مناهج البحث في العلوم السياسية

محمد محمود ربيع

الفهارس

الفهارس: المحتوى: الصفحة الموضوعات 11 مقدمة الطبعة الثانية 13 تمهيد الباب الأول: نبذة عن أهم المدارس والتيارات الفلسفية وعلاقتها بمناهج البحث الفصل الأول: مفهوم الفلسفة في العصور القديمة 29 المبحث الأول: النشأة 34 المبحث الثاني: التعريف 36 المبحث الثالث: الموضوع الفصل الثاني: مفهوم الفلسفة في العصر الوسيط 41 المبحث الأول: مفهومها لدى فلاسفة الغرب المسيحيين وفلاسفة العرب المسلمين

47 المبحث الثاني: منهج البحث الإسلامي 55 المبحث الثالث: منهج ابن خلدون الفصل الثالث: مفهوم الفلسفة في العصر الحديث 87 المبحث الأول: المذاهب والتيارات الجديدة 89 المبحث الثاني: المنهج في كتابات بيكون وديكارت الفصل الرابع: مفهوم الفلسفة لدى مدارس الفكر المعاصر 97 المبحث الأول: التيار التقليدي المعاصر 98 المبحث الثاني: الوضعية الكلاسيكية 110 المبحث الثالث: الوضعية المنطقية 121 المبحث الرابع: الماركسية 129 المبحث الخامس: البراجماتية 137 المبحث السادس: الوجودية الفصل الخامس: كلمة ختامية حول المادية والمثالية في الفلسفة 150 المبحث الأول: المذهب المادي 153 المبحث الثاني: المذهب الروحي

الباب الثاني: المفهوم الليبرالي لمداخل ومناهج البحث الفصل السادس: العلوم الأكاديمية 166 المبحث الأول: المدخل التاريخي 169 المبحث الثاني: المدخل الاقتصادي 171 المبحث الثالث: المدخل الاجتماعي 176 المبحث الرابع: المدخل الجغرافي 178 المبحث الخامس: المدخل الفلسفي الفصل السابع: الظواهر والقوى السياسية 181 المبحث الأول: المؤسسات 188 المبحث الثاني: القانون 190 المبحث الثالث: السلطة 194 المبحث الرابع: التأثير والقيم 196 المبحث الخامس: عملية صنع القرار 216 المبحث السادس: الأهداف والوسائل الفصل الثامن: الفروض والنظريات 225 المبحث الأول: مداخل بحث تركز على التأثيرات البيئية

231 المبحث الثاني: مداخل بحث تركز على الاعتبارات الأيديولوجية 240 المبحث الثالث: المدخل السلوكي الفصل التاسع: المفهوم الليبرالي لمناهج البحث 246 المبحث الأول: منهج التحليل 249 المبحث الثاني: المناهج الكمية والكيفية 253 المبحث الثالث: المناهج الاستقرائية والاستنباطية 255 المبحث الرابع: المنهج المقارن الباب الثالث: المفهوم الماركسي لمناهج البحث الفصل العاشر: الميتافيزيقية والجدلية 263 المبحث الأول: أسباب الخلاف المنهجي بين الليبرالية والماركسية 266 المبحث الثاني: المنهج الميتافيزيقي الفصل الحادي عشر: تطور المنهج الجدلي 273 المبحث الأول: المنهج الجدلي المثالي 278 المبحث الثاني: المنهج الجدلي المادي

الباب الرابع: البحث العلمي في السياسة الفصل الثاني عشر: العلم والمنهج 288 المبحث الأول: شروط ارتقاء المعرفة إلى مرتبة العلم 291 المبحث الثاني: خطوات المنهج العلمي 293 المبحث الثالث: أساليب حديثة لزيادة فعالية خطوات المنهج العلمي 297 المصادر 307 فهرس الأعلام

المقدمات

المقدمات: مقدمة الطبعة الثانية: يتوخى الإنسان من إرساء العلوم الجديدة, ومناهج وطرق البحث زيادة قدرته على تفسير الظواهر الاجتماعية أو الطبيعية المحيطة به، ثم الانطلاق من هذا التفسير إلى محاولة التنبؤ بما قد يحدث, ثم التحكم في الظواهر والأحداث المتوقعة بقدر الإمكان. ولا تقتصر محاولة الاستفادة من هذه الأساليب العلمية على العالم أو المفكر، وإنما تلتزم بها بالدرجة الأولى الأجهزة المتخصصة في الدول المتقدمة, ممثلة في مجموعات البحوث في وزارات الخارجية والاقتصاد والدفاع والإعلام، وكذلك في أجهزة البحوث والرصد بالصحف الكبرى والأحزاب الجماهيرية. ويجب التحذير سلفا من مغبَّة المبالغة وسوء التقدير؛ إذ إن جميع مناهج وطرق البحث دون استثناء -ورغم أهميتها القصوى علميا وحياتيا- ليست عصا سحرية, وإنما تأتي في الواقع في المرتبة الثانية بالنسبة للقدرات العقلية الخلاقة للإنسان الذي تتوقف عليه أولا, وأخيرا إمكانيات نجاح البحث, أو الكتابة السياسية. معنى ذلك أن كل ما نهدف إليه من تدريب على تلك المناهج والطرق إنما ينحصر في ترتيب الذهن، وتعلم أساليب التفكير العلمي المنطقي، والتزوّد بالأدوات الضرورية التي قد تساعد على زيادة فرص التوفيق في طرح الأسئلة الملائمة للموضوع المطروح، والاختيار الرشيد بين المناهج والطرق المناسبة. ونريد التشديد على أن التركيز في الإطار التالي سيكون على المناهج

والطرق العلمية المعروفة. أما التقسيم الأيديولوجي لتلك المناهج والطرق, فينطلق من أن تطبيق أي منهج أو طريقة نادرا ما يخلو من ارتباط بقيم, أو توجهات أيديولوجية معينة صريحة أو ضمنية, خاصة وأن المناهج والطرق التي نحن بصدد دراستها تتعلق بالعلوم السياسية. تشتمل هذه الطبعة على العرض التحليلي لمنهج المفكر العربي الكبير عبد الرحمن بن خلدون. وهي تتناول بعض الجوانب الهامة المتعلقة بمنهج البحث الإسلامي, بصفته نقطة الانطلاق بالنسبة لابن خلدون ولغيره من المفكرين والعلماء المسلمين؛ ذلك أن ابن خلدون لم ينطلق من فراغ, وإنما استفاد من الجهود الخلاقة لمن سبقوه من هؤلاء الفقهاء والمفكرين الذين تخلوا قبله عن المنهج القياسي لأرسطو. وأخيرا هناك استقصاء لمدى امتداد التأثير الإغريقي إلى الفكر الإسلامي بصفة عامة، وما إذا كان منهج أرسطو قد أثر بدوره على البحوث الطبيعية, والاجتماعية للمفكرين المسلمين. وفيما عدا ذلك, فإن بقية تحليل وشرح المداخل والمناهج يظل كما ورد بالطبعة الأولى. والله ولي التوفيق. د. محمد محمود ربيع الكويت 1986

تمهيد

تمهيد: نود -بادئ ذي بدء- أن نوضح ثلاث نقاط: 1- لا يوجد هناك ما يسمى بالحياد إزاء القيم, سواء في الفلسفة أو المنطق أو المجتمع بشكل عام. 2- أن إيماننا بالله "سبحانه" لا يجب أن يدفعنا إلى تعاطف غير مستنير مع الفلسفات المثالية التي تتستر وراء الإيمان, سواء بشكل صريح أو ضمني. 3- ضرورة الاهتمام بدراسة وتطوير طرق, ومناهج البحث كوسائل في علاج عدم التوازن الضار بين الإنجازات التكنولوجية الضخمة التي حققتها البشرية, وبين الفوضى الفكرية السائدة في عالمنا المعاصر. 1- ترتبط مناهج البحث ارتباطا وثيقا بالفلسفة, وتتبادل معها التأثير من حيث النشأة والتطور وتحديد المفاهيم. الفرض الهام الآخر الذي نود التأكيد عليه منذ البداية, هو أنه لا يوجد هناك ما يسمى بالحياد أو اتخاذ موقف سلبي إزاء القيم, سواء في الفلسفة أو المنطق أو المجتمع بشكل عام. وقد ظل الخلاف طويلا حول هذا الموضوع, حتى بين المفكرين الليبراليين أنفسهم الذين ادعى عدد منهم في أوائل القرن الحالي -وعلى رأسهم ماكس فيبر- بإمكان الفصل التام بين الحقائق والقيم، وتجرد العالم أو الباحث تماما من أي اعتبارات بيئية, أو مؤثرات ذاتية عند إصدار حكمه على موضوع ما. لكن كثيرين من هؤلاء المفكرين اضطروا أخيرا إلى الاعتراف بالواقع, واستحالة الفصل التحكمي بين حقلي التجريب والقيم, وباستحالة وقوف العلوم الاجتماعية بالذات موقف الحياد من الأحداث والصراعات والقوى في أي

مجتمع، كما اعترفوا بأن الموضوعية نسبية1. فعلماء السياسة -على سبيل المثال- عندما يقومون باختيار وتنظيم المادة التي يستعملونها في بحوثهم, أو محاضراتهم يحتاجون إلى إجراء عمليات انتقاء حقيقة

_ 1 حول نسبية الموضوعية والقيود التي تحد منها, وموقف التحليل العلمي من "الحقائق" و"القيم" والانفصال المنطقي بينهما, والمدى الذي لا يمكن تجاوزه لإمكان إطلاق ألفاظ مثل: موضوعي ومنهجي على الفروض والنظريات المبنية على, أو المتأثرة بقيم معينة, حول هذه الموضوعات انظر: Arnold Brecht, Political Theory (The Foundations of Twentieth Century Political Thought) , Princeton, New Jersey 1959, pp. 298-301; Carl J. Friedrich, Man and His Government (An Empirical Theory of Politics, New York 1963, pp., 67, 68; Max Weber on The Methodology of the Social Sciences, trans, and ed. E.A. Shils, H.A. Finch, New York 1949, pp. 1-47, Talcott Parsons, The Structure of Social Action, N.Y. 1937, pp. 593"597. وللرجوع إلى مصادر أحدث, حول تطور ذلك الجدل انظر: W.D. Hudson, ed., The IS-Ought Question, New York 1969, especially John Searl's Article: "How to derive Ought from Is", pp. 120-134. تكمن أهمية هذه المقالة الأخيرة في أنها تحتوي هجوما مباشرا على الأسس الفلسفية لما يسمى بحياد العلوم الاجتماعية. Cited by Fred M. Frohock, "Notes on the Concept of Politics: Weber, Easton Strauss," in: The Journal of Politics, Vol. 36, No. 2, Gainesville Florida, May 1974, pp 379-381; cf. D.C. Schwartz, "Toward a More Relevant and Rigorous^ Political Science", in The Journal of politics Vol. 36,No. 1, Feb. 1974, p. 119; cf. also, MadeleineGrawitz, Methodes Des Sciences Sociales, Deuxieme Ed., Paris *974> PP- *M> *35> 3IO-3*5> 5°°; Bernard Crick, In Defence of Politics, p. 190,.

ما دون حقيقة أخرى، أو شكل تنظيمي معين دون شكل آخر، أو منهج بحث دون منهج آخر. قد تكون عملية الانتقاء عشوائية, ولكنها في الأغلب الأعم ليست كذلك, وإنما تحكمها معايير وقيم يأخذ بها كل عالم, أو باحث1. هكذا تتضح أهمية تزويد المثقف بمعرفة أوثق بمناهج البحث؛ ليتسنى له اختيار أنسبها لدراسته, ومساعدته على التحلي بأكبر قدر ممكن من الموضوعية في تحديد موقفه من الفلسفات, والأيديولوجيات المتصارعة في عالم اليوم. إلا أنه, وإن كان التقيد بالحياد واجبا في عرض تلك المناهج, فإن الأمانة والالتزام العلمي بالبحث عن الحقيقة يحتمان عدم الوقوف موقفا سلبيا من التيارات الفلسفية والمنطقية, قديمها وحديثها التي يتراوح قصورها بين العجز عن اللحاق بتطورات العصر العلمية والاجتماعية, وبين التضليل الجزئي أو الكامل للباحث؛ لحرفه عن الإدراك السليم لحقيقة المشكلة الأساسية في الفلسفة, وهي علاقة الفكر بالواقع وعن فهم طبيعة الاتجاهات المتصارعة سواء في مجال العلم, أو المجتمع. فمثلا، يزداد باستمرار تبلور الخلافات بين الأيديولوجية الماركسية, والليبرالية كتعبير عن الصراع المحتدم بين النظامين الرئيسيين في عصرنا, وهما الاشتراكية والرأسمالية مما دفع كافة التيارات الفلسفية والمنطقية إلى تحديد مواقفها من ذلك الصراع بشكل صريح, أو ملتوٍ. ليس معنى ذلك أن الفلسفة والمنطق كانا محايدين قبل ظهور هاتين الأيديولوجيتين, بل على العكس من ذلك تماما كانا يعبران بوجه عام عن قوى اجتماعية رجعية أو صاعدة. مثال ذلك: أنه رغم التراث الكبير الذي خلّفه كل من أفلاطون وأرسطو, فإن كتاباتهما كانت تعبيرا عن حقبة تاريخية معينة

_ 1 Vernon Van Dyke, political Science "A Philosophical Analysis", London 1960, pp. 3, 4, hereunder referred to as Dyke.

وعلاقات اجتماعية محددة. أكثر من ذلك، فقد دافعا عن النظام الاجتماعي, والسياسي القائم آنئذ من حيث انقسامه إلى سادة أحرار وعبيد, واعتبرا أن العبودية ظاهرة طبيعية. يتضح الطابع الاجتماعي, والطبقي للفلسفة بشكل حاسم في الرأي الذي أبداه أرسطو ونقله إلينا التاريخ. فقد روى المؤرخ الإغريقي بلوتارك أن الإسكندر المقدوني علم أثناء إحدى غزواته بأن أستاذه أرسطو نشر بعض أعماله الفلسفية؛ فغضب لذلك وأرسل يعاتب أستاذه بقوله: لقد ارتكبت خطأ بنشرك الأجزاء الباطنة من العلم, وإلا فكيف يبقى اختلافنا عن الناس إذا جعلت المعرفة العليا التي اكتسبناها منك مشاعة في العالم أجمع؟ وقد رد أرسطو عليه قائلا: "لقد نشرناها ولم ننشرها ... ولن يصل إلى فهمها إلا من درس علينا مثلك"1. بناء عليه، لا يمكن اليوم قبول بعض الفروض الزائفة على علاتها, والتي ذهبت إلى أن الفلسفة ما هي إلا حب الحكمة كما ادعت الفلسفة الإغريقية, أو الادعاء باللامبالاة الفلسفية وحتى إنكار الفلسفة أصلا كما حاولت الوضعية, أو اعتبار الفلسفة التحليل اللغوي المنطقي كما ظنت الوضعية المنطقية. بالمثل، لا يملك المثقف الملتزم أن يقف موقف المتفرج, أو المحايد إزاء التيارات الفلسفية التي تكرس الرجعية والتشاؤم والاستغلال والأنانية، وإنما واجبه أن يكشف إفلاسها وتهربها من تقديم مفهوم عام للطبيعة والإنسان يفسر ماضيه, ويخدم حاضره ومستقبله. لا يستطيع هذا المثقف أو حتى المواطن العادي أن يكون محايدا إزاء فلسفات نيتشه وهايدجر وكامي, أو الفلسفة الصهيونية على سبيل المثال وليس الحصر. فنيتشه هو القائل: إنني أحلم بقيام جماعة من الرجال تامين مطلقين

_ 1 بلوتارك السير، ترجمة إنجليزية لجون وويليام لانجورن، لندن 1886، ص 158. استشهد به إسماعيل المهدوي في مقدمته لجورج بوليتزير، المادية والمثالية في الفلسفة، القاهرة, نوفمبر 1957، ص5.

أشداء لا يتهاونون ولا يتساهلون، يطلقون على أنفسهم اسم الهدامين ... لا يحفلون بالحياة ولا بالطمأنينة والسلام، وإنما يجدون النعيم في الانتصار والقوة والتحطيم، ويشعرون بسرور عميق وهم يعذبون الآخرين....1. يكمل تلك النغمة العدوانية أن فلسفة نيتشه عن الإنسان الأعلى كانت أحد المناهل التي استفادت منها النازية في صياغة مفاهيمها, وخاصة تحويرها لفكرة تفوق الإنسان الأعلى كشخص إلى تفوق العرق الأعلى كعنصر أي: الجنس الآري، وهو جوهر الفلسفة النازية في محاولتها إثبات سمو الجنس الآري "الخالق للثقافة" وحقه في فرض سيطرته على العروق الإنسانية الأخرى الأدنى مرتبة كالأنجلوساكسون "كجنس حامل للثقافة" أو الأجناس المنحطة "المدمرة للثقافة" وقصدت بها الشعوب الملونة غير الأوروبية وخاصة اليهود2. يتعذر أيضا اتخاذ موقف الحياد إزاء فلسفات مثل: البراجماتية والوجودية. فهذا هايدجر مثلا أحد أعلام الوجودية المعاصرة لم يعينه هتلر عبثا كمدير لجامعة فرايبورج, بل أكثر من ذلك يأخذ على عاتقه مهمة نشر الدعاية النازية بين الطلبة الألمان. ثم لنقرأ سطورا من كتابات كامي؛ لنفهم الطابع التشاؤمي الذي يميز فلسفته الوجودية, إذ يقول في روايته أسطورة سيسيفوس: "إنه ليس ثمة

_ 1 عبد الرحمن بدوي, نيتشه, الطبعة الثانية، القاهرة 1954، ص157، 166. 2 محمد محمود ربيع "هل تتحكم القومية أو الدين في تطور التاريخ, دراسة أيديولوجية مقارنة" في: مجلة العلوم السياسية والقانونية، العدد الأول بغداد، حزيران 1976، ص108، كذلك: George H. Sabine, A History of Political Theory, third ed. London 1963 "first publ. 1937", p. 906.

سوى مشكلة فلسفية واحدة, يمكن أن تعد جدية بحق، وتلك هي مشكلة الانتحار. ولو استطعنا أن نحكم ما إذا كانت الحياة جديرة بأن تعاش أم لا, فقد أجبنا على المشكلة الرئيسية في الفلسفة"1. 2- إن إيماننا بالله "سبحانه" لا يجب أن يدفعنا إلى تعاطف غير مستنير مع الفلسفات التي تتستر وراء الإيمان والدين, سواء بشكل صريح أو ضمني. وتدل الشواهد منذ أحقاب سحيقة على أن الأقلية من ملاك العبيد أصحاب المصالح الأنانية الضيقة, التي ظهرت بعد انقسام المجتمعات البدائية إلى طبقات, كانوا يلجئون إلى الكهنة ليس إيمانا بالآلهة الشائعة آنئذ, بقدر ما كان لاستغلال نفوذهم في تهدئة العبيد؛ ليتحملوا مزيدا من السخرة، وعدم الثورة ضد الظلم. ثم دخل بعض الفلاسفة كطرف في هذه اللعبة كما تشهد بذلك أقوال شيشرون الفيلسوف التوفيقي الروماني الذي ذهب إلى القول قبل مولد المسيح: "إن الإيمان بالآلهة أمر لا بد منه للعبيد". كان الشغل الشاغل لهؤلاء المسئولين, والفلاسفة هو الدفاع عن حكم الأقليات, وعن استغلالها للإنسان متسترين في ذلك بالدفاع عن الدين والإيمان. من الأمثلة الصريحة على هؤلاء المؤرخ ورجل الدولة الفرنسي تيير الذي عبر في شكواه عام 1848 عن مخاوف النظام الرأسمالي من انتشار الفلسفة, والآراء الاشتراكية, إذ يقول: "آه, لو كانت الأمور تسير كما كانت تسير في الماضي. فلو أن المدارس ظلت في أيدي القساوسة وخدم الكنيسة، لكان من الصعب أن أعارض في ترقية المدارس لأبناء الشعب. إنني أطالب بصراحة بشيء آخر غير أولئك

_ 1 Albert Camus, Le Mythe de Sisyphe, Paris 1942, P. 15. أورد النص الدكتور زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، القاهرة 1971، ص65.

المعلمين العلمانيين الذين أمقت أغلبهم. إنني أريد إخوانا مسيحيين رغم أنني أسأت الظن بهم من قبل, وأريد أيضا أن يسترد تأثير الكنيسة كامل سلطانه. إنني أطالب بأن يكون تأثير القسيس قويا؛ لأنني أعتمد عليه اعتمادا كبيرا في نشر هذه الفلسفة الطيبة, التي تعلم الإنسان أنه هنا في الدنيا ليشقى، لا تلك الفلسفة الأخرى التي تقول للإنسان عكس ذلك: تمتع.... لأنك في الحياة الدنيا لتصنع "سعادتك الصغيرة". وإذا لم تجدها في موقعك الحاضر, فاضرب الغني بلا خوف؛ لأن أنانيته هي التي تحرمك من هذا القسط من السعادة. إنك تستطيع أن تضمن رغد العيش لنفسك, ولكل من هم في نفس وضعك إذا انتزعت من الغني ما هو في غنى عنه"1. في عالمنا المعاصر، تتخذ الفلسفة البراجماتية السائدة في الولايات المتحدة موقفا أصرح. فرغم اعتبارها القضايا الميتافيزيقية غير ذات معنى, تبدي الاستعداد لقبول المعاني الميتافيزيقية دون بحثها عقليا إذا ترتبت على قبولها منفعة, أو فائدة عملية. لا تؤمن البراجماتية -على الأقل بالنسبة لوليام جيمس- بوجود الله من الناحية المبدئية, وإنما تعبر عن استعدادها للاعتراف بصدق العقيدة الدينية إذا أدت إلى فوائد نفعية في الحياة, أي: تعلق البراجماتية اعترافها على ظهور النتائج العملية للدين والتأكد مما تسميه بقيمته المنصرفة. يقول الفيلسوف البراجماتي ويليام جيمس: "أخشى أن تكون محاضراتي السابقة ... قد تركت لدى الكثير منكم انطباعا بأن البراجماتية تعني من الناحية المنهجية الابتعاد عما هو فوق البشر

_ 1 أورد النص جورج كونيو، المشكلة المدرسية عام 1848 وقانون فالو، ص186. استشهد به جورج بوليتزير، جي بيس، موريس كافين، المبادئ الأساسية للفلسفة، الجزء الأول، ترجمة وتعليق إسماعيل المهدوي، القاهرة مارس 1957، ص18، 19.

"الخالق". لقد أظهرت في الواقع احتراما قليلا إزاء المطلق ... ومن وجهة نظر المبادئ البراجماتية, فإنه إذا كان فرض وجود الله يلعب دورا مرضيا بأوسع معاني الكلمة, فإنه يكون فرضا صحيحا"1. تتجسد في الصهيونية صورة أخرى من صور الفلسفات المثالية التي لا تكتفي بالتستر خلف الدين والإيمان, وإنما سبقت البراجماتية المعاصرة في النظر إلى الدين من زاوية قيمته المنصرفة, أو مجرد دفعه وتسخيره في خدمة الأهداف التوسعية والعنصرية الصهيونية. ونستطرد هنا قليلا في مناقشة علاقة تلك الفلسفة المثالية بالدين؛ لعلاقة ذلك بمستقبل الصراع الدائر ضدها في الوطن العربي. تستغل الصهيونية مشاعر الإيمان؛ لاستثارة الحمية الدينية لتحقيق عدة أهداف. فبالنسبة ليهود الشتات "الدياسبورا" تسعى الصهيونية إلى دفعهم للهجرة إلى إسرائيل, أو على الأقل ضمان التمويل المنتظم والمتصاعد لميزانية التسليح والتوسع عن طريق مساهمتهم المالية. ثم هي تستغل مشاعر الإيمان أيضا لدى المسيحيين البروتستانت, وخاصة الأنجلوساكسون في بريطانيا والولايات المتحدة. وينطلق استثمار الجذور الدينية المشتركة من التحريفات التي لحقت بالعهد القديم كمصدر إلهام رئيسي لدى البروتستانت, وإيمان هؤلاء بأن إنشاء إسرائيل تحقيق لنبوءة مقدسة وإيذان بقرب عصر الخلاص وجمع شمل بني إسرائيل, ومن بينهم الأنجلوساكسون الذين ينحدرون -وفقا لبعض الخيالات الدينية- من سلالة الأسباط العشرة المفقودة منذ اجتياح الآشوريين لمملكة إسرائيل عام 721 قبل الميلاد. على صعيد العقيدة، تستثمر الصهيونية الدين اليهودي كبديل عند

_ 1 William James, Pragmatism "and four essays from the Meaning of Truth" Cleveland and New York 1963 "first ed. 1907" p. 192.

الضرورة للخرافات المثالية التي تروّج لتصورات غامضة عن الشخصية اليهودية, وتعتبر هذه الأخيرة من أعوص المشاكل وأقلها وضوحا بالنسبة للزعماء, والأفراد اليهود على حد سواء. لهذا يدعو المفكرون الصهيونيون إلى التشدد في مسألة الانتماء إلى الدين اليهودي بصفته العامل الوحيد المضمون, والواضح الذي يمكن التعويل عليه في ترويج ادعائهم بصدور وعد من الرب لبني إسرائيل, خاصة بمنحهم أرض الميعاد "صهيون". بعبارة أخرى، فإن ادعاء وجود حق تاريخي لليهود في فلسطين ستنكشف هويته الحقيقية كغزو, واستعمار استيطاني ما لم يغطي بذلك الستار الديني. تبدو "القيمة المنصرفة" للصهيونية أيضا من استغلال قيودها المتزمتة لمقاومة انتشار الحياة العلمانية في إسرائيل, ومحاولة احتواء التحولات الفكرية التي يتعرض لها الجيل اليهودي الشاب في بحثه عن شخصية قومية في ظل ظروف متغيرة. من جهة أخرى، هناك منفعة لتلك القيود المتزمتة خارج إسرائيل حيث تخشى الصهيونية من وصول عدوى العلمانية إلى يهود الشتات, مما قد يدفعهم إلى التهاون في التعليمات الحاخامية المتشددة التي ترفض الزواج المختلط, وبذلك يذوبون تدريجيا في مجتمعات الغرب حيث تشجع الحياة الأسهل نسبيا على الاستقرار هناك. فالقيود المتزمتة للدين هي التي تستطيع منع الاستيعاب الذي يعتبر كارثة من وجهة النظر الصهيونية؛ نظرا لتهديده لمفاهيمها المثالية عن النقاء العنصري لليهود, وخرافة إنشاء إسرائيل الكبرى. إلا أن ذلك الستار الديني الشفاف لا يستطيع إخفاء حقيقة أن نسبة عالية من يهود الشتات غير متدينين, كما يتناقض مع نتائج إحدى الدراسات الميدانية الهامة التي تثبت أن نصف عدد الإسرائيليين "46%" يطيعون التعاليم الدينية طاعة جزئية, أي: غير متدينين, طبقا للمعايير اليهودية. أما الدلالة الأخرى ذات المغزى, فهي ظاهرة الإلحاد وعدم الاكتراث الروحي الذي تكشفه كتابات عدد من كبار الزعماء والمفكرين الصهيونيين الذين لعبوا أدوارا هامة, ومعترفا بها في الحركة

الصهيونية. فهذا ياكوب كلاتزكين مثلا يذهب إلى حد القول بأن "الثورة اليهودية الحقيقية" لم تنتج عن تحرير اليهود سياسيا -والذي كان عاملا ثانويا- وإنما كانت نتيجة لفقد الإيمان1. يجمع بين هذه الفلسفات المثالية التي استشهدنا ببعضها صفة هامة, ألا وهي دفاعها غالبا عن نظم اقتصادية استغلالية. وليس المقصود بكلمة مثالية -كما سنوضح فيما بعد- مفهومها الأخلاقي بمعنى المثل الأعلى, أو الحث على التضحية والفداء أو القدوة الحسنة. إنما المقصود هو مفهومها الفلسفي الذي ورد في كتابات أفلاطون ومن جاءوا بعده, والمشتق من اصطلاح المثال الذي ابتكره أفلاطون وفسره بأنه الصورة الفكرية التي توجد على نمطها الأشياء المادية. لهذا فإنه لإخفاء المغزى الحقيقي لتلك الفلسفات تغطي حججها بستار من الروحانية الكاذبة والدفاع عن الإيمان, وهو ما يكذبه الواقع العملي للنظم السياسية التي دافعت عنها قديما, وحديثا. 3- نتناول في هذه النقطة الأخيرة من المقدمة الدور السياسي لمناهج البحث. من المعلوم أنه رغم استمرار الصراع الأيديولوجي بين المذاهب المختلفة، فإن الحقائق الجديدة التي فرضها التقدم التكنولوجي الضخم على العلاقات الدولية -وخاصة من حيث تعذر الحرب النووية- قد دفعت النظم السياسية إلى وضع ضوابط على سياسات القوة التقليدية؛ تفاديا لخروج أي صراع عن الحسابات المتفق عليها.

_ 1 محمد محمود ربيع، أزمة الفكر الصهيوني المعاصر، القاهرة 1971، ص33، 99، 100، 104، 105، انظر كذلك بحثنا: "موقع العقيدة من الفكر الصهيوني" دراسة تحت الطبع، كذلك الدكتور أسعد رزوق، الدولة والدين في إسرائيل، سلسلة دراسات فلسطينية، بيروت 1968، ص136، 137, كذلك: Arthur Hertzberg, ed., The Zionist ldea "A Historical Analysis and reader, New York 1966 "first publ. 1959", pp. 64, 65.

مهدت تلك التطورات لظهور مفاهيم جديدة عن التعايش بين النظم, تدرجت من تعايش إكراهي إلى تنافسي ثم إلى الانفراج. وبغض النظر عن النجاح الجزئي الذي حققته تلك السياسات, يظل البديل الوحيد للدمار النووي على الأرض هو سلام قائم على العدل حقيقة, وإلا تحول الانفراج إلى محافظة على السلام بأي ثمن, أو على حساب العالم الثالث. من ناحية أخرى، توافرت خلال السنوات القليلة الماضية مقومات مادية لتقارب طبيعي بين الشعوب عامة, وبعبارة أدق: بين الجنس البشري ككل؛ نذكر منها ثورة وسائل الاتصال, بحوث غزو الفضاء، السيطرة على الطاقة النووية وتسخيرها لخدمة الإنسان، تفاقم مشكلة التخلف وتهديدها للاستقرار العالمي، مشكلة حماية البيئة. إن نظرة موضوعية إلى خريطة الصراع الأيديولوجي في عالمنا اليوم، ستكشف حقيقة أن أيا من المذاهب أو العقائد السائدة لن يتمكن -بالطرق السلمية على الأقل, وخلال المستقبل المرئي- من فرض مفاهيمه وأساليبه في الحياة على شعوب الأرض كافة. وإذا وضعنا جانبا المقولات السطحية التي تنادي, أو تحلم بنزع السلاح الأيديولوجي وبانتهاء عصر الأيديولوجيات، فإننا نميل إلى الاعتقاد بوجود ترابط جدلي بين ثلاث ظواهر معاصرة, هي: استمرار الصراع الأيديولوجي، واستمرار التعايش المحكوم بميزان الرعب النووي, وازدياد التقارب بين شعوب الجنس البشري بفعل المقومات المادية المشار إليها. هي إذًا ظواهر متلازمة, وإن كانت غير متكافئة بفعل عوامل الشد والجذب بين القوى التي تفرز تلك الظواهر. ورغم استحالة وضع تصور دقيق لمستقبل الأيديولوجيات الراهنة، وذلك بسبب سرعة معدل التغير الذي أصبح سمة مميزة للعصر, وخاصة على صعيد المقومات المادية الخمسة التي ذكرناها، فإن هذه المقومات نفسها مع أنها تؤثر سلبا وإيجابا في تلك الأيديولوجيات, إلا أنها قد تؤدي في نهاية هذا القرن وربما في أوائل القرن

القادم إلى ظهور براعم مفهوم عالمي جديد1 لا يحل بالضرورة محل النظريات والمذاهب القائمة, وإنما يقلل من احتمالات الصدام بين نظم الحكم الممثلة لها من جانب، ويكون من جانب آخر أكثر تحديدا في تعبيره عن تلك المعطيات الجديدة. مثل هذا المفهوم الجديد لن يستطيع الانتشار, أو الاستمرار إذا تمخض عن مجرد محاولة توفيقية بين المذاهب السائدة, بمعنى أن الأمل معقود على ظاهرة التقارب التي ذكرناها والقوى المادية المتطورة التي تساندها في تنقية المناخ الأيديولوجي, بحيث لا تنتقل البشرية بأوزارها إلى القرن الحادي والعشرين, وإنما تتخلص من الفكر الهابط الذي تعبر عنه بعض الأيديولوجيات الليبرالية والعنصرية المتحالة اليوم, والتي تصنف الإنسان ليس طبقا لقدراته وإنجازاته, وإنما حسب لون بشرته ودينه وجذوره العرقية؛ وبالتالي تقف كعقبات كأداء في وجه تقارب الجنس البشري, وتمنع تحقيق الحرية والاشتراكية والسلام العادل. قد لا يكون التحالف الذي سيضطلع بتلك المهام الجسام قد تبلور بعد, وخاصة بسبب الدور المتنامي للطلائع المتقدمة من شعوب ودول العالم الثالث في إطار ذلك

_ 1 تقدمنا في خريف عام 1963 باقتراح استخدام اصطلاح جديد هو الوعي بالانتماء إلى كوكب الأرض all-Planet consciousness كأساس لهذا المفهوم الجديد, وذلك أثناء مناقشة الدراسة المقارنة الإقليمية والعالمية في الحلقة الدراسية السنوية لمركز دراسات العلاقات الدولية التابع لأكاديمية القانون الدولي في لاهاي. انظر بحثنا حول هذا الموضوع "بالإنجليزية" في مجلة مصر المعاصرة، القاهرة أكتوبر 1969. M. M. Rabie, "Regionalism and Universalism in Political Thought" in: L, Egypte Contemporaine, No. 338, Oct. 1969, p. 367. وحول مغزى ذلك في تنمية مشاعر الانتماء والتماسك بين أفراد الجنس البشري في مواجهة الأيديولوجيات العنصرية المعاصرة, انظر مؤلفنا: مشاكل الحكم في إفريقيا، بيروت 1974، ص10، 11.

التحالف، واحتمال انسلاخ قوى لها وزنها في غرب أوروبا من القلعة الإمبريالية، وعدم اتضاح مستقبل الخلاف بين الاتحاد السوفيتي, والصين الشعبية. إلا أن العين لا تستطيع أن تخطئ اتجاه مجرى التاريخ, وإن البشرية تسير بخطا ثابتة نحو تقليم أظفار العدوان الإمبريالي واستئناس ما تبقى من النظم الرأسمالية, واستئصال بؤر التعصب العنصري في إسرائيل وجنوب إفريقيا مما سيجعل من الممكن الانتقال إلى حضارة إنسانية أرقى, تقوي جانب الخير في البشر ومشاعر الانتماء إلى كوكب واحد في مواجهة كواكب وأجرام سماوية أخرى بدأ الإنسان يتطلع إليها في ذلك الكون الواسع لخير البشرية جمعاء. يستلزم كل ذلك كما ذكرنا في البداية عبور الفجوة التي تفصل بين التقدم العلمي والتكنولوجي الكبير, وبين الفوضى الفكرية ومحاولات التضليل التي تهدد كل تلك المنجزات, وإن كان هذا يحتاج -ضمن ما يحتاج- إلى الاستفادة القصوى من المكتشفات والعلوم الحديثة من أجل ابتكار, وتطوير مداخل ومناهج للبحث العلمي؛ لتقوم بدورها الهام في تحقيق مزيد من الوضوح الفكري, وترتيب الأولويات, وتحديد الأهداف. تنطلق دراستنا من الحقيقة المعروفة عن الارتباط الوثيق بين مناهج البحث, وكثير من العلوم الاجتماعية والطبيعية والرياضية, لكن على ضوء ما سبق، ونظرا للطبيعة المميزة للعلوم الاجتماعية بشكل عام, وللعلوم السياسية بشكل خاص من حيث تأثرها بقيم وأيديولوجيات ونظم اقتصادية وسياسية، فإن دراسة مناهجها تحتاج إلى إشارة ولو عابرة إلى الفلسفات والأساليب المنطقية التي تبادلت التأثير والتفاعل مع تلك المناهج، آخذين في الاعتبار أن الفلسفة والمنطق لم يتطورا في فراغ, وإنما عكسا مراحل التطور الثقافي والحضاري للمجتمعات البشرية. لهذا، وتوفيرا لفهم أعمق للمناهج والمداخل -موضوع البحث- سنتناول في الباب الأول بإيجاز أهم المدارس والتيارات الفلسفية, وفي الباب الثاني نعالج المفهوم الليبرالي لمداخل ومناهج البحث، ثم نتناول في الباب الثالث المفهوم الماركسي لمناهج البحث، وفي الباب الرابع نبحث العلاقة بين العلم والمنهج.

الباب الأول: نبذة عن أهم المدارس والتيارات الفلسفية وعلاقتها بمناهج البحث

الباب الأول: نبذة عن أهم المدارس والتيارات الفلسفية وعلاقتها بمناهج البحث الفصل الأول: مفهوم الفلسفة في العصور القديمة المبحث الأول: النشأة ... الباب الأول: نبذة عن أهم المدارس والتيارات الفلسفية وعلاقتها بمناهج البحث الفصل الأول: ما مفهوم الفلسفة في العصور القديمة؟ نتناول مفهوم الفلسفة في العصور القديمة من حيث النشأة, والتعريف, والموضوع. المبحث الأول: النشأة تعددت وجهات النظر حول نشأة الفلسفة كحقل هام من حقول المعرفة الإنسانية, كما اختلفت الآراء حول نشوئها, وهل كان ذلك بين شعوب الشرق القديم أم في الغرب لدى اليونان؟ والواقع أن مناقشة نشأة الفلسفة ذات أهمية كبيرة ليس من الناحية التاريخية كما قد يتبادر إلى الذهن, وإنما لأن مفهومها في العصور القديمة تأثر -طبقا لتفسير مؤرخي الحضارة والفلسفة- من حيث تضييق مجالها, ليقتصر على جوانب النشاط العقلي فقط, دون الروحي كما ستأتي الإشارة. عرفت الحضارات القديمة في الشرق الحكمة والعلوم الطبيعية والرياضية, وهو ما تشهد به آثارها وتراثها اللذان نهلت منهما الحضارات الأخرى في الغرب. وهناك اختلاف بين الفلاسفة اليونانيين أنفسهم حول تلك النشأة, فقد اعتقد أرسطو "384-322 ق. م" أن الفلسفة نشأت على يد اليونان, وأنها ترجع إلى طاليس الذي عاش في النصف الأول من القرن السادس ق. م. بينما نجد أن ديوجينس وضع كتابا في القرن الثالث قبل الميلاد ضمنه حياة ونظريات الفلاسفة المشهورين آنئذ, ومنهم فلاسفة من الشرق وبذلك أرجع نشأة الفلسفة إلى تراث الشرق القديم.

وتكاد تجمع آراء المؤرخين للحضارة والفلسفة والعلم من أمثال سانت هيلير, وديورانت, وسارتون على أن الشرق القديم قد سبق اليونان إلى ابتداع حضارات زاهرة ترتكز على علوم عملية ناضجة, ودراسات نظرية متقدمة, وخاصة في مجال الدين والعقائد. ففي العلوم العملية، أشاروا إلى سبق المصريين في ابتكار الرياضة والكيمياء والميكانيكا وإنشاء علم الطب والكتابة وتأليف الكتب. كما أشاروا إلى سبق البابليين والكلدانيين في مجال بناء المكتبات وفي مجال الفلك, إذ لاحظوا أجرام السماء وقالوا بوجود نظام كوني, فوضعوا تقويما دقيقا يقسم السنة إلى اثني عشر شهرا والشهر إلى أسابيع والأسبوع إلى أيام والأيام إلى ساعات, كما تنبئوا بظواهر الكسوف والخسوف، واهتدوا إلى تقسيم الدائرة إلى 360 درجة. في التفكير النظري الديني، أحرز الشرق قصب السبق على الغرب في النظر العقلي في موضوع الألوهية والبعث, والخير والشر, والمبدأ والمصير, وتوصلوا في كل ذلك إلى آراء تردد صداها فيما بعد لدى فلاسفة اليونان القدامى مثل طاليس الذي رد الموجودات إلى الماء, متأثرا في ذلك بالبابليين. ويرى الفيلسوف الإنجليزي المعاصر برتراند راسل "1872-1971" أن عشتار معبودة حضارات ما بين النهرين, والتي سموها ربة الأرض هي التي تأثر اليونانيون بعبادتها, وظهرت في تفكيرهم الديني باسم الإلهة ديانا، وهي نفسها في رأيه التي تداعت عبادتها فيما بعد لدى المسيحيين وسموها السيدة العذراء. كذلك فإن نظرية الجوهر الفرد Atomism عند الطبيعيين من اليونان، وتناسخ الأرواح عند الفيثاغورثيين، ما هما إلا ترديد للمعتقدات المعروفة لدى الهنود. بالمثل تعكس الفلسفتان الرواقية والأبيقورية تراث الشرق فيما ذهبتا إليه من التماس الخلاص, والسعادة عن طريق المعرفة. عرف الشرق أيضا أكثر من عقيدة. فمنذ ثلاثة وثلاثين قرنا توصل إخناتون في مصر القديمة إلى شكل من أشكال عقيدة التوحيد, رغم انتشار الوثنية في عهده.

وعرفت حضارات ما بين النهرين عقيدة القضاء والقدر باعتباره قدرا كونيا, واعتبروا السماء السقف الأعلى للعالم, وتحدثوا عن أسطورة الخليقة. في فارس توصلت الزرادشتية إلى الثنائية Dualism أي: الإيمان بإله للخير وإله للشر، بينما نجد أن الهنود اعتقدوا منذ أقدم العصور بحلول الله في مخلوقاته. هذا مع ملاحظة اتفاق المؤرخين على أن كبار الفلاسفة اليونان القدامى الذين تعزى إليهم الفلسفة، من أمثال طاليس وفيثاغورث وديمقريطس قد زاروا بلاد الشرق القديم, واستفادوا كثيرا من ثقافاته, ويضربون لذلك مثلا بفيثاغورث الذي أقام في المعابد المصرية اثنين وعشرين عاما على حد قول جامبليك1. رغم ذلك، يرى عدد من مؤرخي الفلسفة الغربيين، أنه رغم اعترافهم بسبق الشرق إلى ابتداع الحضارات وتأثر اليونان بتراث حكمائه, فإن الفلسفة اليونانية خلق عبقري أصيل. يبرر هؤلاء رأيهم بأن أهم ما يميز الفكر الفلسفي اليوناني هو التماس المعرفة لذاتها أي: سعي العقل إلى كشف الحقيقة بباعث من اللذة العقلية, وليس لإشباع أغراض عملية أو غايات دينية. لقد بحثوا في الوجود لمعرفة أصله ومصيره بدافع

_ 1 توفيق الطويل، أسس الفلسفة، الطبعة السادسة، القاهرة، 1976، ص34-38، وكذلك: E. mile Brehier, Histoire De La Philosophie (LaPhilo-sophie en Orient par Paul Masson Oursel) , 4t ed., Paris I957. (Ire ed. 1938) ,pp. 36, 37,59,60, 84fT; Bertrand Rus-sel, History of Western Philosophy (and its Connection with Political and Social Circumstances from the Earliest Times to the Present Day) , London 1948 (firstpubl. 1946) , pp. 23,24, 44; George Sarton, A History of Science (Ancient Science Through The Golden Age of Greece) , Cambridge, Massachusetts i959 (frist pubic. 1952) ,pp. 30,43,66, 76, 86.

من الرغبة المجردة في طلب المعرفة. على العكس من ذلك، فإن حكماء الشرق القديم في رأيهم يسعون إلى المعرفة كضرورة لسد حاجة عملية, أو إشباع عقيدة دينية. فالمصريون في رأي هؤلاء المؤرخين استخدموا الرياضيات في مسح الأرض وشق الترع, واستعانوا بالرياضيات والميكانيكا على إقامة الأهرامات لحفظ جثث الموتى؛ اعتقادا منهم في خلود النفس وحساب الآخرة. كما سخروا الكيمياء لاستخراج العطور والأصباغ والألوان لأغراض تسجيلية ودينية. أما اليونان فهم الذين أنشئوا في رأيهم هذه العلوم في صورتها النظرية الخالصة, فتجاوزوا مرحلة الأمثلة الفردية المحسوسة في الرياضيات إلى مرحلة التعاريف والبراهين, وبذلك توصلوا إلى القوانين والنظريات التي تستند إلى البرهان العقلي. ثم فسر المؤرخون سبق البابليين والكلدانيين في رصد الكواكب وإنشاء علم الفلك العملي بأنهم كانوا بدورهم مدفوعين بأغراض عملية كمعرفة فصول الزراعة, ومواسم التجارة. أما اليونان فهم الذين أقاموا علم الفلك النظري, ورصدوا الكواكب لمعرفة القوانين ووضع النظريات التي تعلل ظهورها, واختفاءها. كانت تلك إذًا هي العوامل التي تكمن خلف ازدهار العلوم التجريبية, ومناهجها من وجهة نظر مؤرخي الفلسفة الغربية الذين عزوا التفكير النظري المجرد أيضا إلى أسباب مشابهة. فحكماء الشرق القديم أرادوا بذلك التفكير إصلاح الدين والنجاة من الشرور بمعنى أن النظر العقلي بدوره كان وسيلة, وليس غاية في حد ذاته كما امتزج في مناهج بحثهم الاستدلال العقلي بالخيال والبداهة, واختلط في تفكيرهم الدين بالفلسفة، فهم لم يجردوا الفلسفة من الدين, ويعالجوا موضوعاتها لذاتها مما أدى في نظر هؤلاء المؤرخين إلى عجزهم عن وضع مذاهب تجمل الحقائق التي يتوصلون إليها بالبرهان العقلي. خلاصة رأيهم هي أن الشرق كان له فضل إنشاء الحضارات الإنسانية الأولى, بينما كان كل من العلم والفلسفة بمعناهما النظري من إبداع اليونان. يقول برتراند راسل في ذلك: إن اليونان وليس قدماء الشرقيين هم الذين أنشئوا

الرياضة, وابتدعوا العلم الطبيعي, وابتكروا الفلسفة رغم اعترافه بأنه ليس هناك أكثر مدعاة للدهشة أو صعوبة في التفسير من الصعود المفاجئ للحضارة اليونانية1. هكذا قالوا: إن اليونانيين أفادوا من تراث الشرق القديم في الفنون والعلوم العملية, فأعانهم ذلك على التفرغ للبحث النظري المجرد في حقيقة الموجودات وماهيتها بحثا قوامه التحليل المنطقي, والترابط العلي, والبرهان العقلي. سهل مهمتهم أيضا اعترافهم بنظام الرق, واعتقادهم بأن الأعمال اليدوية مخصصة للعبيد, وأن للسادة الأحرار حق التمتع بما أسموه الفراغ المفيد, الذي خصصوا جانبا منه لذلك البحث النظري المجرد. لا جدال في أن تضييق معنى ومجال الفلسفة حتى يمكن إرجاع نشأتها إلى حضارة معينة دون حضارات أخرى هو الذي حال دون إطلاقها على حكمة الشرق القديم, وإن كان ذلك يلقي ظلالا كثيفة من الشك على ادعائهم الموضوعية. ولو اتسع مدلول الفلسفة ليشمل كلا من الحياة العقلية, والروحية لأصبح واضحا أن الفلسفة نشأت بين شعوب الشرق القديم وهو ما ذهب إليه العالم الفرنسي المعاصر ماسون أورسيل الذي اختلف مع أولئك المؤرخين. يرى أورسيل أنه ليس ثمة اليوم إنسان يعتقد بأن اليونان والرومان وشعوب أوروبا في عصورها الوسطى والحديثة هم وحدهم أهل التفكير الفلسفي. ففي مناطق أخرى من العالم سطعت أنوار الفكر المجرد ولا يطعن في هذا أن الحياة العقلية عند الشرقيين كانت أوثق اتصالا بحياتهم الدينية منها بالتفكير الفلسفي الخالص, إذ امتزج التفكير الفلسفي بالتفكير الديني في شتى عصور الإنسانية حتى ليمكن القول

_ 1 B. Russel, History of Western Philosophy, op. cit. p. 21, cf. G. Sarton, A History Of Science, op, cit., pp. 125-128. كذلك توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص39، 40.

بأن كل محاولة تهدف إلى الفصل التام بينهما تنتهي لا محالة إلى العجز عن فهم كليهما، ويضيف إلى ذلك بأن البحث الفلسفي بوجه عام نشأ على أثر الإيمان بالدين. ويعلق الفيلسوف الفرنسي إميل برييه على ذلك في تقديمه لكتاب ماسون أورسيل فيقول: إن استبعاد تراث الشعوب الشرقية في المعرفة والفكر سيؤدي إلى عدم فهم الفلسفة, ويشبه هذا الوضع بمن يعجز عن تقييم نهاية لحن ما, بسبب فصله عن بدايته. ويدلل برييه على رأيه بتفجر الروح الشرقية عند الفلاسفة السابقين على سقراط وعند أفلاطون نفسه، وكذلك الجذور السامية لأفكار المدرسة الرواقية, والجواليني الذي نمت فيه الأفلاطونية المحدثة وغزو المذهب المانوي الإيراني الأصل، ثم يستخلص من ذلك أنه سيكون من السذاجة الظن بأن كل هذا يرجع إلى التقدم المنطقي, والحتمي للعبقرية اليونانية1.

_ 1 E. Brehier ct P. Masson-Oursel, Histoire De La Philo-sophie, op. cit., pp. 1, 2, Vl.

المبحث الثاني: التعريف

المبحث الثاني: التعريف لم يستعمل حكماء الشرق القديم لفظ فلسفة "فيليوسوفيا" وإنما ابتكره اليونان فيما بعد. وهذا الاصطلاح كما هو واضح مكون من كلمتين: فيليو أي: حب, وسوفيا بمعنى: الحكمة, أي: حب الحكمة1. تباينت الآراء حول من استعمله. فذهب البعض إلى أن تلاميذ سقراط -وخاصة أفلاطون وأرسطو- كانوا أول من استخدم هذا اللفظ, إذ قارن أفلاطون بين الفيلسوف والسوفسطائي، يتلمس الأول المعرفة لذاتها وينشد العلم لغيرما غاية أو منفعة, بينما يتنقل السوفسطائي من مكان إلى مكان؛ ليعلم الشباب مقابل أجر

_ 1 Dagobert D. Runes, ed., Dictionary of Philosophy, 15 th revised ed., Totowa, New J ersey 1965, p. 235.

يتقاضاه. اعتقد آخرون أن فيثاغورث "الذي توفي قبلهم عام 497 ق. م" هو أول من استخدم لفظ الفلسفة بمعنى البحث عن طبيعة الأشياء. ويميل الباحثون اليوم إلى اعتبار هيرودوت أول من استعمل الفعل يتفلسف بمعنى: طلب العلم, والتماس المعرفة دون غرض أو منفعة. تطور معنى الفلسفة في الفكر الإغريقي بتتابع المدارس الفكرية, وتغير الظروف السياسية. فقد نظر طاليس والطبيعيون الأوائل إلى الفلسفة على أنها تفسير الوجود, والوقوف على طبيعته, ووضع منهج عقلي يقوم على التعليل المنطقي والبرهان العقلي. بهذا سموهم حكماء أي: باحثين عن طبائع الأشياء وحقائق الموجودات, وبذلك صار تعريف الفلسفة بأنها البحث في طبيعة الموجودات. أما أرسطو فقد عرف الفلسفة بأنها البحث عن الوجود بما هو وجود بإطلاق أو هي البحث في طبائع الأشياء وحقائق الموجودات. وسماها الفلسفة الأولى تمييزا لها عن الفلسفة الثانية أي: العلم الطبيعي, وأطلق عليها كذلك الحكمة؛ لأنها تبحث في العلل الأولى إطلاقا, كما سماها بالعلم الإلهي؛ لأن أهم مباحثها هو الله "س" الموجود الأول, والعلة الأولى للوجود. وقد أطلق أرسطو اصطلاح فلسفة على العلم بأعم معانيه. فالعلم النظري يبحث في الطبيعيات والرياضيات والإلهيات, والعملي يتناول الأخلاق والسياسة بعللها الأولى, أو علم الوجود بما هو كذلك, مجردا من كل تحديد أو تعيين. كان العمل بالفلسفة آنئذ يعني بذل جهد عقلي للكشف عن حقيقة جديدة, أو نزوعا عقليا يدفع إليه الشعور بالجهل وتبعث عليه اللذة العقلية المجردة دون غاية عملية أو حاجة دينية، أي: إنها باختصار كانت تهدف إلى معرفة العلل البعيدة والمبادئ الأولى. وقد سمي هذا قديما بالعلم وظل ممتزجا بالفلسفة حتى مطلع العصر الحديث. انتهى العصر الهيليني بموت أرسطو عام 322 قبل الميلاد, وبدأ العصر الهيلينستي الذي تميز بالتحول عن التفكير في الوجود إلى البحث في سلوك الإنسان والتطلع

إلى السعادة الفردية. وقد عبرت عن تلك الاتجاهات الجديدة عدة مدارس, أشهرها الرواقية والأبيقورية والشكاك. جاء تعريف تلك المدارس للفلسفة متفقا مع تلك التحولات؛ فالمدرسة الرواقية عرفت الفلسفة بأنها فن الفضيلة ومحاولة اكتسابها في الحياة العملية، بينما فسرت الأبيقورية اصطلاح الفلسفة بأنها تسعى إلى حياة السعادة باستعمال العقل, إلى آخر تلك الآراء التي اتسمت بالربط بين الفكر, والحياة العملية. ثم غلبت الروح الصوفية على الفكر الفلسفي, وتجلى ذلك في مذهب الأفلاطونية المحدثة New Platonism التي كان من أشهر مفكريها فيلو الإسكندري الذي حاول التوفيق بين اليهودية والهيلينية, ثم أفلوطين "205-270" الذي نقل المذهب الأفلاطوني واستعان بالتصوف للاتصال بالله؛ فاختلط العلم بالميثولوجيا, واتسمت تلك الفترة في رأي المؤرخين بامتزاج فلسفة الغرب بروحانية الشرق أي: الجمع بين منطق العقل الغربي, وتصوف الشرق الديني.

المبحث الثالث: موضوع الفلسفة

المبحث الثالث: موضوع الفلسفة يشتمل المفهوم التقليدي لموضوع الفلسفة على ثلاث نقاط, أو نظريات هي: الوجود والمعرفة والقيم. مبحث الوجود Ontology: كان وولف هو أول من أدخله كمصطلح فلسفي مشتق من الكلمة اليونانية1 nO وهو ما أسماه القدماء ما بعد الطبيعة, أي: إن اصطلاح وجود مرادف للاصطلاح الذي استعمل فيما بعد وهو ميتافيزيقا.

_ 1 J. K. Feibleman in: Dictionary of Philosophy, op. cit., p. 219. توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص 87، 88, انظر كذلك جميل صليبا، المعجم الفلسفي، بيروت 1971، المجلد الثاني، ص560.

وبينما يهتم هذا المبحث بالنظر في طبيعة الوجود على الإطلاق, فإن العلوم الجزئية على العكس من ذلك تبحث في الوجود من بعض نواحيه؛ فمثلا تبحث العلوم الطبيعية في الوجود من حيث هو جسم متغير، وتبحث العلوم الرياضية في الوجود من حيث هو كم أو مقدار، أي: تركز تلك العلوم على ظواهر الوجود, في حين يهتم مبحث الوجود بالخصائص العامة للوجود، بمعنى: أنه يبحث في الموجود في ذاته, مستقلا عن أحواله وظواهره. وقد ظهرت مذاهب متعددة حاولت الرد على التساؤلات التي شغلت بال الإنسان منذ الأزل كالأحداث الكونية, وما إذا كانت تطرأ على أساس قانون ثابت أو تقع مصادفة، وفيما إذا كانت هذه الأحداث تظهر من تلقاء نفسها, أم تصدر عن علل ضرورية تجري وفق قوانين المادة والحركة، وما إذا كانت تلك الأحداث تهدف إلى غايات أم تجري عفوا دون قصد، وبالتالي ما إذا كان هناك إله وراء عالم الظواهر المتغير، وفي صفات الله "س" وعلاقته بمخلوقاته، وهل الوجود مادي صرف أم روحي خالص أم مزيج بينهما؟ مبحث المعرفة Epistemology: يعتبر فيريير هو أول من استعمل هذا المصطلح المشتق من الكلمة اليونانية1 episteme, وهي تعني إمكان العلم بالوجود أو العجز عن معرفته. فمثلا، هل في وسع الإنسان أن يدرك الحقائق ويطمئن إلى صدق إدراكه, وصحة معلوماته أم أن قدرته قاصرة عن معرفة الأشياء؟ وإذا كانت المعرفة البشرية ممكنة, فما هي حدودها؟ هل المعرفة البشرية احتمالية ترجيحية, أم أنها قادرة على تجاوز مرتبة الاحتمال إلى درجة اليقين؟ ما هي منابع هذه المعرفة وأدواتها؟ هل هو العقل أم الحس أم الحدس؟ ما هي

_ 1 J. K. Ferrier, lnstitutes of Metaphysics, 1854, cited by Ledger Wood, in: Dictionary of Philosophy op. cit., p. 94.

طبيعة هذه المعرفة وحقيقتها؟ وما هي علاقة الأشياء المدركة بالقوى التي تدركها؟ ويلاحظ أن المؤرخين يطلقون على مبحثي الوجود والمعرفة اصطلاح ميتافيزيقا أي: ما بعد الطبيعة. وبينما كانت الفلسفة عند القدماء تنصب أصلا على مباحث الوجود, فإنها عند المحدثين تبحث الوجود من خلال نظرية المعرفة, كما سنوضح فيما بعد. مبحث القيم Axiology: كان باول لابي هو أول من استخدم هذا المصطلح المشتق من الكلمة اليونانية1 axios وتبحث فلسفة القيم في المثل العليا, أو القيم المطلقة وهي: الحق والخير والجمال truth, goodncss, Beauty من حيث ذاتها لا باعتبارها وسائل لتحقيق غايات. فهل هذه القيم مجرد معانٍ في العقل تستخدم في تقييم الأشياء؟ أم أن لها وجودا مستقلا عن العقل الذي يدركها؟ تبحث في تلك القيم علوم المنطق والأخلاق والجمال بمعناها التقليدي أي: من حيث هي علوم معيارية normative تبحث فيما ينبغي أن يكون, وليست علوما وضعية تقصر دراستها على ما هو كائن. يتناول علم المنطق القواعد التي تعصم العقل من الزلل أي: يبحث فيما ينبغي أن يكون عليه التفكير السليم. ويضع علم الأخلاق المثل العليا التي ينبغي على الإنسان مراعاتها أي: يبحث فيما ينبغي أن تكون عليه تصرفات الإنسان. أما علم الجمال Aesthetics فيضع المستويات التي يقاس بها الشيء الجميل أي: يبحث فيما ينبغي أن يكون عليه الشيء الجميل. وتؤلف هذه العلوم المعيارية الثلاثة ما يسمى بالأكسيولوجي أو فلسفة القيم.

_ 1 Paul Lapie, Logique de la Volonte 1902, cited by E. S. Brightman, in: Dictionary of PhilosoPhy, op. cit. p. 32

تؤلف هذه المباحث الثلاثة: الوجود والمعرفة والقيم بمختلف فروعها الموضوع الرئيسي للفلسفة بمفهومها التقليدي, وإن كانت الفلسفات المعاصرة ترفض ذلك التصور كما سيأتي ذكره. هذا, وقد تأثرت مناهج البحث والتفكير قديما, وكذلك في العصر الوسيط بالظروف التي صاغت مفهوم الفلسفة نشأة وتعريفا وموضوعا, وخاصة من حيث الطابع العام وسيادة البحث النظري المجرد في حقيقة الموجودات وماهيتها. فأرسطو مثلا, وهو أحد قمم تلك المرحلة الحضارية, كانت دراسته لما بعد الطبيعة وللعلوم الطبيعية على السواء دراسة عقلية. لقد كان جل اهتمام أرسطو هو البحث عن الصفات العامة الجوهرية التي تشبه المعاني الرياضية في ثباتها. تلك المعاني وإن لم تكن منفصلة عن الأشياء, فهي وحدها التي تصلح لأن تكون موضوعا للعلم. فإذا أمكن التوصل إلى المعنى الكلي الذي يتميز به نوع من الأنواع, أمكن استنباط جميع المعاني الجزئية الأخرى منه بطريقة قياسية منطقية. هكذا, احتفظت كتابات أرسطو بطابع عقلي مثالي ظنت معه الأجيال التالية أنه وضع النظريات النهائية في الفلسفة والمنطق, كما ظل المنطق الشكلي "أي: الصوري" والذي توصل إليه نتيجة جهود سابقيه وخاصة سقراط وأفلاطون، ظل مهيمنا على مناهج البحث لدى مفكري العصور الوسطى أيضا الذين تطلعوا إلى أرسطو بصفته الفيلسوف الكامل الذي عرض العلم عرضا عقليا بحتا. اعتمد الفلاسفة اليونانيون إذًا, وكذلك فلاسفة العصر الوسيط على المنطق الصوري الذي كان يتلاءم مع مستوى التطور العلمي في تلك العصور, ووضع فلاسفة اليونان وخاصة أرسطو أسس المنهج الصوري الذي تمثل في عدد من القواعد الكلية التي يجب على المفكر مراعاتها في كل الظروف أثناء بحثه عن الحقيقة حتى يتجنب الزلل, هذه القواعد هي التي أطلق عليها اسم المنطق. ملاحظة أخيرة هي أن تلك القواعد الكلية, أو المنهج كان ملائما للمرحلة المبكرة من تطور البشرية وفجر العلوم, وهو وإن لم يكن كاذبا في ذاته, إلا أنه يؤدي إلى الخطأ إذا طبق في مراحل أخرى أكثر تطورا.

الفصل الثاني: مفهوم الفلسفة في العصر الوسيط

الفصل الثاني: مفهوم الفلسفة في العصر الوسيط المبحث الأول: مفهومها لدى فلاسفة الغرب المسيحيين, وفلاسفة العرب المسلمين 1- مفهوم الفلسفة لدى فلاسفة الغرب المسيحيين: استمر المفهوم اليوناني القديم للفلسفة كرغبة في التماس الحقيقة لذاتها لدى بعض مفكري العصور الوسطى, الذين فرقوا بين العلم الذي يهتدي إليه العقل بالنظر، وبين المعرفة التي ينزل بها الوحي الإلهي. وصار الطابع المميز للفلسفة آنئذ هو محاولة التوفيق بين العقل والدين الجديد1، وإثبات أن الحقائق الموحى بها من الله ليست إلا تعبيرا عن العقل. أثرت العلاقات بين الدولة والكنيسة على مفهوم الفلسفة في تلك المرحلة. ومن النظريات الهامة التي كانت سائدة, تلك التي وضعها البابا جلاسيوس الأول في أواخر القرن الخامس, والتي عرفت بنظرية السيفين أو السلطتين, وظلت تتمتع بالقبول خلال العصور الوسطى وخاصة بدايتها. فحوى هذه النظرية هو القول بوجود ازدواج في تنظيم الجماعة الإنسانية, فشئون الروح والخلاص الأبدي من اختصاصات الكنيسة ويقوم بها القسس، بينما تقوم الحكومة المدنية عن طريق موظفيها بتسيير الشئون الدنيوية كالمحافظة

_ 1 George H. Sabine, A History of Political Theory, OP. cit, PP. 194, 225-227, 247-249.

على السلام والنظام والعدالة. افترضت النظرية قيام علاقة تعاون بين السلطتين, وإن كان قد اكتنفها بعض الغموض حول حدود كل منهما. عبرت نظرية السيفين عن تعاليم عصر آباء الكنيسة الذي شغل حوالي خمسة قرون من العصر الوسيط. ويدور جوهر تلك التعاليم -كما أوضحنا- حول التمييز بين الشئون الروحية, والشئون الدنيوية أي: بين متطلبات كل من الروح والجسد. فالإرادة الإلهية هي التي قضت -وفقا لتلك النظرية- على المجتمع الإنساني بأن يخضع لسلطتين روحية وزمنية، يدير الأولى رجال الدين والثانية رجال الدنيا, على أن تخضع إدارة كل منهما للقانون السماوي والقانون الطبيعي. غير أنه لم يكن هناك في البداية فصل تام بين الكنيسة والدولة بالمعنى الحديث لهذين المصطلحين وإنما مجتمع مسيحي واحد بالصورة التي أشار إليها القديس أوجستين في كتابه مدينة الله. لهذا فإنه عندما شبَّ النزاع بين السلطتين اتسم في مراحله الأولى بكونه خلافا بين فئتين من الرسميين, لكل منهما سلطة أصلية تزعم أنها تعمل في حدودها. وقد تناول الصراع بينهما مجالات اختصاص متعددة مثل قسم الملك لليمين وتنصيب الحكام وخلعهم أحيانا، ثم مدى سلطة الحكام الزمنيين في تنصيب الأساقفة وكبار رجال الدين, ومحاكمة هؤلاء عند الإخلال بواجباتهم الروحية. تحتل كتابات توماس أكويناس "1225-1274" وهو راهب من الرهبان الدومينيكان, مركزا هاما من ذلك الصراع؛ نظرا لانحيازه إلى البابوية كما بحث في العلاقة بين الفلسفة والمسيحية. كانت الكنيسة الكاثوليكية تميل في البداية إلى تحريم مؤلفات أرسطو على أساس أنها بدعة, وقد وجدت تلك المؤلفات طريقها إلى أوروبا عن طريق المصادر العربية والمترجمين اليهود من الأندلس. وفعلا حرمت الكنيسة قراءة تلك المؤلفات في جامعة باريس عام 1210, ثم تراجعت تدريجيا عن ذلك وبدأت

الاستعانة بآراء أرسطو للدفاع عن المسيحية, إلى أن صارت حجر الزاوية في الفلسفة الرومانية الكاثوليكية. يرجع الفضل في ذلك التحول إلى توماس الأكويني, وغيره من الرهبان الفلاسفة الذين أقاموا الجسور بين فلسفة أرسطو وبين المسيحية. فقد ذهب توماس إلى أن كل المعرفة الإنسانية تكون وحدة كما يختص كل علم بموضوع معين, ولكن فوقها جميعا علم الفلسفة الذي اعتبره نظاما عقليا يسعى لوضع مبادئ عامة مستخلصة من جميع العلوم. أما علم اللاهوت المسيحي فيعلو على العقل, ويعتمد على الوحي الإلهي ومن ثم يحتل قمة هذا النظام. لكن رغم أن الوحي يعلو على العقل, فإنه لا يتعارض معه بأي حال, واللاهوت مكمل للنظام الذي يضع العلم والعقل بدايته, كما أن الإيمان أيضا متمم للعقل وهما مصدر العلم والمعرفة, ولا يمكن أن يتناقضا. وفي غمرة ذلك الصراع بين السلطتين وانشغال المفكرين بمدى أحقية كل منهما في الهيمنة على الأخرى, تخلف الفكر السياسي وتأخر نموه لافتقاره إلى منهج علمي نتيجة لازدهار اللاهوت والغيبيات, وهي مرحلة ستستمر حتى نهاية العصر الوسيط وبدء تقدم العلوم, وانبلاج فجر عصر النهضة ثم العصر الحديث.

مفهوم الفلسفة لدى فلاسفة العرب والمسلمين

2- مفهوم الفلسفة لدى فلاسفة العرب والمسلمين: تأثر بعض مفكري العرب والإسلام من أمثال: الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد بالفكر اليوناني القديم, وانعكس ذلك في كتاباتهم. لكن هل امتدَّ ذلك التأثير إلى الفكر الإسلامي بصفة عامة؟ وهل أثر في مفهومهم للفلسفة؟ ثم هل أدى التأثير اليوناني بهؤلاء المفكرين إلى اتباع منهج أرسطو في بحوثهم الطبيعية والاجتماعية؟ نحاول الإجابة على السؤال الأول في الأسطر التالية، ثم نجيب على السؤال الآخر في المبحث الثاني. وفي المبحث الثالث، نتناول منهج ابن خلدون1 بصفته أبرز عالم سياسة عربي, وذلك بهدف استقصاء مدى تأثره بالطابع التجريبي, والمعالجة الدقيقة الشاملة للماديات والروحانيات التي تميز بها منهج البحث الإسلامي. بالنسبة للسؤال الأول، نلاحظ أن الفلسفة اليونانية لم تكن الوحيدة التي أثرت في الفكر الإسلامي, وإنما تعرض أيضا لمؤثرات قوية من جانب الفلسفات الغنوصية القديمة التي عرفتها مدنيات الشرق, وكذلك من جانب التصوف الفلسفي. وفي إطار دراستنا لمناهج البحث سنقصر اهتمامنا على تأثير الفلسفة اليونانية؛ لارتباطها بمنهج أرسطو أساسا, مع مراعاة أن ذلك التأثير نفسه كان محدودا وقاصرا على مجموعة منتقاة من الفلاسفة العرب والمسلمين الذين ذكرنا أشهرهم في مستهل كلامنا. تردد إذًا صدى المفهوم اليوناني القديم للفلسفة في بعض اتجاهات الفكر العربي والإسلامي؛ فقد أطلق الكندي على بحوث ما بعد الطبيعة اصطلاح الفلسفة الأولى وعلم الربوبية، وعرف الفارابي الفلسفة بأنها العلم بالموجودات بما هي موجودة وفرّعها إلى حكمة إلهية وطبيعية ومنطقية ورياضية. وكان يرى أنه ليس بين موجودات العالم شيء إلا وللفلسفة فيه مدخل, وعليه عزي, ومنه علم بمقدار الطاقة البشرية. أما تلميذه ابن سينا فقد تعرض في رسائله التسع في الحكمة, والطبيعيات إلى تعريف الفلسفة بأنها استكمال النفس البشرية لمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه, على قدر الطاقة البشرية، أي: التماس العلم بطبيعة الموجودات بما هي كذلك عن طريق النظر العقلي.

_ 1 محمد محمود ربيع "منهج ابن خلدون في علم العمران" في: مجلة مصر المعاصرة، القاهرة، إبريل 1970، انظر دراسة مبكرة للموضوع في مؤلفنا: M. M. Rabie, The Political Theory of lbn Khaldun, Lyden, 1967, Ch. Two.

ثم فرع ابن سينا الفلسفة إلى حكمة نظرية وحكمة عملية, وقسم الحكمة النظرية إلى ثلاث: طبيعية تتعلق بما في الحركة والتغير بما هو كذلك, وحكمة رياضية تتعلق بما من شأنه أن يجرده الذهن من التغير وإن كان وجوده مخالطا للتغير، وحكمة تنصب على ما وجوده مستغنٍ عن مخالطة التغير. هذه هي الفلسفة الأولى أي: ما بعد الطبيعة, والفلسفة الإلهية جزء منها ويراد بها معرفة الربوبية, ومبادئ الحكمة النظرية بأقسامها الثلاثة مستفادة من أرباب الملة الإلهية على سبيل التنبيه، وإن كان تحصيلها بالكمال إنما يكون بالنظر العقلي على سبيل الحجة. بالمثل، قسَّم ابن سينا الحكمة العملية إلى ثلاث: مدنية تتناول ما ينبغي أن يكون عليه التعاون بين الناس على مصالح الأبدان وبقاء النوع الإنساني, وحكمة منزلية تتناول ما ينبغي أن يكون عليه التشارك بين أفراد المنزل لتنتظم به المصلحة المنزلية، وحكمة خلقية تهدف إلى معرفة الفضائل وكيفية اكتسابها والرذائل وكيفية تجنبها. هذه الحكمة العملية بأقسامها الثلاثة تستفاد من الشريعة الإلهية، وإن كانت قوانينها وتطبيقها على الجزئيات تعرف بالنظر العقلي. كما أن العلوم الحكمية في رأي ابن سينا لا تتغير بتغير الزمان والمكان, ولا تختلف باختلاف الأمم والأديان. في معرض المقارنة بين الاثنين، نجد أن الحكمة في رأي الفارابي هي معرفة الوجود الحق، والوجود الحق هو واجب الوجود بذاته. بينما ذهب ابن سينا إلى أن العلم الإلهي هو أشرف العلوم الفلسفية؛ لأنه الحكمة بالحقيقة والفلسفة الأولى والحكمة المطلقة. فهو العلم بأول الأمور في الوجود, وهو العلة الأولى وأول الأمور على العموم, وهو أيضا المعرفة بالله. وكما اعتبر بعض مؤرخي الغرب المعاصرين أن الفلسفة والعلم بمعناهما النظري هما من إبداع اليونان, مشككين بذلك في مدى إسهام الحضارات الشرقية القديمة في هذين المجالين, فإنهم بالمثل استندوا إلى التأثيرات اليونانية في بعض

اتجاهات الفكر العربي والإسلامي؛ ليشككوا أيضا, وبشكل غير موضوعي, في مدى أصالة الفلسفة الإسلامية. إن الرأي الغالب لدى مفكري الإسلام المعاصرين هو أن التأثير اليوناني كان قاصرا على مدرسة الفارابي التي اعتبروها امتدادا للفلسفة اليونانية باللغة العربية. وقد ذهبوا أيضا إلى القول بأن ذلك التأثير لم يمتد إلى الفكر الفلسفي الإسلامي بصفة عامة, الذي تتمثل بدايته الحقيقية في نظرهم في كتابات المتكلمين والفقهاء, وخاصة الإمام الشافعي, يضاف إلى هذا أن مفهوم هؤلاء للفلسفة اختلف عن مفهوم اليونان, وخاصة في الميتافيزيقا1. فمن جهة، يعتبر الإسلام أن العقل البشري عاجز عن إدراك "الشيء في ذاته" أو "الماهية". وقد حدد القرآن الكريم موضوعات ما بعد الطبيعة تحديدا تاما, ونهى عن الخوض فيما خلفها على أساس أنها من "المسائل التوقيفية" التي لم يشأ الوحي أن يكشف عنها حتى للرسول نفسه. يستطيع الإنسان أن يبحث في الكون وآفاقه, ولكن حرم عليه البحث في "الجوهر" إذ إنه لن يستطيع الوصول إلى حقيقته, أي: للإنسان أن يبحث فقط عن "الخصائص" ولكن ليس عن "الماهية". من جهة أخرى، هاجم الفقهاء المسلمون الفلسفة اليونانية بصفتها تصويرا خاصا ذاتيا للكون. فالميتافيزيقا نتاج العبقرية الذاتية في تأملها للوجود ومحاولة التوصل إلى ما يقوم عليه من علل ومبادئ, بينما الإسلام دين اجتماعي ينكر التوحد. أنزل القرآن للمسلمين "ميتافيزيقاهم" وحدد لهم الغيبيات وآفاق العقل الإنساني في جني المعرفة كما أسلفنا, وبالتالي حرم عليهم الخوض في علل الوجود. فهم لم ينشغلوا كما فعل اليونان بالجوهر أو الماهية أو الكنه، وإنما تحولوا إلى ما دعا إليه الدين الجديد من دراسة الحياة الإنسانية ومتطلباتها, وقياس جزئياتها بنظر عقلي في أحكام العبادات مع الاعتماد على الملاحظة والتجريب.

_ 1 مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، القاهرة 1944، علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، الطبعة السادسة، القاهرة 1975، الجزء الأول، ص54-57.

