ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل

ابن الزبير الغرناطي

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مقدمة المؤلف قال الشيخ الفقيه الأستاذ الخطيب المقرئ الراوية الشهير: أبو جعفر بن إبراهيم بن الزبير الثقفي العاصمي، رضى الله عنه. الحمد لله المانح من شاء ما شاء، الغافر دون الشرك بحكم المشيئة لمن أساء، والمصطفى من الجنس الإنساني الرسل والأنبياء، ومن أتباعهم من جعلهم رحماء بينهم وعلى الكفار أشداء، ومن خلفهم ممن آثر الاهتداء والاقتداء، وجانب التنكيل عن سبلهم الواضحة والاعتداء، ولزم الجماعة عند افتراق ذوي الشقاق فحسم الداء، وتمسك بالكتاب والسنة فمنح الشفاء، واستوضح الطريق بهما إلى الله تعالى وتحقق الإنباء، وتدبر كتاب الله فشاهد المعجزة القاطعة والبراهين الساطعة وعرف الأنباء، وعلم مراده صلى الله عليه وسلم بقوله: "وإنما كان الذي أوتيت وحياًَ " فأعمل جهده في تدبره بالفكر والاعتناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من وفق فالتزم بشروطها الوفاء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المعطى في القيامة المقام المحمود واللواء، شهادة نرجو بها من شفاعته العظمى الحظوة والاعتناء، وتجعل لنا من دار الخلد المصير والجزاء، صلى الله عليه وعلى آله الحائزين في وفائهم باتباعه السبق والثناء، والأسوة والقدوة لمن بعدهم جاء، وسلم كثيرا. وبعد، فإن كتاب الله تعالى أحق ما أنفقت فيه نفائس الأعمار، وقصر على اعتباره وتدبره الملوان الليل والنهار، واعتمده موئلاً وملاذاً، واعتصم بعروته الوثقى وزراً منجياً وعياذاً، واستنزلت به البركات، واهتدى بواضحات أنواره عوالم الأرض والسماوات. فهو الهدى والنور، والشفاء لما فى الصدور، والواقى لمن تمسك به واعتلق بسببه من كل مخوف وحذور، والنعمة التي قصر عن الوفاء بشكرها كل مكتوب ومسطور، وأنٍِى يتصور الكفاء ويتوهم الوفاء بشكر: "قد جاءكم من الله نور ". وإن من مغفلات مصنفي أئمتنا رضى الله عنهم في خدمة علومه، وتدبر منظومه الجليل ومفهومه، توجيه ما تكرر من آياته لفظاً أو اختلف بتقديم أو تأخير وبعض زيادة في

التعبير، فعسر إلا على الماهر حفظاً، وظن الغافل عن التدبر والمخلد إلى الراحة عن التفكر، أن تخصيص كل آية من تلك الآيات بالوارد فيها مما خالفت فيه نظيرتها ليس لسبب تقتضيه وداع من المعنى يطلبه ويستدعيه، وأن ليس على جميع الوارد من ذلك محرزات من المعاني عند ذوي الأفهام ومقتضيات من لوازم جليل التركيب من ذلك المعجز العلي من النظام، فلا يليق بكل من تلك الواضع إلا الوارد فيه وإن تقرير وقوع آية منها في موضع نظيرتها ينافي مقصود ذلك الموضع وينافيه. فتعساً لمن تنكب عن واضح آياته، وكأن لم يقرع سمعه قوله تعالى: "كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته ". وإن مما حرك إلى هذا الغرض وألحقه عند من تحلى ولوعاً باعتباره والتدبر لعجائبه الباهرة وأسراره، بمثل حالي على استحكام جذبي وإمحالي بالواجب المفترض، إنه باب لم يقرعه ممن تقدم وسلف ومن حذا حذوهم ممن أتى بعدهن وخلف، أحد فيما علمته على توالي الأعصار والمدد وترادف أيام الأبد، مع عظيم موقعه وجليل منزعه، ومكانته في الدين وفته أعضاد ذوي الشك والارتياب من الطاعنين والملحدين، إلى أن ورد علي كتاب لبعض المعتنين من جلة المشارقة [ابن الخطيب الإسكافي] نفعه الله سماه بكتاب درة التنزيل وغرة التأويل، قرع به مغلق هذا الباب وأتى في هذا المقصد بصفو من التوجيهات لباب، وعرف أنه باب لم يوجفه عنه أحد قبله بخيل ولا ركاب، ولا نطق ناطق قبل فيه، بحرف مما فيه. وصدق رحمه الله وأحسن فيما سلك وسن وحق لنا به - لإحسانه - أن نقتدى به ونستن، فحرك من فكري الساكن وأضربت عن فسحته بالاستدراك بلكن، وأبديت بحول ربي من مكنون خاطري إلى الظهور ما أثبته بعون الله وقوته في هذا المسطور، معتمداً عين ما ذكره من الآيات ومستدركاً ما تذكرته مما أغفله رحمه الله من أمثالها من المتشابهات، وإبداء المعاني الخفيات القاطعة بدرب البطالات، من غير أن أقف في أكثر ذلك على كلامه إلا بعد إبدائي ما يلهمه الله سبحانه وإتمامه، ولا ناقلاً إلا في الشاذ النادر كلام أحد من أرباب المعاني إذ لم يعترض أحد غير من تقدم ذكره لما من هذا الضرب أعاني، وإنما يلقيه فكري إلى ذكري فيلقيه ترجمان فهمي على قلمي، وإن آثرت بعض ما عليه لغيري عثرت فنقلت أفصحت بالنسبة وعقلت، وما أرى ذلك يبلغ فى هذا المجموع غاية أقل الجموع، وإن نيف فيسير والتحقق في ذلك بلازم الذهول الإنساني عسير، وما سوى ذلك فأنا ابن نجدته وذو عهدته، "وما بكم من نعمة فمن الله ". وقد

استجرت تلك الآيات جملة وافرة من المقفلات من أمثال تلك المشكلات، مما يجاري ويشبه ويلتبس على من قصر في النظر ويشتبه، مما لم يقع في كتاب "درة التنزيل "ولا تعرض له بذكر بنص التنزيل ولا تأويل، فنبهنا إلى ذلك لينحاز من المجتمع على ذكره ويفصل، فعلامة: غ تدل على أنه من المغفل. ومحرزاً بفضل الله من عيون آلات العلماء ما به قوام المفهوم، عائذاً بالله سبحانه من سوء الوعي والقول في هذا المقصد العلي بالرأي، فقد ملأ المسامع وعمر الأفكار قوله صلى الله عليه وسلم "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ". ولما تيسر بفضل الله تعالى المقصود من هذا الغرض، بهر حسناً وكمالا ولاح في أفق التفاسير لنجومها هلالاً، سميته بكتاب: "ملاك التأويل القاطع بذوي الالحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل ". وانا أضرع إلى من وسعت رحمته كل شئ وشملت نعمته كل حي، أن ينقع فيه بباعث النية وأن يبلغني من عفوه ومغفرته الأمنيه، وأن يؤيد بالنصر ةالتمكين وموالاة الفتح المبين مولانا أمير المسلمين. وها أنا أبتدئ بحول الله وقوته، "والله خلقكم وما تعملون ".

سورة أم القرآن

سورة أم القرآن غ _ وهى بجملتها من مغفلات صاحب كتاب الدرة وكذا ما بعد إلى الآية السادسة من سورة البقرة وهى قوله تعالى: "وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ". وقد تقدم أني أعلم على المغفل بعلامة غ. وأرجع إلى أم القرآن فأقول: هى أم القرآن ومطلع الكتاب العزيز وأول سورة في الترتيب الثابت ومشروعية حمده سبحانه فى ابتداء الأمور وختامها متقرر معلوم وقد تكرر فى الكتاب العزيز افتتاحا واختتاما، وأمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى "وقل الحمد لله " والمتردد من صفة حمدة حمده سبحانه في معظم الوارد منه في الكتاب العزيز ما افتتحت به أم القرآن من قوله تعالى "الحمد لله " وما ورد في سورة الجاثية من قوله: "فلله الحمد " [آية 36] ثم وقع إتباع المفتتح من السور بحمده جل وتعالى بأوصاف مختلفات مما انفرد به سبحانه فالسائل أن يسأل في ذلك أربعة سؤالات: السؤال الأول: ما الفرق بين الوارد في أم القرآن وما جرى مجراها مما افتتح بقوله "الحمد لله "وبين الواقع في سورة الجاثية من قوله "فلله الحمد "؟ السؤال الثاني: ما وجه افتتاح السور الخمس وهى: سورة أم القرآن والأنعام والكهف وسبأ وفاطر بقوله "الحمد لله " واختصاصها بذلك مع تساوي السور كلها في استقلالها بأنفسها وامتياز بعضها من بعض؟ السؤال الثالث: ما وجه تخصيص كل آية منها بما ورد من أوصافه تعالى المتبع بها حمده؟ ففى أم القرآن: "الحمد لله رب العالمين " وفي الأنعام: "الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور " وفي الكهف: "الذي أنزل على عبده الكتاب " وفي سبأ: "الذي له ما في السماوات وما في الأرض " وفي فاطر: "فاطر السماوات والأرض ". فهل هذا التخصيص لمناسبة تقتضيه حتى لا يلائم سورة منها من ذلك في غيرها؟

السؤال الرابع: ما وجه كون الوارد من حمده في الخواتم والانتهاءات لم يطرد فيه ما أطرد في افتتاح هذه السور من اختلاف التوابع بل جرى على أسلوب واحد فقال سبحانه: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " وقال تعالى: "وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " وقال تعالى: "وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين " وقال تعالى: "وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين " فورد هذا مكتفي فيه بوصفه سبحانه بأنه رب العالمين والجواب عن السؤال الأول: بعد تمهيده وهو أن نقول أن قوله تعالى: "الحمد لله " مبتدأ وخبر وكذلك قوله: "فلله الحمد " وتأخر في هذه الثانية المبتدأ، والحاصل في الموضعين معنى واحد وهو حمده سبحانه بما هو أصله. ومعلوم أن التقديم والتأخير فيما بين المبتدأ والخبر إذا لم يقع عارض مما يعرض في التركيب، ككون المبتدأ مما يلزم صدر الكلام، أو كون الخبر كذلك، فيلزم تقديم ما له الصدرية إلى غير ذلك من العوارض وهى كثيرة، فما لم يعرض عارض يوجب لأحدهما التقديم أو التأخير فتقديم أيهما كان وتأخير الآخر عربي فصيح، إلا أن مرتبة المبتدأ التقديم ليبنى عليه الخبر، فتقديمه عند عدم العوارض اللفظية أولى كما فى القرآن. وإذا وضح هذا فللسائل أن يقول: ما الموجب لتقديم الخبر على المبتدإ فى سورة الجاثية؟ وهل كان يسوغ عكس الواقع؟ والجواب: أن العوارض الموجبة لتقديم ما مرتبته التأخير وتأخير ما مرتبته التقديم ليست منحصرة فى جهة التركيب اللفظي، بل قد يعرض من جهة المعنى. وتقدير الكلام ما يقتضى ذلك ويوجبه. وإذا تقرر هذا فنقول: إن قوله تعالى: "فلله الحمد " ورد على تقدير الجواب بعد إرغام المكذب وقهره ووقوع الأمر مطابقاً لأخبار الرسل عليه السلام، وظهور ما كذب الجاحد به، فعند وضوح الأمر كأن قد قيل لمن الحمد ومن أهله؟ فكان الجواب على ذلك فقيل: "فلله الحمد ". نظير هذا قوله تعالى: "لمن الملك "؟ ثم قال: "لله الواحد القهار "، ألا ترى تلاقى الآيتين فيما تقدمهما فالمتقدم فى سورة غافر قوله تعالى: "لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ ". فعند ظهور الأمر للعيان ومشاهدة ما قد كان خبراً قيل لهم: "لمن الملك اليوم ". وتقد فى سورة الجاثية قوله تعالى: "وبدا لهم سيئآت ما عملوا " الآيات. وإنما ذلك يوم التلاقي والعرض عليه سبحانه فعند المعاينة وزوال الارتياب والشكوك كأن قد قيل لهم: لمن الحمد ومن أهله؟

فورد الجواب بقوله: "فلله الحمد ". فالآية كالآية، والمقدر المدلول عليه كالمنطوق، والإيجاز مستدع لذلك. ولما تقدم ذكر الملك فى آية غافر منطوقاً به لم يحتج إلى إعادة ذكره، فقيل: "لله الواحد القهار " ولم يقل: فلله الملك لتقدم ذكره. ولما كان الحمد فى سورة الجاثية لم يتقدم ذكره، وإنما هو مقدر يدل عليه السابق لم يكن بد من الافصاح به فى الجواب فقيل: فلله الحمد ولأجل ما قصد من تقريع المكذبين وتوبيخهم عند انقطاع الدعاوى ووضوح الأمر أتبع حمده تعالى بقوله: "رب السماوات ورب الأرض رب العالمين ". فذكر ربوبته تعالى لما أبداه وأوجده من أعظم مخلوقاته وأبدع مصنوعاته، قال تعالى: "لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس " وأعاد ذكر ربوبيته مع كل من هذه المخلوقات العظام، المنصوبة للاستدلال بها والاعتبار بعظيم خلقها وما فيها، فقال: "رب السماوات ورب الأرض " ثم أتبع بما يعم ربوبيته لذلك كله فقال: "رب العالمين ". والعالم ما سواه سبحانه من جميع مخلوقاته ثم قال: "وله الكبرياء في السماوات والأرض " أى الانفراد بالعظمة والجلال والخلق والأمر، وهو العزيز الذى ذل كل مخلوق لعزته وقهره، الحكيم فى أفعاله الذى جلت حكمته عن أن تدرك الأفهام غاياتها أو يحيط ذوو التفكر بنهاياتها فناسب ما ورد هنا من الإطالة بتكرر - ما ذكر - مقصود الآية، وذلك هو الجارى متى قصد تعنيف المشركين ومن عبد مع الله غيره وهو وارد فى غير ما موضع من كتاب الله تعالى وتكرير لفظ "رب " فى قوله: "ورب الأرض ". مما يشهد لهذا الغرض من قصد تقريع الجاحدين. ولما كان الوارد فى أم القرآن خطاباً للمؤونين وتعليما للمستجيبين مجردا عما قصد فى آية الجاثية من توبيخ المكذبين ورد على ما قدم من الاكتفاء. وكل على ما يجب ويناسب. والجواب عن السؤال الثانى: إن وجه تخصيص السور الخمس بما افتتحت به من حمده تعالى ما ذكر آنفا. أما أم القرآن فهى أول السور ومطلع القرآن العظيم بالترتيب الثابت فافتتاحها بحمده تعالى بين. أما سورة الأنعام فمشيرة إلى إبطال مذهب الثنويه ومن قال بمثل قولهم ممن جعل الأفعال بين فاعلين إلى ما يرجع إلى هذا وقد بسطت هذا فى كتاب البرهان. وإذا كانت هذه السورة مشيرة إلى ما ذكر وانفردت بذلك فافتتاحها بحمده تعالى بين وفى الجواب عن السؤال الثانى لهذا زيادة بيان. وأما سورة الكهف فكذلك لبنائها على قصة أصحاب الكهف وذكر ذى القرنين حسبما ألفت يهود لسائلهم من كفار قريش وذلك مما لم يتكرر فى القرآن فافتتحت بحمده تعالى وذلك

بين وأما سورة سبأ فإن قصة سبأ لم يرد فيها أيضاً فى غير هذه السورة إلا الإيماء الوارد فى قوله فى سورة النمل "وجئتك من سبإ بنبإ يقين " فلما تضمنت سورة سبأ من هذا ما تضمنت ومن قصص داود وسليمان عليهما السلام وما منحهما الله سبحانه وتعالى من تسخير الجبال والطير والجن وإلانة الحديد ولم يجتمع مثل هذا التعريف فى سواها افتتحها سبحانه بحمده وانفراده بملك السماوات والأرض وما فيهما وأنه أهل الحمد فى الدنيا والآخرة وأما سورة فاطر ففيهما التعريف بخلق الملائكة عليهم السلام وجعلهم رسلا أولى أجنحة إلى خلق السماوات والأرض وامساكهما ان تزولا وانفراده بذلك ولم يقع هذا التعريف فى غيرها من سور القرآن فناسب هذه المقاصد المفردة التى لم ترد فى غير هذه السور ما افتتحت به ولا يلزم على هذا اطراد ذلك فى كل سورة انفردت بحكم أو تعريف ليس فى غيرها بل جواز ذلك منسحب على الجميع واختصاص هذه السور بذلك واضح لانفرادها بما ذكرناه والجواب عن السؤال الثالث: أن أم القرآن لما كانت أول سورة ومطلع آياته وهو المبين لكل شئ والمعرف بوحدانيته سبحانه وانفراده بالخلق والاختراع وملك الدارين فناسب ذلك من أوصافه العلية ما يشير إلى ذلك كله من أنه رب العالمين وأنه الرحمن الرحيم وأنه ملك يوم الدين حتى تنقطع الدعاوى وتظهر الحقائق ويبرز ما كان خبرا إلى العيان وهذا واضح وأما مناسبة الوصف الوارد فى سورة الأنعام فمن حيث ما وقع فيها من الإشارة إلى من عبد الأنوار وجعل الخير والشر من الظلمة فافتتحها تعالى بوصفه بأنه خالق السماوات والأرض وهى الأجرام التى عنها الظلمات وفيها الأجرام النيرات وذكر تعالى أنه خالق الأنوار وأعاد سبحانه ذكر ما فيه الدلالة البينة على بطلان مذهب من عبد النيرات أو شيئا منها فى قوله تعالى: "وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض " الآيات فقال: "فلما جن عليه الليل رأى كوكبا " ثم قال عليه السلام على جهة الفرض لإقامة الحجة على قومه: "هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين " ثم قال ذلك فى الشمس والقمر مستدلا بتغيرها وتقلبها فى الطلوع والغروب على أنها حادثة مربوبة مسخرة طائعة لموجدها المنزه عن سمات التغير والحدوث فقال عليه السلام عند ذلك لقومه: "إنى برئ مما تشركون " فأخبر عن حاله قبل هذا الاعتبار وبعده. قال تعالى: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (آل عمران: 67) " وفى طي قوله: "وما كان من

المشركين " تنزيه عن عبادة النيرات وغيرها مما سواه تعالى وبان من هذا كله ما افتتحت به السورة من انفراده تعالى بخلق السماوات والأرض والظلمات والنور فوضح التناسب والتلازم. وأما سورة الكهف فإنها لما انطوت على التعريف بقصة أصحاب الكهف ولقاء موسى عليه السلام الخضر وما كان من أمرهما وذكر الرجل الطواف وبلوغه مطلع الشمس ومغربها وبنائه سد يأجوج ومأجوج وكل هذا إخبار بما لا مجال للعقل فى إدراكه ولا تعرف حقبقته إلا بالوحى والإنباء الصدق الذى لا عوج فيه ولا أمت ولا زيغ ناسب ذلك ذكر افتتاح السورة المعرفة بذلك الوحى المقكوع به قوله: "الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا " والتناسب فى هذا أوضح من أن يتوقف فيه. وأما سورة سبأ فلما تضمنت ما منح سبحانه داود وسليمان من تسخير الجبال والطير وإلانة الحديد ناسب ذلك ما به افتتحت السورة من أن الكل ملكه وخلقه فهو المسخر لها والمتصرف فى الكل بما يشاء فقال تعالى: "الحمد لله الذى له ما فى السماوات وما فى الأرض " وهذا واضح التناسب. وأما سورة فاطر فمناسبة صفه تعالى باختراع السماوات والأرض لما ذكره من خلق عامري السماوات من الملائكة وجعلهم رسلاً أولى أجنحة وإمساكه السماوات والأرض أن تزولا أبين شئ وأوضحه وليس شئ من هذه الأوصاف العلية بمناسب لغير موضعه كمناسبة موضعه الوارد فيه. فقد بان مجئ كل واحد منهما فى موضعه ملائماً لما اتصل به، والله أعلم. والجواب عن السؤال الرابع: أن الخواتم والانتهاءات فى السور والآيات لما كان كان غير مقصود بها ما قصد فى المواضع المتقدمة وانما هى مشروعية للمؤمنين عند خواتم أعمالهم وانقضاء أمورهم وقع الاكتفاء فيها بقوله: "الحمد لله رب العالمين "، إذ فى طي ذلك اعتراف للمؤمن وعلمه بانفراد موجده جل وتعالى بالخلق والأمر وملك الدارين، وأهليته سبحانه وتعالى لكل ما تضمنت الأوصاف كلها فى السور المذكورة، وليس موضع توبيخ ولا تقريع فناسب الاكتفاء بما ذكر، والله أعلم. الآية الثانية قوله تعالى: "الحمد لله رب العالمين*الرحمن الرحيم*مالك يوم الدين " اتفق القراء السبعة على الاتباع فى هذه الصفات العلية وإجرائها على ما قبلها. وقال تعالى فى سورة البقرة: "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا

والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس " وفي سورة النساء: "لكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل إليك من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ". اتفق القراء السبعة فى هذه الصفات الأربع وهى قوله فى آية البقرة: والموفون والصابرين، وفى آية النساء: والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة. على القطع كما اتفقوا فى أم القرآن فى الأربع صفات الواردة فيها على الاتباع، وقد اتفقت ثمانيتها فى أنها صفات ثناء ومدح وتعظيم ثم اختلفوا فيما ذكرنا من الاتباع والقطع ولم يجروها مجرى واحداً، وقد ترجم سيبويه رحمه الله على ما ينصب على التعظيم والمدح، وقال فى الترجمة بعد إشارتها إلى أن الوجه الانتصاب على ما ذكر من القطع بمقتضى مفهوم الترجمة فاتبع بأن قال: "فإن شئت جعلته صفة مجرى على الأول، وإن شئت قطعته فابتدأته " واستشهد على القطع بما ورد من قول العرب: " "الحمد لله الحميد هو والملك لله أهل الملك " فنصب الحميد ولهذا اتبع بالضمير المؤكد المستتر فى الصفة ليظهر النصب فى الصفتين. ثم اتبع بجواز الرفع والاتباع وأشار إلى أن القطع هو المختار فى الباب إذا كان الموصوف معلوما والصفة المدح والثناء وهذا حاصل قوله وقول الجمهور وعليه ورد ما أورده من الآيات وما ذكر عن العرب من الإثبات. ثم إنه أشار إلى ضعف القطع فى قوله فى أثناء كلامه "وسمعت بعض العرب يقول الحمد لله رب العالمين - يعنى بالنصب - فسألت عنها يونس فزعم أنها عربية. وعادته رحمه الله التعبير بهذه العبارة عما هو دون غيره فى القوة، من ذلك قوله فى أول أبواب الاشتغال عقب بيت ذي الرمة: إذا ابن أبي موسى بلال بلغته فقام بفأس بين وصليك جازر فقال عقبه: "والنصب عربى كثير والرفع أجود " ولما استشهد على اختياره النصب فيما تقدم قبله جملة فعلية ببيتي الربيع بن ضبع الفزاري: أصبحت لا أحمل السلاح ولا أرد رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به وحدى وأخشى الرياح والمطرا بنصب الذئب وهو المختار أتبع بأن أن قال: "وقد يبتدأ فيحمل على ما مثل ما يحمل

عليه وليس قبله منصوب وهو عربي وذلك قولك: لقيت زيداً وعمرو كلمته، ولم يخالف أحد فى أن النصب فى هذا أفصح. وقال فى مسألة: أنت عبد الله ضربته واختياره الرفع فى عبد الله لما جعل الضمير المنفصل قبله مبتدأ وهو أنت فضعف مقوي النصب فى عبد الله وهو الاستفهام للفصل بالمبتدأ، فقال بعد اختياره الرفع لما ذكر: إلا أنك إن شئت نصبته كما نصبت زيداً ضربته. ثم قال عربي جيد بعد ما قدم أن الرفع عنده أولى. وقال فى مسألة: رأيت متاعك بعضه فوق بعض ". وجوز الرفع والنصب على معنيين فقال عقب ذلك والرفع فى هذا أعرف. ثم قال بعد: وإن نصبت فهو عربي جيد وقال بعد إنشاده: إن على الله أن تباعيا تؤخذ كرهاً أو تجئ طائعاً قال: فذا عربي حسن والأول أعرف وأكثر. فقد تبين من متعارف إطلاقه ما يريد يهذه العبارة وقد ترددت فى كتابه كثيرا فحكايته هذه القراءة عن بعض العرب بعد إيثار القطع عن جميعهم إذ لا يقتضى إطلاق كلامه غير ذلك وعليه فهمه الناس عنه وجرى عليه كلام جميعهم اعتماداً على تلقيه من العرب ثم حكى ما يعارض ما تمهد من ذلك بما ذكر من هذه القراءة. فهذا مع سؤاله يونس عن هذه القراءة وجواب يونس بأنها عربية، وقد بينا مراده بهذه العبارة وقول سيبويه فى أخباره عن قول يونس "فزعم " حاصل من ذلك كله ضعف القطع فى هذه الصفة مع أنها مدح وتعظيم. فالوجه على ما تأصل فيما قدمنا قطعها بتضعيف هذه القراءة معارض. لما اتفقوا عليه فهو مما أشكل ولم أر من تعرض له من نحوي ولا مفسر إلا بما لا يصح. وقد أطنب أبو الفضل ابن الخطيب [الرازى]- رحمه الله - فى التفسير المنسوب إليه، فيما أورد فى تفسير الفاتحة وما تعرض لهذا بشئ وكذلك غيره من النحويين والمفسرين إلا من قال إن القطع فى هذه القراءة هو الوجه وإياه أراد سيبويه وإن جواب يونس بقوله: "عربية " إنما يريد إنها فصيحة كالمثل المذكور معها وهذا خطأ بين ومن أمعن النظر فى الكلام يراه من هذا. وقد زعم بعض من عاصرناه من النحويين أن سيبويه إنما قصد بما حكاه عن بعض العرب من هذه القراءة فسأل يونس عنها الرد على من قال: إن القطع لا يكون إلا بعد اتباع. فهذا أيضاً فاسد إذ لم يتقدم من كلام سيبويه رحمه الله ما يبني عليه هذا لا فى الترجمة ولا في المثل ولا فيما أنشده من قول الأخطل: [نفسي فداء أمير المؤمنين إذا أبدى التواجد يوم باسل ذكر الخائض الغمر والميمون طائره خليفة الله يستسقى به المطر] ومهلهل: [وللقد خبطن بيوت يشكر خبطه أخوالنا وهم بنو الأعمام] ولا تعرض له إلا بعد ما ذكر بعض ما سمعه من قراءة بعضهم: "الحمد لله رب العالمين " بالنصب وسؤال يونس عنها وبناء الباب على ما تقدم وتعقيبه بما به اتبع الترجمة وكل ذلك جار على ما فهمه

الجماعة من اختيار القطع وإن لم يتقدم اتباع. ثم إن القطع قبل الاتباع قد تحصل مما أورده من المثالين المسموعين والآيات وما أنشده قبل الاتباع وبعده من غير تفصيل فى الحالين وذلك كله يقتضي استواء الحكم ما لم يكن الموصوف يفتقر إلى زيادة بيان، فإنه قد يحسن إذ ذاك بيان، ولما لم يقع فيما صدر به سيبويه الباب إلا ما هو معلوم غير محتاج إلى زيادة بيان وإذا ثبت هذا ولم تقع إشارة إلى ما زعم هذا القائل من هذا التفصيل فلا يتوقف القطع على الشرطين المذكورين: من كون الصفة للثناء والتعظيم، وكون الموصوف معلوماً. وهل يطرد هذا الحكم فى كل ما وجد فيه أم يتفصل؟ هذا حكم آخر وسيستوفى بعد إن شاء الله. أما تقدم الاتباع فليس بشرط وإنما تعلق القائل بذلك مما ذكر أبو طاهر فى باب شاذ مما يشير إلى أنه قول قائل من النحويين، إلا أنه لم يتعرض لكلام سيبويه وإنما الخطأ فى نسبة ذلك لسيبويه مع فساد هذا القول فى نفسه. فإذا تقرر ما أصلناه من أن الوجه فيما الصفة فيه مدح أو ذم والموصوف معلوم قطع الصفة وأنه الأفصح، فللسائل أن يسأل عن وجه ضعف النصب فى القراءة المذكورة مع حصول شرط القطع؟ ولم اتفق القراء على خلاف ما تمهد أنه الوجه؟ والجواب عن ذلك - والله أعلم - أن اختيار القطع بعد حصول شرطية مطرد ما لم تكن الصفة خاصة بما جرت عليه لا تليق بغيره ولا يتصف بها سواه ولا شك أن هذا الضرب قليل جداً فلذلك لم يفصح سيبويه رحمه الله باشتراطه واكتفى بالوارد مما ذكره عن بعض العرب فإذا كانت الصفة مما لا يشارك فيها الموصوف غيره وكانت مختصة بمن جرت عليه فالوجه فيها الاتباع ويطرد ذلك فى صفات الله سبحانه مما لا يتصف به غيره، وأوضح ذلك هذه الصفة العلية ألا ترى أن ربوبيته تعالى للعالم بأسره لا تنبغى لغيره ولا يتصف بها سواه فلما كانت على ما ذكرته لم يكن فيها القطع والمراد السماع على هذا كاف فى الدلالة فمنه الآية المذكورة ومنه قوله تعالى: "حم*تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم*غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ". لما كان وصفه تعالى بغافر الذنب وما بعده لا يليق بغيره تعالى لم يكن إلا الاتباع، والاتباع لا يكون بعد قطع فلزم الاتباع فى الكل، ومن هذا قول عمرو بن الجموح: الحمد لله العلي ذى المنن الواهب الرزاق ديان الدين وهذا مع تكرار الصفات وذلك من مسوغات القطع على صفة ما، وعند بعضهم من غير تقييد بصفة، وأما الاتباع فيما لم يقع فيه إلا صفتان من صفاته تعالى فأكثر من أن يحصى، فهذا شاهد السماع وهو كاف وله وجه من القياس وهو شبيه بالوارد فى سورة

النجم فى قوله تعالى: "وأنه هو أضحك وأبكى*وأنه هو أمات وأحيا ". ثم قال تعالى بعد: "وأنه هو أغنى وأقنى*وأنه هو رب الشعرى ". فورد فى هذه الجمل الاربع الفصل بالضمير المرفوع بين اسم ان وخبرها ليحرز بمفهومه نفى الاتصاف عن غيره تعالى بهذه الأخبار وكان الكلام فى قوة أن لو قيل: وأنه هو لا غيره وذلك أنه لما كان يمكن المباهت الجاحد ادعاء هذه الأوصاف لنفسه مباهتاً ومغالطاً كقول طاغية إبراهيم عليه السلام جواباً لإبراهيم عليه السلام حين قال: "ربي الذي يحيي ويميت " فقال الطاغية مباهتاً ومخيلاً لأمثاله: أنا أحيي وأميت فأوهم بفعلة يطلق عليها هذه العبارة مجازاً بقتله من لم يستوجب القتل وتسريحه من وجب عليه القتل وهذا جار فى هذه الجمل المفصول فيها بالضمير فأتى به لما ذكر ولم يرد هذا الضمير فى قوله تعالى: "وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى "لأن ذلك مما لا يتعاطاه أحد لا حقيقة ولا مجازا وبالاعتراف بذلك أخبر تعالى عن عتاة الكفار العرب وغيرهم حين قال تعالى: "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " وكذلك قوله تعالى: "وأنه أهلك عاداً الأولى " لكون اهلاك القرون المكذبة مما لا يمكن أن ينسب لغير الله تعالى فلم يعرض فى هذا مفهوم يحتاج التحرز منه لم يرد هنا فصل بضمير كما ورد فيما تقدم. وإذا تأملت القطع فى صفات الثناء والمدح وجدت ما مهدناه جارياً على هذا، ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بزيد العلم، فاتبعت الصفة لموصوفها مع كون الصفة صالحة لمن أجريت عليه ولغيره لم يكن ذلك ليدفع غير زيد عن مشاركته فى صفته التي أجريتها عليه، فإذا قطعت قلت: ممرت بزيد العلم هو، برفع الصفة على تقدير مبتدأ أي هو العلم أحرز ذلك الضمير المبتدأ بمفهومه أن غير زيد ليس بعالم أو أنه ليس كزيد وكأنك قلت هو العلم لا غيره كما فى الآي المتقدمه، وكذا القطع فى النصب من غير فرق. فإذا كانت الصفة لم تخص من جرت عليه لم يكن هناك مفهوم محرز منه فلم يكن القطع ليحرز هنا فائدة فلم يحتاج إليه وعليه ورد السماع كما تقدم فقد تعاضد السماع والقياس كما بينا ووجب الاتباع فى قوله تعالى: "الحمد لله رب العالمين " وهو مما لم يتعرض له أحد بما يخاص مع لزوم الجواب عنه. الآية الثالثة: من أم القرآن قوله تعالى: "الرحمن الرحيم " فيها سؤال واحد وهو أن يقول القائل: ما وجه الفصل بهاتين الصفتين العليتين من قوله: "الرحمن الرحيم " بين الصفتين المقتضيتين ملك الدارين بما فيها وهما "رب العالمين "

"ملك يوم الدين " من حيث أن الحمد لله رب العالمين يتضمن أن لا رب سواه فهو ملك الكل فقد كان المطابق لهذا إيصال ملك يوم الدين به حتى يقع وصفه بملك الدارين جميعاً وبالانفراد فيهما بالخلق والأمر والحكم كمت هو وكما ورد فى قوله تعالى: "له الحمد فى الأولى والآخرة ". فالجارى مع هذا أن لو قيل: الحمد لله رب العالمين ملك يوم الدين والفصل بالرحمن الرحيم مما يكسر هذا الغرض فما وجه ذلك؟ والجواب عن ذلك: أنه تعالى خصص هذه الأمة بخصائص الاعتناء والتكريم، قال تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس ". وجعل نبينا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم والمصطفى من كافة الخلق والتابع يشرف بشرف المتبوع وقد خاطبه تعالى بخطاب الرحمة والتلطف والاعتناء فقال تعالى: "عفا الله عنك لم أذنت لهم " فقدم العفو بين يدي ما صورته العتب لئلا ينصدع قلبه صلى الله عليه وسلم فكذلك تلطف لعباده من أمة هذا النبي الكريم وأمنهم من خوفهم وإشفاقهم من عرض أعمالهم وحسابهم فقال: "الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم *ملك يوم الدين ". لما كان تعالى قد وصف هذا اليوم بأنه يوم تشخص فيه الأبصار "وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى "، قدم هنا تعريفهم بأنه "الرحمن الرحيم " وأنه ملك ذلك اليوم فأنس هذه الأمة كما أنس نبيهم وذلك أبين شئ. الآية الرابعة: قوله تعالى: "ملك يوم الدين " وفى قراءة عاصم والكسائي "مالك يوم الدين " وفى سورة آل عمران: "قل اللهم مالك الملك " ولم يقرأ بغيره، وفى سورة الناس "ملك الناس " ولم يقرأ أيضاً بغيره. ومدار الآيات الثلاث على تعريف العباد بأنه سبحانه الملك المالك ثم ورد فيها من الاختلاف ما ذكر. فللسائل أن يسأل فيقول: ما وجه هذا الاختلاف؟ وهل اختصاص آية أم القرآن بالقراءتين لموجب يخصها مع اتحاد المقصود فى الآيات الثلاث من أنه سبحانه المنفرد بملك الكل وإيجادهم وأنه الملك المالك؟ أم ذلك لاختلاف المقاصد؟ والجواب: إن الآيات الثلاث حاصل منها ما ذكر أنه مقصود من أنه سبحانه ملك مالك أما آية الفاتحة فبإفصاح القراءتين، وأما آية آل عمران فلفظ الملك المضاف إليه

مالك فى قوله تعالى: "مالك الملك " يفهم أنه الملك لأن الملك من له الملك فأفهم لفظ الملك المضاف إليه مالك أنه ملك فحصل الاكتفاء بهذا وأفهمت الآية الأمرين. وأما آية الناس فقوله تعالى: "برب الناس " مغن عن الإفصاح بمالك الناس لأن الرب المالك فكأن قد قيل: قل أعوذ بمالك الناس ملك الناس فاقتضى الإيجاز الاتصال ووحدة الكلام من حيث المعنى أما آية الفاتحة فقوله فيها: "ملك يوم الدين " آية انفردت عما قبلها بالتعريف بما لم تعرف به الآية التى قبلها من التنصيص على أنه ملك يوم الحساب فمصرف الكلامين فى الآيتين إلى مقصودين وذلك أن قوله تعالى: "الحمد لله رب العالمين " كلام مصرفه بحسب التفصيل الوارد هنا إلى حال الدنيا مع انسحاب معناه على الدارين ولكن ورد الكلام مفصلا فقال: "الحمد لله رب العالمين " فمصرف هذا بسبقية المفهوم وتقييد ما بعده وما يقتضيه التناظر والتقابل إلى حال الدنيا ثم قال: "ملك يوم الدين " فمصرف هذا إلى الآخرة فهذا فى التفصيل كقوله تعالى: "له الحمد فى الأولى والآخرة " فلم يكن ما مصرفه إلى حال الدنيا ليقع به الاستغناء عما مصرفه إلى حال الآخرة فلم يكن بد من الإفصاح بالصفتين فورد ذلك فى القراءتين بخلاف ما فى آية آل عمران وآية الناس فإن الآيتين من حيث الاتصال فى المعنى فى قوة آية واحده والكلام فيهما مطلق غير مقيد فيتناول بحسب إطلاقه الحكم فى الدارين مع أنه كلام واحد. فإن قلت: إذا كان قوله "ملك يوم الدين " بحسب المصرف كما تقدم آية انفردت وأين مقصدها الآية قبلها على ما تمهد فقد صارت آيتا أم القرآن بحسب مصرف كل آية منهما كآية آل عمران وآية الناس فيحتاج فى كل واحدة منهما على ما تمهد إلى ما يفهم أنه سبحانه ملك مالك وقد حصل ذلك من الآيات الثلاث فما المفهم لذلك من قوله تعالى: "رب العالمين " فالجواب أنه مفهوم من عموم قوله تعالى: "رب العالمين " إذ لم يقع مثل هذا العموم والاستيفاء من هذه الآى فى غير هذه فإن لفظ العالمين يشمل كل مخلوق وإذا كان رب الكل ومالكهم فإن جميعهم تحت قهره وملكه فلا ملك لغيره سبحانه. فقد حصل من كل واحدة من هذه الآى الأربع أنه سبحانه الملك المالك وتبين أنه لا يلائم الآية من أم القرآن إلا ما ورد فيها من القرآتين وان الآيات الاخر لو قرئت بالوجهين لكان تكرارا فورد كل على ما يجب ولا يناسب خلافه. والله أعلم.

سورة البقرة

سورة البقرة غ - قوله سبحانه: "الم ". أقول وأسأل الله توفيقه: إن القول الوارد عنهم فى هذه الحروف المقطعة الواردة فى أوائل السور على كثرته وانتشاره منحصر فى طرفين أحدهما: القول بأنها مما ينبغى أن لايتكلم فيه ويؤمن بها كما جاءت من غير تأويل والثانى: القول بتأويلها على مقتضى اللسان وهذا مسلك الجمهور، وهذا الذى نعتقد أنه الحق لأن العرب تحديت بالقرآن وطلبت بمعارضته أو التسليم والانقياد وبمعرفتهم أنه بلسانهم ومعروف تخاطبهم وعجزهم مع ذلك عنه قامت الحجة عليهم وعلى كافة الخلق، وإذا سلم هذا فكيف يرد فى شئ منه خطابهم بما لا طريق لهم إلى فهمه، فلو كان هذا لتعلقوا به ووجدوا السبيل إلى التعلل فى العجز عنه وهذا مبسوط فى كتب الناس وغير خاف وقد انتشرت تأويلات المفسرين وتكاثرت والملائم بما نحن بسبيله ما أذكره مما لم أر من تعرض له وهو اختصاص كل سورة من المفتتحة بهذه الحروف بما افتتحت به منها فهذا ما يسأل عنه ولم أر من تعرض وهو راجح إلى ما قصدته هنا وما سوى هذا مما يتعلق بالسؤال على الحروف كورودها على حرف وعلى حرفين إلى خمسة وتخصيص هذه الحروف الأربعة عشرة وكثرة الوارد منها على ثلاثة إلى غير هذا فليس من مقصدنا فى هذا الكتاب أما الأول فمن شرطنا. والجواب عنه: أن وجه اختصاص كل سورة منها بما به اختصت من هذه الحروف حتى لم يكن ليرد "الم " فى موضع "الر " ولا "حم " فى موضع "طس " ولا "ن " فى موضع "ق " إلى سائرها، أن هذه الحروف لافتتاح السور بها ووقوعها مطالع لها كأنها أسماء لها بل هى جارية مجرى الأسماء من غير فرق وهذا إذا لم نقل بقول من جعلها أسماء للسور والعرب تراعى فى الكثير من المسميات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون فى المسمى من خلق أو صفة تخصه أو تكون فيه أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرائى للمسمى، ويسمون الجملة من الكلام والقصيدة الطويلة من الشعر بما هو أشهر فيها أو بمطلعها إلى أشباه هذا وعلى ذلك جرت أسماء سور الكتاب العزيز كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لغريب قصة البقرة المذكورة فيها وعجيب الحكمة فى أمرها وتسمية سورة الأعراف بالأعراف لما لم يرد ذكر الأعراف فى غيرها وتسمية سورة النساء بهذا الاسم

لما تردد فيها وكثر من أحكام النساء وتسمية الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها وان كان قد ورد لفظ الأنعام فى غيرها إلا أن التفصيل الوارد فى قوله تعالى: "ومن الأنعام حمولة وفرشا " إلى قوله "أم كنتم شهداء " لم يرد فى غير هذه السورة كما ورد ذكر النساء فى سور إلا ما تكرر وبسط من أحكامهن لم يرد فى غير سورة النساء وكذا سورة المائدة لم يرد ذكر المائدة فى غيرها فسميت بما يخصها. فإن قلت: قد ورد فى سورة هود ذكر نوح وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام ولم تختص باسم هود وحده ـ عليه السلام ـ فما وجه تسميتها بسورة هود على ما أصلت وقصة نوح فيها أطول وأوعب؟ قلت: تكررت هذه القصص فى سورة الأعراف وسورة هود وسورة الشعراء بأوعب مما وردت فى غيرها ولم يتكرر فى واحدة من هذه السور الثلاث اسم هود عليه السلام كتكرره فى هذه السورة فإنه تكرر فيها عند ذكر قصته فى أربع مواضع والتكرر من أعمد الأسباب التى ذكرناها. فإن قيل: فقد تكرر اسم نوح فى هذه السورة فى ستة مواضع وذلك أكثر من تكرر اسم هود قلت: لما أفردت لذكر نوح وقصته مع قومه سورة برأسها فلم يقع فيها غير ذلك كانت أولى بأن تسمى باسمه ـ عليه السلام ـ من سورة تضمنت قصته وقصة غيره من الأنبياء عليهم السلام وإن تكرر اسمه فيها أكثر من ذلك. أما هود ـ عليه السلام ـ فلم يفرد لذكره سورة ولا تكرر اسمه مرتين فما فوقها فى سورة غير سورة هود فكانت أولى السور بأن تسمى باسمه ـ عليه السلام ـ. وتسمية سائر سور القرآن جار فيها من رعى التسمية ما يجاريها فأقول: - وأسأل الله عصمته وسلامته - إن هذه السور إنما وضع فى أول كل سورة منها ما كثر ترداده فيما تركب من كلمها ويوضح لك ما ذكرت أنك إذا نظّرت سورة منها بما يماثلها فى عدد كلمها وحروفها وجدت الحروف المفتتح بها تلك السور إفرادا وتركيبا أكثر عددا فى كلمها منها فى نظيرتها ومماثلتها فى عدد كلمها وحروفها فإن لم تجد سورة منها ما يماثلها فى عدد كلمها ففى اطراد ذلك فى المتماثلات مما يوجد له النظير ما يشعر بأن هذه لو وجد مماثلها لجرى على ما ذكرت لك وقد اطرد هذا فى أكثرها فحق لكل سورة منها أن لا يناسبها غير الوارد فيها فلو وقع فى موضع "ق " من سورة "ق " "ن " من سورة "ن والقلم " وموضع ن ق لم يمكن لعدم المناسبة المتأصل رعيها فى كتاب الله تعالى فإذا أخذت كل افتتاح منها معتبرا بما قدمته لك لم تجد: "كهيعص " يصح فى

موضع "حم عسق " ولا العكس ولا "حم " فى موضع "طس " ولا العكس ولا "المر " فى موضع "الم " ولا عكس ذلك، ولا "المر " فى موضع "المص " بجعل الصاد فى موضع الراء ولا العكس فقد بان وجه اختصاص كل سورة بما به افتتحت، وأنه لا يناسب سورة منها ما افتتح غيرها، والله أعلم بما أراد. الآية الثانية: قوله تعالى: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " فوصفه سبحانه بكونه هدى للمتقين وقال تعالى فى وصف التوراة والإنجيل فى أول سورة آل عمران: "وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس " ولم يقل هنا هدى للمتقين فللسائل أن يسأل عن الفرق الموجب اختصاص كل من الموضعين بما ورد فيه وهل كان يحسن ورود الناس فى موضع المتقين وورود المتقين فى موضع الناس؟ والجواب: أن الملائم المناسب ما ورد وأن عكسه غير ملائم ولا مناسب ووجه ذلك أن الكتاب المشار إليه هو الكتاب العزيز على ما فى مآخذ المفسرين من التفصيل وهو مما خصت به هذه الأمة، والتوراة كتاب موسى عليه السلام لبنى إسرائيل والإنجيل كتاب عيسى عليه السلام ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم الفضل المعلوم فأشير بالمتقين إلى حال المخصوصين به، وقيل فى الآخرين: هدى للناس ليشعر بحال أهل الكتابين وفضل أهل الكتاب العزيز عليهم فلا يلائم كل موضع إلا بما ورد فيه. فإن قيل: إنما صح لهم الوصف بالتقوى بعد اهتدائهم بالكتاب وتصديقهم به والتزامهم ما تضمنه. قلت: لحظ فى ذلك الغاية فهو من باب التسمية بالمآل وهو باب واسع ومنه: "إنى أرانى أعصر خمرا " وإذا تقرر ما ذكرناه فعكس الوارد غير ملائم، والله أعلم بما أراد. الآية الثالثة: قوله تعالى: "يخادعون الله والذين ءآمنوا وما يخدعون الا أنفسهم وما يشعرون " وقال بعد: "ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يشعرون ". ثم قال بعد: "ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون " فنفى عنهم هنا العلم وفى الآيتين قبل الشعور فيسأل عن الفرق الموجب لهذا التخصيص. والجواب عن ذلك: إن الشعور راجع إلى معنى الإحساس مأخوذ من الشعار وهو ما يلى الجسد ويباشره فيدرك ويحس من غير افتقار إلى فكر أو تدبر، فيشترك فى مثل

هذا الإدراك العاقل من الحيوان وغير العاقل وأما العلم فلا يكون إلا عن فكر ونظر يحصله، وقد تكون مقدماته حسية أو غير حسية على قول المحققين من أرباب النظر فهو مما يخص العقلاء ولما كان الإيمان وهو التصديق لا يحصل إلا عن نظر وفكر يحصل العلم بالمصدق به، ولا يكون النظر والفكر إلا من عاقل يعرف الصواب من الخطإ وقد نفى المنافقون ذلك عن المؤمنين ونسبوهم إلى السفه وهو خفة الحلم وعدم التثبت فى الأمور وذلك فى قولهم: "أنؤمن كما آمن السفهاء " فرد الله ذلك عليهم بقوله: "ألا إنهم هم السفهاء " ونفى عنهم العلم فنفى عنهم ما نفوه عن غيرهم ووصفوا بما نسبوه لغيرهم ولما كان الفساد فى الأرض وروم مخادعة من لا ينخدع منتحل لا يخفى فساده على أحد ويوصل إلى ذلك بأول إدراك ناسبه أيضاً نفى الشعور ولم يكن ليناسبه نفى العلم فجاء كل على ما يناسب ويلائم. وتعرض أبو الفضل بن الخطيب لما ورد فى هذه الآية فقال: إنما قال فى آخر هذه الآية "لا يعلمون " وفيما قبلها "لا يشعرون " لوجهين: أن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلى نظرى وأما أن النفاق وما فيه من البغى يقضى إلى الفساد فى الأرض فضرورى جار مجرى المحسوس والثانى أنه لما ذكر السفه وهو جهل كان ذكر العلم أحسن طباقا له والله أعلم انتهى، وما ذكرته أجرى مع لفظ الآي وأبين. الآية الرابعة: قوله تعالى: "وتركهم فى ظلمات لا يبصرون صم بكم عمى فهم لا يرجعون " وورد فيما بعد: "ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لايسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون " ففى الأولى "لا يرجعون " وفى الثانية "لا يعقلون " مع اتحاد الأوصاف الواردة مورد التسبب والعلة فيما نسب لهم. والجواب عنه: أنه لما مثل حال المنافقين بحال مستوقد النار لطلب الإضاءة وأنه لما أضاءت ما حولها أذهبها الله وطفيت فلم يكن له ما يستضئ به ويرجع إليه فنفى عنهم وجود ما يرجعون إليه من ضياء يدفع حيرتهم وهذا بين. أما الآية الثانية فإنه مثل حال الكافرين فيها بحال الغنم فى كونها يصاح بها وتنادى فلا تفهم عن راعيها ولا تسمع إلا صوتاً لا تعقل معناه ولا نفهم ما يراد به كذلك الكفار

فى خطاب الرسل إياهم فلا يجيبونهم ولا يعقلون ما يراد بهم وهذا مناسب وكل على ما يجب. فإن قيل أما تمثيل الكفار وتشبيههم بالغنم فيما ذكر فقد أفصح ذلك قوله تعالى: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام " فقد وضح هذا ما ذكرته إلا أن آية البقرة إنما ورد فيها ببادى سياق الكلام وظاهره تشبيه الكفار بالنعاق بالغنم لا بالغنم فكيف يرجع تقدير الآية إلى ما ذكرت؟ فالجواب: أن إيجاز الكلام يقتضى حذف ما يفهمه السياق اختصاراً فالتقدير فى الآية ما مر من الإشارة إلى التشبيه بالطرفين ومنه قول الشاعر: وإنى لتعرونى لذكراك فترة كما انتفض العصفور بلله القطر فشبه فى ظاهر الكلام ما يعروه من الفترة بانتفاض العصفور وليس مراده هذا وإنما يريد تشبيه ما يعروه بما يعرو العصفور بعد ما يدركه من بل المطر من الفترة وأنه ينتفض عندها كما ينتفض العصفور فحذف فى كل من الطرفين ما أثبت نظيره. فالتقدير فى البيت: وإن لتعرونى لذكراك فترة فانتفض كما تعرو العصفور فترة فينتفض فشبه ما يعروه بما يعرو العصفور والانتفاض بالانتفاض وعلى هذا حمل سيبويه الآية قال: "لم يشبهوا بما ينعق وإنما شبهوا بالمنعوق به " وإنما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذين لا يسمع. قال [سيبويه]: "ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى " وهذا تقدير معنى الآية. فإن قلت فكيف تقدير الإعراب؟ قلت: الأقرب فيه أن يكون على حذف مضاف أى ومثل داعى الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع وعلى هذا حمله أكثر الناس وان شئت جعلت ما قدرنا عليه المعنى تقديراً للمعنى والإعراب وقد أخذه على ذلك جملة من شيوخنا ومن قبلهم. الآية الخامسة: قوله تعالى: "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) " وفى سورة يونس: "أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين "، وفى سورة هود: "أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ". يسأل عن قوله فى الأولى: "من مثله " وفى الثانية: "مثله " وما الفرق بين الموضعين؟ ولم قيل فى سورة هود بعشر سور؟ ولم وصف بمفتريات؟ ولم قال فى البقرة: "فادعوا شهدائكم " وفى الموضعين الآخريين: "من استطعتم " فهذه أربع سؤالات.

والجواب عن السؤال الأول: أن المراد إراءتهم ما يرفع شكهم فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكأن قد قيل: إن شككتم فى نبوته وتخصيصنا إياه بذلك فلتأتوا برجل منكم غيره يصدر عنه أو يأتى بسورة واحدة من نمط طا سمعتم من محمد صلى الله عليه وسلم وائتوا بشهداء يشهدون أن غيره قد سمع منه ما طلبتم به فإذا عجزتم عن ذلك مع التماثل فى الخلق والعلم بمقادير الكلام، إذ ليس بغير لسانكم المألوف عندكم فإذا عجزتم عن ذلك ولابد من عجزكم فاتخذوا وقاية تنجيكم من النار التى يخبركم أنها معدة لمن يكذبه فلما كان المراد هنا ما ذكرناه من التعيضية فى قوله تعالى: "من مثله " وأما الوارد فى سورة يونس فإنما أريد به ما يجرى مع قوله تعالى: "أم يقولون افتراه ". فقيل لهم: إذا كان مفترى كما تزعمون فما المانع لكم عن معارضته فائتوا بسورة مماثلة للقرآن، فالمراد هنا نفى كلام مماثل للقرآن وإقامة الحجة عليهم بعجزهم عن ذلك والمراد فى البقرة نفى شخص يماثله صلى الله عليه وسلم فى أن يسمع منه ما يماثل سورة واحدة من مثل القرآن فى فصاحته وعجائبه، فاختلف المقصدان فى السورتين مع الائتلاف فى تعجيزهم عن هذا وهذا فلما اختلفا لم يكن بد من "من " فى الأولى لإحراز معناها ولم يأت فى يونس لحصول المعنى المقصود فيها دون من. فإن قلت فإن "من " لا تمنع هذا المعنى المقصود فى يونس قلت: إذا كان المعنى يحصل بثبوتها وسقوطها على السواء فقد بقى رعى الإيجاز وهو مقتض سقوطها، أما المعنى المقصود فى البقرة فلا يحصل الا بمن فلم يكن بد منها هنا، فورد ذلك كله على ما يجب ويناسب. والجواب عن السؤال الثانى: وهو قوله تعالى فى سورة هود: "بعشر سور " فإنه والله أعلم لما قيل مفتريات فوسع عليهم ناسبة التوسعة فى العدد المطلوب لأن الكلام المفترى أسهل فناسبته التوسعة. أما الوارد فى السورتين قبل فلم يذكر لهم فيها أن يكون مفترى بل السابق من الآيتين الممثالة مطلقا فذلك أصعب وأشق عليهم مع عجزهم فى كل حال، فوقع الطلب حيث التضييق بسورة واحدة وحيث التوسعة بعشر سور مناسبة جليلة واضحة وقد جاوب بما هذا معناه بعض المفسرين. والجواب عن الثالث: أنه وصف لهم المطلوب منهم هنا بأن يكون مفترى ليحصل عجزهم بكل جهة فلا يقدرون على وجود شخص مماثل له صلى الله عليه وسلم فى ظاهر الصورة الجنسية سمع منه ما يسمع من محمد صلى الله عليه وسلم ولا يقدرون على مثل سورة واحدة من سور القرآن. ولما كان ظاهر هاتين الآيتين المماثلة مطلقا قيل بعد ذلك:

"ائتوا " بكلام مفترى على سهولة ما لا يتقيد بسوى الفصاحة وجاء ذلك من طلبهم بالتدريج، فأولا بالممثالة من غير ذكر: "مفترى " ثم قيل لهم: جيئوا بمفترى فلم يبق لهم عذر إلا العناد. والجواب عن الرابع: أن قوله تعالى فى سورة البقرة: "وادعوا شهدائكم " المراد به من يشهد لكم أن شخصا مثله صلى الله عليه وسلم قد سمع منه ما طلب منكم إذ لا يكتفى فى مثل هذا بمجرد دعوى المدعى فقيل لهم: ائتوا بسورة من شخصه مثله فى الجنسية وبمن يبتعد لكم بأن قد فعلتم. وقيل لهم فى سورة يونس فئتوا بسورة مثل القرآن واستعينوا عى ذلك بمن قدرتم فلم يطلبوا هنا بمن يشهد لهم وانما قيل لهم: استعينوا فى النظم والتأليف بمن قدرتم لأن سماع ذلك منهم أن لو كان ولا سبيل إليه لا يحتاج معه إلى شهادة شاهد، أما لو ادعوا أن أحداً سمع منه مثل القرآن لما قتع منهم بمجرد دعواهم ألا ترى استرواحهم إلى اقناع جهلتهم بما حكى سبحانه وتعالى عنهم بقوله: "لو نشاء لقلنا مثل هذا " والوارد فى هود كالوارد فى يونس. الآية السادسة: هى أول آية تعرض لها صاحب كتاب الدرة وأجاب بغير ما هنا والله ينفع جميعنا بفضله. وما يقع بعد مما لم يتعرض له صاحب كتاب الدرة من الآيات فننبه عليه بعلامة: ليعلم أنه من المفل كما تقدم. قوله تعالى: "وقلنا يآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة " وفى سورة الأعراف: "ويآدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة "، فى هذا سؤالان: الأول: ورود أمرهما بالأكل فى البقرة بواو النسق المقتضية عدم الترتيب ما لم يفهم من غيرها، وفى الأعراف: بالفاء المقتضية الترتيب والتعقيب والأمر واحد والقصة واحدة. والثانى: وصف الأكل فى البقرة بالرغد ولم يقع هذا الوصف فى الأعراف مع اتحاد الأمر كما ذكرنا. والجواب عن السؤال الأول: والله أعلم أن الوارد فى الآيتين مختلف فى الموضعين أما الوارد فى البقرة فقصد به الإخبار والإعلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما جرى فى قصة آدم صلوات الله وسلامه عليه وابتداء خلقه وأمر الملائكة بالسجود له وما جرى من إبليس عن السجود ثم ما أمر آدم من سكنى الجنة والأكل منها ولم يقصد غير التعريف بذلك من غير ترتيب زمانى أو تحديد غاية فناسبه الواو وليس

موضع الفاء، وأما آية الأعراف فمقصودها تعداد نعم الله جل وتعالى على آدم وذريته ألا ترى ما تقدمها من قوله تعالى: "ولقد مكناكم فى الأرض " وما اتبع به هذا من ذكر الخلق والتصوير وأمر الملائكة بالسجود لآدم ثم قوله مفردا لإبليس: "اخرج منها مذءوما مدحورا " ثم بعد ذلك أمر آدم عليه السلام بالهبوط متبعاً بالتأنيس له ووصية ذريته فى قوله تعالى: "يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان " فتاسب هذا القصد العطف بالفاء المقتضية الترتيب والواو لا تقتضى ذلك وإنما بابها الجمع حيث لا يراد ترتيب وليس موضع شرط وجزاء فيكون ذلك مسوغاً لدخول الفاء، وإنما ورد هنا لما ذكرته من قصد تجريد التفصيل المحصل لتعداد النعم، ولما اختلف القصدان اختلفت العبارة عنهما، فورد كل على ما يناسب. والله أعلم. وأما السؤال الثانى فالجواب عنه: أن ورود الرغد فى آية البقرة وسقوط ذلك فى الأعراف إنما ذلك لأن المعنى من هنا التبعيض ومعناها بما هو تبعيض قد يسبق منه إرادة التقليل وهو غير مراد هنا، وإنما مصرف التبعيض هنا إلى المأكول منه، فإن ما اشتملت عليه الجنة من ذلك إذا أكلت منه ذرية آدم بأجمعها فإنما تأكل بعضا إذ فيها من كل متنعم به ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فاجتمع هنا أن البعضية مرادة بالنظر إلى ما انطوت عليه الجنة وإباحة التوسعة فى أكلها مقصودة وليس ثم ما يحرزها فقال تعالى: "رغداً " ليحصل المعنى التوسعة وتجردت "من " لإحراز معناها ولم يكن هنا بد إذ ليس فى السياق ما يحرز ذلك المعنى من التوسعة وذلك قوله تعالى: "من حيث شئتما " لإباحة ما فى أماكنها ومن المحال أن يباح لهما الأكل من حيث شاءا منها على اتساع المساحة وكثرة المآكل ثم يحجر عليهما التوسع فى الأكل والرغد فيه، هذا متناقض. فإن قيل: قد وقع فى سورة البقرة: "حيث شئتما " وتلك توسعة فى الأماكن قلت: ليس موقع حيث شئتما " موقع "من حيث شئتما " لأن "من حيث شئتما " يحرز ويعطى إباحة الأكل من ثمر كل موضع فيها. أما حيث إذا لم يكن معها "من " فإنها تعطى بأظهر الاحتمالين إباحة الأكل فى كل موضع لا من ثمر كل موضع فقد يقال للشخص كل هذا العنقود حيث شئت من هذا البستان فإنما أبيح له أكل عنقود معين مخصوص حيث شاء من أماكن ذلك البستان ولم يتعرض بهذه العبارة لإباحة أكل ما فى كل موضع منه الا باحتمال ضعيف. أما إذا قيل له كل من حيث شئت من مواضع هذا البستان فقد أبيح له الأكل من كل ما فى مواضعه، وحصلت التوسعة فى المأكل ولم يحصل ذلك عند سقوط "من " على ما تقدم

آنفا، فقد وضح افتراق الموضعين، وتعين ورود رغداً فى البقرة إذ ليس ثم ما يحرزه وتعين سقوطه فى الأعراف لوجود ما بحرزه. والله أعلم بما أراد. الآية السابعة: قوله تعالى: "قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى ". وفى الأعراف "قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو " وفى سورة طه "قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ". ويسأل عن أى شئ لم ترد هذه الزيادة فى قوله فى البقرة: "قلنا اهبطوا منها جميعا "؟ والجواب عن ذلك: أنه لم يرد ذلك هنا اكتفاء بما فى الآية قبلها وهو قوله: "وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ". فلو قيل ذلك فى الآية بعدها مع الاتصال والتقارب لكان تكرارا لا يحرز فائدة لم تحصل بخلاف ما فى سورة الأعراف وسورة طه فورد كل على ما يجب ويناسب والله أعلم. الآية الثامنة: قوله تعالى فى البقرة: "فمن تبع هداى " وفى سورة طه: "فمن اتبع هداى ". هنا سؤالان: ما فائدة اختلافهما وما وجه تخصيص كل موضع منهما بما اختص به؟ والجواب عنه والله أعلم: أن تبع واتبع محصلان للمعنى على الوفاء، و"تبع " فعل وهو الأصل و"اتبع " فرع عليه لأنه يزيد عليه وهو منبئ عن زيادة فى معنى فعل بمقتضى التضعيف فعلى هذا وبحسب لحظة ورعيه ورد فمن تبع وفمن اتبع وتقدم فى الترتيب المتقرر فمن تبع لإنبائه عن الاتباع من غير تعمل ولا تكلف ولا مشقة، وأما اتبع فإن هذه البنية أعنى بنية افتعل تنبئ عن تعمل وتحميل للنفس فقدم ما لا تعمل فيه وأخر اتبع لما يقتضيه من الزيادة ولم تكن إحدى العباراتين لتعطى المجموع فقدم ما هو أصل وأخر ما هو فرع عن الأول وكلاهما هدى ورحمة وورد كل على ما يناسب ويلائم. وجواب ثان ينبئ عليه ما تقدم فيكون جوابا واحدا وهو ان اتبع مزيد منبئ عن التعمل والعلاج كما تقدم ولا يفهم ذلك من تبع الذى هو الأصل وانما ينبئ فى الأظهر عن قضية يتلو فيها التابع المتبوع متقيدا به فى فعله من غير كبير تعمل ولا علاج وكل من العبارتين أعنى تبع واتبع إنما يستعمل فى الغالب حيث يراد مقتضاه مما بينا، ألا ترى قول الخليل عليه السلام فى اخبار الله تعالى عنه: "فمن تبعنى فانه منى " حين أشار بقوله "فانه منى " إلى الخاصة من سالكى سبيله باتباعه القديم، فعبر بما يشير إلى غاية التمسك والقرب حين قال: "منى " فناسب ذلك قوله: "تبعنى " يريد الجرى على

مقتضى الفطرة وميز الحق بديها بسابقة التوفيق من غير إطالة نظر من حال هؤلاء من قيل فيه: "ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله " وهذه الآية وأمثالها مراد بها من تعامى عن النظر فى الدلالات وترك واضح الاعتبار وحمل نفسه بقدر الله على ما لا يشهد له نظر ولا يقوم عليه برهان فكأن هؤلاء تعلموا فى ذلك وعالجوا أنفسهم حتى انقادت طباعهم إلى غير ما تشهد به من الفطرة ولذلك استعير لمن جرى على حال هؤلاء البيع والشراء فقيل: "أولئك الذين اشروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم " لما كان ما بسط من الدلائل ونصب من الآيات والشواهد واضحا وكانوا ذوى أسماع وأبصار وأفئدة فما اعتبروا ولا أجدت عليهم كان سلوكهم سبل الغى والضلال تعملا وتركا للرشد على بصيرة ولذلك أخبر الله تعالى عن حال هؤلاء فى فعلهم ومرتكبهم بالجحود فسماه بهذا فى قوله تعالى: "فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بآيات الله ". ولا يقال جحد إلا فيمن كتو معلوما بعد حصوله وتظاهر بباطل فقد اعتمل نفسه غى ذلك فعبر عن مثل هذا بأتبع ولم يكن موضع "تبع " وكذلك قيل لمن وسم بالاسراف فى المخالفات من عصاة الموحدين فقيل لهم: "واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم " وذلك لإلفتهم المخالفات وانقياد نفوسهم لها حتى احتاجوا فى الإقلاع عن ذلك والأخذ فى خلاف حالهم إلى التعمل والعلاج، وكذا قيل لمن ألف الطاعات وارتاض لالتزامها: "لا تتبعواخطوات الشيطان " لإلفة نفوسهم الطاعات حتى انهم وقعت منهم مخالفة فبتعمل وعلاج لأنها خلاف المألوف فتأمل ما يرد هذا فانه يوضح بعضه، وإذا تقرر هذا فتأمل ما بين القضيتين، فأقول: لما تقدم فى آية البقرة قوله تعالى: " وقلنا يآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما " إلى قوله: "فمن تبع هداى " ولم يرد فيها مما كان من إبليس سوى ما أخبر به تعالى عنه من قوله: "فأزلهما الشيطان عنها " من غير تعرض لكيفية تناوله ما فعل ولا ابداء علة ولا كبير معالجة ناسب هذا: "تبع "، ولما ورد فى آية طه ذكر الكيفية فى إغوائه بقوله له: "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " وقد حصل فى هذا الإشارة إلى ما بسط من قوله فى الأعراف: "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " وقسمه على ذلك فكان هذه كله قد تحصل مذكورا فى آية طه بما تضمنته من الإشارة إليه، فأفهمت الآية قوة كيد اللعين واستحكام حيلته حتى احتنك الكثير من ذريته

الآية التاسعة

وحملهم على عبادة الطواغيت وتلقت النفوس المتعاقبة ذلك منه بقبول فصار تمييز الحق لا يحصل إلا بمعالجة وتعمل فناسبه فمن اتبع كما ناسب ما تقدم فى آية البقرة فمن تبع، من حيث لم يبسك فيها من كيد اللعين ما بسط فى آية طه فورد كل على ما يناسب معنى ونظما وإيجازا وإطالة بإطالة ثم إذا لحظ الترتيب فالجارى على رعية تقديم ما هو الأصل وتأخير ما هو الفرع فقيل فى آية البقرة: فمن تبع وفى آية طه: فمن اتبع، وحصل رعي الوجوه الثلاثة ووضح أنه مقتضى النظم والله أعلم بما أراد. الآية التاسعة: قوله تعالى: "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) " وقال بعد: "استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين " يسأل عما أعقب به فى كل الموضعين وما وجه تخصيصه وهل يجوز وقوع كل منهما فى موضع الآخر؟ والجواب: ان قوله تعالى: "وانها لكبيرة ..... الآية. وقوله فى الآية الثانية: "إن الله مع الصابرين ". كلا الإخبارين مناسب لقوله: "واستعينوا بالصبر والصلاة " فلا سؤال فى هذا وإنما يسأل عن تخصيص كل من الموضعين بما خص به اتباعا؟ والجواب عن ذلك أن قوله تعالى: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " مشير إلى التثاقل عنها والتكاسل الجاريين فى الغالب والأكثر مع ضعف اليقين وقلة الإخلاص وذلك مناسب لحال بنى إسرائيل ممن ذكرت فى الآيات قبل ألا ترى قوله تعالى فى المنافقين وإنما أكثرهم من يهود: "ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ". وقوله: "وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى " فلما كان قوله تعالى فى الآية الأولى: "واستعينوا بالصبر والصلاة " مكتنفا بأمر بني إسرائيل ونهيهم ناسب هذا قوله تعالى: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " ولما كانت الآية الثانية معقبا بها أمر المؤمنين فى قوله تعالى: "يا أيها الذين ءآمنوا استعينوا بالصبر والصلاة " وحال من وسم بالإيمان حال رضى واستقامة ناسبهم وصفهم بالصبر إذ بالصبر على الطاعات حصول الدرجات فجاء كل على ما يناسب ولم يكن ليلائم واحدا من الموضعين غير ما أعقب به. والله أعلم بما أراد. الآية العاشرة: قوله تعالى: "واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل " ووقع بعد: "ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها

الآية الحادية عشرة

شفاعة "، فأخر ذكر الشفاعة فى هذه الآية وقدم فى الأولى يسأل عن ذلك. ووجه ذلك والله أعلم أنه لما تقدم فى الآية الأولى قوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " والمأمور بالبر قد يأخذ به ويتمسك بموجبه فيسلم من العصيان وتكون فى ذلك نجاته وإذا أمكن هذا فقد وقع الاهتداء بأمر هؤلاء الذين قيل لهم: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " فهو مظنة عندهم لرجائهم أن ينفع عند مشاهدة الجزاء الإحسانى للمأمورين بالبر حين قبلوا وامتثلوا أخذاً بظاهر حال الأمرين وإن كانوا يبطنون خلاف ما يظهرون وهذا جار على مألوف طمع اليهود، وقد ورد فى ذكر المنافقين تعلقهم فى القيامة بقولهم للمؤمنين: "ألم نكن معكم " فطمع من زاد على كونه مع المتعلق به أنه أمره فاقتدى بأمره واهتدى المأمور لما بخلوصه أخذا بظاهر ما صدر عن الآمر وان كان الآمر يبطن خلاف ما أمر به غيره إلا أن هذا أمكن من التعلق بالكينونة فى الدنيا مع الناجين وإذا تعلق هؤلاء بمجرد كونهم كانوا مع المؤمنين فتعلق من أمر بالبر زائد إلى كونه من المأمورين، وإن كان أمرة تظاهرا وراءا أمكن، إلا أن كل ذلك لا ينفع ما لم يكن إيمان مخلص فلتوهم هؤلاء إمكان الشفاعة من أمرهم بالبر وطمعهم فى ذلك كان آكد شئ نفى الشفاعة لهم لإمكان توهمها ولم يتقدم فى الآية الأخرى ما يستدعى هذا فقدم فيها ذكر الفئة التى هى أولى وأحرى فى كمال التخلص على ما عهد فى الدنيا لو أمكنت والله أعلم بما أراد. الآية الحادية عشرة من سورة البقرة قوله تعالى: "وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ "الآية. وفى سورة الأعراف:: "وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ " فالقضية فى السورتين واحدة وقد ورد فى سورة البقرة: "نجيناكم " مضعفا وفى الأعراف: "أنجيناكم " غير مضاعف، وفى سورة البقرة: "يذبحون " وفى سورة الأعراف: "يقتلون "، وقد ورد فى سورة إبراهيم "يسومونكم سوء العذاب ويذبحون " منسوقا بحرف العطف ففى هذه الآية ثلاث سؤالات تعرض منها صاحب كتاب الدرة للفرق بين "يذبحون " وقوله تعالى فى سورة إبراهيم "ويذبحون " وأغفل ما سوى ذلك. والجواب عن الأول: ان الوارد فى سورة البقرة مقصود به تعداد وجوه الإنعام على بنى إسرائيل وتوالى الامتنان ليبين شنيع مرتكبهم فى مقابلة ذلك الإنعام بالكفر ولنقدم

لذلك تمهيداً فنقول: أنه تعالى بدأ عباده بالنعم وأحسن إليهم قبل إيجادهم حين ذكرهم فى الأزل بخصوص التكريم وسبقت رحمته غضبه وله المن والطول وعلى لحظ ما ذكرنا ورعيه جرى خطاب الخلق فى دعائهم إلى عبادته فقال تعالى فى أول وارد من ذلك فى كتابه العزيز على المعتمد من مقتضى الترتيب الثابت: "يأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون " إلى قوله: "فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون " فذكرهم سبحانه بإيجادهم بعد العدم وجعله الأرض فراشا لهم والسماء بناء وانزال الماء من السماء واخراج الثمرات به وكل هذا انعام وإحسان منه لعباده من غير حاجة به إلى ذلك فدعا سبحانه الخلق لعبادته مذكراً بإنعامه عليهم وبهذا أمر رسله فقال لموسى عليه السلام: "وذكرهم بأيام الله " أى بآلائه ونعمائه وعلى هذا جرى خطاب بنى إسرائيل فى سورة البقرة فى أول خطاب خوطبوا به ودعوا إلى عبادة الله وتصديق من قدم لهم فى أمره وأخذ عليهم العهد فى الإيمان به فقال تعالى: "يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم ". فأجمل تعالى ثم فصل فذكر نجاتهم من آل فرعون وفرق البحر بهم ونجاتهم وهلاك عدوهم بالغرق ثم ذكر عفوه عنهم فى عبادة العجل وتوبته عليهم وبعثهم من موتهم عند طلبهم الرؤيا، وتظلياهم بالغمام إلى ما ذكر تعالى بعد هذا. فلما كان موضع تعداد نعم وآلاء ذكروا بها ليزدجروا عن المخالفة والعناد ناسبه التضعيف لاثباته بالكثرة ولو قيل هنا واذ أنجيناكم لما أنبأبذلك ولا ناسب المقصود مما ذكر، وأيضا فإن التضعيف فى: نجيناكم يناسب التضعيف الوارد بعده فى قوله: "يذبحون "، ولم يكن لفظ أنجيناكم غير مضاعف ليناسب. والجواب عن السؤال الثانى: والله أعلم ان الذبح منبئ عن القتل وصفته وأما اسم القتل فلا يفهم الا اعدام الحياة ويتناول من غير المقتول فى الغالب فعبر أولا بما يوفى المقصود من الاخبار بالقتل مع احراز الإيجاز، إذ لو ذكر القتل وأتبع الصفة لما كان ايجازا، فعدل إلى ما يحصل عنه المقصود مع ايجاز فقيل: "يذبحون " وعبر فى سورة الأعراف بالقتل لأنه أوجز من لفظ يذبحون لأجل التضعيف إذ لفظ يذبحون أثفل لتضعيفه وقد حصلت صفة القتل فى سورة البقرة فأحرز الإيجاز فى الكل وجاء على ما يجب ويناسب والله أعلم. والجواب عن السؤال الثالث: وهو قوله تعالى فى سورة إبراهيم: "ويذبحون أبنائكم ويستحيون

نسائكم " منسوقا بواو العطف فوجه ذلك والله أعلم ان هذه السورة مبنية على الإجمال والايجاز فيما تضمنته من قصص الرسل وغير ذلك ولم يقصد فيها بسط قصة كما ورد فى غيرها مما بنى على الاستيفاء وكلا المرتكبين مقصود معتمد عند العرب: يرمون بالخطب الطوال وتارة وحى الملاحظ خيفة الرقباء وعلى هذا جرى خطابهم فى الكتاب العزيز وتأمل المقصدين فقد ورد فى سورة الأعراف وسورة هود قصص نوح وهود وصالح ولوط وموسى عليهم السلام فتأمل ما ما بين ورود هذه القصص الخمس فى هاتين السورتين وورودها خمستها فى سورة القمر وكيف مدت أطناب الكلام فى السورتين الاوليين ثم أوجزت فى سورة القمر أبلغ ايجاز وأوفاه بالمقصود، فلما كان مبنى سورة إبراهيم عليه السلام على الإيجاز فيما تضمنت من هذه القصص افتتاحا واختتاما لقوله تعالى: "ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد " إلى قوله تعالى: "فردوا أيديهم فى أفواههم " وما بعد هذه من الآى وانه انضم فى هذه السورة إلى قصد الإيجاز تغليظ الوعيد فلبنائها على هذين الغرضين ورد فيها قوله تعالى: "واذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم " إلى قوله تعالى: "يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنائكم " فأشار قوله سبحانه: "بسومونكم سوء العذاب " إلى جملة ما امتحنوا به من فرعون وآله من استخدامهم واذلالهم بالأعمال الشاقة وامتهانهم واستحياء نسائهم لذلك وذبح الذكور فلما وقعت الإشارة إلى هذه الجملة مما كانوا يمتحنونهم به جرد منها وعين يالذكر أشدها واعظمها امتحانا فجئ به معطوفا كما أنه مغاير لما تقدمه فقيل: "ويذبحون أبنائكم " فعين من الجملة هذا وخص بالذكر تعريفا بمكانة وشدة الامر فيه، وهو مما أجمل أولا وشمله الكلام المتقدم. كما ورد فى قوله تعالى: "من كان عدوا لله وملائكته " ثم قال: "وجبريل وميكال " فخصهما بالذكر والتعيين اعلاما بمكانهما فى الملائكة بعد أن شملهم قوله تعالى: "وملائكته " فالوارد فى سورة إبراهيم من هذه القبيل وقد تبين زجهه واتضحت مناسبته والله أعلم بما أراد. وأما إعراب آية البقرة فيمكن فى قوله تعالى: "يذبحون أبنائكم " أن يحمل على البدل وعلى الاستئناف وهو الأولى وكأن قد قيل وما ذاك؟ فقيل: يذبحون أبنائكم ولا إشكال فى الأخرى.

الآية الثانية عشرة

الآية الثانية عشرة: قوله جل وتعالى: "وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) " وفى سورة الأعراف: "وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) ". فى ذلك عشرة سؤالات: الأول: قوله تعالى فى سورة البقرة: "واذ قلنا ادخلوا " وفى سورة الأعراف: "واذ قيل لهم اسكنوا ". الثانى: قوله فى البقرة: "فكلوا " وفى الأعراف: "وكلوا ". الثالث: قوله تعالى فى البقرة: "رغدا " ولم يأت ذلك فى سورة الاعراف. الرابع: قوله تعالى: "ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ". وفى الأعراف: "وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا ". الخامس: قوله تعالى فى البقرة: "يغفر لكم خطاياكم " وفى الأعراف فى قراءة الجماعه غير أبى عمرو وابن عامر: خطيئاتكم " مجموعا جمع سلامه. السادس: قوله: "وسنزيد المحسنين " وفى الأعراف: "سنزيد المحسنين ". السابع: زيادة منهم فى الأعراف وسقوط ذلك فى البقرة. الثامن: قوله تعالى: "فأنزلنا " وفى الأعراف: "فأرسلنا ". التاسع: قوله تعالى: "على الذين ظلموا " وفى الأعراف: "عليهم ". العاشر: "بما كانوا يفسقون " وفى الأعراف: "بما كانوا يظلمون ". والجواب عن الأول: ان أمرهم بدخول القرية مغاير من حيث المعنى لأمرهم بسكناها وان كان الامر بدخولهم قد يشير بما نسق معه إلى سكناها لكن ليس نصا بل ولا هو ظاهر فبينت آية الأعراف ذلك وأوضحت المقصود، وحصل الامر بالدخول والسكنى وتبين وجه ورود العبارتين على الترتيب. والجواب عن الثانى: أن قوله تعالى: "فكلوا " بحرف التعقيب وجهه ان الاكل لا

يكون الا بعد الدخول ولا يكون قبله بوجه ولا نعه لتعذر وانما يكون مرتبا عليه فجئ بالحرف المحرز لذلك المعنى وانه على التعقيب من غير مهله. وأما الوارد فى سورة الأعراف فإن السكن منجر معه الاكل ومساوق له ولا يمكن ان يكون مرتبا عليه فجاء بالحرف الصالح لذلك المعنى. والجواب عن الثالث: وهو ورود قوله: "رغدا " فى البقرة وسقوط ذلك غى الأعراف أن تحته معنى مقصودا لا يحصل من شئ مما ورد فى الآية وانطوت عليه من الكلام، بخلاف آية الأعراف فإن مفهوم السكنى وهو الملازمة ولاقامة مع الامر بالاكل حيث شاؤوا مع انضمام معنى الامتنان والانعام المقصود فى الآية كل ذلك مشعر ومعرف بتمادى الاكل وقوة السياق مانعه من التحجير والاقتصار فحصل معنى الرغد فوقع الاكتفاء بهذا المفهوم الحاصل قطعا من سياق آية الأعراف ولو لم يرد فى سورة البقرة لم يفهم من سياق الآية كفهمه من سياق آية الاعراف. وأما قوله سبحانه فى سورة البقرة: "وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة " وعكس ذلك فى الأعراف فوجه ذلك والله أعلم ان قولهم: حطة دعاء أمروا به فى سجودهم فلو ورد فى السورتين على حد سواء لأوهم من حيث مقتضى الواو من الاحتمال أنهم أمروا بالسجود والقول منفصلين غير مساوق أحدهما للآخر على أحد محتملات الواو فى عدم الرتبة فقدم وأخر فى السورتين ليحرز المجموع أن المراد بهدا القول ان يكون فى حال السجود لا قبله ولابعده وتعين بهذا معنى المعيه من محتملات الواو وتحرر المقصود وان المراد: وادخلوا الباب سجدا قائلين فى سجودكم حطة فاكتفى بتقلب الورود عن الافصاح بمعنى المعيه ايجازا جليلا وبلاغة عظيمة وقدم فى البقرة الأمر بالسجود لأن ابتداء السجود يتقدم ابتداء الدعاء ثم يتساوق المطلوبان فجاء ذلك على الترتيب الثابت فى السور ولآى والله أعلم. ومما يجب تمهيده لتخليص هذه المفهوم ان العرب الفصحاء إذا أخبرت عن مخبر ما أو أناطت به حكما من الأحكام وقد شركه غيره فى ذلك الحكم أو فيما أخبر به عنه وفد عطفت أحدهما على الآخر بالواو المقتضية عدم الترتيب فنهم مع ذلك إنما يبدأون بلأهم والأولى قال سيبويه رحمه الله: "كأنهم يقدمون ما بيانه أهم لهم وهم به أعنى " هذا معنى كلامه رحمه الله، قال الله سبحانه وتعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " فهذان مطلوبان مقامهما فى الطلب اليمانى معلوم ولكن المبدؤ به أهم. وقال الله تعالى: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول " وقال تعالى: "آمنوا بالله ورسوله " وقال تعالى: "والله ورسوله أحق أن يرضوه ".

