان ذلك [كله] (¬2) في فور واحد، ومقام واحد؛ لأن ذلك كله كالضربة الواحدة. فإن كان في ضربات مختلفة، وأوقات متفاوتة مثل أن يضربها، فأزال لها أصبعًا ثم ضربها مرة أخرى، فأزال لها أصبعًا أخرى حتى ضربها أربع ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

ضربات متفرقات، ففي الأصبع الأول، والثاني، والثالث عشر عشر من الإبل في كل أصبع عشر. وأما الأصبع الرابع، فلا يخلو من أن يكون قطعه مع الأصابع الثلاثة من كف واحدة، أو يكون قطعه من كف وقطع الثلاث من كف واحدة. فإن كان قطع الجميع من كف واحدة: فالمذهب على قولين: أحدهما: أن فيه خمسًا من الإبل، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو مشهور المذهب. والثاني: أن فيه عشرًا من الإبل، وهو قول عبد الملك، وابن وهب في "الموازية"، وهو مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة. فإن كان القطع من كفين؛ فإن قطع من كف واحدة ثلاثة أصابع، ومن الآخر أصبعًا واحدة كان الضرب متفاوتًا -كما قدمناه- فله في كل أصبع عشرة من الإبل؛ إذ لكل يد حكم مستقل إذا كان الضرب مختلف الأوقات. فأما إن قطع لها ما دون الثلث من الدية؛ مثل أن يضربها، فيقطع لها ثلاثة [أصابع] (¬1) ونصف أنملة، فلها في ذلك مثل ما للرجل عشرة أبعرة في كل أصبع كان الضرب في كف واحدة أو في كفين، وكان في فور واحد ومقام واحد أو في مقامين، وكان الضرب من رجل أو من رجال، ولا إشكال في ذلك. ثم إن ضربت فقطع لها أصبع أخرى بعد ذلك، فإنك تنظر، فإن كانت الضربة الأولى في كف واحد، ثم قطع منها الأصبع [الآخر] (¬2) بعد ذلك، أو ضربت فقطعت الأصبعان الباقيان جميعًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أخرى.

فإن قطعت الثلاثة الأصابع الأولى في ضربة واحدة، فلها في الأصبعين الأخريين خمس في كل أصبع، وإن قطعها مفترقًا، فيجري الخلاف الذي قدمناه، فإن قطع الأصبع الأخرى من الكف التي لم يقطع منها شيء بعد، ففيه عشر من الإبل قولًا واحدًا. وأما الوجه الثالث: إذا ذهب بعض أصابعها بضربة عمد، أو ذهب بعضها بضربة خطأ، فإن الذي ذهب منها بضربة عمد، ففيه القصاص، والذي ذهب منها بضربة خطأ فيه الدية، ولا يبنى بعض ذلك على بعض؛ مثل أن يقطع من كلها ثلاثة أصابع عمدًا، فقاصصت فيها، أو لم تقاصص ثم قطعت الأصبعان الباقيان في ذلك الكف خطأ، فإن فيها عشرين، ولا يبنى على الحكم العمد كما لو ذهبت الأول بأمر من السماء، ولم أر في المذهب في هذا نص خلاف. تم الكتاب بحمد الله وعونه، وصلى الله على نبينا محمَّد.

كتاب جناية العبيد

كتاب جناية العبيد

كتاب جناية العبيد تحصيل مشكلات هذا الكتاب، وجملتها ست مسائل: المسألة الأولى في عفو أحد الوَلِيَّيْن اشتقت الجناية من اجتنى الثمرة باليد؛ فاستعمل ذلك في كل ما يكتسب من حدث في مال غيره، أو نفسه، أو حاله مما يسوء، ويضر كان بيد أو غيره ,كما أن الجَرِيرَة أصلها مما يُجتر الإنسان من منفعة لنفسه من مال أو غيره، ثم استعمل في كل ما يحدثه على غيره عمومًا مما لا يوافقه، ويضره في نفسه، أو ماله، أو حاله. فإذا ثبت ذلك، فليرجع بنا الكلام إلى ما ترجمنا عليه أول المسألة في العبد إذا قتل، رجلًا عمدًا له وليان فعفى أحدهما على أن [يأخذ العبد القاتل لنفسه، أو على أن] (¬1) يأخذه، وزيادة عبد آخر معه، فإن كان على أن يدفع سيد العبد إلى الآخر نصف الدية جاز له ما صنع. وهل يستبد كل واحد منهما بما أخذ، ولا يدخل على صاحبه؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن كل واحد منهما يستبد بما أخذ، ولا يدخل على صاحبه بما أخذ قلّ أو كثر، كان مثل ما أخذ أو أكثر منه، وهو قول الغير في "كتاب الصلح" من "المدونة" حيث قال: وليس دم العمد بمال؛ وإنما هو كعبد بينهما باع أحدهما حصته منه بما شاء، ولا يدخل عليه الآخر فيه. والثاني: التفصيل بين أن يكون ما صالح به الأول أكثر من سهمه أو ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أقل؛ فإن صالح على أكثر من سهمه من الدية، فإن للآخر أن يضم ما أخذ من سهمه من الدية إلى ما صالح به الأول، فيقتسمان الجميع أنصافًا بينهما؛ لأن ما أخذاه ثمن الدم الذي بينهما على السواء فلا مزية فيه لأحدهما على الآخر، وهو قول أشهب في "كتاب الصلح"، وأحد قولي ابن القاسم في "كتاب الجنايات" من "المدونة". فإن كان ما صالح به الأول مثل سهمه، أو أقل فكل واحد منهما يستبد بما قبض، ولا يدخل أحدهما على الآخر فيه. فإن أبى سيد العبد أن يدفع إلى الآخر نصف الدية، هل يكون له الدخول على أخيه في نصف ما قبض من العبد القاتل أو في العبدين جميعًا إن كان قبض القاتل، وزيادة عبد آخر كما قال في الباب الثاني، أو لا يمكن من الدخول معه؟ فالمذهب على قولين منصوصين في المدونة: أحدهما: أنه لا يمكن من الدخول معه فيما قبض [وهو أحد قولي ابن القاسم في أول "كتاب الجنايات"، وهو قول الغير في "كتاب الصلح" من "المدونة". والثاني: أن له الدخول فيما قبض] (¬1) -شاء القابض أو أبى- وهو أحد قولي ابن القاسم في "كتاب الجنايات"، وهو قوله في "كتاب الصلح" من "المدونة" أيضًا. وقال سحنون: ومعناه: إذا أحب الأخ الذي لم يصالح أن يدخل على أخيه فيما قبض، وقوله تفسير لقول ابن القاسم. وعلى القول بأنه لا يمكن من الدخول على أخيه فيما قبض، فقد قال ¬

_ (¬1) سقط من ب.

في "الكتاب": إن الذي صالح بالخيار إن شاء دفع إلى أخيه نصف العبد، وتم ما صنع، وإن أبى رد العبيد، وقتلًا أو عفوًا. أما إذا رضى القابض بمشاركة أخيه في العبد الذي قبض، ورخى أخوه بالدخول معه فيه على القول بأن ذلك له باختياره، فلا إشكال في جواز العفو، وإسقاط القصاص. وأما على القول بأنه لا يمكن من الدخول على أخيه فيما قبض، هل يكون عفو الأول عن القاتل يبطل القصاص أو لا يبطله؟ فإنه يتخرج على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن عفوه يُبْطل الدَّم، ولا سبيل إلى القصاص، وهو قوله في "كتاب الصلح"، وقال فيه: وللذي لم يصالح على القاتل بحساب الدية، فكذلك يجب له أيضًا على سيد العبد القاتل نصف الدِّية؛ لأن تسليمه للقاتل لو أحد من أولياء الدم في حقه في الدم رضًا منه بتحمل نصف الدية للولي الآخر كما قال في إيلاده الجارية الجانية بعد علمه على ما سنتكلم عليه في مسألة مفردة إن شاء الله. والثاني: أن القصاص قائم، ولا يبطله صلحه؛ إذ لا يجبر سيد العبد على دفع نصف الدية للذي لم يصالح، وهو نص قوله في "كتاب الديات" من "المدونة". وعلى القول بأن لأخيه الدخول معه فيما قبض ينبغي ألا يلزمه الصلح متى [ذهب] (¬1) من يده بعض ما ترك القصاص من أجله؛ لأنه يقول: إنما عفوت عن القصاص لرغبتي فيما قبضت [لأستبد] (¬2) به وحدي، وهو يقول في هذا الكتاب "وكتاب الصلح" أنه لا سبيل لهما إلى القتل ¬

_ (¬1) في أ: ذهبت. (¬2) في أ: لتستبد.

مهما أشركه في العبد إما برضا من المصالح [وإما] (¬1) بالجبر على قول؛ فقد اختلف المتأخرون فيما وقع في الكتابين، هل ذلك اختلاف قول أو ذلك اختلاف حال؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك اختلاف حال، وأن مسألة "كتاب [الجنايات] (¬2) " الجناية فيها متعلقة برقبة العبد، ولسيده أن يفتكه، وفي مسألة "كتاب الصلح" هي متعلقة بالذمة لا بغيرها لكون الجاني هناك حُرّ. والثاني: أن ذلك اختلاف قول؛ لأن تلك الجناية [تعلقت] (¬3) برقبة العبد إلا أن يشاء سيده أن يفديه إذا استحياه وليا الجناية، فكذلك تعلقه بنفس الحر إلا أن يفدي نفسه [بالدية] (¬4) برضا أولياء الدم، ولا فرق سواء، والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) في أ: أو. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: متعلقة. (¬4) سقط من أ.

المسألة الثانية في العبد يقتل رجلا خطأ ثم يعتقه سيده أو يبيعه

المسألة الثانية في العبد يقتل رجلًا خطأ ثم يعتقه سيده أو يبيعه والكلام في هذه المسألة على سؤالين: أحدهما: إذا باعه، أو أعتقه بعد الجناية. والثاني: إذا وطئها، فحملت بعد الجناية إن كانت أمة. فالجواب عن السؤال: في العبد إذا جنى ثم باعه سيده أو أعتقه، فلا يخلو الحكم من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون السيد جاهلًا بالجناية. والثاني: أن يكون عالمًا بالجناية جاهلًا بالحكم. والثالث: أن يكون عالمًا بالأمرين. فأما الوجه الأول: إذا كان جاهلًا بالجناية، هل يبدأ بتخيير السيد بين الفداء، أو التسليم، أو يبدأ بمال العبد، أو طلب معونته؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يبدأ بمال العبد، وهو قوله في أول "كتاب الجنايات". والثاني: أنه يبدأ بتخيير السيد، وهو قوله في "باب المُدبَّر" يجني ثم يعتقه السيد , وهو قول سحنون. وسبب الخلاف: هل يرجع العبد إذا فَدَاه السيد إلى الرِّق، وهو قوله في المُدَبَّر؛ لأنه قال: يفديه مدبرًا، معناه: ويبطل عتقه، أو يرجع إلى حريته؛ فمن رأى أنه يرجع رقًا قال: يبدأ بمال العبد، ومن رأى أنه يرجع حرًا، قال: يبدأ السيد ويخير بين أن يفديه أو يسلمه؛ فإن أسلمه، فإنه

ينظر، فإن كان للعبد مال يكون قدر الجناية أخذ المال منه في الجناية وعتق العبد، وإن لم يكن له مال، ووجد من يعينه من ذوي قرابته أو غيرهم، فإنه لا يرد عتقه إذا أعانوه بمال قدر الجناية. فإن لم يجد من يعينه، وكان في رقبته فضل عن أرش [الجناية] (¬1) هل يباع منه بقدر الجناية، أو يسلم لأهل الجناية؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه يباع منه بقدر الجناية، وعتق ما بقى، وهو قول ابن القاسم في الكتاب. والثاني: أنه لا يباع منه شيء؛ فإن كان فيه فضل، فإنه يسلم لأهل الجناية، وهم أولى بفضله كما لو لم يكن فيه [فضل] (¬2)؛ لأنه محل الاتفاق أنه يسلم لأهل الجناية، وهو قول الغير في "كتاب الجنايات" من "المدونة". وعلى القول بأنه يباع منه للجناية، ويعتق ما بقى هل يقوم ما فيه على العتق أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": وسبب الخلاف: ما يوجبه الحكم هل هو [مثل] (¬3) ما يوجبه الشرط في الابتداء أم لا؟ فأمَّا إن باعه، ولم يعلم بالجناية، فإن السيد مخير بين أن يفديه بدية الجناية أو يسلمه؛ فإن فداه تم البيع، ولا كلام للمشتري في ذلك إن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

كانت الجناية خطأ؛ لأنه عَيْب ذهب، وإن كان عمدًا , ولم يبين له حين البيع، فللمشتري أن يرده مخافة أن يعود إلى [مثل] (¬1) ذلك. فإن أسلمه السيد رجع الخيار إلى المجني عليه إن شاء أجاز البيع، وأخذ الثمن، وإن شاء نقض البيع، وأخذ العبد، إلا أن يشاء المشتري أن يدفع إليه أرش الجناية، ثم يرجع [على] (¬2) البائع بالأقل من أرش الجناية أو الثمن. فإذا رضي ولي الجناية أن يجيزوا البيع، ويأخذوا الثمن على من تكون عهدة المشتري لو استحق العبد، هل تكون على سيد العبد، أو على المجني عليه؟ فإنه يتخرج على قولين. وسبب الخلاف: الاستدامة هل تعد كالإنشاء [أم لا؛ لأن استدامة الجاني للبيع الأول الذي أوقفه السيد كان الجاني هو الذي أنشأه، أو لا تعد الاستدامة كالإنشاء؟] (¬3). وينبني الخلاف فيه: على أصل آخر؛ وهو من ملك أن يملك، هل يعد كالمالك أم لا؟؛ لأن الجاني ملك أن يفسخ البيع، ويأخذ العبد؛ فإجازته للبيع كابتداء بيع، ولا يعد كالمالك. وأما الوجه الثاني: إذا كان عالمًا بالجناية جاهلًا بالحكم، فإنه يحلف ما أراد ببيعه، ولا عتقه تحمل الجناية، ولقد جهلت ذلك، وما ظننت إلا أن ذلك العتق يخرجه من الرق، وتكون الجناية عليه يحملها هو، وهذا نص قول مالك في "الكتاب". فإذا حلف المعتق أنه لم يرد بقوله تحمل الجناية صار كأنه أعتق عبد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: إلى. (¬3) سقط من ب.

غيره، فلا يجوز عتقه، ويسلم إلى المجني عليه. فإذا افتداه سيده بأرش الجناية، هل يعتق عليه أو يسترقه. فإنه يتخرج على قولين قائمين من المدونة: أحدهما: أن له أن يسترقه؛ لأن الجناية كأنها أخرجته من ملك سيده، وكان إذا افتداه كأنه اشتراه، وهو مذهب أشهب. والثاني: أنه يعتق عليه بالعتق الأول، ولا يجوز له أن يسترقه؛ لأنه وإن كانت الجناية أحق برقبته، فهي لم تخرجه عن ملك سيده؛ إذ السيد مقدم في الخيار بين الفداء والتسليم إذا كانت الجناية خطأ، فإذا افتداه فكأنه لم يزل من ملكه. وينبني الخلاف: على الخلاف فيمن يخير بين شيئين، فاختار أحدهما، هل يعد مختارًا لما ترك أم لا؟ فإن قلنا: إنه لا يعد مختارًا لما ترك قلنا: يعتق؛ لأنه لم يزل من ملكه، وإن قلنا: إنه يعد مختارًا لما ترك، قلنا: [إن] (¬1) له أن يسترقه؛ فكأنه اختار تسلميه أولًا لأرباب الجناية ثم افتداه منهم آخرًا، فيعد ذلك شراء مبتدأ. وأما الوجه الثالث: إذا علم بالجناية، وبالحكم في منعه من البيع، والعتق، هل يعد ذلك رضا منه بتحمل الجناية أم لا؟ [فالمذهب] (¬2) على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك منه رضا بتحمل الجناية، ويؤديها من ماله، وينفذ البيع والعتق، وهو قوله في الأمة إذا أولدها بعد أن جنت، وهو عالم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

بذلك؛ لأنه نص عليه في "الكتاب": أن ذلك منه رضا بتحمل الجناية. وهذا إذا كان له مال. فإن [لم يكن] (¬1) له مال أجرى الحكم [فيه] (¬2) على ما تقدم في الوجه الأول. والثاني: [أن ذلك] (¬3) لا يعد منه رضا، ويحلف بالله ما أراد بذلك حمل الجناية، وهو ظاهر قوله في أول "كتاب الجنايات" أيضًا. قلت: وإنما يستحلف في هذا كله إذا قال أولياء الجناية: نحن نرضى باتباعه بالجناية، ويمضي العتق والبيع. والجواب عن السؤال الثاني: في الأمة إذا جَنَت ثم وطئها السيد، فلا تخلو من أن تحمل من وطئه، أو لم تحمل. فإن لم تحمل، فليس وطئه رضا بتحمل الجناية، وهو مخير في افتكاكها، أو إسلامها -علم بالجناية أو لم يعلم- إلا أن يقول: أردت بذلك حمل الجناية. قاله أبو عمران الفاسي. فإن حملت من وطئه، فلا يخلو من أن يعلم بالجناية أو [لم] (¬4) يعلم. فإن علم بجنايتها، هل يعد ذلك منه رضا بتحمل جنايتها أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن ذلك منه رضا بتحمل الجناية، ويغرم قيمة الجناية على ما ¬

_ (¬1) في أ: كان. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: أنه. (¬4) في أ: لا.

أحب أو كره، وإن كان أكثر من قيمتها؛ لأن ذلك منه رضا، وهو نص قوله في "الكتاب". فإن لم يكن له مال أسلمت إلى أهل الجناية، وكان الولد ولدها, ولا يتبعها في الجناية، ولا على الأب غرم قيمته. والثاني: أن السيد يحلف أنه ما أراد حمل الجناية ويفديها بالأقل كالعتق، وهو قوله [في العتق] (¬1)، والبيع في أول "الكتاب"، وهو قوله في "كتاب محمَّد". وقد يفرق بين العتق والإيلاد أن العتق قد يظن أنه إذا أعتقه بعد أن جنى العبد يتبع بالجناية بعد عتقه، ويبعد أن يظن هذا في أمّ الولد؛ لأنها باقية في ملك سيدها، فيكف يمكن أن يظن أنها تتبع؟ فإن لم يعلم بجنايتها، فعلى السيد الأقل من قيمتها أو من أرش الجناية، وهذا نص قوله في "الكتاب". وقد اختلف فيها هل يفيتها الحمل، أو لا يفيتها على قولين منصوصين في "الكتاب": أحدهما: أنه يفيتها، ويكون على السيد الأقل من قيمتها يوم الحمل أو من أرش الجناية، فإن كان له مال أخذت منه القيمة، وإن لم يكن له مال أَتبع بذلك في ذمته، وهو قول ابن القاسم، وظاهره أنها تقوم بمالها, ولا شيء عليه من قيمة الولد، وهو في "الكتاب" في الأمة إذا ولدت بعد الجناية أنها تسلم بمالها، وفي مال أمّ الولد قولان عن مالك في "الكتاب" هل تقوم بمالها، وفي ولد الأمة قولان، فقيل: [لا] (¬2) ¬

_ (¬1) في أ: كالعتق. (¬2) سقط من أ.

تسلم بولدها؛ لأنها إنما [استحقت] (¬1) يوم التسليم لا يوم الجناية، وهو نص قول ابن القاسم في "الكتاب". والثاني: [أنها] (¬2) تسلم بولدها. ومثلها في "الكتاب" بمسألة الوارث إذا وثب على جارية في تركة أبيه، وقد توفي، وعليه من [الديون] (¬3) ما يغترق ماله، فأحبلها أنه إن كان عالمًا بدين أبيه، فبادر الغرماء رأيت إن كان له مال أن تكون عليه قيمتها في ماله، وإن لم يكن له مال أسلمت إلى الغرماء فباعوها. وإن لم يعلم بدين أبيه رأيتها أمّ ولد للابن، ورأيت أن يتبع بقيمتها، فقال ابن القاسم: فهذا أصل مسألتك. والثاني: أن الحمل لا يفيتها، وأن السيد إذا لم يكن له مال يفديها به كانت أملك ربها، وتسلم إلى المجني عليه؛ لأنها لو بيعت، ولا علم [لهم] (¬4) بالجناية، فأعتقها المشتري لم يكن ذلك فوتًا يبطل حق المجني عليه؛ لأنها مرتهنة بالجناية، وهي في رقبتها بخلاف الجارية التي وطئها الوارث؛ فإن دين الغرماء غير متعلق بعينها، ودينهم في ذمة الميت، ولو أن الورثة باعوها, ولا علم لهم بأن على أبيهم دين يغترق قيمتها، وفاتت عند المشتري بعتق، أو إيلاد لم يكن لهم إلى رد العتق سبيل، وإنما لهم الثمن إن وجدوه، وإلا أتبعوا به من أخذه، وهذا نص قول سحنون في "المدونة" [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: استحلفت. (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ: الدين. (¬4) سقط من ب. (¬5) زيادة من ب.

المسألة الثالثة في جناية المدبر

المسألة الثالثة في جناية المُدَبَّر ولا تخلو جنايته من وجهين: أحدهما: أن يجني على أجنبي من الناس. والثاني: أن يجني على سيده. فأمَّا الوجه الأول: إذا جنى على أجنبي من الناس، فلا يخلو سيده من أن يكون عليه دين، أو لا دين عليه. فإن كان عليه دين يغترق قيمة المدبر، أو لا يغترق قيمته؛ فأهل الجناية أولى بخدمته من غرماء السيد [فيستخدموه] (¬1) بقدر جناياتهم إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا لأهل الجناية قدر جنايتهم، ويأخذوا العبد المدبر، فيؤاجروه لأنفسهم حتى يستوفوا دينهم. فإن لم يأخذه الغرماء وأسلموه إلى أولياء الجناية، ثم مات السيد، ولا مال له سوى المدبر، فلا تخلو قيمة المدبر من أن يستغرقها ما عليه من الجناية، والدين الذي على السيد، أو ما يبقى فيها فضل. فإن استغرقت فالتدبير يبطل، ويبقى الدين والجناية؛ لأن التدبير وصية والدين يرد الوصية والجناية أولى من الدين؛ لأن الجناية في رقبته إلا أنْ يَزِيد أهل الدَّين على أرش الجناية، فيحط ذلك عن الميت؛ فيكون أولى بالعبد؛ لأن أهل [الجناية] (¬2) إذا استوفوا جنايتهم، فلا حجة لهم. ¬

_ (¬1) في أ: فيخدموه. (¬2) في ب: الجنايات.

