منازل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد
يحيى بن إبراهيم السلماسي
مقدمة
منازل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد تأليف: أبو زكريا يحيى بن إبراهيم السلماسي تحقيق: محمود عبد الرحمن قدح مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله عز وجل قد تكفل بحفظ هذا الدين الذي أنزله على خاتم أنبيائه ورسله نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 فهيّأ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أصحاباً - هم صفوة الخلق وخيرته بعد الأنبياء - وجعلهم وزراء له وأنصارا وأتباعاً، فحملوا الأمانة من بعده صلّى الله عليه وسلّم، فأدّوها ورعوها حق رعايتها، وجاهدوا في الله حق جهاده، وسار التابعون لهم بإحسان على طريقتهم ومنهجهم إلى يوم الدين. ولما نشأت البدع وظهرت الفرق التي حذرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم وأمرنا بالتمسك بما كان عليه صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، فقد سخر الله من عباده الصالحين في كل مكان وزمان من يدعون إلى السنة ويبينونها للناس، ويردون على البدعة ويحذرون منها.
قال الإمام أبو القاسم اللالكائي: ثم إنه لم يزل في كل عصر من الأعصار إمام من سلف أو عالم من خلف قايم لله بحقه وناصح لدينه فيها، يصرف همته إلى جمع اعتقاد أهل الحديث على سنن كتاب الله ورسوله وآثار صحابته، ويجتهد في تصنيفه، ويتعب نفسه في تهذيبه رغبة منه في إحياء سنته وتجديد شريعته، وتطرية ذكرهما على أسماع المتمسكين بهما من أهل ملته، أو لزجر غال في بدعته، أو مستغرق يدعو إلى ضلالته، أو مفتتن بجهالته لقلة بصيرته اهـ1. ومن هؤلاء العلماء الذين بذلوا مهجهم ونذروا أوقاتهم لهذا الواجب العظيم، الإمام الواعظ أبو زكريا يحيى بن إبراهيم الأزدي السلماسي الذي بيّن في كتابه – الذي بين أيدينا- منازل الأئمة الأربعة، أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد رضي الله عنهم أجمعين - اتفاق المعتقد عند الأئمة الأربعة الكرام، المقتدى بهم في الإسلام، والمعتمد على أقوالهم وفقههم بين الأنام. فإن اعتقاد هؤلاء الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة الأعلام هو ما نطق به الكتاب والسنة، وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ولم يكن بين هؤلاء الأئمة - ولله الحمد والمنة - خلاف في المعتقد وأصول الدين، وإنما وقع الخلاف بينهم في بعض فروع الشريعة وجزئياتها. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن اعتقاد الشافعي فأجاب - رحمه
الله - بقوله: اعتقاد الشافعي - رضي الله عنه -، واعتقاد سلف الإسلام، كمالك، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، هو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، كالفضيل بن عياض، وأببي سليمان الدارمي، وسهل بن عبد الله التستري، وغيرهم، فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة - رحمه الله -، فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد والقدر ونحو ذلك، موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقاد هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة اهـ1. وإن في بيان وحدة معتقد الأئمة الأربعة، وإيضاح مجمل اعتقادهم وموافقته للسنة والمأثور عن سلف الأمة، إقامة للحجة على كل من يتبع مذاهب هؤلاء وهو على غير طريقتهم. وأمر آخر هو أن بيان معتقد هؤلاء الأئمة الأعلام من مصادرها المعتبرة هو تزييف وإبطال للآراء المنسوبة للإمام وهو منها بريء2. هذا هو موضوع الكتاب الذي بين أيدينا والذي عقدت العزم - مستعينا بالله - على تحقيقه ودراسته والتعليق عليه وإخراجه، بحول الله وقدرته وتوفيقه. وقد قسمت البحث في دراسة الكتاب وتحقيقه إلى قسمين كالآتي:
القسم الأول: دراسة المؤلف وكتابه، ويشتمل على ثلاثة مباحث هي: المبحث الأول: التعريف بالمؤلف المبحث الثاني: دراسة الكتاب المبحث الثالث: منهجي في التحقيق القسم الثاني: نص الكتاب المحقق. ثم وضعت فهارس متنوعة للبحث إعانةً لقارئيه، سائلا الله العظيم أن يتقبل مني هذا العمل، وسائر أعمالي وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وألا يحرمني ووالدي أجرها إنه سميع مجيب. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين. وكتبه محمود بن عبد الرحمن قدح
القسم الأول: دراسة المؤلف والكتاب
القسم الأول: دراسة المؤلف والكتاب المبحث الأول: ترجمة المؤلف ... المبحث الأول: التعريف بالمؤلف اسمه ونسبه ونسبته: هو يحيى بن أبي طاهر إبراهيم بن أحمد بن محمد الأزدي السَّلَمَاسي. فأمَّا نسبته (الأزدي) فهي نسبة إلى قبيلة (الأزَدْ) من أعظم قبائل العرب وأشهرها
، تنتسب إلى الأزد بن الغوث بن نَبْت بن مالك بن كهلان من القحطانية1. وأما (السلماسي) فهي نسبة إلى مدينة (سَلَماس) - بفتح أوله وثانيه - وهي مدينة مشهورة بأذربيجان2، خرج منها جماعة من العلماء منهم: - موسى بن عمران بن موسى بن هلال أبو عمران3. - أبو القاسم حريز بن أحمد بن حريز السلماسي، أحد الأئمة المشهورين بالفضل، وكان حسن الاعتقاد، فصيح اللسان، مات في شوال سنة 436هـ4. - أبو حفص عمر بن يوسف بن الحسن السلماسي. - أبو الحسن المظفر بن الحسن بن المهند السلماسي.
- أبو محمد الحسن بن جعفر بن داود السلماسي، توفي سنة 419هـ. - أبو عبد الله الحسين بن جعفر بن محمد بن جعفر بن داود ابن الحسن السلماسي، كان ثقة، توفي سنة 446هـ. - أبو نصر محمد بن الحسن بن محمد بن جعفر بن داود السلماسي، ابن عم أبي عبد الله بن السلماسي، كان صدوقا، مات سنة 444هـ. - أبو طاهر المحسن بن جعفر بن محمد بن جعفر بن داود ابن الحسن السلماسي، كان ثقةً، مات سنة 436هـ1. 2- كنيته ولقبه: أجمعت المصادر التي ذكرت المؤلف على أن كنيته (أبو زكريا) ، ولكن لم تذكر تلك المصادر أسماء أو عدد أولاده. وقد اشتهر المؤلف بلقب (الواعظ) 2 لأنه كان يعقد مجلس الو عظ والتذكير في دمشق وبغداد، وكان له القبول التام3، ولعلَّ المؤلف - رحمه الله - كان مأذونا له بالوعظ من قبل الخليفة أو الولاة، "فقد كان معه علمان أسودان من أعلام الخليفة، ينصبهما على كرسيه وقت وعظه"4.
3- ولادته ونشأته: قال الحافظ ابن عساكر عن المؤلف - رحمهما الله -: وكان مولده في ما ذكر سنة أربع وسبعين وأربعمائة1، وبدأ بسماع الحديث سنة إحدى وثمانين2، واستجاز له أبوه من مشايخ بغداد سنة نيف وثمانين 3اهـ. ويبدو لنا من ترجمة المؤلف وسيرته ورحلاته - فيما سيأتي - أن ولادة المؤلف ونشأته كانت في مدينة (سلماس) التي ينتسب إليها. 4- طلبه للعلم ورحلاته فيه: لقد كانت أسرة المؤلف - فيما يبدو لنا - أسرة خير وفضل، وبيته بيت علم وصلاح، فأبوه من المهتمين بالحديث وروايته، مما ساهم في نشأته العلمية وتكوينه في وقت مبكّر، فحببته أسرته في العلم والعلماء، ودفعت به إلى حلق العلم، فأقرأته القرآن، وحثته على سماع الحديث وكتابته وتحمله، "فبدأ المؤلف في
سماع الحديث سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وكان في السابعة من عمره حينئذ1، واستجاز له أبوه من مشايخ بغداد سنة نيف وثمانين) ، حيث ذكر ذلك الحافظ ابن عساكر في تاريخه من مناقب المؤلف - رحمه الله -2.وبهذه العناية المبكرة من والد المؤلف، وبما كان له من الهمة والإقبال الكبير والجد والاجتهاد في طلب العلم، فإنه لم يكتف بالأخذ عن مشايخ بلده أو ممن استجاز له والده، وإنما جدّ في السعي والرحلة لطلب العلم، فانتقل من بلده وفارق أهله، وهجر مصالحه ومنافعه رغبة في التزود من معين العلم والمعرفة، والسماع عن ثقات المشايخ وأئمة العلم في مختلف البلدان. فذكر الحافظ ابن عساكر3 أن المؤلف ارتحل لطلب العلم وسماع الحديث إلى الموصل4 وإلى خُوَيّ5، وإلى مَرَنْد6.
5- شيوخه وتلاميذه: بينّا فيما سبق أن المؤلف قد طلب العلم في سن مبكرة، وسافر وارتحل لطلب العلم والسماع من المشايخ، ومن كانت هذه حالته وهمته العالية لا بُدَّ أن يتتلمذ على عدد كبير من المشايخ وعلماء عصره، وقد أورد الحافظ ابن عساكر بعض شيوخ المؤلف وهم: - سمع من أبيه أبي طاهر إبراهيم بن أحمد السلماسي. - وسمع من أبي الوفاء خليل بن شعبان بن إبراهيم - وسمع بالموصل من أبي بكر محمد بن القاسم بن الشهرزوري، وهو من مشايخ ابن عساكر. - ومن أبي القاسم نصر بن محمد بن أحمد بن صفوان الموصلي. - وسمع بخُوَيّ من أبي عبد الله محمد بن الهادي بن أحمد بن بعون الدقوقي. - وسمع بمرند من أبي الفضل نعمة الله بن محمد العبدوي المرندي، من مشايخ ابن عساكر. - وسمع من جماعة من شيوخ أذربيجان، وغيرهم1. أما عن تلاميذه فقد تتلمذ عليه وسمع منه عدد من العلماء الأجلاء ومنهم: - الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن الشافعي المعروف بابن عساكر
المتوفى سنة 571هـ، الذي قال عنه: سمعت منه جزءاً خَرَّج له عن شيوخه، ولم أجد نسخته عندي، وعلقت عنه أشياء يسيرة، ثم أخرج الحافظ ابن عساكر حديثاً سمعه من المؤلف بإسناده، وقال عقب الحديث: هذا إسناد مظلم، وحديثه منكر1. - الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي المتوفى سنة 597هـ، وقد أورده ابن الجوزي في مشيخته الذي ضمّ تراجم شيوخه الذين تتلمذ عليهم، وقد سمع منه ابن الجوزي شيئاً من الحديث بقراءة ابن ناصر، وأخرج له ابن الجوزي حديثاً سمعه من المؤلف بإسناده في يوم الثلاثاء ثالث ذي القعدة من سنة ثمان وأربعين وخمسمائة2. - الإمام المحدّث الحافظ، أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد ابن علي بن عمر السَّلاَميُّ البغدادي، المعروف بابن ناصر، المتوفى سنة 550هـ3، وهو المراد في كلام ابن الجوزي السابق أنه سمع من المؤلف شيئاً من الحديث بقراءة ابن ناصر. - أبو الحسن بن المُقير، وهو آخر من روى عن المؤلف السلماسي بالإجازة4.
6- مؤلفاته وأقوال العلماء فيه: ذكر الحافظ ابن عساكر أن المؤلف صنف كتابين هما: - الكتاب الأول سماه (باب المدينة) . قال الحافظ ابن عساكر عن هذا الكتاب: وصنف كتاباً سماه (باب المدينة) افتتحه يحيى بن إبراهيم، ذكر فيه أحاديث في فضل علي لم يسمع، تقرَّب بذلك إلى الرئيس أبي الفوارس بن الصوفي ونفق1 عنده بذلك، وقفت على ذلك الكتاب فأبان عن قلة معرفة منه بالحديث، وكثرة نفاق في الاعتقاد2 اهـ. وبسبب هذا الكتاب ونقد الحافظ ابن عساكر له ولمؤلفه، فإن المؤرخين والعلماء الذين ترجموا للمؤلف في كتبهم - كالإمام الذهبي والحافظ ابن حجر - قد تابعوا ابن عساكر في نقده ذلك، ما عدا ابن الجوزي - الذي كان معاصرا لابن عساكر - وابن الدبيثي في تاريخه، حيث لم يشيرا إلى الكتاب المذكور في ترجمتهما للمؤلف، فقد قال الإمام الذهبي تبعا لابن عساكر في كتابه (المغني في الضعفاء) : يحيى بن إبراهيم السلماسي، معروف، صنف في مناقب علي كتاب (باب المدينة) أبان فيه عن جهل وهوى3 اهـ.
وأعاد الإمام الذهبي ترجمة المؤلف في كتابه (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) مضيفاً بأنه روى عنه - أي المؤلف - أبو القاسم ابن عساكر وغيره1. وقال الحافظ ابن حجر تبعاً للذهبي وابن عساكر في كتابه (لسان الميزان) : يحيى بن إبراهيم السلماسي، شيخ معروف متأخر، له مصنف في مناقب علي رضي الله عنه، أبان فيه عن جهل وهوى، روى عنه أبو القاسم ابن عساكر وغيره اهـ2. قلت: لم أقف على الكتاب المذكور فيما بحثت فيه من فهارس المخطوطات والمكتبات المعروفة، ولعل المؤلف - عفا الله عنا وعنه - قد كتب هذا الكتاب في بداية حياته العلمية، أو تحت ظروف قاهرة ألجأته إلى ذلك، مع أن ذلك ليس عذراً للمؤلف فيما كتبه وأخطأ فيه في كتابه (باب المدينة) حسب قول ابن عساكر، ولكن الذي يهمنا معرفته أن المؤلف - عفا الله عنا وعنه - قد رجع عن خطئه ذلك، وأعلن أن اعتقاده في الصحابة جميعا وفي علي خاصة - رضي الله عنهم - خاصة هو اعتقاد السلف أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والأئمة العلماء ومنهم الأئمة الأربعة الأعلام، فقد صرّح بذلك في كتابه الثاني -الذي بين أيدينا- حيث يقول المؤلف السلماسي: وأفضل الصحابة المهاجرين العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة، وأفضل العشرة الخلفاء الأئمة الأربعة، وأفضلهم أبوبكر الصديق،
ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى - رضي الله عنهم -. قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ…} نزلت الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث أنفق ماله بمكة، ونصر النبي صلى الله عليه وسلم وهو أول من آمن من الرجال، وقد وردت في فضائل الأربعة الآيات الكثيرة، قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم ... } ثم ذكر المؤلف بعض الآيات والأحاديث الواردة في فضائل الصحابة - ثم قال: وأجمعوا على الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا"، وروى عن أبي سعيد أنه قال: مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها. وينتهون إلى ما روي عن عمر بن عبد العزيز وقد سئل عما شجر بينهم فقال: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون. وسئل بعض العلماء من التابعين عن ذلك، فقال: أقول ما قال موسى عليه السلام لفرعون حين قال له {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ثم قال المؤلف: فنترحم على جميع الصحابة، ونحبهم وننتهي إلى قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ثم قال المؤلف أبو زكريا السلماسي - وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشرة من أصحابه بالجنة، هم خير الناس، وأفضلهم الخلفاء الراشدون، ويجب على المسلمين
مدحهم والثناء عليهم، والدعاء لهم ولجميع الصحابة لما بذلوه من وسع النفس والمال في إقامة الحق، ونصرة الدين رضي الله عنهم أجمعين اهـ. وقال المؤلف في نهاية ذكره لجمل الاعتقاد: هذا دينهم واعتقادهم - أي الصحابة والتابعون وأئمة الأمصار من الفقهاء وأصحاب الحديث في كل زمان ومكان - ذكرته على وجه الاختصار وحذفت الأسانيد كراهية الإكثار اهـ1. وبهذا يتبين أن المؤلف - غفر الله لنا وله- قد رجع إلى الحق والصواب، وعقيدة السلف خاصة في الصحابة وفي علي - رضي الله عنهم -، وأن المؤلف لا يقول في علي إلا ما قاله الصحابة والتابعون والأئمة فيه رضي الله عنه. بقي أن نشير إلى أن تلك الملحوظة التي ذكرها ابن عساكر لا تحط من مكانة المؤلف، ولا تقلل من شأنه، ولا تمنع من الاستفادة من علمه في الجوانب والكتب الأخرى للمؤلف - كما فعل ابن عساكر نفسه في التتلمذ والأخذ عن المؤلف مع نقده إياه - وقلَّ أن نجد عالماً لا يخطئ، فكما قال الإمام مالك - إمام دار الهجرة -: كلٌّ يؤخذ من كلامه ويرد عليه، إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم2. أما الكتاب الثاني للمؤلف فهو منازل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - رضي الله عنهم أجمعين، وهو الكتاب الذي بين أيدينا وقمنا بتحقيقه ودراسته - ولله الحمد والمنة. وقد قال الحافظ ابن عساكر عن هذا الكتاب الثاني: ووقعت له على كتاب صنفه في فضل الأئمة الأربعة: أبي حنيفة،
ومالك، والشافعي، وأحمد، ما به بأس1. ويظهر لنا - والله أعلم - من ترتيب كلام ابن عساكر عن كتابي المؤلف، أن كتاب (باب المدينة) ألفه أبو زكريا السلماسي أولاً، ثم ألف من بعده كتابه الثاني وهو (منازل الأئمة الأربعة) ، وهذا يؤكد ما ذكرناه من قبل في رجوع المؤلف إلى عقيدة السلف وثباته عليها ودفاعه عنها والدعوة إليها، ويؤيد ذلك أيضا ما ذكره الحافظ ابن عساكر في نهاية ترجمة المؤلف بأنه كان يذهب مذهب أحمد بن حنبل في الأصول، وينتحل مذهب الشافعي في الفروع وتلك شهادة مهمة وتزكية عالية من الحافظ ابن عساكر لشيخه السلماسي، ونسأل الله عز وجل للجميع الرحمة والمغفرة في الدنيا والآخرة. 7- أقوال العلماء الأخرى فيه: - قال عنه الحافظ ابن عساكر: قدم دمشق سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، ونزل دويرة السميساطني، وعقد مجلس التذكير، … وكانت معه كتب كثيرة، وسماعه فيها قليل2، وكان له نظم ونثر، وكان ذا ثروة3.
- وقال عنه الحافظ ابن الجوزي: أبو زكريا الواعظ السلماسي، سمع الحديث، وقدم إلى بغداد، فوعظ بها، ووقع له القبول التام، ثم غاب عنها نحوا من أربعين سنة، ثم قدم بعد الأربعين وخمسمائة، فطلب أن يفتح له الجامع ليعظ فلم يجب إلى ذلك، فسمعنا منه شيئاً من الحديث، ثم رحل عن بغداد1. - قال عنه الحافظ الذهبي: والواعظ الكبير أبو زكريا يحيى بن إبراهيم السلماسي2. 8- عقيدته ومذهبه الفقهي: لقد كان المؤلف أبو زكريا السلماسي - رحمه الله - على عقيدة أهل السنة والجماعة، عقيدة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، التي تلقوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أدل على ذلك من كتابه الذي بين أيدينا، الذي أوضح فيه عقيدة السلف الصالح بأدلتها من الكتاب والسنة وأقوال السلف رحمهم الله تعالى. ومما يؤكد سلامة عقيدة المؤلف - رحمه الله - شهادة تلميذه الإمام الحافظ ابن عساكر بقوله عن المؤلف: وكان يذهب مذهب أحمد بن حنبل في الأصول، وينتحل مذهب الشافعي في الفروع. اهـ3.
فالانتساب إلى الإمام أحمد في الأصول هو انتساب إلى السنة1، فالإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة بلا منازع2. وانتساب المؤلف في الفروع الفقهية إلى الإمام الشافعي تأكيد على اتفاق الأئمة الأربعة في العقيدة وأصول الدين وإجماعهم عليها، وأن اختلافهم لم يكن إلا في أمور محدودة من فروع الشريعة لا في أصولها. وفاته: عاش المؤلف ستة وسبعين عاماً قضاها في طلب العلم والرحلة إليه ثم تعليمه، ووعظ الناس وتذكيرهم ونصحهم وإرشادهم وتبصيرهم بأمور دينهم، وفي رواية الحديث، في بغداد ودمشق وسلماس وغيرها.
وقد مات المؤلف بعد رجوعه إلى بلده سلماس بيسير1، حيث توفي في شهر شعبان2 سنة خمسين وخمسمائة من الهجرة النبوية3، رحمه الله رحمة واسعة، وأدخله فسيح جناته، وشملنا وإياه بمغفرته ورضوانه آمين.
المبحث الثاني: دراسة الكتاب
المبحث الثاني: دراسة الكتاب (1) اسم الكتاب: الاسم المثبت على غلاف الكتاب هو (منازل1 الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين) . (2) توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف: إن نسبة الكتاب للمؤلف - رحمه الله تعالى - ثابتة قطعا بأدلة عدة: - أن الحافظ ابن عساكر - وهو من تلاميذ المؤلف كما ذكرنا - قد اطلع عليه وقرأه ونسبه للمؤلف، قال الحافظ ابن عساكر: "ووقعت له على كتاب صنفه في فضل الأئمة الأربعة أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، ما به بأس. اهـ.2 - ذكر اسم المؤلف على غلاف الكتاب مقرونا باسم الكتاب. - تصريح المؤلف باسمه ونسبه في مقدمة الكتاب.
- إن الشيوخ الذين روى عنهم المؤلف في الكتاب هم من شيوخه الذين ذكروا في ترجمته عند الحافظ ابن عساكر في تاريخه، وأبي الفرج ابن الجوزي في مشيخته، وتوضيح ذلك بالآتي: قال المؤلف في الكتاب1: ولقد أخبرني أبي رضي الله عنه قال: أنبا القاضي أبو الحسين بندار بن علي بن أحمد قرأه عليه بتببريز في داره، قال: نبا علي بن الحسن بن خارجة بن أحمد … الخ. ويتفق هذا الإسناد مع ما رواه الحافظ ابن عساكر عن المؤلف فقال: حدثنا أبوبكر السلماسي أنا أبي أبو طاهر، أنا القاضي أبو الحسين بندار بن علي البيروتي، نا أبو الحسن علي بن خارجة… الخ2. كما يتفق مع الإسناد الذي ذكره الحافظ ابن الجوزي فقال: أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم بن أحمد السَّلَمَاسي، من لفظه في يوم الثلاثاء ثالث ذي القعدة من سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، قال: أخبرني أبي، قال أنا أبو نصر أحمد بن محمد القارئ… الخ3. (3) موضوع الكتاب: لقد أوضح المؤلف في مقدمته موضوع كتابه فقال: فرأيت من
الواجب أن أذكر من اتفاقهم - يعني الأئمة الأربعة - في المعتقد فصولاً، وأورد من ذلك فصوصاً ونصوصاً، وأبيِّن عموماً وخصوصاً، وأنشر طرفاً من طرف مطارفهم، وأذكر نتفاً من تحف مآثرهم ومعارفهم. فالموضوع الأساسي للكتاب هو بيان عقيدة الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد - رضي الله عنهم - واتفاقهم على هذه العقيدة، مع ذكر نبذة من سيرتهم ومناقبهم وفضائلهم. وقد قسَّم المؤلف - رحمه الله - كتابه إلى أربعة أقسام كالآتي: القسم الأول: في بيان حجج الشريعة. وجعل تحته أربعة فصول هي: الفصل الأول: نص الكتاب المنزل. الفصل الثاني: نص السنة الصحيحة. الفصل الثالث: الإجماع. الفصل الرابع: القياس. وقد بيَّن المؤلف في هذه الفصول المراد بأركان الشريعة الأربعة وحجيتها من الكتاب والسنة وأقوال السالف الصالح. القسم الثاني: في ذكر مقدمات يحتاج الناظر في هذا المختصر إليها. وجعل تحته أربعة فصول هي: الفصل الأول: في بيان الأمة. الفصل الثاني: في ذكر الأئمة. الفصل الثالث: في بيان الاتباع وترك الابتداع.