وهذا أكثر من أن يحصى وعكس الوارد منه ليس بالأفصح فعلى هذا التمهيد يفهم ما قدمنا فإن قوله تعالى: "وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة " مقتضاه على ما تمهد الابتداء بأول الأمرين فلا يمكن تحصيل ذلك فى الآيتين الا بالمساوقة وكونهما معا فى حالة واحدة فتدبر ذلك والله أعلم بما أراد، وأما الاختلاف فى جمع خطيئة فى السورتين فانها تجمه من حيث ثبوت تاء التأنيث فى الواحدة منها فى بالألف والتاء وتجمع أيضا مكسرة على فعائل كظعينه وظعائن وسفينه وسفائن وصحيفه وصحائف فالأصل خطاى مثل ظعائن ثم ترجع بمقتضى التصريف إلى خطايا كمطيه ومطايا فورد جمعها فى البقرة مكسرا ليناسب ما بنيت عليه آيات البقرة من تعداد النعم والالاء حسبما يتبين فى جواب السؤال لأن جموع التكسير ما عدا الاربعة أبنية التى هى: أفعل وأفعال وأفعله وفعله إنما ترد فى الغالب للكثرة فطابق الوارد فى البقرة ما قصد من تكثير الآلاء والنعم وأما الجمع بالألف والتاء فبابه القلة فى الغالب أيضا ما لم يقترن به ما يبين أن المراد به الكثرة فناسب ما ورد فى الأعراف من حيث لم تبن آيها من قصد تعدد النعم على ما بنيت عليع آى البقرة فجاء كل على ما بناسب والله أعلم. وأما زيادة واو العطف فى قوله تعالى: "وسنزيد " فى البقرة وهو السؤال الخامس فإنما جئ بها هنا لأن المتقدم قبل هذه الآية من لدن قوله سبحانه: "يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم " إنما هى ألاء ونعم كما تقدم عددت عليهم على التفصيل شيئا بعد شئ فناسب ذلك عطف قضية الزيادة بالواو ليجرى على ما تقدم من تعداد الآلاء وضروب الإنعام بالعفو عن الزلات والامتنان بضروب الإحسان، لهذا القصد من احراز التعداد ورد: "وسنزيد " هنا بالواو ولم يكن ليحصل ذلط لو لم ترد الواو هنا وأما آية الأعراف فلم يرد قبلها ما ورد فى سورة البقرة وأما قوله: "فبدل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم " وفى الأعراف: "فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم " فوجهه والله أعلم أن لفظ الذين ظلموا لفظ عام يحتمل التخصيص، والتخصيص يكون بدليل عقلى ودليل سمعى ومن المعلوم أن الامة من الناس والطائفة الكبيرة إذا خوطبوا بأمر أو نهى لم يكونوا فى تقلبه على حد سواء وهذا معلوم ويبين هذا فى هؤلاء المقصودين بهذا الإخبار قوله تعالى: "منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون " وقوله تعالى: "من أهل الكتاب أمة قائمة " وغير ذلك. وإذا تأملت هذه الآية فهمت منها نفسها أنها ليست على عمومها، فزادت آية الأعراف تخصيصا سمعيا بما بعطيه حرف التبعيض فى قوله تعالى: "منهم "

وآية الأعراف مخصصه للعموم البادى من آية البقرة ولهذا القصد من التخصيص ورد فى سورة البقرة: "فأنزلنا على الذين ظلموا " ولم يرد فيها فأنزلنا عليهم لأنه لو ورد كذلك لكان يتناول المتقدم ذكرهم على التعميم وليس مقصود فنحرز بقوله: "فأنزلنا على الذين ظلموا " أن المعذب هو الظالم من تقدم وجاء فى الأعراف: "عليهم " لتخصيص ذكر الظال بقوله: "منهم " فجاء كل على ما يجب. ويزيد ذلك بيانا ان قوله: "فأرسلنا " يقتضى بظهور ما وذلك بحسب مفهوم الارسال انسحاب العذاب لأن المعذب قد حرز ذكره وأما لفظ أنزل فلا يقتضى الانسحاب والتعيم بحسب اقتضاء أرسل فلهذا ورد مع ما لم يرد عمومه وهذا جواب السؤال الثامن. ولم يبق إلا قوله تعالى: "بما كانوا يفسقون " و: "بما كانوا يظلون " وهو السؤال التاسع ووجه ذلك والله أعلم أنه لما وصف اعتداؤهم نيطت بهم أولا صفة الظلم ومن المعلوم أن مواقعه تتسع ثم لما ذكر من اعتدائهم وسوء مرتكبهم غير ما تقدم وتضاعف موجب وبيل جزائهم وصفوا بالفسق المنبئ عن حال أوبق من الظلم. ألا ترى أنه صفة ابليس قال تعالى: "الا ابليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ". وقد جعل الله تعالى الفسق نقيض الإيمان وفى طرف منه فى قوله: "أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون " والظلم قد بقع على أضعف المعاصى قال تعالى: "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله " وقال: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " ولوقوعه على مختلفات المآثم ومطابقته لما قل أو كثر منها على وصف بالعظم حين أريد به الشرك. قال تعالى: "ان الشرك لظلم عظيم " ويقول الشاكى للحاكم: ان هذا ظالم وقد ظلمنى فى خردلة فما فوقها ولا يلزمه من هذا القول شئ إذا صح له أدنى تعلق أما ان قال فاسق أو فسق فليس كذلك وكما يترقى فى الجزاء الاحسانى كذلك يترقى فى الطرف الآخر وهو فى الحقيقة ضد الترقى وسنزيد هذا ان شاء الله فى سورة المائدة بيانا فى وصفه سبحانه من لم يحكم بما أنزل الله بالكفر ثم بالظلم ثم بالفسق وإذا تقرر هذا فتأمل آيات البقرة من لدن قوله تعالى: "يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم " إلى ذكر وصفهم بتظليلهم بالغمام كيف ذكروا أولا بالظلم فقال تعالى عقب ذكرهم تظليلهم بالغمام: "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " ثم أردف ذكر اعتدائهم فى تبديلهم قولا غير الذى قيل لهم وأعقب بقوله: "فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون " وجعل الفسق ختام وصفهم الجارى جزاء على

الآية الثالثة عشرة

مرتكباتهم ولم يقع بعده ذكر علة منوطة بجزاء ما وقع منهم وإذا تأملت آية الأعراف وجدتها جارية على منهج ما ورد فى سورة البقرة وان أول وصفهم المبنى جزاء على مرتكباتهم قولع: "فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون " ثم قال تعالى: "واسألهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر " إلى قوله تعالى: "كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون " فطابق هذا ما ورد فى البقرة من تقدم وصفهم أولا بالظلم ثم بعد ذلك بالفسق ووضح الاتفاق فى ختام القصة فى السورتين من غير اختلاف فيهما. الآية الثالثة عشرة من البقرة: قوله تعالى: "فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا " وفى الأعراف: "فابجست " مع ان المعنى واحد فمعنى الانبجاس الانفجار يسأل عن وجه اختصاص كل من الموضعين بما ورد فيه. والجواب والله أعلم ان الفعلين وان اجتمعا فى المعنى فليسا على حد سواء بل الانبجاس ابتداء الانفجار والانفجار بعدة غاية له قال القرطبى: "الانحباس أول الانفجار "، وقال ابن عطيه: "انبجست انفجرت لكنه أخف من الانفجار " وإذا تقرر هذا فأقول أن الواقع فى الأعراف طلب بنى إسرائيل من موسى عليه السلان السقيا قال تعالى: "وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه " والوارد فى سورة البقرة طلب موسى عليه السلام من ربه قال تعالى: "واذ استسقى موسى لقومه " فطلبهم ابتداء فناسبه الابتداء وطلب موسى عليه السلام غاية لطلبهم لأنه واقع بعده ومرتب عليه فناسب الابتداء الابتداء والغاية الغاية، فقيل جوابا لطلبهم: "فانبجست " وقيل اجاية لطلبه: "فانفجرت " وتناسب ذلك وجاء على ما يجب ولم يكن ليناسب العكس. والله أعلم. الآية الرابعة عشرة من سورة البقرة: قوله تعالى: "وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله " وفى سورة آل عمران: "ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة " فأخر فى سورة آل عمران ما قدم ذكره فى سورة البقرة فيسأل عن ذلك ووجهه والله أعلم أنهم لما سألوا فى البقرة عن مأكلهم ما فيه خسة وما يستلزم الذلة والصغار والمهنة فى التوصل إلى الانتفاع به وذلك ما طلبوه فى قولهم: "فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها " عوضا مما لا تكلف فيه ولا مشقة من المن والسلوى الذى كان ينزل عليهم عند الحاجة بغير

مؤنة ولهذا قيل لهم: "أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير " فلما سألوا ما يستلزم مهنة النفس ودناءة الحال لما أجرى به الله تعالى العادة من أن الذى سألوه لا يتوصل إليه الا بتكلف ومشقة فلما سألوا ما حاصله خسة وامتهان ناسب ذلك أن يناط به وينبئ عليه ذكر ضرب الذلة والمسكنة عليهم ثم أعقب ذلك ما باؤوا به من غضب الله الذى سبق به القدر عليهم ونعوذ بالله من غضبه. ولما تقدم فى آل عمران قوله تعالى: "لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون " ناسب هذا تقديم ما لا نصرة لهم معه ولا فلاح وهو ما باؤوا به من غضب الله عليهم فقال تعالى: "وباؤوا بغضب من الله " فجاء كل على ما يناسب ويلائم والله أعلم بما أراد. الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: "ذلك بأنهم كانوا يكفرون بالله ويقتلون النبيين بغير الحق " وفى سورة آل عمران: "إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق " وفيها بعد: "لن يضروكم إلا أذى " إلى قوله تعالى: "ذلط بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق " بتنكير حق فى هذين الموضعين وتعريفه فى البقرة واختصاص الآية الأخيرة بجمع التكسير فيما جمع فى الآيتين جمع سلامه فقيل: "النبيين فى الآيتين وقيل فى هذه الأخيرة الأنبياء مكسرا فهذان سؤالان. والجواب عن الأول والله أعلم، بعد العلم بأن المذكورين فى الآيات الثلاث من بنى إسرائيل قد اجتمعوا فى الكفر والاعتداء أن هذه الآية الأخيرة لما كانت فيمن شاهد منهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وعاين تلك البراهين واستوضح أنه الذى أخبر به موسى وغيره صلى الله عليهم أجمعين وتكاثرت الأدلة فى أمره ثم لم يجد ذلك عليهم إلا التمادى فى الكفر والعناد من بعد ما تبين لهم الحق كان الأنسب لمرتكبهم فى كفرهم أن يعبر عنهم أنهم ارتكبوه بغير سبهة ولا سبب يمكن التعلق به فقوله تعالى: "بغير حق " كأنه مرادف لأن لو قيل: بغير سبب ولا سبهة وذلك أوغل فى ذمهم وسوء حالهم لأنهم لا يمكنهم فى مرتكبهم تعلق بشئ البتة ولا أدنى شبهة ولما كانت الأولى فى سورة البقرة إنما هى فى سلفهم ممن لم يشاهد أمر محمد صلى اله عليه وسلم وقد وقع الافصاح فيها بكفرهم بعد تعريفهم بذكر آلاء ونعم وقد ورد فيها أن بعض تلك المرتكبات أو أكثرها قد عفى عنهم فيها ولا شك أن بعضهم قد سلم مما وقع فيه الأكثر من كفرهم

وقد أفصحت آي بذلك فيما ذكر عقبها من أن الكفر السابق عمومه فى جميعهم ليس على ما يبدو منه والله أعلم وإنما هو راجع إلى أكثرهم فقد دخله خصوص يدل عليه قوله تعالى: "فبدل الذين ظلموا منهم قولا " وقوله تعالى: "وأكثرهم فاسقون "، فهم وإن وصفوا من الكفر والاعتداء بما وصفوا ليسوا فى ارتكاب البهت والمجاهرة بالباطل وموالاة التمرد والاعتداء وحال معاينة البراهين كحييى بن أخطب وأشباهه من المعاصرين لنبينا صلى الله عليه وسلم والمشاهدين أمره فناسب حال أولئك الذين لم يشاهدوه ما وقع التعبير به من قوله تعالى: "بغير الحق " إذ ليس المعرف فى قوة المنكر المرادف لقولك بغير سبب وأيضا فقد تقر عندهم من كتابهم أن مسوغ قتل النفس تقدم قتل النفس بغير حق قال تعالى: "وكتبنا عليهم فيها - أى فى التوراة - أن النفس بالنفس " وتقرر أيضا فى كتابهم رجم الزانى المحصن وقد عرفنا ذلك من دينهم بالخبر الصحيح وأنهم اعترفوا بذلك عند النبى صلى الله عليه وسلم بعد إنكارهم وقوله تعالى فى خطاب موسى عليه السلام لهم بقوله: "ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " فعرف بعظيم جريمة الارتداد والظاهر أن حكم المرتد عندهم القتل كحكمه عندنا وكيف ما كان فقد استقر عندهم ما يسوغ القتل ويوجبه بعد الإيمان وقد علموا أن الاتبياء عليهم السلام مبرؤون من ذلك كله فقوله تعالى: "بغير الحق " أى بغير وجه الحق المبيح للقتل فالألف واللام للعهد فى المسوغ المتقرر فى شريعتهم فقد افترق مقصد الآيتين وأما الأولى من آيتى آل عمران فخاصة بالمتمادين منهم على الكفر ولا تتناول الآية من أولها إلى آخرها خلافه فهى كالآية الثانية فيما أعطته ودلت عليه من التمرد والتمادى على الضلال فناسبها التذكير كالتى بعدها وهما معا بخلاف آية البقرة إذ لم يتقدم فى هاتين ما تقدم فى تلك ولا حال المذكورين فى هاتين كحال من ذكر فى تلك والله أعلم بما أراد. والجواب عن السؤال الثانى: أن جمع التكسير يشمل أولى العلم وغيرهم وجمع السلامة يختص فى أصل الوضع بأولى العلم وإن وجد فى غيرهم فبحكم الالحاق والتشبيه كقوله تعالى: "إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين " وما يلحق بهذا. وإذا تقرر هذا فورود جمع السلامة فى قوله فى سورة البقرة: "ويقتلون النبيين بغير الحق " مناسب من جهتين: إحداهما شرف الجمع لشرف المجموع والثانية مناسبة زيادة المد لزيادة أداة التعريف فى لفظ الحق وأما الآية الأولى من سورة آل عمران فمثل الأولى فى مناسبة الشرف ومناسبة زيادة المد للزيادة فى الفعل

العامل فى اللفظ المجموع فى قراءة من قرأ: "يقاتلون " ولما لم يكن فى الآية الثالثة سوى شرف المجموع وكانت العرب تتسع فى جموع التكسير فتوقعها على أولى العلم وغيرهم أتى بالجمع هنا مكسرا لتحصل اللغتان حتى لا يبقى لمن تحدى بالقرآن حجة إذ هم مخاطبون بما فى لغاتهم فلا يقصر فى شئ من خطابهم على أحد الجائزين دون الآخر إلا ألا يتكرر فإذ ذلك يرد على وجه واحد مما يجوز فيه فتفهم ما أجملته فسوف يتضح لك به إذا استوفيته ما يعينك على فهم الإعجاز. الآية السادسة عشرة قوله تعالى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " وقال فى المائدة: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " وفى سورة الحج: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله بفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ شهيد ". فيها أربع سؤالات: تقديم النصارى فى سورة البقرة وتأخيرهم فى المائدة وتخصيص آية البقرة بقوله تعالى: "فلهم أجرهم عند ربهم " ورفع "الصابئون "فىالمائدة ولم يتبع وانفراد سورة الحج بسياقها وزيادة ذكر المجوس والذين أشركوا. فأقول وأسأل الله توفيقه: إن المؤمنين أحق بالتقديم وهم أهل الخطاب والمتكلم معهم فى الآى قبل، فهم من حيث أحوالهم معظم من قصد بالخطاب والتأنيس ثم إن أهل الكتابين يلون المؤمنين فإنهم ليسوا كافرين بكل الرسل ولا منكرين بكل الرسل ولا منكرين لكل ما أنزل من الكتب فقد كانوا أقرب شئ لولا التبديل والتغيير والتحريف المقدر وقوعه عليهم، فإنهم قد قدم إليهم فنكثوا ونقضوا وكفروا بمن قدم إليهم من أمره، واليهود أقدم تعريفا وأسبق زمانا فلما اجتمع الأصناف الثلاثة فى أنهم أهل الكتاب والمقرون بالبداءة والعودة وإرسال الرسل على اختلاف حالاتهم فى ذلك وأزمانهم كان تقديمهم على غيرهم أوضح شئ على الوارد فى سورة البقرة إلا أن ذكرهم لم يقع بحرف مرتب بل وقع الاكتفاء يترتيب الذكر لاستوائهم فى الغايات من استواء العواقب وإن الفائز من الكل إنما هو من كانت خاتمته فى دار التكليف الموافاة على الإيمان والإسلام وإن أكرمكم عند الله أتقاكم وإن الموافى فى الكل على المفر والكفر فى النار ثم عذابهم بحسب جرائمهم جزاء وفاقا فرتبوا ذكرا بحسب حالهم الدنياوى ولم يتقعد الترتيب بالحرف المرتب لحظا

لحالهم الاخراوى فجرى ذكرهم فى سورة البقرة على هذا وأخر ذكر الصابئين لتأخرهم عن هؤلاء الأصناف فى أنهم ليسوا من أهل الكتاب أو ليسوا مثلهم فى ما وراء ما ذكر من أحوالهم فإيراد ذكرهم على ما في سورة البقرة بين، ثم قدم ذكر الصابئين فى سورة المائدة وزيادة بيان للغرض المذكور من أنه لا ترتيب فى الغاية الأخراوية إلا بنظر آخر لا بحسب الدنياوى والاشتراك فيما قبل الموافاة بل المستجيب المؤمن من الكل مخلص والمكذب متورط ثم مراتب الجزاء بحسب الأعمال فأوضح تقديم ذكر الصابئين فى سورة المائدة ما ذكرناه فإن قلت لم لم يقدم ذكرهم على الكل؟ قلت: لا وجه لهذا لمكانة المؤمنين وشرفهم فإن قلت فهلا قدموا على يهود قلت: قد كانت يهود أولى الناس بأن يكونوا فى رعيل من المستجيبين ومعهم جرى الكلام قبل هذا نعيا عليهم وبيانا لمرتكباهم ولعظيم ما جرى على من لم يؤمن منهم وترددت فيهم عدة آيات وذلك مما يوجب تقديم ذكرهم على من عدا المؤمنين. فإن قلت فالنصارى مثلهم: قلت النصارى أقرب إلى الصابئين من حيث التثليث وسوء نظرهم فى ذلك وتصورهم ثم إنهم لم يجر لهم ذكر فيما تقدم هذه الآية بخلاف يهود فبان من هذه الجهة تقديم يهود عليهم وإن كان يهود شر الطائفتين. السؤال الثانى: وهو ورود اسم الصابئين فى المائدة بالرفع والجواب عنه أنه لما ورد مرفوعا تنبيها على الغرض المذكور وتأكيدا للتسوية فى الحكم وإذا اتفقوا فى الموافاة على الإيمان فنبه التقديم على هذا كما تقدم وزاد القطع على الرفع تأكيدا لأن قطع اللفظ عن الجريان على ما قبله محرك للفظ توجيهه عند سيبويه رحمه الله مقدم من تأخير وكأنه لما ذكر حكم المذكورين سواهم قيل والصابئون كذلك أى لا فرق بين الكل فى الحكم الأخراوى وهو على هذا التقدير أوضح شئ فيما ذكر، وأما على طريقة الفراء ومن قال بقوله من حمله على الموضع ففيه التقديم وأن التحريك القطعى فى اللفظ وإن لم يكن مقطوعا فى المنعنى لا يكون إلا لإحراز معنى وليس إلا ما تقدم. والجواب عن السؤال الثالث: إن قوله تعالى فى سورة البقرة: "فلهم أجرهم " قد تقدم فى المائدة ما يعطيه ويحرزه فاكتفى به ألا ترى أن قوله تعالى: "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم " تفسير بين للأجر الاخراوى المجمل فى قوله تعالى فى سورة البقرة: "فلهم أجرهم عند ربهم " إلى آخر الآية فقد حصل ما فى سورة المائدة مفصلا مبينا ما ورد

فى البقرة مجملا فلو قيل فى آية المائدة فلهم أجرهم لكان تكرارا ورجوعا إلى الإجمال بعد التفصيل وذلك عكس ما ينبغى. والجواب عن السؤال الرابع: أن آية سورة الحج إنما وردت معرفة بمن ورد فى القيامة على ما كان من يهودية أو نصرانية أو غير ذلك والآي الآخر فيمن ورد مؤمنا فافترق القصدان واختلف مساق الآى بحسب ذلك. الآية السابعة عشرة: قوله تعالى: "وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه ". وفى الآية الأخرى مما بعد: "وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا " للسائل أن يقول: إن الخطاب فى الآيتين لبنى إسرائيل وهم المخبر عنهم بما بعد والمقول لهم: "خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون " وهو بأعيانهم المقول لهم فى الآية بعد: "واسمعوا "، فما وجه تخصيص كل من الآيتين بما أعقبت به؟ وهل كان يمكن تعقيب الأولى بقوله واسمعوا وتعقيب الثانية بقوله: واذكروا ما فيه الآية؟ والجواب: أنه لا يناسب كل آية منهما إلا ما به أعقبت، ووجه ذلك أن الآية الأولى تقدم قبلها قوله تعالى: "وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان " والكتاب: التوراة وقد سمعوه وعنه قيل وإليه أشير بقوله تعالى: "خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه "، وقد زاد هذا إيضاحا قوله فى سورة الأعراف: "وإذ نتقنا فوقهم الجبل كأنه ظلة وظنوا أنهم واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة " والاشارة بالقوة إلى عظيم تخويفهم برفع الجبل فوقهم كالظلة فقوله تعالى: "خذوا ما آتيناكم " عقب ذكر كتابهم أوضح شئ وأنسبه ولما تقدم قبل الآية الثانية قوله تعالى: "ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم " وهذا الكتاب هو الكتاب العزيز واليه الإشارة بقوله: "وإذ قيل لهم آمنوا بما أنزل الله " بدليل قولهم - حيدة عن إيمانهم -: "نؤمن بما أنزل علينا " قال تعالى: "ويكفرون بما وراءه " أى يكفرون بالقرآن، قال تعالى: "وهو الحق " والاشارة للقرآن: "مصدقا لما معهم أى من التوراة فلما تقدم هنا ذكر القرآن وخلف يهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلممعرضون الا القليل عن الإيمان وسماع القرآن فناسب إعراضهم عن سماعه تخصيصه هذا الموضع من المقول لسلفهم بقوله للخلف: "واسمعوا " ليكون إخبارا عن سلفهم وتعريضا لخلفهم، فوضح التناسب وأن العكس لا يناسب.

الآية الثامنة عشرة: قوله تعالى: "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " وفى سورة آل عمران: "ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات " فأفرد فى البقرة الوصف وجمع فى آل عمران فقيل معدودات والجارى عليه الوصف فى السورتين قوله تعالى: "أياما " بلفظ واحد فيسأل عن موجب اختلاف الوصف فأقول: إن المجموع بالألف والتاء منحصر فى أربعة أضرب: ثلاثة متفق علها والرابع مختلف فيه. فأما الثلاثة فكل علم لمؤنث نحو: هند ودعد، وكل ما فيه تاء التأنيث لمذكر كان أو لمؤنث عاقل أو غير عاقل نحو: طلحة وحوزة وشجرة، وكل مصغر لغير العاقل نحو دريهمات وما أشبه ذلك، فهذه الضروب الثلاثة متفق عليها وضرب رابع مختلف فيه وهو كل اسم مكبر لغير العاقل مذكرا كان أو مؤنثا لم يسمع فيه عن العرب جمع تكسير نحو حمام وحمامات وسبطر وسبطرات وجمل سبحل وسبحلات وسرادق وسرادقات وايوان وايوانات وربحل وربحلات فإن سمع من العرب شئ من هذا جمع جمع تكسير لم يجز جمعه بالألف والتاء. قال سيبويه رحمه الله: "قالوا جوالق وجواليق فلم يقولوا جوالقات حين قالوا جواليق يعنى حين كسروا وقالوا فى المؤنث عيدات حين لم يكسروها على بناء يكسر عليه مثلها ". ثم إن صفة كل مؤنث جارية عليه فى حكمه من التأنيث إلا أربعة أضرب وهى: فعلى وأفعل، وفعلى فعلان، وما يشترك فيه المذكر والمؤنث من الصفات كمعطار ومذكار وميناث، وما ينفرد به المؤنث كحائض وطامث، فهذه الضروب الأربعة لا يجمع شئ منها بالألف والتاء وسائر ما يجرى على المؤنث من الصفات لا يمتنع من ذلك. ثم إن ما يجمع جمه التكسير من مذكر غير عاقل قد يتبع بالصفة المفردة مؤنثه بالتاء كما يفعل فى الخبر تقول: ذنوب مغفورة وأعمال محسوبة، وقال تعالى: "فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابى مبثوثة " ومنه قوله تعالى مخبرا عن يهود: "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة "، ثم قد يجمع هذا الضرب بالألف والتاء رعيا لمفرده وان لم يكثر الا أنه فصيح ومنه: "واذكروا الله فى أيام معدودات ". وإذ تبين ما ذكرناه وانه الجارى الكثير مع ما وقع فى آية البقرة من الإيجاز وفى الأخرى من الاطالة ألا ترى قوله تعالى: "فى آية آل عمران: "ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات " وفى البقرة: "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " واخباره تعالى باغترارهم

بقوله: "وغرهم فى دينهم ما كانوا يفترون "، وهذا بسط لحالهم الحامل على سوء مرتكبهم ولم يقع فى سورة البقرة تعرض لشئ من ذلك بل أوجز القول ولم يذكر سببه فناسب الإفراد الإيجاز وناسب الجمع الاسهاب ولو جمه فى سورة البقرة وأفرد فى سورة آل عمران أو أفرد فيهما أو جمع فيهما لما ناسب فورد كل على ما يناسب ويجب. والله أعلم. الآية التاسعة عشرة: قوله تعالى: "قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم " وفى سورة الجمعة: "ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم " فيسأل عن تخصيص آية البقرة بقوله: "ولن يتمنوه " وآية الجمعة بقوله: "ولايتمنونه " مع اتحاد الاخبار؟ ووجه ذلك والله أعلم أن آية البقرة لما كان الوارد فيها جوابا لحكم أخراوى يستقبل وليس فى الحال منه إلا ما زعم مجرد واعتقاد أن الأمر يكون كذلك ناسبه النفى بما وضعه من الحروف لنفى المستقبل لأن لن يفعل جواب سيفعل، ولما كان الوارد فى سورة الجمعة جوابا لزعمهم أنهم أولياء الله من دون الناس وذلك حكم دنياوى ووصف حالى لا استقبال فيه ناسبه النفى بلا التى لنفى ما يأتى من غير اختصاص الا بغير الماضى وقد تتعاقب مع ما التى لنفى الحال. فإن قلت: فإن ما النافية أخص بالحال فهى أنسب قلت: قد يفهم من ما نفى مجدد للحال دون ما يتصل به فقد يقول القائل: ما يقوم زيد، يريد ما يقوم اليوم ولا يريد أنه لا يقوم غدا وما صالحة لهذا المعنى وهم إنما أرادوا أنهم أولياء مستمرون على ذلك وان تلك صفتهم فى الحال وما يليه إلى آخر حياتهم إذ ذلك هو الموجب أن تكون لهم الدار الآخرة خالصة من دون الناس كما زعموا فلما كان زعمهم هذا ناسبه نفى دعواهم زتكذيب زعمهم بحرف أنص فى نفى ذلك وانه لا يقع منهم التمنى فى حالهم ولا فيما بعده أبدا. فإن قلت: ان قوله "أبدا " قد أحرز هذا قلت: تأكيد ذلك أبلغ فنغى بلا وأكد بالتأبيد فجاء كل على أعلى البلاغة والله أعلم. الآية الموفية عشرين: قوله تعالى: "ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذى جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا نصير " وورد فيما بعد: "ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين " وفى الرعد: "وكذلك أنزلناه حكما عربيا وائن اتبعت أهواءهم بعد الذى جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا واق ".

للسائل أن يسأل عما اختلف فى هذه الآى مع اتفاقها فى مطالعها ومعناها؟ والجواب عن ذلك والله أعلم بما أراد: ان الوارد فى سورة الرعد لم يتقد قبله من متكبات أهل الكتاب فى كفرهم وعنادهم مثل ما تقدم قبل الآية الأولى من سورة البقرة ألا ترى أنه لم يذكر قيل آية الرعد من أمرهم فى ذلك مفصحا به إلا قوله تعالى: "ومن الأحزاب من ينكر بعضه " على قول من قال ان المراد بالأحزاب هنا أهل الكتاب وهذا بعد مدحه من آمن منهم بقوله تعالى: "والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك " وهو: عبد الله بن سلام رضى الله عنه وأمثاله ممن آمن منهم ثم اتبع بقوله تعالى: "ومن الأحزاب من ينكر بعضه " يريد - والله أعلم - ومن أحزابهم على من قال ذلك كما تقدم فلما لم يتقدم بسط ذكرهم وأوجز الكلام واكتفى بالايماء ناسبه ايجاز التحذير من حالهم فقال تعالى: "ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا واق "، فجئ "بما "وهو أوجز من "الذى "لفظا ما لم يقترن بها ما يقتضى التوسعة فى معناها حسبما يتبين بعد، وقيل: "ولا واق " وذلك أوجز من قوله فى آية البقرة: "ولا نصير " لفظا ومعنى فورد هذا كله موجزا ليناسب ما قبله ولما تقدم قبل الآية الأولى من سورة البقرة عدة آيات فى بسط أحوالهم وقبيح مرتكباتهم ولقرب ذلك إلى الآية المقصودة توجب الوارد فيها قوله تعالى عنهم: "وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية " إلى قوله: "يوقنون "، ثم عرف من حال أهل الكتابين وبعدهم عن الإيمان بقوله: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم "، فبعد هذا الاطناب فى وصفهم قال تعالى: "ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذى جاءك من العلم ما لك من الله من ولى ولا نصير " وهذا مناسب لما قبله من الاطناب لفظا كما أن آية الرعد مناسبة لما قبلها لإيجاز لفظ "ما "فإنها على حرفين وأما "الذى " فعلى خمسة أحرف، ثم إن معنى نصير أوسع من حيث أن فعيلا من أبنية المبالغة فيعطى كثرة وفاعل ليس كذلك ثم إن لفظ واق أوجز فقد تبين فرقان ما بينهما وناسب الاسهاب الاسهاب والايجاز الايجاز. ولما ذكر بعد هذه الآية من مرتكبات أهل الكتاب وعنادهم ما بسطته الآى بعد وجاء قوله بعد: "ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين " بعد إطناب زائد وتعريف بأكثر مما تقدم وردت الآية المتكررة مراعى فيها ذلك فجئ فيها بـ "من " التى للغاية أو لابتداءها والمقصود أوفى وأمعن، وجئ بـ "ما " عوضا من الذى لأنها هنا بسياقها بعد من كيف ما قدرتها من موصولية أو موصوفية

تعطى الاستيفاء وتقتضيه فروعى هنا معناها وروعى فيما تقدم لفظها وقوله سبحانه: "إنك إذا لمن الظالمين " يتضمن من أشد مما يتضمن نفى الولى والواقى والنصير ألا ترى قوله تعالى: "والظالمون ما لهم من الله من ولى ولا نصير ". فقد انتفى هنا الولى والنصير مع زيادة الوصف بالظلم وليس نفى الظلم حاصلا من انتفاء الولاية والنصرة حصوله بالذكر والتنصيص فهذه الآية أبلغ من الآيتين فناسب ذلك زيادة الاطناب فيما قبلها ولشدة موقعها قدم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تنزيهه عن اتباع أهواءهم فقال: "وما أنت بتابع قبلتهم "، فقد وضح افتراق المقاصد المقاصد فى إفراد هذه الآى على الانحاء الثلاثة. ويحتمل ذلك توجيها آخر ان ثبت أن آية الرعد من المكى وذلك أن المنزل بعد المكى زاده صلى الله عليه وسلم فى علم أحكام شريعته وغير ذلك مما لم يكن عنده فترتيب الآى الثلاث بحسب الحاصل عنده صلى الله عليه وسلم فكانت آية الرعد أوجزها مناسبة للحاصل قبل نزول سورة البقرة ثم كانت آية البقرة الأولى أبلغ فى الاسهاب لما زاد أيضا ويمكن التقاء التوجيهين وربنا أعلم بما أراد. الآية الحادية والعشرون: قوله تعالى: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا يتى للطائفين والعاكفين والركع السجود " وفى سورة الحج: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا وطهر بيتى للطائفين والقائمين والركع والسجود ". للسائل أن يسأل عن تخصيص سورة البقرة بقوله: "والعاكفين " وتخصيص سورة الحج بقوله: "والقائمين " مع اتحاد الأمر بتطهير البيت لمن ذكر فى الموضعين. والجواب عن ذلك والله أعلم ان المراد بالقائمين هنا ذوو الاقامة والملازمة على صفة مخصوصة وإذا أريد بالقائمين هذا فهو والعكوف مما يصح أن يعبر بأحدهما عن الآخر مع أن لفظ العكوف أخص بالمقصود فيكون خصوص آية الحج بقوله: "والقائمين " لتقدم ذكر العكوف فى قوله تعالى قبل الآية: "سواء العاكف فيه والباد "، فلما تقدم ذكر العكوف متصلا بالآية وقع الاكتفاء بذلك وعدل عن التكرار الذى من شأن العرب العدول عنه الا حيث يراد تعظيم أو تهويل نحو قوله تعالى: "الحاقة ما الحاقة " وشبه ذلك. ولما لم يقع ذكر العكوف قبل آية البقرة ولا بعدها - وهو مراد لكونه أخص بالمقصود - لم يكن بد من الإفصاح وكأن قد قيل فى سورة الحج:

والقائمين معتكفين فأغنى ذكرهم متقدما عن الإتيان به حالا مبينه، وأغنى قوله فى آية البقرة: "والعاكفين " عن قوله: "القائمين " لأن العكوف الملازمة وهو المراد بالقيام فورد كل على ما يجب وينسب، وقوله: "والركع السجود " يراد به المصلون ومن قال ان المراد بقوله: "والقائمين " المصلون فوجهه أن ذكر العكوف قد حصل فيما تقدم فأكتفى به ولم يكن وقع قبل آية البقرة ولا بعدها فلم يكن بد من ذكره وعبر عن المصلين بالركع السجود وتحصل أنه المقصود فى الآيتين ووردتا على ما يجب ويلائم والله أعلم بما أراد. الآية الثانية والعشرون: قوله تعالى: "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا " وفى سورة إبراهيم: "رب اجعل هذا البلد آمنا "، فنكر فى سورة البقرة وعرف فى سورة إبراهيم بأداة العهد فيسأل عن ذلك. ووجهه والله أعلم أن اسم الإشارة الذى هو "هذا "فى سورة البقرة لم يقصد تبعيته اكتفاء بالواقع قبله من قوله تعالى: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا "، وقوله: " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتى للطائفين والعاكفين والركع السجود .... الآية "وتعريف البيت حاصل منه تعريف البلد لا سيما بما تقدم من قول إبراهيم عند نزوله بولده بحرم الله ودعائه أولا بقوله: "ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم .... الآية "، فتعرف البيت تعريف للبلد فورد اسم الإشارة غير مفتقر إلى التابع المبين جنسه كالجارى فى أسماء الإشارة اكتفاء بما تقدمه مما يحصل منه مقصود البيان، فانتصب بلدا مفعولا ثانيا وآمنا نعتا له واسم الإشارة مفعولا أول غير محتاج إلى تابع لقيام ما تقدم مقامه ولو تعرف لفظ بلد بالألف واللام وجرى على اسم الإشارة لم يكن ليحرز بيانا زائدا على ما تحصل مما تقدم بل كان يكون كالتكرار. فورد الكلام على ما هو أحرز للإيجاز وأبلغ فى المقصود مع حصول ما كانت التبعية تعطيه فجاء على ما يجب وأما سورة إبراهيم فلم يتقدم فيها ما يقوم لاسم الإشارة مقام التابع النعرف بجنس ما يشار إليه فلم يكن بد من إجراء البلد عليه تابعا له بالألف واللام على المعهود الجارى فى أسماء الإشارة من تعيين جنس المشار إليه باسم جامد فى الغالب عطف بيان على قول الخليل. أو نعتا على الظاهر من كلام سيبويه، وانتصب اسم الإشارة المتبع على أنه مفعول أول و"آمنا " على أنه مفعول ثان ولم يكن عكس الوارد ليحسن ولا ليناسب وقيل فى الوارد فى سورة البقرة أنه أشار إليه قبل استقراره {بلدا} فأراد اجعل هذا الموضع أو هذا المكان بلدا آمنا واكتفى عن ذكر الموضع بالإشارة إليه واسم الإشارة على هذا

مفعول أول و"بلدا "مفعول ثان و"آمنا "نعت له، وأشار إليه فى سورة إبراهيم بعد استقراره {بلدا} فجرى البلد على اسم الإشارة نعتا له وآمنا مفعول ثان قاله صاحب كتاب الدرة وهو عندى بعيد إذ ليس بمفهوم من لفظ الآى وهو بعد ممكن والله أعلم. الآية الثالثة والعشرون: قوله تعالى: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم " وفى آل عمران: "لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة " وفى الجمعة: "هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة "، فقدم فى الأولى "ويعلمهم الكتاب والحكمة " وأخر "ويزكيهم " وورد فى السورتين بعد على العكس من ذلك فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك. والجواب عنه - والله أعلم - أنه لما كانت دعوة إبراهيم عليه السلام قبل وجود الضلال فى الذرية المدعو لها وانما تحصل لهم من تزكيتهم ورفع ضلالهم المتوقع وقوعه بما يمنحونه من التعليم وما يتلى عليهم من الآيات لأن ذلك هو السبب فى حصول التزكية والسلامة من الضلال إذا وفقوا للانقياد له ألا ترى أن ارتباط التزكية بأعمال الطاعات قال تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها " وانما كانت تزكية لهم بانقيادهم للطاعة فيما يطالبهم به من ذلك ويأخذه منهم فتأخر ذكر التزكية المسببة عما به تحصل وذلك بعد هدايتهم للإيمان فجاء على الترتيب من بناء المسبب على سببه. ولما كان مقصود الآيتين الأخيرتين إنما هو ذكر الامتنان عليهم بهدايتهم بعد الضلال الذى كان قد وجد منهم والتعريف بإجابة دعوة إبراهيم عليه السلام أخر ذكر تعليمهم الكتاب والحكمة المزيلين لضلالهم ليكون تلوه ذكر الضلال الذى أنقذهم الله منه بما علمهم وأعطاهم وأمتن عليهم وهو ثانى المسببين، فكان الكلام فى قوة أن لو قيل: ويعلمهم ما به زوال ضلالهم، وأخر فى هاتين الآيتين ذكر السبب ليوصل بمسببه الأكيد هنا الذى كان قد وقع وهو رفع ضلالهم من عظيم محنته ولو أخر ذكر التزكية لما أحرز هذا المعنى المقصود هنا فاختلاف الترتيب إنما هو بحسب اختلاف المقصدين ورعى ما ذكر فورد كل على ما يجب ويناسب والله أعلم بما أراد. الآية الرابعة والعشرون: قوله تعالى: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ". للسائل أن يسأل عن وجه تكرر هذه

الآية بنصها فيما بعد؟ ووجه ذلك والله أعلم انهم لما تعلقوا بأسلافهم ممن كان على سنة إبراهيم واسماعيل ومن كان فيهم من الأنبياء عليهم السلام وظنوا أن تعلقهم بهم نافع لهم قيل لهم لن ينفعكم الا عملكم وأما التعلق بأولئك من غير اقتداء بهم ولا اهتداء بهديهم فليس بنافع بل لهم أعمالهم ولكم أعمالكم "تلك أمة قد خلت ... الآية " ثم لما قرروا على ما يعتقدونه فيهم وقيل لهم: أتقولون إنهم كانوا على كذا، ليسوا على ما ظننتم أأنتم أعلم أم الله؟ فهل أظلم منكم إذ قد علمتم تحريفكم واجترامكم؟ وبعد هذه فكل مطلوب بنفسه وما اجترحه: "تلك أمة قد خلت ... الآية ". فتكريرها لتنوع ما نص عليه من مرتكباتهم الدائرة على جامع واحد من تخيل التعلق بهم مع مخالفتهم فيما كانوا عليه وسنزيد هذا بيانا ان شاء الله. الآية الخامسة والعشرون: قوله تعالى: "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم " وفى سورة آل عمران: "قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم ". فى هذه ثلاث سؤالات: قوله "قولوا آمنا بالله " وفى الثانية "قل آمنا بالله "، وقوله "وما أنزل الينا " وما عدى بعده بعلى، الثالث قوله "وما أوتى النبيون من ربهم " وفى الثانية "والنبيون من ربهم " والجواب عن الأول: إن قوله تعالى "قولوا " أمر لجميع المخاطبين المقصودين بهذا وأما قوله "قل " فأمر للنبى عليه السلام فلحق ضمير الجمع أولا لخطابهم ولم يلحق ضمير فى الثانى لإفراد الخطاب وضمير الواحد لا يبرز. والجواب عن الثانى: إن قوله فى البقرة "وما أنزل الينا " لما قيل قبله "قولوا ". وهو أمر للرسول ومن اتبعه على التشريك كالوارد فى قوله تعالى "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون " ثم قال "وقالوا سمعنا وأطعنا " فشرك بينهم وأخبر سبحانه أن الجميع قالوا ذلك وكذا أمر هنا جميعهم فقال "قولوا ". وإذا كان الأمر للجميع وجرى على حقيقته فإنما أنزل إليهم لأن المنزل عليه حقيقة هو الرسول لا المؤمنون وإذا قلنا أنزل على المؤمنين فمجاز كما أنا إذا قلنا أنزل إلى

الرسول لم يقع موقع أنزل عليه وان كان كل منهما جائزا إلا أنا إذا اخذنا الكلام على أن لا تضمين ولا تقدير فإنما نقول: أنزل على الرسول وأنزل المؤمنين مع فصاحة أنزل إلى الرسول ووروده فى القرآن فلما قال فى سورة البقرة "قولوا " وأمر الجميع ناسبه الينا كما ورد فى قوله تعالى "وقولوا آمنا بالذى أنزل الينا وأنزل عليكم " حين خوطب الجميع ولما قال فى آل عمران "قل " وكان الخطاب للرسول ناسبه: علينا لأنه أنزل عليه فجاء كل على ما يجب. والجواب عن السؤال الثالث: أى زيادة قوله فى البقرة "وما أوتى النبيون من ربهم " وسقوط ذلك فى السورة الأخرى ووجه ذلك أن الأمر فى البقرة لما كان للرسل وللمؤمنين ناسبه تأكيد ذكر الانزال على النبين لأن المؤمنين لا يفرقون بين أحد منهم وقد فرق غيرهم فناسب حالهم وسجل إيمانهم بالجميع تأكيد مقالهم وتثبيت اعتقادهم فقالوا "وما أوتى النبيون من ربهم " ولما كان توجه الأمر فى السورة الأخرى ببادى الخطاب من قوله "قل " خاصا به وبعد ذلك زقع التعميم ناسبه عدم التأكيد لتنزه الرسول عليه السلام حالا ومقاما عن التفريق بين أحد من الرسل. الآية السادسة والعشرون: قوله تعالى: "قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره "، وقال بعد: "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وانه للحق من ربك وما الله بغفل عما تعملون ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجهك شطره " للسائل أن يسأل عن الوجه فى ما تكرر فى هذه الآيات من الأمر يالتولى وهل ذلك لحامل من المعنى أم لا؟ والجواب عن ذلك والله أعلم: إن كل قضية تكليفية إذا كانت مما يتأكد فانها ترد ملحوظة الجهات منبها على ما يحرز مطلوبها على الكمال مدفوعا عنها وان ضعفت طوارق الاحتمال اعتناء منه سبحانه بهذه الأمة لتحصيل سلامتها من الأمر المحمول على من قبلها. ألا ترى أن بنى إسرائيل إنما لحقهم الامتحان فى أمر البقرة من جهة الاكلاق فى قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " فورد الأمر مطلقا مع ما جبلت عليه نفوسهم من التثاقل فى تلقى الطاعات من المأمورات فتابعوا لتحرير المطلوب وشددوا فشدد عليهم وهذا مما حفظت منه هذه الأمة. ألا ترى قوله تعالى فى فرضية الصيام: "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ...

الآيات " كيف حدد بشهر وعين بالتسمية وبين وقت الامساك بضبط طرفيه وبين لهم حال المرض وحال السفر وأمروا بتميل العدة على مأ أوضح الشرع إلى غير ذلك مما يحصل به على المطلوب فيرفع حكم الإطلاق الداخل منه الاختلاف للحتمال وكل هذا أو أكثره قبل أن يسألوا وكذا قبل أن يسألوا وكذا جرى فى أمر القبلة عند التحويل. فقوله تعالى فى أول الأمر بالتوجه قبل البيت "فول وجهك شطر المسجد الحرام " وان كان قد تقيد بالأداة المعينة للجهة فإن فيه احتمالا أن يكون خاصا به صلى الله عليه وسلم أو عاما له ولأمته. فإن قيل قد علم من قبله صلى الله عليه وسلم أن حكمه على الواحد حكم على الجميع وأن الخطاب له خطاب له ولأمته وذلك كله ما لم يرد تخصيص. فجوابنا عن هذا أن الكلام فى هذه الآية ليس خاصا بمن سلم بالقواعد المستقرات من الكتاب والسنة وإنما كلامنا معتمد فيه القطع بذوى الزيغ والارتياب ممت يتعلق بما تشابه منه طعنا فى الدين واتباعا لسبيل الملحدين وشأن هؤلاء التعلق بأدنى احتمال من غير تسليم لما وراء ذلك. وعلى هذا نقول ان قوله تعالى: "فول وجهك شطر المسجد الحرام " أمر يدفع احتمال خصوصه صلى الله عليه وسلم دون أمته بالأمر بالتولى ثم تحصل مع هذا من قوله "وحيث ما كنتم " أن ذلك لا يختص بمكان دون مكان ثم يبقى احتمال نذكره وما يزيله بعد. وأما قوله تعالى "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام " فإعلام له صلى الله عليه وسلم بتسوية حالى الظعن والاقامة ونه خرج عن المدينة مسافرا فحاله حيث توجه كحاله فى المدينة مقيما ولم يكن هذا ليحصل نصا لا احتمال فيه مما تقدم من الامر فقد حصل من هذا ما لم يتحصل نصا مما تقدم. وقوله بعد: "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام " هذا مما كرر لا لمجرد التوكيد وان كانت القصة لها تعلق بيهود وانكارهم التحويل فالتأكيد يلائم ولكن ذكر ليحصل منه التوكيد وبناء ما بعده عليه من قوله "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " والمراد بهذا وحيث ما كنتم من البلاد والمواضع التى خرجتم اليها حيث كانت من الارض كلها فإن قيل أن هذا قد تقدم حيث ذكر هذا اللفظ بعيه الذى هو "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " فالجواب أن ذلك محتمل أن يراد به وحيث ما كنتم من نواحى المدينة وما يرجع اليها إذ لم يتقدم ذكر الخروج عنها كما تقدم هنا

فارتفع بهذا التكرار ذلك الاحتمال المتقدم مع انجرار التوكيد فإن قيل فقد تكرر قوله أخيرا "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام " قلت: لما أغقب قوله أولا " ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام " بقوله تعالى "وانه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون " زجاءت هذه الآية بين آية الأمر من قوله "فول وجهك شطر المسجد الحرام " وبين ما شأنه أن يكون مبنيا عليها من قوله تعالى "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره "، فلما تباعد عنها كرر توكيدا ولينبنى عليه ما ينبغى اتصاله به وهذا كقوله تعالى "أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا ةعظاما أنكم مخرجون " فأعيدت "أنكم "تأكيدا ولينبنى عليه الخبر وكذا أعيد قوله تعالى "ومن حيث خرجت " لينبنى عليه "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ". وبهذا اللحظ لم يتكرر شئ من الآية لمجرد توكيد بل كل مما يظن تكرارا مفيد معنى لم يحصل محرزا مما قبله ووضح التناسب فى ذلك كله والله أعلم. الآية السابعة والعشرون: - قوله تعالى: "إن فى خلق السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ". وفى سورة العنكبوت: "ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ". وفى سورة الجاثية: "واختلاف اليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ". للسائل أن يسأل عن وجه اختصاص آية العنكبوت بمن دون الأخريين وعن قوله فى سورة الجاثية: "وما أنزل الله من السماء من رزق " فسمى الماء النازل من السماء رزقا بخلاف ما فى آيتى البقرة والعنكبوت. والجواب عن الأول: أن زيادة "من " فى قوله فى العنكبوت: "من بعد موتها " زيادة بيان وتأكيد نوسب به ما تقدم من قوله "من نزل " فإن بنية فعل للمبالغة والتكثير وذلك مما يستجر البيان والتأكيد فنوسب بينهما ولما لم يقع فى الآيتين الأخرتين إلا لفظ "أنزل " ولا مبالغة فيها ولا تأكيد ولا انجر فى الكلام ما يعطيه لم يكن فيهما ما يستدعى زيادة "من " ليناسب بها فلم تقع فى الآيتين ولو قدر ورود عكس الواقع بزيادة "من " فى آيتى البقرة والجاثية وسقوطها فى آية البقرة لما ناسب ذلك أصلا فوضح تناسب الوارد وامتناع خلافه. والجواب عن السؤال الثانى: إن آية الجاثية لما تأخرت فى الترتيب الذى استقر

عليه القرآن كانت مظنة لبيان أن الرزق عن الماء قال تعالى: "ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات " وقال تعالى: "ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد "، فقال فى سورة الجاثية: "من رزق " تسمية للماء بما عنه يتسبب وتكون مبالغة فى بيان ما تقدم كما قال تعالى "وفى السماء روقكم وما توعدون ". الآية الثامنة والعشرون: قوله تعالى: "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا " وفى سورة لقمان: "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا " فللسائل أن يسأل عن الفرق ووجه اختصاص كل من الموضعين بالواو فيه؟ والجواب: أنه لا يقال ألفى بمعنى وجد التى فى قولهم: وجدت الضالة فتتعدى إلى واحد ولا يقال ألفى بمعنى وجد التى بمعنى علم متعديا إلى اثنتين وما يقع منتصبا بعد مفعوله فى مثل قولك: ألفيت زيدا عالما فإنما انتصابه على الحال بدليل أنه لا يوجد إلا نكرة. فوجد لفظ مشترك يقال بمعنى العلم وبمعنى العثور على الشئ والذى هو الوجدان تقول من هذا وجدت الضالة أى عثرت عليها وإذا تقرر هذا فنقول إنه قد تقدم قبل آية البقرة قوله تعالى: "يا أيها الناس كلوا مما فى الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان "، ثم قال: "إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " وخطوات الشيطان وأمره أهواء مضلة، وذلك كله فى طرف نقيض من مقتضى العلم وحصل من هذا أن الشيطان هو الذى يأمرهم ويدعوهم إلى أن يقولوا على الله ما لا يعلمون فحصل من هذا أنه لا علم عندهم ولا توهم علم، وإنهم اعتمدوا اتباع آبائهم فيما يأمر به الشيطان فناسب هذا قولهم "بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا " لأن ما ألفوا عليه آباءهم وجدان لا علم معه حاصلا ولا متوهما فناسب جوابهم ما عليه حالهم وما هم عليه ولما تقدم فى سورة لقمان قوله تعالى: "ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير " فحصل ذكر "علم " وإن كان منفيا ولأن جدالهم ينبئ أنهم توهموا أن ذلك علم وأنهم على شئ فقد حصل من مجادلتهم أنهم يظنون أنهم على علم كما قال تعالى: "يحسبون أنهم على شئ " ولا يجادل إلا متعلق بشبهة يظن أنها علم فناسبه قوله تعالى مخبرا عنهم: "بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا " لاشتراك لفظ وجد إذ يكون بمعنى العلم.

وجواب ثان: هو أن ألفى أكثر حروفا من وجد فناسب لفظ ألفى طول آية البقرة وناسب لفظ وجد إيجاز آية لقمان مراعاة لفظية ملحوظة فى البلاغة فحصل التناسب فى اللفظ والمعنى والله أعلم بما أراد. الآية التاسعة والعشرون: قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم "، وجاء فى ثلاثة مواضع "وما أهل لغير الله به " أولها فى سورة المائدة: "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به "، والثانى فى سورة الانعام: "قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به "، والثالث فى سورة النحل: "فكلوا مما رزقناكم حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ". يتعلق بهذه الآى الأربع خمسة سؤالات: أحدها تقديم المجرور الذى هو "به " فى سورة البقرة وتأخيره فيما سواها الثانى تخصيص آية البقرة بقوله تعالى: "فلا إثم عليه "، الثالث: تخصيص آية الانعام بقوله "فإن ربك غفور رحيم "، الرابع: زيادة ما زيد فى آية المائدة من المحرمات، الخامس: تخصيص آية المائدة بقوله تعالى "فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم ". والجواب عن الأول: أن العرب مهما اعتنت بشئ أو قصدت به قصد زيادة من تأكيد أو تشريف قدمته أو قدمت ضميره وليس من كلامهم إجراء هذه الاغراض مجرى غيرها فلكل مقام مقال ألا ترى قول قائلهم: إياك أعنى وقول مجاوبه: وعنك أعرض وأنشد سيبويه رحمه الله: لتقربن قربا جلديا ما دام فيهن فصيل حيا فتقديم فيهن يحرز معنى لا يحرزه التأخير وقال تعالى: "ولم يكن له كفوا أحد " وبسط هذا فى مظانه وقال تعالى: "فبذلك فليفرحوا " وقال تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين " وهو كثير فى

المضمرات والظروف والمجرورات ومن نحوه قوله تعالى: "وكانوا فيه من الزاهدين " وقوله تعالى: "إنى لعملكم من القالين " ولكون هذا فى صلة الموصول تكلف بعض النحويين فى تعلقه تقدير اسم فاعل يفسره ما بعد الموصول وإذا حقق رجع إلى الأول قال سيبويه رحمه الله: "كأنهم يقدمون الذى هو أهم لهم وهم ببيانه أعنى ". وآية البقرة قد تقدم قبلها قوله تعالى: "يا أيها الناس كلوا مما فى الأرض " وقوله نعالى: "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم "، فورد تعريفهم بذكر ما أبيح لهم وورد ما يقصد إيجابه وندبيته وإن كان إنما يراد بها هنا الاباحة مفتتحا بنداء المخاطبين ومعقبا فيه ما أعملوا بإباحته لهم بالأمر بالشكر الجليل تلك النعمة وعظيم التوسعة فيها من قوله تعالى: "مما فى الأرض " وقوله "من طيبات ما رزقناكم " فلتوسعة الإحسان والإنعام ما أمروا بالشكر. فلما تحصل بهذه المقاصد الجليلة ما ليس فى شئ من تلك المواضع والآيات الأخر وخص ما ذكره بعد بما حرم عليهم بكلمة "إنما " المقتضية الحصر والرافعة لضعف المفهوم حسب ما تقرر من الأصول إذ ليس قوله "إنما الولاء لمن أعتق " مثل قوله "فيما سقت السماء العشر "، "وفى سائمة الغنم الزكاة " فى قوة المفهوم المسمى بدليل الخطاب فلما تحصل فى هذه الآية ما أشير إليه من تأكيد هذا المحرم ما ليس فى الآى الأخر ناسبه تقديم المضمر المجرور فى قوله "وما أهل به لغير الله " ليكون الكلام بتقديم المجرور بقوة أن لو قيل: إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير والمهل به لغير الله وهذا مقصود الكلام ولم يكن تأخير المجرور ليحرز هذا الذى قدرناه ولا ليناسب ما تقدم فجرى الكلام كله من أول القصة إلى آخرها على أسلوب من البلاغة ملحوظ فى آخره وأوله. أما الآى الأخر فليس فيها ما ما فى هذه فتأخر الضمير المجرور إلى محله الذى هو موضعه إذ لم يقصد هذا القصد ولم يكن ليلائمه التقديم ولهذا المجموع وما جرى فى الآية من الإطناب الجليل أعقب هذا الكلام بقوله "فلا إثم عليه " ليناسب ما ذكر ووقع الاكتفاء فى غيرها بما فيها كل ذلك على ما يناسب وهذا هو الجواب عن السؤال الثانى. والجواب عن السؤال الثالث: إن الله سبحانه وتعالى لما قدم فى آية الأنعام وجرى من قدم ذكره وتعنيفهم بقوله "أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ". أتبعه بقوله " قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير " ثم قال "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك ... " وهذا

التفات لأن الجارى على لا أجد فيما أوحى إلى أن لو قيل فإن ربى أو فإن الله فعدل الخطاب التفاتا فقيل "فإن ربك " لأن الكلام إذا تنوع حرك الخواطر إلى تفهمه فقال تعالى: "فإن ربك " ومع قصد الالتفات لم يعدل فيه عند تخصيص الخطاب لأنه موضع تعنيف وزجر لمن تقدم فورد الالتفات باسم الربوبية مع الإضافة إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم ولم يقل: فإن الله وكان يكون فيه الالتفات لما قصد فيه من نحو الوارد فى قوله: "ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم "، وما ورد من مثله ليكون ذلك معرفا بمكانته عليه السلام وتحكيما للإعراض عنهم وعدم التفاتهم وتناسب آخر الكلام وأوله. والجواب عن السؤال الرابع والخامس: أن آية المائدة من آخر ما نزل فورد فيها استيفاء ما حكم سبحانه بتحريمه وإلحاقه بالميتة والدم ولحم الخنزير أعقب الكلام بقوله "فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم " تتميا لبيان حال المضطر ومظنة الاضطرار زيادة على ما ورد فى الآى الأخر ليرتفع ما عسى أن يكون باقيا فيها من إجمال أو إشكال ليجرى مع قوله "اليوم أكملت لكم دينكم .. الآية ". الآية الموفية ثلاثين قوله تعالى: "إن الذبن يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون "، وبعد هذه الآية بأزيد من عشرة آيات: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون فى بطونهم الا النار ولا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب عظيم "، وفى سورة آل عمران: "إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم فى الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ". للسائل أن يسأل عن تخصيص آيتى البقرة بذكر الكتم بقوله فى الآيتين: "ان الذين يكتمون " وهؤلاء بالسابق من ظاهر الآية هم المذكورون فى آية آل عمران ولم يذكر من الآى الثلاث من الوعيد مع البادى من اتحاد مرتكبهم وعن تخصيص كل موضع من هذه بما ورد فيه مرتكبا وجزاء فهذه ثلاثة أسئلة. والجواب عن الآيتين الأوليين والله أعلم أنه لما تقدم قبلهما فى السورة نفسها قوله

تعالى: "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ". فنهاهم الله بسحانه ولم يجر مع هذا النهى ذكر جزاء فى هذه الآية بل تذكير ودعاء إلى ما به نجاتهم واستلطف فى الدعاء ألا ترى أنه تعالى أمرهم بسلوك طريق المتقين قال تعالى: "وأقيموا الصلاة ... " إلى مابعدها فتضمن من التلطف فى الدعاء مع الايماء إلى مرتكباتهم والاضراب عما يستوجب فاعل ذلك ما يوضح للمعتبر عظيم رفقه سبحانه وجليل حلمه فلما لم يجد ذلك عليهم وكتموا بعد أن حذروا عن الكتم وردت الآية بعد معرفة بجزاء من كتم بعد أن حذر فقال تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب .... الآية "، فذكر حال الكاتمين وجزاءهم المترتب على فعلهم من استحقاق اللعن من الله سبحانه وممن ذكر من عباده واللعن الطرد والابعاد ثم إنه سبحانه تدارك من تاب منهم وأصلح وبين بعد أن كان كتم فلما بين فى هذه الآية أمر هؤلاء أعقب فى الأخرى بعد ذكر حال المتمادين على مرتكبهم من الكتم وما زادوا إلى ذلك من اشترائهم به ثمنا قليلا وحظا من دنياهم لا خطر له وذكر ما زيدوا فى الجزاء من العقاب موازنة لزيادة المرتكب فقيل: " أولئك ما يأكلون فى بطونهم الا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم "، ولم يذكر لهؤلاء حال توبة إن تابوا لسوء المرتكب، وليس المراد أنهم لا توبة لهم ولكن عدم ذكرها أوقع فى الاغلاظ لما ذكر من سوء مرتكبهم ليجرى مع قوله تعالى: "ولا يزكيهم "، فإن التزكية تطهير من الاثم ومحوله وذلك هو الذى تثمره التوبة النصوح فلم يكن ليلائم هنا ذكر التوبة وليناسب بذلك أيضا ما عرفت به الآية بعد من حالهم الاخراوى فى قوله تعالى: "أولئك الذين استروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار "، فلما عرف بهذه الغاية من جزائهم لم يكن ليناسب ذلك ذكر التوبة. ووجه المراد فى هذه الآية من قوله: "أولئك ما يأكلون فى بطونهم الا النار " وتخصيصها بهذا إنما هو لما تقدم من قوله تعالى قبل هذه الآية: "يأيها الناس كلوا مما فى الأرض حلالا طيبا " وقوله: "يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم "، ذكر تعالى لهؤلاء ما أحل لهم أكله وما حرم عليهم، فلما تقدم هذا أتبعه بإعلام هؤلاء الآكلين بالتحريف والتبديل بخبث مأكلهم وشنيع مشتراهم، وأنه لو كشف عن أبصارهم لرأوا أنهم إنما يأكلون نارا. وقيل: "وفى بطونهم " لأن الأكل كأنه ضمن معنى الجعل إذ النار فى المعهود المعلوم لا تؤكل فكأن قد قيل:

"انما يجعلون بذلك المأكل الخبيث فى بطونهم نارا كما ورد فى قوله تعالى: "إن الذين يأكلون مال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا "، فالأكل المقصود ملفوظ به ودل عليه السياق. وقوله: "فى بطونهم " على الجعل وكأنه من باب التضمين فدل اللفظ على ما وضع له من المعنى وعلى ما يعطيه من حيث ما يتم به المعنى ويعضده السياق. ومن هذا النحو من دلالة اللفظ على ما تحته من المعنى وعلى غيره من معناه مما يتم المعنى ويحصل المقصود قوله تعالى: "وما نقموت منهم الا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ". المعنى والله أعلم: وما فعلوا ذلك وما يفعلونه الا لإيمانهم ألا ترى أن "أن " فى قوله "أن يؤمنوا " من حيث أن مقتضاها الاستقبال لابد من تعلقها بفعل مناسب ولا يتعلق بالماضى فلابد من تقدير فعل مستقبل يدل عليه الماضى الملفوظ به فكأن قد قيل: ولا ينقمون الا لأجل أيمانهم، وعلى هذا هو المعنى لأن المراد تماديهم على ذلك الفعل وبذلك يحصل ذمهم على مرتكبهم ومن نحو هذا قول الشاعر [برج بن مسهر الطائى]: وندمان يزيد الكأس طيبا سقيت إذا تغورت النجوم إنما يريد سقيت وأسقيه لأن إذا من حيث هى ظرف زمان مستقبل لا يعمل فيها الا فعل مستقبل وبذلك يتم المعنى إذ لم يرد أنه فعل ذلك مرة إذ لا يمتدح بذلك وانما يريد أن ذلك دأبه وعادته وقد شهد المعنى للمقدر من اللفظ ومن هذا قول الكندى: تجاوزت أحراسا وأهوال معشر علي حراصا لو يشرون مقتلى ثم قال: إذا ما الثريا فى السماء تعرضت [تعرض أثناء الوشاح المفصل] ولا يعمل تجاوزت فى إذا لما تقدم فالتقدير تجاوزت وأتجاوز حتى يعلم أن تلك عادته ودأبه وبه يحصل ما أراد وهذا كثير بديع، وفى القرآن منه كثير، وقد خرج من الكلام وحصل الجواب عن السؤالين. والجواب عن السؤال الثالث: أن آية عمران إنما وردت فى مرتكب مخصوص غير الكتم وقد يكون من غير الكاتمين وإن كان أنسب لحالهم وجرى مع مرتكبهم فهو يقع منهم ومن غيرهم انفرد هذا المرتكب الشنيع بما توعدوا عليه، ولكونه أجرى فى مرتكبات من قدم فى آيتى البقرة اشتد فيه الوعيد، واتبعت الآية بما يشعر أتهم الأهلون لهذا المرتكب فقال تعالى: "وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب

وما هو من الكتاب .... الآية "، فليهم أسنتهم من ضرب الكتم وبالجملة فالآية مرتبطة بما يفصلها عن آيتى البقرة ومناسبتها موضعها بين لما تقدمها من قوله: "ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومن من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك الا ما دمت عليه قائما "الى ما يتلو هذا فخصوص هذه الآية بموضعها أوضح شئ وكل من هذه الآيات جار على أوضح مناسبة والله أعلم. الآية الحادية والثلاثون: قوله تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون فى المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها " وفيما بعد من هذه السورة: "تلك حدود الله فلا تعتدوها ". للسائل أن يسأل عن الفرق الموجب لقوله فى الأولى: "فلا تقربوها " وفى الثانية: "فلا تعتدوها ". وقد يجاب عن هذا والله أعلم بأن يقال: أن النهى عن مقاربة الشئ عنوان على تأكيد التحريم وتغليظه ولما كان قرب المساء بالمباشرة بالأجساد وما يجارى ذلك داعيا إلى المواقعة، وقل من يملك فى ذلك نفسه ويغلب هواه ولهذا قالت عائشة رضى الله عنها: "وأيكم يملك أربه .. الحديث "، والمقصود منعه فى أمثال هذه المواطن إنما هو الجماع وهو مؤكد التحريم نهى عما هو أقرب شئ وأدعاه إليه تحذيرا من مواقعته وتعريفا بتأكيد تحريمه، وتأمل إطراد ذلك فبما يرجع إلى نحو هذا كقوله تعالى فى الحيض: "ولا تقربوهن حتى يطهرن " وانما المحرم الجماع وقال تعالى: "ولا تقربوا الزنى "، ومن هذا منع الطيب للمحرم لأنه داعية إلى الجماع ففى هذا الضرب وما يلحق به مما يراد شدة تحريمه من مآل مرتكب محرم مؤكد التحريم يرد النهى عن المقاربة وإذا نهى عن مقاربة محرم ما علم من ذلك تأكيد ذلك المحرم فأما إذا قصد بيان عام وفارق بين ما يحل ويحرم، فلا يقع النهى عن مقاربة إذ لم يقصد الا فرقان حاجز بين ما يحل ويحرم ولم يقصد بيان حال محرم ما من شدة أو خفة فإنما النهى فى مثل هذا عن تجاوز حد مضروب بين محرم ومحلل ومن هذا قوله تعالى: "الطلاق مرتان " إلى قوله تعالى: "فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " ثم قال: "تلك حدود الله فلا تعتدوها " فحصل من الآية الكريمة أنه سبحانه حرم أموالهن على الأزواج بغير حق ما لم يقع منهن نشوزا أو اباية عن القيام بما يجب عليهن أو يطلبن به من حقوق الأزواج واقامة الحدود فإن أبين وخيف منهن أن لا يقمن حدود الله أو خيف ذلك منهما معا برئت ذمة الرجل من الاضرار جاز له إذ ذاك ما يأخذه مما تعطيه المرأة من مالها مفتدية به قال تعالى: "فلا جناح عليهما فيما افتدت

به "، فليس هنا الا حلال أو حرام لا واسطة بينهما ولا ما هو مسبب للحرام قصد تحريمه لتغليظ ما يتسبب عنه مثل هذا إنما يرد النهى فيه عن الاعتداء الذى هو مجازاة ما يحل إلى ما يحرم وتأمل الضربين يلح لك ما ذكرته وورود كل منهما على ما يجب ويناسب. الآية الثانية والثلاثون: قوله تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين " وفى سورة الاتفال: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما تعملون بصير ". للسائل أن يسأل عن تخصيص آية الانفال يالتأكيد الحصرى فقيل: "كله " تأكيدا ولم يرد ذلك فى آية البقرة وعن تعقيب آية البقرة بقوله: "فلا عدوان الا على الظالمين " وآية الانفال بقوله: " فإن الله بما تعملون بصير " فهذان سؤالان. والجواب عنهما معا أن آية البقرة نزلت لعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض بالظلم والتنكيل لمن آمن به صلى الله عليه وسلم وطردوهم كل مطرد فأذن الله لرسوله فى قتالهم لظلمهم إياهم فقال تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ". وهى أول آية أنزلت فى سورة القتال وقال تعالى: "وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم " فقيد قتالهم بمن قاتلهم وقال تعالى: "ولا تعتدوا " فأكد ما تقدم من التخصيص وقال تعالى: "واقتلوهم حيث ثقفتموهم " والضمير للمذكورين ويعضد ذلك ويبين خصوصه بمن ذكر قوله تعالى: "وأخرجوهم من حيث أخرجوكم " وانما أخرجهم أهل مكة وقال تعالى: "والفتنة أشد من القتل "، فأشعر بأن قتالهم جزاء على فتنتهم إياهم وأنهم قد بدؤوا المؤمنين بالفتنة كما قال: "وهم بدؤوكم أول مرة "، وفتنتهم المؤمنين فى دينهم أشد من قتال المؤمنين إياهم ثم حذر المسلمين من قتالهم عند المسجد الحرام حتى يبدأهم المشركون بذلك ثم قال: "فإن قاتلوكم " أى عند المسجد الحرام فاستحلوا حرمته فاقتلوهم فقد علموا صنع الله بمن استحل ذلك وهتك حرمة بيته فإن فعلوا فقاتلوهم عنده جزاء على فعلهم ثم قال نهاية الآية: "فإن انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين "، باستحلال قتالهم وفتنة المسلمين وتعذيبهم بحرم الله وبيته فالآية هنا واردة فى مخصوصين والكلام مقيد فلم

يكن ليناسبه الإطلاق والتعميم الحاصل من التأكيد بكل المحرزة للعموم زالمقتضية الاحاطة والاستغراق. وأما آية الانفال فقد قال قبلها: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " وهذا بمقتضى اللفظ فى كل كافر ومثل هذا وإن ورد على سبب خاص فإن وروده على ذلك السبب غير مانع من دعوى العموم فيه هذا وهذا متفق عليه فى فن الاصول وقد استقر معلوما فى السريعة أن كل كافر بأى كفر كفر فانه إذا أسلم فإن إسلامه يجب ما قبله ويمحوه فلما اقتضت الآية الاستغراق والعموم ناسب ذلك التأكيد المعمم فقال تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين الدين كله لله "، ثم لما قال كان قتال عامة الكفار على أن يدخلوا فى الدين وينبذوا ما سوى دين الإسلام وكان الحاجز عن قتالهم تظاهرهم بالاسلام ونطقهم بالشهادتين وتوكل سرائرهم إلى الله أغقبت الآية بما يشير إلى ذلك فقال تعالى: "فان انتهوا " أى عن كفرهم "فإن الله بما تعملون بصير " أى لا تخفى عليه أعمالهم وليس لك أن تنقب عن قلوبهم فجرت الآية مع الحديث المفسر لها من قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دمائهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله "، فلما اختلف المقصد فى الآيتين أعقبت كل واحدة منهما بما يناسب مقصودها على ما يجب والله أعلم. الآية الثالثة والثلاثون: قوله تعالى: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب "، وقال فى سورة آل عمران: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين "، وفى سورة براءة: " أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة " ففى البقرة وآل عمران: " أن تدخلوا الجنة " وفى براءة: " أن تتركوا " وفى سورة البقرة: " ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم " وفى آل عمران وبراءة: " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " وسورة آل عمران: "ويعلم الصابرين " وفى براءة: " ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة " فهذه ثلاث سؤالات. والجواب عن جميعها على الجملة أن وجه اختلافهما والله أعلم ورودها أعقاب

قصص مختلفة وقضايا متغايرة فآية البقرة واردة على ما تقدمها من خطاب المؤمنين على العموم والتسوية فى قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة " ثم حذرهم بقوله: "فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات ". الآية وأشار الواقع جوابا من قوله: "إن الله عزيز حكيم " إلى قدرته تعالى على من زل فحاد وتنكب بعد وضوح الأمر فكان الكلام فى قوة أن لو قيل بحسب أفهامنا القاصرة: فإن زللتم فحدتم وتنكبتم عن سلوك المنهج الذى أمرتم به بعد بيان الأمر فاعلموا أنه قادر على أخذكم وعقابكم لا يفوته هاربكم ولا يخرج عن قهره أحد منكم عليم بما تخفونه وتسرونه ثم ذكرهم بحال غيرهم فقال تعالى: "سل بنى إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة .. الآية "، ثم عرفهم بتزيين الدنيا للكافرين تسلية للمؤمنين فيما حف بمطلوبهم الأخروى من المكاره وأخبرهم بما لهم فى الآخرة إن صبروا واتقوا فقال: "والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة "، ثم أخبرهم بما كان الأمر عليه أولا من كون الناس أمة واحدة ثم اختلفوا فبعث الله النبيين. الآية فلما خاطبهم بهذا كله وحصل من ذلك ومن إحالة الآى على أحوال من تقدم وإشارتها إلى ما ابتلوا به مما وضح منه صعوبة التخلص إلا بعد الصبر وتحمل المشقة مع سبقية التوفيق أعقب بقوله إشارة إلى تسلية المؤمنين فيما يصيبهم فقال: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ... الآية " فعرفهم أنه لابد من الابتلاء والاختبار: "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " وأتبع بقوله تعالى: "مستهم البأساء والضراء " إلى ما ذكر سبحانه فى قوله: "ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء " فهذه الآية أعنى آية البقرة لم يقع فيها تخصيص بغير المستجيبين المحسنين فى إجابتهم لا من وجهة اللفظ ولا من وجهة المعنى فناسبها الإطناب وذكر حال من تقدم من الأمم فى ابتلائهم. وأما آية آل عمران فخوطب بها أهل أحد تسلية فيما أصابهم وخص فيها ذكر الجهاد والصبر ولم يقصد فى الآية أخبار بغير ذلك لأنها ترتيب واقعة مخصوصة فهذا ما انفردت به واختصت عن آية البقرة فقال تعالى: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " فلم يذكر هنا غير الجهاد والصبر. أما آية براءة فخطاب المؤمنين ممن شاهد فتح مكة وإعلام لهم بأنهم لا يكمل

إيمانهم إلا بمطابقة ظواهرهم بواطنهم فى ألا يقع منهم صغو إلى غير ما بايعوا الله عليه من الإخلاص فلا يجحدون ولا يعتمدون من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين ما يعتمدونه موئلا أو مرجعا فإنه سبحانه لا يخفى عليه ما أسروه وتحوم الآية على ذم من اتصف بصفة النفاق فأظهر خلاف ما أبطن، وقد تقدم قبلها ما يدل على ذلك من قوله تعالى: "يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم " فحذر المؤمنون من هذه الصفة وعرفوا أنه لابد من ابتلائهم واختبارهم لتخلص أحوالهم وتمتاز من أحوال المنافقين وأنهم لم يتركوا دون ابتلاء واختبار ليميز الله الخبيث من الطيب وهذا من بعضهم لبعض أعنى الاطلاع بعد الاختبار والله سبحانه غنى عن هذا وعليم بما تنطوى عليه كل نفس وما تكنه الضمائر وإنما ثمرة الابتلاء والاختبار عائدة علينا ليطلع بعضنا من بعض على ما لم يكن ليطلع عليه لولا الاختبار وعلمه سبحانه لا يتوقف على ابتلائنا ولا يتجدد عليه شئ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فالمراد بالآية: أم حسبتم أن تتركوا دون اختبار يفصل بين أحوالكم وأحوال المنافقين المذكورين فيما قبل ولم تتعرض الآيتان من سورة البقرة وآل عمران لذكر نفاق بالافصاح ولا بإيماء بخلاف آية براءة فلما اختلفت المقاصد اختلفت العبارات فى مطلع الآى وختامها بحسب ذلك والله أعلم. فتأمل اتحاد الوليجة وقوله: "والله خبير بما تعملون " وتخصيص اسمه سبحانه: "الخبير " يلح لك ما قصد بهذه الآية. فصل: واعلم أن "أم " الواقعة فى هذه الآى هى الواردة فى قولهم: "إنها لابل أم شاء " أخبر المتكلم بهذا من العرب أنها ابل ثم لحقه الشك فأضرب عما أخبر به واستفهم عما بعد أم فكأنه قال: بل أهى شاء فمعناها الاضراب عما قبلها والاستفهام عما بعدها فلقطعها ما بعدها عما قبلها يسميها النحويون المنقطعة والمنفصلة وأما المتصلة فهى الواقعة فى العطف والوارد بعدها وقبلها كلام واحد والمراد بها الاستفهام عن التعيين لهذا تقدر بأى والمنقطعة خلافها وهى المتقدمة فى الآى وان الواقعة بعدها سادة مسد مفعولى حسبت عند سيبويه رحمه الله. وأبو العباس [المبرد] يراها سادة مسد المفعول الواحد والثانى عند مقر ويشهد لسيبويه أن العرب لم يسمع من كلامهم نطق بما ادعاه ولو كان على ما يقوله لنطقوا به يوما ما وبسط الرد عليه فى غير هذا. الآية الرابعة والثلاثون: - قوله تعالى: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن

بمعروف أو سرحوهن بمعروف " وفى سورة الطلاق: "فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ". للسائل أن يسأل عن الفرق بين قوله " أو سرحوهن " وقوله " أو فارقوهن " واختصاص كل من الموضعين بما اختص به من ذلك. والجواب والله أعلم أن آية البقرة قد اكتنفها النهى عن مضارة النساء وتحريم أخذ شئ منهن ما لم يكن منهن ما يسوغ ذلك من ألا يقيما حدود الله، فلما اكتنفها ما ذكر وأتبع ذلك بالمنع عن عضلهن وتكرر أثناء ذلك ما يفهم الأمر بمجاملتهن والإحسان إليهن حالى الاتصال والانفصال لم يكن ليناسب ما قصد من هذا أن يعبر بلفظ أو فارقوهن لأن لفظ الفراق أقرب إلى الاساءة منه إلى الإحسان فعدل إلى ما يحصل منه المقصود مع تحسين العبارة وهو لفظ التسريح فقال تعالى: " فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف " وليجرى مع ماتقدم من قوله تعالى: "الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان "، وقيل هنا "بإحسان " ليناسب ما به تعلق المجرور من قوله "أو تسريح " وقد روعى فى هذه الآى كلها مقصد التلطف وتحسين الحال فى المحبة والافتراق ولما لم يكن فى سورة الطلاق تعرض لعضل ولا ذكر مضارة لم يذكر ورود التعبير بلفظ "أو فارقوهن " عن الانفصال ووقع الاكتفاء فيما يراد من المجاملة فى الحالين بقوله "بمعروف " وبان افتراق القضيتين فى السورتين، وورد كل من العباراتين على ما يجب من المناسبة والله أعلم. الآية الخامسة والثلاثون قوله تعالى: "ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر " وفى سورة الطلاق: "ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " فقال فى آية البقرة "ذلك " فأفرد الخطاب وقال "منكم " وفى آية الطلاق "ذلكم " بأداة خطاب الجميع ولم يقل "منكم ". ووجه ذلك والله أعلم: أن آية البقرة ترتبت على تصنيف المضرين بالزوجات واحتيالهم على أخذ أموالهن بغير حق ألا ترى إلى ما تقدمها من قوله تعالى "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " وقوله بعد ذلك "ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " وقد بالغت الآية فى زجرهم حين قال تعالى "ولا تتخذوا آيات الله هزؤا " وهذا من أشد شئ فى تعنيف المضرين بهن ثم نهى سبحانه عن عضل النساء وهو من فعله من الضرار والاعتداء ومناسب لأخذ أموالهن لأنه

قطع عن قصد شرعى به قوام دينهن ودنياهن إذا نكحن من يقدرن فيه ذلك فعضلها ظلم لها، فحصل من مجموع هذا أن المنهى المتوعد عليه فى سورة البقرة أبلغ من التعدى وأسوأ فى المرتكب من الواقع عليه الزجر فى آية الطلاق، ومن المعلوم أن المطلب إذا اعتاص كانت السلامة فيه أعز وسالك طريق النجاة فيه أقل. والخطاب وإن عم فأولى المخاطبين بأهليته والذين هم كأنهم هم المعنيون به على الخصوص إنما هم الممتثلون وكأن غير الممتثل غير داخل تحت الخطاب فعلى ذلك روعى هذا ورد إفراد الخطاب فى البقرة فقيل "ذلك " بحرف الخطاب الذى للواحد إشارة لتقليل المستجيبين المتورعين عن الطمع فى أموال الزوجات والإضرار بهن عضلا أو احتيالا على ما لديهن وعلى هذا الرعى ورد فى هذه الآية "منكم " يشعر أن المستجيبين ليسوا الكل بما يعطيه مفهوم منكم، ولما كان الوارد فى سورة الطلاق أخف فى المطلب وأيسر فى التكليف ترى أن الأحكام المتعلقة بالطلاق وهى التى دارت عليها آى هذه السورة كلها فروع ثوان فالسلامة فيها أيسر وسالك طريقها أكثر فناسب ذلك ورود الخطاب بالحرف الذى يخاطب به الجميع ويشملهم فقيل "ذلكم " وقيل "من كان مؤمنا " ولم يرد هنا "من كان منكم ". لم يرد هنا إشعار بتبعيض وهو الذى يعطيه المفهوم فروعى فى كل من السورتين ما بنيت عليه القصة فى الأخرى والله سبحانه أعلم. الآية السادسة والثلاثون: قوله تعالى: "فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن بالمعروف " وفى الآية الأخرى بعد: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم " فيهما ثلاث سؤالات. الأول: ما وجه التعريف فى قوله "بالمعروف " والتنكير فى الثانية فى قوله "من معروف "؟ والثانى: ما وجه خصوص الأول بالباء والثانى بمن؟ والثالث: ما وجه تعقيب الأولى بقوله "والله بما تعملون خبير " والثانية بقوله "والله عزيز حكيم "؟ والجواب عن الأول: أن الواقع فى الآية الأولى من قوله تعالى: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن فى أنفسهن أربعة أشهر وعشرا " ثم قال "فإذا بلغن أجلهن " أى باستيفائهن أربعة أشهر والعشر والمراد يخرجن عند ذلك من تمام الأجل المضروب لعدتهن فهذا كله بما تقتضيه "إذا " قد أحرز أمدا محدودا معلوم القدر معروف

الغاية يتقيد به خروجهن فناسبه التعريف فى قوله تعالى "فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن بالمعروف " أن المعلوم من موجب الشرع. وأما قوله تعالى فى الآية الأخرى "فإن خرجن " ولم يذكر بلوغ الأجل وليس التقييد الحاصل من "إن " بلوغ الأمد المضروب قبل وهو الحول مثل التقييد الحاصل من الظرف المستقبل الذى هو "إذا " إذ ليست "إن "كـ "إذا "، ألا ترى أنك تقول: أقوم إذا قام زيد فيقتضى من قيامك هذا أن قيامك مرتبط بقيامه ولا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه بل يعاقبه على الاتصال وأما إذا قلت: أقوم إن قام زيد فأقصى ما يقتضى هذا أن قيامك بعد قيامه وقد يكون عقبه وقد يتأخر عنه فإنما يحصل من "أن " التقييد بالاستقبال دون اقتضاء تعقيب أو مباعدة فحصل فى ظاهر اللفظ إبهام من جهتين: إحداهما كون الأجل لم يذكر بلوغه والثانية ما تقتضيه "إن " على ما بين فناسبه التنكير فى قوله "من معروف ". فإن قيل: الحول المذكور فى قوله تعالى فى أول الآية "متاعا إلى الحول " معلوم التوقف وهو كأن الأجل المضروب لهن فى العدة قبل أن ينسخ الأربعة أشهر والعشر وقد اتصل بقوله "فإن خرجن " قوله "فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن " وذلك منبئ أعنى قوله "فلا جناح عليكم " برفع الحرج وأنهن لم يقع منهن معصية فى الخروج وإنما ذلك لخروجهن عند الأمد فقد تقيد خروجهن بوقت معلوم وهو تمام الحول فارتفع الإبهام قلت: بقى رعى المناسبة مما يتأكد التفاته فوضح ورود كل من العبارتين على مايجب من المناسبة. وجواب ثان وهو أن قوله فى الآية الأولى "بالمعروف "المراد به الوجه الذى لا ينكره الشرع ولا يمنعه ولهذا وصل الفعل ههنا بالباء والإحالة على متقرر معلوم وهو الشرع فورد معرفا بأداة العهد وعدى "فعلن " بالباء ثم جاءت الآية الثانية لتأخرها فى التلاوة مشيرة إلى تفصيل ما يفعلن فى أنفسهن من التزين والتعرض للخطاب وما يجارى ذلك من معروف مما ليس بمنكر شرعا والتنكير هنا محرز للمعنى المقصود ومن للتبعيض وهو تفسير وكأن قد قيل فى الوجه المباح لهن الذى لا يمنعه الشرع فجووب بتفصيل مشير إلى أنه ليس وجها واحدا لا يتعدينه بل لهن أن يتزين ويتعرض للخطاب ويفصحن بما يطلبنه من صداق وغير ذلك من مصالحهن المباحة لهن شرعا فهذا موضع من وموضع التنكير والأول موضوع الباء والتعريف بحسب ما قصد فى كل من الموضعين على ما تقدم وقد وضح جواب السؤالين. والجواب عن السؤال الثالث أن تعقيب الأولى بقوله تعالى "والله بما تعملون خبير "

مناسب لما قبله من تأمينهن على أنفسهن فيما يلزمهن فى مدة العدة المذكورة من إحداد وما يتعلق به وفيما يفعلن بعده فإن أضمرن أو كتمن شيئا لا يجوز فعلم الله سبحانه محيط بذلك وهو الخبير به ولما وقع فى الآية بعد قوله "فإن خرجن " وقام فيه احتمال أن يخرجن غير طائعات فيستعجلن أو يتعدين ناسبه ذكر قدرته سبحانه عليهن بالمعاقبة بما شاء أو العفو عن مرتكبهن فهو العزيز الذى لا مغالب له والذى لا يفوته هارب ولا يغيب عنه شئ. الآية السابعة والثلاثون: قوله تعالى: "مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حية " وقال تعالى فى سورة يوسف: "وقال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر " فالمعدود واحد والعدد واحد وقد اختلف المفسر للمعدود فورد فى سورة البقرة "سنابل " وبنيته فعائل من أبنية جمع الكثرة وفى سورة يوسف "سنبلات " وباب ما يجمع بالألف والتاء أن يكون للقيل ما لم يقتصر عليه أو يعرض عارض. فللسائل أن يسأل عن الفرق الموجب لتخصيص كل من الموضعين بما ورد فيه؟ والجواب: أن آية البقرة مبنية على ما أعد الله للمنفق فى سبيله وما يضاعف له من أجر إنفاقه وان ذلك ينتهى إلى سبعمائة ضعف وقوله "والله يضاعف لمن يشاء " قد يفهم الزيادة على ما نص عليه من العدد كما أشارت إليه آيات وأحاديث فبناء هذه الآية على التكثير فناسب ذلك ورود المفسر على ما هو من أبنية الجموع للتكثير لحظا للغاية المقصودة ولم يكن ما وضعه للقيل فى الغالب ليناسب ما تلحظ فيه الغية من التكثير. أما آية يوسف فإنما بناؤها على إخبار الملك عن رؤياه سبع سنبلات فلا طريق هنا للحظ كثرة ولا قلة لأنه إخبار برؤيا فوجهه الاتيان من أبنية الجموع بما يناسب المرئى وهو قليل لأن ما دون العشرة قليل فلحظ فى آية البقرة ما بعده مما يتضاعف إليه هذا العدد وليس فى آية يوسف ما يلحظ فافترق القصدان وجاء كل على ما يجب ويتاسب والله أعلم. الآية الثامنة والثلاثون: قوله تعالى: "يمحق الله الربا ويربى الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم "، وفى سورة النساء: "إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل "، وفى موضع ثان بعد: "إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما " وفى سورة الحديد: "والله لا يحب كل محتال فخور الذين يبخلون ".

للسائل أن يسأل فى هذه الآى عن شيئين أحدهما: ما وجه اختصاص كل آية من هذه الأربع بالوصف المذكور فيها الموجب لكونه تعالى لا يحب المتصف به؟ الثانى: ان تلك الأوصاف إذا كانت موجبة لما حكم به تعالى عليهم من أنه لا يحبهم وقد استوت فى إيجاب هذا الحكم فما وجه اختصاص آيتى النساء منها بتأكيد ذلك الحكم بأن ورود آية البقرة وآية الحديد معطوف فيهما ما ورد فى آيتى النساء مؤكدا بـ "إن " وهل ذلك لموجب يقتضيه؟. والجواب عن الأول: أن وجه اختصاص كل آية منها بما ورد فيها من الوصف الموجب لكونه تعالى لا يحب المتصف به مناسبة كل آية منها لما تقدمها. أما آية البقرة فإن قبلها قوله تعالى: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا " فوصفهم بأكل الربا حتى أعقبهم ذلك تخبطهم فى قيامهم كفعل المجانين وأنهم سووا بين البيع المشروع والربا الممنوع وذلك كفر وتكذيب فوصفوا بما يقتضى المبالغة فى مرتكبهم من منع حب الله تعالى إياهم فقال تعالى: "والله لا يحب كل كفار أثيم "، وفعال وفعيل أبنية للمبالغة وهو وصف مناسب لحالهم. وورد قبل آية النساء قوله تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم " فأمرهم سبحانه بعبادته وتوحيده وبالإحسان إلى المذكورين فى الآية ومن الإحسان إليهم خفض الجناح ولين المقال والإنصاف بما وصف الله به من يحبهم فى قوله: "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين "، والاختلال والفخر مضاده لهذه الأوصاف الحميده مانعة منها ولا يمكن معها الإحسان المطلوب فى الآية فلهذا أعقبت بقوله تعالى: "إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا " فان المنصف بهذا متصف بنقيض الإحسان فمناسبة هذا بينة. وأما الآية الثانية من سورة النساء فقد تقدمها قوله تعالى: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما "، ثم قال: "ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم "، قدم الخائنين وحذر نبيه صلى الله عليه وسلم من معاونتهم والجدال عنهم وأعقب بأنه لا يحب من اتصف بصفاتهم فقال تعالى: "إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما "، وتناسب هذا أوضح شئ.

وأما آية الحديد فإن قبلها قوله تعالى: "اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم ... الآية " فناسب هذا قوله تعالى: "والله لا يحب كل مختال فخور " فقد وضحت مناسبة كل آية من هذه لما اتصلت به وإن كان كل آية من هذه المعقبات لا يلائمها غير ما اتصلت به والله أعلم. وقد وضع فى هذا الجواب جواب السؤال الثانى وهو أن آية البقرة إنما ترتبت على آكلى الربا والمسوين بينه وبين البيع المشروع وهؤلاء صنف واحد ومرتكبهم واحد وأن آية الحديد ترتبت على حكم الخيلاء والفخر وذلك إذا تحقق أيضا راجع إلى الكبر فالمادة واحدة. أما آية النساء فإن الأولى منها تقتضى بحسب من ذكر فيها واختلاف أحوالهم تفصيل المرتكب وتعداد المطلوب فيها وقد اشتملت على أمر ونهى فناسب اتباع المطلب تأكيد الخبر المترتب عليه من الجزاء فأكد بأن المقتضية تأكيد الخبر وكذلك الآية الثانية لأن خيانة النفس تنتشر مواقعها فتارك الطاعة قد خان نفسه وفاعل المعصية كذلك وأفعال الطاعة كثيرة لا تنحصر وكذلك المخالفات فناسب الكثرة التأكيد وهذا كله بخلاف آية البقرة وآية الحديد فى المرتكب فيهما كما تقدم فجاء كل على ما يناسب والله أعلم. الآية التاسعة والثلاثون: - قوله تعالى: "لله ما فى السماوات وما فى الارض وان تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " وفى سورة آل عمران: "قل ان تخفوا ما فى صدوركم أو تبدوه يعلمه الله " فتقدم فى هذه الآية ذكر الاخفاء وتأخر فى آية البقرة والحاصل من الآيتين تعريف تاعباد باحاطة علمه سبحانه بما ظهر وما بطن على حد سواء كما قال تعالى: "سواء منكم من أسر القول ومن جهر به " فللسائل أن يسأل عن وجه الخلاف فى الآيتين. والجواب عنه والله أعلم: أن ابداء الشئ واخفاء خلافه فى المعتقدات صفة المنافقين وبها امتيازهم من غيرهم من الكفرة قال تعالى: "يخفون ما فى أنفسهم ما لا يبدون لك "، وقال تعالى: "واذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا انا معكم "، وهذا كثير فى القرآن وقد أعلم سبحانه أن المنافقين هم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتوعدهم على ذلك بأليم العذاب قال تعالى: "بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين "، فحذر المؤمنين من ذلك فقال: "يأيها الذين آمنوا

لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا " وقال تعالى: "يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء " إلى غير هذه من الآى فلما تقرر هذا النهى وتكرر وقد تقدم آية آل عمران قوله ناهيا وزاجرا: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين "، وحذر تعالى من ذلك أشد التحذير الا عند التقية فقال تعالى: "ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شئ الا أن تتقوا منهم تقاة "، ثم أتبع تعالى بتأكيد التحذير فقال: "ويحذركم الله نفسه " ثم قال: "والى الله المصير " فلما نهاهم عن المرتكب الذى امتياز المنافقين كان آكد شئ وأهمه إعلامهم بانه سبحانه يعلم ما يخفون كعلمه ما يبدون لبناء المنافقين كفرهم على ما جهلوه من عليه سبحانه بخفيات ضمائرهم والحادهم فى ذلك جهلا بما يجب لله سبحانه وتكذيبا لرسوله ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وان الله علام الغيوب فهذا وجه تقديم الاخفاء فى آية آل عمران وتأمل تقديمه فى الجارى مجرى هذه الآيات كقوله تعالى فى قصة حاطب بن أبى بلتعه رحمه الله: "تسرون إليهم بالمودة وأن أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم " أما آية البقرة فلم يجر فيها ذكر النفاق ولا صفة أهله وانما الخطاب فيها وفى آية الدين قبلها وقيما أعقبت به بعد للمؤمنين فيما يخصهم من الاحكام فورد فيها قوله تعالى: "وان تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " مقدما فيها بادى أعمالهم بناء على سلامة بواطنهم وتنزههم عن صفة المنافقين ومنه قوله تعالى: "ما على الرسول الا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون "، فتقدم ذكر ما يبدو لأنه خطاب للمؤمنين ومنه قوله تعالى: "ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون " والخطاب للمؤمنين وهذا جار مطرد فيما يلحق بهذا الضرب كما أطرد البدء بالاخفاء على الاعلان حيث يتقدم ذكر أهل الكفار أو ينتظم الكلام بذكرهم كقوله تعالى: "يعلم سركم وجهركم " بعد قوله تعالى: "ثم الذين كفروا برهم يعدلون " وكقوله تعالى: "ويعلم ما تسرون وما تعلنون " بعد قوله تعالى: "هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " وكقوله تعالى: "وان ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون " وقد تقدمها قوله تعالى: "أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون "، فاطرد ما ذكرناه فى الطرفين على رعى الإيمان والنفاق وجاء كل على ما يناسب والله أعلم.

الآية الموفية أربعين: وهى من تمام ما قبلها قوله تعالى: "فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " وفى سورة آل عمران: "ولله ما فى السماوات وما فى الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " وفى المائدة قوله تعالى: "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " وفى سورة الفتح: "ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " فورد فى هذه الآى الأربع تقديم الغفران وتأخير التعذيب وورد فى سورة المائدة: "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء " بتقديم التعذيب وتأخير المغفرة على خلاف ما ورد فى الآى الأربع المذكورة. فللسائل أنه يسأل عن ذلك. والجواب عنه والله أعلم أن هذه الآية لما تقدمها قوله تعالى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الحياة الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " ثم بعد ذلك قوله تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم "، فقدم فى هاتين القصتين من خبر المحاربين والسارقين أمر تعذيبهم جزاء على فعلهم ثم ذكر المغفرة لهم إن تابوا وأتبع ذلك بقوله تعالى: "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ... الآية " وبناؤها على ما تقدمها قبلها ويليها كما تبن فقدم ذكر العذاب على المغفرة لمناسبته لما اتصلت به وبقيت عليه. وأما الآى الأربع فلم يقع قبل شئ منها ذكر الواقع فى سورة المائدة وإنما تقدمها ما يفهم قوة الرجاء لمن أحسن وأناب كقوله تعالى فى آية البقرة: "وإن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه " والخطاب للمؤمنين وورد قبل الآية الثانية من الأربع قوله تعالى: "ليس لك من الأمر شئ "، وقبل الثالثة: "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه "الى قوله تعالى: "بل أنتم بشر ممن خلق "، وفى هذا وإن كان خطابا لأهل الكتابين تنبيه لهم وأنهم إن أسلموا وأنابوا لربهم رجوا عفوه ومغفرته وقبل الآية قوله تعالى: "إن الذين يبايعونك إنما

يبايعون الله "، ولم يخرج الكلام إلى غير هذا من تعريف نبيه صلى الله عليه وسلم بعلي حاله وما منحه والإعلام بحال المخلفين من الأعراب وما جرى فى ظنهم وكل ذلك تثبيت للمؤمنين ومنبئ بما تعقبهم الاستجابة لله ولرسوله ثم أتبع ذلك بالإعلام بأنه سبحانه المالك للكل والمتصرف فيهم بما يشاء فقال تعالى: "ولله ملك السماوات والأرض " وأفهم ذلك أن فعل المخلفين من الأعراب غير خارج عما أراده وقدره وأن مخالفتهم لا تضره تعالى وأنها صادرة عن قضائه فناسب هذه الأربع بجملتها تقديم ذكر المغفرة وجاء كل على ما يناسب والله أعلم.