وليس هناك من شك في أن التحديات الداخلية, والخارجية التي تعرض لها المجتمع الإسلامي كان لها هي الأخرى تأثير كبير في نشأة التفكير الفلسفي الإسلامي وصياغة مفاهيمه. فمثلا, لا يمكن استبعاد الآثار البعيدة المدى الناجمة عن انتقال العرب من حياة البداوة إلى حياة الحضارة على حد قول العلامة عبد الرحمن بن خلدون. كذلك لا بد أن نأخذ بنظر الاعتبار الأحداث السياسية والاجتماعية السابقة على الفتنة الكبرى واللاحقة لها, وخاصة ظهور الفرق الإسلامية. أما التحديات الخارجية فقد ترتبت -في جانب منها- على محاولة تلك الفرق التصدي لآراء وحجج علماء العقائد الأخرى السائدة آنئذ كاليهودية, والمسيحية, والفلسفة اليونانية, وبقايا المذاهب الغنوصية القديمة في الشرق1.

_ 1 المرجع السابق، ص59-61.

المبحث الثاني: منهج البحث الإسلامي

المبحث الثاني: منهج البحث الإسلامي ... وليس هناك من شك في أن التحديات الداخلية, والخارجية التي تعرض لها المجتمع الإسلامي كان لها هي الأخرى تأثير كبير في نشأة التفكير الفلسفي الإسلامي وصياغة مفاهيمه. فمثلا, لا يمكن استبعاد الآثار البعيدة المدى الناجمة عن انتقال العرب من حياة البداوة إلى حياة الحضارة على حد قول العلامة عبد الرحمن بن خلدون. كذلك لا بد أن نأخذ بنظر الاعتبار الأحداث السياسية والاجتماعية السابقة على الفتنة الكبرى واللاحقة لها, وخاصة ظهور الفرق الإسلامية. أما التحديات الخارجية فقد ترتبت -في جانب منها- على محاولة تلك الفرق التصدي لآراء وحجج علماء العقائد الأخرى السائدة آنئذ كاليهودية, والمسيحية, والفلسفة اليونانية, وبقايا المذاهب الغنوصية القديمة في الشرق1.

_ 1 المرجع السابق، ص59-61.

كمبدعين في مجال ابتكار المنهج العلمي الذي استفادت منه أوروبا ابتداء من عصر النهضة. لتوضيح ذلك نقول: إن المنهج القديم الذي ارتبط باسم أرسطو, كان قائما على الاستنباط المستمد من القياس المنطقي, والحكم الذهني حيث كان الباحث يستخرج النتائج من مقدماتها القائمة. فالعلم لدى اليونان يبدأ بالكل, أما الجزئي فليس علما. وقد رفض أغلبية مفكري الإسلام ذلك المنهج, وتحولوا إلى منهج جديد يقوم على الاستقراء أي: الاعتماد على الممارسة العملية والتجربة. وخلافا للفكر اليوناني سعى هؤلاء للتوصل إلى الحقيقة بالانتقال من الجزئي للوصول إلى الكلي, مع كشف الروابط بين الأشياء. كانت هناك دوافع قوية متعددة لدى المفكرين المسلمين لنبذ منطق أرسطو ومنهجه, وهو ما اتضح في كتابات علماء أصول الفقه وعلماء أصول الدين "المتكلمين" والفقهاء. فالإمام الشافعي مثلا وهو واضع أسس علم أصول الفقه انتقد منطق أرسطو؛ لأنه يقوم على خصائص اللغة اليونانية التي تختلف عن اللغة العربية, مما أدى إلى حدوث تناقضات عند تطبيقه على البحوث الإسلامية. وقد أيد علماء اللغة والفقهاء فكرة ارتباط المنطق الأرسططاليسي باللغة اليونانية وخصائصها, ومخالفته للمنطق الإسلامي. نبذ علماء أصول الدين "المتكلمون" ذلك المنطق أيضا انطلاقا من رفضهم للميتافيزيقا الأرسططاليسية التي تتعارض مع إلهيات المسلمين. وحيث إن ذلك المنطق وثيق الصلة بتلك الميتافيزيقا وترتبط أصوله بأصولها كان لا بد لهم من نبذه. وأخيرا رفضه الفقهاء بدورهم على لسان ابن تيمية أشهر ممثليهم, الذي انتقده لعدة أسباب أهمها: قصوره عن مسايرة اتجاه الإسلام لتلبية الحاجات الإنسانية المتغيرة بينما قواعده كلية وثابتة، كذلك بسبب عدم اشتغال الصحابة والأئمة بهذا المنطق مع توصلهم إلى نواحي العلم, وبالتالي الخوف من الخروج على ذلك التقليد.

ويدلل أحد مفكري الإسلام المعاصرين1 على أن هذه الأسباب على وجاهتها ليست الوحيدة لنبذ علماء المسلمين للمنطق الأرسطي؛ لأنها -على أي حال- لا تعدو كونها الجوانب السلبية التي اكتشفوها فيه فاستندوا إليها في هدمه. أما العلة الحقيقية لتركهم إياه فتتجلى في رأيه في الجانب الإنشائي لنقدهم الذي تمثل في المنهج التجريبي أو الاستقرائي السابق الإشارة إليه أي: الذي يقوم على التجربة وتنظمه قوانين الاستقراء. مثل هذا المنهج التجريبي هو المعبر عن روح الإسلام ليس كمذهب وجودي أو فلسفي, وإنما كوضع من أوضاع الحياة العملية التي تنكر النظر, والفكر المجردين. من هذا يتضح خطأ من ظنوا أن مفكري المسلمين عامة اعتمدوا على منطق أرسطو. فمن المعلوم أن هذا الأخير كان يقوم على المنهج القياسي المعبر عن روح الحضارة اليونانية التي تستند إلى النظر الفلسفي والفكري, والتي لم تعترف بالتجربة, وهي بذلك تختلف عن روح الحضارة الإسلامية. ويمكن القول: إن توصل مفكري الإسلام إلى منهج الاستقراء جاء نتيجة معاناة وتجربة, اكتشفوا على أثرهما -وبشكل علمي- عقم المنهج اليوناني القائم على القياس الصوري "أي: الشكلي". لقد كان هذا القياس -كما ذكرنا- قرين مرحلة مبكرة من التطور البشري, وبالتالي كان محدود الفائدة فيما أعقب ذلك من عصور؛ إذ كان يبدأ بمقدمات عامة, وينتهي إلى نتائج جزئية. كان هدفه إذًا إقامة البرهان على حقيقة معلومة وليس الكشف عن حقيقة جديدة. وتجدر الإشارة إلى أن كلا من الطرفين استخدم كلمة قياس بأسلوب مغاير؛ فالقياس لدى أرسطو يشير إلى حركة فكرية ينتقل فيها العقل من حكم كلي إلى أحكام جزئية, أو من حكم عام إلى حكم خاص بواسطة الحد الثالث, على

_ 1 علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام "ونقد المسلمين للمنطق الأرسططاليسي"، القاهرة 1947، ص240، 241، 243.

العكس من ذلك, ينتقل قياس المسلمين من حالة جزئية إلى حالة جزئية أخرى؛ لوجود جامع بينهما. هناك احتمال حدوث لبس آخر بين القياس الأصولي "أي: القياس في رأي علماء أصول الفقه" وبين التمثيل الأرسططاليسي "وهو الطريق الاستدلالي الثالث في منطق أرسطو". أما مبعث اللبس فقد يحدث من أنهما يبدوان وكأنهما من طبيعة واحدة حيث ينتقل الفكر من جزئي إلى جزئي. وفي الواقع، هناك اختلاف كبير بين هذين الأسلوبين في القياس يتبين من النقطتين التاليتين: - اعتبر المتكلمون وكثير من الأصوليين -قبل عصر الغزالي- القياس الأصولي, أو قياس الغائب على الشاهد موصلا إلى اليقين1، بينما التمثيل الأرسطي يوصل إلى الظن فقط. - أرجع الأصوليون القياس إلى نوع من الاستقراء العلمي القائم على فكرتين, أو قانونين هما: أ- قانون العلية أي: إن لكل معلول علة, بمعنى "أن الحكم ثبت في الأصل لعلة كذا"2. فحكم التحريم في الخمر معلول بالإسكار. ب- قانون الاطراد في وقوع الأحداث أي: إن العلة الواردة إذا وجدت تحت ظروف مشابهة؛ أنتجت معلولا متشابها "أي القطع بأن العلة "علة الأصل" موجودة في الفرع" فإذا وجدت أنتجت نفس المعلول. فإذا كان الإسكار في الخمر يؤدي إلى التحريم، ثم وجدنا الإسكار

_ 1 السيوطي، المواقف، الجزء الثاني، ص22. أشار إليه الدكتور علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، مرجع سابق، ص84، 85. 2 الزركشي، البحر المحيط، الجزء الخامس، ص125. أشار إليه الدكتور علي سامي النشار، نفس المرجع السابق، ص85.

في أي شراب آخر, جزمنا بوجود التحريم فيه1. هناك إذًا نظام في الأشياء, واطراد في وقوع الأحداث. أقام المسلمون القياس الأصولي على القانونين اللذين أقام عليهما جون ستيوارت ميل استقراءه العلي العلمي في القرن التاسع عشر، فإذا كان الاستقراء يستطيع أن يصل إلى العلاقات الثابتة الكلية؛ فذلك لأنه يستند إلى أن حوادث الطبيعة متناسقة أو مطردة. والاستقراء عند ميل هو أن تستنتج من عدة حالات معينة لظاهرة من الظواهر أن هذه الظاهرة تحدث في كل حالة تشبه هذه الحالة, أو الحالات المعينة في ناحية من النواحي. فهو يقوم على الجزم بوجود النظام في العالم, ويعبر عن هذا بأن "هناك أشياء في الطبيعة إذا ما حدثت مرة, فلا بد من أن تحدث ثانية إذا ما تحققت لها درجة كافية من المشابهة في الظواهر"2. يتبين من هذا أن الرأي المتقدم الذي عبر عنه المسلمون -قبل ميل- من إقامة الاستقراء على قانوني التعليل والاطراد في وقوع الأحداث، ثم استناد قياسهم الأصولي على هذين القانونين يجعله مناقضا للتمثيل الأرسطي، ومن ثَمَّ مناقضا للمنطق الأرسطي نفسه. تزخر كتابات مفكري الإسلام في العلوم الطبيعية والاجتماعية بأدلة عديدة على تقدم منهج البحث الإسلامي. ففي مجال العلوم الطبيعية والرياضية شرح الحسن بن الهيثم مفهومه للاستقراء في رسالته عن الضوء بقوله: "ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات, وتمييز خواصّ الجزئيات"3.

_ 1 نفس المرجع السابق. 2 علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، مرجع سابق، ص86. 3 جلال محمد موسى, منهج البحث العلمي عند العرب "في مجال العلوم الطبيعية والكونية"، بيروت 1972، ص272، 275.

واهتم جابر بن حيان في بحوثه الكيميائية العديدة "في رسائله ومصنفاته" بمبدأ قياس الغائب على الشاهد. فهو يحاول استخراج علة الشيء ثم البحث عنه فيما يشبهه من الأشياء المجهولة, حتى إذا استيقن من اشتراك المعلوم والمجهول في علة واحدة، قاس الثاني على الأول في حكمه المنبثق من تأثير تلك العلة، مع بناء قياسه على قانوني العلية والتناسق والنظام في الكون. وقد أولى ابن حيان أهمية فائقة للتجربة العلمية, وفي هذا يقول: "إن واجب المشتغل في الطبيعيات والكيمياء هو العمل وإجراء التجارب، وإن المعرفة الحقيقية لا تحصل إلا بها"1. وفي مجال الطب، أبدع أبو بكر الرازي، وابن سينا "في مؤلفيهما: الحاوي في الطب، والقانون في الطب" في وصف, وتشخيص الأمراض مع بيان الروابط بين العلل المتشابهة عن طريق التفسير الناتج من المشاهدة الفعلية التي يتبعها وضع فرض يتحقق منه الطبيب عن طريق التجربة. مثال ذلك: القرد الذي سقاه الرازي زئبقا ليتحقق من صحة فروضه عن خواص الزئبق العلاجية. ولا يزال العلماء يجرون تجاربهم حتى اليوم على القردة قبل تعميم استعمال الدواء للإنسان. وفي مجال الصيدلة، توصل ابن سينا "في القانون" إلى معرفة قوى الأدوية بطريقتين هما: التجربة والقياس مع تقديم التجربة لاختبار تلك الأدوية ومعرفة قوتها من حيث الطعم والرائحة واللون وسرعة الاستجابة, وقد وضع ابن سينا لذلك شروطا سبعة تتضح أهميتها من أن جون ستيوارت ميل لجأ إلى مثيلاتها "في القرن التاسع عشر" للتحقق من صحة الفروض, وهي القواعد الثلاث التي وضعها ميل للتحقق من الفروض, وهي قواعد: الاتفاق والاختلاف والتغير النسبي2.

_ 1 المرجع السابق، ص182, 183, 274، 275. 2 المرجع السابق، ص186، 287، 276.

لم يكن كل هذا يعني الاقتصار على التجربة على حساب العقل, وإنما اهتم منهج البحث الإسلامي بأية أداة يمكن أن توصل إلى المعرفة الحقة مع تحري العدل والبعد عن الهوى. ونظرا للمكانة الخاصة التي يحتلها العقل في المفهوم الإسلامي, أحاطه العلماء بضمانات حتى لا يأخذ كل شيء على عواهنه, وقد برز في هذا المجال الفيلسوف العربي الغزالي الذي سبق الفيلسوف الفرنسي ديكارت في اعتماد الشك كوسيلة للتوصل إلى الحقيقة. يقول الغزالي: "فمن لم يشكّ لم ينظر, ومن لم ينظر لم يبصر, ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال"1. أما في مجال العلوم الاجتماعية, فتكفي الإشارة إلى إنجازات ابن حزم والغزالي وابن تيمية والبيروني وابن خلدون. وسندرس في المبحث الثالث منهج ابن خلدون كمثال على تأثر مفكري العلوم الاجتماعية المسلمين بمنهج البحث الإسلامي، وإن كان ابن خلدون قد أثرى ذلك المنهج وخاصة في اكتشافه للعلاقة الديناميكية بين الأسباب والنتائج عند ملاحظته للصراع بين القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ونظرا للمغزى الهام الذي تمثله كتاباته في المقدمة بالنسبة لمناهج البحث في السياسة -وهي موضوع دراستنا- خصصنا له ذلك المبحث المستقل. وأخيرا يمكن القول بأن منهج البحث الإسلامي لم يهتم فقط بالتركيز على بعض الخطوات المنهجية الرئيسية مثل: جمع المعلومات الحسية لمشاهدتها تمهيدا لدراستها، واعتماد الشك كأسلوب يوصل إلى اليقين، والحكم القائم على الدليل والبرهان, وإنما تعدى ذلك إلى إرساء قواعد ما يمكن أن يسمى بآداب البحث العلمي التي تعد مكملة لنظرة الإسلام الشاملة لمتطلبات الإنسان المادية

_ 1 أنور الجندي، مقدمات المناهج "العودة إلى منابع الفكر الإسلامي الأصيل"، القاهرة 1977، ص8.

والروحية والأخلاقية1. وآداب البحث العلمي كما استنبطها مفكرو الإسلام هي: - عدم إصدار أحكام جازمة قبل التروي. - امتناع الباحث عن إصدار أحكام إلا في حدود اختصاصه. - عدم المكابرة. - قول الحق والدعوة إليه والدفاع عنه. هذا, وقد حظي منهج البحث الإسلامي ببعض الأصوات الموضوعية القليلة في أوروبا, والتي اعترفت بفضله على تقدم الدراسات العلمية والمنهجية فيها. من ذلك قول بعض العلماء: "لم يكن روجر بيكون في الحقيقة إلا واحدًا من رسل العلم، والمنهج الإسلامي إلى أوروبا المسيحية. ولم يكف بيكون عن القول لمعاصريه بأن معرفة العرب وعلمهم هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة" ... "إن ما ندعوه بالعلم ظهر في أوروبا كنتيجة لروح جديدة في البحث, ولطرق جديدة في الاستقصاء طريق التجربة والملاحظة والقياس, ولتطور الرياضيات في صورة لم يعرفها اليونان. وهذه الروح وتلك المناهج أدخلها العرب إلى العالم الأوروبي"2.

_ 1 سيد أبو المجد، "الملكات العقلية في القرآن الكريم"، محاضرات الموسم الثقافي الثاني لجامعة الأزهر، نوفمبر 1959، ص10. استشهد به الدكتور فاضل زكي محمد، الفكر السياسي العربي الإسلامي، بغداد 1976، ص140. 2 Briffault, Making of Hunanity, pp. 190, 202, أشار إليه الدكتور علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام, مرجع سابق، ص244، 245.

المبحث الثالث: منهج ابن خلدون

المبحث الثالث: منهج ابن خلدون مدخل ... المبحث الثالث: منهج ابن خلدون 1 يعتبر منهج ابن خلدون2 ظاهرة جديرة بالاهتمام بين المناهج العلمية لكبار المفكرين الذين عرفتهم البشرية ابتداء من أرسطو حتى ديكارت. ولا تخلو دراسة المنهج الخلدوني من الصعوبة, فمن ناحية تناول كثير من العلماء المحدثين منذ بداية القرن التاسع عشر فكره ومنهجه بالبحث والتحليل, وتوصلوا إلى آراء ونتائج متناقضة. ومن ناحية أخرى, فإن ابن خلدون نفسه كان تحت تأثيرات متباينة بسبب دراسته المبكرة3 في صباه والتي جمعت بين العلوم الدينية والرياضيات والفلسفة والمنطق, علاوة على الخبرة الواسعة التي اكتسبها في المهن المتعددة التي مارسها والدول الكثيرة التي عاش بها. ونستطيع أن نلمس باستعراض سريع لآراء العلماء في ابن خلدون الاختلافات الجذرية في النتائج التي توصلوا إليها. فعالم الاجتماع الأمريكي الأستاذ بيتريم سوروكين يرى أنه مفكر مثالي، وزميله الدكتور هاري بارنز يضعه مع المفكرين الذين يسلمون بدور المتناقضات في العلاقات الاجتماعية. ويلفت الأستاذ جاستون بوتول عالم الاجتماع الفرنسي النظر إلى أسلوب المعالجة المادية الذي لجأ إليه ابن خلدون, الذي يعتبره ظاهرة فريدة بين علماء العرب. ويرى المستشرق الإيطالي الأستاذ فرانسسكو جابرييلي أن اعتراف ابن خلدون بالقيم الروحية والاجتماعية للدين يصحح الجانب المادي في نظريته عن العصبية. أما المؤرخ البريطاني الأستاذ أرنولد توينبي, وعالم الاجتماع الألماني الأستاذ ناتانيل شميت فيثنيان عليه لأسلوبه الجديد في كتابه التاريخ والدراسات الاجتماعية، وقد تناول بعض العلماء العرب نفس

_ 1 سبق أن نشرنا هذا المنهج كاملا في مؤلفنا: النظرية السياسية لابن خلدون "باللغة الإنجليزية" وسنشير إلى ذلك بالتفصيل في الصفحات التالية. 2 ولد بتونس عام 732هـ-1332م, ومات بالقاهرة عام 808هـ-1406م. وتعتبر "المقدمة" لكتابه المسمى بالعبر أهم وأخلد آثاره العلمية. ورغم طولها وأصالة ما ورد بها في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع فقد ألفها في 5 شهور فقط. 3 محمد بن تاويت الطنجي "التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا" القاهرة 1951.

الموضوع بالتعليق, نذكر منهم على سبيل المثال الدكتور علي عبد الواحد وافي الذي يرى في ابن خلدون عالما تجريبيا, بينما يؤكد الدكتور حسن الساعاتي فضل عاملي الشك والموضوعية على منهجه. وقبل تحليل منهج ابن خلدون نتعرض بإيجاز للمحاولات السابقة وللدراسات التي تناولت المقدمة من زوايا متعددة: سياسية وتاريخية واجتماعية وفلسفية ومنطقية. ويمكن تمييز أربعة اتجاهات رئيسية في هذا الشأن ظهر أولها في الكتابات المبكرة لكل من الدكتور كامل عياد وأروين روزنتال. ويعيب هذه المحاولة أنها غالت في تقدير الجانب العلماني في منهجه. فكامل عياد مثلا كان يرى أن موقف ابن خلدون من إنكار ضرورة النبوة كشرط لقيام العمران البشري "موجه ضد الفقهاء المسلمين الذين يقولون باستحالة حياة البشر دون هداية النبوة"1. ويصف موقفه من الدين بشكل عام بأنه يراه "مجرد ظاهرة حضارية لها وزنها, وعامل اجتماعي نفسي هام على مدار التاريخ". بل يذهب أبعد من ذلك في قوله: إن ابن خلدون كان يحاول "إخضاع الدين لنظرياته العلمية"2. وبالمثل نجد موقف أروين روزنتال الذي اعتبر رأي ابن خلدون الذي يقول فيه بإمكان تأسيس الملك والمحافظة عليه دون شرع سماوي "كدليل على فكره المستقل المتحرر من أي قيد ديني"3. أما الاتجاه الثاني والذي يمثله المستشرق الأمريكي الأستاذ هاملتون جب فقد حاول التقليل من جدة, وأصالة المنهج الخلدوني. ورغم أنه كان على حق

_ 1 Kamil Ayyad, Die Geschichts und Gesellschaftslehrc (u) Ibn Halduns,Forschungen z. geschichts-u.Gesellschatfsehre, Hrsg. von Kurt breysig, 2. Heit. Stuttgart und Berlin 1930, P. 114. 2 Ibid., pp. 51-53. 173. 3 Erwin Rosenthaljbn Kkhalduns GedankenUber den (20) Staatj. Ein Beitrag. zur geschichte der Mittelalterlichen Staatslehre, Historische Zeitshrift, Beiheft 25, Munich and Berlin 1932, P.I2.

في تبيان أن نظريته السياسية تجد جذورها العميقة في تعاليم الإسلام, إلا أنه أخطأ في افتراضه بأن "المبادئ التي بنى عليها ابن خلدون دراسته هي نفس مبادئ سابقيه من فقهاء السنة والفلاسفة الاجتماعيين". وإثباتًا لافتراضه اقتبس جب بعض فقرات من كتابات ابن تيمية حول ضرورة الاجتماع الإنساني, وعلق عليها بقوله: إن ابن خلدون لم يفعل أكثر من إعادة ترديد تلك الآراء بإسهاب, وبقدر أكبر من الدقة بواسطة استعمال نظريته في العصبية. ثم ادعى جب أن الموجة التشاؤمية في كتاباته, والتي كثيرا ما يشير إليها بعض الكتاب "ذات أساس أخلاقي وديني وليس اجتماعيا"1 وسنرى فيما بعد من خلال دراستنا لمنهج ابن خلدون كيف أدت هذه التعميمات المخلة إلى عدم إدراك الاختلاف الكبير بينه, وبين غيره من المفكرين بصفة عامة, والفقهاء المسلمين بصفة خاصة. ومن أبرز ممثلي الاتجاه الثالث الدكتور محسن مهدي, الذي اعتقد خطأ أن ابن خلدون سار على نهج القدماء -أي: الإغريق- وتابعيهم من فلاسفة الإسلام وخاصة ابن رشد. كما رأى فيه المفكر الوحيد الذي "حاول وضع علم للمجتمع في إطار الفلسفة التقليدية وعلى أساس مبادئها" ويتجلى الخطأ في قوله: إن ابن خلدون لم يفكر -أثناء وضعه العلم الجديد- في "إدخال تغييرات كبيرة على المبادئ الموضوعة للبحث العلمي, أو يعترض على شرعية المعايير التي وضعتها فلسفة السياسة. بل على العكس وجد أنه بالاعتراف بصلاحية هذه المبادئ والمعايير كما وضعها القدماء يمكن بناء العلم الجديد"2.

_ 1 H.A.R. Gibb. "The Background of Ibn Khaldun's (21) Political Theory", in: Studies on the Civilization of Islam. ED. by St. J. Shaw and W- R- Polk, Boston 1962, pp. 167. 169, i73, 174. 2 Muhsin Mahdi. Ibn Khaldun's Philosophy of (22) History,London 1957, pp. 8, 286. =

وظهر الاتجاه الرابع في الكتابات الجديدة للدكتورين أروين روزنتال وعلي الوردي, وهو اتجاه يمثل خطوة إلى الأمام نحو فهم أفضل لمنهج ابن خلدون وأسلوب تفكيره. ويعلق روزنتال بحق على أسلوب فكر ابن خلدون بأنه لا يمكن وضعه بسهولة في الإطار المعروف للعصور الوسطى1. كما أنه من الصعوبة بمكان اعتباره بشكل حاسم كمفكر مثالي أو مفكر مادي. وفي بحث آخر يعزو الدكتور روزنتال موقف ابن خلدون من المؤسسات والجماعات وغيرها إلى أسلوبه التجريبي من ناحية وإلى غيرته على الإسلام من ناحية أخرى "إن الإسلام كنظام للحياة والفكر هو النموذج الأمثل للخير الأسمى الذي يقدم الإجابة الكاملة لبحثه التجريبي في قوانين ومجال عمل الاجتماع الإنساني". ومع أنه يلاحظ أن الشريعة الإسلامية هي المعيار الذي أرجع إليه نتائج دراساته, فإن روزنتال كان على حق في التحذير من محاولة اعتبار آرائه ممثلة لاتجاه واحد يشمل مقدمته من البداية إلى النهاية. وبسبب أسلوبه العلمي المبتكر وثروة الأفكار السياسية التي خلفها ابن خلدون وراءه, اعتبره روزنتال أبا علم السياسة الحديث2. وبالنسبة للدكتور علي الوردي, فقد نقد النتائج التي توصل إليها الدكتور محسن

_ = انظر كذلك دفاعه عن تلك الآراء في مقالتيه الجديدتين بكتاب: A History of Muslim Philosophy, ed. M.M. Sharif, vol. II, Wiesbaden 1966, pp. 888, 961J وعلى كل، لم تقدم هاتان المقالتان ردودا مقنعة على النقد الحاسم الذي وجهه إليه زميله العراقي الدكتور علي الوردي. انظر فيما يلي دراستنا للاتجاه الرابع. 1 Erwin Rosenthal, " Ibn Khaldun: A North African Muslim Thinker of the Fourteenth Century"in: Bulletin of the John Rylands Library, vol. 24, 2. 1940; pp. 307, 319, 320. 2 Erwin Rosenthal, "Ebn Jaldun's Attitude to the Falasifa" in: Al-Andalus. vol 20, I (1955) , pp. 75. 76 footnote 2: also his article in "The Listener, Lodon, April ,17 1958; also his book: Political Thought in Medieval Islam, Cambridge 1958, 2d. ed. 1962, pp. 84-109.

مهدي وشرح كيف كان ابن خلدون متأثرا -في خلافه مع الفلسفة التقليدية بشكل عام ومنطق أرسطو بشكل خاص- بكتابات الغزالي وابن تيمية. وعزز الوردي وجهة نظره بالاستشهاد بحجج ابن خلدون ضد تلك الفلسفة والمنطق؛ لإفراطهما في الاعتماد على القياس العقلي الذي يؤدي إلى عدم تطابق استنتاجاتهما مع واقع الحياة. ومن الملامح المميزة أيضا لهذا الاتجاه الرابع مناقشة دور "المادة" في كتابات ابن خلدون. وقد بحث الوردي هذا الموضوع بالتفصيل, وانتقد العلماء المحدثين لإهمالهم له, ثم أورد عدة أمثلة من المقدمة ليدلل على معارضته لمنهج المناطقة القدماء1. هذه باختصار هي الاتجاهات الأربعة الرئيسية التي ناقشت فكر ومنهج ابن خلدون. ويتضح من بحثنا كيف أن الاتجاهات الثلاثة الأولى قدمت تفسيرات مبتسرة بشكل يجعل من غير المأمون الاعتماد عليها في تكوين فكرة شاملة عن هذا المنهج. أما الاتجاه الرابع فنرى أنه أقربها إلى التحليل السليم, وإن كنا نختلف معه حول مغزى كلمة المادة في المقدمة. ورغم استحالة الحكم بشكل جامد على منهجه بأنه مادي, فإننا نختلف مع الدكتور الوردي حول موقفه من مغزى كلمة المادة, إذ افترض أن مفهوم ابن خلدون لهذا المصطلح يتفق مع مفاهيم الفلاسفة المعاصرين له لنفس المصطلح2. وإذا درسنا المقدمة ككل ولم نقتصر فقط على الفصول التي تتناول الفلسفة والمنطق, فإننا سنجد أدلة كافية على أن مفهوم ابن خلدون لاصطلاح "المادة" لا يعكس نفس المضامين التي تصورها الفلاسفة المعاصرون له, وهي حقيقة قد تعزى جزئيا إلى أنه لم يقيد نفسه بنفس الموضوعات أو أساليب الاستقراء السائدة قبله. ويكفي أن نذكر باختصار بعض الأمثلة على ذلك, ومنها دراسته التفصيلية العميقة لموضوعات مثل العلاقة المتبادلة بين العمران

_ 1 علي الوردي، منطق ابن خلدون, القاهرة 1962، صفحات 43، 48، 55، 56، 66، 69، وما بعدها، 83. 2 المرجع السابق، صفحات 69 وما بعدها.

البشرى والإنتاج والعمل والكسب وتراكم المال1، وكلها موضوعات لم تكن معروفة ليس فقط لمعاصريه, وإنما لم تكن معروفة أيضا لمن جاءوا بعده حتى في أوروبا, إلى أن كتب آدم سميث كتابه المشهور "ثروة الأمم" في عام 1776 أي: بعد كتابة المقدمة بحوالي أربعة قرون. ولهذا فإنه من الصعب أن نسلم بأن مفهومه، وطريقة استعماله للفظ المادة يماثل تلك التي قصدها الفلاسفة الذين عاصروه, وهو ما سنشرحه بشيء من التفصيل فيما بعد. إلا أنه تجدر الإشارة إلى ملاحظتين هامتين, هما: 1- دون أن نقلل بأي شكل من الأشكال من غيرة ابن خلدون على الإسلام, وميله إلى ربط مثله العليا ومبادئه باستدلالاته الدنيوية, فإن إعادة دراسة المقدمة تكشف أن التجاءه إلى الأساليب المادية في معالجة الحياة الواقعية ليس أقل أهمية من أسلوب معالجته التقليدي للجوانب الروحية للحياة والوجود. 2- رغم اختلاف العلماء في الحكم على أسلوب فكره ومنهجه, فإنهم أجمعوا

_ 1 خصص ابن خلدون فصولا بأكملها ليشرح بالتفصيل التأثير المتبادل بين العوامل الاقتصادية والاجتماعية. وعلى سبيل المثال؛ فقد خصص ستة فصول في الباب الثالث من المقدمة لشرح أسباب قلة وكثرة الجباية المكوس, ومساوئ تدخل السلطات في التجارة. كما خصص ستة فصول أخرى من الباب الرابع لمناقشة مشاكل الرفاهية وأسعار المدن وتأثر العقار في الأمصار واختصاص بعضها ببعض الصنائع دون بعض. وخصص الفصل الخامس كله لدراسة وجوه المعاش من الكسب والصنائع والفلاحة والتجارة ومواضيع أخرى مثل العمل الإنساني. ولمزيد من الاطلاع على الفكر الاقتصادي لابن خلدون انظر: Rene Maunier, "Les Idees economiques d'unPenseur Arabe du 14emesiecle", in: Revue d'Histoire Economique et Sociale 1913; G.H. Bousquet, Ibn Khaldoun:Les Textes Sociologiques et Economiques de la Muqaddima, 1375-1379, Paris 1965; محمد حلمي مراد "ابن خلدون أبو الاقتصاد" في: أعمال مهرجان ابن خلدون, منشورات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، القاهرة 1962 صفحات 305-317.

على بعض النقاط التي تميز علم العمران الجديد. وهذه النقاط التي لم يختلف عليها أحد من العلماء المتزنين هي: عمق وأصالة الأسلوب الذي انتهجه في دراسة المعلومات الاجتماعية والتاريخية, والتي كانت ميدانا خصبا لدراسات سابقة متعددة تنقصها المعالجة المنهجية1، اتجاهه العلمي الواضح والتزامه بالموضوعية وعدم التحيز، وأخيرا الطبيعة العلمية للاستنتاجات التي توصل إليها. فإذا كان معظم العلماء قد أثنى كل بطريقته -ومن زاوية اهتمامه- على علم العمران الجديد الذي ألفه ابن خلدون، لماذا إذًا نجد صعوبة في العثور على حد أدنى من الاتفاق على الصفات العامة التي تميز فكره, كما هو الحال في تصنيف المفكرين وتعريفهم طبقا للطابع الغالب, والمميز في كتاباتهم؟ هل يعني ذلك أن أسلوب تفكيره ومنهج العلم الجديد يفتقران إلى خط واضح, وطابع مميز؟ هذا هو السؤال الذي لا يزال يحتاج إلى إجابة. في رأينا، هناك أربعة فروض أساسية يستند إليها منهج ابن خلدون: الأول: التعليل الاقتصادي الاجتماعي. الثاني: التفسير المادي لبعض عناصر العمران. الثالث: العلاقة الديناميكية بين الأسلوب والنتائج. الرابع: القيود المفروضة على التعليل المثنوي, والميتافيزيقي.

_ 1 Pitirim Sorokin, Society, Culture and personality New York 1962. p. 20 also his book Social and Cultural Dynamics, New York 1937, Vol. 2 p. 155, Footnote 20.

الفرض الأول: التعليل الاقتصادي الاجتماعي

الفرض الأول: التعليل الاقتصادي الاجتماعي سنناقش هنا ثلاث نقاط لاختبار مدى صحة هذا الفرض، وهذه النقاط هي: تقييم ابن خلدون للدور الذي يلعبه أسلوب المعيشة، وتقسيم العمل والتخصص، وأخيرا دور العمل في العلاقات الاجتماعية.

1- استخدام ابن خلدون أسلوب المعيشة كمعيار أساسي في التفرقة بين شكلي المجتمعين الأساسيين اللذين لاحظهما في جولاته الواسعة, وهما مجتمع البداوة1 ومجتمع الحضارة، والأول مجتمع يستنفد أفراده طاقتهم في إشباع حاجات الحياة الضرورية من طعام ومأوى عن طريق الصيد أو تربية الماشية أو الزراعة, وبمجرد انتقال أفراد مثل هذا المجتمع البدائي من حياتهم البدوية "أي: البدائية" الصعبة إلى حياة المدينة السهلة, وتغير أسلوب معيشتهم فإن كل صفاتهم وطبائعهم تتغير بالتالي. ونظرا لأهمية هذا الفرض المنهجي نسجل رأي ابن خلدون بالتفصيل: "اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش. إن أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام، وإنهم مقتصرون على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد, ومقصرون عما فوق ذلك من حاجي أو كمالي. وهؤلاء سكان المدن والقرى والجبال.. الحضر، ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان. ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع, ومنهم من ينتحل التجارة. وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو؛ لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم.. فيتخذون القصور والمنازل، ويجرون فيها المياه ... فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة. ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها، وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها. ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة, وأمكن نفسه إلى قياد المدينة"2.

_ 1 بمعنى المجتمع البدائي. انظر تفصيل ذلك في: M. Mahdi, lbn Khalduns Philosophy of History, op. cit., pp. 193, 194. 2 اعتمدنا في بحثنا على نسخة من المقدمة, أشرف على طبعها الدكتور علي عبد الواحد وافي "سنشير إليها فيما بعد باسم/ المقدمة طبعة وافي" وهي أصلح الطبعات للأغراض العلمية بما احتوته من ضبط وتصحيح للأخطاء الشائعة في الطبعات الأخرى, وإضافة للفصول الناقصة. انظر الطبعة الأولى، 4 أجزاء، القاهرة 1957 صفحات 407-414.

يتبين من هذا أن وسائل المعيشة التي يستخدمها الإنسان تلعب دورا هاما في تمييز ابن خلدون بين مجتمعي البداوة والحضارة. فالوسائل البدائية البسيطة التي يلجأ إليها الإنسان في الصحراء أو التلال تؤدي إلى شكل بدائي بسيط من أشكال الحياة, بينما تؤدي الوسائل المتطورة إلى شكل معقد ومتقدم من أشكال الحياة, ووجود الناس البدائيين في الصحارى والتلال سابق على وجود القرى والمدن. وبالمثل, فإن العادات تتولد نتيجة لشيوع الرفاهية تالية زمنيا لانتشار العادات التي تنتج عادة من مجتمع يعاني من شظف العيش, أو لا يعرف سوى إشباع ضروريات الحياة. وموضوع دراسة ابن خلدون هنا هم الناس في ارتباطهم بشكل معين من أشكال الإنتاج في حياتهم الواقعية التي يمكن ملاحظتها, وقياس درجة تطورها وليس في عزلة تصورية من وحي الخيال. فدرجة تطورهم إذًا تتوقف على الطريقة التي يحصلون بها على معاشهم. وفي الواقع لم يكن ابن خلدون ليقنع بمقارنة عادية بين أسلوب وأسلوب آخر متطور لحياة البشر, ولكن كان مهتما بتتبع آثار الانتقال من أسلوب إلى آخر على الأشكال الحضارية المختلفة, والطابع المميز للجماعات البشرية. 2- وقبل أن نتكلم عن رأي ابن خلدون في الوسائل التي يلجأ إليها الإنسان لمواجهة عجزه كفرد عن إشباع حاجاته اليومية -أو ما اصطلح على تسميته فيما بعد بظاهرة تقسيم العمل-نلاحظ أنه كان يتمتع بمعرفة عميقة للحياة الاقتصادية التي عاصرها, وبدور القوى المؤثرة في التطور الاجتماعي, وهي حقيقة تتجلى في النقاط الثلاث التي نتعرض لمناقشتها الآن. ومما يدعو إلى الدهشة بالنسبة إلى مستوى التطور في القرن الرابع عشر أنه أظهر فهما تاما لهذه القوى المؤثرة التي تعبر عن نفسها في القوى المنتجة في المجتمع "سواء البدوي, أو الحضري" والعلاقات التي تنمو بين الناس من أجل الحصول على الضروريات, أو كماليات الحياة. ففي الباب الأول من المقدمة "في العمران البشري على الجملة" شرح ابن خلدون

بعض السمات الأساسية لظاهرة تقسيم العمل, والأسباب الاقتصادية التي تجعلها ظاهرة لا يمكن الاستغناء عنها. "إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء, وغير موفية له بمادة حياته منه.. فلا بد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف. وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه"1. حقيقة: إن ابن خلدون -بسبب ظروف البيئة التي عاش فيها- لم يكن دقيقا تماما في اعتباره أن القبيلة هي الشكل الأول من أشكال الجماعات البشرية وفاتته الأشكال المتعددة التي سبقت تشكيل القبيلة, ولكنه كان واعيا بمغزى تقسيم العمل كظاهرة متغيرة مرتبطة بالنواحي المادية للحياة الاجتماعية. فهو لم يعتبرها ظاهرة ساكنة بلا حراك, تتحكم فقط في الأشكال المبكرة من التنظيم الاجتماعي البشري, بل لاحظ أيضا تأثير تطور العوامل الاقتصادية على سمات هذه الظاهرة. أي: إنه كلما ارتفع مستوى المعيشة كلما زادت الحاجة إلى تقسيم العمل لمواجهة نمو الطلب, ليس فقط على الضروريات, وإنما أيضا على الكماليات؛ لإشباع التطلعات المتطورة. "فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم, فكثرت مكاسبهم ضرورة، ودعتهم أحوال الرفه والغنى إلى الترف وحاجته من التأنق في المساكن والملابس، ...

_ 1 المقدمة, طبعة وافي، صفحات 272، 273. والجدير بالذكر أنه قبل أن يدرس ابن خلدون هذه الظاهرة في مقدمته التي ألفها في عام 1377, وكذلك قبل أن يبحثها آدم سميث في كتابه "ثروة الأمم" عام 1776، فإن الفيلسوف الإغريقي أفلاطون سبقهما إلى ذلك بدراسة بعض جوانب ظاهرة تقسيم العمل: See his dialogue with Adeimantus, "We have different aptitudes, which fit us for different Jobs". The Republic, part two, Section l, Translated by H. D. P. Lee in: The Penguin classics. London 1963 "First published in 1955".

ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثانية، ثم زاد الترف تابعا للكسب وزادت عوائده وحاجاته، واستنبطت الصنائع لتحصيلها، فزادت قيمها وتضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية.. وكذا في الزيادة الثانية والثالثة؛ لأن الأعمال الزائدة كلها تختص بالترف والغنى بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش1. ولا يجب أن ننسي أن هذه النتائج التي توصل إليها ابن خلدون, والتي قد تبدو بديهية وواضحة الآن كتبت في القرن الرابع عشر أي: قبل أن يعيد آدم سميث دراسة ظاهرة تقسيم العمل بأربعة قرون. بل أكثر من ذلك, فقد بحث ابن خلدون ظاهرة التخصص, وأوضحت كتاباته أنه كان يفرق بين نوعين: تخصص فردي وتخصص إقليمي, وإن كان المجال يضيق هنا عن الإفاضة في هذا الموضوع إلا أننا سنشير بإيجاز إلى آرائه. فقد خصص فصلا في الباب الرابع في مقدمته تكلم عن اختصاص بعض الأمصار ببعض الصنائع دون بعض, شرح فيه كيف أن الصنائع تستجاد كلما كثر الطلب عليها. ولا يكثر الطلب عليها إلا إذا كانت تسد حاجة مباشرة وهامة بالنسبة لسكان المصر أي: تشبع حاجاتهم لاستهلاك سلعة معينة أو الاستفادة من خدمة لازمة لهم في معاشهم, وكل هذا مرتبط بالعمران المستبحر أي: المزدهر الذي تتفاوت صوره من بلد إلى آخر, وبالتالي تتفاوت حاجاته مما ينعكس على نوع الصنائع التي تختص بذلك البلد أو المصر. ويبدو فهم ابن خلدون لظاهرة التخصص الإقليمي هذه في قوله: "وبقدر ما تزيد عوائد الحضارة, وتستدعي أحوال الترف تحدث صنائع لذلك النوع, فتوجد بذلك المصر دون غيره. كذلك يظهر فهمه لظاهرة التخصص

_ 1 المقدمة, طبعة وافي، صفحة 860. CF.... "pius on se rapproche des types sociaux les plus eleves, plus la division du travail se deve loppe", ... Emile Durkheim, De la Division du Travail Social, paris 1893.

الفردي فيما كتبه في الباب الخامس من المقدمة, حيث بيّن أن من حصلت له ملكة في صناعة فقل أن يجيد بعدها ملكة أخرى. فإذا أجاد الخياط مثلا ملكة الخياطة رسخت في نفسه, فلا يجيد من بعدها ملكة النجارة, أو البناء إلا إذا كانت المهنة الأولى لم ترسخ في نفسه بعد. والسبب الذي يقدمه ابن خلدون هو "أن الملكات صفات للنفس وألوان فلا تزدحم دفعة ... حتى أهل العلم الذين ملكتهم فكرية فهم بهذه المثابة.. إلا في الأقل النادر من الأحوال"1. 3- وجه ابن خلدون عناية كبيرة إلى دراسة دور العمل في العلاقات الاجتماعية, فلم يلجأ إلى أسباب دخيلة لتفسير الظوهر الاجتماعية الحية. فمثلا, إذا كانت بلد من البلاد تتمتع بمستوى عالٍ من المعيشة, فإن البحث عن أسباب ذلك يجب ألا يتجه إلى الخرافات، أو ترديد روايات العامة التي تفسره بالعثور على كنوز مدفونة. أو ما شاكل ذلك من الأوهام. إن السبب الوحيد في رأيه الذي يمكن أن يعزى إليه مثل هذه الرفاهية هو مجهود وعمل أبناء هذا البلد لبناء وازدهار عمرانهم, وبذلك يجنون ثمار عملهم الذي يتمثل في تحسن ظروف معيشتهم. ولعل من دواعي الفخر لمفكرنا العربي أنه عزز هذا الاتجاه الواقعي برأي آخر سبق به مدرسة الاقتصاديين الكلاسيك بزمن طويل, ونعني به قياسه قيمة المنتجات, والخدمات بكمية العمل المبذول فيها. "فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول؛ لأنه إن كان عملا بنفسه مثل الصنائع فظاهر، وإن كان مقتنى من الحيوان والنبات والمعدن, فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه، وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع. وإذا تقرر هذا كله, فاعلم أن ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع, فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله وهو القصد بالقنية، إذ ليس هناك إلا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية. وإن كان من غير الصنائع, فلا بد في قيمة ذلك المفاد

_ 1 المقدمة, طبعة وافي، صفحات 885، 930، 931.

والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به، إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها"1. نستخلص من دراسة هذا الفرض المنهجي الأول حول أسلوب المعيشة، تقسيم العمل والتخصص، ودور العمل في تحديد قيمة المنتجات أنه يمثل الأساس الذي ارتكزت عليه آراؤه في المسائل الزمنية, وفي نفس الوقت يشير إلى بداية ظهور اتجاه واقعي جديد في الفكر السياسي لم يسبقه إليه أحد وهو اتجاه يدخل في اعتباره التأثيرات المتبادلة للعوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. أي: إن الطريقة التي تتبعها الجماعة في التكسب والعلاقات الاجتماعية المتشابكة التي تترتب على ذلك هي التي تكون في نظره هيكل العمران البشري2.

_ 1 المرجع السابق، صفحات 896، 860-862. 2 لم يقصر ابن خلدون أسلوب دراسته الواقعي, والتسليم بنتائج المشاهدات الحية على الدراسات الاقتصادية والاجتماعية فحسب, وإنما تعدى ذلك إلى رفضه للاتجاهات الفكرية المجردة. من ذلك نقده للقائمين بصناعة المنطق الذين يغالون في الغوص على المعاني والقياس, ويبتعدون عن الواقع فيقعون في الخطأ. وصناعة المنطق في نظره غير مأمونة العواقب؛ لبعدها عن المحسوس, ولهذا أبدى عدم رضائه عن فلاسفة المسلمين المتأخرين الذين تكلموا في القياس وحذفوا النظر فيه بحسب المادة. "ثم جاء المتأخرون فغيروا اصطلاح المنطق, وألحقوا بالنظر في الكليات الخمس ثمرته, وهي الكلام في الحدود والرسوم ... ثم تكلموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب مادته، وحذفوا النظر فيه بحسب المادة، وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدل والخطابة والشعر والسفسطة. وربما يلم بعضهم باليسير منها إلماما, وأغفلوها كأن لم تكن وهي المهم المعتمد في الفن". ويعلق الدكتور علي عبد الواحد وافي على الجملة الأخيرة، بقوله: أي: مع أنها المهم المعتمد في الفن؛ لأنها تتعلق بمادة القياس من حيث صدق مقدماته وانطباقها على الواقع. "المقدمة, طبعة وافي, صفحة1106". ومن هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط؛ لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس. "المرجع السابق، صفحة 1247".

الفرض الثاني: التفسير المادي لبعض عناصر العمران

الفرض الثاني: التفسير المادي لبعض عناصر العمران يتضح لنا من مناقشة الفرض الأول أن العوامل الاقتصادية كما عولجت في المقدمة, أثرت تأثيرا كبيرا على حجج ابن خلدون. وسنوضح في هذا الفرض المنهجي الثاني كيف أن هذه الحجج والتفسيرات تأثرت أيضا ببعض عناصر العمران الأخرى مثل: الدين والعقل والعلم والأخلاق، كما سنبين طريقة معالجته لهذه العناصر. 1- رغم أنه يمكن الاستشهاد بكثير من الحالات التي تظهر التأثير الكبير للدين على حجج ابن خلدون, والطريقة التي عالج بها المسائل الدينية, فإننا سنناقش ثلاثة أمثلة فقط. المثال الأول: يصور كيف أن التأثير القوي للدين عليه، دفعه إلى وضع نظرية كاملة تماما, وجديدة يعيد فيها تفسير أحداث الفتنة الكبرى بين الخليفة الرابع علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان, وذلك على أساس زمني يختلف عن اجتهادات كافة فقهاء ومفكري الإسلام الذين سبقوه. كما يصور هذا المثال أيضا الطريقة العقلانية التي اتبعها في شرح كيفية انتقال السلطة في المراحل الأولى للحكم الإسلامي للخليفة الشرعي, الذي تم اختياره بواسطة الشورى إلى سلطة العصبية. ونكتفي بهذه الإشارة المقتضبة دون استطراد1. المثال الثاني: يتناول موقفه من النزاع الخاص بعودة المسيح أو المهدي2. فمن ناحية اعترف ابن خلدون بمفهوم الدين عن عودة المسيح. ومن ناحية أخرى فإنه رفض الأساطير المرتبطة بهذا الموضوع, ودحضها على أساس علمي باستخدام نتائج أبحاثه. وقد خصص فصلا طويلا في مقدمته لمناقشة الآراء المتعارضة حول

_ 1 انظر الدراسة التفصيلية لهذين الموضوعين في مؤلفنا: The Political Theory of lbn Khaldun, Lyden 1967, pp. 100 ff. 2 R. A. J. Wensinck, The Muslim Creed, Cambridge 1932, p. 244.

احتمال عودة المسيح. وعكس المعتقدات الفلسفية التي تقصر الشروط الواجب توافرها لعودته إلى انتسابه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو تربطها بدورة النجوم, فإن ابن خلدون أعاد تأكيد موقفه المبدئي من أن أي دعوة سياسية, أو دينية لا يمكن أن تنجح إلا بقوة العصبية, وهو واضح من قوله: "إنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره, وتدافع عنه من يدفعه". كذلك أوضح أن المسيح لن يظهر طبقا لنظرية الدورات التي يعتنقها الشيعة الذين يفسرون مجرى التاريخ بدورة ثلاثية دائمة. تبدأ بالنبوة ثم الخلافة ثم الملك الذي يسوده الظلم. وفي رأيه, فإن ظهور المسيح يتوقف على توافر ظروف مساعدة في البيئة التي سيظهر فيها, على أن تدعمه وتسنده عصبية وشوكة قومه مما سيؤدي إلى إنشاء دولة قوية1. المثال الثالث: يمكن أن نجده في طريقة معالجته للعلاقة بين العقل البشري والله سبحانه وتعالى. فابن خلدون يثق في العقل البشري, ورغم تسليمه أن الإدراك الإلهي يستوعب بداهة الكثير مما لا يستطيع إدراكه الإنسان, فإنه لا يعتبر ذلك نقصا في قدرة العقل والتأمل العقلي، وإذا أبعدنا العقل عن الحكم على صحة عقائد مقدسة مثل: وحدانية الله والآخرة وحقيقة النبوة وهي أمور فوق طاقته, فإننا نستطيع استعماله في قياس الظواهر الزمنية الأخرى؛ لأن العقل في نظر ابن خلدون ميزان صحيح, وأحكامه يقينية يمكن الاعتماد على صحتها. "وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح, فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة

_ 1 المقدمة, طبعة وافي، صفحة 754, علي الوردي، منطق ابن خلدون, مرجع سابق، صفحات 95، 96. M. Mahdi, lbn Khaldun s Philosophy of History, op. cit., p. 256.

وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية, وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال"1. ويلفت النظر في هذا الموضوع أن غيرة ابن خلدون على الدين لم تمنعه من الاعتراف بالنتائج التي يتوصل إليها عقله وملاحظاته العلمية, حتى وإن كانت ذات صبغة مادية. ومن الأمثلة على ذلك ما سبق أن استشهدنا به من كلامه في نهاية بحثنا للفرض الأول, حيث يقول: "فالكل من عند الله، فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب, ومتمول". 2- يمكن ملاحظة تأثير العنصر العقلاني في كتاباته من التجائه إلى الاستقصاء العقلي بشكل واقعي, وليس بأسلوب أفلاطوني للتحقق من صحة المعلومات التاريخية. وتشتمل المقدمة على عدة أبحاث في هذا الموضوع, سنذكر منها أربعة: استخدم ابن خلدون في بحث من بحوثه معيارا ديموغرافيا ليدحض رواية المؤرخ الإسلامي المسعودي الذي نقل دون تحقيق قصة جيش بني إسرائيل. فقد قال المسعودي: إن موسى -عليه السلام- قام بعدّ جيشه في الصحراء فوجده يتألف من ستمائة ألف جندي مع استبعاد الأطفال والشيوخ. وأبدى ابن خلدون دهشة كبيرة, إذ إنه إذا كانت كل الروايات التاريخية والدينية تقدر عدد اليهود الذين دخلوا مصر بسبعين, فكيف يمكن أن يتضاعف عددهم بهذا الشكل غير المعقول خلال إقامتهم في مصر فترة, لا تتعدى مائتين وعشرين سنة؟ لجأ ابن خلدون في بحث ثانٍ إلى معرفته السابقة بالحملات العسكرية؛ ليعلن شكه في إمكان قيام جيش قوي كبير مثل جيش التبابعة ملوك اليمن بعبور المساحات الشاسعة التي تمتد من اليمن إلى شمال غرب إفريقيا دون أن يتقابل, أو يلتحم في طريقه بقوى معادية على الأقل للحصول على المؤن اللازمة. وفي بحث ثالث استعمل ابن خلدون أسلوب البحث الجغرافي؛ ليفند الأساطير الشائعة عن وجود ما يسمى بوادي الرمل في المغرب, يعجز الإنسان عن اختراقه

_ 1 المقدمة, طبعة وافي، صفحة 1037.

أو الأسطورة الأخرى عن وجود مدينة في صحراء عدن تشبه الجنة تسمى إرم, نقلت الروايات أنها بُنيت في ثلاثمائة عام, وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأعمدتها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف عديدة من الأشجار والأنهار. وبعد أن يستقصي ابن خلدون أخبارها ومكانها يدلل على كذب هذه الأساطير بالاستشهاد بأقوال بعض الرواة أنفسهم من أن مدينة إرم غائبة ولا يعثر عليها غير أهل السحر. ولهذا يسمي كل هذه الأساطير مزاعم أشبه بالخرافات. وفي بحث رابع استند ابن خلدون إلى أسلوب البحث التاريخي, وخاصة في شرحه لسبب نكبة البرامكة موالي الدولة العباسية, فكذب المؤرخين الذين ذهبوا إلى أن الرشيد أوقع بهم بسبب سلوك أخته العباسة مع مولاه جعفر بن يحيى بن خالد واكتشاف علاقة آثمة بينهما، ويعلق بأن ذلك من قبيل الروايات المثيرة غير المعقولة, وأن الأسباب الأكثر منطقية لنكبة البرامكة تكمن في خوف هارون الرشيد من تزايد قوتهم التي ظهرت في محاولة فرض سيطرتهم على الدولة العباسية, واستئثارهم بالمناصب الرفيعة بعد إبعاد العرب عنها, واستيلائهم على أموال الجباية وامتلاك الضياع في سائر الممالك, مما أثار حفيظة منافسيهم, فوشوا بهم عند الرشيد. ولعل خير ما يلخص آراء ابن خلدون في هذه البحوث الأربعة قوله: "فلا تثقن بما يلقى إليك من ذلك, وتأمل الأخبار, واعرضها على القوانين الصحيحة يقع لك تمحيصها بأحسن وجه"1. تصور هذه البحوث الأربعة مدى تأثير العنصر العقلاني في كتاباته, ويؤكد ذلك النتيجة التي توصل إليها من أن العقل البشري يمكنه التمييز بين طبيعة ما هو ممكن وبين المستحيل, وبذلك يتقبل الأشياء أو الأحداث التي تقع في حيز الممكن والمعقول, ويرفض ما عداها.

_ 1 انظر المقدمة طبعة وافي، صفحات 220-230، وكذلك حسن الساعاتي "المنهج العلمي في مقدمة ابن خلدون" في: أعمال مهرجان ابن خلدون، مرجع سابق، صفحتي 220، و221.

"فليرجع الإنسان إلى أصوله، وليكن مهيمنا على نفسه, ومميزا بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته. فما دخل في نطاق الإمكان قبله وما خرج عنه رفضه. وليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق, وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء. فإنا إذا نظرنا أصل الشيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله, وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه"1. ويمكن توضيح الطريقة التي تناول بها ابن خلدون هذا العنصر بالرأي المتطور الذي أبداه عن السبب في اختلاف القوة الذهنية بين الأمم البدوية, والأمم الحضرية. ففي رأيه أن القدرات الذهنية العالية, والمنخفضة لا ترجع إلى أي أسباب عنصرية, وإنما إلى أسلوب الحياة المادي الذي يسلكه الناس في الحصول على معاشهم. وانتقد في ذلك أقرانه من أهل المغرب الذين زاروا المشرق العربي, وبهرهم تقدمه فعادوا ليروجوا رأيا لا يستند إلى أي أساس صحيح, مؤداه أن أهل المشرق بشكل عام متفوقون عقليا. ويرد على ذلك بأنه ليس هناك أي فرق بين عرب المشرق, وعرب المغرب بالنسبة للقدرات الذهنية أو بالنسبة لطبيعتهم الإنسانية. والتفوق الذي قد يلاحظه الإنسان في هذه الحالة يكمن في الذكاء الذي يضيء بتأثير أسلوب الحياة الحضرية. أما الأسباب التي يعطيها الأولوية في إكساب مثل هذا التفوق العقلي فهو الواقع المادي للحياة الحضرية وانتشار الصنائع والتعليم. وإذا عقدت مقارنة بين أمم حضرية وأمم بدوية فإن الإنسان يلاحظ بسهولة مدى ما يتمتع به الحضريون من ذكاء ونفاذ بصيرة. "حتى إنه ليظن كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أن عقولهم على الجملة أكمل من عقول أهل المغرب, وأنهم أشد نباهة.. وليس كذلك

_ 1 المرجع السابق، صفحة 506، انظر أيضا الرأي الحديث في هذا الموضوع: Arnold Brecht, Political Theory op. cit. pp. 419, 425.

. وإنما الذي فضل به أهل المشرق أهل المغرب هو ما يحصل في النفوس من آثار الحضارة من العقل المزيد كما تقدم في الصنائع.. وذلك أن الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدين والدنيا.. ولا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلا جديدا تستعد به لقبول صناعة أخرى, ويتهيأ بها العقل لسرعة الإدراك للمعارف.. وحسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس"1. ومعنى هذا أنه إذا استبعدنا سكان المناطق المتطرفة المناخ كما ذكرنا في فقرة أخرى، فإن النظريات المبنية على التصورات الخاطئة عن احتمال تفوق أمة من الأمم في الاستعداد الطبيعي, أو القدرات الذهنية هي فروض لا يمكن إثباتها علميا. 3- إن تأثير الأسلوب العلمي على كتابات ابن خلدون يمكن العثور عليه في الأمثلة التي ذكرناها حتى الآن, وفي كل فروضه الأساسية سواء تلك التي تتناول أساليبه المنهجية الجديدة, أو ميادين البحث التي اكتشفها وخاصة في مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع. ولا تختلف الطريقة التي تناول بها العلم عن مثيلاتها بالنسبة لعناصر العمران الأخرى, ونعني بها تفرقته الأساسية بين البداوة والحضارة. وحيث إنه أثبت أن التعليم من المهن التي تتقدم في المدن فقط, فإنه يتبع ذلك أن العلوم لا تزدهر إلا في ظل عمران مستبحر, وحضارة متطورة. فمثلا إذا كانت أمة تعيش عيشة بدائية حيث ينشغل الناس بالكد من أجل إشباع حاجاتهم الأولية من الغذاء والمأوى, فإن العلوم في مثل هذه البيئة والظروف ستكون متخلفة بالتبعية. وبالعكس, فإن الارتفاع المادي لمستوى المعيشة والاستمتاع بالرفاهية يسمح لهذه الأمة بتحويل جانب من الاهتمام والجهد نحو العمل على تقدم العلوم بهدف مواجهة الحاجات المتزايدة للعمران.

_ 1 المقدمة, طبعة وافي، صفحتا 988، 989.

"والسبب في ذلك أن تعليم العلوم -كما قدمناه- من جملة الصنائع. وقد كنا قدمنا أن الصنائع إنما تكثر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة؛ لأنه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان, وهي العلوم والصنائع"1. 4- تأثرت كتابات ابن خلدون بمفهومه عن الأخلاق, وخاصة تلك التي تناول فيها الشروط اللازمة لتحقيق تماسك العصبية, واستقرار نظام الحكم. فرغم أنه شرح كيف أن نظام الملك يمكن أن ينشأ على أساس زمني وبتدعيم قوة العصبية فقط, فإنه أكد أن مثل هذا الملك لا يمكن استمراره إذا تخلى عن الفضائل السياسية والقيم الأخلاقية. وتمشيا مع تفسيره المادي لعناصر العمران الأخرى, فإنه لاحظ أن التغير الذي حدث في مجتمع بدائي بالتحول من حياة البساطة إلى نوع آخر من الحياة الحضرية المرفهة لا يقل تأثيرا على أخلاقيات الجماعة. فالانتقال إلى المدن والمعيشة في أمان وراء الأسوار التي تحرسها الحامية يضعف الصفات الطبيعية للجماعة مثل: الشجاعة والخشونة والاعتماد على النفس, وتخليهم عن حياتهم البسيطة الأولى يميل بهم إلى التخلق بعادات وطباع جديدة تتلاءم مع ظروف الحياة السهلة, والإفراط في الرفاهية التي تولد الرذيلة. "وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة, حملهم على ارتكاب المذمومات.. فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة, ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم". و"أهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف.. فقد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر.. وأهل البدو, وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم, إلا أنه في المقدار الضروري لا في الترف ولا في

_ 1 المرجع السابق، صفحتا 990، 991.

شيء من أسباب الشهوات.. فهم أقرب إلى الفطرة الأولى"1. ويجدر بالذكر أن حقل ملاحظات ابن خلدون -الذي استقى منه افتراضه بأن نمط الحياة المادية يشكل عادات وقوانين العمران- لم يكن قاصرا على مسرح بيئته العربية, وإنما استشهد بالتجارب التاريخية والدينية للأمم الأخرى ليدعم فرضه. من ذلك ما توصل إليه من دراسته العلمية لتاريخ اليهود, والصفات الذميمة التي يشتهرون بها والعداء الذي يثيرونه حولهم أينما حلوا حيث كشف بطريقة موضوعية أن كل ذلك غير مرتبط بهم كجماعة بشرية تتبع دينا معينا بقدر ما هو نتاج الظروف السياسية, وأسلوب الحياة التي يحيونها. وأعطى أمثلة لذلك بالاضطهاد الذي تعرضوا له, وفترات الأسر الطويلة التي عانوا منها2. وباختصار، لقد نجح ابن خلدون في عقد مقارنة علمية واضحة بين البداوة والحضارة كشكلين مختلفين من أشكال الحياة الاقتصادية, والاجتماعية. فعلاوة على ما سبق ذكره في هذا الموضوع في فرضنا المنهجي الأول, نلاحظ أن الجماعات البشرية التي تعيش عيشة بدائية تتميز بالبساطة والأمانة والشجاعة والاستقلال, وإن كانت في نفس الوقت تتصف بالخشونة وتعاني من سوء النظام والتخلف. فإذا تغير الأسلوب الاقتصادي لحياتهم تغيرت بالتالي مميزاتهم

_ 1 المرجع السابق، صفحات 414, 446، 481، 483، كذلك: Muhammad Mahmoud Rabie, The political Theory of lbn Khaldun. op, cit., p. 69. 2 يمتدح المستشرق فيشل موضوعية ابن خلدون في دراسته لمشكلة اليهود بقوله: "إن شرحه لهوان اليهود بهذه الطريقة الاجتماعية السيكولوجية يعكس رأيا لم يظهر إلا في القرن الثامن عشر من هؤلاء الذين نادوا بعتق اليهود, وتحريرهم من الاضطهاد السياسي والاجتماعي". W. J. Fischel "lbn khaldun on the Bible, Judaism and the Jews", in: Goldziher Memorial Volume, part 2, Jerusalem 1958, pp. 162, 163.

الحضارية, بمعنى أن تلك الجماعات البشرية التي تحولت إلى حضرية تصبح حياتها أكثر تعقيدا وتكتسب صفات جديدة منها الذكاء والكيس, وإن كانت أكثر اعتمادا على حماية الدولة القائمة. وتتقدم العلوم وترتقي الفنون بالقياس إلى مستواهما في ظل الحياة الساذجة لمجتمع البداوة. ويحدث هذا على حساب بعض القيم حيث تعاني المبادئ الدينية والأخلاقية كثيرا من هذا التحول. ويمكن أن نستشف من مناقشات ابن خلدون في هذا الموضوع نوعا من التناسب العكسي بين تطور القوى الاقتصادية, وبين تدهور بعض عناصر العمران مثل المبادئ الأخلاقية والدينية. ومن ناحية أخرى هناك تناسب طردي بين نفس ظاهرة تطور القوى الاقتصادية, وبين بعض عناصر العمران الأخرى مثل: العلوم والفنون والحياة السياسية المستقرة1. والخلاصة: أن مناقشة هذا الفرض المنهجي الثاني تظهر أن العوامل الاقتصادية ليست وحدها المؤثرة في دراسات ابن خلدون, وإنما أثر فيها أيضا بعض عناصر العمران وخاصة الدين الذي رغم كونه أكبر مؤثر بينها, فإن الحقيقة الواضحة هي أن ابن خلدون تناول كل عناصر العمران هذه على ضوء معياره المادي في التمييز بين البداوة والحضارة. وبالمثل, فقد أظهرت المناقشة مدى اهتمامه بتتبع أثر التغير من الشكل الأول إلى الشكل الثاني على عمل, وتطور عناصر العمران.

_ 1 M. M. Rabie The political Theory of lbn Khaldun op. cit., pp. 41, 42.

الفرض الثالث: العلاقة الديناميكية بين الأسباب والنتائج

الفرض الثالث: العلاقة الديناميكية بين الأسباب, والنتائج يلاحظ الدارس للمقدمة أن ابن خلدون لم يقدم تفسيراته الاقتصادية بشكل جامد. ولإثبات ذلك سنستشهد بتحليله للظواهر إلى أسباب, ونتائج كواحد من أساليبه الجديدة التي طبقها في دراسة العمران البشري والحياة السياسية.

ورغم أن تحليله كان رائدا في هذا المجال, فإنه لم ينظر إلى الأسباب والنتائج نظرة إستاتيكية كأن يظن مثلا بأن الأسباب تظل دائما أسبابا والنتائج دائما نتائج. إن المغزى الحقيقي لمنهج ابن خلدون لا يمكن فهمه تماما ما لم يتم الكشف عن علاقة عامل إضافي وديناميكي بموضوع البحث. ولا نعني بهذا العامل مجرد الاعتراف بفضل ابن خلدون في اكتشاف أسلوب التحليل إلى أسباب ونتائج. إن ما يجتذب الاهتمام حقيقة إلى المقدمة هو أننا لا يمكن أن نجد فيها الأسباب في جانب والنتائج في جانب آخر. فمثل هذا الاستقطاب غريب على فكر ابن خلدون الذي لا يعرف هذا التجريد الأجوف. وبالعكس, فقد بدت له العلاقة بين الخلفية الاقتصادية وتأثيرات عناصر العمران كعملية مرتبطة تمام الارتباط تتحرك باستمرار على شكل سلسلة من ردود الفعل المتبادل. بالإضافة إلى ذلك, فإنه لم يعامل عناصر العمران كقوى ذات فعل متساوٍ لها نفس الأثر في سير الأحداث, وهو ما يمكن ملاحظته على وجه الخصوص بالنسبة لآرائه في الدين التي تشغل في بعض الأحيان قلب المناقشة. وفي الواقع, فإن الميزة الكبيرة لمنهجه هي طابعه العلمي الذي يستبعد إمكان تمتع أي عامل بمفرده بطبيعة, أو صفة مطلقة, ويفترض بدلا من ذلك وجود تأثير نسبي, وردود فعل متبادلة. ومن الأمثلة المتعددة التي يمكن أن تشرح مثل هذا التفاعل هو العلاقات المتشابكة التي تربط بين طريقة المعيشة وأسلوب الفكر وانتشار العلوم. فكل تطور مادي يأتي برد فعل مماثل في العلاقات الاجتماعية، ومناهج سلوك متباينة تجاه المسائل الزمنية والدينية. وقد سبقت الإشارة إلى أن هذا التطور المادي سيؤدي إلى زيادة في المهن وفي تقسيم العمل، وكل مهنة تؤثر في النفس والذهن وتفتح آفاق العقل. ويشجع هذا على زيادة انتشار العلوم وازدهارها الذي يزيد الإنسان بالتالي "ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس". ولا نستطيع أن نعثر في هذا التحليل الديناميكي على أي فصل تعسفي بين السبب والنتيجة. فإذا كان تقدم العلوم, والمعرفة هو نتيجة لسبب مادي، فإن نفس

هذه النتيجة تلعب دور السبب في مرحلة أعلى هي تغيير وتهذيب أسلوب التفكير. ولا تتوقف سلسلة ردود الفعل المتبادلة عند هذا الحد؛ لأن الفكر المتطور الذي جاء نتيجة لتفاعل سابق يلعب الآن دور السبب, فيصير حافزا على إشباع حاجات مادية جديدة, وحياة مرفهة تتناسب مع ما وصل إليه صاحب هذا الفكر من تطور1. وهناك مثل آخر يمكن أن يعزز هذا الفرض المنهجي, وهو وضع العصبية في كل من مجتمعي البداوة والحضارة. ففي مجتمع البداوة نلاحظ أن طبيعة الحياة الخشنة, وشظف العيش يطبع العصبية بعدة صفات أهمها أنها قوة موحدة كلها نشاط وحيوية, قادرة على الدفاع عن الجماعة والسعي من أجل تحقيق أهدافها ضد العصبيات الأخرى والقضاء على الخلافات الداخلية بين أفرادها، والعمل كأداة من أجل دفع عجلة التطور نحو شكل أرقى من أشكال الحياة المادية. وبينما تعتبر العصبية بهيكلها القوي وخصائصها التي تتسم بالحيوية ودورها الكبير في إحداث التغييرات نتيجة مترتبة على هذا النوع من الحياة الصعبة في ظل البداوة, فإن العصبية نفسها وعندما تتهيأ الظروف المادية تلعب دور السبب وتصبح أداة للتغيير, وذلك بالقضاء على نفس هذه الظروف التي خلقتها عندما تقوم الجماعة بفضل عصبيتها بالقضاء على دولة مجاورة وإقامة ملك جديد محلها يتخلى عن الحياة البدوية, وينتقل إلى الحياة الحضرية. وفي ظل الحضارة تبدأ مرحلة جديدة من التأثيرات المتبادلة -وإن كانت أقل حدة- بين ظروف المعيشة الحضرية ومكونات العصبية, وخاصة دورها الذي يفقد كثيرا من مبررات وجوده. ففي الدفاع تؤدي الحياة الجديدة للجماعة في المدن التي تحميها الأسوار والحراس -بدلا من المعيشة في العراء- إلى تولد مشاعر جديدة غير مألوفة لديها, هي مشاعر الأمن والطمأنينة والاعتماد على الدولة

_ 1 المرجع السابق، صفحتا 42، 43.

في الحماية, وتحل النظم والإجراءات الجديدة للبيئة الحاكمة المستقرة محل سلطة رئيس القبيلة في حل المشاكل الداخلية, ومعاقبة الخارجين على النظام. وعلاوة على ذلك, فإن التشبه بالمدنيات السابقة, وانتحال مهن وطرق سهلة للحصول على الرزق يحل محل وسائل السلب والنهب والغزو التي كانت الجماعات البدائية تلجأ إليها للحصول على ضرورات الحياة. وبذلك تقوم سلطة الملك بعد استتباب الحياة الحضرية بالمهام التي كانت تضطلع بها العصبية كما يتأثر هيكلها, وتنحل الروابط التي كانت تجمع بين أفرادها, وتفقد خصائصها المميزه مثل النشاط والحيوية وحب النزال1. ورغم أن الاضمحلال الكبير الذي يعتري هيكل وخصائص ودور العصبية هو أيضا نتيجة لأسلوب الحياة السائدة -في هذه الحياة الحضرية- فإن رد فعل العصبية الضعيف لهذه التأثيرات لا يقارن برد الفعل الديناميكي للعصبية في الحياة البدوية. وبغض النظر عن دورها في نقل السلطة السياسية بين فروع مختلفة من نفس الجماعة -وهي تغيرات غير ذات بال- فإن العصبية التي ضعفت شوكتها تصبح عمليا غير قادرة على إحداث تغيير سياسي أساسي على النمط الذي قامت به من نقل حياة الجماعة من البداوة إلى الحضارة. فإذا طبقنا ما ذكر في بداية هذا الفرض المنهجي عن الطبيعة الديناميكية لمناقشات ابن خلدون, فإننا لن نجد أيضا استقطابا جامدا للأسباب والنتائج في دراسته لظاهرة العصبية في كل من مجتمعي البداوة والحضارة. إن العصبية في طورها البدائي النشط, وبخصائصها التي سبق شرحها هي نتيجة لأسلوب الحياة الخشن في ظل البداوة. وعندما تتهيأ الظروف المادية نلاحظ أنها تصبح السبب في تغيير هذا اللون من الحياة الاجتماعية إلى لون آخر تماما في ظل الحضارة, ويستمر التفاعل وتبادل المراكز بين الأسباب والنتائج في ظل نعومة ورفاهية الحياة الحضرية التي تكون سببا هذه المرة في ممارسة العديد من التأثيرات الضارة

_ 1 المقدمة, طبعة وافي، صفحات 422، 423، 453، 454، 480، 481.

على كافة أوجه العصبية بالشكل الذي شرحناه آنفا. ولكن بعد أن يخرج الترف عن الحد ويسود الفساد والظلم, فإن فرعا من فروع العصبية الذي لا يزال يحتفظ بالصفات الأولى من صلابة, وحيوية قد يلعب دور السبب مرة أخرى في إحداث صراع صغير على السلطة بين الأجنحة المتنازعة للعصبية, ويولي حاكما جديدا مكان الحاكم الضعيف1. يتضح من هذا استحالة اتخاذ موقف جامد من العلاقة بين العصبية والعمران البشري -سواء كان يدويا أو حضريا- بمعنى أن أيا منهما لا يمكن اعتباره سببا مطلقا, أو نتيجة مطلقة. وأخيرا نستنتج أن ابن خلدون كان يعتقد بوجود علاقة ديناميكية بين الأسباب, والنتائج لا تترك أيا منها في مكانها بشكل جامد. فالأسباب لا تظل دائما أسبابا وكذلك الحال بالنسبة للنتائج, وإنما هناك حركة وتغير دائمان وحلول للأسباب محل النتائج وبالعكس وذلك في سلسلة متصلة من ردود الفعل المتبادل.

_ 1 M. M. Rabie, The Political Theory of lbn Khaldun, op. cit. pp. 54, 55.