الفصل الرابع: في ذكر كمال الدين وحقائق اليقين. وقد أوضح المؤلف في هذه الفصول بإيجاز معنى كلمة "الأمة" وأنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أمة الدعوة، وأمة الإجابة، وأمة الاتباع. ثم بيّن - رحمه الله - تعريف الإمامة، وأن الأئمة على قسمين: أئمة الهدى والدلالة، وأئمة الردى والضلالة، وذكر علامات كل نوع من الأئمة وصفاتهم، وما يُمَيِّز بعضهم عن بعض بأدلة الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح. وفي الفصل الثالث الحث على التمسك بالسنة واجتناب البدعة، وبيَّن المؤلف أن النقل الصحيح والعقل الصريح لا يتعارضان، بل هما (أي النقل والعقل) متصادقان، متعاضدان، متناصران، يصدق أحدهما الآخر، ويشهد أحدهما بصحة الآخر، كما وضح المؤلف الفرق بين الاتباع والتقليد. وفي الفصل الرابع ذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنة على كمال هذا الدين وشموله لما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ودنياهم. القسم الثالث: في جمل الاعتقاد. وجعل تحته أربعة فصول هي: الفصل الأول: في إثبات العلم بالذات والأسماء والصفات. الفصل الثاني: في ذكر الأفعال وما جاء من الوعد والوعيد في المآل. الفصل الثالث: في بيان الرسالة والنبوة. الفصل الرابع: في ذكر الإمامة والخلافة والأئمة والخلفاء. وقد أبان المؤلف - رحمه الله - في هذه الفصول الأربعة عقيدة أهل السنة
والجماعة، عقيدة السلف التي أجمع عليها الصحابة - رضي الله عنهم - ونقلها عنهم التابعون لهم بإحسان من الأئمة والعلماء في جميع البلدان، هذه العقيدة الصحيحة التي عرضها المؤلف ببعض أدلتها من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح قد شملت أصول العقيدة الإسلامية وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وما يتعلق بهذه الأصول من مسائل الإمامة، والتفضيل بين الصحابة - رضي الله عنهم -، ومعرفة ما لهم من الحقوق، والكف عما شجر بينهم - رضي الله عنهم -، مما يتميز به أهل السنة والجماعة عن غيرهم من أهل البدعة والفرقة. القسم الرابع: في ذكر الأئمة. وجعل تحته أربعة فصول هي: فصل: في ذكر أبي حنيفة رحمه الله تعالى فصل: في ذكر مالك رحمه الله تعالى فصل: في ذكر الشافعي رحمه الله تعالى فصل: في ذكر أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. وقد أورد المؤلف لكل واحد من الأئمة الأربعة ذكر مولده ونسبه وحليته ووفاته، ثم ذكر علمه وورعه وزهده، ثم ذكر ما جاء في مدح الأئمة له والثناء عليه، ثم في ذكر أصحابه، وطرف من محنته على سبيل الاختصار دون الإكثار. (4) سبب تأليف الكتاب: لقد أشار المؤلف - رحمه الله - إلى سببين لتأليف كتابه وهما: أ- انتشار البدع والانحراف في العقيدة بسبب جهل بعض الوعاظ
والمذكرين وبُعْدِهِمْ عن الكتاب والسنة، وتكالبهم على متاع الدنيا، وإثارتهم للفتن بين الناس - حيث زعموا أن بين الأئمة خلافاً في المعتقد والأصول - طلباً منهم للتقدم والرياسة وادّعاء الفهم والكياسة. ب - الدفاع عن الأئمة الأربعة وبيان اتفاقهم وإجماعهم في العقيدة، وأنهم لم يختلفوا في الأصول، وإنما وقع الخلاف بينهم في فروع الشريعة لا في أحكامه وأصوله، لينتهي الناس عن ذكر الأئمة بما ليس فيهم وليتيقنوا أن الدين عند الله الإسلام وهو دين واحد. (5) منهج المؤلف في الكتاب وأسلوبه: أ- إن المؤلف التزم في كتابه الإيجاز والاختصار، وحذف الأسانيد للأخبار، كراهية الإكثار. ب - اعتماده على الكتاب والسنة وآثار الصحابة وأقوال الأئمة في الاستدلال على المسائل والأمور التي يوردها في كتابه، وخاصة في مسائل العقيدة. ج- استوفى المؤلف في عرضه لعقيدة الأئمة الأربعة جميع مسائل العقيدة في التوحيد والإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والصحابة، والإمامة، وغيرها. د- اقتصر المؤلف على ذكر سيرة الأئمة الأربعة ومناقبهم لشهرتهم وانتشار مذهبهم وكثرة أتباعهم، وبيان أن عقيدتهم هي عقيدة الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان من الأئمة في جميع البلدان.
هـ- ذكر المؤلف أنه راعى في ترتيب الأئمة - في كتابه - ترتيب زمانهم، لا تقديم الأفضل، فأبو حنيفة أدرك الصحابة - رضي الله عنهم - فهو من التابعين، ومالك كان بعده وأدركه، والشافعي أدرك مالكاً، وأحمد أدرك الشافعي - رضي الله عنهم أجمعين1. (6) أسلوب المؤلف في الكتاب: إن أسلوب المؤلف يغلب عليه طابع السجع في أسلوب سهل غيرمعقد مع ما فيه من جزالة في الألفاظ وإحكام في الصياغة. مصادر المؤلف في الكتاب: لقد ذكر المؤلف بعض المصادر والمراجع التي اعتمد عليها في كتابه، وتلك من المميزات التي تذكر له فتُشكر، وقد أورد تلك المراجع بعد إتمام كتابه فقال المؤلف: فصل في ذكر سفيان الثوري رضي الله عنه. فأما سفيان الثوري فكان مفتي عصره، وإمام أئمة مصره، علماً وورعاً وزهداً، وفصاحة ورجاحة وتقوى، وتفننا في جميع علوم الشرع - رضي الله عنه - إلا أنه لم يبق الآن من ينتسب إليه وإلى مذهبه ويناظر فيه. فاقتصرت على ذكر هؤلاء الأربعة المشهورين - رضي الله عنهم
أجمعين -، وما أوردته في هذا المختصر من الأخبار والآثار فمن: كتاب (الموطأ) لمالك، ومن (مسند الشافعي) ، ومن (مسند أحمد بن حنبل) ، ومن الجامعين الصحيحين (البخاري) و (مسلم) ، ومن (سنن أبي داود) ، و (جامع أبي عيسى الترمذي) ، و (سنن النسائي) ، وما فيه من مناقب الأئمة الأخيار. فمن الكتب المصنفة في مناقبهم من تصانيف عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، ومن (تاريخ بغداد) للخطيب أبي بكر بن ثابت، ومن (حلية الأولياء) للحافظ أبي نعيم، ومن (شعار الصالحين) لأبي سعد، ومن (تاريخ نيسابور) للحاكم، ومن (رسالة الأستاذ أبي القاسم القشيري) ، وغير ذلك من الكتب المشهورة، ومن (تصانيف أبي عبد الرحمن السُّلمي) ، (وأبي بكر البيهقي) ، ومن غير ذلك، وكلها مسموعة لي، وإنما تركت ذكر إسنادها إيثاراً للاختصار، وراعيت في ترتيب الأئمة ترتيب زمانهم، لا تقديم الأفضل، فأبو حنيفة أدرك الصحابة - رضي الله عنهم - فهو من التابعين، ومالك كان بعده وأدركه، والشافعي أدرك مالكاً، وأحمد أدرك الشافعي رضي الله عنهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. اهـ1 تلك بعض المصادر التي ذكرها المؤلف بعد تمام كتابه، وهناك مصادر أخرى اعتمد عليها المؤلف وذكرها في ثنايا كتابه وهي:
1- أخبار أبي حنيفة وأصحابه - للقاضي أبي عبد الله الحسين بن علي بن جعفر الصيمري. 2- طبقات الفقهاء - للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروزآبادي. 3- نسب قريش وأخبارها - للعلامة الزبير بن بكار بن عبد الله الزبيري القرشي المكي. 4- تصانيف الإمام الحافظ أبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي، ومن تلك المصنفات: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) ، و (السنن) . وقد نقل المؤلف من أقوال الإمام اللالكائي ومصنفاته في مواضع متعددة من كتابه. 5- الأحاديث والآثار والأخبار التي يرويها المؤلف بإسناده عن أبيه أبي طاهر إبراهيم بن أحمد السلماسي غالباً، أو عن غيره من العلماء والمحدثين من شيوخه. قيمة الكتاب العلمية: تبرز أهمية الكتاب وقيمته العلمية من خلال موضوعه الذي يوضح عقيدة الأئمة الأربعة، وهي عقيدة السلف التي أجمع عليها الصحابة - رضي الله عنهم -، والتابعون لهم بإحسان من الأئمة الأعلام، فإن الأئمة الأربعة قد علا شأنهم، وعظم مقامهم، واشتهر إخلاصهم واجتهادهم في فقه الكتاب والسنة، فأصبحوا
المقتدى بهم في الإسلام، والمعتمد على أقوالهم وفقههم بين الأنام، واعترفت الأمة لهم بالعلم والفضل والإمامة، فانتشر مذهبهم في سائر المعمورة. وإن في بيان وحدة معتقدهم، وإيضاح مجمل اعتقادهم وموافقته للكتاب والسنة والمأثور عن سلف الأمة: إقامة للحجة على كل من يتبع مذاهب هؤلاء الأئمة وهو مخالف لهم في العقيدة. "فمن قال: أنا شافعي الشرع، أشعري الاعتقاد، قلنا له: هذا من الأضداد لا بل من الارتداد، إذ لم يكن الشافعي أشعري الاعتقاد، ومن قال: أنا حنبلي في الفروع، معتزلي في الأصول، قلنا: قد ضللت إذًا عن سواء السبيل فيما تزعمه، إذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والاجتهاد"1. كما أن بيان معتقدهم فيه إبطال للآراء المكذوبة المنسوبة إلى هؤلاء الأئمة أو أحدهم، وفيه رد على من زعم أن العقيدة السلفية ابتدعها ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله -، بل إن العقيدة السلفية هي عقيدة الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء والأئمة المعتبرين. ولم يسبق أحد من العلماء المؤلف في كتابته في هذا الموضوع المهم، وهو جمع عقيدة الأئمة الأربعة خاصة - فيما أعلم، والله أعلم.
وقد اطلع الحافظ ابن عساكر على الكتاب وقال عنه: ووقعت له - أي للمؤلف - على كتاب صنفه في فضل الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، ما به بأس1. بذلك تتضح لنا أهمية الكتاب - خاصة أنه لم يسبق طباعته من قبل - والحاجة ماسة إلى نشره بين الناس، لتقوم به الحجة، وتتضح به المحجة، والله الهادي إلى سواء السبيل. (9) المآخذ على الكتاب: إن هذا الكتاب على الرغم من قيمته العلمية التي قد بيَّناها، فإنه عمل وجهد بشري معرّض للخطأ والنقص والنسيان، ووجود بعض المآخذ أو الملحوظات على الكتاب لا تقلل من قيمته أو تحط من منزلة مؤلفه - رحمه الله تعالى -، ولكنه واجب النصيحة التي أمرنا بها النبي صلى الله عليه وسلّم أن تكون لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. ومن أهم هذه الملحوظات ما يأتي: - أن المؤلف لم يلتزم - بما أورده في مقدمته - بذكر فصول ونصوص من عقيدة الأئمة الأربعة تدل على اتفاقهم في العقيدة وعدم اختلافهم، فإن العقيدة التي ذكرها المؤلف لم ينقل في تأييدها عن الأئمة الأربعة إلا نصوصاً يسيرة، وقد كان الواجب عليه أن يفي بما التزم به بالتركيز على نقل أقوال
الأئمة الأربعة التي يستدل بها على اتفاقهم في المعتقد. وأسأل الله عز وجل أن يعينني على إكمال هذا النقص ببحث مستقل في جمع أقوال الأئمة الأربعة في العقيدة، والله المستعان. - خطأ المؤلف - عفا الله عنا وعنه - في نسبته مذهب التفويض في صفات الله عز وجل إلى السلف والأئمة الأربعة رضي الله عنهم، مع أن المؤلف قد أتى بالمنهج الصحيح الذي عليه السلف في إثبات صفات الله عز وجل وأسمائه، كما أنه نقل أقوالا صريحة للأئمة في إثباتهم لصفات الله عز وجل ومعرفة معانيها وتفويض كيفيتها إلى الله عز وجل، وقد قمت - بتوفيق الله وعونه - بالتعليق على ذلك في موضعه من الكتاب. - إيراده لبعض الأحاديث والأخبار الضعيفة والمكذوبة دون بيان حالها، مع أن في الأحاديث والآثار الصحيحة التي أوردها المؤلف ما يغني عنها. - استرساله في مقدمة الكتاب وإطالة الكلام فيها، إلى حد الزيادة عن بعض فصول الكتاب نفسه، علماً بأنه قد التزم في كتابه الإيجاز والاختصار. والله أعلم.
المبحث الثالث: منهج التحقيق
المبحث الثالث: منهج التحقيق أولاً:- وصف المخطوطة. لقد اعتمدت في تحقيق الكتاب على نسخة فريدة للمخطوطة، على الرغم مما بذلته من جهد ووقت ومال في سبيل الحصول على نسخة أخرى للكتاب، فقد اطلعت على معظم فهارس المخطوطات الموجودة بمكتبات العالم، وسافرت إلى تركيا وغيرها من البلدان، ولكن لم أوفق في العثور على نسخة أخرى للمخطوطة، كما أن د/ رمضان ششن لم يذكر نسخة أخرى للكتاب في تعريفه بالمخطوطة ضمن كتابه: مختارات من المخطوطات العربية النادرة في مكتبات تركيا1. - أما النسخة الفريدة للمخطوطة، فهي نسخة خطية ضمن مجموع يحتوي على عدة كتب بمكتبة (فاتح) تحت رقم 4445/2 ضمن المكتبة السليمانية بمدينة إستانبول بتركيا. - عدد الأوراق والأسطر: إن النسخة الفريدة للمخطوطة تقع ثاني الكتب الموجودة ضمن المجموع المشار إليه سابقاً، وتأتي بعد كتاب (فضائل الخلفاء الراشدين) للإمام ابن قدامة المقدسي. وتتكون النسخة الفريدة من (51) ورقة، تبدأ من الورقة رقم (89) وتنتهي بالورقة رقم (139) من المجموع. وتحتوي كل صفحة من النسخة
على ما بين (22 إلى 25) سطراً في المتوسط، ويتراوح عدد الكلمات في السطر الواحد ما بين (8 إلى 10) كلمات تقريبا. - وصف الصفحة الأولى والأخيرة: كتب في أعلى الصفحة الأولى عنوان الكتاب واسم مؤلفه كالآتي: (كتاب فيه منازل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين) . تأليف الشيخ الإمام القاضي أبي زكريا يحيى بن إبراهيم بن أحمد ابن محمد السلماسي الفقيه - رحمه الله تعالى -. وأما الصفحة الأخيرة فقد كتب في نهايتها (تم الكتاب بحمد الله ومنِّه فالله ينفع الكافة من المسلمين به بمنه وكرمه) . - اسم الناسخ وتاريخ النسخ: لقد كتبت النسخة بخط نسخ واضح جيد، وقد كتب الناسخ اسمه في نهاية المخطوطة كالآتي: (كتبه الفقير إلى الله تعالى داود بن سليمان بن عبد الله الحنبلي1 عفا الله عنه وعن والديه وعن جميع المسلمين آمين) .
وهذا الناسخ - رحمه الله - قد نسخ الكتب الموجودة في (المجموع) المشار إليه سابقاً حيث انتهى من النسخ يوم الأحد ثالث عشر ربيع الأول من شهور سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، كما ذُكِر ذلك في (المجموع) . فالمخطوطة قد كتبت إذن في بداية القرن التاسع الهجري. ويلاحظ من عادة الناسخ - رحمه الله - في نسخه ما يأتي: 1- أنه يضبط بعض الكلمات بالشكل. 2- أنه يلحق السقط أو التصويب أو التوضيح أو التعليق بالهامش مع وضع إشارة تدل عليه. 3- أنه يفصل بين العبارات والآثار والروايات الواردة في الكتاب بدائرة مغلقة وفي داخلها نقطة، وهذا الصنيع يدل على أن هذه النسخة قد عورضت بعد الفراغ من كتابتها1. وهذه أمور تدل على ضبط الناسخ ودقته وعلمه أثناء الكتابة والمطابقة. ثانيا: منهجي في التحقيق: يتلخص عملي في تحقيق الكتاب بالأمور الآتية: تحقيق النص وضبطه وتقويمه، وذلك بتصحيح ما اعتراه من
1- تصحيف أو تحريف وإكمال ما سقط منه، وإضافة ما يقتضي السياق إضافته، واعتمدت في ذلك على مقابلة النسخة الفريدة للكتاب بالمصادر التي نقل منها المؤلف في كتابه واعتمد عليها، والتي قد سبق ذكرها. 2- عزوت الآيات القرآنية الكريمة إلى سور القرآن الكريم مبيناً اسم السورة ورقم الآية. 3- خرّجت الأحاديث النبوية الشريفة من مظانها في كتب السنة النبوية المطهرة، فإن كان الحديث في الصحيحين اكتفيت بالعزو إليهما وقد أزيد عليهما، وإن كان في غيرهما عزوته إلى مظانه ما أمكن. 4- عزوت الآثار والأقوال إلى مظانها من المصادر كالكتب الحديثية والتأريخية والتراجم وغيرها. 5- عرَّفت بأكثر الأعلام والأماكن الواردة في الكتاب، مع بيان المصادر بإيجاز. 6- عرَّفت الفرق الواردة في الكتاب. 7- شرحت المفردات اللغوية الغريبة. 8- نسبت الأبيات الشعرية إلى قائلها، وعزوت ما أمكن منها إلى مظانها من المراجع. 9- علقت على بعض فقرات الكتاب في المواضع التي ارتأيت أن الحاجة تمس إلى زيادة بيان أو توضيح أو تعليق، وخاصة فيما يتعلق بالمسائل العقدية. رقمت فصول الكتاب وأقسامه حسب ترتيب المؤلف،
1- ووضعت عناوين جانبية توضح المقصود. 2- وضعت جملة من الفهارس العلمية للكتاب. ثالثاً: المصطلحات والرموز المستخدمة في التحقيق: استخدمت في تحقيق الكتاب والتعليق عليه جملة من الرموز لأجل الاختصار ولكثرة التكرار، وهذه الرموز كالآتي: الرمز ... معناه ص ... نسخة المخطوطة الأصل فتح ... صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري للحافظ ابن حجر شرح الأصول ... شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة- للحافظ اللالكائي البيهقي في المناقب ... مناقب الإمام الشافعي - لللحافظ البيهقي ابن الجوزي في المناقب ... مناقب الإمام أحمد بن حنبل – للحافظ ابن الجوزي الحلية ... حلية الأولياء – للحافظ أبي نعيم سير الأعلام ... سير أعلام النبلاء – للحافظ الذهبي ر ... راجع أو انظر [] ... ما بين المعقوفتين من إضافات المحقِّق وتصويباتها
الباب الأول: في بيان حدود الشريعة
الباب الأول: في بيان حدود الشريعة مقدمة المؤلف ... القسم الثاني: نص الكتاب المحقق "منازل الأئمة الأربعة" بسم الله الرحمن الرحيم] 89/ب [ الحمد لله على نعمه الباطنة والظاهرة وأياديه المتواترة المتظاهرة، والصلاة على خاتم النبيين محمد ذي المفاخر الفاخرة والمناقب الشاهرة والفضائل الباهرة، وآله وعترته الطاهرة، وصحابته الأنجم الزاهرة، ما ضحكت أصداف الرياض من بكاء السحب الهامية1 الهامرة. يقول العبد المذنب الفقير إلى رحمة الله تعالى يحيى بن إبراهيم بن أحمد بن محمد السلماسي - ختم الله له بالحسنى عمله -: إني آنست من جماعة من أبناء العصر وانشاء هذا الزمان والدهر، تعاطي علم الوعظ والتذكير، والتصدي للإرشاد والتبصير، قد اقتصروا من العلم على مجرد الرواية، وعدول عن منهج الديانة والدراية، حفظوا كلمات ملفقة مزخرفة، وحكايات مخترعة مؤلفة، من تأليف من لَمْ يقتبس من مشكاة الكتاب والسنة، ولم يرد على مشارع الشرع والملة، أكثرها منكر من القول وزور، وصاحبها بروايتها مطالبٌ مأزور، من غير اقتداء بإمام ناصح، ولا اهتداء بشيخ صالح، ولا استناد إلى أصل من الأصول، ولا مناسبة للشرع المنقول، ولا استبصار بمسالك المعقول، ولا تمسك بقضيات العقول، قد لهجوا بإنشاد الأبيات، واعتكفوا على إنشاء الإشارات المؤذنة
بفساد النيات، تركوا ما أمر الله تعالى به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واشتغلوا بإيراد الرمز] 90/أ [والمضمر دون الواضح المظهر، وأضربوا صفحاً عن ذكر الوعد والوعيد، وشرح ما بينه الله تعالى في القرآن المجيد، من ذكر الموت والمعاد وما أعدَّ الله في الدار الآخرة للعباد من النعيم المقيم والعذاب الأليم، فبهذا بعث رُسُلَه وأنزل كتبه أفلا يعقلون؟! ألا يسمعون قوله؟! ألا يتلون؟!: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} 1. قد نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم فهم عنه معرضون، وللفتنة والبلاء متعرضون، عن الهوى ينطقون، وما يضرهم ولا ينفعهم يتعلمون، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون، يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون، يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق فسوف يعلمون، بالجبت والطاغوت يؤمنون، وبالحق والصدق يكفرون، ويدّعون الإيمان والتوحيد وغير الله يعبدون، وإذا قيل: السُّنة كذا ينكرون، وإذا ذُكِّرُوا لا يذكرون. وإذا يتلى عليهم القرآن والحديث يستكبرون، وما لا يرضى من القول يُبيِّتون، ومع الله إلهاً آخر يَدْعون، والوصول إلى الدرجات العالية والمقامات
السامية يَدَّعون، تالله فهم إلى نار جهنّم يُدَعُّون، وهم عن صلاتهم ساهون، ويشهدون الجماعة والجمعة كسالى، يعملون] 90/ب [ما يشتهون، يُنفقون ولا يُنفقون إلا وهم كارهون، ويحكمون ولكن حكم الجاهلية يَبْغُون، ويَعِدُون ويخلفون ولا يَفُون، رضوا من دينهم بتحسين الملابس وتزيين المراكب، وتكثير المجالس وتعظيم المواكب، يتأنقون في لبس العمائم ويترفعون على الناس ترفع النعائم، يتملقون بين يدي كل غاشم وظالم، ولا يتحاشون من ارتكاب الفواحش والمظالم، كما قال بعضهم: زمانك ذا زمانُ بَني الغَرَامَة ... وما هذا زمان الاستقامة رضوا بالطيلسان1 إذا اكتسوه ... وتفخيم البرانس والعمامة كذا دَجَجُ البيوت لهن ريش ... ولكن لا يطرن مع الحمامة2 خالطوا الطغاة المرقَة وحَالَفُوا العُتَاة الفسقة، ينادمونهم ليلاً ونهاراً، ويسامرونهم سراً وجهاراً لا يرجون لله وقاراً، دأبهم الاستخفاف واللمز، ودينهم الاستهزاء والهَمْز، الغيبة والوقيعة في أهل الدين مذهبهم وشعارهم، والاستهانة بأحكام الله ملبسهم ودثارهم، قصارى هممهم جمع الحطام والاختطاف من السحت الحرام، فإذا ذُكِّروا بالكتاب والسنة وما فيها من بيان طريق النار والجنة، وما أمر الناس به من اتخاذ العدة
والجُنَّة1، من الخطاب الشامل لجميع الناس قالوا: هذا من علم العوام والصبيان أين أنتم عن حقائق العرفان؟!، يتكلمون في الله تعالى وفي صفاته وأسمائه بما لم يأذن به الله في أرضه وسمائه] 91/أ [ولا فيما أنزل الله على أنبيائه، ونسوا قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِِِ} 2، لَوْ رُوجع أحدهم في فرض من فرائض الأعيان لعجز عن الجواب فيه والبيان، ولَوْ سُئِل عن خبر من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لأنكره ورمى بالبهتان، يفتخرون بمخالطة الظلمة وينتصرون بالعَميدِ3 والشِّحْنَة4، ويقطعون مجلس وعظهم بمدحهم والثناء عليهم رغبةً فيما يرون من الحطام لديهم، يزعمون أنهم أعلم الناس وأفقه الأنام، ويرتكبون فواحش الآثام، يستنكفون من التوقف عن الجواب فيما لا يعلمون فيجيبون بما يجهلون، يَضِلون ويُضِلُّون، كأنهم في عداد ما ذكرهم الله تعالى داخلون: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} 5 {ذَرْهُمْ
يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} 1، يحسبون أن الحكمة في جمع القراطيس أم كثرة الترحل إلى أصحاب الكراريس، أم الترأس على التمويه والتلبيس، ألا إنها هي لسان الوراثة إذا جاشت عن جوارحها بيعت فأمرعت، وبنفعها أينعت، ولمعين عين المعاني أوضحت فأشبعت، ولقد أخبرني أبي قال: أنبا القاضي أبو الحسن بُندار بن علي بن أحمد قرأه عليه بتبريز في داره قال: ثنا علي بن الحسن بن خارجة بن أحمد قال: ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الأزهر قال: ثنا إبراهيم بن محمد بن الهيثم قال: ثنا محمد بن صباح قال: ثنا الحسن بن عَرْفه قال: ثنا بشر بن مروان الفلسطيني قال: ثنا عبد الله بن يزيد الدمشقي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى] 91/ب [: أيها الزهاد المراءون، وأيها العُبَّاد المنافقون، كم تخادعون الله ورسوله، وكم تبهرجون الناس بما تقولون دون ما تفعلون، لا تبيعوا دينكم بدنياكم فتنقلبوا خاسرين، من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني، وهو غداً يوم القيامة في زمرة النادمين"2.