سورة آل عمران

سورة آل عمران الآية الأولى منها: قوله تعالى: "نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه "، ثم قال: "وأنزل التوراة والإنجيل "، فليسأل عن تخصيص الكتاب بلفظ "نزل " المضعف وتخصيص التوراة والإنجيل بلفظ "أنزل "؟ والجواب عن ذلك أن لفظ نزل يقتضى التكرير لأجل التضعيف تقول ضرب مخففا لمن وقع ذلك عليه مرة واحدة ويحتمل الزيادة والتقليل أنسب وأقوى. أما إذا قلنا ضرب بتشديد الراء فلا يقال الا لمن كثر ذلك منه فقوله تعالى: "نزل عليك الكتاب " مشير إلى تفصيل المنزل وتنجيمه بحسب الدعاوى وأنه لم ينزل دفعة واحدة أما لفظ أنزل فلا يعطى ذلك إعطاء نزل وان كان محتملا وكذا جرى فى أحوال هذه الكتب فإن التوراة إنما أوتيها موسى صلى الله عليه وسلم جملة واحدة فى وقت واحد وهو المراد بقوله تعالى: "وكتبنا له فى الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة "الآية أى المجموع وأما الكتاب العزيز فنزل مقسطا من لدن ابتداء الوحى وقوله سبحانه وتعالى: "إقرأ باسم ربك الذى خلق " إلى آخر عمره صلى الله عليه وسلم ونزول قول الله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا " وقوله تعالى: "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " ولنزوله مقسطا ما قال الكفار: "لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " فقال تعالى: "لنثبت به فؤادك " وقال تعالى: "يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله " وهو القرآن ثم قال: "والكتاب الذى أنزل من قبل " والمراد التوراة فورد ذكر التوراة فجاء كما ورد حين أفصح بذكر أسمائهم فى قوله: "نزل عليك الكتاب " ثم قال: "وأمزل التوراة والإنجيل " وحيث يذكر أحد هذه الكتب مفردا عن غيره أو بغير الألف واللام العهدية فيأتى بلفظ "أنزل " فيهما وان أريدا معا كقوله تعالى: "وما أنزل الينا وما أنزل من قبل " ومنه: "والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك "، وهذا كثير فى القرآن حيث يعبر عن ذلك بما وان كانت موصولة فليس فيها من العهد

ما فى الذى وفى الألف واللام ولا وقع الافصاح باسم المنزل وهذا فرق واضح لأن ما تفارق الموصولية فتخرج إلى الابهام فلا تكون فيها عهدية أما الذى فلا تفارق ولا تخرج فالعهدية فيها لازمة وكذا اذا ذكر أحد هذه الكتب مفردا عن غيره لم ينكر وروده بلفظ أنزل ونزل لأنهما يكونان بمعنى واحد كقوله تعالى: "الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب "، وأما حيث يجتمع ذكرهما مفصحا باسم كل واحد أو بأداة العهد كما تقدم فلا يكون الا على ما تقرر من حيث أن لفظ التضعيف أقوى من اعطاء معنى التنجيم والتفصيل كما تقدم وهذا مطرد على كثرة ما ورد منه وتكرر. ولم يرد إنزال التوراة بالتضعيف الا فى قوله تعالى: "من قبل أن تنزل التوراة ". وله وجه وهو أن المراد ثبوت أحكامها وتقعيدها وذلك أن بنى إسرائيل لما حرم عليهم ببغيهم وظلمهم ما حرم فى قوله تعالى: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عايهم طيبات أحلت لهم ... الآية " وقوله تعالى: "وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر .. الآية " وعرف الله سبحانه نبيه والمؤمنين بذلك أمكرت بنو إسرائيل تخصيصهم بذلك وزعموا أنهم لم يخصوا به وأنه قد كان محرما على نوح وابراهيم وكل من تقدم بنى إسرائيل من الأمة فأكذبهم الله تعالى فى ذلك وقال: "كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة " أى من قبل حصولها منزلة وتقعيد حكمها وثبوتها فلما قصد معنى استقرارها وتقعيد حكمها ورد اللفظ مضعفا ليشير إلى حكم ثبوتها واستقرارها والله أعلم بما أراد ولهذا والله أعلم لم يرد من غير هذا الموضع ذكر إنزالها بالتضعيف وقد تعرض أبو الفضل بن الخطيب لقوله تعالى: "نزل عليك الكتاب ... وأنزل التوراة والإنجيل " ووجه ذلك على ما ذكرته ثم اعترض على ذلك بقوله تعالى: "الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب " ولم يفصل وقال إنه مشكل وقد بينا أنه لا إشكال فى ذلك على ما تقعد قبل والحمد لله. الآية الثانية: قوله تعالى: "كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب "، وفى سورة الأنفال: "كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوى شديد العقاب "، وبعدها: "كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ". للسائل أن يسأل عن هذه الآى فى ستة مواضع: السؤال الأول: الإخبار عنهم فى

آية آل عمران وفى ثانية الأنفال بقوله "كذبوا " وقال فى الأولى من الأنفال "كفروا ". ما وجه ذلك؟ والثانى: ما وجه اختلاف الإضافة فى كذبهم وتكذيبهم؟ ففى آل عمران "بآياتنا " وفى الأولى من الأنفال "بآيات الله " وفى الثانية "بآيات ربهم "، والثالث: قوله فى ثانية الأنفال "فأهلكناهم بذنوبهم " وفى الأخريين "فأخذهم الله بذنوبهم "، والرابع: قوله فى سورة آل عمران "والله شديد العقاب "، وفى الأولى من الأنفال "إن الله قوى شديد العقاب " ولم يرد فى الثانية هذا الوصف، والخامس: تفصيل العقاب فى ثانية الأنفال ولم يرد فى الآخريين ذلك التفصيل، والسادس: تعلق المجرور من قوله "كدأب آل فرعون " وليس هذا مما بنى عليه هذا الكتاب إلا أنه تتمة. والجواب عن الأول: أن آية آل عمران لما تقدم قبلها ذكر تنزيل الكتب الثلاثة والإشارة إلى ما تضمنته من الهدى والفرقان وإنما أتى على من كفر بصده عنها وتكذيبه ناسب ذلك قوله تعالى: "كذبوا بآياتنا " ولما لم يقع فى سورة الأنفال من أولها إلى الآية الأولى من الآيتين ذكر شئ من الكتب المنزلة ولا ذكر إنزالها وإنما تضمنت حال المسلمين مع معاصريهم من كفار العرب ومعظم ذلك فى قتالهم وحربهم ناسب ذلك التعبير بالكفر فقال تعالى "كفروا بآيات الله " ثم لما تلتها الآية الأخرى من غير طول بينهما وقع التعبير فيها بالتكذيب فقال "كذبوا بآيات ربهم " وعدل عن لفظ كفروا لثقل التكرر مع القرب وليحصل وسمهم بالكفر والتكذيب. والجواب عن السؤال الثانى: أن الآية الأولى من سورة الأنفال إنما جئ فيها بالاسم الظاهر فقيل "كفروا بآيات الله "، لتقدم ذكر الملائكة فى قوله "ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم " بنسبة الفعل للملائكة وتقدم أيضا " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم " ولم يتقدم فى آل عمران ذكر فعل لغير الله تعالى ولا نسبة شئ لسواه فجئ بآيات مضافة إلى ضميره تعالى فقال "كذبوا بآياته " على طريقة الالتفات وجاء فى الأنفال "كذبوا بآيات الله " بالإضافة إلى الاسم الظاهر ليعلم أن الأمر له عز وجل وأنه مريهم الآيات ولا فعل إلا له وأن الملائكة مسخرون بأمره وفعلهم من خلقه وتزيين الشيطان لهؤلاء الكفار إنما هو بقدر الله وسابق مشيئته وكل ذلك خلقه وملكه والآيات آياته وله المثل الأعلى وقيل فى الثانية "بآيات ربهم " ليجرى مع ما تقدمه متصلا به من قوله تعالى: "ذلك بأن الله لم يكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم " فذكر ابتداءه بالنعم فناسبه ذكر ملكيته سبحانه لهم

بقوله "بآيات ربهم " فهو المحسن والمالك ثم جرى القدر بما سبق لهم فإيراد قوله "كذبوا بآيات ربهم " مع ما تقدم أوقع فى نفوسهم وأشد فى تحسرهم وندامتهم إذا شاهدوا الأمر فعلموا أنه مالكهم وأنه ابتدأهم بالنعم فغيروا فحصل من ذلك أنهم قابلوا نعم ربهم بالكفر مع بيان الأمر ووضوحه ولو قيل: بآيات الله لما أحرز هذا المعنى المعرف بملكيته لهم والمشير لندامتهم وتحسرهم ولا خفاء بالفرق بين قول القائل لمن كفر بنعمة الله: إنما كفرت بنعمة مالك المحسن إليك ومبتديك بالنعم وبين أن لو قيل له: إنما كفرت بنعمة الله فتأمل ما بينهما ولهذا ابتدئ دعاء الخلق فى سورة البقرة إلى الإيمان بقوله: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم " إلى آخر الآية. والجواب عن السؤال الثالث: أنه قصد فى الآية الثانية من الأنفال تفصيل عقابهم بإغراق آل فرعون وأخذ من عداهم بغير ذلك وقال "فأهلكناهم بذنوبهم " ليخالف قوله تعالى فى الآية قبل: "فأخذهم الله بذنوبهم " لاسثقال لفظ التكرار فيما تقارب ولما قصد من التفصيل وقد ضم الفريقين من المهلكين بذنوبهم والمغرقين فى قوله: "وكل كانوا ظالمين ". وعن الرابع أن قوله تعالى فى الآية الأولى من الأنفال: "إن الله قوى شديد العقاب " مقابل به قول الشيطان لمن قدم ذكره من الكفار: "لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم " فقوبل قوله المضمحل بإسناد القوة لله ـ عز وجل ـ كما قال تعالى: "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا .. الآية "، ولما لم يرد فى سورة آل عمران مثل هذا وقع الاكتفاء بقوله "والله شديد العقاب " وزيد التأكيد فى أول الأنفال بـ "إن " وزيادة اسمه سبحانه القوى لما ذكرنا آنفا من رعى التقابل. والجواب عن السؤال الخامس ما قيل فى الجواب عن السؤال الثالث من قصد التفصيل ثم إن الوجه فى تخصيص هذا الموضع بذلك أنه آخر موضع وقع التذكير فيه بعبادة آل فرعون فى تكذيبهم وأخذهم بكفرهم والترتيب الذى استقر عليه الكتاب العزيز متوقف على الآتى به صلى الله عليه وسلم وقد بينا ذلك فى غير هذا وأن من ظن أن الترتيب من قبل الصحابة فقد غفل وذهب عما بنى عليه من جليل الاعتبار وسنذكر ذلك فى سورة القمر إن شاء الله. والجواب عن السؤال السادس: أن الكاف متعلقة بمحذوف هو الخبر للمبتدأ

المقدر إذ التقدير دأبهم أو دأب هؤلاء أو هذا كدأب آل فرعون وما قدر الناس من التعلق بقوله: وأولئك هم وقود النار أو غير هذا من التقدير لا يرجح عند الاختبار ويضعف تقدير ذلك فى ثانية الأنفال ويتكلف فى الأولى منها ولا يحسن معه المعنى ولا يفوز وفى استقلال الجملة من قوله "كدأب آل فرعون " وعدم التعلق الإعرابى بما قبله فى جملة أخرى جزالة النظم وقوة المعنى فتأمله. الآية الثالثة: قوله تعالى: "تولج الليل فى النهار وتولج النهار فى الليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى "، وكذلك فى سورة يونس: "أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى "، وكذا فى سورة الروم وحيث وقع ورود فى سورة الأنعام: "إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى " فوقع هنا اسم الفاعل موقع الفعل وعاقبه فقال "ومخرج "فيسأل عن هذا؟ ووجه ذلك والله أعلم: أن بناء آية الأنعام على آية بنيت على اسم الفاعل وان كان خبرا وهو قوله تعالى: "إن الله فالق الحب والنوى " ثم أعقب ذلك بقوله "فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا "، فلما اكتنفت الآية أسماء فاعلين جئ فيها باسم الفاعل فى قوله "ومخرج الميت من الحى " ليناسب ذلك فعطف "ومخرج " على "فالق " إذ هو معطوف على ما عطف عليه فهو معطوف عليه ثم جئ بعد باسم فاعل وهو قوله تعالى: "فالق الإصباح " فتناسب هذا ولم يقع فى الأخر المتضمنة إخراج الحى من الميت والميت من الحى مثل هذا فلذلك لم يعدل إلى اسم الفعل والله سبحانه أعلم. فإن قلت فما بال قوله يخرج الحى من الميت فى هذا الموضع ورد بالفعل وقد اكتنفه قوله: "فالق الحب والنوى ومخرج الميت من الحى ". وهما اسما فاعلين؟ فالجواب عن ذلك ما قاله الزمخشرى قال: "موقع قوله "يخرج الحى من الميت " موقع الجملة المبينة لقوله "فالق الحب والنوى " لأن فلق الحب والنوى بالنبات والثمر اليابس من جنس إخراج الحى من الميت لأن اليابس فى حكم الحيوان ألا ترى قوله "يحيى الأرض بعد موتها "، انتهى قوله، ذكر هذا عقب قوله "ومخرج الميت من الحى " أنه معطوف على فالق الحب والنوى كما تقدم وهذا من حسناته. الآية الرابعة: قوله تعالى: "ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير " ث

م قال فى الآية الأخرى بعد: "ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ". للسائل أن يسأل عن وجه تعقيب الأولى بقوله: "والى الله المصير " وتعقيب الثانية بقوله: "والله رؤوف بالعباد ". والجواب عن ذلك والله أعلم أنه لما تقدم قبل الأولى قوله تعالى: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " فنهاهم سبحانه عن ذلك ثم أردف بالتحذير بقوله: "ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شئ " ثم استثنى سبحانه من ذلك حال التقاة فقال: "إلا أن تتقوا منهم تقاة " ثم قال: "ويحذركم الله نفسه - أى عذابه - وإلى الله المصير - أى ومرجعكم إليه فلا يفوته هارب فهذا كلام ملتحم جليل النظم والتنضيد ثم أتبع هذا بإعلامه أنه سبحانه لا يخفى عليه شئ مما أكنوه أو أظهروه فقال: "قل إن تخفوا ما فى صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما فى السماوات وما فى الأرض والله على كل شئ قدير "، فأعلم فيها بعلمه المحيط بالأشياء والعلم والقدرة هما القاطعان بمنكرى العودة وعلى إنكارهما بنى المنكرون حشر الأجساد شنيع مقالهم وبثباتهما اضمحل باطلهم وقد أشارت هذه الآية العظيمة إلى علمه سبحانه بالجزئيات وقدرته عليها وفى ذلك الشأن كله ولعل الكلام يعود بنا إلى مقصود هذه الآية العظيمة فنبسط من ذلك ما يشفى صدر المؤمن ويقطع بالملحدين وإن كان أئمتنا من أهل الفن الكلامى قد شفوا فى ذلك رضى الله عنهم فعرف سبحانه بالرجوع الأخروى إليه ثم أخبر بأنه لا يغادر من أفعال عباده صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فقال: "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا "الآية ثم قال معيدا ومحذرا: "ويحذركم الله نفسه " وأعقب بقوله: "والله رؤوف بالعباد "، لما تقدم من التذكير والوعظ والبيان والتحذير المبنى على واضح الأمر والتبيان وذلك إنعام منه سبحانه وإحسان يستجر خوف المؤمنين العابدين، فناسبه التعقيب بذكر رأفته بعباده رفقا بهم وإنعاما وتلطفا فقال: "والله رؤوف بالعباد "، ولم يتقدم قبل الأولى ما تقدم قبل هذه متصلا بها وانما تقدمها النهى عن موالاة الكفار والتبرى من مواليهم بالكلية فناسبه ما أعقب به وناسب هذه ما أعقبت به والله أعلم. الآية الخامسة: قوله تعالى فى قصة زكريا عليه السلام: "أنى يكون لى غلام وقد بلغنى الكبر وامرأتى عاقر " وفى سورة مريم: "أنى يكون لى غلام وكانت امرأتى عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا " للسائل أن يسأل عن اختلاف السياق فى الآيتين مع اتحاد معناهما.

والجواب عن ذلك والله أعلم: أن المعنى وإن كان فى السورتين واحدا وفى قضية واحدة فإن مقاطع آى وسورة مريم وفواصلها استدعت ما يجرى على حكمها ويناسبها من لدن قوله تعالى فى افتتاح السورة: "ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا " إلى قوله فى قصة عيسى عليه السلام: "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا "، لم تخرج فاصلة منها عن هذا المقطع ولا عدل بها إلى غيره ثم عادت إلى ذلك من لدن قوله تعالى: "واذكر فى الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا " إلى آخر السورة فاقتضت مناسبة آى هذه السورة ورود قصة زكريا عليه السلام على ما تقدم ولم يكن غير ذلك ليناسب أما آية آل عمران فلم يتقيد ما قبلها من الآى وما بعدها بمقطع مخصوص فجرت هى على مثل ذلك والله أعلم. الآية السادسة: قوله تعالى: "قال ربك اجعل لى آية " يريد والله أعلم آية على الحمل ليستعجل البشارة فقيل له: "آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " وفى سورة مريم: "آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " مع اتحاد القصة فيسأل عن ذلك. والجواب والله أعلم: أنه لما كان الإخبار مقصودا به التعريف بمنعه الكلام ثلاثة أيام بليالهن منصوصا على ذلك حتى لا يقع احتمال أن يكون المنع فى الليالى دون الأيام أو الأيام دون الليالى، وهذا كما فى قوله تعالى: "سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما " فوقع التنصيص على الوقتين ليرتفع توهم أفراد أحد الوقتين دون الآخر وكذا فى آية آل عمران بذكر الأيام ليناسب قوله "إلا رمزا " إذ الرمز ما يفهم المقصود دون نطق كالإشارة بالعين وباليد وقال مجاهد بالشفتين وكيفما كان فإنما يدرك بالعين ولما لم يذكر الرمز فى آية مريم ذكر فيها الليل. وحصل التعريف باستيفاء الوقت الممنوع فيه الكلام وما جعل له عوضا منه وهو الرمز وزيد فى آية مريم التعريف باستواء الليالى فى ذلك فالمراد مستويات فسويا من صفة ليال انتصب على الحال أو يكون المراد لا خرس بك ولا مرض فيكون سويا حالا من الضمير فى تكلم فورد هنا سويا مناسبا للفواصل ومقاطع الآى وليس فى آية آل عمران ما يستدعى ذلك فورد كل على ما يجب ويناسب والله أعلم. الآية السابعة: قوله سبحانه: "ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا

إلى بنى إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم ما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم "، وقال فى المائدة: "وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى وتبرئ الأكمه والأبرص بإذنى وإذ تخرج الموتى بإذنى .. الآية "، للسائل أن يسأل عن تذكير الضمير وتأنيثه وعن وجه تكرير قوله تعالى: "بإذنى " فى آية المائدة مضافا إلى ضميره سبحانه فى أربعة مواضع مع وجازة الكلام وتقارب ألفاظ الآية وقد جرى هذا الغرض فى آية آل عمران فورد فيها ذلك في موضعين خاصة مضافا من اسمه سبحانه؟ والجواب عن السؤال الأول بعد تمهيد الجواز فى تذكير الضمير فى قوله "فأنفخ فيه " فى الآية الأولى وتأنيثه فى الآية الثانية "فأنفخ فيها " مع اتحاد ما يعود عليه. فأقول وأسأل الله توفيقه: قال الزمخشرى فى الأولى: "الضمير للكاف أى فى ذلك الشئ المماثل لهيئة الطير فيكون طيرا أى فيصير طائرا كبقية الطيور، وقال فى قوله: "فتنتفخ فيها " الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التى كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه فى شئ قال وكذلك الضمير فى تكون انتهى نص كلامه وهو بين. وبقى السؤال عن وجه تخصيص كل من الموضعين بالوارد فيه وهو مقصودنا فى هذا الكتاب، وعن وجه التكرار فى قوله تعالى فى سورة المائدة "بإذنى " فى أربعة مواضع مع وجازة الكلام وتقارب ألفاظ الآية؟ الجواب عن وجه التخصيص والله أعلم: أن الترتيب الذى استقر عليه القرآن فى سوره وآياته أصل مراعى وقد تقدم بعض إشارة إلى ذلك ولعلنا سنزيد فى بيانه إن شاء الله وعودة الضمير على اللفظ وما يرجع إليه أولى وعودته على المعنى ثان عن ذلك وكلا التعبيرين عال فصيح فعاد فى آية آل عمران على الكاف لأنها تعاقب مثل وهو مذكر فهذا لحظ لفظى ثم عاد فى آية المائدة إلى الكاف من حيث هى فى المعنى صفة لأن المثل صفة فى التقدير المعنوى فحصل مراعاة المعنى ثانيا على ما يجب كما ورد فى قوله تعالى: "ومن يقنت منكن لله ورسوله " بعودة الضمير من يقنت مذكرا رعيا للفظ "من "، ثم قال: وتعمل بالتاء رعيا للمعنى وهو كثير وقد بينا أن رعى اللفظ فى ذلك هو الأولى فجرى فى آية آل عمران على ذلك لأنها

متقدمة فى الترتيب وجرى فى آية المائدة على ما هو ثان إذ هى ثانية فى الترتيب وذلك على ما يجب. وجواب ثان: وهو أنه قد ورد قبل ضمير آية آل عمران من لدن قوله تعالى: "وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم " إلى قوله: "فأنفخ فيه " نحو من عشرين ضميرا من ضمائر المذكر فورد الضمير فى قوله "فأنفخ فيه " ضمير مذكر ليناسب ما تقدمه ويشاكل الأكثر الوارد قبله. أما آية العقود فمفتتحة بقوله تعالى: "اذكر نعمتى عليك " وخلقه الطائر ونفخه فيه من أجل نعمه تعالى عليه لتأييده بذلك فناسب ذلك تأنيث الضمير ولم تكثر الضمائر هنا ككثرتها هناك فجاء كل من الآيتين على أتم مناسبة. والجواب عن السؤال الثانى: وهو تكرر قوله تعالى "بإذنى " فى آية المائدة أربع مرات مع تقارب الألفاظ؟ ووجه أن آية آل عمران إخبار وبشارة لمريم بما منح لبنها عيسى عليه السلام وبمقاله عليه السلام لبنى إسرائيل تعريفا برسالته وتحديا بمعجزاته وتبرئا من دعوى استبداد أو انفراد بقدرة فى مقاله: " أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله " إلى قوله تعالى "إن فى ذلك لآية لكم " إلى ما بعده ولم تتضمن هذه الآية غير البشارة والإعلام وأما آية المائدة فقصد بها غير هذا وبنيت على توبيخ النصارى وتعنيفهم فى مقالهم فى عيسى عليه السلام فوردت متضمنة عده سبحانه إنعامه على نبيه عيسى عليه السلام على طريقة تجارى العتب وليس بعتب تقريرا يقطع بمن وقع فى العظيمة ممن عبده ومثل ذلك فيما يجرى بيننا ولكلام الله سبحانه وتعالى المثل الأعلى قول القائل لعبده الأحب إليه المتبرئ من عصيانه: ألم أفعل لك كذا ألم أعطك كذا ويعدد عليه نعما ثم يقول: أفعل لك ذلك غيرى؟، هل أحسنت إلى فلان إلا بما أعطيتك؟، هل قهرت عدوك إلا بمعونتى لك؟ فيقصد السيد بهذا قطع تخيل من ظن أن ما كان من هذا العبد من إحسان إلى أحد أو إرغام عدو أن ذلك من قبل نفسه مستبدا به وليس من قبل سيده فإذا قرره السيد على هذا واعترف العبد بأن ذلك كما قال السيد انقطعت حجة من ظن خلافه وتوهم استقلال العبد فعلى هذا النحو والله أعلم وردت الآية الكريمة ولذلك تكرر فيها ما تكرر مع الآيات قوله تعالى: "بإذنى " وتكرر ذلك أربع مرات عقب أربع آيات مما خص به عليه السلام من خلق الطير والنفخ فيه فيحيا

وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وهى من الآيات التى ضل بسببها من ضل من النصارى وحملتهم على قولهم بالتليث تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، "ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله " فأعلم الله سبحانه وتعالى أن تلك الآيات بإذنه وأكد ذلك تأكيدا يرفع توهم حول أو قوة لغير الله سبحانه أو استبداد ممن ظنه ونزه نبيه عيسى عليه السلام عن نسبة شئ من ذلك لنفسه مستقلا بإيجاده أو ادعاء فعل شئ إلا بقدرة ربه سبحانه وإذنه وبرأه من شنيع مقالتهم. ويزيد هذا الغرض بيانا ما أعقبت به هذا الآية من قوله تعالى: "وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهيين من دون الله ... الآيات " فهل هذا للنصارى إلا أعظم توبيخ وتقريع والمقصود منه جواب عيسى عليه السلام بقوله فى إخبار الله سبحانه عنه: "ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق " فافتتح بتنزيه ربه ثم نفى عن نفسه ما نسبوا إليه وأتبع بالتبرى والتسليم لربه فقال: "إن كنت قلته فقد علمته " فآية آل عمران بشارة وإخبار لمريم وآية المائدة واردة فيما يقوله سبحانه لعيسى عليه السلام توبيخا للنصارى كما بينا فلما اختلف القصدان اختلفت العبارتان. الآية الثامنة قوله تعالى: مخبرا عن عيسى عليه السلام: "إن الله ربى وربكم فاعبدوه "، وفى سورة مريم: "وإن الله ربى وربكم فاعبدوه "، فعطف الآية على ما قبلها بواو النسق وفى سورة الزخرف: "إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه " بغير حرف النسق مع زيادة الفصل بالضمير من قوله "هو " ولم يقع ذلك فى الآيتين قبل كما لم يقع العطف فى الأولى والثالثة فانفردت كل آية من الثلاث بما وردت عليه مع اتحاد المقصد فيما أعطته كل واحدة منها فللسائل أن يسأل عن ذلك؟ والجواب والله أعلم: أن آية مريم لما تضمنت مقالة عيسى عليه السلام وآية كلامه فى المهد مخبرا عن حاله النبوية وما منحه الله من الخصائص الاصطفائية فقال: "إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبيا وجعلنى مباركا " إلى ما أعقب به هذا من الخصائص الجليلة منسوقا بعضها على بعض ليبين تعداد تلك النعم إلى قوله: "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا "، فذكر ما حفظ الله عليه من كرامته فى هذه الأحوال الثلاثة البشرية وهى: حال الولادة وحال الموت

وحال البعث بعده وهذه أحوال تتنزه الربوبية عنها وتتعالى عن تجويزها عليه سبحانه وإذا صحبتها العادة لم تكن نقصا فى البشرية إذ بها امتيازها وهى من حيث الحيوانية الحادثة فصلها. ثم لما كان من تمام إخبار عيسى عليه السلام وتعريفه بما عرف به وتكميل ما قصد به إقراره لله سبحانه بالربوبية للكل فى قوله: "وإن الله ربى وربكم فاعبدوه " وكان متصلا بما تقدم وكأن قد قال: إنى عبد الله ومخصوص منه بكذا وكذا ومعترف بانفراد خالقى بملك الكل وقهرهم وخلقهم فهو ربهم ومالكهم والمعبود الحق فلما كان الكلام من حيث معناه متصلا وقد ورد أثناءه ما يعطى بظاهره حين أخبر تعالى عنه بقوله عليه السلام: "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " إن كلام عيسى عليه السلام قد تم وانقضى وشرع فى قضية أخرى من التعريف بحقيقة أمر عيسى عليه السلام فقال تعالى: "ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذى فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " فورد هنا مورد الجمل التى كأنها مفصولة مما قبلها مع الحاجة إليها واتصال ما بعدها بما قبلها لك يكن بد من حرف النسق ليحصل منه أنه كلام غير منقطع بعضه من بعض ولا مستأنف بل هو معطوف على ما تقدمه من كلام عيسى عليه السلام فلم يكن بد من حرف النسق لإحراز هذا الالتحام إذ لم يكن ليحصل دون حرف النسق حصوله معه فقيل: "وإن الله ربى وربكم " وهو حكاية قول عيسى متصلا من حيث معناه بقوله: "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " فالوجه عطفه عليه مع الحاجة إلى ما توسط الكلامين فهذا وجه ورود الواو هنا ولم يعرض فى آية آل عمران فصل بين الآية وما قبلها يوهم انقطاعا فيحتاج إلى الواو فهذا وجه دخولها فى هذه الآية والله أعلم. وأما زيادة الضمير الفصلى فى سورة الزخرف فيحرز بمفهومه معنى ضروريا دعا إليه ما تقدم فى الآية قبله وذلك ما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى: "ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون " إلى ما يتلو هذه ففى التفسير أنه لما نزل قوله تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " الآية تعلق بها الكفار وقالوا قد عبدت الملائكة وعبد المسيح وأنت يا محمد تزعم أن عيسى نبى مقرب وأن الملائكة عباد مقربون فإذا كان هؤلاء مع آلهتنا فى النار فقد رضينا وجادلوا بهذا فأنزل الله تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " وهذا مبسوط فى كتب التفسير فلما كان قد تقدم فى سورة الزخرف ذكر آلهتهم وقولهم: "

ءآلهتنا خير أم هو " يعنون المسيح ناسبه ما أعقبه به من قوله تعالى حاكيا عن المسيح عليه السلام: "إن الله ربى وربكم " فكأن قد قيل: هؤلاء غيره فأحرز "هو " هذا المعنى ولم يرد فى آية آل عمران وآية مريم من ذكر آلهتهم ما ورد هنا فلم يحتج إلى الضمير المحرز لما ذكرناه وسنورد إن شاء الله فى قوله تعالى فى سورة النجم: "وأنه أضحك وأبكى وأنه أمات وأحيا " قوله بعد: "وأنه هو أغنى وأقنى وأنه هو رب الشعرى " بإثبات هذا الضمير فى أربعة مواضع وكونه لم يثبت فى قوله: "وأنه خلق الزوجين " ولا فى قوله: "وأن عليه النشأة الأخرى " ولا فى قوله: "وأنه أهلك عادا الأولى " وتوجيه ذلك والفرق بين ما ورد فيه منها الضمير وما لم يرد فيه ما يوضح وجه وروده فى آية الزخرف وسقوطه فى الآيتين قبلها أتم إيضاح وأشفاه، ومن هذا قوله تعالى: "فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " فـ "أنت " هنا كـ "هو " فيما ذكر ومحرزة ذلك المعنى من إفراد المشار إليه بالضمير بما حصله الخبر فتأمله فإنه بين فيما ذكرناه والله أعلم. الآية التاسعة: قوله تعالى: "فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون "، وفى سورة المائدة: "وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولى قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون " فحذفت النون من "أنا "فى آية آل عمران تخفيفا وثبتت فى آية المائدة فقيل: "أننا " مع أن التخفيف بالحذف جائز فيهما والإثبات جائز وهو الأصل فللسائل أن يسأل عن وجه تخصيص كل من الموضعين بما ورد فيه؟ والجواب عن ذلك والله أعلم أن آية المائدة لما ورد فيها التفصيل فيما يجب الإيمان به وذلك قوله: "أن آمنوا بى وبرسولى " فجاء على أتم عبارة فى المطلوب وأوفاها ناسب ذلك ورود "أننا " على أوفى الحالين وهو الورود على الأصل، ولما لم يقع إفصاح بهذا التفصيل فى آية آل عمران حين قال تعالى: "قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله " فلم يقع هنا "وبرسوله " إيجازا للعلم به وشهادة السياق ناسب هذا الإيجاز كما ناسب الإتمام فى آية المائدة الإتمام فقيل هنا: "واشهد بأنا مسلمون " وجاء كل على ما يجب ولو قدر ورود العكس لما ناسب والله سبحانه أعلم بما أراد.

الآية العاشرة: قوله تعالى: "كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق "، وفى سورة براءة: "ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " إن قيل إن الآيتين قد اتفقتا فى أن المذكورين فيهما قد وقع منهما كفر بعد إباحة وإذعان فلم عبر عنه فى آية آل عمران بالإيمان وفى آية التوبة بالاسلام؟ والجواب أن ذلك لاختلاف حال من عنى بهما وقد ذكر المفسرون أن آية آل عمران نزلت فى الحارث بن سويد الأنصارى وكان قد أسلم ثم ارتد ولحق بالكفار ثم ندم فأرسل إلى قومه ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل له من توبة فسألوا فنزلت الآية فكتبوا بها إليه فأسلم وحسن اسلامه ولم يكن فى اسلامه أولا من عرف بنفاق ولا أنه أبطن خلاف ما ظهر منه من اسلامه فكانت حاله حال إيمان وتصديق صحيح لم يظهر خلافه وذلك هو الإيمان فناسب حاله وصفه بالايمان وهو التصدي بالقلب. أما آية التوبة فنزلت فى الجلاس حين قال فى غزوة تبوك لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمر فنمى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستدعاه فحلف ما قال وكان منافقا معروف النفاق يتظاهر بالاسلام ويبطن خلافه فأنزل الله فى قضيته: "يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " فقيل هنا "بعد إسلامهم " مناسبة للحال إذ الإسلام يقع فى الغالب على الانقياد فى الظاهر وقد لايكون المتصف به مصدقا بقلبه قال تعالى: "قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان فى قلوبكم ". وروى أن الجلاس أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه فاختصاص كل آية منها بالوصف الوارد فيها بين لاختلاف الحالين وفى كل من السببين قصة ذكرها المفسرون وأهل السير. الآية الحادية عشرة: قوله تعالى: "وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون "، وفى النحل: "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ". للسائل أن يسأل عم ورود كان الناقصة فى آية النحل وعرو آية آل عمران عنها مع اتحاد المعنى المقصود فى الموضعين لاجتماع المذكورين فيهما فى ظلمهم أنفسهم. والجواب عن ذلك والله أعلم أن آية آل عمران إنما نزلت فى المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحاضرين عند نزول الآية فورد الاخبار مساوقا لحالهم فى وقت نزول الآية وما يلى ذلك متصلا به من الزمان فلم يكن لدخول كان التى تقتضى وقوع

الشئ فيما تقدم من الزمان معنى تحرزه وأما آية النحل فاخبار عمن تقدم زمانهم وعظ به غيرهم يبين ذلك قوله تعالى: "كذلك فعل الذين من قبلهم "، ثم قال: "وما ظلمهم الله " فالاخبار عن هؤلاء القبليين المشبه بهم من بعدهم من معاصريه صلى الله عليه وسلم فأحرزت كان هذا المعنى ولاءمت الموضع ولم تكن لتلائم آية آل عمران ولا الوارد في آية آل عمران ليناسب ما قصد فى آية النحل فجاء كل على ما يجب والله أعلم. الآية الثانية عشرة: قوله تعالى: "وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم " وفى سورة الأنفال: "وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ". للسائل أن يسأل فيقول: مقصود الآيتين واحد فى الموضعين من حيث المعنى وهما لقوم بأعيانهم وهم أهل بدر رضى الله عنهم فما وجه زيادة "لكم " فى آية آل عمران ولم تزد فى الأخرى؟ وتقديم القلوب على المجرور هنا وتأخيرها عنه فى آية الأنفال؟ واستئناف تأكيد الإخبار بالصفتين العليتين فى سورة الأنفال بـ "إن " ولم تردا جاريتين على اسم الله سبحانه كما فى آل عمران؟ فهذه ثلاث سؤالات. والجواب عم الأول والثانى والله أعلم: أن آية آل عمران لما تقدم فيها قوله تعالى: "ويأتوكم من فورهم " والإخبار عن عدوهم فاختلط ذكر الطائفتين وضمهما كلام واحد فجردت البشارة لمن هدى منهما وانها لأولياء الله المؤمنين فجيئ بضمير خطابهم متصلا بلام الجر المقتضية الاستحقاق فقيل "بشرى لكم " وبين أن قلوبهم هى المطمأنة بذلك فقيل "ولتطمئن قلوبكم به "، فقدمت القلوب على المجرور اعتناء وبشارة ليمتاز أهلها ممن ليس لهم نصيب. أما آية الأنفال فلم يتقدم فيها ذكر لغير المؤمنين فلم يحتج إلى الضمير الخطابى فى لكم وأيضا فإن آية الأنفال قد تقدم قبلها قوله تعالى: "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم " فأغنى عن عودته فيما بعده اكتفاء بما قد حصل مما تقدم من تخصيصهم بذلك. والجواب عن السؤال الثالث: أن آية الأنفال تقدم فيها أوعاد جليلة كقوله تعالى: "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين انها لكم " ثم قال: "ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين " ثم قال: "ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون " فهذه أوعاد علية لم يتقدم إفصاح بمثلها فى آية آل عمران فناسبها تأكيد

الوصفين العظيمين من قدرته جل وتعالى على كل شئ وحكمته فى أفعاله فقال: "إن الله عزيز حكيم "، ولما لم يقع فى آية آل عمران إفصاح بما فى آية الأنفال وردت الصفتان تابعتين دون تأكيد وجاء كل على ما يناسب ولم يكن عكس الوارد فى تعقيب الآيتين ليناسب وذلك واضح والله أعلم. الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض .. الآية "، وفى سورة الحديد: "سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض .. الآية "، والمراد فى الموضعين الحث على المبادرة إلى أفعال البر وجزيل الثواب للممتثل وقد اختلفت عبارة الأمر بذلك فى الموضعين فحذف المضاف فى الأولى وجئ فى الثانية بكاف التشبيه عوضا منه وقيل فى الأولى: "عرضها السماوات " على الجميع وأفرد فى الثانية فقيل: "عرضها كعرض السماء والأرض " فيها ثلاثة أسئلة. والجواب عن الأول والله أعلم: أن المسارعة إلى الشئ قبل مسابقته قال تعالى: "أولئك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون " وقد أوضحنا فى كتاب البرهان أن ترتيب السور بتوقيف على أصح المأخذين وأما ترتيب الآى فلا توقف فيه وأن ذلك كله معتمد على فيه غير ترتيب النزول، وإذا ثبت هذا فوجه تقديم لفظ "سارعوا " تقديم المسارعة ووجه تأخير سابقوا بناء المسابقة على المسارعة، ألا ترى أن المسارع إلى الشئ قد يحصل له ما سارع إليه وقد لا يحصل ولا يقال فى الغالب سبق إلا فيمن تحصل له مطلوبه هذا هو الأكثر والمسارعة متقدمة فى الرتبة قال تعالى: "أولئك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون " وقال تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " أى ثبتت وحقت لهم وعن على رضى الله عنه: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وثنى أبو بكر وثلث عمر ... ، وقيل فى قوله تعالى: "فالسابقات سبقا " أنها الملائكة تسبق الجن [إيصال الوحى إلى الأنبياء] فلما كانت المسارعة والمسابقة على ما ذكرنا ورد المتقدم فى الترتيب أولا والمتأخر ثانيا مراعاة للترتيب. والجواب عن الثانى: أن آية آل عمران على حذف المضاف كما تقدم أى عرضها مثل عرض السماوات والأرض وقد أفصحت آية الحديد بما يقوم مقام هذا المضاف ويحصل معناه وهو كاف التشبيه إذ معناها معنى مثل وحذف المضاف مما يكون كثيرا عند قصد المبالغة وكذا جعل الشئ نفس الشئ وهو مما يتقدم فى آية آل عمران وهو نحو قول الشاعر

[رؤبة]: إن الربيع الجود والخريفا يدا أبى العباس والصيوفا وهذا كثير واليه يرجع الوارد فى قولهم: نهارك صائم وليلك قائم وباب ذلك مما يقصد به المبالغة فيجعل نفس الشئ وأنشد سيبويه رحمه الله نحوا من ذلك. أما النهار ففى قيد وسلسلة والليل فى بطن منحوت من الساج فجعل النهار فى قيد وسلسلة وجعل الليل فى بطن منحوت من السج مبالغة وانما المجعول الشخص وقوله تعالى: "عرضها السماوات والأرض " يمكن إلحاقه بهذا القبيل وإن ظن أنه يباينه. والجامع قصد المبالغة كأن السماوات والأرض إذا أوصل بعضها ببعض مصطفا نفس عرض الجنة ومن أبيات الكتاب: لقد لمتنا يا أم غيلان فى السرى ونمت وما ليل المطي بنائم فنفى النوم عن الليل حين جعله نفس الشخص مبالغة كما فى البيت قبل ويمكن فى هذا كله حذف المضاف أى ذو ليل المطى وذو النهار وذو الليل. قال الإمام [سيبويه] رحمه الله لما أنشد هذا البيت جعله للاسم ومن هذا الضرب ما يتخرج على حذف المضاف ويمتنع ما سواه نحو قوله [النابغة الجعدى]: كأن غديرهم بجنوب سلى نعام قاق فى بلد قفار أى كأن غديرهم غدير نعام قاق، والغدير الصوت وتخريج آية آل عمران على هذا أوضح وكلا الضريبن يحرز المبالغة وبالجملة فقصد المبالغة فى مثل ما تقدم يستلزم فى الغالب الإيجاز إما بالحذف وإما بجعل الشئ نفس الشئ أو بتكرر لفظ يفهم بتكرره التهويل والتعظيم ويقوم مقام أوصاف وذكر أهوال كقوله تعالى: "الحاقة ما الحاقة " و"القارعة ما القارعة "، وقد ذكر

سيبويه رحمه الله هذه الضروب فى أبواب شتى لافتراقها فى أحكام تقتضى تفصيل التبويب مع اتفاقها فى ما ذكرنا وفى جرى الإيجاز فى جميعها ولما اتصل بقوله "عرضها " فى آية آل عمران وهو مبتدأ والخبر عنه مجموع فقيل "السماوات " فأفصح الجمع ما مهدناه من قصد المبالغة والتعظيم ثم أتبع ذلك ما يحرز مقصود ذلك من التعظيم والمبالغة أيضا وهو وصف من أعدت له الجنة الموصوفة ووسمهم بالمتقين وهو الذين وفوا بالإيمان وتوابعه التى بها يكمل مما ذكر فى آية "ليس البر " من لدن قوله تعالى: "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر " إلى قوله "أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون "، ولم يكن قوله تعالى: "عرضها السماوات " بالجمع كقوله فى آية الحديد "كعرض السماء " فأفرد ولا قوله "أعدت للمتقين " كقوله فى آية الحديد "أعدت للذين آمنوا بالله ورسله " فلما تضمنت آية آل عمران من قصد المبالغة من هذه الجهات والقرائن التى ذكرنا ما لم تتضمن آية الحديد ناسب ذلك جعل العرض نفس السماوات والأرض من غير إفصاح بالمضاف المقدر الذى لابد منه عند بيان المعنى على ما تقدم ولما لم يقصد فى آية الحديد ذلك أفصح فيها بما يعطى معنى مثل وهى كاف التشبيه وورد كل على ما يناسب ويلائم. فإن قيل: لم خصت آية آل عمران بما تمهد من قصد المبالغة والتعظيم دون آية الحديد قلت: لبنائها على الحض على الجهاد وعظيم فضله وذكر قصة بدر واحد من لدن قوله "وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " إلى ما بعد الآية المتكلم فيها ولما يكن فى آية الحديد شئ من ذلك ناسب كلا ما ورد فيه والله أعلم. الآية الرابعة عشرة: قوله تعالى: "أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين "، وفى سورة العنكبوت: "لنبوئنهم من الجنة غرفا تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين ". للسائل أن يسأل عن وجه العطف فى الأولى وقوله فى الثانية: "نعم أجر العاملين " غير معطوف على ما قبله. ووجه ذلك والله أعلم أن الآية الأولى لما وقع فيها ذكر الجزاء مفصلا معطوفا فقيل: " أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها " ناسبه أن عطفت الجملة الممدوح بها الجزاء فقيل: "ونعم أجر العاملين " ولما لم يفصل

الجزاء فى سورة العنكبوت ولا وقع فيه عطف جاءت جملة المدح غير معطوفة ليتناسب النظم والله أعلم. الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: "لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم " وفى الجمعة: "هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم ". للسائل أن يقول: إن مقصد الآيتين الإخبار بامتنانه تعالى على العرب بأن بعث فيهم رسولا منهم ولم يكن من غيرهم ثم اختلفت العبارة فى البيان فقيل فى الأولى "من أنفسهم " وفى الثانية "منهم " فيسأل عن وجه ذلك؟ والجواب عن ذلك: أن قولك فلان من أنفس القوم أوقع فى القرب من قولك فلان منهم فإن هذا قد يراد للنوعية فلا يتخلص لتقريب المنزلة والشرف إلا بقرينة أما "من أنفسهم " فأخص فلا يفتقر إلى قرينة ولذلك وردت حيث قصد النعريف بعظيم النعمة به ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمته وجليل إشفاقه وحرصه على نجاتهم ورأفته ورحمته بهم فقال تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم " وقال تعالى فيمن كان على الضد من حال المؤمنين المستجيبين "ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه " فتأمل موقع قوله هنا "منهم " لما قصد أنه إنعام عليهم لم يوفقوا لمعرفة قدره ولا للاستجابة المثمرة النجاة فقيل هنا "منهم " فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت " بأنه لما لم يكن رضى الله عنه من قريش وأراد عليه السلام تقريبه وتشريفه عبر بما يعطى ذلك ولا يخص خصوص قوله: من أنفسنا وإنما تخلص لحرف الخصوصية بقرينة قوله عليه السلام "سلمان منا أهل البيت " وأما قوله عليه السلام فى فاطمة " إنما هى بضعة منى "فقد تحصل فيه أتم خصوص من وجهين: أحدهما قوله عليه السلام "منى " وهذا أخص من قوله عليه السلام "منا " فتأمله فهو مناف للشياع الداخل فى قوله "منا " والثانى قوله "بضعة " فجعلها عليه السلام جزءا منه وذلك أعلى خصوص. وأما قوله عليه السلام "مولى القوم منهم " فالمراد منه تقريب الولاء من النسب وليس من أنفسهم وقد تقدم أن قوله "من أنفسهم " فى مقابلة "منهم " وأن "منا " دونه فى الشياع و"منى "أخص وأبعد فى الشياع فتأمل هذا ولما كان لفظ الآيتين يتناول قريشا وغيرهم من العرب ممن ليس من أهل الكتاب قيل "منهم " فناسب هذه الكناية بما فيها من الشياع الذى مهدناه عموم المؤمنين من العرب ممن أسلم ومن لم يسلم ولما قال فى آية آل عمران: "لقد من الله على المؤمنين " فخص من أسلم ناسب ذلك قوله "من أنفسهم " لخصوصه كما تقدم ولم يكن العكس ليناسب والله أعلم.

الآية السادسة عشرة: قوله تعالى: "يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم " وفى سورة الفتح: "يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم "، للسائل أن يسأل فيقول: إن مقصود الآيتين قد اتحد لأن حاصله التعريف بأن كلا من المذكورين فى الآيتين أظهر خلاف ما أبطن فلم قيل فى الأولى "بأفواههم " وفى الثانية "بألسنتهم " مع اتحاد المعنى؟ والجواب عن ذلك والله أعلم أن قوله فى الأولى "بأفواههم " ينبئ عن مبالغة واستحكام وتمكن فى اعتقاد أو قصد لا يحصل من قوله "بألسنتهم " ألا ترى قولهم: تكلم بملء فيه حين يريدون المبالغة وقال تعالى: "اليوم نختم على أفواههم " والمراد المبالغة فى منعهم من الكلام وإذا ختم على الأفواه امتنعت الألسنة عن النطق وكان أحكم فى المنع ولما كان المراد بالآية الأولى الإخبار عن المنافقين كعبد الله بن أبى وأصحابه ممن استحكم نفاقه وتقرر فقال يوم أحد ما حكى الله تعالى من قولهم فى المخالفين لهم من الأنصار ممن أكرمه الله بالشهادة فى ذلك اليوم: "لو أطاعونا ما قتلوا " إلى ما قالوه من هذا ثم وروا عنه بقولهم لصالحى المؤمنين: "لو نعلم قتالا لاتبعناكم " فأخبر تعالى عنهم بما أكنوه من الكفر فقال تعالى: "هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم " فناسب الإبلاغ فى قوله تعالى: "بأفواههم " ما انطووا عليه واستحكم فى قلوبهم من الكفر وأما آية الفتح فإخبار عن أعراب ممن قال تعالى فيهم: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " وهؤلاء لم يستقر نفاقهم كالآخرين وإنما أخل بهم قرب عهدهم بالكفر وإن لم يتقرر الإيمان فى قلوبهم لكن لا عن نفاق كنفاق الآخرين قال تعالى مخبرا عن هؤلاء الأعراب: "سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا " فعن هؤلاء قال تعالى: "يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم "، فعبر بالألسنة إشعارا بأن حال هؤلاء ليس كحال المنافقين المقصودين فى آية آل عمران. فلاختلاف الطائفتين اختلفت العبارة عما صدر منهم وورد كل على ما يناسب ولم يكن عكس الوارد ليناسب والله أعلم. الآية السابعة عشرة: قوله تعالى: "فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير " وفى سورة الملائكة [فاطر]: "وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور "، ورد فى هاتين الآيتين المفعول المقام مقام الفاعل وهو رسل مكسر والاسم المجموع جمع تكسير يجوز فيه التذكير

والتأنيث فورد فى الآية الأولى "فقد كذب " على رعى التذكير ولم يقرأ بغيره وفى الآية الثانية "فقد كذبت " على معنى التأنيث لزوما أيضا مع وحدة اللفظ فى المرفوع المفعول وما يجوز فيه من التذكير والتأنيث فيسأل عن ذلك. والجواب عن ذلك والله أعلم أن كلا الآيتين مراعى فيه ما يلى تابعا للمرفوع من الوصف فى الأولى وما عطف فى الثانية. أما الأولى فقال تعالى "جاؤوا بالبينات ". ولا يمكن هنا إلا هذا فجرى على ما هو الأصل فى جمع المذكر المكسر من التذكير فلم تلحق الفعل علامة التأنيث، وأما آية الملائكة فلحقت التاء الفعل رعيا لما عطف على الآية من قوله تعالى: "وإلى الله ترجع الأمور " فليس فى هذا إلا التأنيث سواء بنى الفعل للفاعل أو للمفعول فنوسب بين الآيتين فقيل "كذبت " على الجائز الفصيح فى تأنيث المجموع المكسر ليحصل التناسب ولا يمكن عكس الوارد فى الآيتين والله أعلم. الآية الثامنة عشرة: قوله تعالى: "وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور " وفى سورة لقمان: "واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور " بغير لام فى خبر إن فى الآيتين وفى سورة الشورى: "ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " فزيد فى هذه الآية اللام المذكورة فى الخبر فقيل: "لمن عزم الأمور " فللسائل أن يسأل عن الفرق. والجواب والله أعلم اختلاف ما وقع الحض على الصبر عليه فى هذه الآيات وأشير إليه بذلك وأنه من عزم الأمور أما الأولى فإن قبلها: "لتبلون فى أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " فوقع الاخبار بالابتلاء فى الأموال والأنفس وسماع الأذى ممن ذكر فعرفوا بثلاث ضروب وأمروا بالصبر عليها وهو أربعة أشياء بالتفت التفصيل فى المسموع منه الأذى واعلموا أن الصبر عليها من عزم الأمور وأما آية لقمان فأشير فيها بذلك إلى أربع خصال أمر بها لقمان لبنه وذلك قوله: "يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك " وأتبعت بقوله تعالى: "إن ذلك من عزم الأمور " والأربعة فى الآيتين من العدد القليل وأما آية الشورى فالاشارة فيها بقوله "إن ذلك " إلى اثنى عشر مطلوبا من لدن قوله تعالى: "فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا " وهذه اشارة إلى التنزه عن ذلك ثم قيل للذين آمنوا: "وعلى ربهم يتوكلون " فالاشارة إلى الإيمان والتوكل والتزام ذلك ثم قال تعالى: "والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون " فهذه التزامات

ثلاثة ثم قال: "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون " فهذه التزامات أربع ثم قال: "والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون " فأشار إلى أن هؤلاء لا يظلمون أحدا وان أقصى ما يقع منهم الانتصار ممن يظلمهم وذلك مباح لهم غير قبيح وقد قيل بقوله بعد: "وجزاء سيئة سيئة مثلها " ثم عرف بحال أجل من ذلك وأعلى عملا فقال: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله " وأعلم مع علو هذا الملتزم أن المنتصر من ظلمه ما عليه من سبيل وانما السبيل إنما هو على ظالمى الناس والباغين، وبعد هذه الخصال النيفة على العشر قال تعالى فى التزام جميعها: "إن ذلك لمن عزم الأمور " فناسب كثرة هذه الخصال الجليلة زيادة اللام المؤكدة فى قوله "إن ذلك لمن عزم الأمور " ولم يكن فى الآيتين قبلها كثرة فناسبها عدم زيادة اللام على أن ما ختمت به آية الشورى من قوله: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله " وهى الخصلة الشاهدة بكمال الإيمان للمتصف بها فلو لم يكن قبل قوله: "إن ذلك لمن عزم الأمور " غيرها لكانت بمعناها أعم من الخصال المذكورة فى آية آل عمران إذ تلك الخصال داخلة تحت هذه الخصلة الجليلة ومن منطوياتها فناسب ذلك أتم المناسبة ولم يكن العكس ليناسب والله سبحانه أعلم.

سورة النساء

سورة النساء الآية الأولى منها: قوله تعالى: "يا أيها اللناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " وفى سورة الأعراف: "هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها " وفى سورة الزمر: "خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها " فيها ثلاث سؤالات، أحدها: الفرق بين الخلق والجعل، والثانى: وجه تخصيص الأخيرتين بجعل والأولى بخلق، والثالث: وجه ورود ثم فى آية الزمر عوضا عن الواو. والجواب عن الأول أن العبارة بخلق واردة على ما ينبغى وطابقة للمعنى المقصود وهو المراد بجعل إلا أن جعل ثانية عنها لتوقف الجعل على ما يتقدمه لأن العبارة بخلق تكون عند المتسرعين عن عدم سابق حيث لا تتقدم مادة ولا سبب محسوس واستيفاء الكلام هنا وتحرير التمثيل يطول وله مظان. وأما الجعل فيتوقف على موجود مغاير للمجعول يكون منه المجعول أو عنه كالمادة والسبب، ولا يرد فى الكتاب العزيز لفظ جعل فى الأكثر مرادا به الخلق إلا حيث يكون فيله ما يكون عنه الجعل أو منه سببا فيه محسوسا عنه يكون ذلك المخلوق الثانى، بخلاف خلق فإن العبارة تقع كثيرا به عما لم يتقدم وجوده وجود مغاير يكون عنه الثانى، وقل ما تقع واحدة من العبارتين فى القرآن على خلاف ما ذكرناه، قال تعالى: "الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ". وإنما الظلمات والنور عن أجرام توجد بوجودها وتعدم بعدمها أما السماوات والأرض فليست كذلك أعنى أنها لا ترتبط بموجود حادث توجد بوجوده وتعدم بعدمه وإن قلنا بتقدم مادة حسبما ورد فى القرآن فى قوله تعالى: "ثم استوى إلى السماء وهى دخان " فى الخبر المذكور فى خلقها وقال تعالى: "وهو الذى مد الأرض وجعل فيها رواسى وأنهارا "، وقال تعالى: "وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون "، وفى هذه الآية والمتصلة بها قبلها شوب تصيير لتقارب المعنى فى التصيير وما يكون عن المادة فقد لاح الفرق بين خلق وجعل ووجه تخصيص كل آية مما تقدم بالوارد فيها. وأما ورود جعل فى آية الأعراف فى قوله تعالى:

"وجعل منها زوجها " فلما قصد هنا من معنى السكن وكأنه أريد نفى المغايرة تقريبا وتأنيسا لحصول الركون والسكن الذى جعله الله من آياته ونعمه لتستحكم سببية التناسل والتكثير فكانت جعل أوقع فى هذا الغرض ثم إن الخبر وارد بخلق حواء من ضلع آدم فهذا نحو من المتقدم فى سورة الأنعام وعبر فى سورة النساء بخلق لمقصود الآية من التعريف بالأولية والابتداء ولمناسبة ما اتصل بها من قوله "خلقكم " حتى يوافقه من اللفظ ما قصد من المعنى. وأما الجواب عن السؤال الثالث وهو زيادة "ثم " فى سورة الزمر فلما قصد من الامتنان والإنعام على الجنس الآدمى ولتفاوت ما بين الآيتين العجيبتين من خلق الصنف الإنسانى من شخص واحد وخلق زوجه فجئ بثم المنبهة على معنى الاعتناء بذكر ما عطف بها والتأكيد لشأنه للمزية على المعطوف عليه القائمة مقام التراخى فى الزمان. قال الزمخشرى: فإن قلت ما معنى قوله "ثم جعل منها زوجها " وما تعطيه من معنى التراخى؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التى عددها دالا على وحدانيته وقدرته وهما تشعب هذا الخلق الفائت للحصر وانتشاره من نفس آدم وخلق حواء من قصيراه إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة والأخرى لم يجر بها العادة ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل فكانت أدخل فى كونها آية وأجلب لعجب السامع فعطفها بثم على الآية الأولى للدلالة على مباينتها لها فضلا ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية فهو من التراخى فى الحال والمنزلة لا من التراخى فى الوجود. قلت وعلى هذا المأخذ يسقط الاعتراض بأن ثم قد تجرى مجرى الواو فلا تقتضى الترتيب الزمانى لزوما أما إذا قلنا إنها ترد لقصد التفاوت والتراخى الزمانى لزوما ولا تحتاج إلى انفصال عن ذلك الاعتراض ولا أن تقول: إن ثم قد تكون بمعنى الواو قلت ومن ورود ثم لما ذكرنا من تراخى الرتبة قوله جل وتعالى: "وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " قال الزمخشرى: ومنه قوله تعالى: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ". وكلمة التراخى دلت على ثبات المنزلتين دلالتهما على تباين المرتبتين فى جاءنى زيد ثم عمرو؟ أعنى أن منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه لأنها أعلى منها وأفضل ومنه قوله تعالى: "إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر "، قال الزمخشرى: إن قلت ما معنى ثم الداخلة فى تكرير الدعاء قلت: الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى ونحوه قوله:

ألا ياسلمى ثم اسلمى ثمت اسلمى أنشده النحويون على إلحاق تاء التأنيث بثم وأنشده الزمخشرى ومثل ذلك: "ثم كان من الذين آمنوا " قال: جاء بثم لتراخى الإيمان وتباعده فى الرتبة والفضيلة عن العتق والصدق لا فى الوقت لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره ولا يثبت عمل صالح إلا به. فثم حيث لا يقصد مهلة الزمان تحرز تنبيها على حال ما يعطف بها ومحله والإشارة إلى أنه بحيث أنه لو لم يذكر ما قبله لكان كافيا فى المقصود هذا ما تحصله حيث لا يقصد مهلى الزمان فلما قصد فى آية الزمر الإنعام والامتنان وتعداد ذلك تعظيما وتفخيما ورد بثم، فقال تعالى: "خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزاوج ". فإن قلت: فقد كان الوجه على هذا أن لو قيل: ثم أنزل لكم من الأنعام قلت: هذه نعمة لا تفتقر لبيان أمرها إلى التنبيه بثم وليست موضع تغفل أو تخف وإنما موضع ثم حيث يراد الاعتناء والتنبيه على قدر المعطوف بها لاحتمال أن يخفى فإذا كان غير خاف وبين الاستقلال بنفسه لم يفتقر إلى هذا ومن حيث قصد معنى الامتنان كانت "جعل " أولى لما تقدم من معناها، فقد وضح ورود كل آية من الثلاث على ما يناسب المقصود من كل واحدة. الآية الثانية: قوله تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما وازقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا " وفى آية أخرى بعد: "وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزوقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ". للسائل أن يسأل عن زيادة "واكسوهم " فى الأولى وسقوطها فى الثانية. والجواب: ان قوله تعالى "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " إنما المراد به السفيه المتصير إليه المال بإرث ولا يحسن القيام عليه فيحجر عليه ماله إبقاء عليه ولا يمكن منه الا بقدر ما يأكله ويلبسه، فالنهى إنما هو للأوصياء ونسبة المال إليهم مجازا بما لهم فيه من التصرف والنظر، أما الآية الأخرى فليست فى شأن أحوال السفهاء وحكمها، وانما المراد بها المقتسمون لميراث يخصهم لا حق فيه لغيرهم فيحضرهم قريب فقير ويتيم محتاج ومسكين فندبوا إلى التصدق عليهم والإحسان، لا لحق هؤلاء فى المال فمن أين تلزم كسوتهم والتنصيص عليها؟ إنما ندبوا إلى الإحسان إليهم بالعفو مما يخف عليهم وسع ذلك كسوتهم أو لم يسع. فافترق مقصد الآيتين وجاء كل على ما يناسب.

الآية الثالثة: قوله تعالى: "ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم " وفى سورة المائدة: قوله تعالى: "فأثابهم الله بما قالوا جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين " وفى آخر هذه السورة قوله تعالى: "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنهم ذلك الفوز العظيم " وفى سورة براءة: "لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم "، وفى آية منها فيما بعد قوله تعالى: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم " وفى سورة إبراهيم: "وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم "، وفى سورة الكهف: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ... الآية " وفى سورة الحديد: "بشراكم اليوم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم " وفى سورة المجادلة: "أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون " وفى سورة الصف: "يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار ومساكن طيبة فى جنات عدن " وفى سورة الطلاق: "ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا " وفى سورة البروج: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير " وفى سورة البريئة [البينة]: "جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ". فهذه ثلاث عشرة آية يجمعها التعريف بالجزاء الأخراوى للمؤمنين والإشارة إلى حال الجزاء ووصفه وقد عرض فيها مما يسأل عنه مما اتفقت فيه أو اختلفت وانفرد به بعضها دون بعض ست سؤالات.

الأول: وهو اتفاق أكثرها فى ذكر الخلود وقد كثر اختلافهما فيما سوى ذلك. والجواب عنه: أن وجه اتفاق أكثرها على ما ذكر أن كل نعيم ينقطع فليس بنعيم فى الحقيقة وكذلك العذاب وهذا واضح فلولا الخلود لما كان نعيما فلهذا كثر ترداده مع ضروب الجزاء. والسؤال الثانى: ما وجه اجتماع الرضا والتأييد فى الآية الثانية من المائدة وثانية براءة وآية البريئة ولم يجمع بينهما فى البواقى؟ ووجه ذلك والله أعلم أن هذه الآيات على ما يذكر: أما آية المائدة فقد قال تعالى فيها: "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم "، وورد التصديق لعيسى عليه السلام فوسمهم فيها بالصدق وهو أسنى حالات الإيمان وقد قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "، فالصدق حال الأنبياء والرسل وأولى السوابق. وأما الآية الثانية من سورة براءة ففيها: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " وسبقية هؤلاء رضوان الله عليهم وما عرف من حالهم وأنهم صفوة المحسنين من هؤلاء الأمة معلوم ملحق لهم بنمط الأعلين من الصادقين من أتباع الرسل فلما كان المشار إليهم فى الآيتين هم الأسوة والقدوة لمن سواهم ناسب حالهم الإطناب فذكر الرضا والتأييد ولم يقع فى الآيات البواقى وصف يلحق أصحابه بهؤلاء وإن شملهم الرضا والخلود فى الجنة لكن تحديد الذكر والإفصاح بالمقدر المفهوم من سياق الكلام وعمومه له حكم قد بين فى نحو قوله: "وجبريل وميكائيل " وبابه. وأما الآية البريئة فإنها على حكم مقتضى الترتيب الثابت آخر آية ذكر فيها حال المؤمنين فى الجزاء الأخراوى معقبا به ذكر جزاء من كان فى طرف من حالهم من مستوجبى النار على التأييد فكانت هذه الآية مظنة استيفاء للحال فوردت ورود الآيتين قبلها. والسؤال الثالث وهو ما وجه تخصيص الآيات الأربع: آية المائدة والثانية من سورة براءة وآية الطلاق وآية البريئة بذكر التأييد مع الخلود فقيل: "خالدين أبدا ". ولم يقع ذلك فى البواقى؟ والجواب عن ذلك: استدعاء هذه المواضع الأربعة ذكر ذلك. أما آية المائدة وثانية براءة فلما بنيتا عليه من الإطناب، ولما حمل فيهما على جمع التأييد والرضا حسبما تقدم

فى السؤال قبل هذا، وأما آية الطلاق فوجه ذكر التأييد فيها ما تكرر فى هذه السورة من ذكر غايات بينها قوله تعالى: "قد جعل الله لكل شئ قدرا " فلما أشارت آى السور إلى غايات ونهايات ناسب ذلك التعريف بأن خلود الجنة متأبد لا انتهاء له ولم يجمع بينه وبين ذكر الرضا إذ لم يجتمع لمن ذكر هنا ما اجتمع لأولئك الموصوفين فى آية المائدة وثانية براءة ولم يبلغوا مبلغهم. وأما آية البريئة فإنها كما تقدم ختام حال الفريقين فاقتضت الاستيفاء. والسؤال الرابع: ما وجه تخصيص آية المجادلة بالرضا فقط دون التأييد؟ والجواب عنه: أن المذكورين فى هذه الآية قد وصفوا بما يلحقهم بأعلى نمط وذلك قوله: "أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه " ثم قال: "أولئك حزب الله " ثم قال: "ألا إن حزب الله هم المفلحون " والفلاح الفوز والظفر ببغية الراغب وحيث يذكر الفوز فهو مغن عن ذكر التأييد إلا أن يقصد الإطناب ولذلك لم يقع ذكر التأييد فى آية النساء والأولى من براءة وسورة الحديد والمجادلة إذ الفلاح فوز فذكر الفوز أو الفلاح مغن عن ذكر التأييد فلم يجمع بينهما، ولما لم يذكر فى آية الطلاق الفوز ولا ما يرادفه لم يكن بد من ذكر التأييد. فإن قلت: فإن مقصود آية المجادلة الإطناب فلم لم يجمع فيها بين التأييد والرضا؟ قلت: عدل إلى أوصاف حصل منها خصوص وإطناب فوقع الاكتفاء بها والله أعلم. والسؤال الخامس: وهو وجه نخصيص آية المجادلة بقوله: "أولئك حزب الله " ووجه ذلك أنه قوبل به قوله فيمن قبل: "أولئك حزب الشيطان " ثم لما طال الكلام بهذا المسوق للمقابلة مع دلالته ودلالة ما قدم من كتب الإيمان والتأييد بروح منه سبحانه وذكر الفلاح لم يحتج إلى ذكر "أبدا " كما أشير قبل. والسؤال السادس قد تحصل جوابه وهو اختصاص التأييد فقط بآية الطلاق. الآية الرابعة: قوله تعالى: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا " وفى سورة الإسراء: "ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ". للسائل أن يسأل عن زيادة قوله "ومقتا " فى سورة النساء وسقوط ذلك فى سورة الاسراء؟ والجواب عن ذلك: أن نقول: أن المقت هو النقص والاستحقار ومتزوج امرأة أبيه

فاعل رذيلة يمقت فاعلها ويشنأ وتستخسه الطباع السليمة فوسمت فعلته بالمقت وساوت الزنا فيما وراء ذلك فلهذا زيد فى آية النساء قوله "ومقتا ". الآية الخامسة: قوله تعالى: "محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان " وفى المائدة "محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان " لا إشكال فى هذه الآية لأن مصرف الوصف فى الأولى للإماء المتزوجات عند عدم الطول ومصرف الوصف فى المائدة للمتزوجين من الرجال، وهذا السؤال والذى قبله لا إشكال فيهما. الآية السادسة: قوله تعالى: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " وفى سورة النحل: "وجئنا بك شهيدا على هؤلاء " للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف ما اختلف فى هاتين الآيتين فى التقديم والتأخير من قوله "وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " وقوله "وجئنا بك شهيدا على هؤلاء " مع اجتماعهما فى معنى واحد من شهادة الرسل على أممهم وشهادة نبينا صلى الله عليه وسلم على أمته؟ والجواب عن ذلك: والله أعلم أن آية النحل تقدمها قوله تعالى: "ويوم نبعث فى كل شهيدا عليهم من أنفسهم " فتقدم اسم الشهيد على المشهود عليه فورد ما نسق على ذلك من الإخبار بشهادته ـ عليه السلام ـ على أمته مرتبا على ما تقدمه من مقتضى النظم فى التناظر والتناسب فقيل: "وجئنا بك شهيدا على هؤلاء " متوازنا مع قوله "شهيدا عليهم " وذلك على ما يجب والله أعلم. أما آية النساء فلم يرد فيها إفصاح بذكر المشهود عليهم ولا كناية عنهم بضمير ولا اسم إشارة بل فى آية النساء داع إلى تقدم المجرور بـ على وهو أنه لما تقدم قوله تعالى: "والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " وذلك من صفة المنافقين ناسب هذا تقديم المجرور فى قوله "وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " حتى كأنه بحسب المفهوم لم يقصد به غيرهم ولا شهد على من سواهم وقد تقدم نحو هذا ومنه لتقربن قربا جلذيا ما دام فيهن فصيل حيا وقال تعالى: "ولم يكن له كفوا أحد " وليس فى آية النحل ما يقتضى ذلك بل مقتضاها إطلاق شهادته عليه السلام للجميع من صالح وطالح إذ لم يتقدم قبلها التقييد بل ظاهر مما تقدمها أن المراد جميع من بعث صلى الله عليه وسلم إليه فهذان حاملان من الآيتين على وجوب ورود النظم على ما ورد.

وأيضا فإن قوله تعالى "شهيدا " فى آية النحل لم يقع فى الفواصل بل أثنائها وتأمل ذلك من لدن قوله تعالى: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا " إلى قوله "لعلكم تشكرون " ثم قال: "ألم يروا إلى الطير مسخرات فى جو السماء ما يمسكهن إلا الله " إلى قوله "لقوم يؤمنون " واستمرار الآيات على ذلك إلى آخر السورة ولم يتخلل فيما اكتنف الآية قبلها وبعدها فيما قرب منها غير ذلك فقد تقررت فواصل هذه الآى من سورة النحل. أما آية النساء فبناء نظمها على فواصل روعى فيها مجئ المنون المنصوب من غير التزام حرف بعينه واستمرت الآى قبلها على ذلك. وقوله "جئنا بك على هؤلاء شهيدا " فاصلة استدعى ورودها على ذلك ما تقدمها من الفواصل وما تأخر عنها وانتظم ذلك على أعلى نظام وأجل مناسبة ولم يكن عكس الوارد فى الآيتين ليناسب والله أعلم. الآية السابعة: قوله تعالى: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله

كان عفوا غفورا " وفى سورة المائدة "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " للسائل أن يسأل عن زيادة "منه " فى آية المائدة وعن الواقع فيما أعقبت به كل آية منهما وعن الواقع من الطول فيما أعقبت به آية المائدة فهذه ثلاث سؤالات. والجواب عن الأول منها: أن زيادة "منه " فى آية المائدة زيادة بيان ألا ترى أن قوله تعالى: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ". لا يحصل منه ما يحصل من زيادة "منه " فزيدت بيانا واختصت بذلك آية المائدة لتأخرها فى الترتيب الثابت عليه المصحف والبيان يتأخر عما هو بيان له فجاء على ما يجب. والجواب عن السؤال الثانى: وهو وجه التناسب بين الآى وما أعقبت به وهو أن آية النساء نزلت قبل تحريم الخمر وقد ذكر المفسرون وغيرهم السبب فى نزول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " وأنها نزلت قبل التحريم كما تقدم وكان شاربها قبل أن تحرم ربما عرض له بسببها التأخير لصلاته كما أشارت إليه الآية وفى تأخيرها عن أول وقتها نقص للفضل الموجود فى أدائها أول وقتها فلما كان ذلك مظنة لنقص والوقوع فى أدائها فى آخر وقتها أو بعد وقتها ربما كان الإثم، والآية قد أعقبت بآية التيمم ناسب ما تقدم التعقيب بقوله "إن الله كان عفوا غفورا " إذ العفو والمغفرة مرجوان فى نحو ما تقدم. وأما آية المائدة فإنه لما تقدم قبلها حلية طعام أهل الكتاب وجواز نكاح نسائهم على الحاصل من قوله تعالى: "اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " وحال بنى إسرائيل من تحريم الشحوم عليهم وغير ذلك مما شدد عليهم فيه مما هو أمر مرفوع عنا ناسب ذلك تعقيب آية المائدة بقوله تعالى: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " فجاء كل على ما يناسب. والجواب عن السؤال الثالث: أن آية النساء غير مقصود بها ما قصد بآية المائدة من الإطناب وتأمل ما انطوت عليه كل آية منها من عدد الكلم والحروف من لدن قوله تعالى فى النساء "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " إلى قوله "وأيديكم " وقوله فى المائدة "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " إلى قوله "وأيديكم منه " تجد آية العقود يزيد عدد حروفها على آية المائدة بضعا وثلاثين حرفا فلما أطيل فى هذه ناسبها ما أعقبت به وبنى عليها من قوله "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " وناسب إيجاز آية النساء ما بنى عليها من قوله "إن الله كان عفوا غفورا " إيجازا بإيجاز وإطنابا بإطناب. فإن قيل: إن الإيجاز فى الكتاب عمدة ما بنى عليه وهو الجارى فى بلاغته وإنما يكون إطناب الكلام لحامل وداع فما الحامل على ذلك فى آية المائدة؟ فقلت: الحامل على ذلك فيها تفصيل ما وقع فى الآى قبلها مما حلل وحرم من لدن قوله قوله عز وجل "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير " إلى تفصيل ما أحل لكم من قوله "يسألونك ماذا أحل لهم " إلى الآية المتكلم فيها فلما جرى ذلك كله مفصلا مستوفى ناسبه الوارد فى الآية وليس فى آية النساء من مثل هذا شئ مما حلل أو حرم فجرى حكمه على نسبة ما تقدمها بناء على رعى المناسبة والله أعلم بما أراد. الآية الثامنة: قوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما " وفى نصف "لا خير فى كثير من نجواهم " "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا " للسائل أن يسأل عن وجه

اختلاف تعقيب الأولى بقوله "فقد افترى إثما عظيما " وتعقيب الثانية "فقد ضل ضلالا بعيدا ". والجواب: أنه لما وقع قبل الآية الكريمة ذكر أهل الكتاب وذكر اعتدائهم وتحريفهم من لدن قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل " ثم قال بعد هذا: "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه " وهذا إفصاح بكذبهم وافترائهم ثم أتبع ما ذكر بقوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به " ناسب ما تقدم من أوصاف الشرك الافتراء الذى هو أخص صفات من كذب من أهل الكتاب من أن المشرك مفتر فقال عز وجل: "ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما " ولما لم يتقدم مثل ذلك فى الآية الأخرى إنما تقدم قبلها قوله: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى " وقبلها ما يخص منافقى أيام نبينا ـ عليه السلام ـ من لدن قوله تعالى: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما " ثم قال: "ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم .... الآية " فلم يقع فى هذه الآى ذكر تحريف ولا افتراء إنما ذكر منافقو أيامه ـ عليه السلام ـ بنفاقهم وما صدر منهم من غير الكذب والافتراء فناسب ذلك ما بنى عليه من قوله سبحانه: "ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا " كما ناسب قوله فى الأولى "فقد افترى إثما عظيما " ما تقدمه وبنى عليه وجاء كل على ما يجب ولو أعقبت الأولى الثانية والثانية بما أعقبت به الأولى لما ناسب على ما تقدم. والله أعلم. الآية التاسعة: قوله تعالى: "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا " وفى سورة المائدة: "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا "، للسائل أن يسأل عن وجه ما ورد فى هاتين الآيتين من قوله فى الأولى " إلى ما أنزل الله وإلى الرسول " والاكتفاء فى الثانية بقوله " إلى ما أنزل الله " مع استوائهما فى دعاء المخالفين ممن ذكر قبل كل آية منهما إلى متابعة الحق والرجوع إليه. والجواب أن حال المدعوين مختلف فإن الآية الأولى فى منافق ويهودى تخاصما وتحاكما إلى كعب بن الأشرف ورضيا بحكمه فالمراد بالآية المنافقون لأنهم المظهرون أنهم آمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى موسى عليه السلام القائلون ذلك بألسنتهم ولكون ذلك

نطقا بألسنتهم عبر بالزعم وكنى بالطاغوت فيما ذكره المفسرون عن كعب بن الأشرف قال تعالى: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به " ولم تؤمر يهود أن يكفروا بأحبارهم ما لم يحرفوا وإنما المأمورون بالكفر منهم المؤمنون حين ظهر تحريفهم وتبديلهم ثم قال تعالى: "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول " أى للحكم بينهم بما أنزل الله صدوا عنه ونفروا إلى التحاكم عند كعب بن الأشرف أو عند الكاهن على الاختلاف فى ذلك. وأما آية المائدة فمبنية على ما تقدمها من مرتكبات أهل الجاهلية وما سنوه تقليدا أو اتباعا لعمرو بن لحي وأشباهه ممن سن مثل تغييرا لملة إبراهيم عليه السلام فدان بفعلهم فى البحيرة والسائبة والوصيلة والحام أما البحيرة فهى المشقوق أذنها طولا بنصفين متروكة ترعى وترد الماء لا ينتفع بشئ منها فإذا ماتت أكلها الرجال وحرمت على النساء وذلك إذا ولدت أبطنا قبل عشرة وقبل غير ذلك وكل ضلال باطل. وأما السائبة فالناقة تسيب للآلهة وأيضا إذا اتبعت إناثا ثنتى عشرة لا ذكر فيها. وأما الوصيلة فالشاة إذا ولدت ثلاثة بطون أو خمسة إن كان آخرها ذكرا ذبحوه لآلهتهم وإن كان أنثى استحيوها وقالوا إن الأنثى قد وصلت آخاها ومنعته أن يذبح وقيل غير هذا. والحام فحل الإبل إذا ضرب فيها عشرة أعوام أو ولد من ظهره عشرة قيل ظهره فسيب. فالضمير من قوله "وإذا قيل لهم " راجع إلى القائلين بهذه الأشياء المتبعين فيها لآبائهم فبين تعالى وحكم فيها بقوله "ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ". إلى قوله "ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب " فحكم هذه الأشياء بين واضح من كتاب الله لا يفتقر فى تعرفه إلى غير سماعه إذا حصل التصديق به وسواء سمع ذلك منه صلى الله عليه وسلم أو من غيره لتواتر نقله فلهذا لم يذكر هنا دعاء إلى زائد على المنزل. أما آية النساء ففى قضية تخاصم لابد من التحاكم فيها إلى مجتهد يفصل فيها بما فهمه الله من كتابه والآتى به صلى الله عليه وسلم هو المبين ما فيه والمعصوم فيما بين منه ويحكم به والقضية واقعة حال وجوده وحضوره فإليه صلى الله عليه وسلم المرجع فلهذا قيل فى تلك الآية "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول " ولم يكن عكس الوارد فى الآيتين ليناسب والله أعلم. الآية العاشرة: قوله تعالى: "ومن أصدق من الله حديثا " وبعد

هذا "ومن أصدق من الله قيلا "، للسائل أن يسأل عن اختلاف التعبيرين مع أن المتقدم فى كل من الآيتين إخبار أخراوى. ففى الأولى "ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه " وفى الثانية وما وعد الله به المؤمنين فى قوله "سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار " ثم جئ بالتمييز مختلفا فقيل فى الأولى "ومن أصدق من الله حديثا " وفى الثانية "ومن أصدق من الله قيلا " فخولف فى العبارة مع وحدة المعنى فيسأل عن ذلك وهل كان يجوز العكس؟ والجواب أن التعبير الثانى مبنى على ما يجب ربطه به من قوله "وعد الله حقا " وقيل "ومن أصدق من الله قيلا " وأنيب مناب وعدا فكأن قد قيل: ومن أصدق من الله وعدا وهو ما وعدهم به تعالى من النعيم وعظيم الإحسان فجئ بلفظ يوازن المصدر عن قبله وهما وعدا وحقا ويشابههما فى الخفة فسكون عين الكلمة وعدد حروفها كالمصدرين قبلها وكأنه إنما أريد تكرار المصدر بلفظه فاستثقل التكرار للتقارب وعادة العرب فى ذلك فعدل إلى ما يجاريه ويحرز المعنى ولتجرى المصادر الثلاثة مجرى واحدا خفة ووزنا إحرازا للتناسب والتلاؤم. ولما لم يتقدم فى الآية الأولى ما يستلزم هذا وإن قوله تعالى "ليجمعنكم إلى يوم القيامة " إخبار وحديث عن البعث بعد الموت وجمع الخلق لحسابهم ومجازاتهم على الخير والشر فهو إخبار وإنباء، ومثله ما ورد فى قوله تعالى إخبارا عن قول منكرى البعث "هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق "الآية فالإنباء هنا هو ذلك الخبر الصدق منه تعالى بقوله "ليجمعنكم إلى يوم القيامة " الآية فقد وضح ورود كل واحدة من الآيتين على ما يناسب ويلائم والله أعلم. الآية الحاية عشرة: قوله تعالى: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ... الآية " وفى الأنفال: "ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب " وفى الحشر: "ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله فإن الله شديد العقاب " للسائل أن يسأل عن إدغام الوارد فى الحشر وفك الإدغام فى السورتين قبل ما وجه ذلك مع أن الفك والإدغام فصيحان؟ الجواب أن الإدغام تخفيف وليس بالأصل فورد فى النساء على الأصل ولم يقترن به ما يستدعى تخفيفه ولا سؤال فى ذلك ولما تقدم فى سورة الحشر قوله تعالى: " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله "وتقد الماضى مدغما ولم يسمع فى الماضى إلا تلك اللغة،

فجئ بما حمل عليه من قوله: "ومن يشاق الله " مدغما ليحصل مجئ الإدغام قبله فى الماضى من قوله "ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " وعطف "ورسوله " على اسم الله تعالى وقد وردت نسبة المشاقة لله ورسوله وورد ذلك بالعطف بالواو الجامعة وهو ما يناسب الفك فاستدعى الموضع داعيان: أحدهما ما قبله من الإدغام، والثانى ما بعده من العطف المشبه للفك، فروعى البعدى لأنه أقوى فى الرعى كما فعلوا فى الإمالة فلم يميلوا مناشيط وما كان مثله مما تأخر فيه حرف الاستعلاء وإن حال بينه وبين الألف حرفان ومع ذلك فإنه يمنع الإمالة وليس كذلك فى قوة المنع إذا تقدم مع حائل فكذا فعلوا فيما تقدم فراعوا ما بعد كما ذكرنا فلم يدغموا إذ المتقدم فى قوة المفروع منه المنقطع المتصل بعد فى النطق أقرب، فورد على ما يجب ويناسب. الآية الثانية عشرة: قوله تعالى: "وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " وفى آية أخرى بعد "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما " فيهما سؤالان: قوله فى الأولى "وإن تحسنوا وتتقوا " وفى الثانية "وإن تصلحوا " والختامان "خبيرا " فى الأولى و"غفورا " فى الثانية. والجواب والله أعلم: أن الآية الأولى فيما بين المرأة وزوجها فإذا خافت منه وأرادت تآلفه وبقاءه وكينونتها فى عصمته فلا جناح عليهما أن تعطى شيئا من نفسها وتترك بعض حقها كأن تؤثر ضرتها فى القسمة أو تترك هى حظها كما فعلت سودة رضى الله عنها أو تهب له من حالها لا جناح عليهما فى هذا ولا على زوجها فى قبول ذلك منها وإن كان الطبع يأبى من إسقاط حق أو تنقصه لما جبلت عليه النفوس وإليه الإشارة بقوله تعالى: "وأحضرت الأنفس الشح " ثم قال تعالى: "وإن تحسنوا وتتقوا " فندب كلا منهما إلى الإحسان والتقوى والزوج أخص بذلك وأولى وأن يحتمل كل منهما من صاحبه ويصبر فإن الله مطلع عليه خبير بما يكنه ويخفيه، ثم قال: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بيم النساء ولو حرصتم " لأن القلوب لا تملك ولا بيد الإنسان فسادها ولا صلاحها فإن عدل فى القسمة والمحادثة والإنفاق والنظر وبشاشة الوجه وجميل الملاقاة وفرضنا اجتهاده فى هذا كله حتى تحصل المساواة

لم يقدر أن يميل بقلبه إلى كلهن على حال سواء: "فلا تميلوا كل الميل " بل على الإنسان أن يجتهد وفى الحديث عنه عليه السلام: "اللهم هذه قسمتى فيما أملك فلا تلمنى فيما لا أملك "، "فتذروها كالمعلقة " لا ممسكة ولا مطلقة ثم قال تعالى: "وإن تصلحوا وتتقوا " والمراد ما استطعتم وكان فى إمكانكم فإن الله يغفر لكم ما سوى ذلك. والآية الأولى مقصودها يستدعى ما ختمت به من أنه تعالى خبير بأفعال عباده وأعمالهم الظاهرة والباطنة ومساق هذه الأخرى يستدعى مغفرته تعالى إذ قد عرفت الآية أن العدل لا يستطاع فإن لم تكن المغفرة هلك الملكف فورد أعقاب كل آية بما يناسب وأما ورود "وإن تحسنوا " فى الآية الأولى وورود "وإن تصلحوا " هنا فمفهوم مما تمهد وأنسب شئ والله أعلم. الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى: "وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ولله ما فى السماوات وما فى الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما فى السماوات وما فى الأرض وكان الله غنيا حميدا ولله ما فى السماوات وما فى الأرض وكفى بالله وكيلا " للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف ما أعقبت به هذه الآى الثلاث من أوصافه العلية سبحانه وتعالى: "وكان الله واسعا حكيما " وفى الثانية: "وكان الله غنيا حميدا " وفى الثالثة: "وكفى بالله وكيلا " يسأل عن ذلك وعن تكرار إخباره تعالى وقوله "ولله ما فى السماوات وما فى الأرض " ثلاث مرات مع تقارب الكلام واتصاله. والجواب عن الأول: إنه لما قال سبحانه فى الزوجين عند عدم انقيادهما لحسن المعاشرة "وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " قال الزمخشرى: "يرزقه زوجا خيرا من زوجته وعيشا أهنأ من عيشه " ولما قال "يغن الله كلا من سعته " ناسب هذا ذكر ما يقتضى من صفاته عموم وجوه الإحسان وأنه لا نفاد لما عنده مما به قوام عيشهم وكمال حال كل واحد منهم من الرزق والسكن والتأنيس وأنه سبحانه المنفرد بعلم وجه الحكمة فى تآلفهم فقال "وكان الله واسعا حكيما " أى كثير العطاء جم الإحسان عليم بخفيات مصالح العباد فقوله "وكان الله واسعا حكيما " عقب ما تقدمه من قوله " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " أوضح شئ فى المناسبة ثم اتبع بما يلائم ذلك ويزيده وضوحا من إخباره تعالى من أن السماوات والأرض وما فيهما ملكه تعالى فقال "ولله ما فى السماوات وما فى الأرض " ثم أتبع سبحانه أنه بما يرجع إلى عموم

إحسانه إلى من تقدم من المخاطبين بكتبه المنزلة رحمة لعباده وإحسانه كما أحسن إلى المواجهين بهذا الكتاب والمهيمن من على هذه الخطاب فقال "ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله " وأعلم سبحانه أنه محسن إليهم لأن تقواهم إياه تعالى مثمرة لهم السلامة من عذابه والنجاة من أليم عقابه وأنه ليس به إلى تقواهم من حاجة ولا يعود إليه سبحانه من كل ذلك منفعة إذ هو الغنى عنهم وعن عبادتهم فقال: "وإن تكفروا فإن لله ما فى السماوات وما فى الأرض " فهو الغنى عنكم وعن عبادتكم كما قال تعالى فى آية أخرى: "وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن فى الأرض جمبعا فإن الله لغنى حميد " وقال تعالى: "فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد " وإذا كان الكل ممن فى السماوات والأرض ملكا له سبحانه وتحت قهره وفى قبضته يفعل فيهم ما يشاء ولا يكون منهم إلا ما يشاؤه ويريده وهو الغنى الحميد ثم أكده بقوله "ولله ما فى السماوات وما فى الأرض " لما بنى عليه من قوله "وكفى بالله وكيلا " أى حافظا لجميع ذلك منفردا بتدبيره وإمساك السماوات والأرض ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده فختام الآية بهذه الصفة من أنسب شئ وأبينه والله أعلم. الآية الرابعة عشرة: قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " وفى المائدة: "كونوا قوامين لله شهداء بالقسط "فقدم فى آية النساء قوله "بالقسط " وأخر فى المائدة فيسأل عن وجه ذلك. والجواب عنه والله أعلم: أن الآيات المتصلة بآية سورة النساء مبنية على الأمر بالعدل والقسط قال تعالى: "من يعمل سوءا يجز به ... الآية " وقال بعد: "ويستفتونك فى النساء " ثم قال: "وأن تقوموا لليتامى بالقسط " وتوالت الآى بعد على هذا المعنى فقدم قوله بالقسط ليناسب ما ذكر وأما آية المائدة فثبت قبلها الأمر بالطهارة ثم تذكيره سبحانه بتذكر نعمه والوقوف مع ما عهد به إلى عباده والأمر بتقواه فناسبه قوله: "كونوا قوامين لله " ثم أتبع بما بنى على ذلك من الشهادة بالقسط فتأمل ما بنى على هذه وما بنى على آية النساء يتضح لك ما قلته والله أعلم بما أراد. الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: "إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " وفيما بعد من السورة نفسها "إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا

إلا طريق جهنم .. الآية " للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف الكنايتين عما إليه الهداية الممنوعة عمن ذكر فى الآيتين مع استواء حال من ذكر فيهما من التلبس بالزيادة على الكفر وفى الجزاء بعدم الغفران ومنع الهداية ومع أن مسمى السبيل والطرق واحد فما وجه اختلاف الكناية باسم السبيل فى الأولى والطرق فى الثانية؟ والجواب والله أعلم: أن السبيل والطريق وإن استويا واتحد معناهما فيما ذكر فبينهما فرق واضح عن حيث أن مواضع السبيل أكثر ترددا فى الكلام ففى إطلاق لفظه توسعه وعموم ليست فى إطلاق لفظ طريق فقد ورد ذكر السبيل فى الربع الأول من الكتاب العزيز فى بضع وخمسين موضعا أو نحو ذلك من ذلك فى سورة البقرة أربعة عشر موضعا أولها قوله تعالى: "ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل " وآخرها قوله تعالى: "للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله " وفى آل عمران ستة مواضع وفى النساء ستة وعشرون موضعا وفى المائدة والأنعام تسعة مواضع ولم يقع ذكر الطريق فى كتاب الله كله إلا فى [أربعة مواضع] ثم إن اسم السبيل مع ما تقرر من كثرة ترداده أغلب وقوعا فى الخير وسبيل السلامة إفصاحا وإشارة، ولا يكاد اسم الطريق يرد مرادا به السلامة والخير إلا مقرونا بوصف أو إضافة أو ما يخلصه لذلك كقوله تعالى: "يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم ". وإذا تقرر هذا فقوله تعالى فى الآية الأولى: "إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا " حاصل منه وسم هؤلاء بشر وصف وأعظمه وأبلغه بأقصى غاية فى شنعة المرتكب فليست حال من كفر بعد إيمان كحال من لم يتقدم كفره إيمان قال تعالى فيمن توعده بأشد الوعيد: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم " إلى ما وصفوا به من استحبابهم الحياة الدنيا على الآخرة وإنما وقع ذلك منهم بعد علمهم بكيان الآخرة وتصديقهم بها ثم اختاروا الدنيا عليها فحالهم حال من أضله الله على علم ولا أسوأ حال من هؤلاء. أما الموصوفون فى الآية الثانية بالكفر والظلم فدون هؤلاء فى شنعة المرتكب والمبالغة فى الضلال ألا ترى أن حال الكافر الذى لم يتقدم منه إيمان ليست كحال من تقدم منه إيمان لكفر هذا على علم ولا حال من وصف بالظلم وإن كان يقع على الكفر وما دونه كحال من وصف فى الآية الأولى بعوده

إلى الإيمان ثم إلى الكفر بعد ذلك ثم الازدياد فى الكفر فلما بلغت حال هؤلاء فيما وصفوا به أشنع غايات الكفر والضلال وأشدها تخبطا ناسب ذلك الكناية عما صدوا عنه ومنعوه "بالسبيل " مناسبة بين حالهم والممنوع من محسود مآلهم ولما لم يكن وصف الآخرين بالكفر والظلم يبلغ شنعة المرتكب مبلغ أولئك عدل فى الكناية عما منعوه إلى ما يناسبه وجرى كل على ما يجب ويناسب ولم يكن عكس الوارد ليلائم ولا ليناسب والله أعلم. الآية السادسة عشرة: قوله تعالى: "إن تبدوا خيرا أو تخفوه تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا " وفى سورة الأحزاب: "إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شئ عليما " للسائل أن يسأل هنا فى ثلاثة مواضع: أحدها قوله: "إن تبدوا خيرا " وفى الأحزاب "شيئا " فيسأل عن وجه الفرق؟ والثانى: ما الموجب لخلاف جواب الشرط فى الآيتين؟ ففى الأولى "فإن الله كان عفوا قديرا " وفى الثانية "فإن الله كان بكل شئ عليما " والثالث: زيادة قوله فى الأولى "أم تعفوا عن سوء ". والجواب عن الأول: إن قوله تعالى "إن تبدوا خيرا أو تخفوه " مقصود به خصوص طرف الخير وعمل البر جريا على ما دارت عليه سورة النساء وتردد فيها من إصلاح ذات البين والندب إلى العفو والتجاوز عن السيئات ألا ترى قوله تعالى لمقتسمى الميراث فيمن حضره من ذوى القربى وذوى الحاجات "فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا " وقوله فى الآيتين الفحشة "فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " وقوله فى النساء "وعاشروهن بالمعروف " وقوله "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " وقوله "فأعرض عنهم وعظهم " وقوله "وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما " إلى أمثال هذه الآى مما يطول ذكره ولا يكثر فى غير هذه السورة ككثرته فيها ومن هنا لم يتعرض فيها لأحكام الطلاق وان كانت السورة مبنية على أحكام النساء لكن خص من ذلك ما فيه التآلف والإصلاح وما يرجع إلى ذلك ولم يرد فيها من أحكام الطلاق الا ما أشار إليه قوله تعالى "وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " فذكر هذا القدر عند استدعاء معنى الكلام وتمام المقصود به إليه بأوجز لفظ وبما يؤنس الفريقين ولم يذكر فيها اللعان ولا الظهار ولا الخلع ولا طلاق الثلاث بل ذكر فيها استحاب العشرة

إلى التوارث فلما كان مبنى السورة على هذا ناسب لك طرف الخير غير مشار إلى ضده الا بالعفو عما وقع بالمكلف فيه فقال تعالى: "إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء " فنوسب بهذا الخصوص خصوص ما تكرر فى السورة بما ذكر من العفو وما يحرزه وفى سورة البقرة: "وأن تعفوا أقرب للتقوى " وذلك فى مثل ما تقدم هنا من أحكام النساء. وأما آية الأحزاب فمقصود بها ما يعم الطرفين من الخير والشر ألا ترى ما تقدمها من قوله تعالى "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا " وما تقدم فى هذه السورة من ذكر المنافقين وسوء مرتكبهم فى قصة الأحزاب وقولهم "ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا " وقولهم فى الاستئذان "إن بيوتنا عورة " وكذبهم فى ذلك فحذر الله المؤمنين من مرتكبات المنافقين وأعلمهم أنه تعالى لا يخفى عليه شئ "سواء منكم من أسر القول ومن جهر به " فقال تعالى "إن تبدوا شيئا أو تخفوه " فلما قصد فى هذه الآية عموم الطرفين ورد بلفظ مطلق يعم الخير والشر فقال تعالى: "إن تبدوا شيئا " والشئ يقع على كل موجود من ذات أو معنى حتى أن بعض المتكلمين يطلقه على المعدوم المقدر الوجود فيقول بشيئة المعدوم وليس هذا من قولنا ولكن الإطلاق حاصل كيفما قيل والشئ المخفى المشار إليه فى الآية إنما هو عمل قلبى موجود بمحله فلا اعتراض علينا به والخير والشر داخلان تحت ذلك وأما لفظ خير فى آية النساء فقد تقدم خصوصه ومناسبته فورد كل على ما يجب ويناسب ولا يمكن فيه العكس. والجواب عن السؤال الثانى: ان اختلاف جواب الشرط فى الآيتين إنما هو بحسب ما يستدعيه فقوله تعالى فى الأحزاب: "فإن الله كان بكل شئ عليما " يبين الجوابية لقوله تعالى: "إن تبدوا خيرا أو تخقوه " وأم قوله فى آية النساء "فإن الله كان عفوا قديرا " فمنزل على قوله "أو تعفوا عن سوء "فندب سبحانه العباد إلى العفو بمفهوم هذه الكلام بإعلامهم أن تلك سنة فى خلقه من عفوه عن المسئ مع القدرة على أخذه والانتقام منه "ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة " وهذا الجواب لقوله تعالى: "أو تعفوا عن سوء " يفهم جواب الأمرين من إبداء الخير وإخفائه وان ذلك يحبه تعالى ويثيب عليه فقد بان التناسب فى هذا كله فى كل واحد من الشرطين وجوابهما. والجواب عن السؤال الثالث: ان قوله تعالى: "أو تعفوا عن سوء " من تمام ما

قصد بالآية من الندب إلى تحصيل أفعال البر وان العفو عن السوء من أجلها وبذلك أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: "فاعف عنهم واصفح " فى غير ما آية فقد بان التاسب فى هذا كله. ووضح أن كل ما ورد فى الآيتين لا يلائمه غير موضعه والله أعلم بما أراد.