وإن كان فيه فضل، فإنه يباع الأهل الجناية [أولًا] (¬1) بقدر جنايتهم، ثم يباع منه [للدين] (¬2) فما بقى منه يعتق ثلثه، ويرق ثلثاه للورثة. فلو أسقط الغرماء ديونهم عن سيد العبد بعد موته، هل يكون المجني عليه أولى بجميع رقبة المدبر أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه بمنزلة من لا دين عليه، ويعتق ثلث المدبر [أو] (¬3) ما حمل الثلث منه، ويبيع من الجناية بقدر ذلك، ويخير الورثة فيما رق منه، وهو قول ابن القاسم، وأشهب في الموازية. والثاني: أن المجني عليه أحق برقبة المدبر؛ لأن ذلك وجب له بعد موت السيد؛ فلا يزيله إسقاط الدين، وهذا القول نقله أبو محمَّد بن أبي زيد في "النوادر" (¬4). فأما الوجه الثاني: إذا لم يكن على السيد دين، فإن السيد يخير بين أن يسلم خدمته لأهل الجناية أو يفتديها؛ لأنه لم يملك من [المدبر] (¬5) إلا هي، فإن فداها فإنه يستخدمه ما دام حيًا، فإذا مات [وحمله] (¬6) الثلث فإنه يعتق ولا يتبع بشيء، فإن لم يحمله الثلث، فإنه يعتق منه ما حمل الثلث، ويرق الباقي للورثة. فإن أسلمها لأهل الجناية، فإنهم يستخدمونه بقدر جنايتهم؛ فإن استوفوها، والسيد حي رجع وخدم السيد، فإن مات السيد قبل أن ¬

_ (¬1) في أ: أولى. (¬2) في ب: المدبر. (¬3) في أ: و. (¬4) النوادر (13/ 377). (¬5) في أ: الدين. (¬6) في أ: وحملها.

يستوفوها، فإن حمله الثلث عتق جميعه، وأتبع [ببقية] (¬1) الجناية، وإن لم يحمله الثلث عتق منه ما حمل الثلث، ويرق الباقي، ويخير الورثة فيما رق منه بين أن يفدوه بقدر ما ينوبه من أرش الجناية، أو يسلموه لأولياء الجناية. فإن كان للمدبر مال لم تسلم خدمته، وأدى من ماله الجناية، فإن بقى منه شيء أقر بيده إلا أن ينتزعه السيد، وإن لم يف ماله بالأرش اختدموه فيما بقى إلا أن يفدي به. ولو جنى بعد تسليم الخدمة إلى الأول، فإنهما يتحاصان في خدمته؛ الأول بما بقى له، والثاني يخرجه كله. وخرج فيه ابن الجلاب قولًا ثانيًا أن المجني عليه أولى بالخيار بين أن يفديها من الثاني بدية جرحه أو يسلمها له، فيبطل حقه منها. فإن جنى على المدبر بعد تسليم خدمته إلى المجروحين [لمن يكون أرش جرحه، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك للسيد، وهو قول ابن القاسم في الموازية. والثاني: أنه يكون بين المجروحين] (¬2) في بقية [جرحيهما] (¬3)، فإن فضل منه شيء، فهو للسيد مع مرجع الرقبة، وهو قوله في "كتاب ابن المواز". فإن أسلم خدمة مدبره إلى المجني عليه ثم بدا له أن [يفتديها] (¬4) بدية ¬

_ (¬1) في أ: ببقيته. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: جرحهما. (¬4) في أ: يفديها.

الجناية أو [ما] (¬1) بقى منها، فهل يمكن من ذلك أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك له؛ إذ لا حجة لأولياء الجناية؛ لأن ذلك كمال يأخذه شيئًا بعد شيء، فإذا دفع له نقدًا فلا حجة له، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". والثاني: أنه لا يمكن من ذلك؛ لأن السيد لما خير بين أن يسلم الخدمة أو يفديها؛ فإذا اختار تسليمها لم يكن له فيها رجوع؛ لأنها القدر الذي يملك من المدبر. أصل ذلك العبد الذي لم يكن فيه تدبير إذا أسلمه أنه لا رجوع له فيه قولًا واحدًا في المذهب. والخدمة في مسألتنا كالرقبة؛ إذ هي التي يملكها، ويملك التصرف فيها في الحال؛ ولأن ذلك ضرب من المبايعة، وإلى هذا أشار الشيخ أبو إسحاق التونسي، وألزم للمذهب على هذا القول إلزامًا، وقال: فعلى هذا القول إذا مات السيد، فحمل المدبر الثلث، فأعتق لا يتبع بشيء من بقية [الجناية لأن] (¬2) المجني عليهم لما ملكوا جملة الخدمة [كانت] (¬3) زيادتها لهم، ونقصانها عليهم، وأن الميت إذا لم يترك مالًا غيره، فعتق ثلثه ورق ثلثاه للورثة أن أهل الجناية لا يتبعون الثلث المعتق منه بشيء، وأن الورثة لا يخيرون في الثلثين [اللذين صارا] (¬4) لهم؛ لأن سيده لما رضي بإسلام الخدمة؛ فكأنه أسلمها، وما يكون عنها من رقبة، ومعناه، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: كان. (¬4) في أ: الذي صار.

فيكون [الثلثان] (¬1) للمجني عليهم، والذي قاله صحيح إذا اعتبرته. وقد حكى ابن الجلاب في المذهب [قولًا] (¬2) بأن المدبر إذا خرج من الثلث، وعتق قبل أن يستوفي المجني عليهم أرش جنايته أنه لا يتبع بشيء مما بقى عليه من أرش الجناية مثل إلزام التونسي للمذهب. فإن مات المدبر قبل استيفاء المجروح حقه من الخدمة، فقد بطل حقه، ولا شيء له على السيد [إلا أن يترك المدبر مالًا، فإنه يؤخذ منه مقدار ما يقيله، ويكون الفضل للسيد] (¬3)، وهو قول أشهب في "العتبية". فإن كان على المُدَبَّر دين في جميع ما ذكرنا، فإن الدين الذي عليه أولى بماله، والجناية والدين الذي على السيد يتزاحمان على الخدمة على الوجه الذي شرحنا. فالجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: في المَدَبَّر إذا جنى على سيده، ولا تخلو جنايته عليه من أن تكون فيما دون النفس، أو في النفس نفسها. فإن كانت فيما دون النفس، فهل يختدمه السيد [بدية] (¬4) الجناية أو يختدمه خدمة التَّدْبِير؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أن السيد يختدمه بدية الجناية كالأجنبي -كان جرحه عمدًا أو خطأ- فإن كان للمدبر مال أخذه، ويحاسبه [به] (¬5) في جرحه. وهي ¬

_ (¬1) في ب: الثلث. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: بخدمة. (¬5) سقط من أ.

رواية عبد الحكم بن أعين عن مالك في "كتاب الجنايات" من "المدونة"، وهو راوٍ غريب -أعني: عبد الحكم بن أعين- وليس له في "المدونة" رواية سوى هذه الرواية. والثاني: أن السيد لا يستخدمه بدية الجناية؛ لأن له عظم رقبته، وهو قول سحنون في "الكتاب". وفائدة الخلاف وثمرته: أنا إذا قلنا برواية ابن أعين أن للسيد أن يستخدمه بدية الجناية أنه يستخدمه [بها] (¬1) كالأجنبي. فإن استوفى جنايته، وهو حي -أعني: السيد- رجع إلى استخدامه بالتدبير، وإن مات السيد قبل أن يستوفي أرش جنايته، فإن المدبر يعتق منه مبلغ الثلث، أو جميعه إن حمله ثلث مال الميت كان ما بقى من الجناية التي جناها على سيده في ذمته، فإن عتق ثلثاه اتبع بثلثي الجناية، ويسقط ما بقى؛ لأنه رقيق لهم، وهذه فائدة استخدامه بالجناية، [ولهم] (¬2) إذ قال في "الكتاب"؛ لأنه قد حدثت خدمة هي أولى من الخدمة الأولى. ولو جنى على السيد والأجنبي لكان ذلك أيضًا [يختدمانه] (¬3) بقدر جنايتهما، وهو نص قوله في الكتاب. فإذا قلنا بأنه لا يختدمه بدية جنايته كان لا يتبع بشيء إذا عتق كما [لو] (¬4) جنى [على] (¬5) أجنبي ثم افتكه سيده أنه لا يختدمه بما افتكه [به] (¬6) ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: وبه. (¬3) في أ: يخدمانه. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: عليه. (¬6) سقط من أ.

ولا يحاسبه به بالجناية على السيد أولًا ألا [يحاسبه بها] (¬1) الذي لم يخرج فيها شيئًا؛ فقد تبين لك فائدة الخلاف، والله المستعان. فإن كانت جناية عليه في النفس، فلا يخلو من أن يقتله عمدًا أو خطأ. فإن قتله عمدًا بطل تدبيره، ويرق للورثة إن عفوا عنه، وهو قول مالك في العتبية. فإن قتله خطأ، فإنه يعتق في ثلث مال السيد دون ثلث الدِّية، وتؤخذ منه الدِّية أو يتبع بها أو بما عجز ماله عنه، وإن لم يحمله ثلث ماله عتق منه ما حمل ثلث المال ورق ما بقى، وأتبع بحصة ما [بقى] (¬2) منه من الدية إلا أن يكون له مال، فيؤخذ منه مكانه ما لزمه من ذلك، وهو قول ابن القاسم في العتبية إذا خرج من الثلث، وهو قول أصبغ في الكتاب المذكور إذا خرج بعضه. وفروع هذا الباب كثيرة، وإنما اختصرنا فيه على ما يليق بالكتاب [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: يحاسب به. (¬2) في ب: عتق. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الرابعة في جناية الموصي بخدمته

المسألة الرابعة في جناية الموصي بخدمته فلا يخلو من أن يكون مرجعه إلى ملك أو إلى حرية. فإن كان مرجعه إلى ملك؛ مثل: أن يخدم رجلًا عبده حياته أو أجلًا مسمى ثم رقبته للآخر، ومرجعها إليه، وقال [ذلك] (¬1) في وصية أو في غير وصية ثم جنى العبد جناية، فمن يبدأ بالخيار بين الفداء أو التسليم أصاحب الخدمة أم صاحب الرقبة؟ فالمذهب على أربعة أقوال: أحدها: أنه يبدأ بصاحب الرقبة جملة بلا تفصيل كان مرجعها إلى السيد الذي أخدم أو إلى غيره ممن وهبت له بعد استيفاء الخدمة، وهو قول أصبغ واختياره من أحد قولي مالك في "الموَّازية" وغيرها. والثاني: أنه يبدأ بالذي له الخدمة جملة بلا تفصيل، وهو أحد قولي [ابن القاسم في المدونة على ما حكاه سحنون فيها، وهو أحد قولي] (¬2) مالك في "كتاب ابن الموَّاز". والثالث: التفصيل بين أن يكون مرجع الرقبة بعد الخدمة إلى السيد الذى أخدم، فيكون هو المبدي، أو يكون مرجعها إلى أجنبي، فيكون المخدم هو المبدي، وهو قول ابن القاسم في "الكتاب" في أول الباب. والرابع: أنهما فيه كالشريكين يخرج عبدهما فيقوم مرجع الرقبة، فإن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

قيل [يساوي] (¬1) عشرة تقوم خدمته أيضًا، فإن قيل [تساوي] (¬2) عشرة صار حقهما فيه سواء، وهما كالشريكين، ويخيران جميعًا، فإن شاءا أسلما، وإن شاءا أفديا، فإن فدياه دفع كل واحد نصف دية الجرح، وكان العبد على حاله، فإن أسلماه كان مملوكًا لأهل الجناية؛ فإن أحب أحدهما أن يفتدي الذي له من خدمة، أو مرجع رقبة كان ذلك له، ومن شاء أن يسلم ماله فيه كان ذلك له، فإن [أسلمه] (¬3) صاحب [الخدمة لم يكن للمجني عليه غير بقية الخدمة، وإن أسلمه صاحب] (¬4) الرقبة كان للمجني عليه بعد الخدمة، فإن افتكه صاحب الخدمة لم يكن له إلا خدمته، وإن افتكه صاحب الرقبة لم يكن له إلا الرقبة بعد مرجعها، وهو قول أشهب في "الموازية". ووجه القول بأن [صاحب الرقبة هو المبدي جملة أن ملك الرقبة أصل، والخدمة فرع عنها، وأن المعطى له الرقبة بعد الخدمة قائم مقام مالكها الأول، فيبدي بملك الأصل لا بملك الفرع ووجه القول بأن] (¬5) المبدى ملك الخدمة جملة؛ لأنه هو المالك لمنافع العبد التي هي المقصودة منه، والرقبة قد تصح لربها، أو للذي أعطى له رجوعها إليه، وقد لا تصح؛ فصار المالك على الحقيقة في الحالة الراهنة هو المالك للخدمة، وعلى هذا ينبني الخلاف في نفقته على من تكون، وزكاه الفطر [عنه] (¬6) على من تكون. ¬

_ (¬1) في أ: يسوي. (¬2) في أ: تسوى. (¬3) في أ: أسلمها. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) سقط من أ.

ووجه القول بالتفصيل: أنه إن كان مرجع الرقبة لمالكها الأول يكون هو المبدي؛ لأنه وهب الخدمة، وأبقى الرقبة على ملكه، فكأن ملكه لم يزل [عن] (¬1) الرقبة، وإذا كان مرجع الرقبة لأجنبي بهبة من المالك كان صاحب الخدمة مبدى؛ لأن من له مرجع الرقبة لم يملك شيئًا إلى الآن، ولا استنفع بشيء إلى الآن، فكأنه غير مالك للرقبة؛ فكانت التبدية لمالك الخدمة أولى. ووجه القول أنهما فيه كالشريكين؛ لأن الجناية وقعت عليهما جميعًا فكل واحد منهما مخير في القدر الذي ملك من العبد، ولا مزية لأحدهما على الآخر. فإذا قلنا بأن مالك الرقبة هو المبدى، فإذا أسلم العبد للمجني عليه، قيل للمخدم: إن أحببت أن تفتكه فافتكه، فإن أفتكه [اختدمه] (¬2)، فإن قضى أمد الخدمة لم يكن لسيده إليه سبيل حتى يدفعه ما أفتكه به، وإلا كان للمخدم بتلًا، فإن فداه مالك الرقبة، فإن صاحب الخدمة يستخدمه حتى ينقضي أجل الخدمة، ثم يكون لصاحب الرقبة، ولا يرجع على صاحب الخدمة بشيء مما فداه [به] (¬3). وإذا قلنا: بأن صاحب الخدمة هو المبدى، فإن أسلم ما له فيه من الخدمة، قيل لصاحب الرقبة: افده أو أسلمه، فإن أسلمه كان رقيقًا لأهل الجناية، فإن فداه صار له، وبطل حق المخدم لتسليمه إياه أو لا، فإن افتداه ما له فيه من الخدمة بأرش الجناية، فله أن يستخدمه، فإذا انقضى أجل الخدمة رجع العبد إلى من له مرجع الرقبة، واختلف [هل يرجع] (¬4) ¬

_ (¬1) في أ: على. (¬2) في أ: خدمه. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب.

عليه صاحب الخدمة بما فداه به أم لا على قولين: أحدهما: أنه يرجع على مالك الرقبة بما فداه به، وهو قوله في "المدونة". والثاني: أنه لا يرجع عليه بشيء، وهذا القول حكاه التونسي في المذهب. وسبب الخلاف: اختلافهم فيما فداه صاحب الخدمة هل إنما فدى الخدمة أو الرقبة؛ فمن رأى أنه إنما فدى الخدمة، قال: لا يرجع على مالك الرقبة بشيء، ومن رأى أنه إنما فدى الرقبة، قال: يرجع على مالكها بما فداها به، ولا سبيل له إليها حتى يدفع ما فداها به، وتنزل فيها منزلة المجني عليه. وإذا جعل خدمته لرجل سنة ثم خدمته لآخر بعد سنة ثم رقبته لآخر، ثم جنى. ما الحكم فيه؟ فقد اختلف فيه [المذهب] (¬1) على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المخدمين يخيران، فإن افتدياه كان على حاله، ولم يكن لهما بما افتدياه به مرجع على أحد، وإن أسلماه اختدمه المجروح، فإن انقضت السنتان كان الخيار لمن له مرجع الرقبة إن شاء افتداه بما بقى من أرش الجناية بعد الخدمة، وصار له ملكًا، وإن شاء أسلمه وصار رقًا للمجني عليه، وإن استوفى المجروح قيمة جرحه قبل ذلك رجع العبد إلى منتهى سنته، فإن بقى من السنة الأولى شيء اختدمه الأول فيما بقى ثم يكون للثاني. فإن انقضت السنة الأولى، ودخل في الثانية، فقد سقط حق الأول ¬

_ (¬1) سقط من أ.

من الخدمة، ويكون للثاني أن يستخدمه فيما بقى من سنته، فإذا انقضت السنة الثانية كان لمن له مرجع الرقبة بتلًا، وهو قول ابن القاسم في "الموازية". والثاني: أن المخدم الأول مخير، فإن افتداه، هل يخدمه بالأرش الذي فداه به، وبالسنة التي وهبت له فيها خدمته أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يختدمه بالأمرين جميعًا، فيبدأ بالأرش يختدمه فيه، فإن استوفاه، وبقى من سنته شيء اختدمه باقيها، ثم أسلمه إلى الثاني بغير غرم؛ لأنه قد استوفى لما فداه به عوضًا. فإن تمت سنته قبل تمام الأرش، قيل للثاني: ادفع إليه باقي الأرش، واختدمه فيه مدتك، فإن استوفيت قبلها أخدمت باقيها بالعطية، ثم يكون لمن له مرجع الرقبة، فإن تمت سنتك قبل أن تستوفي كان الخيار لمن له مرجع الرقبة بين أن يعطيك ما بقى لك مما افتديته به أو يسلمه لك بَتْلًا، وإن أبى الثاني أن يدفع للأول ما بقى له قيل للأول: اختدمه في مدة الثاني، فإذا استوفيت قبل تمامها فادفعه إلى الثاني يختدمه ما بقى، وإن لم يستوف الأول حتى تمت خدمة الثاني خير من له المرجع بين أن يعطيه ما بقى له مما فداه به أو يسلمه إليه [رقا] (¬1)، وهذا كله قول سحنون في "كتاب ابنه"، ومثله لعبد الملك في "كتاب ابن حبيب". والثاني: أنه لا يختدمه إلا بالعطية خاصة، وليس له أن يستخدمه بالأرش الذي فداه به، فإن فداه اختدمه باقي مدته، ثم يكون للمخدم الثاني، ولا شيء للأول على الثاني مما فداه [به] (¬2) ولا على من له ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ.

المرجع، وهو قول ابن القاسم في "الموازية". فإن أسلمه خير المخدم الثاني بين أن يفدى خدمته، أو يسلمها؛ فإن افتداها هل يستخدمه بالسنتين جميعًا، أو يستخدمه بمدة العطية خاصة؟ فالمذهب على قولين أيضًا: أحدهما: أنه يستخدمه بقية الأول، وجميع مدته هو ثم يسلمه إلى صاحب المرجع، ولا شيء له عليه مما فداه به؛ لأنه [اختدمه الخدمتين] (¬1) وهو قول ابن القاسم أيضًا في "الموازية". والثاني: أن المخدم الثاني لا يختدمه إلا [سنته] (¬2) وحدها، ثم يكون مرجعه إلى صاحب الرقبة، وهذا القول حكاه ابن أبي زيد، ولم يُسَم قائله. [وقال] (¬3) والأشبه أن يختدمه الثاني في السنتين جميعًا؛ لأنه إذا جنى في أول السنة الأولى التي للأول، فافتداه الثاني بعد أن أسلمه الأول، فالذي افتداه لم تأت سنته بعد، والأول قد سلم حقه في الخدمة، والذي له مرجع الرقبة إنما هي له بعد سنتين، فكيف يبتدأ بالسنة الآخرة؟ وهذا ظاهر في المعنى. فإن أسلمها اختدمه المجروح، وحسب ذلك من جرحه، فإن وفي وبقى من خدمة الأول بقية رجع إليه [يخدمها] (¬4) ثم خدم الثاني سنة، فإن لم تف الخدمة الأولى بالأرش اختدمه السنة الثانية، فإن استوفى وبقى منها شيء اختدمه الثاني، ولا شيء للأول فيه، فإن لم تف خدمة السنة ¬

_ (¬1) في أ: أخدمه خدمتين. (¬2) في أ: سنة. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: يختدمها.

الثانية بالأرش، فإن كان [مرجعه] (¬1) إلى حرية كان حرًا ويتبع بالباقي، وإن كان [مرجعة] (¬2) إلى ملك قيل لمن له مرجع الرقبة حين أسلمه المخدمان: إن فديته بالأرش كان لك اليوم بتلًا، وإن أسلمته كان للمجروح بَتلًا. وعلى القول بأن المبدى في التخيير من له مرجع الرقبة كسيده الأول، فإن فداه بقى في خدمة الرجلين إلى إتمامها ثم أخذه. وإن أسلمه خير المخدمين، فإن أسلماه كان للمجروح بتلًا، وإن افتدياه اختدماه، ثم لم يأخذه من له الرقبة حتى [يعطيهما] (¬3) مما فدياه به، وهو قول أصبغ في "الموَّازية". فإن قتل العبد المخدم في جميع ما ذكرناه أو جرح لمن تكون قيمته أو أرش جراحه؟. فقد اختلف فيه المذهب على أربعة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أنها لسيده الأول جملة بلا تفصيل كان مرجعه إلى ملك أو حرية، وهو ظاهر قوال مالك في الكتاب؛ لأنه قال: القيمة للذي له الرقبة، وسواء قتله السيد أو قتله غيره. والثاني: أن قيمته وأرشه لمن له مرجع الرقبة بعد الخدمة إن كان مرجعها إلى ملك، وهو ظاهر "الكتاب" أيضًا. والقولان لمالك في "الموازية"، وأخذ ابن القاسم بالأول. ¬

_ (¬1) في أ: مرجعها. (¬2) في أ: مرجعها. (¬3) في أ: يعطيها.

وعند ذكر سبب الخلاف يَتَبَيَّن لك موضع القولين في "الكتاب". والثالث: التفصيل بين أن تكون الجناية من السيد أو من غيره؛ فإن كانت الجناية من [سيده] (¬1) قتله عمدًا، فإنه يغرم قيمته، وتوقف بيد عدل فيؤاجر منها للمخدم بقية الأجل أو العمري إن عمره فيه فما فضل فللسيد، وما عجز فلا شيء عليه فيه، وإن قتله خطأ، فلا شيء عليه. وإن كانت الجناية من غير السيد، فالقيمة للسيد الأولى، وهي رواية عن ابن القاسم. والرابع: أن القيمة للمخدم لا لسيد العبد، ولا لمن له مرجع الرقبة، وهو قول أشهب وغيره. وعلى القول بأنها للمخدم، هل يشتري له منها رقبة تخدمه بقية المدة أو يستأجر له بها؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يشتري بالقيمة رقبة أخرى تخدمه بقية المدة، وهو قول أشهب في "الموازية". والثاني: أنه يكتري له من القيمة من يخدمه بقية المدة، وهو قول المخزومي، وأحد قولي ابن القاسم، والقولان قائمان من "المدونة" من قول سحنون فيها بعد قوله: إن القيمة للذي له الرقبة حيث قال: أما مالك فهذا قوله لم يزل، واختلف فيه أصحابه، فكلما سمعت خلاف هذا فرده إلى هذا، وهو أصل مذاهبهم مع ثبوت مالك عليه؛ فهذا منه تنبيه على الخلاف الذي حكيناه في المسألة. وسبب [الخلاف بين] (¬2) القولين المتقابلين: اختلافهم في حَوْز الغير ¬

_ (¬1) في أ: سيدها. (¬2) سقط من أ.