الفرض الرابع: القيود المفروضة على التعليل المثنوي والميتافيزيقي

الفرض الرابع: القيود المفروضة على التعليل المثنوي, والميتافيزيقي أ- القيود المفروضة على التعليل المثنوي, أو الثنائي: حتى نستطيع إثبات النصف الأول من هذا الفرض المنهجي نشير بداءة ذي بدء إلى ظاهرتين يمكن ملاحظتهما من خلال مناقشاتنا السابقة. الأولى: أنه يبدو أن ابن خلدون في تناوله للمسائل الإيمانية ودور الدين في العمران كان يلجأ إلى القرآن الكريم, والسنة النبوية؛ ليستلهم منهما الإجابة على ما يعترضه من موضوعات. والثانية: أنه فيما خلا هذا الميدان كان يطبق الأسلوب العقلاني ليفسر كافة الظواهر ذات الطبيعة الزمنية. ولكن الأهم في نظرنا هو أنه لم يطبق هاتين الظاهرتين من طرق المعالجة بشكل جامد, أو في عزلة تامة عن بعضهما

وإنما استعان أحيانا بهما معا وفي نفس الوقت؛ لإثبات ظاهرة واحدة من الظاهرتين اللتين أشرنا إليهما الآن. وفي المقدمة أمثلة كثيرة على ذلك, منها مثلا رأيه حول عودة المسيح أو المهدي وهو رأي لا يمكن إدراجه تحت أي من الطريقتين المشار إليهما. فمن ناحية يسلم ابن خلدون بوجهة نظر الدين بشأن عودة المسيح ويعتبرها حقيقة غير قابلة للمناقشة. ومن ناحية أخرى فهو لا يكتفي بمجرد التحليل الديني للموضوع, بل يعبر عن عدم رضائه على الخرافات التي يلصقها البعض به, ويطبق نتائج دراساته فيضع ثلاثة شروط مادية يرى أنه لا بد من توافرها لعودة المسيح, وهي: ضرورة ظهوره بين جماعة قوية تلم شملها قوة العصبية لتشد أزره، وأن يكون متمتعا بصفات الزعيم حتى يستطيع تحقيق أهدافه، وأن يولد في ظروف تؤدي إلى بناء دولة قوية1. وهناك مثال آخر في هذا الشأن هو وجهة نظره في قيمة, ودور العمل الإنساني. وقد سبق الاستشهاد برأيه في نهاية مناقشتنا للفرض الأول أعلاه, إذ يقول: "فالكل من عند الله. فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول ... ". ب- القيود المفروضة على التعليل الميتافيزيقي: لإثبات النصف الثاني من الفرض المنهجي قد يكفي أن نسترجع بعض الأساليب الهامة التي ابتكرها ابن خلدون, وناقشناها في فروضنا السابقة؛ وذلك لتبيان مدى الاختلاف بين منهجه والمنهج الميتافيزيقي. وفي الواقع تكمن الخلافات الأساسية بين الاثنين في عدة نقاط أهمها: - إيمانه بحتمية التغيير الاجتماعي الدائم. - العلاقة الديناميكية بين الأسباب, والنتائج. - الاهتمام الكبير الذي أولاه لدور المتناقضات في حياة الجماعة. وحتى نتلافى تكرار ما سبق إثباته, سنناقش بإيجاز بعض الأمثلة الهامة لتلك

_ 1 lbid., pp. 37. 43, 44.

الخلافات, وخاصة ما يتعلق منها بدور المتناقضات في النتائج التي توصل إليها. 1- اختلف ابن خلدون مع المنهج الميتافيزيقي في شرحه لظواهر مثل العمران, البداوة، الحضارة والعصبية. فقد كشفت كتاباته أنه يعتبر كلا منها ظاهرة مركبة قابلة للتغيير والانتقال من شكل إلى آخر. فالعمران مثلا قد يكون يدويا أو حضريا. والعمران البدوي "أو البدائي" نفسه ليس له شكل محدد؛ لأن نوع الحياة المتخلفة التي يعبر عنها قد توجد في الصحراء أو الجبال أو القرى الصغيرة. وبالمثل, فإن ظواهر مثل العمران الحضري والعصبية ليس لها شكل مفرد أو محدد. هذا علاوة على أنه بتغيير أسلوب الحياة المادية, فإن الملامح المميزة لهذه الظواهر ووظائفها -كما في حالة العصبية- تتغير بالتبعية1. فالتغيير من شكل إلى آخر, أو من مرحلة إلى أخرى كثير الحدوث, ويخضع للتغيرات البيئية المحيطة التي تحدث في العمران البشري. 2- اختلف ابن خلدون مع المنهج الميتافيزيقي أيضا في تحليله لجوهر كل ظاهرة على حدة, وكشف أن كلا منها قد تحتوي على صفات الخير والشر في نفس الوقت2, أي: إن الشيء الواحد, أو الظاهرة الواحدة يمكن أن تتضمن صفات وعناصر متناقضة. فمثلا يتميز الناس الذين يعيشون في ظل البداوة بالشجاعة والفضيلة وعدم الالتواء, ولكنهم في نفس الوقت أجلاف متخلفون وينقصهم الأخذ بأسباب الحياة المنظمة. وبالإضافة إلى تحليل جوهر كل ظاهرة, تعرض ابن خلدون لأشكال هامة أخرى من التناقض تتولد من العلاقات المتشابكة للقوى الاجتماعية. من ذلك النظريات التي وضعها عن نمو واضمحلال الإمبراطوريات،

_ 1 المقدمة, طبعة وافي، صفحة 407 وما بعدها. لدراسة أشمل لتأثير مثل هذا التغيير على وظائف العصبية, انظر مؤلفنا: The political Theory of lbn Khaldun, op. cit. op. 52. 2 كذلك: علي الوردي, منطق ابن خلدون, مرجع سابق, صفحات 78-81.

وعن أسباب دورات هذا النمو والاضمحلال1. ويمكن ملاحظة فكرة التناقض في خلفية كثير من آرائه. مثال ذلك التناقض الرئيسي بين أسلوب الحياة البدائية وأسلوب الحياة الحضرية, وهو التناقض الذي ينبع منه تناقضات كثيرة فرعية. فالجماعات البدائية تتصارع حتى تستطيع الجماعة التي تعيش أكثر أنواع الحياة خشونة -وبالتالي تتمتع بأقوى مشاعر العصبية- التغلب على الجماعات الأخرى, وفرض سيطرتها عليها. وينشأ التناقض التالي بين هذه الجماعة الموحدة القوية الشكيمة, وبين دولة حضرية مجاورة آيلة للتحلل ويتمخض الصراع بينهما إن آجلا أو عاجلا عن انتصار الجماعة البدوية الموحدة واستيلائها على الدولة الضعيفة. إلا أن الأطماع الشخصية والظروف السياسية الجديدة التي لم يألفوها تمثل خطرا بالنسبة لنظام حكمهم الجديد, ويتولد عن ذلك صراع قوي داخل الجماعة التي كانت يوما ما موحدة وذات عصبية قوية. ويتزايد العداء بين أعضاء الجماعة, وبين قائدهم الذي استولى على سلطة الملك؛ وذلك بسبب محاولته الاستئثار بالحكم دونهم. ولتدعيم سلطته وتقويتها في وجه أبناء عصبيته يستورد الحاكم مرتزقة لمساندته, ويؤدي الموقف الجديد إلى تناقض آخر بين العصبية التي أقصيت عن الحكم وبين المرتزقة الجدد, وهو تناقض ينذر بالخطر ليس فقط لأن أهل العصبية يتخلون عن قائدهم, وعن مساندة الهدف المشترك الذي جاء بهم إلى الحكم, وإنما أيضا لاشتراكهم في مؤامرات من أجل أحداث تغيير قد يكون في صالحهم. ويزيد تدهور الموقف بسبب الفوضى الاقتصادية والاضطرابات السياسية, وهي ظروف مناسبة تعطي

_ 1 يدرج بعض العلماء المعاصرين ابن خلدون ضمن المفكرين الذين تشكل فكرة صراع المتناقضات ركنا أساسيا في نظرياتهم. انظر في ذلك: H. Becker and H. Barnes, Social Thought from Lore to Science , New York, 1961 (ifirst published in 1938) pp. 706-708; Don Martindale Communirty Character and Civilization London 1963, pp. 119 ff.

الفرصة لجماعة بدوية جديدة تبحث عن حياة الراحة والرفاهية في المدن. ويصل التناقض إلى مرحلة الصدام, وتسقط الدولة بتكتلاتها المتصارعة, وينشأ نظام حكم جديد, وتبدأ دورة أخرى من حلقات العمران بتناقضات جديدة. 3- والنقطة الهامة الأخيرة في الخلاف بين المنهج الخلدوني, والمنهج الميتافيزيقي هي العلاقة التي يمكن تتبعها في مناقشاته بين عاملي الصراع والتغيير، وقد تساعدنا آراء ابن خلدون في تطور العصبية على توضيح ذلك. إذا تتبعنا تسلسل دراساته نجد أن العصبية في العمران البدوي تلعب دورا حاسما وتقوم بمهمة القوة الموحدة للجماعة. ولكن بعد الانتقال إلى العمران الحضري يحدث صراع بين القوى المكونة للعصبية بسبب ما سبقت الإشارة إليه من محاولة زعيمها -الذي أصبح ملكا- الاستئثار بأبهة الحكم لنفسه, واستبعاد قوة العصبية التي جاءت به إلى السلطة. ويتضافر الاضطهاد الذي يتعرض له أفرادها مع التأثيرات الضارة الناجمة عن انغماسهم في النعيم والملذات على كسر شوكة العصبية, وانحلال عقدها تدريجيا. ولكن حيث إن هدف العصبية كما يشرح ابن خلدون هو بناء نظام حكم ملكي والانتقال من شقاء البداوة إلى نعيم الحضارة, فإننا نستخلص من ذلك النتائج الآتية: - تساعد العصبية على خلق الظروف التي تؤدي إلى الصراع ثم إلى إحداث التغيير. - العصبية تجسيد للعناصر الكامنة التي تعمل على إحداث مثل هذا الصراع. - تؤدي العصبية بذلك إلى تدمير نفسها بنفسها1. ملاحظة أخيرة حول مغزى المنهج الخلدوني للعلوم الإنسانية: شرحنا في مقدمة هذا البحث كيف أدت التفسيرات الجزئية للمنهج الخلدوني -والتي استعرضناها في مستهل بحثنا- إلى صعوبة التوصل إلى حد أدنى من الاتفاق على الملامح الأساسية لهذا المنهج, والأسس التي ينبني عليها رغم الكتابات القيمة التي تعرضت للموضوع وخاصة في السنين الأخيرة.

_ 1 M. m. Rabie, The Political Theory of lbn Khaldun, op. cit. p. 46.

وبعد مناقشتنا للفروض المنهجية الأربعة لعلم العمران نستطيع التقدم بإجابات متوازنة عن الأسئلة التي سبق أن وجهناها في بداية البحث1. فقد كان مما يدعو إلى القلق أن يؤدي التعارض الشديد في الآراء حول منهجه أن يظن قارئ المقدمة أن هذا المنهج يفتقر إلى التماسك, وإلى خط واضح مميز. وفي الواقع كان من الممكن أن نصل إلى هذه النتيجة -كما أوضحنا- لو أجرى البحث بشكل جامد وعلى أساس التفرقة بين الظواهر بأسلوب الأبيض والأسود. ولكن مثل هذه الطرق والأساليب غير العملية في البحث مضللة, علاوة على أن ابن خلدون نفسه عارض التفسيرات الجامدة للأحداث والظواهر كما عارض أيضا التفسير الجامد لبعض المبادئ التي كانت مطبقة في الخلافة الإسلامية2، وفضل على ذلك التفسيرات والمفاهيم النسبية. فمثلا إذا قصرنا دراستنا لكتابات ابن خلدون على العلاقة المتبادلة بين الدين والمجتمع, فإن النتيجة التي سنخرج بها هي أنه مفكر مثالي. وبالمثل إذا قصرناها على تفسيراته الاقتصادية, أو حججه المادية الكثيرة التي استعان بها, فإننا سنعتقد أنه مفكر مادي. وحيث إننا لا نستطيع أن نلجأ إلى مثل هذا التكنيك في تحليلنا؛ لأن المفكر الذي نتعرض لمنهجه بالدراسة هو نفسه الذي طبق كلا من الأسلوبين المشار إليهما, فإنه يصبح من غير المأمون دمغ منهجه بأي من هذين التعميمين المتطرفين المشتقين كل على حدة من أسلوب معالجة يبدو ثنائيا في الظاهر. لهذا فإننا لا نستطيع القول: إن منهجه يستند فقط إلى أساس ديني كما لا نقدر على دمغه بأنه مادي. والاستنتاج الذي يمكن أن نخرج به من كل مناقشاتنا هو أنه منهج مركب, وجديد يضاعف من قيمته وأصالته أن ابن خلدون -وهو المؤمن الغيور على الدين- لم يسبق بأي مفكر من أية عقيدة سياسية أو دينية نجح في التوصل إلى ما توصل إليه من معالجة علمية مبتكرة

_ 1 انظر أعلاه صفحة 55. 2 راجع في ذلك دراستنا لموقفه من العلاقة بين تدهور الخلافة الإسلامية وظاهرتي تنصيب خليفتين في آن واحد والتخلي عن مبدأ القرشية أي: عن شرط أن يكون الخليفة من قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي قبيلة "قريش". فبالنسبة للظاهرة الثانية مثلا نلاحظ أسلوبه =

للعلاقات المتبادلة بين العوامل الاقتصادية, والظواهر الاجتماعية. والنقطة الأخيرة التي نريد إيضاحها هي أن منهج ابن خلدون كمفكر عبقري لا يمكن بحثه كظاهرة منعزلة في ميدان دراسة المناهج وعلاقاتها بالنظريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهو بهذا يستحق منا نظرة شاملة أخيرة قد تلقى الضوء على مكانه في حقل دراسة المناهج. وسواء ترك علم العمران والمنهج الخلدوني آثارهما على المفكرين السياسيين والاجتماعيين1 الذين جاءوا بعده أم أن منجزاته العلمية ظلت مجهولة, فإن هذا لا يقلل بحال من الأحوال من الحاجة إلى إعادة النظر في تطور المناهج العلمية في العلوم الإنسانية, والاعتراف بفضله في هذا المجال. ويقدم بحثنا الموجز هذا بعض المؤشرات الإيجابية على أن منهج ابن خلدون يمكن اعتباره مرحلة متوسطة بين المناهج المجردة التي كانت سائدة قبله في العصور الوسطى من جانب, وبين المناهج الوضعية والمادية لكبار المفكرين الذين ظهروا بعده وخاصة في أوروبا من جانب آخر. هذا علاوة على أن استحالة تصنيف منهجه بشكل مطلق, وحاسم تحت عناوين ميتافيزيقية أو مادية لهو دليل آخر على أنه يمثل مرحلة انتقال بين الاثنين.

_ = العلمي في عدم التمسك الجامد بمبدأ جرت العادة على تطبيقه, وذلك على أساس أنه ما دامت عصبية العرب عامة, وعصبية قريش خاصة قد فقدت القوة التي بها يكون الحكم والمحافظة على المصالح العامة, فإن مثل هذا الشرط في رأيه أصبح لا ضرورة له. ويختلف موقفه هذا عن موقف الفقهاء الذين اتخذوا موقفا جامدا بإصرارهم على ضرورة مراعاة شرط القرشية حتى ولو افتقر الخليفة الجديد إلى المساندة, والقوة اللتين تمكنانه من تنفيذ المسئوليات والشروط الأخرى لتولي منصب الخليفة. 1 ينادي بعض العلماء بضرورة القيام بمزيد من الدراسات لبحث أوجه الشبه الهامة بين الأفكار التي أوردها ابن خلدون في علم العمران, وآراء بعض المفكرين الذين جاءوا بعده مثل بودان وأوجست كونت. انظر في ذلك تمهيد الدكتور علي عبد الواحد وافي لمقدمة ابن خلدون صفحة 177, كذلك الدكتور عبد العزيز عزت "تطور المجتمع البشري عند ابن خلدون" في أعمال مهرجان ابن خلدون، مرجع سابق, صفحات52، 53، كذلك: H. Becker, and Harry Elmer Barnes, Social Thought from Lore to Science, op. cit., p. 349.

الفصل الثالث: مفهوم الفلسفة في العصر الحديث

الفصل الثالث: مفهوم الفلسفة في العصر الحديث المبحث الأول: المذاهب والتيارات الجديدة حدث رد فعل عنيف في عصر النهضة لتجاوزات الكنيسة الكاثوليكية والقيود الشديدة التي فرضتها السلطات البابوية على العقل والعلم. لهذا اتجه المفكرون إلى إحياء التراث الفلسفي القديم الذي ترعرع في ظل أثينا وروما، وانتعشت حركة ترجمة مؤلفات الفلاسفة, والمفكرين العرب خلال العصر الوسيط. أثمرت تلك التطورات فازدهرت العلوم والفنون في أوروبا, وتحرر الفكر السياسي من سطوة اللاهوت, فظهرت مؤلفات ماكيافيللي. ولم يبدأ العصر الحديث حوالي القرن السابع عشر إلا وكانت الفلسفة تمر بحالة نشاط مماثل, وربما ثورة تجلت في كثرة المذاهب التي تصارعت فيما بينها وتطلع الفلاسفة إلى وضع فلسفة جديدة قوامها العقل الذي صار سمة للعصر كله, حتى إن القرن السابع عشر يطلق عليه عصر العقل. وقد ذهب أصحاب التيار العقلي Rationalism إلى إرساء الفلسفة على العقل، ورأى أصحاب التيار التجريبي Empiricism إقامتها على المشاهدة والتجربة. وإذا كانت الفلسفة القديمة قد ركزت على البحث في الوجود بما هو وجود، فإن الفلسفة الحديثة كانت معنية بالدرجة الأولى بالبحث في المعرفة وطبيعتها

للوقوف على حقيقة العلاقة التي تربط بين قوى الإدراك والأشياء المدركة. وقد تمخض عن ذلك جدل عنيف بين المذاهب المثالية ldealism, وبين المذاهب الواقعية Realism. اهتمت دراسات أخرى بأدوات المعرفة, ومصادرها فنتج عنها جدل بين المذاهب العقلية والحدسية من جانب Rationalism, lntuitionism, وبين المذاهب التجريبية والوضعية من جانب آخر Empiricism, Positivism. شمل الجدل بين التيارات الحديثة أيضا موضوع إمكان قيام المعرفة الصحيحة وتبلور الخلاف حول مذهبين هما: مذهب الشك Scepticism, ومذهب التيقن Dogmatism. ولعل من الفروق الأساسية بين الفلسفتين القديمة والحديثة هو أن القديمة اهتمت بالوجود ونظرت من خلاله إلى المعرفة. بينما على العكس من ذلك اهتمت الفلسفة الحديثة بالمعرفة, ونظرت من خلالها إلى الوجود. ومن أعلام الفلاسفة في العصر الحديث فرانسيس بيكون, ورينيه ديكارت. يعتبر بيكون "1561-1626" أول فيلسوف أوروبي حديث يضع أسس المنهج التجريبي. كما تتأكد أهمية هذا الفيلسوف الإنجليزي أيضا من مفهومه للفلسفة التي نظر إليها على أنها التفسير الوصفي للكون عن طريق المشاهدة والتجربة بهدف السيطرة على الطبيعة, والتحكم في مواردها. أما الفيلسوف الفرنسي ديكارت "1596-1650" فهو صاحب المنهج العقلي في الفلسفة الأوروبية الحديثة. وقد استمر ديكارت في النظر إلى الفلسفة على أنها العلم بالمبادئ الأولى, معتبرا إياها علم العلوم فشبهها بشجرة جذورها ما بعد الطبيعة وجذعها علم الطبيعة وفروعها الطب والميكانيكا والأخلاق. وهناك عدة أوجه شبه مبدئية بين بيكون وديكارت. فقد اعتبر كلاهما أن التفلسف أداة لتحقيق سعادة الإنسان, كما اتفقا ومعهما جاليليو على أن

المنهج القديم لأرسطو قد انتهى عصره, وأن الموضوع الأجدر بالدراسة هو المنهج الذي يلائم طبيعة العلوم الحديثة. ويعلق أحد الفلاسفة المحدثين -كلود برنارد- على ذلك بقوله: إن المنهج التجريبي لا يعترف إلا بحجية الظواهر الواقعية, أي: إنه يتحرر من نفوذ وشهرة الفلاسفة القدماء, فعندما يقول ديكارت مثلا: إنه يجب ألا نعتمد على شيء سوى الحقائق البديهية, أو على ما تمت البرهنة عليه بشكل كافٍ فليس المقصود أنه يتعين علينا الرجوع في أحكامنا إلى الثقات من السلف, وإنما معناه ألا نعتمد إلا على الظواهر التي تثبت التجربة صحتها1. أشرنا بإيجاز إلى المذاهب والتيارات الجديدة، وكذلك لمفهوم الفلسفة في العصر الحديث, وأهم أوجه الخلاف بينها وبين الفلسفة في العصور القديمة. من ناحية أخرى, هناك أوجه للخلاف بين الفلسفتين الحديثة والمعاصرة تتجلى في أن الفلسفة الحديثة تنظر إلى المعرفة باعتبارها شاملة للوجود، بينما تمردت الفلسفة المعاصرة على تبديد النظر العقلي في الوجود العام ومعرفته, وتحولت إلى دراسة الإنسان في وجوده الواقعي, وإن كان هذا قد أثار كثيرا من الخلاف بين مدارس الفكر الفلسفي المعاصر.

_ 1 محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، الطبعة الخامسة، القاهرة 1967، ص34، 35، توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص51، 52.

المبحث الثاني: المنهج في كتابات بيكون وديكارت

المبحث الثاني: المنهج في كتابات بيكون وديكارت مدخل ... المبحث الثاني: المنهج في كتابات بيكون وديكارت سبق أن أشرنا بإيجاز إلى أهم سمات منهج البحث الإسلامي كمقدمة ضرورية لتقييم المنابع التي نهل منها علماء أوروبا في نهاية العصر الوسيط وفي عصر النهضة، ولفهم تأثيرات ذلك المنهج بشكل خاص على آراء روجر بيكون في القرن الثالث عشر ثم تأثيراته على كتابات فرانسيس بيكون في القرن السابع عشر.

وحيث إننا سندرس في الباب الثاني المفهوم الليبرالي لمداخل ومناهج البحث، فقد يكون من المفيد استقصاء الجذور المنهجية لهذا المفهوم, والتي تتمثل في إنجازات كل من فرانسيس بيكون ورينيه ديكارت. لهذا سنخصص هذا المبحث لاستعراض موجز أيضا للخطوط العريضة التي ميزت منهجيهما اعترافا بما لهما من فضل على تطوير القوانين التي تحكم الفكر, والتي استفاد منها فيما بعد علماء المناهج في أوروبا, وخاصة جون إستيوارت ميل.

فرانسيز بيكون

فرانسيز بيكون ... فرانسيس بيكون: وضع بيكون أسس المنهج التجريبي الجديد بشكل واضح في كتابه الذي أسماه الأورجانون "أي: الآلة" الجديد Novum Organum تمييزا له عن الأورجانون القديم لأرسطو. وقد نحا بيكون فيه نحوا جديدا تجلى في اتخاذ الظواهر الحسية موضوعا للدراسة, واعتماد الاستقراء منهجا لبحثها. أي: إنه تخلى عن التفكير القياسي الصوري وأحل محله الملاحظة والتجربة. اهتم بيكون اهتماما كبيرا بالعلوم الطبيعية, واعتمد في شرحه للمنهج العلمي على كثير من الأمثلة والتجارب المستمدة منها. ويشتمل منهجه الاستقرائي الجديد على قسمين: سلبي نقدي وإيجابي بنائي. ينتقد الأول الأخطاء التي تعوق تطور العلوم الطبيعية وتمنع العقل من كشف الحقيقة، بينما يشرح القسم الثاني المنهج السليم1. أولا: حذر بيكون في القسم السلبي من منهجه مما أسماه بالأوهام أو الأوثان التي تعوق التوصل إلى الحقيقة, وتؤدي بالباحثين إلى الخطأ, لهذا نصح بتحرير العقل من تأثيرها. والأوهام التي حذر منها أربعة, نجملها فيما يلي:

_ 1 المرجع السابق، ص187-190.

1- أوهام الجنس ldols of the race: وهي الأخطاء التي تسببها طبيعة الجنس البشري بشكل عام من حيث التسرع في إصدار الأحكام والتسليم بالأفكار التي تصادف هوى في نفس الإنسان, أو تحقق له مصلحة ما فيختار الشواهد التي تؤيد تلك الأفكار, ويستبعد تلك التي تتناقض معها. يؤدي ذلك أيضا إلى الاعتقاد بالخرافات, فمثلا: إذا تصادف وقوع كارثة على إثر نعيق البوم, فإن الإنسان الساذج يظن أن ذلك الصوت نذير بالكوارث دون أن يفطن إلى عشرات المرات التي يسمع فيها النعيق دون أن يعقبه سوء. 2- أوهام الكهف ldols of the cave: وهي الأخطاء التي تنجم عن التصرفات الخاصة لشخص ما. فلكل فرد كهفه الخاص به, بمعنى أنه أسير عوامل وعادات معينة هي محصلة تربيته وثقافته وتكوينه الخاص. يترتب على ذلك اختلاف الأفراد في نظرتهم للأمور وحكمهم عليها, وهو ما يستتبع بالتالي التزام جانب الحذر, واجتناب الانسياق وراء الأهواء والميول الذاتية. 3- أوهام السوق ldols of the market place: وهي الأخطاء الناشئة عن عدم توخي الدقة اللغوية عند التخاطب والتعامل, أو عند التعبير عن الأفكار. ويكون تلافي تلك الأخطاء بتحديد معاني الألفاظ, ومعرفة دلالاتها. 4- أوهام المسرح ldols of the theatre: وهي الأخطاء التي يقع فيها الإنسان بسبب تسليمه بآراء السلف من العلماء والفلاسفة دون تمحيص. تلك الآراء أو المذاهب الفلسفية هي بمثابة المسرحيات التي تشير إلى عوالم من خلق مؤلفيها, ولا تمت إلى الواقع بصلة. من ذلك مثلا الاستنكار الذي واجهه العالم الإيطالي جاليليو عندما اكتشف بعض الأخطاء Results فرانسيز بيكون 1- أوهام الجنس ldols of the race: وهي الأخطاء التي تسببها طبيعة الجنس البشري بشكل عام من حيث التسرع في إصدار الأحكام والتسليم بالأفكار التي تصادف هوى في نفس الإنسان, أو تحقق له مصلحة ما فيختار الشواهد التي تؤيد تلك الأفكار, ويستبعد تلك التي تتناقض معها. يؤدي ذلك أيضا إلى الاعتقاد بالخرافات, فمثلا: إذا تصادف وقوع كارثة على إثر نعيق البوم, فإن الإنسان الساذج يظن أن ذلك الصوت نذير بالكوارث دون أن يفطن إلى عشرات المرات التي يسمع فيها النعيق دون أن يعقبه سوء. 2- أوهام الكهف ldols of the cave: وهي الأخطاء التي تنجم عن التصرفات الخاصة لشخص ما. فلكل فرد كهفه الخاص به, بمعنى أنه أسير عوامل وعادات معينة هي محصلة تربيته وثقافته وتكوينه الخاص. يترتب على ذلك اختلاف الأفراد في نظرتهم للأمور وحكمهم عليها, وهو ما يستتبع بالتالي التزام جانب الحذر, واجتناب الانسياق وراء الأهواء والميول الذاتية. 3- أوهام السوق ldols of the market place: وهي الأخطاء الناشئة عن عدم توخي الدقة اللغوية عند التخاطب والتعامل, أو عند التعبير عن الأفكار. ويكون تلافي تلك الأخطاء بتحديد معاني الألفاظ, ومعرفة دلالاتها. 4- أوهام المسرح ldols of the theatre: وهي الأخطاء التي يقع فيها الإنسان بسبب تسليمه بآراء السلف من العلماء والفلاسفة دون تمحيص. تلك الآراء أو المذاهب الفلسفية هي بمثابة المسرحيات التي تشير إلى عوالم من خلق مؤلفيها, ولا تمت إلى الواقع بصلة. من ذلك مثلا الاستنكار الذي واجهه العالم الإيطالي جاليليو عندما اكتشف بعض الأخطاء

في أقوال السلف من الفلاسفة. فبعد أن اخترع التلسكوب, وتمكن من رؤية كلف على وجه الشمس عرضه على زملائه في جامعة بيزا، ولكن بعضهم أنكر ذلك استنادا إلى أنه لم يجد في كتب أرسطو ما يثبت هذا الكلف. كذلك عابوا عليه جرأته في نقد آراء أرسطو بعد التجربة التي أثبت فيها خطأ المفكر اليوناني الكبير الذي كان يظن أن إلقاء جسمين مختلفين في الوزن من مكان مرتفع يؤدي بالجسم الأثقل إلى بلوغ الأرض قبل الأخف. ثانيا: رغم أن أرسطو أدرك أن القياس والاستقراء هما أسلوبان للبرهنة -ينتقل بواسطتهما العقل من الكلي إلى الجزئي أو العكس- فإنه اهتم بشكل أساسي بنوع خاص من البرهنة هو القياس المنطقي. وقد ظل هذا المنهج سائدا في العصور القديمة, ثم استفحل أمره على يد المدرسيين في العصر الوسيط. وقد تعرض منهج أرسطو للنقد الشديد في أوروبا أيضا -وليس فقط في العالم الإسلامي- وذلك ابتداء من عصر النهضة, حيث ندَّد به العالم الكبير راموس وغيره من المفكرين الذين دعوا إلى الاعتماد على الملاحظة والتجربة. ثم جاء فرانسيس بيكون ليحسم الخلاف نهائيا في أوروبا, وذلك بحملته على القياس المنطقي كوسيلة عقيمة تلزم الباحث بالتسليم بصحة المقدمات سلفا، والسعي لإثبات صحة ما هو معلوم مع العجز عن الكشف عن أية أفكار جديدة. وقد لخص بيكون القسم الإيجابي من منهجه في عدة مراحل, أهمها مرحلة التجريب، ثم مرحلة التسجيل1. 1- تشمل مرحلة التجريب جمع أكبر عدد ممكن من مفردات الظاهرة موضوع البحث حتى تسهل ملاحظتها في الظروف المختلفة. ويهدف بيكون من ذلك إلى تنويع التجارب وتكرارها ونقلها من المألوف إلى غير المألوف.

_ 1 المرجع السابقن ص191-193، عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، القاهرة 1968، ص158-162.

فإذا كان الورق يصنع من قصاصات الثياب مثلا، فهل يمكن استخراجه من مواد أخرى مثل لب الخشب؟ 2- أما مرحلة التسجيل, فتعني ترتيب وتصنيف الحقائق التي جمعت بشكل منظم في إطار لوحات, أو قوائم مميزة, أشار بيكون إلى ثلاث منها هي: قائمة حضور أو إثبات، وقائمة غياب أو نفي، وقائمة مقارنة أو تفاوت في الدرجة. ففي قائمة الحضور أو الإثبات يتم جمع الشواهد والأحوال العديدة التي يمكن مشاهدتها, أو التحقق منها بالنسبة لظاهرة من الظواهر. وقد ذكر بيكون مثالا لذلك بمصادر الحرارة, فجمع 27 حالة تحدث فيها الحرارة كأشعة الشمس والاحتكاك والصواعق والاختمار وحرارة الكائنات الحية ... إلخ. وفي قائمة الغياب أو النفي أحصى بيكون الأحوال التي تختفي فيها ظاهرة الحرارة لعدم وجود المسبب, أي: أورد جميع الأمثلة التي تقابل الشواهد السالفة وتنعدم فيها الحرارة. ففي حالة الحرارة المتولدة من أشعة الشمس, هناك حالة أخرى لا تظهر فيها الحرارة لغياب العنصر المسبب لها وهو الشمس, هذه الحالة قد تكون حلول الليل, أو كسوف الشمس. وفي قائمة المقارنة أو تفاوت الدرجة يتم تسجيل الشواهد التي تظهر فيها الحرارة بدرجات تتفاوت قوة وضعفا. وقد أحصى بيكون في هذه القائمة إحدى وأربعين حالة تبين التغير الذي يطرأ على الظاهرة زيادة, ونقصا تبعا لتغير الظروف. رغم ذلك تعرض منهج بيكون للنقد؛ لأنه لم يستهدف كشف القوانين, وإنما مجرد الكشف عن صور الظواهر للتعرف على الخواص الذاتية للأشياء تمهيدا للسيطرة عليها. كما اعتبره البعض منهجا غير دقيق, لا يقدم للباحث إلا بعض النصائح التي تساعده أثناء البحث. لهذا تعقد المقارنات أحيانا بين منهجي بيكون, وجون إستيوارت ميل "1806-1873" على أساس أن هذا الأخير استهدف وضع القواعد أو اللوائح

الضرورية كخطوات لا بد من اتباعها في المنهج التجريبي لتكوين البرهان الاستقرائي, والتوصل إلى اكتشاف القوانين, وذلك عن طريق إثبات الروابط العلية بين الظواهر. لكن منهج ميل نفسه لم يسلم هو الآخر من النقد الشديد, انطلاقا من أنه وإن كانت نصائح وإرشادات بيكون فضفاضة يأخذ بها الباحث, أو يعدل عنها وفقا للظروف والحاجات، فإن قواعد ميل متزمتة لا تسمح بالتحلل منها. ونكتفي هنا بتعداد تلك القواعد التي تعرف بمناهج ميل الخمسة وهي: منهج الاتفاق، منهج الافتراق، المنهج المزدوج للاتفاق والافتراق، منهج البواقي، منهج التغيرات المساوقة.

رينيه ديكارت

رينيه ديكارت: تأثر منهج ديكارت تأثرا عميقا بدراساته الرياضية في صدر شبابه, وانعكس ذلك بصفة خاصة في كتابيه "القواعد لتوجيه العقل" وفيه شرح لمنهجه بالتفصيل، ثم "المقال عن المنهج" وهو تلخيص للكتاب الأول. والمنهج كما يراه هو "قواعد وثيقة سهلة تمنع مراعاتها الدقيقة من أن يؤخذ الباطل على أنه حق، ويبلغ بالنفس إلى المعرفة الصحيحة بكل الأشياء التي نستطيع إدراكها, دون أن نضيع في جهود غير نافعة". أقام ديكارت منهجه على أساسين, هما: الحدس والاستنباط العقلي, وهو يعني بالحدس انتقال الذهن انتقالا سريعا مباشرا من معلوم "يقيني" إلى مجهول. فهو نور فطري يمكن الإنسان من إدراك الأفكار البسيطة والحقائق الثابتة والروابط بين قضية وأخرى إدراكا مباشرا -بغير وسيط من عقل أو تجريب- وفي نفس الوقت وليس على التعاقب. أما الاستنباط العقلي فمرحلة تالية للحدس, وهو حركة ذهنية نستنتج بها شيئا مجهولا من شيء

معلوم, ويراد به البرهنة على قضية ما عن طريق مبادئ عامة تصدق عليها، وبه نستخلص من شيء نعرفه معرفة يقينية نتائج تلزم عنه1. اتهم ديكارت منطق أرسطو بالتعقيد, ووضع بدلا منه قواعد سهلة يمكن تطبيقها في كل بحث نظري. وقد لخَّص القواعد المتعددة التي وضعها في أربع فقط, هي2: 1- قاعدة اليقين: "لا أقبل شيئا قط على أنه حق, إلا إذا عرفت يقينا أنه كذلك". ويمكن تطبيق هذه القاعدة من وجهة نظره باجتناب التهور والتسرع في إصدار الحكم قبل النظر. واجتناب التهور هو الامتناع عن الحكم قبل أن يصل العقل إلى يقين كامل، بينما يعني التحذير من الحكم قبل النظر اجتناب الأخذ بأفكار خاطئة عن السلف. لقد كان الوضوح هو معيار الصواب والخطأ الذي أخذ به ديكارت, واعتبره وسيلة ناجعة لتخليص العقل من الأفكار الباطلة الموروثة، والتحرر من سلطان الكنيسة وتأثير الفلسفة المدرسية للعصر الوسيط. 2- قاعدة التحليل: "نقسم المشكلة موضوع البحث ما أمكننا ذلك، أي: نقسمها إلى أجزاء بسيطة بقدر ما تدعو الحاجة إلى حلها على أحسن وجه". إن الهدف من ذلك هو رد المركب إلى البسيط, والمعقد إلى السهل حتى تتضح الفكرة, ويمكن تأمين العقل من الزلل. ويدرك العقل هذا البسيط بالحدس الذي يدرك الأفكار البسيطة والحقائق الثابتة. فهو إذًا يجعل العلم بالمعقولات سابقا على العلم بالمحسوسات؛ لأن الأفكار أوضح من الأشياء.

_ 1 توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص147، 148. 2 المرجع السابق، ص148-150، نجيب بلدي، ديكارت، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، القاهرة 1959، ص65 وما بعدها، 175 وما بعدها.

3- قاعدة التأليف والتركيب: "قيادة الأفكار بنظام, مبتدئين بأبسطها وأشملها معرفة, والتدرج إلى أكثرها تعقيدا". وتكمل هذه القاعدة ما ذكرناه في القاعدة السابقة. 4- قاعدة الاستقراء التام: "القيام بإحصاءات كاملة, ومراجعات شاملة تجعلني على يقين من عدم إغفال شيء له صلة بالمشكَلة المعروضة". أي: إن ديكارت يلزم الباحث بالقيام بمراجعات فكرية متصلة لكل ما يرتبط بموضوع بحثه.

الفصل الرابع: مفهوم الفلسفة لدى مدارس الفكر المعاصر

الفصل الرابع: مفهوم الفلسفة لدى مدارس الفكر المعاصر المبحث الأول: التيار التقليدي المعاصر ... الفصل الرابع: مفهوم الفلسفة لدى مدارس الفكر المعاصر لا تزال قلة من الفلاسفة المعاصرين تهتم بالموضوعات القديمة للوجود والمعرفة, لكن الاتجاه الغالب لدى معظم المدارس والتيارات المعاصرة هو عدم التركيز على دراسة الوجود بعلله البعيدة ومبادئه الأولى, وعدم دراسة المعرفة للوقوف على طبيعتها وأدواتها، والاهتمام بدلا من ذلك بالبحث في وجود الإنسان ذاته. يعتبر هذا تحولا كبيرا في تاريخ الفلسفة حيث انتقل مجال التفلسف من مبحث الوجود العام إلى وجود الإنسان الخاص. ويمكن تلخيص مواقف المدارس والتيارات الفلسفية المعاصرة من مفهوم الفلسفة فيما يلي: المبحث الأول: التيار التقليدي المعاصر سبقت الإشارة إلى أن اهتمام الفلسفة التقليدية كان منصبا على طبيعة الوجود وحقيقة النفس الإنسانية, وأن المحدثين من أتباع هذه الفلسفة اتجهوا إلى دراسة الوجود من خلال المعرفة التي احتل البحث فيها مكان الصدارة لديهم. وقد تراوح هدف البحث الفلسفي بين كشف الحقيقة لذاتها كما فعل أفلاطون وأرسطو وأتباعهما, وخدمة الإنسان ومحاولة تيسير حياته الدنيا فيما ذهب إليه بيكون وديكارت ومن نحا نحوهما. ظل جوهر الفلسفة التقليدية حيا مع ظهور تعديلات طفيفة أدخلها عليه بعض الفلاسفة المعاصرين أمثال ماريتان وسينكلير. ويعرف الأخير الفلسفة

بأنها: "محاولة يراد بها فهم الوجود ومعرفة أنفسنا, وإدراك مكاننا من الوجود لأسباب عقلية نظرية, أو أغراض عملية مادية"1. إن الفلسفة طبقا لهذا التعديل المعاصر هي مجرد محاولة للفهم المستنير, بمعنى أنها تمكن الشخص من التوصل إلى أسرار الكون ومجاهل النفس البشرية. ويشرح هذا التيار سعي الفيلسوف لتحصيل تلك المعرفة المستنيرة بأنه قد ينشدها لهدفين: الأول هو إشباع لذته العقلية أو استجابة لحب الاستطلاع الفطري لدى البشر, وبذلك تكون هذه الدراسات العقلية غاية في حد ذاتها تسد حاجة طبيعية إلى المعرفة وهي صيغة أخرى للمقولة الشهيرة: العلم للعلم. والهدف الثاني هو أن البعض ينشد المعرفة المستنيرة لاستثمار نتائجها في دنيا الواقع. هذا, وقد تعرض المفهوم الجديد للتيار التقليدي في تعريف الفلسفة, وتحديد مهمتها لنقد مدارس الفلسفة المعاصرة.

_ 1 W. A. Sinclair, lntroduction to Philosophy, p. 9. أورد النص الدكتور توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص55، 56.

المبحث الثاني: الوضعية الكلاسيكية

المبحث الثاني: الوضعية الكلاسيكية مدخل ... المبحث الثاني: الوضعية الكلاسيكية ارتبطت تلك المدرسة باسم المفكر الفرنسي أوجست كونت "1798-1857". ويطلق اصطلاح وضعية على تلك الفلسفة التي اعتبرت أن "وضع" الأمور في عالم الواقع هو وحده مجال البحث الفلسفي. فالوضعية هي أحد الاتجاهات التجريبية التي ترد المعرفة إلى التجربة, وترفض إرجاعها إلى نور العقل المحض, أو الحدس المستقل عن التجربة. تعتبر الوضعية نقطة تحول في الفكر الفلسفي من حيث إنكارها لما ذهبت إليه الفلسفة التقليدية من التركيز على الوجود لمعرفة أسراره وكشف حقيقة الموجودات, وفهم النفس البشرية وخباياها. وقد استندت الوضعية في هذا الإنكار إلى أن تلك الفلسفة التقليدية لا تقدم لنا من الحلول إلا طائفة من التأملات المجردة التي لا فائدة منها للوجود البشري.

بالتالي أصبحت الفلسفة الميتافيزيقية غير ذات موضوع؛ لأن العلوم التي تعتمد على المناهج التجريبية, وتدرس الواقع المحسوس قد استوعبت مجال تلك الفلسفة. تنتقل الوضعية من ذلك الإنكار للفلسفة التقليدية إلى مستوى آخر في المناقشة, فتدعي أن التطبيقات المختلفة للعلوم التجريبية يمكن أن تساعدنا على التوصل إلى حلول لشتى المشكلات الإنسانية بحيث لم يتبق للفلسفة من مهمة سوى تنظيم النتائج التي تتوصل إليها تلك العلوم. ويشرح كونت هدفه من الوضعية بأنه خلق فلسفة للعلوم كأساس لإيمان اجتماعي جديد، أي: وضع نظرية اجتماعية عن طريق نظرية علمية. هذه النظرية الاجتماعية هي أقرب إلى أن تكون دينا إنسانيا أو دينا يتخذ من الإنسانية إلها1. تقوم الوضعية على فكرة أساسية هي ما يسمى بقانون الحالات الثلاث, الذي ادعى أوجست كونت بأنه كان أول من اكتشفه. ويتلخص ذلك القانون في أن الإنسانية مرت بمراحل ثلاث تميزت كل منها بغلبة منهج خاص من مناهج التفكير. يشكك العلماء في سبق كونت في هذا المجال, ويدللون على ذلك بإسهامات مفكرين آخرين مثل الاقتصادي الفرنسي تيرجو الذي كان يدافع عن آراء مدرسة الطبيعيين, وكذلك المركيز دي كوندورسيه كممثل لتلك المجموعة من المفكرين المتحمسين للثورة الفرنسية بصفتها تمهيدا لمرحلة حضارية جديدة. هذا المفكران على سبيل المثال كانا قد سبقا كونت إلى تحديد صيغة هذا القانون الذي نسبه إلى نفسه بحجة أن من سبقوه لم يفطنوا إلى أهميته كأساس لوضع علم الاجتماع, والفلسفة الوضعية.

_ 1 زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مرجع سابق، ص80، 81، كذلك: A. Brecht, Political Theory, op. cit., pp. 532, 533.

حتى بالنسبة للوضعية نفسها, فإن كونت مدين بعدد من آرائه المحورية فيها للمفكر الاشتراكي الفرنسي سان سيمون, الذي عمل كونت كسكرتير له في بداية نشاطه. من الناحية المنهجية، استقى كونت مفاهيمه عن السببية من فلاسفة القرنين الثامن عشر, وأوائل التاسع عشر مثل هيوم وكانت. هذا علاوة على أن علماء الاجتماع المعاصرين لا يختلفون حول فضل العلامة عبد الرحمن بن خلدون في وضع الأسس العلمية الأولى لعلم الاجتماع, مما يشكك في الادعاء الآخر لكونت بأنه كان أيضا مبتكر علم الاجتماع1. يقول كونت: إن الحالات الثلاث المقصودة هي: اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية "الأولى هي نقطة الانطلاق الضرورية للفهم البشري، والثالثة هي حالته الثابتة والنهائية، أما الثانية فمجرد مرحلة انتقالية"2. الحالة اللاهوتية هي ذلك المنهج الذي كان الإنسان البدائي يتبعه في فهم الكون عامة, ومحاولة تفسير الظواهر المحيطة به خاصة, وذلك بإرجاعها إلى إرادة الآلهة والأرواح الخفية, أو أية كائنات مطلقة تفوق الطبيعة. يرتب كونت على ذلك أن التفسير اللاهوتي البدائي هو تفسير خرافي يناسب الحياة الإنسانية في بدء تطورها حيث كان الإنسان عاجزا عن تفسير الكون

_ 1 Jean Touchard, et. al., Histoire Desldees Politiques 2, 7eedition, paris i975 (ire ed. 1959) , pp. 668, 669; Harry Elmer Barnes, ed, An Introduction To the History of Sociology, Abridged ed, Chicago London 1966 first publ. (i94B) , pp. 25, 72-74. كذلك انظر فيما يلي ص. 2 Auguste Comte, Gours de Philosophic Positive, Paris 1840-42, tranlated as: The Positive philosophy of A. Comte by H. Martineau, London 1853. Rperoduced by Henry D. Aiken,The Age of Ideology (The 19th Contury Philoso phers) , New York 1956, pp. 124 ff., 118ff.; محمود قاسم, المنطق الحديث ومناهج البحث, مرجع سابق, ص398 وما بعدها.

إلا إذا تخيل أنه يخضع لإرادات شبيهة بإرادته. ومن الوجهة الاجتماعية كانت الحالة اللاهوتية ضرورة من حيث إن العقائد المشتركة تضمن بقاء المجتمع, وتحقق التجانس بين أفراده. الحالة الثانية هي الميتافيزيقية, وهي ذلك المنهج المستخدم في فهم الظواهر عن طريق وضع النظريات الفلسفية والفروض العامة. وقد اعتبرها كونت امتدادا للحالة السابقة وأن مآلها الزوال هي الأخرى, وإن كانت قد لعبت دورا هاما في هدم الفلسفة البدائية, وذلك بالاستعاضة عن الإرادات الإلهية بقوى طبيعية. لم يعد الميتافيزيقي يتصور الطبيعة كإبداع إلهي, وإنما تصورها على أنها المبدأ أو السبب الأول الذي يجب افتراضه من أجل تعليل نظام الكون. رغم ذلك تبقى آثار التفكير الإحيائي, لكن فكرة الغاية أو الإرادة تتلطف -كما يقول أرنولد توينبي- حتى لا يبقى منها أكثر من تجريد عقلي. ولا تنحصر أهم خصائص العقل الميتافيزيقي في إحياء الطبيعة بقدر بث الحياة في الأفكار كما لا تنحصر في نسبة المشاعر إلى الريح, أو الأهداف إلى البحر بقدر منح المفاهيم واقعية مساوية لتلك التي تميز الجماد والحيوان. في هذه المرحلة يبدأ عالم من الجواهر والقوى والطبائع في ملء هذا العالم ككيانات لها اعتبارها الخاص, وتمنح هذه العناصر تأثيرا عليا لم يمنح من قبل لغير الأرواح. وبدلا من القدسيات غير المرئية لدى اللاهوتي يتصور الميتافيزيقي اللوجوس أو العقل معينا لنظام العالم الطبيعي. ولعل أهم الخصائص هي أنه يطابق السبب العقلي مع العلة, ويفترض تبعا لذلك أنه بالتفكير وحده يستطيع أن يشرح علل الأشياء. فهو يقدم براهين توصل إليها عن طريق الاستنتاج من حقائق علية واضحة بذاتها على وجود كائن ضروري يدعوه الله. ويعزو الضرورة التي ادعاها لاستنتاجه إلى الأشياء التي افترض هو نفسه أنه استنتجها.

ذهب كونت إلى أن الحالة الثانية ضرورية كنقطة اتصال بين نوعين متضاربين من التفكير. بهذا المعنى، فإن الحالة الميتافيزيقية احتوت إلى جانب التفسير اللاهوتي للظواهر على قوانين وفروض لا تعترف بإرادة غيبية, وإنما يقوم العقل عند شرحه للظواهر بإرجاع كل ظاهرة إلى ذاتها الملائمة لها. أما الحالة الوضعية، فيقصد بها ذلك المنهج الذي يقدم تفسيرا علميا لجميع الظواهر الطبيعية والإنسانية مع استبعاد الفروض الخيالية, والإرادات الغيبية واستبدالها بقوانين دقيقة ثابتة. يلتزم التفكير العلمي بقبول اختبارات الملاحظة كشواهد قاطعة على صحة أية فرضية, غير أن العلم لا يقتصر على مجرد تقارير تعتمد على الملاحظة. فعلم الطبيعة مثلا لا يتميز بتراكم لوقائع جزئية, وإنما بصياغة فروض عامة ونظريات تربط هذه الوقائع بوقائع أخرى بطريقة نظامية. بعبارة أخرى: لا يمكن التسليم بظهور علم ما، إلا بعد ربط الوقائع بعضها بالبعض الآخر, وفوق كل ذلك عندما تفهم الظواهر المفردة على أنها جزء من أنواع كاملة تضم الظواهر المماثلة التي تخضع من حيث وجودها لعلاقات هي أشبه بالقونين سواء كانت تلك الظواهر مترافقة, أو متعاقبة. أي: إن العقل في هذه المرحلة الثالثة والأخيرة يتخلى عن بحثه العقيم عن المفاهيم المطلقة, وعن أصل الكون ومسيره وعلل الظواهر، وينهمك بدلا من ذلك في دراسة قوانين تلك الظواهر بمعنى استقصاء علاقاتها الثابتة في التعاقب والتماثل, مستعينا في الحصول على تلك المعرفة بالملاحظة والتعليل. وتمهد هذه الحالة الأخيرة في رأيه لوضع فلسفة علمية يمكن أن تتخذ أساسا للدين والأخلاق, وإن كانت آراؤه حولهما تحتاج لمزيد من التوضيح. أثرت الأفكار والأوضاع التي جاءت بها الثورة الفرنسية على أوجست كونت, شأنه في ذلك شأن بقية المفكرين والفلاسفة الأوروبيين. فقد أرست

الثورة الأسس اللازمة لإجراء تغييرات جذرية في النظم والمذاهب السياسية والاجتماعية والمفاهيم الدينية خاصة. وقد تخلفت كثير من المشاكل الناجمة عن العلاقات المضطربة في العصر الوسيط, وبداية الحديث بين الكنيسة من جانب, وبين السلطات السياسية والشعوب الأوروبية من جانب آخر. وجه كونت نقدا للمفكرين الذين اقترحوا بعض الإصلاحات الاجتماعية, وقصد بذلك سان سيمون بالدرجة الأولى لتركيزه على الجوانب الاقتصادية من تلك الإصلاحات. أما كونت فكان يرى أن الاستقرار الاجتماعي يتوقف على الاستقرار الأخلاقي, الذي يتوقف بدوره على وجود تجانس فكري يمكن تحقيقه عن طريق تسليم الكافة بعقائد مشتركة. يرتب كونت على ذلك عدم جدوى إجراء أية إصلاحات اجتماعية قبل إصلاح الدين والأخلاق أولا، وفي هذا يقول: "إنني أعد كل مناقشة تدور حول النظام الاجتماعي مناقشة لا طائل تحتها, ما دام المجتمع لم ينظم تنظيما روحيا"1. لكن أي دين يقصد؟ لقد كان له مفهوم خاص حول ذلك، فهو لم يكن يعتقد أن أية عقيدة، يمكن أن تقوم بهذه المهمة. فالمذهب الكاثوليكي مثلا لا يستطيع تحقيق التجانس الفكري المطلوب لاضمحلاله نتيجة الميراث الثقيل للكنيسة, وتحالفها مع الإقطاع خلال العصر الوسيط؛ مما أدى إلى تقليص سلطانها وصلاحياتها بعد الثورة الفرنسية. بالمثل، فإن المذهب الفلسفي الذي يمكن أن يسد ذلك الفراغ الروحي لا يمكن أن يقوم على التفكير القياسي المنطقي الذي فات أوانه, أو تخطته علوم وظروف العصر. ولما كان كونت يعتبر الوضعية خلاصة للحقائق التي تتوصل إليها العلوم, فإنه ظن بإمكان اتخاذها كأساس لمذهب جديد يملأ الفراغ الروحي.

_ 1 المرجع السابق، ص399.

يتلخص رأيه حول هذا الموضوع1 في أن ذلك المذهب لن يكون غاية في حد ذاته, وإنما وسيلة لإعادة التجانس الفكري بوضع ديانة جديدة تتميز بعقائد واضحة يمكن البرهنة عليها من جهة، كما أنها لا تتطلب من جهة أخرى الإيمان بشيء يتناقض مع العقل. معنى ذلك في رأيه أن العلوم الوضعية يمكن أن تكون أساسا لإيمان يقوم على براهين واضحة، وأن الدين الجديد وهو ديانة الإنسانية يختلف اختلافا تاما عن مذهب الألوهية لدى مفكري القرن الثامن عشر، كما أنه يختلف أيضا عن الديانة المسيحية التي تقرر أن العقيدة تتناقض مع فكرة البرهنة عليها. على العكس من ذلك, فإن الحقائق العلمية التي يعتمد عليها الدين الجديد يمكن البرهنة على صدقها, وفي وسع كل إنسان أن يفهم هذه البراهين لو استطاع تحصيل مقدماتها. ويدافع كونت عن ضرورة دينه الجديد الذي يبشر به, انطلاقا من أن العقل الإنساني لم يعد يقنع بالتفسير اللاهوتي أو الميتافيزيقي, خاصة وأن الاضطراب الذي أعقب الثورة الفرنسية لم يكن يرجع إلى أسباب سياسية بقدر رجوعه إلى الاضطراب الأخلاقي الذي نتج عن انهيار العقائد التي أصبحت العقول غير مستعدة لقبولها. بناء عليه، يتعذر تحقيق الإصلاح الاجتماعي بدون القضاء على الفوضى المترتبة على الأخذ بمنهجين متناقضين هما: المنهج الوضعي "الذي يسميه العلمي" والمنهج اللاهوتي الميتافيزيقي. فمن جهة يسلم الناس بخضوع الظواهر الطبيعية لقوانين صارمة، بينما ينكرون من جهة أخرى سريان تلك القوانين على الظواهر الاجتماعية. إن الانسجام الفكري التام لن يتحقق من وجهة نظره إلا بتطبيق المنهج الوضعي في جميع العلوم الطبيعية والاجتماعية. عندئذ يمكن وضع فلسفة علمية تستبعد الفكر اللاهوتي الميتافيزيقي.

_ 1 المرجع السابق، ص400.

هكذا احتل العلم الوضعي مكان الفلسفة طبقا لهذا المذهب, واستبعد النزعة الميتافيزيقية والمنطقية الصورية, واستعاض عنها بما أسماه النزعة العلمية التجريبية. فكل موضوع يمكن معالجته بالملاحظة والتجربة يدخل في نطاق العلم، وما عدا ذلك -أي: إن كل موضوع لا يعالج بهذا المنهج التجريبي- يعتبر خارجا عن مجال العلم. نجمت عن ذلك مشكلة هي أن حصر المعرفة في دائرة الحقائق العلمية الموضوعية, والأنظمة التطبيقية إنما يعني الاقتصار على جانب واحد من المعرفة بدعوى أن الموضوعية الطبيعية هي النموذج الأوحد لكل موضوعية.

أهم أوجه نقد الوضعية

أهم أوجه نقد الوضعية: أثارت تلك المقولات جدلا شديدا بين المدارس والتيارات الفلسفية المختلفة ... فقد اتهم أتباع التيار التقليدي المعاصر الوضعية بالقصور على أساس أن معرفة الإنسان على سبيل المثال لا يمكن استقاؤها من العلوم التجريبية. بينما هاجم الماركسيون الوضعية؛ لأنها فلسفة مثالية مقنعة تبالغ في التضليل باسم العلم والتجارب العلمية، وأن الوقائع تكذب الوضعيين في ادعائهم بأن هدفهم هو دحض الاتجاهات الميتافيزيقية من أجل إرساء العلوم على أسس متينة. وسنشير فيما يلي بإيجاز إلى أهم نقاط الخلاف بين تلك الفلسفات. من حيث الشكل، نلاحظ أن أول نقد تقليدي يوجه إلى الوضعية هو أن قانون الحالات الثلاث الذي قرنه أوجست كونت بتطور الفكر البشري هو أقرب إلى مجال الفلسفة منه إلى مجال العلم الوضعي. النقد الثاني يذهب إلى أن استقراء التاريخ يثبت عدم دقة ذلك القانون من حيث إن مراحله كانت متداخلة في بعضها البعض طوال التاريخ البشري. من حيث الموضوع، اعترض التيار التقليدي المعاصر على الوضعية, انطلاقا من أن البحث عن حقيقة الإنسان في العلوم التجريبية مثلا يمكن أن يتمخص

عن معلومات كثيرة متفرقة, ولكنها ناقصة لا تعبر عن الإنسان كما نعرفه. فعلم وظائف الأعضاء يمكن أن يفسر الإنسان من حيث هو مركب من أنسجة وأعصاب وعظام وأوعية دموية. وعلم الكيمياء يحلل تلك المركبات إلى عناصرها, وعلم الطبيعة يسهم في تقديم معلومات عما يحتويه الإنسان من بروتونات وإلكترونات. ويصور علم النفس الإنسان على هيئة أحداث عقلية وإحساسات وخيالات, ويزودنا التحليل بمكنونات اللاشعور ... إلخ. كذلك تسهم العلوم الأخرى كالاقتصاد والاجتماع بدراسات عن الإنسان, كل من زاوية اختصاصه. غير أن الإنسان يظل في النهاية مغايرا لذلك الركام الضخم من المعلومات, سواء بصورة متفرقة أو مجتمعة. فهذه المعلومات مهما كانت دقيقة تظل ناقصة في التعبير عن حقيقة, وماهية, وجوهر الإنسان ككل. إن الإنسان ليس مجرد تركيبه من أجزاء أو ذرات من الماء والدهون والكربون والفوسفات والحديد والجير والكبريت والماغنسيوم, كما أن خلط تلك المواد بنسب صحيحة كما أوضحتها التجارب لا يعطينا إنسانا. معنى ذلك أن معرفة طبيعة, وماهية الإنسان تحتاج إلى معرفة شخصيته ككل مترابط, له صفات وخواص ذاتية معينة هي في نفس الوقت أكبر وأعلى من مجموع تلك الأجزاء1. لهذا فإنه رغم صدق ودقة العلوم التجريبية, فإن التعرف على حقيقة الإنسان كشخصية متكاملة يستلزم ما هو أكثر من البيانات العلمية المتفرقة، ويحتاج إلى منهج آخر غير مناهج العلوم ذلك هو ما يسميه الفلاسفة بالحدس أو التخمين أي: ذلك الإدراك السريع الفطري المباشر القادر على إدراك الإنسان موحدا في كل. لعل هذا يشرح مقولة: إن الفلسفة تتجاوز مجرد كونها بحثا نظريا أو تأملا عقليا, كما أنها تتجاوز أيضا دراسة العالم الواقعي المحسوم وحقائقه المستمدة

_ 1 زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مرجع سابق، ص81، توفيق الطويل, أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص58، 59.

من التجارب. إن العلم وفقا للتيار التقليدي لا يغني عن الفلسفة في فهم طبيعة الإنسان, أو حقيقة العالم. يسترسل أنصار الفلسفة التقليدية في دفاعهم عن العقل في مواجهة الحجج الوضعية, فيؤكدون أنه رغم ما يوجه إلى الفلسفة التقليدية من اتهامات حول التحليق في المجهول والانعزال في بروج عاجية، فإنه لا يمكن إنكار فضلها في إيضاح كثير من الحقائق التي أضاءت الطريق أمام العلم التجريبي، كذلك قيامها بوظيفة اجتماعية هامة تمثلت في تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على مجرى التاريخ البشرى، والكشف عن قيم الحق والخير والجمال. بناء عليه، لا تستطيع الوضعية أن تفرض على العقل الاقتصار على بحث الموضوعات التي يمكن معالجتها بمنهج البحث التجريبي فقط, ذلك أن العقل بطبيعته لا يمكن أن يتوقف عن البحث والتأمل والنظر ومواصلة التفكير في طبيعة الموجودات وحقيقة الأشياء والعلل والغايات البعيدة. تلك هي وظيفة الفلسفة مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أن العلم نفسه يستخدم مبادئ كلية كالعلية والحتمية لا تكتسب بالتجربة, ولا تعالج بمناهج العلم. من ناحية أخرى, لا تستطيع العلوم تغطية كل مجالات الدراسة وموضوعات البحث, وإنما بوسع الفلسفة التقليدية تفادي هذا النقص. يستشهدون على ذلك بتفرقة أرسطو بين الفلسفة الأولى -أي: ما بعد الطبيعة التي تشمل الوجود والمعرفة- وبين سائر العلوم على أساس أن كل علم يتخذ مجالا معينا من مجالات الوجود موضوعا لبحثه, بينما لا يوجد علم من العلوم يعرض للبحث في الوجود بما هو وجود. تبحث العلوم الرياضية مثلا في الوجود من حيث هو كم, سواء كان عددا "الحساب" أو شكلا "الهندسة", وتبحث العلوم الطبيعية في الوجود من حيث هو متغير, فتدرس الطبيعة خصائص الأجسام دون نظر إلى طبيعتها، وتدرس الكيمياء تركيب الأشياء وردها إلى عناصرها وهكذا بالنسبة لبقية العلوم.

لكن ليس هناك علم يبحث في الوجود ككل, غير مقسم إلى موجودات محسوسة؛ لأن هذه هي مهمة ما بعد الطبيعة. يضاف إلى ذلك أن العلوم تفترض وجود مدركات عقلية, أو قضايا أولية تستخدمها كمقدمات دون التدليل على صحتها. فعالم الهندسة الذي يبحث في المكان وطبيعته يفترض أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان مهما امتدَّا، أو أن الكميات المتساوية متى أضيفت إلى كميات متساوية كان الناتج كميات متساوية. بالمثل يفترض عالم الطبيعة وجود المادة ويتقدم من هذا الفرض إلى وضع قوانين ... وهكذا. المهم أن كل هذه الافتراضات والقوانين تستخدمها العلوم كبديهيات قبلية سابقة على كل تجربة. على عكس ذلك, فإن البحث في حقيقة المادة أو صحة قانون العلية أو عدم التناقض لا يدخل في مجال العلم, ولا يعالج بمناهجه التجريبية, وإنما هو مهمة البحث الميتافيزيقي في رأي أنصار الفلسفة التقليدية الذين يستندون إلى تلك الفروض لبيان الحاجة إلى ما بعد الطبيعة كوسيلة لإثبات صحة الافتراضات التي تبدأ بها العلوم. يستخلصون من ذلك أن "العلم قد نشأ في أحشاء الفلسفة, ثم ترعرع ونما في رعايتها حتى إذا استقل عنها أخذ يتوقف في تفسيره للأشياء عند عللها القريبة، ويترك للأم أن تواصل البحث عن العلل البعيدة, والمبادئ القصوى"1 أي: إن المدرسة الوضعية أخطأت في إنكار موضوع الفلسفة التقليدية, أو الظن بأن العلم قد احتل مكانها كما أخطأت في ادعائها أن تلك الفلسفة أصبحت غير ذات موضوع. اتجهت الفلسفة الماركسية أيضا إلى نقد الوضعية, انطلاقا من أنها لم تكن منذ البداية سوى رد فعل البرجوازية الصاعدة لمذهب القانون الطبيعي السائد

_ 1 المرجع السابق ص290، 291.

وقتئذ. وعلى ضوء تلك النشأة يجب فهم, وتقييم تلك المدرسة التي تعبر عن مصالح طبقية محددة تحاول تغطيتها بكثرة الكلام عن العلم. رفضت الماركسية ادعاء الوضعية بأن الإنسان في المرحلة الثالثة التي أسمتها الحالة الوضعية يجب أن يهتم فقط بالعلوم التجريبية والنتائج التي تسفر عنها. فالوضعية ترفض -كما أوضحنا- البحث في الوجود ككل أو في الطبيعة كوحدة بحجة منافاة ذلك للعلم, أو بشكل أدق لمنافاته لمفهومها للعلم الذي تظن أنه لا يتناول إلا مجالات متفرقة من الواقع. بعبارة أخرى: تحبذ الوضعية تفتيت الواقع باسم العلم وإحلال ما يتمخض عن ذلك من علوم متفرقة محل الفلسفة. بذلك تتخلص الوضعية من إحدى المشاكل الأساسية التي تهتم بها الماركسية, وهي تحديد العلاقة بين الوجود والوعي, وهي علاقة لا تستحق الاهتمام في نظر الوضعية؛ لأنها بلا موضوع. لهذا تحكم الفلسفة الماركسية على الوضعية بأنها فلسفة مثالية, مهما استترت بدعاوى العلم. والمقصود بالمثالية هنا هو المعنى الفلسفي حيث تبدأ من حالة بعيدة عن الواقع, فهي إذًا فلسفة الهروب والابتعاد عن الواقع. فالوضعية مثالية من هذا المنطلق؛ لأنها تصرف الناس عن الإيمان بحتمية الواقع المادي وقوانينه على أساس أن ذلك الواقع ليس ماديا يتغير وفق قوانين حتمية, وإنما هو عبارة عن مجموعة الخبرات الحسية التي يحصل عليها الإنسان, أي: إن نقطة البدء في الوضعية هي الاحساسات, أي: الذات, وليس الواقع الخارجي. تضيف الماركسية نقدا آخر ينصب على موقف الوضعية من تاريخ الفلسفة وتصفه بالرجعية؛ لأنها تحاول إنكار الارتباط الوثيق القائم بين الفلسفة والعلم، ولأنها أيضا تتعالى على التراث الإنساني في مجال الفكر الفلسفي. فباسم العلم الحديث تحاول الوضعية التقليل من قيمة العقل البشري, وأفضل إنجازاته التي لا تقدر بثمن وادعاء تعارضها مع ذلك العلم الحديث، مع التشكيك في صحة

المذاهب الفلسفية التقدمية التي عرفتها البشرية منذ القدم مولدي قيمتها الإدراكية1.

_ 1 V. A. Tumanov, Contemporary Bourgeois Legal Thought "A Marxist Evaluation of the Basic Concepts", Moscow 1974 pp. 113-115, M. lovchuk, Philosophical Traditions Today, Moscow 1973, p. 49. المادية الديالكتيكية، تأليف جماعة من العلماء السوفيت، تعريب بدر الدين السباعي، فؤاد مرعي، عدنان جاموس، الطبعة الثالثة، دمشق 1973، ص12، 13.

المبحث الثالث: الوضعية المنطقية

المبحث الثالث: الوضعية المنطقية مدخل ... المبحث الثالث: الوضعية المنطقية Logical Positivism تبلور ذلك التيار في النمسا عام 1928 وأنشأ مدرسة جديدة كان من أبرز مفكريها كارناب وفيتجينشتاين وشليك. وقد أرست المدرسة مبادئها على أسس وضعية ووجدت قبولا في بعض الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة وأصبحت تعرف بالوضعية المنطقية أو التجريبية المنطقية. اعتبر أنصار تلك المدرسة أن الوضعية الكلاسيكية السابقة لم تخل من عناصر ميتافيزيقية, وادعوا بأن وضعيتهم ستتكفل بتطهيرها من بقايا تلك العناصر. تعاطفت الوضعية المنطقية مع الآراء السابقة المعادية للميتافيزيقا, وخاصة تلك التي عبر عنها دافيد هيوم ثم المدرسة الوضعية من حيث رد الأفكار والمشاعر إلى الانطباعات الحسية, واعتبار الحس أداة الإدراك الوحيدة. كان هيوم مثلا يعتبر الآثار الحسية هي المرجع الأخير الذي تقاس به صحة الأفكار وحقيقتها. فإذا أمكن إرجاع الفكرة إلى أصلها الحسي كانت صادقة، وإلا فهي وهم واختلاق من العقل. لهذا وصف الوضعيون المناطقة فلسفات أفلاطون وأرسطو وسبينوزا وهيجل بأنها فلسفات تأملية، وأنكروا بصفة خاصة مهمة الفلسفة التقليدية ومجالها على

أساس أن ما يمكن معرفته عن العالم والإنسان, ومكانه منه يمكن الحصول عليه من العلوم الطبيعية التي تدرس الكون, والعلوم الاجتماعية التي تدرس الإنسان. وقد تجلى رفضهم للمفهوم التقليدي للفلسفة في استبعادهم لكل من الفلسفة والأخلاق, ومن تصورهم الذي يربطون فيه بين الفلسفة والمنطق. فوظيفة التفكير الفلسفي لديهم هي الكشف عن المبادئ الأصلية, أو الفروض الأولية التي يقوم عليها كل علم. إن الفلسفة من وجهة نظرهم ما هي إلا الدراسة المنطقية للمفاهيم والرموز، أو هي تحليل اللغة وتوضيح المعرفة التجريبية بترجمتها إلى قضايا تنصب على المضامين الحسية؛ لأنهم يرون أن اللغة تشتمل على ألفاظ خادعة ليس لها معنى وإن كانت تثير عند من يسمونهم بالفلاسفة التأمليين مشاكل لا وجود لها إلا في أذهانهم. اعتبر الوضعيون المناطقة إذًا أن الفضل يرجع إلى مدرسة فينا في تقديم تعريف أدق للفلسفة, مؤداه أنها ليست سوى التحليل المنطقي للجمل والمفاهيم العلمية, وهو ما أسماه رودلف كرناب "1891-1970" بمنطق العلم. أما لودفيج فيتجينشتاين "1889-1951" فقد عرف الفلسفة بأنها توضيح الأفكار توضيحا منطقيا أي: توضيح القضايا وإزالة غموضها؛ توصلا إلى حقيقة معانيها، وليس وضع قضايا تفسر حقيقة الأشياء وطبيعة الموجودات. تتحول الفلسفة طبقا لهذه المدرسة إلى مجرد منهج للبحث هدفه التحليل المنطقي للغة المستخدمة في الحياة اليومية, أو تلك التي يستعملها العلماء في بحوثهم بهدف إزالة اللبس والغموض الذي يعتري الأفكار مع بيان عناصرها حتى تبدو جلية واضحة1.

_ 1 Rudolf Carnap, The Logical Syntax of Language, London 1959 "first publ. 1937", p. 280. زكي نجيب محمود، نحو فلسفة علمية، القاهرة 1958، ص6، 7؛ زكي نجيب محمود، قصة الفلسفة الحديثة، القاهرة 1936، الجزء الأول ص234، 2325، توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق, ص266، 268، زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مرجع سابق، ص74، 75.

لكل ذلك تعتبر وضعية القرن العشرين تيارا متطرفا من الوضعية السابقة يذهب أنصاره إلى إنكار كل موجود إلا إذا كان محسوسا. فليس هناك فكر ولا تفكير, وإنما ألفاظ وجمل. وكل لفظ من تلك الألفاظ لا يعبر عن شيء محسوس يمكن التثبت منه بالتجربة, لا يحمل معنى يوصف بالصدق أو الكذب. استبعدت الوضعية المنطقية الميتافيزيقيا, والعلوم المعيارية من مجال البحث العلمي استنادا إلى مبدأ التحقق Principle of Verification الذي يقول: إن القضية التي يمكن التحقق منها بالرجوع إلى الواقع هي وحدها ذات معنى. بعبارة أخرى: فإن معنى القضية هي طريقة التحقق من صوابها. فالعبارة التي يتعذر إثبات صوابها, أو خطئها في حدود الخبرة الحسية تكون غير ذات معنى. لقد أصبح مبدأ التحقق من وجهة نظرهم هو المقياس الذي تحدد به معاني العبارات, ودلالاتها بهدف ربط القضايا بالواقع كطريقة لاختبار معناها. ولما كان من المتعذر ربط قضايا الميتافيزيقا, والعلوم المعيارية كالجمال والأخلاق بعالم الواقع الحسي, تم استبعاد هذه القضايا من مجال البحث العلمي. انطلاقا من تلك المفاهيم انتقد دعاة الوضعية المنطقية الفلاسفة التقليديين؛ لأنهم يخلعون ما بأنفسهم على العالم الخارجي أي: يصفون الكون وصفا ذاتيا. إزاء ذلك نصحوا بأن يلتزم الفلاسفة في ألفاظهم, وعباراتهم دقة تقربهم من دقة العلماء. نادى الوضعيون المناطقة بأن تكون الفلسفة شبيهة بالعلم, ليس بمعنى إقحام الفلاسفة في ميادين لا شأن لهم بها, كأن يبحثون في الفلك مثلا مع علماء الفلك، وفي الطبيعة مع علماء الطبيعة ... إلخ، وإنما بمعنى التزام الدقة التامة في استخدام

الألفاظ والعبارات التزاما يقرب الفيلسوف من العالم في دقة استخدامه للمصطلحات العلمية. والهدف من ذلك هو تحديد الألفاظ الفلسفية بطريقة لا تدع كلمة بغير مسمى, مما يمكن تعقبه بالحواس كوسيلة لجعل الفلسفة علمية في منحاها ومنهجها. لكن النقد الأهم من وجهة نظرهم هو محاولة الفلاسفة التقليديين الاعتماد على الفكر الخالص وحده في وصف الوجود الخارجي, والتوصل إلى "مبدأ" يضم الكون بما فيه, ومن فيه. علاجا لذلك، نصحت الوضعية المنطقية بأن تحصر الفلسفة بحثها في مشكلات جزئية محددة. فبدلا من أن يحاول الفيلسوف البحث عن "مبدأ" يضم الكون بما فيه ومن فيه، فإن عليه أن يقنع بالبحث في مفهوم واحد من مفاهيم العلم, حتى تنمو المعرفة الفلسفية عن الموضوع الواحد نموا تدريجيا. ولأهمية هذه النقطة في كشف موقف الوضعية المنطقية من موضوع القيم والعقل وموقع الإنسان من الكون, نورد النص التالي: "الفيلسوف المعاصر ذو النزعة العلمية متواضع، يرضيه أن يجتزئ من هذا الكون الفسيح كله بجملة أو طائفة قليلة من الجمل، يقولها العلماء في موضوعات اختصاصهم، أو يقولها الناس في أحاديثهم الجارية, فيتناولها بالتحليل المنطقي الذي يفصل مكوناتها تفصيلا يضعه في الضوء بعد أن كان خبيئا ... حتى إذا ما ظهرت الهياكل العارية للغة التي نستخدمها، ظهرت بالتالي حقيقة الفكرة التي نعرضها، فيزول الغموض الذي كان قمينا أن يخلق المتاعب ويثير المشكلات. وحسبك أن تعلم في هذا الموضع أن رجال التحليل في الفلسفة الحديثة لم يكادوا يتناولون بالتحليل مشكلات الفلسفة التقليدية، حتى تبين لهم في وضوح الإشكال وأن الأمر كله غموض في لغة الفلاسفة، هو الذي خيل لهم أنهم إزاء مشكلات تريد الحل, ولا حل هناك".

"الفيلسوف المعاصر ... لا شأن له "بشيء" من أشياء الوجود الواقع, بل يحصر نفسه في "الكلام"، كلام هؤلاء العلماء ليحلل منه ما قد تركوه بغير تحليل"1. لعل أخطر ما في هذه الدعوة -كما سنبين بعد قليل- هو أنه لا شأن للفلسفة بالحديث عن العالم أو الطبيعة أو العقل أو الحق أو المطلق أو ما وراء الطبيعة ... وإنما حسبها أن تحصر نفسها في "الكلام" تحلله وتفرغه وتجرده, مقتصرة على تناول صور التركيب وما ينشأ فيها من علاقات. اتهم دعاة الوضعية المنطقية الفلاسفة التقليديين بأنهم يثيرون مشاكل عويصة لا وجود لها إلا في أذهانهم، وعزوا ذلك إلى خطئهم في فهم معاني الألفاظ نتيجة استخدامهم ألفاظا في قضاياهم لا تشير إلى مدلول حسي محدد من جهة، أو لاستخدامهم لفظا في غير المعنى الشائع من جهة أخرى. كمثال على ذلك، انتقدوا استعمال الفلاسفة التقليديين للفظ إنسان ليس تعبيرا عن أفراد الإنسان الموجودين في العالم المحسوس، ولكن كإشارة إلى معنى كلي ليس له مدلول في عالم الواقع يمكن أن يخضع للمشاهدة الحسية, وإن كان يطلق كاسم على جميع أفراد الإنسان. مثل هذه النظرية الميتافيزيقية -من وجهة نظرهم- لا تقنع بالمعلومات التي تقدمها العلوم تعريفا له؛ لأن الإنسان عند التقليديين "ماهية" أو "جوهر" يعبر عن طبيعته وحقيقته, ولا يستقيم مفهوم الإنسان بغيره. يتمثل الموقف الصحيح كما تراه الوضعية المنطقية في ضرورة قيام أصحاب المنطق التقليدي بتحليل ألفاظهم منطقيا, يتخذ من الواقع محكا لمعرفة مدى صواب الفكرة. ولو فعلوا لاكتشفوا أن الواقع المحسوس ليس به إلا "أفراد" وأن الماهية أو الجوهر لفظ لا يشير إلى مدلول حسي فهو إذًا بلا

_ 1 زكي نجيب محمود، نحو فلسفة علمية، مرجع سابق، ص7، 8، 10-12.