سورة المائدة

سورة المائدة الآية الأولى منها: قوله تعالى: " أحلت لكم بهيمة الأنعام " وفى سورة الحج: "وأحلت لكم الأنعام "، للسائل أن يسأل عن وجه ما ورد فى الآيتين مع اجتماعهما فى التعريف بحلية هذا الضرب من الحيوان البهيمى مفصحا فيهما بتقرير حكم التحليل بالماضى وهو قوله "أحلت لكم " ثم خصت آية المائدة بزيادة لفظ "بهيمة " ولم يرد ذلك فى آية الحج فيسأل عن وجه ذلك؟ والجواب عنه والله أعلم: أن المقصود فى الآيتين مختلف فوردت الألفاظ بما يحرز ذلك وبيانه أن اسم الأنعام إنما يقع على ما ذكر فى آية سورة الأنعام من الأزواج الثمانية حين تفسرت مفصلة فقال تعالى: "ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين " ثم قال تعالى: "ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين " وهى أصناف أربعة الإبل والبقر والضأن والمعز تفصلت بحسب التذكير والتأنيث إلى ثمانية والحمولة منها ما أطاق الحمل على ظهره وهى الإبل والفرش ما سواها وقيل غير هذا وقال تعالى: "وإن لكم فى الأنعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين " وإنما اللبن المراد هنا المنعم به علينا لبن الأنعام وهى الأزواج الثمانية أما لبن الوحشى غير الإنسى فلم يقصد هنا وان كان حلالا لتعذر إدراكه وليس هو المراد فى الأنعام وان جاز إطلاق اسم الأنعام على الوحشى مجازا لجامع سنذكره بعد. قال الهروى: الأنعام المواشى من الإبل والبقر والغنم وإذا وضح أن الأنعام هى الأزواج الثمانية فمن المعلوم أن غيرها من الوحشى الذى لا يدرك إلا بالصيد محرم على الحاج ما دام فى عمله قال تعالى: "وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " ولما كانت آية سورة الحج مناطة بما أمر به الحاج فى قوله: "ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق " والأمر بتعظيم تلك الحرمات والشعائر الإيمانية فى قوله تعالى: "ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه " وصل بها ما يحل أكل لحمه للمحرم حال إحرامه فقال تعالى: "وأحلت لكم الأنعام " ولم يكن ليلائم هذا الموضع ما ورد فى آية المائدة من قوله تعالى:

"أحلت لكم بهيمة الأنعام " لأن المراد ببهيمة الأنعام الوحشى، قال القرطبى "بهيمة الأنعام وحشيها " وقال الزمخشرى فى أحد تفسيريه "الظباء وبقر الوحشى " ووجه وقوعها فى آية المائدة أن آية المائدة من آخر ما نزل وقد تضمنت متممات من الأحكام كآية الوضوء والتيمم وتفاصيل الصيد واستيفاء المحرمات من المأكولات والمشروبات على التحرير وأحكام هذه السورة كثيرة ومحكمة غير منسوخه وفيها ورد "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا " فناسب هذا ذكر حلية بهيمة الأنعام إلحاقا لها بالأنعام إذ لم يذكره الله فى غيرها على ما ورد فى تحرير ذلك وبيان العوارض التى قد تحرم لأجلها وذلك قوله تعالى: "حرمت عليكم الميتة والدم " ثم أتبع بقوله: "والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة " لأن هذه العوارض تكثر فى الوحشى لمخالفة حاله فى التذكية وما تحل به الإنسية من الأنعام ثم أتبع ذكر ما يعرض مما ذكر مما وقعت الإشارة بقوله: "إلا ما يتلى عليكم " ثم أشار قوله: "غير محلى الصيد وأنتم حرم " إلى ما أفصح به قوله تعالى: "وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " فوضح التناسب وإن عكس الوارد فى الآيتين لم يكن ليناسب والله أعلم بما أراد. الآية الثانية من سورة المائدة: قوله تعالى: "يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " وفى سورة الفتح: "يبتغون فضلا من الله ورضوانا " وكذا فى سورة الحشر فيسأل عن موجب اختصاص سورة المائدة بما ورد فيها من إضافة اسم الرب تعالى إليهم بخلاف السورتين. والجواب والله أعلم أن آية المائدة مبنية على تأنيس وتقريب واستلطاف وقد أحرز قوله "من ربهم " هذه المعانى الثلاثة حسبما يتبين بعد. ومن التأنيس أيضا افتتاح خطاب من قصد بها بقوله "يأيها الذين آمنوا " مع انهم نهوا عن عدة منهيات والنهى مما يثير الخوف لمن قصد بالنهى، ثم يحكمه ويقويه ما وصف به آم البيت الحرام من ابتغاء الفضل والرضوان إلى ما تعضيده إضافة التخصيص فى قوله "من ربهم " إذ لا يحصل ذلك من أن لو قيل: يبتغون فضلا من الله عوض قوله "من ربهم " وإذاية من خص بتقريب ليست كإذاية من ليس كذلك، والمعصية قد تكون واحدة ثم تعظم بإيقاعها على صفة ما، وتأمل ما ورد فى الزنا بحليلة الجار والزنا كله كبيرة ولكن وقوعه بحليلة الجار زيادة وذلك لحرمته، وكذلك ما عظم الشرع من الإلحاد فى البيت الحرام والإلحاد كله

كفر ولكن فى وقوعه فى البيت الحرام زيادة، وتأمل هذا فى الكتاب العزيز وفى صحيح الأخبار تجد ذلك كثيرا، كما أن هذه الإضافة فى قوله "من ربهم " مشعرة إذا اقترن بها بعض القرائن بالتلطف والتقريب وتأنيس من عنى بها وتخويف من انتهك حرمة من جرت الكناية عنه بها تخصيصا وتأنيسا فلهذا خص هذا الموضوع بها وقدم أيضا تأنيس من خوطب بالنهى إذا هم امثلوا فأنسوا من شدة الخوف الحاصل من مجموع ما ذكرنا فلمجموع ما قصد فى هذه الآية من التأنيس والتخويف والاستلطاف خصت بما ورد فيها. فإن قلت قد ترد هذه الإضافة حيث لا يقصد التلطف ولا التأنيس كقوله تعالى: "وللذيم كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير " إلى أمثال هذا مما يكثر قلت: أما آية الفتح فلم ينجر فيها تخويف مرتكب ولا بنيت على ذلك ولا داعية إلى ما يستدعى التأنيس كما فى آية المائدة وهذا مع أن المذكورين فى آية الفتح أعظم الأمة قدرا وأجلهم خطرا وهم أهل المزية والاختصاص فلم تين الآية الا على مدحهم وبيان مزيتهم التى لا يدركها غيرهم ولم ينجر فيها تخويف يدعو إلى تأنيس من خوطب بها كما فى آية المائدة بل وردت هذه مورد البشارة وتعريف حال الأنعام، وعلى ذلك وردت آية الحشر من الثناء والمدحة ولم يتخللها نهى ولا تخويف ولا ورود تفضيل بذكر مخالفى تلك الأحوال فقال تعالى: "للفقراء المهاجرين " إلى قوله "يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون " فقد وضح الوجه فى ورود كل من هه الآى على ما ورد وإن عكس الوارد فيها لا يناسب على ما تمهد والله سبحانه أعلم. الآية الثالثة من سورة المائدة: قوله تعالى: "ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا " وقال تعالى فيما بعد: "ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا " فاتفقت الآيتان على وصية المؤمنين وحضهم على مكارم الأخلاق والعفو ممن تقدمت منه إساءة أكسبت بغضه فكأن قد قيل لهم: لا يحملنكم ما وقر فى صدوركم من بغضكم إياهم على متقدم إساءتهم بصدهم إياكم عن المسجد الحرام عام الحديبية ومنعكم عن الاعتمار لا يحملنكم ذلك على الانتقام منهم والانتصار لأنفسكم والعفو أقرب للتقوى وقد ملكتم فاسجحو، خوطب المؤمنون بهذا بعد فتح مكة وقهر مفار العرب وإعلاء كلمة الله فندبوا إلى العفو عما تقدم ولا يحاسب من انقاد واستجاب فى دين الله بما كان تقدم من عدوانهم وان وقر فى

النفوس من بغضهم على إساءتهم ما وقر فاستوت الآيتان بأمر المؤمنين بمكارم الأخلاق ثم اختلف تعليق ما حذروا منه أن يحملهم عليه لحظ ما بقى فى نفوسهم فقيل فى الآية الأولى: "أن تعتدوا " وفى الثانية: "على ألا تعدلوا " والاعتداء أشد وأعظم من عدم العدل فللسائل أن يسأل عن وجه ما ورد فى كل من الموضعين ومناسبته لما تقدمه. والجواب عن ذلك والله أعلم: أن الآية الأولى ورد فيها الإفصاح بعلة البغضاء الحاملة على الانتصار والانتقام وهى صدهم عن البيت الحرام عام الحديبية وذلك قوله تعالى: "أن صدوكم " أى من أجل أن صدوكم أى منعوكم فـ "أن " هنا مصدرية فى موضع المفعول من أجله فلما وقع الافصاح بسبب الشنئان ناسب النظم الافصاح بالعقوبة عليه وهو الاعتداء بالانتقام والمجازاة السيئة بالسيئة لولا ما ندب سبحانه إليه من التخلف الايمانى المشروع للمؤمنين تقديمه واختياره فقيل: "أن تعتدوا " أى لا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا أى على الاعتداء أولا يكسبنكم ذلك المرتكب الفارط منه الاعتداء ولما لم يرد فى الآية الثانية إفصاح بجريمة بل بنيت على أمر المؤمنين بالعدل فقا تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط " فلما أمروا بالعدل ناسب ذلك وصيتهم وأمرهم ألا يحملهم شئ على ترك العدل الذى أمروا به فقيل "على ألا تعدلوا ". فوضح جليل الالتئام والمناسبة وورود كل من المنهى عن ارتكابه فى الآيتين على ما يجب ويناسب ولا يمكن خلافه والله أعلم. الآية الرابعة فى سورة المائدة: قوله تعالى: "وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " وفى النحل: "كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون " فورد فى الآيتين إتمام نعمته سبحانه على عبادة بعبارة متحدة ثن اختلف النترجى منه سبحانه جزاء على ذلك. والجواب والله أعلم: أن آية المائدة خطاب للمؤمنين بما يجب عليهم من الطهارة لصلاتهم وتعليم لهم كيفية عملهم فى ذلك وإنعام عليهم برخصة التيمم إذا عدموا الماء وكل هذا مستوجب للشكر لله سبحانه فقيل فى ختام هذه الآية "لعلكم تشكرون " وأم آية النحل فإن السورة كلها مكية إلا آيات من آخرها وغالب حالها أنها خطاب لكفار قريش وما كان مثلهم ألا ترى افتتاحها بقوله تعالى: "أتى أمر الله فلا تستعجلوه " وإنما هذا خطاب للمرتابين فى الساعة تكذيبا وكفرا ثم قال "سبحانه وتعالى عما يشركون " وقرئ بالتاء فأوضح أن الخطاب

قوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم "

للمرتابين وقوله بعد: "أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون " وقوله "والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم لا يخلقون " إلى ما بعد ثم قال "وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين " ثم قال "قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد " وقال "إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين " ثم قال "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت " ثم قال "ويجعلون لله ما يكرهون "ثم قال بعد آى فذكر بما امتن به سبحانه فقال "ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا ... الآية " وعلى هذا استمرت آية سورة النحل وقد تخللها من تذكيرهم بإنعام الله عليهم كثير إلى قوله "والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا " وكل هذا تذكير بعجائبه من إنعامه تعالى لا يمكن نسبة شئ منها لغيره ثم أعقب ذلك بقوله "كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون " أى تدخلون فى دين الإسلام الذى لا يقبل فى الآخرة سواء فهذا أوضح تناسب والسورة مكية. أما آية المائدة فلم يقع قبلها لغير المؤمنين ولا ما قصد به سواهم ولم يخاطبوا باسم الإيمان إلا وإسلامهم حاصل ثم علموا طهارتهم بعد بيان ما أحل لهم وحرم عليهم ثم أعقب تعليمهم برخصة التيمم عند تعذر الماء فناسب رجاء إنعامه عليهم بهدايتهم للشكر فقيل "لعلكم تشكرون " ولم يكن ليلائم فى كل من ختام الآتين إلا الوارد فيه ولا يناسب عكس الوارد بوجه فورد كل على ما يجب ويناسب والله أعلم بما أراد. الآية الخامسة من سورة المائدة قوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم " وفى سورة الفتح: "وعد الله الذبن آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما "، فقيل هاهنا "منهم "ولم يقل فى آية المائدة "منكم " على مقتضى الخطاب ولا "منهم "على الالتفات فيخصص كما فى آية الفتح بل قطع وعد عن نصب مفعوله وجئ بالجملة فى موضعه فقيل لهم مغفرة وأجر عظيم وجرى ذلك على ما يعم الكل ولا يخص فيسأل عن وجه ذلك. والجواب عنه والله أعلم: أن آية المائدة لما قدمتها خطاب المؤمنين فى قضيتين: الأولى منهما " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ... إلى قوله لعلكم تشكرون "

والثانية قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ... الآية " وقد وقع فيما بين هاتين الآيتين قوله تعالى: "اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذى واثقكم به " ولم يقع أثناء هذه الآى إشارة إلى غيرهم ولا انجر معهم أحد من سواهم لم يحتج إلى تخصيص الخطاب الوعدى فأطلق القول ولم يقيد بأن يقال "منهم " ولا علمت وعد فى مفعولها الثانى كما جاء ذلك كله فى آية الفتح بل عدل عن عملها فى لفظ المغفرة وجئ بالجملة فى موضع المفعول وقطع بقوله لهم على الابتداء والخبر ليكون أبلغ فى استحقاقهم ذلك وأما آية الفتح فأعقب بها التمثيل الجارى فى ذكر الزرع فى قوله تعالى: "يعجب الزراع لغيظ بهم الكفار " مع أن العلية الموصوفين بقوله: "أشداء على الكفار رحماء بينهم " إلى ما وصفوا به وعرف أنه مثلهم فى التوراة وأن مثلهم فى الانجيل قد كان كذا فمع ما وصفوا به قد عاصرهم وكان فى أيامهم ومعهم من علم نفاقه فمن كان يتظاهر بالإيمان ويسر الكفر: "وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " وقد صاروا معهم بظاهر أمرهم وأعلم بذلك قوله تعالى: "ويحلفون بالله أنهم لمنكم وما هم منكم " وعرف سبحانه بأحوالهم وحذر نبيه والمؤمنين منهم فقال: "ولا تطع الكافرين والمنافقين " وقد شمل الكل عموم قوله "والذين معه " بظاهر الإيمان إذ كانوا يتظاهرون بما وصف به المؤمننو فجئ هنا بالوعد محرزا مخرجا منه من كان يتظاهر بالإيمان ويلزق بالمؤمنين وليس منهم فقيل "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم " فجئ بقوله "منهم " ليحرز هذا المعنى الجليل فمن على هذا للتبعيض. أما آية المائدة فلا يتناول قبلها مما ذكر من الآيات غير المخلص فى إيمانه بخصوص خطابهم بما لا يتناول غيرهم من قوله "يأيها الذين آمنوا " فخصصوا بالنداء ولا يتناول إلا مؤمنا أما مع فيتناول المجتمعين فى الظاهر من حيث تألف أشخاصهم وإن اختلفت قلوبهم ويدل على ذلك قول المنافقين فى القيامة للمؤمنين "ألم نكن معكم " وجواب المؤمنين لهم بقوله "بلى " أى قد كنتم معنا ولكن لم تكونوا مخلصين هذا معنى قولهم "ولكنكم فتنتم أنفسكم ... الآية " فقد كانت معية فى الظاهر وصح إطلاقها لغة وهذا القدر من الاحتمال فى اللفظ وإن لم يكن مقصودا فى المعنى حسن التحرير والتحرز فى آية الفتح بقوله منهم أما قوله: "وعد الله الذين آمنوا " بعد أن لم يتقدم إلا ذكر من أفصح بلسانه وإنما الإيمان عمل قلبى لأنه

التصديق وإن اتسع فى إطلاقه على الإيمان والإسلام فالتصديق حاصل على كل حال كما لو قيل فى آية سورة الفتح: "والذين آمنوا معهم " إذا تقرر هذا فلا حامل غير التحرز بأن يقال "منهم " لأنهم مستوون غير مختلفين فى ظاهر ولا باطن بخلاف آية الفتح لما فى ظاهر لفظ مع مما تقدم. فإن قيل: وصفهم بما وصفوا به فى آية الفتح يرفع ما ذكرت من الاحتمال قلت: إذا أمكن رجوعه إلى الأكثر واحتمل لم يندفع ذلك الاحتمال فورد كل من الآيتين على ما يناسب، والله أعلم. الآية السادسة: قوله تعالى: " فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ " وقال فيما بعد " سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ " فى الأولى "عن مواضعه " وفى الثانية "من بعد مواضعه " فيسأل عن موجب ذلك. والجواب عن ذلك والله أعلم أن الفرق بين الموضعين أن الآية الأولى تضمنت إخبار الله سبحانه لنبيه عليه السلام مرتكب من تقدم من كفار بنى إسرائيل حين أخذ عليهم الميثاق فيما عرفه سبحانه فى قوله "ولقد أخذنا ميثاق بنى إسرائيل وأخذنا منهم اثنى عشر نقيبا "الى قوله "فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل " فأخذ عليهم الميثاق وأخبرهم أنه تعالى معهم مواليهم بالتأييد وتكفير السيئات إن هم وفوا بما أخذ عليهم فى قوله "لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلى وعزرتموهم .. الآية " فنقضوا العهد وقتلوا الأنبياء وحرفوا كلام الله فجعل الله قلوبهم قاسية ولعنهم على لسان داوود وعيسى بن مريم فهذا كله تعريف بمرتكب سلف المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإخبار بحالهم من تحريفهم وتبديلهم. وأما الآية الثانية فتعريف له عليه السلام بأحوال معاصريه منهم وكل هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم لئلا يحزنه قولهم ويشق عليه ارتكابهم وليعلم أن ذلك من بعدهم جار على ما قدر عليهم فى الأزل قد تبع فى ذلك الخلف السلف فقال سبحانه: "يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم وإذا جاؤوكم قالوا آمنا " فلما كان هذا الاخبار بحال خلفهم والأول إخبار بحال سلفهم ناسب حال الأولين ذكر ما تناولوه بأنفسهم وباشروه بالتحريف والتبديل فقيل:

"يحرفون الكلم عن مواضعه " فهم المزيون لما خوطبوا به عما أريد به لم يتقدمهم فى ذلك غيرهم وأما المعاصرون فقد حرفوا أيضا بعد الاستقرار، ألا ترى إنكارهم صفته عليه السلام بعد مشاهدته ورؤيته وهذا مما اختص به الخلف دون السلف إذ لم يباشر أمره عليه السلام هؤلاء بعد أن كان سلفهم يعترفون بذلك فقد حرف هؤلاء بعد الاعتراف والثبوت زائدا إلى ما ارتكبه سلفهم فالمقلدون لأسلافهم فى التحريف والتبديل قائلون بما قالوه فناسب الإخبار عن مرتكبهم ذكر البعدية إذ قد تقدمهم غيرهم لما ذكر فالسلف منهم مبتدع مخترع والخلف محرف أيضا ومقلد متبع فالبعدية لمن بعد والحالية المحكية لمن قبل على ما يناسب والله أعلم. الآية السابعة: قوله تعالى: " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ " وفيما بعد: " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ " للسائل أن يسأل عما ورد فى هاتين الآيتين من الاختلاف فيما خوطب به بنو إسرائيل ووجه خصوص كل من الموضعين بالوارد فيه مع اتحاد مقصودهما من تذكيرهم وتعنيفهم على إعراضهم وانحرافهم عن الجادة من اتباع من أعلموا بأمره وقدم لهم فيه: "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ". على هذه المقدمة من المعنى مدار الآيتين وإذا وضح هذا فلا سؤال فى غير تخصيص كل واحدة من الآيتين بما ورد فيها؟ والجواب والله أعلم: أنه لما تقدم قوله تعالى: "ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا .. الآية " فبين تعالى ما عهد إليهم فيه أى فى معرفة نبوته وأن يؤمنوا به "لتؤمنن به ولتنصرنه " وألزموا الوفاء به وأعلموا بما يكون من أمرهم أن وفوا فقيل لهم: "لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجرى من تحتها الأنهار " فالتزموا بما ألزموا بدليل قالوا أقررنا ثم نقضوا وحرفوا فجوزوا باللعنة وقساوة القلوب قال تعالى: "فبما نقضهم ميثاثقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية " فلما تقدم هذا ناسبه قوله تعالى لهم: "يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب "وهذا أوضح تناسب.

ولما تقدم الآية الثانية قول النصارى فى المسيح عليه السلام وإخباره تعالى عنهم بذلك فى قوله: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " وبين تعالى حال المسيح فى عبوديته وانسحاب القهر الربانى عليه كسائر المخلوقات فقال تعالى: "فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الأرض جميعا .. الآية " ثم جمع أهل الكتابين فى التعريف بقولهم "نحن أبناء الله وأحباؤه " وليس هذا الإخبار كالمخبر به من حال اليهود فى قبيح عنادهم وشنيع تحريفهم ولم يجر خطاب النصارى وما عرف به من حالهم فى الكتاب العزيز على حد ما جرى فى ذلك فى يهود من التعنيف والتوبيخ وضرب الذلة واللعنة عليهم والبوء بالغضب، فلما كان هذا التعريف المتقدم على الآية الثانية أوطأ مساقا ودون ما تقدم الآية المتقدمة من التوبيخ والمبالغة فى شنعة المرتكب ناسب هذا ما بنى عليه واتبع به من قوله تعالى: "يأهل المكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير " وفى هذا الخطاب استلطاف ورفق ولم يرد هنا ذكر تحريف ولا تبديل ليلائم ما تقدمه فى لين القول ووطأة الإخبار وتأمل التناسب بين الخطابين وما بنيا عليه يلح لك جليل الانتظام وعظيم التلاؤم وأن عكس الوارد لا يمكن ولا يلائم والله سبحانه أعلم. الآية الثامنة من سورة المائدة قوله تعالى: "قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الأرض جميعا " وفى سورة الفتح: "قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا "، للسائل أن يسأل عن زيداة "لكم "فى سورة الفتح وحذف ذلك فى سورة المائدة؟ والجواب عن ذلك: أن فى آية المائدة عموم يستدعى الإطلاق وعدم التقييد بالمخاطبين وفى سورة الفتح خصوص يستدعى التخصيص بآية الخطاب للمواجهين به وذلك أن الاخبار فى سورة المائدة إنما هو النصارى قال تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " وهذا حكاية قولهم ثم أعلم تعالى بقدرته وقهره للكل فقال: قل يا محمد من يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الأرض جميعا أى من يدافع مراده فى خلقه إن أراد هلاكهم ثم ذكر سبحانه خلقه المقهورين من سكان الأرض فبدأ بالمسيح وأمه عليهما السلام ثم قال: "ومن فى الأرض جميعا " فعم الكل فلم يكن ليناسب هذا العموم أداة خطاب تخص.

أما آية الفتح فقبلها إخباره سبحانه عن المتخلفين عن غزوة الحديبية قال تعالى: "سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفرلنا " ثم أعلم تعالى نبيه عليه السلام والمؤمنين أن قول المخلفين قول بألسنتهم غير مطابق لما فى قلوبهم فقال تعالى: قل يا محمد من يملك لكم معشر المخلفين من الله شيئا أى من يدفع عنكم الضر إن أراده بكم أو يوصل إليكم النفع إن منعه عنكم فالإخبار إنما هو عنهم وتقدير النفع والضر مرفوعا أو لاحقا خاص بهم لم يرد بذلك غيرهم فورد بخطاب المواجهة فقال "لكم " ولم يكن بد من ذلك ليعلم أن الإخبار عنهم والخطاب بما بعد لهم فجاء كل على ما يناسب ويجب ولا يتصور فيه العكس والله أعلم. الآية التاسعة وهى من تمام هذه التى فرغنا منها وهى قوله تعالى إثر قوله "ومن فى الأرض جميعا " فقال: "ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير " وقال تعالى فيما بعد: "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير " للسائل أن يسأل عن تعقيب الأولى بقوله: "يخلق ما والله على كل شئ قدير " وتعقيب الثانية بقوله "وإليه المصير ". والجواب عن ذلك: أنه سبحانه لما ذكر فى الأولى قدرته وعظيم سلطانه فى قوله: "قل من يملك لكم من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الأرض جميعا " وعرف سبحانه أنه لا معاند له ولا مانع لما يريده أشار بقوله "يخلق ما يشاء " إلى ما أفصح به قوله: "إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين " وقوله "إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد "فصارت الآية بهذا فى قوة أن لو قيل: قل من يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك من ذكر ويأت بآخرين سواهم فأعقب هذا بقوله "والله على كل شئ قدير " وهذا واضح. ولما قال فى الآية الأخرى: "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " ثم ذكر تعذيبهم بذنوبهم بأنه سبحانه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء أعقب هذا بما يشير إلى وقت التعذيب وظهرو المغفرة والمجازاة فقال "وإليه المصير " وهذا واضح أيضا فلما اختلف مقصود الآيتين أعقبت كل واحدة منهما بما يناسب مقصودها بالقهر فى الأولى

قوله عز وجل: "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يأت أحدا من العالمين "

والاختراع يناسب وصفه عز وجل بالقدرة كما أن التعذيب والغفران فى الثانية يناسبها ذكر المآل فجاء على ما يناسب. الآية العاشرة قوله عز وجل: "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يأت أحدا من العالمين " وفى سورة إبراهيم: "وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنائكم ويستحيون نسائكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم " فافتتح قول موسى لقومه فى سورة المائدة بندائهم ولم يقع نداؤهم فى سورة إبراهيم فيسأل عن الموجب لذلك وعن وجه الفرق؟ والجواب عن ذلك: أنه لما اعتمد فى آية المائدة تذكيرهم بضروب من الآلاء والنعم الجسام من جعل الأنبياء فيهم وجعلهم ملوكا وإعطائهم ما لم يعط غيرهم كا ذلك تعريفا باعتنائه سبحانه بهم وتفضيلهم على من عاصرهم وتقدمه من أمم الأنبياء قبلهم فناسب ذلك نداء موسى عليه السلام بقوله "يا قوم " بالاضافة إلى ضميره إنباء بالقرب والمزية وناسب هذا النداء المنبئ بالاعتناء ما تقدم من تخصيصهم بما عقب به النادء من التشريف بما منحهم من الآلاء والنعم الجسام ولما قصد فى آية سورة إبراهيم تذكيرهم بنجاتهم من آل فرعون وما كان يسومهم به من ذبح ذكور أبنائهم واستحياء نسائهم للمهنة ولم يذكر هنا شئ مما فى آية المائدة لما اقتصر عليه هنا من التذكير بمجرد الإنجباء فناسب ذلك الاقتصار على خطابهم دون النداء رعيا للمناسبة والله أعلم. الآية الحادية عشرة: قوله تعالى: "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شئ قدير " وفى سورة الفتح: "ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما " فقدم فى المائدة ذكر التعذيب وآخرفى سورة الفتح وأعقبت الأولى بقوله: "والله على كل شئ قدير " والثانية بقوله: "وكان الله غفورا رحيما " فهذان سؤالان. والجواب عن الأول: أنه لما تقدم آية المائدة قوله تعالى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا ... الآية " وقوله: "والسارق والسارقة ... الآية " وقد وقع فى الآيتين ذكر تنكيل الطائفتين ممن حارب أو سرق مقدما فقيل فى الطائفة الأولى: "أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو

ينفوا من الأرض " فهذا ما يعجل لهم فى الدنيا ثم أعلم تعالى بوعيدهم الأخراوى وجزائهم إن هم وافوا على فعلهم هذا مستحلين ذلك المرتكب أو غير مستحلين إن أنفذ الوعيد عليهم وأعقب تعالى بذكر إقالتهم إن تابوا قبل أن يقدر عليهم بما أعطاه الاشتثناء وأشار إليه قوله تعالى: "فاعلموا أن الله غفور رحيم " وقيل فى الطائفة الثانية: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " ثم قال: "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح " إذ أشار إلى من أقلع منهم تائبا وأصلح فإن الله يتوب عليه فقد تقدم فى هاتين القصتين ذكر الامتحان قبل ما به رجاء الغفران وهذا فى مآلهم الفدنياوى، ثم أعقب الآية التى أعلم فيها بانفراده بملك السماوات والأرض وأنه تعالى يعذب من يشاء فقد ذكر العذاب على المغفرة تنظيرا لما تقدم ومقابلة تطابق إذ كل ذلك بقره تعالى وسابق مشيئته فهذا وجه التقديم فى آية المائدة. وأما آية الفتح فقد تقدمها قوله تعالى: "ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا " وبالايمان رجاء الغفران وهو متشبث به كما أن العذاب مرتبط بالكفر ومناط به، فتقدم فى ذهه الآية مثمر الغفران وهو الإيمان وتأخر موجب التعذيب من الكفر والخذلان، ثم أعقب تعالى بقوله: "ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " فناسب بين الآيتين بالتناظر فى الجزاءين من المغفرة لمن أناب والتعذيب لمن كفر وارتاب وبحسب مشيئته سبحانه وما قدر لكل من الفرقين أولا. الآية الثانية عشرة قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ثم قال بعد: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " ثم قال بعد: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون "، فللسائل أن يسأل عن موجب افتراق هذه الأوصاف الوعيدية بوسم من وصف بها بما يستلزم العقاب الأخراوى من الكفر والظلم والفسق إن لم يكن إقلاع وغفران؟ ولم اختلفت مع وحدة الموصوفين بها؟ وكيف ورد فيها الأخف بعد الأثقل؟ وذلك ضد الترقى فى مقابل الوعيد الذى تشير إليه الصفات وهو الوعد. وطريقته الترقى من حال إلى أعلى وعلى ذلك وردت آى الكتاب كقوله تعالى: "وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات ... الآية " فبشروا أولا بالجنات ثم وصف بجرى أنهارها وبذلك حياتها ثم بموالاة رزقها وتشابهه لتأنس النفوس

بما ألقت لأن غير المألوف من المطعم ينافره الطبع ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فى الضب حين قرب إليه فرده "لم يكن بأرض قومى فأجدنى أعافه " ثم أتبع ذكر الرزق المأكول بالأزواج المطهرة فازداد النعيم واتسع الميلاذ ثم أعقب بالخلود وذلك كمال النعيم وقال تعالى: "يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم " فتأمل ورود الغفران بعد إصلاح الأعمال وكلاهما جزاء على ما منحوه من التقوى وسداد الأقوال وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم " وقال تعالى: "وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من الله أكبر " وقال تعالى: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه "، فتأمل ختام الجزاء المذكور فى آية الحديد بالغفران وعظيم ما يثمره والترقى من ذكر ما تقدمه إليه وختام هاتين الآيتين بعد الرضى وهو أعظم ما يعطاه أهل الجنة والحديث الصحيح فى ذلك مشهور ومفهوم الرضى لو لم يرد الحديث أعظم نعمة والترقى فى هذه الآى بين ولم ينكسر هذا المطرد فى آى الوعد على تكررها وعلى ذلك جرت آيات الوعيد، وإلى الوعيد مرجع آى المائدة المتكلم فيها لما ذكرنا من السببيه ومقابل الوعيد الوعد وقد اطرد ذلك فيه فى كل آي القرآن وكذلك فى الآى الوعيدية. ومن أبين الوارد فى ذلك وأقربه شبها بآى المائدة قوله تعالى: "كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق .. الآيات " إلى قوله: "وما لهم من ناصرين " فقد وقع فى هذه الآى ثلاثة أصناف اجتمعوا فى الكفر بعد الإيمان ثم اختلف حكمهم فيما بعد وقد تحصل فى وعيدهم الانتقال من أخف إلى أثقل فقال تعالى: "كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم " إلى قوله: "وأولئك هم الضالون " فهؤلاء مع وعيدهم وما ذكر من لعنهم قد أعقب ذلك بقوله تعالى: "إلا الذين تابوا " فهذا إبقاء خفت به حالهم عت المذكورين بعدهم وكذا ورد فى سبب هذه الآية أن الذى نزلت بسببه كتب بها إلى مكة بعد سؤاله هل له من توبة حين كفر بعد إسلامه ولحق بمكة فلما وفد عليها راجع الإسلام وحسنت توبته ثم قال تعالى: "إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا " فذكر هؤلاء بازدياد الكفر بعد الكفر المعقب به ايمانهم ثم أعقب ذلك

بقوله: "لن تقبل توبتهم " فأبقى الله تعالى على الأولين حين قال: "إلا الذين تابوا " واشتد حال المذكورين بعدهم حين قيل فيهم: "لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون " ثم قال تعالى: "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار " فأعلم من حال هؤلاء بموتهم على الكفر فانقطع رجاؤهم وهؤلاء أشد حالا ممن ذكر قبلهم فى الآية المذكورة ونص فى هذه الأخيرة فكانت أشد، فقد وضح فى هذه الآيات الانتقال من أخف إلى أثقل وهو مطرد فى الوعد والوعيد واللطف والتعريف بالامتنان والأحوال وما يرجع إلى ذلك وعلى هذا كلام العرب فى هذه الضرورة التى أشرنا إليها. ومن آى الامتنان قوله تعالى: "وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم " وفى هذه الآية الترقى وهى من قبيل ما ذكر وإنما يرد عكس الترقى فيذكر الأخف بعد الأثقل فى التكاليف والأوامر والنواهى وما يرجع إلى ذلك ومنه قوله تعالى: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ... الآيات " فهذا الضرب وما يرد منه ويرجع إليه لا يشترك فيه ما قدم من الترقى والانتقال من أخف إلى أثقل ومن حكم إلى ما هو أعلى منه، أما الوعد والوعيد فالمطرد فيهما وفى الضروب المذكورة معهما ما بيناه من الترقى وهو كلام العرب. فللقائل أن يقول إذا ثبت ذلك فما جوابكم عما ورد فى آية المائدة وظاهره على خلاف ما زعمتم إطراده؟ فأقول: أما القول بخروج آية المائدة عما اطرد فى نظائرها وأنها مما ورد فيه الأخف بعد الأثقل فمرتكب لا يسلم لقائله وغفلة عما عليه آى القرآن وكلام العرب وإن كان قد اعتمده بعض الجلة رحمهم الله والجواب عنه جواب عن السؤال الأول. وحاصل كلام من أشرنا إليه سؤالا وجوابا أن قال: إن قيل لم قال فى الأولى "هم الكافرون " وفى الثانية "هم الظالمون " والكفر أعظم من الظلم فما الفائدة فى ذكر الأخف بعد الأثقل؟ ثم جاوب بما معناه أنه لما تقدم الآية الأولى قوله تعالى: "فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا " وان ارتكاب شئ مما نهوا عنه وعدم خشيته تعالى تقصير فيما يجب له سبحانه وجحد الواجب له وإنكار نعمه تعالى كفر فأعقب بقوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ". ولما تقدم الآية الثانية قوله تعالى: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ... الآية "

فلم تتضمن هذه الآية غير الحقوق المتعلقة بالنفوس والوقوع فى شئ من ذلك يوجب إيلامها ودوام عقابها وذلك ظلم لها فأعقبت هذه بقوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " انتهى معنى كلامه وفيه ببادئ النظر مناسبة وملاءمة فى النظم. إلا أن ما تمهد من المطرد فى آى القرآن وما عليه كلام العرب فى الوعد والوعيد يرد ما اعتمده هذا القائل وقد تقدم فى قوله تعالى فى سورة البقرة: "وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ... الآية " ما فيه شفاء فيما ذكرته هنا. ثم إن الكلام لو كان جاريا على ما قال لبنى عليه اعتراض يلزمه تكميلا لما ألزم نفسه فى هذه الآى من توجيه الوارد فيها من الأوصاف الثلاثة وهو قصره السؤال والجواب على الوصفين من الكفر والظلم وكأن قوله تعالى فى الآية الثالثة بعد: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " غير مناط بما قبله وليس الأمر كذلك فإن المذكورين فى الآى الثلاث قد اجتمعوا فى الحكم بغير ما أنزل الله وقد شملهم ذلك فهم من حيث ذلك صنف واحد ومدار الآى الثلاث إنما هو على فعل يهود المنصوص على حكمهم بغير ما أنزل الله ومخالفتهم منصوص كتابهم فى الرجم وغيره، وما قبل هذه الآى وما بعدها لم يخرج عنهم، فهم أهل الأوصاف الثلاثة وقد نقل المفسرون عن ابن عباس أنه قال: الكافرون والفاسقون والظالمون أهل الكتاب وعن ابن مسعود: هو عام فى اليهود وغيرهم وقال الزمخشرى مشيرا إلى وجه الترتيب فى هذه الأوصاف والمرادون بها فقال: الكافرون والفاسقون والظالمون وصف لهم بالعتو فى كفرهم حين ظلموا بالاستهانة وتمردوا بأن حكمهم بغير ما أنزل الله فجعل الظلم استهانة والفسق تمردا، وقد فسر الفاسقين من قوله تعالى فى آية البقرة: وما يكفر بها إلا الفاسقون بأنهم المتمردون من الكفرة، قلت: جعل الزمخشرى الاستهانة مسيرة ظلمهم ومادته فظلمهم المسبب عنها بعد حصول كفرهم أشد من الكفر، ثم إن التمرد المعبر عنه فى الآية بالفسق وإن تقدمته الاستهانة وكانت كالمادة فإنه أشد من الاستهانة لأن التمرد تفعل من مرد أى عتا، والتفعل ينبنى علي التعمد والتعمل فتأمل حصول الترقى فى كلامه من أخف إلى أثقل وانسحاب كلامه على الأوصاف الثلاثة من الكفر والظلم والفسق وإن لم يفصح بسؤال ولا جواب وكثيرا ما يعتمده وينقل كلامه من قدمنا مأخذه فى هذه الآى وهو أبو الفضل بن الخطيب ثم أنه عدل عن اعتبار كلامه هنا وارتكب خلافه ولم يستوف توجيه الأوصاف الثلاثة وقصر السؤال على فصل ما بين الكفر والظلم دون الفسق، وأرى ذلك غير ما ينبغى والله أعلم.

وقد تعرض صاحب كتاب الدرة لهذه الآى من حيث خصوص مقصده وبنى جوابه على ذلك فانفصل فى الأوليين بأن الظلم فى الآية الثانية واقع على الكفر والظلم فهو أشد من الكفر مجردا هذا معنى ما أراد وقد جرى فيه على المعرض من الترقى إلا أنه لم يتخلص ما بعد ذلك وجعل الآية الثالثة منقطعة عن الآيتين قبلها وحاصل كلامه بالجملة أن ما تقدم من الوصف بالكفر والظلم خاص بيهود لتقدم ذكرهم قبل هذه الآيات وقوله تعالى: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور .. "إلى قوله نهيا لهم "فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا .. "إلى قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ولم يتقدم ذكرهم بغير كفرهم وتحريفهم من غير التفات إلى ذكر ظلمهم غيرهم إنما مجرد كفرهم ظلم لأنفسهم فأعقب هذا بقوله "هم الكافرون ". ثم لما اجتمع فى الآية الثانية ظلمهم لأنفسهم ولغيرهم بما ذكر من مخالفتهم فى القصاص المشار إليه بقوله: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس "الى آخره، أعقب هذا بقوله تعالى: "فأولئك هم الظالمون " لظلمهم أنفسهم بالكفر وزيادة ظلمهم غيرهم فكان أشد من وصف الكفر إذ هو كفر وزيادة فعبر بالوصف العام للكفر وغيره ثم لما أعقب بذكر إنزال الإنجيل وكان الكلام انقطع عما قبله ومن المعلوم أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون من غير الكافر وان لم تبلغ منزلته الكفر فهو فاسق لا كافر فقيل هنا: "فأولئك هم الفاسقون " انتهى معنى كلامه ثم أعقب هذا بأن قال: فقد بان لك أن كل موضع من الآى الثلاث أخبر فيه عن المذكورين قبل بالكفر والظلم والفسق، ولم يحصل غير ذلك. قلت فقد حصل من كلامه أن الكفر والظلم لفى الآيتين خاص بيهود وهم المقصودون بذلك وان الفسق يعمهم مع غيرهم وهو مأخذ بناه على ما حكاه من غيره من أن "من " فى ثلاث الآى موصولة بمعنى الذى واعتمده هو فى الأوليين واخنار فى الثالثة من شرطية ليحصل فى الموصولة خصوص وعهد فيمن تقدم وليحصل فى الشرطية عموم كما تقدم ثم أنه لم يتعرض لبيان ترق ولا انتقال. فإن قيل إنما بنى عليه كتابه على مقصد خاص وهو فرق ما بين المتشابهات من الآى ونص السؤال الذى فرض إن قال: لسائل أن يسأل فيقول: الموضع الذى وصف فيه من لم يحكم بما أنزل الله بالكفر هل باين الموضوع الذى وصف فيه تارك ذلك بالظلم والفسق؟ ثم أجاب بما تقدم فجوابه مطابق لما فرض من السؤال قلت هذا صحيح

ولكنه لم يتخلص له جوابه فيما بين الآيتين الا باعتماد طريقة الترقى وهو لم يقصده بسؤال ولا جواب وإنما قصد الفرق الموجب لاختلاف الوصفين فتحصل له بما فى الآيتين من الانتقال فلو اعتبر ذلك ومشى عليه فى الآية الثالثة لكان أنسب وأبين فى جواب ما فرض من السؤال مع زيادة فائدة أهم وأكبر ولما لم يلح ذلك ارتكب التفصيل فى الجواب فجعل "من " فى الآيتين الأوليين موصولة ليحصل من خصوص هاتين الآيتين بيهود ما اعتمده كما تقدم من كلامه وجعلها فى الآية الثالثة شرطية ليحصل له ما قصد من العموم، وليس ذلك كما ذهب إليه ولا انفصلت منها آية أخرى الا بما أعقبت به من الوصف وتوجيهه حاصل منه ما أراده على ما نبينه مع رعى الترقى الثابت على ما قد تقدم وهو أوضح فى توجيهه هذه الأوصاف وأولى فى الجواب عن عين ما فرض صاحب كتاب الدرة من السؤال ووصف يهود بالفسق أعظم من وصفهم بالظلم ووصفهم بالظلم أعظلم من وصفهم بالكفر وقد نقل المفسرون عن الحسن أنه قال: إذا استعمل فى نوع من المعاصى يعنى الفسق وقع على أعظم ذلك لنوع من كفر وغيره ثم فى آى سورة البقرة ما يبين وجه ختم آية المائدة بوصف الفسق قال تعالى: "ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات ... الآيات " إلى قوله: "وما يكفر بها إلا الفاسقون " فتأمل ما تضمنت هذه الآيات فقد ورد فيها بضع عشرة خصلة من شنيع مرتكبهم منها اتباع ما هوته أنفسهم أشار إليه قوله تعالى: "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم " ومنها استكبارهم وتكذيبهم الرسل وقتلهم إياهم وقولهم: قلوبنا غلف، إلى ما بعد من المرتكبات وقد وقع فى أول هذه الآى ذكر عيسى عليه السلام والتقفية من بعده بالرسل وفى آيات المائدة قوله تعالى: "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم " والضمير فى "آثارهم " لمن تقدم فى قوله تعالى: "يحكم بها النبيون الذين أسلموا " فورد مفصلا فى آى البقرة ما ورد مجملا فى المائدة وختمت آيات البقرة بقوله تعالى: "وما يكفر بها إلا الفاسقون " وآيات المائدة بقوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " فإلى مجموع ما فى آيات البقرة أشارت آية المائدة وختمت هذه من وصفهم بالفسق بما ختمت تلك وحصل من وصفهم به أنه أعظم من وصفهم بالكفر والظلم لأنه كفر جامع لكل شنيع من مرتكباتهم ولذلك اختير التعبير به عن مرتكب إبليس فى إبايته عن السجود واستكباره فقيل: "إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " فلم تقع هنا عبارة

بكفره ولا ظلمه لأن الفسق بما يعتضد به من القرائن أعظم من الكفر والظلم، وقد حصل الجواب عما فرض السؤال عنه من تقدم وزاد إلى ذلك بيان الترقى المطرد وهو السؤال الأول وأما التفصيل فخطأ بين فأقول وأسأل الله توفيقه إن المفسرين قد أجمعوا على أن الوعد فى هذه الآى يتناول يهود وقد ثبت فى الصحيح إنكارهم الرجم مع ثبوته فى التوراة وفعلهم فيما نعى الله تعالى عليهم من مخالفة ما عهد إليهم فيه ونص فى كتابهم حسب ما أشار إليه قوله تعالى: "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم " إلى قوله: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " إلى ما بعده وهذا كله من حكمهم بغير ما أنزل الله فهم الكافرون والظالمون والفاسقون ففيهم وبسبب مرتكبهم نزلت آيات المائدة ثم تقول مع ذلك أن الحكم إذا نزل بسبب خاص يمنع ذلك من دعوى العموم المنزل وهذا باتفاق من حذاق الأصوليين وقد رددوا التمثيل بشاة ميمونة وهذا مع عدم الفرائن. أما فيما نحن بسبيله فى آيات المائدة فقد عضد العموم فى ذلك وغيرها موضع من الكتاب والسنة فنقول بناء على ذكرنا أن هذه الآية وان نزلت بسبب جعل اليهود ومرتكبهم فى الرجم وغيره فإن ذلك عام فى كل من حكم بغير ما أنزل إليه، ما لم يفعل ذلك جاهلا غير متعمد للمعصية أو عاصيا متعمدا مع صحة اعتقاده وسلامة إقراره بلسانه، فقد حصت الشريعة هذين. وقد تعلقت الخوارج بعموم هذه الآى وأشباهها فى تكفيرهم مرتكب الكبيرة وليس شئ من ذلك نصا فى مطلوبهم وهو محجوبون بغيرها وإذا كانت هذه الآى على عمومها فيمن بينا، فمن فى المواضع الثلاثة شرطية وهى من المتفق عليه فى ألفاظ العموم عند أربابه وهم الجمهور وأما القول بتفصيل حكم "من " فى هذه الآى وانها من اجتماع المذكورين فى الآيات فيما تقدم من حكمهم بغير ما أنزل الله ووحدة السبب فى نزول الآيات فلا يصح بوجه فقصر السؤال على فصل ما بين الكفر والظلم دون الفسق كما ذكرنا عمن تعرض لهذه الآية من الجلة وجعله الآيتين الأوليين مما ورد فيه الانتقال من الأثقل إلى الأخف غير صواب والله أعلم. واطراد ما تقدم من الترقى والانتقال فى الوعد والوعيد وتحكيم ما تقرر من ذلك هو الحق الذى لا ينبغى أن يعدل عنه ثم أقول وأسأل الله التوفيق إن هذه الآى جارية على المطرد فى الوعد والوعيد والانتقال فى الوصف بالكفر والظلم والفسق من أخف إلى

أثقل جار على ما قد تبين بحول الله إنما يدخل الغلط من أخذ هذه الصفات مجردة عن القرائن وما يثمره الاشتراك فالكفر إذا ورد مجردا عن القرائن إنما يقع على الكفر فى الدين ثم إنه قد يقع على كفر النعمة ويفتقر إلى قرينة ومنه: "وفعل فعلتك التى فعلت وأنت من الكافرين ". وأما الظلم فلفظ مشترك فإذا ورد مجردا عن القرائن لم نصا فى شئ من مواقعه، وإنما يتخلص بالقرائن، قال تعالى: "إن الشرك لظلم عظيم " وقال تعالى مخبرا عن نبيه يونس عليه السلام: "سبحانك إنى كنت من الظالمين " ومعاذ الله من الكبيرة فكيف بالشرك الذى لا فلاح معه ولم يخالف أحد من أهل السنة ممن يعتمد نظره انهم معصومون من الكفر قبل الوحى وبعده وجمهورهم متفقون انهم معصومون من الكبائر، وجلة أهل السنة على عصمتهم مما فيه دناءة من الصغائر وبعضهم فى طائفة كبيرة من سيئة المتصوفه يقولون بعصمتهم من الصغائر على الإطلاق وكل هذه الضروب يصح وقوع اسم الظلم عليه وقوله تعالى: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة " أوضح شهادة على ذلك. أما الكفر فلا تنتشر مواقعه وكأم دلالته على كفر النعمة من قبيل ما يدل بتشكيك كدلالة موجود على العرض وأما الظلم فعلى ما تقدم فإذا اقترن بالظلم الكفر كان أعظم من الكفر. قال المفسرون فى قوله تعالى: "وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون " إنهم المتوغلون فى الظلم المكابرون فهذا كفر وزيادة وقد تقدم تسمية الشرك ظلما وأما الفسق فلم يرد فى القرآن واقعا على صغيرة وقد يقع على الكبيرة حيث يقصد تعظيمها كقوله تعالى: "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء "الآيى وقد ختمت بوصفهم بالفسق ولا أذكر غيرها وقد عد عليه السلام هذه فى السبع الموبقات وإنما يقع فى الأكثر على الكفر كقوله تعالى: "أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا " لأن المراد هنا الطرفان كقوله تعالى: "فمنكم كافر ومنكم مؤمن " وأكثر وقوعه فى القرآن إنما هو فى وصف يهود والمنافقين كقوله تعالى: "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون "، نزلت فى ابن صوريا لعنه الله، وكقوله تعالى: "منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون "، وكقوله تعالى: "فلا تأس على القوم الفاسقين "، وكقوله

الآية الثالثة عشرة: وهى تمام ما قبلها: قوله تعالى: "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم "

تعالى: "ولكن كثيرا منهم فاسقون ". فى بضع وعشرين آية. وورد الوصف بالفسق فى قوم لوط عليه السلام كقوله تعالى: "إنهم كانوا قوما فاسقين " وكقوله تعالى: "إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون "، وقد وردت فيمن ختم عليهم بالكفر قال تعالى: "كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا إنهم لا يؤمنون "، وقد تقدم وصف إبليس بالفسق فهذا الوصف لا يقع فى كتاب الله الا على ذوى التمرد من الكفرة وأكثر ذلك من يهود والمنافقين، ولم يجر الوصف بالظلم فى كتاب الله مجرى الفسق فى ما ذكرنا وقلما يوصف يهود والمنافقون وان كانوا ظالمين لأنفسهم الا بالفسق. فالظلم والفسق وان وقعا على المتوغلين فى الكفر حين ذكرنا وبالقرائن فالفسق أشد وأعظم ولا يوصف به من الكفرة فى كتاب الله الا شرهم. لما بلغ قوم نوح عليه السلام فى إصرارهم على الكفر وتماديهم عليه إلى قطع رجائه عليه السلام منهم حتى قال: "ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " قال تعالى فيهم: "إنهم كانوا قوما فاسقين " ولما ارتكب قوم لوط عليه السلام من فحش المرتكب بما لم يسبقوا إليه وسموا بالفسق ولما بلغ يهود والمنافقين ما أعلم به القرآن من حالهم واستحقوا اللعنة والغضب تكرر وصفهم بالفسق فقد وضح أبين الوضوح ان الظلم بالقرائن حسبما تقدم أشنع من الكفر مجردا وان الفسق أشد زأعظم إذا شهدت له القرائن فحصل بالانتقال فى آى المائدة من أخف إلى أثقل على المطرد فى آى الوعيد وفى المقابل من الترقى فى آى الوعد وان عكس الوارد على ما وضح لا يناسب والله أعلم. الآية الثالثة عشرة: وهى تمام ما قبلها: قوله تعالى: "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم " وفى سورة الحديد: "ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم " للسائل أن يسأل عن وجه ما اختلف فى هاتين السورتين من التفصيل فيمن قفى بهم؟ ووجه ما زيد فى آية الحديد من المقفى بهم قبل عيسى عليه السلام، ولم يقع ذلك فى سورة المائدة مع اتحاد ما قصد فى الموضعين من تواتر الرسل وتقفية بعضهم ببعض؟ والجواب والله أعلم: ان آية المائدة ورد الكلام فيما تقدمها فى بنى إسرائيل من لدن قوله تعالى: "ولقد أخذنا الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " إلى الآية التى نحن فيها ثم استمرت الآيات بعد فيهم إلى قوله تعالى:

"لتجدن أشد الناس عداوة .. " الآيات فأكثر آيات هذه السورة إنما نزلت فيهم تعريفا بمرتكباتهم وتحريفهم ونقضهم الميثاق وحكمهم بغير ما أنزل الله وفى أثناء ذلك تسلية نبينا صلى الله عليه وسلم عنهم كقوله تعالى: "يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر .. "الآية وقوله تعالى: "ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا "، وقوله تعالى: "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " وقوله بعد الآية المتكلم فيها: "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " وقوله: "فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " وفيما قبل هذا: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا ... "الآيات، ولم يقع فى هذه الآى ذكر لغير بنى إسرائيل ومن كان فيهم من الأنبياء من بعد موسى عليه السلام إلى قوله تعالى: "ثم قفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم " ولا توقف فى تعقيب الرسل والأنبياء بعيسى عليه السلام فلهذا لم يقع هنا ذكر واسطة. وأما آية الحديد فمقصدها غير هذا إذ هى وما اتصل بها قبلها وبعدها خطاب للؤمنين وعظات وترغيب وتمثيل وتحذير أن يكونوا كمن عرفوا به ممن طال عليه الأمد وقسا قلبه فلهذا وما يتلوه إلى أول قوله تعالى: "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " إلى آخر السورة خطاب للمؤمنين فيما لهم وعليهم وما وعدوا به وحذروا منه وكذا سورة الحديد بجملتها وهم المعرفون بقوله: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات "، فالمراد عامة الرسل عليهم السلام ممن كان من بنى إسرائيل وقبلهم تعريفا بما أنعم سبحانه على العباد من رحمتهم بإرسال الرسل ونص من جميعهم على نوح وابراهيم إعلاما بحالهما فى الرسل كما قيل: "وجبريل وميكائيل " بعد دخولهم تحت قوله: "وملائكته " وشمول لفظ الملائكة لهم ولغيرهم. ثم قال تعالى: "ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم " وذكر ما جعل فى ذريتهما من النبوة والكتاب، اتبع تعالى بتوالى الإنعام بمن بعدهم فقال: "ثم قفينا على آثارهم برسلنا " إشارة إلى من كان بعد نوح وابراهيم وبينهم وبين عيسى وذلك كثير ثم قال: "وقفينا بعيسى " وهذا مقصد مباين ما قصد بآية المائدة فاختلف ما ورد فى الموضعين لاختلاف المقصد فيهما ولم يكن عكس الوارد ليناسب والله أعلم بما أراد. الآية الرابعة عشرة: قوله تعالى: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم

قوله تعالى: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "

فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين " وفى سورة التغابن: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين "، فورد فى الأولى زيادة: "واحذروا " وزيادة: "فاعلموا " مع اتحاد ما تضمنته الآيتان من الأمر بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله والتحذير من التنكب عن ذلك والتولى. فيسأل عن ذلك؟ والجواب عن ذلك والله أعلم: أن آية المائدة لما أعقب بها آية الأمر باجتناب الخمر وما ذكر معها، ثم اتبع بعد ذلك بذكر العلة فى تحريمها فقال تعالى: "إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ... "الآية إلى قوله: "فهل أنتم منتهون " فختمت من التهديد بما يشعر بشديد الوعيد ناسب ذلك قوله تأكيدا لما تقدم من الاشعار بمخوف الجزاء قوله "فاحذروا " وقوله "فإن توليتم فاعلموا " لما فى ذلك من التأكيد لما تقدم. أما آية التغابن فلم يرد قبلها ما يستدعى هذا التأكيد ألا ترى الوارد فيها من قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شئ عليم " فلما لم يرد هنا نهى عن محرم متأكد التحريم بما اتبع النهى من التهديد والتأكيد لم يرد هنا من الزيادة المحرزة لمعنى التأكيد ما ورد هناك فجاء كل على ما يجب ويناسب وليس عكس الوارد بمناسب والله أعلم. الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وكذا فى سورة الممتحنة: "واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم " فورد فى هاتين الآيتين وصفه تعالى بهاتين الصفتين المشيرتين إلى العزة والقهر وإنما ورد المطرد فى الكتاب العزيز مهما جرى ذكر المغفرة طلبا أو إخبارا ورود ما به يقوى رجاء السائل ويطمع تعلقا به المتذلل الراغب كقوله تعالى: "إنه كان فريق من عبادى يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين " فقوله هنا: "وأنت خير الراحمين " توسل مناسب لما تقدم من طلب المغفرة والرحمة وفى سورة يوسف قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " وفى سورة القصص: "قال رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى فغفر له إنه هو الغفور الرحيم " فهذا كله مناسب للطلب وهو كثير فى الكتاب العزيز وجار على ما تمهد وأما وصفه سبحانه بالعزة والملكية والحكمة فإنما يرد حيث يراد معنى الاقتدار والاستيلاء والقهر وإحاطة العلم

وإفراده سبحانه بالخلق والأمر والربوبية والتعالى وما يرجع إلى هذا كقوله تعالى: "وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم " وقوله تعالى: "وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى فى السماوات والأرض ... " ثم قال تعالى: "وهو العزيز الحكيم " وقوله تعالى: "ولله جنود السماوات والأرض ... " ثم قال: "وكان الله عزيزا حكيما " وقوله تعالى: "سبح لله ما فى السماوات والأرض ... " ثم قال: "وهو العزيز الحكيم " وهذا كثير مطرد حيث يراد معنى القهر والملكية والإحاطة والاقتدار فللسائل أن يسأل عن وجه ورود آيتى المائدة والممتحنة معقبتين بما ذكر؟ والجواب عن ذلك والله أعلم: يتفصل فى الآيتين: أما آية المائدة فمبنية على التسليم لله سبحانه وأنه المالك للكل يفعل فيهم ما يشاء فلو ورد هنا عقب آية المائدة: "وإن تغفر لهم فأنت الغفور الرحيم " لكان تعريضا بطلب المغفرة ولم يقصد ذلك بلآية وإنما قيل ذلك على لسان عيسى عليه السلام تبريا وتسليما لله سبحانه وليس موضع طلب مغفرة لهم وإنما هو تنصل من حالهم وتسليم لله فيهم قال القرطبى رحمه الله: "لم يقل "الغفور الرحيم لأن مخرجه على التسليم ولأن فى ذكر الغفور تعريضا للسائل والكلام لتسليم الأمرين والحكمة تقتضيهما وكأنه قال: فالمغفرة لا تنقص من عزك ولا تخرج عن حكمتك. وأما قوله فى سورة الممتحنة: "ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم " فالجواب عندى هنا ان قوله: "إنك أنت العزيز الحكيم " مبنى على قوله: "لا تجعلنا فتنة للذين كفروا " فإن المراد لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق فيكون سبب فتنتهم فلا تفعل ذلك بنا فأنت القادر على كفهم ونصرنا عليهم فانك العزيز الذى الذى لا معارض لما تريده ولا مانع مما تشاؤه لما كان المؤمنون يعلمون أن ما يصيبهم من مصيبة إنما هى بما كسبت أيديهم سألوا المغفرة من مجترحاتهم وأورد سؤالهم مورد جمل الاعتراض فقدم وهو قوله: "واغفر لنا ربنا " فإن الكلام فى تقدير التقديم والتأخير: ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا إنك أنت العزيز الحكيم واغفر لنا ربنا، فقد قوله: "واغفر لنا ربنا " أثناء الكلام إحرازا لآدابهم ومعتقدهم الإيمانى فقد تبين حال المناسبة فى آية العقود وآية الممتحنة بين الآيتين وبين ما أعقبتا به وأنه لا يمكن على ما تقرر سواه والله أعلم بما أراد. فإن قلت فما جوابك عما ذكر عن بعض المتأخرين من أن جواب قوله تعالى:

"وإن تغفر لهم " محذوف أى وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ثم عطف عليه قوله: "فإنك أنت العزيز الحكيم " وأن المناسبة إنما تحصل بهذا التقدير؟. قلت: هنا خطأ من وجهين: توجيه المناسبة وتوجيه الإعراب أما المناسبة فقد تبينت على أتم وجه وأما الإعراب فيمتنع تقديره فيه على ما نبينه، ثم فى هذا المرتكب فساد المعنى إذ ليس الكلام واردا مورد الاستلطاف وقد بين، وأما امتناع ما اختاره فى الإعراب فمن وجهين: أحدهما التهيئة والقطع وهو متفق علي منافرته إذا أمكنت المندوحة والثانى وهو عاضد لهذا وقاطع فى المسألة وهو أن سيبويه رحمه الله قد نص أن العرب لا تتكلم به الا فى الشعر قال فى باب الجزاء: "وقبح فى الكلام أن تعمل أن أو شئ من حروف الجزاء فى الفعل حتى تجزمه فى اللفظ ثم لا يكون له جواب فيجزم ما قبله ألا ترى أنك تقول: آتيك إن أتيتنى ولا تقول آتيك إن تأتينى الا فى الشعر لأنك أخرت إن وما عملت فيه فلم تجعل لها جوابا ينجزم بما قبله فهكذا جرى هذا فى كلامهم وقد زاد الإمام بسطا فى الكتاب " فهذا قاطع من سيبويه وقد تقدم قبله ما يحصل فى الكلام من التهيئة والقطع وهو كاف لاتفاق النحويين على قبح التهيئة والقطع ثم قد انضم إلى ذلك من نص سيبويه: ان العرب لا تتكلم بهذا فلا تأتى بكلام قد انجزم فيه الفعل بأداة الشرط ثم لا تأتى بجواب مجزوم فى اللفظ أما إذا أتيت بالفاء فى الجةاب فلا خلاف فى هذا كما فى الآية وعلى ما قاله سيبويه رحمه الله كافة النحويين من متقدميهم ومتأخريهم فوضح خطأ هذا القول.

سورة الأنعام

سورة الأنعام الآية الأولى منها قوله تعالى: "فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون " وفى سورة الشعراء: "فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون " فانفردت آية الأنعام بزيادة قوله "بالحق لما جاءهم " وبقوله "فسوف " من حرفى التنفيس بدل السين فيسأل عن وجه ذلك؟ والجواب والله أعلم: أن آية الأنعام لما ترتبت على إطناب وبسط آيات من حمده سبحانه وانفراده بالخلق والاختراع فقال تعالى: "الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " فذكر سبحانه خلق السماوات والأرض وخلق الظلمات والنور فالظلمات عن أجرام هذه المخلوقات والأنوار عن أجرام ما جعل فى السماوات وزينها بها من شمس وقمر وكواكب للقتداء والضياء. ثم ذكر خلقهم كم طين وقد تردد فى الكتاب العزيز تنبيه المكلفين بما صدرت به سورة الأنعام فقال تعالى: "إن فى السماوات والأرض لآيات للمؤمنين " وقال تعالى: "تبارك الذى جعل فى السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ". ثم قال بعد آية الأنعام: "وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين " فلما تقدم هذا الإطناب ناسبه ما أتبع به من قوله تعالى: "فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا يستهزئون " فناسب الإطناب الإطناب. وقال تعالى قبل آية الشعراء: "تلك آيات الكتاب المبين " ثم اعترض بتسلية نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: "لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " وليس هذا المعترض به مما ذكروا به ثم قال بعد: "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " وهذا راجع إلى تسليته عليه السلام فلم يبق مجردا لتذكيرهم سوى قوله تعالى: "تلك آيات الكتاب المبين " وما بعد من وعيدهم وتهديهم بقوله: "وما يأتيهم من ذكر .. "الآية، وهذا إيجاز فناسبه ما نيط به من قولهم: "فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون " إيجازا لإيجازا وإطنابا لإطناب. الآية الثانية: قوله تعالى: " ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فى الأرض ما لم

نمكن لكم " وفى سورة الشعراء: "أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم "، للسائل أن يسأل هنا عن شيئين: أحدهما ثبوت الواو العاطفة فى آية الشعراء وسقوطها من آية الأنعام؟ والثانى وجه اختصاص كل واحدة منهما بموضعهما وإبداء المناسبة؟ والجواب عن ذلك: إن آية الأنعام لم يتقدم قبلها التنبيه على ما به التذكار والاعتبار مفصحا به تنبيها مع تخويف وتهديد متأكد مكرر يستدعى التقريع والتوبيخ بمقتضى الهمزة الداخلة على واو العطف كما فى سورة الشعراء وان كان المتقدم فى كل واحدة من السورتين متضمنا ما يحصل به الاعتبار مع ما فى المتقدم فى الأنعام من التفصيل والإطناب إلا أن المتقدم فى سورة الشعراء أوضح وأنص من حيث التخويف لعدم الاعتبار بالدلائل المنصوبة مشاهدة للمعتبرين فلما لم يكن وضوح التنبيه فيما قبل آية الأنعام كوضوحه فى السورة الأخرى بما انجر معه من التخويف المتكرر وإنما المتقدم قبل قوله: "ألم يروا " إيماء إلى الاعتبار بأحوال القرون السابقة وليس كالواقع قبل آية الشعراء لم يرد ما بعده مما هو تنبيه مخوف معطوفا عليه إذ لا يناسبه "كفروا " المتقدم من شديد التخويف المنجر فيما بعده أما آية الشعراء فإن قوله تعالى قبلها: "تلك آيات الكتاب المبين " تحريك وتنبيه، ثم إن ما يتلوه من قوله تعالى: "لعلك بلخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " وإن كان تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم فى طيه أعظم وعيد وتهديد لمن اعتبر ثم بعد ذلك قوله تعالى: "إن نشأ عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " إلى ما بعده فهذا أوضح تنبيه بما صحبه من مخوف التهديد فعطف عليه قوله: "ألم يروا إلى الأرض كم آتينا فيها " ... الآية وناسبه أوضح مناسبة. فصل: ومما تعلق بهذه الآية من المغفل زيادة "من " فى قوله تعالى: "ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فى الأرض " وفى سورة السجدة: "ألم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم " وفى ص: "كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ... ". وردت هذه الآى الثلاث بزيادة "من "فيها وسائر ما ورد فى القرآن من مثل هذه الآى لم ترد فيها "من "كقوله تعالى فى سورة مريم: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا " وفى آخرها: " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد " وفى طه: "أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم "، وفى يس: "ألم يروا من أهلكنا

قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون "وفى سورة ق: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا " فهذه خمسة مواضع لم ترد فيها "من " فيسأل عن وجه زيادتها فى الآى الثلاث الأول وسقوطها فى هذه الخمس مع اتحاد المقصود أو تقاربه؟ والجواب والله أعلم: أن "من " إنما تزاد فى هذه الآى حيث يراد تأكيده ضمن الآى من المعطيات ولإشارة إلى الوعيد وهى أبدا فى أمثال هذه المواضع محرزة معنى التأكيد لا تنفك عن ذلك ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد فى هذه الآى ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين فى أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم فى اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد فى الآى الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ما ورد من الحذف ولإثبات فى هذا الحرف ثم نقول: أما آية الأنعام فقد تقدمها قوله تعالى: "الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور "، وقد كانوا يعترفون بأنه تعالى الخالق "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " ثم تتابع ما بعد على هذا إلى قوله "وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين " على بيان الأمر ووضوحه ثم قال "فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون " فحصل التسجيل ببقائهم على اظفعراض وإنفاذ الوعيد عليهم ولا أشد من هذا ونحوع بل مثله فى الشدة والإشارة إلى إنفاذ الوعيد قوله تعالى فى سورة السجدة "ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها " فاكتنف الآية ما تضمنته الآيتان من الوعيد والتهديد فناسب ذلك ما اقتضته زيادة "من " من مناسبة التأكيد فقيل "ومن قبلهم " وأما آية ص فحسبك ما تضمنته من أولها إلى قوله "وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق " ثم قال تعالى مخبرا عن حالهم فى تكذيبهم واستبعادهم "عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب " ولعظيم تمردهم ووعيدهم المحكى عنهم فى هذه الآى ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الصبر فى قوله تعالى "اصبر على ما يقولون " ثم أعقب تعالى بقصة داود عليه السلام أعلاما لنبيه بأن ذلك مراده منهم بما قدر لهم فى الأزل فقد سخر الجبال والطير لداود وألان له الحديد فلو شاء لهدى هؤلاء فلعظيم ما ورد فى هذه الآى

من مرتكبات كفار قريش وغيرهم لذلك ما ورد التأكيد بزيادة "من " فى قوله بعد ذكر شقاقهم واغترارهم "كم أهلكنا من قبلهم من قرن " فهذا وجه زيادة "من " فى هذه الآى أما الآى الأخرى خمستها فلم يرد فيها ولا فيما اتصل بها ما ورد فى هذه من التغليظ فى الوعيد ومتوالى التهديد وإن كانت قل ما ترد إلا لذلك ولكن اشتداد التهديد إنما هو بحسب ما يقارن أو يكنف أو يتقدم أو ينجر معها من التغليظ فى الوعيد فبحسب ذلك يقوى الرجاء أو يضعف وإذا تأملت قوله تعالى فى الآية الأولى من سورة مريم "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا " لم تجدها فى نفسها أو فيما انتظم معها متقدما أو متأخرا توازن فى التهديد واحدة من تلك الآى الثلاث ألا ترى فيما نوظر بين المعنيين بهذه الآية والمهلكين قبلهم من القرون السالفة وأن ذلك إنما هو فيما غرهم من سعة الحال وكثرة المال حسبما أشار إليه قوله تعالى عن المهلكين قبل هؤلاء أنهم كانوا أحسن أثاثا ورئيا فهذه الآية كقولهم "نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين " ولو استبصروا لاهتدوا من قوله تعالى "إنما نملى لهم ليزداوا إثما " ومع ما أعقبت هذه الآية من المنتظم معها من قوله "فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا " فليست فى التغليظ كتلك الآى إذا حقق ما قبلها وكذلك الآية الثانية وهى قوله "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد ... "الآية فى نفسها وفيما انتظمت به وأما آية طه فأوضح فى إيحاء الرجاء فى نفسها وما نتظمت به ألا ترى ما قوله تعالى "أفلم يهد لهم " وما تضمن تذكيرهم بهذا إلى قوله "لأولى النهى " من عظيم الحلم وعلى الرفق وكذا ما بعد فإن هذا من منتظم تلك الآى الثلاث وأما آية يس وآية ق فأوضح فيما ذكرنا وتأمل مفهومها وما انتظم معهما وإنما حاصلهما بما اتصل بهما تحريك للاعتبار وتذكير بالالاء والنعم وتأمل قوله فى المنتظم بآية يس والمعقبة به من قوله " أفلا يشكرون " وعلى ما يترتب الشكر إذ لا يمكن إلا مرتبا على حصول الإيمان والتصديق وقوله عقب آية ق " إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " فقد وضح ما بين الضربين وورود كل منهما على ما يناسب ويجب والله أعلم. الآية الثالثة من سورة الأنعام قوله تعالى: "قل سيروا فى الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين " وفى سورة النمل " قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة " وفى سورة

الروم: " قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين " هنا سؤالان أحدهما: اختلاف حالاتهم فيما وسموا به فى أعقاب الآى من التكذيب والاجرام ومن التعامى عن النظر فى البدأة والنشأة الآخرة والاشراك مع أن الأمر للكل باعتبار إنما وقع بلفظ ولحد وهو قوله: "قل سيروا فى الأرض فانظروا " ثم تنوع ما أحيل عليه فى النظر واختلف وإذا لحظ الجواب عما وقع به التعقيب فى كل واحدة من هذه الآى تفصل إلى أربعة أسئلة والسؤال الثانى: اختلاف حرف العطف. والجواب عن السؤال الأول على رعى التفصيل أنه لما تقدم آية الأنعام قوله تعالى: "فقد كذبوا بالحق لما جاءهم "والإشارة إلى أصناف المكذبين من المخاطبين وغيرهم ثم أشير إليهم بعد فى قوله: "ألم يروا كم أهكلنا من قبلهم من قرن "وكلهم إنما أهلك بإعراضه وتعاميه المؤديين إلى تكذيبه أح - يل من بعدهم على كل حال من تقدمهم فيما ذكر مكتفى الإعراض والتعامى بما تقدم فى الآى المذكورة قبل ومفصحا بالتكذيب المسبب عن ذلك فى قوله تعالى: "ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين " والتحم هذا بقوله: "فقد كذبوا بالحق لما جاءهم " على أتم مناسبة وأصحها. وأما آية النمل فمنزلة على ما تقدم من قوله تعالى: "بل ادارك علمهم فى الآخرة بل هم فى شك منها بل هم منها عمون " وإنكارهم العودة بقولهم: "أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين " وذلك بعد ما ذكر مما بسط لهم من واضح الدلالات وقدم لهم الشواهد البينة من لدن قوله تعالى: "أم من خلق السماوات والأرض " ... الآية المتكلم فيها فذكروا بما يشاهدونه ويعلمون أن آلهتهم لا تفعل ذلك فكان مرتكبهم بعد هذا إجراما وتعاميا عن الاعتبار بما ذكروا به فقيل لهم: سيروا فى الأرض فانظروا عواقب أمثالكم من المتعامين عن النظر ولم يقع قبل تفسير صريح وتكذيب وقد بسط من الاعتبار فى هذه الآى ما لم يبسط قبل آية الأنعام، فورد التعقيب هنا بوسمهم - أعنى الممحال - بالإجرام فقيل: "انظروا كيف كان عاقبة المجرمين " مناسب لما تقدم من اجترامهم مع الوضوح ومتابعة التذكير وإرااءة البراهين. وأما آية العنكبوت فإن الله سبحانه لما قدم ذكر العودة الأخراويه بما يقوم مقام الإفصاح وتحصل المقصود من ذلك فى أربعة مواضع من هذه السورة على القرب

والاتصال منها قوله تعالى: "من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت " قوله تعالى: "وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون " وفوله: "واشكروا له إليه ترجعون " وقوله: "ألم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده " ولم يتقدم فى السور الأخر على الاتصال مثل هذا فناسبه إحالتهم وتذكيرهم بالاستدلال بالبدأة على العودة فقال تعالى: "فانظروا كبف بدأ الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة ". وأما آية الروم فقد تقدم قبلها قوله: "ولا تكونوا من المشركين " وقوله: "إذا فريق منهم بربهم يشركون " قوله: "أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون " قوله: "هل من شركائهم من يفعل من ذلكم من شئ سبحانه وتعالى عما يشركون " فلما تقدم ذكر من امتحن بالشرك وسوء عاقبتهم ولم يتقدم مثل هذا فى السور المتقدمة ناسبه ما أعقب به من قوله: "قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين " فجاء كل على ما يجب. وأما ورود ما أعقبت به كل آية من هذه من المأمور بالنظر فيه والاعتبار به بالفاء من حروف العطف سوى آية الأنعام فذلك بين لأنهم أمروا أن يعقبوا سيرهم بالتدبر والاعتبار وحصر نظرهم واعتبارهم فى المعقب المذكور بعد الفاء ولم تقع إشارة إلى اعتبارهم بغير ذلك وأما آية الأنعام فإنها افتتحت بذكر خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور وإنما ذكر هذا من الخلق الأكبر ليعتبر بذلك فإنه أعظم معتبر وأوسعه قال تعالى: "لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس " فكأن الآية فى قوة أن لو قيل: سيروا فى الأرض فاعتبروا لخالقها، وكيف دحاها لكم وذللها لسكانكم، وجعل فيها رواسى أن تميد بكم وفجر فيها الأنهار إلى عجائب ما أودع فيها وكيف جعل السماء سقفا محفوظا بغير عماد وزينها بالنجوم لتهتدوا بها فى الظلمات وجعل الشمس والقمر حسبانا وضياء وزينا للسماء الدنيا وكيف محا آية الليل لمصلحة العباد وجعل آية النهار مبصرة إلى ما لا يحصى من منافعها وعجائبها لمن منح الاعتبار قال تعالى: "إن فى السموات والأرض لآيات للمؤمنين " ثم انظروا عاقبة من كذب ونبه فلم يعتبر فعطف هذا بثم المقتضية مهلة الزمان حيث يراد ذلك. وتفخيم

الأمر وتفاوت المنظور وتجريد الأمر لكل من الضربين مما قبلها وما بعدها فليس موضع تعقيب بالفاء إذا لم يرد أن يكون سيرهم لمجرد الاعتبار بمن كذب فأخذ تذيبه فقط بل الضربين مما ذكرناه ومهدناه وفى كل آية منهما أشفى دلالة وقصد فى الآى الأخر تذكيرهم واعتبارهم بأحد المكذبين وهو المعقب بالفاء فلما افترق القصدان عطف كل بما يناسب والله أعلم. الآية الرابعة: قوله تعالى: "وذلك الفوز المبين " وفى الجاثية: "ذلك هو الفوز المبين " بزيادة "هو " وسقوط واو العطف. لما تقدم فى سورة الأنعام قوله تعالى: "قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم " ثم أعقب بقوله تعالى: "من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه " والمراد من يصرف عنه العذاب فى الآخرة فقد رحمه عطف عليه قوه: "وذلك الفوز " وكان الكلام فى قوة قوله فقد رحم وفاز كما فى قوله: " فمن زحزح عن النار وأدخل النار فقد فاز " والفاء هنا وفى قوله: "فقد رحمه " جواب الشرط والفوز مسبب عن الرحمة فاكتفى بذكره فى آية آل عمران وذكرا معا فى آية الأنعام فعطفه عليه بين ولم يتقدم من أول السورة إلى هنا ما يتوهمه العاقل فوزا فيحترز منه بما يعطيه ضمير هو من المفهوم فلم يقع الضمير هنا. أما آية الجاثية فقد ورد قبلها قوله تعالى مخبرا عن قول منكرى البعث: "ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر " فأفهم قوله "ما هى إلا حياتنا الدنيا " أن هذه الحياة هى الحاصلة لهم ولا حياة وراءها فمن تنعم فيها فذاك فوزه فأخبروا أن الأمر ليس كما ظنوه وذكر تعالى أمر الساعة وتفصيل الأحوال فيها وقال: "فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم فى رحمته " ثم قيل "ذلك هو الفوز المبين " لا الحياة التى هى لهو ولعب فكأن قد قيل: ذلك الفوز لا ما ظننتموه فوزا فأحرز مفهوم الضمير هذا المقصود ولم يتقدم فى آية الأنعام ما يستدعيه كما لم يتقدم فى آية الجاثية ما يستدعى العطف فجاء كل على ما يناسب والله أعلم. الآية الخامسة قوله تعالى: "وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير " وفى سورة يونس: "وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده

وهو الغفور الرحيم "، فورد جواب الشرط الثانى فى الآية الأولى بقوله: "فهو على كل شئ قدير " وفى الثانية بقوله: "فلا راد لفضله " وقال فى الأولى: "وإن يمسسك " وفى آية يونس: "وإن يردك " وأعقبت آية يونس بقوله: "وهو الغفور الرحيم " فخص هاتين الصفتين العليتين من صفاته تعالى فهذه ثلاث أسئلة فللسائل أن يسأل عن توجيهها وموجب ما ورد عليه ما ذكر؟ والجواب عن الأول والله أعلم أن مدار الأية الأولى وهى آية الأنعام على أنه سبحانه المنفرد بالخلق والاختراع والمتصرف فى عباده بما يشاء والقدير على كل شئ ونفى هذه الصفات عمن سواه سبحانه وتنزيل هذا عل ما افتتحت به السورة من قوله تعالى: "الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور " وقوله: "هو الذى خلقكم من طين " وقوله "وهو الله فى السماوات وفى الأرض يعلم سركم وجهركم " وقوله فيمن أهلكه من القرون بكفرهم: "مكناهم فى الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا .... "الآية وقوله: "قل لمن ما فى السماوات والأرض ... "الآية وقوله: "قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ... "الآية فدارت هذه الآى كلها على التعريف بوحدانيته تعالى وانفراده بخلق الأشياء وملكها وقهرها ولم يقع فيها تعرض إلى أن أحدا من خلقه يمنع أو يدفع أو يتعاطى استبدادا بشئ وإن كان قد يفهم بعض ذلك من الجارى أثناء الكلام كقوله: "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " وقوله: "قل أغير الله أتخذ وليا ... "الآية بل فى قوة الجارى فى هذه الآى أن المشار إليهم بمخالفة مقتضاها أخلدوا إلى ترك التغير واشبهوا البهائم فى البعد عن النظر وكأنهم يرون أن الأفعال وما يتجرد فى العالم من المدركات المشاهدات من الأجسام والأعراض على كثرة تنوعها واختلاف شيآتها وأشكالها زجدت بأنفسها لا عن فاعل تقدمها أوجدها بالقدرة والاختيار بل تكونت بأنفسها فقوبل مرتكبهم بالتعريف بقدرته تعالى على كل شئ وأنه الموجد لما فى العالم العلوى والسفلى وقيل له عليه السلام: "وإن يمسسك الله بضر .. "الآية إعلاما بأن ما يكون من هذا فمنه تعالى لأنه المنفرد بالخلق والقدير على كل شئ فهذا حاصل ما تقتضيه آية الأنعام. وأما آية يونس فقد ذكر قبلها حال من ظن أن غيره تعالى يضر أو ينفع قال تعالى:

"ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " فقد نسبوا لهم النفع بالشفاعة وقال تعالى: "ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم ... "الآية وقال تعالى: "قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ... "الآية وقال تعالى: "قل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده " وقال تعالى: "قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق " فدارت هذه الآيات على أنهم توهموا نفع ما اتخذوه معبودا من شركائهم فبطل توهمهم واضمحل باطلهم واتبع ما تقدم بقوله جل وتعالى لنبيه عليه السلام: "ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك " ثم بقوله تعالى: "وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله " وحصل من هذا أن كل ما عبد دونه سبحانه وتوهم أنه يضر أو ينفع ليس كما ظنوه قال تعالى: "وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه " فناسب ما تقدم من التنصيص على انفراده تعالى بالخلق والأمر. والجواب عن السؤال الثانى والله أعلم: أن قوله تعالى هنا: "وإن يردك بخير " ولم يقل: "وإن يمسسك بخير " كما فى آية الأنعام أنه تقدم قبل هذه الآية قوله تعالى: "إن الذين حقت كلمة ربك لا يؤمنون ... "الآية فهو إعلام منه سبحانه بجرى الخلائق على ما قدر لهم أزلا وسبق به حكمه تعالى ثم أعقب بقوله تعالى: "ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا " فهذا تأكيد للغرض المذكور من جرى العباد على ما قدر لهم وما شاءه سبحانه فيهم وإن ذلك لا يرده راد ولا يعارضه معارض فناسب هذا قوله تعالى: "وإن يردك بخير فلا راد لفضله " أتم مناسبة ثم وقع بعد هذا قوله تعالى: "يصيب به من يشاء من عباده " وإصابته سبحانه من يشاء بالخير هو المراد بقوله فى آية الأنعام: "وإن يمسسك بخير " فاجتمع فى آية يونس الأمران معا وكأن قد قيل: وإن يمسسك بخير ويردك به فلا راد لما أصابك به وأراده لك ففى هذه الآية من إمعان المقصود وتأكيده ما ليس فى آية الأنعام ليطابق هذا التأكيد والإمعان ما تقدم من قوله تعالى: "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون " وقوله: "ولو شاء ربك لأمن من فى الأرض كلهم جميعا " ولم يتقدم فى آية الأنعام مثل هذا فوقع الاكتفاء هناك بقوله: "وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير " فجاء كل على من هذا على أتم مناسبة وأوضح ملاءمة والله أعلم.

قوله تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون "

والجواب عن السؤال الثالث أنه لما تقدم هذه الآية من مؤثرات الخوف والجهل ومهيجات الرهب واالخشية ما اقتضاه الاخبار بغيبة للقدر وجهل للمشيئة فى قوله: "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك. .. "الآية وقوله: "ولو شاء ربك لأمن من فى الأرض كلهم جميعا " وعظم موقع ذلك على المؤمنين وكان مع ذلك للوفاء بمزدلفات الأعمال مما لا يحصل بالآمال أنسهم سبحانه بذكر الصفتين العليتين فقال: "وهو الغفور الرحيم " فناسب ورود الوصفين ما تقدم والله أعلم بما أراد. الآية السادسة قوله تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون " وقال فيما بعد من هذه السورة: قوله تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ " وفى سورة الأعراف: قوله تعالى: "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون " وفى سورة العنكبوت: قوله تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه " وفى سورة الصف: قوله تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام " وفى هذه الآيات سؤالان: أحدهما وجه ورود الآيات فى هذه المواضع بهذا النص من قوله "فمن أظلم ممن افترى على كذبا " وتعقيب كل آية منها بما اتصل بها والسؤال الثانى: تعريف الكذب فى سورة الصف وتنكيره فيما عداها. والجواب عن الأول: أن الأولى تقدمها قوله: "فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا يستهزئون " ثم قال تعالى بعد: "ولو أنزلنا عليك كتابا فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين " فحصل من هذا افتراؤهم وفى قولهم: إنه سحر. وتكذيبهم قال تعالى: "فقد كذبوا بالحق لما جاءهم " وجعلهم مع الله آلهة سواه فجمعوا بين الشرك والتكذيب فناسب هذا ورود قوله تعالى: "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " على طريقة التعجب من مرتكبهم وسوء حالهم أى: من أظلم يا محمد من هؤلاء الجامعين بين الافتراء والشرك والتكذيب مع وضوح الشواهد وكثرة الدلائل الواردة أثناء هذه الآى مما لا يتوقف فيه معتبر فقد وضح تناسب هذا كله وحق لمرتكبه الوصف بالظلم الذى لا يفلح المتصف به وهو ظلم الافتراء على الله والشرك والتكذيب.