بغير إذن الواهب للموهوب له، هل يكون حوزًا أم لا؟ فمن قال: لا يكون حوزًا قال: القيمة لسيده الأول. ومن قال: هو حوز قال: القيمة لمن له مرجع الرقبة. ومن قال القيمة للمخدم يشتري له بها عبدًا آخر أو يكتري له منها قال: إن قيمة الشيء تقوم مقام عينه. ومن فَرَّقَ بين جناية السيد، وبين جناية عبده فراعى قوة التهمة؛ لأن السيد إذا قتله [عمدًا] (¬1) يتهم في إبطال حق المخدم من العبد، فيعاقب بغرم القيمة. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا كان مرجع العبد بعد الخدمة إلى حرية، فالحكم فيه كالحكم في الوجه الأول إذا كان مرجعه إلى ملك إلا في موضع واحد؛ وهو إذا أسلمه المخدم إن كان واحدًا أو المخدمان إذا كانا اثنين إلى المجروح، فاستخدمه [في جرحه] (¬2) ثم انقضت المدة قبل أن يستوفي قيمة [دية] (¬3) جرحه من الخدمة، فإنه يكون حرًا، ويتبع بما بقى من أرش الجرح في ذمته. وإذا كان مرجعه إلى رق على القول بأن المخدم يبدى، فإن اختار تسليمه إلى المجني عليه رجع الخيار إلى من له مرجع الرقبة، فإن فداه كان له ملكًا وسقطت الخدمة، وإن أسلمه كان رقًا للمجني عليه من ساعته [والحمد لله وحده] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) زيادة من ب.

المسألة الخامسة في [جناية] أم الولد

المسألة الخامسة في [جناية] (¬1) أمّ الولد ولا تخلو أمّ الولد من وجهين: [أحدهما] (¬2) أن تجني على غيرها. والثاني: أن يجني عليها. والجواب عن الوجه الأول: إذا جنت على غيرها، فلا تخلو من أن تجني على واحد أو على جماعة. فإن جنت على واحد، فعلى السيد أن يفتديها بالأقل من قيمتها، أو من أرش تلك الجناية. واختلف في القيمة متى تعتبر على قولين: أحدهما: قيمتها يوم الحكم، وهو قوله في "المدونة"، وهو مشهور المذهب. والثاني: قيمتها يوم الجناية، وهو قول المغيرة في "المجموعة". فإن جنت على جماعة، فلا يخلو المجني عليهم من أن يقوموا على السيد في حياته أو بعد مماته. فإن قاموا عليه [بأروش] (¬3) جناياتهم في حياته [فلا يخلو المجني عليه آخرًا من أن يقوم بعد الحكم في الأول، أو قبل أن يحكم فيه، فإن جنت عليه بعد الحكم في جنايتها] (¬4) على الأول واستيفاء واجبه، فإنه ¬

_ (¬1) في ب: جنايات. (¬2) في أ: إما. (¬3) في أ: بأرش. (¬4) سقط من أ.

يبتدأ الحكم في الثاني قولًا واحدًا في المذهب. فإن جنت على الثاني قبل الحكم في الأول، فلا يخلو من أن يقوموا على السيد جميعهم، أو قام بعضهم دون بعض. فإن قاموا على السيد كلهم، هل يدفع لهم السيد قيمتها، ويتحاصون فيها على قدر جنايتهم، أو عليه أن يعطي لكل واحد [منهم] (¬1) الأقل من قيمتها أمّ ولد أو أرش جرحه؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الواجب عليه أن يدفع إليهم قيمتها إن كانت أقل، ويتحاصون فيها بقدر جنايتهم، وهو مذهبه في المدونة، وهو المشهور. والثاني: أن عليه لكل واحد [منهم] (¬2) الأقل من قيمتها أو من أرش جنايته، وهو قول المغيرة في المجموعة والموازية [والواضحة، وبه قال اللخمي أولًا، ثم رجع عنه إلى قول الجماعة على ما قال أشهب في المجموعة والموازية] (¬3) أن ابن القاسم والمغيرة خالفاني في ذلك، وقالا: عليه قيمتها يوم جنت , فرجع ابن القاسم عن ذلك، وتمادى المغيرة فيما علمت حتى قال في الأمة الغارة للحر أن عليه قيمة ولده منها يوم ولد، وإن ماتوا بعد ذلك. وينبني الخلاف: على الخلاف في الاعتبار في القيمة، هل النظر إلى يوم الحكم أو إلى يوم الجناية؟ واختلف هل تقوم بمالها أم لا؟ على قولين: حكاهما أبو سعيد في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

"التهذيب" (¬1) عن مالك. فإن قام بعضهم على السيد دون بعض، فلا يخلو الغائب من أن يعلم به السيد أو لا يعلم. فإن علم به السيد، فإن الحاضر يضرب بقدر جنايته في قيمتها؛ لأن [الاشتراك] (¬2) يقع في قيمتها بقدر جناية كل واحد منهم؛ لأن إحدى الجنايتين قد تكون أقل من قيمتها، وتكون الأخرى أكثر من قيمتها، فيقال للسيد: أخرج قيمتها؛ فيشتركان فيها بقدر جنايتهما. فإن لم يعلم به السيد، فأعطى للحاضر جميع دية جرحه، أو قيمتها إن كانت هي أقل، ثم قام الثاني، فعلى السيد أن يعطيه دية جرحه أو قدر ما يصير له مع الأول من قيمتها لو تحاصا اليوم، ثم يرجع السيد على الأول بالزائد الذي أخذ؛ لأنه لا يصح له إلا قدر ما كان يصير له من قيمتها يوم قام أولًا لو تحاصا يومئذ، والزائد يرده مثل أن يجرح الأول، والثاني موضحة [موضحة] (¬3)، فدفع إلى الأول أرش جرحه، ولم يعلم بالثاني ثم قام الثاني، وقيمة الأمة الآن أقل من الموضحتين، فإنه يدفع إلى الثاني نصف قيمتها اليوم، ويرجع السيد، فيقول للأول: إنما أعطيتك دية جرحه، ولم أعلم أن معك شريك، ويسترجع مما قبض قدر نصف قيمتها يوم كان قام إلا أن يكون نصف قيمتها يوم قام أكثر مما كان قبض، فيكون له الأقل من دية جرحه من نصف قيمتها يوم قيامه. ولو لم يعلم بالثاني حتى جرحت ثالثًا، وقد كان للأول قيمتها يوم قام به، ثم قام الباقيان فوجه العمل في المسألة أن تقدر أنها جنت على الأولين ¬

_ (¬1) تهذيب المدونة (4/ 525). (¬2) في أ: الاشتراط. (¬3) سقط من أ.

موضحة موضحة، ثم جنت على الثالث موضحة فقام أحدهما، فأسلم السيد [إليه] (¬1) قيمتها، ولم يعلم بالآخر، وكانت قيمتها يومئذ مثل أرش الموضحة سواء، فلم يقم الثاني حتى جرحت ثالثًا موضحة أيضًا، ثم قام هو والثاني فإن السيد يرجع على الأول بخمسة وعشرين؛ لأن الواجب له يوم قام نصف الجناية، ثم ينظر إلى قيمتها اليوم، فإن كانت ستين قيل للثالث: قد جنى عليك نصفها المفتك من الأول، وهو فارغ والنصف الآخر [وهو] (¬2) مرتهن بجناية الثاني؛ فنصف موضحتك في النصف الفارغ [فيفتكه] (¬3) السيد منه بخمسة وعشرين؛ لأن نصف جنايتك أقل من نصف قيمتها الآن، والنصف الثاني بينك وبين المجروح الثاني علي ما بقى لك وله؛ فلك ثلثه وهو عشره، وله ثلثاه وهو عشرون؛ لأن هذا بقى له نصف جرحه، وهذا جرحه كله، والجرحان سواء، فصار علي الثلث والثلثين، وهو قول سحنون في "العتبية". وروى أبو زيد عن ابن القاسم أنه يسترجع نصف ما أعطى للأول، ويعطى لهذين نصف دية جرحيهما كاملًا أو قيمتها الآن، فتكون بينهما [نصفين] (¬4). وأنكره سحنون، وقال: هذا خطأ. وقال أبو زيد رحمه الله: لا يقوم بهذه المسألة. وذكر ابن عبدوس عن أشهب مثل ما روى أبو زيد عن ابن القاسم. فأما إن قاموا عليه بعد الموت فلا يخلو من أن يقوموا عليه بعد موتها، ¬

_ (¬1) في أ: إياه. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: فيفتك. (¬4) سقط من أ.

أو قاموا بعد موت السيد. فإن قاموا على السيد بعد موت أمّ الولد، وقبل الحكم عليه بجنايتها، فلا تخلو من أن تترك [مالًا] (¬1) أو لا مال لها. فإن ماتت ولم تدع مالًا، فلا شيء على السيد على القول بأن النظر في جنايتها يوم الحكم. فإن تركت مالًا، فلا يخلو من أن يكون عينًا أو عرضًا. فإن كان عينًا كان للمجروح دية جرحه منه وما فضل يكون لسيدها، وإن كان مالها أقل لم يكن للمجروح غيره، وإن كان [عرضًا] (¬2) خير سيدها بين افتكاكها بالأرش أو إسلامه، وهو قول عبد الملك فيما نقله ابن أبي زمنين. فإن قاموا بعد موت السيد؛ إما على القول بوجوب أروش الجناية [يوم الجناية] (¬3) فلا تفريع، وأما على القول بأن النظر فيها إلى يوم الحكم، فلا يخلو السيد من أن يترك مالًا أو لا. فإن مات وترك مالًا، هل يكون الأرش في ماله أم على أم الولد؟ فعلى ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك في ماله، ولا شيء عليها في مالها، وهو قول مطرف، وابن الماجشون [في "الواضحة"] (¬4). والثاني: أن ذلك [في مالها] (¬5) دون مال السيد، وهو قول سحنون ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

في "الكتاب" حيث قال: إنما يكون على السيد إذا قاموا وهي عنده، فلو قاموا وقد ماتت لم يكن لهم عليه شيء [فكذلك إذا ماتت قبل أن يقوموا فلا شيء عليه] (¬1) وعليها هي إذا قاموا بعد الموت؛ لأنها هي الجانية؛ [فذلك] (¬2) عليها، فهذا نص قوله. والثالث: أنه لا شيء عليها, ولا على السيد ولو ترك مالًا؛ لأن السيد إنما هو مطلوب بقيمتها يوم يقام عليه، وله مال. فإذا مات قبل القيام عليه، ولم تكن جنايتها متعلقة بذمته، وصار ما ترك ملكًا لورثته بالميراث، فكيف يجب أن يؤخذ من تركته ما جنت، وهذا قول قياسي. وأما [هي] (¬3) فلا يجب أن يكون عليها شيء؛ لأن الجناية حين وقعت منها لم تكن ممن تطلب بها، والمطلوب بها سيدها؛ فليس موته بالذي يوجب عليها ما لم يكن واجبًا قبل موته، فإن مات السيد ولم يترك مالًا، فلا خلاف في المذهب في أنه لا شيء على ورثته، وهل يلزم الأرش أمّ الولد أم لا؟ على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أنه لا شيء عليها، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أن ذلك عليها؛ لأنها هي الجانية، وهو قول سحنون فيها. والجواب عن الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا جنى على أم الولد لمن يكون أرشها؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: بذلك. (¬3) سقط من أ.

فرع

أما في الحياة، فالأرش للسيد [كمالها] (¬1) قولًا واحدًا، وأما إن مات السيد قبل أن يقبضه، فلمن يكون الأرش؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لها. والثاني: أن ذلك لسيدها مال يورث عنه. وحكى القولين التونسي، ولم يسم قائلهما. فرع فلو قتلت رجلًا حرًا عمدًا، فعفى أولياء القتيل عن أمّ الولد على أن يأخذوا القيمة من السيد؛ فإن رضي السيد بذلك، فلا إشكال، وإن أبى السيد، هل يجبر على ذلك أم لا؟ على قولين منصوصين في "المدونة": أحدهما: أن السيد لا يجبر على ذلك، ويكون لهم معاودة القتل؛ لأنهم إنما عفوا على أخذ القيمة أو الدية، وهو قول مالك، وابن القاسم في "كتاب الجنايات" من "المدونة". والثاني: أن السيد يجبر على دفع الأقل من قيمتها أو من الأرش، وهو قول الغير في الكتاب المذكور، وقال: ليس أمّ الولد كالحر؛ إنما حكمها حكم العبد. وقال أشهب في "كتاب الجنايات": أن الحر يجبر على الدية على ما أحب أو كره إذا [طلبت] (¬2) منه، ولا يقتل [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: طلب. (¬3) زيادة من ب.

المسأله السادسة في القصاص بين العبيد والأحرار فيما بينهم من القتل والجراح

المسأله السادسة في القصاص بين العبيد والأحرار فيما بينهم من القتل والجراح والعبيد مخاطبون بجناياتهم لاحقة بهم متعلقة برقابهم لا يلزم ساداتهم أكثر من إسلامهم بما جنوا -كانت الجناية مما يجب فيه القصاص أو مما لا يجب فيه القصاص- وإن أحب ساداتهم أن يفْتُّكُوهم بما جنوا , ولا يسلمونهم بجناياتهم كان ذلك لهم إلا فيما فيه القصاص في أبدانهم، فلا يكون ذلك لهم إلا برضى المجني عليه. فإذا ثبت ذلك فجناية العبيد تنقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: جناياتهم على العبيد. والثاني: جناياتهم على الأحرار. والثالث: جناياتهم على الأموال. فالجواب عن القسم الأول: إذا كانت جناياتهم على العبيد، فلا يخلو من أن تكون جنايته عمدًا أو خطأ. فإن جنى عليه عمدًا أو خطأ لا يجب القصاص فيه؛ لكونه متلفًا فسيد العبد الجاني مخير بين أن يسلمه بجنايته أو يفتكه بقيمة العبد المقتول أو بما نقص الجرح منه. وإن لم ينقصه الجرح شيئًا فلا شيء عليه إلا في المنقلة، والمأمومة، والجائفة؛ فإنه يَفتكه في المأمومة، والجائفة بثلث قيمة العبد المجروح، وفي المنقلة بعشر قيمته ونصف عشر قيمته إن برئت على غير شين.

فإن برئت على شين فنقص ذلك من قيمته، فقد اختلف [المذهب] (¬1) بماذا يفتديه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يفتديه: لما نقص الجرح من قيمته على ما هو عليه من الشين. والثاني: أنه يفتكه بالواجب [في] (¬2) ذلك الجرح مع ما نقصه الشين. والثالث: أنه يَفْتكه [بالأكثر] (¬3) من الواجب في ذلك الجرح أو [مما] (¬4) نقص الجرح من قيمته على ما هو عليه من الشين. والأقوال الثلاثة حكاها القاضي ابن رشد في المذهب. وثبتت الجناية في هذا الوجه بشاهدين، وبشاهد وامرأتين، وباليمين مع الشاهد. وفي إقرار العبد على نفسه بالجناية [بحضرتها] (¬5) قولان: أحدهما: أنها تثبت بإقراره، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنها لا تثبت به، وهو قول ابن نافع، فإن كانت جنايته عمدًا، فهل يجب القصاص فيما بينهم أو لا يجب؟ فقد اختلف أهل العلم في ذلك على أربعة مذاهب: أحدها: قول مالك ومن تابعه أن القصاص قائم بينهم في النفس، وفيما دون النفس كما هو بين الأحرار لاستوائهما في المزية كانوا لمالك أو ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: من. (¬3) في أ: بالأكبر. (¬4) في أ: ما. (¬5) في ب: بحضرتهما.

ملاك، وبه قال الشافعي وأصحابه. والثاني: أنه لا قصاص بينهم جملة لا في النفس، ولا فيما دون النفس كالصغير والمجنون، وروى هذا القول عن ابن مسعود، وقال به جماعة من التابعين، وبعض فقهاء العراقيين مثل ابن شبرمة. والثالث: أن القصاص بينهم في النفس دون الجراح، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. والرابع: التفصيل بين أن يكونوا لمالك واحد أو ملاك شتى؛ فإن كانوا لمالك واحد فلا قصاص بينهم، فإن كانوا لملاك، فالقصاص قائم بينهم، وهذا القول وقع في "المدونة" في "كتاب الرجم" لبعض الناس. والدليل على صحة مذهب مالك، والشافعي عموم قوله تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (¬1)، وبه قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. والدليل على صحة مذهب أبي حنيفة حديث عمران بن الحصين أن عبدًا لقوم فقراء قطع أذن عبد لقوم أغنياء، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقتص منه. فعلى مذهب مالك -رحمه الله- أن القصاص بينهم قائم في النفس والجراح؛ فإن سيد العبد المقتول أو المجروح مخير بين أن يقتص [منه] (¬2) أو يأخذ العبد الجارح إلا أن يشاء سيده أن يفتكه بقيمة العبد المقتول أو بما نقص الجرح منه، إلا أن تكون موضحة، فيفتكه بنصف عشر قيمة العبد، وهذا إذا ثبت القتل أو الجرح بشاهدين، وأما إن شهد على ذلك شاهد واحد، هل يحلف السيد أو يقتص أم لا؟ ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية (178). (¬2) سقط من أ.

فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يحلف ويستحق العقل دون القصاص، وهو قول ابن القاسم في "كتاب الشهادات" من "المدونة". والثاني: أنه يحلف ويقتص، وهو قول مالك في "كتاب الأقضية" من "المدونة"، وفي "كتاب الديات"، وهو قول الغير في "كتاب الشهادات" على اختلاف الروايات هناك. والثالث: أنه إن أراد العقل حلف وأخذ، وإن أراد القصاص حلف العبد، وهو قول المغيرة المخزومي. وينبني الخلاف: على الخلاف في القصاص [هل يكون] (¬1) بشاهد ويمين قياسًا على القسامة، أو لا يكون القصاص به؛ لأن القسامة مستثناة. فأمَّا إن ثبتت الجناية بإقرار العبد على نفسه بذلك، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك لازم لسيده، ويقتص منه؛ إذ لا يتهم في ذلك، وهو نص "المدونة". والثاني: أنه لا يجوز إقراره على نفسه بذلك، ولا يقتص منه؛ لأنه لا يجوز له أن يتلف نفسه على سيده، وهذا القول حكاه الأشياخ عن كثير من أصحاب مالك. والجواب عن القسم الثاني: إذا كانت جنايتهم على الأحرار، فإنها على وجهين: أحدهما: جنايتهم عليهم في النفس. والثاني: جنايتهم عليهم فيما دون النفس من الجراح. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فأمَّا جنايتهم عليهم في النفس، فلا يخلو إذا قتل العبد الحر من أن يكون ذلك خطأ أو عمدًا. فإن كان خطأ خير سيد العبد القاتل بين أن يسلمه أو يفتكه [بالدية] (¬1)؛ فإن اختار افتكاكه بالدية، هل تكون حالة على السيد أو منجمة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنَّ الدِّية حَالَّة عليه في ماله، وهو قول مالك في "المدونة" في مسألة العبد والحر إذا اصطدما فيموتان أو مات الحر منهما. والثاني: أنها تكون منجمة عليه في ثلاثة أعوام، وهو قول ابن القاسم عن مالك في "العتبية". فإن كان قتله عمدًا خير أولياء الحر المقتول بين أن يقتلوا العبد أو يستحيوه؛ فإن قتلوه فماله لسيده، فإن استحيوه، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن المال يكون للسيد كما لو قتلوه. والثاني: أن المال يكون تبعًا له كما لو استحيوه، وقد أسلم إليهم في الجناية. والقولان عن ابن القاسم في "العتبية". وأما جنايتهم عليهم فيما دون النفس، فهل يقتص من العبد للحر أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يقتص من العبد للحر في الجراح بخلاف النفس، وهو مشهور المذهب. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

والثاني: أنه يقتص منه [في الجراح للحر] (¬1) كما يقتص له في النفس، وهي رواية عن مالك حكاها الحفيد عن مالك في "كتاب النهاية" وهو الأصوب. والجواب عن القسم الثالث: وهو جنايتهم على الأموال: فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: جنايتهم على ما لم يؤتمنوا عليه. والثاني: جنايتهم على ما اؤتمنوا عليه. فأمَّا جنايتهم على ما لم يؤتمنوا عليه، فذلك في رقابهم -كانت لحر أو لعبد- يخير سيد العبد الجاني بين أن يسلمه بما استهلك من الأموال، أو يفتكه بذلك -كان ما استهلك من الأموال أقل من قيمته أو أكثر- إلا أن يرضى المجني عليه بأقل من ذلك إذا كان ممن يجوز له التصرف في ماله. فأمَّا جنايته على ما اؤتمن عليه بعارية أو كراء أو وديعة أو استعمال أو ما أشبه ذلك، فإن ذلك على وجهين: أحدهما: أن يستهلكه بالانتفاع به. والثاني: أن يستهلكه بالفساد، والهلاك من غير انتفاع به. فأمَّا إذا استهلكه بالانتفاع به مثل أن يكون ثوبًا، فيعتدي عليه فيبيعه، ويأكل ثمنه، أو طعامًا فيأكله: فهذا لا خلاف [فيه] (¬2) أنه في ذمته لا في رقبته. وأما ما استهلك بالفساد والهلاك، ففيه قولان: أحدهما: أن ذلك في رقبته، وهو قول ابن الماجشون. ¬

_ (¬1) في أ: للجراح في الحر. (¬2) سقط من أ.

والثاني: أن ذلك في ذمته؛ لأنه اؤتمن عليه، وهو قول ابن القاسم، والحمد لله وحده [تم كتاب جنايات العبيد بحمد الله وعونه] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

كتاب الديات

كتاب الديات

كتاب الديات تحصيل مشكلات [هذا الكتاب] (¬1) وجملتها إحدى عشرة مسألة: المسألة الأولى في ديات أهل الكتاب في النفوس والجراح والديات: جمع دية، وأصلها -والله أعلم- من الودي وهو الهلاك ومنه أودى فلان، أي: هلك، فلما كانت الدية عن الهلاك سميت بذلك لكونها سببه. وقد تكون أيضًا من التودية؛ وهو لشد أطباء الناقة؛ لئلا يرضعها فصيلها ومنعه عن ذلك؛ فكأن الدية تمنع من [يطالب] (¬2) بها من فعل ما يوجبها كما يمنع ذلك القصاص والحدود. وقد تكون تسميتها دية من الإصلاح؛ لأنها تسكن الطلب؛ مأخوذ من قولهم: ودأت الشيء مهموز، أي: سويته، وودأت الأرض، أي: سويتها. فإذا ثبت ذلك فأهل الكتاب والمجوس لا يخلو حالهم من وجهين: أحدهما: أن يجني عليهم. والثاني: أن يجنوا على غيرهم. فإن جنى عليهم فلا يخلو من أن يجني عليهم مسلم، أو يجني بعضهم علي بعض. فإن جنى عليهم مسلم، فلا يخلو من أن يجني عمدًا أو خطأ، فإن ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: يطلب.