معنى، أو بعبارة أخرى: لا يحمل معنى يمكن وصفه بالصدق أو الكذب, أي: إن صفات أية كلمة هي التي تحدد مفهومها، تلك الصفات التي تخضع للحس ويمكن عن طريق التجربة التثبت من مدى صحة معناها, وفي هذا يقول الوضعيون المناطقة: "ولما كانت العلوم تبحث عن "طبيعة" الإنسان أو جوهره أو ماهيته أو حقيقته التي تخرج عن نطاق هذه العلوم ومناهجها، ظن أصحاب الفلسفة الميتافيزيقية أن "مفهوم" الإنسان لا يتيسر عن طريق هذه العلوم ومناهجها التجريبية القاصرة, ووكلوا إلى الفلسفة مهمة حل هذا الإشكال المزعوم". هكذا يقدم التحليل المنطقي للألفاظ في رأي هذه المدرسة حلا لذلك الإشكال الذي تعتقد أن الفلاسفة التقليديين قد وقعوا فيه، وتؤكد أن ما تقدمه العلوم من مادة عن الإنسان باعتباره فردا معينا كافٍ في تصور مفهومه. إن المنطق من وجهة نظر تلك المدرسة هو جوهر الفلسفة, إذ يقرر كارناب أن المهمة الرئيسية للفلسفة هي تحليل العلم كما سبق أن ذكرنا، بينما يحصر الفيلسوف الإنجليزي المعاصر آير مفهوم الفلسفة في نطاق الألفاظ والتعريفات, مؤكدا أن كل مهمتها هي أن تعمل على توضيح معرفتنا التجريبية بترجمتها إلى قضايا تنصب على مضامين حسية, وما عدا ذلك يعتبر قضايا زائفة. يشرح ذلك ما ذكرناه من أن الوضعية المنطقية لا تعترف بما تعارف المفكرون على تسميته بالمشكلات الفلسفية, وتنظر إليها على أنها مجرد غموض في استخدام الرموز اللفظية التي يكفي توضيحها, أو سلامة استخدامها لتتلاشى تلك المشكلات وكأن لم تكن1.

_ 1 المرجع السابق، ص11، توفيق الطويل، أسس الفلسفة، ص60، 61، زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مرجع السابق، ص76.

أهم أوجه نقد الوضعية المنطقية

أهم أوجه نقد الوضعية المنطقية: أدت تلك الدعاوى المتطرفة للاقتصار على الخبرة الحسية وإنكار دور العقل والاهتمام بمعنى القضية وليس بصدقها أو بكذبها، أدت إلى صراع فكري حادّ بين المدارس الفلسفية. فقد اتهم المعاصرون من أنصار الفلسفة التقليدية الوضعيين المناطقة بالتعصب والتعسف؛ لأنهم وضعوا أنفسهم في دائرة مغلقة هي القول بالواقع موضوعا وحيدا للبحث، وبالحس أداة وحيدة لإدراكه. كما اتهمهم الماركسيون بمحاولة إنكار الفلسفة لإبعاد الناس عن الفلسفة المادية بالذات التي تكشف بطريقة علمية حتمية قوانين تغير الطبيعة والمجتمع, ومن ثم يسخرون مذهبهم لخدمة النظام الرأسمالي القائم. غير أنه من الملاحظ عدم وجود من يعترض على مطالبة الوضعية المنطقية بإزالة الغموض من التفكير الفلسفي, والالتزام بتحديد الألفاظ. لكن التطرف الذي عارضه كثير من المعاصرين هو حصر الفلسفة كلها في نطاق التحليل اللفظي والأشكال اللغوية وحدها والاستعانة في ذلك بمنهج قاصر من شأنه أن يؤدي إلى القضاء على خصوبة الفكر البشري, وهدم الفلسفة نفسها. بالمثل, لا يمكن قبول موقف الوضعية المنطقية من استبعاد مشاكل رئيسية كطبيعة العالم والعلاقات بين الفكر والواقع بحجة أنها قضايا زائفة، ذلك أن الفكر البشري بحاجة إلى فهم العلاقة القائمة بين نظام الأفكار وترابطها من ناحية ونظام الأشياء وترابطها من ناحية أخرى. إن الأخذ بما ذهبت إليه تلك المدرسة من شأنه "حرمان التفكير الفلسفي من كل مضمون, واستبدال قضايا الفلسفة الحيوية الهامة ببرنامج هزيل يجدب الفكر"1. يرفض المعاصرون من أنصار الفلسفة التقليدية ادعاء كل من الوضعية, والوضعية المنطقية بأن العلم لم يدع للفلسفة مجالا لبحث, ويفندون ذلك الادعاء

_ 1 المرجع السابق، ص76، 77.

بأن المعرفة العلمية ذاتها تحتاج إلى أساس فلسفي. فالفلسفة وليس العلم هي التي تتناول الفروض العلمية بالبحث والتدليل. حتى على افتراض أن العلم الوضعي قد تمكن من حل مشكلة ما، فإن العقل الإنساني سيظل يتطلب علما بالكل وبالمطلق, علما بالمبادئ والأسباب. إن المعرفة العلمية لا تكفي وحدها لحل المشاكل التي تواجه الإنسان, بل إن العلم نفسه ليس إلا حقيقة من الحقائق التي تعالجها الفلسفة. وهذه الأخيرة وليس العلم هي التي تبحث في طبيعة الأشياء ومبدئها ومصيرها. كذلك رفض أنصار الفلسفة التقليدية المنهج الذي اتبعته الوضعية المنطقية وأسمته مبدأ التحقق. فقد أشرنا في مستهل استعراضنا للوضعية المعاصرة أنها استبعدت الميتافيزيقا والعلوم المعيارية من مجال البحث العلمي, استنادا إلى مبدأ التحقق الذي يقول بأن القضية التي يمكن التحقق منها بالرجوع إلى الواقع هي وحدها ذات معنى. وقد علق الفيلسوف الإنجليزي آير على كلمة معنى بأن لها استعمالا صحيحا واحدا هو المعنى الذي يمكن التأكد من صوابه أو خطئه في حدود الخبرة الحسية, وهو ما انتقده أنصار الفلسفة التقليدية على أساس أن مبدأ التحقق هذا هو من قبيل تحصيل حاصل, إذ يجوز أن تكون العبارة ذات معنى يتعذر التحقق من صوابه بالخبرة الحسية. قد تكون العبارة ذات معنى في استعمال آخر, لا يقصد به المعنى الذي يمكن التثبت منه بالخبرة الحسية وحدها، أي: هناك إمكانية لوجود استعمالات صحيحة أخرى للفظ معنى, إلا أنه نتيجة للموقف الجامد لتلك المدرسة لا يمكن هنا تجنب حدوث تناقض, إذ تصر الوضعية المنطقية على أن العبارات التي تحمل معنى في غير الاستعمال الحسي لا يمكن أن تكون صادقة, ولا كاذبة. يمكن ملاحظة هذا التناقض من افتراض حالة يكون فيها مبدأ آير ذا معنى في استعمال من الاستعمالات التي لا يقرها. فإذا طبقت وجهة نظره

لا يكون مبدؤه صادقا, ولا كاذبا في هذه الحالة؛ لأنه في تحديده لنوع العبارات التي تحمل معنى يقرر قضية -كمقياس لاختبار العبارات- لا تحمل بدورها أي معنى، أو لعلها ذات معنى يعتقد أنه لا يتصل بالحق أو الباطل, وهو ما يهدم الوضعية المنطقية من أساسها على حد قول نقاد هذه المدرسة ذوي الاتجاهات الفلسفية المتعددة1. التناقض الثاني الذي قد ينشأ عن الأخذ بمنهج تلك المدرسة هو أن القوانين العلمية التي ترددها كثيرا, وتبدي إعجابها بها تغدو مجرد تعبيرات عقلية مجردة لا تشير إلى مدلول حسي في عالم الواقع. فهي تعتبر -والحال كذلك- عبارات فارغة لا تحمل معنى. علاوة على هذا، فإنه من الخطأ الفصل بين العلم والفلسفة بحجة أن ما يدخل في مجال العلم, طبيعيا كان أو رياضيا, فهو بلا معنى. يكذب الواقع ذلك, إذ هناك تعاون أو تكامل لكشف ما زال مجهولا في عالم الحقائق. والفرق بين العلم والفلسفة هو أن لكل موضوعه والمناهج التي تلائم ذلك الموضوع. يبحث العلم في الجزئيات المحسوسة, ويستعمل لذلك منهج الاستقراء الذي يستهدف وضع القوانين المفسرة للظواهر. وتبحث الفلسفة فيما وراء الجزئيات المحسوسة من حقائق لا يتيسر البحث فيها بغير المناهج العقلية. إن اختلاف موضوع البحث, والمناهج المستعملة لا يمنع من التعاون بين الاثنين في دراسة هذا العالم وتفسير ظواهره.

_ 1 w. H. BARNES, tHE PHILOSOPHICAL PREDICAMENT, PP. 116, 117, B. RUSSEL, lOGIC AND KNOW LEDGE, P. 376. أشار إليهما الدكتور توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص283، 283، حول حدود المعرفة الإنسانية, وادعاءات الفلاسفة, ودور المنهج العلمي. قارن آراء مدرسة التحليل المنطقي المعاصر كما عبر عنها برتراند راسل: B. Russel, History of Western Philosophy, op. cit. pp. 862- 864

هذه هي بعض الأسباب التي دعت أنصار الفلسفة التقليدية إلى نقد الوضعية المنطقية. فقد سلم هؤلاء بإمكان اتخاذ الخبرة الحسية أداة للمعرفة الصادقة, ولكنهم شددوا على وجود عالم من الحقائق وراء العالم المحسوس, يتعذر إدراكه بغير العقل. لهذا تعرضت تلك الوضعية المعاصرة للاتهام بالتعسف والتعصب. أما التعسف فبسبب افتقارها إلى دليل يثبت أن الحس أداة وحيدة لإدراك الحقائق, ومعيار أقصى لاختبار العبارات كما يبدو التعصب في الغرور الذي استبدّ بالوضعيين المناطقة فحاولوا إنكار العقل, وطالبوا الباحثين بعدم التفكير في مصير الإنسان وطبيعة النفس البشرية وكنه الألوهية, وإلا خرجوا من نطاق العلم وتحولوا إلى شعراء وفنانين, أو عابثين يظنون الهذر كلاما يحمل معنى. ولعلنا نجد بعض الاتفاق في المواقف بين أنصار التيار التقليدي المعاصر, وبين الماركسيين في دمغ الوضعية المنطقية بالميتافيزيقية التي ادعت في البداية أنها قادرة على تطهير الوضعية الكلاسيكية من بقايا عناصرها. يرى التيار التقليدي أن تلك المدرسة قد جمعت بين النزعة المنطقية الصورية, وبين النزعة التجريبية الحسية دون التدليل على العلاقة بين المنطق والتجربة. كما أن من حاول من أعضائها تناول هذه العلاقة مثل فيتجينشتاين وقع في الفكر الميتافيزيقي. حول نفس الموضوع، تعرضت الوضعية المعاصرة للنقد أيضا؛ لأنها احتفظت بكل عناصر التفكير الميتافيزيقي حيث استبدلت بالعلم المادي الذي يعرفه العالم عالما ميتافيزيقيا من التجربة الحسية. بالإضافة إلى ذلك, فإن محاولتها الهرب من الميتافيزيقيا برفض البحث في علاقة الفكر بالواقع أوقع أصحابها في مناقشات ميتافيزيقية عميقة. وما البحث في دلالات الألفاظ المسمى بالسمانتيكس إلا نظرية ميتافيزيقية. هذا, وقد اتفقت الفلسفة التقليدية مع الماركسية في نقطة جوهرية أخرى هي رفض موقف الوضعية المنطقية من إنكار الفلسفة, على أساس أنه موقف غير واقعي يخفي بالضرورة نظرة محددة ترقى إلى الفلسفة.

إن التفلسف من وجهة النظر التقليدية طبيعي بالنسبة لكل إنسان ناطق, حتى لقد قال أرسطو: "فلنتفلسف إذا اقتضى الأمر أن نتفلسف، فإذا لم يقتض الأمر ذلك وجب أن نتفلسف لنثبت أن التفلسف لا ضرورة له". لهذا فإن الوضعيين فلاسفة حتى ولو أنكروا ذلك؛ لأن إنكار الفلسفة هو نفسه موقف فلسفي1. وجهت الفلسفة الماركسية نقدا شديدا للوضعية المنطقية, وأخذت عليها تظاهرها بإنكار الفلسفة مما دفع العلماء المتأثرين بها إلى رفض كل الفلسفات, وإن كان هذا غير ممكن في الواقع. فلا يجوز في العلم البقاء "مع الوقائع على انفراد" وإبقاء النظرية على عتبة المختبر وإرغامها على الصمت بانتظار ما تقوله الوقائع، بشكلها المجرد بذاتها. فبدون التفكير النظري لا يوجد العلم؛ لأنه ليس مدعوا لوصف الظواهر فقط، وإنما عليه أيضا أن يفسرها. ترى الماركسية أن هناك نقطة حاسمة عندما ينتقل العالم من جمع ووصف الوقائع والعمليات إلى وضع القوانين والاستنتاجات النظرية. عندئذ لا يستطيع أي مفكر ذي تفكير واسع -سواء كان حقل تخصصه الطبيعة أو الكيمياء أو علم الأحياء أو المجتمع- أن يتجنب الفلسفة والنظرة إلى العالم ونظرية المعرفة. وكل المسألة تنحصر في الفلسفة التي سيطبقها بوعي أو بدون وعي، وهل هي الفلسفة المادية العلمية أم المثالية غير العلمية أم التوفيقية التي هي خليط من الاثنتين2؟ لهذا ترفض الماركسية موقف الوضعية المنطقية الداعي إلى أن يقصر الباحث عمله في حدود معمله, وترى فيه موقفا يتعارض مع العلم والواقع؛ لأن الباحث

_ 1 توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص 286-289، 292، 293، قارن زكي نجيب محمود، نحو فلسفة علمية، مرجع سابق، ص2، 5، 6. 2 المادية الديالكتيكية، مرجع سابق، 26، 27, Cf., Jean-Francois Revel, Pourquoi des philosophes? Paris 1957, p. 149, cited by Theodor Oizerman, Problems of The History of Philosophy, Moscow 1973. p. 460.

لا يقوم بتجاربه, ولا ينظر إليها إلا من خلال فلسفة ما, سواء اعترف بذلك أو لم يعترف. ويرجع رفض الماركسية لموقف تلك المدرسة من أنها تترك الباحثين والعلماء نهبا لتأثيرات الفلسفات الليبرالية السائدة تحت شعار اللافلسفة, فتبعدهم بذلك عن معرفة المادية الجدلية بالذات التي تكشف حقيقة العلاقات في الطبيعة والمجتمع ووسائل تغييرها.

المبحث الرابع: الماركسية

المبحث الرابع: الماركسية مدخل ... المبحث الرابع: الماركسية Marxism ظهرت بدايات الفلسفة الماركسية في الأربعينيات من القرن التاسع عشر على يد المفكر السياسي الألماني كارل ماركس "1818-1883" وزميله المفكر وعالم الطبيعيات فريد ريش إنجلز "1820 -1895". وتقوم الماركسية على أسس ثلاثة: المادية الجدلية، والمادية التاريخية, والاشتراكية العلمية. إن مفهوم الماركسية للفلسفة هي أنها شكل من أشكال الوعي الاجتماعي, شأنها في ذلك شأن الأيديولوجية السياسية والعلوم والفنون والأخلاق. والمقصود بالوعي الاجتماعي هنا هو وعي الناس بكيانهم الاجتماعي الخاص وبالواقع المحيط بهم، ذلك الوعي الذي تتحدد أشكاله بمدى ثراء العالم ذاته أي: الطبيعة والمجتمع. ترى الماركسية أن الفهم المتوازن لجوهر الصراع بين المدارس الفلسفية المختلفة منذ آلاف السنين وحتى الآن لا يمكن التوصل إليه دون إدراك حقيقة هامة, وهي أن المادية والمثالية هما الاتجاهان الأساسيان في الفلسفة. كما أن كل مدرسة من تلك المدارس كانت تحدد موقعها من ذلك الصراع من خلال إجاباتها عن المسألة الرئيسية, وهي علاقة الفكر بالواقع. تتضح أهمية العلاقة بين الفلسفة والمنهج في المفهوم الماركسي من أن الصراع بين الأفكار على الصعيد الفلسفي لم يقتصر قط على تلك المسألة الرئيسية, وإنما كان يتعداها في كثير من الأحيان إلى مسائل أخرى كالعلاقة بين المنهج والسببية، وبين الحتمية والمصادفة.

تستعرض الماركسية تأثير الظروف التي اكتنفت نشأة الفلسفة على تحديد مفهومها, فتذهب إلى أن تاريخ الفلسفة هو عبارة عن تاريخ الصراع الدائم بين نظرات, أو تقييمات مختلفة عن العالم ويعكس في الحقيقة طبيعة ومجال الصراع بين القوى الاجتماعية التقدمية, والرجعية في عصور مختلفة. ومن هذا المنطلق يتحدد ظهور الفلسفة بعصر انقسام المجتمع إلى طبقات, وانفصال العمل الفكري عن العمل الجسماني, وظهور العلوم1. لقد بدأ الناس في ذلك العصر يفهمون العالم المحيط بهم نظريا, وحين لا يقنع الفكر بالظواهر المباشرة كان يميل إلى النفاذ في جوهر الأشياء ويعكسها في المفاهيم, وبذلك بدأ الناس التفكير في مسائل جوهر العالم ككل وأسباب ظهوره وتنوعه, أي: إنهم كانوا يسعون إلى تفسير العالم من ذاته, ممهدين السبيل إلى ظهور أولى التصورات الفلسفية. وهكذا برزت الفلسفة كشكل معين لمعرفة الواقع. من الأمثلة على تلك المحاولات المبكرة ما ذهب إليه الفيلسوف الإغريقي القديم هيراقليطس من أن العالم هو نار حية أبدًا تشتعل بموجب قوانين وتنطفئ بموجب قوانين, وهي محاولة لتفسير العالم من العالم ذاته ولاكتشاف الوحدة الداخلية لكل الأشياء المحيطة المتنوعة. لكن الفلسفة في المفهوم الماركسي ليست فقط شكلا لمعرفة الواقع كأي علم آخر, وإنما تتميز عن العلوم الأخرى بأنها نظرة أو فكرة عن العالم. فنظرة الناس عن العالم التي تعبر عن علاقتهم بالواقع ترتبط قبل كل شيء بوضعهم في المجتمع, وبمصالحهم. لهذا, فإن نشأة الفلسفة وتطورها تتحدد مباشرة بالمصالح المادية للطبقات المختلفة في المجتمع, وتبرز كشكل للأيديولوجية. تستخلص الماركسية من ذلك

_ 1 ف كللي، م. كوفالزون, المادية التاريخية، تعريب أحمد داود، دمشق 1970، ص545.

أن الوحدة بين عاملي المعرفة والأيديولوجية تؤلف الخاصية المميزة للفلسفة كشكل من أشكال الوعي الاجتماعي. ونتيجة لانقسام المجتمع إلى طبقات, وتطور الصراع بينها تظهر الحاجة إلى تبرير نظري للمصالح المادية للطبقات المتصارعة, والشرائح الاجتماعية المتباينة. ويعني تبرير مصالح الطبقة نظريا شيئين: الأول هو تصوير المصلحة الخاصة لهذه الطبقة كما لو كانت تمثل مصلحة عامة لكل طبقات الشعب وفئاته، ويعني الثاني ربط المثل العليا لتلك الطبقة ومصالحها وتطلعاتها بنظرة معينة عن العالم ككل. إن ذلك التصوير لا يحدث بمحض الصدفة, وإنما ينبع من جوهر وطبيعة الأشياء ذاتها, وتلك هي مهمة الفلسفة في المفهوم الماركسي. فالفلسفة تبلور مفهوما معينا عن العلوم يتفق مع وضع ومصالح تلك الطبقة, أي: تقوم بتنظير وصياغة نظراتها السياسية والاجتماعية. نتيجة لذلك، تنعكس في الفلسفة وبشكل نظري مجرد أكثر التطلعات الفكرية عمومية لدى مختلف الطبقات. ونظرا للارتباط الوثيق للفلسفات والمناهج بالصراع الدائر بين الاتجاهات المادية والمثالية، نستعرض فيما يلي المفهوم الماركسي لتلك الاتجاهات كتمهيد ضروري لمناقشة أكثر تفصيلا في الفصل الحادي عشر لمنهج البحث الماركسي المعروف باسم المنهج المادي الجدلي، وإن لزم التنويه منذ الآن بأن هناك وجهة نظر تحريفية معاصرة تنادي بإمكانية تنافس نماذج مختلفة من المناهج والمداخل, وعدم جواز وضع حدود بين الفهم الماركسي وغير الماركسي للمسائل1.

_ 1 المرجع السابق، ص546، 547، 550, Cf., Th. Oizerman, Problems of the History of Philosophy, op. cit. pp. 460, 461.

تفرق الماركسية بين المفهوم الأخلاقي, والمفهوم الفلسفي لكل من المادية والمثالية. وسبب هذه التفرقة هي الرغبة في إزالة اللبس بين المفهومين من جهة, وأن تظهر من جهة أخرى أن الصراع بين المادية والمثالية ليس ظاهرة جديدة, وإنما هو قديم قدم الحضارات الإنسانية نفسها. ولما كانت الماركسية هي إحدى الفلسفات المادية، فقد وجهت نقدا شديدا للمفكرين الذين خلطوا عن عمد بين المفهومين الأخلاقي والفلسفي لكلمة مادية حتى يتمكنوا من الدفاع عن مصالح اقتصادية, وسياسية معينة. تتعرض المادية للتشهير منذ العصور القديمة من منطلق أخلاقي على أساس أنها تعني الانحلال والرغبة العارمة في الملذات والأفق الضيق الذي لا ينظر إلى أبعد من الحاجات الحسية. من أمثلة ذلك ما تعرضت له مدرسة أبيقور من تشهير في عصور لاحقة على يد الكنيسة1 الكاثوليكية؛ لأنه كان ممثلا لأحد التيارات الفلسفية في العصر الهيلينستي والتي أجمعت على الاستخفاف بالنظر العقلي المجرد, والسعي إلى الربط بين الفكر والحياة العملية مع التحول عن التفكير في الوجود إلى البحث في سلوك الإنسان, والتطلع إلى تحقيق الطمأنينة والسعادة روحيا وحسيا. لهذا لم يوافق الفكر الكنسي, ومن بعده الفكر المدرسي على تأكيد أبيقور على حق الإنسان في تحقيق السعادة عن طريق إشباع الحاجات الأساسية في الطبيعة البشرية, وأطلقوا على الماديين اسم "الشهوانيين من أتباع أبيقور". ولا يزال هذا الأسلوب متبعا حتى اليوم, وإن كان قد اكتسب أبعادا أيديولوجية جديدة نتيجة للصراع بين الماركسية والليبرالية. مثال ذلك أنه بعد أن قام المارشال الفرنسي السابق بيتان بتسليم وطنه للنازي في أوائل الحرب العالمية الثانية برّر خيانته بأنه فعل ذلك لمنع انتصار البروليتاريا "الطبقة العاملة" الذي يعني انتصارا "لروح المتعة" على "روح التضحية".

_ 1 انظر أعلاه ص18.

وقد سبق أن أوجز إنجلز رد الماركسية على هذا التشهير بقوله: إن الرأسماليين هم أولى بهذه التهم التي يحاولون التخلص منها بإسقاطها على الغير. ففي تعليقه على الفلسفة الكلاسيكية الألمانية سخر من البرجوازي الألماني المترهل الذي "يفهم من المادية النهم إلى الطعام والسكر والتبجح واللذات الجنسية والجشع للنقود والبخل والفسق والركض وراء البورصة والقمار، وباختصار كل تلك الرذائل التي يستسلم لها سرا"1. هكذا رفضت الماركسية حملة التشهير الموجهة ضد المادية عبر التاريخ، وعزتها إلى المفكرين المدافعين عن مصالح كبار الملاك في الحضارات المتعاقبة من أجل طمس حقيقة المادية المعبرة عن مصالح الأغلبية الواقعة تحت الاستغلال. هذا علاوة على أنه حتى من الناحية الأخلاقية, فإن للمادية قيمها ومثلها العليا التي تحض على التضحية وإنكار الذات, وبالتالي تتنافى مع الاتهامات الموجهة إليها. على العكس من ذلك، ترى الماركسية أن المفهوم الصحيح لكلمة مادية هو المفهوم الفلسفي, والذي ترى أنه يمثل السبب الكامن وراء حملة التشهير ضدها. فالمادية هي مفهوم للعالم أو طريقة معينة في فهم ظواهر الطبيعة والمجتمع, وتفسيرها على أساس مبادئ محددة, أي: على أساس منهج مادي أيضا. تعني المادية أول ما تعني أن العالم, أو الواقع موجود خارج شعور الإنسان أو وعيه ومستقل عنه. أي: إنها تفصل بين الطبيعة المادية والذات المدركة, وتعترف بوجود الأشياء المادية مستقلة عن العقل الذي يدركها. تبدأ المادية من الواقع؛ لأنها تؤمن بقدرة الإنسان على تحويله إلى واقع أفضل, أي: إلى واقع مثالي بالمعنى العلمي للكلمة. هذا الإيمان بقدرة الإنسان على تغيير الواقع هو بالذات موطن الخطورة الذي يرى فيه أعداء المادية دعوة ثورية للقضاء على الفلسفات, والنظم الرجعية.

_ 1 جورج بوليتزير، المادية والمثالية في الفلسفة، مرجع سابق، ص14، 15, المادية الديالكتيكية، مرجع سابق، ص15، انظر فيما يلي، الفصل العاشر، حاشية 2.

ثم تشرح الماركسية المقصود من كملة مادة فتبين أن عالم الواقع المكون من الطبيعة والمجتمع يشتمل على أشياء يمكن رؤيتها أو لمسها أو قياسها تسمى كل منها مادة تمييزا لها عنن جونب أخرى لا يمكن رؤيتها أو لمسها أو قياسهاوإن كانت موجودة مثل الأفكار والعواطف والرغبات والذكريات والتي تسمى الجوانب الفكرية للإنسان، وهي غير مادية. معنى ذلك أن كل ما هو موجود ينقسم إلى مجالين مادي وفكري "أو مثالي". ويمكن التعبير عن ذلك أيضا بالقول أن للواقع ومادي ووجه مثالي1. على نفس المنوال، هناك مفهومان لكلمة مثالية. فالمفهوم الأخلاقي يرى أن المثالية أو المثال هو الغرض السامي الرفيع الذي يختلف عن الأغراض الأنانية الضيقة. كما تستعمل كلمة مثالي بشكل خاطئ أحيانا لتدل على الإنسان الذي يضحي بنفسه من أجل فكرة أو قضية ما. أما المفهوم الفلسفي والدقيق لكلمة مثالية فيختلف عن ذلك تمام الاختلاف. فكلمة مثالي كما سبقت الإشارة مشتقة من مثال التي كان أول من استعملها الفيلسوف الأغريقي أفلاطون بمعنى "الصورة الفكرية التي توجد على منطها الأشياء المادية". من هنا ترجمت الكلمة ومشتقاتها في اللغات الأوروبية أما بالأفكار أو المثل. من هنا ترجمت الكلمة ومشتقاتها في اللغات الأوروبية أما بالأفكار أو المثل. والمثالية تنظر إلى الكون المادي من خلال الذات العارقة، وتعلق وجود الطبيعة المادية على جود العقل الذي يدركها. ترى الماركسية إن دعاة الفلسفات المثالية قد استغلوا ذلك الخلط بين المفهومين الأخلاقي والفلسفي ليخلعوا على أنفسهم صفات لا يتمتعون بها. فاستنادا إلى تفسيرهم العالم بوجود الفكرة أو الروح قبل المادة، يدعون أنهم

_ 1 المرجع السابق، ص9، ف كيللي، م. كوفالزون، المادية التاريخية، مرجع سابق، ص547، وما بعدها، جورج بوليتزير، المادية والمثالية في الفلسفة، مرجع سابق، ص16، 17.

وحدهم القادرون عند التطبيق على أن يهبوا أنفسهم من أجل الفكرة, وهم وحدهم المؤهلون لأن يتخذهم الآخرون مثالا. يكذب الماركسيون ذلك, ويستشهدون بموقف المارشال السابق بيتان الذي اعتمد على الخلط بين المفهومين ليصور خيانته بأنها تغليب لروح التضحية على روح المتعة. لهذا السبب اتهم إنجلز الفلاسفة المدافعين عن البرجوازية بالنفاق, وبأن كلماتهم الكبيرة عن المثالية أو المثل الأعلى ليست سوى ورقة التوت التي يحاولون بها ستر عورة النظام الرأسمالي الذي يفرض الاستغلال, والقهر على الأغلبية الكادحة. ".... أما المثالية فتعني بالنسبة له "أي: بالنسبة للبرجوازي المشار إليه في الحاشية"1 الإيمان بالفضيلة وحب الإنسانية جمعاء, وبشكل أشمل الإيمان بعالم أفضل، وهو ما يصرح به أمام الآخرين ولكنه لا يؤمن به إلا عندما يحس بالصداع بعد سكرة شديدة, أو عندما يفلس....."2. على الصعيد الفلسفي، تنتقد الماركسية الفلسفات المثالية؛ لأنها تحط من شأن المعرفة العلمية وتسعى لإخضاع العلم للدين، وتفسر الاكتشافات العلمية بطريقة مشوهة. إلا أنه وإن كانت الماركسية تنكر الميتافيزيقا, فإنها تهتم اهتماما كبيرا بالفلسفة بصفتها المفهوم المادي الجدلي للواقع أي: للطبيعة والمجتمع. أما تاريخ الفلسفة فتنظر إليه الماركسية على أنه الصراع الأزلي بين المادية والمثالية، بين الجدل والميتافيزيقا. وهو كذلك تاريخ التناقضات التي تجلت بين محتوى وشكل المذاهب الفلسفية، وبين محتوى الفكر الفلسفي والمفاهيم الفلسفية التي تعبر عنه. من جهة أخرى، فإن مشاكل الفلسفة في المفهوم الماركسي تتجلى في العلاقة بين الفكر والواقع بمعنى ضرورة الانطلاق من الواقع إلى

_ 1 جورج بوليتزير، المادية والمثالية في الفلسفة، مرجع سابق، ص14، 15, المادية الديالكتيكية، مرجع سابق، ص15، انظر فيما يلي، الفصل العاشر، حاشية 2. 2 المادية الديالكتيكية، مرجع سابق، ص15.

الأفكار وليس العكس. كما تتجلى مشاكل الفلسفة أيضا في علاقة الإنسان بالعالم, ثم في القوانين العامة للوجود والإدراك1.

_ 1 M. lovchuk. Philosophical Traditions Today, op. cit, pp. 21 ff ف. كيللي, م. كوفالزون، المادية التاريخية، مرجع سابق, ص556.

أهم أوجه نقد الماركسية

أهم أوجه نقد الماركسية: تعرض التصور الماركسي لمفهوم الفلسفة ومهمتها للنقد لعدة أسباب, منها إنكاره للفلسفة التقليدية الميتافيزيقية، واعتباره التفكير المجرد لا يؤثر على مجرى التاريخ، وأن النظر العقلي لا يمكن تبريره إلا إذا ارتبط بالعمل "أي: بمدى قدرته على تغيير الواقع الاقتصادي, والقضاء على استغلال الإنسان للإنسان". معنى ذلك أن الميتافيزيقيا بصفتها نتاجا للنظر العقلي المجرد ليس لها من وجهة النظر الماركسية أي تأثير على مجرى الوقائع, استنادا إلى التفرقة بين المادية الجدلية والميتافيزيقا. ففي المادية الجدلية يتوحد النظر العقلي, والعمل حيث تكون للفكر على الدوام دلالة علمية إضافة إلى أن معرفة العالم تجعل من الممكن التأثير فيه كما سبقت الإشارة. وليس كذلك الميتافيزيقا التي تعني النظر العقلي في طبيعة الحقيقة دون أن يكون لذلك النظر علاقة بحقائق الواقع. فهي تنشد إذًا معرفة الحقيقة لذاتها, ومن ثم تبتعد عن تفسير التاريخ والعمل معا. يرفض أنصار التيار التقليدي المعاصر تلك التفرقة القاطعة بين النظر العقلي, والعمل انطلاقا من أن التفكير يؤثر في مجرى الأحداث في العالم, وإن لم يقصد إلى ذلك بشكل مباشر. والفكرة التي تتمخض عن النظر العقلي المجرد في شئون العالم تؤثر أعمق التأثير في تفسير وقائعه. فالرجل البدائي مثلا يفسر أحداث الكون بإرجاعها إلى علل خفية, بينما يردها المستنير إلى عللها الحقيقية ولو لم تكن معرفة العلل الحقيقية من

الأهداف المباشرة للتعليل. إن مزاولة النظر العقلي المجرد تغير نظرة صاحبها إلى الوقائع والأحداث, وتساهم في توجيه حياته, ولو لم يقصد بنظره العقلي هذا التوجيه المستنير. يرى الناقدون للماركسية كذلك أن التفرقة بين النظر والعمل لم تمنع المجتمع البشري من أن يفيد من الاكتشافات العلمية؛ لأن العلم الذي يكون نظريا اليوم قد يتحول غدا إلى علم تطبيقي. فالعلوم الطبيعية التي يعتقد الناس أنها ذات صلة وثيقة بالحياة العملية كانت أصلا دراسات من أجل تفسير ظواهر الكون باستخدام مناهج تجريبية, دون وجود غاية عملية مباشرة. وبينما تنحصر مهمة الباحث عن وجهة النظر هذه في التوصل إلى القانون, أو النظرية التي تحكم تلك الظواهر, فإن الاستفادة العملية من القانون أو النظرية من شأن المخترعين, ورجال الأعمال1.

_ 1 توفيق الطويل، أسس الفلسفة، 79، 80. 2 William James, Pragmatism "and four essays from The Meaning of TruTh", Meridian Cleveland New York 1963, first printing of combined edition 1943, p. 43, cf, A. Brecht, Political Theory, op. cit., p. 537.

المبحث الخامس: البراجماتية

المبحث الخامس: البراجماتية مدخل ... المبحث الخامس: البراجماتية Pragmatism ظهرت البراجماتية "أي: الفلسفة العملية" في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين, وساهم في وضع أسسها ثلاثة من المفكرين الأمريكيين هم: تشارلس بيرس "1839-1914"، ووليم جيمس "1842-1910", وجون ديوي "1859-1952". ويعتبر تشارلس بيرس هو أول من استخدم البراجماتية كلفظ فلسفي عام 1878 - 2. تتلخص أهم اتجاهات هذه الفلسفة في توجيه العقل إلى العمل دون النظر, بمعنى أن ينصرف العقل عن التفكير في المبادئ والأوليات إلى البحث في النتائج والغايات. وتنظر البراجماتية إلى المعرفة كأداة للعمل المنتج وتضع

معيارا عمليا للتحقق من صدق أية فكرة, يتجلى في قياس مدى قدرتها على إثبات نفسها. بذلك يصير المعيار هو المنفعة وليس حكم العقل أي: تكون المنفعة هي المحكّ الوحيد لصدق الأحكام العقلية وصواب الأفكار. من جهة أخرى، تذهب البراجماتية إلى أن الحكم العقلي يكون صادقا متى تحقق الإنسان من صدقه بالتجربة، وبدون هذا التحقق لا يوصف الحكم بالصدق أو بالكذب. بذلك يصير الحق من وجهة نظر هذه المدرسة هو "التحقق" من منفعة الفكرة بالتجربة. إن الحق عند تشارلس بيرس مثلا يقاس بمعيار العمل المنتج, وليس بمنطق العقل المجرد, وما الفكرة إلا خطة للعمل وليست حقيقة في ذاتها كما ذهب أتباع المذهب العقلي. والفكرة التي لا تنتهي إلى سلوك عملي في الحياة الواقعية هي فكرة باطلة, أو غير ذات معنى يعول عليه, أي: إن الفكرة هي ما تنتهي إليه من نتائج وآثار. ثم يضرب لذلك مثلا فيقول: إننا نجهل حقيقة الكهرباء ولكننا نعرف ما تحققه لنا من منافع. فمعنى الكهرباء يقوم في الآثار التي تتخلف عنها في حياتنا اليومية, ولا عبرة بمعرفتنا العقلية لها. بالمثل، اعتبر بيرس أن الاعتقاد هو من نوع الأفكار. فالاعتقاد أو الدين حق متى دل على سلوك عملي, وإلا كان خلوا من كل دلالة. وانتهى إلى ضرورة تطبيق مناهج البحث العلمي على الفلسفة بحيث يتوقف التسليم بفكرة ما على ما يترتب عليها من سلوك عملي. لهذا تطلع إلى إنشاء ما أسماه بمجتمع معملي يقوم على نفس المنهج الذي يستخدمه العالم في معمله حتى يتيسر التوصل إلى الصواب أو الحق الذي لا يمارى. إلا أن الفلسفة البراجماتية ارتبطت أكثر باسم ويليام جيمس الذي اعتبر أن المنهج البراجماتي هو أولا وقبل كل شيء منهج لحل الخلافات الميتافيزيقية التي لولاه لظلت قائمة بلا حل. ثم يتساءل جيمس: هل العالم واحدي أو متكثر؟ مسير أم حر؟ مادي أم روحي؟ ويلاحظ أن الخلافات حول تلك الأفكار هي

خلافات لانهائية, وفي رأيه أن مهمة المنهج البراجماتي في مثل تلك الحالات هي محاولة تفسير كل فكرة منها بتتبع, أو استقصاء نتائجها العملية1. يعتقد جيمس أن الفكرة الصادقة هي تلك التي تؤدي إلى النجاح في الحياة, وأن الاعتقاد أو الدين الصحيح هو الذي ينتهي إلى تحقيق أغراض نافعة في دنيا الواقع. يترتب على ذلك أن الأفكار والمعتقدات لا تطلب لذاتها بشكل مجرد, وإنما كوسائل لتحقيق أغراض في دنيا الواقع. إن الحق ليس مجرد صفة عينية تقوم على طبيعة الفكرة, أو العقيدة كما زعم الفلاسفة الصوريون، وإنما هو قابلية الفكرة لأن تكون أداة للسلوك العملي في الواقع. وفي ذلك يقول وليام جيمس: "إن التفكير هو أولا وأخيرا ودائما من أجل العمل, كما أن الحق ليس إلا التفكير الملائم لغايته"2. في مجال الأخلاق، يعتبر السلوك الإنساني فاضلا متى حقق نفعا للإنسان, وبذلك يصبح معيار الصواب والخطأ هو القيمة المنصرفة أو الفورية Cash Value في دنيا الواقع, وينتفي وجود الحق في ذاته بعيدا عن ظروفه, أي: يصبح الحق كالسلعة, قيمتها تقدر بثمنها الذي يدفع فيها فعلا في السوق. يتمثل الشق الثاني من البراجماتية -كما شرحه جيمس- في موضوع التحقق أو التجربة, فصدق الفكرة أو صوابها هو عملية التحقق منها بالتجربة. وبهذا التفسير يتحول الحق إلى "التحقق" من منفعة أو فكرة بالتجربة, وذلك استنادا في نظره إلى أن العلم يجعل النظرية أداة للسيطرة على الطبيعة. انطلاقا من ذلك يعتبر جيمس أن الصراع بين النظريات المختلفة عبث, وأن انشغال الباحثين بمحاولة إثبات أيها حق وأيها باطل هو مضيعة للوقت

_ 1 W. James, Pragmatism, op. cit., p. 42, توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص63، 394، 395. 2 A. Wolf, Recent and Contemporary Philosophies. 566, 577. استشهد به الدكتور توفيق الطويل, مرجع سابق, ص394-396.

لأنه لن يؤدي إلى نتيجة تؤثر في السلوك العملي, كما هو الحال مثلا في النزاع بين الماديين والروحيين. لكنه يستدرك قائلا: إن النظر إلى مستقبل العالم يرجح كفة المذهب الروحي؛ لأنه يملأ الإنسان أملا وتفاؤلا وقدرة على تحمل مصاعب الحياة. ينطبق ذلك على كل نزاع بين نظريتين حيث يبين أن قيمة أي رأي هي في منفعته للحياة، وصدقه يتوقف على تلك المنفعة ثم يستخلص من ذلك أن الحق في ذاته لفظ أجوف لا يحمل معنى. حول العقيدة، تتخذ البراجماتية نفس الموقف الانتهازي. فهي لا تؤمن بوجود الله "س" كموقف مبدئي, وإنما تبدي استعدادها للاعتراف بصدق العقيدة الدينية إذا ترتبت عليها فوائد علمية في الواقع اليومي. أي: إنها تعلق اعترافها على ظهور النتائج العملية للدين, والتأكد من قيمته المنصرفة. يعترف جيمس بذلك فيقول: "أخشى أن تكون محاضراتي السابقة -التي اقتصرت على نواحٍ إنسانية وبشرية- قد تركت لدى الكثير منكم انطباعا بأن البراجماتية تعني من الناحية المنهجية الابتعاد عما هو فوق البشر "الخالق". لقد أظهرت في الواقع احتراما قليلا إزاء المطلق ... ومن وجهة نظر المبادئ البراجماتية, فإنه إذا كان فرض وجود الله يلعب دورا مرضيا بأوسع معاني الكلمة, فإنه يكون فرضا صحيحا". ويعزو برتراند راسل موقف جيمس إلى تأثره بمثالية بيركلي مع معاناته من الشك في وجود الخالق, مما دفعه إلى إحلال الإيمان بالله محل الله نفسه؛ وذلك نظرا لما للإيمان من فوائد نفعية. ويتضح الموقف الخطر من الإيمان الذي تتخذه هذه الفلسفة الأمريكية من تلاعبها بذلك الموضوع الحساس, ورغبتها في تسخير العقيدة لأهداف سياسية. فالمشكلة لديها ليست الإيمان بالخالق أو بدين معين، وإنما المشكلة هي ضرورة الانتظار حتى يتضح أي الأديان أقدر على يلعب دورا أحسن

في المستقبل "من وجهة نظرها طبعا". ويشرح ويليام جيمس رأيه بقوله: "يجب على البراجماتية أن تؤجل إعطاء إجابة جامدة؛ لأننا لا نعلم بعد بشكل يقيني أي أنواع الدين يمكن أن يلعب دورا أحسن على المدى البعيد"1. المفكر الأمريكي الثالث الذي ساهم في تطوير البراجماتية هو جون ديوي. لم يختلف هذا عن سابقيه من حيث النظر إلى الحق على أساس أنه التحقق من منفعة الفكرة عن طريق التجربة. كما اتفق مع مقولة: إن صواب العقيدة تتوقف على نتائجها العملية, أو قيمتها المنصرفة كما سبقت الإشارة. أسهم جون ديوي في مجال البراجماتية بمذهب جديد أسماه مذهب الذرائع, وقصد به أن الفكر ما هو إلا وسيلة أو ذريعة في خدمة الحياة. يتلخص ذلك المذهب في المطالبة بتطبيق منهج البحث العلمي في شتى مجالات التفكير, وخاصة مجال القيم في السياسة والأخلاق والجمال بهدف تغيير القيم لتلائم ظروف الحياة. والمنهج العلمي من وجهة نظره هو الأسلوب الذي يلجأ إليه الباحث للخروج من نطاق الفكر إلى نطاق العمل. اعتبر ديوي أن الحياة تقوم بعملية تنسيق بين الفرد وبيئته, وأن العقل أداة لترقية الحياة وليس أداة للمعرفة, فاتسع معنى البراجماتية لديه بحيث أصبح صواب الفكرة, أو المبدأ يعني تكيفه مع حياة الآخرين ومعتقداتهم, وليس مع حياة الفرد العملية فقط. إن الناس من وجهة نظره لا يزاولون التفكير إذا كانت حياتهم سهلة لينة، وهم لا يضطرون إلى التفكير إلا إذا واجهتهم المصاعب. حينئذ

_ 1 W. James. Pragmatism op. cit, pp. 192. 193, B. Russel, History of Westren Philosophy, op. cit., p. 846, حول الموقف اللامبدئي للفلسفات المثالية من الدين, والإيمان انظر المقدمة أعلاه.

يكون مقياس صحة تفكيرهم هو مدى ما يحققونه من نجاح. فكل بحث وراء الحقيقة ليس إلا طريقة لإيجاد وسائل تخدم حياتنا العملية, أي: إن الفكرة خطة يراد بها تحقيق فعل من الأفعال1. وقد امتدح جيمس ذلك الإسهام بقوله: إن الأفكار, وهي جزء من تجربتنا تصبح صحيحة بقدر ما تساعدنا على الدخول في علاقات مرضية مع جوانب أخرى من تجربتنا. وأية فكرة تحملنا بنجاح من جانب من تجربتنا إلى جانب آخر، رابطة الأشياء بشكل مرض، وتعمل بأمان، وتبسط الأمور, وتوفر الجهد هي فكرة صحيحة، أي: صحيحة كوسيلة أو كذريعة. هذه هي النظرة الذرائعية إلى الحق, أو يمكن القول: إن الحق في أفكارنا يعني قوتها وقدرتها على "العمل". من هذا يتضح أن البراجماتية تختلف مع الفلسفة التقليدية من حيث المفهوم والوظيفة. فالبراجماتية تنفر من تبديد النظر العقلي في حقيقة الكون وطبيعة الموجودات ومبدئها ومصيرها. وهي أيضا لا تقصر الفلسفة على مجرد البحث الأكاديمي في المبادئ العامة, والعلل الأولى. من جهة أخرى اختلفت البراجماتية مع الوضعية المنطقية. فقد رأينا كيف اتجهت تلك الفلسفة الأخيرة إلى اعتبار القضايا الميتافيزيقية غير ذات معنى، وإنكار إمكانية وصفها بالصدق أو الكذب. على العكس من ذلك اتجهت البراجماتية إلى قبول المعاني الميتافيزيقية دون بحثها عقليا إذا ترتبت على قبولها منفعة أو فائدة عملية. إن مهمة الفيلسوف ليست بحث المشاكل ووضع النظريات حلا لها، وإنما تحولت الفلسفة في مفهوم تلك المدرسة لتصبح مجرد رجل يفكر لتحقيق منفعة عملية، وصارت آية الحق النجاح وآية الباطل الفشل.

_ 1 John Dewey, "Development of Americcan Pragmation", in: Contemporary American Philosophy Vol. II, pp. W. James, Pragmatism op. cit., p. 49; cf Th. Oizerman, Problems of The History of Philosophy, op. cit., p. 452.

أهم أوجه نقد البراجماتية

أهم أوجه نقد البراجماتية: تعرضت البراجماتية للنقد من جانب الفلاسفة المعاصرين مثل كورنفورث وبرتراند راسل وسانتيانا الذين رأوا أن مفهومها للفلسفة لا يخرج عن كونه موقفا أمريكيا يعكس تأثر أصحابه بالأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للبيئة التي نشئوا فيها1. وذلك من حيث التعبير عن عصر الإقبال على الصناعة وإنتاج المشروعات الضخمة, وإن كان البراجماتيون يضيقون بهذا التفسير. يرى المعاصرون من أنصار الفلسفة التقليدية أن البراجماتية لم يحالفها التوفيق في العلاقة المعكوسة التي أنشأتها بين الفكر والعمل. إن وظيفة العقل من وجهة نظرهم هي التوصل إلى الحقيقة في ذاتها بصرف النظر عن نتائجها، كما يتفقون مع أغلبية الفلاسفة في أن الأفكار الصادقة تؤدي إلى نتائج مرضية ونافعة. بررت البراجماتية هذه العلاقة المعكوسة بأنها ترفض الحقائق المطلقة, وتنظر إلى المعرفة كأداة أو خطة أو مشروع للتغلب على المصاعب والمشكلات. فإذا نجحت المعرفة في ذلك كانت حقا أو صوابا، وإن أخفقت كانت خطأ دون إقامة أي وزن لصدق الحقيقة في ذاتها. بمعنى آخر, فإن التحقق من صواب الفكرة أو خطئها مرهون بالمستقبل, أي: بالتجربة التي تثبت عمليا مدى نجاحها أو فشلها. كان هذا هو ما ذهب إليه جون ديوي وغيره من البراجماتيين الذين علقوا صدق الأفكار على المستقبل حتى يتم اختبارها بالتجربة. اختلف معهم في ذلك أنصار الفلسفة التقليدية والوضعيون والماركسيون وغيرهم, إذ رأى هؤلاء أن الأفكار تكون صادقة بغض النظر عما يأتي به المستقبل ...

_ 1 B. Russel, History of Western Philosophy, op. cit., pp. 854, 855.

فبرتراند راسل مثلا -وهو من أعلام الفلسفة التحليلية المعاصرة- يعلق صواب الفكرة على أسبابها الكائنة في الماضي حتى "تستقل الحقيقة عن إرادتنا في الحاضر والمستقبل معا، وبذلك لا تتغير الحقيقة كلما أمكننا تغيير المستقبل". إن جوهر الخلاف بين الرأيين هو أن نقاد البراجماتية يرون أن "الأفكار تؤدي إلى نتائج مرضية؛ لأنها صادقة" بينما يظن البراجماتيون أن "الأفكار صادقة؛ لأنها تؤدي إلى نتائج مرضية". وتبدو خطورة البراجماتية من قول ويليام جيمس: إن الفكرة الواحدة قد تكون صادقة في وقت ما "أي: حين تؤدي إلى منفعة" ثم باطلة في وقت آخر "حين تفشل في تحقيق منفعة", أو أكثر من ذلك: إن الفكرة الواحدة تكون صوابا عند إنسان, وخطأ عند إنسان آخر. إن مكمن الخطورة في ذلك هو أن التسليم بذلك المنطق البراجماتي المقلوب يفرض علينا قبول الأخطاء "أو بصراحة أكثر السياسات الشريرة" كحقائق صادقة في وقت ما, إذا أثبتت التجربة أنها في ذلك الوقت قد حققت منفعة, أو فائدة عملية "لدولة عظمى مثلا". انتقدت الماركسية أيضا1 ادعاء الفلسفة البراجماتية بأن هدفها هو التغلب بصفة نهائية على الخلافات الفلسفية. فالمنهج البراجماتي من وجهة نظر ويليام جيمس هو منهج لحل المنازعات الميتافيزيقية بالدرجة الأولى, والتي لولاه لظلت تلك المنازعات بلا حل. بينما ترى الماركسية أن جوهر ذلك المنهج يتضاءل حتى يتركز حول موضوع الحق الذي على ضوئه تصبح أية فكرة صادقة إذا

_ 1 Th. Oizerman, Problems of the History ofPhilosophy, op. cit., pp. 451, 452; cf., W.James, pragmatism, op. cit., pp. 45,75. 58; cf., Also, B. Russel, History of Western Philosophy, op. cit., p. 844.

ساعدت الفرد على التنسيق بين تجربته الجديدة وبين ما يحتفظ به من عقائد قديمة, وبذلك تسهل عليه الوصول إلى هدفه المحدد عن طريق الربط بين الأشياء بشكل مرضٍ مأمون مع تبسيط, وتوفير الجهد. وتعتبر الماركسية أن المفهوم البراجماتي للحق ذو اتجاه محافظ للغاية سواء من الوجهة العلمية, أو السياسية الاجتماعية. ذلك الاتجاه المحافظ في مجال المعرفة هو الذي ظنت البراجماتية أنه الأسلوب الوحيد لإزالة الخلاف الرئيسي في الفلسفة, في الوقت الذي ترى فيه الماركسية أن الهدف منه كان وضع شكل من أشكال المثالية ذات اللون السياسي؛ لتكون بمثابة عرف فلسفي عام.

المبحث السادس: الوجودية

المبحث السادس: الوجودية مدخل ... المبحث السادس: الوجودية Existentialism ظهرت تلك الفلسفة على يد المفكر الدنماركي سورين كير كجارد "1813-1855" وطوّرها من بعده مارتن هايدجر "1889" وجان بول سارتر "1905" وكارل ياسبرز وألبير كامي. وقد أصبح من المسلمات في عصرنا الحاضر أن المغزى الكامل لفلسفة كير كجارد لم يكتمل إلا من خلال مؤلفات هؤلاء الفلاسفة. كما أنه من المسلمات الهامة الأخرى تعذر الحديث عن منابع الوجودية دون الإشارة إلى الفيلسوف الألماني نيتشه جنبا إلى جنب كير كجارد اللذين رغم اختلافهما في القضايا التي تناولاها, فإنهما يتشابهان في موضوعات وجودية أخرى كثيرة انعكست في مذاهب أتباعهما. من تلك الموضوعات نذكر إخفاق المذاهب المفارقة واللامعقول، اليأس والقلق، التزام الإنسان المسيحي، معنى المخاطرة، دراما الفرد، القيمة الذاتية الخالصة، عدم التيقن مطلقا مما هو موضوعي ... إلخ. تنتقد الوجودية عموما كلا من الفلسفة القديمة والحديثة؛ لإغفالهما للإنسان الواقعي المشخص. فالفلسفة القديمة بحثت في الوجود بما هو وجود بهدف التعرف على علله البعيدة ومبادئه الأولى, بينما اهتمت الفلسفة الحديثة

بنظرية المعرفة للوقوف على طبيعتها عن طريق تحديد العلاقة التي تربط بين العقل وموضوعاته. على العكس من ذلك, تحولت الفلسفة الوجودية من البحث في الوجود المجرد إلى دراسة الإنسان كتجربة حية في وجوده الحسي, أي: في حياته الواقعية وعلاقاته مع الآخرين، محددا بزمان ومكان وظروف هذا الإنسان. لكن تختلف الوجودية عن الفلسفات الأخرى من حيث عدم وجود تعريف موحد لها بسبب التيارات المتعددة للوجودية, والتي يمكن تمييز ثلاثة منها1: التيار الأول يمثله فلاسفة مثل كير كجارد وياسبرز ومارسيل. وقد ذهب هؤلاء إلى أن النظر في الوجود يقتضي إنكارا للفلسفة باعتبارها مذهبا، ذلك أن الفلسفة الوجودية ما هي إلا "تحليل الوجود" من حيث أخص ما فيه من فردية وعينية. أما ما يتبقى بعد ذلك -وخاصة التأمل الميتافيزيقي- فهو لا يعدو أن يكون سوى شفرة قيمتها الوجودية ليست لها سوى علاقة رمزية يرون أنها فضول زائد عن الحاجة. إن التحليل الوجودي في نظر كير كجارد وياسبرز لا يمكن أن يؤدي إلى حقيقة شاملة. وكل شيء إنما يتحقق في تجربة صرفه لا سبيل إلى التعبير عنها للغير "مباشرة على الأقل"، ولا هي قابلة للتعميم الشامل، وهي اتصال شخصي تماما بمطلق الوجود ووعي حسي "باللحظة الأبدية" بواسطة فصل هذه اللحظة ينتزع الإنسان نفسه من متاهة متناقضاته الخاصة, ويبلغ "حقيقة" لا سبيل إلى صوغ عبارة عنها بحال. عند ذلك يدرك الإنسان دفعة واحدة معنى كونه موجودا, ذلك المعنى

_ 1 ريجيس جوليفيه، المذاهب الوجودية "من كير كجارد إلى جان بول سارتر" ترجمة فؤاد كامل، القاهرة 1966، ص4-12.

الذي ليس شيئا مغايرا لوجوده ذاته. فالتحليل الوجودي إذًا سمة من السمات الأكيدة للوجودية, ولكنه ليس كافيا لتعريفها. يضم التيار الثاني فلاسفة مثل هايدجر وسارتر. وقد رفض هذا التيار نوع الوجودية التي عبر عنها التيار الأول بسبب وقوعه في تناقض ناتج عن موقفه الذي تعدى حد القضاء على الفلسفة إلى القضاء على كل تعبير عن الوجودية. فالوجودي المتسق مع نفسه في رأي كير كجارد يقتصر على أن يوجد, وأما الباقي كله فزائد عن الحاجة كما سبقت الإشارة. وما الكلام المستفيض إلا علامة وجود خطابي أكثر منه واقعيا. إن الشخص الواجد نفسه بالمعنى الأصيل صامت حتى بينه وبين نفسه, وفي هذا الوجه تستنفد الفلسفة الوجودية نفسها, أي: تنكر نفسها إنكارا كليا. لهذا يرى التيار الثاني أن الوجودية يجب أن تقتصر على التحليل الوجودي الذي يريدون استخدامه ليقيموا عليه فلسفة وجود, أو علم وجود Science de ldees. هذا الهدف واضح على الأخص عند هايدجر, كما أن سارتر لم يتبرأ منه في كتابه الوجود والعدم. يشمل التيار الثالث فلاسفة مثل كامي وباتاي, وإن كان لا يربطهم بالوجودية إلا اعتقادهم بأن الوجود, والعالم عبث سخيف في جوهره. وفي غياب تعريف متفق عليه من جانب الفلاسفة أنفسهم، نجد أن التعريفات المأثورة للوجودية جاءت من قبل النقاد الذين عرفها بعضهم بأنها "التصميم المشترك على اتخاذ نقطة البداية من تحليل التجربة العينية المعاشة من حيث تناول الإنسان نفسه بشكل مباشر بدلا من مجرد اتخاذه نقطة للوصول، وعدم اللحاق به إلا بعد بحث يبدأ من طريق مجرد ... يبدأ بالله والوجود والعالم والمجتمع وقوانين الطبيعة والحياة". ويعرف آخرون الوجودية بأنها تنحصر من حيث جوهرها في "تأكيد أن الوجود عبارة عن وضع خالص Position pure

ليس عبارة عن كمال للماهية, أي: إن الوجود سابق على الماهية "1 "الماهية هي كنه وخصائص الشيء". نالت العلاقة بين الوجود والماهية اهتماما كبيرا من قبل عدة مدارس فلسفية. فقد اعتبرت الفلسفات المثالية أن الماهية سابقة على الوجود, بمعنى أن جوهر الإنسان الذي يعبر عن الخصائص الذاتية التي تميزه عن غيره من الكائنات "ماهيته" يسبق وجوده في دنيا الواقع. وهذا يفسر اهتمام الفلاسفة المثاليين بالبحث عن الماهيات, وإغفال الوجود الفعلي. وعلى الرغم من اختلاف الفلاسفة الوجوديين في شرحهم لهذه العلاقة, فإنهم اتفقوا على رفض الاتجاه السابق الذي يرى أن الماهية تسبق الوجود. وقد قام بعض هؤلاء الفلاسفة مثل هايدجر بالتوحيد بين وجود الإنسان وماهيته, واتبع منهجا يلائم موضوع الأنطولوجيا, وهو إدراك معنى الوجود بوجه عام. وحول علاقة موضوع البحث, فقد ذهب هايدجر إلى القول بأن الموجود إذ يوجد، يكون ماهيته، بحيث إن الماهية أو الكينونة etre ليست في ذاتها سوى الوجود نفسه في واقعه العيني. بعبارة أخرى، فإنه ليست للوجود ماهية متميزة عنه، أي: إنه في وقت واحد وجود, وماهية. ذهبت فئة أخرى من هؤلاء الفلاسفة مثل سارتر إلى أن الوجود يسبق الماهية بشكل مطلق, على أساس أن كلمة وجود لا تنطبق انطباقا كاملا إلا على الواقع الإنساني. من جهة أخرى, فإن الوجود عند الإنسان ليس سوى الاسم

_ 1 راجع المزيد من التعليقات والتعريفات في المرجع السابق، ص6، 7، وخاصة بوفريه عن الوجودية, في مجلة كونفليوانس، مارس 1945، ص192، سيمون دي بوفوار عن الأدب والميتافيزيقيا، في مجلة العصور الحديثة، إبريل 1946، ص159، 160، تروافونتين، اختيار جان بول سارتر، باريس 1945، ص39 وما بعدها.

الذي يطلق على العدم neant الذي هو الوجود لذاته, أو الوعي. وهناك اتفاق بين الوجوديين -على الأقل بين كير كجارد وياسبرز- على رفض اعتبار الوجود شيئا يمكن أن نجرده, ونعرفه من الخارج بوصفه أحد المعطيات الموضوعية، ذلك أن صبغته الجوهرية بإطلاق هي صبغة الذاتية وعلى هذا الأساس فإنه وراء حدود كل معرفة, ولا يمكن رده إلى مفهوم، وهو مستعصٍ على كل محاولة ترمي إلى إدخاله في قوالب التصورات1, وهو ما يضع ادعاء الفلسفة الوجودية بأنها غير مثالية موضع التساؤل. قد يساعدنا هذا على توضيح موقف الوجودية -عند الأربعة الكبار: كير كجارد وياسبرز وهايدجر وسارتر- من مفهوم الفلسفة بصفتها دوما التحليل العيني في أشد صوره اصطباغا بالفردية بهدف الكشف إما عن حقيقة غير قابلة للوصف، حقيقة شخصية إلى أقصى حد، أو عن مفهوم كلي شامل للإنسان وللعالم الذي يجري في رحابه تحديد مصير الإنسان. وقد عبر ياسبرز عن ذلك جزئيا في دراسته لنيتشه بقوله: "إن ما ينبثق من أعماقنا هو وحده الشيء الحقيقي". ويتفق فيلسوف وجودي آخر هو جابريل مارسل مع هذا المفهوم, وإن كان لا يوافق على وجهة نظر هايدجر وسارتر التي تفسر الأشياء بالاكتفاء بما في داخلها "الباطنية"2. ربطت الوجودية بين حرية الإنسان ووجوده. فالإنسان من وجهة نظر كير كجارد يجد نفسه حيال "مواقف" عليه أن يختار من بينها, وتترتب المسئولية على اختياره هذا. إلا أن الاختيار كثيرا ما يتحقق في حال يجمع بين الشك والحيرة, وعندئذ يصير الإنسان رب أفعاله.

_ 1 أ. فورست "الماهية والوجود" في: مجلة شواهد Temoignages مايو 1947، ص216، 217، استشهد به ريجيس جولفيه, المذاهب الوجودية، مرجع سابق 12، 13. 2 كارل ياسبرز، نيتشه والمسيحية، طبعة فريتز سايفرت 1938، ص84، 85، في المرجع السابق، ص11، 64 "حاشية".

أما سارتر فيرى أن الحرية الإنسانية تتجلى في أن الاختيار لا يقترن برؤية, ولا يكون مسبوقا بتدبير عقلي أو تحديد لغاية أو معرفة ببواعث. هذه الحرية مقيدة بمواقف تتحكم فيها, ولكنه بمقدور الإنسان أن يتخلص منها وأن يزاول حريته, وبالتالي فهو رب أفعاله وصانع مصيره. بذلك يكون الوجوديون قد رفضوا إخضاع الفرد للحتمية الاجتماعية, أو الموضوعية العلمية. ترتب على هذا الفهم المميز للحرية في الفلسفة الوجودية إسقاط جميع القيم, وتبرير تحرر الفرد من الزواجر التي يفرضها العرف الاجتماعي أو العقيدة الدينية أو توجيهات أية سلطة تقيد حرية الإنسان, وهو المفهوم الذي أصبح شائعا بين الناس كناية عن الوجودية والوجوديين. يقارن سارتر على سبيل المثال بين حرية الاختيار الخلقي وحرية العمل الفني, ويوضح كيف أن الفنان لا يلام إذا أغفل في عمله الفني كل القواعد التي تواضع عليها سابقوه. كذلك الحال من الناحية الأخلاقية بالنسبة لمن يقوم باختيار فعل معين من بين أفعال ممكنة, دون الاستجابة إلى قيم معتمدة تعارف عليها الآخرون. وتظل الأفكار المبكرة لكير كجارد ونيتشه ذات تأثير كبير على المذاهب الوجودية المعاصرة رغم ما اعتراها من تغييرات, إذ يمكن تتبع الخطوات العريضة فيها كلها مع بعض التنويعات على اللحن الأساسي للوجودية المبكرة. لهذا نلاحظ استمرار التأكيد على عدة نقاط, أهمها أولوية الذاتية وقيمتها بحيث لا تتسع لشيء سواها، تأكيد الوجود باعتباره قيمة أساسية وسابقا على ماهية الإنسان ومحددا لها، إنكار كل فلسفة تهدف إلى إقامة منطق مجرد غريب عن الحياة لا سبيل إلى التوفيق بينه وبين عالم مشبع باللامنطقية وباللامعقول، حتمية اليأس والقلق باعتبارهما شرطين دائمين للعظمة الإنسانية، عدم التماس الأمن الحقيقي للفكر والعمل في الدين مع وجود خلاف في الرأي بين الوجوديين حول هذا الموضوع.

ويلتمس بعض المفكرين العذر, كما يقوم غيرهم بتفسير أسباب نغمات الحزن والضجر والخوف والقلق والضياع التي تتسم بها الوجودية فيرجعها إلى الظروف الصعبة التي مرت بالعالم منذ الحرب العالمية الأولى, والتأثيرات الضارة الناتجة عن ذلك, وخاصة في ألمانيا بعد هزيمتها في تلك الحرب ثم في فرنسا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. لقد مهد كل ذلك السبيل في رأيهم لظهور الفلسفات القائلة باللامعقولية الشاملة, وانتشار فكرة العدم بعد إنكار العقل وإنكار وجود الله "س". فوجودية هايدجر وسارتر ومذاهب كامي وباتاي ترجع في أصلها إلى ذلك التيار المروج لفكرة اللامعقول، وكلها تجعل للقلق واليأس شأنا كبيرا وترسم ملامح حقبة معذبة1. ويندر أن تتشبع فلسفة معاصرة بكل هذا القدر من الكآبة مثلما نجد في الوجودية حتى إن الفيلسوف باسكال اعتبر ضمن رواد الوجودية الأوائل بسبب النغمة الحزينة المتباكية في كتاباته, والتي يعلق عليها الفيلسوف والأديب الفرنسي أندريه جيد بقوله: "إن القيمة العليا لباسكال ترجع في نظري اليوم إلى النغمة الحزينة المتباكية، ولا توجد إلا في هذه النغمة، أواه, إنني أعلم جيدا أنني لا أستطيع أن أعيد قراءة جمل معينة له دون أن أنشج بالبكاء". وهذا هايدجر -أحد أعلام المذهب الكبار- يرى أن الحياة الحقة تكون في اليأس. بينما ذهب كامي خطوة أبعد, إذ رغم المعاني التي قصدها من الفقرة التالية, فإننا لا نستطيع التغاضي عن نغمتها التي تربطها بالتيار الوجودي العام.

_ 1 Morton White The Age of analysis "The 20 th Century Philosophers", Mentor, New York, Eighth printing 1963 "first publ. 1955"., p. 117. ريجيس جوليفيه، المذاهب الوجودية، مرجع سابق، ص23-25.

يقول كامي في روايته أسطورة سيسيفوس: "إنه ليس ثمة سوى مشكلة فلسفية واحدة يمكن أن تعد جدية بحق، وتلك هي مشكلة الانتحار, ولو استطعنا أن نحكم ما إذا كانت الحياة جديرة بأن تعاش أم لا، فقد أجبنا على المشكلة الرئيسية في الفلسفة"1.

_ 1 A. Camus, Le Mythe de Sisyphe, op. cit., p. 15, أورد النص الدكتور زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مرجع سابق، ص65، ريجيس جولفيه، المذاهب الوجودية، مرجع سابق، ص8، 66، كذلك انظر المقدمة أعلاه ص14.

أهم أوجه نقد الوجودية

أهم أوجه نقد الوجودية: تعرضت الفلسفة الوجودية للنقد من عدة تيارات فلسفية أخرى, نخص منها بالذكر التيار التقليدي المعاصر والماركسية. فالتيار التقليدي المعاصر يرى في الوجودية فلسفة لا تدرس سوى الإنسان المحسوس الذي يجمع بين عناصر لا يسهل فصل بعضها عن بعض، وهي: الجسم والنفس والشعور والعالم الخارجي والأنا والآخرون. تهتم الوجودية بالحياة الخاصة للإنسان, والمواقف التي يجد نفسه إزاءها, ولكنها لا تستطيع أن ترقى إلى دائرة وجودها الإنساني؛ لأن تجاوز الوجود الذاتي يتنافى مع أدق خصائصها وهو التقيد بدراسة الوجود الخاص. وخلافا للفلسفة التقليدية التي نظرت إلى الوجود على أنه روح ومادة أو عقل وجسم، فإن الوجودية قد تجاوزت هذه الثنائية بمقولتها: إن ما يظهر من الشيء هو حقيقته. وينتقد التيار المعاصر ذلك الموقف على أساس أنه وإن كان قد وفر على الوجودية مشقة التوفيق بين القطبين الأزليين, إلا أنها ناءت بتفسير الكثير من ظواهر الوجود, وأخطأها فهم الكثير من مشكلاته. هذا علاوة على أن إغراقها في الفردية على حساب مصالح المجتمع لم يؤد بالإنسان إلى تمتعه بحريته التي بشرت بها, وإنما انتهت دراستها إلى

أن حياته تزخر بالضيق, وتنتهي بالموت والعدم, فكانت بهذا قصة هزيمة ويأس وتشاؤم. ويرى بعض الفلاسفة المعاصرين أن الوجودية تعتبر من أظهر الأعراض التي توحي بانهيار المذاهب الفلسفية في عصرنا. فقد علق الفيلسوف الفرنسي إميل برييه على كتاب سارتر "في الوجود والعدم" بأنه رغم ما يتضمنه من التحليل الدقيق, فإنه ينطوي على ألوان من خيبة الرجاء يصادفها الفيلسوف في بحثه عن الوجود1. أما الماركسية, فقد قدمت تفسيرا آخر لطبيعة الموضوعات التي تناولتها الفلسفة الوجودية, ولأسباب تلك النغمات المفجعة. فهي أولا تضع الوجودية على قدم المساواة مع الفلسفة الوضعية من حيث إنهما تنفيان إمكانية معرفة العالم الموضوعي، وتطرحان جانبا مفهوم الوجود الموضوعي ذاته, وبذلك تقفان إلى جانب المثالية الذاتية. من هذا المنطلق تعتبر الماركسية أن الفلسفة الوجودية هي أحد تيارات الفلسفة البرجوازية المعاصرة, وتسوق على ذلك مثالا من كتابات الفيلسوف الوجودي الفرنسي ألبير كامي التي يذهب فيها إلى اعتبار العلاقة بين التفكير والوجود مسألة بلا معنى إلى حد عميق, وفارغة كأية مسألة علمية مثل مسألة دوران الأرض حول الشمس أو العكس. بذلك يصبح الشيء الوحيد الذي له معنى هو الوجود الذي يفهم منه الوجود الشخصي الفردي للـ"أنا"، أنا كما أبدو لنفسي. تؤدي هذه الذاتية إلى انقلاب الفلسفة كلها إلى أخلاقية فردية، إلى نفسية ذاتية، وتفسر هذه الأخيرة بروح الأنانية. بالمثل توجه الماركسية النقد إلى الفيلسوف الوجودي الألماني

_ 1 E. Brehier, Les Themes Actuels de la Philosophie., Paris 1954, pp. 69 ff. استشهد به الدكتور توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص84، 85.

ياسبرز؛ لتحطيمه الثقة بقوى العقل الإنساني, والتفكير المنطقي في فلسفته التي سماها النظرة الفلسفية إلى العالم. ليس أقل مدعاة للنقد من وجهة النظر الماركسية أن الفلسفة الوجودية تدور حول وجود لا عقلي تعتبره الوجود الحقيقي, وهو عبارة عن جو شعوري غريب تغيب فيه الذات ولكنها لا تفهمه, بل تتجرد فيه من كل ما هو مفهوم. لهذا تعرض شرح سارتر لمعنى الوجود للنقد حيث ضرب مثلا برجل يجلس في حديقة، ثم يتعلق بصره بوردة فينصرف عن بقية الحديقة، ثم لا يلبث أن يحس تأثير هذه الوردة في نفسه وهو منصرف عن رؤيتها, وبالتدريج يغيب عن كل شيء ويغرق في دوامة اللامعقول فيتساءل: من أنا؟ ولماذا وجدت؟ هنا يكون الرجل قد وصل إلى "وجوده" الحقيقي1. ذلك الوجود "اللامعقول" تقوم عليه مقولة: إن الوجود سابق على الماهية, بمعنى أن الفرد في رأي الفلسفة الوجودية يجب ألا يتصرف بناء على تحديدات عقلية أو مبادئ؛ لأنه ما دام الوجود الحقيقي هو وجود الشعور الذاتي فلا بد إذًا من رد الأشياء والأفعال إليه. بعبارة أخرى: إن سلوك الفرد يتم بناء على "الدافع الغريزي" في نفسه هو دون استلهام أية فكرة عقلية. وبعد أن يقوم الفرد بسلوك ما تتحدد القيم من واقع سلوكه, سواء كانت قيما تحض على الأنانية أم على التضحية. فالفعل يسبق الفكرة, بمعنى أن الفرد يمكن أن يكون لصا أو جاسوسا أو قديسا متدينا بشرط ألا تقوم تصرفاته على اقتناع منطقي وإنما على مجرد الانطلاق الذاتي، فاللامعقول هو المنطق الأكبر، أي: إن اللامعقول في نظر الوجودية هو المعنى الحقيقي للحرية؛ لأن الفرد لا يتقيد فيه بأفكار أو مبادئ, وإنما يقوم ببساطة "بالاختيار ثم الانطلاق".

_ 1 المادية الديالكتيكية، مرجع سابق، ص14، تعليق إسماعيل المهدوي في: جورج بوليتزير، المادية والمثالية في الفلسفة، مرجع سابق، ص214، 216.

هذا النقد الذي توجهه الماركسية للفلسفة الوجودية نجد له ما يبرره, إذا استعرضنا الفقرة التالية من كتاب الوجود والعدم لسارتر حيث يقول: "ما هي أهمية الفعل؟ إذا كان الإنسان يتصرف ويلتزم دون أن يراوده أدنى خداع عن الغايات التي يضعها لنفسه. "وروح الجد" هي التي تؤدي إلى اليأس؛ لأنها تنتهي دائما بأن تفرض علينا فكرة أن كل أوجه النشاط التي يبديها الإنسان باطلة وفاشلة على حد سواء. وهكذا لا يوجد أي فرق بين أن يتعاطى المرء المسكرات في خلوته، وبين قيادة الجماهير. والواقع أنه لو أمكن أن يكون لضرب من ضروب السلوك هذه أفضلية على غيره فليس ذلك أبدا بسبب غايته ... وإنما هو بسبب درجة الشعور الذي يملكه لحده الذي يتصوره, وفي هذه الحالة يمكن أن تتفوق حالة الهدوء التي يعيش فيها السكير المتوحد على حالة الانفعال غير المجدية التي يحياها الزعيم الشعبي"1. لكن, لماذا تتبنى الوجودية هذا المفهوم الغريب للحرية، وتسودها أوهام التحرر من الواقع ومن العقل؟ ولماذا الاستغراق في مشاعر لاعقلية مثل: اليأس والخوف والضجر والقلق والغثيان والندم؟ تتهم الماركسية الفلسفة الوجودية بأنها مثالية ليس فقط لانغماسها في الذاتية ورفضها الاعتراف بإمكانية معرفة الوجود ومعرفة الحقيقة الموضوعية، وإنما تتهمها بالمثالية أيضا؛ لأنها تهرب من الحقيقة إلى "سرداب الشعور الذي يخيم عليه ظلام اللامعقول". وقد بلغ اتجاه الهروب ذلك إلى منتهاه في فكرة الانتحار عند ألبير كامي التي أشرنا إليها أعلاه. إن الوجودية في نظر الماركسية تمثل مرحلة انحدار المجتمع البرجوازي إلى قبره فلسفة ومنهجا وأسلوب الحياة. وفي دوامة التناقضات والأزمات الحادة

_ 1 جان بول سارتر، الوجود والعدم، ص721، 722 أورد النص ريجيس جوليفيه، المذاهب الوجودية، مرجع سابق، ص208.