وأما الآية الثانية من سورة الأنعام فإن قبلها ذكر الرسل عليهم السلام وتعقيب ذكرهم بقوله: "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " ثم قال تعالى: "وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ " فأعظم تعالى مرتكبهم فى هذا وفى تعاميهم عن التوراة وما تضمنته من الهدى والنور ثم أعقب ذلك بقوله تنزيها للرسل عليهم السلام عن الافتراء على الله سبحانه وادعاء الوحى فصار الكلام بجملته فى قوة أن لو قيل: ألا ترون ما تضمن كتاب موسى من الهدى والنور والبراهين الواضحة وهل يمكن أحد أعظم افتراء من هذا ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه بشئ " فهذا أوضح شئ ولما لم يتقدم فى الآية الأولى ذكر الأنبياء والوحى إليهم كما فى هذه لم يناسبها ما ورد هنا فجاء كل على ما يجب ويناسب والله أعلم. وأما آية الأعراف فتقدمها وعيد من كذب بآيات الرسل واستكبر عنها وأنهم أهل الخلود فى النار فناسب هذا قوله تعالى: "فمن أظلم ممن افترى على كذبا أو كذب بآياته .. "الآية. وأما آية يونس فتقدم قبلها قوله تعالى: "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله " إلى آخر الآية ولا أظلم ممن قال من فصحاء العرب العالمين بمقاطع الكلام وجليل النظم وعلى البلاغة: "ائت بقرآن غير هذا " أو بدله مع علمهم بعلى فصاحته واعترافهم بالعجز عنه فجمعوا بين إنكار ما علموا صدقه ممن عرفوا على حاله وجليل منصبه فإخباره تعالى عنهم بقوله: "فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " فجمعوا بين الانكار وبين وقولهم فى إنكارهم "أو بدله " فلا أظلم من هؤلاء ثم فى إنكارهم وقولهم "أو بدله " أعظم إقدام وأوضح إجرام لأنه كفر على علم فلهذا أعقبت الأية هنا بقوله: "إنه لا يفلح المجرمون " ولم يقع قبل التى فى سورة الأنعام وقبل آية الأعراف مثل هذا الاقدام على مثل هذه الجريمة فى القول وإنما تقدم عداوتهم زظلمهم أنفسهم فى مرتكباتهم وتعاميهم فناسبه قوله: "إنه لا يفلح الظالمون " وأما آية العنكبوت وآية الصف فجوابهما بين مما تقدم. وجواب ثان: وهو أنه قد تقدم مما به الاعتبار فى الأولى من آيتى الانعام وآية يونس ما فيه كفاء وإن تنوع فقد جنعه جامع الاعتبار وفى كل شفاء لمن وفق للاعتبار به

فمن عدل عنه فظالم إلا أن الاجترام يبنى على أشد من الظلم وإن كان قد أجرى مع الظلم عدم الفلاح إلا أن الجرم أنبأ بالشدة وأخص بالاشعار بشناعة المرتكب وتقدم أن ترتيب السور والآى مراعى وعظيم الموقع وأنه لا يعارضه ترتيب النزول فإذا تقرر هذا فنقول: قدم وصفهم بالظلم ثم تكرر ذلك ممن افترى أو كذب وقد وصف أولا بالظلم فوصف ثانيا بالاجترام ترقيا فى الشر كما يترقى فى الخير وأيضا ليناسب ما وقع فى يونس متقدما من قوله: "وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزى القوم المجرمين ". والجواب عن السؤال الثانى أن آية الصف قد انفردت عن كل ما تقدم من هذه الآى بذكر تعيين المفترى فيه الكذب منطوقا به من غير الإجمال الوارد فى الآى الأخر بل ورد على التفصيل والتعيين وذلك بين من قوله تعالى: "وإذ قال عيسى بن مريم يا بنى إسرائيل إنى رسول الله اليكم لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد " ثم قال: "فلما جاءهم بالبينات " أى فلما جاءهم الرسول الذى سماه لهم عيسى بالبينات والدلائل القاطعة والتصديق لما بين يديه من التوراة قالوا هذا سحر مبين فافتروا الكذب وارتكبوا البهت فيما لا توقف فيه ولا اشكال فقيل متعجبا من حالهم على الجارى فى لسان العرب: "ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب " معرفا بأداة العهد ليقوم مقام الوصف حتى كأن قد قيل هذا الكذب الذى لا امتراء فيه ولا توقف ولما لم يرد فى الآى الأخر ما تقدم هنا كان الوجه أن يرد منكرا كما ثبت فورد على ما يناسب ويجب والله أعلم. الآية السابعة: قوله تعالى: "ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ... "الآية وفى سورة يونس: "ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كلنوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون " فورد الفعل فى الأولى مسندا إلى ضمير المفرد وفى الثانية إلى ضمير جماعة مع استوائهم فى الجمعية ومع اتفاق الغايتين فى أن استماعهم مع قصدهم إياه لا يجب عليهم فللسائل أن يسأل فيقول: لم ورد فى الأولى "ومنهم منيستمع إليك " وفى الثانية "ومنهم من يستمعون إليك " مع اتفاق الآيتين فيما ذكر؟ والجواب والله أعلم: أن نقول "من " لفظ مفرد ويصلح للاثنين والجميع. على هذا وضعه فإذا ورد فى تكيب كلامهم فأول ما يحمل على السابق من حكمه اللفظى من

الافراد فلهذا ترد صلته إن كان موصولا أو صفته إن كان موصوفا أو خبره إن كان شرطا أو استفهاما كصلة "الذى "…الواقع على المفرد فتقول فى الصلة والصفة: من الناس من يفعل كذا وتقول فى الاستفهام: من يفعل ذلك؟ فيرفع الفعل ضميرا مفردا وسواء كان المراد فى المعنى واحدا أو أكثر قم قد يكون فيما اتصل بالكلام بعد ضمير أو غيره يراعى فيه معنى من حيث يراد أكثر من واحد فيأتون بع على معنى "من " لا على لفظها كقولك: "من الناس من يفعل كذا ويخطئون فى ذلك ومنهم من يفعل كذا مستمرين على فعلهم يبين ضمير الجمع فى قولك: وهم يخطئون والحال فى قوله: مستمرين على فعلهم أن المراد أكثر من واحد وعلى هذا كلام العرب فى الكثير المطرد وعيه جاء القرآن قال تعالى: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " ثم قال: "وما هم بمؤمنين " فعاد الضمير مجموعا فى قوله "وما هم " بعد عودته مفردا وهذا كثير وقال تعالى: "ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا ندخله جنات تجرى من تحتها الأنهار " فعاد الضمير من ندخلع مفردا على لفظ "من " ثم قال "خالدين " وهو حال من الضمير قتبين بهذا الجمع أن المراد جميع، وقد يجرى الكلام على أوله فى الإفراد كقوله تعالى: "ومن الناس من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا ... "الآيات، فورد فيها ضمائر ثمانية كلها عائدة على لفظ "من " ولم يرجع منها شئ على معنى "من " مع أن المعنى على الكثرة ثم أعلم بعد أن المراد بما يبينه ما يأتى بعد الضمير المفرد المحمول على لفظ "من " إنما هو أعنى المبين كثرة أو وحدة أما إبهام التعيين فمقصود لا يرتفع فإن إبهام الصلة أو الخبر فى هذا أبلغ فى تكميل فائدة الكلام وإحرازها ألا ترى أن قول الملك لخاصته: إن منكم من يفعل كذا أهيج لنفوس السامعين وأبلغ فى التحريض على الشئ أو الزجر عنه بحسب المرتكب فإن كان مما يحبه الملك تشوقت نفوس المخاطبين إليه وإن كان على الضد من ذلك اشتد خوف جنيعهم وحذرهم وهذا يستدعى طولا قد يخرجنا عن مقصودنا والوارد من هذا فى الكتاب العزيز كثير. ونرجع إلى مقصودنا فنقول: إن آية الأنعام وردت على الأكثر المطرد وقد ورد فيما انتظم بالآية بيان كون المستمعين جماعة وذلك قوله: "وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم وقرا " فبين أن المراد جماعة وارتفع الاحتمال ولما لم يرد فيها انتظم مع آية سورة يونس ضمير ولا غير ذلك مما يبين المستمعين جماعة وكان بيان ذلك مرادا مقصودا أتى الضمير أولا ضمير جمع حملا على معنى "من " ولم

يحمل على لفظها فيفرد لئلا يوهم أن المستمع واحد وذلك غير مقصود فقيل: "ومنهم من يستمعون إليك " إذ ليس فى الكلام بعد ما يبين ذلك. فإن قيل فإن "من " قد تقرر حكمها أنها يراد بها الكثير وإن كانت مفردة اللفظ وصالحة له وإذا كانت فى الأكثر من كلامهم مراد بها الكثير فذلك يرفع إيهام إرادة واحد؟ فالجواب أن إرادة الواحد بها - وإن كان الأقل - مبق حكم الايهام قال تعالى: "ومن الناس من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا ... "الآيات إلى قوله "ولبئس المهاد " نزلت هذه الآى فى الأخنس بن شريق وقد تكرر الضمير فيها ثمانى مرات ضمير مفرد وتأكد بذلك أن المعنى بها واحد كما قال المفسرون وقال تعالى: "منهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى " نزلت فى الجد بن قيس لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الروم وقال: هل لك فى جلاد بنى الأصفر وقصته مشهورة وقال تعالى: "ومنهم من عاهد الله ... "الآية نزلت فى ثعلبة بن حاطب إلى غير هذا من المواضع وقد تقدم أيضا أنها تصلح للاثنين وأنشد سيبويه رحمه الله. [الفرزدق] تعال فإن عاهدتنى لا تخوننى نكن مثل من ياذيب يصطحبان فإذا ثبت أن "من " تصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث وقد ذكر المفسرون وأهل السير أن المعترضين لسماع القرآن منه صلى الله عليه وسلم كانوا جماعة سماهم المفسرون فتحرير المراد فى الآية محرز للمعنى المقصود ومتأكد إذ ليس فيما بعد مما فى المنتظم مع الآية ما يبين المراد كما فى غيرها فوجب رعى ذلك فقيل: "ومنهم من يستمعون " ولزم ذلك ليرتفع الإيهام. فإن قيل: فإن قوله تعالى فى آية يونس "أفأنت تسمع الصم " يبين ذلك كما بيبنه فى آية الأنعام قوله تعالى: "وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه " وما بعد إذ الارتباط حاصل فى الآيتين ونظام الكلام ملتئم؟ فالجواب أن ارتباط قوله تعالى: "أفأنت تسمع الصم " بما قبله صحيح كارتباط قوله تعالى "وجعلنا على قلوبهم أكنة " بما قبله إلا أن قوله تعالى "وجعلنا على قلوبهم أكنة " مبين أن ما وقعت عليه "من " جماعة وكأن الكلام فى قوة أن لو قيل: وجعلنا على قلوب السامعين إذ لا يراد بالضمير غير ما وقعت عليه أما قوله تعالى: "أفأنت تسمع الصم " فليس كذلك بل المراد بلفظ الصم جنس الصم، والمستمعون بعض ذلك فحصل الارتباط بهذا الوجه لا أن الصم يراد بهم من وقعت عليه "من " فقط وهذا كقولهم: زيد نعم الرجل فإن الرجل لم يرد به زيد وحده إنما

أريد به جنس الرجال وإنما زيد واحد منهم فحصل الارتباط بهذا الوجه فليس كقوله "وجعلنا على قلوبهم " وبهذا يتم المعنى المقصود من تسلية نبينا صلى الله عليه وسلم، وكأن قد قيل له عليه السلام: إن الصم الذين لا يعقلون لم تكلف أسماعهم وهؤلاء منهم فلا درك عليه فيهمن صلى الله عليه وسلم فانفصلت آية يونس من آية الأنعام وورد كل على ما يجب. فإن قيل إذا كان الأكثر فى "من " وقوعها على الكثير فقد وردت آية يونس على ما هو قليل فى كلامهم وفى هذا ما يسأل عنه؟ قلت ذلك كله فصيح ومعروف من كلامهم ولا يلزم من كون الوارد أقل أن يكون دون الكثير فى الفصاحة بل كل فصيح، وقد بوب سيبويه رحمه الله على حال "من " فى وقوعها على من ذكر فقال فى كتابه: "هذا باب إجرائهم صلة من وخبرها إذا عنيت اثنين كصلة اللذين وإذا أرادت جماعة كصلة الذين ثم ذكر الآية: ومنهم منيستمع إليك " وأنشد بيت الفرزدق وقد تقدم. تعال فإن عاهدتنى لا تخوننى ..... البيت وقد تقدم ذكر ما أجريت فيه مجرى التى كقول العرب: ومن كانت أمك وأيهن كانت أمك، وأورد عن [بياض] قراءة من قرأ: "ومن تقنت منكن لله ورسوله " فقد ذكر سيبويه رحمه الله أن هذا كله من كلام العرب ودل قوله فى الترجمة: هذا باب إجرائهم بالاضافة إلى ضمير الجمع وإنما يريد العرب وهذا مشير إلى أن العرب تتكلم به كثيرا وأنه ليس فى كلام بعضهم دون بعض ووضح من جملة هذا أن قوله تعالى فى آية يونس "ومنهم من يستمعون " بضمير الجماعة لا يلائم الموضع سواه إذ ليس بعده ما يبين أن المراد جمع أما آية الأنعام فقد ورد فى المنتظم بها مما بعد ما يبين المراد فجاء كل على ما يحب والله أعلم. الآية الثامنة: قوله تعالى: "وقالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين " وفى سورة المؤمنون: "إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين " وفى الجاثية: "وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نمةت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر. "الآية. للسائل أن يسأل فيقول: إن هذه الآى الثلاث قد اتحد محصولها من إنكارهم البعث الأخراوى أن لا حياة بعد هذه الحياة الدنياويه ولم يرد فيها عدول عن هذا من قولهم فما وجه الاقتصار فى آية الأنعام؟ وزيادة نموت ونحيا فى الأخريين؟ وانففراد آية الجاثية بقولهم: "وما يهلكنا إلا الدهر " عوض قولهم فى الأوليين "وما نحن بمبعوثين "؟

فالجواب عن ذلك والله أعلم: أن آية الأنعام لم يرد فيما تقدمها زيادة على ما أخبروا به من حالهم فى إنكارهم البعث ألا ترى أن بنيت الآية على ما تقدمها من قوله تعالى: "ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ... "الآية فكأن قد قيل لهم: إنكم كنتم تنكرون البعث ووجود هذه الحياة الأخراوية ولم يرد أثناء هذا ما يستدعى زائدا. أما آية المؤمنين فترتب الوارد فيها من قولهم "نموت ونحيا " على ما تقدم من دعاء الرسل إياهم، وقد ذكر الامداد فى دنياهم الحامل على عتوهم وقولهم فى المرسل إليهم: "ما هذا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون " فلما طال هذا الكلام بما أغروا به سفهاءهم ناسب هذا الطول ما زيد هنا من قوله "نموت ونحيا " أى طائفة تموت وطائفة توجد. وشأن ما يرد فى الكتاب العزيز مما ظاهره التكرر زيادة فائدة أو تتميم معنى أو لبناء غيره من الكلام عليه حتى لا يكون تكرارا عند من وفق لاعتباره. وأما آية الجاثية فهى المفصحة بمرتكبهم الشنيع من إنكارهم فاعلا مختارا حين قالوا: "وما يهلكنا إلا الدهر " فزادوا إلى إنكارهم البعث الأخراوى إنكارهم توقف الموت على آجال محدودة للخلائق ووقوعه بإرادة وتقدير من الموحد سبحانه ثم أتبعوا شنيع مرتكبهم هذا بقولهم للرسل تحكيما لإنكارهم البعث: "فأتوا بآياتنا إن كنتم صادقين " أى إن كنتم صادقين فى أنا نحيى بعد الموت فأرونا دليلا على ذلك بإحياء من مات من آبائنا وبما ورد هنا من هذه الزيادة حصل التعريف بجملة مقالهم الشنيع واستوفته هذه الآية ما لا يتأتى فى غير هذا مما يتكرر. الآية التاسعة قوله تعالى: "وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " وهذه الآية الأولى مغفلة وفى هذه السورة أيضا "وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت " وفى الأعراف: "قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا " وفى سورة العنكبوت: "وما هذا الحياة الدنيا إلا فلهو ولعب " وفى سورة القتال: "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو " وفى سورة الحديد: "اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو " ففى آيتى الأنعام وسورة القتال وسورة الحديد تقديم اللعب على وعطف اللهو علي عليه وثبت فى الأعراف والعنكبوت بالعكس فقدم فيهما اللهو على اللعب والواو وان

كانت لا ترتب فانه لا يتقدم اللفظ فى الكتاب العزيز ذكرا أو يتأخر الا لموجب فوجه تقديم اللعب فى الأنعام أنه المتقدم فى الوجود الدنياوى على اللهو ولأن أول ابتداء تعقل الإنسان وميزه حاله حال اللعب وهو المطابق لسن الابتداء فإذا استمر ألهى عن التدبر والاعتبار وشغل تمادية عن التفكر فيما به النجاة والفوز وقد ينضاف إلى اللعب شاغل غيره أو يعاقبه فيحصل بالمجموع الغفلة عن النظر فى الآيات فيعقب الهلاك، قال تعالى: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس. ... " الآية فلما لم يبرح هؤلاء عن الجرى على مهيع الصم والبكم الذين لا يعقلون جرى الإخبار عنهم فى الآية الثانية من الانعام بمقتضى أحوالهم فى أعمارهم التى لم تخرج عن أحوال البهائم فأول أعمارهم لعب وعقب ذلك لهو فورد الاخبار على حسب جرى الأعمار وانهم اعتمدوا البقاء مع مقتضى الطبع الانسانى إذ لم يصغ المكلف إلى داع ولا تكلف الخروج عن مقتضى هواه ولا جنح إلى مفارقة مألوف الطباع قال تعالى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " فأمر تعالى نبيه عليه السلام بالاعراض عنهم فقال: "وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا " على مقتضى الهوى والطبع وهذه الحال هى التى نبه سبحانه عباده المؤمنين على أنها حال الحياة الدنيا وصفتها التى تمتاز بها فأعلم بذلك ليجتنبوها ويحذروا غرورها فقال تعالىفى الآية الأولى من هذه السورة: "وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " وقال فى سورة القتال: "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو " ألا ترى أن الخطاب قبل هذه الآية خطاب للمؤمنين بالأمر بالطاعة لله ورسوله ووصية لهم وإعلام بحال عدوهم من الكفار وذلك قوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ... " الآية، وفى سورة الحديد: "اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو " فعرف عباده المؤمنين منها بالصفة التى هى فضلها وبها امتيازها على الترتيب الذى وجودها عليه من تقديم اللعب فى هذه الآى الأربع. أما آية الأعراف فإنها قول المؤمنين أهل الجنة إخبارا عن حال الكافرين الموجبة لتعذيبهم فقدموا فى الذكر اللهو الشاغل عن الاستجابة الجارى مع سن التكليف والمساوق له الثانى عن اللعب إذ وجود اللعب أولى فى السن التى معظمها غير سن التكليف وجرى الأقلام بالتزام الطاعة واجتناب المخالفة فقصدوا أن يخصوا موجب التعذيب من الأعمال فذكروا مساوقه ومظنته وهو معاقب اللعب والذى اتخذه الكافر بالقصد والاختيار عوضا عن شاق التكاليف، ولم يذكر اللعب أولا لأنه جار فى البدأة وحين لا تكليف

فكأن الكلام فى قوة أن لو قيل: ان الله محرم نعيم الجنة على من تأبط الكفر واعتمده واتبع اللعب واللهو من كفره فلم يبرح عن ملازمة الطبع والهوى. وأما آية العنكبوت فإنها تقدم قبلها قوله تعالى: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله "، ولا يسأل عن هذا ويجيب الا من جاوز سن اللعب وبلغ سن التى فيها ينعلق التكايف بالمخاطب ويصح خطابه وعتابه على تفريطه. فناسب ذلك من ذكر الحياة الدنيا تقديم ما يساوق تلك السن فقدم ذكر اللهو والتلى اللعب ليناسب وايحصل ذكر مانعهم من الاستجابة وتكميل النظر المخلص لهم وآخر ذكر اللعب الذى لا يساوق مع أنه متبوع اللهو لزوما لمن لم تسبق له سابقة سعادة فهذا وجه التقديم والتأخير فيما ذكر ولو ورد على العكس لما كان ليناسب والله أعلم. الآية العاشرة قوله تعالى: "وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " وفى سورة الأعراف: "والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " وفى سورة يوسف: "ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون " فى هذه الآى ثلاثة أؤولة والآية الأولى من مغفلات صاحب كتاب الدرة أحدها قوله فى الأنعام "وللدار "باللام الموطية للقسم، وفى الأعراف "والدار " بغير تلك اللام والثانى جرى الأخرة على الدار نعتا لها فى السورتين وفى سورة يوسف "ولدار الآخرة " على الإضافة والثالث قوله فى السورتين "للذين يتقون " وفى سورة يوسف "للذين اتقوا ". والجواب عن الأول: أن آية الأنعام تقدمها قوله تعالى معرفا بحال الدنيا "وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " ومعنى التأكيد فى هذا حاصل من جرى الكلام وسياقه لأنك إذا قلت: ما المال إلا الإبل فكأنك نفيت عن غير الإبل أن يكون مالا وأثبت ذلك لها ثباتا مؤكدا وانها المال حقيقة وكأن ما سواها ليس بمال وعلى هذا يجرى ما دخلته الا بعد ما النافية من مثل هذا ومثل هذا هو المعنى الحاصل من لفظ القسم الصريح فناسبه هذا مجئ اللام الموطية للقسم داخلة على المبتدأ فى الآية المعرفة لحال الدار الأخرى فى قوله: "وللدار الآخرة " وكأنه نص قولك والله للدار الآخرة خير، وتناسب هذا مع ما تقدم قبله من تقدير القسم المؤكد كما تبين، وليس فى آية الأعراف ما يقتضى هذا لأنها مناطة بقوله تعالى: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى "

ثم قال: "والدار الآخرة خير "، على هذا نظم هذا الكلام وليس فيه ما يقتضى قسما فلم تدخله تلك اللام. والجواب عن السؤال الثانى: أن جرى النعت بلفظ الآخرة على الدار فى الآيتين وجهه مطابقة ما تقدم قبل كل واحدة من الآيتين أما فى آية الأنعام فقوله تعالى مخبرا عنهم: "وقالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا " فطابق هذا قوله تعالى: "وللدار الآخرة خير " وأما آية الأعراف فقوله تعالى: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى " المراد به الدار الدنيا فقوبل بقوله: "والدار الآخرة خير " وهذا بين ولما لم يتقدم مثل ذلك قبل آية يوسف ورد لفظ الدار مضافا بغير الألف واللام فيه فقيل: "ولدار الآخرة خير " وجاء كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم. والجواب عن السؤال الثالث: ان قوله تعالى فى سورة يوسف: "ولدار الآخرة خير للذين اتقوا " قد تقدم قبله قوله تعالى: "أولم يسيروا فى الأرض ... " الآية، والحاصل منه انهم ظلموا أنفسهم فأهلكوا ولو اتقوا لنجوا فناسب هذا المعنى المقدر ورود الماضى فى قوله تعالى: "للذين اتقوا " أوضح مناسبة. الآية الحادية عشرة: قوله تعالى: "وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه " وفى سورة العنكبوت: "وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه " فى قراءة نافع وأبى عمرو وحفص ولمك يختلف فى توحيد لفظ آية فى الأنعام والمقصود واحد؟ ووجه ذلك والله أعلم أن لولا فى الآيتين تحضيض وإنما يجرى فى كلامهم عندما يراه المتكلم به أولى أو أهم فى مقصود ما أو أتم فى مطلب ما إلى أشباه هذا مما يستدعى التحضيض ولما تقدم قبل آية الأنعام ذكر دلائل من خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور بحال من كذب وعاند إلى ما تبع ذلك من الآيات التى يحتاج فيها إلى النظر وإعمال الفكر والاعتبار وكان مظنه لتغبيط الجاحد، فطلبوا آية تبهر ولا يحتاج معها إلى كبير نظر كناقة صالح عليه السلام أو شبه ذلك فافتتحوا فيما ذكره سبحانه عنهم بأداة لولا التحضيضية حرصا على ما طلبوه، وأتوا بالفعل مضعفا لما أرادوه من التأكيد فقالوا: نزل وأفردوا آية لما قصدوه من أنه عليه السلام جاءهم بآية واحدة من الضرب الذى طلبوه، وهذا مناسب وقد صرحوا بما طلبوه من هذا الضرب بالذى ذكرنا

فى قولهم: "لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ... " الآية، وفى قولهم: "لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا " إلى ما أشبه هذا فقال تعالى: قل لهم يا محمد إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون أى لا يعلمون ما كان يعقبهم ذلك لو وقع على وفق اقتراحهم من تعجيل أخذهم وهلاكهم كما جرى لغيرهم من الأمم كقوم صالح عليه السلام وغيرهم وقد قدم لهؤلاء التنبيه على ذلك فى قوله تعالى: "ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون " وأيضا ففى ذلك من الحكمة ما سبق فى علمه تعالى من هداية من شاء واضلال من شاء وليرفع بالعلم والنظر من هداه إليه ووفقه فلو ورد هذا الفعل غير مضعف ولم تفرد آية لما أحرز هذا المعنى. أما آية العنكبوت فقد تقدم قبلها قوله تعالى: "بل هو آيات بينات فى صدرو الذين أوتوا العلم " ثم قال تعالى: "وما يجحد بآياتنا " وتأخر بعدها قوله تعالى: "قل إنما الآيات عند الله " فلم يكن ليناسب بعد اكتناف هذه الجموع توحيد آية ثم ان هذه الآية لم يتقدمها من التهديد وشديد الوعيد ما تقدم آية الأنعام فناسب ذلك ورودالفعل غير مضعف وجاء ذلك كله على ما يجب ولم يكن عكس الوارد ليناسب والله أعلم. الآية الثانية عشرة قوله تعالى: "قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين "، ثم قال بعد: "قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم " ثم قال بعد: "قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون " وفى سورة يونس: "قل أرأيتكم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون " ففى هذه الآى الأربع أربعة أسؤلة: الأول ما وجه التكرار فى الواردة فى سورة الأنعام؟ والثانى: ما وجه اختصاص بعضها يتأكيد الخطاب الحاصل من الضمير بالإتيان بالأداة بعد فى قوله: "قل أرأيتم " وسقوط ذلك من بعضها؟. الثالث: ما وجه تخصيص كل آية منها بما اتبعت به؟، الرابع: ما وجه الترتيب فى الآيات الثلاث وهو قوله فى التنبيه أولا: "إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة " وتأخير التنبيه بمثل ذلك من ذكر العذاب فى قوله: "قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة ... " الآية وتسيط التنبيه بقوله: "قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم "؟

والجواب عن الأول: أنه إنما أعيد لفظ التنبيه لتسويغ معتبرات كل منها كاف فى الدلالة لمن وفق ونظير هذا ما ورد فى قوله تعالى: "قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الله خير أما يشركون " ثم قال: "أمن خلق السماوات والأرض " أمن فعل كذا فهذه الدلالات التى نبهوا على الاعتبار بها نظائر الآى الواردة فى آية الأنعام وأما الإتيان بأداة الخطاب بعد الضمير المحصل لذلك فتأكيد فى إيقاظ المنبه إنباء باستحكام غفلته كما يحرك النائم باليد والمفرط الغفلة باليد واللسان وشبه هذا ألا ترى وصفهم قبل هذا بقوله تعالى: "والذين كفروا بآياتنا صم وبكم فى الظلمات " فذكروا أولا تذكير الصم والبكم، وإنما يذكر هؤلاء بأبلغ ما يقع به التحريك والتنبيه، ثم لما بسط الكلام وامتد الوعظ إلى الآية الأخرى قيل لهم: "قل أرأيتم " فلم يحتج إلى التأكيد، وذكروا بأمر مشاهد فى كثير من الخلق فقيل لهم: "إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم " ثم لما أخذوا بكل وجهة يحصل منها الإتعاظ اتبع ذلك بذكر العذاب وسوء الجزاء لمن لم يتعظ وكررت أداة الخطاب وأكد كما يقال لمن نبه فلم ينتبه ولا أجدى عليه التذكار كيف رأيت؟ ويحرك تجريك المتمادى على غيه بتكرر الخطاب فقد حصل الجواب عن الكل. وأما آية يونس فمنفردة ولم يتقدم قبلها ذكر صم ولا بكم يوجب تأكيد الخطاب وقد تقدم قبلها قوله تعالى: "قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار " إلى ما بعد هذا فحصل تحريكهم وتنبيهم بما لم يبق لعده الا التذكير بعذابهم ان لم يجد ذلك عليهم فالتدريج هنا حاصل كما هناك لكن بطريقة أخرى والله أعلم بما أراد. فصل: واعلم أن من جعل الأداة المؤكد بها الخطاب فى أرأيتكم ضميرا لم يلزمه اعتراض بتعدى فعل المضمر المتضل إلى مضمره المتصل لأن ذلك جائز فى باب الظن وفى فعلين من غير باب ظننت وحسبت وهما: فقدت وعدمت، وكذلك تعدى فعل الظاهر إلى مضمره المتصل جائز فى الأفعال المذكورة والآيات المتكلم فيها من باب الظن لأن المراد برأيت رؤية القلب فهى من الباب المستثنى وإنما الممتنع مطلقا تعدى فعل المضمر المتصل إلى ظاهره فلا اختلاف فى منع هذا فى كل الأفعال وأما من جرد أداة الخطاب المؤكد بها للحرفية وهو قول الجمهور فلا كلام فى ذلك. الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى: "فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون "

وفى سورة الأعراف: "وما أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلاه بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون " بإدغام تاء التفعل فى فاء الكلمة مع اتحاد المرمى فى الآيتين فيسأل عن وجه ذلك؟ والجواب والله أعلم: أن العرب تراعى مجاورة الألفاظ فتحمل اللفظ على مجاوره لمجرد المضارعة اللفظية وان اختلف المعنى ومنه الاتباع فى ينوؤك ويسوؤك قال سيبويه رحمه الله وقد ذكر بعض ما تتبع فيه العرب وتحمل اللفظ على ما قرن به لول أفرد عنه لم ينطق به كذلك فقال: كما أن يتوؤك يتبع يسوؤك يريد أنك تقول: ينيئك بضم الياء وكسر النون متعديا على مثال يزيلك وزنا وتعدية إلى المفعول فإذا ذكرته بعد يسوؤط ابعته إياه فقلت يسوؤك وينوؤك مع اختلاف المعنى فهم فيما اتفق معناه من هذا أحرى أن يفعلوا فيه ذلك. وماضى الفعل من الضراعة لا إدغام فيه إنما تقول تضرع إذ لا حرف مضارعة فيه يسوغ الإدغام فلما ورد الماضى فيما بنى علي آية الأنعام من قوله: "فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا " ولا ادغام فيه لما ذكرنا ورد الأول مفكوكا غير مدغم فقيل يتضرعون رعيا للمناسبة، أمأ آية الأعراف فلم يرد فيها ما يستدعى هذه المناسبة فجاء مدغما على الوجه الأخف إذ لا داعى لخلافه والله أعلم. الآية الرابعة عشرة: قوله تعالى: "قل لا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك " بتكرير ضمير الخطاب المجرور من قوله "لكم " وفى سورة هود: "ولا أقةل لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك " بغير تكرير الخطاب فللسائل أن يسأل عن ذلك؟ والجواب والله سبحانه أعلم أن الوارد فى سورة هود إنما هو حكاية قوله نوح عليه السلام متلطفا ومشفقا من حال قومه ألا ترى استفتاح خطابه لهم بقوله: "أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتانى رحمة من عنده ... " الآية وقوله: "ويا قوم لا أسألكم عليه مالا ... " الآية وقوله: "يا قوم من ينصرنى من الله " إلى قوله "إنى إذا لمن الظالمين " فتأمل جليل ملاطفته عليه السلام وما يفهم من كلامهم من عظيم الإشفاق من حالهم وإرادته ما به نجاتهم من العذاب ومن أخذهم بمرتكباتهم فهذا كله استلطاف فى الدعاء لا يلائمه تكرار كلمة تفهم تعنيفا أو توبيخا والتأكيد والتكرار يفهم ذلك ويردان حيث يقصد. وأما قوله تعالى فى آية الأنعام: "ولا أقول لكم إنى ملك " فوارد طى كلام أمره صلى الله عليه وسلم بتبليغه عتاة

الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: "إن هو إلا ذكرى للعالمين "

قريش والعرب توبيخا لهم وتقريعا فقيل له: "قل " والمراد: قل لهم يا محمد: ": "قل لا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك. ... " الآية ولم يؤمر أن يقول هذا لأبى بكر وعمر وخاصة أصحابه إنما عنى به من يقول: "مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها " فمن يصدر عنه هذا وأشباههه مما ينبئ عن الازراء وفساد الظاهر والباطن فهم المقول لهم: "لا أقول لكم عندى خزائن الله. ... " الآية فتكرر فيها قوله "لكم " تأكيدا يفهم التعنيف ويناسب التوبيخ والتقريع ونظير هذا وان خالفه فى تخصيص المخاطب بمقصود الكلام وإنما قصد به تعنيف مستحقى التعنيف ممن لم يخاطب فهو من قبيل قولهم: إياك أعنى واسمعى يا جارة ... وقوله تعالى فى خطاب عيسى عليه السلام: "وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى وتبرئ الأكمه والأبرص بإذنى وإذ تخرج الموتى بإذنى " فتأمل تكرار قوله "بإذنى " وما يتضمن من توبيخ من جعل عيسى عليه السلام إلها واتخذه معبودا فخزطب عيسى عليه السلام وهو المحفوظ المعصوم من توهم استبداد دل قدره صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولكن هذا كما قيل له صلى الله عليه وسلم: "أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله " والمراد بذلك تقريع من اتخذه عليه السلام إلها ومرادنا من هذا ما اجتمعت عليه هذه الآى من إشعار التقريع والتوبيخ الحاصلين من التأكيد والتكرار ثم يصرف ذلك فى كل من الآيتين لمن تأهل له ولما لم يكن ذلك مفصودا فى آية هود لم يرد فيها تأكيد ولا تكرار وجاء كل من ذلك على ما يناسب والله أعلم. الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: "إن هو إلا ذكرى للعالمين " وفى سورة التكوير: "إن هو إلا ذكر للعالمين " للسائل أن يسأل عن وجه ورود الخبر بلفظ التأنيث فى الأولى والتذكير فى الثانية مع تذكير المبتدأ فيهما؟ والجواب عنه والله أعلم أن آية التكوير لما تقدمها القسم على القرآن بقوله تعالى: "فلا أقسم بالخنس " إلى ما وقع القسم به ثم ورد ضمير المقسم عليه فى قوله: "إنه لقول رسول كريم " أى أن القرآن لقول رسول كريم، والمراد به جبريل عليه السلام ثم اتبع بوصفه إلى قوله "ثم أمين " ثم قيل "وما صاحبكم بمجنون " والاشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فنزهه

تعالى عن قول أعدائه ونسبتهم إياه إلى الجنون ثم وصفه تعالى بأنه على الغيب الموحى به والمأمون على تبليغه غير متهم ولا بخيل على القراءتين فقال: "وما هو على الغيب بضنين " ثم أعقب بقوله تعالى: "وما هو " أى وما القرآن "بقول شيطان رجيم " فجرت هذه الضمائر على التذكير على ما يجب ثم اتبع بقطع تعلقهم فقيل: "فأين تذهبون " أى إن كل ما رمتم من رميه عليه الصلاة والسلام به من السحر والجنون والتقول لا يقوم شئ من ذلك على ساق ولا يتوهم ذلك ذو عقل سليم ثم قال: "إن هو إلا ذكر للعالمين " والضمير للقرآن ولا يمكن وروده خلاف هذا لمنافرة التناسب ومباعدة التلاؤم. وأما آية الأنعام فتقدمها قوله تعالى: "أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين " فنوسب بين قوله: "إن هو إلا ذكرى " وبين ما تقدم فكأن التقدير إن هو أى الأمر أو المراد المقصود أو ما ذكر من الكتاب والحكم والنبوة إلا ذكر فناسبه ذكرى هنا لما تقدم بيانه ولم يتقدم هنا ما يستدعى لفظ التذكير ويناسبه فجاء كل على ما يجب والله أعلم. الآية السادسة عشرة: قوله سبحانه: "والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون " لم يقرأ هنا بغير هذا اللفظ وكذا فى المعارج وفى سورة المؤمنون فى قراءة الجماعة إلا الشيخين "على صلواتهم " بالجمع فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟ والجواب عنه والله أعلم: أن ذلك مناسب لما اكتنف هذا الوصف فى آية سورة المؤمنون لما كان ذكر محافظتهم على صلاتهم قد اكتنفه ما تقدمه وما تأخر عنه من تفخيم الوصف فى المتقدم وتفخيم الجزاء فى المتأخر ناسب ذلك تفخيم العبارة عن فعلهم فورد بلفظ الجمع فى قراءة الأكثرين فقيل: "والذين هم على صلواتهم " أما تفخيم الوصف المتقدم فذكرهم بالفلاح وهو الظفر بالمراد والبقاء فى الخير وذكرهم بالخشوع فى صلاتهم وإعراضهم عن اللغو ولم يقع متقدم وصفهم فى سورة المعارج ما يوازن هذه الأوصاف. وأما آية الأنعام فلم يتقدم فيها غير ذكرهم بالإيمان فقط وأما نعتهم الوارد فى جزائهم فوصفهم بأنهم الوارثون ثم تخصيصهم بأنهم الوارثون ثم تخصيصهم بإرث الفردوس وهو أعلى الجنة ومنه تنفجر أنهار الجنة، ووصفهم بالخلود فيها، ولا يوازن هذا بقوله عقب آية المعارج: "أولئك فى جنات مكرمون ".

الآية السابعة عشرة: قوله تعالى: "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة "،

وأما آية الأنعام فلم يرد فيها ذكر جزائهم بالجمع كما فى آية سورة المؤمنون وإن لم يقرأ بذلك فى الأخريين وظهرت مناسبة ذلك والله أعلم. الآية السابعة عشرة: قوله تعالى: "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة "، وفى سورة الكهف: "لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة " ومرمى الآيتين واحد، فيسأل عن زيادة "فرادى " فى آية الأنعام؟ والجواب والله أعلم: أن ذلك مراعى فيه فى آية الأنعام ما أعقبت به من قوله: "وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم " أى ما أعطيناكم فى الدنيا مما شغلكم عن آخرتكم، ثم قال: "وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء " أى منفردين عما كنتم تؤملون من أندادكم ومعبوداتكم من دونه سبحانه، فلرعى هذا المعقب به فى آية الأنعام ما قيل فيها: "ولقد جئتمونا فرادى ". أما آية الكهف فقبلها قوله تعالى: "ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة فحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " ثم قال: "وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة " مجردين عن كل متعلق. ولم يقع هنا ذكر ولا إشارة إلى ما عبد من دون الله فلهذا لم يقع هنا "فرادى " وذلك بين التناسب وعكس الوارد لم يناسب والله أعلم. الآية الثامنة عشرة قوله تعالى: "قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون "، وبعد هذه: "قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون "، ثم بعد هذه: "إن فى ذلك لآيات لقوم يؤمنون "، للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف هذه الأوصاف التابعة فى الآى الثلاث؟ والجواب: أنه لما تقدم الآية الأولى قوله جل وتعالى: "وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها فى ظلمات البر والبحر " فذكر سبحانه من المعتبرات التى يتوصل بالنظر فيها إلى معرفته وحدانيته تعالى ما يحصل الاطلاع عليه تعقلا وتنقلا ويستند فى كثير منه إلى التعاون فى تعرفه والاطلاع عليه بمن تقدمت له به المعرفة فيحصل فى ذلك علم منقول فيما يتعلق بذات المتعرف المطلوب به الاستدلال أو فى أدوات موصولة إليه إذ ليس علم ذلك راجعا إلى مجرد الفكر والتفطن ألا ترى أن إدراك العلم بنجوم السماء وتفصيل ذلك بتعيين الكواكب الثابتة والسيارة المتنقلة فى أبراجها وخنوس الخمسة منها واشتراكها مع الشمس والقمر فى انتقالها فى منازلها مختلفات الحالات فى السرعة

والبطء فكم بين قطع القمر الفلك فى ثمان وعشرين ليلة وقطع زحل إياه فى ست وثلاثين سنة جارية فى أفلاكها من غرب إلى شرق وقذف الفلك الأعظم بالكل من شرق إلى غرب على العكس "ذلك تقدير العزيز العليم " وياعرف هذا القسط مما ذكرنا يتحصل للمعتبر الاهتداء بها على الكمال فى ظلمات البر والبحر والعلم بعدد السنين والحساب والقلب فى كثير من هذا الضرب مورد على البصر فيما ينهيه إليه فصر هذا الضرب من المعتبرات الدالة على الصانع تعالى كالمخبر به الحاصل بواسطة من خارج فتناسب ذلك التعبير عن المتذكر به بالعلم الذى مواده ومحصلاته الخبر القاطع مع النظر السديد فقيل فى ختام هذه الآية: "لقوم يعلمون " وقيل ما معناه أن الوارد فى قوله تعالى: "إن الله فالق الحب والنوى " إلى قوله تعالى: "وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها فى ظلمات البر والبحر " آيات تنيه على معرفة الله تعالى والعلم به وبوحدانيته وهو أشرف معلوم، فأعقب بأشرف ما يوصف به المعتبرون فقيل: "لقوم يعلمون " وذلك أعلى من الوصف بقوله تعالى: "لقوم يفقهون "و: "لقوم يؤمنون " ولذلك ما ورد وصفه تعالى بالعلم ولا يوصف سبحانه بالفقه ولا العقل فلما كان المعلوم أشرف المعلومات عبر عن الآيات التى نصبت للدلالة عليه باللفظ الأشرف انتهى وهو قول حسن والتناسب فيه واضح. أما الآية الأخرى فتقدم قبلها قوله تعالى: "وهو الذى أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع " ومرجع العلم بنشأة الإنسان وتقلبه من صلب إلى رحم، وارتباط أعضائه الظاهرة والباطنة، وجمع أجزائه وتصرف كل عضو فى ما له خلق، واحتياج الأعضاء بعضها إلى بعضها وجرى ما وكل منها بغذاء الإنسان اجتذابا وانتحالا وطبخا وتقسيما وتجزئة على الأعضاء واتقان كل عضو منها زجرى لما يسر له، إلى غير ذلك هذا مما يبسطه من تكلم فى التشريع، فالعلم بهذا كله جملة وتفصيلا مما لا يحصل بالسمع والبصر وإنما يطلع بالاعتبار والتفكر من ذوى الفطن السالمة والنظر العقلى السديد والفهم المصيب، فناسب هذا قوله تعالى "لقوم يفقهون " والفقه التفهم والتفطن وذلك من جملة ألهم إليه وأشار قوله تعالى: "وفى أنفسكم أفلا تبصرون ". وأما الآية الثالثة فإنه سبحانه لما ذكر إنزال الماء من السماء وإخراج النبات من الأرض به فى قوله سبحانه وتعالى: "وهو الذى أنزل من السماء ماء فأخرجنا منه نبات كل

شئ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان "، فلما أورد هذا كان مذكرا بالبعث الأخراوى والنشأة الثانية كما قال تعالى فى آية الأعرف: "كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون " وإنما يحصل العلم بذلك وسائر أمور الآخرة من قبل الرسل عليهم الصلاة والسلام والإيمان بهم وبما جاؤوا به فقال تعالى: "إن فى ذلك لآيات لقوم يؤمنون " أى يصدقون بالبعث وأنه تعالى كما بدأهم يعودون فقد وضحت مناسبة هذه الآيات الثلاث لما أعقب بها والله سبحانه أعلم. الآية التاسعة عشرة: قوله تعالى: "والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه " وورد فيما بعد من هذه السورة: "والزيتون والرمان متشابها وغير زتشابه كلوا من ثمره وآتوا حقه يوم حصاده "، فورد فى الآية الأولى "مشتبها وغير متشابه " وفى الثانية: "متشابها "، وفى الأولى: "انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه "، وفى الثانية: "كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده "، يسأل عن المختلف فى الآيتين مع اتحاد مرماهما؟ والجواب عن الأول: أن مشتبها ومتشابها لا فرق بينهما إلا ما لا يعد فارقا إذ الافتعال والتفاعل متقاربان، أصولهما: الشين والباء والهاء من قوله أشبه هذا هذا إذا قاربه وماثله، ورد فى أولى الآيتين على أخف البناء وفى الثانية على أثقلهما رعيا للترتيب المتقرر وقد مر نحو هذا فى قوله: "فمن تبع هداى " وقوله "فمن اتبع " فى سورة طه. والجواب عن الثانى: أن قوله تعالى فى الأولى: "انظروا إلى ثمره أذا أثمر وينعه " مبنى على ما قبله مما بناه على الاعتبار، قال تعالى: "إن الله فالق الحب والنوى .... " الآية، وقال تعالى: "فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا ... " الآية، وقوله: "وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها ... " الآية، ثم قال تعالى: "وهو الذى أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ وأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه "، فلما كان مبنى هذه الآى على الاعتبار والتنبيه بما نصب تعالى من الدلائل على وحدانيته لم يكن ليناسب ذلك ويلائمه إلا الأمر بالنظر والاعتبار لا الأمر

الآية الموفية عشرين قوله تعالى: "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل "

بالأكل، أما الآية الثانية فمبنية على غير هذا وقد تقدمها قوله تعالى: "وقالوا هذه أنعام وحرث حجر " أى منع: "لا يطعمها إلا من نشاء "، وجرى ما بعد على التناسب إلى قوله: "وهو الذى أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان " إلى قوله: "كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده " ثم قال بعد ذكر الأنعام: "كلوا مما رزقكم الله "، وجرى ما بعد على هذا فى تفصيل ما أحل سبحانه لعباده ورد ما ظنت يهود تحريمه على هذه الأمة، ثم أتبع سبحانه لعباده بذكر ما حرم أكله فقال لنبيه عليه السلام: "قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا .... " الآية، ثم أتبع تعالى بما حرم على بنى إسرائيل أكله فقال: "وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر " فلم يتخلل هذه الآيات من غير أحكام المأكولات فى التنويع والإباحة خلاف ذلك سوى الأمر بزكاة الحرث فى قوله: "وآتوا حقه يوم حصاده "فدارت هذه الآى على ما أنعم به سبحانه من ضروب ما خلقه تعالى مما أقام به حياة عباده مأكلا وملبسا ومعونة فى حركاتهم وانتقالاتهم ومباح ذلك ومحرمه، فلم يكن ليلائم ذلك إلا ما يناسبه، ولم يكن ليناسب الآية المتقدمة لو قيل: كلوا، ولا هذه الآية لو قيل: انظروا، فجاء كل على ما يجب ويلائم ولا يناسب خلافه، والله أعلم. الآية الموفية عشرين قوله تعالى: "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل " وفى سورة غافر: "ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو فأنى تؤفكون ". للسائل أن يسأل عن وجه التقديم والتأخير فيما قدم وأخر فى هاتين الآيتين. والجواب عن ذلك: أن آية الأنعام لما تقدم فيها قوله تعالى: "وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم "، وقوله تعالى: "أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة " كان الملائم نفى ما جعلوه وادعوه من الشركاء والصاحبة والولد، فقدم ما الأمر عليه من وحدانيته سبحانه وتعاليه عن الشركاء والولد فقال: "لا إله إلا هو "، وعرف العباد بعد بأن كل ما سواه سبحانه خلقه وملكه فقدم الأهم فى الموضع. وأما آية غافر فتقدمها قوله تعالى: "لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق

قوله تعالى: "ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون "،

الناس " ثم قوله تعالى: "الله الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا " فلما تقدم ذكر الخلق الأعظم ولم يتقدم هنا ما تقدم فى آية الأنعام ما أتبع بالتنبيه على أنه سبحانه خالق كل شئ فكان تقديم هذا التعريف هنا أنسب وأهم، ثم أعقب بالتعريف بوحدانيته تعالى فجاء كل على ما يجب ويناسب ولم تكن واحدة من الآيتين لتناسب ما تقدم الأخرى والله سبحانه أعلم. الآية الحادية والعشرون قوله تعالى: "ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون "، وورد بعد هذا: "ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون "، للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف الاسمين فى قوله "ولو شاء ربك "، و"ولو شاء الله "؟ والجواب عن ذلك والله أعلم: أنه لما تقدم الآية الأولى قوله تعالى: "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله "، فعرف سبحانه نبيه، عليه السلام بما سبق لهؤلاء وما قدره عليهم فى الأزل حتى لا يجدى عليهم شئ ولا ينفعهم تذكار فلما تقدم من القدر على هؤلاء ما يثير أشد الخوف كان مظنة إشفاق فأنس نبيه صلى الله عليه وسلم ولاطفه بإضافة اسم ربوبيته سبحانه لنبيه عليه السلام، مخاطبا له فقال: "ولو شاء ربك ما فعلوه " فسكن جأشه وتلطف فى تأنيسه، عليه السلام وتأنيس أمته بأنسه، ولما لم يقع قبل الآية بعد مثل هذا وإنما قبلها: "وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم ولو شاء الله ما فعلوه " وليس هذا فى اقتضاء الحتم عليهم المؤذن بقطع الرجاء منهم كقوله فى الأولى: "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ... "الآية، فلذلك قال عقب هذه الآية الثانية: "ولو شاء الله ما فعلوه " فجاء باسمه الأعظم تعالى من غير إضافة إذ ليس هذا مثل الأول، ولو ورد الاسم الأعظم أولا والاسم الكريم المضاف ثانيا لما ناسب على ما تمهد، والله سبحانه أعلم. الآية الثانية والعشرون قوله تعالى: "إن ربك هم أعلم من يضل عن سبيله وهو أعمل بالمهتدين " وفى سورة النجم: قوله تعالى: "إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله " بزيادة الباء فى "من " من قوله: "بمن ضل عن سبيله " وكذا فى سورة القلم بخلاف الأخريين

الآية الثالثة والعشرون قوله تعالى: "كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون "،

"ضل " ففى هذا سؤالان: أحدهما زيادة الباء فى آيتى النجم والقلم ويقوطهما فى الأنعام والثانى ورود الماضى فى آيتى النجم والقلم وورود المضارع فى الآية الأنعام. والجواب عن الأول أن سقوط الباء الداخلة على "من " فى آية الأنعام إنما ذلك والله أعلم لاستثقال زيادتها مع الزيادة اللازمة للمضارع مع التقارب إيثارا للإيجاز أما آيتا النجم والقلم فلا زيادة فى الفعل لكونه ماضيا فزيد باء التأكيد الداخلة على "من " ويشهد لهذا اطراد زيادتها فى الآيتين لورود الماضى فيهما بخلاف آية الأنعام. والجواب عن الثانى: أن آية الأنعام قد اكتنفها من غير الماضى من الأفعال والإعلام بما يكون قطعيا أو يتوقع فى المآل ما يقتضى المناسبة فى النظم ولو ورد غير الماضى هنا لما ناسب ولا لاءم، أما آية النجم فمبنية على مطلع السورة فى قوله تعالى: "والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى "، فقال تعالى مشيرا إلى حالهم: "إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله " فبرأ نبيه صلى الله عليه وسلم مما نسبوا إليه وأثبت ذلك بكناية وتعريض أوقع فى نفوسهم من الإفصاح بتعيينهم وأما آية القلم فإنه لما تقدم فيها قوله تعالى: "ما أنت بنعمة ربك بمجنون " وقوله تعالى: "فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون " تهديدا لهم وتعريفا بكذبهم فى قولهم حين نسبوه إلى الجنون أعقب ذلك بقوله تعالى: "إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله " فسجلت هذه الكناية بضلالهم وكذبهم وتناسب هذا كله أوضح تناسب. الآية الثالثة والعشرون قوله تعالى: "كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون "، وفى سورة يونس: "كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون "، للسائل أن يسأل عن الفرق؟ والجواب أنه لما تقدم قبل آية الأنعام قوله تعالى: "أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس " والمراد أو من كان ميتا فى غمرات الجهل والكفر فأحييناه بنور الإيمان والعلم كمن مثله فى الظلمات أى ظلمات الجهل والكفر متماديا على غيه غير مقلع عن كفره لا يجدى عليه إنذار ولا ينتفع بوعظ التذكار فسواء فى حقه الإنذار وعدمه فلما ذكر فى هذا الطرف من لم يشم بارق إيمان وسجل بعدم خروجه عن مقتضى موبقاته فى شنيع ذلك الخذلان أعقب تعالى: "كذلك زين للكافرين ما كانوا بعملون "فوسم بكفره للبأس من خيره. أما آية يونس فقد تقدم

الآية الرابعة والعشرون قوله تعالى: "ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون "

قبلها: "وإذا مس الإنسان الضر " والمراد هنا جنس الإنسان: "دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما " أى دعانا على أى حال كان على مقتضى قوله تعالى: "ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " ثم قال: "فلما كان كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه " ذكر سبحانه من حال الإنسان حال متذكر داع عند مس الضر غير مشرك ولا كافر حال ففى حاله فى دعائه عند الضر ومروره فى المخالفات أو الغفلة عند كشفه شبه من حال المقول فيهم: "خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا "، فأعقب ذكر هذا الضرب بقوله تعالى: "كذلك زين للمسرفين " أى أن هؤلاء زين لهم لمرتكبهم فى مرورهم بعد كشف الضر عنهم على أحوالهم قبل مس الضر إياهم كما زين للمسرفين ما كانوا يعملون، فتشبهت أحوالهم بأحوال المسرفين ليزدجر المؤمن ويستعيذ من مثل تلك الحال ويدأب على الطاعة والتضرع إلى الله سبحانه، والمسرف هنا والله أعلم محتمل أن يراد به المسرف فى المعاصى دون الكفر أو المسرف فى كفره المقول فيه وفيمن كان على حاله: "وأن المسرفين هم أصحاب النار "، فعدل فى آية يونس عن أن يقال "للكافرين " إلى قوله "المسرفين " لما فى صفة الإسراف من الاحتمال لمناسبة ما تقدمه من تقلب حالتى الإنسان عند مس الضر إياه وكشفه عنه. أما آية الأنعام فقد تقدمها قوله تعالى: "كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها " فإنما ذكر فى هذه الآية طرفان قد بولغ فيهما وهما المجعول له نور يمشى به فى الناس لا يفارقه والمتخبط فى ظلمات لا يخرج عنها فلا يمكن أن تكون حال أسوأ من حال هذا لأن ذكر الطرفين لا واسطة بينهما يقتضى من حيث اليلاغة النهاية فى كل طرف فعبر هنا بصفة الكفر أما حال المسرف من حيث ما ذكرنا من الاحتمال فدون حال المتخبط فى الظلمات فعلى هذا يحتمل أن يكون الإسراف فيما دون الكفر فيكون المتصف به غير منقطع الرجاء إذا لم يبلغ الكفر، قال تعالى: "قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله "، فشتان ما بين مسرف راج ومتخبط فى ظلمات كفر داج، فجاء كل على ما يناسب، ولم يكن ليناسب العكس بوجه، والله سبحانه أعلم. الآية الرابعة والعشرون قوله تعالى: "ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون " وفى سورة هود: "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم

وأهلها صالحون " فقال فى الأولى "وأهلها غافلون " وقال فى الثانية "وأهلها مصلحون " فللسائل أن يسأل عن الفرق بين الموضعين؟ والجواب والله أعلم أنه لما تقدم هنا قوله تعالى: "يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى وينذرونكم لقاء يومكم "، فقدم سبحانه ذكر بعثة الرسل للجن والإنس وإنذارهم وتذكيرهم بالآيات وتعريف الخلق بالجزاء الأخراوى على مقتضى قوله تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " فلا عذر لأحد وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: "أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير " فلم يتركوا سدى ولا عذر لمغض ولا متغافل بعد تنبيهه "ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون " فهذا مناسب وتقدم آية هود قوله تعالى: "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد فى الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم " ولو كانوا ينهون عن الفساد فى الأرض لكانوا مصلحين فلم يكونوا ليؤخذوا بالعقاب "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " فقد ناسب كلا من الآيتين ما أعقبت به ولم يكن ليناسب آية الأنعام "وأهلها مصلحون " ولا آية هود "وأهلها غافلون "، والله أعلم بما أراد وسيذكر إن شاء الله فرق ما بين قوله "مهلك " فبر باسم الفاعل وقوله "ليهلك " بلام الجحود الداخلة على الفعل المستقبل فى سورة هود إن شاء الله. الآية الخامسة والعشرون قوله تعالى: " قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعلمون "، وكذا فى سورة الزمر وفى قصة شعيب عليه السلام من سورة هود "ويا قوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل سوف تعلمون " فأفردت آية هود هذه بمجئ حرف التسويف عريا عن اقتران فاء التعقيب به بخلاف الأخريين مع اتفاق الآيات الثلاث فى التهديد وحرف التسويف للسائل أن يسأل عن ذلك؟ والجواب عن ذلك والله أعلم: أن هذه الآيات الثلاث وعيد لمن كفر وكذب وآية الأنعام وآية الزمر منها أريد بهما كفار العرب من هذه الأمة وقد افتتحنا بأمره سبحانه نبيه عليه السلام بوعيدهم فى قوله سبحانه وتعالى: "قل يا قوم اعملوا على مكانتكم " فقوى فى هاتين الآيتين تقدير معنى الشرط المنجر تقديره فى الأوامر نحو قوله تعالى: "قل لعبادى الذين آمنوا يقيموا الصلاة " لافتتاحها بأمره تعالى نبيه عليه السلام ثم أمره

الآية السادسة والعشرون قوله تعالى: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا كذلك كذب الذين من قبلهم "،

عليه السلام لهم فى قوله "اعملوا " فاعتضد ما يستدعى الجوابية بالفاء فوردت فى الجواب المبنى على الشرط المقدر بعد هذا الأمر على أحد مأخذى النحويين أو الذى تضمنته الجملة ونابت منابه على القول الآخر، ولما كانت آية هود إخبارا لنبينا عليه الصلاة والسلام فضعف فيها تقدير الشرط فلم تدخل الفاء وجاء كل على ما يجب والله أعلم. الآية السادسة والعشرون قوله تعالى: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا كذلك كذب الذين من قبلهم "، وفى سورة النحل: "لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ كذلك فعل الذين من قبلهم ". للسائل أن يسأل عما اختلف فى هاتين الآيتين مع أن المقصود واحد؟ والجواب عن ذلك والله أعلم أنه لما تقدم آية الأنعام قوله تعالى: "وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر " وهذا إخبار عن بنى إسرائيل فيما حرم عليهم ثم ورد بعدها قوله تعالى: "قل هلم شهدائكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا " وهو خطاب لهم أيضا، فقد اكتنف الآية المذكورة ما مرجعه إلى بنى إسرائيل فيما حرم عليهم وما ألحقوه بذلك تحريفا وتبديلا ووردت الآية المتكلم فيها مورد ما يرد من الجمل الاعتراضية لاتصال ما بعدها بما قبلها، فلم يكن ليلائم ذلك الاسهاب وطول الكلام إذ الوجه فيما يرد اعتراضا أن يؤخر وأما آية النحل فلم يتقدمها خطاب لغير العرب مؤمنهم وكافرهم وقد أطنب فى تذكيرهم ووعظهم، وقد بسط لهم ذكر نعم ودلائل، فناسب ذلك الاسهاب الوارد فيها من قوله: "لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ " ولم يكن ليناسب آية الأنعام ما ورد هنا، ولا الوارد هنا ذلك الإيجاز، والله سبحانه أعلم. الآية السابعة والعشرون قوله تعالى: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم "، وفى سورة بنى إسرائيل [الإسراء]: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم "، ففى الأولى "من إملاق "و "نرزقكم " بتقديم ضمير المخاطبين فللسائل أن يسأل عن وجه هذا الاختلاف فى الآيتين مع اتحاد المقصد فيهما؟ والجواب عن ذلك والله أعلم أن المخاطبين بآية الأنعام إنما كان فعلهم ذلك من

أجل الفقر الحاصل حال قتلهم فقيل من إملاق أى من أجل الاملاق الحاصل ثم قيل لهم "نحن نرزقكم وإياهم "فقد رزقه تعالى لهم لحصول فقرهم فى الحال ليكون أمنع لهم وكأن السياق يشعر بتشفيع الأولاد فى رفع فقر الآباء القاتلين فكأن قد قيل لهم: إنما ترزقزن بهم فلا تقتلوهم، فتأكد تقديم كفار العرب وكان وأدهم البنات خشية الفقر المتوقع والعجز عن مؤنتهن فيما يتوقعونه مستقبلا فقيل "خشية إملاق " فجعلت الخشية هى العلية فى فعلهم، فانتصبت على ذلك، والمعلول الذى هو الإملاق لم يقع بعد وضمن تعالى لهم رزقهم ورزق أولادهم ودفع ذلك المتوقع ليرفع ذلك خشيتهم، فلهذا قدم هنا ضمير الأولاد ثم عطف عليه ضمير الآباء. وكان الأهم هنا فقدم، وجاء كل فى الموضعين على ما يجب ويناسب، والله أعلم. الآية الثامنة والعشرون قوله تعالى: "ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون "، تلوها: "ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون " وفى الثالثة تليها: "ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف فى المعلل به فى هذه الآيات؟ والجواب عن ذلك والله أعلم: أنه لما كانت الخلل الخمس فى الآية الأولى وهى: الشرك والعقوق وقتل الأولاد لأجل الفقر وارتكاب الفواحش وقتل النفس التى حرم الله بغير الحق، خمستها مما يدرك العقل ابتداء قبحها، ويستقل بدركها أعنى أن العقل يستوضح قبحها شرعا لبيان أمرها فى استقباح الشرع إياها، وإلا فالعقل عندنا لا يحسن ولا يقبح. فلما كانت على ما ذكرنا أتبعت بترجى التعقل لأن السلامة منها لا تكون مع وضوح أمرها إلا بتوفيق الله تعالى ولذلك جاءت بأداة الترجى. ولما كانت الخمس التالية لها وهى قوله: "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن " إلى آخرها مما تؤثر فيه الشهوات والأهواء وذلك مما يعمى ويصم أتبع برجاء التذكر فقيل: "لعلكم تذكرون " ومن تذكر أبصر فعقل فامتنع، قال تعالى: "إن الذين اتقوا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون "، ولما كان مجموع هذه المرتكبات العشر مما اتفقت عليه الشرائع ولم ينسخ منها شئ وهى الحكمة التى من أخذ بها كان سالكا الصراط المستقيم الذى لا عوج فيه ولا أمت واتخذ أسنى وقاية من

الآية التاسعة والعشرون: قوله تعالى: "وأنا أول المسلمين "، وفى سورة الأعراف: "وأنا أول المؤمنين "، يسأل عن الفرق؟

عذاب الله قال تعالى: "وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه " والأمر عام لكافة الخلق ثم قال سبحانه وتعالى: "ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " أتبعه بقوله: "ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " وترتب حاصلا من مضمن الآيات الثلاث أنه من عقل وتذكر اتقى والمتقون هم المفلحون فسبحان من هذا كلامه. الآية التاسعة والعشرون: قوله تعالى: "وأنا أول المسلمين "، وفى سورة الأعراف: "وأنا أول المؤمنين "، يسأل عن الفرق؟ والجواب والله أعلم: أن هذه الآية لما تقدمها قوله تعالى: "قل إننى هدانى ربى إلى صراطى مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا " وقد قال فى سورة آل عمران: "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين " وفى وصيته عليه السام لبنيه: "يا بنى إن الله اصطفى لكم الذين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " وبهذا أوصى يعقوب عليه السلام قال تعالى: "وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ... " الآية، وهى جواب بنى يعقوب حين قال لهم: "ما تعبدون من بعدى " فأجابوا بقولهم "نعبد إلهك "الى قوله "إلها واحدا ونحن له مسلمون " وقال سبحانه لنبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين: "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " وقال تعالى: "قل - أى يا محمد - إننى هدانى ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا " إلى قوله: "وأنا أول المسلمين "، فإنما قال عليه السلام وعمل واقتدى ظاهرا وباطنا بما أمر به وما درج عليه هؤلاء الصفوة المذكورون ومن سلك مسلكهم وعبارة الإسلام تعم الاستسلام بالظاهر والباطن، والإيمان الذى هو التصديق داخل تحت ذلك وفى جملة ما يطلق عليه اسم الإسلام فقد تحصلت عبارته عليه السلام منبئة عن الكمال فى مسمى الإيمان والإسلام على الحال التى درج عليها المصطفون الأخيار وحالهم فى ذلك لا يدركها غيرهم من حيث الكمال التام صلى الله عليهم أجمعين ولا قطعنا عن التمسك بهديهم. فقد وضح بما ورد فى هذه الآية الجليلة أنه لا يناسب هنا غير هذا الوارد والله أعلم. وأما آية الأعراف وقوله فيها: "وأنا أول المؤمنين " فالقائل ذلك موسى عليه السلام حين سأل الرؤية وظن أنها جائزة فى الدنيا فلم يسأل عليه السلام محالا وإنما سأل جائزا

ممكنا وحاشاه عليه السلام من أن يسأل محالا ويجهل من ربه مثل هذا لولا الجواز، فلما استعجل وطلب ذلك فى الدنيا قال له ربه تعالى: "لن ترانى " فى الدنيا وأمره أن ينظر إلى الجبل، وأراه تلك الآية العظمى وصار الجبل دكا وخر موسى صعقا لعظبم ذلك المطلع فلما أفاق قال "سبحانك تين إليك " ولم يرد عليه السلام تبت من معصية ولا جهل بربه أن يجوز عليه ما لا يجوز فأقدار الأنبياء عليهم السلام فوق ذلك، وهو أعلم الخلق بما يجوز عليه تعالى وما يستحيل ثم قال: "وأنا أول المؤمنين " أى أول المصدقين بأنك لا ترى فى الدنيا وليس موضع التعبير بأن يقول: "وأنا أول المسلمين " لأن ذلك الوصف حاصل له عليه السلام على الصفة الحاصلة اللمصطفين ممن تقدم وإنما أراد ما يعبر عن مجرد التصديق بهذا الذى غاب عند جواز تعجيله مع علمه بجوازه على الجملة فقد وضح ورود كل من العبارتين بالإسلام والإيمان على ما يجب ولا يناسب العكس بوجه والله سبحانه أعلم. الآية الموفية ثلاثين من سورة الأنعام قوله تعالى: "وهو الذى جعلكم خلائف الأرض " وفى سورة فاطر: "هو الذى جعلكم خلائف فى الأرض " بإضافة لفظ خلائف فى الأولى ولم يضف فى الثانية بل جئ بحرف الوعاء فيسأل عن وجه ذلك؟ والجواب عنه والله أعلم: أنه لما تقدم قبل آية الأعراف قوله سبحانه لنبيه عليه السلام "قل إننى هدانى ربى إلى صراط مستقيم " واستمر الخطاب له معرفا عن حاله وواضح طريقه إلى قوله: "قل أغير الله أبغى ربا وهو رب كل شئ "، فعم ما سواه سبحانه بالدخول تحت ملكه وقهره، فناسب هذا ما ذكر من إنعامه على عباده بجعلهم خلائف الأرض، ولو كان بحرف الوعاء لم يكن ليفهم التوسعة فى الاستيلاء والاطلاق إلا بضميم يحرز ذلك أن قوله فى الأرض إنما يفهم أنه موضع استخلافهم وهل كلها أو بعضها ذلك محتمل، أما بغير حرف الوعاء فأظهر فى التعميم وإن كان لم يكن مصا إلا أنه أظهر من المتقيد بحرف الوعاء فناسب الإطلاق الاطلاق. وأما قوله فى سورة الملائكة [فاطر]: "هو الذى جعلكم خلائف فى الأرض " فقد تقدم قبله: "والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها " إلى قوله: "أولم نعمركم .... " الآية ثم أعقب قوله "هو الذى

جعلكم خلائف فى الأرض " بقوله "فمن كفر فعليه كفره ... "الآيات، فلما اكتنف الآية ما ذكرته مما هو نقيض الوارد فى آية الأنعام ناسب ذلك التقييد بحرف الوعاء إذ لا يلائم البسط القبض فجاء كل على ما يجب ولا يناسب العكس والله سبحانه أعلم بما أراد. الآية الحادية والثلاثون: قوله تعالى: "إن ربك سريع الحقاب وإنه لغفور رحيم "، وفى الأعراف: "إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم " للسائل أن يسأل عن اختصاص آية الأعراف بزيادة اللام المؤكدة فى الخبر وسقوطها من آية الأنعام؟ والجواب والله أعلم أن آية الأنعام لما تقدمها قوله تعالى: "قل إننى هدانى ربى إلى صراط مستقيم " ثم استمر ما بعد على خطابه صلى الله عليه وسلم لما منحه الله تعالى إلى قوله: "وهو الذى جعلكم خلائف الأرض ... " الآية، فهذا له صلى الله عليه وسلم ولأمته فجاء الخبر من قوله: "إن ربك سريع العقاب " بغير لام التأكيد مناسبا للحال إذ هؤلاء المذكورون ليسوا بجملتهم ممن استحق عقابا، ومن عوقب من أهل القبلة فعقابه منقطع بفضل الله فلا حامل على التأكيد لأن ذكر العقاب هنا تخويف يحمل المؤمن على استحاب الرغب والرهب وما ينبغى للمؤمن أن يكون عليه. وأما آية الأعراف فقد ورد قبلها قوله تعالى: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب " وقد تقدم ذكر المقصودين بهذا الوعيد وذكر مرتكباتهم السيئات فتخلصت الآية للمستحقين العقاب بمجترحاتهم المفصحة بكفرهم فناسب تأكيد الخبر المنبئ بعقابهم وسوء مآلهم وجاء كل على كما يجب ويناسب.

سورة الأعراف

سورة الأعراف الآية الأولى منها قوله تعالى: " قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ "، وقال فى سورة الحجر: " قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) "، فى الآيتين مما يسأل عنه قوله تعالى فى الأولى "ما منعك " وفى الثانية "مالك "، وفى الأولى استفتاح بسؤاله عن امتناعه بقوله "ما منعك " من غير ندائه باسمه وفى الثانية نداؤه "يا إبليس " وفى الأولى قوله "ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك " وفى الثانية "ألا تكون مع الساجدين " وفى الأولى قال "أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين " وفى الثانية: "لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون " وفى الأولى قال: "فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين "، وفى الثانية: "فاخرج منها فإنك رجيم "، فهذه خمس سؤالات. فأقول: إنه لما تقدم فى الأعراف ذكر خلق الإنسان وتصويره من غير ذكر المادة التى خلق منها قال تعالى: "ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " والخطاب لبنى آدم ولم يذكر خلق غيرهم من ملك أو جن. ثم إن الأمر بالسجود ورد للملائكة ولم يرد إشعار بأن إبليس من غيرهم فسبق من ظاهر الكلام أنه منهم ومأمور معهم لاستثنائه منهم فناسب هذا قوله: "وما منعك "، لأنه مأمور بظاهر ما تقدم وناسب ذلك أيضا وعضد ما قلناه قوله "إذ أمرتك "، ولما لم يقع ذكر لخلق غير الآدميين ولا ذكرت مادة خلق الإنسان ناسب ذلك ما ذكره سبحانه عن إبليس من قوله: "أن خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين "، فاستوفى ذكر المادتين وبنى على ذلك ما توهم من فضل النار على الطين. أما آية الحجر فقد تقدم قبلها قوله تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون " إلى قوله: "فقعوا له ساجدين " فأشارت الآية بظاهرها إلى أن إبليس من الملائكة وقد نطقت الآية أن الملائكة هم المأمورون

بالسجود، فبحسب هذا البادى من الظاهر وردت المعية فى قوله: "مالك ألا تكون مع الساجدين " فلما لم يكن فى أصل الخلقة والمادة منهم وكان الأمر بظاهر العبارة لهم وإن كان مرادا أنه معهم فبحسب هذا قيل له: "مالك ألا تكون مع الساجدين "، فقيل "معهم " إذ ليس منهم قال تعالى: "إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " وبحسب ذلك استؤنف نداؤه فقيل: "يا إبليس مالك " ولم يقل "ما منعك " لأن ذلك لو قيل كا يقتضى أنه منهم ولك يكن ليناسب ما أشار إليه صدر الكلام من أنه ليس منهم فنودى باسمه المشعر بطرده ومغايرته لهم فقيل "يا إبليس " فتناسب أيضا ما ورد فى الحجر من تبيين خلق إبليس من النار وفصله من الملائكة ما أعقب به من محكى قوله: "لم أكن لأسجد لبشر من صلصال من حمإ مسنون "واحتقاره مادة الطين وتفضيله مادة النار عليها فناسب هذا تعقيب أمره بالخروج فى قوله تعالى: "اخرج منها " وقيل فى آية الأعراف: "اهبط منها " وليس التعبير بالإخراج كالتعبير بالهبوط فقد أمر آدم بالهبوط ولم يقصد من تعنيفه ما قصد بإبليس فالفرق ما بين العبارتين فيما تعطيانه قيل فى الأعراف "فاهبط منها " إذ لم يتقدم فيها من أنه ليس من الملائكة كما تقدم فى الحجر بل ظاهر ما فى الأعراف أنه منهم، فجرى الأمر آخرا مناسبا لهذا الظاهر فعبر بالهبوط، ولما تقدم فيه الحجر أنه ليس من الملائكة لخلقه من نار سموم فأشعر ذلك بشر المادة ناسبه قوله: "فاخرج منها " وإتباع ذلك بما يلائمه من الوصف ويناسبه من قوله: "فإنك رجيم " ثم بما كتب عليه من الطرد واللعنة ولم يرد فى الأعراف هكذا بل روعى فيه مناسبة ما تقدم، ولئلا يتنافر الكلام ويتنافر المعنى فقيل: "فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين " فإن قلت: فقد قيل هنا "فاخرج " كما قال فى سورة الحجر: قلت: تدرج به إلى التعنيف وسيق هناك من أول وهلة وجاء كل على ما يجب ويناسب ولم يكن ليناسب ورود العكس فى السورتين والله أعلم بما أراد وقد حصل جواب السؤالات بأسرها والحمد لله. الآية الثانية من سورة الأعراف قوله تعالى: "قال أنظرنى إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين " وفى سورة الحجر وسورة ص: "قال ربك فأنظرنى إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم " فورد فى آيتى الحجر وص وزيادة الفاء فى قوله "فأنظرنى " وفى قوله "فإنك " وزيادة قوله "رب " ولم يرد ذلك فى الأعراف، فيسأل عنه؟ وجواب ذلك والله أعلم: أن مناسبة ما تقدم كل واحدة من الآى الثلاث من الاسهاب

والتأكيد أو الإيجاز ألا ترى أن مجموع الكلم الواقعة من لدن قوله فى سورة الأعراف "ولقد خلقناكم " وهو ابتداء القصة إلى قوله: "قال أنظرنى إلى يوم يبعثون " بضع وأربعون كلمة، والوارد فى الحجر من لدن قوله: "ولقد خلقنا الإنسان " إلى قوله: "قال رب فأنظرنى " بضع وسبعون كلمة وفى سورة ص من لدن قوله "إذ قال ربك " إلى الآية بضع وستون كلمه، فقد وضح ما قصد فى الأعراف من إيجاز الاخبار فى القصة وما فى السورتين بعد من الإطناب ثم إنه ورد فى سورتى الحجر وص التأكيد بكل وأجمع فى قوله: "كلهم أجمعون " ولم يرد ذلك فى الأعراف فقصد ما قلناه وتناسب الإطناب والتأكيد ولاءم ما ورد من الزيادة فى السورتين الأخيرتين ولم يكن ليناسب العكس والله أعلم بما أراد. فإن قلت ما وجه ورود القصة الواحدة موجزة ومطولة أخرى؟ قلت: ليحصل من ذلك الاطلاع على علىّ البلاغة وجلالة النظم وعلى فصاحة فى طرفى الإيجاز والإطناب، فإن الفصيح البليغ من البشر إن رام هذا لم يف فى الطرفين بما يريده ووضح التفاوت فى هذا بوجه. فإن قلت فما وجه تقديم الموجز على المطول؟ قلت: شبه ذلك بالمجمل من الكلام والمفصل وإنما يريده التفصيل بعد الإجمال فهذا الجواب منزل على الترتيب الثابت، والله سبحانه أعلم بما أراد. الآية الثالثة: قوله تعالى مخبرا عن قول إبليس: " قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) "، وفى سورة الحجر: " قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) ". إن سأل سائل عن وجه اختلاف الوارد فى السورتين المحكى من قول إبليس مع اتحاد القصة فجوابه: أن المعنى الحاصل من قوله فى السورتين واحد لا إشكال فيه ثم اختلف التعبير عن ذلك بحسب ما تقدم فى كل واحدة من السورتين ومااستدعاه من المناسبة ولما تقدم فى الأعراف قوله تعالى: "اتبعوا ما انزل إليكم من ربكم " والإشارة إلى القرآن لأنه يوضح الطريق إليه وهو الصراط المستقيم قال تعالى: "وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه " والاشارة بهذا إلى المنزل قرآنا لأنه مبين للصراط المستقيم الذى طمع اللعين فى الاستيلاء عليه وقطه سالكه فقيل عبارة عن مرامه

الآية الرابعة من سورة الأعراف قوله جل وتعالى: " وقالت أولاهم لأخراهم

من ذلك: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم " إلى آخر المحكى من كلامه، ومراده: لأستولين لهم عليه لا على ما فهمه بعض المتأخرين حين رام الحاق مثل هذا من الذروف المختصة بالمبهمة منها وخالف الناس فى ذلك، ولو كان الأمر على ما قال لكان وصول الفعل الذى هو "لأقعدن " على تقدير حرف الوعاء الذى هو "فى " وكان يفسد المعنى لأن المراد اللعين وطعمه إنما كان فى الاستيلاء على الطريق بدليل حصره الجهات فى قوله: "من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم "، فهذا طلب أخذهم بكل الجهات وطمع فى الاستيلاء وأن يكون له سلطان ولهذا قال عز وجل له: "إن عبادى ليس لك عليهم سلطان " ولو كان على تقدير حرف الوعاء لناقض هذا الغرض ولكان تقديره لأقعدن لهم فى صراطك وهذا ضد ما يقتضيه تقدير على من الاستيلاء وقد بسط هذا فى موضعه وأن الصواب ما عليه جماعة النحويين وما فهموا عليه كلام سيبويه رحمه الله من أن الطريق مختض لا مبهم وأن المعنى هنا فى الآية على تقدير حرف الاستيلاء لا حرف الوعاء ولما قد كان قد ورد فى الحجر منعه ومنع جنوده عن تعرف خبر السماء واستراق السمع فى قوله عز وجل: "وقد جعلنا فى السماء بروجا وزيناها للناظرين. وحفظناها من كل شيطان رجيم. إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " فلما صد من هذه الجهة عدل إلى الأخرى فقال: "لأزينن لهم فى الأرض " أى إن كنت ممنوعا عن إغوائهم من حيث خبر السماء وإبداء المقدرات مما يوجهه الله إلى ملائكته مما يحدث فى علم الأرض وقد سبق فى العلم القديم فإن كتن قد معتنى عن إغوائهم من هذه الجهة رجعت إلى إغوائهم من هذه الجهة رجعت إلى إغوائهم من جهة لم تمنعنى عنها لأزينن لهم فى الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا من عصمته منى ولم تجعل لى السبيل إليه وهم عبادك المخلصون، فلأجل اختلاف المتقدم فى كل من السورتين ما اختلف المبنى عليه من المحكى عن إبليس من طمعه وورد كل على ما يناسب ولم يكن ليناسب تعقيب ما ورد فى الأعراف بما أعقب المتقدم فى سورة الأعراف والله سبحانه أعلم بما أراد. الآية الرابعة من سورة الأعراف قوله جل وتعالى: " وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) " وفى سورة الأنفال: " وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) " فورد فى الأولى: أن عذابهم بكسبهم وورد فى الأنفال أن عذابهم بكفرهم فللسائل أن بقول ما الفرق الموجب بين للاختلاف؟

الآية الخامسة قوله تعالى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون "

والجواب عن ذلك والله أعلم: أن المذكورين قبل آية الأعراف المقول لهم فذوقوا العذاب قد خالفت حالهم حال المذكورين فى آية الأنفال وذلك أن آية الأنفال فى قوم بأعيانهم وهم كفار قريش من أهل مكة وحالهم معلومة إنما كانوا عبدة أوثان ولم تتكرر فيهم الرسل ولا كفروا بغير التكذيب به صلى الله عليه وسلم وبتصميمهم على عبادة آلهتهم أما آية الأعراف ففى أخلاط من الأمم وأصناف من المكذبين تنوع كفرهم وتكذيبهم ضروبا من المخالفات وافتروا على الله سبحانه قال تعالى: "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ... "الآية وفيها: "قال ادخلوا فى أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس فى النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا " ثم قال: "وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ". فلشتى مجترحات هؤلاء واتساع مرتكباتهم وأنهم ضلوا وأضلوا ناسب ما وقع جزاؤهم عليه ذكر الاكتساب لا سيما على القول بأن الكفار مخاطبون بالفروع وهو قول حذاق الأصوليين وقول مالك رحمه الله، ولما انحصر مرتكب الأخرين فيما ذكر وكان مدار أمرهم على الكفر بما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم ناسب ما وقع جزاؤهم عليه تخصيص ايم الكفر فكل من الاطلاقين جار على ما يجب ويناسب والله سبحانه أعلم. الآية الخامسة قوله تعالى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون " وفى سورة هود: "ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون " فزيد فى هذه الآية ضمير الفصل ولم يزد فى الأولى فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟ وجوابه والله أعلم: أن ابتداء الإخبار فى الأعراف بحال هؤلاء الملعونين فى الآيتين هو قوله تعالى فى الأولى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " وابتداء الاخبار عنهم فى سورة هود قوله تعالى: "أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين " ففى هذا اطناب وتأمل ورود الظاهر فى موضع المضمر من قوله "على الظالمين " ولم يقل عليهم، فناسب زيادة ضمير الفصل وفى آية الأعراف إيجاز ناسبه سقوطه ولو لم يكن ما بين "أن "

و "ألا " فإن ذلك مراعى فيما قصدناه فـ "أن "أوجز من "ألا " و"أن " هنا حرف عبارة وتفسير وهى كالواردة فى قوله: "ونودوا أن تلكم الجنة " وفى قوله "وانطلق الملأ منهم أن امشوا "، وتقع بعد ما يراد به القول وليس بلفظه وتفسر بـ "أى " وأما "ألا " فاستفتاح وكل من الموضعين على ما يجب ويناسب ولو فرض العكس لما ناسب والله أعلم. الآية السادسة قوله تعالى: " وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ "، وفى سورة الفرقان: " وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) " وقال فى سورة الروم: " اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) "، وقال فى سورة الملائكة [فاطر]: " وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) ". وقع فى هذه الآى اختلاف مع تشابهها فى اللفظ وتقارب مقاصدها فأول ذلك اختلاف مطالعها بورود يرسل وأرسل، الثانى وصف الرياح وإتباعها بقوله فى الأعراف والفرقان: "نشرا بين يدى رحمته " ولم يرد ذلك فى سواهما الثالث ما يكون عن إرسال الرياح ففى آية الأعراف: "حتى إذا أقلت سحابا "، وفى سورة الروم وسورة الملائكة: "فتثير سحابا " ولم يذكر ذلك فى الفرقان وفى سورة الأعراف بعد ذكر إقلال الرياح السحاب: "سقناه لبلد ميت "، وفى سورة الاملائكة: "فسقناه إلى بلد " وفى سورة الروم بعد إثارة الريح السجاب: "فيبسطه فى السماء "، "ويجعله كسفا "، وفى الأعراف: "فأنزلنا به الماء "، وفى الفرقان: "وأنزلنا من السماء ماء طهورا " " وفى الروم: "فترى الودق يخرج من خلاله " ولم يرد فى الملائكة ذكر لإنزال الماء ولا كيفيته وفى الأعراف: "فأخرجنا به من كل الثمرات "، وفى الفرقان: "لنحيى به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسى كثيرا " وفى الروم: "فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون " وفى سورة الملائكة "كذلك النشور " ولم يقع فى الأخيرتين إحالة التشبيه، وفى الأعراف "لعلكم تذكرون " ولم يقع فى سورة الأعراف مثل هذا الترجى فهذه جملة سؤالات. والجواب عن السؤال الأول: " أن آية الأعراف لما تقدمها قوله تعالى: "إن ربكم

الله الذى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام ثم استوى على العرش " فذكر سبحانه ما تقرر وتحصل من خلق السماوات والأرض مما لا تكرر فيه وهما أعظم آياته وأعقب سبحانه بقوله: "ثم استوى على العرش " محمولا على ما تقرر بثم المقتضية التنبيه على جليل الحال فيما يعطف بها والتحريك للاعتبار بذلك وموقعه ورتبته حيث لا يراد مهلة الترتيب الزمانى لأن موضوع ثم فى اللسان قصد الترتيب الزمانى مع المهملة حيث يراد ذلك وقصد الترتيب الاعتنائى والتنبيه على حال ما عطف بها حيث لا يقصد زمان ولا يلحظ كقوله تعالى: "إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر " فهذا وارد مورد الدعاء على من يخاطب به البشر كما يرد التعجب والترجى وربنا المنزه عن ذلك كله ولكن خوطب البشر على ما يتعارفون ويجرى بينهم فلما قال سبحانه: "ثم استوى على العرش " فذكر ما هو تعالى عليه منزها عن الآنية والتمكن المكانى والمناسبة والحلول جل وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، فلما ذكر تعالى من هذه الأفعال العظيمة ما ذكر مما لا يتكرر أعقب سبحانه بما يتكرر ويتوالى من إنعامه على الخليقة مما به قوام أحوالهم ومصالح عيشهم، فقال سبحانه: "يغشى الليل النهار " وأورد ما يتوالى بطول نواله العالم بمشيئته ويتجدد عليهم مما به قوام حالهم إلى انقضاء الأمد المحدود ومجئ اليوم الموعود واتبع هذا التعريف بما يجارى الجمل الاعتراضية حال الكلام مما يلائم ويناسب ذلك تعريفه بقوله: "ألا له الخلق والأمر "، فأعلم باعتراضه لخلق ذلك كله وتصرف أمره فى الجميع بما شاء وأخبر بتعاليه وعظمته فقال: "تبارك الله رب العالمين "، وأمر عباده بالدعاء والتضرع إليه وحذرهم وذكرهم باستصحاب الخوف وتلك حال الموقنين إذ لا يؤمن مكره ولا ييأس من روحه، ثم رجاهم بقرب رحمته ممن أحسن ثم عاد الكلام إلى التذكير بجليل المتوالى من إنعامه وعظيم ألطافه فقال: "وهو الذى يرسل الرياح نشرا بين يدى رحمته " فانتظم آخر الكلام بأوله وارتبط عوده ببدئه وتناسب أوضح تناسب بما يفهمه الفعل المضارع من التكرر من حيث لا يمنع ذلك ولو ورد هنا بلفظ الماضى لما ناسب لما يقتضيه الانقطاع إلا لحامل والله أعلم. وعلى هذا النحو جرى الوارد فى سورة الروم فإنه ورد قبل الآية قوله تعالى: "ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات " فذكر من آياته وإنعامه بإرسال الرياح وإجراء الفلك ليبتغى فضله ويطلب الرزق منه حال الظعن والإقامة ثم اعترض بقوله تأنيسا لرسوله ووعدا بنصره: "ولقد أرسلنا من قبله رسلا إلى قومه فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا

علينا نصر المؤمنين " ثم عاد الكلام إلى إتمام ما تقدم مما يرسل سبحانه به ولا جله الرياح فقال بصورة الاستئناف لأجل آية الاعتراض: "الله الذى يرسل الرياح " وأورد من النعم بها ما ذكر قبل وجاء بلفظ الاستقبال لأنه من تتميم ما تقدم وليناسبه ولو جاء بلفظ الماضى لما ناسب والله أعلم. وأما آية الفرقان فقد تقدمها قوله تعالى: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا وهو الذى جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا " فورد قبلها ذكر هذه الدلالات وواضح هذه الشواهد وقد تقيد زمان خلقها بالماضى فى خمس كرات مع أنها مما يتكرر فى الآيات ويتوالى وكذا فى مطلع السورة وما وقع بعده مما يعتبر به وليس بإخبار أخراوى فأتبع سبحانه ذلك بموافق مناسب فقال: "وهو الذى أرسل الرياح نشرا " ولم يكن ورود المستقبل هنا ليناسب فجاء على ما يجب. وأما آية سورة الملائكة فمبنية على مطلع السورة وذلكم قوله تعالى: "الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة " و"فاطر "و "جاعل "هنا بمعنى المضى ولا يمكن فيهما غير ذلك ولم يقع بعد هذا ذكر مقصود به الاعتبار من مخلوقاته سبحانه مما نصبه دالا عليه إلا قوله: "الله الذى أرسل الرياح " فجاء ذلك مناسبا لقوله: "فاطر السماوات والأرض "و " جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة " لموافقة الفعل الماضى اسم الفاعل معنى ومناسبته ولا يناسبه المستقبل وأما ما وقع بين الآية وبين ما بنيت عليه مما ذكرنا فليس من قبيل المذكور فيه ما نصبه سبحانه دليلا للاعتبار لذوى الافتكار كخلق السماوات والأرض وإرسال الرياح فهذه المذكورات الثلاث هى المقصودة هنا للاعتبار. أما قوله: "يزيد فى الخلق ما يشاء " إلى ما بعده إلى آية إرسال الرياح مع جليل إلتحامه بما اتصل به فليس من قبيل ما ذكرناه ولا يمنع من حمل الآية المتكلم فيها على نحو ما ذكر وجملها عليه ولا يناسب المستقبل هنا ما تقدمه مما بينا حمله عليه وأنه لا يصح حمله على غير ما ذكر والله أعلم بما أراد. والجواب عن السؤال الثانى: إن آية الأعراف قد تقدمها قوله تعالى: "إن ربكم الله الذى خلق السماوات والأرض " ثم قال: "ادعوا ربكم تضرعا وخفية " وقال: "وادعوه خوفا وطمعا " ثم قال: "إن رحمة

الله قريب من المحسنين " وفى هذا كله استلطاف وتعطف ترج ومن نحو هذا الاستلطاف ومجاريه فى قوة الترجى قوله سبحانه فى سورة الفرقان: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ... "الآية، ثم قال: "هو الذى جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا " فهذا أعظم استلطاف فناسب الوارد فى السورتين من هذا قوله تعالى عقب إرسال الرياح قوله: "نشرا بين يدى رحمته " ولما يرد فى سورة الروم ولا فى سورة الملائكة مثل ذا الاستلطاف ولا بعضه لم يتبع ذكر إرسال الرياح بما اتبع فى آيتى الأعراف والفرقان إذ لم يكن ذلك ليناسب فجاء كل على ما يجب ويناسب والله أعلم. والجواب عن السؤال الثالث: أن آية الأعراف لما قيل فيها: "فأخرجنا به من كل الثمرات " فعم بكل وهى من نصوص ألفظ العموم ناسب ذلك ورود ما يفهم كثرة ماء السحاب إذ لا يحصل منه إخراج ما يقدر إخراجه من كل الثمرات الا بكثرته فذكر استقلال السحاب الكثير وهو الذى يعطيه قولا "ثقالا " وانما تثقل بكثرة مائها وذلك يثقلها ولا يكون استقلالها بما يثقلها من الماء الا بعد إشارتها فكأن قد قيل: أثارت الرياح السحب فأثقلتها بالماء الكثير فناسب هذا كله ولم يكن مجرد ذكر إثارة السحاب ليعطى كثرة مائها وتكثير الثمر المخرج به مع أن الإثارة مفهومة فحصل فى هذا النظم العلى الإيجاز والوفاء بالتوسعة والتعميم المقصود ولما لم يقع فى الآى الأخر توسعة فى المخرج بالماء وقع الاكتفاء بذكر إثارة السحاب وحصل إرسالها الماء مما بعد. فإن قلت: فقد ورد فى سورة الملائكة: "فأحيينا به الأرض بعد موتها " وذلك تعميم ومع ذلك فقد وقع الاكتفاء فيها بقوله: "فتثير سحابا " قلت لفظ الأرض لا يعم فى كل موضع إذ ليس من ألفاظ العموم بدليل قوله تعالى: "إن فرعون علا فى الأرض " وهو لم يستول إلا على بعضها وبدليل قوله تعالى: "أو ينفوا من الأرض " وبالجملة فليست الألف واللام هنا للعموم ولا هى حيث تفهم العموم بمنزلة كل وطرأ وأجمعين ولا نزاع فى هذا فالاكتفاء فى سورة الملائكة بذكر الاثارة فقط بين. وأما سورة الروم فليس فيها عموم بل فيها خصوص حاصل من التقييد بقوله: "فإذا أصاب له به من يشاء من عباده "، والاكتفاء فيها بذكر إثارة الرياح السحاب أبين شئ فجاء كل على ما يناسب ولا يمكن خلافه.

ولم يرد فى سورة الفرقان ذكر إثارة الرياح السحاب اكتفاء ببشارة قوله: "بين يدى رحمته " لأنه قصد هنا ذكر الإنعام ولم ينط بذلك ما يقصد به امتداد الاعتبار ألا ترى قوله قبل الآية: "وهو الذى جعل لكم الليل لباسا وجعل النهار نشورا " فقصد ذكر الإنعام ثم الاعتبار جار مع ذلك ثان عن المقصود من ذكر الإنعام فلم يذكر الا بادئ الإنعام، فجاء كل على ما يناسب ولا يمكن خلافه والله سبحانه أعلم. والجواب عن السؤال الرابع: وهو الفرق بين ما فى الأعراف وسورة الملائكة من سوق الرياح السحاب إلى البلد الميت وما فى سورة الروم من قوله: "فيبسطه فى السماء كيف يشاء ويجعله كسفا " بزيادة ذكر سوقه إلى بلد ميت فى آيتى الأعراف والملائكة وسقوط ذلك فى سورة الروم مع زيادة بيان حال السحاب وانتشارها فى السماء وتقطيعها لانبعاث المطر فيقول السائل: إن كان الكلام مقصودا به قصد الإطالة فلم يرد فيها الوارد فى الأخريين من قوله: "فسقناه إلى بلد ميت " وإن كان قد قصد به الإيجاز فلم ورد هذا الإطناب هنا بما بسط من حال السحاب؟ والجواب عن ذلك: ان الآيات الثلاث محرزة أجل إيجاز وأبلغه، وان آية الروم لم يسقط منها شئ من التعريف بسوق السحاب إلى البلد الميت وإنما الحاصل على ما زيد فيها من بيان حال السحاب ما قصد من تحريك المعتبر وتنبيهه على ما فيه أعظم دلالة وأوضح برهان، ألا ترى تقديم قوله: "ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته " وجليل موقع هذه الاستعارة وقوله: "ولتجرى الفلك بأمره " ثم أشير إلى تسخير الفلك بقوله: "ولتبتغوا من فضله " فقد ورد هنا تعداد نعم جليلة فلما عاد الكلام إلى ارسال الرياح وذكر إثارتها السحاب اتبع ذلك بما يناسب فقال تعالى: "يبسطه فى السماء كيف يشاء "والإشارة إلى ما تؤمه السحاب ببسطه سبحانه إياها فتوارى من أقطار الأرض وجهاتها ما يشاء سبحانه إحياءه وسقيه ويجعلها سبحانه كسفا أى قطعا متخلخلة لنفوذ ما تحملت من الماء فينبعث الماء من تلك المسام كانبعاث العرق من مسام الأجساد: "فترى الودق يخرج من خلاله " وبحسب ما حملها سبحانه أو ثقلها من الماء يكون المرسل عنها فى الكثرة وما دونها: "فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون " فلما انبنت هذه الآية على ما قصد من زيادة التنبيه وتوفيه الاعتبار خصت بما لم يقع فى آيتى الأعراف

والملائكة وإنما لم يذكر هنا سوقها للبلد الميت لحصول ذلك من قوله بعد: "فتنظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها " فلو قيل أولا: "فسقناه إلى بلد ميت " لكان تكرارا فإذا تأملت ما ذكرناه وعظيم التنبيه مع جليل الإيجاز بحسب ما قصد وعلى البلاغة وموجب المزيد فى آية الروم وما يستدعيه المكتنفان لهما من قوله قبلها: "ومن آياته أن يرسل الرياح " وقوله بعدها: "فانظر إلى أثر رحمة الله ... "الآية وتحريك المعتبر ولم يذكر ذلك فى الأخريين ويتبين لك أنه لم ينقص منها شئ وإن كلا منها وارد على ما يجب ولم يكن ليناسب خلافه والله أعلم. والجواب عن السؤال الخامس: أن قوله فى الأعراف: "سقناه لبلد ميت " وفى سورة الملائكة: "فسقناه إلى بلد ميت " لفارق بين الموضعين هو أن قوله تعالى فى الأعراف: "حتى إذا أقلت سحابا ثقالا " كلام يستدعى جوابا ألا ترى أنه فى قوة قول القائل: فلما استقلت السحاب بما فيها من الماء ومثل هذا فى استدعاء الجوابية لا توقف فيه وليس مما يجاوب بالفاء وإنما جواب ذلك مثل هذا مجردا فيه الفعل عن الفاء وغيرها قال تعالى: "حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم ريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف " فالجواب هنا قوله: "جاءتها ريح عاصف " وقال تعالى: "فلما جاءتهم ما عرفوا كفروا به " ومنه آية الأعراف المذكورة لا مدخل فيها للفاء لا التى تقع جوابا ولا العاطفة إذ ليس قوله تعالى: "فسقناه لبلد ميت " معطوفا على ما قبله أما قوله تعالى فى سورة الملائكة: "الله الذى أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها " فكلام معطوف بعضه على بعض بالفاء المقتضية الترتيب والتعقيب ليطابق اللفظ ما تحته من المعنى فلزمت الفاء هنا لاحتراز معناها وقد تقرر انها لا مدخل لها فى آية الأعراف فورد كل على ما يجب ولما استدعى لفظ "سقناه "المكان المسوق إليه وإنما يصل إليه بلام الجر أو بإلى عدى فى الإعراب بلام الجر فقيل "لبلد " ليناسب المجرور فعله الذى استدعاه فى الوجازة ولما طال الفعل فى الآية الأخرى بما لزمه من حرف التعقيب ناسبه تعديته بإلى إسهابا وإيجازا مقابل إيجاز وأما آية الروم ففيها زيادة التعريف بكيفية انفصال الماء من السحاب وانه يخرج من خلاله مقسطا على الأرض مجزءا ليستوى اليقى ويتناسب كسريان الغذاء فى الأبدان بعد تهيئته ولو صب من جانب دون ما أشار إليه التخلل لأضر ولم تحصل به المنفعة وهو زيادة فى الاعتبار وإطلاق على عظيم

الحكمة زكل هذه الآى متلائمة متعاضدة لا تعارض فيها ولا إشكال وقد تضمن هذا الجواب أجوبة عن مواضع من هذه الآى وقوله فى الأعراف: "فأخرجنا به من كل الثمرات " مناسب لقوله: "حتى إذا أقلت سحابا ثقالا " لما تقدم ما يشير إلى كثرة مائها ناسبه التعريف بكثرة ما يخرج سبحانه به من مختلف الثمرات ولما قصد فى آية الفرقان سقى الحيوان العاقل وغير العاقل ناسبه ما تقدم من وصف الماء بالطهورية والطيب وقد حصل إخراج الثمرات بقوله لنحيى به بلدة ميتا وأما قوله فى سورة الروم: "فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم مستبشرون " فجار مع قوله قبل الآية: "ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات " لما ذكر سبحانه إرسالها مبشرات اتبع ذلك ما به البشارة وهو الودق المرسل من السحاب المشار بها والاخبار بمن المبشر بها وهو من يشاء تخصيصه من عباده بتلك الرحمة فأوضح آخر الآية المجمل قبلها وحصلت ما قصد بها على أكمل تناسب وأما قوله فى سورة الملائكة: "فأحيينا به الأرض بعد موتها " فمبنى على قوله: "يأيها الناس إن وعد الله حق " والمراد بهذا العودة الأخراوية فأرى سبحان مثالا يوضحها لمن تدبر وعقل فقال تعالى: "سقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها " ثم قال: "كذلك النشور " والآى قبلها لم يتقدمها مثل ما تقدم هذه من تحريك الخلق وتخويفهم بالوعد الأخراوى فلم تعقب بمثل ما أعقبت به من هذه من تحرير التشبيه وان كان فى أكثرها التشبيه على إحياء الموتى ولكنه ليس كالواقع هنا. والجواب عن قوله فى سورة الأعراف: "كذلك نخرج الموتى " أنه مقابل بقوله: "فأخرجنا به من كل الثمرات " ولم يرد هكذا فى سائر الآيات أعنى التعبير بلفظ الإخراج لما ينبت المطر وما يخلق سبحانه فى الأرض ولما ورد فى سورة الملائكة قوله سبحانه: "فأحيينا به الأرض بعد موتها " قوبل تشبيها بقوله: "كذلك النشور " ولم يكن ليتحر المراد لو قيل: كذلك الإحياء ولو قيل: كذلك إحياء الموتى لاجتمع فيه الطول مع مخالفة الفواصل فيما قبل الآية وما بعدها، ألا ترى قوله تعالى: "ولا يغرنكم بالله الغرور " قوله بعد الآية: "ومكر أولئك هو يبور " وما تخلل الآيتين وما ورد بعدها ثم إن النشور هو إخراج الموتى وإحياؤهم مع أنه أوجز وأطبق للفواصل فجاء كل على ما يناسب واما سائر الآي فلم تبن على قصد التشبيه ولا جرى فيها ذلك فوقع الاكتفاء فيها بمجرد الإيماء والإحالة على غير طريقة التشبيه.