جنى عليهم عمدًا، فلا خلاف في المذهب أنه لا يقتص [لهم] (¬1) منه -كانت الجناية في النفس أو فيما دون النفس- إذ لا يقتل مسلم بكافر إلا أن يقتله قتل غيلة فيقتل به على معنى الحِرَابَة لا على معنى القصاص المحض، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن الحر المسلم يقتل بالمعاهد، ويقتل بالعبد أيضًا، وتعلق بظاهر قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ} (¬2)، وبقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} الآية (¬3)، فقالوا: هذا عام في كل نفس محرمة القتل، وتأول قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقتل مسلم بكافر" (¬4) على أنه الكافر الحربي، وذلك كله استدلال ضعيف، والصحيح ما ذهب إليه مالك رحمه الله من وجهين اثنين: أحدهما: الأثر. والثاني: النظر. فأمَّا الأثر: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقتل المسلم بالكافر" (¬5)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم" (¬6). وأما النظر: فلكون القصاص مبني على تكافؤ الدماء وتساويها في الحرمة، ولا شك أن دم الكافر غير مكافئ لدم المسلم أصلًا. فإذا ثبت [ذلك] (¬7) فلا يقتل المسلم بالذمي إذا قتله عمدًا، فإنه تكون ¬

_ (¬1) في أ: له. (¬2) سورة المائدة الآية (45). (¬3) سورة الإسراء الآية (33). (¬4) أخرجه البخاري (111). (¬5) تقدم. (¬6) أخرجه أبو داود (2751)، والنسائي (4734)، وصححه الشيخ الألباني. (¬7) سقط من ب.

عليه الدية في ماله حالّة. فإن كان المقتول يهوديًا أو نصرانيًا فديتهما نصف دية الحر المسلم، وهو مذهب مالك -رحمه الله- أن دية الكتابي نصف دية المسلم؛ رجالهم على النصف من دية رجال المسلمين، ونساؤهم على النصف من دية نساء المسلمين، ودية جراحاتهم تابعة لدية النصف. وأما المجوس: فإن دية رجالهم ثمانمائة درهم، ودية نسائهم أربعمائة درهم، وجراحاتهم في دياتهم على قدر جراحات المسلمين من دياتهم، خلافًا للشافعي الذي يقول: إن دية اليهودي والنصراني [على الثلث من] (¬1) دية الحر المسلم، وخلافًا لأبي حنيفة الذي يقول: إن دية اليهودي والنصراني والمجوسي مثل دية الحر المسلم. وعلى مذهب مالك -رحمه الله- أن [من] (¬2) قتله عمدًا يؤدي نصف دية الحُرِّ المسلم إن كان المقتول يهوديًا أو نصرانيًا؛ إن كان من أهل الإبل، فنصف دية المربعة اثنا عشر بعيرًا ونصف بعير من كل جنس، وإن كان من أهل الذهب فنصف دية فخمسمائة دينار، وإن كان من أهل الورق فستة آلاف درهم، وإن كان المقتول يهودية أو نصرانية فنصف دية رجالهم على هذا الحساب. وإن كان المقتول مجوسيًا فديته ثمانمائة درهم إن كان القاتل من أهل الورث يؤديها، فإن كان من أهل الذهب [فعليه] (¬3) ستة وستون دينارًا [وثلثا دينار] (¬4)، وإن كان من أهل الإبل [فعليه ستة] (¬5) أبعرة وثلثا ¬

_ (¬1) في ب: مثل. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) في أ: فستة.

بعير، وجراحاته على حساب [هذا] (¬1). وإن كان المقتول مجوسية فديتها على نصف دية الرجل المجوسي. وذلك كله حال في مال الجاني. فإن جنى عليهم خطأ، فالدية على ما وصفنا وفسرنا؛ فما بلغ من ذلك ثلث الجاني أو المجني [عليه] (¬2)، فإن العاقلة تحمله، ولا يكون في مال الجاني، وديات اليهود، والنصارى، والمجوس رجالهم ونساؤهم، فإن العاقلة تحملها، وتنجم [عليها] (¬3) في ثلاثة أعوام. وهذا كله قول ابن القاسم في أول "كتاب الديات" من "المدونة". وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا جنى بعضهم على بعض، فلا تخلو الجناية أيضًا من أن تكون عمدًا أو خطأ. فإن كانت عمدًا، فإن أولياء المجني [عليه] (¬4) يمكنون من القصاص في النفوس والجروح، ويقتل الكافر بالكافرة، والكافرة بالكافر؛ لتساوي الدماء وتكافئها. فإن كان خطأ وكانت الجناية قتلًا، فالدية على عاقلة القاتل، وكذلك إن كانت الجناية فيما دون النفس مما يبلغ ثلث دية الجاني، أو المجني عليه، فإن العاقلة تحمله كجناية الرجل على المرأة أو المرأة على الرجل. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا جنوا على غيرهم من ¬

_ (¬1) في أ: ديته. (¬2) في أ: عليهم. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: عليهم.

المسلمين، فلا يخلو من أن تكون جناياتهم عليهم عمدًا، أو تكون جناياتهم عليهم خطأ. فإن كان جناياتهم عليهم عمدًا، فإنه يقتص منهم للمسلم على ما ذكرنا في النفس، وفيما دون النفس. والذكران والإناث في ذلك سواء. فإن كانت جناياتهم عليهم خطأ، فالدية على عاقلة الجاني في النفس، وفيما دون النفس مما يبلغ ثلث دية الجاني أو المجني [عليه] (¬1) على ما فسرناه آنفًا. ودية الأجنة على دية أمهاتهم كالحرة المسلمة. وأما دية المرتد إذا قتل قبل أن يستتاب، فقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا دية [له] (¬2). والثاني: أن ديته دية المجوسي. والثالث: أن ديته دية أهل [الدِّين الذي ارتد إليه، والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) في أ: عليهم. (¬2) في ب: عليه. (¬3) سقط من أ.

المسألة الثانية في العاقلة التي عليها حمل الدية

المسألة الثانية في العاقلة التي عليها حمل الدية والكلام في هذه المسألة في ثلاثة فصول: الفصل الأول: في معرفة العاقلة وحدها. والثاني: في معرفة من تحمل عنه العاقلة. والثالث: في القدر الذي تحمله العاقلة من الدية وكيفية توظيفها عليها. فأما الفصل الأول: في معرفة العاقلة وحدها: والعاقلة: عشيرة الرجل وقومه، وهو قوله في النوادر. فإذا ثبت ذلك، فلا يخلو الجاني من أن يكون من أهل ديوان أو من أهل القبائل المنقطعين. فإن كان من أهل ديوان، فإنهم يعقلون عنه؛ لأن أهل ديوان يعقل بعضهم عن بعض، وإن جمعهم الديوان من قبائل متفرقة. والديوان عبارة عن زمام يجمع أفراد [الأجناد] (¬1) وآحاد من شعوب وقبائل على عطاء يخرج لهم من بيت المال في أوقات معلومة لما وجب عليهم من سد الثغور، وربما استعدوا له من النكاية والظهور. فإن ضاق الحل بأهل الديوان حتى لا يقدروا على تحمل الدية إلا زحفًا، هل يستعينوا بمن ليس معهم في الديوان من قومه أم لا؟ فلا يخلو من أن يكون أمر الديوان قائمًا أو [يكون قد] (¬2) انقطع. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن كان قائمًا وعطاؤه جار على المعهود، فالمذهب على قولين: أحدهما: أن جرائر الجاني موقوفة عليهم، ولا تتعدى إلى غيرهم ممن ليس معهم في الديوان من قومه. وهو قول أصبغ في "المدونة"، ورواية أشهب في "العتبية". والثاني: أنهم إذا اضطروا إلى من ليس معهم في الديوان من قومهم أعانوهم، وهو قول مالك في المجموعة، قال: وقد تأخر العطاء وقيل الديوان حتى ضاعت العقول. فإن كان الديوان قد انقطع، فالدية على عاقلته من قومه، وقد تعاقل الناس قبل الديوان، وما كان الديوان إلا في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. فأما الوجه الثاني: إذا كان الجاني من القبائل المنقطعين فإن الدية على فخذه إن كان فيهم محمل الدية، وإلا ضم إليهم أقرب القبائل، فإن لم يحملوا أيضًا ضم أقرب القبائل إليهم هكذا أبدًا حتى يحملوا بضم الأقرب فالأقرب، والقرب المعتبر [القرب] (¬1) بالقرابة لا بالجوار، وهو قوله في "النوادر". فإن ضاقوا عن تحملها ذرعًا , ولم يقووا عليها [إلا بضم] (¬2) غيرهم إليهم مثل أن يكون الجانى من أهل القرار، وعجز قومه [الذين] (¬3) بالقرار عن تحملها, وله عصبة بالبادية، هل [يستعين] (¬4) بهم أهل القرار على تحمل الجناية أم لا؟. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: الذي. (¬4) في أ: يستعينوا.

فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون جميع قومه وعشيرته أهل حاضرة واحدة. والثاني: أن يكونوا أهل حواضر. والثالث: أن يكونوا أهل بادية وحاضرة. فإن كانوا أهل حاضرة واحدة، وليس لهم في غيرها قرابة، ولا عشيرة، فلا خلاف أن الدية مقصورة عليهم بسقوطها على قدر حالهم. وكذلك الحكم أيضًا إذا كانوا أهل بادية وليس لهم في الحاضرة قرابة، ولا عشيرة. فإن كانوا أهل حواضر، فهل يقتصر بالدية على من تواضع الجاني في الحاضرة التي فيها مثواه أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الدية قاصرة على قبيلة الذي ثوى معهم في حاضرته، ولا يتعدى بها إلى غيرهم ممن يسكن حاضرة أخرى من عشيرته. فإن لم يكن بها من قومه من يحملها لقلتهم ضم إليهم أقرب القبائل إليهم ممن [هو] (¬1) ساكن [بتلك] (¬2) [الحاضرة] (¬3) وهي رواية أصبغ عن أشهب في الدية وجبت على قبيل بالفسطاط أنه لا يدخل فيها إلا من ثوى بالفسطاط من قريب، ومعلوم أن بأنظار الفسطاط من القرى والحواضر ما لا يحصى كثرة، وحكمها كلها حكم الفسطاط في جنس المالية. والثاني: أن الدية يتعدى تحملها إلى قوم الجاني، وإن كان سكناهم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: تلك. (¬3) سقط من أ.

بحاضرة أخرى إذا ضعف عن تحملها من سكن [مع] (¬1) الجاني بحاضرته من قومه، وهو قول أشهب أيضًا في [مدونته] (¬2) على ما حكاه عنه أصبغ، وهو قول ابن القاسم في "الموّازية"، وهو الصحيح؛ لأن العاقلة إذا كانت أهل الحواضر فقد تجانس المال وسلم من أن يؤدي في دية واحدة إبلا وعينًا, ولا أدري لقول أشهب وجهًا في المنع. فإن كانوا أهل حاضرة وبادية، هل يضم بعضهم إلى بعض أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يضم بعضهم إلى بعض، ولا يعقل البدوي مع الحضري كان الجاني في الحاضرة أو البادية؛ إذ لا يستقيم أن يكون في دية واحدة إبل وعين، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنه يعاقل البدوي مع الحضري، وهو قول أشهب، وعبد الملك في "كتاب ابن الموّاز"، ورواه ابن وهب عن مالك في "كتاب ابن سحنون". ووجه القول الأولى: أن الدية مبنية على جنس واحد؛ ولذلك جعل على أهل الذهب الذهب، وعلى أهل الورق الورق، وعلى أهل الإبل الإبل، ولو جاز تبعيضها لأدَّى كل إنسان مما عنده و [لرجع] (¬3) في ذلك إلى القيمة. ووجه القول الثاني: أن [الدية] (¬4) مبنية على المشاركة والمعاونة والمواصلة، وقد يضاف إلى القبيل من ليس منهم مع تباعدهم إذا كانوا في ¬

_ (¬1) في أ: عن. (¬2) في أ: المدونة. (¬3) في أ: يرجع. (¬4) في ب: العاقلة.

مصر واحد؛ فبأن يضاف إلى أهل الحاضرة من أهل البادية [من هو] (¬1) ومن عصبة الجاني وإخوته أولى وأحرى، ولا مضرة على المجني [عليه] (¬2) في تبعيض أصناف الدية كما لو قتل رجلًا رجلان: أحدهما من أهل البادية وهم أهل البادية، والآخر من أهل العين لكان على عاقلة كل واحد منهما نصف الدية على حسب ما هو عليه. وعلى القول بأن البدوي يعقل مع الحضري فلا يخلو من أن يكونا متناصفين أو يكون أحدهما أكثر من الآخر. فإن كانا متناصفين فالدية عليهما أنصافًا يحمل كل فريق من ذلك ما هم أهله، وهو قول أشهب وعبد الملك في "كتاب ابن سحنون"، فإن كان أحد الصنفين أكثر من الآخر هل يكون الأقل تبعًا للأكثر أو يؤدي كل صنف مما هو [ماليتهم] (¬3). فالمذهب على قولين: أحدهما: أن الأقل تبع للأكثر؛ فإن كان أهل العمود أكثر كانت الدية كلها إبلًا يؤدي معهم [منها] (¬4) أهل القرى ما عليهم إبلًا، وإن كان أهل القرار أكثر، فالدية عين [كلها] (¬5) يؤدي أهل العمود ما يلزمهم منها عينًا، وهو قول عبد الملك في "كتاب ابن المواز". والثاني: أن الأقل مستقل بحكمه، فيؤدي صاحبه من ذلك ما هم أهله كما أن الأكثر مستقل بنفسه، فيؤدي صاحبه من ذلك ما هو أهله، وهو ¬

_ (¬1) في أ: منه و. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: ماليته. (¬4) في أ: من. (¬5) سقط من أ.

قول قياسي كأحد أقاويل المذهب في الزرع إذا كان سقيه جاء بالسيح والنضح. واختلف في الجاني هل يؤدي مع [العاقلة] (¬1) أم لا، على قولين: أحدهما: أنه يؤدي معهم وهو كرجل منهم، وهو قول مالك في "الموازية" و"المجموعة" , وهو أحد أقواله في "المدونة". والثاني: أنه لا يؤدي معهم شيئًا، وهو قول بعض أصحابنا على ما نقله [القاضي] (¬2) أبو الوليد الباجي، وهذا القول قائم من "المدونة" أيضًا من "كتاب الصلح". وسبب الخلاف: هل الدِّية على العاقلة في الخطأ بالأصالة، أو إنما هي على القاتل، ثم انتقلت إلى العاقلة بحكم، وعلى هذا الأصل ينبني الخلاف الواقع في "كتاب الصلح" في الدِّية، هل تحملها العاقلة باعتراف القاتل أو لا؟ فإذا ثبت ذلك فالعاقلة على [قسمين] (¬3): ذكور وإناث؛ فالإناث لا مدخل لهن في تحمل الدية بوجه، وهو نص قول مالك في "المجموعة"، وغيرها؛ لأنهن لسن من أهل التعصيب والنصرة. والذكور على وجهين: بوالغ، وغير بوالغ؛ فغير البوالغ كالإناث فلا مدخل لهم في العاقلة حتى يبلغوا. والبوالغ على وجهين: عقلاء ومجانين؛ فالمجانين كالصبيان والإناث، والعقلاء على وجهين: الموالي وغير الموالي؛ فالموالي على وجهين: موالي الأعلى، وموالي الأسفل؛ فالمولى الأعلى يعقل عن مولى الأسفل بلا خلاف؛ لأنه عصبته، ومولى ¬

_ (¬1) في ب: أهل العاقلة. (¬2) زيادة من ب. (¬3) في ب: وجهين.

الأسفل اختلف فيه على قولين: أحدهما: أنه يعقل عن مولاه كما يعقل هو عنه، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". والثاني: أنه لا يعقل عنه، وهو قول سحنون في "كتاب ابنه". وغير الموالي على وجهين: مديان، وغير مديان. فالمديان كالمعدم لا يؤدي مع العاقلة لحق الغرماء، وغير المديان الملي الموسر هو الذي وجب عليه تحمل الدية كان رشيدًا أو سفيهًا بالغًا. وهو قول ابن القاسم وابن نافع في السَّفيه في "العتبية". وإذا جنى قروي ثم انتقل إلى البادية [رفضًا] (¬1) لسكنى القرار أو بالعكس على القول بأن البدوي لا يعقل مع الحضري، أو انتقل المصري إلى الشام أو العراق، أو انتقل العراقي أو الشامي، فأوطن مصرًا: فلا يخلو المنتقل من أن يكون الجاني نفسه أو أحد من أهل عاقلته؛ فإن كان المنتقل هو الجاني نفسه، فإن الدية على أهل بلده الذي انتقل منها -انتقل قبل القيام عليه أو بعد القيام عليه- وهو نص قول مالك في "المجموعة"، و"الموَّازية". فإن كان المنتقل بعض أهل عاقلته، فلا يخلو انتقالهم من أن يكون قبل التوظيف أو بعد التوظيف. فإن انتقل قبل التوظيف فإنه لا شيء عليه إذا رفض سكنى بلده، وإنما الدية على من حضر التوظيف. ولا شيد على من مات قبل ذلك، أو انتقل، إلا أن ينتقل فرارًا من الدية، فإنه [يلحقه] (¬2) حكمها حيث كان، ولا ينظر إلى يوم ثبت الدم ¬

_ (¬1) في أ: من قضاء. (¬2) في أ: يلحقها.

ويحكم بثبوته، وإنما النظر إلى يوم توظيفه، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". وإن انتقل وارتحل بعد التوظيف فقد [لزمته] (¬1) ولا تزول عنه بالانتقال، ولا يلزم من قدم من غيبته، أو احتلم، أو استغنى بعد التوظيف. واختلف فيمن مات بعد أن [وظفت] (¬2) على قولين: أحدهما: أنها في ماله كدين ثابت، ويحاص به الغرماء، وهو قول سحنون في "العتبية"، وهو قول عبد الملك في "المجموعة". والثاني: أنه لا يحاص بها الغرماء، والغرماء مبدون على طلب الدية، وإن مات ممن وظفت عليهم رجعت إلى بقية العاقلة، ولا تكون في ماله، ولا على ورثته. وهي رواية يحيى عن ابن القاسم في "العتبية"، وبه قال أصبغ. وأما الفصل الثاني: في معرفة من تحمل عنه العاقلة جريرته: ولا تخلو جناية الجاني من وجهين: إما أن تكون عمدًا، وإما أن تكون خطأ. فإن كانت عمدًا فلا تخلو من أن تكون في النفس، أو فيما دون النفس. فإن كانت في النفس، فإن الواجب فيها القصاص، فإن اصطلحوا على الدية المبهمة في من مال القاتل، ولا تحمل العاقلة منها شيئًا، قال ابن شهاب: إلا أن تطيب النفس. قال أشهب: وعلى هذا جميع العلماء إلا من خالف من أهل العراق. ¬

_ (¬1) في ب: لزمه. (¬2) في أ: وقفت.

فإن كانت فيما دون النفس كالجراح والشجاج، فلا يخلو من أن يكون مما يمكن فيه القصاص أو مما لا يمكن فيه [القصاص] (¬1). فإن كان مما يمكن فيه القصاص، فهو كالقتل على سواء. فإن كان مما لا يمكن فيه القصاص مما هو متلف كالجائفة والمأمومة، وما لا يستفاد لخوفه كالفخذ، والصدر، وعظم العنق مما يبلغ ثلث الدية، فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة" في "كتاب [الديات] (¬2) ": أحدها: أنها في مال الجاني جملة، وهو قوله في "كتاب الديات" حيث قال: ثم رجع فجعلها على العاقلة بضعف، وقال لي آخر ما كلمته ما هو بالأمر البين أن تكون على العاقلة. والثاني: أنها على العاقلة جملة. والثالث: بالتفصيل بين أن يكون له مال، فتكون في ماله أو لا مال له، فتكون على العاقلة لئلَّا يبطل الدم. والأقوال الثلاثة لمالك - رحمه الله. فإن كانت الجناية خطأ، فالمذهب عندنا على أن العاقلة لا تحمل من دية الخطأ إلا الثلث فصاعدًا, ولا أعلم في المذهب نص خلاف قال مالك -رحمه الله: الأمر المجتمع عليه عندنا ألا تحمل العاقلة من جراح الخطأ إلا قدر ثلث الدية فصاعدًا [وقال ربيعة مضت السنة أن العاقلة لا تحمل إلا الثلث فصاعدًا] (¬3) وقد عاقل النبي - صلى الله عليه وسلم - بين قريش والأنصار، فجعل العقل ينتهي إلى ثلث الدِّية، وقضى به عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الدية. (¬3) سقط من أ.

العزيز رضي الله عنهما، وقاله ابن المسيب، وسليمان، وعروة، وكثير من التابعين. وهذا كله مذكور في الجراحات، وإنما كررته هنا لزيادة بيان. ولا فرق بين أن يكون الجاني عاقلًا بالغًا، أو مجنونًا في حال جنايته، أو صبيًا صغيرًا ممن يفهم، ويقع منه بعض التمييز؛ فإن العاقلة تحمل ما بلغ الثلث فصاعدًا [من جنايته] (¬1). فأمَّا السكران والسفيه فعليهما القود في القتل والجراح إلا أن ينتهي حال السكران إلى حد لا يميز فيه بين الذرة والفيل؛ فيلتحق حينئذ بالمجنون، وتحمل العاقلة جريرته. واختلف العلماء فيمن جنى على نفسه خطأ، هل يهدر دمه أو تحمله العاقلة؟ فذهب مالك -رحمه الله- إلى أن دمه هدر، ولا تحمله العاقلة، قال في الموطأ: ولا تعقل العاقلة أحدًا أصاب نفسه عمدًا أو خطأ بشيء، وعلى ذلك رأى أهل الفقه عندنا. قال: ولم أسمع أحدًا ضمن العاقلة من دية العمد شيئًا. قال: ومما يعرف [به] (¬2) ذلك أن الله تعالى قال في كتابه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَان} (¬3). فذهب الأوزاعي وابن حنبل إلى أن الجاني على نفسه خطأ أن ديته على عاقلته تدفع إليه إن كان حيًا وإلى ورثته إن مات. ويشبه أن يقال في توجيه ما ذكراه أن الدية على أحد القولين واجبة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة البقرة الآية (178).

على العاقلة بطريق [الأصالة] (¬1) بعلة الجناية الواقعة على وجه الخطأ، فيستوي في ذلك من قتل نفسه، ومن قتل غيره. وأمَّا الآية التي استدل بها مالك -رحمه الله- على أن العاقلة لا تحمل من دية العمد شيئًا، فقد اختلف العلماء في تأويلها على حسب اختلاف مذاهبهم في القاتل هل يجبر على دفع الدية إذا رضي بها وليّ القتيل؛ فقيل: معنى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (¬2)، أي: بدل له أخ المقتول الدية؛ فيكون معنى "عفى له": بذل له، والضمير في "له" راجع إلى وليّ المقتول [والأخ أخ لذلك المقتول] (¬3) إلى الرضا بذلك والمطالبة بما بدل من الدية بمعروف، ويؤدي القاتل إليه بإحسان، وهذا على أحد الروايتين عن مالك [وهي رواية ابن القاسم، وأشهب في "المجموعة"] (¬4)، ورواية ابن القاسم في "المدونة" أن القاتل ليس له بدل الدية إذا طلبها ولي الدم إلا أن يشاء، وإنما [عليه القصاص، وبه قال الشافعي، ودليل] (¬5) ذلك من جهة المعنى أنه معنى يجب به القتل فلا يستحق به التخيير بين القتل، والدية كالزنا. وقيل: إن معنى قوله: فمن عفي له، أي: ترك له -يريد: القاتل- وأخوه -يريد: ولي المقتول يريد ترك قتله فيكون له طلب الدية بالمعروف، وعلى القاتل أن يؤدي إليه بإحسان، وهي رواية أيضًا عن مالك أن ولي القتيل مخير بين القتل وأخذ الدية، [ويجبر] (¬6) القاتل ¬

_ (¬1) في أ: الإصابة. (¬2) سورة البقرة الآية (178). (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من ب. (¬6) في أ: يخير.