التي يعانيها ذلك المجتمع يبدو عسيرا على الكثيرين أن يفهموا الواقع. وبدلا من بذل الجهد من أجل فهم الواقع بأسلوب علمي بهدف تغييره, فإنهم يهربون من ذلك الواقع ليغيبوا في اللامعقول واللامبالاة اللذين تعبر عنهما كتابات كامي, أو يبحثون عن الملجأ والسلوى في اليأس والقلق والحزن التي يطفح بها الأدب الوجودي عامة.

الفصل الخامس: كلمة ختامية حول المادية والمثالية في الفلسفة

الفصل الخامس: كلمة ختامية حول المادية والمثالية في الفلسفة مدخل ... الفصل الخامس: كلمة ختامية حول المادية والمثالية في الفلسفة أما وقد اتضحت الخطوط العريضة للفكر الفلسفي خلال العصور المختلفة, وذلك من خلال استعراض مواقف المدارس والتيارات الرئيسية من مفهوم الفلسفة، فإنه يجدر بنا الآن فهم نقطة خلاف أساسية أخرى تلازم الفكر الفلسفي للإنسان منذ الأزل وحتى وقتنا الراهن, ذلكم هو الخلاف بين الاتجاهين المادي والمثالي آخذين في الاعتبار أن الخلافات الجوهرية بين هذين الاتجاهين تنعكس أيضا في مناهج البحث المعاصرة التي سنعالجها فيما بعد. تباينت آراء الفلاسفة حول تفسير طبيعة الوجود وبالتالي تعددت مذاهبهم, فنحا بعضهم نحوا ماديا صرفا لا يرى في الوجود غير المادة, وهؤلاء هم أصحاب المذهب المادي. بينما نحا آخرون نحوا مثاليا بحتا لا يرى في الوجود سوى الروح "أو العقل", وأولئك هم أصحاب المذهب الروحي. رغم هذا الاختلاف الجذري بينهما, فإنهما يتفقان في شيء واحد هو رد الوجود إلى عامل واحد, سواء المادة أو الروح, ومن هنا أطلق عليهم أتباع المذهب الواحدي Monism. ظهرت فئة أخرى من الفلاسفة أرجعوا الوجود إلى عاملين هما: المادة والروح معا, وهؤلاء هم أصحاب المذهب الثنائي أو الاثنينية Dualism وإن كان يمكن تصنيف هؤلاء أيضا مع فئة ثالثة من الفلاسفة أرجعوا الوجود إلى عوامل متعددة كالقول بأن كل الموجودات تتكون من ذرات مادية أو روحية, ويسمى هؤلاء بأصحاب مذهب التعدد أو التكثر Pluralism.

المبحث الأول: المذهب المادي

المبحث الأول: المذهب المادي هذا المذهب قديم قدم الفلسفة نفسها, وهو أسبق في الظهور من المذهب الروحي؛ ذلك لأن الإنسان تعرف في البداية على الأشياء المادية وتعامل مع البيئة القاسية وانصرف إلى محاولة التأقلم معها ليحافظ على بقائه. هكذا اتجه العقل بطبيعته إلى المحسوس أولا, ثم تجاوزه إلى البحث فيما وراءه لكشف المجهول من أسراره. وهناك صورة مبكرة للأفكار والمذاهب المادية. من تلك الأفكار مثلا ما عبر عنه فنان مصري قديم بإنشاده: "ليس ثمة شيء يصرفنا إلى رواية الأقاصيص عن العالم الآخر ... فلنشغل أنفسنا بشئون الدنيا"1. كما يمكن العثور على جذور المذهب المادي فيما ردده البابليون من أن الماء هو أصل الموجودات, وهو رأي نقله عنهم فيما بعد فلاسفة الإغريق من الطبيعيين الذين فسروا الوجود برده إلى الماء, كما فسره بعضهم الآخر برده إلى الهواء ... إلخ. تعرف المادة بأنها ذلك الجسم أو الشيء الذي له وزن ويشغل حيزا ويبدو على صلابة أو سيولة أو غازية. ويفسر أحد المذاهب المادية أصل الوجود بأن الكون في البداية كان مجرد سديم غازي متوهج تتعذر معه الحياة العضوية, أو وجود كائنات حية يصدر عنها نشاط روحي أو عقلي. عندما بردت الأرض وتهيأت ظروف الحياة العضوية ظهرت النباتات والحيوانات ثم الإنسان, أي: إن النشاط العقلي والروحي ظهر بعد وجود الحياة العضوية التي نشأت متأخرة. يستنتج الماديون من ذلك أنه من الخطأ الظن بوجود

_ 1 ورقة البردي المسماة "أنشودة عازف القيثارة" أشار إليها روجيه جارودي, كتابه: الحرية، باريس 1955، ص27، استشهد به إسماعيل المهدوي في تقديمه لجورج بوليتزير، المادية والمثالية في الفلسفة، مرجع سابق، ص5.

روح أو عقل مستقل عن الكائن الحي؛ لأن نشأته متصلة بهذاالكائن ونهايته مرتبطة بنهايته. إلا أن أنضج صور المذهب المادي في العصور القديمة ظهرت على يد الفيلسوف الإغريقي ديمقريطس "460-370 ق. م" واقترنت باسمه، بينما كان هو بدوره متأثرا بمذهب الجواهر المفردة الذي نادى به أستاذه ليوكيبوس. اعتقد ديمقريطس أنه لم يكن هناك في بداية الكون إلا شيئان فقط هما: الذرات والفراغ. تتألف كل الموجودات من جواهر مفردة أو ذرات Atoms يفصل بينها فراغ. هذه الذرات هي عبارة عن جسيمات مادية ثابتة، أبدية، في حركة دائمة وهي غير قابلة للانقسام. تلك الذرات ليس لها صفات أخرى كاللون أو الطعم أو الصوت, ولا تختلف بينها إلا من حيث الشكل والحجم والموقع. وحيث إن الحركة من الصفات الأساسية لتلك الذرات, فإنه ينشأ عن تحركها اجتماع بعضها بالبعض الآخر فتتكون الأجسام متخذة صورتها المحددة، وإذا انفصلت تلك الذرات تحللت الأجسام وفسد الكائن العضوي, بذلك تصير الأشياء في نظره مجرد امتداد وحركة. يكمل تلك النظرة المادية إيمانه بالعلاقات السببية, وبالحتمية مع إنكاره لعامل المصادفة التي اعتبرها نتيجة للجهل، وكان لديمقريطس آراء سياسية مميزة, فقد كان من مؤيدي الديمقراطية اليونانية وانتقد الطبقة الأرستقراطية المالكة للعبيد. تضاءل بعد ذلك نفوذ ذلك المذهب في الفلسفة اليونانية, إذ قاوم سقراط وأفلاطون وأرسطو النزعة المادية في تفسير الوجود، ولم تدب الحياة مرة أخرى في تلك النزعة إلا بعد ظهور كتابات الفيلسوف اليوناني أبيقور "341-270 ق. م". والجدير بالذكر أن الفضل في وضع المذهب المادي بصورته الشائعة في أوروبا في القرن الثامن عشر إنما يرجع إلى عالم الطبيعيات والفيلسوف الإنجليزي

إسحاق نيوتن "1643-1727" الذي لم يمنعه إيمانه الديني من استخلاص النتائج المادية من مكتشفاته العلمية, وخاصة اعترافه بالحقيقة الموضوعية, وقدرة الإنسان على معرفة الإنسان. وغني عن البيان أن التفسير المادي للموجودات يتطور بتطور العلوم -وخاصة العلوم الطبيعية- شأنها في ذلك شأن مناهج البحث. ففي مؤلفه الرئيسي المسمى المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية وضع نيوتن أسس منهج علمي جديد ضمّنه قواعد التفسير في الفلسفة. ساهم في تطوير المذهب المادي بعد ذلك الفيلسوف الفرنسي باول هنري أولباك "1713-1789" وذلك من خلال كتبه الأربعة, وخاصة مؤلفه الرئيسي نظام الطبيعة. دافع الفيلسوف الفرنسي عن أولوية المادة, وهاجم الفلسفة المثالية وخاصة آراء الفيلسوف الإنجليزي بيركلي, ورفض كل نظرية تدعي أن وراء الظواهر المحسوسة عالما أو موجودات غير مرئية. اعتبر أولباك أن المادة والحركة أزليتان تتحكم فيهما قوانين ضرورية, وعن طريقهما يمكن تفسير كل شيء في الوجود, ومن ثم اتجه إلى إنكار وجود النفس البشرية أو وجود قوة خالقة, كما أنكر أن للطبيعة غاية أو هدفا تعمل على تحقيقه. خلاصة المذهب المادي: أن العقل صورة من صورة المادة التي تتميز بالقوة والتنوع والحركة والحياة والتفكير، ولكنه لا وجود لعقل أو روح بشكل مستقل عن المادة. ويفسر المذهب المادي ظواهر الحركة في الجسم البشري بأنها وظائف لأعضاء الإنسان، فالتفكير وظيفة المخ أو على حد قول أولباك: فإن العقل هو الجسم منظورا إليه من ناحية بعض وظائفه، والتذوق وظيفة اللسان. بعبارة

أخرى: فإن المخ يفرز التفكير كما تفرز الكبد الصفراء, وكما تهضم المعدة الطعام1.

_ 1 المرجع السابق، ص16، 19 وما بعدها، توفيق الطويل، مرجع سابق، ص237-240, كذلك: M. Rosenthal, p. Yudin, eds, A Dictionary of Philosophy, Moscow 1967, pp. 115, 316, 194, 280, D. Runes, ed., Dictionary of Philosophy, op. cit., pp. 75, 209, 129, 189.

المبحث الثاني: المذهب الروحي

المبحث الثاني: المذهب الروحي مدخل ... المبحث الثاني: المذهب الروحي يمكن إرجاع جذور المذهب الروحي في شكله الفلسفي المتطور إلى نظرية المثال عند أفلاطون "428-348 ق. م" الذي كان يعتقد أن الوجود الحقيقي لا يكون لغير المثال أو نموذج الشيء. واصطلاح مثالية أو مثالي الذي توصف به بعض الفلسفات, مشتق من كلمة مثال. والمثال عند أفلاطون هو الصورة الفكرية التي توجد على نمطها الأشياء المادية. وتعتبر الفلسفة الأولى لأرسطو إسهاما كبيرا في هذا المضمار, وهي التي سماها أحد أتباعه من مدرسة المشائين -أندرونيكوس- ما بعد الطبيعة, وتسمى اليوم بالميتافيزيقا. والفلسفة الأولى أو ما بعد الطبيعة تعني البحث في الوجود ولواحقه بما هو كذلك. والوجود في المفهوم الأرسطي يقصد به الوجود باعتباره معنى مجردا يطلق على كل موجود, ولا يقتصر إطلاقه على ماهية معينة. يميز ذلك الوجود أنه لامادي ينشأ إما عن التجريد الذي يقوم به العقل باستخلاص الوجود الذهني من الوجود المادي للموجودات "أي: الوجود اللامحسوس بإطلاق" وإما أن يكون وجودا روحيا بطبيعته غير مجسم في الأعيان "المحسوسات" كالله والنفس البشرية. هكذا كانت ما بعد الطبيعة عند القدماء وفلاسفة العصر الوسيط -من مدرسيين ومسلمين- تتمثل في الارتفاع من المحسوس إلى الوجود بإطلاق, من دنيا الواقع إلى دنيا المعقول.

طرأ تطورا في العصر الحديث, فقد أدخل ديكارت تعديلا جعل الميتافيزيقا بمقتضاه مدخلا للعلوم ثم هبط منها إلى العالم المحسوس. إن هدف الميتافيزيقا عنده هو تفسير الوجود عن طريق المبادئ الأولى التي تزودنا بها, أي: إن ديكارت بدأ فلسفته بالشك الذي انتهى عنده إلى اليقين بوجود نفسه كذات تفكر, ثم انتقل من إثبات الأنية بالفكر إلى البرهنة على وجود الله وتحديد صفاته التي تجعله ضامنا للعقل في تفكيره. من هذا توصل إلى إثبات العالم الخارجي, إذ بدأ بالميتافيزيقا وانتهى إلى الفيزيقا خلافا لما ذهب إليه أرسطو وأتباعه. إن أهم النقاط التي يتناولها المذهب الروحي تؤكد على أن الأشياء الكامنة وراء الظواهر المحسوسة روحية في أصلها. وهناك علاقة بين النفس والجسم وبين التفكير والمخ, ولكنها ليست علاقة عليه. فالجسم ليس علة النفس والمخ ليس علة التفكير؛ ذلك لأن المخ مادة والمادة لا تفكر ولا تشعر. ولإثبات أسبقية الروح, وأنها أو العقل مصدر للظواهر المادية والبدنية يرى المذهب الروحي أن الإنسان لا يستطيع إدراك الأشياء بالحواس وإنما يعرفها بالتفكير المجرد وحده, ومن ثم تكون الطبيعة روحية. إلا أن هناك خلافات بين أنصار ذلك المذهب حول تفسير طبيعة العقل أو الروح. فمنهم من يسلم بغلبة التفكير, ومنهم من يؤكد على العاطفة أو على الإرادة. ينقسم المذهب الروحي إلى مدرستين: مذهب الروحية الواحدي ويؤمن هذا بالمثالية المطلقة, ومن أبرز أعلامه فيتشه وهيجل وشيلينج وشوينهاور. والثاني هو مذهب الروحية المتكثرة. وسنتناول الأخير بشيء من التفصيل.

مذهب الروحية المتكثرة

مذهب الروحية المتكثرة: يرد هذا المذهب العالم إلى كثرة من الأفكار, ومن أعلامه الفيلسوف الألماني وعالم الرياضيات والطبيعة لايبنتز, والفيلسوف الإنجليزي بيركلي. وضع لايبنتز "1646-1716" أسس المذهب الروحي الحديث الذي هاجم فيه مادية ديمقريطس في تفسير الوجود, وقدم تفسيره هو الذي يتلخص

في أن الموجودات تتألف من ذرات روحية أسماها مونادز Monads, وهي لا تفنى وتنزع دائما إلى الحركة وغير قابلة للتجزئة, كما أنها بسيطة لا شكل لها ولا مقدار. ويرى لايبنتز أن تلك الذرات الروحية لا يمكن أن تقوم بينها علاقة سببية, ومع ذلك تشكل عالما يتسم بالتناسق والحركة. ويوجد تلك الذرات الروحية خالق فتصدر عنه كما يصدر النور عن الشمس، وهي مدركة ويتفاوت إدراكها قوة وضعفا تبعا لموقعها من سلم الترقي من الجماد إلى الحيوان إلى الإنسان إلى الله. ويستخلص لايبنتز من ذلك أن المادة في كل صورها وكذلك العالم الخارجي ليس لأيهما وجود بذاته. أما الفيلسوف الإنجليزي بيركلي "1685-1753" فقد كان أسقفا هاله تمرد الناس على الدين, فوضع مذهبا أسماه اللامادية, ثار فيه على النزعة المادية الشائعة. بدلا من ذلك اعتبر العالم الخارجي مجرد أفكار تقوم في العقل وليست الأجسام إلا تصورات الروح, وبالتالي فإن المادة هي مجرد فكرة. والمادة في نظر بيركلي معنى لا يمكن لإنسان أن يتصوره بغير صفاته, حتى رؤيتنا للمادة ليست دليلا على وجودها, فالمادة تعرف بصفاتها الحسية وليست هذه إلا من عمل العقل. يذكر بيركلي أيضا وجود معانٍ كلية مجردة كالزمان والمكان والحركة؛ لأنها في رأيه لا توجد خارج الذهن, ذلك أنه لا وجود للمدرك. إن الأشياء المرئية والمسموعة والمتذوقة وغيرها من المحسوسات ليست عنده إلا مجرد صور صورها العقل, فهي من عمل العقل الباطن. بذلك تصير اللامادية في مفهومه هي تحول المعاني إلى أشياء وليس تحول الأشياء إلى معانٍ. واجه بيركلي صعوبة في تفنيد الحجة المادية التي تذهب إلى أن الناس متفقون في المعرفة, وأن هذا لا يحدث إلا إذا كان للمحسوسات وجود مستقل هو أصل وسبب هذه المعرفة. للرد على تلك الحجة قال بيركلي: إن الله هو

الذي نسق مدركاتنا وأفكارنا بعنايته وحكمته. هذا الاتساق بين الأفكار أدل على وجود الله من المعجزات. وبذلك أنكر تماما عالم المحسوسات لإثبات عالم العقل والروح في محاولة لمحاربة انتشار النزعة المادية آنذاك. تعرضت آراء بيركلي للنقد الشديد؛ لأنها تؤدي في النهاية إلى هدم المذهب الروحي نفسه بدلا من الدفاع عنه. ومن هؤلاء الذين شككوا في حجية آرائه دافيد هيوم, فقد استعرض آراء بيركلي القائلة بأننا لا ندرك من الأشياء إلا صفاتها الحسية, وهذه من صنع عقولنا. ومن ثم فليس للمحسوسات وجود حقيقي خارج أذهاننا. وقد أضاف هيوم إلى ذلك أنه بناء عليه, فإن العقل والروح والخالق مجرد أوهام ليس لها وجود حقيقي1. وإذا كان هناك من تعليق فهو أن تلك المذاهب المثالية تخفق في إثبات أسبقية الروح للمادة بسبب الأدلة التعسفية التي تلجأ إليها, والتي لا يقبلها المنطق أو التفكير السوي. وفي الوقت الذي نجد فيه أن الإنسان المعاصر قد تمكن من تحقيق إنجازات علمية وتكنولوجية باهرة على كافة الأصعدة, فإنه يقف عاجزا تماما أمام آية الخلق التي يوجزها الله "س" في كلمات تغني عن الأدلة السخيفة المفتعلة! {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ، مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2.

_ 1 جورج بوليتزير، المادية والمثالية في الفلسفة، مرجع سابق، ص56، توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص245-247, M. Rosenthal, P. Yudin, eds., A Dictionary of Philosophy, op. cit., pp. 241, 51, D. Runes, ed., Dictionary of Philosophy, op. cit. pp. 166, 38. 2 سورة الحج, آية رقم 73.

فيما عدا ذلك, فإن المذاهب والفلسفات المثالية إما عجزت عن الفهم, أو دافعت عن المثالية انطلاقا من أسباب ومنافع اقتصادية وسياسية. على الجانب الآخر، فإن المادية وإن كانت تعاني من القصور في تفسيرها لآية الخلق, فإنها بحكم استرشادها بالحقائق والتجارب العلمية قادرة على كشف الواقع وشرح العلاقات السببية بين الظواهر والأسباب الحقيقية الكامنة وراء الصراعات الاجتماعية, مما يقلق الأقلية من المستغلين الذين يستترون خلف المذاهب المثالية, ويكثرون من الحديث عن القيم الروحية ليس إيمانا بها, وإنما إخفاء للاستغلال غير المشروع الذي يتيحه لهم وضعهم الاجتماعي المميز، واستماتة في المحافظة عليه.

الباب الثاني: المفهوم الليبرالي لمداخل ومناهج البحث

الباب الثاني: المفهوم الليبرالي لمداخل ومناهج البحث مدخل ... الباب الثاني: المفهوم الليبرالي لمداخل ومناهج البحث تمهيد: قبل دراسة الوسائل التي يمكن اتباعها في دراسة موضوع ما, يحسن إزالة الخلط الشائع في كثير من الكتابات بين ما يسمى بطريقة أو مدخل البحث approach، وبين ما يسمى بمنهج البحث method, وكثيرا ما يستخدم الاصطلاحان خطأ على أنهما مترادفان. وقد فطن عدد من علماء السياسة أمثال تشارلس أيزنمان1, وفيرنون فان دايكه2 لهذا الخلط, وهو ما سنحاول عرضه بإيجاز بالاستعانة بالتقسيمات

_ 1 Charles Eisenmann, " On the Matter and Methods of the Politial Sciences", in: Contemporary Political Science, A Survey of Methods, Research and Teaching, UNESCO, Publication No. 426, Paris 1950. 2 Vernon Van Dyke, Political Science, (A Philosophicaly Analysis) , هذا, وقد أسهمت المؤلفات الصادرة حتى نهاية عام 1976 بإضافات قيمة, فاقترحت مداخل ومناهج جديدة وإن لزم التنويه بأنها مجرد إضافات هامة, وليست بديلة للدراسات الخصبة التي نشرت خلال الخمسينات والستينات. ومن أمثلة المؤلفات الحديثة, والتي سنشير إليها خلال دراستنا انظر: Robert T. Golembiewski, et. al.' A Methodological Primer for Political Scientists, Chicago (1969; David C. Schwartz, "Toward a More Relevant and Rigorous Political Science", in: The Journal of politics, Vol. 36, No. 1. Feb. 1974, Gainesville, Florida; Madeleine Grawitz,Methodes Des Scienes Sociales,DeuxiemeEd. Paris 1974; Robert T. Holt, John E. Turner, eds.,The Methodology of Comparative Reserach, New York 1970; David and Chava Nachmias, Resesrch Methods in the Social Sciences, London 1976.

التي أوردها فان دايكه مع تبسيط المعلومات بقدر الإمكان حتى يصبح فهم هذا الموضوع الشائك في متناول الباحثين أملا في رفع مستوى الكتابات العلمية. فهدف هذه الدراسة إذًا هدف عملي يرمي إلى تزويد الباحثين بثروة من الطرق, والمناهج التي لا غنى عنها كأدوات للبحث في العلوم الاجتماعية بوجه عام, وفي العلوم السياسية بوجه خاص. كمثال على الخلط المذكور آنفا نشير إلى كتابين, أولهما من الكتب المشهود لها بالجدية1 ورغم ذلك لم يسلم من ذلك القصور؛ إذ لم يرد بمحتوياته ما يشرح السبب في اختيار كلمة approaches في عنوانه. أما الثاني2, فقد اشتمل على خلط شديد بين ما يدخل في صميم المناهج العلمية من وسائل، وبين الطرق والمداخل التي تستعين بمجال أو آخر من مجالات العلوم الأكاديمية. فقد ركزت خمسة من فصوله على ما أسماه "المدخل" الاستنباطي، الكمي، الاجتماعي، السيكولوجي, الوصفي، كل ذلك مع عدم ذكر المقصود من كلمة مدخل أو السبب في عدم إضافة "مداخل" أخرى كالاستقرائي، المعياري، الكيفي، التاريخي، الاقتصادي، كما لم يشرح الأرضية المشتركة لما أسماه بالمداخل, ولم يقدم تبريرا لاستخدام ذلك الاصطلاح لها جميعا. كشف أيزنمان أيضا -وفي وقت سابق على فان دايكه, وبالتالي بشكل أقل تحديدا- نفس الخلط الذي لا تزال تعاني منه بعض الكتابات العلمية حتى اليوم. فقد انتقد أيزنمان القول بأن الحقائق السياسية -وخاصة المؤسسات السياسية- يمكن دراستها وفقا لمناهج عديدة أهمها: الفلسفي والتاريخي والاجتماعي والقانوني. وأضاف أنه بتحليل ذلك القول وتلك الكتابات يتضح أن ما أشاروا

_ 1 Roland Young, ed., Approaches to the Study of Politics, Evanston 1958. 2 D. E. Butler The Study of Political Behaviour, London 1958.

إليه ليست مناهج وأن التسمية خطأ. فالقائمة المدعاة للمناهج ما هي في واقع الأمر سوى بيان بأسماء مختلف العلوم التي يعرف كل منها وفقا للمشاكل التي يحاول حلها, وبذلك يخلطون بين المناهج من ناحية وبين المشاكل والعلوم من ناحية أخرى. بتعبير آخر، قد يظن الباحث أنه يعرف, أو يصف المنهج الذي اتبعه كتّاب آخرون بينما هو في الحقيقة يصف نمط المشاكل التي تناولوها أو جوانبها المختلفة. ويخلص أيزنمان من ذلك إلى التوصية بضرورة التخلص من ذلك الخلط عن طريق التمييز بشكل حاسم بين "الموضوعات والمشاكل" التي تكون مادة العلوم، وبين "المناهج" أو الوسائل التي تستخدم في دراستها1. لهذا سنستعمل اصطلاح مدخل في هذه الدراسة للإشارة إلى المعايير المستخدمة في انتقاء الأسئلة التي تطرح, والضوابط التي تحكم اختيار موضوعات ومعلومات معينة أو استبعادها من نطاق البحث. أما المنهج -كما سنشرح فيما بعد- فسيشار إليه بصفة عامة بمعنى وسيلة الحصول على المعلومات, وكيفية استخدامها. في الدراسات السياسية كما هو الحال في كثير من فروع العلوم الاجتماعية, يمكن استعمال مدخل أو أكثر في فهم ومعالجة الموضوع. ويربط الباحثون عادة المدخل الذي يختارونه بأحد المجالات التالية:

_ 1 Charles Eisenmann, "On the Matter and Methods of the Political [Sciences", op. cit., PP. 112, 114, 115; قارن كابلان: "إن المنهج في معناه الصحيح هو المساعدة على الفهم بشكل أعمق، ليس لنتائج البحث العلمي، وإنما لنسق وأسلوب البحث نفسه". A. Kaplan, The Conduct of Inquiry (Methodology for Behavioral Science) , San Francisco 1964, Quoted by M. Grawitz, Methodes des Sciences Sociales, op. cit., P.19; cf. also, M. Grawitz, p. 334.

- العلوم الأكاديمية كالتاريخ والاقتصاد والاجتماع والجغرافيا والفلسفة. - الظواهر والقوى السياسية كظواهر العنف السياسي مثل الثورات والانقلابات والحروب الأهلية والمظاهرات والاغتيالات السياسية وظواهر الاغتراب والصراع الاجتماعي. ثم القوى السياسية الهامة كالمؤسسات والسلطة والمسئولين عن عملية صنع القرار. - الفروض التفسيرية, والنظريات السببية مع تصنيفها في مجموعات بسبب كثرتها, وفقا للاعتبارات البيئية أو الأيديولوجية. - السلوكية. إن الهدف الأساسي من تصنيف, ووصف تلك الطرق أو المداخل هو تشجيع الاختيار الواعي بينها, سواء انتهى ذلك إلى الأخذ بمدخل واحد, أو أكثر في دراسة الموضوع. وفي غياب مثل ذلك الاختيار الواعي، قد تذهب سدى مجهودات كبيرة نتيجة عدم التوفيق في تبني أحد المداخل المذكورة, أو الجهل بوجود بدائل1.

_ 1 Dyke, p. 34, David C. Schwartz, "Toward a More Relevant and Rigorous Political Science" op. cit., pp. ro3 ff.

الفصل السادس: العلوم الأكاديمية

الفصل السادس: العلوم الأكاديمية مدخل ... الفصل السادس: العلوم الأكاديمية الهدف من الدراسة فيما يلي هو تقصي المدى الذي يمكن أن يذهب إليه علماء السياسة في الاستعانة بنجاح بالمفاهيم والمعايير المستخدمة في العلوم الاجتماعية الأخرى, على افتراض أن المداخل الخاصة بتلك العلوم قد تنفع في بعض الأحيان, في تناول الموضوعات السياسية. سنذكر من تلك العلوم على سبيل المثال: التاريخ والاقتصاد والاجتماع والجغرافيا والفلسفة. تربط علم السياسة بتلك العلوم علاقات وطيدة, حيث نلاحظ أن علماء من تخصصات متباينة قد يطرحون نفس المشاكل والأسئلة المتعلقة بموقف معين. وقد تأتي معالجة بعضهم في مجال أو أكثر متقاربة إلى حد كبير في المنهج والمضمون. يهتم علماء السياسة والاقتصاد مثلا بالتكتلات الدولية الجديدة, وتأثير سياساتها على الدول المنضمة إليها ومستويات المعيشة فيها, وكذلك تأثيرها على الدول الأخرى غير الأعضاء والعلاقات الدولية التي تربط بين هؤلاء وأولئك. أما علماء الاجتماع, فإن دورهم يغطي أحيانا على دور علماء السياسة في مجال دراسة السلوك الانتخابي. كما يوجه علماء النفس والسياسة اهتماما ملحوظا إلى الدوافع والعوامل المحركة للسلوك السياسي. بالمثل, ينصرف جانب كبير من دراسات علماء السياسة والجغرافيا إلى بحث أثر الموارد, والخصائص الأخرى للبيئة على قوة الدولة والسياسات التي تنتهجها وهكذا.

المبحث الأول: المدخل التاريخي

المبحث الأول: المدخل التاريخي إن أهمية التاريخ للدراسات السياسية غنية عن البيان, وتكفي الإشارة إلى أن كثيرا من فروع العلوم السياسية كالعلاقات الدولية, والنظريات السياسية -على سبيل المثال- تعتمد اعتمادا كبيرا في مادتها على التاريخ. يكشف التاريخ عادة عن نتائج سياسات معينة, وليس عن أسبابها. وإن حدث وذكرت تلك الأسباب فبشكل غامض غير مباشر يحتاج إلى الغوص عليها وتفسيرها؛ نظرا لأن كل وضع تاريخي له طابع مميز سواء بالنسبة لكثير من تفصيلاته, أو ظروف وصفات الأفراد المشتركين في الحدث. لهذا, فإن التاريخ لا يعيد نفسه أبدا. وقد استخدم كثير من الفلاسفة, وعلماء السياسة المدخل التاريخي في محاولاتهم اكتشاف القوانين العامة التي تحكم التطور البشري. من هؤلاء ابن خلدون في القرن الرابع عشر, وكونت وهيجل وماركس في القرن التاسع عشر، وسومبارت وشبنجلر وتوينبي في القرن العشرين1. هنالك في الواقع عدة أشكال للمدخل التاريخي تبعا للمعاني المتعددة للتاريخ نفسه. فقد يكون المقصود به السجل المشتمل على الوثائق والأدلة، وقد يعني التاريخ المكتوب، أو التاريخ نفسه بصفته أحد فروع العلوم الأكاديمية. وما يعنينا هنا هو التعرف على الخصائص المميزة للتاريخ, وبالتالي على خصائص المداخل التاريخية.

_ 1 Arnold Brecht, Political Theory, op. cit. 'pp. 88, 536; Carl Joachim Fricdrich, Man and His Government (An Empirical Theory of Politics) , op. cit., p. 9; Andre Marchal, Methodes Scientifique et Science Economique, Tome II, Paris Genin 1952-55, pp. 114. ff.

إن السمة الأساسية التي تميز التاريخ عن غيره هي أن محور اهتمامه هو الماضي, وبشكل أخص مرحلة زمنية محددة وتسلسل أحداث معينة في نطاق تلك المرحلة. ونستطيع التمييز بين التاريخ, وبين غيره من العلوم من تحديد نوع الفعل المستعمل, وما إذا كان في الماضي أم المضارع أم المستقبل. يعتبر من قبيل الدراسة التاريخية مثلا البحث في السلطات التي خصصت لمنصب رئيس الولايات المتحدة, وكيفية تطور تلك السلطات. قد تلقي الدراسة بعض الضوء على السلطات الحالية لذلك المنصب, ولكن ذلك يتم بشكل غير مباشر ومن خلال استكشاف الماضي1. مثال آخر للدراسة التاريخية التغيير الذي طرأ على أسلوب ممارسة الشورى في الإسلام. فبعد أن كانت هي الأداة التي تم عن طريقها اختيار ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة لتولي أعلى منصب في الحكم الإسلامي الجديد، لاحظنا أنها فقدت دورها بعد تحول الخلافة على يد معاوية إلى ملكية وراثية. لم تعد الشورى أسلوبا لاختيار الحاكم, وإن استمر وجودها الشكلي ممثلا في قيام ذلك الحاكم بأخذ رأي أهل الحل والعقد في بعض شئون الحكم. لكن استطلاع رأى هؤلاء لم يكن يقدم أو يؤخر في شيء؛ نظرا للتغير الذي طرأ على تكوينهم, فصاروا من عصبية الحاكم وقبيلته وليسوا من عيون القوم وقادتهم بغض النظر عن وضعهم القبلي أو الاجتماعي كما كان الحال قبل حكم بني أمية2. ولتوضيح القول بأن هناك اختلافات بين خصائص المداخل التاريخية نشير إلى أن أحد هذه الاختلافات يرجع إلى مفهوم المؤرخ للهدف الذي يسعى

_ 1 Dyke. pp. 117, 118. 2 Muhammad Mahmoud Rabie, The Political Theory of lbn Khaldun, op. cit. pp. 106, 110.

إليه. فإذا كان هدفه متواضعا, انعكس ذلك على المستوى الهزيل للتعميم الذي يصل إليه. ويحدث ذلك عادة عندما يلجأ المؤرخ إلى الأسئلة, والموضوعات السهلة التي لا تحتاج الإجابة عليها إلى بحث عميق, أو استقصاء تفصيلي. فهو لا يسعى وراء أحكام عامة وعبر مستخلصة أو دروس مستفادة، لهذا يأتي جهده على شكل ركام من المعلومات والبيانات كما نلاحظ من ميل بعض المؤرخين إلى التركيز على الأحداث ذات الصفة الخاصة, والتي لها علاقة من نوع ما بالدراسات السياسية كالحروب والثورات والأزمات, ولكنه في الواقع تاريخ بلا روح قد يحدث ضجة كبيرة, ولكن بلا مغزى1. فالمؤرخ ليس هو الذي يقتصر على السؤال عمن فعل ماذا متى واين، وإنما الأهم لماذا حدث ذلك، وكيف ظهرت إلى الوجود ظروف معينة، وماذا كانت نتائج تلك الظروف والأفعال. أكثر من هذا, فقد يسأل عن احتمال وجود اتجاهات أو قواعد منهجية, وقوانين أو علاقات سببية أو نظريات2. يندرج تحت الاختلافات أيضا التجاء الباحث إلى مجال أو آخر من مجالات المعرفة الإنسانية لتدعيم حججه. فما دمنا قد اخترنا المدخل التاريخي وركزنا

_ 1 Dyke, 119. 2 يعترف العلماء المعاصرون بفضل العلّامة عبد الرحمن بن خلدون الذي وإن لم يكن أول من كتب في التاريخ, إلا أنه باتفاق أغلبيتهم هو أول من أرسى قواعده كعلم وبيّن أصول الكتابة التاريخية وضرورة عدم الميل مع الهوى وتحري الدقة وتمحيص الأخبار. فكثيرا ما كان يستبعد روايات من سبقوه من المؤرخين على اعتبار أنها اختلاق غير ممكن الحدوث بحسب طبائع الأشياء وقوانين العمران. ولعل أهم ما يميز كتاباته في التاريخ هو براعة التنظيم والربط، والدقة والوضوح في تبويب الموضوعات والغوص على أسباب الحادثات، وصياغة الفروض واختبارها للتأكد من صحتها على نحو ما هو معروف في المناهج الحديثة. انظر في ذلك: محمد محمود ربيع "منهج ابن خلدون في علم العمران" في: مجلة مصر المعاصرة، العدد34، إبريل 1970 ص225، كذلك مؤلفنا: M. M. Rabie, The Political Theory of lbn Khaldun, op. cit. pp. 23, 31 ff.

على الماضي, فإن ذلك يستتبع ضرورة الاختيار بين عدة مداخل لدراسة ذلك الماضي. بمعنى أنه عند تقصّي الجذور التاريخية للموضوع, يستعان أحيانا بمعلومات اقتصادية أو فلسفية, وأحيانا أخرى يستعان بمعايير مغايرة في الاختبار. لهذا فإن المداخل التي سيأتي ذكرها يمكن تطبيقها في الدراسات التاريخية, وغيرها من الدراسات السياسية المعاصرة.

المبحث الثاني: المدخل الاقتصادي

المبحث الثاني: المدخل الاقتصادي أثارت العلاقات بين الاقتصاد والسياسة -ولا زالت تثير- الكثير من الجدل والخلاف حول بعض القضايا الأساسية في علم السياسة, وخاصة مدى وحدود التغيرات السياسية والقوى التي تؤثر في المؤسسات والقرارات، ومدى معقولية الاختيارات التي يستقر عليها الرأي. من المعلوم أن المدارس المادية للفكر تتفق على أن العوامل الاقتصادية من موارد أساسية, وأساليب إنتاج وتوزيع تحدد شكل المؤسسات السياسية, والقوة النسبية للطبقات والفئات, والإطار الذي تتحرك داخله هيئات الدولة ومسئولوها. أما مدارس الفكر غير المادية فترفض كثير منها تلك النظرة, وترى أن الشكل السياسي للدولة أو السلطة السياسية هي التي تحدد كيفية استعمال الموارد, والدور الذي يلعبه السوق في الاقتصاد القومي1.

_ 1 J. Roland pennock, David G. Smith, Political Science, An lntroduction, New York, London 1964, pp. 88, 89. يلاحظ رغم ذلك أن بعض المفكرين الليبراليين يسلمون جزئيا بأهمية المدخل الاقتصادي, ويستخدمونه في دراستهم الميدانية, معترفين بأنه يقدم تفسيرا أكمل للظواهر إذا قورن بأي مدخل آخر، كما أنه يحقق نتائج مشابهة لتلك التي تتوصل إليها طرق التحليل الأكثر طولا وتعقيدا. انظر كمثل على ذلك: John R Nellis, A Theory of ldeology "The Tanzanian Example", Nairobi, 1972, p. 14.

وحيث إننا لسنا بصدد المقارنة بين هذين الاتجاهين المتعارضين اللذين يختلفان حول أي القوتين الاقتصاد أم السياسة لها اليد الطولي والتأثير الفعال، فإن الحقيقة الهامة التي تجدر الإشارة إليها هي أنهما لم يختلفا حول العلاقة الوثيقة التي تربطهما ببعضهما البعض، وكذلك الاعتماد الكبير المتبادل بينهما. إلا أن تطور المجتمعات والنظم الاقتصادية شاءت الليبرالية أو لم تشأ يتجه إلى حسم هذه القضية في صالح الاقتصاد وأسبقيته في مجال التأثير على السياستين المحلية والدولية. فقد تغيرت الظروف التي كانت سائدة في بداية النظام الرأسمالي, حيث المنافسة الحرة وعدم تدخل الحكومات في النشاط الاقتصادي إلى أوضاع أخرى تفاقمت فيها مشاكل المنافسة الاحتكارية ليس داخل كل بلد رأسمالي فحسب, وإنما بين الدول الرأسمالية الكبرى أيضا حتى انفجرت الأزمة الاقتصادية عام 1930 التي دفعت الحكومات إلى التدخل المباشر, واتخاذ إجراءات سياسية لمواجهة الموقف. بلغت الأزمة الاقتصادية ذروتها مرة أخرى في بداية السبعينات من هذا القرن حيث اختلطت الظواهر الاقتصادية القديمة, وتشابكت لتعطي أبعادا أكثر تعقيدا للأزمة الاقتصادية المتمثلة فيما أطلق عليه ظاهرة التضخم الركودي, وما صحبها من ارتفاع معدلات البطالة وازدياد قبضة الاحتكارات الدولية وظهور المجموعات الاقتصادية العملاقة والشركات متعددة الجنسية بحيث لم يقتصر الأمر على الحاجة إلى قرارات سياسية على مستوى الحكومات فقط, وإنما استدعى أيضا تدخل هيئة الأمم المتحدة للحد من الآثار الضارة لتلك التطورات. لهذا, فإننا نلاحظ -وخاصة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية- أن الحكومات -وخاصة في النظم الرأسمالية- يزداد تدخلها شيئا فشيئا في النشاط الاقتصادي المتعاظم مما استدعى وضع سياسات جديدة في مجال إنتاج وتوزيع السلع والخدمات وأسعار صرف العملات ونظم الاستيراد والتصدير.

قد يفسر هذا اهتمامات الباحثين الذين يستعينون بمدخل اقتصادي, وميلهم إلى طرح أسئلة عن العلاقات المتشابكة التي تربط بين كل من الحياة الاقتصادية والسياسية. من ذلك مثلا السياسات النقدية والضرائبية للحكومة، أسعار الصرف، حصص الاستيراد والتصدير، التشريعات التي تعالج العلاقات بين رأس المال والعمال، السيطرة على الإنتاج، توزيع عائد العملية الإنتاجية، العلاقات الاقتصادية الدولية، الأسواق المشتركة بين المجموعات الإقليمية وتأثير قراراتها على أسعار المواد الخام والسلع المصنوعة والعمالة وأسعار العملات، ثم تأثير كل ذلك وانعكاسه على السياسات الخارجية لكل دولة, أو منظمة إقليمية. ولا يمكن إغفال كلمة المصالح في المدخل الاقتصادي لدراسة السياسة, فمدرسة الفكر الماركسي مثلا ترى أن التطورات السياسية ما هي إلا نتيجة للمصالح الطبقية المتعارضة، وتعرف الطبقة بأنها وضع اقتصادي معين، والمصالح بأنها الفوائد الاقتصادية التي يمكن الحصول عليها. إن موقف مدرسة الفكر الماركسي -كما سيأتي بالتفصيل فيما بعد- معروف أيضا من مستقبل العلاقة بين قوى وعلاقات الإنتاج من جانب, وبين جهاز الدولة وهيكل المجتمع من جانب آخر. فهي ترى أن الأنظمة السياسية بشكلها المعاصر, وكذلك الدولة نفسها ما هي إلا أبنية فوقية في المجتمع لا بد وأن تلاقي مصيرها المحتوم حيث يؤدي التطور الاقتصادي, وتغير العلاقة بين قوى وعلاقات الإنتاج إلى إزالتها تماما, فاتحا الطريق أمام الثورة الاجتماعية1.

_ 1 Marcel Prelot, La Science Politique, Paris 1963 p. 32, J. Roland Pennock, David C. Smith, Political science, op. cit., p. 89.

المبحث الثالث: المدخل الاجتماعي

المبحث الثالث: المدخل الاجتماعي ربما يكون من أهم مزايا هذا المدخل تلافي الاستقطاب الشائع في بعض الدراسات السياسية والمتمثل في وضع الفرد في مواجهة الدولة وإغضاء الطرف

عن الثروة الغنية من الموضوعات والمعلومات في البيئة الاجتماعية للإنسان, وخاصة صلاته وعلاقاته ذات الأشكال والمستويات المتعددة بالجماعة. تلك هي ما يسميها رايموند أرون بالأرض البكر أو المدخل الخاص الذي يمكن أن يكفل نشوء علم للسياسة مستقل نسبيا, كما هو الحال في بقية العلوم الاجتماعية1. يهتم علماء الاجتماع بدراسة السلوك الإنساني بما في ذلك السلوك السياسي, وذلك في نطاق البيئة الاجتماعية. لهذا يدخل في مجال علم الاجتماع السلوك السياسي والعلاقات والمؤسسات السياسية بالإضافة إلى أنواع أخرى من السلوك والعلاقات والمؤسسات. فعلم السياسة إذًا يتداخل مع علم الاجتماع تماما, كما يتداخل مع علمي التاريخ والاقتصاد. يترتب على هذا أن الباحثين الذين يأخذون بمدخل اجتماعي لدراسة السياسة سيكونون متأثرين -ولا شك- بمنطلقاتهم العلمية التي تركز على المجتمع بصفته مجموعة من العلاقات الاجتماعية، أو كجماعة كبيرة تقوم بين أفرادها علاقات متبادلة، أو كمجموعة من المؤسسات التي تعمل كإطار للحياة الاجتماعية, سواء كانت هذه المؤسسات سياسية أو اقتصادية أو دينية أو عائلية أو ترويحية. تجتذب الحضارة كذلك قدرا كبيرا من اهتمام الباحثين من حيث هي أنماط من السلوك المثقف الذي يشترك فيه عدد من الأشخاص. وهي بهذه الصفة تعتبر طريقة حياة وأسلوبا في التفكير والعمل والشعور. كما أن للأفراد أوضاعا اجتماعية معينة من حيث الثروة والسلطة والحياة والقوة، ويقومون

_ 1 Raymond Aron, "Political Science in France", in Contemporary Political Science, UNESCO, op. cit., p. 49, Pennock, Smith, Political Science op. cit., p. 53.

بأدوار محددة, بمعنى أن لكل منهم دورا ونمط سلوك يرتبط بوضعه في ذلك المجتمع. ليس معنى ذلك أن تصنيف الفرد حسب وضعه الاجتماعي يؤدي إلى الجمود, إذ الواقع أنه وفقا لهذا المفهوم يستطيع الانتقال إلى أي وضع إذا سمحت له قدراته وكفاءاته. ينطبق هذا أيضا على الشخصيات الاعتبارية التي قد ينضم إليها هؤلاء الأفراد كالأحزاب والجمعيات الدينية والنوادي الرياضية, وكذلك الدولة والعائلة على أساس أنه يمكن أن يكون لكل منها دور محدد تؤديه. وبالتالي تنال وضعا اجتماعيا معترفا به موازيا لدورها, وتتمتع بالمزايا المادية لهذا الوضع، وتقوم بالمسئوليات المترتبة عليه. ويرى ماكس فيبر أن مثل تلك الجماعات, وكذلك الطبقات والأحزاب هي من مظاهر توزيع السلطة في المجتمع. إن قيمة الأوضاع الاجتماعية المشار إليها هي ميلها إلى تثبيت العلاقات وتأمين التوقعات الفردية؛ تفاديا للمنافسة الدائمة والأضرار التي قد تنتج عنها بسبب الحاجة إلى عمليات مستمرة لإعادة التكيف داخل الهيكل الاجتماعي1. فالاعتماد على المدخل الاجتماعي إذًا قد يثير أسئلة حول العلاقات بين الوضع الاجتماعي من جهة, وبين السلوك السياسي أو غيره من أشكال السلوك

_ 1 Max Weber, "Class Status, Party". in. R. H. Gerth, C. Wright Mills, eds., From Max Weber, Essays in Sociology, London 1961 p. 181, B. E. Park, E. W. Burgess, lntroduction to The science of Sociology, pp. 708-714, florian Znaniecki, The Social Role of the Man of Knowledge, pp, 13-19 reprinted in: Lewis A. Coser, Bernard Rosenberg, Sociologi cal Theory, New York, London 1966, pp. 354, 363-365, T. H. Marshal, Sociology at the Crossroads, London 1963, p. 186.

ومن الجلي أن البحوث الاجتماعية قد أسهمت بنتائج هامة خدمة للعمل التشريعي, وخاصة في مجالات بحوث الزواج والطلاق والجريمة والأحداث والحياة الحضرية والريفية. ليس هذا فقط, وإنما أسهمت الدراسات الاجتماعية أيضا بالإضافة إلى دراسات علم الأجناس في مجال الحضارات والثقافات الأجنبية، بمعلومات قيمة لا غنى عنها للتوجيه الفعال للعلاقات الخارجية1. ليس أدل على العلاقة الوثيقة بين الاجتماع والسياسة من نشوء علم جديد يجمع بين الاثنين, تعبيرا عن تزايد أهمية المدخل الاجتماعي في الدراسات السياسية. ذلك العلم هو الاجتماع السياسي الذي يرى بعض العلماء مثل شفار تزنبيرج أن مؤسسيه الأوائل الكبار هم أرسطو وماكيافللي ومونتسكييه الذين, وإن لم يستخدموا نفس الاسم المعاصر للعلم, فإنهم كانوا على دراية بموضوعه ومنهجه وقوانينه2. تتبع علماء آخرون مثل بريلو تلك الصلات الوثيقة بينهما منذ بدأ التمييز بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي في كتابات عالمي السياسة جان بودان وألثوسيوس، ثم إصرار كل من جروشيوس ولايبنتز على وجود علاقات اجتماعية منفصلة عن علاقات الدولة. والمقصود بالانفصال هنا طبعا هو بدء الوعي بوجود نوع جديد, ومميز من العلاقات يحتاج إلى التصنيف والدراسة3.

_ 1 Dyke, pp. 125-127. 2 Roger Gerard Schwartzenberg, Sociologie Politique Paris 1971, pp. 2-5. 3 Marcel Prelot, La Science Politique, op. cit., pp. 33, 34.

في عصرنا الحاضر، يؤكد رايموند أرون صعوبة وضع خط فاصل بين علم السياسة, وعلم الاجتماع السياسي حيث إن كليهما يتناول نفس الحقائق, ويدعي الأخذ بالوسائل المنهجية كالمشاهدة والتحليل, والشرح والتفسير1. الملاحظة الأخيرة التي نود أن نختتم بها هذا البند هو أن التوفيق قد جانب هؤلاء العلماء في تغاضيهم عن الدور الكبير للعلامة ابن خلدون في هذا المجال. لقد تناول ابن خلدون -كما هو معروف- أكثر من مدخل علمي في مقدمته, من بينها الاجتماع والاقتصاد وذلك في دراسته للظواهر التاريخية والسياسية. ولا عذر لهؤلاء في ذلك القصور؛ إذ المفروض أنهم قد اطلعوا على التقييم العلمي المنصف لإبداعه من جانب أئمة علماء الاجتماع والتاريخ الليبراليين المعاصرين من أمثال جاستون بوتول، وبيتريم سوروكين, وأرنولد توينبي. ومن جهة أخرى يتعذر من الناحية الموضوعية الإشارة إلى تطور علم الاجتماع, والجهود الرائدة في الاجتماع السياسي دون أن يحتل ابن خلدون مكانه المشروع, خاصة وأنه قد توفرت الضوابط المنهجية في كتاباته بشكل يفوق ما توفر منها في كتابات خلفائه الأوروبيين ممن سبقت الإشارة إليهم. حتى أوجست كونت نفسه، الذي يرجعون إليه الفضل في إعطاء علم الاجتماع اسمه الجديد "سوسيولوجي" يؤكد بعض العلماء المعاصرين2 أنه تمكن من الاطلاع على ترجمة فرنسية لكتابات ابن خلدون, واستفاد منها دون أن يشير إلى المصدر.

_ 1 Raymond Aron, "Political Science in France*.htm', op. cit. p. 49. 2 H. Becker,Harry Elmer Barnes,Social Thought from Lore to Science, New York 1961, first publ. 1938, p. 349; H. E. Barnes, "Sociology Before Comte", in: American Journal of Sociology, XXIII, 1917; M.M. Rabie, The Political Theory of Ibn Khaldun, op. cit., p. 47. انظر في ذلك أيضا الشواهد التي يضيفها الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي في طبعته الأولى لمقدمة ابن خلدون، الجزء الأول، ص177، كذلك الأستاذ الدكتور عبد العزيز عزت "تطور المجتمع البشري عند ابن خلدون" في أعمال مهرجان ابن خلدون, القاهرة 1962، ص52، 53. كذلك انظر أعلاه، دراستنا لمنهج ابن خلدون، حاشية 57.

المبحث الرابع: المدخل الجغرافي

المبحث الرابع: المدخل الجغرافي هو الربط بين الأحداث والاتجاهات السياسية, وكل ما يتعلق بالظواهر الجغرافية كموقع الجبال والأنهار والبحار, وتوزيع الموارد الطبيعية بكافة أنواعها كتوزيع الأمطار واختلاف درجات الحرارة ومدى توفر طرق ووسائل المواصلات وطبيعة كل منها. ولا يزال لتوزيع الأجناس والجماعات العرقية أعمق الأثر على التنظيم السياسي للعالم تماما كما هو الحال بالنسبة للحقائق الجغرافية التي تدخل ضمن العوامل الحاسمة في تشكيل القرار السياسي1. وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى كتابات مونتسكييه2 التي أظهرت اهتمامه بالأثر الكبير للموارد الطبيعية -وخاصة المناخ- على تطور الدولة وإن كان قد أكد على عوامل غير اقتصادية, وبالذات على دور الموارد البشرية أي: الأفكار والتقاليد والمعتقدات السائدة بين أمة من الأمم في منطقة جغرافية معينة. إلا أن هناك بعض التحفظات التي ترد على المدخل الجغرافي, وتحتاج إلى أخذها بعين الاعتبار عند استخدامه حتى يستعين الدارس بمداخل بديلة, أو مكملة لخدمة أغراض البحث. وأهم تلك التحفظات هي ما يلي: - ليس المناخ هو العامل الحاسم في تحديد مدى تقدم, أو تخلف دولة من الدول. فهناك مثلا مناطق معتدلة المناخ مثل دول شمال إفريقيا ومنطقة جنوب إيطاليا, مع ذلك نلاحظ أنها مناطق متخلفة تحتاج إلى جهود كبيرة لتصل إلى مستوى أرفع من النمو, ولتحقيق الحد الأدنى من الدخل للفرد بالمعيار الدولي المعاصر, وهو ألف دولا سنويا في المتوسط.

_ 1 Dyke, pp. 128, i2g;cf. Trygve Mathisen, Methodology in the Study of Internatinal Relations, Olso 1959, PP- 55-57. 2 Montesquieu, DeL'Esprit, des Lois,les Grands Themes, edite par J. P.Mayer et A. Pkerr, Paris Gallimard 1970, Livres Quatorzieme, Quinzieme, DIX-Septieme, pp. 191-209.

- لم تشكل العقبات المناخية, أو البيئة في الماضي عقبات كئودا في وجه قيام بعض الحضارات الزاهرة كحضارات الإسلام والأنكاوالمايا. ولا ننسى أنه في القرن الثامن كان الإمبراطور شارلمان في أوروبا عنوانا للتأخر, بينما الخليفة العباسي هارون الرشيد واجهة لحضارة كبيرة اتخذت من بغداد عاصمة لها1, رغم اعتدال الظروف المناخية في الأولى وقسوتها في الثانية. - أتاح التقدم العلمي للإنسان فرصة السيطرة على تطرف المناخ عن طريق تكييف الهواء في المناطق الشديدة الحرارة أو البرودة. كما جعل من الممكن استثمار خيرات الطبيعة في أسوأ الظروف الطبيعية بواسطة المدن الصناعية في القطب, أو المنصات العائمة مثل تلك التي أقيمت في بحر الشمال لاستخراج البترول. - لا تكفي الموارد بمفردها -سواء طبيعية أو بشرية- كمعيار للحكم على مدى تقدم الدولة. فكثير من الدول في القارات الثلاث التي يتكون منها العالم النامي تتمتع بموارد طبيعية, أو بشرية كبيرة, ومع ذلك تعاني من التخلف الشديد نتيجة للميراث الاستعماري, أو لظروف تاريخية متعددة. - كذلك لا يكفي توفر الموارد بنوعيها في رأينا لمساعدة الباحث على تحديد نوع الحكم السائد, وهل يلتزم أم لا بقواعد القانون الدولي ومواثيق الأمم

_ 1 Roger Gerard Schwartzenberg, Sociologie Politique op. cit., p. 199, يرى باحثون آخرون أنه رغم أن الوسط الطبيعي, أو البيئة الطبيعية ليست ظاهرة مستقرة تماما، ورغم ازدياد سيطرة الإنسان على قوى الطبيعة وتسخيرها لصالحه، فإنه من الخطأ البين إهمال مغزى الوسط الطبيعي بالنسبة للعلاقات الدولية, انظر: T. Mathisen, Methodlogy ln The Study of lnternational Relations, op. cit., pp. 56-58.

المتحدة وحقوق الإنسان، وهل تستغل الدولة ما لديها من موارد ضخمة من أجل زيادة التعاون الدولي دون شروط مرهقة أم تسخرها للتوصل إلى أحدث الاكتشافات لإبادة الأخضر واليابس كما حدث في فيتنام ولقهر الشعوب, وتغيير نظم الحكم الوطنية التي لا ترضى عنها سواء بالانقلابات الدموية, أو بالعدوان العسكري السافر الذي ميز حقبة الستينات.

المبحث الخامس: المدخل الفلسفي

المبحث الخامس: المدخل الفلسفي يستخدم لفظ فلسفة في عدة معانٍ, وسنتناوله بقدر أكبر من التفصيل عند دراسة المناهج, وكذلك عند الإشارة إلى الاختلافات بين الفلسفتين الليبرالية والماركسية. نكتفي هنا بالقول بأن لفظ فلسفة قد يعني محاولات التوصل إلى الحقيقة باستعمال العقل. هذه الحقيقة قد تكون معيارية أو وصفية أو إرشادية. في هذه الحالة يكون هدف البحث الفلسفي وضع معايير للحق والخير والعدالة، وتقييم أو توجيه الممارسات والمؤسسات السياسية على ضوء تلك المعايير. إن هدف المدخل الفلسفي من وجهة نظر هذا المفهوم هو تحديد ما يتفق مع مصالح المجموع1. هذه هي بعض المداخل التي قد يلجأ إليها الباحث في دراسته للظواهر السياسية, وإن لزم التحذير بأن مجرد اللجوء إلى واحد أو أكثر من تلك العلوم الأكاديمية لا يقضي على مشكلة عدم وضوح المعايير التي تقدمها تلك العلوم كأداة لاختيار الموضوعات والمعلومات. هذا علاوة على وجود اتجاه يرى في اللجوء إلى تلك العلوم الأكاديمية وسيلة للتهرب من المشكلة الحقيقية لعلم السياسة2.

_ 1 Stephen K. Bailey "New Research Frontiers of Intercst to Legislators and Administrators", in: Research Frontiers in Politics and Government, Washington, cited by Dyke, p, 130. 2 A. Brecht, Political Theory, op-cit, pp. 11, 12.

إن عالم السياسة الذي يستخدم مدخلا تاريخيا مثلا سيكون أمامه العديد من الاختيارات, شأنه في ذلك شأن المؤرخين, حتى اصطلاح مدخل تاريخي يعد مضللا؛ لأن هناك أكثر من مدخل تاريخي واحد. وهو باستخدامه لهذا المدخل لن يحصل على ما يأمل من إرشاد وتوجيه أكثر مما يمكن أن يحصل عليه نظيره المؤرخ الذي يأخذ بمدخل سياسي لدراسة التاريخ. أي: إن كل ما تم إنجازه هو مجرد انتقاء المدخل ولا شيء أكثر من ذلك. بمعنى أنه لم يتم وضع أو اقتراح معايير محددة يتم على أساسها الاختيار بين الموضوعات والمعلومات ضمانا لأكبر قدر من الموضوعية, وعدم التحيز. وما قيل عن المدخل التاريخي يمكن أن يعبر عن نفس المشكلة التي ستنجم من اتباع أي من المداخل المشار إليها؛ الاقتصادي أو الاجتماعي أو الجغرافي أو الفلسفي. يشكل ذلك عبئا على عاتق الباحثين, ويحفزهم إلى الذهاب أبعد من مجرد استخدام مدخل ما كوسيلة للدراسة, وإلا انتهت مجهوداتهم بمجرد رصيد ضخم من المعلومات المنوعة غير ذات موضوع لا تنفع في كتابة علمية أو تدريس أكاديمي، بل قد تفقد الإحساس والحذر بطبيعة المشاكل التي يواجهها العالم. ولا جدال أنه لكي يكون البحث في مجال السياسة ذا مغزى, ويسهم في عقلانية صنع القرار يجب أن يكون المدخل لهذا البحث أكثر تحديدا, وتخطيطا من مجرد إطلاق اسم فرع من فروع العلوم الأكاديمية1.

_ 1 lbid., p. 12, dyke, p. 130.

الفصل السابع: الظواهر والقوى السياسية

الفصل السابع: الظواهر والقوى السياسية المبحث الأول: المؤسسات تزايد في السنين الأخيرة اهتمام علماء السياسة بعدة ظواهر تصلح كمداخل للبحث، وهي ظواهر لم تنل من قبل ما تستحقه من دراسة رغم تأثيرها البالغ والحاسم على المؤسسات السياسية, وعلى المجتمع ككل. من ذلك مثلا ظواهر الاحتجاج بأشكاله وأنواعه المختلفة, وظواهر العنف السياسي وعدم الاستقرار كالثورات والانقلابات والحروب الأهلية, ومحاولات الانفصال والقلاقل والاضطرابات والاغتيالات السياسية1. لعل مما يوجه الأنظار إلى خطورة تلك الظواهر وضرورة إخضاعها للبحث العلمي ما توصل إليه أحد الدارسين من ارتفاع معدل تكرار حدوث هذه الظواهر بشكل لم يسبق له مثيل من حيث العدد والتنوع والانتشار الجغرافي في العالم كله, حتى بلغ ذلك المعدل حدوث ثورة أو انقلاب واحد كل شهر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية2.

_ 1 David G. Schwartz, "Toward a More Relevant and Rigorous Political Science", op. cit., pp. 103, 104. 2 Richard A. Sanger, Insurgent Era, Washington D.C. 1967, 1; D.G. Schwartz Ecology of Political Violence in: American Behavioural Scientist, 2 , July-Aug. 1968, pp. 24 ff. ibid., pp. 112, 114; حول العنف في العلاقات الدولية, والحاجة إلى دراسته وجذوره الأنثروبولوجية والاجتماعية انظر: T. Mathisen, Methodology In The Study of International Relations, op. cit., pp. I63, I57 ff.

ظهرت في الوقت نفسه الحاجة إلى عدم التركيز المغالى فيه على ظواهر أخرى مثل الانتخابات وعملية الاشتراك فيها بسبب تدهور أهميتها, ومعدل تكرار حدوثها بالقياس إلى الظواهر آنفة الذكر. ناهيك بالصعوبة المزدوجة التي يواجهها الباحث إذا تعرض للظروف والأحداث التي تكتنف الانتخابات في دول العالم الثالث حيث تنتشر الأمية، وحيث أصبح تزوير الإرادة الشعبية تقليدا ثابتا. ولا تعني الدعوة إلى الاهتمام المتوازن بالظواهر السياسية المعاصرة الاتجاه إلى إهمال الانتخابات بأي حال من الأحوال، وإنما تعني ترشيد الدراسة السياسية، بحيث تتجه إلى دراسة العراقيل والأسباب التي أدت إلى ضعف فعاليتها كأسلوب ديمقراطي للتعبير عن آراء الأغلبية. وغير خافٍ أنه في أكثر الدول تقدما في العالم الغربي تسفر الانتخابات بشكل لافت للنظر عن أوضاع غير مستقرة, بل وأحيانا عن أوضاع تزيد من تعقيد الموقف السياسي بدلا من إظهار حقيقة الإرادة الشعبية, وترسيخ القيم الديمقراطية. وتدل الدراسات السياسية على تزايد الإحجام عن الاشتراك في التصويت بسبب عوامل متعددة لعل منها تفاقم مشاعر الاغتراب لدى كثير من الناخبين في ظل النظام الرأسمالي, وخاصة في الولايات المتحدة، وازدياد حدة الصراع الاجتماعي وعدم المساواة والتمييز العنصري واضطهاد الأقليات. إذا انتقلنا بعد ذلك لدراسة المؤسسات، سنجد أنها كموضوع للبحث تتمتع بتماسك قلما يتوفر لأي موضوع أو ظاهرة أخرى في علم السياسة، علاوة على أنها أكثر فروعه تفصيلا وإحكاما لاعتمادها على قواعد العرف والنصوص القانونية واستفادتها من دقة المصدر، ووضوح الرؤية1.

_ 1 Marcel Prelot, La Science Politique, op. cit., p. 83.

لكن لهذا الاصطلاح معانٍ كثيرة بعضها معنوي يتراوح بين أبسط أشكال أنماط السلوك كدفع البقشيش مثلا, وبين أكثرها تعقيدا أو تأثيرا في حياة وقيم المجتمع مثل الملكية الفردية. وغالبا -ولكن ليس ضروريا- يكون للمؤسسات -أي: لأنماط السلوك- حسب هذا المفهوم سيطرة اجتماعية كما أنها في حالات مثل الملكية, والزواج تتمتع بدعم القانون. يشير اصطلاح مؤسسة أيضا إلى معنى مادي. فقد تكون هناك مؤسسة أو عدة مؤسسات معقدة التركيب يمارس بعضها أشكالا من السيطرة الاجتماعية. إذا أخذنا مصر كمثال، فإن المؤسسات حسب هذا المفهوم تتراوح بين أشكال عدة, منها الدولة والمؤسسات الاقتصادية والأزهر والكنيسة والعائلة التي يتكون من مجموعها شكل ومحتوى المجتمع. في المجتمع الحديث نلاحظ أن كل تلك المؤسسات تتبادل التأثير, وخاصة تلك التي تتنازع وقت ولاء المواطنين. وفي بعض المجتمعات -كما كان الحال في الصين القديمة مثلا- فإن العائلة كانت هي المؤسسة المهيمنة التي تتولى معظم المهام التي تقوم بها الدولة والكنيسة في مجتمعات أخرى. على عكس ذلك كان الوضع في أوروبا العصور الوسطى حيث كانت الكنيسة كمؤسسة هي التي تبسط سيطرتها. ثم اختلف الحال حين اشتد ساعد النظام الرأسمالي في القرنين التاسع عشر والعشرين فصارت الهيمنة في يد المؤسسات الاقتصادية, والحكومة المركزية1. أما في العصر الحاضر، فقد انتقل جانب هام من السيطرة إلى مؤسسات دولية "فوق قومية"2 شديدة التعقيد والتشابك -مثل السوق الأوروبية

_ 1 Pennock, Smith, Political Science, op. cit., pp. 58, 59. 2 T. Mathisen, Methodology ln The Study of lnternational Relations. cp. cit., pp., 120, 121.

المشتركة, ومنظمة الكوميكون في أوروبا على سبيل المثال- تؤثر قراراتها في كافة أوجه حياة, وقيم الأفراد في الدول المنضمة إليها, والتي تنازلت عن جانب من سيادتها لتلك المؤسسات. نناقش فيما يلي بشيء من التفصيل الجوانب المختلفة لاصطلاح مؤسسة من حيث هي مفهوم مادي. لكن أية مؤسسة نعني؟ إن الحكومة ككل يمكن أن تسمى مؤسسة تماما كما يطلق نفس الاصطلاح على البرلمان أو الحزب السياسي أو أية هيئة فرعية من فروع الحكومة. فبينما يمكن بسهولة أن نطلق اصطلاح مؤسسة على كثير من الهيئات، فإننا لا نستطيع بنفس السهولة أن نعرف الاصطلاح نفسه. هكذا تصبح المشكلة هي البحث عن الخصائص التي تميز الحكومة, أو أي فرع منها لتبرير استعمال ذلك الاصطلاح. لن يكون مقبولا أن ننظر إلى المؤسسة على أنها المبنى الذي يحتويها, كما أنه ليس كافيا الاقتصار على اعتبار المؤسسة مجموعة مكاتب أو وكالات, لكل منها وظائف وسلطات معينة. إن المؤسسة لكي تعمل لا بد لها من أفراد يعملون ويتفاعلون, لكل منهم وضعه ودوره. على هذا الأساس يمكن القول: إن المؤسسة هي تلك التي تشتمل على نشاطات عدد من الناس يميزهم نمط سلوك موحد ومنظم بشكل ما. هذا مع ملاحظة أنه ليس من الضروري أن يكون كل المشتركين في نشاط المؤسسة ممن يشغلون مناصب بها، فالناخبون مثلا قد لا يشغلون مناصب في المؤسسات الحكومية, ومع ذلك يشاركون في نشاطاتها1.

_ 1 Charles B. Hagan" The Group in a Political Scien" in: Roland young, cd., Approaches to the Study of Politics op. cit., p. 46, cited by Dyke, op. cit., p. 136; Herbert Mc-Closky, Political Inquiry, The Nature and Uses of Survey Research, London 1969, p. 44.

رغم عمومية هذا التعريف, فإنه لا يعكس المعنى المطلوب عندما يشار مثلا إلى الحرب, أو المصلحة العقلية كمؤسسة, مما قد يعطي انطباعا بأنه ما من تعريف سيعكس كل استعمالات هذا المصطلح. لكن إذا أردنا تعريفا عاما ومختصرا، فقد نقول: إن المؤسسة هي أية مجموعة من التوقعات والنشاطات التي يتوفر لها عنصر الاستمرار، أو هي أي نمط مستقر ومعترف به من سلوك جماعة ما أو مجتمع بأسره. يعني هذا ضمنا توفر قدر من الانسجام في هذا السلوك يكفل التوفيق بين المصالح والعمل مع الآخرين, من أجل تحقيق الأهداف المشتركة، بينما يؤدي انتهاكه أو عدم مراعاته إلى الاضطراب وعدم الاستقرار بين صفوف الجماعة لتهديده للقيم المرعية1. يترتب على ذلك أن مضمون المدخل المستخدم في هذه الحالة سيتغير حسب تعريف كلمة مؤسسة. فإذا كان التعريف المأخوذ به هو الذي ينظر إلى المؤسسة على أنها واحدة من المؤسسات الحكومية بمكاتبها ووكالاتها, فإن البحث حول الحكومة سيتأثر بذلك بالتالي وتصبح الدراسات السياسية طبقا لهذا المفهوم محدودة وضيقة, فتتناول مثلا مستوى الحكومة وما إذا كانت اتحادية أو محلية، ثم فرع تخصصها وهل هو تنفيذي أو تشريعي أو قضائي؟ يتبع ذلك دراسة تكوين ووظائف كل فرع والعلاقات المتبادلة بينها مع الاهتمام بالإجراءات الدستورية والقانونية. بالمثل، فإن دارسي السياسة الدولية الذين يستعينون بنفس المدخل يميلون إلى دراسة المواضيع التي يمكن فيها الاستعانة بمواثيق المنظمات, والاستشهاد بأحكام القانون الدولي. يفسر هذا الاهتمام الكبير بهيئة الأمم المتحدة والوكالات

_ 1 lbid., pp. 136, 137, Pennock, Smith, Political Science op. cit., pp. 49, 50, 58.

المتعددة المرتبطة بها, والدراسات المفصلة لنصوص الميثاق والنظم الأساسية للهيئات ومحكمة العدل الدولية. يعيب هذا المدخل أخذه بمفهوم ضيق لاصطلاح المؤسسات السياسية, مما يترتب عليه توجيه عدة انتقادات لذلك المدخل, أهمها ما يأتي: - الميل الذي ساد بين علماء السياسة حتى وقت قريب؛ لإهمال الإنسان كفرد1 نتيجة لانشغالهم بدراسة المؤسسات, فتركوا الدراسات الخاصة به إلى علماء الاجتماع والنفس؛ ليطوروا الطرق الفنية لدراسة السلوك الانتخابي, واكتشاف العلاقات السياسية وغيرها من أنواع السلوك. - الميل الذي ساد بينهم أيضا لإهمال مادة السياسة الدولية. وحيث إنه لم تكن هناك ولمدة طويلة مؤسسات دولية تماثل الدولة أو الحكومة, فقد تخلوا عن ذلك المجال للمؤرخين ورجال القانون. حتى الكتب التي أخذت على عاتقها وضع مقدمات لعلم السياسة, أو دراسة مبادئه اكتفت بالتركيز على السياسة الداخلية أو طرح أسئلة عن التنظيم السياسي والقانون. ولعل شيوع اصطلاح العلاقات الدولية بدلا من السياسة الدولية, يعد مؤشرا لعدم القدرة على التفكير في السياسة في غيبة المؤسسات الحكومية. - الميل لإهمال دور العنف والتهديد به في مجال السياسة نتيجة للمفهوم الضيق السابق لاصطلاح المؤسسات. أما الواقع العملي فيتناقض مع ذلك كما سبقت الإشارة في بداية هذا البند. لقد ظهر عدد غير قليل من دول العالم إلى حيز الوجود باستخدام العنف, كما تمكنت هذه الدول عن طريقه أيضا من رسم حدودها. وفي داخل نفس الدول فإن بعض الحكومات تستولي على السلطة أو تفقدها بسرعة كبيرة بواسطة الحروب الأهلية, أو الانقلابات. هذا علاوة على

_ 1 قارن الوضع المقابل بين عدد من علماء السياسة في ألمانيا الاتحادية بعد الحرب العالمية الثانية كرد فعل للاتجاه المتطرف للنازية في سحقها للإنسان. Marcel Prelot, La Science Politique, op. cit., pp. 84-85.

أن الشغل الشاغل لكثير من تلك الحكومات هو إما التحضير للحرب, أو وضع الخطط والاستعداد لصد العدوان الخارجي. وعندما ينحصر مفهوم المؤسسات في المكاتب والوكالات والمواثيق التي تقننها، فإنه لا مكان للثورة أو الحرب، ويعتبر كل من الحرب الأهلية والعالمية في هذه الحالة شيئا غريبا على السياسة؛ ومن ثم يفشل علماؤها في تقييم الأحداث السياسية الهامة1. ليس معنى ذلك أن كل اختيار للمؤسسات السياسية كمدخل للدراسة لا بد وأن يكون ذا مفهوم ضيق, بل يمكن الأخذ بتعريف أوسع -كما أسلفنا- ينظر إلى المؤسسة كنموذج مستقر ومعترف به لسلوك الجماعة يعكس الانسجام, والتناسق في سلوكها مما يحث الأفراد أيضا على الطاعة والنظام. بهذا المفهوم الواسع للمؤسسات يمكن العثور على المعايير الواقعية للاختيار التي نبحث عنها, وإن كان ليس بالقدر المأمول, أي: إنه في حالة تبني ذلك المدخل يتحتم الاستعانة بمدخل آخر للبحث لضمان سد الثغرات.

_ 1 Dyke, pp. 137-138, D. C. Scwartz, "Toward a More Relevant ant Rigorous Political Science, op. cit., pp. 115-116. يحوي هذا البحث الهام الأخير في جانب منه ما يمكن اعتباره دليلا على الفشل المشار إليه, إذ أجرى شفارتز تحليلا ذا مغزى لمحتويات الدراسات التي نشرت خلال الفترة من عام 1960 إلى 1970 في سبع من أشهر الدوريات العلمية في العلوم السياسية, وأوسعها انتشارا بالولايات المتحدة. ومن بين مئات المقالات التي نشرت خلال تلك الأحد العشر عاما لم تركز أي منها بصفة أساسية على مشاكل التجمهر السياسي, وسلوك ما أسماه "بالرعاع" والاضطرابات السياسية ومظاهر الاحتجاج المختلفة. ولم تكن هناك سوى مقالة واحدة عن الاضطرابات في المدن الأمريكية، وأخرى عن الاغتيالات السياسية في الولايات المتحدة خلال الستينات، وست مقالات فقط عن الاحتجاجات السياسية. بينما تناولت أغلبية الدراسات مشاكل الانتخابات والاشتراك فيها. انظر في ذلك البحث أيضا الجداول التفصيلية, والنسب المئوية لتكرار تلك الظواهر, وذلك في الصفحات المشار إليها.