ثم يثيرون الفتن بين العوام ويوقعون الخلاف بين الأنام، بتحريف مقالات أرباب المذاهب وأصحاب المناصب، ويُخيِّلون إليهم أن بين الأئمة وفقهاء الأمة خلافاً في المعتقد والأصول، يطلبون بذلك إثارة الفضول، طلباً للتقدم والرئاسة، وادِّعاءً للفهم والكياسة، وتنافساً على ازدحام الجهال عليهم، وتسوقاً عندهم لاجتذاب ما لديهم، حتى تشوَّشت قلوب العوّام، ووقع بينهم الخلاف بل القتال بما يوردونه من زخرف الكلام، وصارت طوائف الأنام من المتبعين في الفروع مذاهب الأئمة الأعلام الفقهاء السادة الكرام، يلعن في الاعتقاد بعضهم بعضاً ويبدي كل واحد لصاحبه عداوة وبغضاً، ظناً منهم أنهم اختلفوا في الأصول حسب اختلافهم في الفروع، لقلة معرفتهم بأحوالهم، وعدم الوقوف على أقوالهم، لم يقرؤا العلم على انتقاد، ولم يطالعوا تصانيف الجهابذة العارفين بالانتقاد، بل تلقفوا من أفواه بعض المبتدعة كذباً وباطلاً، وطالعوا من تصانيفهم ما يصير الإنسان به عن الصراط السوي عادلاً1، ولم يعلموا أن الخلاف في التوحيد يؤدي إلى الكفر والتلحيد، إنما الخلاف [المحمود] 2 في فروع الشرع وفصوله، لا في قواعد أحكامه وأصوله، والفقهاء الأئمة الذين] 92/أ [اشتهر عنهم في الفروع الاختيار،
وظهر لهم الاجتهاد والاختبار، وكثر لهم الأَتْبَاع والأَشْيَاعُ، وحُقَّ على العوام لهم الاتّباع، وتعطَّر بذكرهم الأقطار والأصقاع، وبرَّز في تمهيد أقوالهم الأصحاب من الحواضر والبوادي، وانعمرت بمناظرتهم المجالس والنوادي، أربعة أبوحنيفة بالكوفة، ومالك بدار الهجرة، والشافعي بمكة حرم الله، وأحمد بمدينة السلام، رضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل الجنة منقلبهم ومقتضاهم. فهم وإن اختلفت عنهم العبارات فقد اتفقت منهم الاعتقادات، كل واحد منهم مزكي الأمة وإمام الأئمة، محكم تعديله وجرحه، مسلَّم قبوله وطرحه، لا يخالف أحدهم صاحبه إلا في فرع مختلف فيه، لا يفسقه ولا يغويه، مثل لقطة الحرام وتوريث ذوي الأرحام. فأما الكلام في صفات ذي الجلال والإكرام، وما يتعلق بأسمائه الحسنى وصفاته المباينة لصفات الأنام، فلا خلاف في ذلك بينهم، ولا يؤثر تفرق عنهم، يوجب كذبهم ومَيْنَهم1، بل كلمتهم فيها متفقة وأقوالهم متسقة، سلكوا سبيل الاتباع دون الابتداع، فيما نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم - وَرَوَوْا، وتمسكوا بقوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا…} 2.
فرأيت من الواجب أن أذكر من اتفاقهم في المعتقد فصولاً، وأورد من ذلك فصوصاً ونصوصاً، وأبيّن عموماً وخصوصاً، وأنثر طرفاً من طرف مطارفهم، وأذكر نتفاً من تحف مآثرهم ومعارفهم، لينتهي الناس عن ذكرهم بما ليس فيهم، ويتيقنون] 92/ب [أن الدين عند الله الإسلام، وهو دين واحد أصله من عهد أبينا آدم عليه السلام إلى أيام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت راسخ، لم يتعقب مبانيه ناسخ، إنما وقع النسخ في شرائع الأنبياء - عليهم السلام - في الكيفيات والكميات من العبادات، لا في أمهات الأحكام من الصلاة والزكاة والحج والصيام، رحمةً من الله تعالى بعباده ولطفاً ومنًّا منه وعطفاً، وتخفيفاً عنهم لاختلاف الأزمنة والقوى، وتحقيقاً للامتحان والبلوى، إذ الدنيا مثل دار المرض، والناس فيها كأصحاب الأمراض، والرسل هم الأطباء، والشرائع هي الأدوية التي يزول بها الداء، ثم الأدوية تختلف باختلاف العلل والأسقام، فلهذا اختلفت الأحكام لاختلاف الأزمنة والأيام، وقد أنبأ الله تعالى في محكم التنزيل ومبرم معانيه فقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1 والله تعالى الموفق لسلوك سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل. وقد قسّمت هذا المختصر أربعة أقسام وفصَّلتها فصولاً:
الفصل الأول: في بيان الحجج، وهي أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. الفصل الثاني: في ذكر مقدّمات يحتاج الناظر في هذا المختصر إليها، وهي أربعة فصول: الأول: في بيان الأمة. الثاني: في ذكر الأئمة. الثالث: في بيان الاتباع وترك الابتداع. الرابع: في ذكر كمال الدين وحقائق اليقين] 93/أ [. الفصل الثالث: في جمل الاعتقاد، وهي أربعة فصول: الأول: في إثبات العلم بالذات والأسماء والصفات. الثاني: في ذكر الأفعال، وما جاء الوعد والوعيد به في المآل. الثالث: في الرسالة والنبوة، وبيان ما أوتي الرسل من المعجزات والقوة. الرابع: في ذكر الإمامة والخلافة. الفصل الرابع: في ذكر الأئمة الأربعة، وقد أوردت لكل واحد منهم أربعة فصول: الأول: في ذكر مولده ونسبه وحليته ووفاته. الثاني: في ذكر علمه وورعه وزهده. الثالث: في ذكر ما جاء من مدح الأئمة له والثناء عليه. الرابع: في ذكر أصحابه، وذكرت لكل واحدٍ أربعةً من الأصحاب، ثم عقبت ذكر كل إمامٍ بذكر طرفٍ من محنته على سبيل الاختصار دون الإكثار. والله أسأل التوفيق لما يقرب إليه ويزلف لديه إنه القادر عليه.
الفصل الأول: في الركن الأول
القسم1 الأول: في بيان حجج الشريعة الفصل الأول: في الركن الأول2 أركان علم الشريعة أربعة: الأول: نَصُّ الكتاب المنزل على النبي المرسل صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقّ} 3، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 4. والكتاب قد جمع علم الأولين والآخرين، وتضمّن ثمرة كتبه التي أولاها أوائل الأمم، وصار خزانة لأنواع الحكم، قال الله تعالى: {يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} 5. وضمّنه تعالى الحجج الواضحة والبراهين اللائحة] 92/ب [والدلائل الساطعة على ما خص به من الإيجاز والإعجاز، بحيث عجز عنه الفصحاء، وأذعن له البلغاء وتبلد منه الشعراء، وتحيَّر فيه الحكماء، فهو عذب المسموع، سهل الموضوع، باللفظ الجزل ومتشابه الرصف، وتلاحم أجزاء الأول بالآخر، واتفاق قرائن الأوسط بالطرفين، ينظم أبهة الفخامة إلى رقة الحلاوة، ويجمع رصانة الجزالة ومهابة الجلالة إلى بهجة الرشاقة ومحبة القبول، له مبادئ بديعة ومخالص
مجيبة ومقاطع غريبة، يزيده مرور الليالي والأيام جِدَّة وطراوة، وتكسبه كرور الشهور والأعوام رونقاً وطلاوةً، ولا يمجه السمع [ولا ينبو] 1 عنه القلب والطبع، لا يبليه كثرة الدرس والقراءة، ولا تخلقه شدة التلاوة والإعادة، يقص أخبار الأمم السالفة ويعبّر عن أنباء الملل وعقائد النحل، ويترجم عن الجلود المتمزقة والرمم البالية والأيام الخالية، جمع خير الدنيا والآخرة بما انتظم من الجواهر الفاخرة، قال الله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} 2، وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 3، وقال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 4، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} 5، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 6، وهو وإن كان كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 7. لا يُخلي الناظر فيه من
نورِ ما] 94/أ [يريده ونفع يوليه. كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نوراً ثاقباً كالبحر يقذف للقريب جواهراً ... جوداً، ويبعث للبعيد سحائباً كالشمس في كبد السماء وضوئها ... يغشي البلاد مشارقاً ومغارباً1 لكن محاسن أنواره لا تثقبها إلا البصائر الجلية، وأطناب ثماره لا يقطفها إلا الأيدي الزكية، ومنافع شفائه لا تنالها إلا النفوس النقية والقلوب التقية، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} 2. ثم إنه تعالى إنما جعل حجج الكتاب الأوضح دون الأدق الأغمض، لما أراد من تفهيم كافة البشر فإنهم مخاطبون به إلى يوم القيامة، فهو القول الفصل والميزان العدل، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} 3. {مُتَشَابِهاً} : يعني يشبه بعضه بعضاً في الجزالة والفصاحة،
{مَثَانِيَ} : ثنَّى فيه القصص، فتضمنت القصة في الإعادة زيادة فائدة1، ولا غرو ان تكرر ذلك كذلك وقد قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 2. والقرآن مجمل ومفصل ومحكم ومتشابه، وقد كثرت أقاويل المفسرين3
في تعبير المحكم والمتشابه، فنحن نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه، ونقول كما قال الله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا] 94/ب [يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ} 1.
الفصل الثاني: في الركن الثاني
الفصل الثاني: في الركن الثاني والركن الثاني للإسلام نص السنة الصحيحة1 بنقل العدول
الثقات، قال الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} 1. جاء في التفسير أن الحكمة السنةُ2. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 4. وجاء في معنى قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} 5، قيل: لَزِمَ السنة والجماعة6، عن سعيد بن جبير7. وقال تعالى: {فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" 3. وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحيا سنتي فقد أحياني، ومن أحياني كان معي في الجنة" 4. وفي رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل طيباً، وعمل في سُنَّةٍ، وأَمِنَ الناس بَوَائِقَهُ دخل الجنة". فقال رجل: يا رسول الله إن هذا اليومَ في الناس لكثير. قال: "وسيكون في قرون بعدي" 5.
وغير ذلك في الآثار والأخبار الواردة فيها، فإن الكتب مشحونة بها فاقتصرت على هذه الإشارة، ولم أذكر الإسناد لئلا يطول بذكره الكتاب. وعن الأوزاعي1 قال: كان يقال خمس كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في] 95/أ [سبيل الله2. وقال سفيان الثوري3: إذا بلغك عن رجل بالمشرق صاحب سنة وآخر بالمغرب فابعث إليهما بالسلام وادع لهما، ما أَقَلَّ أهل السنة والجماعة4. قال
أبوبكر بن عَيَّاش1: السنة في الإسلام، أعز من الإسلام في سائر الأديان2. وقال قتيبة3: إذا رأيت الرجل يحب أهل الحديث مثل يحيى بن سعيد4، وعبد الرحمن بن مهدي5، وأحمد بن محمد بن حنبل6، وإسحاق بن راهَويه7 - وذكر قوماً آخرين- فإنه على السنة، ومن
خالف هؤلاء فاعلم أنه مبتدع1. وقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} 2، فكأن3 علامة حبه إياهم اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم4. وعن عطاء5 في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} 6، قال: "أولي الفقه وأولي العلم، وطاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة"7. وعن ميمون بن مهران8 في قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 1: "ما دام حيًّا فإذا قبض فإلى سنته"2. قال الشافعي: الكتاب والسنة أو العَسْلى3 والزنار4. وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة فقبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير5، وكانت طائفة
منها أجادب1 أمسكت الماء، فنفع الله [بها] 2 الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها إنما هي قيعان3 لا تُمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فَقُهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"4.
الفصل الثالث: في الركن الثالث
الفصل الثالث: في الركن الثالث الركن الثالث] 95/ب [من أركان الشريعة الإجماع1 المقطوع به، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 2. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" 3.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية" 1، وقال صلى الله عليه وسلم: "من جاء إلى أمتي وهم جميع يريد أن يفرق بينهم فاقتلوه كائناً من كان" 2، وقال صلى الله عليه وسلم: "يد الله على الجماعة، فإذا شذ الشاذ منهم اختطفته الشياطين كما يختطف الشاذة ذئب الغنم" 3، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أمتي لا تجتمع
على الضلالة، وإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم"1. وقال صلى الله عليه وسلم - في خبرٍ طويل-: "من أراد بحبوحة2 الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"3. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يأمرني بالجماعة، وإنه من خرج شبراً من الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"4.
وقال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1، وحبل الله عز وجل (القرآن) 2 3.
الفصل الرابع: في ذكر القياس
الفصل الرابع: في ذكر القياس1
قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} 1، فأمرنا بالاعتبار، وحقيقة الاعتبار في اللغة: هو حمل الشيء على غيره، واعتباره به إما في حكمه أو في قدره أو في صفته. وروى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ " قال: أجتهد رأيي، قال: "الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله"2. وقد روي في ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم أيضاً ما صار إجماعاً منهم يطول بذكره الكتاب3، والله الموفق للصواب.
الباب الثاني: في ذكر المقدمات
الباب الثاني: في ذكر المقدمات الفصل الأول: في بيان الأمة ... القسم الثاني: في ذكر المقدمات، وهي أربعة فصول: الفصل الأول: في بيان الأمة اسم الأمة يقع1 على [ثلاثة] 2 وجوه ينتظم مرة وينفصل أخرى: أولها: أمة الدعوة، وهي التي بُعِث إليها المبلغ فلزمتها الحجة من مجيبٍ مقرٍ أو عصي مُصِرّ، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ…} 3، وفي الخبر: أنا حظكم من الأنبياء، وأنتم حظي من الأمم4.
والثانية: أمة الإجابة، وهي التي شهدت له بالبلاغ والأمانة، فمنعت دمها ومالها واستوثقت ذمتها من صدق صادق ومداج1 منافقٍ، قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} 2. والثالثة: أمة الاتِّباع، وهي التي أطاعت أمره واقْتصَّت أثره، قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 3 وهي الفرقة الناجية من الثلاث وسبعين فرقة من هذه الأمة4.
الفصل الثاني: في ذكر الأئمة
الفصل الثاني: في ذكر الأئمة اعلم أن الإمامة هي: التقدم في معنىً بالناس إلى معرفته حاجة، أو قضى عليهم الخوض فيه وارتكابه وإن كان بهم عنه غِنىً1. والأئمة على ضربين: أحدهما: أئمة الهدى والدَّلالة، والثاني: أئمة الرَّدى والضلالة. فأما أئمة الهدى فهم الذي قال الله تعالى فيهم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} 2، وقال عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} 3.
وهم: المتبعون الكتاب والسنة والمتمسكون بآثار سلفهم الذين أمروا بالاقتداء بهم، كما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بمن تقدّمه من الأنبياء والمرسلين فقال] 96/ب [تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} 1، وقال في حق هذه الأمة: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} 2. فعلامة المُتَّبِعين أن يعرفوا علم التفسير وعلم الحديث وعلم التّفقه عليهما، وعلم الوعد والوعيد للتقوى والورع، وعلم السِّير والمبتدأ للاعتبار، سمعوا العلم من الثقات والعدول، وقرءوا على الأئمة المعروفين بالسنة، ورووا عن الشيوخ الموسومين بالتقوى، ونقلوا من الكتب الصحيحة والأصول المعروفة المشهورة، إذ لا يجوز الاعتماد على كل كتاب ولا الرواية عن كل أحد، فقد وضعت الملاحدة3 والزنادقة4
والجهمية1 والمشبهة2 والمعطلة3 أخباراً باطلة على ما يشتهون وخلطوها
بالأخبار الصحيحة حتى اشتبهت على كثير من الناس إلا من كان عارفاً بطرق الصحيح، وعالما بالأصول المتقنة من تصانيف الأئمة المشهورين. والضرب الثاني: أئمة الضلالة، وهم الذين قال الله فيهم: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} 1، وقال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} 2. وهم قوم أجلاف زعموا أنهم لمن قبلهم أخلاف، وادعوا أنهم أكثر منهم في المحصول في حقائق المعقول، وأهدى إلى التحقيق وأحسن نظراً منهم في التدقيق، وعابوا المتقدمين من السلف بأنهم لم يكونوا قوامين بطرق الجدال، فأبدلوا من الطيب خبيثاً ومن القديم حديثاً، وعدلوا عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه به [97/أ] . فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} 3، فوعظ الله عز وجل عباده بكتابه وحثهم على اتباع سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 1. وروى عبد الله بن مسعود قال: خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاًّ ثم قال: "هذا سبيل الله"، ثم خطَّ خطوطاً يميناً وشمالاً ثم قال: "هذه سُبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 2 3. قال ابن مسعود4: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"5. فجاءت هذه الطائفة والشرذمة فخالفت ذلك ودعوا الناس إلى غيره، كما قال تعالى: {شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 6،
وأخذوا كلام الفلاسفة المعطلة وكلمات أهل الزيغ والضلالة، فأوردوها وسموها تحقيقا وأصولاً، يتكلمون في صفات الله بآرائهم ويقيسون الدين بأهوائهم1، ويدّعون من الدرجات ما لم يبلغوها ومن الكرامات ما لم يدركوها، لو روجع أحدهم في آية من القرآن لم يحفظها، أو سُئِل عن واجب من الشرع لم يعلمه، أو فريضة من الدين لم يفهمها، أو طولب بمعرفة سيرة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والأئمة المهديين والمشائخ المتقين وجدته من الجاهلين، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} 2. فينبغي للمؤمن أن يتفقد] 97/ب [أحوالهم، ويعرف أئمة الهدى من أئمة الضلالة بما ذكرت من سماتهم. والله يعصمنا من الزلل ويوفقنا لصالح القول والعمل.
الفصل الثالث: في ذكر الاتباع وترك الابتداع
الفصل الثالث: في ذكر الاتباع وترك الابتداع اعلم أن الدين مبني على أصلين: على الشرع المنقول، وعلى قضيات العقول1، فالنقل والعقل أصلان يتصلان مرة وينفصلان أخرى. اعلم أن العقل لا يهتدي إلا بالشرع، والشرع لا يتبيَّن إلا بالعقل، وذلك أن الإنسان لا يدخل تحت خطاب الشرع إلا بوجود العقل فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: رفع القلم عن [ثلاثة] 2، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق 3. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قسم الله العقل ثلاثة أجزاء، فمن كن فيه كمل عقله، ومن لم يكنَّ فيه فلا عقل له، حسن المعرفة
بالله، وحسن الطاعة له، وحسن الصبر على أمره"1. قال بعض العلماء2: معرفة الله تعالى أن يعلم أن الله خالق العالم بما فيه، وهذه المعرفة للكفار أيضاً، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3 وحسن المعرفة أن يوحّده وينفي عنه التشبيه في الذات والتعطيل من الصفات، فيصفه بما وصف به نفسه من الصفات وبما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمثله في صفاته وذاته
بالمخلوقات، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] 98/أ [وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. والطاعة الانقياد لأمره، وحسنها اجتناب الرياء والشرك الخفي، قال الله تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 2. والصبر على أمره السكون تحت حكمه، وحسن الصبر الرضى بقضائه، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} 3، وقال تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} 4، وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 5، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} 6 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثر أهل الجنة البُله"7 وعليون لأولي الألباب.
إلا أن العقل لا يهتدي إلا بالشرع كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} 1. والعقل لا مدخل له في إيجاب ولا حظر وإنما خلقه الله تعالى لإدراك العلوم كسائر الحواس. ثم الأصل الثابت: الشرع المنقول الذي شرعه الله تعالى على لسان الأنبياء عليهم السلام وأمر العقلاء باتباعه، قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد} 2. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 4 الآية، ولم يقل فردوه إلى مجرد العقول. قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا َذَكَّرُونَ} 5 وقال تعالى مخبراً عن نبيه يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوب} 6 وقال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ
بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} 1] 98/ب [، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 2، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} 3. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" 4. وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 5، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} 6 وقال تعالى: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} 7، فبيّن سبحانه أنه لا يعذب قبل بعثة الرسل، فَعُلم أن وجوب الأشياء بالسمع، وأن الشرع كالأمير والعقل كالوزير، يأمر الأمير فينفذ الوزير أمره ويتبع حكمه، والعقل جُعل آلة للتمييز كالميزان للموزون.
والحجة هي أمر من وجب الإذعان لطاعته، وإنما يُعرف ذلك الأمرُ بالعقل، ويتوجَّه على من رزق العقل دون من حُرِمه. فلما استقر في العقل وجود الباري سبحانه وتعالى وكونه آمراً مفترض الطاعة، وثبت فيه وجوب القبول من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد قيام الأدلة بصدقه ونبوته وامتناع الكذب عليه، لم يبق للعقل أكثر من تأمل الأوامر والمصير إليها، فالشرع حاكم على العقل والعقل ليس بحاكم عليه، والعقل أيضاً كالمرآة التي جعلت لرؤية الأشياء في مقابلتها إذا كانت غير صدية، وقيل: العقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمدّه، وقيل: الشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما يتعاضدان ولكون الشرع عقلاً من خارج سلب الله تعالى اسم العقل من الكافر في غير موضع من القرآن فقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ] 99/أ [لا يَعْقِلُونَ} 1، ولكون العقل شرعاً من داخل قال في صفة العقل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} 2، ولكونهما متحدين قال: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} 3 أي نور العقل ونور الشرع ثم قال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} 4 فجعلهما نوراً واحداً.
واعلم أن العقل بنفسه من غير شرع لا ينفع، فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة والدال على مصالح الدنيا والآخرة، ومن عدل عنه فقد ضلَّ سواء السبيل. فالشرع وأحكامه من وجه دواء للآلام وشفاء للأسقام، تولى إيجاده من له الخلق والأمر، يفيد الحياة الأبدية والسلامة الدائمة كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ…} 1 {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} 2 وقال تعالى: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} 3 وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 4. ومن وجه ماءٌ مطهر مزيل للأنجاس، قال تعالى في صفة القرآن: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} 5 جاء في التفسير6: أنزل من السماء كتاباً فاحتمله قلوب الرجال على قدر عقولها.
وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1. ومن وجه نور وسراج مزيل للظلمة كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} 2 الآية. وكما قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية3. ومن وجه الطريق المستقيم كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} 4. ومن وجه معتَصمٌ كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} 5، فوجب اتباع الشرع على كافة الأنام. فإن قيل: إذا أمرتم بالاتباع فهو تقليد والتقليد حرام، قال الله تعالى في ذم التقليد: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} 6. الجواب: أن التقليد قبول قول الغير من غير حجة، وقول الله] 99/ب [تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم نفس الحجة. قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 7.
الفصل الرابع: في كمال الدين
الفصل الرابع: في كمال الدين اعلم أن الله عز وجل أنزل كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تبياناً لكل شيء وقال تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ،1 ثم أمره أن يبيِّن لهم ما فيه مما يحتاجون إليه وتجب معرفته عليهم فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} 3، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بيَّن لأمته ما يحتاجون إليه من أمر دينهم ودنياهم، وبين لهم ما فيه صلاح أولاهم وأخراهم، أنزل الله تعالى عليه في حجة الوداع يوم الجمعة بعرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} 4، وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ألا هل بلغت؟! اللهم اشهد"5. وقال سلمان: "علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة"6، فثبت أنه بيّن جميع الواجبات، إذ تأخُّر البيان
عن وقت الحاجة لا يجوز، والكمال لا يقبل الزيادة. وقيل لبعض علماء السلف1: ما التوحيد؟ فقال: "من المحال أن تظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه بيّن الاستنجاء وترك بيان التوحيد2. التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والدين اسم لما أقامه الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ثم الأثر الصحيح عن مَرْضيٍ من السلف مأمون على عقدة الدين] 100/أ [عالم بالاختلاف بصير بالقياس قادر على الاستنباط.
الباب الثالث: في جمل الاعتقاد
الباب الثالث: في جمل الاعتقاد الفصل الأول: في إثبات العلم بالذات والأسماء والصفات ... القسم الثالث: في جمل الاعتقاد وهي أربعة فصول: الفصل الأول: في إثبات العلم بالذات والأسماء والصفات جمل الاعتقاد المجمع عليها نقلها الخَلَفُ عن السلف، أجمع عليها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأئمة الأمصار من الفقهاء وأصحاب الحديث وأرباب الورع والتقوى المصنفين في علم الكتاب والسنة1،
حجازاً ويمناً وشاماً وعراقاً وفارس1 وخراسان2 وما وراء النهر3 وثغور الشام4 وأذربيجان5 واران6 وديار ربيعة ومضر7 - أجمعوا أن الواجب
على المكلف أن يعلم بقلبه ويقر بلسانه أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له1 قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2 وقال تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراًً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} 3 وقال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 4 وقال تعالى: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 5. - وأن الله تعالى حيٌّ، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 6. - وأنه تعالى قادرٌ، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 7.
- وأنه تعالى عالم، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} 1، وقال: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} 2، وقال: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3. - وأنه مريدٌ، قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 4 وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم} 5. - وأنه سميع بصير قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 6. - وأنه متكلم، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 7 وقال: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 8. - وأنه باق لم يزل ولا يزال] 100/ب [قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} 9. - وأن له حياة وقدرة وعلماً وإرادة وسمعاً وبصراً وكلاماً
وبقاءً، قال الله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِِهِ} 1 وقال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 2 وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} 3. - وأنه موصوف بهذه الصفات على الحقيقة من غير مجاز من غير تكييف ولا تمثيل. - وأن له أسماءً كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 4 الآية. - وأنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو وصفه نبيه صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه الثقات العدول مما جاء في الأخبار الصحيحة5، لا مدخل
للعقل والقياس في إثبات صفاته وأسمائه، بل طريق إثباتها التوقيف لا غير1. - وأنه تعالى لم يزل كان موصوفاً بصفاته، مُسمًى بأسمائه، لم يستفد صفةً ولا اسماً من بعد، بل كان بذاته وصفاته وأسمائه الحسنى فيما لم يزل، كَهُوَ الآن فيما لا يزال2. - وأن ما ورد من الأخبار الصحيحة بنقل العدول الثقات تجرى على ظاهرها، ويؤمن بجميعها، ويوكل معانيها3 إلى الله تعالى، من غير تمثيل ولا
تكييف ويقال: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} 1. ولا يقال فيها كيف2؟ ولِمَ؟ ولا يقاس شيء منها بصفات المخلوقين، ولا تضرب لها الأمثال قال الله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 3. يكفي في جميع ذلك التصديق والتسليم والتنزيه مع الإثبات حسب مورده في الكتاب والسنة.