على دفعها إذا رضي بها [ولي المقتول] (¬1)، وهو اختيار أشهب في "كتاب الجنايات" من "المدونة"، وبه قال أبو حنيفة. ودليل هذا القول من جهة المعنى أن هذا قتل فلم يجب فيه غير بدل واحد كقتل الخطأ. وأما الفصل الثالث: في معرفة القدر الذي تحمله العاقلة من الدية، وكيفية توظيفها عليها. ولا تخلو الدية من أن تكون كاملة أو ناقصة. فإن كانت كاملة فلا خلاف في المذهب أنها تنجم على العاقلة، وفائدة تنجيمها الرفق بالعاقلة والتخفيف عنها؛ لما في التنجيم من لواحق الأسنان في الإبل، وتكامل النماء؛ لأنها قد تكون وقت الوجوب حوامل، وبعد ذلك مواخض وبعد ذلك لَوَابِن، وإلى هذا المعنى أشار القاضي أبو محمَّد [عبد الوهاب] (¬2) في "معونته" (¬3). فإذا [ثبت] (¬4) التنجيم وفائدته، فهل تنجم الدية على العاقلة في ثلاث سنين، أو في أربع؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنها تنجم في ثلاث [سنين] (¬5)؛ ثلثها في سنة، وثلثاها في سنتين، وهو اختيار مالك -رحمه الله- وصريح مذهبه، وبه قضى عمر وعليّ رضي الله عنهما. ¬

_ (¬1) في ب: القاتل. (¬2) سقط من أ. (¬3) المعونة (3/ 1325). (¬4) سقط من ب. (¬5) سقط من أ.

والثاني: أنها تُنَجَّم على العاقلة في أربع سنين؛ ربعها في كل سنة، وهو ظاهر قول ابن القاسم في "المدونة"؛ لأن قال في "كتاب الجراحات": أن ثلاثة أرباع الدية في ثلاثة أعوام، وهو أحد قولي مالك في الكتاب المذكور أن نصف الدية في عامين. وينبني الخلاف: على الخلاف في المفهوم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الدية تقطع في ثلاث سنين أو أربع سنين"، قال مالك: والثلاث أحب [إليَّ] (¬1) مما سمعت في ذلك؛ فأخبر مالك أنه سمع في ذلك ثلاث سنين أو أربع سنين فاحتمل ذلك معان ثلاث: أحدها: التخيير، والثاني: الشك، والثالث: أن يكون سمع القولين كل قول من قائل من أهل العلم يراه ويفتي [به] (¬2) دون القول الآخر، فاختار مالك -رحمه الله- ثلاث سنين، واختار ابن القاسم أربع سنين. وفائدة قوله: ثلثها في سنة وثلثاها في سنتين، ولم يقل ثلثها في كل عام أن العاقلة تطالب بأداء ثلثها بانقضاء السنة الأولى، ولا يطالبوا بثلثيها حتى تنقضى السنة الثانية من السنتين. وأما الوجه الثاني: إذا كانت الدية ناقصة، فهل هي على الحلول أم على التأجيل؟ فعن مالك في ذلك قولان: أحدهما: [أنها] (¬3) على التأجيل كالدية الكاملة. والثاني: أنها على التعجيل. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: أنهما.

والقولان حكاهما القاضي [أبو محمَّد] (¬1) عبد الوهاب عن مالك. فوجه القول بالحلول: أنه بعض دية فكان على الحلول، أصل ذلك ما دون الثلث. ووجه القول بالتأجيل: أنها دية تحملها العاقلة، فكانت مؤجلة كالدية الكاملة. وإذا قلنا بالتأجيل، وكان البعض الواجب من الدية نصفًا أو ثلثًا أو ثلثين، فما الحكم في تنجيم ذلك؟ فالمذهب على خمسة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن الثلث في عام والثلثين في عامين، [والنصف في عامين] (¬2) وهو نص قول مالك في كتاب الجراح لقول ابن القاسم في النصف: وقد كان مالك مرة يقول نصف الدية: أنها في سنتين، قال ابن القاسم: وهو أعجب إليّ. والثاني: أن الثلث في عام، والثلثين في عامين، والنصف يجتهد فيه الإِمام إن رأى أن يجعله في سنتين جعله، وإن رأى أن يجعله في سنة ونصف جعله في سنة ونصف، وهو قول مالك في "كتاب الجراح" أيضًا. والثالث: أن ثلثها وثلثيها على ما تقدم، وأما نصفها فإن الثلث منه في سنة، والسدس الباقي في السنة الثانية، وهو قول أشهب على ما نقله الباجي في "المنتقى" (¬3)، وهو ظاهر قول مالك في الكتاب في خمسة أسداس الدية حيث قال: يجتهد [الإِمام] (¬4) في السدس الباقي. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) المنتقى (9/ 9 , 10). (¬4) سقط من أ.

وقد اختلف المتأخرون في تأويل قوله في الكتاب: "يجتهد في السدس الباقي"، قيل: اجتهاده فيه أن يجعله في أول السنة الثانية أو في وسطها أو في آخرها؛ لأن الأربعة الأسداس ثلثاها، وهما في عامين. وعلى هذا التأويل يستقرأ قول أشهب [من] (¬1) المدونة. وقيل: يأتي على قوله: ثلاثة أرباع الدية في ثلاث سنين؛ ربعها في كل سنة، وهو مثل قوله: نصفها في سنتين أن تقسم خمسة أسداس الدية على ثلاث سنين. والقول الرابع: أن ثلث الدية وثلثيها ونصفها يرجع جميعًا إلى اجتهاد الإِمام، وهذا القول حكاه القاضي في "المنتقى" (¬2) على نقل القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب عن مالك، وهو قائم من "المدونة" أيضًا من قوله في النصف والثلاثة أرباع أن الإِمام يجتهد فيها. والقول الخامس: التفصيل بين أن تكون الزيادة على الثلث أو الثلثين بما له بال، أو لا بال له. فإن كانت الزيادة لها بال [فإن زادت على الثلث، فأن يكون في سنتين وإن زادت على الثلثين يكونا في سنتين، وإن كانت الزيادة لا بال لها] (¬3) فلا يغير حكم المزيد عليه من أصله، وصارت كالعمد، وهو قول ابن الموَّاز، ومحمد بن سحنون عن أبيه في كتابه. فيتحصل في ثلث الدية وثلثيها على ما لخصناه، قولان: أحدهما: أن الثلث في عام والثلثين في عامين. ¬

_ (¬1) في أ: في. (¬2) المنتقى (9/ 10). (¬3) سقط من أ.

والثاني: أن الحكم فيها يرجع إلى اجتهاد الإِمام. وفي النصف ثلاثة أقوال: أحدها: أنه في عامين ربعًا في كل عام. والثاني: أن الإِمام يجتهد فيه. والثالث: أن الثلث منه في عام، والسدس الباقي في السنة الثانية. فإذا انتهت الدية إلى ما [تحمله] (¬1) العاقلة على الجملة، فإنها توظف عليهم؛ الموسر بقدره والمقل بقدره. وإن كان القتل من عشرة رجال مثلًا فدية واحدة [تقسم] (¬2) على عواقلهم؛ عشرها [على] (¬3) كل قبيلة في ثلاث سنين. وكذلك لو كان المقتول كتابيًا أو مجوسيًا [تحملت] (¬4) قبيلة كل رجل منهم عشر الدية في ثلاث سنين. وقال أشهب: سواء كانت الدية إبلًا أو غيرها، وهذا في "الكتاب". والمجوس على أحد قولي مالك في اعتبار قلة الجاني أو المجني عليه أيهما بلغت ثلث الدية فصاعدًا، فإن العاقلة تحملها. وأمَّا على ما ذكره ابن كنانة من أن مالكًا -رحمه الله- رجع عن ذلك القول، وأنكره فلا يعتبر إلا دية المجني عليه دون [دية] (¬5) الجاني. واختلف فيما يأخذ من كل رجل من أهل العاقلة هل هو مقدر أو غير مقدر على قولين: ¬

_ (¬1) في أ: تحملت. (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ: إلى. (¬4) في أ: لحملت. (¬5) سقط من أ.

فرع

أحدهما: أنه مقدر، وأنه يؤخذ عن كل رجل من مائة درهم من عطائه درهم ونصف، وهو قول ابن القاسم عن مالك في "المدونة" و"الموازية". والثاني: أنه لا حد لما يؤخذ من كل رجل منهم، وإنما ذلك على قدر اليسر والعسر، وليس المكثر كالمقل، ومنهم من لا يؤخذ منه شيء لإقلاله، وهو قول مالك في "المجموعة" و"المدونة"، وهو الصحيح؛ لأن الدية إنما توظف عليهم على وجه الرفق والمواساة، فيكون ذلك على قدر المالية باجتهاد الحاكم؛ ولهذا قال: يضم في العاقلة الأقرب فالأقرب حتى يحملوها برفق. فافهم هذا التحصيل فإنه تلخيص بديع لم يسبق إليه على هذا الوضع. فرع ومن قتل رجلًا عمدًا يظنه ممن لو قتله لم يكن فيه قصاص قال ابن الموَّاز: لا قصاص عليه، وقد مضى مثل ذلك في مسلم قتله المسلمون في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يظنونه من المشركين، فوداه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقد منه. قال مالك -رحمه الله- في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬1)، ولم يذكر دية، فهو من أسلم ولم يهاجر من مكة، فلا دية له؛ لقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (¬2)، وأما قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (¬3)، فهذا من [هدنة] (¬4) النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من أصيب منهم ممن أسلم، ولم يهاجر ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية (92). (¬2) سورة الأنفال الآية (72). (¬3) سورة النساء الآية (92). (¬4) في أ: هدية.

ففيه الدية لأهله الكفار الذين كانوا بين أظهرهم ألا تراه رَدَّ إليهم أبا جَنْدَل بعد أن أسلم، فكذلك ديته [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الثالثة في دية الجنين

المسألة الثالثة في دية الجنين والأصل [فيه] (¬1) ما خرَّجه مالك [في] (¬2) الموطأ من طريق أبي هريرة أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى، فطرحت جنينها، فقضى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغرة عبد أو وليدة (¬3). وخرَّج أيضًا من مراسل سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة (¬4)، فقال الذي قضى عليه: أغرم ما لا شرب، ولا أكل، ولا نطق، ولا استهل، ومثل ذلك باطل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هذا من إخوانكم الكهان". والغرة عند أهل اللغة: اسم واقع على الإنسان ذكرًا كان أو أنثى، وأصله -والله أعلم- من غرة الوجه، وقد يكون من الحسن، والإنسان أحسن صورة من كل شيء خلقه الله، وبه نطق الكتاب العزيز. والغرة [عند العرب] (¬5) أحسن ما يملك. وقال الشيخ أبو عمران الفاسى رحمه الله: الغرة معناها [الأبيض وبذلك سميت فلا يقبل فيها أسود. والذي أقول والله أعلم: إنما سميت بذلك الاسم لاشتهارها] (¬6) في ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: من. (¬3) أخرجه البخاري (5427)، ومسلم (1681). (¬4) أخرجه مالك (1552)، والشافعي (1600)، والنسائي في الكبرى (7024) مرسلًا. (¬5) في ب: عنده. (¬6) سقط من أ.

مسائل الدماء بحكمها المخصوص بها لمساواة الشارع فيه بين الذكر والأنثى، والعمد والخطأ تيممًا لقطع الشغب وحسمًا لمادة النزاع كتسميتهم مسألة الأكدرية بالغراء لاشتهارها في مسائل الفرائض بانفرادها بالغول في مسائل الجد مع الإخوة كاشتهار الفرس الغراء في الخيل الدهم البهم، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث أن ذلك علامة يعرف بها أمته يوم القيامة من بين سائر الأمم. فإذا ثبت ذلك فلا يخلو خروج الجنين إذا ضربت أمه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يخرج من أمه وهي حية. والثاني: أن يخرج منها بعد أن ماتت. والثالث: أن يخرج أوله وهي حية ثم خرج آخره بعد أن ماتت. فأما الوجه الأول: إذا خرج وأمه حية ثم ماتت بعد خروجه أو عاشت، فإن ماتت فلا يخلو الجنين من وجهين: أحدهما: أن يستهل صارخًا بعد خروجه من أمه أو لا يستهل. فإن استهل صارخًا أو طال مكثه مما يقوم مقام الصراخ في دلالة الحياة فلا خلاف في المذهب. ومعنى الاستهلال رفع الصوت بالصراخ أو بالبكاء والضرب على أوجه: أحدها: أن يكون الضرب فيه وفي أمه عمدًا. والثاني: أن يكون فيهما خطأ. والثالث: أن يكون في الأم عمدًا، وفي الجنين خطأ.

فأما أن يكون الضرب عمدًا في الأم والجنين ثم ماتا جميعًا، فلا يخلو من أن يثبت ذلك ببينة، فإن ثبت ذلك بقولها، فإن القود في الأم بقسامة أوليائها, ولا شيء في الجنين لا قود ولا دية؛ لأنها شاهدة لابنها. فإن ثبت ذلك ببينة، فأمَّا الأم ففيها القود بقسامة قولًا واحدًا. وأمَّا الجنين، فهل فيه القسامة أم لا؟ فلا يخلو من أن يموت بفور استهلاله أو مات بعد تراخ. فإن مات بعد تراخ، فالقسامة فيه قولًا واحدًا في المذهب. فإن مات بفور استهلاله، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لابد فيه من القسامة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" و"الموَّازية". والثاني: أنه لا قسامة [فيه] (¬1) وهو قول أشهب في "الموازية". وعلى القول بوجوب القسامة فيه، فهل يستحق بها القود أم الدية؟ فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يستحق [بها] (¬2) الدية، ولا سبيل [له] (¬3) إلى القود والعمد فيه كالخطأ، وفيه الكفارة؛ لأن موته بضرب غيره والدية في ذلك على العاقلة، وسواء ضربت الأم على بطنها أو على ظهرها أو على رأسها؛ لأن إصابة الولد خطأ والعمد في أمه، وهو قول أشهب في جميع ذلك في "الموازية". والثاني: أن فيه القود إذا ضربت أمه في بطنها، أو على ظهرها، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: به. (¬3) سقط من أ.

أو على موضع يرى أنه أصيب منه، وهو قول ابن القاسم في "المجموعة". والثالث: أنه لا يكون فيه القود إلا إذا ضربها على بطنها خاصة، وهو قول ابن القاسم في كتاب الديات من "المدونة". وأما إن كان الضرب خطأ فيهما جميعًا أقسم ولاتها وولاة الجنين لمن ضربه مات، أو يكون على العاقلة ديتان [وعلى الضارب كفارتان] (¬1). وأما إن كان الضرب عمدًا [في] (¬2) الأم وخطأ في الولد، فإن ولاة الأم يقسمون ويستحقون القود، ويقسم ولاة الجنين، ويستحقون الدية [قيل] (¬3) في مال الجاني؛ لأن موته عن شبه ضرب عمد، وهو قول ابن القاسم في "المجموعة". [وقيل على] (¬4) العاقلة وهو قول أشهب في "الموَّازية". وأما إن خرج ميتًا أو خرج حيًا ثم مات، ولم يستهل صارخًا, ولا ظهرت فيه أمارة من دلالة الحياة كالصراخ، أو البكاء المتفق عليهما في المذهب والعطاس، أو الصراخ، أو التحرك على قول ابن وهب على ما نقله عنه أبو إسحاق بن شعبان، أو البول، والحدث على ما قاله بعض أصحابنا على ما نقله القاضي [أبو] (¬5) الوليد الباجي في "المنتقى"، فهذا الذي قضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغرة عبد أو وليدة قيمة كل واحد منهما خمسون دينارًا، أو ستمائة درهم. قال مالك -رحمه الله: القيمة في الغرة حسنة، وليست كالسنة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: من. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ، ب.

المجمع عليها. وقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما ذكرنا من غير اعتبار بأن يكون الجنين ذكرًا أو أنثى، تام الخلقة أو ناقص الخلقة؛ بل الغرة واجبة على الضارب في ماله، وإن لم يتبين من خلقة الجنين يد ولا رِجْل، ولا أصبع، ولا عين، وإن كان [علقة أو مضغة] (¬1) مما يستيقن أنه ولد مما تنقضي به العدة، وتكون به الأمة أم ولد، والخيار في ذلك الجاني؛ إن شاء أتى في الغرة بعبد أو وليدة، وإن شاء أتى بخمسين دينارًا إن كان من أهل الذهب أو ستمائة درهم إن كان من أهل الورق؛ فبأيهما أتى جبر أولياء الجنين على قبوله، فإذا دفع عبد أو وليدة، ولا تكون إلا من الحمران -يعني: البيضان- ولا يدفعها من السودان إلا أن [يغلو] (¬2) الحمران يدفع من أوسط السودان، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". ووجه ذلك أن الحمران أفضل نوع الرقيق، والدية واجبة في مال الجاني؛ فلم يكن له أن يأتي بالدون إلا أن يعدم، فيكون عليه أن يأتي بالوسط من السودان، وذلك ما لا تنقص قيمته عن المقدار الذي ذكرناه. واختلف في دية الجنين، هل هي موروثة على الفرائض أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها موروثة على الفرائض، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أنها بين الأبوين على الثلث والثلثين؛ فمن انفرد بذلك استبد به، وبه قال المغيرة وابن دينار؛ وهو قول مالك الأول. واختلف إذا كان الجاني من أهل الإبل، هل تقبل منه إذا أتى بها أم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: يغل.

لا؟ على قولين: أحدهما: أن الإبل تقبل منه إذا أتى بما وجب عليه منها، وهي خمس فرائض: بنت مخاض، وبنت لبون وابن لبون ذكر وحقة وجذعة، وهو قول أصبغ، وأشهب، وابن الموَّاز، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم على ما قاله أصبغ. والثاني: [أنها] (¬1) لا تقبل منه، وإن كان من أهل الإبل، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، و"الموازية". ووجه في قول أشهب وغيره: أن الإبل أصل في الدية، واعتبر به في دية الجنين كالورق والذهب. ووجه قول ابن القاسم: أن الدنانير والدراهم هي قيم المتلفات؛ فلذلك قومت بها الغرة، وكان أصل الدية الإبل لكنها ردت إلى العين، والإبل ليست مما تقوم به المتلفات؛ فلذلك لم تعتبر بها الغرة؛ فما كان أصله العين لا يرد إلى الإبل، فلما ورد الشرع في دية الجنين بالغرة، واحتيج إلى تقديرها قدرت بما يقع [التقويم] (¬2) به -وهو العين- دون ما لا يقع به التقويم. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا خرج الجنين منها بعد أن ماتت، فهل تجب فيه الغرة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا شيء فيه لا غرة، ولا غيرها، وهو قول مالك وجمهور أصحابه. ¬

_ (¬1) في أ: أنه. (¬2) في أ: التغريم.

والثاني: أنه تجب فيه الغرة، وهو قول أشهب في "الموّازية"، وهو مذهب الشافعي، وابن شهاب. ووجه قول الجمهور: إن تلفه قبل الانفصال بمنزلة [تلف] (¬1) عضو منها؛ ولو تلف عضو من أعضائها قبل موتها لكانت فيه دية، ولو تلف بعد موتها فلا دية فيه. ووجه قول أشهب: أن هذا جنين فارق أمه ميتًا، فلزمت فيه الغرة كما لو فارقتها قبل أن تموت، ولو ضربها فماتت وبقى الولد يضطرب في بطنها، فليس عليه إلا دية الأم. وحكم الأجنة إذا ضربت فماتوا في بطنها قبل الخروج أو بعد الخروج حكم الجنين الواحد؛ فالغرة في كل واحد منها على ما قدمناه من التفسير، وإن كانا اثنتين فغرتين، وإن كانوا ثلاثة فثلاث غرر. وأما الوجه الثالث: وهو أن يخرج أوله وأمه حية، ثم خرج آخره بعد أن ماتت، فهل تجب فيه الغرة أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا شيء فيه كما لو خرج جميعه بعد موتها. والثاني: أن فيه الغرة كما لو خرج، وهي حية. والقولان حكاهما القاضي أبو الوليد الباجي في "المنتقى"، وحكاهما أبو إسحاق بن شعبان أيضًا. ووجه القول الأول: أنه لم يفارقها إلا بعد موتها فلم يكن فيه شيء. ووجه القول الثاني: يحتمل أن يكون مبنيًا على قول أشهب، ويحتمل أن يكون مبنيًا على قول مالك، إلا أنه راعى أول خروجه دون تمامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وينبني على هذا القول فرع في المرأة إذا طلقت أو مات عنها زوجها بعد أن خرج بعض الجنين من أمه، ثم خرج الباقي بعد الموت أو بعد وقوع الطلاق هل تنقضي العدة بذلك الوضع أم لا؛ فعلى القول بأن فيه الغرة على قول مالك تنقضي العدة بذلك الوضع، وعلى القول بأنه لا شيء فيه، فلا تنقضي به العدة، واختلف في جنين الأمة على قولين: أحدهما: أن فيه عشرة قيمة أمه إن لم يستهل، فإن استهل ففيه قيمة ما بلغت. قال ابن نافع: [نافت] (¬1) على الغرة أو نقصت، وهو قول مالك في "الموازية". والثاني: أن فيه ما نقصها، وهو قول أصبغ عن ابن وهب في "الموازية". والقول الأول أظهر [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب.

المسألة الرابعة في دية عين الأعور

المسألة الرابعة في دية عين الأعور والكلام في هذه المسألة ينحصر في فصلين: أحدهما: في عين الأعور في القود، والدية. والثاني: في حكم من جنى على عضو أصيب بعضه قبل جناية الجاني. فأما الفصل الأول: في حكم عين الأعور، فلا يخلو الأعور من وجهين: أحدهما: أن يجني على عينه. والثاني: أن يجني [هو] (¬1) على عين غيره. فإن جنى على عين الأعور مثل أن يضربه رجل ففقأ عينه، فلا يخلو من أن يكون ذلك عمدًا أو خطأ. فإن كان الضرب عمدًا ففيه القصاص، ولا إشكال في ذلك. وإن كان خطأ، فقد اختلف فيها فقهاء الأمصار على قولين: أحدهما: أن فيها الدية كاملة ألف دينار، وإليه ذهب مالك -رحمه الله- وجماعة من أهل المدينة، وبه قال الليث وعبد العزيز بن أبي سلمة، وبذلك قضى عمر، وعثمان [رضي الله عنهما، وقضى به عمر بن عبد العزيز بعدهما وهو قول عمر] (¬2)، وابن عباس رضي الله عنهما. والثاني: أن فيها نصف الدية كما في عين الصحيح، وإليه ذهب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الشافعي، وأبو حنيفة، وهو مروي عن جماعة من التابعين. وسبب الخلاف: معارضة العموم للقياس، ومعارضة القياس للقياس. فأما معارضة العموم للقياس، فهو أن العين الواحدة للأعور بمنزلة العينين جميعًا لغير الأعور، لكونه يبصر بالعين الواحدة ما يبصر بالعينين جميعًا. ويعارضه عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن حزم في قوله: "وفي العين نصف الدية" (¬1) فعم، ولم يفصل بين عين الأعور وعين الصحيح، ويعارضه أيضًا قياس العين على ما عداها من الأعضاء [مما] (¬2) هو زوج في الإنسان كاليد مثلًا إذا قطع يد من له يد واحدة، وقد أجمعوا على أن فيه نصف الدية. ويقع الترجيح [لمذهب] (¬3) مالك -رحمه الله- بقضاء الخليفتين عمر، وعثمان رضي الله عنهما بالدية الكاملة في عين الأعور، وكان ذلك بين أظهر الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن منهم مخالف ولا منكر؛ فدل ذلك على صحة مذهب مالك، ومن وافقه على ذلك. وأما جناية الأعور على عين غيره، فلا يخلو ذلك من أن يكون عمدًا أو خطأ. فإن كان ذلك خطأ، فديتها خمسمائة دينار على عاقلة الأعور. فإن كان عمدًا فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن [يفقأ] (¬4) له مثل العين التي هي باقية له. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (3/ 209)، والبيهقي في الكبرى (15995). (¬2) في أ: على ما. (¬3) في أ: بمذهب. (¬4) في أ: يقف.