والجواب عن تعقيب آية الأعراف بترجى التذكير من قوله: "لعلكم تذكرون " مناسب لقوله: "فأحيينا به من كل الثمرات " لأن الماء المنزل من السماء واحد لا يختلف وان اختلفت أحواله فى الكثرة والقلة وطول زمن الانزال وقصره فالمذاق والطعم والصفة لا تختلف والمخرج به بإذن الله من ضروب الثمرات مختلف فى الطعم واللون والرائحة إلى غير ذلك من صفاته قال تعالى: "تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض فى الأكل " ففى هذا أعظم عبرة لمن استبصر وأدل دليل على القدرة التى تجل عن الحد والغاية وأعظم شاهد على إحياء الموتى فلهذا أعقبت برجاء التذكير فقيل: "لعلكم تذكرون ". الآية السابعة قوله جل وتعالى: " لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) "، وفى سورة هود: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) "، وفى سورة المؤمنون: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) ". فى هذه الآى ست سؤالات: السؤال الأول فوله فى سورة الأعراف: "لقد أرسلنا " غير منسوق بواو العطف وفى السورتين الأخيرتين: "ولقد أرسلنا " بواو العطف والثانى اختلاف مقاله عليه السلام لهم والثالث وجه اختصاص الواقع فى كل سورة من الثلاث من مقاله بتلك السور والرابع وجه اختلاف ما خوفهم به وأنذرهم إثر أمرهم بالعبادة فى كل واحدة والخامس وجه ندائهم لهم فى السورتين وسقوط ذلك فى سورة هود والسادس وجه افتتاح أمرهم بالعبادة فى السورتين وقوله فى سورة هود قبل أمره إياهم: "إنى لكم نذير مبين " فهذه ست سؤالات. الجواب عن الأول: أن آية الأعراف لم يتقدمها ذكر إرسال ولا أمر بدعاء الخلق ولا جملة يناسبها عطف إرسال الرسل إلى الأمم ودعاء الخلق إلى الإيمان إنما تقدم قبلها ذكر أصحاب الأعراف ثم قوله تعالى: "إن ربكم الله الذى خلق السماوات والأرض " إلى قوله: "لقوم يشكرون " ثم ابتدأت قصص الرسل مع أممهم فقال تعالى: "لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " وتتابع قصصهم. أما آية هود فقد تقدم قبلها ذكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبذلك افتتحت السورة قال تعالى: "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله "

ثم استمر ذكر دعائهم وتحذيرهم من التولى وما يعقبه إن وقع منهم ثم ذكر تحديه عليه السلام إياهم بالقرآن وطلبهم بمعارضته والإتيان بعشر سور مثله فى البلاغة وعلى النظم وان كان ما يأتون به مفترى ليكون أسهل عليهم ولم يعدل بالآى عن هذا الغرض وما يرجع إليه إلى ذكر إرسال نوح عليه السلام فوردت الآى بذلك منسوقة فقد ورد قبلها ما يناسب عطفها عليه قال تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة ... "الآيات وبعدها: "ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق ... "الآيات، فذكرهم بإيجادهم وانتقالهم متقلبين فى أطوار مكتنفين بتوالى إنعامه منسوقا بعض ذلك على بعض مفتتحة المطالع بما يتأتى به القسم من قوله تعالى تحكيما وإظهارا للظاهر من اكتناف إنعامه وإحسانه ثم عطف على ذلك ما أنعم به من إرسال الرسل فذكر أولهم إرسالا إلى الخلق ليناسب ما بدأوا به من النعم الأولية فقال: "ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه " وكل ما ذكر فى هذه الآى نعم متناسبة والآء متوالية ولهذا لم يذكر فى هذه الآية ذكر عذاب الا بالإيماء الوجيز وخصت بقوله عقب الأمر بالعبادة: "أفلا تتقون " فذكرهم بالتقوى المجردة لنجاتهم وتخلصهم من العذاب ولم يكن ليلائم ذكر العذاب والإفصاح به ما تقدم من التذكير بإحسانه سبحانه وإنعامه من أول السورة إلى هنا. والجواب عن السؤال الثانى: ان دعاء الرسل أممهم مما يتكرر ويتوالى فى أوقات مختلفة محال متباينة فمرة يرغبون ومرة يخوفون وينذرون وذلك بسبب حال حال ولكل مقام مقال. فاختلاف المحكى من مقالهم إنما هو بحسب اختلاف الأوقات وما يناسب كل وقت وقت وما يجرى فيه ويشاهد من أقوال المدعوين وأحوالهم وكل المحكى من معنى مقالاتهم لا إشكال فيه، ألا ترى أن نبيا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين كان يدعوا قبائل العرب إذا وفدوا على مكة ويقف على كل قبيلة قبيلة فيكلمهم ويسمعهم القرآن ويدعوهم إلى الله بما يناسب أحوالهم ومقالهم ألا ترى قوله عليه السلام لقبيلة كانت تعلاف ببنى عبد الله "يا بنى عبد الله ان الله قد حسن اسم ابيكم " فكان يفتتح دعاء كل طائفة بمثل هذا فلكل مقام مقال، فلا سؤال فى المحكى من قول نوح عليه السلام، لقومه واختلاف ذلك وإنما السؤال فى اختصاص كل سورة بالوارد فيها من حكاية كلامه عليه السلام إذ لا يذكر فى كل سورة الا ما يناسب وهو السؤال الثالث.

والجواب عنه: أنه لما تقدم ذكر اليوم الآخر فى غير ما آية من أول هذه السورة إلى ابتداء قصة نوح وقد تضمن ما ذكر من ذلك من أهوال ذلك اليوم ما يعظم أمره كقوله: "والوزن يومئذ الحق ... "الآية، وقوله: "قال ادخلوا فى أمم من قبلكم من الجن والإنس فى النار "الى قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون " وقوله: "إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ... "الآية قوله: "ونادى أصحاب الجنة ... "الآية وقوله: "إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار "الى قوله: "ولا أنتم تحزنون " وقوله: "ونادى أصحاب النار ... "الآية وقوله: "هل ينظرون إلا تأويله " فلما تقدم من أهوال هذا اليوم ما لم يتقدم فى السورتين الأخريين ناسبه من مقالات نوح لقومه: "إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " وناسب قوله: "ما لكم من إله غيره " قول الممتحنين: "فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا " وأما افتتاح الآية بأمرهم بالعبادة فبين وأما آية هود فافتتاح دعاء نوح قومه فيها بقوله: "إنى لكم نذير مبين " يناسب قول نبينا صلى الله عليه وسلم للعرب فى إخبار الله تعالى عنه: "إننى لكم منه نذير بشير " قوله سبحانه: "إنما أنت نذير " وأما قوله: "إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم " فمناسب لقوله تعالى على لسان نبينا عليه السلام لقومه ممن خاطبه وشافهه: "وإن تولوا فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير "وقوله: "ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم "وقوله: "ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده "فتكرر ذكر العذاب يناسبه ما ختمت به آية دعاء نوح عليه السلام من قوله: "إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم "وأما آية المؤمنين فالجواب عنها ما تقدم منجرا فى الجواب عن السؤال الأول وتحصل من أنه حكى من مقالاته عليه السلام فى كل سورة من هذه الثلاث ما يجرى مع ما اتصل به ويناسبه حسبما تبين ولم يكن ليناسب ورود ما فى سورة منها ما ورد من ذلك فى الأخرى والله أعلم بما أراد. والجواب عن السؤال الرابع: قد انجر فيما تقدم وعن الخامس أن ندائهم فى السورتين لا كلام فيه لجريانه على ما ينبغى فإنما يسأل عن سقوط ذلك فى سورة هود؟ ووجهه أن ذلك جار مع ما افتتحت به السورة من قوله على لسان نبينا عليه السلام: "ألا

تعبدوا إلا الله " فدعاهم عبادة الله وأن يفردوه بها ولم ينادهم لأن ذلك لم يكن ليلائم مطلع السورة إذ لم يجر ذكره عليه السلام منطوقا به فينزل عليه نداؤهم بل قيل له: "الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير "ثم اتبع هذا بأمرهم مبتدئا بحرف العبارة والتفسير وهو أن الحرف الواقع بعد ما ينبئ ويحصل منه معنى القول وليس بصريح قول ولا مرادف الا أنه يفهمه كقوله تعالى: "وانطلق الملأ منهم أن امشوا " فأن الواقعة حرف عبارة وتفسير المقدرة بأى إنما تأتى بعد ما يفهم القول فكما يقع بعدها ما يدل على تقدير القول وليس بقول كذلك يقع بعد مالا يلتئم معه ذكر القول ويكون مع ذلك مغنيا عنه ومنه مطلع هذه السورة بعد التنبيه بالحروف المقطعة فقيل: "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله "كما قيل فى آية ص: "ان امشوا واصبروا "فليس موضع صريح القول الذى يقصد به الحكاية ورد دون صريح قول ثم وردت قصة نوح عليه السلام على هذا المنهج للمناسبة ثم جئ بقصة هود وصالح بعد هذا مفتتحين بالقول على ما يجب والله أعلم. والجواب عن السؤال السادس: ان افتتاح أمرهم بعبادة الله فى سورتى الأعراف والمؤمنين لا سؤال فيه أول ما يطلب به الخلق وإنما يسأل عن افتتاح مكالمتهم فى سورة هود بقوله: "إنى لكم نذير مبين "؟ وجه ذلك مطابقته لما افتتحت به السورة من قول محمد صلى الله عليه وسلم بأمر ربه مخاطبا بكلامه تعالى: "إننى لكم منه نذير وبشير ". الآية الثامنة قوله تعالى: " قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) "، وقال فى سورة هود: " فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا " وقال فى سورة المؤمنين: " فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ". قلت هذه أجوبة فى مقامات شتى وأحوال مختلفة فلا سؤال فى اختلافها وإنما السؤال عن وجه الواقع فى كل سورة إذ لا يكون الا لمناسبة وقد تقدم بيان هذا فى الآية قبلها فيسأل عن ذلك؟ وعن ثبوت الفاء فى قوله: "فقال " فى سورة هود وسورة المؤمنين وسقوطها فى سورة الأعراف؟ وعن وصف الملإ بالكفر فى السورتين وسقوط هذا الوصف من آية الأعراف؟ فهذه ثلاثة أسئلة.

والجواب عن الأول والله أعلم: إن تقول: أن تخصيص الواقع من الملأ من قوم نوح عليه السلام جوابا له عند دعائهم فى سورة الأعراف إلى عبادة الله مناسب لما تقدم فيها من قول مكذبى الرسل حين تتوفاهم الملائكة قال تعالى: "حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا "وقول أخراهم لأولاهم عند دخولهم النار وتداركهم فيها جميعا: "ربنا هؤلاء أضلونا " فصار هذا مألوفا من كلامهم وجوابا متكررا منهم ثم قد جرى على هذا إخبار الله سبحانه عنهم عند تمنيهم الشفعاء أو الرد إلى الدنيا ليعملوا غير عملهم قال الله تعالى: "قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون " ولم يتقدم فى السورتين بعد مثل هذا فناسب هذا ما تقدم. وأما فى سورة هود من قول الملأ المذكورين من قوم نوح فقد تقدم فى صدر السورة قوله تعالى مخبرا عن كفار قريش وغيرهم من معاندى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم " فأعلم سبحانه بطغيانهم وتمردهم فى كفرهم فناسب هذا قول المتمردين من قوم نوح: "ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ". وأما الوارد فى سورة المؤمنين فإنه تقدم فيها قوله تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين "، فذكر سبحانه تطور الإنسان فى تقلبات وأحوال تشهد بحاله الحضيضه ومهانته الأوليه إلى أن تلحقه العناية الربانية والاختصاص الاصطفائى فيعز بإعزاز موجده ويختص باختصاص التقريب والتشريف فتتفاوت أقدار الخلق عند ذلك فمنهم اللاحق بأشراف المقامات وأسنى الحالات ومنهم الباقى فى حضيضيته من غير ترق لما فوقها من الانتقالات ولما لم يتلمح الملأ من قوم نوح جليل مزية التشريف وما منحه هذ النبى الكريم من على قدره المنيف، وظنوا التساوى على مقتضى الحاله الأوليه قالوا يخاطبون أتباعهم وجوابا لنبيهم عليه السلام: "ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ... " الآية. وتأمل مقال الملأ هنا ومناسبته لما قدم من خلق الإنسان تجده أنسب شئ ولم يكن مقالهم فى كل موضع من هذه ليناسب غير ما وقع فيه والله أعلم. والجواب عن السؤال الثانى: أن الواقع فى سورة هود من قوله تعالى مخبرا عن

جواب قوم نوح: "ما نراك إلا بشرا مثلنا "إلى آخر كلامهم كلام لا يستقل مبتدأ به بل يستدعى ما يبنى عليه إذ لا يفتتح أحد أحدا مبتدئا بمثل هذا وإنما يتكلم بهذا جوابا ولما قال لهم نوح عليه السلام: "يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " إلى ما عرفهم به مما حصل منه الإعلام بمقامه النبوى جاوبوه بعدا عن تعرف صدقة ومعرفة حقه بقولهم: "ما نراك إلا بشرا مثلنا "، أى لو كنت كما تزعم لكنت من جنس الملائكة ولم تكن من جنس البشر وقد أفصحوا بهذا فى سورة المؤمنين وتكرر هذا المرتكب من غيرهم فى غير ما آية فلبناء هذا الكلام على ما قبله وتمحض الجوابية فيه ورد بالفاء المقتضية السببية والمبنية للجوابية ومثل هذا من غير فرق هو والوارد من جوابهم فى سورة المؤمنين من قولهم: "ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم "، ثم قالوا: "ولو شاء الله لأنزل ملائكة " وهذا هو الذى أشرنا إليه من مقالهم فى هاتين السورتين بالفاء لربط الجوابية وضوح السببية وأما قوله فى سورة الأعراف: "قال الملأ من قومه إنا لنراك فى ضلال مبين " فإن هذا وإن تضمن الجوابية فإنه كلام يستأنف ويبتدأ بمثله ولا يفتقر إلى ما يبنى عليه فناسب ذلك وروده بغير الفاء وحصلت الجوابية من حيث المعنى مع رعى ما يناسب فى النظم ونظير هذا فى وروده بغير الفاء لما ذكر قوله تعالى فى قصة هود عليه السلام: "قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك فى سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين " فتأمل جوابهم هنا لما كان الوارد فى قصة نوح عليه السلام فى أنه يبتدأ بمثله ولا يفتقر إلى ما يبنى عليه كيف ورد بغير الفاء فهذا يزيدك وضوحا فيما قدمناه والله سبحانه أعلم. والجواب عن السؤال الثالث: ويتنزل على تمهيد هو أن الله تعالى أمر رسله عليهم السلام بالرفق فى دعاء الخلق وحضهم على التلطف بهم والصبر على آذاهم فقال: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن " وقال تعالى: "واصبر على ما يقولون " وقال: "لست عليهم بمصيطر " وقال تعالى: "ودع أذاهم " وقال تعالى: "إن عليك إلا البلاغ "وقال: "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " وهذا كثير وقال تعالى لموسى وهارون: "اذهبا إلى فرعون أنه طغى فقولا له قولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " وعلى هذا جرى دعاء الرسل أممهم فى إخبار الله تعالى عنهم وتأمل ما تحمل من التلطف والرفق بالعباد قول الله سبحانه:

"يأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم " إلى قوله: "ولا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " وعلى هذا المنهج جرى ما ورد فى الكتاب العزيز من دعاء الرسل أممهم: "يا قوم استغفروا ربكم إنه كان غفارا ... "الآيات إلى قوله: "لتسلكوا منها سبلا فجاجا " ثم اختلف جواب الأمم فمن مسرع فى الإجابة بهداية الله تعالى ومن مبطئ ومن مصمم على ضلاله: "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " ثم لكل نبى مقامات ومقالات بحسب اختلاف الموطن والمجتمعات ولكل مقام مقال يناسبه فجرى اختلاف ما ورد جوابا بنسبة ما وقع الجواب عليه مع إحراز الأنبياء عليهم السلام ما أمروا به من الصبر والتلطف فى أكثر أحوالهم متوقفين فيما وراء هذا على ما يرد منه تعالى كما قيل لنوح عليه السلام: "إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن "فقطع عليه السلام رجاءه منهم وفهم من ربه تعالى جواز دعائه عليهم واستشعر انتقامه منهم فقال: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " وذلك بعد مبالغتهم فى البعد عن الاستجابة وقولهم: "قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين " قال تعالى فيمن سلك مسلكهم فى التكذيب: "فلما آسفونا انتقمنا منهم " وقال تعالى: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ... "الآية. فأقول بناء على ما تمهد أن قوم نوح لما ذكر تعالى عنهم فى سورتى هود والمؤمنين إساءة فى جوابهم لنبيهم وإطالة فى المرتكب حين قالوا فى سورة هود: "ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين " فجمعوا فى هذه الإطالة توهمهم مساواته عليه السلام، فيما رآه البادى من البشؤية والصورة الإنسانية إلى استرذال أتباعه كما قالوا فى الموضع الآخر: "أنؤمن لك واتبعك الأرذلون "وإلى التعامى عن فضله عليه السلام عليهم وظنهم كذبه وقد نزهه الله من ذلك كله فإذا تأملت مجموع هذا استطلعت منه مكنون كفرهم ومثل هذا من غير فرق قولهم فى آية المؤمنين: "ما هذا إلا بشر مثلكم "إلى قولهم: "إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين " فلإساءتهم فيما ذكر من الوارد عنهم فى الموضعين وصفوا بالكفر فقال تعالى: "فقال الملأ الذين كفروا من قومه " فوصفهم

بالكفر فى السورتين وأما آية الأعراف فقولهم فيها: "إنا لنراك فى ضلال مبين " ليس كجوابهم فى السورتين الأخريين لا من جهة الطول ولا من جهة المعنى لأن لفظ الضلال ليس بنص فى الضلال عن الدين لأنه يقال ضل بمعنى تحيز وجار عن دين أو طريق ويتسع فى إطلاق لفظ الضلال على غير ما ذكرنا وقد قال بعض المفسرون هنا فى تفسير الضلال: "إنه الذهاب عن طريق الصواب والحق " وبالجملة فإنهم لم يريدوا هنا الضلال الذى هو الكفر وإن كان قد يقع إذا تقدمته قرينة على أعظم من الكفر وأما هنا فليس كذلك فلما لم يكن فى الوارد فى سورة الأعراف من الإطالة فى العبارة والإبلاغ فيما قصدوه من المعنى مثل ما فى السورتين ناسبه الإيجاز وإن لم يوصفوا هنا بالكفر فقال تعالى: "قال الملأ من قومه "ومما يشهد أن قوم هود عليه السلام لما بلغوا فى إساءة جوابهم لنبيهم فى قولهم: "إنا لنراك فى سفاهة " وأرادوا فى قلة علم وخفة حلم قاله الغرنوى: وقال غيره: فى خفة حلم وسخافة عقل، فلما أساؤوا فى مقالهم هذا عبر عنهم بقوله تعالى: "قال الملأ الذين كفروا من قومه " فوصفوا بالكفر مناسبة لقولهم ولما لم يقع فى جواب قوم صالح مواجهة نبيهم بمثل هذا بل عدلوا إلى مخاطبة ضعفائهم بقولهم لمن آمن منهم: "أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه "فلما لم يواجهوا نبيهم بما واجه قوم هود عبر عن هؤلاء بقوله تعالى: "قال الملأ الذين استكبروا من قومه ". فإن قيل قد وصفوا بما يفهم كفرهم وهو الاستكبار قلت قوبل بهذا وصف مخاطبيهم بالاستضعاف وليس كالإفصاح بالكفر فوضح ما بسطناه أولا وجرى كل من ذلك على ما يناسب والله أعلم بما أراد. الآية التاسعة من سورة الأعراف قوله تعالى: " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) " وفى قصة هود: " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) " فيهما سؤالان قوله "وأنصح لكم " وفى الأخرى: "وأنا لكم ناصح أمين " والثانى أن كل واحد من هذين النبيين الكريمين يعلم من الله سبحانه ما لا يعلمه قومه فهل فى قصة نوح ما يحمله على قوله لقومه: "وأعلم من الله مالا تعلمون " ما ليس فى قصة هود؟ والجواب عنهما معا: أن قوم نوح عليه السلام لما رموه بالضلال وأكدوا ذلك

وزعموا استحكامه بالوصف فى قولهم له عليه السلام: "إنا لنراك فى ضلال مبين " فزعموا أن ضلاله غير خاف وهو الذهاب عن طريق الصواب ولا يكون إلا عن عدم العلم بما فيه رشاد الضال واستقامة حاله نفى عليه السلام كل ذلك عن نفسه بقوله: "ليس بى ضلالة " ثم أتبع بأوصاف عليع تناقض قولهم وتدفعه وتشهد للمتصف بها ببراءته من ذلك وترد ذلك الوصف عليهم وأنهم الأهلون لما رموه به فقال: "ولكنى رسول من ب العالمين " ولا يرسل رب العالمين المالك للكل العليم بهم إلا من جعله درجات المهتدين العالمين بنصاب الرسالة وما يلزم متحملها ثم بين لهم نصحه واستمراره فى إبلاغهم ونصحهم فقال: "أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم " ثم أتبع تعريفهم بجهلهم بما عنده من ربه ويعلمه هو بذلك فقال: "وأعلم من الله ما لا تعلمون " وإنما قال "وأنصح "، "وأعلم " ليعلم بتماديه على النصح لهم وهم لا يشعرون ولا يهتدون وبإمداده بزيادة علومه بالوحى وهم عن ذلك فى أشنع ضلال وأبعده فجمه عليه السلام فيما خاطبهم به رد مقالهم ورميهم بأكثر مما رموه به ورد ذلك عليهم بألطف رد وأبينه لمن وفق ونزه عليه السلام عبارته المخلصة لذلك على أتم الوجوه عن شنيع عبارتهم وقبح مواجتهم واما جواب هود عليه السلام فإن قومه لما قالوا: "إنا لنراك فى سفاهة " فرموه بخفة الحلم وقلة الثبات وكثرة الطيش نفى عليه السلام ذلك عن نفسه فقال: "ليس بى سفاهة " فرد قولهم ثم عرفهم برسالته وقدم ما ينبغى للرسول أن يكون عليه ثم أتبع بجليل أداء أمانة الرسالة من التبليغ والتمادى عليه فقال "أبلغكم " فجاء بالفعل المشعر بالتكرر والاستمرار قياما بإبلاغ رسالته وحفظا لأمانتها ثم قال: "وأنا لكم ناصح أمين " فعرفهم بصفتين جليلتين قد اكتنفته العصمة فيهما ومن كانت صفتاه اللازمتان له النصح والأمانة فقد تنزه قدره عن الطيش وعدم الحلم: "إلا إنهم هو السفهاء ولكن لا يعلمون " وإنما أتى فى إخبارهم بنصحه وأمانته بالاسم فقال: "ناصح أمين " وكم يقل: أنصح - فيأتى بالفعل - ليحصل منه أن ذلك الوصف الجليل لازم له غير مفارق ولم يكن الفعل ليعطى ذلك فجاء بالاسم وجعله الخبر عن ضميره الذى هو "أنا " فهذا مقصود ثابت الوصف ولزومه مثل الوارد فى قوله تعالى مخبرا عن المنافقين: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم " فأخبر عن قولهم للمؤمنين "آمنا " بالفعل

الماضى وليس من وضعه إعطاء الدوام فى الأكثر إذ قد يقول فعلت من أوقع الفعل مرة واحدة وأخبر تعالى عن قولهم لإخوانهم وشياطينهم بقولهم: "إنا معكم إنما نحن مستهزئون " فجاؤوا بالاسم إعلاما بصفتهم التى هم عليها مستمرون فكذا هذا الاخبار الواقع هنا فى هذا النقصود من التمادى والاستمرار حين قال هود عليه السلام: "وأنا لكم ناصح أمين " فجاء الاسم فانتفى ما رموه به من السفاه جملة وقابل عليه السلام مقالهم الشنيه بخبره الصادق عن نفسه فرد مقالهم ولم يكن الفعل يحرز هذا القصد كما أحرز قول نوح عليه السلام: "وأعلم من الله مالا تعلمون " الإخبار عن نفى ما رموه به جملة فجاء كل على ما يجب والله أعلم. ومما يسأل عنه فى هاتين الآيتين أن نوحا وهودا عليهما السلام إنما دعوا إلى العبادة قوما كفارا فى قصة نوح عليه السلام: "قال الملأ من قومه " وفى قصة هود عليه السلام: "فقال الملأ الذين كفروا من قومه " فوسموا بالكفر بخلاف قوم نوح؟ عليه السلام من قوله: "إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " وخوفه من تعذيبهم إنما كان لكفرهم ولم يقع ذلك فى دعاء هود لأن قوله: "أفلا تتقون " ليس فيما يعطيه من التخويف فى قوة: "إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " إذ قد يؤمر بالتقوى المؤمن ويقال للعاصى بصغيرة أفلا تتقى فلما كان فى دعاء نوح ما يشير إلى الكفر ويدل عليه اقتضى الإيجاز الاكتفاء بذلك ويشهد لهذا أن قصة صالح وقصة شعيب الوارد فيهما الدعاء إلى الإيمان على هذا المنهج لما لم يقع فى دعاء هذين النبين عليهما السلام ما وقع فى دعاء نوح عليه السلام مما ينبئ بالكفر ورد فى حكاية مقالة قومهما ما يحصل منه ذلك المقصود وذلك قوله تعالى: "قال الملأ الذين استكبروا من قومه " وذلك جار من الواقع فى قصة هود من غير فرق لأن استكبارهم عن إجابته والإيمان به كفر والله أعلم بما أراد. الآية العاشرة قوله تعالى: " فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) " وفى سورة يونس: " فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) "ففيهما أربع سؤالات يذكر كل سؤال منها متصلا به فى جوابه. الأول قوله "فأنجيناه "وفى الثانية "فنجيناه "فاختلف نقل الفعل بالهمزة فى

الأولى وفى الثانية بالتضعيف وفى الأولى "والذين معه " وفى الثانية "ومن معه " فاختلف الموصول أيضا. والجواب عن هذين السؤالين والله أعلم: أنا قد وضحنا فى كتاب البرهان أن ترتيب السور مراعى وترتيب الآى فى هذا الحكم أولى وأبين، وإذا تقرر هذا فاعلم أيضا أن لفظ الذى وما تصرف منه للمثنى والمجموع أصل فى الموصولات إذ لا يخرج لفظ الذى عن الموصولية أما من فإنها تخرج إلى الاستفهام والشرط وغيرهما والأصل فى النقل أيضا يكون بالهمزة وأما النقل بالتضعيف والباء وغيرهما فثان عن الأصل ومن يقول بالقياس فى النقل على اختلاف مذاهبهم من أن المقيس فيه النقل من الفعل إنما هو غير المتعدى أو المتعدى إلى واحد مغ غير المتعدى إلى اثنين مع الضربين قبله وهو قول الأخفش فكل هؤلاء إنما المقيس عندهم مما ينقل بالهمزة ويجعلون النقل بالتضعيف وغيره موقوفا على السمع. فإذا قرر ما ذكرناه فنقول إن سورة الأعراف ورد فيها قوله: "فأنجيناه والذين معه " كل منهما على الأصل فى نقل الفعل وفى الموصول فقيل: "فأنجيناه " وقيل: "والذين معه " وورد ذلك فى سورة يونس على ما هو ثان عن الأصل فى النقل وفى الموصول رعيا للترتيب ولا يمكن العكس على هذا. ثم انجر مع ذلك رعى تناسب التقارن لما ورد فى الأولى فأنجيناه بزيادة همزة النقل المثبت لها صورة الألف فى الخط ونطق يخصها بحركة الهمزة فطالت الكلمة بالألف خطأ وبالنطق بحركة الهمزة لفظا ناسبها الموصول الذى هو: الذين بزيادة حروفه على حروف "من ". ولما قيل فى الثانية: فنجيناه فجئ بما هو أخصر فى الخط ناسبه من الموصولات من المفرد فى معنى الذى وهو أخصر. السؤال الثالث: زيادة "وجعلناهم خلائف " فى سورة يونس وذلك مثال تفصيلى فى طائفة معينة من المجمل الوارد فى أول السورة من قوله تعالى: "ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات " إلى قوله: "ثم جعلناكم خلائف فى الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون " وقوم نوح عليه السلام أول أمة أهلكت بتكذيبها ثم خلفها غيرها فذكر من المتقدم مجملا أول واقع منه وأنهم جعلوا خلائف كما جرى فيمن بعدهم. والسؤال الرابع قوله تعالى: "إنهم كانوا قوما عمين " وذلك

الآية الحادية عشرة من سورة الأعراف قوله تعالى فى قصة صالح: " قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم "

مقابل به قولهم لنوح عليه السلام: "إنا لنراك فى ضلال مبين " فقيل لهم بل أنتم قوم عمون فأنى لكم بالتفريق بين الهدى والضلالة. وأما قوله فى الأعراف: "فانظر كيف كان عاقبة المنذرين " فليجرى مع آية الأعراف فيما ورد فيها من التعريف بإنذارهم فى قوله: "أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم " فوقع هنا التعريف بإنذارهم ثم ورد فى يونس بقوله: "فانظر كيف كان عاقبة المنذرين " فحصل التعريف فى الآيتين بإنذارهم وعاقبة من أنذر فلم يرجع عن غيه. الآية الحادية عشرة من سورة الأعراف قوله تعالى فى قصة صالح: " قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " وفى سورة هود: " وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ " وفى سورة الشعراء: " قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ " فاختلف الوصف لمختوم به فى الآى الثلاث فقد يسأل عن ذلك؟ والجواب: مثل هذا ليس بخلاف ولا مشكل لأن وصف العذاب بالإيلام لا ينافى وصفه بالقرب وإنما وصف فى سورة هود بالقرب ليجرى مع قوله بعد: "تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام " فجرى فى الوصف رعى هذا ولا ينافى ذلك الإيلام وأما الوصف فى سورة الشعراء بعظيم فمن صفة اليوم لما فيه من الأهوال لا من صفة العذاب فلا إشكال فى شئ من هذا. الآية الثانية عشرة قوله تعالى فى قصة صالح: "فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين " وكذا فى قصة شعيب فى السورة فيما بعد وفى سورة هود فى القصة المذكورة قبل: "فعقروها فقال تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام " وقال فى قصة شعيب فى سورة هود أيضا: "وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين " فورد فى هذه الآية الأخيرة تسمية عذابهم بالصحية وجمعه اسم الدار وفى الآيات قبل "بالرجفة " وإفراد الدار. فأقول إن وجه اختصاص كل سورة بما خصت به أن اسم الدار لفظ يقع على المنزل الواحد والمسكن المفرد ويقع على مساكن القبيلة والطائفة الكبيرة وإن اتسعت وافترقت وتعددت مساكنها وديارها إذا ضمها إقليم واحد واجتمعت فى

حكم أو مذهب، وإذا تقرر هذا فوجه اختيار لفظ الجمع فى الآية من سورة هود مناسبة ما اقترن به من لفظ الصيحة وهى عبارة هنا عن العذاب مطلقا دون تقييد بصفة وهو من الألفاظ الكلية فإن لم يكن عاما فانتشار مواقعه من حيث الكلية حاصلة. وأما الرجفة الزلزلة فلهذا اللفظ خصوص وهو جزئى ومن المعلوم بالضرورة انحصار الألفاظ فى الضربين فإن اللغة لا تختلف فى ذلك فالصيحة من حيث الكلية تطلق على ما كان من العذاب بالرجفة وغيرها وإذا عبرنا بالرجفة لم يتناول لفظها إلا ما كان عذابا بها فناسب عموم الصيحة جمع الديار مناسبة تركيب النظم وناسب خصوص الرجفة إفراد الدر. ثم إن وجه تخصيص سورة هود بما وقع فيها أنه ذكر قبلها من مرتكبات قوم شعيب وسوء ردهم على نبيهم عليه السلام ما لم يرد مثله فى آية سورة الأعراف وتأمل قولهم له: "ما نفقع كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز "، فتأمل ما فى ردهم هذا من الاستهزاء والإساءة وشنيع المقابلة لجليل وعظه عليه السلام، لهم ورأفته فى دعائهم إياهم بقوله: "إنى أراكم بخير وإنى أخاف عليكم عذاب يوم محيط " وقوله: "بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ " وقوله: "أرأيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقنى منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت " وقوله: "ولا يجرمنكم شقاقى أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح " وقوله: "واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربى رحيم ودود ". فما أجل تلطف هذا النبى الكريم فى دعائه إياهم وما أشنع ردهم عليه فلهذا ما عبر عن عذابهم وأخذهم هنا بأعم مما ورد فى غير هذه الآية ولما لم يرد فى غيرها مثل هذا فى الدعاء والجواب ناسبه اللفظ الأخص رعيا لإحراز النظم الجليل وعلى تناسبه مع أن لا كبير اختلاف فى المعنى الحاصل عن العبارتين والله أعلم. وجواب ثان فى اختلاف الوارد فيما أخذ به قوم شعيب وهو أن يكون المراد أخذهم بضروب من العذاب لقبيح مرتكبهم وسوء ردهم على نبيهم فبين ذلك قوله تعالى فى سورة الشعراء: "فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة " والظلة غيم تحته سموم فهذا ولا غير الرجفة لأنها زلزلة فعلى هذا يكونون قد أخذوا بعذاب الزلزلة

وعذاب الصيحة وهو عذاب يصحبه صوت وعذاب الظلة فورد ذلك على التدريج والتناسب بحسب ما ذكر قبل كل من هذا من مرتكباتهم وقد ذكر المفسرون تنوع عذابهم بالرجفة والصيحة والظلة كما امتحن آل فرعون بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة. الآية الثالثة عشرة من سورة الأعراف قوله تعالى فى قصة صالح: "فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين " وقال فى قصة شعيب عليه السلام: "الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين قتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين " للسائل أن يسأل ويقول: إذا كان كل من الرسل عليهم السلام قد أبلغ قومه ما أرسل به وكلهم فى أداء تلك الأمانة وحفظها على نهج سواء من غير تفاضل فى هذا - أعنى الأمانة والإبلاغ والعصمة فى ذلك - وإنما التفاضل بأشياء غير ما ذكر فإذا تساووا فيما ذكر وكلهم أمر بإفراد الله سبحانه بالعبادة واتقاء عذابه بالتزام الطاعات وامتثال الأوامر والنواهى وكلهم أمر ونهى وأوضح لقومه طريق النجاة وحذرهم من المهالك ووصف كل واحد منهم ربسول ووصف ما جاء به بالرسالة فالإفراد محصل للمقصود فما وجه الجمع فى قوله فى قصة شعيب عليه السلام: "أبلغتكم رسالات ربى " ولم لم يرد على الإفراد كما ورد فى قصة صالح؟ والجواب: أن العرب تراعى فى أجوبتها ما نيتها عليه من سؤال أو غيره، إن إطالة فإطالة أو إيجاز فإيجاز فأجوبتهم مراعى فيها المعنى ملحوظ فيما وردت جوابا له ولما ورد فى دعاء شعيب عليه السلام تفصيل فى الأمر والنهى والتحذير ألا ترى قوله بعد أمرهم بتوحيد الله: "قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها " ثم قال: "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا " وذكرهم بتكثيرهم بعد القلة فقال: "واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم " وإن يتذكروا حلا من تقدمهم ممن كذب فقال: "وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين " وورد عقب هذا من قول قومه له فى قوله تعالى حاكيا

عنهم: "لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودون فى ملتنا " وقولهم: "لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون " وقد انطوى هذا الكلام من التعريف بقبيح ردهم وشنيه مرتكبهم فى مجاوبتهم على أعظم اجترام، فحصل فى هذا من خطابه إياهم وما ردوا به وجاوبوه عليه السلام إطناب فى العبارة وإمعان فيما تحتها من المعانى فى كلا الضربين فناسب ذلك الجمع فى قوله: "أبلغكم رسالات ربى " أما قصى صالح عليه السلام فلم يقع فيها بعد أمرهم بالعبادة غير تعريفهم بأمر الناقة وأمرهم برعيها وتذكيرهم بقوم هود فى قوله: "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد ... "الآية ولم تنفصل مكالمته إياهم كتفصيل ما تقدم وأما المحكى عنهم من جوابهم فقوله تعالى مخبرا عنهم من قول كافريهم لمن آمن منهم: "إنا بالذى آمنتم به كافرون " وقولهم: "ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين " فليس هذا مثل المتقدم من جواب قوم شعيب له فى المحكى من العبارة ولا فيما تحتحته من المعنى فناسبه الإفراد الوارد فى قوله: "أبلغتكم رسالة ربى ". فإن قلت فقد ورد: "أبلغكم رسالات ربى " بالجمع فى قصة نوح وهود عليهما السلام، ولم يتقدم فى القصتين إطناب ولا إطالة تقتضى ذلك فإن الوارد فى قصة نوح من قول قومه له قوله تعالى: "قال الملأ من قومه إنا لنراك فى ضلال مبين " وهذا ليس كجواب قوم شعيب عليه السلام فى إطالته وإذا لم يكن فى ذلك طول فما وجه الجمع فى قوله: "رسالات ربى "؟ ولم لم يفرد كما فى قصة صالح إذ هى شبيهتها فى الإيجاز؟ فالجواب أن افظ الضلال وإن كان هنا لا يرادف الكفر حسبما تقدم وما يأتى فإنه يقتضى بحسب كليته وانتشار مواقعه مقتضيات عدة، وأنهم لم يريدوا تخصيصه بقوله بعينه من قوله عليه السلام بل أرادوا أقوالا كثيرة مما أمرهم به ونهاهم عنه ومما حذرهم وأنذرهم من عذاب الآخرة حين قال لهم: "إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " فلانسحاب اسم الضلال على مسميات شتى كان فى وزان ما طال من الكلام فأشبه الواقع فى قصة شعيب عليه الصلاة والسلام قال الزمخشرى: "الضلال الذهاب عن طريق الصواب والحق "فكأنهم قد فصحوا بأن قالوا لا نعتمد قولك فى شئ ولا نعول عليه لأنك ذاهب فيه عن طريق الصواب والحق ويشهد لإرادتهم هذا التفصيل قول نوح عليه السلام فى رد مقالتهم: "ليس بى ضلالة " ولم يقل ليس بى ضلال فينفى عين ما قالوه بل عدل إلى ما يدفع قليل

ذلك وكثيره فى كل قضية قضية، وإذا نفى وجود الضلال فى كل واحدة من تلك القضايا بعد انتفاء الضلال عن كلها وبرئت ذمته الرفيعة عن الاتصاف بشئ مما رموه به ومثله الزمخشرى بجواب من قيل له: "ألك ثمر فقال ولا ثمرة واحدة " وهو تنظير حسن فقد حصل إطناب وتفصيل فى المعنى ولطول المجاورة بينه وبين قومه ما قالوه له فى آخر مقالهم: "قد جادلتنا فأكثرت جدالنا "فلهذا قال: "أبلغكم رسالات ربى " فجمع فكأنه عليه السلام يقول: كل قضية أبلغتكم إياها فربى أرسلنى بها وكل منها رسالة أرسلت بها إليكم محفوظا فى ذلك بعصمة الله إياى منزها عما توهمتم من الضلال ثم أتبع بقوله: "وأعلم من الله مالا تعلمون " يريد مما منعكم من تصديقى فيه ما رميتمونى به من الضلال فرد عليه السلام قولهم بألطف رد وأرفقه بقوله: "وأنصح لكم وأعلم من الله مالا تعلمون " وفى طى هذا الكلام ما يفهم توبيخهم ويشير إلى تعاميهم وجهلهم فهو يرمى ما تمهد موضع جمع رسالة لما تحصل مما يفهمه النظم الجليل من التفصيل الذى به يتم المعنى المقصود فكلامه عليه السلام مع ما بنى عليه من التفصيل الذى تضمنه جوابهم فليس كالوارد فى قصة صالح عليه السلام فى قضية خاصة والله أعلم. ألا ترى قول ملإ قومه من كفارهم لمن آمن منهم: أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه فقصروا سؤالهم وخصوه بصحة الرسالة ثم قالوا للملإ من المؤمنين: "إنا بالذى آمنتم به كافرون " ثم بنوا على هذا سائر ما كان منهم من الكفر والعتو وعقر الناقة وإنما سألوا أولا ودار أمرهم على صحة إرساله عليه السلام فطابق ذلك الإفرد فى قوله: "أبلغتكم رسالة ربى " واما قول قوم هود فى جوابهم لنبيهم: "إنا لنراك فى سفاهة " والسفاهة الطيش وقلة الحلم فحال من اتصف بذلك كحال من اتصف بالضلال فلا يثبت على قول ولا يعتمد عليه فهذه كقضية قوم نوح فالجواب عنها كما تقدم فى تلك وكل وارد على ما يجب ويناسب والله سبحانه أعلم بما أراد. فصل: قد تقدم لنا فى هذه الآية وفيما قبلها أن الضلال يقع ما دون الكفر فيكون مع شناعة فيما يقتضيه بوصفه وإن لم يرد به الكفر دون الإفصاح بلفظ الكفر إذ يصح أن يطلق على متصف بالإيمان برئ من الكفر وقد قال تعالى مخبرا عن إخوة يوسف فى قولهم لأبيهم عليه السلام: "إنك لفى ضلالك القديم " وإنما أرادوا ما يرجع إلى خاطره عليه السلام برجائه يوسف وما يرجع إلى هذا وقد

الآية الرابعة عشرة من سورة الأعراف قوله تعالى: " ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين

تكرر نحوه فى القرآن فاعلم أن الرسل عليهم السلام لم يجر أمرهم فى دعائهم أممهم إلى الإيمان اولا كما جرى آخرا وبنسبة ذلك جرى جواب أممهم فى مراجعتهم فى الأكثر فإن الرسل عليهم الصلاة والسلام ابتدأوا دعاءهم الأمم بالتلطف والرفق والصبر وبذلك أمروا قال تعالى لموسى عليه السلام فى إرساله فرعون: "فقولا له قولا لينا " وهذا واضح والغال فى مجاوبة أممهم إنما جرى نسبة من هذا ألا ترى قول قوم نوح عليه السلام فى أول دعائه إياهم: "أنؤمن لك واتبعك الأرذلون " وظاهر هذا أنهم إنما أنفوا من الانقياد إلى أمره وقد سبقهم فى ذلك ضعفاؤهم ومن لم يروه بحسب التوهم الخيالى الضعيف أهلا أن يقتدى به وهذا كما قال غيرهم فى إخبار الله تعالى عنهم: "أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " وقول الآخرين: "لو كان خيرا ما سبقونا إليه " وهذا كله ليس إفصاحا بالتكذيب وإن أرادوه وكذا قول قوم نوح عليه السلام: "ما نراك إلا بشرا مثلنا " إلى ما اتبعوه من هذا وإنما أفصحوا بالتكذيب أخيرا قال تعالى فى أمر الكافة من الرسل حين توقف أممهم عن الاستجابة: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا " وقال تعالى فى مكذبيهم: "فلما آسفونا انتقمنا منهم " وتأمل دعاء الرسل حيث دعوا أممهم والتدريج فيما جرى منهم وسير نبينا صلى الله عليه وسلم يلح لك هذا وهو أبين من أن يطول بذكره فعلى هذا قلنا إن مقول قوم نوح فى أول جوابهم له: "إنا لنراك فى ضلال مبين " ليس كقولهم أخيرا: "قد جادلتنا فأكثرت جدالنا " وإنما قالوا: "بل نظنكم كاذبين " بعد طول محاورة ثم إنهم لم يدعوا علما بما قالوه من ذلك بل أفصحوا بأن ذلك ظن فالمراد والله أعلم بما رمى به قوم نوح نبيهم من الضلالة وإن تضمن من حيث انتشار مواقع التفصيل واحتمل قصدهم الكفر وغيره ليس كما لو أفصحوا أولا فقالوا: إنك كاذب أو كافر واعتبر هذا الذى أوجزته تجده أوضح شئ والله سبحانه أعلم. الآية الرابعة عشرة من سورة الأعراف قوله تعالى: " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) " وفى

سورة النمل: " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) " وقال فى سورة العنكبوت: " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) ". قلت: قد تقدم البيان أن اختلاف مقالات الأنبياء لأممهم إنما هو لاختلاف مقاماتهم إذ ليس دعاؤهم إياهم فى موقف واحد زلا لقوم مخصوصين بل يدعوا النبى طوائف من قومه فى أوقات مختلفة ومواطن شتى وقد يكون للطائفة منهم خصوص مرتكب فيراعى نبيهم ذلك فى دعائهم وقد يخاطب ملأهم الأعظم فى مواطن والفئة القليلة منهم فى موطن آخر وربما أطال فى موطن وأوجز فى موطن وذلك بحسب ما يرونه عليهم السلام أجدى وأنفع ولا اختلاف مجاوبة أممهم لهم، فهذا مما لا يحتاج إلى سؤال عنه وقد مر ذكر بيان ذلك وإنما يبقى السؤال عن وجه خصوص كل سورة بما خصت به من ذلك؟ وإذا أجبنا عن ذلك وأبدينا بحول الله المناسبة والالتحام حتى يتبين أن كلا من ذلك لا يصلح تأخيره عن الموضع الذى ورد فيه تعويضا بالوارد فى غير ذلك الموضع منه لم يبق فى هذه الآيات ما يشكل والحمد لله. وفى قصة لوط عليه السلام سبع سؤالات أولها: قوله فى مطلع الآيات فى الأعراف والنمل: "أتأتون الفاحشة " وقال فى سورة العنكبوت: "أئنكم لتأتون الفاحشة " وثانيها: وصف حالهم فى مرتكبهم فى الأعراف والعنكبوت بقوله: "ما سبقكم بها من أحد من العالمين " وفى سورة النمل: "وأنتم تبصرون ". والجواب عن هذين السؤالين: أن قوله فى الأعراف والنمل: "أتأتون الفاحشة " الهمزة فيها للاستفهام المقصود به الانكار والتعظيم فى توبيخهم على الفاحشة الشنعاء التى لم يأتها غيرهم ولما كان قد تقدم فى الأعراف من ذكر الأمم المكذبين ذكر قوم نوح وهود وصالح وذكرت مرتكباتهم السيئة من معاندتهم للرسل وتكذيبهم وسوء

مراجعتهم وذلك مما يطلع عليه من أتى بعدهم وقد خص بالذكر من مرتكباتهم أقبحها مما استوجبوا به العذاب وأخذ كل طائفة بذنبها قيل لقوم لوط، عليه السلام: إن هؤلاء المكذبين من قبلكم على سوء مرتكباتهم لم يسبقوكم إلى ما أنتم عليه وقد سمعتم بهم وخلت من قبلكم المثلات فناسب ما قدم من أحوال من قبلهم فى هذه السورة وذكر تلك الأحوال على التفصيل أن وبخ قوم لوط بقبيح جريمتهم وأم من قبلهم على سيئ أحوالهم لم يرضها فكأن قد قيل لهم: هذه قصص من تقدمكم وذكر مرتكباتهم التى أخذوا بها فهل وقع منهم ما وقع منكم؟ أو هل سبق أحد منهم إلى مرتكبهم الشنيع؟ فناسب ذكر الأمم المكذبين قبلهم تقريع هؤلاء بكونهم أول من فعل تلك الشناعة وأنهم لم يسبقهم قيل لهم فى سورة النمل: "أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون " أى تدركون فحشها ببصائركم وأمرها غير خاف على كل ذى عقل، فهل يصدر هذا إلا عن معاند متصف بأعظم الجهل؟ وقيل إنهم كانوا يتجاهرون بها ولا يستحيى بعضهم من بعض فالمراد بقوله: "وأنتم تبصرون " أى ترون ذلك بأعينكم لا يستتر بعضكم من بعض تهكما واستهتارا هذا أعظم الجهل فلستم ممن يعقل أو يعلم شيئا بل أنتم قوم تجهلون. ولما لم يتقدم فى هذه السورة تفصيل أحوال الأمم المكذبين وأخذهم ولم يذكر ذلك كان ذكرهم كأن لم يتعرفوا حال من تقدمهم فعدل عن توبيخهم بما وبخوا حيث ذكر من كان قبلهم إلى ضرب آخر من التوبيخ لم يكن نص عيه فى الأعراف من بيان شنيع المرتكب فى فعلهم. وأنه غير خاف، فقيل: "وأنتم تبصرون " أى أن من شأن من له عقل أو بصر يبصر على المأخذ الآخر أن يكتفى بعقله وإبصاره فى ميز ما يشنع. ثم قد تقدم فى هذه السورة قوله فى قصة موسى عليه السلام: "فلما جاءتهم آياتنا مبصرة " أى بينة واضحة جحدوا بها، وهذا أقبح واضحة أو مرئية مشاهدة بالابصار جحدوا بها وهذا من أقبح مرتكب. فلما تقدم هذا ناسبه فى قصة لوط عليه السلام قوله: "وأنتم تبصرون " ولقبح هذا التعامى ما أعقب بقوله بعد: "إنكم قوم تجهلون ". ولما تقدم فى سورتى الأعراف والنمل تقريرهم تقريعا وتوبيخا وعرفوا بذلك مرة بعد مرة وردت قصتهم فى العنكبوت مؤكدة بأن واللام لثبوتها فوردت مورد ما يجئ بعد القسم متلقى به القسم، إذ قد تقدم تقريرهم التوبيخى مرتين فجاء الاخبار بعد بما به يخبر عن المتقرر الثابت ولم يكن ليناسب العكس وهذا على مقتضى الترتيب فى السور والآى فجاء كل على ما يجب.

والسؤال الثالث إنه لما تقرر بقوله فى الأعراف والنمل: "إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء " ذكر مرتكبهم القبيح وأنهم فى ذلك من حيث لم يراعوا فى فعلهم إلا مجرد الشهوة ولم يلحظوا ما يلحظه العقلاء ولا ما قررته الشرائع من قصد التناسل والتوالد وقد جبلت عليه البهائم وجرى التعريف من حالهم فى سورة العنكبوت بمثل ذلك فقال تعالى: "أئنكم بتأتون الرجال " فللسائل أن يقول ما وجه اختلاف ما بنى علي هذا الإخبار فى السورتين من وصفهم فقيل فى الأولى: "بل أنتم قوم مسرفون " وفى الثانية: "بل أنتم قوم تجهلون "؟ والعدول فى سورة العنكبوت عن قوله: "شهوة من دون النساء " إلى قوله: "وتقطعون السبيل وتأتون فى ناديكم المنكر "؟ ما الوجه فى هذا وقد اتفق الإخبار فى مطلع الآى فى هذه السور الثلاث؟ والجواب عن ذلك والله أعلم أنه قصد بما ذكر فى سورة الأعراف الإشارة إلى التعريف بانهماكهم فى الجرائم وقبيح المرتكبات فنص على أفحشها وحصل الإيماء إلى ما وراء ذلك بما ذكر من إسرافهم: "بل أنتم قوم مسرفون ". ولما قيل فى سورة النمل: "أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون " كان أهم شئ أن تنفى عنهم فائدة الأبصار إذ لم تغن عنهم شيئا فأعقب بقوله: "بل أنتم قوم تجهلون " أى أن مرتكبكم مع علمكم بشنيع ما فيه من أقبح ما يرتكبه الجهال ولم يذكر هنا إسرافهم إذ قد حصل فيما ذكر فى الأعراف. وأما سورة العنكبوت فقصد فيها تفصيل ما أشير إليه فى الأعراف من شنيع ما ارتكبوه من إسرافهم فقيل: "أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون فى ناديكم المنكر " وورد أولا - بحسب التريب المتقرر عليه السور والآيات - ذكر أفحش مرتكباتهم ثم أجمل القول فى سائر جرائمهم ثم أتبع فى السورة الثانية بشنيع حالهم فى تلك الفعلة المنصوص عليها من حيث بيان فحشها للأبصار والبصائر ثم أتبع ذلك فى السورة الثالثة بتفصيل بعض قبائح أفعالهم والتنصيص عليها وجاء كله على ما يجب ولا يمكن العكس فيما ورد والله أعلم. والسؤال الرابع: ما وجه الاختلاف الوارد فى جواب قوم لوط عليه السلام له فى سورة الأعراف: "فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " وفى سورة النمل: "أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس

يتطهرون " وفى سورة العنكبوت: "ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين "؟ والجواب أنه لما زيد فى تعنيفهم فى النمل وتعريفهم بإتيانهم الفاحشة على علم بها أو مع مشاهدة بعضهم بعضا وعدم استخفائهم بها وذلك أقبح فى المرتكب فلما زيد فى تعليل الاخراج التنصيص على الآل لأن قوله: "آل لوط " - أنص فى إخراج جميع من للوط عليه السلام من ذويه وأهله من قوله: "أخرجوهم " بزيادة التنصيص الأعم بإزاء الأزيد فى التقريع ولما عدد من قبائح مرتكباتهم فى العنكبوت ما عدد بقوله: "أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون فى ناديكم المنكر " فكان تعداد مرتكباتهم أشد توبيخا فى تقريعهم وأنكأ لتمييز أفئدتهم كان مظنة تهيج واشتعال لسئ أخلاقهم وقبيح جوابهم فجاوبوا جواب من استحكم حنقه وطبع على قلبه فقالوا: "ائتنا بعذاب الله " تحكيما وتحقيقا لتكذيبهم وشاهدا بتصميمهم على المعاندة والكفر لأن قولهم فى الموضعين قبل: "أخرجوهم من قريتكم " على شناعة مرتكبهم فيه ليس كقوله: "ائتنا بعذاب الله " لأن قولهم: "أخرجوهم من قريتكم " يفهم فحواه ما يستلزم إخراجهم من مجازاتهم على ذلك فهو فى قوة قول القائل لمعانده: أنا أعاملك بكذا فإن قدرت على الانتصار لنفسك فافعل وقول القائل: أنا أفعل كذا ولا أبالى بما يكون عن ذلك وكأن قد قالوا: أخرجوهم فإن كان عذاب فليأت به فلما اشتد حنقهم نا طلبوا العذاب وعدلوا عن ذلك السبب استعجالا للمسبب فجاء كل من هذا على ما يجب والله سبحانه أعلم. والسؤال الخامس قوله فى الأعراف: "فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين " وفى سورة النمل: "قدرناها من الغابرين "، وقد ورد فى إهلاك امرأة لوط عليه السلام فى الحجر: "إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين " وللسائل أن يسال عن وجه الاختلاف فيما ذكر وورود كل من هذه العبارات حيث ورد؟ والجواب أن قدرناها معط من المعنى ما يعطيه كانت من غير فرق لأن المراد إلحاقها بالهالكين وإخراجها من الناجين وهذا المعنى هو المراد بقدرناها مشددا وذكلك قوله فى الحجر: "قرنا أنها " وأما وجه اختصاص "كانت " بآية الأعراف فليناسب إيجازا قوله: "أخرجوهم " وقوله فى النمل "قدرناها " ليناسب: "أخرجوا آل لوط " وقوله فى

الحجر: "قدرنا أنها " ليجرى مع ما وكد قبل بأن ويناسبه كقوله: "إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين " وقوله: "إنا لمنجوهم أجمعين " فقيل مناسبا لذلك: "قدرنا أنها " وتناسب هذا كله. والسؤال السادس ما وجه تعقيب قوله فى الأعراف: "وأمطرنا عليهم مطرا " بقوله: "فانظر كيف كان عاقبة المجرمين " وفى النمل بقوله: "فساء مطر المنذرين " وهل كان يحسن العكس؟ والجواب أنه لما تقدم فى الأعراف قوله: "ما سبقكم بها من أحد من العالمين "حصل منه أن ارتكابهم ما لم يسبق إليه غيرهم قد جمع إلى قبيح الفحش الاجترام من حيث لم يفعل تلك الفعلة الشنعاء من تقدمهم فأجمع إلى الفحش الاجترام فأعقب بقوله: "فانظر كيف كان عاقبة المجرمين " ولما تقدم فى النمل قوله: "أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون " حصل منه تعنيف وإنذار لم يقع مثله فى الأعراف إذ ليس موقع قوله: "ما سبقكم بها من أحد من العالمين " فى الانذار والتعنيف كموقع تعريفهم بعلمهم بها وشنعة معاينة بعضهم بعضا من ارتكابها فناسب إنذارهم بهذا ما أعقب به من قوله: طفساء مطر المنذرين " ولو أعقبت آية الأعراف بهذا أو آية النمل بما أعقبت به آية الأعراف لم يكن متناسبا فجاء كل على ما يجب والله أعلم. والسؤال السابع ما وجه قوله فى الأعراف: "وما كان جواب قومه "منسوقا بالواو وفى النمل والعنكبوت: "فما كان جواب قومه " بالفاء مع ان القصة واحدة فلا فرق بين الجوابين؟ والجواب أنه حيث يراد مع ما سببية أو ما يشبه معنى المجازاة وكان الكلام المجاوب بصريح الفعل إذ هو أوضح إحرازا لهذا المعنى فحيث يجئ هذا فالوجه والأولى أن يترتب الجواب بالفاء وسواء تسبب عن الأول أو أقيم مقام ما تسبب عن الأول مثال الجارى على طريقة السببية قوله تعالى: "سنقرئك فلا تنسى " وقوله: "فآمنوا فمتعناهم إلى حين " وقوله: "فكذبوه فأنجيناه "وهذا كثير. ومثال الثانى: "ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " وقوله: "وجعلنا لهم سمعا وأبصرا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ ".

ولما تقدم فى سورة النمل قوله تعالى: "أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون "أى وقد منحتم بصائر للفه والاعتبار أو أبصارا لإدراك الأشياء وإحراز الحياء المانع من مواقعة العار. فما أثمر أنس ذلك لكم إلا التعامى عن رشادكم وتمادى عنادكم فختام الآيتين بقوله: "وأنتم تبصرون " وقوله: "بل أنتم قوم تجهلون " فالجملة الفعلية فى خبر المبتدأ فى الأول وفى الصفة الموطئة للخبر فى الثانية مسوغ لتقدير معنى السببية لذلك من الواو فى سورة الأعراف إذ الختم فى الآيتين قبل آية الجواب بالجمل الإسمية: "ما سبقكم بها من أحد من العالمين بل أنتم مسرفون " فليس هذا فى تقدير السببية كالأول فالجواب هنا بالواو وحسن مع جواز الفاء والجواب بالفاء حيث تقدم أقوى لمكان الفعل وكون المعنى عليه فورد على ما يقويه السياق ويشهد له المعنى. وأما آية العنكبوت فقد تقدم فيها أيضا قوله تعالى: "أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون فى ناديكم المنكر " فهذه جملة فعلية وتقدير معنى السببية فيها كآية النمل، فالجواب فيها بالفاء كما فى آية النمل أولى وأجرى مع المعنى وما يعطيه السياق وجاء كل ذلك على ما يناسب والله أعلم. الآية الخامسة عشرة من سورة الأعراف قوله تعالى: " وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره "وفى سورة هود: "وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره " وفى سورة العنكبوت: "وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله "فاختصت آية العنكبوت بالفاء فى قوله "فقال "فيسأل عن ذلك؟ والجواب عنه: أنه لم يقع فى سورة العنكبوت من ذكر إرسال الرسل ما بنى على أرسلنا ظاهرا ومقدرا منوطا به ذكر المرسل إليهم بحرف الغاية الذى هو "إلى " غير قوله تعالى: " لقد أرسلنا نوحا إلى قومه "وقوله: "وإلى مدين أخاهم شعيبا " وتعلق حرف الغاية فى الأولى بالفعل الظاهر وهو "أرسلنا " وتعلق فى الثانية بأرسلنا المقدر وقد قيل فيما بنى على الأخبار بالإرسال فى الأولى: "فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما " بالفاء فى قوله "فلبث فيهم " فقيل فى الثانية "فقال " بالفاء لتناسب ما ورد فى هذه السورة من ذكر إبراهيم ولوط عليهما السلام فعلى غير البناء على أرسلنا ظاهرا أو مقدرا أو إيصاله إلى المرسل إليهم

الآية السادسة عشرة قوله تعالى: " تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين "

بإلى عدل فى ذلك إلى ما يصح فيه تقدير أذكر كقوله: "وابراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه " وقوله: "ولوطا إذ قال لقومه " فلما انفردت الآيتان اولا وهما آية إرسال نوح وآية إرسال شعيب لما انفردتا بما ذكر نوسب بينهما فدخلت الفاء فى قوله "فقال " فى قصة شعيب عليه السلام كما دخلت فى قوله "فلبث " فى قصة نوح كما تقدم. وأما آية الأعراف وآية هود فإنه لما ذكر فى كل واحدة من هاتين السورتين جماعة من الرسل مبينا أخبارهم على وتيلة واحدة من ذكر الرسل والمرسل إليهم وتكرر ذلك بدئ بأول قصة على الاستيفاء فقيل: "لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " ثم أوجز بعد فورد بغير الافصاح بلفظ الارسال وبغير الفاء والتحم ذلك وتناسب لاتحاد المقصد فى السورتين والله أعلم. الآية السادسة عشرة قوله تعالى: " تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ " وفى سورة يونس: " ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) " وورد فى أول هذه السورة أيضا: " وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ". فيها أربع سؤالات الأول: ورود الضمير المجرور فى الآية الثانية من سورة يونس وهو قوله "به " وسقوطه مما سواها والثانى قوله "كذلك يطبع الله " فجئ بالاسم الظاهر فى سورة الأعراف بالكفر وفى ثانية يونس بالاعتداء والرابع قوله تعالى فى الأولى فى سورة يونس عدولا عما فى السورتين "كذلك نجزى القوم المجرمين ". للسائل أن يسأل عن ذلك؟ والجواب عن الأول: أنه لما تقدم فى سورة الأعراف قوله تعالى: " وتصدون عن سبيل الله من آمن به " وقوله: "وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا " ثم قال بعد: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا " وقع الاكتفاء بما تقدم من قوله "بالذى أرسلت به " والذى أرسل به هو الذى طلب منهم الإيمان به فحصل المقصود فلو قيل أخيرا "به " لكان تكرارا فاقتضى الإيجاز وإحراز البلاغة حذفه لحصوله كما حذف من قوله:

"وطائفة لم يؤمنوا " مع أنه مراد فحذف الموصول وصلته ورابطها إذ التقدير وطائفة لم يؤمنوا بالذى أرسلت به لحصول ذلك مما تقدم وأما قوله فى يونس: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل " فإنه لما تقدم هنا ما تقدم هناك فلم يكن بد من الإتيان بالضمير ليحصل ما وقع من التكذيب ولترتبط الصلة بالموصول. والجواب عن الثانى: أن قوله تعالى فى سورة يونس: "كذلك نطبع على قلوب المعتدين " مناسب ومرتبط بما افتتحت به الآية من قوله تعالى: " ثم بعثنا " فأخبر تعلاى بإنعامه على عباده - ممن هداه - بنعمة الرسل إحسانا وامتنانا ولتقوم الحجة على الخلق فقال تعالى: "بعثنا " بإضافة هذا الفعل إلى الكناية العلية وهى ضمير المتكلم فناسب ذلك ما بنى عليه وارتبط به من قوله تعالى: " كذلك نطبع " مراعاة للتناظر والتقابل وأما آية الأعراف فمبنية على مطلعها من قوله تعالى أول الآية: "ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " فلم يتقدم ما يطلب بورود الفاعل مضمرا فجاء على ما يجب إذ لا طالب بمناسبة. والجواب عن الثالث: أن آية الأعراف لما تقدمها قصص قد جرى فيها ذكر مكذبى الأمم أنبياءهم وما ردوا عليهم وخاطبوهم به كقول كفار قوم صالح عليه السلام لمن آمن به منهم: "إنا بالذى آمنتم به كافرون " وقولهم: "ياصالح ائتنا بما تعدنا " وقول الملإ من قوم شعيب لمن آمن منهم: "لئن اتبعتم شهيبا إنكم إذا لخاسرون " إلى ما بعد وما قبل من سئ المجاورة من مكذبى الأمم فحصل من هذه الآى من التعريف بحال هؤلاء الأمم هذه القصص بذكر غيرهم ممن سلك مسلك من تقدمهم من المذكورين ما ناسبه قوله تعالى عقب جميعها: "كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " وأما آية يونس فلم يتقدم قبلها تفصيل ولا إفصاح بمخاطبة نبى ومواجهته بمثل ما فى آى الأعراف بل ورد ذلك مورد الإجمال فناسبه وصفهم بالاعتداء وإن لم يقع إفصاح بكفرهم مع أنهم كفار وإن ذلك حاصل من مجمل ذكرهم إلا أن جليل مناسبة النظم مقتض ما ورد عليه كل مما فى السورتين وذلك واضح، والله أعلم بما أراد. والجواب عن السؤال الرابع: أن قوله تعالى: " كذلك نجزى القوم المجرمين " لم يتقدم قبله تفصيل قصص ولا بسط قصة منها بل أوجز معنى ما انطوت عليه تلك القصة فعبر عن ذلك بقوله تعالى: "ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا "

الآية السابعة عشرة قوله تعالى: " قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل فى المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون "

فناسب هذا الإيجاز ما بنى عليه من قوله: "كذلك نجزى القوم المجرمين " ومن التعبير عن المشار إليهم من المهلكين بالاجرام - وهو أكبر موقعا من الاعتداء - ليطابق وصفهم بالظلم والمراد به تكذيبهم الرسل وكفرهم بما جاؤوهم به، فلم يكن ليطابق ذلك الوصف الاعتداء ولم يوصفوا أيضا بالكفر إذ لم يقع به إفصاح فيما تقدم فكان وصفهم بالإجرام أنسب والله أعلم. الآية السابعة عشرة قوله تعالى: " قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل فى المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون " وقال فى الشعراء: "قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث فى المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة ". فى هذا أربع سؤالات: أولها قوله تعالى فى الأعراف: "قال الملأ من قوم فرعون " وفى الشعراء: "قال للملإ من حوله " والثانى قوله فى الشعراء: "بسحره " ولم يثبت ذلك فى الأعراف، والثالث قوله فى الأعراف: "وأرسل " وفى الشعراء: "وابعث " ولارابع قوله فى الأعراف عقب قوله: "يأتوك بكل ساحر عليم ". "وجاء السحرة فرعون " وأعقب فى السعراء قوله: "يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين " وبعد ذلك قيل: "فلما جاء السحرة ". والجواب عن الأول أنه لا توقف فى أن موسى عليه السلام خاطب فرعون وملأه وأنه أمر بخطابهم وإليهم أرسل قال تعالى: "ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرون وملئه " وإنه لما دعاهم لتصديقه والإيمان به جاوب فرعون وجاوب ملأه بقول فرعون: "إن هذا لساحر عليم " إنما قاله لملئه ولمن حضره ثم قال ذلك ملؤه لحاضريهم وبعضهم لبعض وإذا وضح أن ذلك القول صدر من فرعون وقاله أيضا ملؤه بقى السؤال عن جه اختصاص كل سورة بما خصت به؟ والجواب أنه لما تقدم فى سورة الأعراف قوله تعالى: " ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه " فوقع ذكر الملأ مبعوثا إليهم مع فرعون

ناسب ذلك أن يذكروا فى الجواب حتى يكون فى قوة أن لو قيل: بعث إليهم وخوطبوا فقالوا ولم يكن ليناسب "بعث إليهم " فقال: فرعون. ولما تقدم فى سورة الشعراء قوله: "فأتيا فرعون " ثم جرى ما بعد المحاورة ومراجعة الكلام بين موسى عليه السلام، وفرعون ولم يقع الملأ هنا ناسب ذلك قوله "قال فرعون " لأنه الذى راجع وخوطب فجاء كل على ما يناسب. فإن قيل: فقد قيل فى الأعراف: "إلى فرعون وملئه " فقد فرعون فهو أعمد من الملأ لأنهم أتباعه وآله فلم لم يبن الجواب على ذلك فيقال "قال فرعون " فالجواب أنه لو قيل: قال فرعون لبقى التشوف إلى تعريفهم قول الملأ وهم قد بعث إليهم وخوطبوا ولابد من تعرف جوابهم وبه يحصل تعرف جوابه هو لأنه اله وتابعوه إنما يتكلمون غالبا بما يريد ويصدر عنه ويبدأ به وقد تبين ذلك فى سورة الشعراء وان فرعون خاطبهم وذلك فى قوله تعالى: " قال للملإ حوله " فجاوبوا فحصل من جوابهم جوابه ولو جاوب هو وسكت ملؤه لأمكن أن يكونوا قد استوضحوا الحق وخالفوا فرعون كما جرى للسحرة وقد كانوا ناصرين لفرعون ومن معه فجاء جواب الملأ منصوصا وحصل منه جواب متبوعهم ولم يكن ليحصل من جوابه على انفراده وحصلت مناسبة ما تقدم من قوله: "إلى فرعون وملئه ". فإن قلت ورد فى الشعراء جواب فرعون دون جواب ملئه؟. فالجواب: أنه قد جاوبوا بعد وذلك أنه لما خاطب فرعون ملأه الأقربين وألقى إليهم ما اعتقده بضلاله فى أمر بنى الله موسى عليه السلام، واستشارتهم بقوله: "فماذا تامرون "وجاوبوه بموافقته العائدة على جميعهم بالخسران المبين بين ذلك قوله تعالى مخبرا عنهم: "قال للملإ حوله " وهذا يوضح أن جوابهم فى الأعراف مبنى على استطلاع ما عنده وسماع ذلك منه كما وضح منه كما وضح هنا، ثم روعى تناسب النظم والتقابل كما تقدم. فقد تبين أن الوارد فى سورة الأعراف ليناسب ما تقدم فى سورة الشعراء بوجه: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ". والجواب عن السؤال الثانى: أن زيادة "بسحره " فى الشعراء لأنه من قول فرعون طاغية موسى عليه السلام وهو أحنق عليه من الملأ بجمعهم وأعظمهم بغضا له وكراهة لما جاء به موسى فأكد بقوله "بسحره " طمعا فى صغوهم لقوله والثبات على

مذهبه الشنيع ومرتكبه ورجاء أن يعتقد الملأ من قومه أن آية موسى عليه السلام سحر لا توقف فيها فلم يقنع بقوله لملئه: أنه لساحر عليم وأنه يريد إخراجهم من أرضهم حتى سجل على ذلك وأكده طمعا فى قبول باطله بقوله "بسحره " ولا لم يكن حال الملإ من قومه كحاله فيما ذكر اكتفوا بقولهم لرسولهم وبعضهم لبعض: "إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم " فهذا قول الملإ والذى ثبت فى الشعراء قول فرعون وزيادة "بسحره " لتبين حال الملإ من حال فرعون المتولى كبير الأمور والتناسب بين وكل فى السورتين وارد على ما يجب وقد وضح أن العكس غير مناسب والله أعلم. ويشهد أن زيادة "بسحره " من فرعون لزيادة حنقه تكرر ذلك من قوله فى سورة طه: "قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى " فأما بعد فى هذه السورة من قوله سبحانه مخبرا عن الملإ: "قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما " فإنما قالوه بعد تنازع وتعارض فيما بينهم وفرعون فى جملتهم يدل على هذا ما تقدم من قوله تعالى: " فتول فرعون فجمع كيده ثم أتى " وقوله: "فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى " وإنما أسروا نجواهم - بعد تنازعهم فى أعمال المكيدة - فيما حل بهم وفرعون مرجح لرأيهم وأبلغهم احتيالا وكيدا فيما تشاورا فيه فلم يمكنهم فى هذا المجتمع الا القول بما رآه بعد تنازعهم عليه فقالوه بتوقيف منه وهو حاضرهم حال تنازعهم وقولهم لموسى عليه السلام فإذا هو القائل لا الملأ وان الوارد فى الأعراف فقول الملإ إذ لا يقتضى قوله: "قال الملأ من قوم فرعون " أن فرعون هو القائل وان كان كذلك بل الظاهر السابق من هذه العبارة أنه قول الملإ منفردين عن فرعون والتناسب اللفظى هو المطلوب وقد تبين. والجواب عن السؤال الثالث وهو ورود "وأرسل " فى سورة الأعراف وفى الشعراء "وابعث " فالجواب عنه مبنى على الترتيب الذى استقر عليه المصحف فنقول: "إن أرسل أخص فى باب الارسال من البعث إذ لا يقال أرسل الا فيما كان توجيها فيه معنى الانتقال حقيقة أو مجازا أما بعث فأوسع فإنه يقع بمعنى الارسال وبمعنى الاحياء ومنه البعث الأخراوى ففيه اشترك فلما كان الارسال أخص وقع الاخبار به أولا ثم وقع ثانيا بالبعث تنوعيا للعبارة وعلى الترتيب فى موضع اللفظ المطرد من القرآن ولا يمكن على ما تقرر من ذلك العكس ونظير هذا مما تقدم تبع واتبع ويذبحون ويقتلون وقد مر بيانه والإطراد واضح شاهد فى هذا.

والجواب عن السؤال الرابع وهو ورود قوله تعالى: " وجاء السحرة فرعون " فى الأعراف عقب قوله: "يأتوك بكب ساحر عليم " وتأخير الإخبار بمجيئهم فى الشعراء وورود: "فجمع السحرة ... "الآيات المذكورة فاصلة بين ما اتصل فى الأعراف؟ فاعلم أولا أن كلا من العبارتين لابد منهما فى تحصيل المطلوب إذ جمعهم لا يعطى بهذه العبارة أنهم جاؤوا فرعون ولا مجيئهم فرعون يحصل منه المعنى الحاصل من قوله: "فجمع السحرة لميقات يوم معلوم " فلابد من العبارتين اجتمع مجموع ذلك فى الشعراء ولم يذكر فى الأعراف جمع السحرة وما بعده فيبقى السؤال عن وجه اختصاص كل من السورتين بما ورد فيهما؟ واختصاص الشعراء بالاستيفاء والجواب عن ذلك أن قوله تعالى: " فجمع السحرة لميقات يوم معلوم " إلى ما اتصل بهذا مما يتضمن معناه فيه إطناب يناسب ما تقدم من ذلك فى محاورة موسى عليه السلام ومكالمته فرعون من لذن قوله تعالى: " وإذ ينادى ربك موسى "الى هذه الآية ولم يقع فى قصصه عليه السلام فى السورة الوارد فيها قصصه من الإطالة فى مراجعة فرعون مثل الوارد هنا فناسبه ما أعقب به مما لم يقع الإخبار فى الأعراف ولما كان الوارد قبل آية الأعراف مبنيا على الإيجاز ويحصل المراد بأوجز كلام، ناسبه إيجاز الآية المذكورة وورد كل من ذلك على ما يجب ويناسب ولا يحسن فيه العكس والله أعلم. الآية الثامنة عشرة قوله تعالى فى سورة الأعراف: "وجاء السحرة فرعون قالوا أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين " وفى الشعراء: "فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجر إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين " فيسأل عن زيادة "إذا " فى سورة الشعراء وسقوطها فى سورة الأعراف؟ وتحرير الأعراف فى قوله: "وجاء السحرة فرعون قالوا " بخلاف الوارد فى سورة الشعراء من قوله: "فلما جاء السحرة فرعون قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا "؟ والجواب عن الأول: أن "إذا " تقع جوابا وجزاء والمعنى فى السورتين مقصود به الجزاء فوقع الاكتفاء فى الأعراف بقوله تعالى "نعم "والمعنى: نعم لكم ما أردتم من الأجر وزيادة التقريب والحظوة ولا شك ان المعنى: إن غلبتم فلكم ذلك فالمعنى على ذلك ثم ورد فى سورة الشعراء مفصحا بالأداة المحرزة له وهى "إذا " ليناسب

بزيادتها ما مضت عليه - أى هذه السورة - من الاستيفاء والإطناب كما تقدم وناسب سقوطها فى الأعراف مقصود الإيجاز فى هذه القصة وقد مر هذا وعلى ذلك جرى الوارد من قوله فى الأعراف: "وجاء السحرة فرعون قالوا " ويجرى فى مثل هذا كثيرا عطفه بالفاء مناسبا لما يقصد فى الكلام من الارتباط أو بالواو تحكيما للاشتراك كقوله [بياض فى كل النسخ] ونظير الآية فى سقوط حرف التشريك: "وجاؤوا أباهم عشاءا يبكون قالوا يأبانا " ومجرى الإعراب فى الآية أن يكون قوله "قالوا " مقدرا لاستئناف كأن قد قال قائل: لما قال: " وجاء السحرة فرعون "قيل فما فعلوا أو ما قالوا فجووب بهذا المقدر بقوله: "قالوا أئن لنا لأجرا " وهذا الضرب كثير فصيح وموجود حيث يقصد بالإجاز كهذه الآية وأما الوارد فى الشعراء من قوله: "فلما جاء السحرة قالوا " فوارد على مالا يحتاج فيه إلى تقدير وعلى ما هو الأصل فى تركيب مثله من الكلام ومناسب للاطناب المبنى عليه ما قبل الآية وكل على ما يجب والله أعلم. الآية التاسعة عشرة من الأعراف قوله تعالى: " قالوا ياموسى إما ان تلقى وإما أن نكون نحن الملقين " وفى طه: "قالوا ياموسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى " وهنا سؤالان: أحدهما أن كلام السحرة وتخييرهم فى الإلقاء على ظاهر السياق كان فى موطن واحد فما وجه الاختلاف ما ورد فى السورتين؟ والثانى ما وجه اختصاص كل من السورتين بما ورد فيها؟ والجواب عن الأول: أن لا يلزم من الآية أن كلام السحرة هذا كان فى موطن واحد بل لعله كان فى موطنين أو لعله قد تكرر منهم وإن كان فى موطن واحد أو لعل بعضهم قال هذا وقال بعضهم هذا أو لعل المعنى الذى حكى عنهم تعطيه العبارتان وهذا أقرب شئ لما بين اللغات من اختلاف المقاصد عند المواضع الأولى أو قصد الإلهام على الخلاف فى ذلك ومع هذه الاماكانات يسقط الاعتراض رأسا. والجواب عن السؤال الثانى: أن كل واحدة من الآيتين جرت على وفق فواصل تلك السورة ورؤس آياتها فالعكس لا يناسب بوجه فوجب اختصاص كل سورة بما ورد فيها. الآية الموفية عشرين قوله تعالى: " قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون "

وكذا فى الشعراء، وورد فى طه: "قالوا آمنا هارن وموسى " هنا كالمتقدمتين الجواب كالجواب من غير فرق. الآية الحادية والعشرون قوله تعالى: " قال فرعون آمنتك به قبل أن آذن لكم " وقال فى طه والشعراء: "قال آمنتم له قبل أن آذن لكم ". هنا سؤالان: أحدهما ظهور اسم فرعون فى آية الأعراف وإضماره فى السورتين والثانى قوله فى الأعراف: "آمنتم به "بجر موسى عليه السلام بالباء وقوله فى طه والشعراء: "فآمنتم له " بجر الضمير باللام والمقصود واحد. والجواب عن الأول: أنه لما تقدم فى الأعراف قوله: "قال الملأ من قوم فرعون " فعرفت هذه الآية انهم كانوا المتولين للجريمة من تكذيب الآية ورد ما جلء به موسى عليه السلام ولم يجر هنا ذكر لفرعون ولا فيما تلى الآية ويتلوها من المحاورة والمراجعة بين الملإ وأتباعهم إلى قوله: "رب موسى وهارون " فلما لم يقع إفصاح باسمه فى هذه الجملة مع أنه هو القائل على كل حال: "آمنتم به " إخبارا أو استفهاما إنكاريا ناسب هذا أن يفصح باسمه ليرتفع الالتباس وهو امكان أن يكون القائل "آمنتم به " غير فرعون وان بعد ذلك ولو لم يكن لبس البته فإن كونه لم يجر له ذكر مما يقتضى أن ذمر. ولما تقدم فى سورة طه أمر مويى عليه السلام بإرساله إلى فرعون فى قوله تعالى: " اذهب إلى فرعون أنه طغى "وقوله لموسى وهارون: "اذهبا إلى فرعون أنه طغى " ثم كرر ذلك ثم وقع بعد ذلك سؤال فرعون لهما فى قوله: "فمن ربكما ياموسى " ثم فى قوله: "فما بال القرون الأولى " ثم أن الله تعالى أخبر عنه بقوله: "ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى " ثم أخبر أيضا عنه بقوله: "قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى " ثم قال تعالى: "فتول فرعون فجمع كيده ثم أتى " فتكرر ذكر فرعون واسمه ظاهرا ومضمرا ولم يجر لملئه ذكر مفصح به ظاهر البته ولا مضمر سوى الجارى مضمرا فى قوله: "قتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا " إلى ما بعد هذا من غير إظهار البته فلتكرر اسم فرعون كثيرا ظاهرا ومضمرا وارتفاع اللبس البته حسن إتيانه مضمرا فى قوله: "قال آمنتم له " إذ ليس الوارد هنا كالوارد فى الأعراف للافتراق من حيث ذكرنا وكذا جرى فى سورة الشعراء

من ترداد ذكر فرعون فى محاورته من أول السورة إلى الآية ولم يجر ذكر ملئه الا مقولا لهم فى قوله: "قال للملإ حوله " فناسب ما ذكر إظهار اسم فرعون فى قوله: "آمنتم له ". والجواب عن السؤال الثانى: أن الباء فى قوله: "آمنتم به " واللام فى "آمنتم له " محتاج إلى كل واحدة منهما من حيث أن التصديق والانقياد معنيان يحتاج إليهما والباء تحرز التصديق واللام تحرز الانقياد والاذعان فبدئ بالباء المعطية معنى التصديق وهى أخص بالمقصود من اللام فاقتضى الترتيب تقديمها ثم أعقب فى السورتين بعد باللام حتى كأن قد قيل لهم أصدقتموه منقادين له فى دعائه إياكم إلى الإيمان بما جاء من عند الله فحصل المقصود على أكمل ما يمكن والله أعلم. الآية الثانية والعشرون قوله تعالى: "فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " وفى سورة الشعراء: "فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " وفى سورة طه: "فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " للسائل أن يسأل عن زيادة اللام فى قوله فى الشعراء "فلسوف " وسقوطها فى الأعراف؟ وعن سقوط حرف التسويف واللام فى طه جملة؟ فهذان سؤالان. والجواب عن الأول منهما: أن زيادة اللام فى الشعراء مناسب لما تضمنته من الاستيفاء الجارى فى هذه القصة وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك وذلك أن هذه اللام مقربة من زمان الحال وتحقيق الوقوع ولم يكن تقدم فى الأعراف ولا فى طه ما يحرز هذا المعنى فاستوفته هذه السورة ليناسب ذلك استيفائها لما كان بين موسى عليه السلام وفرعون وهذا مع ما تعطيه من التأكيد وما سوى هذا المعنى فى هذه الآية فلا فرق بين آية الأعراف وآية الشعراء إلى قوله: "من خلاف ". واما سقوط حرف التسويف فى طه واللام - وهو جواب السؤال الثانى - فللعوض منهما وذلك العوض هو اللام والنون الشديدة المؤكدة فوله "ولتعلمن "مع أن معنى التسويف قد قدم بمراعاة الترتيب وإذا روعى ذلك وجد تدريج زيادة التأكيد على ترتيب السور فالوعيد الواقع فى آية طه آكد من الذى فى آية الأعراف والذى فى الشعراء آكد من الوارد فى طه وان استوضحت ذلك فهمت وجه تخصيص كل من السور الثلاث بما خصت به.

الآية الثالثة والعشرون قوله تعالى: " ثم لأصلبنكم أجمعين "وفى طه والشعراء "ولأصلبنكم "بالواو والمتوعد به واحد فى الموضعين فيسأل لم لم يكن العطف فيهما بحرف واحد؟ والواو أنسب إذ التوعد بقوله: "لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم " لم يقصد فيه تراخ فى الزمان ولا مهلة فبابه أن يأتى بالواو أو بالفاء إن قصد رعى التعقيب فللسائل أن يقول: لم عدل فى الأعراف إلى ثم. والجواب أن ثم للتباين والتراهى فى الزمان ويعبر النحويون عن ذلك بالمهلة وتكون للتباين فى الصفات والأحكام وغير ذلك مما يحمل به ما بعدها على ما قبلها من غير قصد مهلة زمانية بل ليعلم موقع ما يعطف بها وحاله وأنه لو انفرد لكان كافيا فيما قصد به ومنه قوله تعالى: " فتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر "وقوله تعالى: "فلا اقتجم العقبة " ثم عطف بعد قوله: "ثم كان من الذين آمنوا "وقوله تعالى: "وعمل صالحا ثم اهتدى " ولم يقصد فى شئ من هذا ترتيب زمانى بل تعظيم الحال فيما عطف وموقعه وماكنته وتجريك النفوس لاعتباره ولما تقدم فى الأعراف تهويل الواقع من فعل السحرة وموقعه من نفوس الحاضرين ولذلك أنس سبحانه نبيه موسى عليه السلام بقوله: "لا تخف إنك أنت الأعلى "ووقع التعبير غما ذكرنا بقوله: "واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم "فناسبه رعيا لفظيا وتقابلا نظميا تهويل ما توعدهم به فرعون فعطف بثم لتحرز ما قصد فرعون من تعظيم موقع ما توعدهم به ثانيا فى قوله: "لأصلبنكم "عليهم وأيضا فإن فرعون وملأه حين رأوا ما جاءت به السحرة ووقع منهم موقعا أطمعهم وتعلق به رجاؤهم ثم لما وقع ما أبطله وأوضح كيدهم فيه وباطلهم الخيالى وجد الملأ لذلك واستشعر فرعون ما حل به وبملئه فهول فى توعدهم ومقاله تجلدا وتصبرا أو تعزية لنفسه عما نزل به فأرعد وأبرق فى تهويله ما توعد به السحرة فقال: "ثم لأصلبنكم " فقد تناسب المتقابلان لفظا ومعنى ولما ضم الواقع فى سورة الشعراء لم يحتج إلى هذا الرعى فعطف بالواو ولم يكن على ما تقرر ليمكن العكس والله أعلم. الآية الرابعة والعشرون قوله تعالى: " قالوا إنا إلى ربنا منقلبون " وفى الشعراء: "قالوا لاضير إنا إلى ربنا منقلبون " للسائل أن يسأل عن زيادة قوله: "لاضير "فى سورة الشعراء ولم يرد ذلك فى الأعراف؟

الآية الخامسة والعشرون قوله تعالى: " قل لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير "

والجواب عنه أن قوله "لاضير " مقابل به ما تقدم من قوله: "وقالوا بعزة فرعون "لما اعتقدوه أولا أن له عزة ونسبوها إليه فظنوا أنه يقدر على ما يريده ويستبد بفعله ثم لما وضح لهم الحق ورجعوا عن اعتقادهم وظنوا وعلموا أن القدرة والعزة لله سبحانه وسلموا لخالقهم ولم يبالوا بفرعون وملئه فقالوا "لاضير " أى لا ضرر ولا خوف من فرعون إذ العزة له وحده ولما لم يقع من قولهم فى الأعراف أولا مثل الواقع هنا لم يجيئوا فى الجواب بما جاؤوا هنا فافترق الموضعان وجاء كل على ما يجب والله أعلم. الآية الخامسة والعشرون قوله تعالى: " قل لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير " وفى يونس: "قل لا أملك لنفسى ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " للسائل أن يسأل هنا عن تقديم النفع فى الأعراف وتأخيره فى يونس؟ وعن تعقيب آية الأعراف بقوله: "لو كنت أعمل الغيب ... "الآية وآية يونس بقوله: "لكل أمة أجل "؟ والجواب عن الأول: أنه لما تقدم سؤالهم عن الساعة وتكرر فى قوله: "يسألونك كأنك حفى عنها "أى عالم بها وكان ظاهر السياق يشير إلى أنهم كانوا يظنون أنه عليه السلام يعلمها فطلبوا تعريفهم بها وأن يخصهم بذلك ولاشك أن العلم بالشئ نفع لصاحبه فعرفهم أنه لا يملك لنفسه نفعا ولاضرا وتقدم ذكر النفع لأنه مشير إلى ما ظنوه أنه عنده من علمها فأعلمهم أنه سبحانه استأثر بعلمها وأنه عليه السلام لا يملك من ذلك شيئا إلا ما شاء الله له مما عدى علم الساعة لانفراده سبحانه عن خلقه بعلمها، "لا يجليها لقوتها إا هو " ثم تأكد هذا الغرض بقوله تعالى على لسان بيه عليه السلام: "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير " وهذا كله بين التناسب. وأما تأخير ما تقدم فى الأعراف فى سورة يونس وهو قوله: "قل لا أملك لنفسى ضرا ولانفعا " فقدم الضر فللمتقدم قبله من قوله: "ويقولون متى هذا الوعد " فطلبوا تعجيل العذاب استهانة وتكذيبا ولم يعلموا ما فى مطالبهم من المحنة والمضرة العاجلة فقال لهم عليه السلام بأمر الله تعالى إنى لا أملك الضر ولا النفع لنفسى ولا لكم فلا تستعجلونى ذلك فليس بيدى فقدم الضر لأجل ما تقدم من

طلبهم إياه وأخبروا أن لكل أمة أجلا لما شاءه الله وقدره لهم: "إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " فقد وضح وجه التقديم والتأخير فى الضر والنفع وتوجيه التعقيب بما أعقب كل من الآيتين. الآية السادسة والعشرون قوله تعالى: " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم " وفى سورة حم السجدة [فصلت]: "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم " فوردت الصفتان فى سورة الأعراف على طريقة التنكير ووردتا فى السورة الأخرى معرفتين وزيد قبلهما الضمير الواقع فصلا فقيل: "إنه هو " وللسائل أن يسأل عن وجه التعريف والتنكير؟ وعن زيادة الضمير؟ والجواب عن السؤالين: أن سورة الأعراف تقدم فيها قبل الآية وصف آلهتهم المنحوتة من الحجارة والخشب التى وبخوا بعبادتها فى قوله فى موضع آخر: "أتعبدون ما تنحتون " فوصفت هنا بأنها لا تخلق شيئا ولا يستطيعون لهم نصرا "وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون " فنفى عنهم القدرة والسمع والبصر وآلة المشى وآلة البطش بقوله: "ألهم أجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها " ولم يتقدم هنا ما يوهم أدنى شئ يلحقها بشبه الأحياء فضلا عما فوق ذلك فورد الصفتان بقوله: "سميع عليم " موردا لم يتقدمه ما يوهم صلاحية شئ من ذلك لغيره تعالى مما عبدوه من دونه مما قصد هنا ولا ذكر دعوى شئ من ذلك من مدع فيستدعى ذلك التوهم مفهوما ينفيه فجاء على ما يجب. أما آية الأعراف فتقدم قبلها قوله تعالى: " ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعلمون " وقوله تعالى: "وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم " وقوله تعالى: "أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس " فحصل من هذا أن مضليهم إنما كانوا من عالم الإنس والجن وكلا الصنفين موصوف بالسمع والبصر وممن ينسب إليه علم بخلاف المقدم ذكر فى الأعرفا فلما تقدم فى سورة السجدة من يظن منه الغنى ويمكن منه أن يسمع ويبصر ويعلم ناسبه التعريف فى الصفة ليعطى بالمفهوم نفى ذلك عن غير الموصوف بهما تعالى ثم أكد ذلك بضمير الفصل المقتضى التخصيص فقوى المفهوم المسمى عند كثير من الأصوليين

بدليل الخطاب فصار الكلام فى قوم أن لو قيل: الله هو السمبع العليم لا غيره وأحرز الفصل بالضمير هذا المعنى مع إعطاء المفهوم إياه ولم يكن ورود ما فى سورة الأعراف من التنكير ليناسب الوارد متقدما فى سورة السجدة ولا التعريف الوارد فى الصفتين العليتين فى سورة السجدة ليناسب ما تقدم آية الأعراف فجاء كل على ما يناسب والله أعلم.