- وأجمعوا أن القرآن كلام الله عز وجل ووحيه وتنزيله غير مخلوق1، ولا محدث] 101/أ [ولا مجهول، ولا مربوب، وأنه قرآن واحد، وهو باق لعينه تكلم الله به على الحقيقة، وأنه في صدورنا محفوظ، وفي ألسنتنا مقروء، وفي مصاحفنا مكتوب، وفي آذاننا مسموع، وهو الكلام الذي تكلم به2 {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
حَمِيدٍ} 1. قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} 2 وقال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 3 وقال: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} 4 وقال: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} 5 وقال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} 6 وقال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه} 7 وقال: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} 8 وقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} 9 وقال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} 10. فمن قال إنه مخلوق فهو كافر، قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 11 ففرَّق بينهما. وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ
الإِنْسَان} 1 ففرَّق بينهما، قال في القرآن {عَلَّمَ} وفي الإنسان {خَلَقَ} . وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2 فلو كان قوله "كن" مخلوقة لاحتاج إلى قول آخر، وذلك القول إلى آخر، فيتسلسل ولا يتحصّل، [ومن قال به فهو ضال3] . - وأن القرآن موجود بين المسلمين [لا يرفعه] 4 الله عنهم إلا إذا شاء كما روي في الخبر،.قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو"5 أراد به المصحف. - والمراء في القرآن كفر كما جاء في الخبر6،ولا يجوز القول في القرآن بقياس ولا رأي ومعقول إلا بما جاء في القرآن أو صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيه شيء، قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه} 7.
- وأن القول بالرأي في القرآن1 مذهب كفار قريش حيث جعلوا القرآن عضين2، فقال بعضهم:] 101/ب [سحر3، وقال بعضهم: شعر4، وقال بعضهم: أساطير الأولين5، وقال الوليد: إن هذا إلا قول
البشر1. فأخبر الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه شكا منهم، قال الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} 2 وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} 3 وقال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَاب} 4 وقال تعالى: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} 5. - وأنه سبحانه يحيي ويميت، ويبدئ ويعيد، يفعل ما يشاء إذا شاء كما شاء، لا اعتراض عليه في فعله ولا حجر عليه في أمره. - وأن الإيمان والإسلام اسمان6 بمعنىً واحد إذا جمع بينهما، فالمؤمنون هم المسلمون، والمسلمون هم المؤمنون،.
قال الله تعالى في الجمع: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 1. وقال في التفرقة: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 2. وفي خبر مأثور: "الإسلام علانية، والإيمان في القلب"3.
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحدٌ، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه ثم قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام. قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. فعجبنا له وهو يسأله ويُصدّقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. قال: صدقتَ…"1. - وأن الإيمان الشرعي قول وعمل ومعرفة بنص الخبر،2 وله شُعب وأجزاء، يزيد بالطاعة] 102/أ [وينقص بالمعصية3، قال أمير المؤمنين
علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإيمان قول منقول، وعمل معمول، وعرفان بالعقول، واتباع الرسول"1. قال الله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 2 إلى غير ذلك من الأخبار والآيات. - ولا نكفر مسلماً بارتكاب صغيرة ولا كبيرة ما دام عارفاً بالله موحّداً له3. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن مثل هذا الدين كمثل شجرة ثابتة، الإيمان أصلها، والزكاة فرعها، والصيام عروقها، والصلاة ماؤها، والتآخي في الله عز وجل نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكف عن محارم الله عز وجل ثمرها، لا تكمل هذه الشجرة إلا بثمرة طيبة، وكذلك الإيمان لا يكمل إلا بالكف عن محارم الله عز وجل"4.
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام عشرة، أسهم وقد خاب من لا سهم له، شهادة أن لا إله إلا الله سهم وهو الملة، والثانية الصلاة وهي الفطرة، والثالثة الزكاة وهي الطُهرة، والرابعة الصوم وهو الجُنَّة، والخامسة الحجّ وهي الشريعة، والسادسة الجهاد وهي العروة، والسابعة الأمر بالمعروف وهي الوفاء، والثامنة النهي عن المنكر وهي الحُجَّة، والتاسعة الجماعة وهي الأُلفة، والعاشرة الطاعة وهي العصمة"1.
الفصل الثاني: في ذكر الأفعال وما جاء من الوعد والوعيد في المآل
الفصل الثاني: في ذكر الأفعال وما جاء من الوعد والوعيد في المآل - وأجمعوا على أن العباد بجميع أفعالهم وصفاتهم وحركاتهم وسكناتهم مخلوقون لله عز وجل 1، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2. - وأنّ الله قدّر الخير وأمر به وأحبَّه، وقدَّر الشرّ وقضاه ولم يأمر به ولم يحبه، وأن المطيع إنما يثاب على الطاعة باختياره وإيثاره الطاعة على المعصية تفضّلاً من الله ومنًّا. - وأن] 102/ب [العاصي إنما يعاقب على المعصية باختياره وإيثاره المعصية على الطاعة حكمةً من الله وعدلاً. - ولا يكون من المطيع طاعة إلا بتوفيق الله له بلا قهر، ولا من العاصي معصية إلا بخذلان الله له بلا جَبْر3، قال الله تعالى: {وَمَا
تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} 2 وقال: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3 وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} 4 وقال: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} 5 وقال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَات} 6 وقال: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} 7 وقال: {جَزَاءً وِفَاقاً} 8. - وأجمعوا أن الموت حق، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 9. - وأن المؤمنين إذا دُلُّوا في حفرتهم يسألهم منكر ونكير10.
- وأن عذاب القبر حق، والإيمان به واجب وكذلك نعيمه1، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} 2، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المسلم إذا سُئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ…} 3 الآية". - وأن القيامة حق، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} ، 4 وقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} ،5 وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً …} 6 إلى آخر السورة، وقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} ،7 وقال: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ
عَلِيمٌ} 1 إلى غير ذلك من الآيات البينات القاهرة. - وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله يبعث من في القبور. - وأنه تعالى يحيي العظام وينشئ الأجساد كما] 103/أ [كانت ويدخل فيها الأرواح يجمعهم إلى موقف القيامة كما قال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} 2. - وأجمعوا أن الحساب حق، كما قال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} 3 وقال: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} 4 إلى غير ذلك من الآيات والأخبار. - وأن الميزان حق5، كما قال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 6. - وأن الصراط حق، كما جاء في الخبر الصحيح أنه جسر ممدود على متن جهنّم، أحدّ من السيف وأدقّ من الشعر، وأن الناس يجوزون عليه،
وأن عليه عقبات. روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يضرب الصراط بين ظهراني جهنّم، فأكون أنا وأمتي في أول من يجوز، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، فدعاء الرسل يومئذ اللهم سلّم، اللهمّ سلِّم" 1. - وأجمعوا أن الحوض حق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن حوضي لأبعد ما بين أيلة وعدن، والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد النجوم، وهو أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، والذي نفسي بيده إني لأذود عنه الرجال، كما يذود الرجل الغريبة من الإبل عن حوضه" قال: قيل يا رسول الله: وهل تعرفنا يومئذ؟ قال: "نعم تردون عليّ غُرًّا محجّلين من آثار الوضوء، ليس لأحد غيركم"2. - وأجمعوا أن الشفاعة حق، قال الله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 3 وقال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} 4 كما جاء في التفسير أنه الشفاعة5. وقال صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي"6
وقال صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"1 وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، فآتي الفحْص، - يعني قدام العرش- فأخر ساجداً فيقول] 103/ب [ربي عز وجل: يا محمد ارفع رأسك، سل تعط واشفع تشفّع"2. - وأجمعوا أن الجنة والنار حق وهما مخلوقتان3، وقد رآهما النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج4، قال الله تعالى في حق الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 5 وقال في حق النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 6 وقال تعالى: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} 7 وقال في فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} 8 إلى
غير ذلك من الآيات والأخبار الواردة في ذلك. - وأجمعوا أن نعيم الجنة لا يبيد ولا يفنى، وأهلها لا يموتون1، قال الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 2. - وأجمعوا أن المؤمنين يرون ربهم عز وجل في القيامة، وفي الجنة عياناً بأعين رؤوسهم من غير تكييف3، قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 4 وقال صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته ولا تضارون "5. وهذا تشبيه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة} 6: "الزيادة: النظر إلى الله عز وجل"7. إلى غير ذلك من الآيات مثل قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} 8،.
والأخبار الصحيحة الواردة في ذلك. اختصرنا على هذا القدر كراهية التطويل. - وأجمعوا أن كل ما في القرآن من خبر عن نبيٍّ أو عن المعاد أو عن أمة من الأمم أو عن المسيح فعلى ظاهره، لا رَمْزَ في شيء من ذلك ولا باطن ولا سرّ، وكذلك كل ما فيه من أمور الجنة، من أكل وشرب وجماع والحور العين والولدان المخلدين ولباس، وعذاب النار بالزقوم والحميم والأغلال،] 104/أ [وغير ذلك. والصراط والميزان والحساب كله حق، إلا أنه لا ذبح هناك ولا موت ولا إيلام في الجنة، ولا طبخ بنار على مثل ما هو في الدنيا، فمن خالف شيئاً من هذا فقد خرج عن الإسلام بخلافه القرآن والسنة والإجماع. - وأن الله يبعث الأرواح والأجساد ويجمع بينهما كما قال: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 1. - وأجمعوا أن قوماً يخرجون من النار بعد ما امتحشوا2، ويدخلون الجنة كما جاء في الخبر الصحيح المدوّن في الصحيحين3، وآخر أهل الإسلام خروجاً يعطى في الجنة مثل الدنيا كلها عشر مرات4.
الفصل الثالث: في بيان الرسالة والنبوة
الفصل الثالث: في بيان الرسالة والنبوة - وأجمعوا على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله وخاتم أنبيائه لا نبي بعده،1 إلا أن عيسى بن مريم - عليهما السلام - سينزل قبل يوم القيامة متبعاً شريعة محمد صلى الله عليه وسلم2. - وأنه قد كان قبل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنبياء ورسل على جميعهم الصلاة والسلام. قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} 3 وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ} 4 وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 5. - وأنّ الله تعالى كلّم موسى واتخذ إبراهيم ومحمداً خليلين - صلّى الله عليهما وسلّم- قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 6
وقال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} 1 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبرأ إلى كل ذي خلة من خلته، وإن صاحبكم خليل الله" 2 يعني نفسه صلى الله عليه وسلم. - وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى اليوم وإلى الأبد] 104/ب [، روحه عند الله حي عالم معظم، وكذلك سائر الأنبياء كما قال صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون"3 وقد قال تعالى في حق الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 1 والشهداء دون الأنبياء بدرجتين، قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء} 2 فإذا كان الشهداء أحياءً، فالنبيون وهم فوقهم بدرجات أولى وأحرى، إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة الواردة في ذلك. - والأنبياء نفوسهم وبلاغهم حجج على الخلق أحياءً وأمواتاً، وأنهم لم يكونوا ضلالاً ضلال كفر قط، فمن طعن في واحد منهم طعناً أو ردَّ عليه قولاً أو فعلاً أو عاب عليه شيئاً أو اتهمه تهمةً فقد خلع الإسلام خلعاً وانسلخ عن الدين انسلاخاً، برهان ذلك إجماع أهل الإسلام كلهم على إعلان الأذان في كل مسجد في الدنيا وفيه: (أشهد أن محمداً رسول الله) وعلى القول في كل صلاة أو تطوع: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) ، وإجماع الأمة من أولها إلى آخرها على دعاء أهل الكفر إلى: (قول لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) . وقول الله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} 3 فسماه الله رسولاً بعد موته وإلى يوم القيامة، فلو لم تكن روحه قائماً حيّاً عند الله
تعالى لكان الأذان كذباً، والتشهد هدراً وتسليماً على معدوم، ولكان الصواب أن يقال: أشهد أن محمداً كان رسول الله1، وأجمعت الأمة على إنكار هذا القول2 وتضليل] 105/أ [قائله وإخراجه من جملتهم، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن لله ملائكة يبلغونه منا السلام" 3 فمِنَّا على روحه المقدس المقرب في الجنة الآن عند ربه الحي العالم أطيب صلاة وأكثره عدد ما خلق ربنا ويخلق، وهذا القول في كل نبي ورسول، اللهم صلّ على روح محمد في الأرواح، وعلى جسد محمد في الأجساد، وأن جميع ذلك حق وصدق، لا
على وجه المجاز والرمز، والتأويل على ظاهره. - وأجمعوا على أن الملائكة حق، والجن حق، قال الله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} 1 وقال تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} 2. - وأجمعوا على أن دين الإسلام الذي جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على كل من بلغه من جن وإنس، قال الله تعالى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 3 وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 4 وقال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ …} الآية5. - ولم يبعث الله قبل محمد نبياً إلا إلى قومه خاصة، هكذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثتُ إلى الأحمر والأسود" 6 وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاس} 7. - وأن جميع ما صحَّ من الأخبار من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم حق
وصدق، وأنه هاجر من مكة إلى المدينة وتوفي صلى الله عليه وسلم وقُبِر بها. - وأجمعوا على أن الحفظة الكرام حق، قال الله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ …} 1 الآية، وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} 2 الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار"3. - وأجمعوا على أن إيتاء الكتب المكتوب فيها أعمال العباد حق، قال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ] 105/ب [أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} 4 وقال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه} 5 الآية. - وأجمعوا على أن النبوة غير مكتسبة بل هي باصطفاء الله للعبد وتخصيصه إياه، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاس} 6. ومعنى النبوة: أن ينبئ الله عز وجل من يشاء من عباده بوحي يعلمه به ما يكون قبل أن يكون. وتفسير الرسالة: هو أن يرسل الله من شاء من عباده بما يشاء إلى من
يشاء من خلقه1، وذلك يكون إما بواسطة ملَكٍ أو إلهام أو رؤية في المنام أو سماع كلام من وراء حجاب، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} 2 وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3. - وأجمعوا على أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى ربنا ليلة المعراج، كما أخبر عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث فيه صحيح يجرى على ظاهره ولا يؤول4.
- وكل ما صحّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عن الله عز وجل قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 1، فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وقبول قوله واجب على الكافة، فمن خالفه أو ردَّ عليه خلع ربقة الإسلام من عنقه، قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ …} 2 الآية. والدين لازم أن يعرف كل واحد منه ما يخصه، فعلى جميع البالغين المميزين معرفة الطهارة والصلاة والصيام، وما يحرم أكله وما يحل من
ذلك، وما يحرم إتيانه وما يحل، وعلى أهل الأموال معرفة الزكاة، وعلى المستطيع] 106/أ [للحج معرفة الحج، وعلى من أراد النساء معرفة ما يحل من التسري والنكاح وما يحرم، وعلى أهل البيع معرفة ما يحل من البيوع [وما يحرم] 1، وعلى الأمراء والولاة معرفة الأحكام وسياسة الجيوش وحكم الغزو والمغانم. وفرض على كل أحد أن يحفظ أم القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" 2، ويحفظ معها [شيئاً] 3 من القرآن.
الفصل الرابع: ف ذكر الإمامة والخلافة والأئمة والخلفاء
الفصل الرابع: ف ذكر الإمامة والخلافة والأئمة والخلفاء ... الفصل الرابع: في ذكر الإمامة والخلافة والأئمة والخلفاء - أجمعوا على أن أفضل الناس الأنبياء والرسل، وأفضل الناس بعد الرسل والأنبياء عليهم السلام، أصحابهم، وأفضل أصحابهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1. - وأفضل الصحابةِ المهاجرين العشرةُ الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأفضل العشرةِ الخلفاءُ الأئمة الأربعة، وأفضلهم أبوبكر الصدّيق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم علي المرتضى - رضي الله عنهم -2. قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ …} 3 نزلت الآية في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه حيث أنفق ماله بمكة ونصر النبي صلى الله عليه وسلم4، وهو أول من آمن من الرجال. وقد وردت في فضائل الأربعة الآيات الكثيرة، قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم …} إلى آخر الآيتين5، وقال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار …} 6 الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختارني من العالمين، واختار لي أصحاباً، واختار لي من أصحابي أربعة هم خير أصحابي: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي"1 - رضي الله عنهم أجمعين -، وقد جاء مثل ذلك من الأخبار الصحيحة ما لا يعد كثرةً ولا يحصى] 106/ب [. ثم اختلفوا في أن خلافة أبي بكر رضي الله عنه كان نصّاً أو إجماعاً على قولين: أحدهما:- أنه كان نصاً، لأنه أقامه مقامه في الصلاة مرة مرضه، ولما عرض عليه غيره أبى وقال: "يأبى الله ذلك والمسلمون"2 إلى غير ذلك من الأخبار الواردة الصحيحة. والقول الثاني:- وعليه أكثرهم، أن الإجماع من الصحابة انعقد على خلافته3، قال علي رضي الله عنه (رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا
نرضاك لدنيانا؟! 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر وزيري، يقوم في الناس بعدي مقامي، وعمر ينطق على لساني، وعثمان مني وأنا منه، وعلي أخي في الدنيا والآخرة"2. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختارني، واختار لي أصحاباً، فجعل لي منهم وزراء وأنصاراً وأصهاراً، فمن سبّهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً"3. وقال صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً من بعدي، من
أحبّهم فقد أحبني، ومن أبغضهم فقد أبغضني، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه"1. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع حب هؤلاء الأربعة إلا في قلب مؤمن، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي2 –رضي الله عنهم-. وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب أبابكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحب عليًّا] 107/أ [فقد استمسك بالعروة الوثقى"3. روى مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله استخلف علينا بعدك رجلاً نعرفه، ونُنهي أمرنا إليه فإنا لا ندري
ما يكون بعدك، فقال: "إن استعملت عليكم رجلاً فأمركم بطاعة الله عز وجل فعصيتموه، كانت معصيته معصيتي ومعصيتي معصية الله عز وجل، وإن أمركم بمعصية الله عز وجل كانت لكم الحُجَّة عليَّ يوم القيامة، ولكني أكِلُكُم إلى اللهعز وجل"1. - ولا تجوز الخلافة إلا في الرجال البالغين العاقلين من قريش2 من ولد فهر بن مالك خاصةً، ولا يجوز أن يكون في الناس إمامان3، ولا
يحل البقاء دون بيعة إمام البتة إلا ثلاثة أيام1. - وأجمعوا على الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا"2.
وروي عن أبي سعيد أنه قال: "مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها"1. وينتهون إلى ما روي عن عمربن عبد العزيز2 وقد سئل عما شجر بينهم فقال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3. وسئل بعض العلماء من التابعين عن ذلك فقال: أقول ما قال موسى عليه السلام لفرعون حين قال له: {مَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 4. وروي عن محمود بن الورقاء أنه قال: كنت أتشيع وأكثر ذكر معاوية رضي الله عنه ما كان بينه وبين علي كرم الله وجهه، فرأيت فيما يرى النائم كأني دخلت دارا فإذا معاوية فيها جالس وعليه جبة سلقى، وعليه منديل قد أرخى طرفيه] 107/ب [على منكبيه فلما بصر بي رفع رأسه إلي وقال: هل تقرأ
كتاب الله؟ قلت: بلى. قال: اقرأ هذه الآية: {قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 1. - فنترحم على جميع الصحابة ونحبهم وننتهي إلى قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2. قال أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني: أنشدني الشافعي رحمه الله من قيله: شهدت بأن الله لا شيء يره ... وأشهد أن البعث حق وأُخلِصُ وأن عرى الإيمان قول مبين ... وفعل زكي قد يزيد وينقص وأن أبا بكر خليفة ربه ... وكان أبو حفص على الخير يحرص وأُشهد ربي أن عثمان اضل ... وأن عليا فضله متخصص أئمة حق يهتدى بهداهم ... لحا الله من إياهم يتنقص فما لعتاه يشهدون سفاهة ... وما لسفيه لا يحيص ويخرص3 قال محمد بن يزيد المستملي: كنت أسأل أحمد بن حنبل عن الخلفاء
الراشدين المهديين، فيقول: دع هذا، فَلَزََزْتُه1 يوما إلى حائط فسألته عن الخلفاء الراشدين المهديين كأنه حَزْمٌ عليه، فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم2. - وأجمعوا على أنه لا يحكم لأحد بجنة ولا نار، بل هو موكول إلى مشيئة الله عز وجل، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ... } 3 الآية. - وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشرة من أصحابه بالجنة، هم خير الناس وأفضلهم الخلفاء الراشدون، ويجب على المسلمين مدحهم والثناء عليهم والدعاء لهم] 108/أ [ولجميع الصحابة لما بذلوا من وسع النفس والمال في إقامة الحق ونصرة الدين رضي الله عنهم أجمعين4. - وطاعة السلطان عندهم واجبة على الرعية، فتجب الصلاة معه وخلف كل بار وفاجر، فإن أحسن فله ولهم، وإن أساء فعليه دونهم5. - وبلاد المسلمين دار الإسلام، مادام شعار الإسلام من الأذان
والإقامة والصلوات ظاهرا1. - وكل مسلم مالك لماله، فهو أحق به من غيره. - وكل حي مخلوق فله أجل هو بالغه، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} 2 وسواء مات حتف أنفه أو قتل فهو عند انتهاء أجله الذي كتب له، وكذلك رزق الخلق بيده وهو قوام الحياة وغذاء النفس يرزقهم من حيث شاء كما شاء سواء تناوله العبد من حل أوحرام إلا في المأثم. ومن دينهم واعتقادهم قول الحق، وفعل العدل، ولزوم الجماعة، وقيام
الليل للصلاة، وقراءة القرآن، وطلب العلم من أهله، وجمع السنن الصحيحة وكتب الحديث من العدول الثقات، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح، والسعي في مصالح المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجانبة الكذب والزور، وكل مسكر ورياء وشبهة وخيانة وريبة وغيبة وتهمة، ومقارنة العلماء الربانيين والصلحاء المتقين1. هذا دينهم واعتقادهم ذكرته على وجه الاختصار وحذفت الأسانيد للأخبار كراهية الإكثار. واتفق أهل العلم أن أحدا لم يجمع جمل الإيمان بالله وبرسوله كما جمعه الشافعي رضي الله عنه في قوله الموجز: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء] 108/ب [عن رسول الله على مراد رسول الله2. قال الشيخ الإمام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري3 - رحمه الله -: التوحيد على وجهين4:
الأول منهما: إفراد الله عز وجل بالربوبية والأولية، ونفي الشركاء والشبه عنه، وإثبات البينونة1، ومعرفته بأنه لا يكافأ في قدر، ولا ينازع في أمر، ولا يشابه في صفة، ولا يدافع في حكم، وأنه صمد صفاته ممتنعة عن التكييف، وقدره عن الإدراك2
وضد هذا التوحيد هو الشرك الأكبر1 من إلحاق شريك، أو تشبيه بشيء من خلقه قال الله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ …} 2 الآية، نفى عن نفسه الشبه وقدسها منه، فإلحاق التشبيه به بعد ذلك محال، وتقديسه بعد تقديسه فضل، فإن تقديس من لا يقبل العيب من العيب عيب، وإنما يقدس الله
عز وجل من الشبه بقدر عزته وتعالي صفته، لا يمتزج فيخلص أو يقبل الشبه فيقدس، لهذا لم يرد في خبر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في صفة وصف بها الله عز وجل بلا مثل ولا تشبيه أو بلا كيف، لأن إثبات الصفة تقديس فلا يحتاج إلى التقديس قال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} 1 فمن شبه الله أو صفة من صفاته بخلقه أو بصفات خلقه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، ومن أنكر صفة] 109/أ [أثبتها الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم له فقد كفر بالله وبرسوله. فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ …} الآية. الكاف لتشبيه الصفات، والمثل تشبيه الذوات، فنفى التشبيهين كليهما عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أو ليس له مثل ولا كهو شيء، فمذهبنا إثبات الصفات من غير إفراط، ونفي التشبيه من غير تعطيل، والتمسك بالظاهر من غير تخليط، قال الشافعي - رحمه الله -: الظاهر أملك. والله أعلم. وأما الوجه الآخر:- فإخلاص العمل لله، وإقامة الوجه له، ونفي المراءاة والتسميع عن عبادته، ثم إفراده بالثقة والخوف والرجاء والتفويض والمحبة2.
وضد هذا التوحيد هو الشرك الأصغر1، قال الله تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 2، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك"3. وقال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك"4. وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص وهو يشير بأصبعيه في الدعاء فقال: "أحِّد أحِّد يا سعد" 5.