والثاني: أن [يفقأ] (¬1) له خلافها. فإن [فقأ] (¬2) له مثل العين التي هي باقية له، هل يجب الخيار للمفقوء عينه بين القصاص، والدية أم لا؟ على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه مخير بين [القصاص] (¬3) أو أخذ الدية، وهو قول مالك في "كتاب الديات" من "المدونة"، وبه قال ابن عبد الحكم. والثاني: أنه لا خيار له في أخذ الدية، وإنما له القود خاصة، وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة" في القتل، وهو المشهور عن مالك، والذي عليه أكثر [أصحابه] (¬4) في الجراح. إلا أن يصطلحا على أمر، فيجوز. وعلى القول بأن له الخيار [بين الدية] (¬5) والقصاص، فإن اختار أخذ الدية، هل يأخذ دية عينه، أو إنما له دية عين الأعور؟ فالمذهب على قولين منصوصين في "المدونة" عن مالك: أحدهما: أنه له دية عينه خمسمائة دينار، وبه قال المغيرة من أصحابه. ووجه القول بأن له دية عينه لا أكثر أن الجاني لا يلزمه إلا قيمة ما أتلف، والأعور إنما أتلف عليه عضوًا قيمته خمسمائة دينار لا يلزمه أكثر منها. أصل ذلك عين الصحيح. ¬

_ (¬1) في أ: يقف. (¬2) في أ: وقف. (¬3) في ب: أن يفقأ عينه. (¬4) في أ: الصحابة. (¬5) في أ: بالدية.

ووجه القول بأن له دية عين الأعور أن المجني عليه قد ملك أن يقلع عين الأعور، وملك ترك القصاص والعدول إلى الدية بدلًا عن القصاص فكان له دية ما ملك قلعة؛ لأن دية عين الأعور ألف دينار كما تقدم، فيجبر الأعور على دفعها؛ لأن العين الواحدة في معنى العينين، فإذا تركها له وجب عليه دفع ديتها. ويستقرأ من هذه المسألة لمالك وابن القاسم من المدونة أن القاتل على طريق العمد إذا عفى عنه أولياء المقتول على أخذ الدية أنه يجبر على دفعها كما قال أشهب في "كتاب [الديات] (¬1) " من "المدونة". والقولان عن مالك في المذهب منصوصان في القتل والجراح. وسبب الخلاف: ما قدمناه في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (¬2). فأما [إن فقأ له] (¬3) خلاف العين الباقية للأعور مثل أن يفقأ له العين اليسرى، والباقية للأعور العين اليمنى، فهذا لا قصاص فيه، وإنما له على الأعور دية عينه في العمد، والخطأ إن كان صحيح العينين فخمسمائة دينار، وإن كان أعور فألف دينار، ولا خلاف -أعلمه- في ذلك في المذهب. وأما الفصل الثاني: إذا جنى على عضو ناقص، هل يجب على الجاني جميع دية ذلك العضو، أو يقدر ما بقى [منه] (¬4). فلا يخلو نقصان ذلك العضو من أن يكون بسبب سماوي أو بسبب ¬

_ (¬1) في ب: الجنايات. (¬2) سورة البقرة الآية (178). (¬3) سقط من ب. (¬4) في أ: عنه.

آدمي. فإن كان بسبب سماوي، فإنه يتخرج على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أن عليه جميع دية ذلك العضو، وهو قول مالك في استرخاء البصر، وعين الرمدة يكون فيها الضعف في "كتاب الجراحات" من "المدونة". والثاني: أن عليه بحساب ما بقى من ذلك العضو، وهو قول مالك في الكتاب المذكور في اليد إذا ذهب بعض أصابعها بسبب سماوي حيث قال: لم يكن فيها إلا على حساب ما بقى. وربما يعترض على هذا الاستقراء معترض، ويقول: دية اليد موظفة على عدة الأصابع، فإذا ذهب منها أصبع، فقد سقط من دية اليد دية ذلك الأصبع بخلاف اليد الضعيفة، والعين المرخية، فإنما لم يذهب من أجزائهما شيء. فالجواب عن ذلك: أن الدية إنما وجبت على الجاني في الأعضاء السالمة لكونه أتلف منافعها المقصودة [منها، فإذا جنى على عضوٍ ناقص المنفعة، فإنما عليه من العقل بقدر ما أتلف؛ لأن المنافع هي المقصورة] (¬1) من الأعضاء؛ ولذلك لا عقل في اليد الشلاء، والعين القائمة الشكل لذهاب المنفعة المقصودة فيهما، والمعدوم معنى كالمعدوم حسًا, وليس الدية في الأصبع مثلًا لكونه أصبعًا، وإنما الدية فيه لأجل المنفعة. ولم يبق إلا أن نقول إن الجاني يغرم جميع دية ذلك العضو على ضعفه ونقصه كالقصاص؛ فإن مالكًا -رحمه الله- يقول: إن العضو الناقص يقتص منه، وله من العضو الملؤوم. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وهذا الجواب يدرؤ السؤال ويدحضه. ولا فرق في جميع ما ذكرنا من أن يكون ذلك في أصل الخلقة أو طرأ بعد الخلقة؛ لأن مالكًا ساوى بينهما في "الكتاب" حيث قال في موضع: وما كان من خلقة خلقها الله لم ينتقص منه شيء مثل استرخاء البصر، وضعف البصر مثل العين الرمداء، واليد التي يكون فيها الضعف. وقال بعد ذلك يصيبه أمر من السماء مثل العرق يضرب في [رجل] (¬1) الرجل فيصيبه منه عرج، أو يصيبه رمد فيضعف البصر: فهذا ظاهر أنه إنما أصابه بعد الخلقة بلا شك. وكذلك قوله في الأصابع أيضًا؛ لأنه قال: فإن كانت الأصابع إنما ذهبت بأمر من السماء، ولم يأخذ لها عقلًا. وأما الوجه الثاني: إذا انتقص ذلك العضو بسبب آدمي جنى عليه، فانتقص ثم جنى عليه آخر بعد ذلك، فاستهلك البقية بجنايته. أما الذي يجب على الجاني [فيه] (¬2) فالمذهب فيه على ثلاثة أقوال كلها قائمة من "المدونة": أحدها: أن عليه جميع دية ذلك العضو كاملًا -أخذ بنقصان الأول شيئًا أم لا- وهو ظاهر قول مالك في "المدونة" في دية عين الأعور أن فيها ألف دينار -أخذ من الأول أرشًا أم لا- وهو نص قول مالك في "المجموعة" في عين الأعور [لأن] (¬3) الدية إنما وجبت في النظر. فإذا ذهب [منها] (¬4) نظر عين الأولى، فأخذ له أرشًا ثم ذهب النظر ¬

_ (¬1) في أ: عين. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: بأن. (¬4) سقط من أ.

من العين الثانية بجناية خطأ، فكان يجب أن يكون عليه بحساب ما أتلف، إلا أنهم قالوا: لما كان يبصر بالعين الباقية ما كان يبصر بالعينين جميعًا كانت عليه الدية كاملة؛ فكأنه أتلف [عليه] (¬1) جميع نظره، ولم يعتبروا ما أخذ في العين الأولى، وهذا ظاهر. وقد نص مالك أيضًا في "الموازية" [في العين] (¬2) إذا أصيب نصف بصرها، فأخذ فيه نصف ديتها، ثم أصيب في النصفين الباقيين من كل عين في ضربة واحدة أن فيها ألف دينار، فانظر كيف جعل نصف [كل] (¬3) عين [كجميعها] (¬4) في وجوب جميع ديتها على الجاني، وهو أحد قولي ابن القاسم في "كتاب ابن سحنون"؛ لأنه قال في رواية أصبغ عنه فيمن أصيب نصف عينه ثم فقأ باقيها مع الصحيحة: أن ليس له إلا ثلاثة أرباع الدية -يعني: نصف الدية في الصحيحة وربع في التي أخذ دية نصفها؛ لأنه الربع بالإضافة إلى جميع الدية. قال أصبغ: [ثم رجع ابن القاسم في العد، فقال: فيهما ألف دينار. قلت: فقد أوجب فيهما ألف دينار، ولم يعتبر ما أخذ في نصف الأولى. وهذا كله ظاهر لا مراء فيه] (¬5). والقول الثاني: أن له ما بقى بحساب ذلك العضو -أخذ لنقصان الأول ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: بجميعها. (¬5) سقط من ب.

أرشًا أم لا- وهو أحد أقوال مالك في آخر "كتاب الجراح" حيث قال ابن القاسم، وقد قال قبل ذلك: ليس له إلا على حساب ما بقى. والقول الثالث: تفصيل بين أن يأخذ لنقصان الأول أرشًا، أو لم يأخذ؛ فإن أخذ لنقصان الأول أرشًا كان له على الجاني بحساب ما بقى من دية ذلك العضو، وإن لم يأخذ له أرشًا، فله جميع العقل كاملًا , وهو أحد قولي مالك في "كتاب الجراحات". والأظهر من الأقاويل القول بأنه لا يلزمه من الدية إلا بحساب ما بقى؛ لأن الجاني لا يلزمه أكثر مما أذهبت جنايته. وما عداه من الأقوال لا حظ له من النظر، ولاسيما القول الذي فيه [التفصيل] (¬1)، وما المناسبة في أن الثاني يعقل على [جناية] (¬2) الأول إذا لم يؤخذ منه الأرش، فإن أخذ منه فلا يؤدي الثاني إلا بحساب ما جنى [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: جنى. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الخامسة في القتل إذا اجتمع فيه العمد والخطأ

المسألة الخامسة في القتل إذا اجتمع فيه العمد والخطأ مثل أن يجتمع اثنان على قتل رجل واحد، ولا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون الضرب عمدًا منهما جميعًا. والثاني: أن يكون خطأ منهما جميعًا. والثالث: أن يكون خطأ من أحدهما وعمدًا من الآخر. فأما الوجه الأول: إذا كان الضرب عمدًا منهما جميعًا، فلا يخلو من أن يكونا مخاطبين، أو أحدهما مخاطب والآخر غير مخاطب. فإن كانا مخاطبين فلا يخلو من أن تتكافأ دماء القاتلين مع المقتول، أو لا تتكافأ. فإن تكافأت دماؤهم كالحُرَّيْن قتلا حُرًا فلا خلاف في المذهب أنهما يقتلان فيه. وإن كانت الدماء غير متكافئة مثل أن يكون أحد القاتلين عبدًا والآخر حُرًا، والمقتول عبد، فالمذهب على أن العبد يقتل، وعلى الحر منهما نصف قيمته؛ إذ لا يقتل الحُرّ بالعبد عندنا. فإن كان أحدهما غير مخاطب، والآخر مخاطب؛ كالكبير والصغير قتلا رجلًا حرًا عمدًا، فلا خلاف في أن الصغير لا يقتل، وعليه نصف الدية، واختلف هل ذلك في ماله أم على العاقلة؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك على عاقلته، وهو قول مالك في "الموازية"، و"المجموعة"، وبه قال ابن الماجشون؛ لأن عمد الصبي كالخطأ.

والثاني: أن ذلك في ماله، وهو قول مالك في "كتاب ابن المواز". واختلف في الكبير، على قولين: أحدهما: أنه يقتل، وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو قول مالك في "الموطأ". والثاني: أنه لا يقتل، وهو قول ابن القاسم في الخطأ؛ بناء على أن عمد الصغير كالخطأ. وأما الوجه الثاني: إن كان الضرب منهما جميعًا خطأ فلا خلاف أن الدية على [عواقل] (¬1) القاتلين -كانا بالغين أو أحدهما صغيرًا والآخر كبيرًا. وأما الوجه الثالث: إذا كان الضرب عمدًا من أحدهما وخطأ من الآخر فلا يخلو المتعمد من أن يكون صغيرًا أو كبيرًا. فإن كان صغيرًا فلا خلاف أنه لا يقتل، والدية عليهما؛ فما ناب الكبير منهما، فعلى عاقلته، وما ناب الصغير, فعلى قولين وقد قدمناهما. فإن كان العمد من الكبير، والخطأ من الصغير, فهل يقتل الكبير أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يقتل، وتكون الدية عليهما أنصافًا، وهو قول مالك في "المدونة". والثاني: أن الكبير يقتل، وعلى الصغير نصف الدية، وهو قول أشهب، وهو اختيار ابن الموَّاز. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

واختلف في الحُرّيْن البالغين إذا قتلا حُرًا أحدهما عمدًا، والآخر خطأ على قولين: أحدهما: أن العامد يقتل، وعلى المخطئ نصف الدية، وهو قول ابن الماجشون في "الواضحة". والثاني: أن الدية بينهما أنصافًا؛ نصفها في مال العامد، ونصفها على عاقلة المخطئ. والقولان لابن القاسم. والذي حكاه القاضي أبو محمد عبد الوهاب أنه متى اشترك في القتل من يجب عليه القود، ومن لا قود عليه كالمخطئ، والعامد، والبالغ، والصغير, والعاقل، والمجنون أن القود على من يلزمه القود، وكان على الآخر بقسطه من الدية، فساوى بين مشاركة المخطئ، ومشاركة الصغير في القصاص ممن شاركه. ومعنى تعليل ابن القاسم في "الكتاب"؛ لأنني لا أدري من أيهما مات إذا كان من الصبي خطأ، ومن الكبير عمدًا: أي: لا أدري هل مات من ضرب عمد أو ضرب خطأ؛ فهذا الذي يمنع القصاص من المتعمد كما لو كانا كبيرين، وأما لو كان الكبير والصغير عامدين فقد علم أنه مات من ضرب عمد، وإنما سقط القصاص عن الصغير لمعنى فيه لا لمعنى في الضرب؛ كما لو كانا كبيرين قتلاه عمدًا، فعفى عن أحدهما لم يسقط بذلك القصاص عن الآخر، أو قتل حر وعبد [عمدًا] (¬1)، فإن سقوط القصاص عن الحر لا يسقط عن العبد؛ لأن ما أسقطه عن صاحبه لم يكن لمعنى في الفعل، وإنما كان لمعنى في الفاعل. ¬

_ (¬1) في أ: عبدًا.

ولو قتله أحدهما عمدًا، والآخر خطأ، فسقط القصاص عنهما؛ لأنه إنما سقط القصاص عن أحدهما لمعنى في الفعل، ولا يدري هل مات من ذلك الفعل الذي يمنع القصاص، أو من فعل الآخر الذي لا يمنع القصاص. فهذا تأويل ابن القاسم، وربك أعلم [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة السادسة إذا برئ أحد الجرحين في القصاص على شين، وبرئ الآخر على غير شين

المسألة السادسة إذا برئ أحد الجُرْحَيْن في القصاص على شَيْن، وبرئ الآخر على غير شَيْن ولا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: إما أن يبرآ على شَيْن، وإما أن يبرأ على غير شَيْن، وإما أن يبرأ أحدهما على شين، والآخر على غير شَين. فإن برئا جميعًا على شين؛ الأول والمقتص منه، وشينهما متساويًا أو كان شَيْن الأول دون الثاني: فلا شيء لواحد منهما لصاحبه. وكذلك الحكم في الوجه الثاني إذا برئا جميعًا على غير شَيْن. وأما الوجه الثالث: إذا برئ أحدهما على شَيْن، والآخر على غير شَيْن، فلا يخلو من أن يكون على الأول أو الثاني. فإن كان المجروح الأول برئ على شين، والمقتص منه برئ على غير شَيْن، فإن المقتص منه يعقل القدر الذي نقصه الشَّيْن من المجروح الأول. وكذلك لو ترامى جرحه إلى ذهاب عضو من أعضائه مما له دية مسمى، فإن المقتص منه يغرم دية لذلك العضو أيضًا؛ لأن القصاص وضع للمماثلة. فإن برئ الثاني على شَيْن أو ترامى ذلك إلى ذهاب نفسه، فذلك هدر، ولا دية فيه، ولا قصاص، والظالم أحق أن يحمل عليه، وهذا [هو] (¬1) المذهب، [والحمد لله وحده] (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: جمهور. (¬2) زيادة من ب.

المسألة السابعة في القسامة

المسألة السابعة في القسامة والقسامة لا تجب إلا بأحد أمرين: أحدهما: أن يقول الميت: دَمِّي عند فلان. والثاني: أن يأتي ولاة اليوم بلوث من بينة. فأما الوجه الأول: إذا قال الميت: دَمِّي عند فلان، فلا يخلو من أن يكون حُرًا بالغًا أو وصيًا، أو عبدًا، أو نصرانيًا. فإن كان حرًا بالغًا، فلا يخلو من أن يشهد بذلك شاهدان، أو شهد به شاهد واحد. فإن شهد على قوله شاهدان عدلان، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقول: قتلني فلان عمدًا. والثاني: أن [يكون] (¬1) قتله خطأ. والثالث: أن يبهم الأمر. فإن قال: قتلني عمدًا، فإن الأولياء يقسمون على قوله , ويستحقون القود. فإن [قال: قتلني] (¬2) خطأ، هل يقسم مع قوله [أولياؤه] (¬3) أو لا يقسم؟ على قولين: ¬

_ (¬1) في أ: يقول. (¬2) في أ: قتله. (¬3) سقط من أ.

أحدهما: أنه يقسم مع قوله، وهو مذهب "المدونة" [وهو مشهور المذهب] (¬1). والثاني: أنه لا يقسم مع قوله في الخطأ إلا بلوث [من] (¬2) شهادة، وهي رواية ابن وهب عن عبد الملك في "الموازية"، ورواية عيسى عن ابن القاسم في "العتبية". فإن ادعى ورثته خلافه؛ مثل أن يقول الميت: قتلني عمدًا، وقال الورثة: [بل] (¬3) خطأ، أو بالعكس: فلا خلاف أنهم لا يقسمون على ما ادعوا. وهل لهم أن يرجعوا إلى قول الميت أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن لهم الرجوع إلى قوله ويقسمون. وهو قول ابن القاسم في "المجموعة". والثاني: أنه ليس لهم الرجوع إلى قول الميت ولا قسامة لهم بعد ذلك، ولا دم، ولا دية، وهو قول أشهب في "المجموعة". فإن أبهم الأمر، ولم يفسر لا عمدًا , ولا خطأ، فلا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يجتمع الورثة على أنه قتله عمدًا. وإما أن يجتمعوا على أنه قتله خطأ. وإما أن يدعي بعضهم العمد، وبعضهم ادعى الخطأ. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: عن. (¬3) سقط من أ.

وإما أن يدعي بعضهم [العمد] (¬1) أو الخطأ، وقال الآخرون: لا علم لنا. فأما الوجه الأول: إذا اجتمع الورثة علي أنه قتله عمدًا هل [يقسمون] (¬2) ويستحقون القود أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهم يقسمون ويستحقون القود، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". والثاني: أنهم لا يقسمون إلا على الخطأ، وأما العمد فلا، وهو قول ابن القاسم في "الموازية". فإن اجتمعوا على الخطأ، فإنهم يقسمون، ليستحقون الدية على العاقلة، وهو قوله في "المدونة" و"المجموعة" و"الموازية". وأما الوجه الثالث: إذا افترقوا، فقال بعضهم: عمدًا، وقال بعضهم خطأ هل يقسمون جميعًا، ويستحقون الدية أو لا يحلف إلا مدعوا الخطأ خاصة؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أنهم يقسمون جميعًا، ويستحقون الدية على العاقلة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، و"الموازية"، و"المجموعة"، والثاني: أن [مدعوا] (¬3) الخطأ يحلفون خمسين يمينًا, ولهم من الدية قدر حظهم، ولا شيء لمدعي العمد، ولا يحلفوا [لأنهم] (¬4) قد بروا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ: مدعي. (¬4) في أ: أنهم.

العاقلة بادعائهم العمد، ولا يستحقون [العمد] (¬1) إلا باجتماع القائمين بالدم مع القسامة، وهو قول أشهب في "كتاب ابن المواز". وأما الوجه الرابع: إذا ادعى بعضهم العمد أو الخطأ، وقال الباقون: لا علم لنا. فإن ادعى بعضهم العمد، وقال الباقون: لا علم لنا بغلاء الدم، وليس لهم أن يقسموا [بطلان] (¬2) الدم. فإن ادعى بعضهم الخطأ، وقال الباقون: لا علم لنا، فإن حلفوا جميعًا على أنه قتله، فالدية بينهم، فإن حلف مدعو الخطأ، وأخذوا نصيبهم من الدية، فإن طلب الآخرون أن يحلفوا بعد نكولهم، ويأخذوا من الدية حقوقهم، فليس لهم ذلك؛ لأن من نكل عن اليمين فلا يمكن منها أبدًا بعد ذلك. وهذا كله قول ابن القاسم في "المدونة"، وأشهب في "الموازية"، و"المجموعة". وقال أشهب في الكتابية: إذا لم يفسر [العمد من الخطأ] (¬3)، فإن ظهر من حال القتيل ما يدل على عمد أو خطأ أقسموا على ذلك إلا أن يوجد قد قطع بالجراحات في رأسه وجسده، فتكون القسامة فيه على العمد -يريد أن ذلك لا يدل على الخطأ، وإنما يدل على العمد. وما قال أشهب خلاف لقول ابن المواز ذكر في كتابه فيمن قتل رجلًا يظنه غيره ممن لم يكن فيه أنه لا قصاص عليه فيه؛ لأنه من الخطأ وليس من العمد، وإذا تصور أن يكون فيه شجاج وجراحات مع ذلك يكون ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ: عمدًا من خطأ.