المبحث الثاني: القانون

المبحث الثاني: القانون يحدث أحيانا ربط بين مدخلي القانون والمؤسسات السياسية من حيث هي مجموعة من الوكالات والهيئات، فوجودها مثلا ينظمه القانون الدستوري, كما أن نشاطاتها المختلفة يصوغها ويعدلها ويفسرها القانون؛ مما دعا بعض الذين يتبنون مدخل المؤسسات السياسية إلى المساواة بينه وبين المدخل القانوني, وإن كان هذا الأخير واسع الانتشار بغض النظر عن هذه العلاقة1. لهذا فهم يفترضون أنه في معظم الأسئلة العامة التي تطرح, فإن بعض أو كل الأسئلة الفرعية وكذلك بعض أو كل المعلومات المرتبطة بالموضوع هي ذات طبيعة قانونية سواء تعلق الأمر بانتخاب رئيس جديد للجمهورية, وتحتم للرجوع إلى الشروط التي ينص عليها الدستور، أو الخطوات التي يجب اتخاذها في حالة وقوع اعتداء من جانب دولة على أخرى, والاحتكام إلى نصوص ميثاق هيئة الأمم المتحدة على سبيل المثال. للمدخل القانوني مزايا عديدة وواضحة. فغالبا ما يحكم القانون جوهر العمل السياسي وخطواته عند كل مستوى، وهو الذي يحدد الإجراء الواجب اتخاذه في أحداث السياسة الداخلية والخارجية، كما يحرم عملا ما أو يضع حدودا لما يسمح به من عمل آخر. وإذا التزم رجال السياسة بالقانون فإن معرفة نصوصه تزودنا بأساس هام لعملية التنبؤ, ونماذج للتوقعات والنشاطات السياسية, وأنماط مستقرة لسلوك الجماعة.

_ 1 Stephen K. Bailey, "New Research Frontiers of Inter Interest to Legislators and Administrators" op. cit., pp. i3ff.; cf. Foster H. Sherwood. "The Role of Public Law in Political Science", in: Roland Young, Approaches to the Study of Politics, op. cit., pp. 86-96, cited by, Dyke, pp. 139, 140.

رغم ذلك، فإن القول بأهمية المدخل القانوني لا يعني أنه الأنسب دائما, إذ ترد عليه عدة تحفظات ومآخذ نوجز أهمها فيما يلي: - إن التسليم بوجود علاقة قوية بين موضوع الدراسة, وبين القانون لا يجيز الاعتماد على ذلك المدخل في إجابة الأسئلة المطروحة, وإلا أدى ذلك إلى نتائج مضللة. فمثلا لا يمكن الإجابة باطمئنان على الأسئلة المتعلقة بالسلطة المنوطة بالحكومة, اعتمادا فقط على دراسة واختبار الإجراءات القانونية؛ وذلك لأن سلطة صنع القرار الموضوعة شكليا في يد جهة رسمية معينة قد يمارسها من الناحية الواقعية أفراد ليست لهم أية صفة قانونية. - لا يمكن الاعتماد كليا على ذلك المدخل أيضا؛ لأن القانون نفسه ليس واضحا دائما. يدلنا على ذلك كثرة الأسئلة التي تثار حول معناه في ظروف معينة, أو طريقة تطبيقه في أمور محددة. ومهما حاول القضاة والفقهاء الإجابة على تلك الأسئلة بتجرد ونزاهة, فإن عملية إزالة الغموض تتأثر بالخلفية الاجتماعية, والميول الشخصية لهؤلاء الذين يتصدون لتفسير القانون, أي: إنه في حالة كثير من الأسئلة التي تعتبر قانونية بشكل ظاهر، يرجح أن يكون لبعض الاعتبارات غير القانونية تأثير كبير على النتيجة. - المدخل القانوني محدود, ويشوبه قصور كبير من حيث إنه لا سيطرة للقانون على ما ستحتويه نصوصه, بمعنى أن تحديد محتواه عمل سياسي بحت يتم من خلال السلطة التشريعية, وعلى أسس لا علاقة لها بالمدخل القانوني. - ليس هناك مفهوم واحد للقانون, أو للمدخل القانوني؛ إذ تتباين النظرة إليهما تبعا للنظريات والنظم الاجتماعية السائدة. فالدولة والدساتير والقوانين مثلا لا تحتل فقط مكان القلب, أو المركز من النظريات التقليدية "ومنها الليبرالية"، وإنما تمثل بالنسبة لها أيضا المعطيات الجوهرية للحقيقة السياسية. أما النظرية الماركسية, فإنها تعتبر الدولة والقانون والدستور من مكونات البناء

العلوي للمجتمع, بمعنى أنها ظواهر ثانوية ومشتقة -أي: متفرعة- ومتأثرة بالأساس المادي للمجتمع الذي تسميه البناء السفلي. والتحفظ الذي يرد هنا هو ضرورة مراعاة الباحث للوضوح التام, وبيان زاوية الرؤية التي اختارها, والمفاهيم التي انطلق منها عند استعانته بهذا المدخل؛ وذلك تفاديا لأي لبس. المدخل القانوني قد يكون أداة خطيرة في يد الجماعات, أو الحكومات النازية والمطلقة التي تقوم عادة بخرق القانون باسم القانون, والاعتداء على الدستور باسم الدستور, ثم لا تتورع عن تحريف النصوص وعدم الالتزام بالأمانة في تفسيرها كوسيلة لتبرير تلك الأوضاع الشائنة, والنظم غير الديمقراطية1. لهذا, فإنه لا يتفق مع الواقع اتجاه بعض من يلجئون إلى المدخل القانوني لتناول القانون كشيء موجود خارج سيطرة الإنسان. إن الأقرب إلى الحقيقة هو اعتبار القانون انعكاسا لرغبات المنتصرين في الصراع السياسي, وأنه أداة يستطيعون من خلالها فرض إرادتهم والتعبير عنها.

_ 1 إسكنر

المبحث الثالث: السلطة

المبحث الثالث: السلطة كثرت التعريفات, والدراسات حول مفهوم القوة أو السلطة السياسية. ففي القرن السابع عشر عرف توماس هوبز السلطة بأنها عبارة عن "الوسائل الحالية التي تستخدم لتأمين الحصول على خير محتمل في المستقبل"1. يعتبر هذا التعريف فضفاضا من ناحية, وضيقا من ناحية أخرى. فهو فضفاض؛ لأنه يربط بين السلطة وبين مجموع الموارد المتاحة للإنسان لتحقيق

_ 1 Cf. Carl J. Friedrich, Man and His Government, op. cit., P. 275; Maurice Duverger Methodes De La Science Politique, Paris 1959, pp. 453-454. 2 Thomas Hobbes, Leviathan, 1641, chap. 10, quoted by C.J. Friedrich, Man and His Government, op. cit., p. 159.

أهدافه ومثله, وبالتالي يصبح من المستحيل التمييز بين السلطة والثروة. كما أنه تعريف ضيق؛ لأنه يشير إلى السلطة كشيء مادي ملموس, وهو وصف صحيح وإن كان يمثل أحد جانبي الحقيقة. فكما أن السلطة أحيانا قد تكون ذات طابع مادي, فإنها في أحيان أخرى قد لا تكون كذلك. هذا الازدواج هو بالضبط الذي يعطي للسلطة صفتها الديناميكية المحيرة التي نحس بها, ولكن نجد من الصعب تفسيرها. أثرت نظرة هوبز إلى السلطة من هذه الزاوية على الكتابات العلمية من بعده, وخاصة تلك التي اهتمت بتأصيل فكرة الفصل بين السلطات كما عبر عنها مونتسكييه مثلا. فقد تناولت تلك الكتابات السلطة كما لو كانت قطعة من الكعك يقع على الدستور عبء تقسيمها بين أطفال أشقياء يحاول كل منهم الحصول على نصيب أكبر مما يجب أن يحصل عليه. نفس هذا الخطأ الذي ينظر إلى السلطة من زاوية واحدة وقع فيه جون لوك وإن كان قد عبر في كتابات أخرى له عن رأي أدق من ذلك أنكر فيه مقولة: إن السلطة هي شيء في المحل الأول, وأشار إليها على أنها علاقة1. في الثلاثينات من القرن العشرين، انتهى أحد علماء السياسة إلى أن "المجال الصحيح لعلم السياسة ليس هو دراسة الدولة أو أية مؤسسة أخرى، وإنما هو دراسة كل جماعة يمكن أن تكون مثالا لمشكلة السلطة"2. ثم ظهر في الخمسينات تعريف يقول: "إن الاهتمام الأول لعلم السياسة هو السلطة السياسية في المجتمع من حيث طبيعتها وأسسها وخطوات عملها ومجالها ونتائجها. إن جوهر اهتمام عالم السياسة

_ 1 Ibid., p. 160; John Locke, An Essay Concerning Human Understanding, Book II, chap. 21; Essays on Civil Government, Bookj II, [p. 4 cited by C.J. Friedrich, op. cit., p. 160. 2 Frederick] Watkins, The State as a Concept of Political Science, New York 1934, p. 83, quoted by Dyke, p. 140.

واضح جلي, فهو يركز على الصراع من أجل الحصول على السلطة أو المحافظة عليها، كذلك ممارسة السلطة أو النفوذ على الآخرين أو مقاومة تلك الممارسة"1. في العقد الخامس أيضا عرف عالم آخر السلطة بأنها السيطرة على عقول وأفعال الآخرين, وأوضح أن هناك فرقا بين السلطة السياسية والقوة العسكرية. فالأولى تعني وجود علاقة سيكولوجية بين عقلين بينما ترتبط الثانية بالعنف، أي: بوجود علاقة عضوية بين جسمين يبلغ أحدهما من القوة حدا يمكنه من السيطرة على حركات الجسم الآخر. هذا ويمكن النظر إلى السلطة السياسية كذلك على اعتبار أنها تعني توفر القدرة على السيطرة, وليس السيطرة الفعلية. وهناك رأي يختلف عن ذلك اختلافا طفيفا, إذ يرى أنها القدرة على التأثير في الآخرين دون التأثر بنفس القدر2. إلا أنه لا يمكن الأخذ بالفرض السابق على علاته, والقائل بوجود فرق بين السلطة السياسية والقوة العسكرية؛ وذلك لأنه يدعم الفرض الآخر الخاطئ الذي يعتقد بأنه إذا نشبت الحرب فعلى الدبلوماسيين, وربما كل القيادة السياسية إخلاء أماكنهم للعسكريين. حتى كلاوزفيتز الذي كتب قبل هؤلاء كان له رأي أكثر

_ 1 William A. Robson, The University Teaching of Social Sciences, Political Science, UNESCO, Paris 1954, pp. 17, 18, quoted by Dyke, p. 140; cf. Georges Burdeau, Methode De La Science Politique, Paris 1959, pp. 254: ff.; cf, also, Maurice Duverger, Methodes de La Science Politique, op. c t., pp. 13 ff. 2 Hans J. Morgenthau, Politics Among Nations, New York 1954 pp. 26-27; cf. Charles P. Kindleberger, in: Willam H. R. Fox, ed., Theoretical Aspects of International Relations, Notre Dame 1959, p. 79, cited by Dyke pp. 141. 142, 144.

صوابا, إذ قال: إن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى. إن الصراع الذي هو لب السياسة يظل سياسيا سواء تمت ممارسته شفاها أو بعنف؛ وبالتالي فإن القوة العسكرية يمكن اعتبارها فرعا من السلطة السياسية وليست بديلا عنها. يفترض التقسيم الأخير احتمال وجود فروع أخرى لتلك السلطة. نذكر منها على سبيل المثال القوة الاقتصادية, والقوة التي يمكن أن تكمن في نظام التعليم أو جهاز الدعاية. وعلى مستوى آخر يمكن التفرقة بين قوة الإقناع وقوة القهر مع ملاحظة أن توفر قوة القهر يزيد غالبا من القدرة على الإقناع. وعلى مستوى ثالث يمكن أن نميز بين أنواع متعددة من عناصر القوة المادية وعناصر القوة غير المادية, وخاصة إذا كان مجال البحث هو السياسة الدولية1. إن العيب الرئيسي في اختيار السلطة السياسية كمدخل للبحث هو افتقارها إلى الدقة؛ نظرا للمعاني الكثيرة التي ينصرف إليها الذهن عند ذكر لفظ سلطة أو قوة. كذلك فإن الظروف والأوضاع التي يمكن أن تعبر فيها عن نفسها تختلف اختلافا بينا، كما أن مصدرها يمكن أن يتراوح تراوحا شديدا بين قواعد الآداب واللياقة, وبين امتلاك سفن الفضاء. لهذا فإنه من الطبيعي بالنسبة لمثل هذا الاصطلاح الذي يغطي أشكالا كثيرة من الأحداث والعلاقات ألا يكون على قدر كافٍ من الوضوح. يزيد من غموض الاصطلاح أن الداعين إلى استخدام ذلك المدخل لا ينظرون إليه من زاوية مشكلة السلطة, وإنما على أساس أنه تعريف للسيلسة بصفتها صراعا من أجل السلطة. هذا بينما نلاحظ أنه من الناحية الواقعية نادرا ما يتصارع الأفراد على المسرح السياسي من أجل السلطة فقط, وإنما يسعون أيضا إلى تحقيق أغراض أخرى.

_ 1 C. J. Friedrich Man and His Government, op. cit., pp. 166 ff.

لقد وجهت انتقادات كثيرة إلى النظرية القائلة بأن السياسة هي صراع من أجل السلطة. فهي مثلا لا تشير إلى القدر المطلوب منها، أو الموضوع الذي يجري الصراع بشأنه، كما لا توضح الثمن الذي قد يكون المتصارعون على استعداد لدفعه أو القيم الأخرى التي قد يضحون بها في سبيل ذلك, بمعنى آخر: فإن الافتراض الذي يساق أحيانا بلا تفكير, مدعيا أن كل الأفراد على المسرح السياسي يسعون دائما, وبلا كلل من أجل زيادة سلطتهم بأي ثمن, هو افتراض خاطئ. لهذا, فإن على هؤلاء الذين يتبنون مفهوم الصراع من أجل السلطة أن يضيفوا إلى حججهم ما يوضح مجال النشاط الذي يدور بخلدهم. فقد يكون المجال السياسة الداخلية للحكومة, أو السياسة الخارجية, أو العلاقات الدولية. وقد يكون أوسع من ذلك, فيضم كل أنواع الجماعات التي قد يحدث داخلها أو بينها ما يعتبر صراعا من أجل السلطة أو النفوذ أو السيطرة كما قد يحدث أحيانا من منافسة بين الشركات التجارية للتأثير في أذواق واختيارات المشترين, أو داخل النقابات المهنية للتأثير على أعضائها من أجل الفوز بعضوية مجالس إداراتها, أو في الصراع داخل النقابات العمالية أو المهنية, أو صراعها مع الهيئات التنفيذية والتشريعية1.

_ 1 V. O. key, Jr., Politics, Parties & Pressure Groups, fifth ed., New York 1964 "first publ. 1942", pp. 98 ff.

المبحث الرابع: التأثير والقيم

المبحث الرابع: التأثير والقيم هناك تعريفات كثيرة متضاربة لمعنى التأثير. ومنعا للّبس نشير إلى تعريف مبسط يرى أن التأثير, أو النفوذ هو نوع من القوة قد تكون ظاهرة أو خفية, وتؤثر تأثيرا عميقا في ممارسة السلطة وفي مؤسساتها. ولا يجب أن يتبادر إلى الذهن أنه لا بد من إصدار أوامر أو نواهٍ حتى نسلم بوجود تأثير أو نفوذ؛ إذ العكس هو الصحيح. فنادرا ما يتخذ التأثير ذلك الشكل

الفج, وإنما يجد تعبيرا عنه في محاولات الحث والإقناع, وأحيانا الغمز والتلميح بهدف التأثير على السامع أو القارئ بشكل غير مباشر. لهذا نلاحظ, أنه وإن كانت القوة تشكل النواة الصلبة للمواقف التي تتخذها السلطة, إلا أنها تحيط بها حالة كبيرة من التأثير1. لزيادة الإيضاح، نتناول عددا آخر من التعريفات حتى يمكن الإحاطة بطبيعة الصعوبات التي تكتنف اختيار موضوعات الدراسة السياسية. من تلك التعريفات ذلك القول الشائع: "من يحصل على ماذا, متى وكيف؟ " الذي وضعه هارولد لا سويل كعنوان فرعي لكتابه المبكر في "السياسة" والذي عرف فيه الدراسة السياسية بأنها دراسة للنفوذ وللتأثير وذوي السطوة. وفي موقع آخر من الكتاب يصف التحليل السياسي بأنه بحث التغيرات التي تطرأ على شكل وتكوين نمط القيم التي يؤمن بها المجتمع2. أما أيستون, فقد عرف علم السياسة بأنه دراسة مدى تأثير استعمال وتوزيع السلطة على المكانة المرعية للقيم في المجتمع3. وغير خافٍ أن نقطة الضعف الرئيسية في تلك التعريفات -كما يقول فان دايكه- هي غموضها وصعوبة تفسير المصطلحات الرئيسية الواردة بها, أو على أحسن الفروض فإنه يمكن تطبيقها في مجالات متعددة بحيث تتضاءل فائدتها كتعريفات سياسية. مثلا: ما هو التأثير؟ وكيف يمكن تعريف من له سطوة؟ وهل العنوان الفرعي المذكور أعلاه يعود بالضرورة إلى دراسة سياسية؟ وما المقصود بمجموعة المصطلحات التي تتحدث عن القيم ونمط القيم وشكل وتكوين ذلك النمط؟

_ 1 G.J. Friedrich, Man and His Government, op. cit., p. 163. 2 Harold D. Lass well, World Politics and Personal Insecurity, New York 1935, p. 3. 3 David Easton, The Political System, New York i953, p. 146.

إن التأثير مثلا يمكن أن يمارسه المحامي على المتهم الذي يترافع عنه، والطبيب على المريض الذي يعالجه، والمعلن على المشتري المحتمل للسلعة، أي: إن المحامي والطبيب والتاجر المعلن يمكن افتراض أنهم من ذوي التأثير, بل والسطوة أحيانا. رغم ذلك، فإن الدراسة التي تبحث في النفوذ والسطوة من تلك الزاوية لا تكون بالضرورة دراسة سياسية. بالمثل، فإن السؤال المركب: "من يحصل على ماذا, متى وكيف؟ " لن يساعد كثيرا على تعريف مجال السياسة, أو نوع الدراسات التي يجب القيام بها في هذا الحقل. بل أكثر من ذلك, يمكن القول: إن هذا السؤال قد يساعد بنفس القدر من الفعالية في توجيه دراسات تجري عن السرقة, أو الجنس. إذا انتقلنا إلى اصطلاح القيم واجهنا نفس الصعوبة, بمعنى أنه لا يساعد كثيرا في دراسة ما هو سياسي. فالقيم التي عددها لا سويل في كتابه نجد بينها الحب والسعادة والمهارة والتنوير. وأية دراسة لشكل وتكوين نمط تلك القيم لن تكون بالضرورة دراسة سياسية. لهذا فإن شيئا محددا لا بد من إضافته للمصطلح الأساسي "القيم" حتى يمكن تعريف, ودراسة ما هو سياسي. من هنا تمثل الإضافة التي وضعها أيستون تقدما نحو توجيه النظر ليس إلى كل القيم, وإنما إلى تلك القيم المرعية في مجتمع ما وليس لدى جماعة عابرة. معنى ذلك أن تلك القيم إذا لم تكن متأثرة بتوزيع واستعمال السلطة, فإن الدراسة لا يمكن اعتبارها سياسية. ورغم الفائدة التي قد يمكن الحصول عليها من ذلك البحث تظل بعض الشكوك معلقة حول حقيقة المقصود من مصطلحات مثل قيم ومرعية بحيث يصعب وضع تعريفات مرضية لها مما يرجح الأخذ إلى حد ما بالتعريف المبسط الوارد في بداية هذا البند.

المبحث الخامس: عملية صنع القرار

المبحث الخامس: عملية صنع القرار مدخل ... المبحث الخامس: عملية صنع القرار ينظر بعض علماء القانون والتاريخ الفرنسيين وكذلك بعض علماء الاجتماع الأمريكيين، ينظرون إلى علم السياسة نظرة متعالية على أساس أنه ذلك العلم الحديث الذي نشأ ليهتم "ببقية" residu الموضوعات التي

أهملتها العلوم الاجتماعية الأخرى؛ مما دعا البعض إلى تسميته Science residuelle. من تلك الموضوعات المتبقية التي أثرت في تحديد مجال نشاطه: عملية صنع القرار السياسي، الانتخابات، الأحزاب السياسية، الجماعات الضاغطة. يعترض عالم الاجتماع السياسي موريس ديفرجيه على هذه النظرة, ويرى أنه وإن كان صحيحا أن العلوم الاجتماعية الأخرى أهملت تلك الموضوعات -والتي صارت فيما بعد مجال التخصص الدقيق لعلم السياسة- إلا أنه من غير المتصور قصر نطاق ذلك العلم الحديث على تلك الموضوعات "المتبقية" أو "الفضلات". ينطلق ديفرجيه في نقده ليس بوازع من الذود عن الكرامة, وإنما بهدف دعم إمكانيات البحث العلمي. فلكي يتم تحليل السلطة السياسية أو الدولة بأسلوب علمي يجب في رأيه عدم الاقتصار على تناولها في بعض مظاهرها المنعزلة أو المتفرقة. بدلا من ذلك، يجب تحليلها في كافة صورها وبأسلوب مقارن. بمعنى أن المتخصص في علم السياسة يتحتم عليه دراسة الموضوعات "المتبقية" وكذلك تلك التي عالجتها العلوم الاجتماعية الأخرى؛ ذلك لأن هذه الأخيرة تشكل "موضوعا مشتركا" بالنسبة لكل من علم السياسة, والعلوم الاجتماعية1. فما هي حقيقة تلك الموضوعات "المتبقية" التي ثار بشأنها الجدل؟ سنشير فيما يلي إلى بعض منها. تعتبر عملية صنع القرار من السمات البارزة للسياسة, رغم أنها كمدخل مميز للبحث لم تنل حتى وقت قريب ما نالته غيرها من الاهتمام كالمؤسسات

_ 1 M. Duverger, methodes De La Science Politique op. cit., pp. 23, 24, cf. pp. 25 pp. 25, 26. انظر كذلك الأستاذ الدكتور عبد الرضا حسين الطعان، علم السياسة "المحاولات السلبية لتحديد موضوعه". بغداد 1970، ص124.

والقانون والسلطة السياسية. إن كل عمل يعكس قرارا, كذلك -بشكل ضمني- كل إحجام عن العمل. فالمؤيدون لحزب سياسي مثلا يقررون أي المرشحين سيختارون, والناخبون يقررون هل سيدلون بأصواتهم ولمن؟ المشرعون يتخذون قرارات حول المقترحات التي سيتقدمون بها أو سيؤيدونها. ورجال الحكومة يقررون بدورهم أي القوانين البرلمانية يسعون إلى استصدارها أو الاعتراض عليها, وأي الخطوات يجب اتخاذها لتنفيذ القانون. عملية صنع القرار إذًا عملية متشعبة, تتضمن الاختيار بين كثير من الوسائل والأهداف. ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك التشعب, وكثرة البدائل إلى احتمال حدوث تداخل بين الدراسات التي تتناول الموضوع1. ويمكن تصنيف عملية صنع القرار بطرق متعددة تصلح -منفردة أو مجتمعة- كمداخل للبحث نذكر منها: أولا: نوعية القرار من حيث الجهة التي تصنعه، وما إذا كانت فردا أو جماعة ما أو مؤسسات أكثر عمومية وشعبية كالبرلمانات والأحزاب. ثانيا: نوعية القوى والعوامل والأساليب المؤثرة في صنع القرار، ونقصد بها القوى المادية والمعنوية للجماعات الضاغطة، والعوامل الذاتية لصانعي القرار والأساليب المستقاة من نظرية اللعبة.

_ 1 Roland Young, Approaches to the Study of Politics op. cit., pp. 363 ff, peter H. Rossi "Community Decision Making", in: Administrative Science Quarterly, 1, March 1957, p. 415, cited by Dyke, p. 149.

أولا: نوعية القرار من حيث الجهة التي تصنعه

أولا: نوعية القرار من حيث الجهة التي تصنعه 1- القرار الفردي lndividual decision: وهو ذلك القرار الذي يصنعه شخص واحد, سواء كان مواطنا عاديا أو مسئولا إداريا. وفي كل من هاتين الحالتين يحسم الفرد أمرا يدخل بأكمله في حدود

اختصاصه. قد يقدم هذا الشخص على صنع القرار بمفرده تماما، كما قد يستأنس في ذلك بنصيحة آخرين. وسواء أقدم على هذا أو ذلك, فإن كيفية التصرف الذي يستقر عليه رأيه هو نفسه قرار، وإن كان من الواجب عدم استبعاد تأثير العادات والتقاليد, أو القواعد والنصوص الإدارية أو الدستورية في بعض تلك الاختيارات. من أمثلة القرارات السياسية التي يستأثر بصنعها المواطن الفرد الاشتراك في صحيفة يومية معينة دون أخرى, أو تحديد موقفه في انتخابات ما أو استفتاء شعبي. من ذلك أيضا ما يحدث في بعض الدول المتقدمة من إرسال الفرد خطابات أو برقيات إلى ممثله في المجلس النيابي يحثه على اتخاذ موقف معين, أو يحتج على موقف آخر. بالمثل، فإن المسئول الإداري الفرد يصنع قراراته بنفسه فيقوم بالبت في موضوع ما أو شكوى معينة, أو توجيه نقد إلى أحد مرءوسيه, أو كتابة تقرير إلى مستويات إدارية أعلى, وهكذا. 2- القرار الجمعي Group decision: وهو القرار الذي يصنعه جمع, أو جماعة من الأفراد نتيجة عمل مشترك, سواء تم التوصل إليه بالإجماع, أو بنوع من الأغلبية لكن بعد تبادل المشورة. من ذلك مثلا القرارات التي تصنعها اللجان التشريعية أو المحاكم, والكثير غيرها من الهيئات التي تعمل دون مشاركة شعبية عامة مع السماح للمعارضين -أحيانا- بإبداء أسباب اعتراضهم. وتتمتع هذه القرارات بقدر أكبر من الحجية كما هو الحال مثلا في الأحكام التي تصدرها محكمة استئنافية مقارنة بالنمط السابق, حيث يقوم قاضٍ واحد في محكمة أدنى درجة بصنع قرار فردي. 3- القرار العام public decision: وأهم ما يميزه عن النوع السابق هو المناقشة التفصيلية الواسعة التي يتم معظمها علنا؛ تمهيدا لعملية تصويت تتسم بالشعبية تسبق صنع القرار. وتتمتع القرارات

التي يتبع هذا الأسلوب في صنعها بقدر أكبر من الإلزام والديمومة. لهذا فهو نمط مناسب لعملية سن القوانين ووضع السياسات الطويلة المدى التي تحتاج لتأييد شعبي واسع, وقواعد إجرائية تفصيلية من جانب المؤسسات الحزبية, واللجان البرلمانية. يجمع بين تلك الأنماط الثلاثة سمات مشتركة تشكل جوهر عملية صنع القرار. وأهم هذه السمات هي أنها قرارات تحدد التصرف أو العمل الذي يمكن اتخاذه في مواجهة مشكلة ما تمثل عقبة كأداء أمام صنع القرار. أي: إنه إذا لم تكن هناك مشكلة لانتفت الحاجة إلى صنع قرار مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أن عملية الصنع تلك ما هي في الواقع إلا اختيار بين عدة بدائل مطروحة1.

_ 1 Carl J. Friedrich, Man And His Government, op. cit., pp. 76, 77.

ثانيا: نوعية القوى والعوامل والأساليب المؤثرة في صنع القرار

ثانيا: نوعية القوى والعوامل والأساليب المؤثرة في صنع القرار من أهم نماذج تلك القوى الجماعات الضاغطة، نناقش بعدها العوامل الذاتية لصانعي القرار، ثم الأساليب المستمدة من نظرية اللعبة. 1- الجماعات الضاغطة Pressure groups or lnterest groups: ويسميها بعض العلماء جماعات المصلحة, وهما اصطلاحان مترادفان. والفرق الوحيد بينهما -إن كان ثمة فرق- هو أن جماعة المصلحة قد تكون مؤقتة أحيانا, بمعنى أنها تتكون لتلبية حاجة ما أو حل مشكلة معينة، فإذا قضيت انحلت الجماعة وانتهى أمرها. أ- الجماعات الضاغطة جماعات اختيارية توجد في كل النظم السياسية, بل وتدل الأحداث التاريخية على أنها كانت معروفة بشكل, أو بآخر في كل العصور.

رغم ذلك, فإنه وإن كانت علاقات التأثير والضغط موجودة دائما, إلا أنها تعكس في الأزمنة الحديثة الحاجات والآراء والطموحات المتعارضة في مجتمعات وصل تطورها إلى درجات عالية من التعقيد1. وتمارس تلك الجماعات ضغوطا على الأوساط السياسية والاقتصادية حتى تصدر قراراتها محققة لمصالحها, لكن ليس هناك حجم معين أو شكل محدد لتلك الجماعات، فقد تكون كبيرة جدا وقد تكون صغيرة غير أنها في كثير من الأحوال غامضة وغير محددة تماما. هنالك ملاحظة عامة تجدر الإشارة إليها قبل الدخول في التفاصيل؛ فحيث إن تلك التنظيمات لا تتواجد في فراغ وإنما في مجتمعات، فإنه يترتب على ذلك أن بنية كل منها ونشاطاتها تتأثر بشكل مباشر بدرجة تطور المجتمعات التي تتواجد فيها, وما إذا كانت مجتمعات عصرية متقدمة أو تقليدية متخلفة؛ مما يؤدي بالتالي إلى تباين كبير في شكل ومضمون ونتيجة الدور الذي تقوم به الجماعات الضاغطة في كل من هذين النوعين من المجتمعات. يقسم العلماء2 تلك الجماعات إما تبعا لبنيتها ونشاطاتها والفروق

_ 1 بعد اطلاعنا على ملخصات وافية بالفرنسية للكتابات الجديدة في موضوع الجماعات الضاغطة, ننصح في حالة عمل دراسات متخصصة, أو رسائل أكاديمية حول هذا الموضوع بضرورة الاطلاع على المقالات الثلاث التالية باللغة الإيطالية, وعلى المقالة الأخيرة بالأسبانية. J. Klofac, Che cosa i " gruppi di pressione" ? ; S. Monti- Bragadin, "Note su gruppi di intersse e Pressione", in: Gontrocorrente 6 (1-3) , Janv. Sept. 74; L. Dion, "Alia ricerca di un metodo di analisi der partiti e dei gruppi di interesse "in: Controcorrente 6 (1-3) , Janv. -Sept. 1975; L.A. Lopez Escutia, " Los grupos Pluralistas y la demo-cracia", in: Pensamiento Politico, 54,! Oct. 73. 2 Maurice Duverger, Introduction a La Politique, Gallimard, Paris 1964, pp. 201, 203 ff, Jean Meynaud, Groupes De Pression, que sais-je ? Paris 1965, pp. 12-18.

بينها وبين الأحزاب والدول, وإما وفقا لدورها الهام كمرآة تعكس بدقة الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والصراعات الأيديولوجية في الدولة موضوع البحث. ويهتم هذا التصنيف الأخير بتقسيم الجماعات الضاغطة إلى منظمات مهنية هدفها الأساسي الحصول على منافع مادية للمنتسبين إليها, أو حماية أوضاعهم المكتسبة، ثم إلى تجمعات ذات نزعة أيديولوجية وإن كانت متنافرة جدا تهدف إلى الدفاع عن مبادئ أو أوضاع روحية أو أخلاقية معينة. لكن يجب عدم المغالاة في تقدير أهمية هذه التصنيفات؛ إذ الغرض منها هو زيادة التوضيح, فكثير من الجماعات تستطيع الانتساب بصورة معترف بها إلى هذا النوع, أو ذاك من التنظيمات. من حيث البنية، يمكن تقسيم الجماعات الضاغطة إلى جماعات جماهيرية, وأخرى قيادية. أما الأولى فهي ذات عضوية واسعة مثل: نقابات العمال والفلاحين وحركات الشبيبة واتحادات المحاربين القدماء, بينما تشتمل الجماعات الضاغطة القيادية على طوائف اجتماعية أقل عددا وإن كانت أقوى تأثيرا, وهي تضم غالبا نوعا مميزا من النخبة في مجال نشاط معين في المجتمع مثل: اتحاد الصناعات، واتحادات كبار الموظفين أو التكنوقراط، واتحادات الكتاب. ويميل البعض إلى تصنيف تلك الأخيرة على حده بالنظر إلى المهمات النبيلة التي تضطلع بها, شأنها في ذلك شأن جماعات المفكرين والأكاديميين ... إلخ. من حيث النشاط1, يتخذ تحرك الجماعات الضاغطة أشكالا متعددة وإن كانت متداخلة. فهو أحيانا نشاط مباشر يتمثل في بذل المساعي لدى السلطة الحكومية أو البرلمان، وفي أحيان أخرى هو نشاط غير مباشر يؤدي إلى تحريك الجماهير, وبالتالي التأثير في الحكومة عن طريق الحملات

_ 1 M. Duverger, lntroduction a La Politique, op. cit., p. 205, Jean Meynaud, Les Groupes, De Pression, op. cit., pp. 40-42.

الصحفية, أو التظاهرات والإضرابات والاعتصامات. قد يكون نشاط الجماعات الضاغطة علنيا صريحا أو سريا مموها, وينعكس هذا بالتبعية في الوسائل المستخدمة فتكون وسائل قانونية شريفة تتفق والنظام العام, أو تلجأ إلى وسائل الإفساد المتعددة أو العنف. يؤثر في كل تلك الظواهر السياسية والقانونية والاقتصادية اعتبارات هامة تتعلق بعدد مؤيدي الجماعات الضاغطة, وإمكانياتهم المالية, وتنظيمهم الداخلي وولائهم. وتؤدي تلك العوامل مجتمعة إلى تحديد مدى فعالية تلك الجماعات الضاغطة فتمنحها القوة, أو تمنعها من وضع تكتيكات للتوجه إلى الرأي العام أو مفاتحة الحكومة أو السلطة التشريعية. بل قد تصل قوة إحداها إلى حد الاعتراف بها قانونا كشريك في صنع قرار سياسي ما. لكن الجماعات الضاغطة تختلف عن الأحزاب1 من حيث إنه يندر أن يكون جل نشاط تلك الجماعات نشاطا سياسيا. فهي لا تشترك بشكل مباشر في محاولة الاستيلاء على السلطة أو في ممارستها, وإنما تكتفي بالضغط فقط. أي: إنها تحاول التأثير في المسئولين مع عدم السعي إلى وضع رجالها بطريقة مكشوفة في السلطة, مع إمكان ورود بعض الاستثناءات على ذلك. لا ينفي هذا طبعا وجود علاقات خاصة بين الجماعات الضاغطة, وبعض الأحزاب تؤثر تأثيرا كبيرا في النشاطات السياسية والاقتصادية للدولة. وتتخذ تلك العلاقات صورا متعددة يغلب عليها أحيانا طابع الحياد فتلتزم الجماعة الضاغطة جانب الحذر من التدخل في الانتخابات والصراعات الحزبية, أو تطلب من منتسبيها التصويت لصالح المرشح الذي يؤيد مطالب الجماعة, بغض النظر عن انتمائه الحزبي.

_ 1 lbid., pp. 43-46, M. Duverger, lntroduction a La Politique op. cit., pp. 201, 202.

هناك صورة ثانية أكثر شيوعا تتمثل في إقامة علاقات وطيدة بين الجماعة الضاغطة, وحزب معين يتم من خلالها تبادل المصالح والمنافع, إذ تقوم الجماعة بدعم الحزب في الانتخابات وتقديم الإعلانات المالية إليه, بينما يتولى الحزب الدفاع عن مطالب تلك الجماعة. تبدو الصورة الثالثة واضحة في بعض الدول المتقدمة, حيث يتمكن أحد الأحزاب القوية التنظيم من تحويل بعض الجماعات الضاغطة إلى منظمات ملحقة فيشرف عليها, ويضع الخطوط العريضة لتحركاتها من خلال أعضائه القياديين الذين يسيطرون على تلك الجماعات, كما يقوم بالدفاع عن مصالحها سواء داخل البرلمان أو خارجه. ويعطي ديفرجيه مثالا على ذلك بالحزب الشيوعي في فرنسا الذي برع في هذا النوع من التكتيك, إذ تضم الجماعات الضاغطة التي يستطيع التأثير فيها عضوية واسعة من المتعاطفين, وغير المتعاطفين مع الحزب. من أمثلة تلك الجماعات: اتحاد النساء الفرنسيات, واتحاد الشبيبة الجمهورية، والمناضلون من أجل السلام. ولا يجب أن تخفي هذه الصورة الأخيرة وضعا آخر مغايرا لها تماما. فكما يسيطر الحزب أحيانا على جماعة أو جماعات ضاغطة، فإنه على العكس من ذلك قد يكون الحزب نفسه مجرد واجهة للمصالح الحيوية لإحدى الجماعات الضاغطة القوية, ومثال ذلك حزب المحافظين كواجهة للاحتكارات في بريطانيا. هذا, وقد سبقت الإشارة إلى أن الجماعات الضاغطة توجد في كل النظم السياسية, وليس في الدول الرأسمالية فقط. ففي الاتحاد السوفيتي على سبيل المثال، هناك تعدد في مراكز صنع القرار, وإن بدا ذلك بشكل آخر. فالهيئات الإدارية والوزارات والمؤسسات العامة والتعاونيات المحلية تلعب دور الجماعات الضاغطة في علاقتها بالسلطة المركزية, وغيرها من مراكز صنع القرار, وخاصة الحزب الشيوعي السوفيتي ومجلس السوفيت الأعلى1.

_ 1 lbid., pp. 206, 207.

ومن وجهة نظر القانون الدولي العام، تختلف الجماعة الضاغطة عن الدولة من حيث إنها لا تتمتع بحق السيادة، وليس لها بعثات دبلوماسية "باستثناء الفاتيكان"، ولا تمتلك إقليما معينا وإنما تزاول نشاطها في دولة واحدة, أو عدة دول. وهناك بعض أوجه الشبه بين ما سبق ذكره, وبين بعض التنظيمات على الصعيد الدولي بحيث يمكن اعتبارها بشكل من الأشكال كجماعات ضاغطة تعكس مصالح دولية مختلفة, قد تكون اقتصادية أو سياسية أو دينية أو مزيجا منها. من أمثلة الجماعات الضاغطة الاقتصادية السياسية منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك" والشركات المتعددة الجنسية والاتحاد العالمي لنقابات العمال. وتعتبر الكنيسة الكاثوليكية في روما, وكذلك الوكالة اليهودية من الجماعات الضاغطة الدينية السياسية. ومن أمثلة جماعات الضغط السياسية الكومنترن والكومنفورم فيما مضى، وتنظيم الدولية الاشتراكية حاليا. وباستخدام وسائل البحث الحديثة يمكن دراسة الجماعات الضاغطة في كل دولة. وليس كذلك الحال بالنسبة لاستقصاء تأثير هذه الجماعات على العلاقات الدولية1, والمنظمات الإقليمية والعالمية, إذ يصادف الباحث صعوبات جمة؛ لأن الجماعات الضاغطة القوية تمارس نشاطاتها كما سبقت الإشارة بشكل غير مباشر, وأحيانا بطرق خفية وملتوية, مستخدمة في ذلك شبكة معقدة من الاتصالات الشخصية مع القائمين بالسلطة أو طرقا متعددة للتأثير على الرأي العام لاستمالته إلى المواقف التي تخدم مصالحها, وذلك من خلال وسائل الإعلام العصرية المتقدمة. ب- استعرضنا أعلاه كيفية الاستفادة من الخصائص العامة للجماعات الضاغطة كمدخل للبحث, وتناولنا أنواعها المختلفة وعلاقاتها المتبادلة والفروق الأساسية التي تميز

_ 1 T. Mathisen, Methodology ln The Study of lnternational Relations, op. cit., pp. 148-156, cf. M. duverger, Methodes de La Science Politique, op. cit., pp. 331, 332.

بينها وبين الأحزاب وبين الدولة كشخص من أشخاص القانون الدولي العام. ثم نستعرض فيما يلي بإيجاز أيضا كيفية الاستفادة من مداخل أخرى للبحث تتمثل في الدراسات التي اهتمت بالعلاقة بين الجماعات الضاغطة, وظاهرتي السلطة والنفوذ مع إبراز القوى المادية, والمعنوية التي تؤثر في صنع القرار. تهتم الدراسات المتعلقة بالجماعات الضاغطة, بالتركيز على أسلوب استخدام السلطة والنفوذ غير الرسميين. وتحسن التفرقة بادئ ذي بدء بين حالتين: الأولى إذا اقترنت محاولة الفرد للتأثير في سلوك آخر بإمكانية توقيع الجزاء عليه. في هذه الحالة يمارس الفرد الأول سلطة, أما إذا لم تتوفر له تلك القدرة فإنه في هذه الحالة الثانية يمارس نفوذا فقط. ويمكن معالجة ذلك النوع من الدراسات تحت ثلاثة أقسام فرعية: - دراسات تهتم بالعوامل الكامنة للسلطة والنفوذ. - دراسات تهتم بالشهرة كمؤشر على تمتع البعض بالسلطة والنفوذ. - دراسات تهتم بالسلطة, والنفوذ الواقعيين. تتناول الدراسات في القسم الأول العوامل, أو القدرات الكامنة لدى الأفراد الذين يتولون السلطة أو يمارسون النفوذ. مثال ذلك الموارد المادية التي لديهم, أو المناصب التي يشغلونها كما هو الحال في أصحاب الثروات الضخمة أو المسيطرين على وسائل الإعلام أو زعماء الاتحادات والهيئات المختلفة كالغرف التجارية, والنقابات العمالية ... إلخ. من الواضح أن هؤلاء جميعا يفترض أنهم يمتلكون القدرة المادية, أو يحتلون مراكز عامة وحساسة تمكنهم من ممارسة الإقناع والإكراه أو كليهما معا. بهذا الشكل يمكن أن يعزى قرار لمسئول حكومي استنتاجا بأنه نتيجة السطوة, أو النفوذ الذي مارسته عليه هيئة خاصة, أو نقابة ما. ومن المفيد علميا وعمليا حسن تقييم الأداة الرئيسية التي تستخدمها الجماعات الضاغطة في عالمنا المعاصر للحصول على التأثير المطلوب المؤدي إلى

صنع قرارات تتمشى ومصلحتها، تلك الأداة الرئيسية تتمثل في العامل الاقتصادي الذي تتم ممارسته وفقا لمصلحة الجماعة الضاغطة, وللظروف المحيطة من حيث الرغبة في تحريك ردود فعل معينة, أو تجنبها. وتعد الانتخابات الأمريكية للرئاسة أحد الأمثلة على ذلك من حيث محاولة المرشح الجمهوري الحصول على تأييد الجماعات الضاغطة المكونة من رجال الأعمال لضمان الحصول على ترشيح حزبه كممثل له في تلك الانتخابات. بالمثل يحاول المرشح الديمقراطي جمع تأييد الاتحاد العام لنقابات العمال كعنصر هام يضمن ترشيح الحزب الديمقراطي ليمثله في الانتخابات1. في القسم الثاني، تتناول الدراسات آراء عدد من الأفراد المرموقين ممن يطلق عليهم عادة الدوائر المطلعة, والذين يطلب منهم تحديد الشخصيات التي يرون أنها في مركز السلطة والنفوذ في مجتمع ما، أي: إن تلك الشخصيات سيتم تحديد مدى تمتعها بالنفوذ والسلطة بمقدار ما تحظى به من شهرة2. في القسم الثالث، تتناول الدراسات السلطة والنفوذ الواقعيين للجماعات الضاغطة. قد تكون هناك دراسة توضح كيف, أو إلى أي مدى استطاعت جماعة من تلك الجماعات التأثير في صنع قرار أو مجموعة من القرارات

_ 1 Jean Meynaud, Les Groupes De Pression, op. cit., p. 55; cf. C. Wright Mills, The power Elite, New York 1956, cited by Dyke 151; V. O. Key, Jr., Politics, Parties & Pressure Groups, op. cit., pp. 17, 18, 159; cf. Maurice Duverger, Les Partis Politiques. HuitiemeEd., Prais 1973 "premiere ed. 1951", p, 176. 2 Floyd Hunter, Community Power Structure, A study"rr" of Decision Makers, Chapel Hill 1953, reviewed in: Public Administration Review, 14, Summer 1954, pp. 205-212, cited by Dyke., p. 152; cf., J. Meynaud, Les Groupes De Pression, op. cit., pp. 26ff.

المختلفة1. كما قد تجرى دراسة أخرى تتضمن محاولة لبحث تاريخ قانون ما, أو الموافقة على صرف إعانات ضخمة نتيجة لضغوط جماعات معينة في المجلس النيابي مثلا، وبحث مدى السلطة والنفوذ غير الرسميين اللذين تمت ممارستهما لإصدار القانون أو تقرير الإعانة، والوسائل المشروعة وغير المشروعة التي اتبعتها الجماعات الضاغطة في هذا المجال. من أوضح الأمثلة على ذلك السطوة غير العادية للجماعات الصهيونية واليهودية على السواء2, وما تمارسه من وسائل الإغراء والإرهاب ضد أعضاء مجلس الكونجرس الأمريكي لإكراههم على اتخاذ مواقف تتعارض تماما مع المصالح الأمريكية, وخاصة في الشرق الأوسط وتتفق مع المصالح التوسعية, والعنصرية الضيقة لإسرائيل. 2- العوامل الذاتية لصانعي القرار: تختلف الدراسات هنا من حيث الطبيعة, والمجال عنها بالنسبة للدراسات الأخرى حيث يعتمد على تاريخ حياة المسئولين وخلفياتهم وسلوكهم. ويرى أنصار التحليل النفسي أن الحصول على تقرير عن الحالة العقلية لشخص ما قد يغني عن تاريخ كامل لسيرته, اكتفاء بتعرية الدوافع الكامنة لديه. لم يجد ذلك المدخل تأييدا عاما بين علماء السياسة, وإنما تعرض لنقد شديد بسبب خلطه بين أشياء ومستويات مختلفة. فمثلا في حالة توجيه أسئلة عن الأسباب التي دعت الزعيم الروسي لينين إلى تطوير الماركسية, ووضع نظريات جديدة للقضاء على النظام القيصري بالأسلوب الثوري, وليس عن طريق الانتخابات

_ 1 Earl Latham, The Group Basis of Politics, 1952, cited by Dyke, p. 152, M. Duverger, Les Partis Politiques. op. cit., pp. 175-178. 2 V. O. Key, Jr., Politics, Parties & Pressure Groups op. cit., p. 112, محمد محمود ربيع، أزمة الفكر الصهيوني المعاصر، القاهرة 1971، ص131.

بالمفهوم الغربي, ثم الاشتراك في صنع القرارات التي أدت إلى ثورة أكتوبر الاشتراكية وتأسيس الاتحاد السوفيتي، لا يكفي للإجابة على كل ذلك القول بأن الدوافع الكامنة لديه كانت هي حكم القيصر بالإعدام شنقا على شقيق لينين. تمثل تلك الإجابة تبسيطا ساذجا للحقيقة لا يقبله البحث العلمي. ورغم أنه لا بأس من معرفة الجذور النفسية والظروف العائلية, إلا أنه لا بد من تحليل ودراسة جوهر نظرياته ومدى صحتها وفعالياتها. إنه من غير المعقول منطقيا في رأي بريشت دحض نظريات, أو اكتشافات علمية اعتمادا على روايات وأقاصيص عن حياة الصبا أو التجارب السعيدة أو التعسة في حياة هذا أو ذاك من العلماء والمفكرين1. هناك دراسات أخرى تركز على عدد كبير نسبيا من الأفراد الذين يكونون الصفوة في المجتمع كأعضاء المجلس التشريعي, أو قضاة المحكمة العليا. في هذه الحالة، يتم استقصاء صفات معينة كالوضع الطبقي والجذور العرقية والسن والتعليم والانتماء الديني والتدرج الوظيفي أو المهني ومستوى الدخل والميول الأيديولوجية. من البديهي أن مثل هذا الاستقصاء لا يجدي في حالة اشتراك أعداد غفيرة في صنع القرار كالناخبين مثلا. ولا مناص في هذه الحالة من الالتجاء إلى أسلوب المسح عن طريق العينة2.

_ 1 A. Brecbt, Political Theory, op. cit., p. 13. 2 Donald R. Mathews, The Social Background of Political Decision Makers, Garden City 1954; John R. Schmiclhauser, "The Justices of the Supreme Court: A Collective Portrait", In: Midwest Journal of Political Science, 3, Feb. 1959, pp. 1-57; H.D. Lasswcll, et. a!., Comparative Studies of Elites: An Introduction and Biblio-graphy, Stanford 1952, cited by Dyke, pp. 150,151; cf.H. McClosky, Political Inquiry, op. cit., pp. 33,34.

تفيد الدراسات من هذا القبيل في تحقيق هدفين؛ فهي تزودنا بمعلومات عن نوعية الأشخاص الذين يشتركون عادة في الانتخابات, أو نوعية هؤلاء الذين يشغلون عادة مراكز قيادية في العمل السياسي أو الحكومي. كذلك تساهم تلك الدراسات في تفسير السلوك السياسي, والتنبؤ به. من الواضح أن التوقعات التي نعلقها على مثل تلك الدراسات يمكن أن تتحقق إذا كان موضوع الاستقصاء فردا أو أفرادا قليلين، وبشرط أن تكون المعلومات المطلوبة متاحة. أما حيث تكون هناك أعداد غفيرة, فإن الاعتبارات العملية تفرض قدرا أكبر من انتقاء المعلومات المطلوبة. معنى ذلك أنه في هذه الحالة الأخيرة لا يمكن البحث في أهداف, أو قواعد تعتبر خاصة بكل واحد من هؤلاء, وإنما الشائع هو الأخذ بالمعلومات التي يسهل الحصول عليها رغم أنها قد لا تكون هامة بالنسبة لكل أنواع القرارات. وإذا كانت المعلومات صالحة كأساس للتنبؤ, فإن الأرجح أن يغلب عليها الطابع النسبي والاحتمالي. لهذا, فقد نستطيع التنبؤ بأنه من كل 1000 شخص أن 600 منهم سيتخذون قرارا معينا, رغم استحالة التنبؤ بالقرار الذي سيتخذه كل واحد منهم على حدة. يضاف إلى هذا ازدياد عدم القدرة على التنبؤ بسلوك فرد ما, إذا لم يدرج بالبيانات ما قد يطرأ على وضعه ودوره في المجتمع. فالشخص الذي أصبح عضوا في البرلمان, أو قاضيا قد يستمر, أو لا يستمر في التأثر في مركزه الجديد بنفس العوامل التي كانت تؤثر فيه سابقا، أو يتأثر بالعوامل التي تؤثر عادة في أفراد في مثل وضعه المادي باستثناء مركزه الجديد. بينما قد يعرض المركز الجديد هذا الشخص لضغوط وتوقعات جديدة, ويفتح أبعادا أخرى أمامه مما ينتج عنه سلوك أكثر اتفاقا مع الوضع, أو الدور الجديد. هذا, ويجمع بعض الباحثين بين المدخلين السابقين في مدخل واحد. فبدلا من التركيز على استقصاء خلفية وظروف صانعي القرارات أو قوة وثقل

الجماعات الضاغطة، فإن المدخل الجديد الذي تركز عليه الدراسات هو على أفراد يشتركون في عملية صنع قرارات معينة. وقد تم تطبيق ذلك المدخل بأشكال مختلفة سواء تلك المرتبطة بتجارب حية من واقع الحياة, أو بتجارب معملية. ولا ننسى أن نسبة عالية من الكتابات القديمة والمعاصرة في السياسة ونظم الحكومات عالجت عملية صنع القرار، كما أن بعض الدراسات المتقدمة حول السلوك الانتخابي هي دراسات في صنع قرارات معينة عن طريق أخذ العينات, وعمل النماذج التوضيحية1. إن أكثر الدراسات تحليلا لهذا المدخل هي دراسة ريتشارد سنايدر التي رغم اهتمامها الأساسي بالسياسة الدولية, فإنه يمكن تطبيقها أيضا في السياسة الداخلية2. يرى سنايدر أن اللجوء لهذا المدخل يستلزم أولا وبداهة اختيار القرار موضوع البحث, وهو قرار يفترض أنه قد تم اتخاذه بالفعل, وأن الهدف هو التفسير وليس التنبؤ. جنبا إلى جنب مع اختيار القرار يتم تحديد الجهة التي صنعته, سواء أكان فردا مسئولا أو وكالة حكومية أو الحكومة بأكملها. لكي تبدأ عملية تفسير القرار يلزم معرفة الوضع, والإطار التنظيمي الذي اتخذ في ظله ذلك القرار مع الإحاطة بالسمات المركبة التي قد ترتبط بذلك

_ 1 Samuel J. Eldersveld.," Theory and Method in Voting Behaviour" Research", In: Journal of Politics, 13 Feb. 1951, pp. 70-87, cited by Dyke, p. 152; H. McClosky Political Inquiry, op. cit., pp. 276°. 2 Richard C. .Snyder, "A Decision - Making Approach to the study of Political Phenomena", in: Roland, Young, ed, Approaches to the study of Politics, op. cit., pp. 3-38; R. G. Snyder,l et. al., Decision-Making as an Approach to the Study of International Politics, Princeton 1954, cited by Dyke p. 152.

الإطار. مثلا يستدعي صنع القرارات الهامة في السياسة الخارجية أن نأخذ في الاعتبار كمية ضخمة من المعلومات الخاصة بعدد من الدول في المجالات السياسية, والاقتصادية, والعسكرية. أما إذا افترضنا أن عملية صنع القرار تمس عددا من الأشخاص, فإن أسئلة لا بد وأن تثار حول الدوافع ومجالات اختصاصاتهم وشبكة الاتصالات والإعلام المتاح. يكمل ذلك أن البيانات التي يحتاجها البحث في معظم الطرق المعروفة المشار إليها, يحتاج إليها أيضا ذلك المدخل الذي يركز على الأشخاص في عملية صنع القرار. من الواضح أن هؤلاء الأشخاص قد يتأثرون بنشاطات جماعات الضغط, وأن النتائج التي سيصلون إليها قد تكون محكومة بأوضاعهم, وظروفهم الخاصة مما يمكن معه تصنيف المدخلين السابقين اللذين تناولا عملية صنع القرار ضمن هذا الأخير. هذا. وقد تكون الرغبة في السلطة من بين الدوافع التي تتضمنها عملية صنع القرار تماما, كما هو الحال بالنسبة لبعض المعلومات التي قد تكون لها علاقة به كالمعلومات السيكولوجية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية, أو الإطار القانوني, أو العرفي الذي تتم داخله هذه العملية. تكمن نقطة الضعف الرئيسية لهذا المدخل في طابع الشمول الذي يتصف به. فإذا تم فعلا دراسة القرارات بالشكل الشامل الذي يقترحه تحليل سنايدر، فإن عددا قليلا نسبيا من تلك القرارات هي التي سيكون ممكنا عمليا وضعها قيد البحث. ولا يساعد الإطار الذي يقترحه على تبسيط وتسهيل المهام المطلوبة؛ لأنه يشير إلى احتمال ارتباط قدر كبير من البيانات بالقرار, دون تقديم معايير للاختيار بينها. وإذا سلمنا بأن عملية التفسير العلمي يجب أن تكون من الناحية الواقعية عملية انتقائية, لتبين لنا أن الإطار الذي يضعه سنايدر يقترح وجهة نظر مضادة ترى أن يغطي الشرح والتفسير كل شيء. وفي هذا المجال قد يكون مفيدا

الإشارة إلى رأي هيربرت سايمون بأن القرار هو "وحدة ضخمة جدا للتحليل, وأنه يجب تقسيمه إلى الفروض المكونة له"1. 3- نظرية اللعبة Game theory: يمكن تعريف تلك النظرية التي وضعها فون نيومان بأنها مجموعة من العمليات الرياضية التي تهدف إلى إيجاد حل لموقف معين يحاول فيه الفرد جاهدا أن يضمن لنفسه حدا أدنى من النجاح عن طريق أسلوبه في المعالجة رغم أن أفعاله وأسلوبه لا تستطيع تحديد نتيجة الحدث بشكل كامل, وإنما مجرد التأثير فيه2. ويلجأ بعض العلماء إلى هذه العمليات الرياضية كوسيلة مستحدثة في دراسة عملية صنع القرار حيث يشبهون صانعي القرارات باللاعبين في بعض ألعاب التسلية كالشطرنج, والبوكر, والبريدج. وكما أن تصرفات هؤلاء اللاعبين تخضع لقواعد وحسابات دقيقة، فإن تصرفات صانعي القرارات تخضع أيضا لقواعد وحسابات يمكن دراستها بمنهج رياضي, يساعد على التنبؤ بما ستكون عليه قراراتهم, وما ستكون عليه نتائج هذه القرارات. ويتشابه اللاعبون وصانعو القرار في وجود قدر معين من التعاون, والتنازع يسمح بإجراء المقارنة بين العمليتين, فالمشاركون في لعبة البوكر مثلا يصطنعون طريقة الإيهام، ويتبادل لاعبو البريدج الإشارات. ويتطلب كل من الإيهام أو تبادل الإشارات معلومات تشبه تلك التي يحتاج إليها صانعو القرار قبل اتخاذ قراراتهم. وتتوقف اللعبة على نوع المعلومات المتبادلة تماما كما يتوقف

_ 1 Herbert Simon, Administrative Behaviour, quoted by Dyke p. 153. 2 Julius Gould, William L. Kolb, eds., A Dictionary of the Social Sciences, UNESCO, New York 1964, p. 280, حسن صعب، علم السياسة، الطبعة الرابعة، بيروت 1976، ص216.

القرار السياسي على المعلومات التي تتوفر لصانعي القرارات في تعاونهم, أو تنازعهم قبل التوصل إلى قراراتهم. كما يتشابه الطرفان أيضا في حرية الحركة الناتجة من القدرة على الإيهام والتكتل والتواطؤ والمساومة، ومن ثم يتوقف نجاح اللاعب أو صانع القرار على إتقانه لتلك الأساليب. أي: إن النظرية هي عبارة عن محاولة لإيجاد حل بالمعادلات الرياضية لمشكلة اختيار الإستراتيجية المثلى "للاعب" مع أخذ التصرفات المحتملة لخصمه, أو خصومه في الاعتبار. وحيث يكون هناك أكثر من خصم, فإن الإستراتيجية الممكنة هي عمل توفيق أو اتفاق بشرط ألا يكون ذلك ممنوعا بحكم قواعد اللعبة. ورغم أن تلك النظرية يمكن استخدامها لتحليل ألعاب التسلية البحتة كالبوكر، فإن أهميتها للمتخصصين في العلوم الاجتماعية تكمن في التشابه بين ألعاب التسلية التي تشتمل على وضع إستراتيجية, وبين كثير من مواقف الحياة الواقعية التي يدرسها هؤلاء المتخصصون. مثال ذلك المشاكل الاقتصادية للتسعير في ظل المنافسة غير الكاملة, وكذلك مشاكل المساومة الجماعية. تشير كلمة اللعبة في هذه النظرية إلى مجموعة الاصطلاحات والقواعد المتبعة في اللعب, وليس لعملية اللعب الفعلية ذاتها. من ناحية أخرى, تعتبر النظرية مدخلا لبناء نموذج يهدف إلى توضيح الخاتمة التي قد تنتهي إليها مواقف الصراع. لهذا يرى البعض أن النظرية نموذج لمواقف الصراع بين أناس متعددين حيث تكمن الوسائل الرئيسية للحل في التواطؤ, أو التوفيق1. ويهدف دارسو هذه النظرية إلى تطوير خطة قد تساعد صانعي القرار على اختيار مشروع عمل وإستراتيجية لمواجهة موقف يتضمن نوعا من المنافسة

_ 1 R. D. Luce, H. Raiffa, Games and Decisions, New York 1957, p. 10, lbid., p. 280.

أو الصراع مع اللجوء إلى التبسيط, على أمل أن يتيح ذلك سلامة إدراك الموقف, والذي يتعذر تحقيقه بغير ذلك. هذا التبسيط يمكن أن ينعكس في افتراض وجود عدد ضئيل جدا من الأحزاب في حلبة الصراع -اثنين أو ثلاثة عادة- وأن البدائل المطروحة للاختيار أمام كل حزب ضئيلة أيضا، وأن الأهداف التي يسعى إليها كل حزب أو المعايير التي تأخذ بها تلك الأحزاب في الحكم على الأشياء معروفة للجميع. وحيث إن بعض اللعبات -كالبوكر مثلا الذي سبقت الإشارة إليه- تتضمن شكلا مبسطا من المواقف التي تقتضي صنع القرار، فإن دراسة المشاكل أخذت تميل إلى مثل هذه اللعبات, وأصبحت المادة كلها تسمى نظرية اللعبة1, أي: نظرية القواعد والضوابط التي يؤخذ بها في مثل تلك المواقف, أو بالقياس عليها. لقد أصبح هذا المدخل الخاص بدراسة مشاكل الصراع والإستراتيجية مستعملا أيضا في المناقشات النظرية السياسية الدولية, والتخطيط العسكري رغم عدم وجود اتفاق بين المعنيين على إمكان تحقيقه لأية فائدة عملية. فمثلا لخص أحد علماء الاجتماع الفكرة الأساسية في النظرية في معرض دراسته لدور العسكرية الأمريكية بقوله: إنه إذا حدثت تحركات أمريكية حفزت الخصم إلى تصرف معين وترتب على ذلك ردود فعل أمريكية, فإنه عن طريق أخذ ردود الفعل تلك في الاعتبار يمكن رسم إستراتيجية تهدف إلى دفع الخصم, أو إرغامه على اختيار أسلوب عمل مناسب للسياسة الأمريكية. رغم ذلك, فإنه يصر على أن وضع نظرية اجتماعية للعلاقات الدولية مبنية على نظرية اللعبة تلك, يبدو وكأنه أمل لا يمكن تحقيقه؛ لأن الأخيرة لم تذهب في مجال وضع الفروض والمفاهيم إلى أبعد من مجرد الاعتماد على الحدس في

_ 1 Dyke, pp. 153, 154.

إصدار أحكام صائبة على الأشياء1. حتى علماء السياسة أنفسهم نجد أن عددا قليلا جدا منهم هم الذين أقبلوا على العمل بتلك النظرية, سواء في مجال تطويرها, أو تطبيقها. لهذا, وعلى ضوء ما سبق فقد يكون من السابق لأوانه إلى حد كبير الحكم على مدى فائدة الاستعانة بمدخل للبحث يعتمد على تلك النظرية2.

_ 1 M. Janowitz, The professional Soldier, Glencoe "tr" III i960, pp. 434, 441, 442, In: A Dictionary of the Social Sciences, op. cit., p. 280. 2 Cf., R.C. Snyder, "Game Theory and the Analysis of Political Bahaviour", in: Research Frontiers in Politics and Government, pp. 70-103; Thomas C. Schelling, "The Strategy of Conflict: Prospectus for a Reorientation of Game Theory", in: Journal of Conflict Resolution, 2, Sep. 1958, pp. 203 ff.

المبحث السادس: الأهداف والوسائل

المبحث السادس: الأهداف والوسائل يعتبر السعي وراء تحقيق الأهداف, واستخدام الوسائل من السمات البارزة للسياسة تماما, كما هو الحال بالنسبة لصنع القرار مما يوضح إمكانية اللجوء إلى مدخل للبحث يعتمد على التحليل إلى أهداف ووسائل. يرتبط المدخل في هذه الحالة برغبات وأهداف الأفراد على المسرح السياسي، وأسباب النشاط السياسي, والوسائل المستخدمة. إذا قيل: إن واقعة ما أو وضعا معينا يجب أن يكون هدفا، فإن ذلك الحكم يتعلق بقيمة من القيم. أما إذا قيل عن وسيلة محددة: إنها فعالة في الوصول إلى هدف ما، فإن موضوع البحث في هذه الحالة يكون تأكيدا لحقيقة. وتعتبر التعبيرات ذات طبيعة معيارية إذا أصدرت أحكاما تتناول قيمة من القيم، وتكون ذات طبيعة وصفية إذا تعلقت بحقائق، بينما تكون إرشادية

إذا احتوت على عناصر تشمل الجانبين الوصفي والمعياري. أي: إنها في هذه الحالة الأخيرة توصي بالوسائل التي يجب اتباعها لتحقيق الهدف الفرضي1. إن الشرط الأساسي في التحليل إلى أهداف ووسائل هو ضرورة توفر الوضوح الكامل حول موضوع الدراسة, وهل هو هدف أو وسيلة؟ أي: ضرورة توضيح ما إذا كانت البيانات المقدمة معيارية, أو وصفية, أو إرشادية. تنبع أهمية التمييز بين هذه الأشكال الثلاثة من حاجة كل منها إلى تعليل وأدلة للإثبات. فمن وجهة نظر وضعية يتعذر دحض أو إثبات صحة ومعقولية التعبيرات المعيارية, حيث إنها تعكس عاطفة أو إرادة أو تذوقا أي: تمت بمحض إرادة ذاتية. أما التعبيرات الوصفية فهي مبدئيا يمكن إثباتها أو دحضها وتخضع للاختبار وتحتاج إلى الأدلة التي تدعمها. في حالة التعبيرات الإرشادية, فإنها تقسم إلى مكوناتها المعيارية والوصفية, ويعالج كل منها بالطريقة الملائمة. قد يحدث خلط في مفهوم التقسيم الذي يجريه البعض للأهداف, حيث تقسم إلى أهداف مباشرة ووسيطة ونهائية2. وهناك تفسيران لذلك: الأول هو أن من يتبنون هذا التقسيم قد يسلمون بأن أيا من الأهداف التي يسمونها مباشرة, أو وسيطة يمكن اعتبارها كوسائل بالتبادل. أكثر من ذلك فإنهم إذا كانوا يستعملون كلمة نهائية بشكل فضفاض, فقد يسلمون أيضا بأن ما يسمونه أهدافا نهائية يمكن تصنيفها بدلا من ذلك كوسائل. أما إذا كان هناك حذر من إطلاق هذه المصطلحات بشكل فضفاض, فإن الخلط يمكن تجنبه. التفسير الثاني هو أن الباحثين قد يرون عدم وجود أساس حقيقي للتمييز بين الأهداف والوسائل؛ نظرا لشدة ارتباطها. فمعظم الأحداث والأوضاع

_ 1 Dyke, pp. 154-156. 2 Cf., A. Brecht, Political Theory, op. cit., p. 121..

هي في الواقع أهداف, ووسائل في نفس الوقت. نحن نريدها من أجل ذاتها -أي: ننظر إليها كهدف- وفي نفس الوقت نريدها لمساهمتها في تحقيق شيء آخر, أي: ننظر إليها هنا كوسائل. من هذا المنظور، ليس هناك شيء يمكن اعتباره ببساطة كوسيلة، وعليه فإنه لا أساس للتفرقة بين الأهداف والوسائل. بدلا من ذلك, فإن كل شيء يمكن معاملته كهدف أو كقيمة، والأهداف والقيم يمكن تصنيفها كقيم تستخدم كأداة من ناحية، وقيم هدفية أي: تؤخذ كأهداف من الناحية الأخرى1. هذه النظرة الديناميكية للعلاقة بين الوسائل والأهداف, أو الأسباب والنتائج سبق أن توصل إليها العلامة الكبير عبد الرحمن بن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي. لم ينظر ابن خلدون إلى الوسائل والأهداف نظرة إستاتيكية كأن يظن مثلا بأن الوسائل تظل دائما وسائل, والأهداف دائما أهدافا. إن المغزى الحقيقي لإسهام ابن خلدون لا يمكن تقديره تماما ما لم يتم الكشف عن علاقة عامل إضافي وديناميكي بموضوع البحث. لا نعني بهذا العامل مجرد الاعتراف بفضله في اكتشاف أسلوب التحليل إلى وسائل وأهداف, أو أسباب ونتائج. إن ما يجتذب الاهتمام حقيقة إلى المقدمة هو أننا لا يمكن أن نجد فيها الوسائل في جانب, والأهداف في جانب آخر. مثل هذا الاستقطاب غريب على فكر ابن خلدون الذي لا يعرف ذلك التجريد الأجوف. خلافا لذلك، بدت له العلاقة بين الخلفية الاقتصادية وتأثيرات عناصر العمران كعملية مترابطة تمام الارتباط, تتحرك باستمرار على شكل سلسلة من ردود الفعل المتبادل. يضاف إلى هذا أنه لم يعامل عناصر العمران كقوة ذات

_ 1 lbid., p. 79.

فعل متساوٍ لها نفس الأثر في سير الأحداث, وهو ما يمكن ملاحظته على وجه الخصوص بالنسبة لآرائه في الدين التي تشغل أحيانا قلب المناقشة. إن الميزة الكبيرة لكتابات ابن خلدون هي طابعها العلمي الذي يستبعد إمكان تمتع أي عامل بمفرده بطبيعة أو صفة مطلقة, ويفترض بدلا من ذلك وجود تأثير نسبي, وردود فعل متبادلة1. من الأمثلة المتعددة على ذلك في مقدمته شرحه للعلاقات المتشابكة التي تربط بين طريقة المعيشة وأسلوب الفكر وانتشار العلوم. فكل تطور مادي يأتي معه برد فعل مماثل في العلاقات الاجتماعية، ومناهج سلوك متباينة تجاه المسائل الزمنية والدينية. هذا التطور المادي سيؤدي إلى زيادة في المهن وفي تقسيم العمل. وكل مهنة تؤثر في النفس والذهن, وتفتح آفاق العقل. يشجع هذا على زيادة انتشار العلوم وازدهارها الذي يزيد الإنسان بالتالي "ذكاء في عقله, وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس"2. لا نستطيع أن نعثر في هذا التحليل الديناميكي على أي فصل تحكمي بين الوسائل والأهداف. فإذا كان تقدم العلوم والمعرفة هو نتيجة لسبب مادي, أي: إذا كان الوصول إلى الهدف تم بوسيلة مادية, فإن نفس هذه النتيجة أو الهدف تلعب دور الوسيلة في مرحلة أعلى هي تغيير, وتهذيب أسلوب التفكير. ولا تتوقف سلسلة ردود الفعل المتبادلة عند هذا الحد؛ لأن الفكر المتطور الذي جاء نتيجة لتفاعل سابق يلعب الآن دور السبب, أو الوسيلة فيصير حافزا

_ 1 M. M. Rabie, The Political theory of lbn Khaldun, op. cit., pp. 42, 43. كذلك محمد محمود ربيع "منهج ابن خلدون في علم العمران" مرجع سابق، ص230. 2 المرجع السابق، ص230، عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة, طبعة الدكتور علي عبد الواحد، القاهرة 1957، الطبعة الأولى، ص989.

على إشباع حاجات مادية جديدة, وحياة مرفهة تتناسب مع ما وصل إليه صاحب ذلك الفكر من تطور. من الأمثلة الأخرى التي يمكن أن تعزز ذلك الفرض وضع العصبية في كل من مجتمعي البداوة والحضارة. ففي مجتمع البداوة نلاحظ أن طبيعة الحياة الخشنة, وشظف العيش يطبع العصبية بعدة صفات أهمها أنها قوة موحدة, كلها نشاط وحيوية, وقادرة على الدفاع عن الجماعة والسعي من أجل تحقيق أهدافها ضد العصبيات الأخرى والقضاء على الخلافات الداخلية بين أفرادها، والعمل كأداة من أجل دفع عجلة التطور نحو شكل أرقى من أشكال الحياة المادية. وبينما تعتبر العصبية بهيكلها القوي, وخصائصها التي تتسم بالحيوية, ودورها الكبير في إحداث التغييرات, نتيجة مترتبة على هذا النوع من الحياة الصعبة في ظل البداوة، فإن العصبية نفسها وعندما تتهيأ الظروف الموضوعية تلعب دور السبب أو الوسيلة, وتصبح أداة للتغيير, وذلك بالقضاء على نفس هذه الظروف التي خلقتها عندما تقوم الجماعة بفضل عصبيتها بالقضاء على دولة ضعيفة مجاورة, وإقامة حكم جديد محلها يتخلى عن الحياة البدوية وينتقل إلى الحياة الحضرية. ثم تحدث سلسلة أخرى من ردود الأفعال في ظل الحضارة وهكذا ... 1. هذا, ويجب التحذير بأن المقصود ليس الاستغراق في فوضى شاملة يتعذر معها التمييز بين الوسائل والأهداف أو الأسباب والنتائج، وإنما المقصود هو معرفة أنه وإن كانت طبيعة التحليل والدراسة تقتضي الوضوح ومعالجة كل شيء في موضعه منعا للبس, فإنه في ظل الواقع يحدث إحلال وانتقال بينها بشكل دائم.

_ 1 المرجع السابق، ص231، ابن خلدون، المقدمة، ص422، 423، 453، 454، 480، 481, M. M. Rabie, The Political Theory of lbn Khaldun, op. cit, p. 52.

إن الميزة الأساسية لهذا المدخل هي التركيز على طبيعة الاختيار في السلوك الإنساني. ورغم أن مداخل البحث التي أشرنا إليها أعلاه تسمح بمثل هذا التركيز والتأكيد, فإنها لا تذهب في ذلك إلى هذا الحد من الوضوح. وهناك العديد من المؤشرات التي تثبت كيف أن أهداف الإنسان يمكن أن تتوارى بسهولة في الخلفية, وربما تختفي تماما عن الأنظار عندما تكون بؤرة الاهتمام هي المؤسسات أو القوانين أو السلطة. تعالج المؤسسات مثلا كهياكل ميكانيكية, أو ككائنات حية لها أهدافها الخاصة بها. والقانون ينظر إليه كشيء يخضع له الإنسان بمقتضى الإرادة الإلهية أو الطبيعة أو العدالة. وتعالج السلطة السياسية كما لو كانت الوسيلة, أو الهدف الأوحد. إن إضفاء الصفة المادية على المجردات, واحتمال وقوع العقل في الخطأ يمكن تجنبهما باستخدام مدخل للبحث يركز الانتباه على الإنسان الذي يستخدم وسائل يقوم باختيارها بنفسه من أجل تحقيق أهداف, يقوم هو أيضا باختيارها بنفسه1. ورغم أن مجالات تطبيق هذا المدخل لم تحدد بعد, فإن الحاجة إلى تطبيقه ستكون واضحة حيثما يسمح الموضوع بالتركيز على البشر في مجال حركتهم؛ لأنهم عندما يتحركون على المسرح السياسي فهم بالضرورة يسعون إلى تحقيق أهداف كما يلجئون إلى استخدام وسائل. لهذا, فإن الباحث الذي يتبنى هذا المدخل له أن يختار بين عدة بدائل, منها التعريف بالناس الذين ترتبط أفعالهم بالموضوع المطروح للبحث، أو التعريف بالأهداف التي يسعون إلى تحقيقها، أو التعريف بالوسائل التي يستعملونها أو قد يستعملونها.

_ 1 Dyke, pp. 156, 157.

بمعنى آخر، فإنه يستطيع أن يصف الأهداف التي يسعون إليها, والعلاقات المتبادلة بينها على أن يتقيد في ذلك بما يراه هؤلاء الناس أنه أهداف. كما أنه يستطيع أن يمضي في شرحه, أو وصفه للوسائل أو القيود التي يتم في ظلها محاولة تحقيق تلك الأهداف. مثل هذا المدخل قابل للتطبيق في أي مجال, وعلى أي مستوى من مستويات النشاط السياسي.