وقال صلى الله عليه وسلم للرجل - الذي قال له: ما شاء الله وشئت -: "أجعلتني لله ندا؟! قل ما شاء الله" 1. وقال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2. 3 قال الشيخ الإمام أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني4 رحمه الله5: قد اختلف مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في
الكتاب والسنة وامتنع على] 109/ب [أهل الحق اعتقاد فحواها وإجراؤها على موجب ما يبتدر أوهام أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها والتزم هذا النهج في آي الكتاب وما يصح في سنن الرسول صلى الله عليه وسلم. وذهب أئمة السلف إلى انكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها1 إلى الرب تعالى. والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك [أن] 2 إجماع
الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها1،
وهم صفوة الإسلام والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه [منها] ،1. فلو كان تأويل هذه [الآي] 2 الظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها حقٌ كاهتمامهم بفروع الشريعة، وإذ تصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع3، وكانوا رضي الله عنهم ينهون عن التعرض للغوامض، والتعمق في المشكلات، والإمعان في ملابسة المعضلات، والاعتناء بجمع الشبهات، وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات، ويرون صرف العناية إلى الاستحثاث على البر والتقوى، وكف الأذى، والقيام بالطاعة حسب الاستطاعة، وما كانوا ينكفون رضوان الله عليهم أجمعين عما تعرض له المتأخرون عن عيٍّ وحَصَر وتبلد في القرائح - هيهات - كانوا أذكى الناس قرائح وأذهانا وأرجحهم إيمانا، ولكنهم استيقنوا] 110/أ [أن اقتحام الشبهات داعية الغوائل وسبل الضلالات، وكانوا يحاذرون في حق عامة المسلمين ما هم الآن به مبتلون وإليه مدفوعون.
ولما قال صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة، الناجية ما أنا عليه وأصحابي" 1، ونحن على قطع نعلم أنهم ما كانوا يرون الخوض في الدقائق ومضايق الحقائق، ولا كانوا يدعون إلى التسبب إليها بل يشتدون على من يفتتح الخوض فيها، والذي يحقق ذلك أن أساليب العقول لا يستقل بها إلا الفرد الفذ الذي يثنى عليه بالخناصر ويشير إليه الأصاغر والأكابر، ثم هو على اغترار وأخطار إن لم يعصمه الله، فكيف يسلم من مهاوي الافتكار الغر الغبي؟!! فإذا تصرم عصر الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان على الانكفاف عن التأويل كان قاطعا بأنه الوجه المتبع، إذ لو كان الخوض في ذلك واجبا أو سائغا مسوغا لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، إذ نقلوا إلينا آداب الاستنجاء وما في بابه، وإذ اتفقوا على ما ذكرنا تبين أن الحق الصريح ما كانوا عليه. وعد سيد القراء وإمامهم أبي بن كعب رضي الله عنه الوقوف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} من العزائم، ثم ابتداء له بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} 2.
ومما نقل من كلام إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه حين سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة1.
وكذلك روي عن أم سلمة رضي الله عنها1، فليجر آيات القرآن والأخبار الصحيحة الواردة في الصفات] 110/ب [على ما ذكرنا، ونقتصر منها على التصديق والتسليم مع التنزيه، فهو الطريق الأسلم والمنهج الأقوم2. وهو مذهب الفقهاء الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين3.
فصل: على العبد أن يمتثل أوامر مولاه وإن لم يعلم كميتها، والثاني: أن يصدق أخبار مولاه وإن لم يعلم كيفيتها، والثالث: أن يعتقد الحكمة والصواب في جميع أفعاله وإن لم يعرف مائيتها، وهذه القاعدة توجب امتثال أوامر الله من غير سؤال عن عللها، ويوجب تصديق أخباره وإن لم يوقف على أصولها، وأن يعتقد الحكمة في جميع أفعاله وإن لم يوقف على أصولها.
الباب الرابع: في ذكر الأئمة
الباب الرابع: في ذكر الأئمة فصل في ذكر أبي حنيفة رضي الله عنه مدخل ... القسم الرابع1: في ذكر الأئمة فصل في ذكر أبي حنيفة رضي الله عنه أما أبو حنيفة فله في الدين المراتب الشريفة والمناصب المنيفة، سراج في الظلمة وهاج، وبحر بالحكم عجَّاج2، سيد الفقهاء في عصره، وراس العلماء في مصره، له البيان في علم الشرع والدين، والحظ الوافر من الورع المتين، والإشارات الدقيقة في حقيقة اليقين، مهد ببيانه قواعد الإسلام، وأحكم بتبيانه شرائع الحلال والحرام، وصار قدوة الأئمة الأعلام، سبق الكافة منهم إلى تقرير القياس3 والكلام4، وغدا إماما
تعقد عليه الخناصر ويشير إليه الأكابر والأصاغر، انتشر مذهبه في الآفاق، وعُدّ من الأفراد بالاتفاق، فضله وافر، ودينه ثابت، وعَلَمُه في مراده للمجد ثابت، اسمه النعمان وأبوه ثابت.
في نسبه وحليته
[الفصل الأول] 1: في نسبه وحليته عن عمر بن حماد بن أبي حنيفة قال: أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي. فأما زوطي فإنه] 111/أ [من أهل كابل، وولد ثابت على الإسلام، وكان زوطي مملوكا لبني تيم الله بن ثعلبة فأعتق، فولاؤه لبني تيم الله بن ثعلبة ثم لبني قفل، وكان أبوحنيفة خزازًا، ودكانه معروف في دار عمر بن حريث بالكوفة. وقيل: ثابت والد أبي حنيفه من أهل الأنبار، وقيل: أصل أبي حنيفة من ترمذ، وقيل: أصله من نَسَاء، والله أعلم. ذكر ذلك الصيمري2 في مناقبه3. إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة يقول: أنا إسماعيل بن حماد بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان من أبناء فارس الأحرار، والله ما وقع علينا رق قط، ولد جدي في ثمانين، وذهب ثابت إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو صغير، فدعا له بأن يبارك فيه وفي ذريته، ونحن
نرجو من الله أن يكون قد استجاب ذلك لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فينا، قال: والنعمان بن المرزبان أبو ثابت هو الذي أهدى إلي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الفالوذج في يوم النيروز1، فقال: نَوْرِزُونا كل يوم. وقيل: كان ذلك في المهرجان2 فقال: مَهْرِجُونَا كل يوم3.
قال البرتي القاضي: سمعت أبا نعيم يقول: كان أبو حنيفة جميلا، حسن الوجه، حسن اللحية، حسن الثوب1. قال أبو يوسف: كان أبو حنيفة ربعة من الرجال ليس بالقصير، ولا بالطويل، وكان أحسن الناس منطقا، وأحلاهم نغمة وأبينه عما تريد2. قال عمر3 بن جعفر بن إسحاق بن عمر بن حماد بن أبي حنيفة: إن أبا حنيفة كان طويلا تعلوه سمرة، وكان لباسا حسن الهيئة كثير
التعطر، يعرف بريح الطيب إذا أقبل، وإذا خرج من منزله قبل أن تراه1. ولد أبو حنيفة سنة ثمانين، قال أبو حنيفة: حججت مع أبي سنة ست وتسعين، ولي ست عشرة سنة، وإذا أنا بشيخ قد اجتمع الناس عليه فقلت] 111/ب [لأبي: من هذا الرجل؟ فقال: هذا رجل قد صحب محمدا صلى الله عليه وسلم يقال له عبد الله بن الحارث بن جَزْءٍ2، فقلت: أي شيء عنده؟ قال: أحاديث سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: قدمني إليه حتى أسمع منه، فتقدم بين يدي فجعل يفرج عني الناس حتى دنوت منه فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تفقه في دين الله كفاه الله همه ورزقه من حيث لا يحتسب"3.
وعن أبي حنيفة قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الدال على الخير كفاعله، والله يحب إغاثة اللهفان"1. قال أبو بكر بن هلال: وقد أدرك أبو حنيفة من الصحابة أيضا عبد الله بن أبي أوفى، وأبا الطفيل عامر بن واثلة وهما صحابيان2.
قال الشيخ الإمام أبو إسحاق الشيرازي1 في كتاب الفقهاء: قد كان في أيام أبي حنيفة أربعة من الصحابة، أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أو فى الأنصاري، وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وسهل بن سعد الساعدي، وجماعة من التابعين كالشعبي والنخعي وعلي بن الحسين وغيرهم، ولم يأخذ أبو حنيفة منهم وقد أخذ عنه خلق كثير، توفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة، ورأى أنس بن مالك سنة خمس وتسعين، وسمع منه، ومات ببغداد وهو ابن سبعين سنة2. أخبرني أبي قال: أنبأنا أبو نصر أحمد بن يوسف الطبري قال: ثنا أبو مسعود أحمد بن محمد البجلي سنة تسع وعشرين وأربعمائة قال: أنبأنا أبو أحمد مسلم بن الحسن بن الحسن بن مسلم المروزي قال: ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عمرويه المذكر قال: ثنا أحمد بن الصلت بن
المغلس قال: ثنا بشر بن الوليد قال: ثنا أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي عن أبي حنيفة قال:] 112/أ [سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"1.
في ذكر علمه وورعه وزهده
الفصل الثاني: في ذكر علمه وورعه وزهده سأل رجل أبا حنيفة: بم يستعان على الفقه حتى يحفظ؟ قال: بجمع الهم. قال: قلت: وبم يستعان على جمع الهم؟ قال: بحذف العلائق. قال: قلت: وبم يستعان على حذف العلائق؟ قال: بأخذ الشيء عند الحاجة ولا تزد1. وقال أبو يوسف: سمعت أبا حنيفة يقول: إذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من الثقات أخذنا به، فإذا جاء عن أصحابه لم نخرج عن أقاويلهم، فإذا جاء عن التابعين زاحمناهم2. قال المزني: سمعت الشافعي رضي الله عنه: يقول: الناس عيال على أبي حنيفة في القياس والاستحسان3. قال يزيد بن هارون: كتبت عن ألف شيخ حملت عنهم العلم، ما رأيت والله فيهم أشد ورعا من أبي حنيفة ولا أحفظ للسانه4. قال أبو يوسف: سمعت أبا حنيفة يقول: لولا الفرق من الله أن
يضيع العلم ما أفتيت أحدا، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر1. قيل: كان حفص بن عبد الرحمن شريك أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة تجهز عليه، فبعث إليه دفعة متاعا وأعلمه أن في ثوب كذا عيبا فإذا بعته فبيِّن، فباع حفص المتاع ونسي أن يبين العيب ولم يعلم ممن باعه، فلما علم أبو حنيفة بذلك تصدق بثمن المتاع كله2. قال الفيض بن محمد الرقي: لقيت أبا حنيفة ببغداد فقلت له: إني أريد الكوفة، فلك حاجة؟ قال: إيت ابني حمادا فقل له: يا بني إن قوتي في الشهر [درهمان] 3 فمرة للسويق، ومرة للخبز، وقد حبسته عني فعجِّله عليَّ4. وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت] 112/ب [: كفى حزنا أن لاحياة نيئة ... ولا عمل يرضي به الله صالح5 وكان أبو حنيفة قد جعل على نفسه أن لا يحلف بالله في عرض حديثه إلا تصدق بدرهم، فحلف فتصدق، ثم جعل على نفسه أن لا يحلف بالله إلا تصدق بربع دينار فتصدق بربع دينار، فجعل على نفسه إن حلف يتصدق بدينار، وكان إذا حلف صادقاً في عرض الكلام تصدق
بدينار، وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها. وكان إذا اكتسى ثوبا جديدا أكسى بقدر ثمنه لشيوخ العلماء، وكان إذا وضع بين يديه الطعام أخذ منه فوضعه على الخبز، حتى يأخذ منه بقدر ما يأكل فيضعه على الخبز ثم يعطيه لإنسان فقير، فإن كان في الدار في عياله إنسان يحتاج إليه دفعه إليه، وإلا أعطاه مسكينا1. وكان يقول: جعلت عملي أثلاثا: ثلثا لنفسي، وثلثا لوالدي، وثلثا لابني حماد. قال مسعر 2: رايت أبا حنيفة يجلس للناس جميع النهار فقلت: متى يتفرغ هذا لعبادة ربه؟ فتعاهدته يصلي العشاء مع الناس ودخل داره، فلما تفرق الناس خرج إلى المسجد فصلى إلى قريب من الصبح، فتعاهدته ليالي وكان ذلك دأبه3. قال: ورأيته ليلة يصلي فأخذت كفا من حصى فوضعته على ذيل أبي حنيفة وهو ساجد ومضيت إلى داري، فلما رجعت سحرا فوجدته وإذا الحصى على ذيله بحاله، فعلمت أنه قد زجى الليل كله في سجدة واحدة4.
في ثناء الأئمة عليه ومدح الناس له
الفصل الثالث: في ثناء الأئمة عليه ومدح الناس له قال الشافعي رحمه الله: سئل مالك بن أنس] 113/أ [هل رأيت أبا حنيفة وناظرته؟ فقال: نعم رأيت رجلا لو نظر إلى هذه السارية وهي من حجارة، فقال إنها من ذهب لقام بحجته1. وروي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: من أراد الحديث الصحيح فعليه بمالك، ومن أراد الجدل فعليه بأبي حنيفة، ومن أراد التفسير فعليه بمقاتل بن سليمان2. وقال الشافعي: من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة3. وقال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر4 في ذكر فقهاء الأمصار: وأما أبو حنيفة فهو أصل الرأي بالكوفة، وكان ذكيا فهما، معتمدا في فقهه على علماء بلده، وكان أبصر الناس بالقياس5. وكان ابن المبارك6 يمدحه ويثني عليه بالشعر وغيره.
قال عبد الله بن المبارك: كان أبو حنيفة آية. فقال له قائل: في الشر يا أبا عبد الرحمن أو في الخير؟ فقال: اسكت يا هذا فإنه يقال غاية في الشر، آية في الخير، ثم تلى هذه الآية: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} 1. وقال عبد الله بن المبارك: رأيت أعبد الناس، ورأيت أورع الناس، ورأيت أعلم الناس، ورأيت أفقه الناس، فأما أعبد الناس فعبد العزيز بن أبي روّاد2، وأما أورع الناس فالفضيل بن عياض3، وأما أعلم الناس فسفيان الثوري، وأما أفقه الناس فأبو حنيفة - ثم قال - ما رأيت في الفقه مثله4. قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: وجدت أبا حنيفة كل يوم ... يزيد نبالة ويزيد خيرا وينطق بالصواب ويصطفيه ... إذا ما قال أهل الجور جورا يقايس من يقايسه بلب ... فمن ذا تعلمون له نظيرا كفانا موت حماد وكانت ... مصيبته لنا أمرا كبيرا فرد شماتة الأعداء عنا ... وأفشى بعده علما كثيرا
رأيت أبا حنيفة حين يؤتى ... ويطلب علمه بحرا غزيرا إذا ما المعضلات تدافعتها ... رجال القوم كان بها بصيرا1 قال مساور الوراق2: إذا العلماء يوما قايسونا ... مسألة من الفتيا طريفه أتيناهم بمقياس صحيح ... ورأي من طراز أبي حنيفه إذا سمع الفقيه بها وعاها ... وأثبتها بحبر في صحيفه3 وقال صدقة المقابري - وكان صدقة مجاب الدعوة -: لما دفن أبو حنيفة في مقابر الخيزران سمعت صوتا في الليل ثلاث ليال: لقد زان البلاد ومن عليها ... إمام المسلمين أبو حنيفه فما بالمشرقين له نظير ... ولا بالمغربين ولا بكوفه ويأتيكم بإسناد صحيح ... كأيات الزبور على الصحيفه
ومن يأخذ من الشكاك علما ... كمن يخري ويستنجي بليفه1 يعني ثم سمعت الهاتف يقول: ذهب الفقه فلا فقه لكم ... فاتقوا الله وكونوا خلفا مات نعمان فمن هذا الذي ... يُحيَى الليل إذا ما سجفا2
في ذكر أصحابه
الفصل الرابع: في ذكر أصحابه قال ابن عبد البر: كان لأبي حنيفة أصحاب جلة رؤساء في الدنيا، ظهر فقهه على أيديهم، أكبرهم: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري1،لجده صحبة ذكر في الصحابة، كان قد روى الحديث وكتبه، ثم لازم أبا حنيفة فغلب عليه رأيه، وكان قاضي القضاة لثلاثة خلفاء: للمهدي2، والهادي3، والرشيد4، ولا أعلم قاضيا كان إليه تولية القضاة في الآفاق من المشرق والمغرب إلا أبا يوسف هذا في زمانه، وأحمد ابن أبي دؤاد5 - لعنه الله - في زمانه.
لم يزل أبو يوسف ببغداد بعد مقدمه من جرجان إلى أن مات بها سنة اثنتين وثمانين ومائة في خلافة هارون الرشيد. قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه سمعت أبا يوسف القاضي رحمه الله يقول: إن للعيون جنايا بالغدوات ما ليس لها بالعشيات. ومنهم: أبو عبد الله زفر بن الهذيل العنبري1 من أصحاب أبي حنيفة، كان أبو حنيفة يفضله، ويقول: إنه أقيس أصحابه، وكان ذا عقل ودين وفهم وورع، وكان ثقة في الحديث. قال أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري2: هلك زفر بالبصرة سنة أربع وخمسين ومائة. وقال الشيخ الإمام أبو إسحاق الشيرازي في كتاب الفقهاء: ولد زفر سنة عشر ومائة، ومات سنة ثمان وخمسين [ومائة] 3، ومات وله ثمان وأربعون سنة، وكان قد جمع بين العلم العبادة4. ومنهم: محمد بن الحسن الشيباني5 الفقيه، أبو عبد الله] 114/ب [مولى
لبني شيبان، أخذ عن أبي حنيفة وعن أبي يوسف، وكتب الحديث وكان فقيهاً عالما شهما نبيلا. وقال الشافعي: سمعت من محمد بن الحسن وقر بعير، وما رأيت رجلا سمينا أفهم منه، وكان إذا تكلم خيل أن القرآن نزل بلغته1. قال أبو عمر: أصله من الشام وولد بالجزيرة، وولاه الرشيد قضاء الرقة فأقام بها مدة ثم عزله، ثم أخرجه مع نفس إلى الري وولاه قضاءها، فمات بها هو والكسائي النحوي علي بن حمزة في يوم واحد، فرثاهما اليزيدي بشعر حسن فقال: تصرمت الدنيا فليس خلود ... وما قد ترى من بهجة سيبيد لكل امرءٍ كأس من الموت منهل ... وما إن لنا إلا عليه ورود ألم تر شيبا شاملا ينذر البلى ... وإن الشباب الغض ليس يعود سيكفيك ما أفنى القرون التي مضت ... فكن مستعدا فالفناء عتيد أَسيتُ على قاضي القضاة محمد ... فأذريت دمعي والفؤاد عميد وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا ... بإيضاحه يوما وأنت فقيد وأوجعني موت الكسائي بعده ... وكادت بي الأرض الفضاء تميد وأذهلني عن كل لهو ولذة ... وأرق عيني والعيون هجود هما عالمانا أوديا وتخرما ... وما لهما في العالمين نديد فدمعي متى يخطر على القلب خطرة ... لذكراهما حتى الممات جديد2
فصل في ذكر مالك رضي الله عنه
فصل في ذكر مالك رضي الله عنه مدخل ... فصل في ذكر مالك أما مالك فإنه لممالك الفضائل مالك، ولمسالك التقوى والورع سالك، إمام دار الهجرة بالاتفاق، ومفتي الحجاز بالإطباق، فقيه الأمةوسيد الأئمة، زكي الطبع والهمة، أول من صنف كتابا في الإسلام، جمع فيه شرائع الحلال والحرام، ونظم عقود الشرع فيه أحسن نظام، بين فيه عيون الدلائل، وفنون المسائل في الأحكام، فغدا كتابه غرة في جبين الدين، ودرة في تاج الفضل واليقين. وسار في البدو والحضر مسير الشمس والقمر، وصار حجة على الأنام وقدوة يأتم بها أولو الأحلام، فمالك جم المناقب والفضائل، يم المواهب والفواضل، اتسع في الفضل مجاله، وفاض في الأفضال سجاله، واتسق في التقوى قوله وفعاله، وأصبح قريع1 عصره، وفريد دهره ومصره، علما سار بذكره الركبان وتعطر بنشره /115] ب [الزمان، جمع بين فصاحة البيان وسماحة البنان. نظم من جواهر الكلام عقداً يزان بمثله نحر الإسلام، وصاغ من تبر2 الشريعة تاجا، وفتح للسنة البيضاء رتاجا3، وقسم ميراث النبوة
بين الأمة الهادية وبَرَّد بماء الحياة عليل الأنفس الصادية، خص بالمناقب الشريفة المبيَّنة، والمراتب المنيفة المتينة، وشرف بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة" 1، كان مجلسه محفوفا بالهيبة والسلطان، ومكنونا بالحجة والبرهان، كما قال فيه عبد الله بن المبارك إمام خراسان رحمه الله: يأبى الجواب فما يكلم هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان أدب الوقاروعز سلطان التقى ... فهو المطاع وليس ذا سلطان2
في ذكر نسبه وحليته
الفصل الأول: في ذكر نسبه وحليته] 1 فهو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، وأصبح في حمير، وجده حليف لبني تيم في قريش. قال الزبير بن بكار2: عداد مالك في بني تيم في آل عبد الرحمن بن عثيم ابن عبيد الله بن أخي طلحة بن عبيد الله، كان مالك فقيه أهل المدينة ومفتيهم ومحدّثهم، وكانت له بالمدينة الرئاسة العظيمة عند السلطان والعامة3. قال الشافعي رضي الله عنه: كان مالك شديد البياض إلى الشقرة طويلا، عظيم الهامة أصلع، ولد /116] أ [سنة خمس وتسعين، وقيل سنة ثلاث وتسعين من الهجرة، ومات سنة تسع وسبعين ومائة عن أربع وثمانين سنة، ودفن بالبقيع4. قال الواقدي5: هو ابن تسعين سنة، أخذ العلم عن ربيعة ثم
أفتىمعه عند السلطان. وقال مالك: كل رجل كنت أتعلم منه ما مات حتى يجيئني ويستفتيني1. كتب إلي أحمد بن خلف الشيرازي أبو بكر من نيسابور على يد والدي، وحدثني عنه أبي رضي الله عنه قال: أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الضبي قال: مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر، وهو الحارث بن عثمان بن عبيد، من ولد تيم بن مرة بن كعب، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرة بن كعب.
في علمه وزهده وورعه
الفصل الثاني: في علمه وزهده وورعه كتب إلي الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي الأندلسي رضي الله عنه على يد والدي قال: أنبأنا القاضي أبو الحسين محمد بن حمود ابن عمر المعروف بابن الدليل، قال: أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد الواسطي البندار ببيت المقدس قال: أنبأنا أبو حفص عمر بن علي العقلي الخطيب قال: ثنا محمد بن إسحاق البغدادي قال: ثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، قال: ثنا علي بن عبد الله قال: ثنا سفيان بن عيينة. وأخبرني أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي ببغداد مناولة، قال: أنبأنا أبو عبد الله أحمد بن أحمد بن سليمان المقري الواسطي قال: ثنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري، قال: أنبانا محمد بن عبد الرحمن ابن العباس قال: أنبأنا محمد بن هارون أبو عبد الله الحضرمي /116] ب [قال: ثنا محمد ابن عمر بن صفوان قال: ثنا ابن عيينة عن ابن جريج، قال ثنا أبو الزبير قال: ثنا أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسل: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يلتمسون عالما، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة". وفي رواية: "يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم"1
قال ابن عيينة: كانوا يرونه مالك بن أنس1. قال عبد الرزاق: هو مالك بن أنس. وكذلك قال يحيى بن معين2. قال مطرف بن عبد الله: أخبرني زيد بن داود رجل من أصحابنا من أفضلهم، قال: رأيت في المنام القبر انفرج فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، وإذا الناس يتقصفون - يعني عليه - فصاح صائح: مالك بن أنس، فرأيت مالك بن أنس جاء حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه شيئا، وقال: "اقسم هذا على الناس، فإذا هو مسك يعطيه الناس"3. وكان مالك لا يتحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو على الطهارة4. وكان شديد البياض إلى الشقرة، طويلا عظيم الهامة، أصلع، يلبس الثياب العربية الجياد، ويكره حلق الشارب، ويعيبها ويراه من المثلة، ولا يغير شيبه5.
قال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلاة والجمعة والجنائز، ويعود المرضى ويقضي الحقوق /117] أ [ويجلس في المسجد، ثم ترك الجلوس في المسجد، وكان يصلي ثم ينصرف إلى منزله، وترك حضور الجنائز وكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، فلم يشهدالصلوات في المسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحدا يعزيه، ولا يقضي له حقا، وإنما كان يخلفه عن المسجد، لأنه سَلِسَ بوله، فقال عند موته: كرهت أن آتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على غير طهارة، فيكون ذلك استخفافا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكرهت أن أخبر الناس بعلتي فتكون شكوى من الله عز وجل1. ولا يرى لمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفيء شيئا2، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما كلم في ذلك فيقول: ليس كل إنسان يقدر يتكلم بعذره3.
في ثناء الناس عليه
الفصل الثالث: في ثناء الناس عليه قال الشافعي رضي الله عنه: ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صواباً من موطأ مالك بن أنس1. أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج في التفسير، وهو عبد الملك بن عبد العزيز2، ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني إمام أهل اليمن، أصله بصري يكنى أبا عروة، ثم موطأ مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة يكنى أبا عبد الله صنف في الفقه والسنة وبوَّب. قال الشافعي: ليس في الأرض كتاب بعد القرآن أصح من موطأ مالك3. وقرأه عليه الشافعي حفظا، وصار الموطأ لتواطؤ أهل الحرمين على صحته، ثم تصنيف السفيانين ابن عيينة بمكة والثوري بالكوفة، ثم صنف بعد ذلك صاحبا مالك بن أنس، عبد الله بن المبارك بالمشرق، وعبد الله بن وهب بالمغرب، فأكثرا وأحسنا.