خطأ، فكيف ما يكون فيه من الجراح دلالة على العمد أو الخطأ. وأما الوجه الثاني من أصل التقسيم: إذا شهد على قول الميت شاهد واحد، فهل يقسم مع قوله أم لا؟ فعن مالك في ذلك قولان: أحدهما: أنه لا يقسم مع قوله إلا بشهادة شاهدين، وهو قوله في "المدونة"، وبه قال ابن عبد الحكم، وابن المواز. والثاني: أنه يقسم مع قوله بشهادة الشاهد الواحد، وهو قول عبد الملك. ووجه القول الأول: أن الميت كشاهد فلا يثبت قوله إلا بشاهدين؛ كنقل الشهادة. ووجه القول الثاني: أن قول المقتول: دمي عند فلان يؤثر في القسامة؛ فيجب أن يثبت حكمها بالشاهد الواحد كالقتل، فإذا ثبت ذلك فإنه يكتفي في ذلك بقوله: فلان قتلني، وإن لم يكن به أثر جرح و [لا] (¬1) ضرب ولا وصف ضرب، ولا غيره، وتجب القسامة بذلك، ورواه ابن حبيب عن مالك، وجميع أصحابه في العمد والخطأ. وكذلك لو قال: سقاني سمًا أشد وأوجع قتلًا، قاله مالك في "الواضحة". والمرأة كالرجل في جميع ما ذكرناه. وأمَّا الصبي الصغير, فلا يخلو من أن يكون مراهقًا أو غير مراهق. فإن كان غير مراهق، وقال: دمي عند فلان: فلا خلاف في المذهب أنه لا يقسم مع قوله. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وإن كان مراهقًا، فالمذهب فيه على قولين قائمين من "المدونة": أحدهما: أنه لا يقسم مع قوله، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه يقسم مع قوله، وهي رواية مطرف عن مالك في "المجموعة" ,و"الموازية"، وبه قال أصبغ، وابن الماجشون، وهو ظاهر قول مالك في "كتاب النكاح الثالث" من "المدونة". وأمَّا العبد إذا قال: دَمِّي عند فلان الحُرّ، أو شهد شاهد واحد على أن فلانًا الحُرّ قتله، وأما قوله: دمي عند فلان، فالمذهب فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المدعي عليه يحلف يمينًا واحدة، ويبرأ من القيمة، ولا يضرب ولا يسجن، وهو قول ابن القاسم في "المجموعة". والثاني: أن المدعى عليه يحلف خمسين يمينًا، ويضرب مائة ويسجن عامًا، فإن نكل حلف السيد يمينًا واحدة، واستحق قيمة عبده مع ضرب مائة ويسجن عامًا، وهو قول أشهب في "الموازية". والثالث: التفصيل بين أن يكون بينه وبين العبد عداوة أو لا؛ فإن كانت بين المدعى عليه وبين العبد فما يحلف يمينًا واحدة بعد أن يسجن، ويكشف عن أمره، فإن أبى أن يحلف ضرب أدبًا وليس بضرب مائة، ويسجن سنة. فإن لم يكن بينه وبينه عداوة فلا شيء عليه، وهو قول عبد الملك في "الموازية". فإن شهد شاهد واحد على أن فلانًا الحر قتله، فإن مات من ساعته، فإن سيده يحلف يمينًا واحدة، وأخذ قيمته من المدعى عليه، وإن ترى في جرحه ثم مات فإنه يحلف يمينين: يمينًا مع الشاهد على الجرح، ويمينًا لما

مات من ضربه منه. وأمَّا النصراني إذا قال: دمي عند فلان، أو أقام شاهدًا واحدًا على القتل. فإن قال: دمي عند فلان، هل يقسم مع قوله أو لا يقسم؟ فعلى قولين: أحدهما: أنه يقسم أولياؤه خمسين يمينًا، ويستحقون الدية. وهذا القول حكاه ابن حبيب عن ابن القاسم في "النوادر"، وذكره عن مالك، وأنكره مطرف، وابن الماجشون، ولم يعرفاه لمالك، ولا لأحد من علمائهم. والثاني: أن المدعى عليه يحلف خمسين يمينًا، ويبرأ ولا يحبس، ولا يضرب بقول النصراني، وهو قول ابن المواز. فإن قام شاهد واحد بأن المسلم قتل نصرانيًا، فقد اختلف فيه قول مالك على قولين: فروى عنه أشهب، وابن عبد الحكم أن المدعى عليه يحلف خمسين يمينًا. قال أشهب: ويضرب مائة سوط، ويحبس سنة -حلف أو نكل- وروى عنه ابن القاسم، وعبد الملك أن ورثة الذمي يحلفون يمينًا واحدة، ويأخذون ديته، ويضرب مائة ويحبس عامًا. فأما الوجه الثاني من أول التقسيم: إذا أتي ولاة الدم بلوث من بينة. ومعنى اللوث عند مالك الشهادة غير التامة، ولا خلاف في المذهب أن شهادة الشاهد الواحد لوث يوجب القسامة. واختلف فيما عداه من شهادة الشاهد الرجل غير العدل، وشهادة

النساء والصبيان على أربعة أقوال: أحدها: أن شهادة جميع من ذكر ليس بلوث، ولا يقسم معها، وهو قوله في "المدونة" وهو مشهور المذهب. والثاني: أن شهادة امرأتين العادلتين لوث يقسم معها دون ما عداها، وهو قول ابن القاسم على ما حكاه ابن المواز عنه في "النوادر". والثالث: أن شهادة غير العدل من الرجال وشهادة امرأة واحدة لوث يقسم معها، وهو قول أشهب في "الموازية", و"المجموعة". وأما شهادة العبد والصبي والذمي فلم يختلف فيه قول مالك وأصحابه أنه ليس بلوث. والرابع: أن اللوث الذي تكون به القسامة اللفيف من السواد، والنساء، والصبيان يحضرون ذلك، ومثل الرجلين أو النفر غير العدول، وهو قول مطرف عن مالك في "كتاب ابن حبيب". وقال ابن وهب عن مالك في "النوادر": ومن اللوث أن يرى المتهم بحذاء المقتول وقربه ولم يروه حين أصابه، وقال ابن عبد الحكم: أو يرى خارجًا ملطخًا بالدم من منزل يوجد فيه القتيل، وليس معه غيره؛ فمثل هذا يوجب القسامة. واختلف إذا قال الميت: دمِّي عند فلان، ثم انتقل إلى غيره، وقد برّأ الأول، أو لم يُبَرِّئه على قولين: أحدهما: أنه لا سبيل لولاة الدم على الأول، ولا على الثاني؛ لأنه كذَّب بقوله الآخر قوله الأول، وكأنه برأ الأول، فتسقط القسامة عن الأول والآخر، وهو قول ابن القاسم، وأشهب في "المجموعة" و"الموازية".

والثاني: أنه يؤخذ بقول الآخر فيما إذا انتقل من عمرو إلى زيد، أو رمى نفرًا ثم برأ بعضهم، وأقام على لطخ الباقين , وهو قول ابن الماجشون في "العتبية". وكذلك من شك فقال: كنت سكرانًا أو في ظلمة الليل ثم [قمأ] (¬1) بعد ذلك بيوم أو يومين على قولين: أحدهما: إنه لا يقبل قوله، ولا يقسم علي قوله، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". والثاني: أنه يقبل منه، وهو قول عبد الملك في الكتاب المذكور. فإذا ثبت أن القسامة تجب بقول الميت: دمي عند فلان أو بلوث من بينة، فلا يخلو من أن يكون المدعى عليه رجل واحد أو جماعة. فإن ادعى به على رجل واحد، فإنهم يقسمون عليه، ويقتلونه في العمد قولًا واحدًا. فإن ادعوا به على جماعة، فلا يخلو من أن يكون القتل عمدًا أو خطأ. فإن كان خطأ، فإنهم يحلفون على جميعهم قولًا واحدًا، وتكون الدية على عواقلهم. فإن كان القتل عمدًا، فالمذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يختارون واحدًا، فيقسمون عليه ويقتلونه، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" وغيرها، وهو المشهور من المذهب. والثاني: أنهم يقسمون على جماعة، ويقتلون واحدًا بعينه، وهو قول أشهب، وهو أضعف الأقوال. ¬

_ (¬1) في أ: سما.

والثالث: أنهم يقسمون على جماعة ويقتلونها بأجمعها، وهو قول المغيرة المخزومي. وحكى القولين الحفيد في "كتاب النهاية"، وقول المغيرة أظهر في النظر [والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

المسألة الثامنة في ترتيب الأولياء، وبيان منازلهم في القسامة

المسألة الثامنة في ترتيب الأولياء، وبيان منازلهم في القسامة فالأولياء: هم الآباء وبنوهم [والإخوة وبنوهم] (¬1) والعمومة وبنوهم والعصبة. فأمَّا الآباء إذا انفردوا فلا خلاف أن حكم الدم بأيديهم إن شاؤوا عفوا عن القصاص، وعن الدية في الخطأ بعد القسامة، وإن شاؤوا قتلوا في العمد، ويأخذوا الدية في الخطأ، وإن شاؤوا نكلوا عن الأيمان ابتداء ولا يحلفوا. فإن كان معهم البنون، ففي "الموازية": أجمع مالك وأصحابه على أنه لا قول للأب [معهم] (¬2) في عفو ولا قود. وأما البنون فهم أولى بدم والدهم أيضًا إن شاؤوا أقسموا، وإن شاؤوا تركوا، وإن شاؤوا عفوا بعد القسامة، ولا شيء معهم لآبائهم؛ إذ لا حظ في الميراث مع آبائهم. وكذلك الإخوة إذا انفردوا فهم أولى بالدم من أولادهم إن شاؤوا أقسموا، وإن شاؤوا عفوا. وكذلك العمومة وبنوهم. فإن كان في كل نوع ممن ذكرنا [إناثًا] (¬3) تشاركهم في الميراث مثل أن يكون مع البنين بنات، ومع الإخوة أخوات، أو بنات، وإخوة أو بنات، وعصبة أو أخوات وعصبة، أو بنت وأخت وعصبة، فلا يخلو القتل من وجهين: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: معه. (¬3) سقط من أ.

أحدهما: أن يكون خطأ. والثاني: أن يكون عمدًا. فأما إن كان القتل خطأ، فلا خلاف أن أيمان القسامة موزعة على قدر فريضتهم حتى يحصلوا على خمسين [يمين، فإن كان ولاة الدم أكثر من خمسين، فلا يقتصر على خمسين] (¬1) منهم، ولابد من يمين على كل واحد منهم؛ مثل أن يكون للإخوة مائة، ومن نكل منهم فلا شيء له، ويأخذ من حلف منهم حصته من الدية إذا حلف منهم خمسين رجلًا خمسين يمينًا أو حلفها واحد منهم كما قال في البنت إذا كان لها أخ غائب، فإنها لا تأخذ تلك الدية حتى تحلف خمسين يمينًا، ثم إن قدم الأخ بعد ذلك فلا يأخذ ثلثي الدية حتى يحلف ثلثي الأيمان. فإن وقع في بعض الأيمان كسر فلا يخلو من أن يكون الكسر مختلفًا أو متساويًا. فإن كان مختلفًا مثل أن يكون على أحدهم نصفها، وعلى الآخر ثلثها، وعلى الآخر سدسها أجبرت على أكثرهم حظًا منها، وهو صاحب النصف، وهو قول مالك في "المجموعة". قال عبد الملك: لا ينظر إلى كثرة ما عليه من الأيمان. ومعلوم أن الذي يقع عليه أكثر اليمين المكسورة هو الذي يقع عليه أكثر الأيمان. فإن كان الكسر متساويًا؛ مثل أن يكون عددهم عشرين، فحلف كل واحد منهم يمينين، ويبقى من الأيمان عشرة أيمان، فيقال لهم: لا سبيل لكم إلى الدم حتى تحلفوا ما بقى من الأيمان. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أما الخطأ فلابد فيه من أن يجبر على جميعهم كما قدمنا. [وأما العمد، فإنه يتخرج على قولين: أحدهما: أنها لا تجبر على جميعهم، وهو] (¬1) قول أبي القاسم بن الجلاب. والثاني: أنها تجبر على عشرة منهم ويحلفونها [فإن نكلوا جميعهم عنها بطل كنكولهم عن جميع الأيمان، وهذا] (¬2) نقله القاضى أبو الوليد ابن رشد. فأمَّا إن كان القتل عمدًا، فقد قدمنا [أنَّ الابن أولى من الأب في العفو والقود، والأخ الشقيق أولى من الأخ للأب] (¬3). [وأما الأخ للأم] (¬4) فلا حق له في الدم إلا أن يكون من العصبة فيعد في مرتبة العصبة. وأما الأب مع البنات، فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأب لا عفو له مع البنات، وهو قول في "كتاب ابن سحنون". والثاني: بعكسه أن الأب أولى من البنات في العفو والقتل، وهو قول أشهب على ما نقله الباجي. والثالث: أنهما مشتركان في الدم؛ فلا يجوز عفو الأب دونهن ولا عفوهن دونه، وهو قول ابن القاسم. ¬

_ (¬1) بياض في ب. (¬2) بياض في ب. (¬3) بياض في ب. (¬4) طمس في أ، والمثبت من ب.

وسبب الخلاف: اختلافهم في النساء، هل لهن مدخل في الدم أو لا مدخل لهن فيه. وقول أشهب في هذه المسألة مبني على أنهن لا مدخل لهن في الدم أصلًا، وهذا القول حكاه القاضي أبو الحسن بن القصار عن مالك في كتاب عيون الأدلة. وأما الأم مع الأب، ففي الموازية أن الأم لا حق لها مع الأب في عفو ولا قود، وكذلك الإخوة. قال ابن المواز: الأب بعد الولد الذَّكر أولى من جميع من ترك الميت من إخوة وغيرهم لا اختلاف فيه، وما قاله صحيح فيما عدا البنات مع الأب كما قدمنا الخلاف فيه. واختلف في الأم [مع] (¬1) الجملة، هل لها مدخل في الدم أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن لها ولاية في الدم، وهو قول مالك [في] (¬2) رواية مطرف وغيره. والثاني: أنها لا ولاية لها في دم العمد أصلًا إلا أن يصير مالًا، فترث فيه [لأنها] (¬3) ليست من ولاته، ولا من عصبته، وهي رواية ابن حبيب عن ابن الماجشون. ووجه القول الأول: أنها أحد الأبوين كالأب؛ ولأنه لما كان للشقيق بها تقديم على الأخ للأب صح أن لها مدخلًا فيه. ¬

_ (¬1) في أ: على. (¬2) في أ: و. (¬3) في أ: فإنها.

ووجه قول عبد الملك: أنها ليست من العصبة، ولا حق لها في الولاية كالزوجة. فعلى القول بأن لها مدخلًا في الدم، فما حكمها مع العصبة؟ فقد اختلف فيها المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أولى من العصبة، وهي رواية مطرف عن مالك، وهذا القول حكاه الباجي في "المنتقى". والثانى: أن العصبة أولى من الأم، ولا حق لها معهم في العفو، ولا في القود، وهو قول أشهب في "الموازية". والثالث: أنها كواحد من العصبة، ولا عفو للعصبة دونها، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، ورواه ابن وهب عن مالك في "المجموعة". وقال في المدونة: ورثتها يَقُومُون مقامها. فوجه القول الأول: أنها أحد الأبوين؛ فكانت أولى من العصبة كالأب. ووجه قول أشهب: أنهم أقوى نسبًا منها؛ لأنه معنى يستحق بالتعصيب، وهي لا ترث بالتعصيب، ولا مدخل لها فيه. ووجه القول الثالث: اعتبار الحالتين والتوسط بين القولين، والتوسط سوق الاعتدال. وأما الأم مع الإخوة فهم أولى منها. وأما حكمها مع البنات، ففيه قولان: أحدهما: أن البنات أحق منها بالدم مع الإخوة، وهو قوله في "الموازية". والثاني: أن الأم مع البنات في مرتبة واحدة، ولا عفو للبنات دون

الأم، ولا للأم دونهن، وهو قول أشهب؛ لأنه قال في ولد الملاعنة: لا عفو فيه للبنات [ولا للبنات] (¬1) ولا للموالي دون الأم، ولا عفو للأم إلا باجتماعهم. وأما البنات والأخوات فقد قال في "الموازية": البنات أقرب من الأم، والأم أقرب من الأخوات. ولا يجري في الجدة للأب، ولا للأم مجرى الأم في عفو، ولا قود. وأما البنون، والبنات، والإخوة، والأخوات فإن القيام بالدم للذكران دون الإناث، وأيمان القسامة عليهم، ولا يقسم النساء في العمد؛ لأن الأيمان فيه من قبيل الشهادة؛ ولذلك لا يحلف في العمد أقل من رجلين، وقتل العمد من الحدود وشهادة النساء في الحدود لا تجوز. فإن عفى بعض الذكور [كان] (¬2) لمن بقى من الورثة حصته من الدية، وإن عفى الذكور كلهم بعد القسامة، ففيه قولان: أحدهما: أنه يسقط حق البنات إذا عفى البنون، ويسقط حق الأخوات إذا عفى جميع الأخوة، وهو قول ابن القاسم، وأشهب في "الموازية". والثاني: أن الذكور إذا عفوا، فحق أخواتهم من الدية باق، وهذا القول حكاه أشهب عن مالك أيضًا. والقول الأول أصح، وهو قوله في "المدونة"، وهو أصله في [الموطأ] (¬3). وسبب الخلاف: اختلافهم في النساء، هل لهن مدخل في الدم في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: المدونة.

العفو والمطالبة أم لا؟ فمن قال: لا حق لهن في الدم، يقول: هن تبع للرجال في دم العمد مهما صار مالًا دخلن معهم فيه، ومن رأى أن لهم حقًا في الدم، قال: الرجال يقدمون عليهن في الطلب؛ لكونهم من أهل النصرة، والنساء لا مدخل لهن في النصرة، فإذا انتقل إلى الدية، واستحال مالًا ثبت حقهن، ولا يملك إخوتهن إسقاط حقهن من ذلك كما لا يملكون إسقاط حقهن من دية الخطأ. وهذا كله إذا عفى الذكران في قول واحد. وأما إذا عفى أحدهم ثم سمع به الآخر، فعفى فلا يسقط ذلك حق من معهم من أخت، أو زوج، أو زوجة من الدية؛ لأنه مال ثبت بعفو الأول، وهو قول [ابن المواز] (¬1). [ووجهه] (¬2) أنه إذا عفى أحدهما [فقد ثبت لسائر الورثة حقهم من الدية، فإذا عفى بعض من بقى فإنه] (¬3) قد أسقط حقه من الدية، ولا يتعدى ذلك إلى حق غيره. وأما البنات [مع الإخوة وعلى باقي الإخوة، وهو قول أشهب في الموازية] (¬4). والثاني: أنه لا يجوز عفو الإخوة إلا مع البنات أو من بعض البنات، ولا عفو للبنات إلا مع عفو الإخوة وبعض البنات، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" في "كتاب الديات" [وأما البنات والعصبة، أو الأخوات مع العصبة، فقد اختلف المتأخرون في تأويل ما وقع في المدونة اختلافًا ¬

_ (¬1) في ب: ابن القاسم. (¬2) في أ: ووجهها. (¬3) بياض في ب. (¬4) سقط من أ.

يوجب القسمة في المسألة وتحصيلها أن نقول، وبالله التوفيق لا يخلو الميراث من وجهين: أحدهما: أن يحيط به البنات والأخوات. والثاني: أن يبقى فيه مدخل للعصبة. فإن أحاط به البنات والأخوات كالبنت، والأخت، وكالبنتين، والأخت، أو الأخوات فلا يخلو الدم من أن يكون قد ثبت ببينة أو بقسامة، فإن ثبت ببينة فلا حق للعصبة معهن في عفو ولا قود، فإن ثبت الدم بقسامة العصبة، ففي ذلك قولان قائمان من "المدونة": أحدهما: أن من قام بالدم، فهو أولى به كان البنات والأخوات أو العصبة وهو قول ابن القاسم في "كتاب الديات" من "المدونة". والثاني: أن العصبة أحق بالقيام بالدم، والعفو؛ لأن الدية إنهما ثبتت بأيمانهم، وهو قوله في أول الكتاب، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في "العتبية"] (¬1). وأما الوجه الثاني: إذا بقى للعصبة مدخل في الميراث؛ مثل أن تكون بنتًا، أو عصبة فلا يخلو من أن يثبت الدم ببينة أو بقسامة. فإن ثبت الدم ببينة، ففي ذلك قولان: أحدهما: أن من قام بالدم [فهو] (¬2) أحق به، ولا عفو إلا باجتماعهم عليه، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو أصله. والثاني: أن النساء أحق بالقيام والعفو؛ لأنهن أقرب درجة من الرجال، وهي رواية مطرف عن مالك. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وهذا القول قائم من "المدونة" من قوله في أول الكتاب [في] (¬1) البنت: ليس لها ذلك؛ لأن الدم إنما استحقه العصبة بقسامة، فمفهومه أنه لو كان ببينة كان لها ذلك، ويكون له العفو دون العصبة، وإن شاركوها في الميراث، وإلى هذا التخريج ذهب بعض حذاق المتأخرين كأبي محمَّد عبد الحق وغيره. فإن ثبت الدم بقسامة، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن من قام بالدم، فهو أحق , ولا عفو إلا باجتماع منهم، وهو قوله في "المدونة". والثاني: أن العصبة أولى بالدم، ولا حق للنساء معهم فيه؛ لأن الدم إنما ثبت بقسامتهم، وهو قوله في الكتاب وإذا قالت البنت: أنا أعفو، فقال ذلك لها؛ لأن الدم إنما استحقه العصبة، وهو قول ابن القاسم في "العتبية". واختلف في حكم الجد مع الإخوة في الدماء على قولين: أحدهما: أنه كأخ معهم، وهو قوله في "المدونة". والثاني: أن الجد لا حق له مع الإخوة في القيام بالدم، وهو كالأجنبي، وهو قول أشهب. وعلى القول بأن الجد كالأخ في الدم، فمن عفى منهم جاز عفوه. فإن كان الدم لا يثبت إلا بقسامة، فإن كان القتل خطأ، فإن الجد يحلف ثلث الأيمان إذا كان الإخوة ثلاثة فصاعدًا. فإن كان القتل عمدًا، فهل تقسم الأيمان علي عددهم أم لا؟ فالمذهب على قولين قائمين من "المدونة": ¬

_ (¬1) في أ: من.

أحدهما: أن الجد يحلف ثلث الأيمان، وهو نص قوله في "الكتاب". والثاني: أن الأيمان تقسم على عددهم؛ لأن الجد كواحد منهم. ولا فائدة للتفاوت بينهم في الأيمان؛ لأنهم لو استعانوا بقسامة الجد على مذهب من جعله منهم كالأجنبي لقسمة الأيمان بينهم على عددهم. فإن كان ولي الدم واحدًا، فإنه يطلب من قومه من يقسم معه ممن تنتهي إليه ولاية الدم يومًا ما، وإن بعد في الحال؛ إذ لا يقسم بحلف في العمد أقل من رجلين. فإن لم يجد من يقسم جملة، فإن الدم يبطل. فإن كان ولاة الدم خمسين رجلًا، وهم في التعدد سواء، فتطوع الاثنان منهم بحمل الخمسين يمينًا، هل يجزئهم ذلك أو لابد من أن يحلفوا كلهم؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم، وهو ظاهر "المدونة". ولم يعد من لم يحلف من بقية الأولياء ناكلًا؛ لأن الدم قد قيم به. والثاني: أنهم لابد لهم أن يحلفوا كلهم، ولا يجوز أن يحلف بعضهم، وهو كالنكول ممن لم يحلف منهم، وهو قول أشهب والمغيرة وابن الماجشون. فإن كان عددهم أكثر من خمسين وهم في التعدد سواء، فهل يجزئهم إن حلف منهم خمسون أم لا؟ فالمذهب على قولين: أحدهما: أن ذلك يجزئهم إن حلف منهم خمسون خمسين يمينًا , ولا

يعد من بقى ناكلًا لتمام القسامة بخمسين يمينًا، وهو قول ابن القاسم وأشهب، والمغيرة، وغيرهم من أصحاب مالك، وهو ظاهر "المدونة". والثاني: أنه لابد أن يحلف كل [واحد منهم يمينًا، وإن كانوا مائة وإلا لم يستحقوا الدم، وهو قول] (¬1) ابن الماجشون على ما نقله [القاضي] (¬2) أبو الوليد بن رشد. فإن كان وليّ الدم [صبيًا صغيرًا، وكان معه من الإخوة الكبار اثنان فصاعدًا فإنهم] (¬3) يقسمون، ويستحقون الدم , ولا ينتظرون كبر الصبي؛ لئلا تبطل الدماء، فإن قسموا [فلهم أن يقتلوا, وإن عفوا فعفوهم جائز، وإن كان على الدية فأكثر. وإن كان عفوهم] (¬4) على أقل من الدية أو على غير الدية، فللصغير نصيبه من الدية كاملًا. فإن كان مع الصغير من أولياء الدم رجل واحد ممن يجوز عفوه، فلا يستحق الدم بقسامة إلا أن يجد من العصبة، أو من العشيرة من يقسم معه ممن يلتقي معه على أب معروف. فإن وجد رجلًا واحدًا حلف كل واحد منهما خمسًا وعشرين يمينًا، فإن وجد أكثر من ذلك قسمت الأيمان على عددهم. فإن لم يجد أحدًا فإنه يحلف وحده خمسًا وعشرين يمينًا , ثم يحبس ¬

_ (¬1) بياض في ب. (¬2) زيادة من ب. (¬3) بياض في ب. (¬4) بياض في ب.