سورة الأنفال

سورة الأنفال قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض " وفى سورة براءة: "الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله " فتقدم فى آية براءة قوله: "فى سبيل الله " على قوله: "بأموالهم وأنفسهم " وفى الأنفال عكس ذلك فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك وخصوص كل من السورتين بما خصت به؟ والجواب عن ذلك أن آية الأنفال مقصود فيها مع المدحة تعظيم الواقع منهم من الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس وتغبيطهم بما من الله عليهم به من ذلك وتفخيم فعلهم الموجب لموالاة بعضهم بعضا فقدم ذكر الأموال والأنفس تبيها معرفا بموقع ذلك من النفوس وأنهم بادروا بها على حبها وشح الطباع بها كقوله: "وآتى المال على حبه "وليس تأخير هذا المجرور كتقديمه لأنه إنما يقدم حيث يقصد اعتناء وتخصيص وتنبيه على موقعه ومن نحو هذا قوله تعالى: " ولم يكن له كفوا أحد " وقد تقدم هنا فإنما قدم هذا تغبيطا لهم وإعظاما لفعلهم. أما آية براءة فتعريف بأمر قد وقع مبنى على التعريف بالمفاضلة بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وبين من آمن وهاجر وجاهد فى سبيل الله بماله ونفسه بقصد رد من ظن أن السقاية وعمارة المسجد الحرام أفضل وعرف أن الإيمان وما ذكر معه أعظم درجة عند الله فلم يعرض هنا داع إلى تقديم ما قدم فى الأخرى فتمخضت فضيلة ذلك المجرور هنا فأخر. وقد نص سيبويه رحمه الله على أن المجرور إنما يقدم حيث يكون مستقرا ويعنى بذلك الخبر نحو: عندك مال "ولكم فى الأرض مستقر " والقصد تخصيص كناية الإخلاص والتخصيص مقصود فى آية الأنفال ولم يقصد ذلك فى براءة ولا وقع المجرور فيها خبرا فوجب بمقتضى اللسان أن يقدم فى آية الأنفال قوله: "بأموالهم وأنفسهم " ويؤخر فى سورة براءة وقد وقع فى كل زاحدة من الآيتين فى كل من السورتين ما استدعى اتصال ما بعده به ولم يكن ايناسب لورود العكس فوضح وجه تخصيص الواقع فى كل من السورتين بموضعه والله أعلم.

سورة التوبة

سورة التوبة قوله تعالى: وهى أول آية من متشابه هذه السورة -: "ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم " وفيما بعد: "ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفرو رحيم " فاستوت الآيتان فى إعلامه تعالى نبيه والؤمنين أنه يتوب على من يشاء وفى ختم الآيتين بصفتين من صفاته سبحانه ثم اختلفت الصفتان فقيل فى الأولى "عليم حكيم " وفى الثانية "غفور رحيم "؟ ووجه ذلك والله أعلم أن الآية الأولى أعقب بها ما تقدمها متصلا بها من الآى فى كفار مكة وفعلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من التضييق والاحراج وبدئهم بالقتال يوم بدر ونقضهم العهد فى قصة خزاعة فى صلح الحديبة وهذا كله مبسوط فى كتب السير والتفسير فأمر الله تعالى بقتالهم وخزيهم والنصر عليهم وشفاء صدور من آمن من خزاعة وغيرهم ممن آذوه قال تعالى: "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صور قوم مؤمنين " ثم قال تعالى: "ويتوب الله على ما يشاء " كأبى سفيان ابن حرب وعكرمة بن أبى جهل إلى من أسلم منهم بعد ما صدر من اجتهادهم فى الاذاية والصد عن سبيل الله ثم قال "والله عليم حكيم " أى بما فى القتال وفى طى ما جرى من ذلك كله بتقديره السابق أولا إذ لا تترحك ذرة إلا بإذنه وتقدم علمه أولا وما فى ذلك من الحكمة وختم أفعالهم السيئة بالأوبئة والرجوع إليه سبحانه بسابق سعادة لمن شاهدها له منهم فهذا وجه النظم والتناسب فيه واضح. وأما الآية الثانية فسببها - والله أعلم - ما جرى يوم حنين من تولى الناس مدبرين حين ابتلوا بإعجابهم بكثرتهم فلم تغن عنهم شيئا ولم يثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك اليوم أحد إذ لم يبرح عليه السلام من مكانه فلم يثبت معه إلا القليل من العدد القليل فنادى العباس رضى الله عنه بآل الانصالر فاستجاب ناس وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ومكن نبيه والمسلمين أعدائهم والقصة معروفة فختمت هذه الآى بقوله تعالى: "والله غفور رحيم " تأنيسا لمن فر من

المسلمين فى ذلك اليوم وبشارة لهم بتوبة الله عليهم وإن ما وقع منهم من الفرار مغفور لهم رحمة من الله سبحانه فجاء كل هذا على ما يناسب ولا يلائم خلافه والله أعلم. الآية الثانية قوله تعالى: " والله لا يهدى القوم الظالمين " وورد بعد هذا بآيات "والله لايهدى القوم الفاسقين " وبعد الحزب الأول من هذه السورة: "والله لا يهدى القوم الكافرين " وفى ذكر المنافقين من هذه السورة: "والله لا يهدى القوم الفاسقين " للسائل أن يسأل عن وجه افتراق أوصاف المذكورين فى هذه الآى بالظلم والفسق والكفر؟ وهل ذلك لداع من المعنى؟ والجواب أن كل وصف منها إنما جرى على ما تقدمه لداع مناسب من المعنى أما الآية الأولى فإن قبلها قوله تعالى: " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد فى سبيل الله لا يستوون عند الله " وهؤلاء المقول لهم: "أجعلتم " إنما هم كفار قريش ممن ظلم نفسه بالتقصير فى النظر وظن أن عمله من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كاف مخلص عند الله وأن المؤمن بالله واليوم الآخر المجاهد فى سبيل الله ليس بأفضل حالا وعملا منه فرد الله مقالهم وقيل لهم: "لا ستوون عند الله " ومن ظن ذلك كما ظننتم فظالم لنفسه من حيث قصر فى نظره مع تنبيهه على النظر فى وجه مابه خلاصه: "والله لايهدى القوم الظالمين " وهم الذين سبق فى علم الله أنهم لا يؤمنون بظلمهم أنفسهم ". وأما الآية الثانية فكف ومنع للمؤمنين عن ارتكاب ماليس من شأنهم ألا ترى أن قبلها: "يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء " فنهوا عن موالاة من ذكر من آباءهم وإخوانهم إذا كانوا مؤثرين للكفر مستحبيه على الإيمان ثم قيل لهم: "ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون " ثم أعقب بقوله: "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم " أى إن آثرتم ما ذكر وكان أحب إليكم "من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره " أى أنكم إذا أنصفتم بهذا فقد خرجتم عن دينكم وفارقتم إيمانكم ولحقتم بمن كفر بعد إيمانه "والله لا يهدى القوم الفاسقين " والفاسق الخارج. وأما الآية الثالثة فقبلها قوله تعالى: " إنما النسئ زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا "، ثم ذكر مرتكبهم فيه وتزيين ذلك لهم ولما قدر لهم من تماديهم فى

الآية الثالثة قوله تعالى: " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون "

كفرهم فقال: "زين لهم سزء أعمالهم والله لا يهدى القوم الكافرين " فوسموا أولا بالكفر فقيل: "يضل به الذين كفروا " إذ لم يكن تقدم لهم إيمان ثم خرجوا عنه بل كانت حالهم التمادى على كفرهم الذى لم يتقدمه إيمان ولما ذكر بعض ما حملهم عليه كفرهم وأنه من سوء أعمالهم ومما زينه الشيطان لهم قال تعالى: "ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين " الآيات فوصفوا بالتظاهر بالاسلام ثم خرجوا عنه بشنيع كفرهم وقبيح مرتكباتهم ووصفهم تعالى بأنهم "يلمزون المطوعين من المؤمنين " ومن لا يجد إلا جهده إلى قوله: "ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله " ثم قال: "والله لا يهدى القوم الفاسقين " فلخروجهم ومفارقتهم ما قد كانوا تظاهروا به من الإسلام وصفوا بالفسق الذى هو الخروج والمفارقة من قولهم فسق الرطبة إذا خرجت من قشرها قال تعالى: "إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " فقد وضح فى كل آية من هذه أن ما انجر فيها من وسم من أريد بها وجرى ذكره قبلها يقتضى ورود ذلك الوصف على ما ورد عليه وأنه لا يلائم كل آية منها إلا ما أعقبت به والله أعلم. الآية الثالثة قوله تعالى: " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " وفى سورة الصف: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون " ومعنى الآيتين فى السورتين واحد وقد زادت آية براءة على آية الصف عشرة أحرف صورا فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟ والجواب عنه والله أعلم: أن زيادة آية براءة مقابل بها ما ورد من الطول فى المحكى فى هذه السورة من قول الطائفتين من اليهود والنصارى قال تعالى حاكيا عنهم: "وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله " فوقع فى المحكى هنا طول اقتضى ما بنى جوابا عليه ليتناسب. وأما آية الصف فمقابل بها قول عيسى عليه السلام لما قال لهم: "يا بنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد " ثم قال تعالى: "فلما جاءهم البينات قالوا هذا سحر مبين " وإنما الجواب على المحكى من قولهم خاصة وهو قولهم: "هذا سحر مبين " وليس هذا فى الطول وعدة الكلم المحكى فى سورة براءة ألا ترى أن الواقع فى سورة براءة ست كلمات وفى الصف ثلاث كلمات ثم إن الواقع فى سورة براءة مقال طائفتين منهم اليهود

والنصارى مفصحا به والواقع فى الصف مقالة طائفة واحدة وهذا مراعى فقد وضح ورود كل من الآيتين مناسبا لما اتصل به وعلى ما يجب فى السورتين والله أعلم بما أراد. الآية الرابعة: قوله تعالى: " والله يعلم إنهم لكاذبون " وفيما بعد من هذه السورة: "والله يشهد إنهم لكاذبون " وكذا فى سورتى الحشر والنافقين فورد فى الأولى: "يعلم " وفى البواقى "يشهد " مع أن المقصود فى الأربع آيات واحد وهو أنه سبحانه عليم بما يخفونه أو يظهرونه من أعمالهم فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟ والجواب والله أعلم: أن الاستطاعة وعدمها حكم لا يطلع عليه فى الغالب بل ينفرد كل بحاله فى ذلك إلا أن يعلم ذلك بقرينة فقول المنافقين فى إخبار الله تعالى عنهم: "لو استطعنا لخرجنا معكم " غير مشاهد من ظاهرهم فقد كان يمكن صدقهم أو صدق بعضهم لولا أنه سبحانه أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بحالهم وما يكون من اعتذارهم قبل أن يقع منهم وبتقاسعهم عن الخروج فقال تعالى: "لو كان عرضا قريبا قاصدا لأتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم " فأعلم تعالى بما يكون منهم قبل أن يكون وذلك غيب وأعلم بوجه تقاسعهم وتثبطهم ثم أعلم بكذبهم فقال: "والله يعلم إنهم لكاذبون " فحصل العلم بحالهم بإخباره تعالى ثم تكاثرت الشواهد عنهم. فلما كان حال الاستطاعة على ما ذكرنا من الخفاء حتى لا يطلع عليها ناسب ذلك التعريف عن اطلاعه تعالى على ما أخفوه من حالهم بالعلم فقال سبحانه: "والله يعلم إنهم لكاذبون "ولا يناسب غيره. أما الآية الثانية فهى فى أهل مسجد الضرار وأمرهم مما قد كانوا تواطئوا عليه ولم يخف حال بعضهم عن بعض وذلك بخلاف حال الاستطاعة وما يمكن فيها من الخفاء فكان هذا مما يرجع إلى حكم الظهور والشهادة فكان ورود قوله تعالى هنا: "والله يشهد " أنسب وكذا الحكم فى آية الحشر لبنائها على قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم " إلى آخر الآية وكل هذا قول مشاهد معلوم مدرك بحاسة السمع وما وعدوا به إخوانهم من نصرتهم والخروج معهم أن خرجوا كل

ذلك مما كنا يشاهد لو وقع وليس شئ من ذلك كالاستطاعة فى خفائها وغيابها فناسب هذا قوله تعالى: " والله يشهد إنهم لكاذبون " الوارد فى سورة المنافقين لأن قولهم: "نشهد إنك لرسول الله " قول مدرك بالسمع مع أن هذه الآية قولهم نشهد فطابق هذا وناسبه قوله: "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " وجاء كل من هذه الآى على ما يجب ويناسب والله أعلم. الآية الخامسة قوله تعالى: " وما منعهم أن تقبل منهم نفاقتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون " وفيما بعد من هذه السورة: "ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدى القوم الفاسقين " وبعد هذه الآية: "ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون " للسائل أن يسأل عن زيادة الباء فى قوله "وبرسوله " ولم تزد فى الآيتين بعد والظاهر من بعد ما يسأل فيه لأنها مقاصد مختلفة؟ والجواب: أنك إذا قلت مثلا المانع من تقريب زيد نفاقه فإنك لم تزد على أن أخبرت عن علة منع تقريب زيد شيئا فإذا قلت أن المانع من تقريب زيد نفاقه فقد زدت على الاخبار بالمانع من تقريب زيد أنه نفاقه وإن قلت إنما المانع من تقريب زيد نفاقه فقد حصرت المانع من التقريب فى النفاق وأكدت ذلك تأكيدا أكثر من الحاصل بإن ولذا اتفق الأصوليون على قوم المفهوم الحاصل من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق " ولم يتفقوا فى المفهوم الحاصل من قوله عليه الصلاة والسلام: "فى سائمة الغنم بالزكاة " وذلك بسبب ما تقتضيه إنما من معنى الحصر وقد جرده بعضهم عن المفهومات وجعله دليلا برأسه لقوته وأبى أن يجعل هذا من دليل الخطاب وفى معنى قوله: "إنما الولاء لمن أعتق " وفى قوم قولك: "ما الولاء إلا لمن أعتق " فإن معناه حصر الولاء فى المعتق وأنه لا ولاء لغيره ومن هذا قوله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " أى ما يخشاه تعالى حق الخشية إلا العلماء وقال تعالى: "إن هو إلا وحى يوحى " فنزه سبحانه نطق نبيه عن أن يكون غير وحى وليس قولك فى الكلام: هو وحى فى قوة قولك: إنه وحى يوحى لما زدت من التأكيد بإن ولا قولك: إنه يوحى فى قوة الاخبار القرآنى من قوله تعالى: " إن هو إلا وحى يوحى " لما بين قبل. فإذا وضح هذا فقوله تعالى: " وما منعهم أن تقبل منهم نفاقتهم إلا أنهم كفروا

بالله وبرسوله " وقد ورد على أبلغ وجوه التأكيد وحصل حصر المانع من القبول فى كفرهم وأنه لو لم يكن الكفر لكان القبول فناسب هذا التأكيد الذى بلغ به الغاية زيادة الباء فى قوله "وبرسوله " لإعطائها معنى التأكيد وإحرازها إياه. ولما لم يكن هذا التأكيد الحصرى واقعا فى الآيتين بعد وإنما وكد فيها بأن قال تعالى: "ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله " وقال تعالى: "إنهم كفروا بالله ورسوله " فلم يبلغ بهذا الاخبار مع تأكيده وقوته مبلغ الأول لم تلحقه الباء وجاء كل على ما يجب والله أعلم بما أراد. الآية السادسة من سورة براءة قوله تعالى فى المنافقين: "ولا ينفقون إلا وهم كارهون فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم فى الحياة الدنيا " وقال فيما بعد: "ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها فى الدنيا " فحملت الآية الأولى على ما قبلها بالفاء والصانية بالواو وزيدت لا النافية فى الأولى وسقطت من الثانية وقيل فى الأولى "ليعذبهم " وفى الثانية "أن يعذبهم " وقال فى الأولى "فى الحياة الدنيا " واكتفى بالوصف فى الثانية فقيل "فى الدنيا " فتلك أربع سؤالات. والجواب عن الأول: أنه لما وصف تعالى أقوال المنافقين فى كفرهم وشتى مرتكباتهم وقرر ما هم عليه فى آيات إلى قوله: " وما منعهم أن تقبل منهم نفاقتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون " فلما عرف بأحوالهم قال لنبيه عليه السلام: "فلا تعجبك أموالهم " وكان الكلام فى قوم أن لو قيل: إذا عرفت أحوالهم فلا تغتر بما لديهم فتظن أن ما مكناهم فيه ومنحناهم إياه من مال وولد إحسان عجلناه لهم "أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون "، "وإنما نملى لهم ليزدادوا إثما " فالكلام فى قوة الشرط والجزاء فكان موضع الفاء. أما قوله فى الآية الأخرى: "ولا تعجبك أموالهم وأولادهم " فمنسوق على قوله: "ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ولا تعجبك أموالهم وأولادهم " وكل هذا نهى له صلى الله عليه وسلم أن يفعله وليس كالأولى فى أن ذكر مرتكباتهم ما بنى نهيه عليه السلام عليه فيتصور فيه معنى شرط وجزاء فلا مخل للفاء هنا ولا هو موضعها.

والجواب عن الثانى: أن الآية الأولى مقصود فيها من التأكيد ما لم يقصد فى الثانية لما قيل له عليه السلام: " وما منعهم أن تقبل منهم نفاقتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله " وذكر له من قبح مرتكباتهم أشنعها أكد نهيه عليه السلام عن أن يلتفت إليهم تنزيها لقدره العلى عن الصغو إلى ما حاصله إملاء ولأهله فى الحقيقة استدراج وعناء فدخلت لا النافية تأكيدا يناسب هذا القصد ولما لم يكن فى الآية الأخرى اشتراط وجزاء يقتضى التأكيد فلم تخل لا فجاء كل على ما يجب ويناسب. والجواب عن السؤال الثالث: أن قوله فى الآية الأولى: "إنما يريد الله ليعذبهم " بلام كى مناسب لما فى الآية من التأكيد إذ لا تقتضى تراخيا فناسب هذا ما ذكر من التأكيد أما قوله فى الآية الثانية: "إنما يريد الله أنيعذبهم " فيقتضى أن التأكيد لما لم يبلغ فى هذه الثانية مبلغ الأولى بما تقدم فيها أشعرت أن بما فيها من التراخى فأن هذه ليست من التأكيد فى نمط الأولى وهذا رعى مناسبة لفظية إذ الاخبار بحالهم واحد فى الآيتين من غير فرق. فإن قيل فإن لام كى فى قوله تعالى: " ليعذبهم " تقدر بعدها أن على قول الجمهور فقد تساوت الآيتان قلت ليس المعنى مع تقديرها هو المعنى مع ظهورها بل لظهورها حكم لا يكون فى تقديرها وقد نص سيبويه رحمه الله على ذلك فى باب الجواب بالفاء من كتابه أنه كلام العرب فتبين أن قوله تعالى: " ليعذبهم " ليس كقوله: "أن يعذبهم " فيما يعطيه ظهور أن من التراخى والله أعلم. والجواب عن السؤال الرابع: أن قوله "فى الحياة الدنيا " فى الآية الأولى بالجمع بين الصفة والموصوف مناسب أيضا وملائم أوضح ملاءمة للتأكيد الجارى فيها، أما الآية الأخرى فلا تأكيد فيها فناسب ذلك الاكتفاء بقوله: "فى الدنيا " وجاء الكل على ما يجب ويناسب. الآية السابعة من سورة براءة قوله سبحانه وتعالى: "وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " وقال بعدها: "إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون " فيهما سؤالان: قوله فى الأولى "وطبع على قلوبهم " ببناء الفعل للمفعول مكتفى به، وفى الثانية "وطبع الله " ببناء الفعل على

الأصل؟ والثانى قوله فى الأولى "فهم لا يفقهون " وفى الثانية "فهم لا يعلمون ". والجواب عن الأول: أن مطلع الآية قبلها قوله تعالى: " وإذا أنزلت سورة " على بناء الفعل للمفعول فجاء قوله "وطبع على قلوبهم " على ذلك ونوسب بختام هذه الآية بداءة ما قبلها وأما الثانية فلم يقع قبلها فعل بنى للمفعول وقد ذكر الفاعل فيها فجرى الكلام على ما يجب فقيل "وطبع الله على قلوبهم ". والجواب عن الثانى: أن قوله "وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله " لما اجتمع ذكر إنزال السورة والاشارة إلى ذكر المراد بها بقوله: "أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله " استدعى ذلك نظر من بلغه هذا المنزل واعتباره وتفهم المقصود به إلى الكمال ليقع الامتثال على وجهه فلما تراموا إلى الخلود إلى الراحة وترك الجهاد الذى تحملت الآية الأمر به ناسب ذلك أن ينفى عنه الفهم والتدبر فقيل: "وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " والتفقه التفكر والاعتبار ولما لم يقع فى الآية بعد ذكر تديره وتفهمه لقرب المعنى المراد منه وذلك قوله: "إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء " صرف النفى إلى الحاصل على التفهم وهو العلم فقيل: "وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ". الآية الثامنة من هذه السورة قوله تعالى: " قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " وقال بعد هذا: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة. .. "الآية فيها أربع سؤالات: الأول: قوله فى الأولى "وسيرى الله عملكم " بواو النسق ولم يرد فيها "والمؤمنون " وقال فيها "ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة " وقال فى الثانية "فسيرى الله " بفاء التعقيب وفيها "والمؤمنون " ولم يقل فى الأولى "والمؤمنون " وقال "وستردون " بالواو وفى الأولى "ثم تردون ". فاختلفت الآيتان فى ثلاثة مواضع فيسأل عنها وهل كان يصح وقوع الأولى فى موضع الثانية؟ والثانية فى موضع الأولى؟ وكل منهما على ما بنى؟ فهذه أربعة أسئلة. والجواب عنها على الجملة أن الآية الأولى فى المنافقين لم يخالطهم سواهم والثانية فى طائفة من المؤمنين كان فيهم تقصير ولهم إيمان فأنسوا وقوى رجاؤهم قال الطبرى: "هى فيمن تاب من المخلفين " قلت ويشهد لهذا ما اتصل بالآية مما قبلها والواقع

قبل الأولى من قوله: "قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم " أى لستم صادقين فى اعتذاركم ثم قال: "قد نبأنا الله من أخباركم " أى قد أطلعنا على نفاقكم وسوء سرائركم ثم قال: "وسيرى الله عملكم ورسوله " وهذا تهديد عطف على مثله وقصد تعريفهم بالمجموع مما استوجبوا به المقت ولم يعطف بالفاء إذ ليس ما تعطيه من المعنى مقصودا هناا ولم يقل هنا والمؤمنون إذ النفاق عمل يخفيه المنافق فلا يطلع عليه إلا الله سبحانه وقد يطلع عليه رسوله ومن شاء من عباده وإنما كانوا يتظاهرون بخلاف ما يبطنون ثم قال "ثم تردون " فعطف ردهم إلى الله بثم المعطية مع مهلة الزمان هنا تفاوتا فى التهديد والوعيد ولم تكن الواو لتعطى هذا المعنى وتحرزه وقد بينت المواضع الثلاثة التى خالفت فيها هذه الآية الآية التى بعدها. وأما الثانية فهى فى المتخلفين عن غزوة تبوك قال الطبرى: "فيمن تاب منهم " كما تقدم وقد وقع قبلها قوله تعالى: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم " ثم قال: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم " فأمره سبحانه بأخذ زكواتهم وأخبره أنها تطير لهم وتزكية وأمره أن يدعوا لهم بقوله: "وصل عليهم " ثم زادهم تأنيسا بقوله: "ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ". فإن قيل إنك قد عضدت هذا المأخذ فى هذه الآية لما اتصل بها من قوله: "خذ من أموالهم " وهذه الآية مطلقة يراد بها جميع من امر بالزكاة وهم المؤمنون ولم تختص بأهل تبوك ولا غيرهم قات إنما دليلى فى اتصال بالآية عقبها المتكلم فيها وفى اتصالها بها بل تحصل الشهادة ويعتضد المراد ويلتئم النظم لأن من كان مقصودا بالآية الثانية وهى قوله: "قل اعملوا " على ما تمهد من جملة المؤمنين المخاطبين بالزكاة فالمعنى ومقتضى النظم وجلالة التركيب وتناسب السياق تحصل الشهادة فنقول قال تعالى: "وقل اعملوا " والمراد بالدأب على أعمال البر ما سلف من تقصيرهم ونظير هذا ما وقع عقب قوله تعالى: " قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ... "الآية ثم قال تعالى: "وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب " فليس قوله: "وقل اعملوا " وإن كان قد يبدو منه تهديد كالواقع فى الآية قبل إنما هو فى الحقيقة أمر بالعمل المرجو محوه لما سلف من تقصير وتهذيد لمن لم يتب. وقوله: "فسيرى الله عملكم " جواب للأمر من قوله: "اعملوا " فالفاء فاء جواب

وكأن قد قيل تأنيسا لهم: اعملوا فلن يضيع عملكم، وقيل هنا "والمؤمنون " لأن الاعمال الاسلامية يشاهدها المسلمون بعضهم من بعض كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك من الأعمال فيرى المسلمون ما تظوهر به من هذه الأعمال ويشهدون لما وراءها مما يرجع إلى قبيل الإيمان من الاعتقادات القلبية وما يرجع اليها قال عليه السلام: "إذا رأيتم الرجل يشهد المسجد فاشهدوا له بالايمان " وقال تعالى: "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله ... "الآية فلهذا قيل فى هذه الآية "والمؤمنون " ولم يقل ذلك فى أعملا المنافقين لأنها مما لا يتظاهرون بها للمؤمنين وهذا مما يعضد قول الطبرى: أن هذه الآية فى التائبين من المتخلفين " لأن أعمال المنافقين قل ما يتظاهرون بها للمؤمنين إنما يبدونها إخواهم قال تعالى: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا الى شياطينهم قالوا إنا معكم ". وقال تعالى: "وإذا جاؤوك قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " وقال تعالى: "يخفون فى أنفسهم ما لا يبدون لك " فإنما يشاهده المؤمنون ويرو ما يتظاهر به من الأعمال وفى هذا يشاركون نبيهم عليه السلام فى رويته فتلك أعمال المسلمين لا أعمال المنافقين فقوله: "فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " على هذه الصفة من التشريك بينهم وبين نبيهم عليه السلام فى رؤيته إنما هى أعمال الطاعة فهى التى تشاهد ويشاهد التفوت فيها بين المحافظ والمقصر ألا ترى قوله تعالى فى الآية الأولى: "قد نبأنا الله من أخباركم " فإنما نبأهم سبحانه وتعالى بما لم يشاهدوه ولا رأوه من مضمرات المنافقين ولما كان وصول المؤمنين إلى تعرف ذلك باخبار الله تعالى من غير رؤية من المؤمنين لذلك ما قال تعالى: "وسيرى الله عملكم ورسوله " ولم يقل هنا "والمؤمنون " لأنهم لم يحصل لهم شئ من أخبار المنافقين إلا بإنباء الله تعالى لا بإدراك رؤيته. أما الآية الثانية فقيل فيها "المؤمنون " لأن الواقع من هؤلاء - والله أعلم - أعمال مرئية كما قدمنا فشهد هذا السياق - والله أعلم - أن الآية الأولى فى المنافقين المستمرين على نفاقهم وان الثانية فى التائبين بعد على أعمال محمودة تشاهد وترى هذا حاصل قول الطبرى وان قلنا بما قال أبو محمد بن عطية ورغم أنه الظاهر من أن الماد بقوله "وقل اعملوا ... "الآية المعتدون الذين لم يتوبوا المتوعدون المعنيون بقوله: "ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم " فيعارضنا اتصالها بما اتصلت به وأما على قول الطبرى فلا اشكال وهة أظهر، والله أعلم بما أراد. وقد استمر كلام من وقفنا على كلامه من المفسرين على عبور الموضع دون

نزول للاعتبار وهو من المواضع التى يجب أن يتعرض لها وقد جرى فيها كلام الزمخشرى على مقتضى قول الطبرى من غير تعرض لذلك وهو ظاهر والله أعلم. الآية التاسعة: قوله تعالى: "إن إبراهيم لأواه حليم " وفى سورة هود: "إن إبراهيم لحليم أواه منيب " فتقدم فى الأولى الوصف بأواه على حليم وتأخر فى الثانية وتقدم فيها وصفه بحليم. ووجه ذلك والله أعلم ان الأواه الكثير التأوه وفى كتاب ابن عطية أن التأوه التفجع فالمراد بالآية أن إبراهيم عليه السلام مع غلظة أبيه وقساوته حتى قال له "لئن لم تنته لأرجمنك " وابراهيم عليه السلام مع ذلك يتأوه تأسفا وتحسرا على اباية أبيه عن إجابته واتباعه مع تلطف إبراهيم عليه السلام فى قوله دعاء لأبيه إلى الإيمان فى إخبار الله تعالى عنه: "يأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا " إلى قوله: "يأبت إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا " فكان عليه السلام لفرط ترحمه ورأفته وحلمه يتعطف على أبيه ويستغفر له ولم يزل على ذلك إلى أن قطع من حاله وتبين له أنه عدو الله فتبرأ منه فإخبر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بما كان من أبيه إبراهيم فى ذلك ليقتدى به ويهتدى بهديه فقال تعالى: "ما كان لنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " وأعلمه تعالى بعذر إبراهيم فى استغفاره وان ذلك كان عن موعدة تقدمت منه لأبيه فتقدم وصف إبراهيم عليه السلام فى هذه الآية بأنه أواه وذلك مناسب لما بيناه أما آية هود فمنزلة على ما ذكر سبحانه من مجادلته فى قوم لوط جريا على ما وصفه سبحانه به من الحلم فكان تقديم وصفه هنا بالحلك أنسب وأجرى على ما بنى عليه فوضح ورود كلا الموضعين على ما يجب ويناسب ولا يمكن عكس الوارد والله أعلم.

سورة يونس

سورة يونس الآية الأولى منها: قوله تعالى: "الر تلك آيات الكتاب الحكيم " وفى سورة لقمان "الم تلك آيات الكتاب الحكيم " وفى مطلع يوسف: "الر تلك آيات الكتاب المبين " فافتتحت تلك السور الثلاث بعد الحروف المقطعة فى مطالعها بالاشارة إلى الكتاب المذكر به والمنبه بآياه فقيل: "تلك آيات الكتاب " ثم وصفه فى السورتين بالحكيم وفى سورة يوسف بالمبين فيسأل عن ذلك؟ والجواب والله أعلم ان سورتى يونس ولقمان تردد فيهما من الآيات المعتبر بها المطلعة على عظيم حكمته تعالى واتقانه للأشياء ما لم يرد فى سورة يوسف كقوله تعالى: "إن ربكم الله الذى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام " وخلق السماوات والأرض وما انطوت عليه من أعظم المعتبرات قال تعالى: "لخلق السماوت والأرض أكبر من خلق الناس " وقال تعالى: "إن فى السماوات والأرض لآيات للمؤمنين " وقد تبع الآية المذكورة من سورة يونس ما يجاريها فى التنبيه بما به الاعتبار كقوله تعالى: "هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب " إلى قوله: "لقوم يعلمون " ثم قال تعالى: " إن فى اختلاف اليل والنهر وما خلق الله فى السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون إن الذين لا يرجون لقاءنا " لم يتخللها ما يخرج عن باب الاعتبار من حكم أو غيره ولا من القصص الا ما تضمن اعتبارا كالوارد من قصة نوح من قومه لقومه: "يا قوم إن كان كبر عليكم مقامى ... " الآية إلى قوله: "ثم اقضوا إلى ولا تنظرون "، والمراد من هذا الكلام تعجيزهم وقطعهم عما كانوا يرومون من الكفر به عليه السلام وإرادة إهلاكه وقد قطع عليه السلام بنصرة الله إياه عليهم وقطعهم دون ما يرومونه وإن تألبوا واجتمعوا وذكر عليه السلام شركاءهم وأن يكونوا معهم تهكما بهم وتوبيخا على اعتمادهم على مالا يعقل ولا يضر ولا ينفع وفى هذا كله أعظم معتبرة ثم ذكر تعالى نجاة نوح عليه السلام منهم فى الفلك هو ومن آمن معه وجعلهم خلائف

وإغراق أعدائهم من المكذبين ولم يغن عنهم كيدهم. ولم يرد هذا الضرب المقتضب من قصة نوح عليه السلام على هذه الصفة فى غير هذه السورة لما قدمنا ذكره ولم يكن ليناسب ما بنيت عيه السورة غير هذا الوارد. ومن نحو هذا ما ورد فيها من قصة موسى عليه السلام ودعائه فى قوله: "ربنا اطمس على أموالهم "فكان ذلك حسب ما دعاه إلى ذكر إغراق فرعون وملئه وطمعه فى الإيمان حين أدركه الغرق فقال: "آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل " فلم ينفعه ذلك لفوات وقته فاقتصر أيضا على هذا القدر من قصة موسى عليه السلام لما تقدم من مناسبة هذه السورة. وأما سورة لقمان فورد فيها قوله تعالى: " خلق السماوات والأرض بغير عمد ترونها " إلى قوله: "هذا خلق الله " وبعد ذلك قوله تعالى: " ألم تروا أن الله سخر لكم ما فى السماوات والأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " وقوله: "إن الله غنده علم الساعة ... " الآية وفى هذه السورة أيضا ما منح لقمان من الحكمة وما انطوت عليه قصته من حكمة وما صدر عنه فى وصيته ولم تخرج آى هذه السورة عن هذا فهذا وجه وصف الكتاب فى هاتين السورتين بالحكيم. وأما سورة يوسف عليه السلام فلم تنطو على غير قصته وبسط التعريف بقضيته وبيان ما جرى له مع أبيه من فراقه وامتحانه بإلقائه فى الجب والبيع والتعرض له بالفتنة وتخلصه بسابق اصطفائه مما كيد به وابتلائه بالسجن وجمعه بأخيه واشتمال شملة بأبيه عليهما السلام واخوته ولم تخرج آية من آى هذه السورة عن هذا من بسط هذه القصة فلهذا اتبع الكتاب بالوصف بالمبين. فقد وضح ورود كل من الموضعين على ما يجب ويناسب والله أعلم. فإن قيل فما وجه ورود الميم فى سورة لقمان مكان الراء فى قوله تعالى: " الر "فى السورتين فقيل فى مطلع لقمان: "الم " مع موافقتها سورة يونس عليه السلام فيما تمهد ثم خالفتها فى هذه فقيل: "الم " فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟ والجواب عن ذلك - والله أعلم - ان سورة لقمان تضمنت من التنبيه والتحريك والاعتبار إفصاحا وإيماء للمؤمن والكافر مالم تتضمن سورة يونس على طولها وان كانت آيها كلها آى اعتبار الا انها ليست كالوارد من ذلك فى سورة لقمان فمن التنبيه المتضمن تقريع من عبد غيره سبحانه قوله تعالى بعد ذكر خلق السماوات بغير عمد

وارساء الأرض بالجبال وذكر ما بث فيها من الدواب وانزال الماء من السماء وذكر ما أنبت سبحانه به من كل زوج بهيج فقال تعالى: "هذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه " ولا نجد مثل هذا حيث تراد المبالغة فى توبيخ من عبد اله غيره. ويجارى هذا فى هذا القصد الا أنه أرفق فى التعنيف قوله تعالى فى سورة يونس: "قل هل من شراكائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده .. "الآيات الا انها ليست كآية لقمان ولا ختمت بمثل ما ختمت به وقد تكرر هذا فى آيات وآية لقمان من أشدها وعيدا ولعظيم ما انطوت عليها اتبعها تعالى بتأنيس نبيه صلى الله عليه وسلم بعد قصة لقمان بقوله: "ومن كفر فلا يحزنك كفره " وبإخباره انهم لو سئلوا من خلق السماوات والأرض لم يجدوا مصرفا غير الاعتراف فقال تعالى: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله " ليعلم عليه السلام أن ذلك من حالهم جار عليهم بقدر الله وما سبق فى علمه وهو الحكيم فى أفعاله. ومن التنبيه للمؤمنين ولغيرهم - ممن سبقت له السعادة - قوله مخاطبة لنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: "ألم تروا أن الله سخر لكم ما فى السماوات وما فى الأرض وأسبغ عليكم عمه ظاهرة وباطنة " وقوله تعالى: "ألم تر أن الله يولج الليل فى النهار. ... " الآية وقوله تعالى: "ألم تر أن الفلك تجرى فى البحر ... " الآية فورد هذا التنبيه بهمزة التقرير ولم الجازمة وهى الأداة المتكررة فى آى التنبيه فتكررت فى هذه السورة فى ثلاث آيات ولم تقع متكررة فى شئ مما أتى بعدها من السور إلى آخر القرآن ولا فى سورة مما قبلها مما يماثلها فى عدد كلمها ولا فيما هو على الضعف منها الا فى سورة فاطر وهى أطول من سورة لقمان فتناسب ذلك مع ما فى هذه السورة من التنبيه فى مطلعها بوقوع الميم مكان الراء الواردة فى مطلع سورة يونس. وأما سورة يونس فمبنية على التعريف بربوبيته تعالى وقصره وقد ابتدأت ثالثة آيها بقوله تعالى: "إن ربكم الله الذى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام " ثم تكرر فيها اسمه الرب سبحانه فى بضعة عشر موضعا أولها هذا وآخرها قوله تعالى: " قل يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم " ولم يرد من هذا فى سورة لقمان غير قوله تعالى: "يأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ... " الآية ثم إنه تكرر فى سورة يونس من الكلم الواقع فيها الراء مائتا

وعشرون كلمة أو نحوها وأقرب السور إليها مما يليها بعدها من غير المفتتحة بالحروف المقطعة من سورة النحل وهى أطول منها والوارد فيها مما تركب على الراء من كلمها مئتا كلمة مع زيادتها فى الطول عليها فلمجموع ما ذكرنا وردت فى الحروف المقطعة الراء مكان الميم الواردة فى لقمان وجاء كل على ما يجب ويناسب والله أعلم. الآية الثانية من سورة يونس قوله تعالى: " ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم " وقال فى الأنبياء: "قال أتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم " وقال فى سورة الفرقان: "ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم " فقدم فى سورة يونس ما أخر فى سورة الأنبياء والفرقان فيسأل عن ذلك؟ والجواب عنه - والله أعلم - ان الموجب لتأخير "ولا ينفعهم " فى سورة يونس ما وصل به من قولهم: "ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " فكأن قد قيل: ويعدبون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويزعمون أن ذلك ينفعهم لوم يكن ليناسب لو قيل: "ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " تناسب الوارد من متصل قوله: "ولا ينفعهم " بقوله: "ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " فلما كان الاتصال فيما ذكر أنسب وردت الآية بحسب ذلك. أما آية الفرقان فإن قبلها ذكر دلائل وشواهد من مصنوعاته تعالى يهتدى المعتبر بالنظر فيها تخلصه من ورطات الشكوك ويستقيم له دينه وذلم أعظم النفع وأجله وقال تعالى: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل " إلى قوله: "وهو الذى خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان بك قديرا " فلما تقدم التنبيه بهذه الآيات الواضحات الموقظات من سنات الغفلات والمحصلات أعظم النفع فى امتثال الواجبات والنجاة من الضلالات ناسبها تقديم ما قدم فى الآية من قوله: "ويعبدون من دون الله ما لا يتفعهم ولا يضرهم " وصار الكلام بقوته مجاوبا لقوله: "أفمن يخلق كمن لا يخلق " وورد كل على ما يجب والله أعلم. الآية الثالثة من سورة يونس: قوله تعالى: "قل من يرزقكم من السماء والأرض " وفى سورة سبأ: " قل من يرزقكم من السماوت والأرض " فأفرد لفظ السماء فى الأولى وجمع فى الثانية مع اتحاد المعنى والتساوى فى ألفاظ الآية غير ما ذكر فيسال عن ذلك؟

والجواب عنه ان الافراد الوارد فى آية يونس محصل للمعنى مع الإيجاز فورد هنا على ما يجب وأما الوارد فى سورة سبأ على الجمع فروعى فيه ما تقدم من قوله تعالى: " قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الأرض وما لهم فيهما من شركاء وماله من ظهير " والمراد بذلك نفى الشركاء له تعالى ثم عاد الكلام إلى ذلك أيضا فقال تعالى: "قل من يرزقكم من السماوات والأرض " على الجمع مناسبة إذ الآية قبل وهذه فى قضية واحدة وهى نفى الشركاء والأنداد فجاءت على ما يناسب التى قبلها. فإن قيل: فلم ورد الجمع فى قوله فى الأولى: "لا يملكون مثقال ذرة فى السماوات " وقد كان لفظ الافراد يحرز هذا المعنى مع أنه أوجز؟ فالجواب ان ما قصد من قطه توهمهم أن شركاءهم ينفعونهم أو يملكون شيئا وان قل والتصرف فى شئ مما قصد من هذا يقتضى تعميم النفع وتأكيد هذا الغرض بأعم ما يعبر به ذلك فناسب ذلك جمع السماوات ولم يكن الافراد ليناسب ثم نوسب بين هذه الآى التى بعدها فى الجمع ولم يكن فى آية يونس ما يستدعى ذلك فجاء كل على ما يجب ويناسب والله أعلم. الآية الرابعة من سورة يونس قوله تعالى: "كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لايؤمنون " وقال فى سورة الؤمن: "وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار "، للسائل أن يسأل هنا عن قوله فى الأولى "كذلك " بغير حرف عطف وفى الثانية "وكذلك " وعن قوله فى الأولى: "على الذين فسقوا " وفى الثانية: "على الذين كفروا " وعن قوله فى الأولى: "أنهم لايؤمنون " وقوله فى الثانية: "أنهم أصحاب النار "؟ فتلك ثلاث مسائل. والجواب: أنه لما تقدم فى سورة يونس قوله تعالى: " قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار " إلى قوله: "فأنى تصرفون " فذكر سبحانه عباده بما لا يجدون محيصا عن إضافة ذلك كله وإسناده إليه سبحانه إذ الرزق كالخلق وقد كانوا يقرون بإسناد الخلق إليه سبحانه قال تعالى: " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " وأخبر هنا سبحانه باعترافهم بإسناد ما قرروا عليه إليه بقوله: "فسيقولون الله " قيل لهم: "أفلا تتقون " أى عجبا لكم كيف تجمعون بين الاقرار بهذا كله ثم لا تخافون من إليه ذلك كله

وتتخذون وقاية من عذابه على مخالفتكم ثم قيل لهم: "فذلكم الله ربكم الحق " أى مالك ذلك كله والمنفرد بتدبيره هو ربكم الحق فكيف تنصرفون عنه ثم أخبر تعالى أن كلمته التى لا مبدل لها حقت على من انصرف عن الحق وتركه بعد بيانه بحسب ما قدر له فى الأزل ولم يقلع عن ذلك أنه لا يؤمن أبدا "إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية " ولما لم يتقدم قبل هذه الآيات فيما اتصل بها مقال من ذكر ممن حقت عليه كلمة العذاب أتى قوله: "كذلك حقت " فصورة الاستئناف غير معطوفة إذ لم يتقدم ما يعطف عليه وقيل "فسقوا " لأن بما تقدم مما قرروا عليه مع ما جعل لهم من الاسماع والابصار والافئدة مكنوا من النظر بما خلق لهم من الادوات ووضوح المنظور فيه فبمجموع هذا كله كانوا بمنزلة من تحصل الأجر وكأنه قج اتصف به وتمكنت حاله فيه ثم تركه وخرج عنه ونظير هذا قوله تعالى: " أولئك ال ذين اشتروا الضلالة بالهدى " فلاءم هذا الحال وسمهم بالفسق فقيل: "على الذين فسقوا " فاستحقوا على فسقهم بقدر الله عليه أن منعوا التصديق وهو الإيمان فأضلهم الله على علم. أما آية غافر فإنه تقدم قبلها قوله تعالى: " ما يجادل فى آيات الله إلا الذين كفروا " ثم أعقب بذكر قوم نوح والأحزاب وهم كل أمة منهم برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذهم الله وأهلكهم بما حق عليهم. ثم قال تعالى: " وكذلك حقت كلمات ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار " وأهلها فكيف يصح منهم الإيمان وقد حقت عليهم الكلمة: "أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من فى النار " فلما تقدم فى هذه السورة ذكر من حقت عليه كلمة العذاب عطف عليه: "وكذلك حقت " ولم يتقدم ذلك فى يونس ولما تقدم قوله تعالى: " ما يجادل فى آيات الله إلا الذين كفروا " ولم يتقدم بسط دلالات مما به الاعتبار لم يكن هؤلاء بمنزلة المذكورين فى يونس وإن كانت الدلالات عنده فى حق الكل ولكن مراعاة النظم أمر ملتزم والافصاح بالذكر كما أفصح فى آية يونس لم يقع هنا فلما تكن هذه الآية كتلك فيما ذكر وسم هؤلاء بالكفر وقيل "على الذين كفروا " ولم يقل "فسقوا " إذ لم يتقدم هنا ما تقدم هناك ما يتقدم معه ذكر الفسق وأيضا فقد تقدم فى غافر قوله تعالى: " ما يجادل فى آيات الله إلا الذين كفروا " فناسبه "وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا " وإذا كانوا كافرين فهم أصحاب النار فأما الفاسق فإن كان فسقه يخرجه من الإيمان كان كافرا وان كان بالخروج إلى

المعصية دون الكفر لم يكن كافرا إلا أن المراد بفسوق من ذكر فى سورة يونس إنما هو ترك الاعتبار الحامل على الإيمان إذا وفق المعتبر فالتارك لذلك خارج عن التصديق فكان كافرا فقد حصل الجواب عن السؤالات الثلاث ووضح مجئ كل على ما يناسب وإن الوارد فى سورة يونس لا يناسبه ما تقدم قبل الآية فى سورة غافر ولا الوارد فى سورة غافر يناسب ما تقدم فى سورة يونس والله أعلم. الآية الخامسة قوله تعالى: " ألا إن لله ما فى السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون " وقال فيما بعد: "ألا إن لله من فى السماوات ومن فى الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء " ثم قال بعد: "قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغنى له ما فى السماوات وما فى الأرض إن عندكم من سلطان بهذا " هنا ثلاث سؤالات يسأل عن سقوط "ما " من قوله فى الآية الأولى: " ألا إن لله ما فى السماوات والأرض "؟ ووجه ثبوتها فى الآية الثالثة فى قوله: " له ما فى السماوات وما فى الأرض "؟ وعن ورود "من " مكان "ما " فى الآية المتوسطة فى قوله: " ألا إن لله من فى السماوات ومن فى الأرض "؟ والجواب عن السؤال الأول: أنه تقدم قبل الآية قوله تعالى: " ولو أن لكل نفس ظلمت ما فى الأرض لافتدت به " وهذه الآية مبنية عليها ومجموع الآيتين فى قوة أن لو قيل: "ولو أن لكل نفس ظلمت ما فى الأرض لافتدت به " وليس ذلك لها بل كل ذلك لله سبحانه: "ألا إن لله ما فى السماوات والأرض " فلما كانت الآية مبنية على هذه التى قبلها - والمعنى بين ذلك - وقع الاكتفاء بوقوع ما فى الأولى واجتزئ بذا عن تكرارها فى الثانية وليس الموضع موضع تأكيد فتكرر لذلك. وأما ثبوتها فى الآية الثالثة - وهو السؤال الثانى - فوجهه أن التأكيد مقصود فى هذه الآية لأن قبلها حكاية قول الكفار: "قالوا اتخذ الله ولدا " فنزه تعالى نفسه عن مقالهم فقال: "سبحانه هو الغنى له ما فى السماوات وما فى الأرض "وإذا ورد فى القرآن ذكر مقال هؤلاء المعتدين فى ضلالهم تبعه ذكر ملكه سبحانه لكل من فى السماوات والأرض كقوله تعالى: "وقالوا اتخذ الرحمان ولدا " ثم قال: "لقد جئتم شيئا إدا " ثم ذكر سبحانه عظيم مرتكبهم فى شنيع

مقالهم فقال: "تكاد السماوت يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمان ولدا " أى من أجل ادعائهم الولد لله سبحانه ثم قال: "وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا " وكيف والكل عبيده وملكه: "إن كل ما فى السماوت والأرض إلا آتى الرحمان عبدا " وهو الغنى عن العالمين فلما كان موضع تأكيد ناسبه الاتيان بما والتأكيد بها وإن كان المعنى حاصلا دونها. والجواب عن السؤال الثالث: أن ورود "من " فى الآية المتوسطة مناسب لما قصد بها وبنيت عليه ألا ترى أن ما ثبت قبل هذه الآية من قوله تعالى: " ولا يحزنك قولهم " فأنسه تعالى وثبته كما قال فى موضع آخر: "قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " فتأمل عظيم هذا التأنيس وما تضمنه قوله: "فإنهم لا يكذبونك " من وضوح صدقه عليه السلام وتصديقه فلم يبق إلا الحسد وقصد إطفاء نور الله: "زيأبى الله إلا أن يتم نوره " فلما قال له تأنيسا وتكفلا لحفظه إياه: "ولا يحزنك قولهم " أتبع ذلك سبحانه بإعلامه إياه أن العزة له جل جلاله لا يشركه فى ذلك أحد ولا يعتز مخلوق إلا بإعزازه يعز من يشاء ويذل من يشاء وإلى ذلك أشار قوله "جميعا " ثم قال: "هو السميع العليم " أى لا يخفى عليه مقالهم فيك وما يسرونه من مكر أو مكيدة ثم أعلمه باحتواء ملكه سبحانه على ما أعلمه به فى قوله: "ألا إن لله من فى السماوات والأرض " فهو يعزك بإمداده إياك بمن شاء من مخلوقاته "ولله جنود السماوات والأرض " ولما كان تأييده عليه السلام فى الغالب عند لقاء أعدائه إنما يكون بالملائكة والمؤمنين لذلك ما ورد التعبير بمن وكررت تأكيدا فقيل: "ألا إن لله من فى السماوات ومن فى الأرض " وهو مؤسده وممده بمن شاء من عباده: "ولا يحزنك قولهم " وقد وضح أن كل آية من هذه الآيات لا يناسبها غير ما اتصلت به ولا يمكن على ما تبين وقوع واحدة منهما فى موضع الأخرى والله أعلم بما أراد. الآية السادسة من سورة يونس: قوله تعالى: "ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " وفيما بعد من هذه السورة: "وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " وفى سورة الزمر: "وجئ بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون "

وفى آخر السورة: "وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين " فورد فى الموضعين من سورة يونس "بالقسط " وفى الموضعين من سورة الزمر "بالحق " فللسائل أن يسأل عن الفرق؟ ووجه ذلك والله أعلم أن القسط يراد به العمل والتسوية فى الحكم فمظنة وروده حيث يراد موازنة الجزاء بالأعمال من غير زيادة كما قال تعالى فى جزاء الكافرين: "جزاء وفاقا " أى موازنا لأعمالهم موافقا لها: "ولا يظلم ربك أحدا " والحق الصدق فوروده حيث يراد تصديق وعيد أو إخبار متقدم وإن الله سبحانه وعد المؤمنين بزيادة الأجور والإحسان بما يفوت الغايات ويفوق الحصر ولم يجعل جزاءهم على أعمالهم الدينية وفاقا لأعمالهم فى مقادير الجزاء بل قال تعالى: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " وقال تعالى: "وسنزيد المحسنين " وقال تعالى: "فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله " ومنه جعل الحسنة بعشر أمثالها وهذا كثير فى الكتاب والسنة ولما كان الوارد فى آيتى الزمر منزلا على الحكم حقا بين النبيين والشهداء والملائكة قال تعالى: " وجئ بالنبيين والشهداء وقضى بينهم " وقال تعالى: "وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم " والضمير فى الأولى إما أن يكون للنبيين والشهداء ولا كونه فى أن هؤلاء ممن يضاعف أجورهم فجئ بقوله "بالحق " تصديقا لما وعدوا من الزيادة وليس موضع ورود القسط وإما أن يكون للخلق كافة وفيهم المؤمن والكافر فورد قوله "بالحق " تصديقا لما ورد فى حق الفريقين من الزيادة فى أجر المؤمن والعدل فى حق الكافر فلا يظلم مثقال ذرة وإنما جزاؤه وفاق عمله ولا يصح هذا إن لو قيل: "وقضى بينهم بالقسط " وعلى هذا ما ورد فى الآية الأخيرة من فروق. وأما آيتا يونس فقد تقدم الأولى منهما غير ما آيات فى تأنيس نبينا صلى الله عليه وسلم وتعنيف كفار قريش ووعيدهم وتسليته عليه السلام فى إبراهيم ألا ترى ختام الآى قبلها بقوله: "وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم " أى فسأجرى تكذيبهم عيانا لا يجدون محيصا عنه ثم قال: "ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم " أى حضرهم فى القيامة وقد كذبوه فى الدنيا قضى بينهم وبينه فصدق زكذب معانده فنجا المصدق وهلك المكذب ولما لم يقصد هنا تفضيل أحوال المصدقين بل

لحظ الطرفان من التصديق والتكذيب كان موضع التعبير بالقسط الذى هو العدل بين المصدق والمكذب وإنما بناء الآى على إرغام المكذبين ولا يناسب هذا إلا ذكر العدل بحسب ما بنيت عليه الآى قبله وأما قوله فى الآية بعد: "واشتروا الندامة لما رأوا العذاب " فمسرو ندامتهم هم المكذبون وهم المشاهدون العذاب والضمير فى قوله: "وقضى بينهم " عائد عليهم فليس موضع التعبير بقوله "بالحق " لما قد تبين فقد وضح ورود كل من هذه الآى على ما يناسب ويلائم ولا يناسب خلافه. الآية السابعة قوله تعالى: " إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون وما تكون فى شأن " وقال تعالى فى سورة غافر: "إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " فأظهر هنا ما أضمر فى الآية الأخرى فللسائل أن يسأل عن ذلك؟ والجواب والله أعلم أن آية غافر لما تقدمها قوله تعالى: " لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون " ومقصود هذه الآية تحريك الخلق للاعتبار ةالتذكير بما نصب سبحانه من الدلائل والآيات فاقتضى ذلك تكرار الظاهر كما فى آية التذكير والتنبيه ثم جئ بعد هذا بقوله: "إن الله لذو فضل على الناس " فنوسب بين هذا وبين ما تقدم لتجئ هذه الآى على منهاج واحد من التذكير فاقتضت الثانية تكرير الظاهر. وأما آية يونس فإنما تقدمها تأنيس بقوله تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ... "الآية ثم رجع الكلام إلى تعنيف الكفار فى تحكيمهم فقال: "قل أرأيتم ما أنزل لكم من رزق ... " الآية ثم قال: "وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة " ولم يتقدم تكرير يطلب بمناسبة فلذلك ورد الكلام على ما هو الأصل من الاتيان بالضمير ليحصل به ربط الكلام فجاء كل من الموضعين على ما يقتضيه ما قبله رعيا لتناسب الكلام. الآية الثامنة من سورة يونس: قوله تعالى: "وما يعزب عن ربك مثقال ذرة فى الأرض زلا فى السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين " وفى سورة سبأ: "عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين " وقال فيما بعد: "قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الأرض وما لهم فيهما

من شرك وماله منهم من ظهير " للسائل أن يسأل عن تقديم الأرض على السماء فى سورة يونس وعكس ذلك فى الموضعين من سورة سبأ؟ والجواب عن ذلك والله أعلم: أن آية يونس مقصود فيها من تأكيد الاستيفاء والاستغراق مالم يقصد فى الأخريين وإن كان العموم مراد فى الجميع إلا أن آية يونس قضت بزيادة التأكيد ولذلك تكررت فيها مع ما قبلها ما النافية المتلقى بها القسم فى قوله: "وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا ليكم شهودا " فقوى بذلك قصد تأكيد الاستغراق وتضمين الكلام معنى القسم فقال تعالى: "وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة " بزيادة من فى الفاعل وهى مقتضية معنى الاستغراق فى مثل هذا وبناؤها على ما المتلقى بها القسم بفهم ما قلناه من معنى القسم وتأكيد الاستغراق بل أقول إن "من " فى مثل هذا نص فى ذلك. قال سيبويه رحمه الله: "إذا قلت ما أتانى رجل فإنه يحتمل ثلاثة معان أحدها أن تريد أنه ما أتاك رجل واحد بل أتاك أكثر من واحد والثانى ما أتاك لاجل فى قوته ونفاذه بل أتاك الضعفاء والثالث أن تريد ما أتاك رجل واحد ولا أكثر من ذلك فإن قلت ما أتانى من رجل كان نفيا لذلك كله " هذا معنى كلامه والحاصل منه أن "من " فى سيلق النفى تعم وتستغرق. ثم إنه قد تقدم قبل هذه الآية قوله تعالى: " وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه " فدخول "من " فى المفعول فى الموضعين من قوله: " وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل " فزيدت فى المفعول وهو اسم نكرة وارد فى سياق النفى وذلك محصل للاستغراق ثم حمل عليه قوله تعالى: " وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ... " الآية فناسب هذا تقديم ذكر الأرض على السماء لأن السماء مصعد الأمر ومحل العلو ومسكن الملائكة وهى مشاهدة لهم ومستقبل الداعين منها ينزل الأمر ورزق العباد وفيها الخزنة من الملائكة واليها يصعد بأرواح المؤمنين ويعرج الملائكة السياحون فى الأرض المسؤولون عن أفعال العباد فكان العلم بما فيها أجلى وأظهر وكان العلم بما فى الأرض أخفى وهذا بالنظر الينا وبحسب متعارف أحوالنا وإلا فعلم بارينا سبحانه بما فى الأرض وما فى السماء على حد سواء كما أن علمه بالسر والجهر مستو: "سواء منكم من أسر القول ومن جهر به " ولكنا إنما خوطبنا على أحوالنا وبما

نتعاهده ونتعارفه من المعانى والصفات ولذلك ورد فى القرآن التعجب والدعاء والترجى وغير ذلك فخوطب العباد بما يتعارفون ويألفون فيما بينهم. فهذا بيان ما تقدم. فلما كانت الأرض بالنسبة إلى اسمها فيما ذكرنا كان أمرها أخفى وكان أمر السماء أوضح وأقرب من حيث ذكرنا خوطب الخلق على ذلك فقدم ذكر ما هو عندنا كافة أخفى فقيل عند قصد المبالغة فى تأكيد الاستغراق والقسم على ذلك: "وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء " ونظير هذا الوارد هنا قوله تعالى: " ربنا إنك تعلم ما نخفى وما نعلن وما يخفى على الله من شئ فى الأرض ولا فى السماء " وهذه الآية فى الذى تعطيه من إفهام القسم والاستغراق والابتداء بما هو عندنا أخفى كآية يونس من غير فرق وعلمه سبحانه بما خفى عندنا أو ظهر سواء تعالى ربنا عن شبه الخليقة. فإن قيل فإن قوله سبحانه: "وما من غائبة فى السماء والأرض إلا فى كتاب مبين " قد اجتمع فيه زيادة من الاستغراقية بعد ما النافية المشيرة إلى معنى القسم كما فى الآيتين وقد تقدم فيه ذكر السماء بخلاف ما فى الآيتين؟ قلت لما تقدم هذا قوله تعالى: " وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون " وقد تقدم فى سبأ إحراز التسوية من غير فرق فقدم ذكر السماء وإنما كانت تكون كالآيتين لو لم يتقدمها ما ذكر وإذ قد نبين وجه تقديم الأرض فى آية يونس فنقول ان الآيتين من سورة سبأ لما لم يتقدم فيهما ما تقدم فى آية يونس مما يحرز تأكيد العموم والاستغراق ولم يكن فيهما داع من المعنى لتقديم الأرض على السماء ثم ان ورود السماوات بلفظ الجمع يحرز فى الآيتين من سورة سبأ معنى العموم والاستغراقى إذ هو مراد فى كل هذه الآيات الواردة فى هذا الغرض فأعطاه وأحرزه فى آية يونس وآية إبراهيم ما نجر فى هاتين الآيتين من محرز معنى القسم والاستغراق وأعطاه وأحرزه فى آيتى سبأ ما ورد فيهما من جمع السماوات وجاء كل على ما يجب ويناسب. الآية التاسعة من سورة يونس قوله تعالى: " ولقد بوأنا بنى إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " وفى سورة الجاثية:: "ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم منالطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من

بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " للسائل أن يسأل عن وجه الاختلاف الوارد فى هاتين السورتين وزيادة ما فى الوارد فى سورة الجاثية من الألفاظ مع اتحاد المعنى المفصود فى الموضعين من منحهم واختلافهم؟ والجواب عن ذلك والله أعلم: أن آية يونس تقدم قبلها دعاء موسى عليه السلام على فرعون وملئه بقوله: "ربنا إنك أتيت فرعون وملأه زينة وأموالا فى الحياة الدنيا ... " الآية فأجاب سبحانه دعاء نبيه وطمس على أموال آل فرعون وملئه وأغرقه وآله ونجى بنى إسرائيل من الغرق وقطع دابر عدوهم وأورث بنى إسرائيل أرضهم وديارهم يتبوؤن منها حيث شاؤوا فقال سبحانه معرفا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: "ولقد بوأنا بنى إسرائيل مبوأ صدق " أى مكناهم ومهدنا لهم أمرهم بإهلاك عدوهم وبما أورثناهم بعد ضعفهم من مشارق الأرض ومغاربها فبعد تمكن أمرهم واستحكام حالهم واستقرار أمر دينهم بما شاهدوه من الآيات وعظيم البراهين المعقبة لمن شاهدها اليقين اختلفوا جريا على ما سبق لهم ولغيرهم ممن أشار إليه قوله تعالى فى أول هذه السورة: "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا " ويناسب هذا كله تناسبا لا توقف فى وضوحه ولم يتقدم فى السورة ما يستدعى من حالهم أكثر من هذا. أما آية الجاثية فتقدم قبلها بسط الدلالة والبراهين من لدن قوله تعالى: " إن فى السماوات والأرض لآيات للمؤمنين " إلى ما تبع هذا من التنبيه بخلقها وما بث سبحانه فيهما من أصناف المخلوقات واختلاف الليل والنهار وتعاقبهما وإنزال الرزق من السماء وإحياء الأرض بعد موتها بما ينزل من الرزق اليها وتصريف الرياح ثم ذكر سبحانه أن هذه الآيات إنما يعتبر بها ويهتدى بأنوارها من منحه الله تعالى العقل وهذاه إلى الاعتبار فقال: "آيات لقوم يعقلون " ولم يرد ذكر هذه الجملة للاعتبار بها فى موضع من كتاب الله تعالى أوعب منها فى هذه السورة وفى سورة البقرة وهى هناك أوعب لذكر الفلك وجريها فى منافع العباد وتسخير السحاب بين السماء والأرض وذكر تصريف الرياح وقد أعقب ذكر هذه الآيات فى الموضعين بقوله فى سورة البقرة: "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا " الآية إشارة إلى كفار العرب وسوء مرتكبهم وتعاميهم عن الاعتبار والاستدلال مع وضوح الأمر إذ لا يقبل العقل تكون هذه

المخلوقات العظام بأنفسها ولا أن بعضها أوجد بعضا لتساويها فيما قام من دلائل الحدوث فلابد من صانع مريد مختار قادر منزه عن شبه هذه الجملة والا لافتقر إلى موجد آخر وذلك يؤدى إلى التسلل وهو محال عقلا والإثنينية ممتنعة عقلا: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " فتعين توحيد الموجد الحق وانه ليس كمثله شئ ولما كان الاستدلال بهذه الجمل المفصلة أوضع شئ أتبعها سبحانه بقوله: "فبأى حديث بعد الله وآياته يؤمنون " ولكونه أبسط ما ذكر به من خوطب بالقرآن ثم لم يجد ذلك فى حق من سبق له الشقاء منهم الا المنافرة والمخالفة أعقبت بذكر من ترادفت وتوالت عليه الآيات وكثرت فى حقه الشواهد ثم لم يعقبه ذلك الا الاختلاف والعدول عن سلوك المنهج الواضح وهم الممتحنون بالاختلاف من بنى إسرائيل فقال تعالى: "ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن برك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " فاقتضى ذلك ما قدم من بسط الآيات وواضح ما خصه تعالى من واضح الدلالات فى صدر هذه السورة بسط ما منحه بنو إسرائيل وما بين لهم مما أشار إليه قوله تعالى: " وآتيناهم بينات من الأمر " بعد ما ذكر ما أوتوه من الكاب والحكم وتوالى النبوة فيهم وكثرة الرسل منهم وما بسط لهم من الرزق وإدرار النعم فعتوا واعتدوا وقتلوا الأنبياء بغير حق لينفذ فيهم ما قدر على فاعلى ذلك منهم من ضرب الذلة والمسكنة ومسخهم قردة وخنازير ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم فلا يأتلف شملهم ولا تجتمع جماعاتهم إلى يوم القيامة ليعلم المعتبرون بالآيات أنه لا يجرى على أحد الا سابق سعادة ان قدرت له الا ان الانقياد للاعتبار والاذعان لموجب الدلالات عنوان رجاء والمنافرة لذلك عنوان مشقة وهما شاهدا حال والشأن كله فى الخواتم والكتاب والسنة موضحان لهذا الإجمال. ولما لم يكن تقدم آية سورة يونس من الدلالات مثل ما بسط فى سورة الجاثية من الاعتبار لما يناسبه الواقع فى الجاثية من الاطناب فنوسب الإيجاز بالايحاز والاطناب بالاطناب وجاء كل على ما يجب ويناسب مع اتحاد الممقصود فى السورتين. الآية العاشرة من سورة يونس قوله تعالى: " وأمرت أن أكون من المؤمنين " وفى سورة النمل: "وأمرت أن أكون من المسلمين " للسائل أن يسأل عن الفرق الموجب لافتراق الوصفين فى الآيتين.

والجواب أن الآية الأولى قد ورد قبلها قوله تعالى: " ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله " وبعد هذا: "وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " وبعد هذا كذلك: "حقا علينا ننجلا المؤمنين " وبعد هذا الآية المذكورة من قوله: "وأمرت أن أكون من المؤمنين " وتناسب هذا كله بين. ثم من المعلوم ان اسم الإيمان إنما يقع لغة على التصديق وعلى هذا يطلقه الأشعرية ومنه: "وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " ثم قد يتسع فى إطلاقه فيوقع على التصديق والاستسلام ومنه: "وأمرت أن أكون من المؤمنين " والأصل فى اسم الإسلام وقوعه على الاستسلام والتزلم الأعمال الظاهرة ثم يتسع فيه فيطلق على مجموع التصديق والاعتقاد والاستسلام ومنه: "وأمرت أن أكون من المسلمين " وقد يختص كل من الاسمين بمسماه من غير اتساع ومنه قوله تعالى: " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " وفى حديث سؤال جبريل عليه السلام: "ما الاسلام؟ قال ان تشهد ان لا اله الا الله وأنى رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ان استطعت إليه سبيلا قال صدقت فما الايمان؟ قال: أن تؤمن بالله ... "الحديث فوقع فيه التفصيل إجراء على أصل التسمية فإذا تقرر هذا فاعلم ان ما تقدم قبل آية يونس من تكرار اسم الإيمان لم يكن ليلائمه إطلاق اسم الإسلام لأن رتبة الإيمان فوق رتبة الإسلام ومقامه أعلى وهذا على إطلاق كل واحد من الاسمين على مسماه لغة وعلى رعى التفصيل فكأن يكون عكس الترقى إلى الأعلى أبدا فلا يمكن فى آية يونس الا ما وردت عليه. أما آية النمل فإن قبلها قوله: "إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذى حرمها الله وله كل شئ " وقوله: "وله كل شئ " يقتضى تسليم كل شئ له والتبرى من توهم شريك أو نظير فناسب هذا قوله: "وأمرت أن أكون من المسلمين " وجاء كل على ما يجب. الآية الحادية عشرة قوله تعالى: " فمن اهتدى قإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما انا عليكم بوكيل " وفى سورة النمل: "فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنرين " فورد فى الأولى عقب قوله

"ومن ضل " قوله "فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل " وفى الثانية عقب قوله "ومن ضل " قوله "فقل إنما أنا من المنذرين " فللسائل أن يسأل عن الفرق؟ والجواب أن آية يونس مرتبطة بقوله تعالى فيما قبلها: "ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " فلما تقدمها هذا ومعناه هو المعنى المراد فى قوله تعالى فى سورة الزمر: "وما أنت عليهم بوكيل " فقيل هنا على لسانه صلى الله عليه وسلم: "وما انا عليكم بوكيل " وتناسب ذلك وارتبط ارتباطا لا يلائم الموضع خلافه والله أعلم. وأما آية النمل فإنها راجعة إلى قوله تعالى فيما تقدمها: "فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادى العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون " فناسب هذا أتم مناسبة قوله تعالى: " ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين " ولم يكن قوله: "فقل إنما أنا من المنذرين " ليناسب المتقدم فى سورة يونس ولا قوله: "وما أنا عليكم بوكيل " ليلائم ما تقدم هنا والله أعلم.

سورة هود

ملاك التأويل (الجزء الثانى) سورة هود الآية الأولى منها قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (هود: 10)، وفي سورة حم السجدة: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) (فصلت: 50)، للسائل أن يسأل عن زيادة (منا) وزيادة (من) في سورة السجدة وسقوطهما معا في سورة هود؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أنه لم يرد في هود ما يستدعي تلك الزيادة، وأما سورة السجدة فتدم فيها قوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي) (فصلت: 47) قطعا بهم وتنبيهاً على سوء مرتكبيهم، وقد عاينوا الحق، وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل من شركاء الله سبحانه، وظنوا أي أيقنوا وعلموا أنه لا محيص لهم ولا مفر، فلما تقدم ذكر الشركاء قال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا)، فنبه تعالى بقوله (منا) على أن لا شريك له، ولا معطي غيره، وأنه لا يأتي العبد شيء من سواه سبحانه. ولما لم يتقدم في سورة هود ذكر لذلك لم يرد فيها التنبيه بقوله: (منا) وأما زيادة: (من) في قوله: (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) فمناسب لإطناب هذا الغرض في هذه السورة، فناسب ذلك الزيادة. ولإيجاز هذا القصد في سورة هود ناسبه سقوط (من)، فجاء كل على ما يناسب ويجب، ولم يكن ليلائم كلا من الموضوعين إلا ما ورد فيه، والله أعلم. الآية الثانية منها: (بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (هود: 17)، وفي آخر السورة إثر قوله: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود: 108)، (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) (هود: 109)، وفي سورة السجدة: () وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) (السجدة: 23) بثبات نون تكن، وحذفها في آيتي سورة هود فللسائل أن يسأل عن ذلك؟ والجواب عنه، والله أعلم: أن العرب تصرفت في يكون عند دخول الجازم تصرفاً لم تفعله في نظائرها وما يشبهها، وبسط هذا في مظانه، فيكون الوجه في يكون عند دخول الجازم تسكين النون، فتحذف الواو عند التقاء الساكنين كما ورد في سورة

الآية الثالثة

السجدة، إلا أن حذف النون في يكون من فصيح كلامهم ما لم تكن متحركة، فإن كانت متححركة لم تحذف لقوتها بالحركة وإن كانت عارضة كقوله تعالى: (لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا ... ) (البينة: 1)، ولا تحذف هذه إلا في الشعر نحو قوله: لم يك الحق سوى أن هاجه رسم دار قد تعفَّى بالسررْ فورد في سورة هود على ما اعتمدوه من تخفيف هذا اللفظ ليناسب بذلك إيجاز الكلام المتعلق بقوله: (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) (هود: 17)، والمتصل به تمامه تمام معنى المقصود وذلك قوله: (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (هود: 17)، وكذلك قوله في آخر السورة: (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ) (هود: 109) إلى قوله: (غَيْرَ مَنقُوصٍ) (هود: 109). وورد في سورة السجدة على أصل الكلمة قبل حذفها فقيل: (فَلا تَكُنْ)، ليجريذلك مع ما ورد في هذه السورة من طول الكلام المتعلق بقوله (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) (السجدة: 23)، ألا ترى أن الكلام واحد إلى قوله: (فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (السجدة: 25)، فنوسب الإيجاز بالإيجاز والطول بالطول والله أعلم. الآية الثالثة منها قوله تعالى: (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ) (هود: 22)، وفي سورة النحل: (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ) (النحل: 109)، للسائل أن يسأل عن وجه تخصيص آية هود بقوله: (الأَخْسَرُونَ) وآية النحل (بقوله) (الْخَاسِرُونَ)؟ (وهل كان يمكن العكس)؟ والجواب: أن آية هود تقدمها (ما يفهم) المفاضلة، ألا ترى أن قوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ) (هود: 17)، الآية يفهم من سياقها أن المراد: أفمن كان على بينة من ربه كمن كفر وجحد (وكذب) الرسل؟ ثم أتبع هذا بقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) (هود: 18)، فهذا صريح مفاضلة، ثم أستمرت الآي في وصف من ذكر وعرضهم على ربهم وقول الأشهاد: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (هود: 19، 18) إلى ذكر مضاعفة العذاب لهم، وأستمر ذكرهم إلى قوله: (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ) (هود: 22)، فناسب لفظ الأخسرين بصيغة التفاضل، ومقصود التفاوت ما تقدم مما يفهم ذلك

الآية الرابعة

من قوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) (هود: 17)، وأفعل من كذا في قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى) (هود: 18)، فالأيات من لدن قوله (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) إلى قوله: (هُمْ الأَخْسَرُونَ) (مبنيات على ما ذكرناه غير خارجة عن هذا المقصود، ولو ورد هنا ((الخاسرون)) مكان ((الأخسرين)) لتنافى النظم وتباين السياق ولم يتناسب. وأما آية (النحل) فلم يقع قبلها أفعل التي للمفاضلة والتفاوت ولا ما يفهمهما، وإنما قبلها: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ) (النحل: 105، 104)، وبعد هذا (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (النحل: 107)، وبعد هذا (وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ)، فتأمل هذذه الفواصل واتفاقها في اسم الفاعل المجموع جمع السلامة في قوم متفقي الأحوال في كفرهم إلى أن ختم وصفهم وما قصد من ذكرهم بقوله: (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ)، فتناسبت الآي في السياق والفواصل، وختمت بمصل ما به بدأت، ولم يكن ليناسب ما ورد هنا لفظ المفاضلة، إذ ليس في الكلام ما يستدعي ذلك لا من لفظه ولا معناه، ووضح إختصاص كل من العبارتين بمكانة، وإن العكس لا يلائم، والله أعلم. الآية الرابعة من سورة هود قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) (هود: 28)، في قصة صالح بعد: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً) (هود: 63)، للسائل أن يسأل عن مجاوبة كل واحد من هذين النبيين الكريمين لقومه، لم تقدم المجرور في قول صالح عليه السلام (وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً) على المفعول الثاني من مفعولي أتى التي هو رحمة والوجه تأخيره لأنه فضله كما تقدم متأخرا في قول نوح عليه السلام (وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ)؟ والجواب على ذلك: أن قوم صالح، عليه السلام، بالغوا في أساءت الجواب حين قالوا: (قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا) (هود: 62)، أي قد كنت مرجواً أن تسود فينا حتى نقطع عن رأيك ونرجع إليك من أمورنا، فرموا مقامه النبوي بحط مرتبته عنهم، فلما بالغوا في إساءة الجواب جاوبهم، عليه السلام، ردا لمقالهم الشنيع بقوله: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً) (هود: 63)، ولا شك أن عليه السلام كذلك، وأنه على بصيرة من أمره، ولكنه خاطبهم على ما يجري في مناظرة من فرض ما لا يعتقده المناظر على حسب نطقه، ولكنه يستنزل بذلك مناظرة ليقيم الحجة عليه، فيقول هب كذا على ما

الآية الخامسة

تقوله، فعلى هذا جرى قول النبي الكريم (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي)، أي كيف ترون إن كنت على واضحه وعلى يقين من ربي وآتاني منه رحمة فعصيته بموافقتكم، فإن فعلت ذلك فمن ينصرني ويمنعني من عذابه، فخاطبهم عليه السلام بطريقة فرض هذا: إن كان كذا، وهو عليه السلام العليم بحاله الجليل، وعلى بينة من ربي، وأكد بتقدم المجرور في قوله (وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً)، لما يحرز تقديمه من التأكد ويعيه مفهومه من أن الرحمة منه سبحانه لا يشرك فيها غيره، فهو مخصوص لا يحصل مع تأخيره. فتقديم هذا الضمير المجرور كتقديمه في قوله سبحانه: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الأخلاص: 4)، وقد تقدم مثله في إنشاد سيبويه (رحمة الله عليه): لتقربن قرباً لجذيا ما دام فيهن فصيل حيا فلما بالغوا في قبح الجواب بالغ، عليه السلام في رد مقالهم، فقدم المجرور لتأكيد أن الرحمة من عند الله تعالى: (وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً). ولما لم يكن في مراجعة قوم نوح مثل هذا في شناعة الجواب، لأن أقصى المفهوم من قولهم: (مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا)، إلحاقه بهم ومماثلته إياهم، وكلهم يقولون لو كنت رسول لكنت من الملائكة ولم تكن لتماثلنا. فلم يكن في قول هؤلاء ما في قول قوم صالح، فجرى جوابه، عليه السلام، على نسبة ذلك فقال: (وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ)، فأتى بالمجرور مأخراً في محله على ما يجب، حيث لا يقصد في إحراز المفهوم ما قصد في الآية الأخرى، فورد كل على ما يلائم، والله أعلم. الآية الخامسة من سورة هود قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) (هود: 40)، وفي سورة: ((قد أفلح المؤمنون)) (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... ) (المنؤمنون: 27). للسائل أن يسأل عن وقله في سورة هود (قُلْنَا احْمِلْ) وفي السورة الثانية (فَاسْلُكْ) والقصة واحدة فهل ذلك بمقتض لكل واحد من الموضوعين بما وقع فيه؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن لفظ احملأوسع مواقع في اللغة وأكثر تصرفاً في الكلام تقول: حملت الشيء إلى فلان، وحملته على كاهلي، وحملت العلم عن فلان، وحمل فلان الأمانة، وحمله الغضب على كذا، وحمِل الفارس على صاحبه، وحملت المرأة والشجر، ولا تقول في شيء من هذا سلك إلا أن يكون المحصور فيه حسبما

الآية السادسة

تعاقب سلك وحمل إن لم يعرض في المعنى ما يمنع. وأما سلك فإن العرب تقول: سلكت الشيء في الشيء وأسلكته أي أدخلته قال الله تعالى: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) (القصص: 32)، أي أدخلها، وقال تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (المدثر: 42) أي ما أدخلكم، وقال تعالى: (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً) (الجن: 17) أي ندخله فيه، وكل ما يخرج سلك عن هذا المعنى من الدخول حقيقة ومجازاً، ففيها من حيث معنها الخصوص، وأما حمل ففيها اتساع لا يكون في سلك. فوجه ورودها في سورة هود مناسبتها من حيث المعنى من حيث ما اقترن بها من لفظ: ((قلنا))، فطال الكلام لفظا مع ما أشرنا إليه من سعة المحامل، وإن لم يرد جميعها هنا، لكن ناسب مجموع هذه العبارة ما ورد في سورة هود من إستيفاء قصة نوح، عليه السلام، وطول الكلام بذلك. وأما آية المؤمنون ففي قصة نوح فيها إيجاز وإجمال، إلا ترى أنها في كلمها وعدد حروفها - أعني آية هود - على الضعف أو أطول مما في سورة المؤمنون، فلذلك ورد في سورة المؤمنون لفظ ((أسلك)) لإيجازه من حيث معناه وعروه عن (إقتران) لفظ ((قلنا)) أو غيره مما يحرز الطول، بخلاف ما في سورة هود. ومما يعضد هذا المقصود ويشهد له قوله تعالى في سورة هود: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا) (هود: 40)، وفي سورة المؤمنون: (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا) (المؤمنون: 27). فتأمل تنظير ((حتى)) وهي على أربعة أحرف بفاء التعقيب في سورة المؤمنون في قوله: ((فإذا))، وإنما الفاء على حرف واحد، فنوسب بالفاء موضعها المبنى على الإيجاز، وبحتى موضعها المبني على الاستيفاء والطول، فقد وضح ورود كل من ما في السروتين على ما يجب ويناسب، والله سبحانه أعلم بما أرد. الآية السادسة من سورة هود: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) (هود: 58)، وقال في قصة شعيب عليه السلام: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) (هود: 94)، فعطفت لما على ما قبلها بواو النسق في هذين الموضوعين وخالفت قصة صالح وقصة لوط، عليهما السلام، في الحرف المعطوف به هذه الجملة المصدرة بحرف الوجوب فقيل في قصة صالح عليه السلام: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) (هود: 66)، وفي قصة لوط عليه السلام: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) (هود: 82)، بعطف لما على ما قبلها من هتين الآيتين بفاء التعقيب، فللسائل أن يسأل عن وجه اختصاص آيتي هود وشعيب بالواو وآيتي صالح ولوط، عليهما السلام، (فاء التعقيب؟ وهل ذلك بواجب؟).

الآية السابعة

والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آيتي صالح وهود ورد فيهما ما يقتضي معناه أن يربط بالفاء المقتضية التعقيب، أما قصة صالح منهما فتقدمها قوله تعالى: (فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) (هود: 65)، فكأن قد قيل: فلما انقضت، فالموضوع للفاء لمقصود التعقيب. ومثل هذا من غير فرق قوله تعالى في قصة لوط عليه السلام: (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) (هود: 81)، ولا شك أن المعنى يستدعي تقدير فلما أصبح تحقيقا لصدق الوعيد، وإعقاباً لا يتحصل بغير الفاء، فهذا يوجب خصوص الفاء بهذين الموضعين. وأما قصة هود عليه السلام، فلم يرد فيها ما يستدعي تعقيباً، بل قبلها ما يقتضي أن ينسق ما بعده عليه بواو العطف، وذلك قوله تعالى مخبراً عن قوم هود: (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا) (هود: 57)، ثم قال: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا) (هود: 58)، فعطف هذه الجمل بعضها على بعض بما يعطي ذلك، ويناسب العطف بالواو، وعلى هذا وردت آية شعيب عليه السلام، فورد قبلها: (وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) (هود: 93) ثم بعد ذلك: (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) (هود: 93)، وليس هذا ما يقتضي تعقيباًَ بل بابه حمل الآي بعضها على بعض بحرف التشريك، فجاء كل على ما يناسب، والله أعلم بما أراد. الآية السابعة قوله تعالى في قصة هود: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً) (هود: 60)، وفي قصة موسى بعد من هذه السورة: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً) (هود: 99) فجمع في قصة هود بين اسم الإشارة ولفظ الدنيا الجاري عليه وصفا، وأكتفي في قصة موسي باسم الإشارة دون التابع، فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟ وهل كان يجوز عكس الوارد؟ والجواب عن ذلك: أن الوارد عليه كلا من الآيتين لا يحسن خلافه ولا يناسب، وذلك لوجهين: أحدهما أن قصة هود، عليه السلام، في هذه السورة أكثر استيفاء من قصة موسي عليه السلام، بكثير فناسب الطول الطول والإيجاز الإيجاز، ولا يليق العكس. والوجه الثاني أن قوله تعالى في قصة هود: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً) (هود: 60)، وارد على الأصل من الجمع بين التابع نعتاً أو عطف بيان وبين متبوعه، وجاء في قصة موسى عليه السلام: ((وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً) على حذف الوصف للإكتفاء باسم الإشارة، وكل فصيح، فجيء بما هو في الأصل أولاً، ثم جيء ثانياً بما هو ثان عنه على ما ينبغي، ولا يحسن العكس لأن ذلك شبه التفسير وبابه أن يتقدم، فما يحذف يكون لما تقدم من ما يدل عليه ويحذف لما سيأتي بعد إلا في قليل نحو قوله: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض، والرأي مختلف، وهذا الوجه كاف. والوجه الأول أنسب لراعي النظم، والله أعلم.

الآية الثامنة

الآية الثامنة من سورة هودقوله تعالى: في قصة صالح: (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍقَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (هود: 62)، وقال في سورة إبراهيم عليه السلام: (وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (إبراهيم: 9)، للسائل أن يسأل عن ثبات النونين وهما للمضاعفة الداخلة للتأكيد ونون الضمير في ((إننا)) في سورة هود (وسقوط إحدى النونين في سورة إبراهيم من ((إِنّا))؟ وعن إفراد النون في سورة هود: (في)) (تَدْعُونَا) والحاق نون ثانية في (تَدْعُونَنَا) من سورة إبراهيم؟ والجواب عن ذلك: أن ((إننا)) الواردة في سورة هود المضموم فيها إلى أن المشددة الناصبة للإسم والرافعة للخبر نون الضمير المنصوب وارده على ما يجب وعلى الأصل في إتصال الضمير المنصوب، ثم يجوز حذف إحدى المضاعفين تخفيفاً فنقول: (إنا) فنكتفي بالضمير عن النون المحذوفة، وذلك من فصيح كلامهم، والأصل الأول، وإذا تقرب هذا فاعلم أن الضمير المتصل بالفعل في (تدعونا) في سورة هود ضمير مفرد مستتر وهو ضمير صالح، عليه السلام، ورفع هذا الفعل بالضمة المقدرة في الواو من (تدعونا) ضمير قوم صالح. ولا نون هنا غير هذه، وأما قوله في سورة إبراهيم عليه السلام: (مِمَّا تَدْعُونَنَا) فالواو ضمير الرسل المقول لهم: (إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ)، ورفع هذا الفعل بالنون الأولى والنون الثانية ضمير المدعوّين، فلابد هنا من النونين في (تدعوننا)، فلما لزمت النونان هنا جيء معهما بإن المحذوفة النون لتقارب اللفظ أعني قرب إن من تدعوننا، فكان في مظنة الإستثقال فحسن الحذف حيث يجوز فقيل: (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (إبراهيم: 9)، ولما لم يكن في (تدعونا) في سورة هود إلا نون واحدة وهي نون الضمير لم يستثقل، فجيء بإننا على الأصل فجاء كل على ما يجب، والله أعلم بما أراد. الآية التاسعة من سورة هود، عليه السلام، قوله تعالى في قصة صالح: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) (هود: 67)، وقال في هذه السورة في قصة شعيب عليه السلام: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) (هود: 94)، يسأل عن سقوط علامة التأنيث من الفعل في قوله: (وَأَخَذَ) في قصة صالح وثبوتها فيه في قصصة شعيب مع التساوي في الفاعل وهي الصيحة والتساوي في الفصل الواقع بين الفعل وفاعله الرافع له؟ والجواب عن ذلك: أن التأنيث على ضربين حقيقي وغير حقيقي، فالحقيقي لا

الآية العاشرة

تحذف تاء التأنيث من فعله غالباً إلا أن يقع فصل نحو قام اليوم هند، وكلما كثر الفصل حسن الحذف، ومن كلامهم حضر القاضي اليوم امرأة، والإثبات مع الحقيقي أولى ما لم يكن جمعاً. وأما التانيث غير الحقيقي فالحذف فيه مع الفصل حسن، قال تعالى: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى) (البقرة: 275)، وهو كثير، فإن كثر الفصل ازداد حسناً، (ومنه) (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ)، فالحذف والإثبات هنا جائزان والحذف أحسن، فجاء الفعل في الآية الأولى على الأولى، ثم ورد في قصة شعيب وهي الثانية بإثبات علامة التأنيث على الوجه الثاني، جمعاً بين الوجهين إذ الآيتان في سورة واحدة وتقدمها الأولى على ما ينبغي، والله أعلم. وهذا ما لم يكن الفاعل ضمير مؤنث فله أحكام تخصه. الآية العاشرة (من سورة هود عليه السلام) قوله تعالى: (أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ) (هود: 68) وقرئ ثمود في الموضوعين بالوجهين من الصرف وعدمه إلا أن أكثر القراء على الصرف في الأول ومنعه في الثاني، فيترتب على قراءة الأكثرين سؤال وهو لم صرف في الأول في قراءة غير حفص وحمزة ومنع الثاني الصرف في قراءة الجماعة غير الكسائي؟ ووجه ذلك، والله أعلم: التفات شيء في خفاء يراعي مثله وذلك أن الاسم النكرة إذا تكرر وأريد بالثاني الأول ولم يرد غيره لزمت الألف واللام التي للعهد فصار معرفة تقول: رأيت رجلاً فضربت الرجل تريد المذكور ولا تعيده نكرة بوجهه، ولك أن تأتي به مضمراً فتقول رأيت رجلاً فضربته فإذا تكلمت (بهذا) في المعرفة فالأكثر أن تأتي به مضمراً أو موصوفاً كقولك المذكور أو ما لا يخرج عن الأول حتى لا يظن أنك تريد سواه فتقول: رأيت زيداً فكلمته ولقيت عمراً فضربت المذكور أو ضربت عمراً المذكور، والثاني المكرر أبداً إن كان الأول نكرة كان هو معرفة بأداة العهد، وإن كان الأول معرفة كان الثاني أمكن في التعريف إذ قد يدخل الأول اشتراك لوجود أمثله ممن سمّي باسمه، أما الثاني فلا يدخله اشتراك من حيث هو إلا أن يسري له الاشتراك من الأول، (فقد) ثبت على كل حال أنه أبعد من الاشتراك والالتباس من الأول وذلك شفوف له عليه، فكأنه أعرف منه فإذا تكرر غيرر مضمر ولا منعوت وكان علماً مما يجوز في مثله الوجهان من الصرف وعدمه وذلك الثلاثي الساكن الوسط، والعرب قد تصرفه لخفته ومنهم من يمنعه الصرف لوجود علتين ولا يراعى خفته، وقد أنشدوا عليه: لم تتلفع بفضل مئزرها دعدّ ولم تستق دعدُ في العلبِ فصرف أولاً ولم يصرف آخر، فإذا كان أكد تعريفاً كان الوجه منع صرفه إشعاراً

الآية الحادية عشر

لتمكن تعريفه، إذ هذا الضرب من التعريف من موانع الصرف ولا اعتبار بما دونه من المعارف في منع الصرف إلا لموانع أخر، فلهذا كان الثاني في قوله: (ألا بعداً لثمود) أولى بمنع الصرف، والله أعلم، وعلى هذا ورد ما أنشدوه (من قوله): لم تتلفع بفضل مئزرها دعدٌ ولم تسق دعدٌ في العلبِ فالمؤنث الثلاثي الساكن الوسط إذا لم يكن منقولاً عن مذكر فيه الوجهان الصرف وعدمه، إلا أن في اختصاص مكرره بالمنع تأنيس لما ذكرناه وإن لم ترد به الشواهد إذ باب هذا معروف ومفهوم لا توقف فيه. الآية الحادية عشر: غ - قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) (هود: 77)، وفي سورة العنكبوت: (وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ) (العنكبوت: 33) فوردت آية العنكبوت بزيادة (أن) بعد (لما) بخلاف آية هود، فللسائل أن يسأل عن ذلك؟ الجواب عنه، والله أعلم: أن (أن) هذه الخفيفة كثيراً ما تزاد، وزيادتها على ضربين بقياس وغير قياس، فالذي بغير قياس نحو قوله: كأن الظبية تعطو إلى وارث السلم فزيدت بعد كاف التشبيه بينها وبين مجهورها، وأما التي تزاد بقياس فبعد لما، ولما ورد في آية هود قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) ثم ورد هذا اللفظ بجملته في سورة العنكبوت متكرراً بعينه ورد أولا بغير ((أن)) على الأصل، وورد ثانيا بزيادة أن على الثاني ليحصل (بين) التواردين ما يرفع تقصاقل اللفظ المذكور. فإن قلت: فإنه قد تباعد ما بين الآيتين ومثل هذا ما يحصل فيه ما ذكرت، فإقول: لما كان اللفظ اللفظ وكان زيادة (أن) وعدم زيادتها هنا هيناً فصيحاً جيء بالجائزين معاً وتأخرت الزيادة إذ هي غير الأصل إلى المتأخر من الآيتين. فإن قلت: إن قوله تعالى: (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ) (يوسف: 96) لم يقع فيه تكرر فلم زيد فيه أن ولم يأت على الأصل؟ قلت: لما كان مجيء البشير إلى يعقوب، عليه السلام، بعد طول الحزن وتباعد المدة ناسب ذلك زيادة أن لما في مقتدى وصفها من التراخي، فورد كل من هذا على ما يجب، والله أعلم.