قيل: لما حج الرشيد دخل المدينة فقيل له] /117ب [: قد صنف مالك بن أنس كتابا في الشرائع والآثار، فأنفذ إليه يستحضره الكتاب، فقال مالك: هذا كتاب قد جمعت فيه السنن والآثار ثم يسومني حمله إليه، لا فعلت ذلك. فقيل له: إنه جبار ولا نأمنه عليك. قال: فإذا أذل نفسي ولا أذل علمي، فقام إليه، فقال: يا أمير المؤمنين حدثني نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العلم يؤتى ولا يأتي" 1، ونزل عليه جبريل وعنده ابن أم مكتوم، بقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 2فرأى الكآبة في ابن أم مكتوم، وعرج ثم هبط في أسرع من طرفة عين بقوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَر} ِ3فهذا جبريل قطع هذه المسافة لهذا الحرف، وأنت تسومني أن أحمل كتابا جمعت فيه سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم والآثار؟! فقال: لا يا أبا عبد الله، بل نأتيك في بيتك فنسمعه منك. وأمر أن تسرج الدواب فقال: يا أمير المؤمنين حدثني نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع"4
أفتؤثر ظهور الدواب على أجنحة الملائكة؟! فقال: لا يا أبا عبد الله بل نمشي معك مشيا، وقام فسايره إلى داره، وجلس على السرير، وقال: هات يا أبا عبد الله. فقال: يا أمير المؤمنين حدثني نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العالم إذا اختص بعلمه الخاص دون العام، لم ينتفع بعلمه الخاص ولا العام"1 فتأذن بإقامة النداء بحضور الناس لسماعه معك، فأمر بإقامة النداء من أحب أن يستمع كتاب مالك ابن أنس مع أمير المؤمنين فليحضر، فلما حضر الناس قال: هات يا أبا عبد الله. فقال: يا أمير المؤمنين حدثني نافع عن ابن عمر أن رسول الله /118] أ [صلى الله عليه وسلم قال: "من تواضع للعلم رفعه الله" 2وإني أشتهي أن تستوي مع الناس. فنزل عن السرير واستوى معهم ثم قرأ الكتاب عليهم، فلما فرغ قال: إني أعلق هذا الكتاب على أستار الكعبة، وأنادي من حاد عنه جلدته جلد المفتري. فقال: يا أمير المؤمنين إني قد قلت فيه برأيي واجتهدت، ولا أبريء نفسي من الخطأ والغلط، فدع الناس واجتهادهم. فقال: بماذا سميته؟ قال: بل
أنت أولى به. فقال: أسميه بفعل أمير المؤمنين وتوطيته للخلق، هو كتاب الموطأ توطأت فيه للعلم والرعايا1. جاء رجل إلى المزني فسأله عن شيء من الكلام فقال: إني أكره هذا، بل أنهى عنه كما نهى عنه الشافعي، لقد سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: سئل مالك عن الكلام والتوحيد فقال مالك: محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علَّم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد، التوحيد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" 2، فما عُصم به المال والدم حقيقة التوحيد"3. قال أبو المعافي بن أبي رافع المزني رحمه الله: ألا إن فقد الحلم في فقد مالك ... ولا زال فينا صالح الحال مالك يقيم طريق الحق والحق واضح ... ويهدي كما تهدي النجوم الشوابك فلولاه ما قامت حقوق كثيرة ... ولولاه لانسدت علينا المسالك عشونا إليه نبتغي فضل رأيه ... وقد لزم الغي اللجوج المماحك فجاء برأي مثله يقتدي به ... كنظم جمان زينتها السبائك4
وكتب إلي الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي على يد والدي رحمه الله من بغداد /118] ب [لنفسه: إذا قيل من نجم الحديث وأهله ... أشار ذوو الألباب يعنون مالكا إليه تناهى علم دين محمد ... فوطأ فيه للرواة المسالكا ونظم بالتصنيف أشتات نثره ... وأوضح ما قد كان لولاه حالكا ووقت درس العلم شرقا ومغربا ... تقدم في تلك المسالك سالكا وقد جاء في الآثار من ذلك شاهد ... على أنه في العلم خص بذلكا فمن كان ذا طعن على علم مالك ... ولم يقتبس من نوره كان هالكاً وأنشد أبو الحسن عمران بن موسى المغربي الطولقي لنفسه من قصيدة: حتى إذا ختموا منها بعالمها ... أضاء للعلم نجم غير منكدر بمالك وضحت سبل العلوم لنا ... فلاح غامضها كالشمس للبصر هو الإمام الذي اخترت مذهبه ... وما تخيرته إلا على خبر ذكر محنة مالك رضي الله عنه سُعي بمالك إلى جعفر بن سليمان وقالوا: إنه لا يرى أيمان بيعتكم بشيء. فغضب جعفر فدعا به وجرده فضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلع كتفه، وارتكب منه أمرا عظيما، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة، وكأنما كانت السياط حُلِياًّ حُلِّي به1.
قال ابن وهب: ضرب جعفر بن سليمان مالكَ بن أنس في طلاق المكره فلما ضرب حُلِقَ وَهُلَّ على بعير فقيل له: نادِ على نفسك. فقال: ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي، وأنا أقول طلاق المكره ليس بشيء. فبلغ جعفر بن سليمان أنه ينادي على نفسه بذلك فقال: أدركوه، اتركوه1.
في ذكر أصحابه
الفصل الرابع: في ذكر أصحابه /119] أ [ أما أصحاب مالك ففيهم كثرة، لكنني أقتصر على ذكر أربعة: منهم: المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي1، مات بعد مالك بسبع سنين، يكنى أبا هاشم. ومحمد بن إبراهيم بن دينار2، كانت الفتيا تدور بعد مالك - أي بالمدينة -[على] محمد بن دينار، توفي في سنة اثنتين وثمانين ومائة بعد مالك بثلاث سنين. قال الشافعي: ما رأت في فتيان مالك أفقه من محمد بن دينار. وعبد العزيز بن أبي حازم3 كان مفتي أهل المدينة وفقهائهم. وأبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي4، تفقه بمالك وعبد العزيز بن أبي حازم وابن دينار والمغيرة والليث بن سعد، وصنف الموطأ الكبير، والموطأ الصغير، وكان مالك يكتب فيه إلى أبي محمد المفتي.
وقال مالك: عبد الله بن وهب إمام، وصحبه عشرين سنة، وكان أسن من ابن القاسم بثلاث سنين، وعاش بعده خمس سنين. والذي جلس في حلقة مالك بعد وفاته عثمان بن عيسى بن كنانة1، وكان مالك يحضره لمناظرة أبي يوسف عند الرشيد، توفي بعد مالك بسنتين. وقيل: بثلاث.
فصل في ذكر محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه
فصل في ذكر محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه مدخل ... فصل في ذكر محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه الشافعي، صدر الصدور، وبدر البدور، والماء المعين والدر الثمين، والحق اليقين، الذي جاء به الروح الأمين1، والغيث والجود والبحر والطود2، هو سيد السادة المعروف في قريش بالسيادة، وله بين الأشراف صدر الوسادة، كلامه شفاء الأسقام ودواء الآلام، وتصانيفه درر مرصوعة، وسرر مرفوعة، وأكواب موضوعة /119] ب [وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، جمع أشتات الفضائل ونظم أفراد المناقب، وبلغ في الدين والعلم أعلى المراتب، إن ذكر التفسير فهو إمامه، أو الفقه ففي يديه زمامه، أو الحديث فله نقضه وإبرامه، أو الأصول فله فيها الفصوص والفصول، أو الأدب وما يتعاطاه من العربية العرب فهو مبديه ومعيده، ومعطيه ومفيده، وجهه للصباحة، ويده للسماحة، ورأيه للرجاحة، ولسانه للفصاحة، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، والمصباح الزاهر في الظلمة، في التفسير ابن عباس، وفي الحديث ابن عمر، وفي الفقه معاذ، وفي القضاء علي، وفي الفرائض زيد، وفي القرآة أبي، وفي الشعر حسان، وفي كلامه
بين الحق والباطل فرقان. زادت مناقبه على المدح التي ... ارتادها بعد الفصاحة والحجى إن قلت أمدحه وأذكر فضله ... قال المديح قصرت عن فلك الدجى شجرته في النسب مُطَّلَبية الطلع، مَنَافية الأصل والفرع، قرشية الخيم1 والطبع، بسقت في قراره المجد والعلا، أصلها ثابت وفرعها في السما، فهو الإمام الزكي والهمام الرضي والسيد الألمعي، أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، قد أوتي رجاحة وحلما وفصاحة وحكما ودارية وفهما، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "يملأ عالم قريش الأرض علماً"2 ولله درُّه ما أغزر بحره، وأعجب سحره، وأضوأ بدره وأتم قدره، وما أنا فيما أثني عليه وأوجه من المدح إليه إلا كنسيم سرى على ريحان، وخيطٍ مُدَّ وسط در ومرجان.
في نسبه وسنه وحليته ووقاره
في نسبه وسنه وحليته ووقاره ... الفصل الأول: في نسبه /120] أ [وسنه وحليته ووقاره هو1 أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع ابن السائب بن عبيد الله بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لوئ بن غالب بن فهر بن مالك ابن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهَمَيْسَع بن يشخب بن بيت بن سلامان بن حمل بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن [صلى الله عليهما وسلم] . قال أبو عبد الله الزبير بن بكار في كتاب نسب قريش2 عن بعض أهل العلم، قال: هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل بنو عبد مناف، فهاشم والمطلب يد وهما البدران، وعبد شمس ونوفل يد وهما الأبهران، وكانت العرب تسمي هاشما والمطلب وعبد شمس ونوفلا أقداح النضار، فإن دهمهم غيرهم اجتمعوا فصاروا يدا واحدة. فمات هاشم بغزة من الشام، وهلك المطلب بردمان3 من اليمن،
وكان المطلب أكبر ولد عبد مناف وكان يسمى الفيض، وهلك عبد شمس بمكة فقبر بالحجون، وكان [نوفل] 1 أكبر من هاشم، ومات نوفل بسلمان2 من طريق العراق، وكان أصغر ولد عبد مناف - قال: فولد هاشم بن عبد مناف عبد المطلب وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدعى شيبة الحمد، وهو أول من سن دية النفس مائة من الإبل فجرت في قريش، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وله يقول حذافة بن غانم /120] ب [: وشيبة الحمد الذي كان وجهه ... يضيء ظلام الليل كالقمر البدر كهولهم خير الكهول ونسلهم ... كنسل الملوك لا تبور ولا تحري أساقي الحجيج تم للخير هاشم ... وعبد مناف ذلك السيد الفهر ملوك وأبناء الملوك وسادة ... تفلق عنهم بيضة الطائر الصقر متى تلق منهم جارحا في شبابه ... تجده على إجراء والده يجري هم ملكوا البطحاء مجدا وسؤددا ... وهم نكلوا عنها غواة بني بكر وهم يغفرون الذنب ينقم مثله ... وهم تركوا رأي السفاهة والهجر وولد عبد المطلب عبد الله، وولد عبد الله القمر الزاهر والنجم الباهر النبي المصطفى والرسول المجتبى أبا القاسم محمدا سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
وولد عبد شمس حبيب بن عبد شمس، وهو أكبر ولده وبه كان يكنى، وولد غيره جماعة من الأولاد. وولد نوفل بن عبد مناف عديا، وهو أكبر ولده، وولد عشرة من الأولاد. وأما عمرو فلا عقب له. وأما المطلب بن عبد مناف فولد عشرة، وولد المطلب جماعة من الأولاد منهم: هاشم بن عبد المطلب، وولد هاشم عبد يزيد بن هاشم، وولد عبد يزيد بن هاشم عبيدا، وولد عبيد السائب، أسر يوم بدر، وكان السائب1 يُشَبَّه بالنبي صلى الله عليه وسلم. كذا ذكره ابن بكار2. قال القاضي أبو الطيب3: [شافع بن] 4 السائب الذي ينسب إليه الشافعي - قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهم مترعرع، [وأسلم أبو السائب يوم بدر] 5، فقيل له: لمَ لمْ تسلم /121] أ [قبل أن تفتدى؟ فقال: ما كنت أحرِّم المؤمنين طمعًا لهم فِيَّ6.
وقد ولد الشافعي الهاشمان؛ هاشم بن أبي طالب وهاشم بن عبد المطلب. وأمه أزدية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الأزد جرثومة العرب"1 ولد الشافعي رضي الله عنه محمد بن إدريس الإمام بغزة، قرية من قرى الشام، قريبة من بيت المقدس، وقيل: باليمن، وقيل بعسقلان2. ونقل إلى مكة بعد سنتين ونشأ بها وكتب العلم بها وبمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، دخل بغداد وأقام بها سنتين، وصنف الكتب القديمة، ثم عاد إلى مكة وأقام بها مدة، ثم دخل بغداد وأقام بها أشهرا. قال الزعفراني: قدم علينا الشافعي بغداد سنة خمس وتسعين ومائة، فأقام عندنا سنتين، ثم خرج إلى مكة، ثم قدم علينا سنة ثمان وتسعين ومائة، فأقام عندنا أشهرا ثم خرج، وكان يخضب بالحناء، وكان خفيف العارضين رضي الله عنه، ولم يصنف في الدخول الثاني شيئا، ثم خرج إلى مصر
وصنف الكتب الجديدة هناك، وأقام بها إلى أن مات1. ولد سنة خمسين ومائة، ومات في آخر يوم من رجب وهو يوم الجمعة قبل الصلاة، ودفن في ذلك اليوم بعد العصر سنة أربع ومائتين، وله أربع وخمسون سنة2. قال ابن عبد الحكم: لما أن حملت أم الشافعي به رأت كأن المشتري خرج من فرجها حتى انقض بمصر، ثم وقع في كل بلد منه شظية، فتأول أصحاب الرؤيا أنه يخرج عالم يخص علمه أهل مصر، ثم يتفرق في سائر /121] ب [البلدان3.
في علمه وزهده وورعه
الفصل الثاني: في علمه وزهده وورعه توفي الشافعي في آخر رجب سنة أربع ومائتين1، وترك من الأولاد أربعة: أبا عثمان، وفاطمة وزينب من أم واحدة، وابنه أبا الحسن من جاريته المسماة دنانير2. وجعل ولاية ولده [إلى] أبي الحسن، وولاية القيام بوصاياه ودوره الموقوفة إلى أبي الحسن أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي، وعبيد الله بن إسماعيل بن مقَرِّط الصرّاف، وهما وصياه بمكة وبمَا لَهُ من تركة وولد وغيره. وأوصى بمصر في أمر ولده وإنفاذ وصيته إلى عبد الله بن عبد الحكم القرشي ويوسف، وإذا خرج إلى مكة فوصيه ووليه أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي وعبيد الله بن إسماعيل. قال محمد بن المنذر الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول لأبي عثمان بن الشافعي: إني لأحبك لثلاث خلال، لأنك رجل من قريش، وأنك ابن أبي عبد الله، وأنك من أهل السنة3.
تصانيفه: الأم، الرسالة، مختلف الحديث، المسند الأم، رسالة في إثبات النبوة والرسالة، أحكام القرآن، اختلاف العراقيين في الرد على محمد بن الحسن، قوله القديم ببغداد، قوله الجديد بمصر، خلاف علي وابن مسعود في الفرائض، اختلاف مالك والشافعي1. رواة كتبه /122] أ [: رواة كتبه القديمة: أحمد بن حنبل، وأبو علي الزعفراني، والحسين بن علي الكرابيسي، [وأبو ثور إبراهيم2 بن خالد] . ورواة كتبه الجديدة: المزني، وأبو يعقوب البويطي، والربيع المرادي صاحب الأم، والربيع الجيربي، وسمع هو من مالك بن أنس، وإبراهيم بن سعد، وسفيان بن عيينة، وداود بن عبد الرحمن، وعبد العزيز الدراوردي، ومسلم بن خالد الزنجي، وأحمد بن محمد بن حنبل الشيباني في آخرين. قال المزني: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النوم فسلم علي وصافحني وخلع خاتمه فجعله في أصبعي، وكان لي عم ففسرها لي فقال: أما مصافحتك لعلي أمان من العذاب، وأما خلع
خاتمه في أصبعك فسيبلغ اسمك ما بلغ اسم علي في الشرق والغرب1. قال الشافعي رضي الله عنه: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين2. وكان يختم في كل ليلة ختمة، فإذا كان شهر رمضان ختم في كل ليلة منها ختمة، وفي كل يوم ختمة، وكان يختم في شهر رمضان ستين ختمة، وفي كل يوم ختمة3. قال الشافعي: فارقت مكة وأنا ابن أربع عشرة سنة، لا نبات بعارضي من الأبطح إلى ذي طوى /122] ب [فرأيت ركبا فحملني شيخ منهم إلى المدينة، فختمت من مكة إلى المدينة ست عشرة ختمة، ودخلت المدينة يوم الثامن بعد صلاة العصر، فصليت العصر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولذت1 بقبره، فرأيت مالك بن أنس رحمه الله متزرا ببردة متشحا بأخرى، يقول: حدثني نافع عن ابن عمر عن صاحب هذا القبر - يضرب بيده قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلما رأيت ذلك هبته الهيبة العظيمة2. قال الشافعي: وقدمت على مالك وقد حفظت الموطأ فقال لي: احضر من يقرأ لك. فقلت: أنا قارئ، فقرأت الموطأ حفظا، فقال: إن يك أحد يفلح فهذا الغلام. قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول في قوله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوع} الآية3، فقال: معناه - والله أعلم - الخوف: خوف العدو، والجوع: جوع شهر رمضان، ونقص من الأموال: الزكوات، ومن الأنفس: الأمراض، والثمرات: قيل: موت الأولاد، وبشر الصابرين: على أدائها4.
قال يونس بن عبد الأعلى1: قال لي محمد بن إدريس في قوله عز وجل: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} 2 قال: هي منسوخة بالفرائض، كانت المرأة تقيم سنة ينفق [عليها] 3، فإن خرجت قبل السنة لم يكن لها نفقة /123] أ 4 [. قال الشافعي: ما نسخ من القرآن فهو على ثلاثة أوجه: منه ما نسخ حكمه ونسخ رسمه، ومنه: ما نسخ حكمه وثبت رسمه، ومنه: ما نسخ رسمه وثبت حكمه. فأما الذي نسخ رسمه وثبت حكمه مثل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة} ، ولولا أن يقول الناس زاد عمر في القرآن لجعلتها بين الدفتين5. وأما الذي نسخ حكمه وثبت رسمه فمثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} 6 فكان الحكم في هذه الآية إذا توفي الرجل وترك إمرأته وجب
عليه أن يوصي لها بنفقة سنة، ولا تحل للأزواج حتى تنقضي سنتها فنسختها آية العدة، {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} 1 الآية، فحلت للأزواج في مضي أربعة أشهر وعشر، ونسخ الوصية لها آية الميراث: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} الآية2. وأما الذي نسخ رسمه، ونسخ حكمه فمثل ما روى الزهري عن أبي أمامة بن سهل عن رجل أنه قام من الليل يستفتح سورة كان قد حفظها، فلم يذكر منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"نعم تلك سورة قد نسخت البارحة من صدور الرجال /123] ب [ومن كل شيء كانت فيه"3. وقال الشافعي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء} َ4 هو خاص يراد به العام، ومثله قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} 5 فمن فعل ذلك فقد أتى الاختيار، ومن تركه ما كان إثما ولم يحرم عليه ذلك
ما ملك، ولا أبطل عليه الطلاق لمخالفة الأمر، فإن ابن عمر ذكر أنه اعتد بما مضى من طلاقه في الحيض1. قال يونس بن عبد الأعلى: ما كان الشافعي يأخذ في شيء إلا ويقول: هذه صناعته، وإذا أخذ في أيام العرب يقول: هذه صناعته2. وعن حرملة قال: قال الشافعي: ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم معرفة لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس3،4. قال محمد بن مسلم بن وارة الرازي: قدمت من مصر فدخلت على أحمد بن حنبل - رحمه الله- فقال لي: من أين جئت؟ قلت: من مصر، قال: أكتبت كتب الشافعي؟ قلت: لا. قال: ولم؟ ما عرفنا ناسخ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخها، ولا خاصها من عامها، ولا مجملها من مفسرها حتى جالسنا الشافعي - رحمه الله-.
قال ابن وراة: فحملني ذلك أن رجعت إلى مصر فكتبتها1. وعن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي - رحمه الله- يقول: لو كان الكفاءة في النسب لم يكن أحد من خلق الله كفوا لبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد زوَّج صلى الله عليه وسلم ابنته أبا العاص بن الربيع2. قال الشافعي: أصحاب الحديث وفد الله. وعن حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعي] 124/أ [يقول: سميت ببغداد ناصر الحديث3. وعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: كنت عند مالك بن أنس وهناك سفيان بن عيينة ومسلم بن خالد الزنجي، إذ أقبل رجلان أحدهما متعلق بصاحبه، فقال لمالك: يا أبا عبد الله أنا رجل أبيع القماري، وإني بعت من هذا الرجل اليوم قمريا، وحلفت له بالطلاق الثلاث أنه لا يهدأ من الصياح، فوزن لي ثمنه وقبضته وانصرف، فلما كان بعد ساعة أتاني فقال: زعمت أنه لا يهدأ من الصياح وقد سكت وهدأ، فرد علي دراهمي، وقد حنثت في يمينك، فقال مالك: هو كما يقول: قال: نعم. قال: بانت امرأتك، ووجب عليك رد الدراهم. فقاما من عند مالك فقال الشافعي: ما قال لكما مالك؟ فأخبراه
بالمسئلة وبفتيا مالك، فقال الشافعي للبائع: ما أردت بقولك: إنه لا يهدأ على مر الزمان أو أردت أن كلامه أكثر من سكوته؟ فقال: يا أبا عبد الله قد علمت أنه ينام ويأكل ويشرب، وإنما أردت أن كلامه أكثر من سكوته. فقال الشافعي: لا رد عليك، أمسك عليك امرأتك. فرجعا إلى مالك فقالا له: إن رأيت أن تنظر في مسئلتنا. فقال مالك: إن كان السؤال ما سألتما فإن الجواب عنه ما سمعتما. قالا: فإن الشافعي زعم أنه لا شيء عليه. فدعاه مالك وصاح عليه وقال: من أين قلت؟ فقال: حديث فاطمة بنت قيس لما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم بن حذيفة يخطبانني فأيهما أحب إليك؟ فقال: "إن معاوية] 124/ب [صعلوك لا مال له، وإن أبا جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه في أهله"1، وكان أبو جهم ينام ويستريح، فإنما خرج كلامه صلى الله عليه وسلم على الأغلب من الشيء، كان الشيء إذا كثر كان كمداومته. قال فأعجب ذلك مالكا، وبقي متحيرا، فقال له مسلم بن خالد: أفت والله، فقد آن لك أن تفتي. وهو ابن خمس عشرة سنة2. وعن حرملة قال: سئل الشافعي عن رجل وضع تمرة في فيه، فقال لامرأته: إن أكلتها فأنت طالق، وإن طرحتها فأنت طالق؟ فقال الشافعي: يأكل نصفها ويطرح نصفها3.
وقال بعض الخلفاء للشافعي: لأي عِلَّةٍ خلق الله الذباب؟ فأطرق ثم قال: مذلة للمملوك يا أمير المؤمنين، لقد سألتني وما عندي جواب، فأخذني من ذلك الزمع1، فلما رأيت الذبابة قد سقطت منك بموضع لا يناله من معه عشرة الآف سيف وعشرة الآف رمح انفتح لي منها الجواب. قال الشافعي رحمه الله: العلوم ثلاثة: علم الأبدان، وعلم الأديان، وعلم الديوان، فأما علم الأبدان فالطب، وأما علم الأديان فالفقه، وأما علم الديوان فالحساب2. قال الشافعي: العجب ممن يتعشى ببيض وينام كيف يعيش؟! ومن يخرج من الحمام ثم لا يأكل كيف يعيش؟! وممن يحتجم ثم يأكل كيف يعيش /125] أ [؟! 3. وكان الشافعي جالسا مع الحميدي ومحمد بن حسن، يتفرسون الناس فمر رجل فقال محمد بن الحسن: يا أبا عبد الله انظر في هذا. فنظر إليه وأطال فقال ابن الحسن: أعياك أمره؟ قال: أعياني أمره، لا أدري خياط أو نجار. قال الحميدي: فقمت إليه فقلت له: ما صناعة الرجل؟ قال: كنت نجارا وأنا اليوم خياط4.