الفصل الثامن: الفروض والنظريات

الفصل الثامن: الفروض والنظريات مدخل ... الفصل الثامن: الفروض والنظريات إذا كانت لدينا مشكلة أو ظاهرة سياسية ما وطرح بشأنها سؤال لتوضيحها، فإن "الفرض" Hypothesis هو الإجابة المقترحة على هذا السؤال. ويصلح الفرض في إقامة علاقة بين الأحداث الهامة, كما يساعد على اختيار الأحداث التي ستخضع للمشاهدة، وبذلك يسهم في كشف خطوات وإجراءات البحث. بعد تجميع تلك الأحداث، يلعب الفرض دورا حيويا في عملية تفسيرها وبيان مغزاها، وفي حالة التحقق من صحته سواء بطريقة تجريبية أو بشكل منطقي، فإن الفرض يمكن أن يمثل عاملا محتملا في سلسلة الخطوات المؤدية إلى بناء النظرية. اعتمدت مداخل البحث أعلاه على مصادر متعددة تناولنا منها العلوم الأكاديمية والظواهر والقوى السياسية, ووجدنا أن كل تلك المداخل تزود الدارس بمعايير وضوابط عامة لانتقاء الموضوعات, أو المشاكل التي يبحثها واختيار المعلومات المرتبطة بها. كلها إذًا تعكس أو تقترح مفهوما لما يجب اعتباره عاما في أية محاولة لفهم مسار الأحداث السياسية والتنبؤ بها أو السيطرة عليها. أي: إنها تشير بشكل عام إلى أفكار ومعلومات يفترض أنها هامة, وذات مغزى بالنسبة لموضوع الدراسة. إن الفرق بين ما سبق, وبين الفروض التفسيرية والنظريات السببية التي قد تستخدم كمداخل للبحث, هو فرق كمي وليس كيفيا, حيث إن كل المداخل

تعكس أو تقترح مفاهيم بما يعتبر هاما, وإن كانت الفروض تقوم بذلك بشكل أكثر وضوحا. فبينما يقتصر المدخل المرتبط بأحد العلوم الأكاديمية على الإشارة إلى حقل البحث والمعلومات المختلفة المرتبطة به, فإن المدخل الذي يجد تعبيرا عنه في فرض, أو نظرية يشير إلى نوع أكثر تحديدا من المعلومات, وإلى طريقة محددة في ترتيبها. يمكن إعطاء مثال على الحالة الأولى بالمقولة التي تذهب إلى أن أسباب الحرب إما أن تكون اقتصادية, أو نفسية حيث نلاحظ أن الإشارة واضحة إلى معلومات ترتبط بعلوم أكاديمية. في الحالة الثانية نجد مقولة أخرى تذهب إلى أن الرأسمالية على وجه التحديد هي التي تسبب الحرب. هذه المقولة المحددة تساعد على توجيه الاهتمام بقدر أوضح إلى موضوع بعينه, واختيار المعلومات اللازمة للدراسة. بمعنى أن النظرية السببية, أو الفرض العام يطبق على ما قد يطرأ من حالات محددة1. ولا بد من التنويه بأنه رغم وجود علاقة بين بعض الاعتبارات التي سنذكرها فيما يلي, وبين مثيلاتها التي تم تناولها في إطار العلوم الأكاديمية كالجغرافيا والاقتصاد, فإن اختلافات ستتكشف عند الدراسة. ويمكن تجميع الفروض التفسيرية والنظريات السببية -إذا اعتبرت مداخل للبحث السياسي- في عدة فئات وفقا لمدى التركيز النسبي على التأثيرات البيئية, أو الاعتبارات الأيديولوجية.

_ 1 lbid., pp. 163, 164, M. Grawitz, Methodes Des Sciences Sociales, op. cit., pp. 39l ff.

المبحث الأول: مداخل بحث تركز على التأثيرات البيئية

المبحث الأول: مداخل بحث تركز على التأثيرات البيئية وتنقسم إلى المداخل الجغرافية, والمداخل الاقتصادية: 1- مداخل البحث الجغرافية: نستعرض فيما يلي الدراسة الواسعة التي قام بها اثنان من العلماء تناولا فيها الفروض التي تركز على التأثيرات الجغرافية ذات العلاقة بالسياسة1. وليس المقصود بالطبع ذلك النوع من النظريات المتطرفة مثل نظرية ماكيندر التي تعطي أهمية أكثر من اللازم لما أسماه بقلب الأرض "بعض أراضي الاتحاد السوفيتي, وبعض المناطق الواقعة جنوبه وغربه"، وإن من يسيطر على ذلك القلب يتحكم في جزيرة العالم "أوروبا وآسيا وإفريقيا" ومن يسيطر على جزيرة العالم يتحكم في العالم كله2. ليس المقصود أيضا ذلك النوع من النظريات الأخرى التي ترى أن كل القرارات الإنسانية وما يتمخض عنها من نتائج إنما تقررها الطبيعة عن طريق توزيعات المناخ والموارد على سطح الكرة الأرضية، ومثلها أيضا اعتبار الطبيعة ككائن حي له أهدافه الخاصة به, ويمتلك القدرة على التحكم في مصير الإنسان. أما الحقيقة فهي أن عوامل أخرى -وليست الاعتبارات الجغرافية فقط- يستعان بها للإجابة على أي تساؤل يثار حول السلوك الإنساني. من تلك العوامل الرغبات وأهداف الناس والقيم الأثيرة لديهم. لهذا فإن الآراء التي ترى أن

_ 1 Harold and Margaret Sprout, Man Milieu Relationship, Hypotheses in the Context of International Politics, Princeton 1956; also, "Environmental Factors in the study of International Politics" in: Journal of Conflict Resolution, 1, Dec. 1957, pp. 309 ff., cited by Dyke, pp. 164-166. 2 Halford Mackinder, Democratic Ideals and Reality, New York 1942, p. 150, quoted by Dyke, p. 129.

الجغرافيا تحدد شكل السياسة الخارجية, أو أي نوع آخر من السلوك هي آراء خاطئة, وهذا يفسر الميل للابتعاد عن الاعتبارات الجغرافية البحتة, والأخذ بالمجال الأوسع للبيئة. نعني بالبيئة أو الوسط كل العوامل خارج الإنسان, والتي لها علاقة بسلوكه وحالته ووضعه، وتشمل كلا من الظواهر الطبيعية وغير الطبيعية للإنسان كالظواهر الجغرافية والاقتصادية والسياسية. فبيئة شخص ما تشمل كل مواقف وتوقعات وممارسات الأشخاص الآخرين الذين يرتبط سلوكهم بأي شكل بسلوكه. ينصرف التعريف السابق إلى البيئة كما هي موجودة في الواقع, وكذلك إلى البيئة المكونة من أفراد وإن كان ممكنا تناول جماعة من الجماعات أو وجود سياسي ما كوحدة قائمة بذاتها, لها بيئتها ووسطها. ولقد أدى التأكيد على الدور الذي تلعبه البيئة إلى عدة فروض منها "الإمكانات البيئية" بمعنى أن البيئة تضع حدودا لما يمكن أن تفعله. وهناك الفرض الآخر وربما الأدق, وهو إدراك الفرد إدراكا سليما لإمكانيات البيئة, وبالتالي تمتعه بقدرة أكبر على اختيار أساليب العمل المجدية, وكذلك القدرة على التنبؤ بنتائج أساليب العمل التي ينتهجها الآخرون وتفسيرها. هناك أيضا "الاحتمالات البيئية" والتي تشير إلى فروض متنوعة تتناول العديد من الاحتمالات حول ما إذا كان قرار ما سيتم اتخاذه مثلا أو واقعة ما ستحدث أو نتيجة سيتم تحقيقها ... إلخ. ومن الواضح أن تلك الفروض تقتضي بحث الكثير من المعلومات البيئية علاوة على ما قد يكون للمعلومات الجغرافية والنفسية والأيديولوجية والاقتصادية من علاقة بالموضوع. هنا تكمن نقطة الضعف الرئيسية لهذا المدخل -شأنه في ذلك شأن المدخل الذي يعتمد على عملية صنع القرار- وهي أنه لا يقدم إلا مساعدة ضئيلة في اختيار الأسئلة الواجب طرحها والمعلومات المتعلقة بالموضوع.

إن ما يعاني منه الباحث هنا ليس فقط أن البيئة كلها أصبحت مجالا للبحث، وإنما احتياجه أيضا إلى دراسة التصورات المكونة عنها. ولا شك أن اتساع وشمول ذلك المدخل يضطر من يتبناه إلى الاستعانة بمدخل آخر للبحث, يكون أكثر وضوحا في تزويد الدارس بمعايير الاختيار. ثم يضيف العالمان نوعا ثالثا من الفروض البيئية, وهو ما أسمياه "السلوك الإدراكي" والتي تعكس في رأيهما المبدأ القائل بأن معرفة الشخص بالوسط هي التي تؤثر في سلوكه, وليس الوسط نفسه. أي: إن تصوره للوسط هو الذي يؤثر في صنع القرار1. 2- مداخل البحث الاقتصادية: يحلق اسم كارل ماركس في هذا المجال فوق كل المفكرين الذين ارتبطت أسماؤهم بطرق البحث الاقتصادية، رغم أن كثيرين من هؤلاء الذين جاءوا قبله2 وبعده عبروا عن وجهات نظر مشابهة من بعض الوجوه. وفيما يلي مناقشة لبعض نظرياته لمعرفة مدى إمكان الاستفادة منها كمعايير في تحديد الموضوعات, والمعلومات الهامة.

_ 1 lbid., p. 166, t. Mathisen, Methodology ln the Study of lnternational Relations, op. cit., pp. 56-58. 2 نشير هنا إلى الإسهام الكبير لابن خلدون في مجال الدراسات الاقتصادية واستخدامها كمدخل علمي في تحليلاته, وخاصة تلك الفروض والنظريات التي استخلصها. فقد قدم مفهوما متطورا لاصطلاح "المادة" لا يعكس نفس المضامين التي تصورها الفلاسفة المعاصرون له, وهي حقيقة قد تعزى جزئيا إلى أنه لم يقيد نفسه بالموضوعات أو أساليب التقييم السائدة في عصره. كذلك ترك دراسات تفصيلية عميقة لموضوعات مثل العلاقة المتبادلة بين العمران البشري والإنتاج والعمل والكسب وتراكم المال والتفسير الاقتصادي للتاريخ. كما نقد القائمين بصناعة المنطق بسبب اتجاهاتهم الفكرية المجردة، ومغالاتهم في الغوص على المعاني والقياس, وابتعادهم عن الواقع الملموس مما أوقعهم في الخطأ. انظر دراستنا: "منهج ابن خلدون في علم العمران"، مرجع سابق، ص218 و223. انظر كذلك =

يرى ماركس أن طريقة إنتاج الوسائل المادية للمعاش تتحكم في كافة أشكال الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. فوعي الإنسان ليس هو الذي يحدد وجوده, وإنما على العكس من ذلك فإن وجوده الاجتماعي هو الذي يحدد وعيه. يضيف فردريك إنجلز زميل ماركس أن الأسباب النهائية لكل التغييرات الاجتماعية والثورات السياسية لا يجب البحث عنها في عقول البشر وإنما في التغييرات التي تطرأ على وسائل الإنتاج والتبادل. أي: إنه لا يجب البحث عنها في مجال الفلسفة, وإنما في اقتصاديات المرحلة قيد الدراسة1. كان على الإنسان أن يتصارع داخل بيئة صعبة, وفي مواجهتها في نفس الوقت لكي يشبع حاجاته. وقد أشار ماركس في ذلك إلى أهمية الدور الذي تلعبه قوى الإنتاج بصفتها معبرة عن الظروف والمستوى الذي بلغته التكنولوجيا في كل عصر. وتعتبر قوى الإنتاج أساسية؛ لأنه عندما تتطور تلك القوى فإن علاقات المنتجين بها, وببعضهم البعض تتغير أيضا بالضرورة. من ناحية أخرى، تمثل قوى الإنتاج البناء أو الهيكل السفلي الذي يقوم عليه البناء أو الهيكل العلوي للمجتمع, والذي يتكون من المؤسسات السياسية والعسكرية والقانونية والثقافية. ووفقا لما يراه ماركس فإن كافة أشكال السلوك

_ = الدكتور محمد حلمي مراد "ابن خلدون أبو الاقتصاد" في: أعمال مهرجان ابن خلدون, مرجع سابق، ص305-317، كذلك: Rene Maunier "Les idees Economiques d'un penseur Arabedu 14 eme siecle" ,in:Revue d'Histoire Economique et Sociale' 1913; G. H. Bousqoet, Ibn Khaldoun: Les Textes Sociologiqu es et Economiques de la Muqaddima, 1375-1379, op- at. 1 Marx Engels, Selected Works, Vol. 1, Moscow i955, p. 336; cf. Andre Marchal, Methode Scientifique et Science Economique, Tome 11, op. cit. pp. 120-124.

الإنساني تتأثر بشكل ما بالبناء السفلي أو القاعدة المادية، بمعنى أن أي تغير يطرأ على القاعدة لا بد وأن يؤدي إلى تغييرات لا يمكن تجنبها في الهيكل العلوي للمجتمع. كان لكل من ماركس وإنجلز تصور محدد بالنسبة لتطور المجتمعات الإنسانية. فالتاريخ في نظرهما هو تاريخ صراع الطبقات، وفي كل المجتمعات القائمة والسابقة فإن العلاقات المترتبة على قوى الإنتاج تشمل تقسيم العمل وهو ما يعني أيضا وجود تقسيم للمصالح. وحيث إن البشر كائنات واعية قادرة على تغيير مصالحها, ومستعدة للصراع من أجلها, فقد انتظموا في طبقات وفق مصالحهم حيث تقاتل كل طبقة من أجل مصلحتها الخاصة1. تستأثر الطبقة البرجوازية الحاكمة بالسيطرة على الحياة الاقتصادية والسياسية, مستخدمة في ذلك جهاز الدولة لزيادة أرباح الرأسمالية وحماية مصالحها. وتلجأ الحكومة لسلطة القانون وسطوة قوات الأمن في الداخل, وإلى الدبلوماسية أو الحرب في الخارج حيث تضمن لها تلك الوسائل استمرار الاستغلال الاقتصادي للآخرين وقهرهم سياسيا. كما تهتم الطبقة البرجوازية أيضا بالمؤسسات والأفكار التي يتكون منها البناء العلوي للمجتمع, فتشجع المذاهب السياسية والاتجاهات الدينية التي من شأنها تبرير سيطرتها, ومصالحها الطبقية. تؤدي التطورات التكنولوجية المستمرة إلى تغييرات في قوى الإنتاج, مما يدعو إلى حدوث تغييرات في علاقات الإنتاج بالتبعية. أي: إن الهيكل العلوي يتغير لينسجم مع متطلبات القاعدة. خلال تلك العملية, فإن الطبقات التي تتعرض للاستغلال لا تصبح واعية فقط بمصالحها, وإنما أيضا بالوسائل الفعالة لتحقيقها. على الجانب الآخر، تتعرض سلطة الطبقة الحاكمة للتهديد فتحاول الدفاع عن مركزها الممتاز بكل الطرق بما في ذلك العنف. لكن قوانين التطور التاريخي

_ 1 Alfred. meyer, Marxism: The Unity of Theory and Practice, Cambridge 1954, p. 15, cited by Dyke, p. 168.

تقف في وجهها, وتحدث عاجلا أو آجلا عملية إعادة تكيف في البناء العلوي للمجتمع لتلائم التغيرات في القاعدة. قد يفيد هذا العرض الموجز في طرح بعض الأسئلة حول الانتماء الطبقي للأفراد الذين يلعبون دورا في الصراع السياسي، وأي جانب قد يتخذه كل منهم في ذلك الصراع. كما يوجه النظر أيضا إلى نوع المعلومات اللازمة, وكيف تتركز حول تحقيق المصالح الاقتصادية وحمايتها. من الواضح أن البدائل التي يطرحها هذا المدخل يمكن تطبيقها على أنواع متعددة من المشاكل في أزمنة وأمكنة كثيرة. ونظرا لشموله, فإنه يزود الباحث بالعديد من الأسئلة التي يستطيع توجيهها والإجابات على أسئلة أخرى تتعلق بكافة مراحل الحياة السياسية تقريبا، ذلك أن الماركسية بناء فكري شامل. ساعد ماركس -ولا شك- على تطور المعرفة وقدم مدخلا للبحث استفاد منه الكثيرون, إلا أن هناك نقدا لنظريته من وجهة النظر الليبرالية يذهب إلى أنه لا يمكن الاعتماد عليها في الدراسة؛ لأنها أصبحت نظرية هادية للعمل السياسي أكثر منها مجموعة من الفروض التي تنير الطريق أمام الدراسة السياسية. والماركسية بصفتها نظرية هادية للعمل السياسي تحولت من وجهة النظر هذه إلى مذهب Doctrine إن لم يكن إلى عقيدة Dogma يدعمها معتنقوها المخلصون. فإذا حدث واتخذها هؤلاء كدليل في أبحاثهم, فإنهم سيميلون إلى صياغة دراساتهم بحيث تأتي النتائج مؤيدة لعقيدتهم مما يؤدي إلى الوقوع في الخطأ. رغم ذلك وجد بعض العلماء الليبراليين أنه في كثير من الحالات يمكن تحقيق فائدة كبيرة باستخدام المدخل الاقتصادي بالمفهوم الماركسي في الدراسات السياسية1.

_ 1 قارن الآراء المعاكسة لجونار ميردال, وخاصة بالنسبة لدور الاقتصاديين الشبان في الدول النامية، ثم انظر تعليق بعض الاقتصاديين الهنود على ذلك: Gunar Myrdal, =

على أنه لا بد من كلمة حق تقال في هذا المجال, وهي أن تلك المشكلة الأخيرة يعاني منها الباحثون بشكل نسبي, وبدرجات متفاوتة. بمعنى أنه يندر أن يتجرد هؤلاء في اختيارهم للمشاكل أو في أبحاثهم عموما من تأثير ولاءاتهم أو انتماءاتهم السياسية والدينية والاجتماعية, وإن ادعى كثيرون بغير ذلك، فالموضوعية في البحث العلمي -كما هو معروف- شيء نسبي1.

_ = Economic Theory and Underdeveloped Regions, London 1957, pp. ioiff.; Ajit Kumar Biswas,.htm''Some Observations on Methodological Issues In Economic Research", In: A.K. Dasgupta, Methodology of Economic Reasearch, London 1968, pp. 138, 139. 1 A. Brecht, Political Theory, op. cit., pp. 2986°.; C.J. Friedrich, Man and His] Government, op. cit., pp. 67ff.; cf. D.C. Schwartz, "Toward1 a More Relevant and Rigorous Political Science", op. cit., p. 119.

المبحث الثاني: مداخل بحث تركز على الاعتبارات الايديولوجية

المبحث الثاني: مداخل بحث تركز على الاعتبارات الايديولوجية مدخل ... المبحث الثاني: مداخل بحث تركز على الاعتبارات الأيديولوجية قبل أن يتبنى الباحث المدخل الأيديولوجي لا بد وأن يكون على دراية تامة, وبالتالي أن يحدد موقفه من الصراع المستعر بين اتجاهين ينادي أولهما "ممثلا أساسا في الفلسفتين الوضعية, والوضعية المنطقية" باستقلال العلم عن القيم وعدم الاعتراف بما يعجز المنهج العلمي عن إثبات صحته أو وجوده, بينما ينادي الثاني بدرجات متفاوتة بصعوبة الفصل بين الاثنين. ويندرج تحت هذا الاتجاه الماركسيون وبعض الليبراليين الذين اكتشفوا عقم الاتجاه الأول. لقد تعرضت الفلسفة السياسية لأشكال كثيرة من الهجوم والنقد, وخاصة في أوائل القرن الحالي على أيدي المطالبين بالتحرر من سطوة القيم في الدراسات العلمية من أمثال ماكس فيير الذي وجدت كتاباته صدى كبيرا لدى عدد من علماء السياسة كأرنولد بريشت2 الذي يعد من أبرز من عبر عن اتجاه

_ 1 A. Brecht, Political Theory, op. cit., pp. 3-162; cf. M. Duverger, MethodesDe La Science Politique, op. cit., P. 453.

فيير القائم على ضرورة استقلال العلم عن القيم, أي: التمييز بين عمليات التفسير والتقييم في العلوم الاجتماعية, وما يترتب عليه من الدعوة للحياد إزاء القيم. كان من أهم أوجه النقد أن الفلسفة السياسية ما هي إلا سلسلة من التفسيرات للأيديولوجيات، وأنها تحمل تبريرات لأفكار مسبقة تمثل في الغالب طبقة معينة, أو أية مصالح أخرى. أي: إن الفلسفة السياسية لا تقوم على الأسس العلمية للمشاهدة والوصف والقياس والتحليل, وإنما هي معيارية تشتمل في رأيهم على قيم ومعايير مستهلكة. إلا أنه ليس هناك اتفاق على هذا الموقف حتى بين المفكرين الليبراليين أنفسهم. فكارل يواكيم فريدريش مثلا -رغم تسليمه بأخطاء بعض الفروض التي وردت في كتب أفلاطون الثلاثة: الجمهورية, والسياسة, والقوانين- يتساءل متعجبا: هل كان أفلاطون مخطئا في إصراره على أن القانون والحق هما المشكلتان اللتان تواجهان كل مجتمع سياسي؟ يطرح ذلك موضوع العدالة وبالتالي يفتح الباب على مصراعيه للتساؤل: ما هي الفضيلة؟ وما هو المعيار؟ ثم يرفض فريدريش ما ذهب إليه هارولد لا سويل -متأثرا في ذلك بديوي ونور ثروب- من أن دراسة "المشاكل" نفسها كمدخل هي السمة المميزة لعلم السياسة, بمعنى استبعاد أية قيم معيارية من الدراسة. ويتساءل فريدريش ثانية: هل تنكر أي عالم مدقق في أي وقت لأولوية دراسة "المشاكل"؟ 1.

_ 1 C.J. Friedrich, Man and His Government, op. cit., pp. 4, 5; Cf.," Anyone who attempts the most simple descripion of Society is in fact involved in Constant ordering and classification.The 'principles of such selectivity are those of some political doctrine, [whether half-backed or wellbacked." Bernard Crick, In [Defence Of Politics, Penguin, Middlesex England 1973 "first publ. 1962" , pp. 198, 199, igoff.

يستند تحد آخر لاتجاه الحياد ذلك -عبر عنه تشارلس تيلور- إلى التفرقة بين القواعد التي يقوم عليها الخير, وتلك التي تقوم عليها الميول. يحتاج الخير إلى تفسير, وليست كذلك الميول أخذا في الاعتبار بأن التفسير والبحث عن الأسباب إنما يستمدان من حقل التجربة1. ويمكن القول: إنه بعد تجارب طويلة في حقول دراساتهم الأكاديمية، فإن أعدادا متزايدة من هؤلاء المفكرين يبتعدون أكثر فأكثر عن الاتجاه المتطرف الذي ساد الأحقاب الأولى من القرن الحالي, وبدءوا يسلمون باستحالة الفصل التحكمي بين حقلي التجريب والقيم.

_ 1 من الأشكال الجديدة لانتعاش المذهب الطبيعي ما ذهبت إليه الفلسفة التحليلية المعاصرة من الربط بين القيم والحقائق. انظر مقالة تيلور وكذلك طوفان المقالات حول ذلك الجدل في: إسكنر تحوي هذه الدراسة الأخيرة هجوما مباشرا على الأسس الفلسفية لما يسعى بحياد العلوم الاجتماعية. انظر حاشية 1 في المقدمة أعلاه. إسكنر

يحفل الأدب السياسي بالكثير من المرادفات في هذا الشأن. فقد جرت العادة على التمييز بين النظريات التي تقوم على التجريب وتلك التي تعتمد على القيم، أو بين السلوكية -وهو التعبير الذي يستخدمه البعض في الولايات المتحدة للأسلوب التجريبي- وبين الفلسفة السياسية. ويحلو للبعض أحيانا أن يميزوا بين ما هو كائن، وبين ما يجب أن يكون وهو شكل آخر لنفس الخلاف. يسلم بعض المفكرين بأن طوفان الكتابات حول هذا الخلاف المستعر بين المثقفين إنما يعكس تمييزا مصطنعا بين وسائل المعرفة المختلفة؛ لأن القرارات السياسية هي بطبيعتها تتأثر بقيم صانعيها. لهذا, فإنه لا داعي لافتراض وجود انقسام أو تعارض بين النظريات التجريبية, وتلك المستمدة من القيم حيث إنها متكاملة وتعتمد كل منها على الأخرى. إن التفرقة بين مجالات التفسير والتقييم ليست بالوضع الذي يتصوره البعض, كما وأن الفصل بينهما ليس في صالح أي منهما1. توضح كتابات أخرى نفس التمرد على المغالاة في اتجاه النسبية حول هذا الموضوع, وترى ضرورة الاستفادة من الأسلوبين والدمج التام بينهما في عملية تطوير نظريات تجريبية تسترشد بالقيم. يضيفون إلى ذلك مزية أخرى, وهي أنه بتطوير تلك النماذج التجريبية ذات القيم يساعد كل أسلوب منهما على كشف قصور الأسلوب الآخر, ومن ثم يلفت الانتباه إلى ضرورة تعديله وتحسينه2.

_ 1 Fred M. Wirt, Morey, Brakeman, Introductory Problems in Political Research, Englewood Cliffs, N. J. 1970, pp. 2, 3; Stephen L. Wasby, [Political Science, The Discipline and its Dimensions, An Introduction, New York 1970, p. 303. 2 Robert T. Golembiewski, et. al., A Methodological Primer for Political Scientists, Chicago 1969. pp. pp. 450-455.

ثم يصل النقد أقصاه بتعرية الادعاء بإمكان وجود موضوعية كاملة في البحث العلمي, وعدم تأثر الباحث بأية اعتبارات بيئية أو قيم ذاتية. ففي الواقع العملي يقوم علماء السياسة باختيار وتنظيم المادة التي يستعملونها في بحوثهم أو محاضراتهم. وهم يحتاجون من أجل ذلك إلى إجراء عمليات انتقاء حقيقة ما دون حقيقة أخرى, أو شكل تنظيمي معين دون شكل آخر, أو خطة بحث دون أخرى وهكذا. قد تكون عملية الانتقاء عشوائية, ولكنها في الأغلب الأعم ليست كذلك, وإنما تحكمها معايير يأخذ بها كل باحث1. وقد عبر عالم آخر عن ذلك بقوله: إنه رغم المطالبة ببحوث محايدة, أو خالية من القيم فإن عدم وجود معيار متفق عليه لاختيار الموضوعات الهامة للدراسة يدفع العلماء إلى اختيار موضوعات أخرى تتفق مع مصالحهم الخاصة، واختيار المتغيرات التي يدرسونها من تلك الموضوعات. "وإذا كنا عاجزين عن تنحية قيمنا جانبا بشكل كامل في اختيار ما ندرس, فإن ذلك يبرز نقدا هاما هو أن التفرقة بين الحقائق والقيم تتناقض مع تجربتنا الذاتية"2. إذا انتقلنا لكلمة أيديولوجية نفسها، فقد نستطيع فهم معانيها إذا تذكرنا أن للناس معتقدات حول ما يمكن اعتباره حقائق وقيما. فهم يعتقدون أن بعض التعبيرات, أو الفروض تمثل أوصافا صادقة للواقع الحي، كما يعتقدون أن هناك تعبيرات وفروضا أخرى تشير إلى ما هو حسن وحقيقي وعادل. أي: إنهم يحتفظون بمعتقدات حول ما هو قائم فعلا، وحول ما يجب أن يكون. فمن ناحية، لا يمكن تسمية المعتقدات التي تقتصر على الواقع بالأيديولوجية, وهو ما يعني أن تلك الأخيرة لا يمكن أن تكون وصفية خالصة. من ناحية

_ 1 انظر المقدمة أعلاه. 2 STEPLMEN L. WASBY, POLITICAL SCIENCE, OP. CIT., P. 28.

أخرى يجب أن يشتمل البناء الفكري على معتقدات تدور حول قيم حتى يمكن القول بوجود أيديولوجية، وهو ما يعني في هذه الحالة الثانية أن الأيديولوجيات معيارية دائما -على الأقل في جانب منها- أي: إنها تعكس أو توحي بمفاهيم حول "ما يجب أن يكون"1. يطلق اصطلاح أيديولوجية أحيانا على أية مجموعة من المعتقدات تدور حول "ما يجب أن يكون" بشرط أن تكون تلك المعتقدات متماسكة ومترابطة منطقيا، وبالتالي فإنه يمكن إطلاق هذا الاصطلاح على أي بناء فكري ذي صفة معيارية، هذا ويرتبط الإيمان بمجموعة من القيم عادة بالاستعداد لتقبل بعض فروض وصفية ذات طابع نسبي. فهؤلاء الذين يؤمنون بالأيديولوجية الليبرالية مثلا يؤكدون -من منطلق أنها قيمة من القيم- أن شخصية الإنسان جديرة بالتبجيل, وأن كرامته يجب أن تصان وتحترم. في نفس الوقت يعتقدون أن البشر قادرون من الناحية الواقعية على حكم أنفسهم ديمقراطيا, وأن الحكومة الديمقراطية غالبا ما تحترم الفرد وتحافظ على كرامته. بمعنى آخر, فإن قبول الناس للخضوع لنظام ديمقراطي مشروط بتحقيق قيمة من القيم. أما الماركسيون فينتقدون القيم الرأسمالية للحكم، على أساس أن العبرة بالأفعال وليس بالأقوال, إذ ما فائدة النصوص الدستورية أو الشعارات التي تتحدث كثيرا عن احترم الفرد, وصون كرامته إذا لم تكفل حرية التعبير عن الرأي, وفقا للمفهوم الليبرالي؟ إن الاغتيالات التي يتعرض لها زعماء حركة الحقوق المدنية, والمعاملة التي لقيها المعارضون لحرب فيتنام لا يمكن بحال أن تنهض كأدلة على احترام النظم السياسية الليبرالية للفرد أو صيانة كرامته. تلك هي بعض التفسيرات التي يسوقها الماركسيون لأسباب الفشل في تحقيق القيم

_ 1 Dyke, pp. 172, 173.

الليبرالية في مجال الواقع, ويطرحون من جانبهم قيما أخرى, شارحين وسائل تحقيقها. ثم أدخل كارل مانهايم تعديلات على المفهوم السابق للأيديولوجية, وأضاف إليه أن المعتقدات ترتبط بوضع المشاهد الذي يعيش في بيئة ما. فخبرة الناس التي يكتسبونها من المعيشة في المجتمع هي التي تصوغ مفهومهم لطبيعة مصالحهم، وبالتالي فإنهم ينظرون إلى المشاكل الاجتماعية على ضوء مصالحهم. فمعتقداتهم إذًا -أي: أيديولوجياتهم- هي انعكاسات لمصالحهم, ولا يصح تناولها كشيء واقعي1. إن الجدير بالملاحظة أن النتيجة التي انتهى إليها مانهايم من أن كل المعتقدات تتأثر بمصالح معتنقيها وبوضعهم الاجتماعي تتفق مع رأي ماركس القائل بأن الأفكار هي من خلق ظروف الحياة المادية المتغيرة. ويقر مانهايم أن المعيار الاسمي للخطأ والصواب يكمن في اختبار الشيء ذاته وإن كان يستدرك بأن ذلك الاختبار ليس عملا منعزلا, بل يتم في وضع يتأثر بالقيم والدوافع الإرادية2. وبغض النظر عن المفهوم الذي سيؤخذ به لاصطلاح أيديولوجية، فإن ما يمكن أن يسمى بمعتقدات أيديولوجية تزود معتنقيها بدوافع ومبررات للعمل مع ما يصحبها من قواعد وتعاليم. وعندما تشتمل تلك المعتقدات على أيديولوجية فإنها -أي: المعتقدات- لا تكون عشوائية فجة, وإنما ترتبط ببعضها في بناء فكري متماسك.

_ 1 Karl Mannheim, ldeology and Utopia "An lntroduction to the Sociology of knowledge", London 1960 "first publ. 1936", pp. 49 ff. 2 lbid., p. 4.

تحفظات على استخدام المدخل الايديولوجي

تحفظات على استخدام المدخل الأيديولوجي: يعتمد هذا المدخل على الفرض القائل بأن العقائد هي دليل العمل, وإن كان هذا لا يعني أن جميع المشاكل قد انتهت؛ إذ الواقع أنه تظل هناك بعض التحفظات التي تستلزم توخي الحرص والحذر في الدراسة, نذكر منها ما يلي: - تتسم المعتقدات التي تتكون منها الأيديولوجية بأنها ليست دقيقة دائما, وإنما على العكس من ذلك فإنها غالبا ما تكون مبهمة وقابلة للتشكيل بطرق مختلفة حسب اختلاف العصر, والأشخاص المؤمنين بها. - قد يكون مفهوم شخص ما للأيديولوجية التي يعتنقها في طريقه إلى التغير. هنا يتعين معرفة وقياس مدى التغير وسببه, والاتجاه الذي يسير فيه. - قد يفسر الأفراد الأيديولوجية التي يؤمنون بها تفسيرات متعددة قد تنتهي بالاتفاق أو قد تنحرف عن مفهومها ومسارها. وتبدو أهمية ذلك عندما تكون الأيديولوجية دليلا تسترشد به حركة سياسية ما حيث يصبح للاتفاق, أو الاختلاف في التفسير مغزى خاص. ويعتبر تاريخ الأديان, والأيديولوجيات السياسية مجالا خصبا لمثل تلك الدراسات, حيث يدعي كل حزب أو تكتل أو فريق أن مفهومه للدين أو المذهب هو المفهوم الوحيد الصحيح, وما عداه مروق عن تعاليم السماء أو انحراف عن الخط السليم للمذهب السياسي, مع ما يتبع ذلك من انقسامات وظهور فرق جديدة, وحجج مضادة قد يصل الصراع بينها إلى حد القطيعة, أو اللجوء إلى العنف. - لا يقتصر الغموض فقط على الأيديولوجيات نفسها وقابليتها للتفسير بطرق متعددة, وإنما ينسحب أيضا على الأوضاع التي تطبق فيها من حيث ما قد يشوبها من ارتباك وخلط. مثال ذلك وجهة النظر الماركسية التي ترى أن الأحداث التاريخية تتعرض لحركات مد, وجزر ثوري.

لمواجهة ذلك يخطط الماركسيون بوضع إستراتيجيات معينة لمواجهة الأوضاع التي تسودها حالة من المد الثوري, كما يضعون إستراتيجيات أخرى لمواجهة أوضاع الجزر الثوري. لكن يثور الخلاف حول المعايير التي استخدمت للحكم على أوضاع ما بأنها تمثل حالة من المد أو الجزر الثوري، ومدى إمكانية الاعتماد على تلك المعايير، وهو ما تعكسه الآراء المتباينة للماركسيين أنفسهم حول الموضوع. لهذا يتحتم على غير الماركسيين الذين يحاولون استخدام الأيديولوجية كمدخل للتفسير, أو التنبؤ أن يهتموا ليس فقط بالطريقة التي يفسر بها الماركسيون -باتجاهاتهم المتعددة- المذهب الماركسي, وإنما أن يهتموا أيضا بطريقة تعريفهم للوضع والخلفية اللذين يتم فيهما تطبيق ذلك المذهب. - قد تظهر مشكلة أخرى نتيجة انتماء الشخص لأيديولوجيات متعارضة, مثلا الليبرالية أو الماركسية من جانب علاوة على القومية. ورغم أن تلك الأيديولوجيات قد تتفق من عدة أوجه, إلا أنه من المؤكد أن تظهر بعض المتناقضات خلال الممارسة اليومية مما يدفع الفرد بشكل ما إلى الاختيار بينها. في تلك الحالة، يجب أن يشمل تفسير سلوك ما, أو التنبؤ به تفسيرا -أو تنبؤا أيضا- بالاختيارات التي تمت بين الأيديولوجيات التي تتنافس على ولاء الفرد. - قد يكون من المستحسن تجنب الافتراض الذي يرى أن الاعتبارات الأيديولوجية تؤثر وتتحكم في كل الأفعال. فمشاعر الطموح, والرغبات الشخصية مثلا ليست لها طبيعة أيديولوجية ومع ذلك فهي تحل أحيانا محل الأيديولوجية في التأثير على سلوك الفرد لدرجة أن الدوافع الشخصية للأشخاص الذين يحتلون مراكز سياسية حساسة قد تكون لها أهمية كبيرة في تشكيل سير الأحداث. أي: إنه مع الاعتراف بأن معرفة الأيديولوجية, أو الأيديولوجيات

التي يؤمن بها الفرد مفيدة غالبا في تفسير سلوكه أو التنبؤ به، فإن تلك المعرفة ليست دائما سهلة عند التطبيق1. رغم كل تلك التحفظات, يجب عدم المغالاة في الصعوبات التي قد تعترض الباحث عند استعماله لهذا المدخل الذي أثبت فائدة كبيرة في تفسير الأسباب, والخلفيات وراء قيام نظم الحكم في الدول الرأسمالية والفاشية والاشتراكية، وكذلك شرح أسباب ونتائج الحركة القومية التي اجتاحت أوروبا ثم بقية أنحاء العالم بعد ذلك. ولا شك أنه سيكون من دواعي الاستغراب أن يقوم باحث بوصف التطورات السياسية الهامة التي حدثت في العالم خلال الأحقاب القليلة الماضية دون أن يشير إلى واحدة, أو أكثر من تلك الأيديولوجيات. ليس هذا فقط، بل إن مهمة الباحث عند محاولته تفسير أو التنبؤ بسلوك شخص ما في بريطانيا أو الولايات المتحدة مثلا ستكون أسهل بكثير لو توفرت لديه معلومات صحيحة يعتمد عليها حول انتماءات ذلك الشخص, وما إذا كان رجعيا أو محافظا أو تقدميا. ولو أننا اتخذنا من اتساع المكان المخصص لدراسة مداخل البحث مقياسا لمدى فائدتها لتعين إفساح مكان أكبر لتلك الفروض التي تركز على الاعتبارات الأيديولوجية.

_ 1 Dyke, pp. 165-178.

المبحث الثالث: المدخل السلوكي

المبحث الثالث: المدخل السلوكي انتشرت في السنين الأخيرة مصطلحات تتحدث عن العلوم السلوكية والسلوك السياسي، والمدخل السلوكي. وينسحب اصطلاح "العلوم السلوكية" على كل العلوم التي توجه اهتماما خاصا لسلوك الحيوانات, وخاصة الإنسان. بهذا المفهوم, فإن كل العلوم الاجتماعية بما فيها التاريخ وعلم النفس تعتبر علوما سلوكية. كذلك, فإن اصطلاح "السلوك السياسي" يعني كل أنواع

النشاط السياسي الإنساني، كما أن دراسة السلوك السياسي هي بعينها دراسة السياسة، وليست فقط فرعا أو مجالا واحدا منها. يمكن تمييز المدخل السلوكي عن طريق معرفة طبيعة الهدف الذي يخدمه. فإذا أخذنا في الاعتبار أنه هدف علمي لكان للفظ هدف في هذا السياق عدة معانٍ منها: تطوير التعميمات أو الأحكام العامة حول السلوك السياسي, بمعنى وضع فروض للعلاقات السياسية، واكتشاف أوجه التماثل والاتساق أو اكتشاف القوانين، واقتراح النظريات. وكلما كان مستوى التعميم رفيعا, زادت قيمة العمل العلمي. تعني عملية الهدف أيضا, وفي نفس الوقت الإصرار بلا كلل على تمحيص التعميمات, وأن تكون تلك بدورها قابلة للتمحيص للتأكد من صحتها. هذا مع تجنب الفروض المعيارية حيث إن الهدف هو الوصف بما في ذلك تفسير السلوك المعياري. وتعني المطالبة بالتحقق من التعميمات اللجوء إلى التجريب والاعتماد على الملاحظة, وليس على الحقائق البديهية، والدقة في تعريف المفاهيم، والوضوح في صياغة الفروض وإطلاق اصطلاح فروض على التعميمات حتى تثبت صحتها. بالإضافة إلى العمومية والقابلية للتمحيص، فإن مفهوم الهدف العلمي يفيد المنهج ضمنا, أي: إن الهدف هو تطوير مجموعة من التعميمات أو الأحكام العامة التي ثبتت صحتها, والتي يمكن أن تكون معا بناء متماسكا لتعطي وصفا شاملا, وتفسيرا لمجال السلوك قيد البحث1. من ناحية أخرى، يمكن تمييز المدخل السلوكي بواسطة الأساليب المستعملة في البحث, بحيث تكون تلك قادرة على التوصل إلى نتائج يعتد بها

_ 1 Dyke, pp. 158, 159.

وفي نفس الوقت تسمح بتكرار اللجوء إليها, أي: إنه إذا قام شخص آخر بالدراسة, فسيصل إلى نفس النتائج. يرتبط المدخل السلوكي أيضا, علاوة على الهدف والأسلوب بنوع السؤال المطروح, أو نوع البحث المطلوب. وقد سبق القول: إنه في مجال الوصف تتحدد الأسئلة بتلك التي يمكن تقديم إجابات يعول عليها, اعتمادا على الأساليب المتاحة. فإذا حدث تناقض بين الرغبة في الوصول إلى مستوى عالٍ من التعميم, وبين الرغبة في تحقيق درجة عالية من الثقة, فإن تلك الأخيرة يجب أن تسود. إن الدارس الذي يتبنى المدخل السلوكي لا يطرح أسئلة عامة نتيجة لتأثره بالمفاهيم الوضعية. فهو لا يسأل مثلا عن سبب تحلل وانهيار الإمبراطورية الرومانية، وما إذا كانت القوة العسكرية المتاحة للدول الاشتراكية أكبر من مثيلتها في الغرب، أو ما إذا كانت الليبرالية ستنتصر في إفريقيا. كما أنه لن يركز على الأيديولوجيات أو الدساتير أو القوانين أو الهيكل التنظيمي للمؤسسات. بدلا من ذلك, فإنه يقتصر على طرح أسئلة تحتاج إلى دليل ومنطق محدودي النطاق نسبيا، ويركز على سلوك أفراد أو جماعات صغيرة نسبيا. إن الدراسات حول الدوافع النفسية وصفات وخصائص صانعي القرار, والعوامل التي تؤثر في صنعه سواء من جانب الناخبين أو المسئولين أو غيرهم تعتبر دراسات سلوكية، وكذلك الدراسات حول توزيع الآراء والمواقف المختلفة1. من هذا يتضح أن المدخل السلوكي ليس منفصلا بالضرورة عن بعض المداخل الأخرى, أي: إنه يمكن اللجوء في دراسة ما إلى كل من المدخل السلوكي, ومدخل صنع القرار مثلا. هناك ملاحظة عامة على تصنيف المداخل الموضحة أعلاه, وهي أنها كلها تقريبا تقع داخل تقسيم معين من التقسيمات السابق بيانها، باستثناء بعض المحاولات الحديثة لإضافة نماذج أخرى من مداخل البحث, أو تنقيح المداخل

_ 1 Cf. A. Brecht, Political Theory, op. cit., pp. 36, 37.

المتبعة واستعمالها كمعايير في علم السياسة. والنماذج المقترحة هي: أسلوب الإقناع الفلسفي، أسلوب بناء نماذج جديدة، أسلوب المعادلات الرياضية. وتسعى تلك المحاولات إلى تحقيق هدفين هما: تدعيم الطابع العلمي لعلم السياسة، والقضاء على الخلافات والانقسام بين علمائها حول المنهج والأساليب المتبعة1. وليس هناك من قيد على كل المداخل المذكورة, أو المقترحة سوى أن دارسي السياسة كثيرا ما يلجئون إلى التوفيق بينها مع مزج أنواع مختلفة من المعلومات مع بعضها البعض, وهو أسلوب قد يكون مرغوبا فيه في كثير من الحالات. كذلك لا يمكن اعتبار أن أي مدخل منها هو الأحسن دائما, إذ يعود الأمر إلى الباحثين أنفسهم في حرية الاختيار بينها على أساس عدد من الاعتبارات, منها مثلا مهاراتهم وخبراتهم الذاتية التي تملي عليهم اختيار مدخل دون آخر، وطبيعة المشكلة التي يواجهونها، ونوعية القارئ أو المستمع الذي يتوجهون إليه بالدراسة. في نفس الوقت, يجب أن يكون الهدف هو تطوير النظريات السببية التي يمكن تطبيقها في الموضوعات المتعلقة بتفسير الأحداث والتنبؤ بها, وإمكانية السيطرة عليها.

_ 1 R. T. Golembiewski, et. al., A Methodological Primer for Political Scientists, op. cit., pp. 11 ff.

الفصل التاسع: المفهوم الليبرالي لمناهج البحث

الفصل التاسع: المفهوم الليبرالي لمناهج البحث مدخل ... الفصل التاسع: المفهوم الليبرالي لمناهج البحث دراسة المناهج هي دراسة حية لارتباطها بالواقع العملي والفكري، كما أنها مقياس لدرجة تطور البشرية وخاصة في العلوم الطبيعية. وقد اهتم كثير من الفلاسفة والمفكرين بدراسة مشاكل المنهج منذ ظهرت الحياة المدنية المنظمة, منهم أرسطو وابن خلدون وبيكون وديكارت وسبينوزا وجون ستيوارت ميل وهيجل وماركس. وتوخيا للسهولة والوضوح سنشير بإيجاز -كلما اقتضت الضرورة- إلى بعض الاختلافات الجوهرية حول المنهج بين المفهومين الليبرالي والماركسي دون انتظار للعرض المستقل للمفهوم الماركسي للمنهج في الباب التالي. اصطلاح منهج Method مشتق من الكلمة اليونانية Methodes, وله عدة معانٍ: - فقد يشير إلى الوسائل الفنية التي تستخدم في عملية الحصول على, ومعالجة البيانات المتعلقة بموضوع البحث. - وقد يعني بشكل أكثر بساطة الأسلوب المستعمل للتوصل إلى هدف ما. - كما قد يعني أيضا الفروض التي يقوم عليها البحث عن المعرفة. سنتناول باختصار فيما يلي المفهوم الأول لاصطلاح منهج؛ لارتباطه بتلك الدراسة. في إطار ذلك المفهوم، يمكن الاستفادة من منهج التحليل، المنهج الكمي، المنهج الكيفي، منهج الاستقراء، منهج الاستنباط، المنهج المقارن. وأخيرا هناك أساليب حديثة تعتمد على التجارب المعملية سنشير إلى بعضها في الباب الرابع بعد استعراض خطوات المنهج العلمي.

المبحث الأول: منهج التحليل

المبحث الأول: منهج التحليل Analysis نهدف فيما يلي إلى تبسيط معنى هذا الاصطلاح بقدر الإمكان, دون الدخول في التفصيلات والتطورات التاريخية التي طرأت عليه منذ أشار إليه أرسطو في دراسته للمنطق, ومرورا بإيمانويل كانت حتى هوسيرل. التحليل بإيجاز هو عملية تعريف وتقييم للأجزاء التي يتكون منها الكل. وبمعنى آخر هو تعريف وتقييم للأجزاء المكونة للموضوع قيد البحث كوسيلة للحصول على معرفة غنية وجديدة. هذا مع ملاحظة أن التحليل يتخذ أشكالا ومستويات مختلفة تبعا لطبيعة ذلك الموضوع، وأن تعدد عمليات التحليل يعتبر شرطا لتوفير إدراك أعم وأشمل له. إن تحليل الظاهرة المعقدة إلى عناصر بسيطة, أو تقسيم الشيء إلى مكوناته أو وحداته يمكن أن يعود بفوائد جمة, نذكر منها: - كشف جوهر الظاهرة, أو هيكل الشيء. - تحديد علاقة العناصر أو الأجزاء بعضها ببعض, وكيفية تآلفها فيما بينها داخل الإطار العام للكل. - تحديد وظيفة كل منها وما يمثله من ثقل ومساهمة في الدور العام الذي يقوم به الكل، وبالتالي تمكين الباحث من التمييز بين ما هو أساسي أو غير أساسي من تلك العناصر أو الأجزاء. - كشف المراحل المتعددة التي تمر بها الظاهرة في حركتها وتطورها, ومعرفة ما قد يكون هناك من اتجاهات متعارضة. - تمكين الباحث من تصنيف الظواهر والأشياء بطرق كثيرة؛ لتخدم أغراضا متعددة1.

_ 1 Dyke, pp. 179, 180; Frederick W. Frey, "CrossCultural Survey Research in Political Science", in: Robert T. Holt And John E. Turner, eds., The Methodology of Comparative Research, New York 1970, pp. 288, 289. ياسين خليل، منطق المعرفة العلمية "تحليل منطقي للأفكار والقضايا والأنظمة من المعرفة التجريبية البرهانية, الجزء الأول من نظرية العلم"، بنغازي 1971. انظر الفصل الثالث عن التحليل والتركيب, وخاصة التجزئة أو القسمة إلى عمودية وأفقية، ص80 وما بعدها.

إلا أنه من الصعب ذكر كلمة التحليل دون ذكر كلمة التركيب Synthesis؛ وذلك للعلاقة الوثيقة التي تربطهما. فكما يعني التحليل عملية تفتيت الكل إلى أجزاء سواء كان تفتيتا واقعيا "كما يحدث في العلوم الطبيعية كالطبيعة والكيمياء", أو تفتيتا ذهنيا "كما هو الحال في العلوم الاجتماعية"، فإن التركيب يعني إعادة تجميع وبناء الأجزاء لتكوين الكل. ويلعب كل من التحليل والتركيب دورا هاما في عملية الإدراك, ويحدثان بشكل مستمر في كل مرحلة من مراحله، كما يرتبطان ارتباطا وثيقا بعمليات ذهنية أخرى كالتجريد والتعميم. في حالة التحليل، نلاحظ أن الذهن ينتقل من المركب إلى البسيط، ومن الكل الذي قد يحدث صدفة إلى الواحد الذي لا يمكن تجنبه أو تجاهله، ومن تعدد الأشكال إلى التحدد والذاتية. إن هدف التحليل -كما قلنا- هو إدراك الأجزاء أو العناصر كمكونات لكل مركب مع معرفة الضوابط التي تربط علاقاتها من جهة, والقوانين التي تحكم حركة وتطور الكل المركب من جهة أخرى. أما التركيب فهو -كما أسلفنا- توحيد الأجزاء المبعثرة, أو العلاقات المفككة في كل واحد. إن التركيب في انتقاله من المتماثل والأساسي الواحد إلى المختلف والمتعدد إنما يربط الخاص بالعام, والوحدة بالتعدد في كل جديد حي. وبينما يرى الفكر الماركسي أن التركيب يكمل التحليل, ويرتبط به في وحدة لا تنفصم, فإن الفكر الليبرالي يفصل بينهما ويجعلهما متعارضين معتبرا أنهما مجرد

مناهج فكرية لا ترتبط بالعالم الحي, أو بتجربة الإنسان1. على أنه من الأهمية بمكان إدراك الموقع الذي يحتله التحليل في السلسلة الطويلة من الخطوات التي يستلزمها المنهج العلمي, والتي سنشير إليها في نهاية عرضنا للمناهج. بعض المفكرين الأمريكيين كجون ديوي مثلا يرى أن البحث لا يبدأ بالحقائق أو وضع الفروض, وإنما بالاعتراف بوجود وضع شائك أو مشكلة تحتاج إلى حل. بالمثل يرى نور ثروب أن التحليل -أي: تحليل المشكلة- هو الخطوة الهامة الثانية وليست الأولى, ثم تأتي بعدها مرحلة صياغة الفرض العلمي, بينما يضيف أرنولد بريشت أن الاعتراف بوضع ما على أنه شائك ثم الانهماك في تحليله هما خطوتان يجب أن تسبقهما فكرة ما يكونها الباحث, أو فرض تجريبي "فرض عمل" بأن الوضع القائم يخفي مشكلة هامة قد يكون تحليلها ذا علاقة بالمعرفة الإنسانية بشكل عام2. لا يمنع هذا من الاعتراف بما لمنهج التحليل من العمومية والشمول بحيث يستخدم أحيانا في تسمية المناهج الأخرى, كالقول مثلا: التحليل الكمي، التحليل الكيفي، التحليل المقارن, بدلا من المنهج الكمي أو الكيفي أو المقارن.

_ 1 V. Afanasyev, Marxist Philosophy, A Popular Outline Moscow, no date, p. 169; M. Rosenthal, P. Yudin, eds., A Dictionary of Philosophy, op. cit., 18, 19; Georgi. Plekhanov, Selected Philosophical Works, Vol. 1, Moscow 1974, pp.610, 730,731. 2 John Dewey, Logic, The Theory of Inquiry, New York 1938; F.S.C. Northrop., The Logic of the Sciences and the Humanities, New York 1947, pp. 18, 28, cited by A. Brecht, Political Theory, op. cit., p. 30,n.2.

المبحث الثاني: المناهج الكمية والكيفية

المبحث الثاني: المناهج الكمية والكيفية Quantitative & Qualitative Methods الكم والكيف من الناحية الفلسفية مقولتان تعكسان الجوانب الهامة للحقيقة الموضوعية. ويمتلئ الكون من حولنا بأعداد لا تحصى من الأشياء والظواهر الدائمة التغير والحركة, والتي يختلف كل منها عن الأخرى أو عن الآخر بصفات وخصائص معينة. كل شيء في الوجود له كم وكيف, لا يجب الخلط بينهما. فالكم يدل على درجة تطور الشيء والمرحلة التي وصل إليها أو درجة كثافة خصائصه الجوهرية، وكذلك حجمه وكتلته ... إلخ. ويعبر عن الكم عادة بواسطة الأرقام كما يحدث عند الكلام عن حجم ووزن وكتلة ومدى كثافة أو شدة لونه، ودرجة الصوت المنبعث منه. للظواهر الاجتماعية أيضا خصائص كمية. فكل نظام اقتصادي اجتماعي مثلا له مستوى معين في الإنتاج والتطور يميزه عن غيره, كما أن لكل دولة طاقتها الإنتاجية المحددة وكمية معروفة أو تقديرية لما لديها من موارد طبيعية, ومصادر طاقة, وقوة عاملة. لهذا, فإن المناهج الكمية هي تلك التي تشتمل على قياس أو عمليات حسابية أو علاقات عددية. ولا ينسحب ذلك فقط على الوحدات الخاصة بقياس الزمن, وإنما يمكن أيضا عد وقياس مفردات أخرى مثل: الكلمات، المقالات، الموضوعات، الناس، أصوات الناخبين، العملات، وحدات الإنتاج ... إلخ. يميل المحبذون للمناهج الكمية إلى الاهتمام بكل التفاصيل الصغيرة عند التطبيق, فيصرون على تقديم تعريف دقيق لما يتم عده أو قياسه, وفي نفس الوقت يكون قابلا للتعريف بشكل موضوعي، وأن تتم عملية العد والقياس بعناية مع مراعاة أن تسمح الوسائل المستخدمة بتكرار عملية القياس بنجاح،

وأن يكون ممكنا إثبات صحة المعرفة المكتسبة1. غير أن استخدام المناهج الكمية لا يعني اختفاء الاختيارات الذاتية. فالباحث هو الذي يختار السؤال المطروح, أو الفرض المطلوب اختبار صحته متأثرا في ذلك بخياله وحدسه, ومدى نفاذ بصيرته التي تلعب كلها دورا هاما في هذا الاختبار. إن مدى رجاحة حكم الباحث, وما قد يتمتع به من صفات أخرى تلعب دورها إذا لزم الأمر تعريف المفردات المختلفة موضع العد والقياس أو تصنيفها بهدف التبسيط، أو إذا أريد أخذ عينات أو عمل استفهامات. لهذا, فإن العوامل الذاتية -لا شك- تؤثر في جدوى, وربما في صحة النتائج التي يتم الحصول عليها بتطبيق المناهج الكمية. أي: إن المنهج يسمى منهجا كميا إذا احتاج بعد حد معين إلى العد, أو القياس وفقا لقواعد واضحة ومحددة2. على العكس من ذلك يتجلى الكيف في مجموعة من الخصائص والصفات التي يميز كل منها أحد جوانب الشيء أو الموضوع, كما يعطي الكيف الفكرة العامة عن الموضوع ككل. بهذا يستطيع الكيف تحديد نوعية الشيء وتمييزه عما عداه من الأشياء الأخرى التي لا تحصى ويزخر بها عالمنا. أي: إن لكل الأشياء والظواهر كيفا أو نوعا خاصا يمكننا من تعريفها, والتمييز بينها. يمكن إثبات ذلك عند ملاحظة, أو دراسة الظواهر الطبيعية للفلك والمعادن والسوائل والغازات, أو عند التفرقة بين جسم حي وجسم ميت. بالمثل تختلف الظواهر الاجتماعية من الناحية الكيفية, فحيازة بعض الأمراء لأراضٍ واسعة

_ 1 Dyke, p. 181; Thomas C. McGormick and Roy G. Francis, Methods of Research in the Behavioural Sciences, New York 1958, Chaps, 5-8; Maurice Duverger, Methodes De La Science Politique, op. cit., pp. 105ff. 2 Ibid., p. 109.

وانتشار نظام الأقنان وارتباطهم بالأرض وعدم السماح لهم بالانتقال منها وسيادة نظام الطوائف الحرفي تعتبر كلها خصائص مميزة للنظام الإقطاعي. يختلف النظام الرأسمالي عما سبق اختلافا كيفيا, وذلك من حيث انتشار الصناعات الثقيلة والخفيفة وإلغاء نظام الطوائف الحرفي والسماح بانتقال الفلاحين والحرفيين إلى المدن للعمل في الصناعة، والملكية الفردية لوسائل الإنتاج الرئيسية، وسيادة نظام الإنتاج السلعي واقتصاديات السوق والتوسع في استخدام العمل المأجور. تختلف هذه الظواهر كيفا أيضا عن مثيلاتها في النظام الاشتراكي في كل ما يتعلق بمكونات, وفلسفة الهيكلين الفوقي والتحتي للمجتمع ... وهكذا. خلاصة القول: إن المناهج الكيفية لا تشتمل على عد أو قياس, وإنما تأخذ في الاعتبار بتلك الخصائص, والفروق الكيفية بين الأشياء التي رغم وضوحها تتعرض للتأثر بالاعتبارات الخاصة للمشاهد, أو الباحث. لهذا يرى البعض1 أنها تعتمد على الصفات الخاصة للباحث كرجاحة حكمه أو منطقه أو مدى نفاذ بصيرته أو خياله أو بديهته أو قدرته على تكوين انطباعات دقيقة ورؤية طبيعة ونوع العلاقات المتبادلة. بناء عليه, تعتبر المناهج كيفية في الحالات التالية: - إذا غلب عليها الشكل الانطباعي, أو استلزمت تقييمات عامة وليس عدا دقيقا حتى ولو تخللتها تعبيرات شبه كمية مثل: عادة، غالبا، نادرا، عامة. ويمكن أن يقال نفس الشيء بالنسبة لأنواع أخرى من التعبيرات كالقول بأن اعتبارا معينا نال قدرا من الاهتمام والتركيز "أكثر" من غيره, أو أن هناك "ميلا متزايدا" إلى اعتبار أن مهمة المنشآت العسكرية مثلا هي الردع وليس الحرب، فكل هذه التعبيرات تعكس عادة انطباعات أو تقييمات وتقديرات شديدة العمومية, وليس قياسا أو عدا فعليا.

_ 1 M. Grawitz Methodes Des Sciences Sociales, op., cit., pp. 631, 632.

- إذا اعتمدت على ذكاء الباحث في ملاحظة وجود, أو غياب دليل ما مع عدم ارتباط ذلك بمعدل تكراره النسبي. فقد تزودنا الدراسة الذكية التي يقوم بها الباحث لتصريح واحد من تصريحات رئيس الدولة بالأساس الذي يقوم عليه التنبؤ بإجراء حكومي ما, أو تفسيره. - إذا كانت الاستنتاجات قد تم التوصل إليها عن طريق دراسة واحدة، أو إذا لم يتوفر اطمئنان كافٍ للصفة التمثيلية للعينات القليلة المأخوذة، بمعنى عدم وجود ضمان لصحة تمثيل الحالات القليلة التي خضعت للدراسة لمجموع تلك الحالات. فهي مناهج كيفية إذًا بسبب الاعتماد الكبير على حكم, وتقدير الباحث في اختيار الحالات التي درسها. - إذا كانت الموضوعات المعروضة للدراسة ذات طابع فريد, أو مميز "أحداث أو مؤسسات أو ممارسات أو ظروف اجتماعية" يصعب معه إجراء عملية عد مفيدة. - إذا كانت الموضوعات المعروضة للدراسة ذات صلة بمعنى الكلمات, أو مغزى الأحداث. هناك إذًا تباين بين نوعي المناهج الكمية والكيفية, إذ يختلفان في مدى ملاءمة كل منهما للتطبيق حسب نوع المشاكل أو المواقف. ومن الملاحظ أن هناك ميلا إلى استخدام المناهج الكيفية في معالجة المشاكل المعقدة حيث تقوم صعوبات عملية, أو حيث يستحيل تماما تجزئة تلك المشاكل والموضوعات أو عادة تقسيمها إلى وحدات أصغر تسمح بالعد والقياس1.

_ 1 حول القيود التي تحد من استعمالات المناهج الكمية, انظر: Hans Morgenthau, "Power as a Political! Concept", in: Roland Young, ed., Approaches to the Study of Politics, op. cit., pp. 69fF; G. Kluckhohn, "Cultural Anthropology", in: Lynn White, ed., Frontiers of Knowledge in the Study of Man, New York 1956, p. 39. cited by Dyke, pp. 182,183.

يقودنا هذا إلى الاستنتاج بأن المناهج الكيفية تستخدم في معالجة معظم الموضوعات التي يتعرض لها علماء السياسة بالبحث. بينما يلجئون إلى المناهج الكمية في المسائل المتعلقة أساسا بالوحدات النمطية الكبيرة العدد كالناخبين. من ناحية أخرى, يرجح الاعتماد على النتائج المتحصلة من استخدام المناهج الكمية وليس الكيفية, لكن يتحتم إدراك أن المنهج -أيا كان ومهما بلغت دقته- ليس عصا سحرية، وأن أفضل المناهج لن تعطي الثمار المرجوة ما لم يكن استعمالها معتمدا على باحث يعرف طريقه إلى هدفه المحدد, معتمدا على سعة أفقه وقدرته الإبداعية. لهذا قد تساعد الأسئلة المطروحة أكثر من المناهج المستعملة على كشف مدى نفوذ وأصالة العلماء الباحثين, إذ إن مشكلة البحث العلمي ليست دراسة أية حقائق مهما كان مستواها أو تجميع معلومات عامة متفرقة، وإنما هي دراسة حقائق ومعلومات تخدم هدفا محددا طموحا وذا مغزى في نفس الوقت. إذا توفرت تلك العوامل فقد يتوصل هؤلاء الأذكياء إلى استعمال, أو تطوير مناهج -ربما تكون كمية- بدت حتى ذلك الحين غير ضرورية, أو لا علاقة لها بالموضوع.

المبحث الثالث: المناهج الاستقرائية والاستنباطية

المبحث الثالث: المناهج الاستقرائية والاستنباطية lnductive, Deductive Methods الاستقراء نوع من التفكير وأسلوب للدراسة يتتبع الجزئيات للتوصل منها إلى حكم كلي. ويعود الاستقراء تاريخيا إلى بعض كتابات أرسطو وإن كان الاهتمام به قد زاد في القرنين السابع عشر والثامن عشر نتيجة للتطور الكبير في العلوم الطبيعية. والاستقراء كمنهج للبحث يعني اتباع أسلوب تجريبي في دراسة الظواهر ننتقل فيه من الحقائق الفردية إلى الفروض العامة. أي: تقودنا الأولى وهي

الحقائق إلى الثانية, وهي الفروض أو تكوين المفاهيم1. أما الاستنباط "أو الاستنتاج" فهو استخدام قوانين المنطق في إثبات, أو الاستدلال على نتيجة ما من فرض أو أكثر. هذه النتيجة عبارة عن سلسلة من الفروض كل منها إما مقدمة, أو فرض ينتقل مباشرة من فروض أسبق في تلك السلسلة. وتجب ملاحظة أنه في النتيجة التي أمكن الاستدلال عليها تختفي الحقائق في الفروض, مما يدعو إلى استنتاجها بالتحليل المنطقي. هذا, وقد أدت الدراسات التي جرت في القرنين التاسع عشر والعشرين حول مشاكل المنطق الرياضي, إلى إكساب الأفكار الغامضة المرتبطة بالاستنباط مزيدا من الدقة، كما أظهرت أن المفهوم الشائع عن الاستنباط كانتقال من العام إلى الخاص هو مفهوم ناقص2. وفي الواقع، كانت وجهة النظر القديمة -التي تعرضت لنقد شديد- ترى أن الاثنين متناقضان, وأنه في حالة الاستقراء ينتقل التفكير من الخاص إلى العام بينما في الاستنباط يحدث العكس. وتعتبر مثل هذه المناقشة سقيمة حيث إنه لا غنى عن الاثنين في البحث العلمي. ولعل الأدق هو التمييز بينهما على أساس أن منهج الاستقراء يسعى إلى إثبات حقيقة ما عن طريق ملاحظة الواقع الحي, بينما ينصرف الاهتمام في منهج الاستنباط في المرتبة الأولى إلى المعاني المتضمنة في فروض معينة3.

_ 1 J.M. Bocheski, The Methods of Contemporary Thought, New York and Fvanston 1968, pp. 107, 108. لمزيد من التفاصيل حول الاستقراء وأنواعه انظر: ياسين خليل، منطق المعرفة العلمية، مرجع سابق، ص218 وما بعدها. 2 M. Roesnthal, P. Yudin, eds., A Dictionary of Philosophy, op. cit., pp. 214, 215,112 ; cf. A. Brecht, Political Theory, op. cit., pp. 28, 56, 59, 516. 3 Dyke, p. 184; S. L. Wasby, Political Science "The Discipline and its Dimensions", op. cit., p. 2?.

إن القول بأن المناهج الاستقرائية تجريبية ومنطقية, بينما المناهج الاستنباطية منطقية بحتة قد يعني أن التفكير الاستنباطي يستبعد التجربة ويعتمد على الاستنتاج فقط, وهذا غير صحيح. فالمنهج الاستنباطي هو منهج للاستدلال العلمي يعتمد تماما على الوسائل الفنية للاستنباط التي أشرنا إليها مع ملاحظة أن الاستنتاج نفسه ما هو إلا محصلة الجهود العلمية والفكرية للإنسان على مدى قرون متعددة. ويعتبر المنهج الاستنباطي من المناهج الصحيحة المعتمدة في الاستدلال العلمي, وهو يستخدم كقاعدة عامة في منهجة المعلومات التي تم جمعها وتفسيرها نظريا, من أجل الاستدلال على كافة النتائج المتعلقة بالموضوع بشكل دقيق, ومترابط من شأنه أن يضيف معرفة جديدة تحوي العديد من التفسيرات المحتملة للنظرية التي تمت صياغتها بالاستنتاج. لهذا, فإنه لا محيص للباحثين في العلوم الاجتماعية من استعمال كل من المناهج الاستقرائية والاستنباطية, وإن كان من الواضح أنها تستخدم كمناهج مساعدة وليس بمعزل عن المناهج الأخرى الكمية والكيفية ومنهج التحليل.

المبحث الرابع: المنهج المقارن

المبحث الرابع: المنهج المقارن Comparative Method المقارنة هي التمييز بين أو وصف الخصائص والصفات المشتركة أو المختلفة لشيئين أو أكثر, أي: هي تقصي نقاط التشابه والاختلاف. وتحل المقارنة أحيانا محل التعريف أو تكمله. وقد تعني المقارنة أيضا النتيجة التي قد تتمخض عن أي من تلك الدراسات. يخطئ من يظن بسهولة هذا المنهج, إذ إنه في الواقع منهج صعب يلقي تبعات كثيرة على من يتبناه في البحث؛ لأنه يتعين عليه أن يتغلب على عدة مشاكل نظرية تتضمن حسن اختيار الموضوعات التي سيقارن بينها, والمعايير الملائمة لذلك. هذا علاوة على ضرورة تغطية العناصر الهامة المميزة للنظام السياسي كالمؤسسات الاقتصادية, والخلفية الثقافية, والأوضاع النفسية, وحتى الاعتبارات

اللغوية مع ضرورة الحذر من إجراء مقارنات اصطناعية تعتمد على الخلل الذي قد يشوب العناصر موضوع المقارنة1. انطلاقا من ذلك, يعتبر المنهج المقارن وسيلة لبحث وتعليل الظواهر المختلفة وتقصي الجذور التاريخية عن طريق التحقق من التماثل, أو الاختلاف في النمط والأسلوب, وإن كان هذا لا يمنع من التعرض للمشاكل الحديثة بمنهج مقارن كما هو الحال بالنسبة لمعظم الدراسات المعاصرة التي تكاد تنتمي بما تحويه من مادة ومشاكل إلى حقل العلاقات الدولية. وعند تطبيق المنهج المقارن، يمكن تجميع الظواهر التي يتوافر بينها قدر كافٍ من التماثل ثم وضعها تحت عنوان ما، وهو ما يعطي لهذا المنهج دورا في عملية تكوين المفاهيم. فوق ذلك، فإن الكشف عن التباين بين الأشياء والظواهر وعقد المقارنات يعتبر أساسا لعملية التصنيف, أي: إن أهمية المنهج المقارن بالنسبة لعمليتي الفكر والتعبير عنه تنبع من الدور الذي يلعبه في التصنيف, وتكوين المفاهيم. هذا, ويعتبر من قبيل المقارنة التمييز بين أحداث معينة أو ممارسات أو وظائف أو مؤسسات. كذلك فإنه عند القيام بعملية تنبؤ -سواء على أساس قانون أو نظرية- ثم مراجعتها على الحقيقة للتثبت من صحتها, فنحن في الحقيقة نقارن التوقع بالحدث. وغني عن البيان أن الكشف عن أوجه التماثل والاختلاف

_ 1 Jan Barents, Political Science in Western Europe "A Trend Report", London 1961, pp.f 55-56; G. Heckscher, The Study of Comparative Government and Politics, London 1957, cited by prof., Barents as containing fthe most fruitful discussions of the round table on Comparative Government, held by the International Political Science Association in Florence 1954; M. Duverger, Methodes De La Science Politique, op, cit., pp. 3126ff.

عن طريق عقد المقارنات, يزود الباحث بفكرة أوضح للأشياء والظواهر موضوع الدراسة, وفهم أدق لمعنى الرموز المستخدمة1. ومن الأهمية بمكان ملاحظة الاعتماد المتبادل, والارتباط الوثيق بين كل تلك المناهج. فالمنهج المقارن يتشابه مع المنهجين السابقين للاستقراء والاستنباط من حيث إنه منهج مساعد ومكمل للمناهج الأخرى. فمثلا، كثيرا ما يكون التحليل مقارنا، كما تشمل المناهج الكمية والكيفية عقد مقارنات, كذلك تلجأ المناهج الاستقرائية والاستنباطية إلى الاستفادة من المنهج المقارن. إلا أن هناك بعض أوجه القصور التي تظهر عند تطبيق هذا المنهج, يمكن إجمالها في النقاط التالية: - جنوح البعض إلى التركيز على المظاهر الخارجية للأيديولوجيات, والأنماط الثقافية مع إهمال العلاقات الاجتماعية الواقعية التي دفعت بتلك المظاهر إلى السطح. - الافتقار إلى الدقة في المسميات بحيث يطلق اسم المنهج ككل على أحد فروع علم السياسة, وهو النظم السياسية. - انتشار فكرة خاطئة لدى البعض بأن استعمال هذا المنهج قاصر على دراسة الحكومات الأجنبية فقط. - الاستعمال الفضفاض لاسم المنهج لإخفاء ضعف الدراسة. فما لم تتوافر مقتضيات المنهج المقارن بالشكل المشار إليه آنفا، فإن مجرد إضافة

_ 1 Cf. David Apter, "A Comparative Method for the Study of Politics", in: The American Journal of Sociology, 64, Nov. 1958, pp. 221-231; Roy3 C. Macridis, The Study of Comparative Government, Garden City, N. Y. 1955, pp. 1-6, cited by Dyke, pp. 184, 185; M. Grawitz Methodes Des Science Sociales, op. cit., p. 419.

لفظ مقارن إلى مجموعة من المعلومات المتناثرة عن حكومة واحدة, أو أكثر ليس كافيا لتصنيف تلك الدراسة تحت هذا المنهج. تحدث أوجه القصور تلك في بعض الكتب والمناهج الدراسية التي تتناول الحكومات المقارنة, فتشمل وصفا ركيكا غير هادف لمؤسساتها من حيث الهيكل التنظيمي أو الوضع الدستوري أو الاقتصادي. ربما تكون حصيلة تلك الكتابات التي تسمى تجاوزا دراسات مقارنة كافية للقارئ العادي, أما بالنسبة للقارئ المتخصص, أو عالم السياسة فلن تكون إلا باعثة على الملل لخلوها من المتطلبات, والضوابط المنهجية التي تجيز إطلاق تلك التسمية عليها1. علاوة على المناهج أو الأساليب الفنية التي ذكرناها، تجدر الإشارة إلى أنه يمكن الاستفادة في مجال العلوم الاجتماعية بمناهج أخرى للبحث والتفكير من وجهة النظر الليبرالية, وإن كان يغلب عليها الطابع الفلسفي2. فانطلاقا من الوضعية المنطقية مثلا ظهرت في الثلاثينات من هذا القرن مناهج تركز على دلالات الألفاظ, وعلى تحليل اللغة ورموزها Semiotic Methods مع الاستعانة بالتقدم العلمي, وخاصة في ميدان الطبيعة. هناك أيضا المنهج الظاهراتي, أو منهج الظواهر Phenomenological Method الذي ينبثق من فلسفة هوسيرل, ويعتمد على الحدس كوسيلة للحصول على المعرفة. فبالحدس -وفقا لهذا المنهج- يدرك الإنسان الشيء الذي يمكن أن

_ 1 J. Barents, Political Science; in Western Europe, op. cit., p. 54; M. Grawitz, Methodes Des Science Sociales op. cit., pp. 420, 421. 2 لمزيد من التفاصيل حول الطابع الفلسفي لتلك المناهج الأخيرة, واستعمالاتها انظر: J.M. Bochenski, TheMethodesof Contemporary Thought, op. cit., pp. 16, 30, 65, 91 ff.

يخضع, أو يكون قابلا للمشاهدة. هذا الشيء الذي يمكن مشاهدته هو ما يسميه هوسيرل بالظاهرة. وأخيرا هناك نوعان آخران من تلك المناهج هي: البدهي أو الأولي Axiomatic Method, ثم ما يسمى بالمناهج المصغرة Reductive Methods. على العموم، لا بد هنا من إعادة تأكيد الحقيقة التي سبقت الإشارة إليها من أن المنهج ليس عصا سحرية. فالقاعدة هي أن استخدام منهج ما يمكن أن يعطي نتائج هامة ومفيدة في حالة واحدة، تلك هي الاستفادة منه وتطبيقه بشكل هادف وذكي. معنى ذلك أنه لا يمكن تجنب الفشل حتى مع استعمال أفضل المناهج العلمية وأحدثها إذا فشل الباحث في طرح الأسئلة الملائمة للموضوع. ففي حالة المنهج المقارن -على سبيل المثال- نجد أنه إذا اقتصر الباحث على مجرد عقد مقارنات بين حكومتين, أو أية وحدات أخرى فلن تكون النتيجة سوى مقارنات باردة وتافهة. بالمثل، قد لا يوفق المشرع في سنّ القوانين اللازمة لعلاج بعض الظواهر كانحراف الأحداث أو الانفجار السكاني في دولة محدودة الموارد أو زيادة حالات الطلاق ... إلخ، إذا جانبه الصواب في طرح الأسئلة لكل حالة، والاهتداء إلى مداخل ومناهج بحث تناسب ظروف كل منها. على العكس من ذلك، إذا طرحت الأسئلة الملائمة ووضعت الفروض الصحيحة ردا عليها, صار للمنهج مغزى وأهمية. ومن ثم, فإن المنهج يأتي دائما في المرتبة الثانية بعد توضيح المشكلة أو موضوع البحث, وتحديد الأسئلة الواجب طرحها تمهيدا لبدء الدراسة.