القاتل حتى يبلغ الصبى [فيحلف ما بقى من الأيمان، وهذا نص قول ابن القاسم في "المدونة"، والحمد لله وحده] (¬1). ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المسألة التاسعة في نكول الأولياء أو بعضهم عن أيمان القسامة

المسألة التاسعة في نكول الأولياء أو بعضهم عن أيمان القسامة والكلام في هذه المسألة في فصلين: أحدهما: النكول. والثاني: العفو. فأما الفصل الأول: وهو النكول عن أيمان القسامة، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون [ذلك] (¬1) في [دم] (¬2) العمد. والثاني: أن يكون في دم الخطأ. فإن كان النكول في دم العمد، فلا يخلو من أن يكون النكول من جميع ولاة الدم، وإما أن يكون من بعضهم. فإن كان النكول من جميع ولاة الدم، فلا يخلو من أن يكون وجوب القسامة بقول الميت، أو بشاهد على القتل، وإما أن تجب بشاهدين. فإن وجبت القسامة بقول الميت: دمي عند فلان أو بشاهد عدل على القتل، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأيمان ترد على أولياء القاتل؛ فإن حلف منهم خمسون رجلًا يمينًا برئ القاتل، ولا يحلف هو معهم، ولا يجبر الأولياء على الأيمان إلا أن يتطوعوا بذلك. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فإن لم يجدوا إلا أقل من خمسين رجلًا حلفوا خمسين تردد عليهم إن طاعوا بذلك، وليس لهم أن يجعلوا القاتل يحلف معهم، فإما حلفوها كلها وإلا حلفها المدعى عليه وحده كلها. فإن أبى أن يحلف سجن حتى يحف. وهو قول سحنون في "العتبية". فإن طال سجنه، هل يخلى أو [يسجن] (¬1) أبدًا [فعلى قولين: أحدهما: أنه يسجن أبدًا] (¬2) وهو قول مالك في المدونة وغيرها. والثاني: أنه يخلى سبيله، وهو قول ابن الجلاب. والقول الثاني: [أن] (¬3) الأيمان ترد على أولياء المدعى عليه، فيحلف خمسون رجلًا، أو أقل منهم تردد عليهم، ويحلف فيهم المتهم، فإن لم يجدوا غير المتهم، أو نكلوا فإنه يحلف خمسين يمينًا وحده، وهو قول ابن القاسم في "المجموعة". والثالث: أن المدعى عليه يحلف وحده، ولا يكون له أن يستعين بأحد من ولاته في الأيمان كما يكون ذلك لولاة المقتول، وهو قول مطرف في "الواضحة"، وهو ظاهر قوله في "الكتاب". فأمَّا إن كانت القسامة وجبت بشاهدين على القتل، ففي رد الأيمان على القاتل قولان: أحدهما: أنها ترد على المدعى عليه، فيحلف ما مات من ضربى، فإن نكل سجن حتى يحلف، فإن حلف ضرب مائة وسجن سنة، فإن أقر قتل، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وبه قال ابن الماجشون. ¬

_ (¬1) في أ: يستحق. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

والثاني: أن الأيمان لا ترد عليه، ولا يحلف؛ لأن يمينه إن حلف يمين غموس، وهو قول أشهب، وأصبغ، وابن عبد الحكم في "الموازية". وقال القاضي أبو الوليد بن رشد: فعلي هذا القول إن أقر لم يقتل. وأما حكم الجرح إذا نكل الأولياء عن القسامة، فحكى ابن المواز عن ابن القاسم فيه قولين: أحدهما: أنه يقتص من الجارح للمجروح -حلف المدعى عليه أو نكل- لأن الجرح قد ثبت بشهادة شاهدين، ولا شيء عليه من العقل في النفس. والثاني: أنه يقتص منه للمجروح ودية النفس في ماله. وقال ابن المواز: وهذا القول ذكره ابن القاسم عن مالك، ولم يصح عند غيره. وأما إن كانت القسامة بشاهد واحد على القتل، فهل يقتص من الجارح أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يقتص منه -حلف القاتل خمسين يمينًا أو نكل عنها- لأن الجارح لا يقتص منه إلا [بيمين] (¬1) المجروح، فأما يمين ورثته فلا؛ إذ لا يحلفون على الجرح. هذا قول محمد بن المواز، وهو الصواب. والثاني: أنه يقتص من الجارح إذا كان الضرب جرحًا [معريًا] (¬2) مع ضرب مائة وحبس عام لنكوله عن القسامة، وهو قول ابن القاسم على ما حكاه ابن المواز. واختلف في نكول المدعى عليه عن الأيمان على قولين: أحدهما: أنه يحبس إلى أن يحلف. ¬

_ (¬1) في أ: بعد يمين. (¬2) سقط من أ.

والثاني: أنه تلزمه الدية في ماله بنكوله. وحكى القولين في المذهب القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب. فعلى القول بأنه يحبس إلى أن يحلف، فإن طال حبسه، ففيه قولان: أحدهما: أنه يخلى سبيله، وهذا القول قد رواه القاضي عبد الوهاب، وبه قال ابن الجلاب. والثاني: أنه يحبس أبدًا حتى يحلف، وهو قوله في "العتبية" و"الموازية"، وحكى فيه ابن المواز إجماع أهل المذهب. والخلاف كما ترى. فأمَّا إن كان النكول من بعض ولاة الدم، فلا يخلو من أن يتساووا في التعدد أم لا. فإن تساووا في التعدد، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرسم والدية يبطلان، ولا يكون لمن بقى أن يقسم، ويستحق الدية أو القصاص، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". [وبه قال عبد الملك. والثاني: أن الدم يبطل، ويحلف من بقى من الأولياء، فيأخذ حظه من] (¬1) الدية، وهو قول أشهب. والثالث: أن ينظروا إلى نكوله؛ فإن [كان على وجه العفو، والترك لحقه حلف من بقى؛ وكانت له الدية، وإن كان على وجه التحرج] (¬2) والتورع حلف من بقى وقتلوا، وهو قول ابن نافع. ¬

_ (¬1) بياض في ب. (¬2) بياض في ب.

فإن اختلفوا في التعدد، وبعضهم أقعد بالميت ممن يجوز عفوه، وبعضهم أبعد ممن لا يجوز عفوه مثل أن يكون من العصبة، واستعان به الأقرب في أيمان القسامة، فإن نكل الأقرب بطل الدم، ولا قيام للأبعد، وإن نكل الأبعد فلا يبطل الدم، ويطلب الأقرب من يقسم معه من بقية العصبة. وأما الوجه الثاني من الفصل الأول: إذا كان النكول في دم الخطأ، وكان النكول [من] (¬1) جميع الأولياء أو من بعضهم، فقد اختلف المذهب في ذلك على خمسة أقوال: أحدها: أنها ترد الأيمان على [العاقلة فيحلفون كلهم، ولو كانوا ألفًا، والقاتل كرجل منهم، فمن حلف لم يلزمه شيء، ومن نكل لزمه ما يجب عليه من الدية وهو] (¬2) أحد قولي ابن القاسم عن مالك في "العتبية". والثاني: أنه يحلف من العاقلة خمسون رجلًا [يمينًا يمينًا] (¬3)؛ فإن حلفوا برؤوا وبرئت العاقلة من جميع الدية، وإن حلف بعضهم برئ من حلف منهم [ولزم] (¬4) بقية العاقلة الدية كاملة حتى يتموا خمسين يمينًا، وهو القول الثاني لابن القاسم في "العتبية"، وقد نقله أبو الوليد بن رشد. والثالث: أن من نكل منهم، فلا حق له من الدية أو نكلوا جميعًا، فلا ترد له الأيمان على العاقلة؛ لأنها لا ترد على معروفين، ولا على ¬

_ (¬1) في أ: في. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: ولزمه.

فرع غريب

من لهم [عليه] (¬1) حق؛ لأن الدية [إنما تجب يوم تفرض، وهو قول عبد الملك في الموازية. والرابع: أن الأيمان] (¬2) ترجع على المدعى عليه وحده، فإن حلف برئ، وإن نكل لم يلزم العاقلة بنكوله شيء؛ لأن العاقلة لا تحمل الإقرار، والنكول كالإقرار، وإنما هو بنكوله شاهد على العاقلة، وهي رواية ابن وهب عن مالك في "الموازية"، و"كتاب ابن عبدوس". والخامس: أن الأيمان ترد على العاقلة؛ فإن حلفت [برئت] (¬3) وإن نكلت غرمت نصف الدية، وهذا القول حكاه أبو الوليد بن رشد، ولم يسم قائله. وأما الفصل الثاني: إذا عفى أحد الأولياء عن الدم بعد ثبوته بالبينة أو بالقسامة، أو أكذب نفسه بعد القسامة، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن الدم والدية يبطلان، ولا يكون لمن بقى شيء من دية، ولا قصاص، وهو قول ابن الماجشون. والثاني: أن لمن بقى من الأولياء، ولم يعف، ولا أكذب نفسه حظه من الدية. والثالث: أنه إن عفى كان لمن بقى حظوظهم من الدية، وان أكذب نفسه لمن يكن لم بقى شيء من الدية، وإن كانوا قد قبضوها ردوها، وهو مذهب ابن القاسم في "المدونة" وغيرها. فرع غريب فيمن أشهد لرجل أنه قتله، فقد وهب له دمه؛ فروى أبو زيد عن ابن ¬

_ (¬1) في أ: عليهم. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: برئ.

القاسم في "العتبية" فيمن قال: ليتني أجد من يقتلني، فقال له رجل: فأشهد [لي] (¬1) أنك وهبت لي دمك وعفوت عنه، وأنا أقتلك فأشهد [له] (¬2) بذلك فقتله، فقد اختلف فيه أصحابنا، وأحسن ما رأيت أن يقتل؛ لأنه عفى عن شىء قبل أن يجب له، وإنما [وجب] (¬3) لأوليائه بخلاف عفوه عنه بعد علمه أنه قتله، ولو أذن له بقطع يده، ففعل لم يكن [عليه] (¬4) شيء [والحمد لله وحده] (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: وجبت. (¬4) سقط من أ. (¬5) زيادة من ب.

المسألة العاشرة في القتيل يوجد بين الصفين

المسألة العاشرة في القتيل يوجد بين الصفين ولا يخلو الصفان من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكونا من أهل العصبية. والثاني: أن يكون أحد الصفين باغ، والآخر مظلومًا. والثالث: أن يكونا أو أحدهما من أهل التأويل. فأمَّا الوجه الأول: إذا كان الصفان من أهل العصبية فافترقا عن قتيل أو جريح، فلا يخلو القتيل أو الجريح من أن يكون من غير الفئتين أو منهما. فإن كان من غير الفئتين؛ كالحاجز بينهما: فلا يخلو من أن يعلم قاتله أو جارحه ببينة، أو لم يعلم. فإن علم القاتل بعينه ببينة أو بقول الميت: دمي عند فلان، فإنه يقتص منه في القتل، والجراح إذا ثبت الجرح بشهادة شاهدين، أو بشاهد ويمين. فإن لم يعلم القاتل أو الجارح بعينه فديته على الفريقين. وهذا كله قول مالك في "المجموعة" و"الموازية". قال ابن القاسم [في "الموازية"] (¬1): وكذلك الحكم إذا لم يعرف من أيّ الفريقين. فإن كان من أحد الفئتين، فلا يخلو من أن يعلم قاتله، أو جارحه، أو لم يعلم. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

فإن علم قاتله بعينه بشهادة الشاهدين، ففيه القود قولًا واحدًا. فإن علم بشهادة الشاهد الواحد أو بقول الميت: دمي عند فلان، فالمذهب على قولين: أحدهما: أنه يقسم مع قوله، وهو مشهور المذهب، وهو قول مالك وأكثر أصحابه في "المجموعة" و"العتبية" , و"الموازية"، و"الواضحة"، وهو أحد قولي ابن القاسم في "العتبية". والثاني: أنه لا يقسم فيه مع قوله ولا مع الشاهد الواحد، وهي رواية سحنون عن ابن القاسم في "العتبية". فقيل: إن ابن القاسم إنما منع القسامة في أحد قوليه مع قول الميت: "دمي عند فلان" في هذه المسألة؛ لأنه كالشاهد لنفسه لكونه كان من جملة المقاتلة، وذلك ليس بشيء؛ لأن ذلك يكر على قاعدة القسامة بالبطلان لوجود ذلك في كل من قال: دَمِّي عند فلان، وفي رواية [ابن واهب عن مالك في "الموازية" أن النايرة دليل يحلف معه المجروح ويقتص] (¬1) ممن جرحه إذا ثبتت النايرة بينهم ببينة، قال أصبغ: ونزلت فحكم [فيها ابن القاسم بهذا. فإن ثبتت النايرة بشهادة واحد، فلا يحلف المجروح مع الشاهد] (¬2) على [القاتل] (¬3)، وليحلف المدعى عليه ويبرأ. فإن لم يعلم قاتله، فإن ديته على الطائفة التي نازعتهم في أموالهم لا على العاقلة، ولا إشكال في ذلك. ¬

_ (¬1) بياض في ب. (¬2) بياض في ب. (¬3) في أ: القتال.

واختلف هل ذلك بقسامة أو بغير قسامة على قولين: أحدهما: أنه بغير قسامة، وهو قوله في "المدونة"، وهو مشهور المذهب. والثاني: أنه بقسامة، وهو ظاهر قول ابن الجلاب؛ لأنه قال: إن في مثل هذه القسامة مطلقًا. واتفقوا كلهم على أن على الطائفة التي نازعت لا يقتلوا فيه جميعًا؛ لأنهم لم يتفقوا على قتله؛ وإنما تقتل الجماعة بالواحد إذا تمالوا على قتله، واتفقوا عليه بأسرهم. وأما من قتل في الصف، فلا يقتل به إلا من باشر قتله إن علم خاصة دون سائر أصحابه لعدم اتفاقهم على قتله، وربما يكون فيهم من لا يرى قتل ذلك إما لدناته، وإما لمودة [ومواصلة] (¬1) بينه وبينه. ووجه القول: بأنه لا قسامة فيمن قتل بين الصفين لاحتمال أن يكون قاتله من طائفته، وكم ترك ممن رام أن يرمي عدوه، فوقعت الرمية في بعض أصحابه. فإن افترقت الطائفتان عن جريح [أو قتيل فقال رجل من إحدى الطائفتين: أنا قتلته والمقتول من غيرها، فطائفة المقتول] (¬2) مخيرون إن شاؤوا قتلوه بإقراره، وإن شاؤوا تركوه، وألزموهم الدية، وهو قول ابن القاسم في "العتبية"، و"المجموعة". وأما الوجه الثاني: إذا كان أحد الصفين باغ، والآخر مظلومًا؛ مثل أن تزحف إحدى الطائفتين إلى الأخرى في منازلهم فقاتلوهم، فوقعت ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

بينهم القتلى والجرحى، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون المظلومين قادرين على الانتصاف من الزاحفين بالسلطان، أو غير قادرين. فإن قدروا على الانتصاف منه بالسلطان والانتصار عليهم من أجله، فكل فرقة [منهم] (¬1) ضمنت ما أصابت من الأخرى [ولا تبطل دماء] (¬2) الزاحفين، وهو قول عليّ عن مالك في "المجموعة". وإن لم يقدروا على الانتصاف منهم بالسلطان لكون الزاحفين عاجلوهم وضاغطوهم، فليناشدوهم الله، فإن أبوا فالسيف، وهو قول مالك في "المدونة"، وهو قول غيره من أصحابه في "النوادر". وأما الوجه الثالث: إذا كان إحدى الطائفتين أو كلاهما على التأويل، فإن الدماء والأموال بينهما هدر ولا قصاص ولا دية إلا ما كان قائمًا بأيديهم من الأموال، فإنها ترد إلى أربابها للسنة الواردة في ذلك من السلف رضوان الله عليهم، وقد قدمنا الكلام في بسط ذلك في "كتاب المحاربين" [والحمد لله وحده] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: ولا يبطل دم. (¬3) زيادة من ب.

المسألة الحادية عشرة فيما أصاب الدابة بسبب راكبها أو سائقها أو قائدها

المسألة الحادية عشرة فيما أصاب الدابة بسبب راكبها أو سائقها أو قائدها ولا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكونوا مجتمعين. والثاني: أن يكونوا مفترقين. فإن كانوا مجتمعين [أعني] (¬1) الراكب والسائق والقائد فجنت الدابة على شيء، فأفسدته بسببهم، فلا يخلو من وجهين: إما أن يشتركوا في ذلك السبب، وإما أن يستبد به بعضهم. فإن اشتركوا فيه جميعًا؛ مثل أن تطأ الدابة برجلها أو بيدها على شيء؛ مثل أن يخرق السائق في سوقها ورد فيها القائد بلجامها، وركضها الراكب، أو ضربها مع ذلك، فإن على كل واحد منهم ثلث ما جنته. فإن استبد به بعضهم؛ مثل أن يضربها الراكب، فرمحت فالدية عليه وحده، وكذلك إن كانت الجناية بسبب السائق وحده؛ مثل أن يعنف في سوقها، فوطئت على شيء بغير اختيار القائد، والراكب، فإن الدية عليه أيضًا وحده. وكذلك القائد إذا انفرد بالسبب؛ مثل أن يحيد بها على المنهاج القويم، والمسلك الفاسح إلى مضيق، وهو مقعد للناس، ومحط لحوائجهم فوطئت على شيء، فكسرته أو [كدمته] (¬2) فهو ضامن للدية وحده. ¬

_ (¬1) في أ: على. (¬2) في ب: أهرقته.

وكذلك إن اشترك فيه اثنان منهما, ولا سبب [للثالث] (¬1) معهما، فإنهما يضمنان الدية، ولا شيء على من صنع له في ذلك السبب. وهذا كله قول ابن القاسم، وأشهب في "المدونة"، و"المجموعة"، و"الموازية". فأمَّا إن انفردوا وافترقوا؛ مثل أن يكون الراكب وحده، والقائد وحده، والسائق وحده. أمَّا القائد إذا انفرد فلا يخلو ما جنت الدابة من أن تطأ عليه، أو تكدمه، أو تضربه برجلها. فإن وطئت عليه برجلها، أو بيدها فالقائد ضامن لما أفسدته. وأما ما كدمته أو نفحت برجلها، فأصابت إنسانًا فقتلته، فإنه لا ضمان عليه إلا أن يكون نفحت أو كدمت من شيء صنعه بها [فيحلف] (¬2) فيضمن. وهذا كله قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو قول أشهب في "المجموعة"، و"الموازية". وأمَّا السائق إذا انفرد فهو كالقائد يضمن ما وطئت عليه برجلها أو بيدها [ولا] (¬3) يضمن ما كدمته ورمحته إلا أن يكون ذلك بسببه فيضمنه، قاله ابن القاسم في "المدونة". وأما ما [سقط] (¬4) من القرائر من أعلى ظهر الدابة على إنسان، فعطب أو مات، فإن القائد، والسائق ضامنان لديته، وإن كان الحمل ¬

_ (¬1) في أ: للتالف. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: فلا. (¬4) في أ: سقطت.

لغيرهما، وهو قول ابن القاسم في "المدونة". وأما الراكب فلا يخلو من أن ينفرد بالركوب، أو أردف غيره. فإن انفرد بالركوب كان لما وطئت عليه برجلها أو بيدها ضامن. وأما ما [قضمته] (¬1) بفيها أو نفحته برجلها، فلا شيء عليه إلا أن يكون ذلك من سببه؛ مثل أن يكبحها أو يحركها، فيضمن ما كدمت أو نفحت. وإن كان بغير سببه فلا يضمن. وإن كان اللجام بيده فقد تقدم، وهو عاقل. وهو قول مالك في "المدونة". وأما إن أردف رديفًا فما أصابت الدابة بصدم أو وطء، فهو من المقدم؛ لأن لجامها بيده وهو المسير لها إلا أن يكون الرديف ضربها، أو حركها فرمحت فضربت إنسانًا، فقتلته فتكون ديته على عاقلة الرديف. وأما إن كان من جنايتها بكدم أو نفح، فهذا ليس من السير, فإن كان سببه أحدهما فهو المنفرد بالضمان -مقدمًا كان أو متأخرًا- وإن كان من سببهما اشتركا في الضمان. وإن كان من فعل [غيرهما فانظر. فإن كان من فعله] (¬2) آدمي أذعرها، أو نخسها فرمحت، فهو ضامن. فإن كان من سبب غير آدمي كخيال أذعرها فهو هدر. فهذا كله قول مالك، وابن القاسم [في المدونة] (¬3) وأشهب معهما ¬

_ (¬1) في أ: كدمته. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

في "الموازية". فإن كان المقدم صبيًا، والرجل خلفه فما وطئت الدابة، فهو على الصبي إن كان قد ضبط الركوب؛ لأن ما وطئت عليه الدابة عند مالك، فهو على المقدم إلا أن يكون المؤخر قد صنع بها شيئًا على ما وصفنا. وكذلك الرجل يقود القطار [فيطأ] (¬1) البعير من أول القطار، أو من آخره على رجل، فعطب فهو ضامن أيضًا. وهذا كله قول مالك في "المدونة" وغيرها. وأمَّا من سقط عن دابته على إنسان، فمات الذي وقع عليه، فإن دم الواقع من على دابته هدر، وأما دم الذي وقع عليه فهو ثابت وديته على عاقلة الواقع، وهذا نص قول مالك في المدونة وغيرها. تم الكتاب بحمد الله وعونه، والصلاة التامة الكاملة على سيدنا ونبينا محمَّد خيرة خلقه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. وكان الفراغ من نسخه في رابع رجب من سنة ثلاث وستين وسبعمائة بعد صلاة العصر، وكتبه لنفسه العبد الفقير إلى الله تعالى: عبد الله بن عمر بن يوسف الزواوي المالكي، غفر الله له ولوالديه، ولمن دعى له ولوالديه بالمغفرة؛ إنه مجيب الدعوات. ¬

_ (¬1) في أ: فيها.

§1/1