وأيضا قال الشافعي: الوراق يأكل من دية عينيه1. وقال أيضا الشافعي: لو يعلم الناس ما في الكلام لفروا منه كما يُفر من الأسد2. وقيل للشافعي: قد أوتيت لسانا وبيانا فلم لا تناظر أهل الكلام؟ قال: لأني إذا ناظرت في الفقه فأكثر ما يقال لي أخطأت، وكذلك أقول لهم أخطأت، وفي الكلام يقال لي: كفرت3. قال عبد الله بن عبد الرحمن الزجاج: رأيت الشافعي بنصيبين قبل
أن يدخل مصر، فلم أره آكلا بنهار ولا نائما بليل1. قال يونس بن عبد الأعلى: كان الشافعي إذا أخذ في التفسير كأنه شهد التنزيل2. قال الشافعي: المراء في العلم يقسي القلب، ويورث الضغائن3. وقال: الغربة ذلة، فإن تبعتها قلة، وردفتها علة، فيا لها من نفس مضمحلة. وللشافعي - رحمه الله -: أريد من الإخوان كل مواتي ... وكل غَضِيض الطرف من عثراتي يساعدني في كل أمر أريده ... ويحفظ
وقال الشافعي: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نَبُلَ مقداره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن نظر في اللغة رقَّ طبعه، ومن لم يصُنْ نفسه لم ينفعه علمه1. وقال الشافعي في ذم الكلام: لم يبرح الناس حتى أحدثوا بدعاً ... في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل حتى استخف بدين الله أكثرهم ... وفي الذي حُمِّلوا من حقه شُغُل2 قال علي بن سهل: لما قرأ الرشيد كتاب الولاية للأمين والمأمون بمكة سكت الناس، فقام شاب فقال: يا أمير المؤمنين: لا قصَّرا عنها ولا بَلَغَتْهما ... حتى يطول بها لديك طوالها فبكى هارون الرشيد وأبكى الناس وقال: من هذا الفتى؟ فقالوا: هذا فتىً يقال له محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله- 3. قال الشافعي: لما رجعت إلى مكة وقد شاطرني مالك جميع ماله وصلحت حالي بهدايا جاءتني من دق خراسان وقباطي4 مصر، خرجت العجوز - يعني أمه - فضمتني إلى صدرها فلما هممت بالدخول فقالت لي العجوز: أين] 126/أ [
عزمت؟ فقلت: إلى المنزل. فقالت لي: يا سبحان الله تخرج من مكة بالأمس فقيراً لا مال لك، وتعود إليها مثرياً تفتخر على بني عمك بذلك. فقلت: فما أصنع؟ قالت: تضرب فارتك1 هذه بالأبطح، وناد في العرب تشبع الجائع وتحمل المنقطع وتكسو العاري، وتربح ثناء الدنيا وثواب الآخرة. ففعلت ما أمرتني العجوز، وسار بذلك الرجال على آباط الإبل، وبلغ ذلك مالكاً فأرسل إلي يستحثّني على ذلك الفعل، ويعدني أنه يحمل إلي في كل عام مثله، وما دخلت مكة إلا ومعي بغلة وخمسون ديناراً، فوقعت المقرعة من يدي فناولتني إياها أمة على كتفها قربة فدفعته إليها فما بِتُّ تلك الليلة إلا مديناً، وأقام مالك يحمل إلي كل عام مثل ما كان دفع، فلما مات مالك ضاق بي الحجاز وخرجت إلى مصر، فعوضني الله تعالى عبد الله بن عبد الحكم فأقام بالكفاية2. وقال الشافعي: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم هو المسمّى أو غير المسمّى فاشهد بأنه من أهل الكلام ولا دين له3. قال الزعفراني: قال الشافعي: حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف عليهم في العشائر والقبائل، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة4.
وقال الشافعي: لأن يلقى اللهَ عز وجل العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام1. وتكلم الشافعي رضي الله عنه بمكة في] 126/ب [قوله صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك عقيل لنا من دار"2 وكان إسحاق بن راهويه حاضراً فقال إسحاق: ثنا يزيد عن الحسن وأنبا أبو نعيم وعبده عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنهما لم يكونا يريانه، وعطاء وطاووس لم يكونا يريانه. فقال الشافعي لبعض من عرفه: من هذا؟ قال: هذا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ابن راهويه الخراساني. فقال الشافعي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم، ما أحوجني أن يكون غيرك في [موضعك] 3 فكنت آمر بعرك أذنيه، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول قال عطاء وطاووس، وهل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؟! 4.
قال الشافعي: إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث فكأني رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزاهم الله خيراً فهم حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا فضل1. وقال الشافعي: العشرة2 أشكال3 لهم أن يغيّر بعضهم على بعض، والمهاجرون الأولون والأنصار أشكال لهم أن يغيّر بعضهم على بعضٍ، فإذا ذهب أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم فحرام على تابعٍ إلاّ اتّباعٌ بإحسان حذواً بحذو4. سئل الشافعي عن صفات الله تعالى؟ فقال: لله تعالى أسماءٌ وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة أن القرآن نزل به وصح عنده بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه العدل، وجب عليه القبول والمعاني التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يُدرك حقيقة ذلك بالفكر والرؤية، فلا يكفر] 127/أ [بالجهل بها أحدٌ إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، فإن كان الوارد بذلك خبراً يقوم في
الفهم مقام المشاهدة في السماع وجبت الدينونة على سامعه بحقيقته والشهادة عليه، كما عاين وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم مِثل {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 1 {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه} 2 {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه} 3 {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك} 4. ومثل ما جاء في الأخبار: "حتى يضع الرب فيها قدمه"5 "وأنه يضحك من عبده المؤمن"6. ولكن نثبت هذه الصفات وننفي التشبيه كما نفى عن نفسه تعالى ذكره فقال:7 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 8.
في ثناء الناس عليه
[الفصل الثالث: في ثناء الناس عليه] 1 قال بلال الخواص: كنت في تيه بني إسرائيل فإذا رجل يماشيني فتعجبت، ثم ألهمت أنه الخضر فقلت له: بحق الحق من أنت؟ فقال: أخوك الخضر. فقلت له: أريد أن أسألك. فقال: سل. فقلت: ما تقول في الشافعي؟ فقال: هو من الأوتاد. قلت: فما تقول في أحمد بن حنبل؟ قال: رجل صدّيق. قلت: فما تقول في بشر بن الحارث؟ فقال: لم يُخْلِفْ بعده مثله. فقلت: بأي وسيلة رأيتك؟ قال: ببرك أمك2.
وقد روى أبو هريرة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسبّوا قريشاً فإن عالمها يملأ الأرضعلماً" 1 وفي رواية قال: "عالمها يملأ طبق الأرض". فأجمعت الأمة على أن هذا في الشافعي رضي الله عنه] 127/ب [فما خرج من قريش فقيه وإمام يبلغ علمه جميع البلاد والأكناف والأطراف، يمناً وحجازاً وشاماً وعراقاً والثغور وخراسان وما وراء النهر إلا الشافعي رضي الله عنه2. قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: إني لأدعو لمحمد بن إدريس في صلاتي منذ أربعين سنة، فما كان فيهم - يعني الفقهاء - أتبع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه3. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي
فإني أسمعك تكثر من الدعاء له؟ فقال لي: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما عِوض1. قال الفضيل بن زياد: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما أحد أمسك في يده محبرة وقلماً إلا وللشافعي في عنقه مِنَّة2. وقال أحمد: يروى في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله يمن على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي يَسُنُّ لهم أمر دينهم"3 وإني نظرت في مائة سنة فإذا هو رجل من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن عبد العزيز، وإني نظرت في المائة الثانية فإذا هو محمد بن إدريس الشافعي4. قال المزني: سمعت الشافعي يقول في معنى قول الله تعالى: {وَإِنْ
عُدْتُمْ عُدْنَا} 1 قال: إن عدتم إلى الذنب عُدْنا إلى المهل لتتوبوا. وللشافعي رضي الله عنه] 128/أ [: يا ناظري بالكسوة البالية ... تحت ثيابي همة عالية وإنما الناس بآدابهم ... والمال في أيديهم عارية2 سئل إسحاق بن راهويه عن وضع الشافعي هذه الكتب وإنما كان عمره قصيراً؟ فقال إسحاق - رحمه الله -: إنما عجَّل الله عز وجل عقله لقلة عمره3. قال أحمد بن حنبل: ما زالت أقفيتنا في أيدي أصحاب الرأي، حتى جاء الشافعي فانتزعها من أيديهم4. قال إسحاق بن راهويه: لقيني أحمد بن حنبل بمكة فقال: تعال حتى أريك رجلاً لم تر عيناك مثله. قال: فأقامني على الشافعي5. وعن هلال بن العلاء قال: منَّ الله عز وجل على هذه الأمة بأربعة، بالشافعي لفقهه في زمانه، وبأبي عبيد القاسم بن سلاّم6 فسّر غرائب
حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وبيحيى بن معين1 نفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة2. وعن الحسين بن محمد الكرابيسي قال: ما رأيت مجلساً أنبل من مجلس الشافعي، كان يحضره أهل الحديث وأهل الفقه والشعر، وكل يتعلم منه ويستفيد. وقال أيضاً: ما رأيت مثل الشافعي، ولا رأى الشافعي مثل نفسه3. وعن أبي ثور قال: لو لم يقدم علينا الشافعي للقيت الله ضالاً4. وعن أبي عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد المعروف بغلام ثعلب قال: سمعت ثعلباً يقول: الشافعي إمام في اللغة5. وعن أبي عبد الله نفطويه قال: مثل الشافعي في العلماء مثل البدر في نجوم السماء6. وعن الربيع قال: كان الشافعي يناظر الناس على قدر أفهامهم، ولو ناظرهم على فهمه ما فهموا] 128/ب [عنه7.
وعن البويطي قال: سمعت الشافعي يقول: لَوَدَدْت أنه يعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعد من أهل العلم1. وعن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي - وحضر ميتاً فلما سجَّينا عليه نظر إليه - فقال: اللهم بغناك عنه وفقره إليك اغفر له2. قال إسحاق بن راهَويْه: الشافعي إمام3. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلاً قط أعقل وأكمل من الشافعي4. قال الحسن بن علي القراطيسي: كنت عند أبي ثور فجاء رجل فقال: أصلحك الله، فلان يقول قولاً عظيماً. قال: وما سمعته يقول؟ قال سمعته يقول: الشافعي أفقه من الثوري. قال: هو عندي أفقه من الثوري ومن النخعي. قال يونس بن عبد الأعلى: رأيت الشافعي عند عبد الله بن وهب فلما قام قال لي ابن وهب: ما رأيت رجلاً أيقظ ولا أفهم برد الجواب ولا أعظم مروءة من هذا - يعني الشافعي-. وقد لقي ابن وهب مالكاً والليث وابن أبي ذئب والماجشون وغيرهم.
وكان الحميدي إذا جرى عنده ذكر الشافعي قال1: حدثنا سيد الفقهاء2. قال: وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: ما رأت عيني قط مثل الشافعي3. قال الحسين بن علي الكرابيسي4: بِتُّ مع الشافعي ثمانين ليلة كان يصلي نحو ثلث الليل، لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوّذ بالله منها، وسأل النجاة لنفسه ولجميع المسلمين، وكأن جُمع له الرجاء والرهبة5. قال أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي] 129/أ [- وكان رجلاً ورعاً عفيفاً صائناً- رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله أكتب رأي أبي حنيفة؟ قال: لا. قلت: يا رسول الله أكتبُ رأي مالك؟ قال: لا تكتب من رأي مالك إلا ما وافق حديثي. قلت: أكتب رأي الشافعي؟
فرفع رأسه وانتهرني وهو غضبان وقال: لا تقل رأي الشافعي فإنه ليس برأي، ولكنه ردَّ من خالف سنتي1. قال أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري صاحب التصانيف الكثيرة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ببغداد في المحرم سنة ست وتسعين وثلثمائة فقلت: يا رسول الله ما تقول في صحيح البخاري؟ قال: كله صحيح أو جيد لو أدخل الشافعي فيه2.
في ذكر أصحابه
الفصل الرابع: في ذكر أصحابه فمن أصحابه المكيين عبد الله ابن الزبير الحميدي القرشي المكي الإمام، مات بمكة سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين1. ومن أصحابه بالعراق: الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه. وفي أصحابه المكيين والعراقيين والمصريين كثرة، فأما المشاهير بالرواية، فأبو إبراهيم المزني إسماعيل بن يحيى2، وأبو يعقوب
البويطي1، والربيع بن سليمان المرادي2 والربيع بن سليمان الجيزي3. قال الشافعي: لسان أبي يعقوب كلساني، وأما الربيع فإنه يؤدي كما سمع، وأما المزني فإنه يغلب الجن] 129/ب [بالفقه4. وعن الربيع قال: كنا مع الشافعي فأقبل المزني فقال: قد جاءكم من لو ناظر الشيطان لقطعه، فالتفت فإذا المزني5. وعن عصام الرازي قال: سمعت المزني يقول: إذا قال الرجل والله لا أضرب اليوم أحداً، فضرب نفسه لا يحنث لأنه إنما أراد غيره من الناس. قال: وهذا يدخل في اللغة على القدرية في قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 6 والله خالق الأشياء كلها أعمال العباد وغيرها، ولم يعن نفسه إنما أراد سواه.
وقال رجل للمزني: يا أبا إبراهيم إن فلاناً يبغضك. قال: ليس في قُرْبه أُنْسٌ ولا في بُعْدِه وَحْشه1. قال أبو الحسن الحذاء المصري: رأيت فيما يرى النائم المزني فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: ما نفعنا تلك المناظرات، لولا الصوم والصلاة لكنا من الهالكين. وعن الفريابي قال: كنا نتناظر بين يدي المزني، وكان يستمع إلى المناظرة حتى نتوهم أنه لا يعرف في الفقه شيئاً، ثم يتكلم بعد ما حفظ على المتناظرين. وعن أبي سعيد محمد بن عقيل قال: قلت للمزني ما تقول في قول الله عز وجل: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 2 فلم يقبل منه الإيمان، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمِّه أبي طالب حيث عرض عليه الإيمان فقال: "يا عم إن] 130/أ [آمنت أشهد لك عند الله"3. وهذا في الموت، وفرعون في الموت ما الفرق بينهما؟ قال: فقال المزني: كان فرعون خرج من مفاخرة الدنيا ويئس من الحياة فلم يقبل منه الإيمان، وأبو طالب بعد في مفاخرة الدنيا ولَمْ ييئسْ من الحياة فيقبل منه الإيمان.
وكان إذا فاتته صلاة في جماعة قضى خمسا وعشرين صلاةً1 ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الواحد بخمس وعشرين درجة"2.
فصل في ذكر أحمد بن حنبل رضي الله عنه
فصل في ذكر أحمد بن حنبل رضي الله عنه مدخل ... فصل في ذكر أحمد بن محمد بن حنبل - رضي الله عنه - أحمد بن محمد بن حنبل هو شيخ الأئمة ومزكي الأمة، وأوحد الملة رفيع القدر والهمة، صيرفي الأخبار وقدوة العلماء في معرفة الآثار، إليه في فنونها الرَّد والقبول، وله في عيونها الغُرر والحجُول، إمام الأنام مفتي الأمة في الحلال والحرام، في علم الحديث بحر زخار، وفي علم الفقه سماء مدرار، وفي الزهد والتقوى الحسن البصري، وفي الرقائق والدقائق ذو النون المصري1، وفي الورع سفيان الثوري، مالك أزمة العلوم في عصره، القائم بإحياء الدين ونصره، عزَّ بمكانه التقى، وتحصَّن في جنابه الهدى، واعتدل ميْل الإسلام برأيه، وانهزم خيل الباطل من حججه وآيه، أقوى من ضرب في عصره عن بيضة الدين بالحسام المرهف، وأعلم] 130/ب [من تمكّن في وقته في شاهق الملة الحنيفية من الشعب الأشرف، مشاهده في الذب عن حريم السنة مشهورة، ومآثره في جمع الحديث مأثورة، وآية صبره في نصره السنة على جبينها مسطورة، تفسيره للقرآن در منظوم، ومسنده للحديث روض مرهوم2، وسائر تصانيفه في أنواع العلوم وشيٌ مرقوم،
مسائله في الفقه جنة عالية، قطوفها دانية، ورَدُّه على الزنادقة دعوى التناقض على القرآن روضة زاهرة زاهية، ومقاماته في تمهيد قواعد السنة ظاهرة بادية، أبقى لنفسه بذلك ذكراً سائراً وشرفاً شاهراً، سحب بمكانه أذيال الفخر على السحائب، وجاز به أعلى المراتب والمناصب، رضيت حكمته الحكماء واختص بثمرة قوله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1، سار فضله في البدو والحضر مسير الشمس والقمر، شجرته في النسب خليلية الأصول والأغصان، إسماعيلية الفروع والقضبان، ربيعية الأوراق والأفنان، شيبانية الأعراق والقنوان، دهلية الأخلاق في جميع الشأن، فهو إمام الأئمة للإسلام بمدينة السلام، عليه أفضل التحية والسلام. وختمي بالسلام على إمام ... بنى في قمة العلياء بيتاً وإني كلما أَمَّمْت قصداً ... نجيحاً صُغت في معناه بيتاً] 131/أ [
في نسبه وحليته ومولده ووفاته رضي الله عنه
الفصل الأول: في نسبه وحليته ومولده ووفاته - رضي الله عنه - هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حَيَّان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن [شيبان بن ذهل] 1 بن ثعلبة بن عُكابة بن [صعب] 2 بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هِنْب بن [أفصى] 3 بن دُعْمِيِّ بن جديله بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بن أدِّ بن أُددَ بن الهُمَيْسَع بن حمل بن النبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام -. يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزار بن معد، ولد نزار مضرَ وإياداً وربيعةً وانماراً. قال: وكان يقال: مضر وربيعة الصريحان. ويروى عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا مضر
وربيعة، فإنهما كانا مسلمين، ولا تسبوا قيسا فإنه كان مسلماً" 1. فرسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد مضر بن نزار، وإليه دفع أبوه حجابة الكعبة، وأحمد بن محمد بن حنبل - رضي الله عنه - من ولد ربيعة بن نزار على ما ذكره أصحاب التواريخ. قال الحسين بن أحمد الأسدي الطبري: أحمد بن محمد بن حنبل نسبه من بني شيبان، أصله بصري خطته بمرو2 ويُعَد في البغداديين3. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: أحمد بن محمد بن حنبل خطته بمرو ويعد في البغداديين. قال أحمد: حُمِلت من مرو، وأمي بي حامل] 131/ب [4. وقال أحمد: وُلدتُ في سنة أربع وستين ومائة في أولها في ربيع الآخر5.
وجيئ به حملاً من مرو، وتوفي أبوه محمد بن حنبل وله ثلاثون سنة، فوليته أمه وجده حنبل ابن هلال ولي سَرَخْس1. قال الأصمعي: أحمد بن محمد بن حنبل من دُهَل، وكان أبوه قائداً ومات والد أحمد ولم يره، مات وهو حمل2. قال أحمد: طلبت العلم وأنا ابن ست عشرة سنة، فخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة، فحممت فرجعت إلى أمي ثم ماتت3. وتوفي أحمد - رحمه الله - في يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين، وكان سنُّه من يوم وُلد إلى أن توفي [سبع] وسبعون سنة4. وخرج إلى سفيان بن عيينة سنة سبع وثمانين، وقد مات فضيل وهي أول سنة حجّ، وخرج سنة ثمان وسبعين إلى عبد الرزاق وجاءه موت سفيان ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي سنة ثمان وتسعين5، وحجّ خمس
حجج، منها ثلاثة راجلاً، أنفق في أحد هذه الحجج ثلاثين درهماً1. قال أحمد: سمعت أمي تقول: لما قدمنا نهروان في مجيئنا من خراسان من مرو، فإذا بأعرابي على جسر نهروان على ناقته فقال لي: يا امرأة احفظي ما في بطنك فسيكون له شأن. فلما أن قدمت بغداد وضعته] 132/أ [. وقال أحمد: وقع لي الخروج إلى خراسان فراودت نفسي بالخروج حتى دخلت همدان ليلاً، فلم أجد موضعاً آويه، وكان شتاءً والمساجد كلها مغلقة- قال: فأبصرت ضوء نار فأخذت نحوه، فإذا بأتون حمام فدخلت الأتون فإذا بأسود يوقد الأتون، فسلمت عليه فردَّ سلاماً خفياً، ولم يكلمني ولا قال لي اجلس، وما زلت واقفاً حتى جلست من غير أمره ولم يكلمني، فما زال حتى فرغ من عمله، ثم ردَّ باب الأتون وتمسَّح وأكل فلم يقل لي: كُلْ، فلما فرغ قلت: رأيت عجباً. قال: أي شيء رأيت؟ قلت: دخلت هذا المكان وأنا غريب وأنت أهلي، فلم تقل لي اقعد ولا كلّمتَني ولا سألتني. قال: يا هذا أنا رجل مملوك وليس الأتون لي فأتحكم فيه وآمر فيه، وأما الطعام فأنا رجل قد رُسمت بعمل ما وبطعام ما، فإن أطعمت الطعام غيري أخاف التقصير في العمل فيكون عليَّ من الله مطالبة. قال أحمد: فقلت هذا الذي أزعجني إلى هاهنا، فرجعت من همدان ولم يكن لي فائدة أكثر من هذا. أعقب أحمد ابنين، أبا عبد الرحمن عبدَ الله، وأبا الفضل صالحاً.
فأما صالح فهو أكبر أولاده، وكان لأحمد الحسن والحسين توأمين ماتا بالقرب من ولادتهما، والحسن ومحمد، وعاشا من السِّن نحو الأربعين. وسعيد بن أحمد ولي قضاء الكوفة1.
في علمه وورعه وزهده
الفصل الثاني: في علمه وورعه وزهده صنف أحمد في القرآن] 132/ب [التفسير1، وهو مائة ألف حديث وعشرون ألفاً، والمسند، وهو ثلاثون ألفاً، والناسخ والمنسوخ، والمقدم والمؤخر في كتاب الله تعالى، وجوابات القرآن، والتاريخ، والرد على الجهمية، وفضائل الصحابة، والمناسك الكبير والصغير، وكتاب الزهد، والرد على الزنادقة في دعواهم التناقض على القرآن، وحديث شعبة … وغير ذلك من التصانيف2. قال حرملة: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: خرجت من العراق وما خلفت بها أتقى ولا أورع ولا أفقه من أحمد بن حنبل3. وقد صنف جماعة من الأئمة مناقب أحمد، مثل: عبد الرحمن بن أبي
حاتم1، والحسين بن أحمد الطبري، وأبو يعلى بن الفرّاء، والحاكم النيسابوري، وابن منده الأصبهاني2، والخطيب أبوبكر بن ثابت البغدادي، وأبو نعيم الأصفهاني، وعبد الله بن محمد الأنصاري، وغيرهم3. وكان الشافعي يقول لأحمد: أنتم أعلم بالحديث4، فإن كان الحديث صحيحاً فاعلموني إن شاء أن يكون كوفياً أو بصرياً أو شامياً حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: زرت أحمد بن محمد بن حنبل، فلما دخلت عليه بيته قام إلي واعتنقني وأجلسني في صدر مجلسه، وجلس بين يدي فقلت: يا أبا عبد الله، أليس يقال صاحب [133/أ] البيت أو المجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم يَقْعد ويُقعد من يريد. قال: قلت في نفسي: خذ إليك يا أبا عبيد فائدة. ثم قلت: يا أبا عبد الله لو كنت آتيك على حسب ما تستحق لأتيتك كل يوم. فقال: لا تقل ذلك فإن لي إخوانا ما ألقاهم في كل سنة إلا مرة، أنا أوثق بمودتهم ممن ألقى كل يوم. قال: قلت هذه أخرى يا أبا عبيد. فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله. فقال قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن يمشى معه إلى باب الدار ويؤخذ بركابه. قال: قلت: يا أبا عبد الله، من عن الشعبي؟، قال: ابن أبي زائدة عن مجالد عن الشعبي. قال: قلت يا أبا عبيد هذه ثالثة. قال: فمشى معي إلى باب الدار وأخذ بركابي1. قال عبد الوهاب الورَّاق: ما رأيت مثل أحمد. قالوا له: وإيش الذي بان لك من فضله وعلمه؟ قال: رَجُل سُئِل ستين ألف مسئلة فأجاب فيها بأن قال حدثنا وأخبرنا2. قال أبو زرعة: حزرنا حفظ أحمد بن محمد بن حنبل بالمذاكرة، وكان يزيد على سبعمائة ألف حديث3.
قال أحمد: كُلِ الطعام مع الإخوان بالسرور، ومع الفقراء بالإيثار، ومع أبناء الدنيا بالمروءة1. قال الشافعي لأحمد: ما تقول في العائد في هبته؟ فقال: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه. فقال الشافعي: فمن أخبرك أن الكلب حُرِّم عليه العود في قيئه؟! فقال: أما علمت أن مثل السوء لغيرنا [133/ب] قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} 2. ولما ضُرب أحمد ومرض أمره الطبيب بأن تشوى له دجاجة فشويت في دار ابنه صالح فلم يأكلها وقال: إن ابني يأخذ عطاء الخليفة3.
في ثناء الناس عليه
الفصل الثالث: في ثناء الناس عليه قال الشافعي: أحمد إمام في ثمان خصال: في الحديث، والفقه، واللغة، والقرآن، والفقر1، والزهد2، والورع، والسنة3. وقال المزني: أحمد بن حنبل، أبوبكر يوم الردّة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعلي يوم صفين4. قال قتيبة بن سعيد: لولا الثوري مات الورع، ولولا أحمد بن حنبل أُحدث في الدين. فقيل له: تقيس أحمد بالثوري؟، قال: أقيس أحمد بعلية التابعين، إن أحمد قام في الأمة مقام النبوة5. قال إسحاق بن إبراهيم: أحمد بن حنبل حجة بين الله وبين عبيده في أرضه6.