الباب الثالث: المفهوم الماركسي لمناهج البحث

الباب الثالث: المفهوم الماركسي لمناهج البحث الفصل العاشر: الميتافيزيقية والجدلية المبحث الأول: أسباب الخلاف المنهجي بين الليبرالية والماركسية ... الباب الثالث: المفهوم الماركسي لمناهج البحث الفصل العاشر: الميتافيزيقية والجدلية لا تعترض الماركسية على استخدام مدخل أو آخر, أو حتى عدة مداخل لبحث شيء أو ظاهرة ما بالشكل الذي عرضناه أعلاه. كما أنها لا تعترض أيضا على تبني أحد المناهج العلمية المذكورة أعلاه كالتحليل أو المنهج الكمي، الكيفي، الاستقرائي، الاستنباطي، المقارن. المبحث الأول: أسباب الخلاف المنهجي بين الليبرالية والماركسية إن الخلاف بين الفلسفتين الماركسية والليبرالية ليس خلافا سطحيا حول انتقاء مدخل أو أكثر, أو اختيار منهج دون آخر بقدر ما هو خلاف جوهري حول موقف كل منهما من العالم والوجود وشكل الطبيعة ومغزى قوى وعلاقات الإنتاج في المجتمع. سنوجز فيما يلي أهم نقاط هذا الخلاف, آخذين في الاعتبار أن الماركسية لا تعترف بوجود منهج ما إذا اقتصر على مجرد عدة طرق آلية مختلفة للدراسة, يختارها الباحث بالصدفة دون أن تكون للمنهج علاقة بالظواهر المختبرة. ترى الماركسية على العكس من ذلك أن المنهج يتحدد إلى درجة كبيرة بطبيعة تلك الظواهر, وقوانينها الجوهرية. سبقت الإشارة إلى أن المفكرين, والفلاسفة اهتموا بدراسات المنهج منذ ظهرت الحياة المدنية المنظمة على الأرض بهدف اكتشاف أفضل الطرق العلمية للتوصل إلى حقيقة الكون والوجود والإنسان.

كان طبيعيا أن تتأثر تلك الدراسات بظروف الحياة, ومستوى التقدم العلمي والفني والإنتاجي في كل عصر وهو ما ظهر على شكل ارتقاء مستمر في أساليب التفكير, والتأصيل المنهجي كلما حققت البشرية خطوات إلى الأمام. لهذا ينطلق الماركسيون من فرض يقول بأن معرفة الواقع -أي: الطبيعة والمجتمع- هي ضرورة لإمكان تغييره. ولما كان الإنسان يعرف الواقع من خلال مختلف العلوم, فإن الحصول على معرفة يعتد بها لا يكون إلا عن طريق مفهوم علمي للعالم الذي هو الفلسفة الماركسية أي: المادية الجدلية. وكما ظهرت فلسفات ومناهج بحث تعكس وتتلاءم مع أسلوب الملكية الفردية لوسائل الإنتاج, ظهرت أيضا فلسفات وتعديلات أساسية على مناهج البحث التقليدية تحاول تفسير الاتجاه المقابل نحو الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج الرئيسية, والاشتراكية بتطبيقاتها المتعددة. لكن لم يكن المنهج المادي الجدلي أول المناهج, أو الكتابات التي دافعت عن ذلك الاتجاه المقابل. فقد سبقته كتابات كثيرة تعتبر ذات اتجاه مادي -ونواة مثالية في أغلب الأحوال1- وإن كان المنهج المادي الجدلي يعتبر أكثرها تطورا وتعبيرا عن الأساليب الجديدة للإنتاج والملكية الجماعية والفكر المصاحب لها. ليس المقصود من كلمة مادية معناها الدارج المبتذل, وهو الرغبة العارمة في التمتع باللذات وحصر الفكر في الحاجات المادية للحياة فحسب. وقد رفض فردريك إنجلز زميل ماركس ذلك المفهوم, وعزاه إلى التحيز القديم ضد المادية أيام محاكم التفتيش, إذ يقول:

_ 1 Friedrich Engels, "Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy" in: Marx Engels, Selected Works, Vol. II, Moscow 1955,p. 372; G. Plekhanov, Selected Philosophical Works, op. cit., pp. 537ff, قارن: محمد محمود ربيع، منهج ابن خلدون في علم العمران، مرجع سابق، ص215، 233-236.

"فالمتعصب الأعمى هو الذي يفهم المادية بمعنى الشراهة والسكر والملذات الحسية والحياة المترفة والشهوة والبخل والطمع والجري وراء الربح والمضاربة في البورصة، أي باختصار: كل الرذائل الدنيئة التي ينغمس فيها "البرجوازي" هو نفسه سرا"1. أما الفكر الماركسي فيتناول كلمة مادية من حيث هي مفهوم فلسفي يتضمن طريقة معينة في فهم ظواهر الطبيعة -كما هي في الواقع- وتفسيرها على أساس مبادئ محددة, وبالتالي فهم وتفسير مظاهر الحياة الاجتماعية. فالمادية هي النظر إلى العالم ومواجهته ووضع مفهوم له يعمل كأساس لمختلف العلوم, أي: إن ذلك المفهوم هو التفسير العام والأساس المتين لكافة أنواع الإنتاج العلمي. على عكس ذلك المثالية التي تعتبرها الماركسية فلسفة للهروب من الواقع, ومن ثم يصبح معنى المادية الجدلية النظر إلى العالم في تطوره الواقعي؛ لأن الجدل يدرس القوانين التي تفسر تطور المجتمع. إن الشرط الجوهري للتطوير الناجح للمعرفة يتركز في التطبيق الواعي للمنهج العلمي. وتعتبر القوانين الموضوعية للواقع أساس كل مناهج المعرفة، ولعل هذا هو سبب العلاقة القوية بين المنهج والنظرية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن موضوعية الواقع تعني أنه غير ذاتي, أي: إنه موجود في الخارج, ومستقل في وجوده عن تفكير الإنسان ووجوده. إن المادية الماركسية ليست هي والعلوم شيئا واحدا؛ لأنها لا تتناول وجها واحدا محددا من وجوه العالم الواقعي كما يفعل كل علم من تلك العلوم، وإنما هي مفهوم للعالم في مجموعه, أي: المفهوم الذي تعترف به العلوم ضمنا. معنى ذلك: أنه كل علم يدرس وجها من وجوه "الطبيعة بما هي كذلك", أما

_ 1 جورج بوليتزير، المادية والمثالية في الفلسفة، مرجع سابق، ص15. كذلك انظر أعلاه، الفصل الرابع، حاشية 20.

الفلسفة الماركسية فهي "المفهوم الكلي للطبيعة بما هي كذلك"1. هناك مناهج خاصة للعلوم المادية التي تبحث في المدركات بالحواس, وذلك بحكم الأهداف المحددة لدراستها, أما الفلسفة التي تختلف عن تلك العلوم, فإنها تستنبط المنهج العام للإدراك وهو المادية الجدلية. وتشكل القوانين العامة لتطور العالم المادي الأساس الموضوعي لتلك المادية, ولا يحل ذلك المنهج محل مناهج العلوم الأخرى, وإن كان يشكل أساسها الفلسفي العام وأداة الإدراك ليس فقط لمجالات الواقع المتفرقة, وإنما لكل ما يتعلق بالطبيعة والمجتمع والفكر دون استثناء أي أداة لفهم العالم ككل2. ويعتبر الجدل منهجا لتغيير العالم كما أن المنهج الجدلي يتناقض مع منهج ما وراء الطبيعة كما سيأتي ذكره. من جهة أخرى، تعتبر المادية التاريخية تطبيقا لمبادئ المادية الجدلية على تطور المجتمع الإنساني. فهي نظرية علمية للتطور الاجتماعي, ومنهج للإدراك والتحول الثوري للمجتمع. وتكون كل من المادية الجدلية والمادية التاريخية الأساس النظري للاشتراكية العلمية؛ ومن ثم يعرف الماركسيون فلسفتهم بأنها علم قوانين تطور الطبيعة والمجتمع3.

_ 1 جورج بوليتزير، جي بيس, موريس كافين، المبادئ الأساسية للفلسفة, مرجع سابق، ص22-24، يشار إلى هذا المرجع فيما بعد باسم المبادئ الأساسية للفلسفة. 2 V. Afanasyev, Marxist Philosophy, op, cit, p. 14. 3 lbid., pp. 18, 19.

المبحث الثاني: المنهج الميتافيزيقي

المبحث الثاني: المنهج الميتافيزيقي الميتافيزيقا: كلمة مشتقة من اللغة اليونانية meta ta-Physika, معنى ميتا "ما وراء" وفيزيقا "علم الطبيعة" أي: ما بعد, أو ما وراء الطبيعة. وموضوع الميتافيزيقا حسب مفهوم أرسطو هو دراسة الوجود الذي يوجد وراء الطبيعة, والوجود وراء الطبيعة -أي: الوجود فوق الطبيعي- وجود أبدي لا يتغير

بينما الطبيعة حركة1. أطلق هيجل على المنهج القديم للفكر والبحث اسم "المنهج الميتافيزيقي". وقد التمست الماركسية العذر لتخلف ذلك المنهج بسبب تخلف العلوم, والظروف الاجتماعية في ذلك الوقت. فعلم الطبيعة في فجر العلوم كان لا بد أولا أن يتعرف على الأنواع الحية, وأن يصنفها, فالنبات ليس حيوانا والحيوان ليس نباتا، كذلك الفصل جيدا بين الحرارة والضوء ... إلخ؛ خشية الخلط بينها. هكذا ظل العلم فترة طويلة عاجزا عن تحليل الحركة؛ ومن ثم أعطى الأهمية الكبرى للسكون. وعندما نجحت الدراسة العملية للحركة على يد جاليلو وديكارت, كان ذلك إيذانا بتحولات تدريجية كبيرة في العلوم الطبيعية وفي الإدراك؛ مما أدى إلى تهاوي الإطارات الميتافيزيقية. في ذلك يقول إنجلز: "عندما تقدمت "دراسة الطبيعة" إلى حيث أصبح التقدم الحاسم ممكنا، وهو الانتقال إلى الدراسة المنسقة للتحولات التي تطرأ على الأشياء في الطبيعة نفسها، أذن التاريخ في هذه اللحظة بنهاية الميتافيزيقا القديمة في مجال الفلسفة"2. هكذا لم تكن العلوم لتستطيع في بدايتها إلا أن تستخدم منهجا ميتافيزيقيا, وهو المنهج الذي عممه الفلاسفة اليونان -وخاصة أرسطو- بأن وضعوا عددا معينا من القواعد الكلية, يجب على الفكر أن يتبعها في كل الظروف؛ ليأمن الخطأ، وأطلقوا اسم المنطق على مجموع هذه القواعد. فموضوع المنطق -كما سبقت الإشارة- هو دراسة المبادئ والقواعد التي يجب أن يتبعها الفكر في بحثه عن الحقيقة. هذه الأسس والقواعد ليست

_ 1 lbid., p. 15, Friedrich Engels, Anti-Duhring Herr-Eugen Duhrings Revolution in Science, Moscow 1954, p. 34. 2 المبادئ الأساسية للفلسفة، مرجع سابق، ص32، F. Engels, "Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy", op. cit., p. 387.

من نسج الخيال, وإنما مستخلصة من الاحتكاك المتكرر للإنسان بالطبيعة. فالطبيعة هي التي جعلت الإنسان منطقيا, وعلّمته أنه لا يستطيع أن يفعل ما يشاء. يتناقض المنهج الميتافيزيقي مع المنهج الجدلي، ويمكن تلخيص أهم أوجه التناقض من وجهة النظر الماركسية فيما يلي: - المنهج الميتافيزيقي يجهل أو ينكر واقع الحركة والتغير، وإنكار الحركة -كما يقول إنجلز- يولد عادة سيئة هي النظر إلى الأشياء الطبيعية والعمليات الحادثة بشكل منفصل لا يلاحظ ارتباطاتها مع الكل الكبير، وكذلك النظر إليها في سكونها وموتها وليس في حركتها وحياتها. أما الجهل بالتغير فمعناه ثبوت الذات، ومنهما تنبثق الأكذوبة الشائعة: "لا جديد تحت الشمس". كتطبيق مبسط، يرى الميتافيزيقي مثلا أن الرأسمالية نظام أبدي تماما كما كان الفلاسفة الميتافيزيقيون في العصور الوسطى يبشرون بأبدية الرق, واستغلال الأقنان في ظل النظام الإقطاعي. وثبوت الذات الذي أشرنا إليه هو الذي كان المنطق التقليدي، والمسمى بالمنطق الصوري، يعبر عنه بمبدأ الذاتية أي: الشيء هو نفسه؛ فالنبات هو النبات والحيوان هو الحيوان والحياة هي الحياة والموت هو الموت, ويضع المناطقة هذا المبدأ في صيغة"أ" هي "أ"1. - المنهج الميتافيزيقي يفصل فصلا تعسفيا بين ما لا ينفصل في مجال الواقع. فالشيء إما أن يكون هذا أو ذاك, ولا يمكن أن يكون هذا وذاك في نفس

_ 1 المبادئ الأساسية للفلسفة، مرجع سابق، ص29، 30، 38. V. Afanasyev, Marxist Philosophy, op. cit., 15, F. Engels, Anti-Duhring, op. cit., p. 34, F, Engels, Dialectics of Nature, Quoted by H. Selsam, H. Martel, Reader in Marxist Philosophy, New York 1963, pp. 114, 115.

الوقت. مثلا: إن الديمقراطية ليست هي الديكتاتورية والديكتاتورية ليست هي الديمقراطية, أي: إن الدولة إما أن تكون ديمقراطية أو ديكتاتورية. أما الواقع الحي فيختلف عن ذلك اختلافا كليا, حيث نجد أن الدولة في ظل النظام الرأسمالي تكفل الديمقراطية لأقلية من كبار الملاك, ولا تمانع في تمتع الأغلبية من الفئات العاملة والمثقفين ببعض مظاهر تلك الديمقراطية بشرط ممارستها داخل حدود معينة. فإذا لاح شبح تهديد حق الملكية الفردية لوسائل الإنتاج الرئيسية, وتعرض حكم الرأسمالية للخطر مارست أقسى أشكال الديكتاتورية ضد الطبقات الأخرى. أي: إنه في هذه الحالة يمكن أن تكون الدولة ديمقراطية وديكتاتورية في نفس الوقت. بالمثل، ينطبق نفس الوضع على الدولة في النظام الاشتراكي الذي يوفر الديمقراطية للأغلبية من العاملين والمثقفين, بينما يمارس الديكتاتورية ضد أقلية من الطبقات المالكة الكبيرة التي نحيت عن السلطة. يعبر المنطق التقليدي عن ذلك بمبدأ عدم التناقض, بمعنى أنه لا يمكن لشيء أن يكون هو نفسه وضد نفسه في الوقت ذاته. فالنبات ليس هو الحيوان والحيوان ليس هو النبات, والحياة ليست هي الموت والموت ليس هو الحياة, أي: يرى المناطقة أن "أ" ليست "لا أ". - يؤدي موقف الميتافيزيقي بالفصل بين ما لا ينفصل إلى وضع الأشياء والظواهر متعارضة مع بعضها البعض. ومن ثم الظن بأن الضدين لا يمكن أن يجتمعا في وقت واحد. فالكائن مثلا إما أن يكون حيا أو ميتا مع عدم تصور أن يكون الكائن حيا وميتا في نفس الوقت, كما هو الحال في الجسم البشري الذي يحمل خلايا جديدة تحل في كل لحظة محل الخلايا التي تموت, أي: صراع مستمر بين قوى متضادة داخل جسم الإنسان.

يسمى المنطق التقليدي ذلك بمبدأ الثالث المرفوع, أو استبعاد الحالة الثالثة, إذ يرى المناطقة أنه ليس هناك وجود لإمكان ثالث بين إمكانين متناقضين. فالكائن إما حيوان أو نبات، وليس هناك إمكان ثالث. كذلك يجب الاختيار بين الحياة والموت، وليس هناك حالة ثالثة. فإذا كانت "أ" و"لا أ" متناقضتين, فإن أي شيء من الأشياء يكون إما "أ" أو "لا أ"1. رغم ذلك يعتبر المنطق التقليدي مقبولا؛ لأنه يعكس الخبرة المتجمعة خلال قرون عديدة, إلا أنه يصبح غير كافٍ إذا استلزم الأمر التعمق في البحث. فمثلا، يكشف الواقع عن وجود كائنات حية لا يمكن تصنيفها بدقة في باب الحيوانات, ولا في باب النباتات كالإسفنج مثلا فهو نبات وحيوان معا. كذلك ليست هناك حياة مطلقة ولا موت مطلق؛ لأن كل كائن حي يتجدد في صراع ضد الموت في كل لحظة. معنى ذلك أنه إذا كان المنطق التقليدي مقبولا في حدود معينة, فهو عاجز عن النفاذ إلى أعماق الواقع. فهو ليس كاذبا في حد ذاته, ولكن محاولة تطبيقه بشكل مفتعل خارج حدود إمكانياته يولد الخطأ. صحيح أن الحيوان ليس نباتا، وسوف يظل ذلك صحيحا؛ لأنه وفقا لمبدأ عدم التناقض يجب أن نحذر الخلط بينهما. فالجدل ليس خلطا ولكن الجدل يقول: إنه صحيح أيضا أن الحيوان والنبات وجهان لا ينفصلان من وجوه الواقع بحيث إن بعض الكائنات حيوانات ونباتات معا, وهو ما يسميه الجدل وحدة الأضداد. كان المنطق التقليدي إبان وضعه في فجر العلوم يكفي للاستعمال اليومي, فيسمح بتصنيف الأشياء وتمييزها, لكنه يصبح قاصرا إذا تعمقنا في التحليل؛ لأن الوجود الواقعي حركة. ومنطق الذاتية "أهي أ" لا يتيح للأفكار أن تعكس

_ 1 المبادئ الأساسية للفلسفة، مرجع سابق، ص30، 31، 38.

الوجود الواقعي في حركته، وكذلك لأن هذه الحركة نتاج للتناقضات الباطنة, بينما منطق الذاتية لا يسمح بتصور وحدة الأضداد وانتقالها بعضها إلى بعض. فالمنطق التقليدي, أو الصوري لا يصل إذًا إلا إلى أقرب الوجوه المباشرة للواقع. أما المنهج الجدلي فيستهدف الوصول إلى كل وجوه الواقع, وتطبيق المنهج الجدلي على قوانين الفكر في المعرفة يسمى المنطق الجدلي. وسنناقش في الفصل التالي المنهج الجدلي المثالي, والتطور المذهبي الذي طرأ عليه على يد ماركس فحوله إلى منهج جدلي مادي.

الفصل الحادي عشر: تطور المنهج الجدلي

الفصل الحادي عشر: تطور المنهج الجدلي المبحث الأول: المنهج الجدلي المثالي يعود الفضل لفلاسفة اليونان في وضع الخطوط الأولى للجدل؛ فقد كانوا يستخدمون هذه الكلمة لتدل على فن المناقشة واستخلاص الحقيقة بكشف التناقضات في حجج الخصم وإيجاد الحلول لها, ثم استخدم الاصطلاح فيما بعد ليدل على منهج إدراك الحقيقة. وفي الواقع كان الإغريق ينظرون إلى الطبيعة ككل, وكان هرقليطس يعلم الناس أن هذا الكل يتغير, وذلك بقوله: نحن لا ننزل في نفس النهر أبدا. كذلك يحتل صراع الأضداد مركزا ممتازا لدى فلاسفة اليونان, وخاصة أفلاطون الذي ركز الاهتمام على خصوبة ذلك الصراع, فالأضداد في رأيهم تتوالد بعضها عن بعض. حتى كلمة ديالكتيك "جدل" نفسها مشتقة مباشرة من الكلمة اليونانية ديالجين أي: يجادل، فهي إذًا تعبر عن الصراع بين الأفكار المتعارضة. بالمثل هناك أمثلة أخرى للاستدلال الجدلي لدى أعظم الفلاسفة نفوذا في العصر الحديث, وخاصة ديكارت وسبينوزا1.

_ 1 المرجع السابق، ص33، 34, V. Afanasyev, Marxist Philosophy, op. cit., p. 14, F. Engels, Anti-Duhring, op. cit., pp. 462, 463, على العكس من ذلك, قد نجد مفكرين منتمين إلى الماركسية فعلا ومع ذلك يفتقرون إلى فهم المنهج الجدلي جيدا. وقد وجه لينين نقدا بهذا المعنى إلى الأيديولوجي البارز بوخارين, متهما إياه بأنه لم يستوعب الجدلية أبدا. وقد أيد هذه النتيجة أحد الباحثين الغربيين في دراسة مقارنة بين هذين المفكرين, وانتهى إلى اعتبار بوخارين مفكرا ليبراليا. انظر: Richard B. Day, "Dialectical Method in the Political Writings of Lenin and Bukharin" in: Canadian Journal of Political Science, June 1976, IX: 2, pp. 244ff.

أما هيجل, فقد كانت له اليد الطولى في صياغة المنهج الجدلي بشكل متكامل, ولأول مرة في الفترة التالية للثورة الفرنسية التي كان معجبا بها؛ لقضائها على النظام الإقطاعي, مما حفزه إلى القيام بثورة مماثلة في الفكر. ولفهم المنهج الجدلي المثالي، سنشير فيما يلي بإيجاز إلى آراء كل من هيجل وفويرباخ وماركس، مع محاولة حصر تداخل تلك الآراء مع موضوع المبحث التالي في أضيق نطاق ممكن. تتعدى أهمية أفكار هيجل مجرد التأثير في الفلسفة الألمانية. فما أن أشرف القرن التاسع عشر على نهايته, إلا وكان كبار الفلاسفة الأكاديميين حتى في بريطانيا والولايات المتحدة من الهيجليين على حد قول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل1, بل لقد أثرت أفكاره الأخرى غير الفلسفية في رجال الدين البروتستانت الذين تبنوا بعض جوانب مذهبه، كما أثرت فلسفته للتاريخ تأثيرا عميقا في دراسات النظرية السياسية. غني عن البيان أن كارل ماركس كان في شبابه من أتباع هيجل. ورغم اختلافه معه فيما بعد حول النظرة المثالية للوجود والعالم, فإنه ظل ينظر إليه باحترام كبير هو وزميله إنجلز لإسهامه في تأصيل المنهج الجدلي, الذي كانا يعتبرانه الصورة الأساسية لجميع أنواع الجدل، ويلخص لينين وجهة نظرهما في جدل هيجل بقوله: إنه "أوسع منهج من مناهج التطور وأوفرها مضمونا وأكثرها عمقا، وأثمن اكتساب حققته الفلسفة الكلاسيكية الألمانية.... وكانت كل صيغة أخرى لمبدأ التطور تتراءى لهما وحيدة الجانب، فقيرة المضمون،

_ 1 Bertrand Russel, History of Western Philosophy, op. cit., "eighth impression 1975", PP. 70I ff.

تشوه وتفسد السير الواقعي للتطور ... في الطبيعة والمجتمع"1. لتفصيل ذلك نقول: إن هيجل يعود إليه الفضل الأكبر في صياغة قوانين الجدل الثلاثة الأساسية, وهي الانتقال من التغيرات الكمية إلى التحولات الكيفية، والتناقض وصراع الأضداد، ونفي النفي. ويمثل ذلك الإنجاز الكبير خطوة واسعة على طريق الفكر الفلسفي, أدت إلى تصدع المنهج الميتافيزيقي السائد آنذاك. إن المقصود بالقول بأن هيجل وضع قوانين الجدل الثلاثة بأسلوب مثالي, هو أنه كفيلسوف كانت له نظرة معينة إلى الكون تقوم على أساس مثالي. وجوهر تلك النظرة أو المذهب الهيجلي هو ما أسماه "الفكرة المطلقة" بمعنى وحدة الفكرة النظرية والعملية التي تجمع في جوفها فكرة الحياة, وفكرة المعرفة. فهي إذًا الصورة الخالصة للفكرة والخالصة للعقل، وهي حين تتأمل مضمونها فإنها لا تتأمل في الوقت نفسه إلا ذاتها فحسب، ويفسر برتراند راسل تلك الفكرة المطلقة بأنها "الفكر المجرد الذي يفكر في ذاته, أي: في الفكر المجرد". هذه الوحدة بين الاثنين يراها هيجل على أنها "المطلق وكل الحقيقة، والفكرة التي تعقل ذاتها"2. أما الماركسيون فيرون أن نقطة الانطلاق في فلسفة هيجل هي "الفكرة المطلقة" التي وجدت قبل الطبيعة ومستقلة عنها. وقد وجهوا نقدهم إلى تلك المقولة على أساس أنها ليست سوى تأليه للوعي الإنساني الذي فصله هيجل عن المادة والطبيعة, وجعله مواجها لهما كقوة مبدعة عليا لكل ما هو موجود. إلا أن هيجل وضع تلك الفكرة في إطار جدلي, فاعتبر أنها تؤدي من خلال تطورها

_ 1 V. Lenin, "Marx, Engels, Marxism", p. 20. استشهد به إمام عبد الفتاح إمام، المنهج الجدلي عند هيجل، القاهرة 1969، ص316. 2 المصدر السابق، ص311، Cf., B. Russel, History ... , p. 705.

وتبدلها الدائمين إلى خلق الطبيعة والإنسان والمجتمع الإنساني. ويلعب هذا الأخير في رأيه دور "الوجود الخارجي" لهذه "الفكرة المطلقة" المؤلهة. هذا الغلاف المثالي, أو المذهب المثالي كما يسميه البعض لم يمنع القوانين الثلاثة للجدل التي وضعها هيجل من أن تلعب دورها كاملا في تطوير الفكر الفلسفي, وإرساء أساس قوي للمنهج الجدلي. يقول ماركس في ذلك: "إن الإطار المثالي الذي غلف الجدل الهيجلي لم يمنع هذا الرجل مطلقا من أن يكون أول من عرض الصورة العامة للجدل بطريقة واعية, وشاملة"1. ونظرا للعلاقة الوثيقة لهذا الأسلوب الفكري بمثيله لدى ماركس, سنشير إلى أوجه التشابه والاختلاف بينهما دون انتظار لدراسة المنهج الجدلي المادي في المبحث التالي. لقد كان هيجل يوحد بين المنهج الجدلي ومذهبه المثالي, ويربط بينهما برباط وثيق يعبر عنه بقوله: "إن المنهج لا ينفصل عن موضوعه، إنه المضمون في ذاته وما يكمن في هذا المضمون من جدل هو الذي يحركه"2. على العكس من ذلك, نجد أن ماركس نزع الغلاف المثالي ثم وحّد بين المنهج الجدلي, ومذهبه المادي معتبرا أنهما يشكلان معا وحدة عضوية لا تنفصم. وقد تأثر مذهبه من الناحية الفلسفية بكتابات أحد أتباع هيجل الآخرين, وهو لودقيج فويرباخ الذي انتقد فلسفة هيجل المثالية, وتبنى موقفا ماديا يدافع عن أولوية المادة وثانوية الوعي. أما فويرباخ3, فإنه خلافا لمثالية مذهب هيجل، احتل الإنسان

_ 1 K. Marx, Capital "A Critical Analysis of Capitalist Production", Vol. I, Moscow 1965, first Publ. 1867, p. 20, المادية الديالكتيكية، تأليف جماعة من العلماء السوفيت، مرجع سابق، ص43، 44. 2 G. W. F. Hegel, Greater Logic, Vol. I, p. 65. استشهد به إمام عبد الفتاح، المنهج الجدلي عند هيجل، مرجع سابق، ص330. 3 المادية الديالكتيكية، مرجع سابق، ص44، 45.

مركز الصدارة في فلسفته. والمقصود هنا هو الإنسان، كوجود مادي فسيولوجي له مشاعر وتفكير يتعرف على الطبيعة الموجودة وجودا موضوعيا. أي: إنه لم يكن يعتقد بوجود شيء آخر أعلى من الطبيعة. وإذا كان هيجل قد قلل من دور الحس كأداة من أدوات المعرفة, فإن فويرباخ أكد على الأهمية الكبرى للحس كأداة تعكس بصدق الواقع الطبيعي المحسوس في الفكر الإنساني. رغم ذلك يظل فويرباخ متخلفا عن هيجل من حيث المنهج, حيث إنه لم يفهم على الإطلاق الجانب الخلاق في جدلية أستاذه, وبهذا استمر في المواقع الميتافيزيقية من حيث تفسير الطبيعة. والخلاصة هي: أن فويرباخ بينما كان متخلفا بالنسبة للمنهج الجدلي لهيجل, فإنه كان أكثر تقدمية منه في مجال الفكر الاجتماعي, إذ أصبح المعبر الأيديولوجي عن البرجوازية الديمقراطية في ألمانيا خلال فترة الإعداد لثورة عام 1848. وإزاء منهج هيجل الجدلي المثالي, يختلف موقف فويرباخ الذي أوضحناه عن موقف ماركس. فقد أعجب ماركس بذلك المنهج واستوعبه جيدا, ولكن بعد أن نزع عنه غلافه المثالي كما ذكرنا ثم استعان به وطبقه في تحليلاته المتعددة, بدءا بكتابه الأم "رأس المال". أي: إن هناك نقطة اتفاق أساسية تربط بين هيجل وماركس, كما تفرق بينهما نقطة خلاف أساسية أيضا. يتفق ماركس مع هيجل تماما في رفض المنهج الميتافيزيقي الذي شرحناه في الفصل العاشر أعلاه, وهو منهج الاستقرار والسكون والهوية المجردة، منهج النظرة المحدودة الضيقة, وحيدة الجانب, فقيرة المضمون. كما يتفق معه أيضا على أن المنهج الجدلي لهيجل هو الوحيد القادر على كشف الحقيقة, وهو المنهج الأمثل لدراسة العالم دراسة دقيقة توصل إلى المعرفة اليقينية. ولكن ماركس يختلف مع هيجل تماما أيضا بسبب مذهبه المثالي, ونظرته الفلسفية للكون التي اقترنت بمنهجه. هيجل المثالي يبدأ من الفكر، بينما يبدأ ماركس من المادة وهو مظهر جديد من مظاهر الخلاف الأزلي بين مدارس

الفكر المادي والمثالي منذ مئات القرون1. يقول إنجلز في ذلك: "نحن لا ندافع أبدا عن وجهة النظر الهيجلية التي تتخذ من الروح أو العقل أو الفكرة نقطة بدء، وتعتبر العالم الواقعي نسخة من هذه الفكرة، ولقد سبقنا فويرباخ إلى ذلك ورفضها ... ولكن بعد ذلك كله يبقى الجدل الهيجلي". الخلاصة هي: أنه بينما يتفق ماركس مع هيجل على المنهج الجدلي, فإنهما يختلفان حول طبيعته. ويشرح ماركس ذلك في إحدى مراسلاته, قائلا: "إن دورينج يعرف تماما أن منهجي ليس هو المنهج الهيجلي طالما أني مادي وهيجل مثالي. إن الجدل الهيجلي هو الصورة الأساسية لجميع أنواع الجدل، ولكن بعد أن ننزع عنه غلافه المثالي، وهذا بالضبط هو ما يميز منهجي عن منهجه"2.

_ 1 انظر الفصل الخامس أعلاه. 2 F. Engels, Anti-Duhring, op. cit., pp. 457, 458, Selected Corresponence, p. 100. أشار إليها إمام عبد الفتاح إمام، المنهج الجدلي عند هيجل، مرجع سابق، ص335.

المبحث الثاني: المنهج الجدلي المادي

المبحث الثاني: المنهج الجدلي المادي يقول هيجل: إن الحقيقة ليست مجموعة من المبادئ المقررة, إنما هي عملية تاريخية وانتقال من درجات دنيا إلى درجات عليا في المعرفة, وحركتها هي حركة العلم نفسه. أما العلم, فإنه لا يمكن أن يتقدم إلا بنقد نتائجه هو باستمرار والقدرة على تخطيها. أي: إن محرك كل تغير عند هيجل هو صراع الأضداد. رغم ذلك يعتبر الماركسيون هيجل مفكرا مثاليا؛ لاعتقاده بأن الطبيعة والتاريخ البشري هما مظهران للفكرة المطلقة, أي: إن الوجود المادي نتاج للفكرة. يعلق إنجلز على ذلك بقوله:

"إن التطور الجدلي الذي يظهر في الطبيعة والتاريخ، أي: التسلسل العلمي للتقدم في سيره الحتمي من الأدنى إلى الأعلى خلال كل الحركات الملتوية, والتراجعات المؤقتة. هذا التطور الجدلي عند هيجل ليس ... إلا انعكاسا للحركة الكامنة الذاتية للفكرة ... وهذا الوضع الفكري المقلوب هو الذي كان يهمنا استبعاده. فقد اعتبرنا.... أفكار مخنا، من وجهة النظر المادية، انعكاسات للأشياء بدلا من أن نعتبر الأشياء الواقعية انعكاسات لهذه المرحلة أو تلك من مراحل الفكرة المطلقة. ومن هنا تحول الجدل إلى علم القوانين الكلية للحركة في العالم الخارجي, وفي الفكر البشري على السوء ... "1. يعلق ماركس أيضا: "إن منهجي الجدلي لا يختلف في أساسه عن المنهج الهيجلي فحسب, بل هو نقيضه تماما. فحركة الفكر التي يجعلها هيجل ذاتا يسميها الفكرة، هي عنده صانعة الواقع، وليس هذا الواقع إلا الصورة الظاهرية للفكرة. أما عندي, فحركة الفكر ليست على العكس إلا انعكاسا للحركة الواقعية منقولة, ومحولة إلى المخ البشري"2. يعزو الماركسيون هذا الانقلاب في موقف ماركس وإنجلز من فلسفة هيجل إلى التقدم الكبير الذي أحرزته العلوم الطبيعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر, وأوائل القرن التاسع عشر مما حدا بهما إلى التفكير في أن الجدل يقوم على أساس موضوعي. ومن هذه الاكتشافات العلمية الحاسمة: - اكتشاف الخلية الحية التي تترقى منها أشد العضويات تركيبا. - اكتشاف تحول الطاقة. فالحرارة والكهرباء والمغناطيسية والطاقة الكيماوية

_ 1 F. Engels, "Ludwing Feuerbach and the End of Classical German Philosophy", op, cit., pp. 358, 486, المبادئ الأساسية للفلسفة، مرجع سابق، ص34-36. 2 Karl Marx, Capital, op. cit., p. 19.

وغيرها هي صور مختلفة كيفيا لواقع مادي واحد. اكتشاف داروين في كتابه أصل الأنواع أن كل الكائنات الحية نتاج تطور طبيعي اعتمادا على بحوثه في علم الحفريات, وعلى الحيوانات المختلفة1. هذا بالإضافة إلى تقدم العلوم الأخرى مثل نظرية كانت ولابلاس التي تفسر المجموعة الشمسية بإرجاعها إلى سديمية من السديميات، ومولد علم الجيولوجيا التي ساعدت كلها مجتمعة على فهم الطابع الجدلي للطبيعة بوصفها وحدة لكل هائل في صيرورة, أي: في حالة تحول مستمر وفقا لقوانين حتمية وتولد باستمرار وجوها جديدة، وإدراك أن النوع البشري والمجتمعات البشرية هي لحظة في هذه الصيرورة الكونية2. يضيف الماركسيون أن تأصيل المنهج الجدلي, وزيادة خصوبته كانتا تسيران جنبا إلى جنب مع تقدم العلوم الطبيعية. فمثلا لم يستطع المفكرون الماديون قبل ماركس -ديدرو، هيلقيشيوس في القرن الثامن عشر- اكتشاف المنهج الجدلي؛ لأن علوم المادة الحية كانت لا تزال في مهدها. فالمادية الجدلية نفسها لم تظهر إلا بعد التقدم العلمي الذي أثبت فكرة التطور وتغير نوع إلى آخر, وهي الفكرة الجدلية الأولى. ولا يجب أن ننسى أنه في القرن الثامن عشر أيضا كانت الميكانيكا العقلية لنيوتن هي السائدة, وهي التي لم تكن تعرف سوى أبسط أشكال الحركة أي: التغير المكاني وإنكار التحولات الكيفية في الطبيعة. ولعل هذا هو السبب في تسمية مادية القرنين السابع عشر والثامن عشر بالمادية الميكانيكية3 التي

_ 1 F. Engels "Ludwig Feuerbach" op. cit., pp. 374, 388. 2 F. Engels, "Ludwig Feuerbach", op. cit., 373. 3 lbid, p. 372, V. Afanasyev, Marxist Philosophy, op., cit., p .15.

يعتبرها الماركسيون ميتافيزيقية؛ لعدم فهمها لحقيقة التغير وتجاهلها لصراع الأضداد بصفة خاصة. ما هو الجدل إذًا؟ وما هو دوره؟ وما هي علاقته بالميتافيزيقا؟ يقول إنجلز: "ينظر الجدل إلى الأشياء والتصورات في تسلسلها, وفي علاقاتها المتبادلة وفعلها المتبادل والتحول الذي ينتج عن ذلك, وفي نشأتها وتطورها وانهيارها". هكذا يتعارض الجدل من جميع النواحي مع الميتافيزيقا ليس لأنه لا يعترف بالسكون, ولا بالفصل بين مختلف وجوه العالم الواقعي, بل لأنه يرى في السكون وجها نسبيا من وجوه الواقع بينما الحركة مطلقة، كما يرى أن كل فصل بين الأشياء هو فصل نسبي؛ لأنها تترابط بطريقة أو بأخرى وتتفاعل كلها مع بعضها1. يهتم الجدل بالحركة في كل عصورها سواء كانت تغيرا مكانيا, أو تغيرا من حالة كمية إلى أخرى كيفية, ويفسرها على أساس قانون صراع الأضداد الذي يعتبر أهم قوانين الجدل. فكل الأشياء والظواهر تحتوي على جوانب متعارضة, وإن كانت مرتبطة عضويا؛ ومن ثم تشكل الوحدة التي لا تنفصم بين الأضداد. نشاهد ذلك في التناقضات بين السالب والموجب داخل الذرة، وفي التفاعلات الكيميائية، وفي الخصائص المتعارضة للكائن العضوي بين المحافظة على الصفات الوراثية وبين القدرة على تطوير صفات جديدة بهدف التكيف مع الوسط والبيئة، وفي النشاط الذهني للإنسان بين الانفعال والكبت، وفي عمليات المعرفة بين الاستقراء والاستنباط والتحليل والتركيب وفي المجتمع الواحد بين أمراء الإقطاع والأقنان أو بين الرأسمالية والعمال. وبينما يعزل الميتافيزيقي بين الأضداد, يرى الجدلي استحالة وجود بعضها دون البعض الآخر, وإن كل حركة أو تغير أو تحول لا يفسره إلا صراع الأضداد2.

_ 1 F. Engels, Anti-Duhring, op., cit., p. 459. 2 المبادئ الأساسية للفلسفة، ص32، 33, V. Afanasyev, op. cit., 98, 99.

يقول إنجلز: "كل كائن عضوي يكون في كل لحظة هو نفسه وليس هو نفسه؛ لأنه في كل لحظة يتمثل مواد غريبة ويستبعد أخرى. وبعد زمن طويل أو قصير تكون مادة هذا الجسم قد تجددت تماما, وحلت محلها ذرات أخرى من المادة. وإذا نظرنا إلى الأشياء عن كثب, لوجدنا أيضا أن قطبي تناقض ما، كالموجب والسالب مثلا، لا ينفصلان بقدر ما هما متنافران. فبالرغم من أن لكل منهما قيمة النقيض antithesis فهما متداخلان تداخلا مشتركا. وشبيه بذلك العلة والمعلول "أو السبب والنتيجة" فهما تصوران لا قيمة لهما إلا عند تطبيقهما على حالة جزئية. إلا أنه بمجرد النظر إلى هذه الحالة الجزئية في ارتباطها الكلي بمجموع العالم، يذوب هذان التصوران وينحلان بالنسبة إلى الفعل المتبادل الشامل الذي تستبدل فيه العلل والمعلولات بعضها بعضا باستمرار. فما كان الآن أو ههنا معلولا يصبح علة هناك أو فيما بعد, والعكس بالعكس"1. يسير الأمر على نفس الوتيرة في المجتمع, حيث توجد وحدة وصراع الأضداد في صورة صراع الطبقات، كما أن صراع الأضداد هنا كما هو محرك للتطور هو أيضا محرك للفكر2. تتضح من ذلك الأهمية الكبيرة التي يحتلها الجدل في هذا المنهج المادي؛ ولهذا نشير إلى أهم معانيه طبقا للمفهوم الماركسي. فالجدل قد يعني واحدة أو أكثر من النقاط التالية، فهو: - فن البحث في حقيقة الآراء, واختبار مدى صحة المناقشة. - المناقشة المنطقية.

_ 1 F. Engels, Anti-Duhring, op., cit., 35, 36. 2 V. Afanasyev, Marxist Philosophy op. cit., pp. 99 ff.

- نقد التناقضات الميتافيزيقية, والحلول التي تقدم وفقا لها. - دراسة التناقض في جوهر الأشياء. - دراسة القوانين التي تفسر تطور المجتمع. وأخيرا، ودون الدخول في تفصيلات جديدة, تجدر الإشارة إلى القوانين الثلاثة الأساسية التي تبنتها المادية الجدلية, وهي: وحدة وصراع الأضداد كمحرك للتطور، الانتقال من التغيرات الكمية البطيئة إلى التحولات الكيفية العنيفة والمفاجئة، نفي النفي أي: انتقال الفعل أو الإدراك أو المعرفة بعد سلسلة من العمليات إلى مرحة أعلى وأرقى.

الباب الرابع: البحث العلمي في السياسة

الباب الرابع: البحث العلمي في السياسة الفصل الثاني عشر: العلم والمنهج مدخل ... الباب الرابع: البحث العلمي في السياسة الفصل الثاني عشر: العلم والمنهج استكمالا للدراسة، نشرح بإيجاز المقصود من كلمة العلم والعلاقة بينه وبين المنهج مؤكدين على الملاحظة الهامة السابقة, وهي أن المنهج العلمي ليس نهجا ميكانيكيا تقليديا يجمع البيانات بلا تمييز, ولا يلقي بالا إلى الجهد الخلاق أو عبقرية علماء السياسة. إن العكس هو الصحيح, إذ إن مجرد اختيار الموضوع أو المشكلة هو ضرب من العمل الخلاق للباحث الذي يؤرقه الفضول والخيال المبدع للتوصل إلى الحقيقة. أي: إن أكثر المناهج تقدما وعلمية ما هي إلا أدوات مساعدة في يد الباحث, لا تستطيع أن تعوضه عن كفاءاته الذاتية إذا انخفض مستواها. إن المناهج التقليدية, وكذلك المناهج الحديثة ليست بديلا عن توفر مستوى معقول من الذكاء ونفاذ البصيرة وصدق الحدس, بل حتى ومس من العبقرية التي تساعد الباحث مجتمعة على طرح الأسئلة الملائمة وإدراك كنه علاقة ما لم يفطن إليها عالم من قبل, أو لم يقدرها أحد حق قدرها1.

_ 1 A. Brecht, Political theory, op. cit., pp. 30, 31, M. Grawitz, Methodes des Sciences sociales, op. cit., pp. 334, 335.

المبحث الأول: شروط ارتقاء المعرفة إلى مرتبة العلم

المبحث الأول: شروط ارتقاء المعرفة إلى مرتبة العلم التحقيق من صحة المعرفة ... المبحث الأول: شروط ارتقاء المعرفة إلى مرتبة العلم يشتمل العلم على معرفة منهجية ذات صبغة عامة, ويمكن التأكد من صحتها. من هنا تنبع أهمية دراسات المنهج التي تزود الباحث بالوسائل الفنية التي تمكنه من التأكد من سلامة الأسس التي تقوم عليها المعرفة. بعبارة أخرى: يجب توفر شروط ثلاثة قبل أن نضفي على المعرفة شرف التسمية بأنها علم. تلك الشروط هي: إمكانية التحقق من صحة المعرفة, وأن تتوفر لها المنهجية, وكذلك أكبر قدر ممكن من الشمول والعمومية. 1- التحقق من صحة المعرفة: يقال: إن فرضا ما قد تحققت صحته إذا كان قد تمت مراجعته واختباره من قبل الباحثين المتخصصين في ذلك الحقل من المعرفة, وأجمعوا على إجازة الأخذ والعمل به على أساس الأدلة التي تدعمه أو نتيجة إثبات التجربة بشكل منتظم بصحة التنبؤات التي بنيت على أساس ذلك الفرض. لكن إذا كانت المعرفة لكي تسمى علمية لا بد من التثبت من صحتها، فإنه ينبني على ذلك أن العلم نفسه يجب أن يكون تجريبيا, أي: أن تكون البيانات والتعبيرات العلمية تصويرا لعالم الواقع. وترتبط كلمة علم بنوع واحد من المعرفة المعتمدة على الملاحظة والتجريب, وإمكانية نقلها من شخص لآخر وليس على النظريات أو المعرفة المعيارية. فالعلم حسب هذا الاتجاه المتطرف -الذي يلقى معارضة داخل دوائر الفكر الليبرالي نفسه- يتعلق بما كان موجودا فعلا أو ما هو كائن أو ما سيكون, بغض النظر عما يجب أن يكون أو بمعرفة ما وراء الطبيعة. وتختلف معتقدات العلماء كثيرا كما سبقت الإشارة حول القيم والمعايير وموضوعات ما وراء الطبيعة. لكن العالم حسب الاتجاه الذي نعرضه الآن لا يؤيد, أو يدحض تلك المعتقدات؛ لأنها لا تقوم على العلم الذي لا يهتم إلا

بوصف الواقع. ومن ثم تحده إمكانيات المشاهدة, فلا يتعرض لشيء خارج نطاقها, وما عدا ذلك فليس علما1. كذلك إذا كانت المعرفة العلمية يجب التثبت من صحتها, فإن الوسائل المستخدمة في الحصول عليها يجب أن تكون موضع ثقة ويعول عليها. فإذا أدى تطبيق باحثين أكفاء مختلفين لوسيلة أو منهج ما إلى إعطاء نتائج مختلفة, فإن تلك الوسيلة لن يمكن التعويل عليها. لقد كانت الرغبة في الحصول على وسائل يمكن الاطمئنان إليها، ومحاولة التحقق من صحة المعرفة هما العاملان الرئيسيان وراء تبني الباحثين للمناهج الكمية.

_ 1 Jacob Bronowski, The Common Sense of Science, "r" Cambridge 1953, p. 70, quoted by Dyke, p. 192; A. Brecht, Political Theory, op. cit., p. 114; Robert T. Holt, John E. Turner, eds., The Methodology of Comparative Research op. cit., p. 2; J. Friedrich, Man and His Government, op. cit., p. 9. ياسين خليل، منطق البحث العلمي "تحليل منطقي لأصول الفكر العلمي والطرق العلمية في ضوء النظريات المعاصرة, الجزء الثاني من نظرية العلم" بغداد 1974، ص313.

المنهجية

2- المنهجية: يقال عن المعرفة: إنها منهجية, إذا كانت منظومة في هيكل واضح، ورتبت العلاقات الهامة التي تشتملها بشكل مفهوم. ولتوفير المنهجية يبحث العلماء عن أوجه التشابه والاختلاف والعلاقات المتبادلة والعلاقات السببية، ومحاولة الانتقال من الحقائق الفردية إلى الحقائق العامة، ومن المعرفة المبنية على حقائق متفرقة إلى معرفة أرقى للارتباطات القائمة بينها. إن المثل الأعلى للعلم هو تحقيق الترابط المنهجي للحقائق1.

_ 1 Dyke, pp. 193-195, cf., C. J. Friedrich op. cit., pp. 18, 24, 33.

الشمول والعمومية

3- الشمول والعمومية: تنطوي المفاهيم على تعميمات أو أحكام عامة من نوع ما. أي: إنها تشير إلى وجود قدر كافٍ من التشابه بين أشياء معينة يبرر تصنيفها مع بعضها البعض وإعطاءها نفس الاسم. هذا ويمكن الانتقال إلى مستويات أعلى من التعميم كلما أمكن استخدام مفاهيم, ووضع تعبيرات تنطبق على عدد من الأشياء والأحداث في أية مجموعة واحدة, أو تصنيف واحد. تكمن أهمية التعميم في أن التفسير والتنبؤ هما -من الأهداف الكبرى للبحث العلمي- اللذان يستلزمان الاستخدام الضمني أو الصريح لتعميمات أو أحكام عامة مثل القواعد, والقوانين, والنظريات. إذا أخذنا حادثا مثل اعتداء اليابان على قاعدة بيرل هاربر خلال الحرب العالمية الثانية, فإنه يصلح كأساس لتفسير إعلان الولايات المتحدة للحرب على اليابان. ومن ثم نستخلص حكما عاما بأنه عندما تحدث مثل تلك الاعتداءات, فإن هناك احتمالا كبيرا أو توقعا لحدوث رد فعل كإعلان الحرب. فالهدف من العلم إذًا هو تطوير وسيلة إطلاق الأحكام العامة حتى يتيسر للباحث القيام بعمليتي التفسير والتنبؤ بأقصى درجة ممكنة من الدقة، ومن ثم إتاحة الفرصة للمتخصصين للسيطرة على الظاهرة, أو توجيه الأحداث لخدمة هدف ما1. لكن العلم ليس مجرد مجموعة من المعارف التي تم التحقق من صحتها, والتي تتمتع بالمنهجية والشمول. علاوة على ذلك، هنالك عامل هام وحيوي, وهو أن العلم لا يعرف السكون, وإنما هو حركة دائمة للبحث في المجهول لاستكشافه. أي: إنه إذا توقف السعي من أجل الحصول على معرفة جديدة, فقد العلم جوهره.

_ 1 Cf., C. J. Friedrich, Man and His Government, op. cit., pp. 7, 8 cf. David and Chava Nachmias, Research Methods in the Social Sciences, op. cit., pp. 3, 4.

المبحث الثاني: خطوات المنهج العلمي

المبحث الثاني: خطوات المنهج العلمي هناك خطوات معينة يتبع بعضها أو كلها عند تناول موضوع أو ظاهرة ما بالبحث, وذلك سواء في العلوم الاجتماعية أو العلوم الطبيعية. والخطوات الموضحة أدناه هي مجرد سرد موجز لما أورده أرنولد بريشت مع تعليقات لكارل فريدريش وموريس ديفرجيه ودافيد شفارتز ومادلين جرافيتز1. لمزيد من التفاصيل, أو التقييم يتحتم الرجوع إلى المؤلفات المذكورة ولغيرها من المؤلفات التي وردت بدراستنا. وخطوات المنهج العلمي هي: 1- الملاحظة أو المشاهدة Observation: هي ملاحظة الأشياء والظواهر التي يمكن ملاحظتها, وقبول أو عدم قبول صحة ما تمت ملاحظته. 2- الوصف Description: هو وصف ما تمت ملاحظته، ثم قبول أو عدم قبول صحة وملاءمة ذلك الوصف. 3- القياس Measurement: هو قياس ما يكون بطبيعته قابلا لذلك. ويمكن اعتبار القياس نوعا خاصا من الملاحظة والوصف, وإن كان لأهميته يصنف في بند مستقل. 4- القبول أو الرفض: "مؤقتا" لنتائج الخطوات الثلاث السابقة: الملاحظة والوصف والقياس كحقائق أو وقائع.

_ 1 A.Brecht, Political Theory, op. cit., pp. 28, 29; C.J. Friedrich,op, cit., pp. 18, 24-27; M. Duverger. Methodes De La Science Politique, op. cit., pp. 4i5fT.; D.C. Scawartz "Toward a More Relevant and Rigorous Political Science", op. cit., pp. i2gfF; M. Grawitz, Methodes des Sciences, Sociales, op, cit., pp. 365ff.

5- تعميم استقرائي "مؤقت" lnductive generalisation: وذلك للحقائق الفردية المقبولة في الخطوة السابقة على شكل فرض واقعي Factual Hypothesis. 6- تفسير "مؤقت" Explantion: للحقائق الفردية المقبولة في 4، أو الأحكام العامة الواقعية بالاستقراء "في 5" وصياغة التفسير كعلاقة سببية على شكل فرض نظري Theoretical hypothesis. 7- الاستنباط المنطقي Logical deductive reasoning: من الأحكام العامة الاستقرائية "في 5" أو الفروض التفسيرية "في 6" لتوضيح ما تتضمنه بالنسبة لملاحظات أخرى محتملة "في 1"، أو فيما يتعلق بحقائق سبق التسليم بها "في 4"، أو أحكام عامة واقعية "في 5" أو تفسيرات نظرية "في 6". 8- الاختبار Testing: بواسطة مزيد من عمليات الملاحظة "من 1-4" لما تم قبوله مؤقتا من مشاهدات وتقارير وقياس كما سبقت الإشارة "من 1-3" واختبار نتائجها, وهل هي حقائق فعلا "في 4", أو توقعات مؤقتة؟ وما إذا كان هناك ما يسوغ وضعها بالشكل الذي انتهت إليه "في 7". 9- التصحيح Correcting: تصحيح ما سبق قبوله مؤقتا من ملاحظات, وتصحيح نتائجها "من 1-4"، والأحكام العامة الاستقرائية "5"، والفروض التفسيرية "6" حيثما تعارضت مع ملاحظات أخرى مقبولة، وأحكام عامة، وتفسيرات، أو تصحيح تلك الأخيرة. 10- التنبؤ Predicting: بالأحداث أو الظروف المتوقعة كنتيجة لأحداث أو ظروف ماضية أو

حالية أو مستقبلية، أو نتيجة لأية مجموعة محتملة من الأحداث والظروف: أ- إما لاختبار الفروض الواقعية والنظرية "في 5، 6" وهذا يماثل الخطوتين 7، 8. ب- أو للإسهام العملي في عملية الاختيار بين خطط العمل البديلة. 11- الرفض Nonacceptance: رفض كل البيانات التي لم يتم الحصول عليها أو التأكد منها عن طريق المنهج السابق، وخاصة رفض الفروض البديهية aprioripropositions إلا إذا قدمت كفروض مؤقتة Tentetive assumptions, أو فروض عمل working hypotheses.

المبحث الثالث: أساليب حديثة لزيادة فعالية خطوات المنهج العلمي

المبحث الثالث: أساليب حديثة لزيادة فعالية خطوات المنهج العلمي نضيف إلى تلك الخطوات السابقة بعض الأساليب الحديثة التي اقترحها شفارتز لزيادة فعالية الوسائل المستخدمة في عمليات المشاهدة والوصف والقياس, وتحسين أدوات البحث تدعيما لقدرة الدارس على اختبار صحة الفروض, وتفسير الظواهر والأحداث السياسية. وأهم اقتراحاته هي: - دراسة أنواع السلوك غير الكلامي باستخدام الوسائل الفنية الحديثة للتسجيل التليفزيوني والسينمائي. - دراسة الخصائص الصوتية, والتغيرات التي تطرأ عليها خلال الأحاديث السياسية باستخدام شرائط التسجيل الصوتية. - الاستفادة بالتجارب المعملية في مجال السياسة بقدر الإمكان, ومتابعة أحداث الجماهير في حقل تجمعها. يعلل شفارتز اقتراحاته لتطوير وسائل المشاهدة والوصف والقياس بالقصور الذي أسفرت عنه الوسائل التقليدية, إذ تحدث أحيانا أخطاء كثيرة عند أخذ

العينات, أو إجراء الاستفهامات والمقابلات التي كثيرا ما تجري في زمان ومكان مختلفين عما تمت فيهما الحادثة, أو الظاهرة مما يترتب عليه تلك الأخطاء المشار إليها. وترجع الأخطاء إلى عدة أسباب, منها احتمال عدم اهتمام الشخص الذي توجه إليه الاستفهامات بالظاهرة موضوع الدراسة, أو عدم دقته في وصفها، أو عدم إتقانه فن الحديث, أو نسيانه لجوانب هامة منها. يندرج تحت الوسائل الحديثة أيضا الاهتمام بالتغييرات التي تطرأ على أسلوب الكلام, وعلى الأصوات من حيث درجة قوتها أو ضعفها, ومدى الانطلاق أو التعثر في الحديث أو الخطابة كمؤشرات لقياس الحالة النفسية للأفراد، أو الزعماء خلال المواقف السياسية المختلفة. ملاحظات هامة على خطوات المنهج العلمي: - لا يعني الترقيم السابق أن المنهج العلمي يلتزم به بنفس الترتيب1، إذ يحدث العكس في الحياة العملية حيث يبدأ الباحث بالمخاطرة بوضع فرض عمل مؤقت, قد يقوم على مجرد معلومات سطحية عن الحقائق بهدف استخدامه كبالون اختبار يؤدي إلى بحث أكثر منهجية. - لضمان عملية البحث يجب أن يحدد الدارس لنفسه مجموعة من الأفكار المؤقتة حول: الهدف من دراسته, أي: ماهية السؤال الذي يبحث عن إجابة له. مدى قوة صلة ذلك السؤال أو الموضوع بالمعرفة الإنسانية بشكل عام؛ تمييزا له عما قد يكون ذا أهمية خاصة للباحث. مدى صلة الخطوات العلمية التي سيتخذها الدارس بالإجابة التي يبحث

_ 1 A. Brecht, Political Theory, op. cit., pp. 28-30, 93.

عنها. أي: مدى التوفيق في اختيار المداخل والوسائل المناسبة وأدوات البحث. - لا يجب أن يتطرق إلى الذهن أن خطوات المنهج العلمي التي ذكرناها تظل كل منها بمنأى عن الأخرى بالشكل الوارد بالترقيم, إذ غالبا ما يحدث في البحث العلمي التطبيقي أن يتم وضع الفرض ثم اختباره عن طريق الملاحظة بسرعة قد يبدو معها أنهما خطوة واحدة, وليسا سلسلة خطوات. يحدث ذلك مثلا عندما تتتابع بسرعة عمليات التفكير الاستقرائي والاستنباطي. ولا يخلّ هذا بالضرورة العلمية من ناحية التحليل, حيث لا بد من التمييز بين كل خطوة من تلك الخطوات على حدة. ثم بحمد الله

المراجع

المراجع: المراجع العربية: أحمد أمين وزكي نجيب محمود, قصة الفلسفة الحديثة، القاهرة 1936. إمام عبد الفتاح إمام, المنهج الجدلي عند هيجل، القاهرة 1969. أنور الجندي, مقدمات المناهج "العودة إلى منابع الفكر الإسلامي الأصيل"، القاهرة 1977. توفيق الطويل, أسس الفلسفة، الطبعة السادسة، القاهرة 1976. جلال محمد موسى, منهج البحث العلمي عند العرب "في مجال العلوم الطبيعية والكونية"، بيروت 1972. جماعة من العلماء السوفيت, المادية الديالكتيكية، تعريب بدر الدين السباعي، فؤاد مرعي، عدنان جاموس، الطبعة الثالثة، دمشق 1973. جميل صليبا, المعجم الفلسفي، بيروت 1971. جورج بوليتزير, جي بيس, موريس كافين, المبادئ الأساسية للفلسفة، تعريب إسماعيل المهدوي، القاهرة 1957. جورج بوليتزير, المادية والمثالية في الفلسفة، تعريب إسماعيل المهدوي، القاهرة 1957. حسن صعب, علم السياسة، الطبعة الرابعة، بيروت 1976. ريجيس جوليفيه, المذاهب الوجودية "من كير كجارد إلى جان بول سارتر"، تعريب فؤاد كامل، القاهرة 1966. زكريا إبراهيم, مشكلة الفلسفة، القاهرة 1971. زكي نجيب محمود, نحو فلسفة علمية، القاهرة 1958.

سيد أبو المجد, "الملكات العقلية في القرآن الكريم"، محاضرات الموسم الثقافي الثاني لجامعة الأزهر، القاهرة، نوفمبر 1959. عبد الرحمن بدوي, مناهج البحث العلمي، القاهرة 1968. نيتشه، الطبعة الثانية، القاهرة 1954. عبد الرحمن بن خلدون, المقدمة "لكتاب العبر ... ", تونس 1374، طبعة الدكتور علي عبد الواحد وافي، القاهرة 1957. عبد الرضا حسين الطعان, علم السياسة "المحاولات السلبية لتحديد موضوعه"، بغداد 1970. علي سامي النشار, مناهج البحث عند مفكري الإسلام "ونقد المسلمين للمنطق الأرسططاليسي"، القاهرة 1947. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، الطبعة السادسة، القاهرة 1975. علي الوردي, منطق ابن خلدون، القاهرة 1962. فاضل زكي محمد, الفكر السياسي العربي الإسلامي، بغداد 1976. ف كيلي، م. كوفالزون, المادية التاريخية، تعريب أحمد داود، دمشق 1970. محمد محمود ربيع, النظرية السياسية لابن خلدون "بالإنجليزية"، لايدن 1967. "منهج ابن خلدون في علم العمران"، مجلة مصر المعاصرة، العدد 340، القاهرة, إبريل 1970. "هل تتحكم القومية أو الدين في تطور التاريخ؟ "، دراسة أيديولوجية مقارنة، مجلة العلوم السياسية والقانونية، بغداد, حزيران 1976.

محمود قاسم, المنطق الحديث ومناهج البحث، الطبعة الخامسة، القاهرة 1967. نجيب بلدي, ديكارت، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، القاهرة 1959. ياسين خليل, منطق المعرفة العلمية "تحليل منطقي للأفكار والقضايا والأنظمة في المعرفة التجريبية والبرهانية, الجزء الأول من نظرية العلم", بنغازي 1971. منطق البحث العلمي "تحليل منطقي لأصول الفكر العلمي والطرق العلمية في ضوء النظريات المعاصرة, الجزء الثاني من نظرية العلم"، بغداد 1974.

المراجع الانجليزية

المراجع الإنجليزية: Afanasyev, V.— Marxist Philosophy "A Popular Outline", Moscow. Aiken, Henry D. The Age of Ideology "The 19th Century Philosophers", New York 1956. Apter, David.- "A Comparative Method for the Study of Politics", in: The American Journal of Sociology, Vol. LXIV, No. 3, Nov. 1958; reprinted in: Harry Eckstein and D. Apter, Comparative Politics "A Reader", New York, London 1963. Aron, Raymond. "Political Science in France", in: Contemporary Political Science, UNESCO, Publi¬cation No. 426, Paris 1950. Barents, Jan. Political Science in Western Europe "A Trend Report", London 1961. Barnes, Harry E., ed.. An Introduction to the History of Sociology, abridged edition, Chicago, London 1966. — "Sociology Before Comte", J in: American Journal of Sociology, XXIII, 1917. Becker, H. and Barnes, H.. Social Thought from Lore to Science, New York 1961. Biswas, Ajit K.. "Some Observations on Methodological Issues In Economic Research", in: A. K. Dasgupta,

Methodology of Economic Research, London 1968. Bochenski, J. M. The Methods of Contemporary Thought, New York and Evanston 1968. Brecht, Arnold. Political Theory "The Foundations of Twentieth Century Political Thought", Princeton, New Jersey 1959. Butler, D. E.. The Study of Political Behaviour, London 1958. Carnap, Rudolf___ The Logical Syntax of Language, London 1959. Crick, Bernard. In Defence of Politics, Middlesex England 1973. Day, Richard R.. "Dialectical Method in the Political Writings of Lenin and Bukharin", in: Canadian Journal of Political Science, X, 2, June 1976. Dewey, John. "Development of American Pragmation", in: Contemporary American Philosophy, Vol. II ____ Logic "The Theory of Inquiry", New York 1938. Easton, David. The Political System, New York 1953. Eisenmann, Charles. "On the Matter and Methods of the Political Sciences", in: Contemporary Political Science "A Survey of Methods, Research and Teach¬ing", UNESCO, Publication No. 426, Paris 1950. Engels, Friedrich.Anti - Diihring "Herr Eugen Diihring's Revolution in Science", Moscow 1954. ____ "Ludwig Feuerbach and The End of Classical German Philosophy", in: Marx Engels, Selected Works, Vol. II, Moscow 1955. ____ "Dialectics of Nature" , in: H. Selsam, H. Martel, Reader in Marxist Philosophy, New York 1963. Fischel, W. J. __ "Ibn Khaldun on the Bible, Judaism and the Jews", in: Goldziher Memorial Volume, Part 2, Jerusalem 1958.

Frey, Frederick W. — "Cross- Cultural Survey Reaserch in Political Science", in: Robert T. Holt and John E. Turner, eds., The Methodology of Comparative Research, New York 1970. Friedrich, Carl J. — Man and His Government "An Empirical Theory of Politics", New York 1963. Frohock, Fred M. — "Notes on the Concept of Politics: Weber, Easton, Strauss", in: The Journal of Politics, Vol. 36, No. 2, Gainesville Florida, May 1974. Gibb, Hamilton A. R. — "The Background of Ibn Khaldun's Political Theory", in: S.J. Shaw and W. R. Polk, eds., Studies on the Civilization of Islam, Boston 1962. Golembiewski, Robert T., et. al. — A Methodological Primer for Political Scientists, Chicago 1969. Gould, Julius; Kolb, William, eds. — A Dictionary of the Social Sciences, UNESCO, New York 1964. Greaves, H. R. G. — The Foundations of Political Theory, Second ed., London 1966. Hertzberg, Arthur, ed. — The Zionist Idea "A Historical Analysis and Reader", New York 1966. Holt, Robert T.; Turner, John E., eds. — The Methodology of Comparative Research, New York 1970. Hudson, W. D., ed. — The Is - Ought Question, New York 1969. Iovchuk, M. — Philosophical Traditions Today, Moscow 1973. James, William — Pragmatism "and four essays from the Meaning of Truth", Cleveland and New York 1963. Kaplan, A. — The Conduct of Inquiry "Methodology for Behavioural Sciences", San Francisco 1964. Key Jr., V. O. — Politics, Parties & Pressure Groups, New York 1964. Mac CIosky, Herbert — Political Inquiry: The Nature and

Uses of Survey Research, London 1969. MacCormick, Thomas C; Francis, Roy G. — Methods of Research in the Behavioral Sciences, New York 1958. Macridis, Roy C. — The Study of Comparative Govern¬ment, Garden City, N. Y. 1955. Mahdi, Muhsin — Ibn Khaldun's Philosophy of History, London 1957. Mannheim, Karl — Ideology and Utopia "An Introduction to the Sociology of Knowledge", London i960. Marshal, T.H. — Sociology at the Crossroads, London 1963. Martindale, Don — Community Character and Civilization, London 1963. Marx, Karl — Capital "A Critical Analysis of Capitalist Production", Vol. 1, Moscow 1965. Marx Engels — Selected Works, Vol. 1, Moscow 1955. Mathews, Donald R. — The Social Background of political Decision - Makers, Garden City, N. Y. 1954. Mathisen, Trygve — Methodology in The Study of Inter¬national Relations, Oslo 1959. Morgenthau, Hans J. — Politics Among' Nations, New York 1954. Myrdal, Gunar — Economic Theory and Underdeveloped Regions, London 1957. Nachmias, David and Chava — Research Methods in the Social Sciences, London 1976. Nellis, John R. — A Theory of Ideology "The Tanzanian Example", Nairobi 1972. Northrop, F.S.C. — The Logic of the Sciences and the Humanities, New York 1947. Oizerman, Theodor — Problems of The History of Philo¬sophy, Moscow 1973.

Park, B.E.; Burgess E. W. — Introduction to The Science of Sociology, reprinted in: Lewis A. Coser, Bernard Rosenberg, Sociological Theory, New York, London 1966. Parsons, Talcott — The Structure of Social Action, New York 1937. Pennock, J. Roland; Smith, David G. — Political Science "An Introduction.," New York and London 1964. Plato — The Republic, The Penguin Classics, London 1963-Plekhanov, Georgi — Selected Philosophical Works, Vol. 1, Moscow 1974. Rabie, Muhammad M. — The Political Theory of Ibn Khaldun, Lyden 1967. ____ "Regionalism and Universalism in Political Thought" in: L'Egypte Contemporaine, No. 338, Oct. 1969. Rosenthal, Erwin — Political Thought in Medieva.l Islam, Cambridge 1958. ____ "Ebn Khaldun: A North African Muslim Thinker of the Fourteenth Century" , in: Bulletin of the John Rylands Library, Vol. 24, 2, 1940. ____ "Ebn Khaldun's attitude to the Falasifa", in: Al-Andalus, Vol. 20, 1, 1955. ____ The Listener, London, April 17, 1958. Rosenthal M.; Yudin P., eds. — A Dictionary of Philosophy, Moscow 1967. Runes, Dagobert D., ed. — Dictionary of Philosophy, 15th revised ed., Totowa, New Jersey 1965. Russel, Bertrand — History of Western Philosophy "and its Connection with Political and Social Circumstances from the Earliest Times to the Present Day", London 1948. Sabine , George H. — A History of Political Theory, third ed., London 1963.

Sanger, Richard A. — Insurgent Era, Washington D. C. 1967. Sarton, George — A History of Ancient Science "Through The Golden Age of Greece", Cambridge, Massachu¬setts 1959. Schelling, Thomas C. — "The Strategy of Conflict: Prospectus for a Reorientation of Game Theory", in: Journal of Conflict Resolution, 2, Sep. 1958. Schwartz, David C. — "Toward a More Relevant and Rigorous Political Science", in: The Journal of Politics, Vol. 36, No. 1, Feb. 1974. ____ "The Ecology of Political Violence", in: Amerian Behavioural Scientist, 2, July-Aug. 1968. Sharif, M.M., ed. — A History of Muslim Philosophy, Vol. II, Wiesbaden 1966. Sorokin, Pitirim — Society, Culture and Personality, New York 1962. ____ Social and Cultural Dynamics, Vol. 2, New York 1937. Tumanov, V.A. — Contemporary Bourgeois Legal Thought "A Marxist Evaluation of the Basic Concepts", Mos¬cow 1974. Van Dyke, Vernon — Political Science "A Philosophical Analysis", London 1960. Wasby, Stephen L. — Political Science "The Discipline and its Dimensions, An Introduction", New York 1970. Weber, Max — "Class, Status, Party", in: H.H. Gerth, C. Wright Mills, eds., From Max Weber "Essays in Sociology", London 1961. ____ Max Weber on The Methodology of the Social, Sciences, trans, and ed. by E. A. Shils, H. A. Finch New York 1949. Wensinck, R. A.J. — The Muslim Creed, Cambridge 1932.

White, Morton — The Age of Analysis "The 20th Century Philosophers", Eighth printing, New York 1963. Wirt, Morey, Brakeman — Introductory Problems in Political Research, Englewood Cliffs, N. J. 1970. Young, Roland, ed. — Approaches to the Study of Politics, Evans ton 1958. Znaniecki, Florian — The Social Role of the Man of Knowledge, partly reprinted in: Lewis A. Coser, B. Rosenberg, Sociological Theory, New York, London 1966.

المراجع الفرنسية

المراجع الفرنسية: Bousquet, G. H.— Ibn Khaldoun: Les Textes Sociologiques et Economiques de la Muqaddima, 1375-1379, Paris 1965. Brehier, Emile — Les Themes Actuels de la Philosophie, Paris 1954. ____ Histoire De La Philosophie "La Philosophie en Orient par Paul Masson-Oursel", 4e ed., Paris 1957. ____ Burdeau, Georges — Methode de La Science Politique, Paris 1959. Duverger, Maurice — Les Partis Politiques, Huitieme Ed., Paris 1973. ____ Methodes De La Science Politique, Paris 1959. Grawitz, Madeleine — Methodes Des Sciences Sociales, Deuxieme ed., Paris 1974. Marchal, Andre— Methodes Scientifique et Science Economique, Tome II, Paris 1952 - 55. Maunier, Rene — "Les Idees Economiques d'un Penseur Arabe du 14 erne siecle", in: Revue d'Histoire Economique et Sociale, 1913. Menaud, Jean - Les Groupes De Perssion, que sais-je?, Paris 1965.

Montesquieu — De L.htm'Esprit des Lois, Les Grands Themes, edite par J.P. Mayer et A. P. Kerr, Paris 1970. Prelot, Marcel—La Science Politique, que sais-je?, Paris 1963-Schwartzenberg, Roger - Gerard — Sociologie Politique, Paris 1971. Touchard, Jean, et. al. — Histoire Des Idees Politiques, 2 , 7e edition, Paris 1975.

فهرس الأعلام

فهرس الأعلام: أ: ابن تيمية: 46، 51، 55، 59. ابن حزم: 51. ابن حيان "جابر": 50. ابن خلدون: 42، 45، 51، 53، 85، 166، 168، 175، 218، 219، 245. ابن رشد: 41، 55. ابن سينا: 41، 42. ابن أبي سفيان "معاوية": 66. ابن أبي طالب "علي" ع: 66. أبيقور "والأبيقوريون": 124، 151. إخناتون: 28. أرسطو: 15، 16، 27، 32، 33، 37، 40، 41، 46، 47, 53، 57، 89، 90، 92، 95، 97، 107، 110، 151، 153، 174، 245، 246، 253، 266، 267. أرون "رايموند": 172، 175. أفلاطون: 15، 22، 32، 37، 52، 97، 110، 126، 151، 153، 232.

أفلوطين: 34. أكويناس "توماس": 40، 41. الإسكندر "المقدوني": 16. التوسيوس: 174. إنجلز: 183، 227، 228، 229، 267، 278، 279، 282. أورسيل "باول ماسون": 31، 32. أوغسطين "القديس": 40. أولباك "باول هنري": 152. إيستون "دافيد": 195، 196. ب: بارنز "هاري ألمر": 53. بريشت "أرنولد": 14، 231، 248، 291. برييه "أميل": 32، 145. بلوتارك: 16. بوتول "جاستون": 53، 175. بوخارين: 273. بودان: 84، 174. بوليتزير "جورج": 16، 24، 265، 266. بيرس "تشارلس": 129، 130. بيركلي: 132، 152، 154، 156. البيروني: 51. بيكون "روجر": 52، 89. بيكون "فرانسيز": 88، 89، 94، 97، 245. ت: توينبي "أرنولد": 53، 166، 175.

ج: جابرييلي "فرانسيسكو": 53. جب "هاميلتون": 54، 55. جلاسيوس الأول "البابا": 39 جيمس "ويليام": 19، 20، 129، 134، 136. د: داروين: 280. دور كايم: 63. دور ينج: 278. ديكارت: 51، 53، 88، 90، 94، 96، 97، 154، 245، 267، 273. ديموقريطس: 29، 151، 154. ديوجينس: 27. ديوي: 129، 133، 135، 232، 248. س: الرازي "أبو بكر": 50. راسل "برتراند": 28، 30، 120، 132، 135، 136، 274، 275. الرشيد "هارون": 69، 177. روزينتال "أروين": 54، 56. ز: زرادشت: 29.

س: سارتر: 137، 139، 143، 146. سبينوزا: 110، 245، 273. سقراط: 32، 37، 151. سميت "آدم": 58، 62. سوروكين "بيتيريم": 53، 175. سيمون "سان": 100، 103. ش: الشافعي "الإمام": 44، 46. شوبنهاور: 154. شيشيرون: 18. غ: غاليليو: 88، 91، 267. الغزالي: 51، 57. ف: الفارابي: 41، 44. فريدريش "كارل ي": 14، 232، 291. فوير باخ "لودفيج": 274، 276، 278. فيبر "ماكس": 13، 16، 131، 132, 173. فيثاغورث: 29، 33. فيشته: 154. فيلو "الإسكندري": 34.

ك: كانارب "رودولف": 110: 115. كامي "ألبير": 16، 17، 137، 139، 143، 145، 147، 148. كانت: 246. كلاتزكين "ياكوب": 22. الكندي: 41، 42. كونت "أوجست": 84، 98، 105، 166، 175. ل: لاسويل "هارولد": 195، 196، 232. لايبنيتز: 154، 155، 174. لوك "جون": 191. لينين: 209، 274. م: ماركس "والماركسيون": 105، 108، 109، 116، 119، 129، 135، 137، 144، 147، 154، 229، 230، 236، 245، 263، 283. ماكيافيللي: 87, 172. مانهايم "كارل": 237. المسعودي: 68. مونتسكييه: 174، 176. ميل "جون إستيوارت": 49، 50، 93، 94، 245.

ن: نور ثروب: 232، 248. نيتشه: 16، 137، 141، 142. نيوتون "إسحاق": 152، 280. هـ: هايدجر "مارتن": 16، 17، 137، 139، 142، 143. هوبز "توماس": 190، 191. هوسيرل: 246، 258. هيجل: 110، 154، 166، 245، 267، 274، 279. هيراقليطس: 122. هيرودوت: 33. هيلفيشيوس: 280. هيوم "دافيد": 110، 156. ي: ياسبرز "كارل": 137، 138، 141، 146.

§1/1