قال هلال بن العلاء: ثلاثة أشياء لا بد للناس منها: فقه الشافعي، فإنه ما ترك كتاباً من الكتاب والسنة، ومحنة أحمد بن حنبل والسياط تأخذه، لولا ذلك لذهب الدين، وغريب الحديث لأبي عبيد، فإن أصحاب الحديث كانوا يكتبون الحديث ولا يدرون ما هو حتى جاء أبو عبيد ففسَّره1. سئل بشر بن الحارث عن أحمد بن حنبل؟ فقال: أنا أُسْأل عن أحمد؟! إن أحمد أُدخل الكيرَ فخرجت ذهبه حمراء2. قال حسين بن حبيب: حدثني محمد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وكان في مسجد] 134/أ [الخيف فقلت: يا رسول الله كيف بشر الحافي3 عندكم؟ قال: أنزل وسط الجنة هو وأحمد بن حنبل4. قال أبو الحسن التميمي: سمعت أبي عن جدي يقول: لما توفي أحمد بن حنبل جهدت أن أصل إلى قبره سبعة أيام فلم أقدر فلما خفَّ الناس وصلت5، وإذا عنده حلقتان فتقدمت إلى إحداهما فرأيت أبا بكر
المروزي - غلام أحمد - فقلت: شيخكم بما كان يأمركم بالعبادة أم بالمعاش؟ قال: كان يأمرنا بالعبادة. ثم تقدمت إلى الحلقة الأخرى فإذا عبد الله ابن أحمد فسألته فقال: كان يأمرنا بالعبادة والمعاش، فأعجبني اختلافهما، فرأيت فيما يرى النائم خلقاً عظيماً وجلبة فسألت عنها، فقالوا: أحمد بن حنبل يزور رب العزّة، فوصلت إليه وعلى رأسه تاج من ذهب وفي رجليه نعلان من ذهب وهو في زلال من نور، فقلت: يا شيخ كنت تنهى عن مثله؟ فقال: هذا زي أولياء الله إذا زاروا ربَّهم. فقلت: يا أبا عبد الله سألتُ المروزي: بماذا كان يأمركم شيخكم فقال: كان يأمرنا بالعبادة. فقال: صدق أبوبكر رضيت له بما رضي الله لنبيه صلى الله عليه وسلم حيث قال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقا} 1. فقلت: وسألت عبد الله فقال: كان يأمرنا بالعبادة والمعاش، فقال: صدق، رضيت له بما رضي الله لنبيه داود عليه السلام إذ قال: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْد] 134/ب [وَاعْمَلُوا صَالِحاً} 2 فأمره بهما جميعاً3. وأورد الحافظ أبو نعيم في كتاب حلية الأولياء قال: بعث أمير
المؤمنين عشرين حازراً ليحزروا كم صلّى على أحمد بن حنبل رضي الله عنه، فحزروا ألف ألف وثلاثمائة ألف سوى من كان في السفن1. قال أبو زرعة الرازي: بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس عليه حيث صلي على أحمد بن حنبل - رحمه الله -، فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة ألف، وصلى عليه محمد بن عبد الله بن طاهر2. قال الخطيب أبوبكر في تاريخ بغداد: لما صلوا على جنازة أحمد بن حنبل كان الجَمْع كثيراً، فأمر المتوكل أمير المؤمنين أن يمسح الموضع، وكانوا صلوا عليه في الصحراء، فمسحوا وقدروا أنه صلى عليه ألف ألف وستون ألفا دون من كان على السور ودون النساء والصبيان، فأسلم يوم مات أحمد بن حنبل عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس3.
وأورد الخطيب أبوبكر في تاريخ بغداد: قال علي بن المديني: أيَّد الله هذا الدين برجلين لا ثالث لهما، بأبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم الرِّدة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة1. وقال ابن عدي الحافظ: جميع الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدور على هذين الرجلين، يعني أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فما قبلاه فهو المقبول وما ردَّاه فهو المردود. جاء يحيى بن معين إلى أحمد بن حنبل] 135/أ [وهو مريض فسلَّم عليه، فلم يرد السلام، وكان أحمد قد حلف بالعهد أن لا يكلّم أحداً ممن أجاب في الفتنة حتى يلقى الله، فما زال يعتذر ويقول: حديث عمار وقال الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَان} 2 فحوَّل أحمد وجهه إلى الجانب الآخر فقال يحيى: لا تقبل عذراً، فخرجت بعده وهو جالس على الباب فقال: إيش قال أحمد بعدي؟ قلت: قال: يحتج بحديث عمار وحديث عمار: مررت بهم وهم يسبونك فنهيتهم فضربوني، وأنتم قيل لكم نريد أن نضربكم. فسمعت يحيى بن معين مُسِّر: يا أحمد غفر الله لك، فما رأيت والله تحت سماء الله أفقه في دين الله منك3.
وقد رثاه المتقدمون والمتأخرون ما حكى لي أبو طاهر الأصبهاني قال: سمعت الإمام أبا المظفر محمد بن أبي العباس الأبيوردي الأموي1 قال: رأيت عبد الله بن أحمد في المنام يقول: لم لا تقول فطال ما نصرتم السنة. فلما أصبحت قلت: سقى الأوْطَف الساري ضريح ابن حنبل ... ورفَّ به روض من الزهر أَغْيَدُ ففيه النهى والعلم والحلم والتقى ... وتحت صفيح القبر مجدٌ وسُودد أعيد به الإسلام غضاً فلم يزل ... يرفع من بنيانه ويشيد وما الردة الأولى وقد قل عربها ... عتيق وبيض الهند في الهام تغمد بأدهى من الأخرى التي شَبَّ نارها ... وقد كاد أنوار الشريعة تخمد رمى أحمد الغاوي بها فرقة الهدى ... فأطفاها شيخ الأئمة أحمد ولم يثنه عن نصرة الدين موطن ... به الدم يمريه الحسام المهنَّد وساوره أعداؤه ثم أحجموا ... فولوا شلالاً والفرائص ترعد وقوَّم در الملحدين بحجة ... يقوم لها الجهمي طوراً ويقعد
فغضبته لله أودت ببدعة ... لو انتشرت عنهم لما كان يعبد وكل حديث لم يصححه مظلم ... على ناقليه طرقه حين يُسندُ هو الربعي المحضُ ليس يعبه ... من المضريين الثناء المخلد سأهدي إليه كل يوم قصيدة ... تُلَذُّ بأفواه الرواة نشد محبَّرة سنية أموية ... تغور بها هوج المطايا وتنجد ومن كان لا يصفيه في الله وُدُّه ... ولا يتقرى هديه فهو ملحد] 136/أ [
في ذكر أصحابه
الفصل الرابع: في ذكر أصحابه في أصحابه كثرة، والمشهورون منهم: ابناه، صالح وعبد الله، وأبو بكر المروذي. - أما صالح فهو أكبر أولاده1، ولي القضاء بطرسوس، ثم ولي بعده القضاء بأصبهان، ولد سنة ثلاث ومائتين، ومات بأصبهان ودفن بقرب قبر حُمَمَة الدَّوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان سنة ست وستين ومائتين، وله ثلاث وستون سنة، وكان له أولاد: زهير وأحمد، وكان لأحمد بن صالح ولدٌ سماه محمداً وكناه بأبي جعفر، حدَّث عن عم أبيه. - عبد الله2، ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين، سمع المسند من أبيه وهو ثلاثون ألف حديث، والتفسير وهو مائة ألف حديث وعشرون ألفاً، سمع منها ثمانين ألفاً، والناسخ والمنسوخ، والتاريخ، مات سنة تسعين ومائتين وصلى عليه زهير ابن أخيه، ودفن ببغداد في مقابر باب التين. وقال: صحَّ عندي أن بها نبيًّا مدفونا3، وكان سنه يوم توفي: سبع وسبعون سنة، ويكنى أبا عبد الرحمن، حدّث عن أبيه
وعبد الأعلى بن حماد1 وكامل بن طلحة ويحيى بن كثير في خلق كثير. روى عنه أبو القاسم البغوي وعبد الله بن إسحاق المدائني ومحمد بن خلف في آخرين. - أبو بكر المَرُّوذِي2 - رحمه الله -، أحمد بن محمد بن الحجاج، أبوبكر المروذي كان] 136/ب [فاضلاً ورعاً، وهو الذي غسَّل أحمد بن حنبل، وروى عنه مسائل كثيرة3. قال الخلال: خرج المروذي إلى الغزو، فشيَّعه الناس إلى سامرا، فجعل يردّهم فلا يرجعون قال: فحزروا فإذا هم بسامرا سوى من رجع نحو خمسين ألف إنسان فقيل له: يا أبا بكر احمد الله فهذا عَلمٌ قد نشر لك. قال: فبكى ثم قال: ليس هذا العلم لي وإنما هذا عَلم أحمد بن حنبل4. وكان يقول: قليل التقوى يهزم كثير الجيوش. مات في جمادى الأولى سنة خمس وسبعين ومائتين، ودفن قريباً من قبر أحمد بن حنبل - رضي الله عنهما -.
قال إسحاق بن داود: لا أعلم أحداً أقوم بأمر الإسلام من أبي بكر المروذي وأصحابه1. قال أبوبكر بن صدقة: لاتُخْدَعن عن المروذي، فإني ما علمت أحداً كان أذب عن دين الله منه2. لما مات المروذي أغفا إنسان عند قبره، فانتبه من نومه فزعاً، فقيل له: أي شيء القصة؟ قال: رأيت أحمد بن حنبل راكباً فقلت: إلى أين يا أبا عبد الله؟ فقال: إلى شجرة طوبى نلحق أبا بكر المروذي. ذكر ذلك كله الخطيب أبوبكر في تاريخ بغداد3.
ذكر طرف من محنته قال أبوبكر أحمد بن محمد بن الحجاج المروذي] 137/أ [: كنت بين يدي أحمد بن حنبل فإذا بداق يدق الباب فقلت: من هذا؟ فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرجت فإذا أنا بأعرابي بدوي فقال لي: أها هنا منزل أحمد بن حنبل؟ فقلت: نعم. فقال: استأذن لي عليه. فاستأذنت له فقال: ليدخل. فدخل الأعرابي فسلَّم على أبي عبد الله وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام. فقال له: من أين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كنت نائماً بالمدينة بين القبر والمنبر، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي فقال لي: يا أعرابي تمضي لي في حاجة وأضمن لك على ربي الجنة؟ فقلت: نعم يا رسول الله. قال: تمضي إلى العراق وتسأل عن أحمد بن حنبل، وتقرأ عليه السلام مني وتقول له: إن الله سيبتليك بمحنة فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل. قال المروذي: ما كان بعده إلا ثلاثة أيام حتى أخذ الشيخ1. قال الربيع: قال لي الشافعي بمصر: خذ كتابي هذا فامض به وسلّمه إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل وآتني بالجواب. فَشَخَصَ الربيع إلى بغداد ومعه الكتاب فصادف أحمد بن حنبل فصلى معه الفجر، فلما انفتل من المحراب سلَّم إليه الكتاب وقال له: هذا كتاب أخيك الشافعي من مصر
فقال له أحمد: نظرت فيه؟ فقال: لا. فكسر أبو عبد الله الختم، فقرأ الكتاب فتغرغرت] 137/ب [عيناه بالدموع فقال له الربيع: أي شيء فيه يا أبا عبد الله؟ فقال: يذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال له: اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل واقرأ عليه مني السلام، وقل له إنك ستمتحن، وتدعا إلى خلق القرآن، فلا تجبهم فسيرفع الله لك علماً إلى يوم القيامة. فقال له الربيع: البشارة يا أبا عبد الله. فخلع عليه قميصه الذي يلي جلده، فأخذه الربيع وخرج إلى مصر، وسلّم جواب الكتاب إلى الشافعي فقال له: إيش دفع إليك؟ فقال: القميص الذي يلي جلده. فقال له الشافعي: ليس نفجعك به، ولكن بُلَّه وادفع إلي الماء حتى أتبرك به1.
قال أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: ما ثبتني في الأمر الذي نزل بي ما ثبتني أعرابي لقيني في رحبه مالك بن طوق،1 قال لي: يا أحمد إن يقتلك الحق تمت شهيداً، وإن تعش تعش حميداً2. قال أبوبكر أحمد بن كامل في تاريخه: ضرب المعتصم أحمد بن حنبل في المحنة في القرآن سنة سبع وعشرين ومائتين. أدرك أحمد سبعة من الخلفاء، وطلبه المأمون فمات قبل أن يصل إليه، وضربه المعتصم، ومنعه الواثق من الخروج وجعل داره] 138/أ [عليه حبساً، وأخرجه المتوكل - رحمه الله- وخلع عليه وأكرمه ورفع المحنة في القرآن. - لما حمل أحمد بن حنبل إلى المعتصم وكلموه في القرآن استدل بقول الله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 3 قال: فإن يكن القول من الله فإن القرآن كلام الله، واستدل بقوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر} 4 قال: وقد فرَّق بين الخلق والأمر،
واستدل أيضاً بقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1 فلو كان قوله: {كُنْ} مخلوقاً لاحتاج إلى قول آخر، وذلك القول إلى آخر، فيتسلسل ولا يتحصل. قال: وكان يقول: اعطوني آية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى آخذ به. فقال له ابن أبي دؤاد - لعنه الله - ما تقول في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّا} 2؟ فقال أحمد: الجعل في القرآن على وجوه، هاهنا ليس معناه الخلق إنما معناه: أنزلناه بلسان العرب، قال الله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَج} 3 قال ابن عباس: "غير مخلوق". وكلامه من علمه، وعلمه من صفته، وصفته غير مخلوق4. فلما مدوه ليُضرب انحل سراويله، فحرَّك شفتيه فارتفع السراويل من بعد انخفاضه، وانعقد من بعد انحلاله5، وأخذ المعتصم الصفار
وكان] 138/ب [ينتبه في الليل مذعوراً، وربما سُمِعَ يقول: ما لي ولأحمد، كأنه يُعذَّب إلى أن مات1. قال عبد الله بن محمد الهروي2 فيه: ديني حديث المصطفى وشريعتي آثار من تبعوه بالإحسان وإمام العوام لله الذي دفنوا حميد الشأن في بغدان جمع التقى والزهد في دنياهم والعلم بعد طهارة الأردان خَصْم النبي وصيرفي حديثهِ ومُفْلق أعرافها بمعان حَبْر العراق ومحنة لذوي الهوى يدرى ببغضته ذوو الأظغان عرف الهدى فاجتاب ثوبي نصره وسخا بمهجته على عرفان متجرداً فوق السياط تنوشه أيدي سياط أئمة العدوان ورعى حفيظة عُصبة صحبتهم لله عاصِمة من الإيهان عرضت له الدنيا فأعرض سالماً نها كفعل الراهب الخمصَان وأبى على الغاوين مَا قد موَّهوا من زخرف ورموه من هذيان هانت عليه نفسه في دينه ففدى الإمامُ الدينَ بالجثمان
ومنها: لله ما لقي ابن حنبل صابراً عزماً وتبصرة بلا أعوان فعلى ابن حنبل أحمد بن محمد وعلى الذين تلوه في البلدان صلى الإله وصَبَّ فوق عظامهم صَوْبَ الربيع يسح في تهتان1] 139/أ [ تم الكتاب بحمد الله ومنه، فالله ينفع الكافة من المسلمين به بمنه وكرمه. آمين.
مصادر ومراجع
مصادر ومراجع ... فهرس المراجع أحكام القرآن - للإمام الشافعي - جمع الحافظ (أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ت 458هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ. أحاديث في ذم الكلام وأهله - للإمام أبي الفضل المقري - تحقيق: د/ ناصر الجديع، ط (1) ، دار أطلس، الرياض، 1417هـ - 1996م. أخبار أبي حنيفة وأصحابه - (للقاضي أبي عبد الله حسين بن علي الصميري ت 436هـ) ط (2) ، دار الكتاب العربي، بيروت. الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة (الموضوعات الكبرى) للعلامة (علي القاري) ، تحقيق محمد الصباغ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1391هـ. أصول الدين عن الأئمة الأربعة واحدة - (د. ناصر القفاري) ، ط (1) ، دار الوطن، الرياض 1414هـ. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - للإمام ابن تيمية، تحقيق د. صلاح الدين المنجد، ط (1) ، دار الكتاب الجديد، بيروت 1396هـ. الأنساب - للسمعاني (أبي سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي ت 562هـ) ، تعليق عبد الله عمر البارودي، دار الكتب العلمية، بيروت.
الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة - للإمام الحافظ ابن بطة (أبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري ت 387هـ) ، تحقيق - رضا بن نعسان معطي، ط (2) ، دار الراية - الرياض 1415هـ. الإحكام في أصول الأحكام - (سيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي ت 631هـ) ، تعليق عبد الرزاق عفيفي، ط (1) ، مؤسسة النور، الرياض - 1387هـ. الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به - (للقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني ت 404هـ) ، تحقيق محمد زاهد الكوثري، ط (2) ، مؤسسة الخانجي، مصر، 1382هـ. الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء - للإمام ابن عبد البر (أبي عمر يوسف بن عبد البر الأندلسي ت 463هـ) ، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ط (1) ، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب 1417هـ. تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام - للإمام (شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي ت 748هـ) ، تحقيق د. عمر بن عبد السلام، ط (1) دار الكتاب العربي، بيروت، 1415هـ. تاريخ مدينة دمشق - للحافظ ابن عساكر (أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي ت 571هـ) ، تحقيق محبب الدين العمروي، دار الفكر، بيروت. تذكرة الحفاظ - (للإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك - للقاضي عياض (أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي ت 544هـ) ، تحقيق د. أحمد بكير محمود، - دار مكتبة الحياة - بيروت - 1387هـ. تفسير القرآن العظيم - للإمام (أبي الفداء إسماعيل ابن كثير القرشي، ط (1) ، دار المعرفة، بيروت، 1407هـ. تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة - (علي بن محمد بن عراق) ، مراجعة عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله الغماري، 1375هـ. تهذيب الأسماء واللغات - (لأبي زكريا محي الدين بن شرف النووي ت 676هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت. تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد - للشيخ (سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب) ، المكتب الإسلامي، بيروت، 1397هـ. الجامع الصحيح - للإمام البخاري (محمد بن إسماعيل البخاري ت 256هـ) مع شرحه فتح الباري. الجامع الصحيح - للإمام الترمذي (محمد بن عيسى الترمذي ت 279هـ) ، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1356هـ. الجامع الصحيح للإمام مسلم (مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ت 261هـ) بتحقيق فؤاد عبد الباقي، ط (1) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1375هـ.
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي - للإمام (ابن القيم الجوزية) ، دار الكتب العلمية - بيروت. الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة - للإمام (أبي القاسم إسماعيل بن محمد الأصفهاني ت 535هـ) ، تحقيق محمد ربيع المدخلي، محمد أبو رحيم، ط (1) ، دار الراية الرياض - 1411هـ. الحدائق في علم الحديث والزهديات - (لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي ت 597هـ) ، تحقيق مصطفى السبكي، ط (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء - للحافظ أبي نعيم (أحمد بن عبد الله الأصفهاني ت 430هـ) ، المكتبة السلفية - مصر. درء تعارض العقل والنقل - للإمام (ابن تيمية) ، تحقيق د. محمد رشاد سالم، ط (1) ، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض. ذم الكلام وأهله - للإمام (أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي الأنصاري) ، تحقيق عبد الله الأنصاري، ط (1) ، مكتبة الغرباء، المدينة المنورة، 1319هـ. الزهد - للإمام (أحمد بن حنبل ت 241هـ) ، دار الكتب العلمية - بيروت. الزهد - للإمام (وكيع بن الجراح ت 197هـ) ، تحقيق عبد الرحمن الفرايوائي، مكتبة الدار - المدينة المنورة - 1404هـ. سلسلة الأحاديث الصحيحة - للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة - للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت. السنة - لأبي عاصم (الحافظ أبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك ت 287هـ) ، تحقيق وتخريج - الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط (1) ، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400هـ. سنن أبي داود - للحافظ (أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ت 275هـ) ، تحقيق محمد محي الدين، دار الباز، مكة المكرمة. سنن الدارمي - (لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ت255هـ) ، عناية محمد أحمد دهمان، دار إحياء السنة النبوية، بيروت. السنن الكبرى - للحافظ (أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ت 302هـ) تحقيق د. عبد الغفار سليمان وسيد كسروي، ط (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت 1411هـ. سنن النسائي المجتبى - للحافظ النسائي، ط (1) مكتبة مصطفى الحلبي، مصر، 1383هـ. سير أعلام النبلاء - للإمام الذهبي (محمد بن أحمد الذهبي ت 748هـ) ، د. شعيب الأرناؤط، ط (2) ، مؤسسة الرسالة، بيروت 1402هـ. شرح جوهرة التوحيد - (إبراهيم بن محمد البيجوري ت 1277هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ.
الشريعة - للإمام (أبي بكر محمد بن الحسين الآجري ت 360هـ) ، تحقيق د. عبد الله الدميجي، ط (1) دار الوطن، الرياض. الضعفاء الكبير - (لأبي جعفر محمد بن عمرو العقيلي المكي ت 322هـ) ، تحقيق عبد المعطي قلعجي، ط (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1402هـ. طبقات الحنابلة - (للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى) ، دار المعرفة، بيروت. طبقات الشافعية الكبرى - (تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي السبكي ت 771هـ) ، تحقيق: عبد الفتاح الحلو، ومحمود الطناجي، دار إحياء الكتب العربية - القاهرة. طبقات الفقهاء - (لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي ت 393هـ) ، تحقيق دار إحسان عباس، دار الرائد العربي، بيروت، 1978م. عقود الجمان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان - (لشمس الدين محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي ت 942هـ) ، مكتبة الإيمان، المدينة. العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية - (لأبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني (إمام الحرمين) ت 478هـ) ، تحقيق د. أحمد حجازي السقا، ط (1) ، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1398هـ. العلم - (لأبي زهير بن حرب النسائي ت 234هـ) ، تحقيق الشيخ الألباني، دمشق.
الفرق بين الفرق - (للعلامة عبد القاهر بن طاهر البغدادي ت 249هـ) ، تحقيق محمد محي الدين، دار المعرفة، بيروت. الفقيه والمتفقة - (للخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت ت 463هـ) ، تحقيق إسماعيل الأنصاري، دار إحياء السنة، بيروت، 1395هـ. القاموس المحيط - للفيروز آبادي (مجد الدين محمد بن يعقوب ت 817هـ) ، ط (2) مؤسسة الرسالة، بيروت، 1407هـ. اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة - (للسيوطي ت911هـ) ، بيروت، 1395هـ. لسان الميزان - للحافظ (أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت 852هـ) ، ط (1) مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1390هـ. المؤطأ - للإمام مالك بن أنس، تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلمية، بيروت. مجمع الزوائد ومنبع الفوئد - للحافظ الهيثمي (نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي ت 807هـ) ، مؤسسة المعارف، بيروت، 1406هـ. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي، تصوير، ط (1) ، 1398هـ. المحصول في علم أصول الفقه - (فخر الدين محمد بن عمر الرازي ت 606هـ) ، ط (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ. المختصر المحتاج إليه من تاريخ الحافظ أبي عبد الله محمد بن سعيد بن يحيى ابن الدبيثي - اختصره الإمام الذهبي، ط (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ.
مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر (للعلامة محمد بن مكرم المعروف بابن منظور ت 711هـ، تحقيق روحية النحاس ومحمد مطيع الحافظ، ط (1) ، دار الفكر، بيروت، 1411هـ. المدخل إلى السنن الكبرى - للحافظ أبي بكر البيهقي (أحمد بن الحسين البيهقي ت 458هـ) تحقيق د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، بيروت. المستدرك على الصحيحين في الحديث - للحافظ الحاكم (أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري ت 405هـ) وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي، دار المعرفة، بيروت. مسند الإمام أحمد بن حنبل - للإمام (أحمد بن حنبل الشيباني ت 241هـ) ، ط (2) ، دار الكتب العلمية، بيروت 1398هـ. مشيخة ابن الجوزي - (للحافظ ابن الجوزي) ، تحقيق محمد محفوظ، ط (1) ، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1400هـ. المصنوع في معرفة الحديث الموضوع (الموضوعات الصغرى) - للعلامة (علي القاري الهروي المكي ت 1014هـ) ، تحقيق عبد الفتاح أبو عدة، ط (4) ، مكتبة الرشد، الرياض، 1404هـ. معجم البلدان - للعلامة (شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت الحموي) ، دار صادر، بيروت. معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع - (عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي ت 487هـ) ، تحقيق مصطفى السقا، ط (3) ، عالم الكتب، بيروت، 1403هـ.
المغني في الضعفاء - للإمام الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت 748هـ) تحقيق نور الدين عتر، ط (1) ، دار المعارف، سوريا. مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين - للإمام (أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ت 330هـ) ، تحقيق محمد محي الدين، ط (2) ، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1389هـ. الملل والنحل - (لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ت 548هـ) ، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، 1404هـ. مناقب الإمام أحمد بن حنبل - للحافظ (أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ت 597هـ) ، تحقيق د. عبد الله التركي، ط (1) ، مكتبة الخانجي، مصر، 1399هـ. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم - (للحافظ ابن الجوزي) ، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، 1358هـ. المنجد في اللغة والأعلام - ط (27) ، المكتبة الشرقية، بيروت. ميزان الاعتدال في نقد الرجال - للإمام الذهبي، تحقيق علي البجاوي، ط (1) ، دار المعرفة، بيروت، 1382هـ. النهاية في غريب الحديث والأثر - للإمام (مجد الدين المبارك بن محمد (ابن الأثير) ت 606هـ) ، أنصار السنة المحمدية - لاهور - باكستان. نواسخ القرآن - للحافظ (أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي) ، تحقيق محمد أشرف الملباري، ط (1) ، المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، 1404هـ.