الآية الثانية عشر

الآية الثانية عشر من سورة هود، عليه السلام، قوله تعالى: (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ) (هود: 81)، وقال في سورة الحجر: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (الحجر: 85) هنا ثلاثة سؤالات: أحدها (إلا أمراتك) في سورة هود، ولم يقع ذلك الإستثناء في الحجر، والثاني: ما ورد في الحجر قوله: (وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ)، والثالث قوله: (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) ولم يذكر في سورة هود. والجواب عن الأول: أن آية الحجر ورد قبلها قوله في قصة إيراهيم عليه السلام: (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ *الُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (الحجر: 57 - 60)، فلما ورد هنا استثناء المرأة وذكر حالها وقع بذلك الاكتفاء فلم يذكر في الآية بعد، إذ ذلك كله كلام متصل بعضه ببعض، ولم يتقدم لامرأة لوط، عليه السلام، في سورة هود ذكر تحتيجة إلى استثنائها. والجواب عن السؤال الثالث أن قوله في سورة الحجر: (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (الحجر: 65) زيادة إخبار بما ليس في سورة هود، وقد تأخرت سورة الحجر عنها. فوفت بما لم يذكر في سورة هود، ومصل هذا لا سؤال فيه. الآية الثالثة عشرغ - قولة تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (هود: 82)، وفي صورة الحجر: (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (الحجر: 74)، ففي الأولى: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا) والضمير للقرية والمراد أهلها، وفي الثانية: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا) والضمير لقوم لوط فللسائل (أن يسأل) عن وجه اختلاف الضمير مع اتحاد المقصود؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن كلا من الموضوعين مراعي فيه مناسبة ما تقدمه، ولما تقدم آية الحجر قوله تعالى: (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) (الحجر: 58)، فذكر قوم لوط موصوفين بالإجرام الموجب لهلاكهم فروعي هذا المتقدم فقيل: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا) (الحجر: 74) ونظير هذا قوله تعالى في سورة الذاريات: (الُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ) (الذاريات: 32 - 33)، فقيل: (عليهم) لما تقدم (قوله): (إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)، وأما آية هود فلم يتقدم فيها مثل هذا، فكتفى بضمير القرية فقيل: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا) (هود: 82)،

الآية الرابعة عشر

وأغنى ذلك عن ذكر المهلكين إذ هم المقصودون بالعذاب، فورد كل على ما يناسب، والله أعلم. الآية الرابعة عشر من سورة هود قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (هود: 96 - 97)، وقال في سورة غافر: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) (غافر: 23 - 24)، وقال في سورة الزخرف: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الزخرف: 46)، وقد ذكر صاحب كتاب الدرة هذه الآيات الثلاث لستوائها في الافتتاح والمطالع وانفراد آيتي هود وغافر بزيادة قوله (وسلطان مبين)، ولم يذكر ذلك في آية سورة الزخرف، وقد ورد في مثل هذا أمثلة في العدد وإن خالفه في المطالع والافتتاح إلا أنها من ضربها وذلك قوله في سورة المؤمنون: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) (المؤمنون: 45 - 47)، وتقدم في سورة الاعراف: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا) (الاعراف: 103)، وفي سورة يونس: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) (يونس: 75)، فورد في سورة هود وفي سورة المؤمنون وسورة غافر زيادة قوله: (وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) ولم تزدد هذه الزياده في السور الثلاث الآخر، وورد في سورة يونس وسورة المؤمنون ذكر تأييد موسي بأخيه هارون، عليهما السلام، ولم يرد ذلك في غيرهما، وأنفردت سورة المؤمنون بالجمع بين تأييده، عليه السلام، بأخيه وسلطان مبين، فللسائل أن يسأل عن توجيه ذلك كله لاتحاد الاخبار؟ والجواب عنه، والله أعلم: أنه حيث يذكر سوء رد المرسل اليهم وقبح جوابهم يقابل ابدا تأيده بأخيه أو عضده بالآيات مما يقتضي القهر والإرغام وهو المعبر عنه بالسلطان المبين فيكون ذلك مقابلة لشنيع مجاوبتهم وسوء ردهم بالجملة، فإنه إذا اجتمع افصاحهم بالتكذيب واستكبارهم جمع في التهديد المتقدم بين التأييد بهارون وسلطان مبين، وحيث يصرح بالتكذيب أو ما يعطيه بيانا كقوله: (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) قدم ذلك التأييد بالسلطان (المبين)، وحيث تذكرصفتان محوتان على تكذيب من غير إفصاح يقدم ذكر التأييد بهارون، عليه السلام، وما كان دون ما ذكر لم يذكر هارون ولا السلطان

الآية الخامسة عشر

المبين، فمن ذلك قوله (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) فإنه اخر تعالى عنهم بأنهم لم تجد عليهم البراهين ولا الآيات، إلا اتباع أمر فرعون، وقوله تعالى مخبراًً عنهم في سورة المؤمنون بقوله: (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ) (المؤمنون: 46)، إلا ما تبع ذلك محكيا من قبيح قولهم: (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا) (المؤمنون: 47 - 48) وأخباره تعالى عنهم في سورة غافر في قوله: (سَاحِرٌ كَذَّابٌ) (غافر: 24)، فهذه المواضع لما ذكر فيها شنيع مرتكبيهم في تلقي دعاء موسى، عليه السلام، إياهم قدم تواطئه لسوء مرتكبيهم تأييده، عليه السلام، السلطان المبين ليفيهم ذلك أخذهم وهلاكهم بسوء مرتكبهم، وقدم في سورة يونس تواطئه لما ذكر فيها من استكبارهم واجترامهم تأييد موسي بأخيه هارون، عليهما السلام، وذلك من السلطان المبين، ولما تضاعف المحكي من مرتكبيهم وقبيح مقالهم في سورة المؤمنون قدم في ذكر إرساله تأييده باخيه والسلطان المبين مقابلة للاخبار عنهم بقوله: (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا) (المؤمنون: 46 - 48)، فاخبر تعالى عنهم بالتكذيب والاستكبار والاجترام والعلو تامردا وعلوا وادعاء المماثلة لهم في البشرية الاختصار لإقدارهما العلية، فقوبل هذا الاسهاب من مقالهم السيء بالإطالة في ذكر التأييد ليتناسب الطرفان. أما حيث لم يرد ذكر السلطان فنجد جوابهم في ذلك دون ما تقدم من التشديد كقولهم في سورة الاعراف: (فَظَلَمُوا بِهَا) (الاعراف: 103)، وقوله في سورة الزخرف: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ) (الزخرف: 47)، فليس موقع جوابهم في هاتين السورتين كموقع ما تقدم في الآيتين، فنوسب بين طرفي الإدعاء والجواب. الآية الخامسة عشر (من سورة هود) قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود: 117)، وفي سورة القصص: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص: 59)، للسائل أن يسأل عن (قوله في) أولى الآيتين: (وما كان ربك) وفي الثانية (وما كنا)، وعن قوله في الأولى: (ليهلك) بالفعل الداخلة عليه لام الجحود، وفي الآخر: (مهلك) و (مهلكي) بسم الفاعل، وعن قوله في الأولى: ((مصلحون)) وفي الثانية: ((حتى نبعث في أمها رسولا .. ) الآية وفي الثالثة: ((إلا وأهلها ظالمون)) فتلك ثلاثة اسأله. والجواب: أن آية هود تقدمها قوله تعالى (لَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ

يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ) (هود: 116)، أي فهلا كان منهم خيار وينهون عن الفساد والظلم، فلو كان منهم ذلك لما هلكوا: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود: 117)، أي ما كان ليفعل بهم وإن وقع منهم ظلم ذلك كان فيهم مغير للظلم وناه عن الفساد ولكنهم كانوا كما أخبر تعالى عن المعتدين من بني إسرائيل في قوله تعالى عنهم: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) (المائدة: 79)، وجيء بالفعل في قوله: (ليهلك) إشارة إلى التكرر بحسب ما يكون منهم، فلو كان في كل أمة وقرن بعد قرن من ينهي عن الفساد والظلم لما أخذ بذوي الظلم منهم ولكان تعالى يدفع بعضهم عن بعض، ولكن تكرر الفساد وعم كل قرن فتكرر عليهم الجزاء والأخذ، فأشار الفعل إلى التكرر ولم يكن الاسم ليعطي ذلك، وهذا كقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) (الملك: 19) ولم يقل: وقابضات لما قصده من معنى التكرر، وأما قوله في سورة القصص: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا ... ) (القصص: 59) فإنه تقدم هذا في قوله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (القصص: 51) أي أتبعنا وولينا التذكار، ويشهد قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر: 24)، وقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء: 15)، فلما أعلم سبحانه تتابع التذكار وتعاقب الإنظار قال: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا) (القصص: 59)، ونسب هذا ذكر اسم الفاعل لأنه قصد ذكر الاتصاف بهذا ولم يقصد التكرر ولم يكن حاصله، وقال هنا وفي آية هود: (وما كان ربك) بإضافة اسم الرب جل وتعالى إلى ضمير نبينا صلي الله عليه وسلم المخاطب بهذه ملاطفة لهذا النبي صلى الله عليه وسلم وتأنيساً له ولأمته وإشعارا بعظيم حظوته ومنزلته لديه سبحانه، ثم اتبع تعالى هذا بقوله: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص: 59)، فأخبر تعالى أنه ما أهلكهم إلا بعد استحقاق جميعهم العذاب وتساويهم في الظلم وقيل في هذه الآية الأخيرة: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى) لئلا يتكرر اللفظ بعينه مع الاتصال والقرب وليس من مواضعه، وقد حصل جواب الاسئلة الثلاثة وبيان خصوص كل آية منها بمواضعها، والله أعلم. ***

سورة يوسف (عليه السلام)

سورة يوسف (عليه السلام) الآية الأولى منها: غ - قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2)، وفي سورة الزخرف: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف: 3)، فورد (هنا) ((جعلناه)) موضع ((أنزلناه)) في الآية الأولى: فلسسائل أن يسأل عن موجب هذا التخصيص لاتفاق الوارد في الآيتين لفظاً ومعنى في غير ما ذكر؟ والجواب عنه، والله أعلم: أن آية (سورة) يوسف لما كانت توطئة لذكر قصصه، عليه السلام، ولم تتضمن السورة غير ذلك إلا ما أعقب به في آخرها مما يعرف بعجيب ما تضمنته ما كان غيباً عند قريش والعرب، مستوفياً ما كان أهل الكتاب يظنون أنهم انفردوا بعلمه، فأنزل الله هذه السورة موفية من ذلك أتمة، ومعرفة من قصصه العجيب، ومؤدية أكمله وأعمه، ولا أنسب عبارة هنا من قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) ليعلم العرب والجميع أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لم يتلق ذلك القصص من أحد من العرب، إذ لم يكن عندهم منه نبأ، ولا رحل في تعرفه إلى أحد، فكام قصصاً وآية معلماً بصحة رسالته عليه السلام، وعظيم تلك العناية، فالتعبير بالإنزال هنا (بين). وأما آية الزخرف فلم تبن على أخبار بل أعقبت بآي الاعتبار والتلطف في التنبيه والتذكار قال تعالى: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) (الزخرف: 5)، وهذا أعظم التلطف، وقال تعالى بعد: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف: 9)، ثم مضت أكثر آي هذه السورة على نحو خذا الاعتبار وما يناسبه. وقد ذكر سيبويه، رحمه الله، في أقسام جعل كونها بمعنى صير ملحقاً لها بظننت وأخواتها ومنه وقلهم: جعل الطين خزفاً، وذلك انتقال وتصيير فالمراد بالآية جعل الكتاب معتبراً هدى ونوراً والمنبهون به والمعتبرون بآياته المخاطبون به مخلوقون تقدمهم العدم، وإنما صح خطابهم به مشاهدة بعد وجودهم، فصح بانتقال حالهم التصيير، وجل عن التغيير والحدوث كلام الحكيم الخبير، فكرمه سبحانه قديم ليس بمخلوق فيبيد ولا صفة

الآية الثانية

لمخلوق فينفد، فقد وضح معنى الجعل هنا ومسوغه، وأنه لا يناسب هنا غير ذلك، ولا يناسب الآية الأخرى غير (أنزل)، فجاء كل على ما يجب والله أعلم. الآية الثانية من سورة يوسف عليه السلام، قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 22) وفي سورة القصص: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (القصص: 14)، للسائل أن يسأل عن ثبوت قوله: ((واستوى)) في سورة القصص ولم يثبت ذلك في سورة يوسف؟ وهل كان يمكن ورود العكس في الآيتين؟ والجواب عن ذلك: أن الأشد مختلف فيه من البلوغ إلى استكمال أربعين سنة، وقد قيل بالزيادة على الأربعين، وظاهر القرآن أن الأشد يقع على دون الأربعين لقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) (الأحقاف: 15)، فلو كان الأشد الأربعين لأدى إلى عطف الشيء على نفسه، فإنما الكلام في قوة أن لو قيل: حتى إذا بلغ أشده واستكمل وتم بالزيادة، والله أعلم، وإذا كان وقوع الأشد على ما ذكرنا، ولا يكون إلا على خال من العمر يحسن في الظبط والتدبير، والإحكام للأمور، والفهم للخطاب، وتحقيق مقادير الأمور، وهذا بِجَرْي العادة إنما ابتداؤه عند البلوغ أو قبل البلوغ، ثم يستحكم إلى الغاية التي إليها انتهاء تمام القوة واستحكام العقل، وتلك الأربعون، وعلى رأس الأربعين سنة بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم أن الله سبحانه قال في قصة يحيى بن زكريا، عليه السلام: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (مريم: 12)، وهذا ولابد في غير (سن) الأربعين، وقال تعالى في قصة يوسف، عليه السلام، إنما ابتدئ بالوحي وسماع الكلام بعد فراره خوفاً من فرعون، قال تعالى: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء: 21) وأفصحت آي القرآن أن ذلك كان بعد رجوعه وإنكاح شعيب عليه السلام إياه ابنته، ولم يخرج من مصر حتى ائتمر به للقتل وبعد وكز الذي كان من عدوه وقضائه عليه، ومجموع هذا إنما هو بخروجه، عليه السلام، عن سن الابتداء إلى استكمال الأشد وهو الاستواء، فقيل في قصته: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) (القصص: 14) أي استكمل وانتهى إلى أحسن الحالات في السن، وأما يوسف، عليه السلام، في الوحي إليه في الجب فحاله وإن بلغ ما يسمى أشداً غير حالة الاستواء، فامتنع مجيء

الآية الثالثة

الاستواء في قصته وورد في قصة موسى، وكلام المفسرين إذا تؤمل وإن لم يكن إفصاحاً مشعر بهذا، فجاء كل على ما يجب، والله أعلم. الآية الثالثة من سورة يوسف، عليه السلام، قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (يوسف: 109)، وفي سورة النحل (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل: 43)، وفي سورة الأنبياء: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) (الأنبياء: 7)، وفي سورة الفرقان: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: 20)، للسائل أن يسأل عن اختصاص هاتين الآيتين الأخيرتين بسقوط ((من)) منهما وثبوتها في الآيتين الأوليين. والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية يوسف قد تقدمها قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف: 106)، وقوله: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108)، وقوة السياق في هذه الآي يدل على معنى القسم ويعطيه، فناسب ذلك زيادة ((من)) المقتضية الاستغراق، وكذلك قوله في سورة النحل: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) (النحل: 41) يؤكد ذلك المعنى، فناسبه زيادة ((من)) لاستغراق ما تقدم من الزمان. أما قوله تعالى في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) (الأنبياء: 7) فتقدم قبلها إنكار الكفار كون الرسل من البشر في قوله: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الأنبياء: 3)، واقتراحهم الآيات في قوله: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (الأنبياء: 5)، فلما انطوى هذا الكلام على قضيتين: من اقتراحهم الآيات، وإنكارهم كون الرسل من البشر، وقد بين لهم حال المقترحين في قوله تعالى: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) (الأنبياء: 6)، فلما تقدم هذا اتبع ببيان الطرف (الآخر) وهو التعريف بأن من تقدم من الرسل إنما كانوا رجالاً من البشر، مختصين بتخصيصه سبحانه، ولم يكونوا ملائكة، فقيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) (الأنبياء: 7)، فقيل هنا: (قبلك) كما قيل في نظيرتها: (ما ءامنت قبلهم)، فلم تدخل هنا ((من)) كما لم تدخل في النظير (الآخر) لإحراز التناسب، والتام الجملة المنطوية على طرفي مقصدهم من الاقتراح وإنكار كون الرسل من البشر، وكذلك الوارد في سورة الفرقان في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ

الآية الرابعة

الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: 20)، وإنما ورد جواباً لقولهم: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: 7)، ولا داعي في هذا للقسم إذ هو جواب لقولهم، فلا داعي لورود ((من))، فورد هذا كله على أبدع نظام وأعلى تناسب، وإذا اعتبر الناظر استوضح أن كلاً من هذه الآي لا يمكن إتيانه في موضوع غيره والله أعلم. الآية الرابعة من سورة يوسف، عليه السلام، قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) (يوسف: 109)، قلت: تكرر هذا الضرب من الاعتبار بأحوال من تقدم من الأمم وما أعقب المكذبين تكذيبهم في عدة مواضع، منها ما ورد فيه بعد همزة التقرير وفاء التعقيب، ومنها ما ورد بواو النسق، فأما تقديم الهمزة قبلها فلما لها من الصدرية، فلا يتقدم حرف العطف عليها، ولما جرت في هذه الآي على ما ذكرنا من تخصيص بعض هذه المواضع بالفاء المقتضية مع التشريك الترتيب والتعقيب، وبعضها بالواو المقتضية مجرد التشريك والجمع، كان ذلك مظنة سؤال، فللسائل أن يسأل عن تخصيص كل واحد من هذه المواضع بما اختص به في عطفه على ما قبله؟ فمن الوارد بالفاء آية يوسف المذكورة آنفاً وفي سورة الحج: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) (الحج: 46)، وفي آخر سورة غافر: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ... ) (غافر: 82)، وفي سورة القتال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) (محمد: 10)، فهذه أربع آيات مما ورد بالفاء. ومن الوارد بالواو قوله في سورة الروم: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) (الروم: 9)، وفي سورة الملائكة: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) ... (فاطر: 44)، وفي سورة المؤمن: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ) (غافر: 21)، فهذه ثلاث آيات. والجواب عن الضرب الأول: أما آية يوسف فقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (يوسف: 109) مربوط بما قبله ومبني على ما تقدم كحال في جواب مبني على ما قبله، ألا ترى أن قبل الآية آيات تخويف وترهيب، كقوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (يوسف: 105)، ثم قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف: 106)، ثم قال تعالى: (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ

غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (يوسف: 107)، ثم قال تعالى: (لْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف: 108)، ثم قال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (يوسف: 109) فالكلام (بجملته في قوة أن لو قيل: ما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً من البشر أمثالك فكذبوا فهلك مكذبوهم وأخذوا كل مأخذ، فإن شاء هؤلاء فليسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة (الذين من قبلهم) ممن تقدمهم، فالكلام من حيث معناه في قوة الشرط والجزاء فورد بالفاء، وليس موضع الواو، ويشهد لهذا الغرض ويبينه قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (النحل: 36)، (أي) فإن شككتم فسيروا في الأرض، وعلى هذا المعنى كل ما ورد من هذا. ومن هذا القبيل آية سورة الحج، ألا ترى أن قبلها قوله تعالى: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) (الحج: 42 - 44)، ثم قال: ((فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (الحج: 45 - 46)، أي فهلا ساروا في (الأرض) قاصدين الاعتبار فعقلوا بقلوبهم وانتفعوا بأسماعهم وأبصارهم، فعلى هذا المعنى لا مدخل لواو العطف هنا، وإنما الملائم الفاء لما تعطيه من السببيه والارتباط. وأما الوارد في (آخر) سورة المؤمن فقد تقدم قبلها قوله تعالى: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ) (غافر: 81)، ثم قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (غافر: 82) أي فهلا ساروا في الأرض (فاعتبروا بما) في الأرض من الآيات، قال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 20)، فالمعنى على هذا وليس المعنى على العطف المجرد من معنى التسبب، فالموضع للفاء ولا لواو النسق. وأما الوارد في سورة القتال فإن قبل الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (محمد: 7 - 9)، ثم قال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (محمد: 10)، فالملائم هنا الفاء لما في الكلام من معنى التسبب والتخصيص المحرزين هنا ما يلائم ويناسب مرتكبهم من التوبيخ، فالموضع للفاء المقصود بها ربط الكلام بما قبله.

وأما الضرب الثاني مما ورد بالواو فلعطف ذلك (على) ما قبله تشريكاً لا سببية فيه ولا معنى جوابيه ولا مقصود تعقيب ولا ربط مقصزدها من المعاني بما قبله سوى التشريك خاصة، ففي سورة الروم ورد متقدماً قبل الآية في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) (الروم: 8)، فعطف على هذه عطف تشريك لا سببية فيه قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (الروم: 9)، فتشاركت الآيتان في الحض على الاعتبار ومقصودهما واحد، فعطفت إحداهما على الأخرى بما يقتضي ذلك وليس إلا الواو، وأما الفاء وثم فلا مدخل لواحدة منهما هنا، والله أعلم. وأما سورة الملائكة فتقدم فيها قوله: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) (فاطر: 43)، فأحيلوا على ما اطرد في من قبلهم من سنته تعالى فيهم، من أخذهم بتكذيبهم سنة الله التي خلت من قبل، ثم أعقب بإحالتهم على قرب منهم ممن شاهدوا آثاره وتعرفوا على قرب أخباره فقيل: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (فاطر: 44)، فقوله: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) وقوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) مسلك واحد في الاعتبار، فصل لهم بحسب بعد ما أمروا باعتبار حاله (أو قربه)، فعطف أحد السببين على الآخر مع اتحاد النوع المعتبر به، ولا يعطف مثل هذا إلا بالواو خاصة، وما سوى الواو لا يلائم ولا يناس، والله أعلم. وأما الآية الأولى من سورة المؤمن فملحوظ فيها من نيطت به في معناها من قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (غافر: 13)، وليس بعد هذه الآية من معناها إلا قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (غافر: 21)، فمن آياتته تعالى التي رآها عباده ما أجراه من سنته فيمن خلا من الأمم، فوقعت الإحالة على ذلك بعطف الآية من قوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) على ما به نيطت حسبما تقدم، ولا يناسب ذلك غير الواو. ***

سوة الرعد

سوة الرعد الآية الأولى منها: غ - قوله تعالى: (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) (الرعد: 1)، هنا سؤالان: أحدهما، أن السور الخمس المكتنفة لهذه افتتحت بقوله تعالى: (آلرَ) وخصت سورة الرعد وهي سادستها بزيادة الميم (فقيل آلمر)، وللسائل أن يسأل عن ذلك؟ والسؤال الثاني قوله تعالى: (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) (الرعد: 1)، وعطف هذه الجملة على ما قبلها يقتضي أن المعطوف مغاير لما عطف عليه وإلا لزم منه عطف الشيء على نفسه؟ والجواب عن الأول، والله أعلم: وإن كان مفهوماً مما تقدم فلهذا الوارد هنا ما يخصه وهو أن السورتين المكتنفتين لهذه السورة وهما سورة يوسف وسورة إبراهيم لم يرد فيهما من الكلم المجتمع في تركيبها الألف واللام والميم والراء (ما ورد) في سورة الرعد، أما سورة يوسف ففيها من ذلك كلمة: (الأمر) في قوله تعالى: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) (يوسف: 41)، ولفظ: (المجرمين) في قوله تعالى: (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف: 110)، وأما سورة إبراهيم ففيها قوله تعالى: (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) (إبراهيم: 22)، وقوله: (مِنَ الثَّمَرَاتِ) (إبراهيم: 32)، وقوله: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) (إبراهيم: 33)، وقوله: (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) (إبراهيم: 37)، وقوله: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) (إبراهيم: 49)، فهذه خمس كلمات. وأما سورة الرعد فقد (ورد) فيها من ذلك قوله تعالى: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) (الرعد: 2)، وقوله: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (الرعد: 2)، وقوله: (مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) (الرعد: 3)، وقوله: (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ) (الرعد: 8)، وقوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) (الرعد: 30)، وقوله: (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا) (الرعد: 42)، فهذه ست كلمات من هذا التركيب لم ترد في مكتنفيها، فلزيادة ما ورد فيها من هذا التركيب ورد في مطلعها ما ورد من زيادة الميم، والله أعلم. والجواب عن السؤال الثاني: بعد تمهيد، وهو أنا إن قلنا: إن المراد بالمعطوف الكتاب بجملته، (والكتاب بجملته) هو المنزل، كان من عطف الشيء على نفسه، وإن قلنا: إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل أو أحد الكتابين ففي هذا من البعد ما لا خفاء

به، إذ لم نتعبد من هذه الكتب إلا بالإيمان، فإنزالها ووجودها على الجملة على ما تقرر في شريعتنا، فكيف تقع الإحالة في الاعتبار عليهما ولم نؤمر باعتبارهما في حكم ولا أمر ولا نهي، وإن قلنا إن المراد بآيات الكتاب آيات السورة، وبالكتاب السورة، وبالذي أنزل إليك سائر القرآن، كما قال الزمخشري كان أقرب، وفيه نحو تحريم على المقصود من غير إفصاح مخلص، فأقول ونسأل الله توفيقه: إن الدلائل الاعتبارية على تفاصيلها منحصرة في منهجين بهما حصول التوحيد وإثبات الرسالة، وعلى مضمن تفاصيلها منحصرة في منهجين بهما حصول التوحيد وإثبات الرسالة، وعلى مضمن تفاصيلها دارت الآي الاعتبارية والتذكير في كتاب الله تعالى: أحدهما، ما يدرك بالحواس، وإطالة التفكير في الموجودات وارتباطها، ولحظ الابتداءات والانتهاءات، وتقلب الأكوان، (واختلاف الألسنة والألوان، وحركات الأفلاك وكواكبها الثابتة والسيارة)، واختلاف حركاتها في السرعة والبطء، وخنوس الخمسة منها ومطارح شعاعها، ومقادير الأزمان، وتقلب النهار والليل بالطول والقصر، وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وتعاقب الفصول بالحر والبرد، وتسخير الرياح، وما في ذلك كله من عليّ الإحكام وجليل الإتقان، إلى ما يرجع إلى ذلك مما تستقل به العقول وتجزم بدلالته، والمنهج الثاني: ما يرجع الاعتبار به إلى المأثور من أحوال الأمم والقرون المتقدمة، ودعاء الرسل إياهم وما كان من أخذ تكذيبهم حين تمردوا وعتوا، فكر أخذ بذنبه، ونجاة المؤمنين من كل أمة. فعلى هذين المنهجين دارت آي الكتاب العزيز المنطوية على تذكير العباد وتحريكهم للاعتبار، فمن الأولى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (البقرة: 21) إلى قوله (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 22)، وقوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) إلى قوله (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164)، وقوله: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الجاثية: 3)، وقوله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ) (الذاريات: 20 - 21)، إلى ما يجاري هذه الآي مما يشير إلى دلائل الآفاق ودلائل الأنفس وما يرجع إلى ذلك من دلائل التوحيد والتذكير به، فالربع الأول من القرآن أكثر، ثم يليه في ذلك الربع الثاني، كما يكثر التذكير في الثاني (بما ورد في المنهج الثاني)، وإنما ذلك - والله أعلم - لأن الضرب الأول معقول ومستنده ضروري لأن مباديه حسية وبه اعتبر من انتهى إلى علم من الأوائل ممن كان في الفترات، فمنهم المصيب والمخطيء، وهو معتبر منصوب للعالم من لدن وجودهم إلى قيام الساعة، لا يضطر فيه إلى نقل ناقل ولا الاعتبار به من حيث الدلائل يتنزل النظر في آيات الرسل وما جاؤوا به متحدين، وتعرف الخارق للعادة من غيره، فلهذا - والله أعلم - تقرر هذا الضرب مبدوءاً به في الترتيب الثابت عليه المصحف وأتبع بالضرب الآخر على مقتضى الاعتبار،

فمن عرف الجائز والمستحيل أمكنة الاعتراف بالبدأة والعودة، وإرسال الرسل، والثواب والعقاب، فيحصل العقل الجواز ويحصل التصديق بوقوع هذا الجائز من أخبار الرسل بالنظر في معجزاتهم، فبدئ بالضرب الأول بمقتضى الترتيب كما بينا، ولم يقع في الربع الأول من القرآن بسط اعتبار بالضرب الثاني بالإخباري، إنما أمعن بذكره في الربع الثاني وبسط الأخبار عن القرون المهلكة والأمم السالفة مع أنبيائهم وما أعقبهم التكذيب وأخذ كل قرن من المكذبين بما أخذ به، ولم ينقطع التنبيه والتحريك مع ذلك بما في الضرب الأول وما يرجع إليه. ثم قد تجد السورة الواحدة مجرد لهذا الضرب كسورة الرعد، وللضرب الثاني كسورة الأعراف وسورة يوسف، عليه السلام، وقد تجمع السورة الضربين على السواء أو ما يقاربه كما في سورة الحجر، وأما سورة البقرة فقد تضمنت من كل (من) الضربين ما فيه شفاء على إجمال فيما أشير إليه من الضرب الثاني، إذ هذا الضرب إنما استوفى تفصيله في الربع الثاني. ثم إن الضرب الأول وهو الذي يدرك بالعيان من آيات (اللوح) المحفوظ المتضمن لكل من الضربين، قال تعالى: (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود: 6)، وإذا قلنا إن الإشارة إلأى اللوح إنما يريد ما يستدل به ويعتبر مما نصب تعالى من الآيات الدالة على عجائب من مضمناته، إذ لولا نصب تلك الدلائل ووضوح الاعتبار بها لما أطلعنا عليه، وبلغ بحسب ما قدر الوصول إليه من مضمنه، إذ هو محتو على كل شيء، قال تعالى: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (النمل: 75)، وتتباين أحوال المعتبرين، فعلى هذا يفهم المراد من قولنا: (إن الإشارة بقوله): (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) إلى اللوح المحفوظ، وهو مراد من قال بذلك في سورة البقرة من المفسرين وسورة النمل، ومن قال به أيضاً في سورة الرعد وهو الظاهر فيها، وقوله: (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) (الرعد: 1)، إشارة إلى الضرب الثاني وهو ما طريق تعرفه الخبر الصادق وذلك أخبار الأمم مع أنبيائهم على ما تقدم وما نبينه بعد، وهذا الضرب موصل أيضاً إلى المقصود، إلا أنه لا يوصل إليه إلا من جهة الخبر وإن كان من مضمن ما في اللوح المحفوظ، وإذا وضح هذا التفصيل لم يبق إشكال في فهم ما تقدم من أن الإشارة بقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) إلى غير ما أشير مما عطف عليه من قوله: (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) وقوله في الحجر: (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) (الحجر: 1)، وكذلك الوارد في النمل وإن خالف في التقديم والتأخير لقوله فيها:

(تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ) (النمل: 1)، فقدم هذا الإشارة إلى الضرب المؤخر في السورتين قبل، ويشهد لهذا ويوضحه رعي التقابل المناسب في هذه السور وبناء النظم وبيانه على ذلك، ألا ترى أن سورة الرعد لم تنطو من الضرب الثاني على قصة واحدة، وإنما دارت آيها الاعتبارية على ما به الاعتبار من الضرب (الأول خاصة، وسنعود إلى بيان ذلك بإيراد آيها، وإنما لم يذكر فيها شيء من الضرب) الثاني لأن بناء السورة إنما هو على الضرب الأول، ولهذا لم يشترك المعطوفان في اسم الإشارة إلا أن قوله تعالى: (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) (الرعد: 1) جملة مستقلة، وقد وقع الموصول فيها وهو الذي مبتدأ خبره الحق، وما بينها صلة، والجملة معطوفة على الجملة قبلها، وكل واحدة منهما مستقلةن ولا تسلط لاسم الإشارة على الجملة الثانية. أما قوله في سورة الحجر: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) (الحجر: 1) معطوف على الكتاب المضاف إلى الخبر عن اسم الإشارة وهو آيات وداخل تحت اسم الإِراة، وهو من عطف المفردات وما عطف المفردات وما عطف عليه وشرك معه بخلاف آية الرعد إذا العطف فها من عطف الجمل. وأما الوارد في سورة النمل فمثل ما في سورة الحجر، وحكم اسم الإشارة منسحب على ما أضيف إليه خبر اسم الإشارة وما عطف (عليه)، وهو من عطف المفرادت أيضاً كآية الحجر، وكلا الآيتين مخالف لما ورد في سورة الرعد، فلما وقعت الإشارة في سورةتي الحجر والنمل إلأى الضربين معاً تضمنت كل واحدة من السورتين مما به الاعتبار ذكر الضربين معاً، ولما اختصت الإشارة في سورة الرعد بالضرب الأول لم يقع إخبار بغير ذلك الضرب، وهذا يرفع كل إشكال فيما تقدم، ومما يزيد وضوحاً فيما تقدم أن سورة الحجر لما قدم فيها ذكر الكتاب قدم فيها من الضربين الضرب المعتبر من آيات اللوح المحفوظ، فقال تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) (الحجر: 16) إلى قوله: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) (الحجر: 22) الآية، ثم بعد ذلك ذكر مما به الاعتبار من الضرب الثاني في قوله تعالى: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ) (الحجر: 51) إلى قوله: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الحجر: 84)، فتأخر ما ورد في هذه السورة من هذا الضرب ليطابق تأخر ذكره في قوله: (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ). ولما تقدم في سورة النمل من الاسمين المضاف إليهما خبر اسم الإشارة القرآن وتأخر الكتاب فقال تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ) (النمل: 1) قوبل بتقديم الضرب المشار إليه أولاً، فقال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ) (النمل: 6 - 7). وذكر

من القصة مجملا ما إذا اعتبر وفي بأتم ما يحصل المعتبر به على أعلى مقصود موف بخلاصة وذلك إلى قوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل: 14)، ثم أتبع بقصة داود وسليمان وما استجر ذلك من قصة بلقيس وما تلاها، ثم أعقب بعد بالضرب الآخر، فقال تعالى: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) (النمل: 60) إلى قوله: (بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ) (النمل: 66). ولما لم يقع في سورة الرعد الضرب الأول - كما تقدم - لم يرد فيها من آي الاعتبار إلا ما هو منه، ولم يقع في السورة غير ذلك، فقد بان بحول الله ما اعتمد جواباً عن السؤال الثاني، ووضح التناسب وجلالة النظم، (ومع وضوحه لم أقف على من استقرأه من هذه السورة منا بينته، ولا توقف فيه والحمد لله على ما ألهم إليه من ذلك). ثم أعلم بعد أن ما اعتمدناه من هذا المأخذ لم ينفرد فيه إذا حقق بغير التمهيد وإيراد النظائر وبيان ما أجمله غير واحد ممن تقدم من المفسرين على اختلاف ترجمتهم عما تضمنه، فمنها القريب ومنها البعيد، وكل منها: إذا أمعن فيه النظر ربما أدى إلى ما تقرر، ولم أنفرد عنهم إلآ بتوجيه النظر على ما اعتمدته، وإظهار المناسبة، وإبداء شواهد ونظائر لما اعتمد. فمن ذلك ما تردد للمفسرين من قوله تعالى: في سورة البقرة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ) (البقرة: 2) (من) مأثور ما حكوه عن من تقدمهم من أن الإشارة إلى اللوح المحفوظ، وذكر ذلك ابن عطية وغيره من غير تعرض لزيادة، ونسبوا ذلك إلى ابن جبير، وقال بعضهم في قوله تعالى في سورة النمل: (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ) (النمل: 1)، قال: المراد بقوله: (وَكِتَابٍ مُبِينٍ) (النمل: 1) اللوح المحفوظ وذكره الزمخشري، ولا شك أن هنا إيماء (إلى) ما تقدم بسطه، وزاد الزمخشري على هذا ما ذكره في سورة الرعد من أن المراد (بآيات الكتاب العزيز) آيات السورة، (والذي أنزل إليك) سائر القرآن، وهو نحو ما قلناه، ألا ترى أن آيات السورة لم تخرج عن الضرب الاعتباري المدرك لكل ذي عقل سليم على ما تقدم وما نبنية بعد، وتلك آيات اللوح وأم الكتاب، فهذا ما قلناه وقد أطنبنا فيه (من) الوارد في سورتي الحجر والنمل ما شهد بأنه المقصود قطعاً. وقال بعضهم في قوله تعالى في سورة البقرة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ) أنه واقع على القرآن وعلى الكتاب الذي هو اللوح المحفوظ، ثم قال بعد مستدلا: ذلك إشارة إلى غائب، يعني أن ذلك إنما يشار به إلى البعيد الغائب، ولو ضوح إدراكه صحت الإشارة إليه، ثم قال بعد واسم الكتاب غيب ولذلك حسن فيه ذلك، ثم استدل على أن الإشارة إلى اسم الكتاب الذي هو اللوح المحفوظ في القرآن الحاضر المتلو على ألسنتنا قد ارتاب

فيه من لم يرد الله هدايته فقالوا سحر وشعر وأساطير الأولين، وذهبوا به كل مذهب. واسم الكتاب يعني بما بدا منصوباً وظهر ليس كذلك، فهذا الذي لا ريب فيه إذ هو مشاهد للأبصار ومدرك للعيان لمن هدي واستبصر، قال الله جل جلاله: (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) (الرعد: 1)، ثم قال: (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) (الرعد: 1)، قال: ثم جعل جل جلاله يسرد آيات التاب) المبين فقال: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ) (الرعد: 2) إلى قوله: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد: 4)، قلت: على هذا استمرت وتوالت آيات هذه السور لم يتخللها من غير ما هو آية منصوبة للاعتبار إلا ما استدعاه مقصود آي منها أو معناها، من غير أن يتخللها مما يدرك بالخبر كبير شيء، على هذا دار كلام من أشرنا إليه وهو ما اعتمدته وبسطته واستشهدت عليه ونظرته بما ظهر لي مماليس في كلامه. قلت ومما استشهد به من ذكرت كلامه على ما اختاره من كون الإشارة بقوله في مطلع سورة البقرة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ) إلى اللوح المحفوظ، استحكام تنزيل ما بعده عليه، ووضوح النظم وبيانه على ذلك، ألا ترى قوله تعالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة: 2 - 3) أي بما غاب عنهم من مضمون اسم الكتاب استدلالاً بما يدل من آيته على ما غاب، فقبلوا ما أخبر الله به على ألسنة رسله مما لا يدرك مشاهداً استدلالاً بما أدركوه وشهادته لما أخبروا به فآمنوا بالله ورسله، واعتقدوا من صفاته سبحانه ما هو عليه، ونزهوه هما لا يليق به تعالى، وصدقوا ما أخبرت به الرسل من كل غائب عنهم متلقى من إخباره سبحانه، فبنوا ذلك على اهتدائهم الأول ومعتبرهم المشاهد المرئي حين وفقوا للاعتبار فآمنوا بالغيب كما أخبر تعالى عنهم، ثم قال تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (البقرة: 4)، والمراد بهذا (المنزل) القرآن، وقوله: (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) (البقرة: 4) أي من الكتب المنزلة كاتوراة والإنجيل، وقال في الجميع: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة: 5). فتأمل بيان النظم على هذا فإنه أوضح شيء. قلت: ومن البين أن (مدار هذا الجواب بجملته إنما بناؤه على أن اسم الكتاب في سروة البقرة أو حيق وقع) من فواتح هذه السور وأشير إلأه بذلك أو تلك أو وقع في غير الفواتح فيصح أن يراد به فيها أو في بعضها اللوح المحفوظ، وأن تكون الإشارة إلأيه إذا شهد له السياق ووضح عليه النظم، فإذا سلم هذا فما بنيناه عليه أوضح شيء، ولا يمكن إلا تسليمه إذ لا معارض يمنع من عقل ولا نقل، وإن اعترض معترض بالمنع فقد خالف

الآية الثانية

جميع المفسرين ممن تقدم أو تأخر، وخالف ما يعترف كل ذي عقل سليم بإمكانه، وقد تبين تنزيل النظم عليه على أكمل تلاؤم، والله أعلم بما أراد. الآية الثانية من سورة الرعد قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الرعد: 3)، ثم قال تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد: 4)، للسائل أن يسأل عن وقله في الأولى: (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وفي الثانية: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وهل كان يصح ورود الأول مكان الثاني والثاني مكان الأول؟ والجواب: أن معتبرات الآية الأولى من مد الأرض (وما ذكر) بعد ذلك أوضح للاعتبار، ومعتبرات الثانية أغمض، ألا ترى أن تجاوز قطع الأرض وتقاربها في الصفات والهيئات من سهل وحزن، ثم تخرج أنواع الجنات من النخل والأعناب وضروب الأشجار والنبات والزرع، واختلاف الطعوم في ثمراتها والألواح والروائح، وتفاوت الطيب والمنافع الحاصلة عن ذلك من غذاء ودواء نافع وضار مع تقارب الأرض وتجاورها وتشاكلها وسقيها بماء واحد كما قال الله تعالى: (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ)، وهذا مما تنقطع الأفكار وتقصر العقول عن عجيب الصنع الرباني فيه، وأما معتبرات الأولى فيتوصل بالفكر إلى الحصول على الاعتبار بها وتعقلها وعجيب الحكمة فيها، وغموض ما في الثانية بادولا يتوصل إلى بعض ذلك إلا بعد طول الاعتبار والتأييد منه سبحانه والتوفيق، فلما كان العقل أشرف وأعلى ناسبه ان يتبع به ما هو أغمض وأخفى، وناسب الفكر ما هو أظهر وأجلى، فقيل في عقب الآية الأولى: (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وفي عقد الآية الثانية: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ولو ورد العكس لم يكن ليناسب، والله (سبحانه) أعلم. الآية الثالثة من سورة الرعد قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) (الرعد: 15)، وفي سورة النحل: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ) (النحل: 49) فيها سؤلان: خصوص آية الرعد ((بمن)) وآية النحل ((بما))، وزيادة قوله: ((والملائكة)) ولم يرد ذلك في سورة الرعد؟ والجواب عن الأول: أن ورود ((من)) في سورةة الرعد لا سؤال فيه، فإن قبول الأوامر وامتثال الطاعات بالقصد والاختيار بمشيئة الله سبحانه إنما يكون من أصحاب

الآية الرابعة

العقول وهو الملائكة والإنس والجن، وهم المقصودون في الآية، فوردت ((بمن)) الواقعة على العقلاء، لهذا قيل: ((طوعاً وكرهاً)) لأن ذلك إنما (يكون) ويستوضح من العاقل، فالآية واردة على ما ينبغي. وأما آية النحل فمراعي فيها لفظ ((دابة)) الوارد فهيا إذ هو عام للعاقل وغيره، فوردت الآية ((بما)) الواقعة على الأنواع والأجناس مناسبة لما تقدم من الإطلاق والعموم. والجواب عن السؤال الثاني: أن قوله تعالى في آية النحل: ((والملائكة)) تخصيص لهم لجليل حالهم، فعينوا بالذكر مع دخولهم في العموم المتقدم، وهذا كقوله تعالى: (وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) (البقرة: 98) مع دخولهما تحت لفظ الملائكة. ثم أكد الوارد في آية النحل ما ورد فيها من لفظ دابة. فإن قلت: لِمَ لَمْ يخصصوا بالذكر في آية الرعد؟ قلت: لأنه لم يقع هناك لفظ دابة الذي هو الموجب لتعيين الملائكة وتخصيصهم بالذك، فكر على ما يجب ويناسب، والله أعلم. الآية الرابعة من سورة الرعد قوله تعالى: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ) (الرعد: 16)، وفي سورة الفرقان: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (الفرقان: 3)، للسائل أن يسأل عن تقديم النفع على الضر في سورة الرعد وعكس ذلك في سورة الفرقان؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية الفرقان قد عطف عليها بالواو المشركة في الإعراب والمعنى قوله تعالى: (وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا)، وقدم قبلها ما عطفت عليه بالواو أيضاً وذلك قوله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (الفرقان: 3)، فقد اتفقت هذه الجمل المعطوفات في انطواء كل جملة منها على متقابلين كالضدين، ففي الأولى عدم الخلق في قوله: (لَا يَخْلُقُونَ) مقابلاً للخلق والحياة، وبنى مجموعها على تأخير أشرف المتقابلين، ففي الأولى الإشارة إلى الخلق في قوله تعال: (وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، وكذا في الثانية الضر والنفع والنفع أشرف، وفي الثالثة الموت والحياة والحياة أشرف، فروعي تناسب الآي على ما أوضحنا، فقدم الضر على النفع في آية الفرقان.

الآية الخامسة

أما آية الرعد فلم يعرض فيها ما يحمل على ما ذكر من التناسب فجاءت من حيث أفردت على ما يجب من تقديم النفع الذي هو مطلب العاقل، وكأن قد قيل فيها: إذا لم ينفعوا أنفسهم فكيف ينفعونكم؟ ثم أتبع بما يكمل به التعريف بحال (من) اتخذوهم أولياء من أنها لا تضر ولا تنفع، فجاء كل على ما يجب ويناسب، ولا يمكن خلافه. فإن قلت: إذا كان تقديم النفع - كما في سورة الرعد - وارداً على ما يجب من (حيث) هو الذي تطلبه نفوس العقلاء فلم بنيت تلك (الجمل) المعطوفات في آية سورة الفرقان على تأخير الأشرف في تلك المتقابلات حتى لزم أن يتقدم فيها الضر (قبل) النفع ليتناسب؟ وهلا كان بناؤها على عكس ذلك وكان يحسن التقابل (وورود النفع قبل الضر) كما في آية الرعد؟ قلت: لما تقدم قبل الجمل المذكورة في سورة الفرقان قوله سبحانه: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان: 2)، ناسب هذا من ذكر آلهتهم وصفها بأنها لا تخلق فقيل: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (الفرقان: 3)، ليحصل من وصفه سبحانه بأنه خالق كل شيء وأن آلهتهم لا تخلق شيئاً ما أفصح به من توبيخهم وتقريعهم في قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (النحل: 17)، وتناسب هذا أوضح تناسب وأبينه، ولا يمكن خلافه، ثم بني عليه ما بعده لتناسب ذلك كله، وحصل منه أن الوارد في كل من السورتين لا يمكن فيه العكس بوجه، ولابنا سبحانه أعلم بما أراد. الآية الخامسة من سورة الرعد قوله تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الرعد: 26)، وفي سورة القصص: (وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا) (القصص: 82)، وفي سورة العنكبوت: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (العنكبوت: 62)، وفي سورة سبأ: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) (سبأ: 39)، وفي الشورى: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الشورى: 12)، للسائل أن يقول: إن هذه الآيات الخمس قد انطوت مطابقة على معنى واحد هو إخباره سبحانه بأنه المنفرد بالقبض والبسط، كما أنفرد بالخلق والأمر، فإذا اجتمعت في هذا المعنى فما وجه انفراد آية القصص وآية سبأ بزيادة ما ورد فيهما من التخصيص في قوله: (مِنْ عِبَادِهِ) وقوله: ((له))؟ ولِمَ لَمْ يرد ذلك في السورة الأخرى؟ والجواب عنه، والله أعلم: أن آية العنكبوت لما تقدم قبلها في قصة إبراهيم، عليه السلام، قوله لقومه: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ

الآية السادسة

الرِّزْقَ) (العنكبوت: 17)، ثم ضرب سبحانه مثلا لما عبد من دونه فقال: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت: 41)، ثم أنس عباده المؤمنين بقوله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (العنكبوت: 56)، ثم قال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت: 60) فأخبر سبحانه أنه المنفرد برزق الكل كما انفرد بخلقهم، فناسب هذا قوله تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) (العنكبوت: 62)، فخص بعد أن عم بقوله: (االلَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ) (العنكبوت: 60) تشريفاً للمؤمنين ليستأنسوا بما يجري لهم من الضربين ويذكروه في حال القبض والبسط بالإضافة إضافة تشريف، ولما لم يتقدم في السور الأخرى مثل ما تقدم هنا بل فيها ما يفهم منه أن المؤمنين لم يقصد تخصيصهم بذلك الخطاب بوجه، ألا ترى قوله في (آية) الرعد: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الرعد: 26)، وليس (هذا) من شأن المؤمن، فإن الدنيا سجنه وإنما فرحه بربه وبما يرجوه منه في آخرته. وأما آية القصص (فمنصوص) فيها أن الذين تمنوا حال قارون ومكانه هم القائلون: (وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ) (القصص: 82)، فإنما قالوه عالمين بأن الله سبحانه بسط (لقارون ما بسط) فعلموا أنه القابض والباسط وأنه لايمنع عن أحد ما بسط له. وأما آية الشورى فقد تقدمها ما هو أبين (شيء) في تعميم المؤمن والكافر وذلك قوله تعالى: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الشورى: 12)، (فإذا كانت له مقاليد السماوات والأرض) فمن أين يُرزق المؤمن والكافر؟ ليس إلا من عنده، فلم يقصد في هذه الآية تخصيص المؤمن وتشريفه كما قصد في تلك، فلما اختلف القصد اختلف الوارد، فجاءت كل آية على ما يجب، ولا يمكن خلافه، والله أعلم. الآية السادسة من سورة الرعد: غ - قوله تعالى: (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) (الرعد: 32)، وفي سورة الحج: (فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) (الحج: 44) للسائل أن يسأل عن وجه تعقيب الأولى بقوله: (فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) والثانية بقوله: (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) مع تساوي الآيتين (في) مقصود الوعيد لمكذبي الرسل، عليهم السلام؟ والجواب، والله أعلم: أن العقاب أشد موقعاً من النكيير لأن الإنكار يقع على ما لا عقاب فيه بالفعل وعلى ما فيه العقاب بالفعل، وأما مسمى العقاب فإنما يراد به في الغالب

الآية السابعة

أخذ بعذاب مناسب لحال المجرم إثر معصيته وعقيب جريمته، وقد تقدم في آية الرعد قوله تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) (الرعد: 32)، والاستهزاء (أمر) مرتكب زائد على التكذيب من التهاون، والاستخفاف بجريمة مرتكبة أشنع جريمة، فناسبها الإفصاح بالعقاب. أما آية الحج فإن الوعيد (بها) للمذكورين بالتكذيب ولم يذكر منهم استهزاء، قال تعالى: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى) (الحج: 42 - 44)، فلم يخبر عن هؤلاء بغير التكذيب ليس كالاستهزاء، فقد يؤمن المكذب ويصلح حاله، أما المستهزئ فلا يصلح، وقد كفى الله نبيه إياهم، قال تعالى: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر: 95)، فناسب النظم تعقيب كل آية بما يناسب مرتكب من قدم، ولم يكن عكس الوارد ليناسب، والله أعلم. الآية السابعة من سورة الرعد: غ - قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) (الرعد: 37)، وفي سورة طه: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) (طه: 113)، والمراد بالمنزل في الموضعين واحد وهو القرآن ثم اختلف العبارة عنه في السورتين، للسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟ والجواب، والله أعلم: أن سورة الرعد لم يتقدم فيها شيء من القصص الإخبارية وإنما المتقدم فيها تفاصيل أحكام مرجعها بجملتها إلى اختلاف أحوال المكلفين جرياً على ما سبق من قضائه فيهم، وتفصيل أحوالهم بحسب ما قدره سبجانه في أزله وما حكم به عليهم كقوله سبحانه: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) (الرعد: 19)، ثم بين تعالى حكم كل من الفريقين بعد وصفهم، ثم أعقب بمآل الفريقين فقال فيمن هداه فعلم: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) (الرعد: 23) إلى قوله: (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد: 24)، وأتبع بحال الآخرين الموصوفين بنقض عهده سبحانه، وأخبر بأن لهم اللعنة ولهم سوء الدار، وبين تعالى حكمه في بسط الرزق لمن يشاء (وقبضه عمن يشاء، فقال تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) (الرعد: 26)، وأعلم الله تعالى أنه يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب، ثم وصفهم بإيمانهم واطمئنان قلوبهم بذكره في قوله تعالى: (طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (الرعد: 29)، ودارت الآي بعد على أن كل جار في خلقه فبتقديره، وتناسب ذلك إلى الآية، وكل ما تقدم فهو حكمه السابق في خلقه، فأعقب هذا بقوله: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) (الرعد: 37)، قال الزمخشري: حكمة عربية أي مترجمة بلسان العرب.

الآية الثامنة

ولما تقدم آية سورة طه قصص موسى، عليه السلام، وما جرى من فتنة قومه بعده بفعل السامري/ وما كان من قول هارون، عليه السلام، وتذكيره إياهم، وقول بني إسرائيل (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) (طه: 91) إلى قوله: (ذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا) (طه: 99)، والمراد به القرآن، ثم أتبع هذا بما يلائمه إلى قوله: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) (طه: 113) أي قصصاً مقروءاً بلسان العرب مذكراً من وفق لاعتباره والاتعاظ به: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) (طه: 113)، فناسب كل من العبارتين موضعه أتم مناسبة، ولم يكن العكس ليناسب، والله أعلم. الآية الثامنة من سورة الرعد قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) (الرعد: 38)، وفي سورة الروم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) (الروم: 47) فقد ذكر الرسل على المجرور في سورة الرعد فقيل: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ)، وورد في سورة الروم بتقديم المجرور فقيل: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ)، فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟ وما روعي فيه؟ والجواب عن ذلك: أن المتقرر في الكتاب العزيز أنه إذا ورد اسم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع غيره من الرسل، عليهم السلام، مفصحاً بأسمائهم في آية واحدة فإنه يتقدن اسمه ظاهراً كان أو مضمراً، ثم يذكر بعده من تضمنته الآية منهم، عليه السلام، كقوله تعال: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) (النساء: 163)، وقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ .... ) (الأحزاب: 7) الآية، فإن قيل: فقد قدم هنا قبله قوله: (مِنَ النَّبِيِّينَ) قلت: المجموع جمع السلامة بالواو والنون رفعاً والياء والنون نصباً وجراً من ألفاظ العموم عند الأصوليين، فقوله: (مِنَ النَّبِيِّينَ) يعم نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من النبيين، عليهم لسلام، (ثم) لما أفصح بمن ذكر في الآية من أولي العزم إشعاراً بتفضيلهم على من سواهم بدئ به، عليه السلام، فقيل: (مِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (الأحزاب: 7) .... الآية، ومثل هذا قوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ) (البقرة: 98) ثم قال: (وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) وقد دخلا تحت عموم (وملائكته)، مع أن لفظ النبيين بالألف واللام أوضح في العموم إذ ليس المضاف في العموم كالمعرف بالألف واللام، فأقول: إنما قدم المجرور في قوله: (مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ) (الروم: 47) في سورة الروم لمكان ضميره صلى الله

عليه وسلم. أما آية الرعد فموازن لها ومناسب ما تقدمها من قوله تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) (الرعد: 32) فتأخر الضمير في الآيتين للموازنة والتقابل، والثانية منهما محمولة على الأولى في رعي ما ذكر. فإن قلت: فلم تأخر ضميره صلى الله عليه وسلم في الآية الأولى (عن ذكر الرسل)؟ قلت: لأن ذكرهم هنا، عليه السلام، لم يرد معرفاً بأحوالهم وما منحوا من الاصطفاء والتكريم، ولو ورد ذكرهم لهذا الغرض لكان اسمه، عليه السلام، متقدم الذكر كما في الآية الواردة بذلك، وإنما ذكر هنا إساءة مكذبي أممهم إليهم ونيلهم منهم ضروب المضرات، وليس ذلك مما يعرف بمناصبهم في التفضيل وإنما ذكر (ذلك) ليقاس بهم نبينا صلى الله عليه وسلم في الصبر والتحمل، وليقتدي بهداهم كما أمر في قوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) (الأحقاف: 35)، ثم له صلى الله عليه وسلم السيادة المعروفة والمكانة المتقررة، فتقدم ذكرهم في قوله (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) وتأخير ضميره صلى الله عليه وسلم لما ذكر، ثم وردت الآية بعد فجري الإخبار فيها على ذلك إحرازاً للمناسبة والموازنة أيضاًن فليس ذكرهم مجملاً غير مفصل كذكرهم على التعيين بأسمائهم، وقد تقد الإيماء إلى هذا، (والله سبحانه أعلم بما أراد). *****

سورة إبراهيم (عليه السلام)

سورة إبراهيم (عليه السلام) الآية الأولى منها: غ - قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم: 1). وفي سورة الحج: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (الحج: 24)، وفي سورة سبأ: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (سبأ: 6)، فورد في هذه السور الثلاث ذكر الصراط مضافاً في السورتين منها إلى العزيز من أسمائه تعالى ثم أتبع الحميد، واقتصر في سورة الحج على إضافة اسمه الحميد، فللسائل أن يسأل عن ذلك؟ والجواب عنه، والله أعلم: أن آية إبراهيم، عليه السلام، لما ورد فيها قوله تعالى لنبيه، عليه السلام: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، وكان السابق من مفهوم هذا أن ذلك الأمر بيده، عليه السلام، وقد قال له تعالى: (يْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (آل عمران: 128)، وقال: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) (الشورى: 48)، وقال تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (القصص: 56)، فلما كان السابق من مفهوم آية إبراهيم كما ذكر أشار وصفه تعالى بالعزيز إلى قدرته تعالى وقهره، وأنه لا يكون من العباد إلا ما سبقت به إرادته التي لا يخرج واقع عن خكمها، وتعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد، ولو شاء لهدى الكل، قال تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) (السجدة: 13)، فأحرز الوصف بالعزة هذا المعنى العظيم، ولو لم يرد هذا الوصف لما تحرر هذا المقصود، وكذلك الوارد في قوله في آية سبأ: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) (سبأ: 6)، والرؤية هنا بمعنى العلم والحق مفعولها الثاني والضمير فصل لا موضع له من الإعراب. وحال أن يرى من وصفه تعالى بالعلم حكم الله تعالى في خلقه جارياً إلا على ما يشاؤه ويريده، إنه لو شاء لجمعهم على الهدى، فهذه الآية كأية إبراهيم من غير فرق، فوصفه سبحانه بالعزة تمام مقصودها كالمتقدمة، وليس للمدعوين إلا ما سبقت به إرادته تعالى، ولا بيد نبيه، عليه السلام، إخراجهم ولا هداهم، ولم يرد في هاتين الآيتين أن الإخراج من الظلمات إلى النور والهداية مما وقع وانقضى، وإنما مقتضى الآيتين رجاء إجابتهم وهدايتهم (عند دعائه، عليه السلام، ثم

الآية الثانية

الرجاء راجع (إلينا) المنزه المتعالى عن الاتصاف به. وقد أحاط علمه سبحانه بما يكون منهم. وأيضاً خوطبنا على ما نتعارف، قال سيبويه، رحمه الله، وقد تعرض لهذا وقد ذكر قوله تعالى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (المرسلات: 15)، و (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (المطففين: 1)، فقال: لا ينبغي أن يقال دعاء بالويل ههنا لأن الكلام بذلك قبيح ولكن العباد إنما كلموا بكلامهم، وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون، فكأنه - والله أعلم - قيل لهم: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)، (ووَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم لأن (هذا) الكلام إنما يقال لصاحب الشر والمهلكة فقيل هؤلاء ممن دخل في المهلكة ووجب هذا، ومثل هذا: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه: 44) والعلم قد أتى (من وراء) ما يكون ولكن اذهبا أنتما على طمعكما ورجائكم ومبلغكما من العلم، وليس لهما أكثر من خذا ما لم يعلما. ومثله: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة: 30) فإنما جرى هذا على كلام العرب وبه أنزل القرآن فقد تبين تساوي هاتين الآيتين في استدعائهما وصفه تعالى بالعزيز لما يحرز من المعنى المتقدم. أما آية سورة الحج فقوله تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (الحج: 24) إخبار منه سبحانه بما شاءه لهؤلاء من فوزهم وفلاحهم، قد تم حكمه وانقضى، فلم يكن ليناسبه ما يفهم القهر، وإنما المناسب ما يفهمه اسمه الحميد، وورد كل على ما يجب ويناسب، ولم يكن عكس الوارد ليلائم ولا يناسب، والله (سبحانه) أعلم. الآية الثانية قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) (إبراهيم: 32)، قال في سورة النمل: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ) (النمل: 60) ... الآية، يسأل هنا عن تأخير (لكم) في سورة إبراهيم عن لفظ (أنزل) وإيلائه إياها مقدمة في آية النمل ما وجه ذلك؟ والجواب: أن آية إبراهيم قد تقدمها قوله تعالى: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ) (إبراهيم: 31)، وقد علم المؤمنون أن الله غني عن العالمين، وأن المنزل من ماء السماء إنما هو رحمة للعباد وإحياء للأرض بعد موتها، ليخرج ما بث فيها سبحانه من أنواع الحبوب والثمرات وغير ذلك مما به صلاح أحوال العباد وتتميم معائشهم، ولم يغب عن المؤمنين المذكورين قبل أن ربهم غني عن ذلك كله ومنفرد بخلقه والإنعام به، فلم

الآية الثالثة

يحتج هنا إلى تنبيههم بأن ذلك لهم إذ حالهم التذكر ومولااة الاعتبار لا الغفلة، وأخر ذكر ذلك إلى ذكر الرزق ليجري مع قوله في الزينة والطيب من الرزق: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف: 32). أما آية النمل فقد تقدمها قوله تعالى: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (النمل: 59)، فلما تضمنت تعنيفاً للمشركين على سوء مرتكبيهم وعماهم عن التفكير والاعتبار قصد تحريكهم وإيقاظهم من رقدة الغفلة، فقيل: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) (النمل: 60)، فحصل تنبيههم وإعلامهم أن إنزال الماء من السماء إنما هو لهم وأنه لا حاجة به سبحانه إليه، فاستجر الكلام تعنيفهم، ويشهد لهذا قوله تعالى عقب الآية: (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل: 60) (أي يعدلون) بربهم غيره ويعدلون بعبادته إلى عبادة غيره، وكل هذا شرك لا فلاح معه، فلما قصد في الآية الثانية ما ذكرنا قدم المجرور، وشأنه أبداً إذا قدم إحراز معنى التنبيه حيث يقصد التحريك والإيقاظ لذي غفلة، أما إذا تأخر فلا يحرز هذا المعنى على الصفة التي يحرزه متقدماً. وتأمل الوارد من هذا في نظائر هذه (الآية) كقوله تعالى: (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) (الزخرف: 12) خطاباً لمن تقدم ذكره في قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) (العنكبوت: 61، وقوله خطاباً لفرعون وملئه: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا) (طه: 53) وهذا بعد قول فرعون في إخبار الله تعالى عنه: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى) (طه: 49) إلى قوله: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) (طه: 51)، وقد تقدم بيان هذا في قوله تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص: 4) وما أنشده سيبويه، رحمة الله، من قول الشاعر: لتقربن قرباً جلديا ما دام فيهن فصيل حيا الآية الثالثة: غ - قوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم: 34) وفي سورة النحل: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل: 18)، فأعقب في الأولى قوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) بغير ما أعقب في الثانية، يسأل عن ذلك؟ والجواب عنه، والله أعلم: أن آية إبراهيم تقدمها قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم: 28)، ثم قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) (إبراهيم: 30)، ثم ذكر إنعامه على عباده في قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ

الآية الرابعة

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) (إبراهيم: 32) إلى قوله: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) (إبراهيم: 34)، فناسب ما ذكره تعالى من توالي إنعامه ودرور إحسانه ومقابلة ذلك من العبيد بالتبديل وجعل الأنداد وصف الإنسان بأنه ظلوم كفار. أما آية النحل فلم يتقدمها غير ما نبه سبحانه وعباده المؤمنين من متوالي آلائه وإحسانه، وما ابتدأهم (به) من نعمة من لدن قوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ) (النحل: 4)، ثم توالت (أيات) الامتنان والإحسان فقال تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ) (النحل: 5)، فذكر تعالى بعضاً وعشرين من أمهات النعم إلى قوله منبهاً وموقظاً من الغفلة والنسيان: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (النحل: 17)، ثم أتبع بقوله سبحانه: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) (النحل: 18)، فناسب ختام هذا قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل: 18) فجاء كل على ما يناسب، والله أعلم. الآية الرابعة: غ - قوله تعالى: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (إبراهيم: 52)، وفي سورة ص: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص: 29)، للسائل أن يسأل عن وجه اختصاص آية إبراهيم بقوله: (ليذكر) وآية ص بقوله: (ليتذكر) بتاء التفعيل؟ والجواب، والله أعلم: أن كلا الموضعين حاصل فيه التناسب، أما آية ص ففي قوله (ليدبروا) حرفان من الحروف الشديدة وهما الباء والدال وثانيهما مضعف فنسق عليهما قوله: (وليتذكر) وفيه أيضاً حرفان من حروف الشدة وهما الكاف والتاء وثانيهما مضعف، والتناسب بهذا واضح. وأما آية إبراهيم فورد فيها: (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا)، وقد عربت الكلمتان من حروف الشدة وإنما جميعها من الرخوة وهي ضد الشديدة، فناسبها عطفاًعليها قوله: (وليذكر) إذ ليس فيه من الحروف الشديدة غير الكاف، وأيضاً فإن يذكر ويتذكر معناهما واحد، والأصل للمدغم مفكوكة، فلفظ يذكر ثان عن يتذكر، وهو أكثر استعمالاً وأخف لفظاً، فقدم في سورة إبراهيم وأخر الأثقل في سورة ص على الترتيب المتقرر، على ما تقدم في قوله تعالى: (هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) (البقرة: 38) في البقرة وقوله: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ) (طه: 123) في سورة طه. وقد تقدم من هذا نظائر، وسيأتي أمثالها، واطراد ذلك شاهد برعيه، فحصل التناسب اللفظي من هذين الوجهين، وإن عكس الوارد لا يناسب والله أعلم. *******

سورة الحجر

سورة الحجر الآية الأولى غ - قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) (الحجر: 1)، وفي سورة النمل: (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ) (النمل: 1، فورد في هاتين السورتين ذكر الكتاب والقرآن معاً منسوقاً أحداهما على الآخر، ثم اختلفت كيفية الإيراد، فقدم في الأولى ذكر الكتاب وأخر في الثانية؟ والجواب عن هذا، قد تقدم في سورة الرعد. الآية الثانية: غ - قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الحجر: 10 - 11)، وفي سورة الزخرف (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الزخرف: 6 - 7)، للسائل أن يسأل عن تخصيص آية الحجر بقوله: ((من الرسل)) وآية الزخرف بقوله: ((من نبي))؟ والجواب، والله أعلم: أنه لما تقدم في آية الزخرف لفظ الخبرية وهي للتكثير ناسب ذلك ذكر من يوحي إليه من نبي مرسل أو نبي غير مرسل، فورد هنا ما يعم الصنفين، عليهم السلام. أما آية الحجر فلم يرد فيها ولا قبلها ما يطلب بالتكثير مع ما تضمنت من قصد تأنيسه، عليه السلام، وتسليته، فخضت بالتعبير باسم الرسالة تسلية له عن قولهم: (إنك لمجنون) بما جرى للرسل قبل، عليهم السلام، من مثل ذلك، ومن البين أن موقع الرسل هنا أمكن في تسليته، عليه السلام، فجاء كل على ما يجب من المناسبة، والله أعلم. الآية الثالثة: غ - قوله تعالى: (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) (الحجر: 12)، وفي سورة الشعراء: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) (الشعراء: 200)، فللسائل أن يسأل عن وجه ورود: (نسلكه) في سورة الحجر، وورود: (سلكناه) في سورة الشعراء؟ ووجه ذلك، والله أعلم: أنه تقدم في آية الحجر قوله تعالى: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (الحجر: 6)، وهو قول العتاة من كفار قريش وغيرهم الذين عُنُوا بقوله (تعالى) تهديداً ووعيداً: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر: 3) ولم يتقدم في هذه السورة إخبار بحال غيرهم من مكذبي الأمم سوى التعريف بأن كل قرية أهلكت فبأجل معلوم وكتاب سابق لا يتأخر عنه ولا يتقدم، فحال

الآية الرابعة

هؤلاء كحال من تقدمهم، كما قال تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) (فاطر: 43) وقوله: (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ)، الضمير للمذكر المتقدم وهو هنا القرآن، والمراد بسلوكه في قلوبهم ما تحصل عندهم وقطعوا به من معرفتهم بباهر نظمه، ورفيع إيجازه، وعلى تناسبه، وأنه يفوق كل كلام مع أنه بلسانهم، وقد علموا مع هذا عجزهم عن معارضته مع أنه لم يرد بغير لسانهم ولا بما لا يعرفونه في محاوراتهم، فهذا المراد بسلوكه في قلوبهم، فقد كانوا متيقنين أنه ليس من كلام البشر وبهذا أخبر سبحانه عنهم تسلية لنبيه عليه السلام فقال: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام: 33) وبعجزهم عن معارضته قامت الحجة عليهم، ثم امتنعوا من الإيمان بما سبق لهم في الأول (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) (يونس: 96 - 97)، فورد هنا (نسلكه) بلفظ المبهم لأن الإخبار عن كفار قريش ممن استمر على كفره فهو حالهم وقت نزول القرآن وبعده. وقوله: ((نسلكه)) مشعر باستمرار حالهم وموافاتهم على ذلك، وقد تأكد هذا بوصفه بالإجرام وتسجيل حالهم السيء بقوله: ((لايؤمنون))، وأداة لا نافية للمستقبل فناسب هذا لفظ المبهم المضارع. أما آية الشعراء فقد تقدمها ذكر قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم من الأمم المكذبين، بعد سلوك ما ذكره سبحانه أنه زبر الأولين في قلوبهم، فلما تقدم أمرها أولاً، وانقطعت أومانها، وقعت العبارة بالماضي، فقال تعالى: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ)، ولم يناسب هنا غير الماضي، فقد وضح ورود كل من الموضعين على ما يناسب، ولم يناسب عكس الوارد، والله أعلم. الآية الرابعة قوله تعالى: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (الحجر: 34 - 35)، وفي سورة ص: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (ص: 78)، للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف العبارتين من ورود اللعنة في سورة الحجر بالألف واللام، وفي ص بالإضافة مع اتحاد المعنى؟ والجواب عنه، والله أعلم: أن آية الحجر وردت بالألف واللام، وهي الأداة المقتضية الحصر الجنسي حيث لا عهد، وذلك وارد على ما ينبغي لما قصد هنا من المبالعة، ولا سؤال فيه. وأما الوارد في سورة ص مضافاً لياء المتكلم فوجهه المناسبة اللفظية لقوله: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (ص: 75)، فجرت العبارتان على منهج واحد ومسلك متناسب، ولم يكن ليتناسب العكس فيما ورد، والله أعلم.

الآية الخامسة

الآية الخامسة: غ - قوله تعالى: (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) (الحجر: 53)، وكذا في سورة الذاريات: (قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) (الذاريات: 28)، وورد في سورة الصافات: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) (الصافات: 101) خلاف الوصف بالعلم في السورتين. ووجه ذلك، والله أعلم: أن آية والصافات لما وردت كالتمهيد لما تلاها متصلاً بها من قوله: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) (الصافات: 102)، فتلقى الذبيح، وعليه السلام، ما أخبره (به)، أبوه - لعلمه أنه من أمر الله - بالرضى والصبر. قال ابن عطية في تفسير حليم: صابر محتمل عظيم العقل، قال: والحلم العقل، فأحسن، عليه السلام، جوب أبيه معزياً له محتسباً بنفسه، فناسب هذا الموضع وورد وصف الذبيح بالحلم. ولما لم يرد في الآيتين الأخريين ذكر الأمر بالذبح ناسبها الوصف بالعلم، وهو صفة الأنبياء، فورد كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم. الآية السادسة من سورة الحجر قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 75 - 77)، فيها سؤالان: جمع آيات في الأولى وإفراد ذلك في الثانية؟ وتخصص الاعتبار أولاً بالمتوسمين وثانياً بالمؤمنين؟ والجواب: أن المتقدم في ذكر ضيف إبراهيم ووجله، عليه السلام، منهم مع أنه كان لا يهاب كثرة الرجال لما منح من النبوة والأيد، إلى حال النبوة، وتخصيص الخِلة، ثم بشارة الملائكة له بالولد مع بلوغ الكبر، ثم سؤاله إياهم عن إرسالهم إذ ذاك فأخبروه أنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط، وكانت مدينتهم على قرب من حيث كان إبراهيم، عليه السلام، فسألهم - إشفاقاً ورحمة جبل عليهما الرسل والأنبياء - أيهلكون إن كان فيهم مؤمنون؟ وعن ذلك السؤال والمحاورة عبر بالمجادلة (في قوله): (يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) (هود: 74) أي يجادل رسلنا، وهي محاورته معهم وسؤاله إياهم حتى عرفوه أن آل لوط، عليه السلام، ناجون إلا امرأته، ثم أعقب ذلك من مجيء الملائكة من عند إبراهيم إلى لوط، وإنكار لوط أولاً إياهم حتى علم أنهم الملائكة ثم أمرهم أياه بأن يسري بأهله، وأن يُقدمهم أمامه، ولا يلتفت إلى ما وراءه، ولا يعرج على شيء فإن قومه هالكون صبح ليلتهم، ثم الإخبار بمجيء قوم لوط لما سمعوا بأضيافه وظنوا أنهم من البشر، وجاؤوا مسرعين طامعين في غلبة لوط، عليه السلام، وقهره في ضيفه ليأخذوهم لأغراضهم الشنيعة: (وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) (هود: 78)، فذكرهم، عليه

الآية السابعة

السلام، وأمرهم بتقوى الله، عز وجل، فقال: (إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ) (الحجر: 68 - 69)، ثم عرض عليهم نساء آله وقومه بالوجه المحل لذلك فقال: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي) (الحجر: 71)، ونساء قوم كل نبي بنات له، وهو لهم بمنزلة الأب (فلم) يجد ذلك عليهم شيئاً، وعند تمردهم وطغيانهم قال عليه السلام: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (هود: 80)، أي عشيرة (وقبيلة) يحمونني، فقالت الملائكة إذ ذاك: إنهم لن يصلو إليك، أي لا سلطان لهم عليك ولا عون، فروي أن جبريل، عليه السلام، نفخ في أعينهم فخرجوا وقد عموا قائلين لمن وراءهم أن عند لوط سحرة أو كما قالوا، ثم صبحهم العذاب: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) (الحجر: 73)، قال تعالى: (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (الحجر: 74)، هذه جمل ومقدمات عجائب من الآيات يجول فيها اعتبار المعتبر ويتسع له النظر، ويتوسم منها المتفرس مخائل الهلاك ومقدمات التلف لأولئك الأشرار، فقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (الحجر: 75) أي المعتبرين أو المتفرسين والناظرين، فهذا مناسب لما تقدم. ثم لما تحصل من قوله تعالى: (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) (الحجر: 74) قلب مدينتهم المشاهد أثره مرئياً مشاهداً لمن أتى بعدهم قال تعالى: (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) (الحجر: 76) أي طريق واضح ودليل بين لمن شاهده وأبصره، وذلك أمر مدرك ومعتبر متخذ حاصل لنا تفصيل قصصه بخبر الصادق، عليه السلام، قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 77)، وقال ((لمؤمنين)) أي للمصدقين المشاهدين أثرهم، فجاء كل على ما يجب، ولم يكن ليناسب المتقدم إفراد آية، ولا جعل العبرة للمصدقين مع ذكر المتوسمين في الأخرى ولا المتأخر ما ورد في الأولى، بل ورد كل على ما يجب ويناسب، والله سبحانه أعلم. الآية السابعة: غ - قوله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 88)، وفي سورة الشعراء: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 215)،، فزيد هنا قوله: (لِمَنِ اتَّبَعَكَ) ومقصود الآيتين واحد فللسائل أن يسأل عن وجه التخصيص؟ والجواب عن ذلك: إنه لما لم يتقدم آية الحجر تخصيص بمدعو بل تقدمها خطابه، عليه السلام، بالتأنيس والتسلية عمن أعرض والرفق بمن آمن فقال تعالى: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 88)، لم يحتج هنا إلى زيادة. ولما تقدم آية الشعراء قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214)، والإنذار يستصحب التخويف والاستعلاء على من يخاطب به، اتبع ذلك تعالى تلطفاً وإنعاماً على من آمن من عشيرته، عليه السلام، وغيره بقوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 215) فقيل هنا: (لِمَنِ

اتَّبَعَكَ) ليكون أنص في تعميم المؤمنين مطلقاً من العشيرة وغيرهم، ولو قيل هنا ((وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) لما كان نصاً في التعميم بل كان يحتمل أن يراد به خصوص المؤمنين من عشيرته، عليه السلام، وكأن قد قيل: واخفض جناحك لمت آمن منهم أي من العشيرة، لأن لفظ المؤمنين هنا - وإن عم - فإنه مما تقدمه وبني عليه من قوله: ((وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214) يشبه الوارد من العمومات على سبب خاص، وذلك مما يكسر سورة عمومه ويدخله الخلاف، فجيء بالمجموع من قوله: (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لايمتنع أن يراد به الخصوص، فالجواب ان رجوع الضمير إلى العشيرة على اللزوم غير لازم بل يمكن رجوعه إلى الجميع من متماد على كفره ومتبع. أما الأول فبين، وأما الثاني فالارتداد وقد قال تعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) (آل عمران: 86)، بل رجوع الضمير إلى الكل أولى ليستصحب المؤمن الخوف، ولهذا قيل: (فَإِنْ عَصَوْكَ) لوقوع اسم المعصية على الكفر وما فوقه. ****

سورة النحل

سورة النحل الآية الأولى منها قوله تعالى: (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (النحل: 11 - 13). يسأل عن توحيد آية (في الآية) الأولى والثالثة وجمعها في الآية الثانية المتوسطة؟ وعن تعقيب الأولى بقوله: (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وتعقيب الثانية بقوله: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) والثالثة بقوله: (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)؟ والجواب عن السؤال الأول: أن الإشارة بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ) في الآية الأولى إلى المنزل من السماء في قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) (النحل: 10)، ثم قال: (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) (النحل: 11) أي ينبت لكم بالماء المنزل من السماء - مع وحدته في الصفة - ضروب الأقوات والفواكه وأنواع الثمرات فقيل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) بالإفراد، لأن الإشارة إلى الماء أو إلى إنبات أنواع الثمرات المختلفات في الطعن والألوان مع وحدة المادة من الماء وهو واحد، وكذلك الآية الثالثة الإشارة فيها إلأى الجنس الواحد الواقع عليه لفظ (ما) من قوله: (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُه) فأفرد هذا الضمير أيضاً لرجوعه إلى ((ما)) الواقعة على جنس واحد مبثوث في الأرض يشتكل على أنواع مختلفة في الطعوم والألوان، فأفرد لفظ الآية لما أفرد لفظ الضمير لوقوع ذلك على الجنس الذي عبرت عنه ((ما))، وهو جنس واحد، فاقتضى ذلك إفراد آية. وأما الآية المتوسطة فالإشارة فيها إلى خمسة أشياء مختلفة، أحيل عليها في الاعتبار، وسخرت لنا تسخيراً به قوام معشنا وصح أحوالنا ومعرفة حسابنا، وهي الليل والنهار والشمس والقمروالنجوم، وكل واحد من هذه تتسع جهات النظر فيه والاعتبار بعجائبه، فالليل للسكون والراحة والنهار للاكتساب والتصرف والسياحة، والشمس للإضاءة والتسخين، والقمر للنورية والترطيب والتكوين، وبكلا النيرين معرفة الشهور والسنين،

الآية الثانية

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) (يس: 40)، والنجوم للاهتداء في ظلمات البراري والبحار، وجهات الاعتبار بهذه الخمس يفوت الإحصاء، فللإشارة إلأى هذه المتعددات جمع فقيل: ((لآيات)). والجواب الثاني، وهو وصف المعتبرين في الآية الأولى بالتفكير وفي الثانية بالعقل وفي الثالثة بالتذكير: أن إنبات الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومختلف الثمرات بالماء المنزل من السماء مع كونه واحداً والمنبت مختلف الأنواع والطعوم والمنافع أمر يوصل إلى تعرفه وارتباطه باستعمال الفكر في ذلك وإن لم يطل، بشرط السلامة من الغفلة، فيحصل بمجرد الفكر على عظيم المعتبر. وأما تسخير الليل والنهار إلى ما ذكر معهما فلا يكتفي في (معرفة) ذلك والحصول على الاعتبار به بمجرد الفكر، فإن العلم بتسخير هذه مما يغمض ويخفى إلا على ذوي البصائر والفطن السليمة والعقول الراجحة، فلم يقنع التفكر هنا بل وصف المعتبر بها بما هو فوق الفكر، وتأصل ما تعقب به موضوع الاعتبار في قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) (البقرة: 164)، إلى قوله: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164)، لما كان في الاعتبار بما انطوت عليه الآية غموض وخفاء قيل: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، وأما الآية الثالثة وهي قوله: (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) (النحل: 13) ببدأة الفكر السالم، فقصد التذكير كاف في حصول الاعتبار بذلك. فإذا تأملت ما ذكرناه ألفيت ذلك كله وارداً على أجل مناسبة، وعملت أن كل آية من هذه الثلاث لا يناسبها إلا ما أعقب به. الآية الثانية من سورة النحل قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 14)، وقال في سورة الملائكة: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (فاطر: 12). وفي هذه الآية ثلاث سؤالات: الأول: لم أخر المجرور وفي سورة النحل فقيل: (مَوَاخِرَ فِيهِ) وقدم في السورة الأخرى فقيل: (فِيهِ مَوَاخِرَ)؟ والثاني: زيادة الواو في قوله: (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في سورة النحل وسقوطها في سورة الملائكة؟، والثالث: زيادة ((منه)) في سورة النحل في قوله: (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) وسقوط ذلك في سورة الملائكة)؟

والجواب عن الآول: أن أية النحل بنيت على تاخير المجرورات عما تعلقت به، وجرى الكلام جريا واحدا للتناسب والتشاكل، فقيل: لتأكلوا منه، وتستخرجوا منه، ومواخرفيه. ولو قيل هنا: فية مواخر وتقدم المجرور على العامل فبه وهو مواخر اسم فاعل مجموع من المخر وهو شق السفينة الماء بحيزومها لما ناسب ما تقدم مما بنيت الآية عليه وتقدم فى المجرورين قبله. أما اية الملائكة فمبنية على تقدم المجرور على ما به تعلق (قال تعالى): (ومن كل تاكلون لحما طريا)، وتأكلون العامل فى المجرور الذى هو كل متاخر عنه، فناسب ذلك تأخر العامل أيضا فى المجرور الثانى ليتناسب الكلام ببناء أخره على ما بنى أوله ولم يكن ليصح ما لا يتناسب. والجواب عن السؤال الثانى: أن أية النحل مبنية على قصد الاعتبار وتعداد النعم وقد اجتمع فى قوله تعالى: (وهو الذى سخر البحر) الآية، مجموع الآمرين من الاعتبار وابداء النعمة بتسخير البحر وأكل اللحم الطرى منه واخراج الحلية للباس ومخر السفن اياه للمنافع والاكتساب، فهذهنعم جليلة، وفى كل منها مجال للاعتبار ومتسع للتفكير والنظر، فلما كان من مقصود هذهالآية تعداد النعم ناسب ذللك عطف بعضها على بعض لانه مظنة اطناب وتفصيل، فقيل: (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضله) (النحل: 14)، والمجرور متعلق بفعل التسخير، واستخراج الحلية، وجرى السفن والابتغاء من فضل الله. وأما أية سورة الملائكة فبينت على ابداء القدرة وجليل الحكمة ألا ترى قوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) (فاطر: 11)، ثم قال: (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) (فاطر: 12)، فهذامقصود به الاعتباروالتعريف بانفراده سبحانه بخلق ذلك ابداء النعم وجليل الاحسان، ولكن مقصود الآية وبناءها على ما ذكرنا، ثم تجرد باقى الكلام للتعريف بالانعام والامتنان فقال تعالى: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (فاطر: 12)، فتعلق المجرور الذى هو لتبتغو باسم الفاعل المجموع اى سخرة للابيتغاء من فضلة، فالابتغاء هنا منجر طي الكلام، والامتناء مقصود، ألا ترى أن مخر السفن كأنه ليس لشيء الا للابتغاء، فلما تعلقت اللام بمواخر من حيث تحمل اللفظ معنى الفعل لم يصح دخول

الآية الثالثة

الواو، ولم يكن كأية النحل، فافترق القصدان، ولم يلائم كلا من الموضعين الا الوارد فيه. والجواب عن السؤال الثالث: أن معنى الكلام فى قوله (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) (فاطر: 12) مستقل، لا ابهام فيه ولا احتمال لآن تقدير الكلام: من كل البحر أكلكم واستخراج الحلية للباس فالكلام فى قوة المبتأوالخبر، لايوهم خلاف ما ذكر، وأما قوله: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) (النحل: 14) فلو سقط هنا المجرور الذى هو ((منه)) لكان مجالا للاحتمال، لو قيل: وتستخرجوا حلية لم يكن بالنص فى أن استخراج الحلية من البحر وان كان ظاهرا الا أن هذا القدر من الاحتمال منقدح هنا وغير منقدح فى أية الملائكة لآنة لا انقداح فيها للاحتمال فورد كل على ما يجب، والله واعلم. الآية الثالثة من سورة النحل قوله تعالى: (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (النحل: 12)، وفى سورة الزمر: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (الزمر: 72)، وفى سورة المؤمن: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (غافر: 76)، للسائل أن يسأل عن زيادة اللام فى اية النحل وسقوطها فى الآيتين الآخريين وما وجه ذلك؟ والجواب عن ذلك: أن أية النحل تقدمها ثمانى أيات أو نحوها فى ذكر هؤلاء المقول لهم: (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) وفى وصفهم من لدن قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (النحل: 24) الى قوله: (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) (النحل: 29)، وتلك اطالة فى ذكرهم، والاستيفاء يناسبه التأكيد باللام المشيرة الى معنى القسم، وأما الآيتان فى سورة الزمر وسورة المؤمن فان المتقدم فى الاولى منهما قوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا) (الزمر: 71) الى قوله (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) (الزمر: 72)، وذلك كلام قد جمع الى الوجازة أنة لم يذكر من كفرهم مثل ما ذكر فى المذكورين قبل أية النحل من ردهم المنزل بقولهم: (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وتلك مقالة شنعاء من كفرهم، فناسب الايجازالواقع قبل أية الزمر مع أجمل فيها من كفرهم بسقوط اللام من قوله: ((فبئس)). وأما أية سورة المؤمن فلم يقع ايضا قبلها استيفاء التعريف ما وقع في سورة النحل ولا نص من شنيع مرتكبهم على غير التكذيب، فناسب ذلك سقوط اللام كما فى سورة الزمر، وورد كل على ما يجب ويناسب.

الآية الرابعة

الآية الرابعة قوله تعالى: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (النحل: 34)، وفيسورة الزمر: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا) (الزمر: 51). ووجه ذلك، والله اعلم: استدعاء التناسب في كل من الموضعين، وقد ورد قبل أية النحل قوله تعالى مخبرا عن المشركين: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل: 28)، (ثم استمرت الاية الى قوله: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل: 32))، ثم صرف الكلام الى كفار العرب فى توقفهم عن الايمان فقيل: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ) (النحل: 33)، ثم قيل: (كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (النحل: 33)، والمرادمن قال: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) (النحل: 28) ومن كان على مثل حالهم فقيل بناء على قولهم: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)، (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) (النحل: 34)، وتناسب هذا أبين تناسب. وأما أية الزمر فقد وقع قبلها قوله: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (الزمر: 47) الى قوله: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الزمر: 47و48) وبعد هذا: (قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، ثم قال: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ (يعنى كفار العرب) سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا) (الزمر: 51)، فقد وضح وجه التناسب فى الآيتين، وعكس الوارد لا يناسب، والله اعلم. الآية الخامسة قوله تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (النحل: 53 - 55)، (وفى الروم: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (النحل: 33 - 34))، وفى العنكبوت: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (العنكبوت65 - 66)، للسائل أن يسأل عن وجه تكرر اللام فى قوله: ((وليتمتعوا)) في سورة العنكبوت ولم يتكرر فى الآيتين الآخريين؟ وهل بين أية العنكبوت وأيتى النحل والروم فرق فى ذلك يوجب تكرار اللام حيث ذكر ام لا؟ وهل قوله فى سورة العنكبوت: (إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) يعم جميع المذكورين فى ذلك؟ وقال فى

الآية السادسة

الآيتين الآخريين: (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) فخص بعضهم ولم يعم فهل لذلك موجب؟ فهذان سؤالان. والجواب: أن هذه اللام فى قولة تعالى: ((ليكفروا))، ((وليتمتعوا)) لام مقصود به التهديد والوعيد كقوله تعالى: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) (فصلت: 40) و (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) (هود: 93) وقوله (وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29). واذا تقرر هذا فقوله تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ 000) (النحل: 53 - 54) خطاب يعم ولا يخص، واذا كان الخطاب يشمل العام الكثير فأبعد شيء أن يكونوا فى تلقيه على حد واحد، بل يكون منهم المقبل والمعرض، فعلى هذا الحكم ورد فى سورتى النحل والروم (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ)، لان ما تقدم من الخطاب الاخبارى فى قوله: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) الى قوله: (ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ)، وفى قوله فى الروم: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) الى قوله: (ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ) عام غير خاص، فقد تفصل تلقيهمنوافترقت احوالهم بشاهد جرى العادة الذى لا ينكسر. واذا تقرر هذا فالوعيد لا يعمهم معنى، بل يخص الفريق المسمى وان عم بلفظه تخويفا لمن عدا ذلك الفريق وليكون ارهب للجميع وان تفصلت احوالهم. اما قوله تعالى فى سورة العنكبوت: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) (العنكبوت: 65) فليس هؤلاء كل الناس، ولا يتناول الخطاب غير من ذكر، فقوله بعد: (إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) يتناول جميع من شمله الضمير فى قوله ((ركبوا)) وظاهر الخطاب تساوى هؤلاء فى مرتكبهم، فالوعيد شامل لجميعهم ومتناول جملتهم، فحسن توكيد الوعيد لشموله لهؤلاء المخصومين فقيل: ((وليتمتعوا))، ولم يحسن في المذكورين في آيتي النحل والروم لتفصيل أحوالهم، فجاء كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم. الآية السادسة: غ - قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (النحل: 60)، وفي سورة الروم: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم: 27)، للسائل أن يسأل عما زيد في آية الروم من قوله: (فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) مع أن ذلك مفهوم من الآية الأخرى وملعوم (لايمكن خلافه) وإن يقع به إفصاح في اللفظ؟

الآية السابعة

والجواب أن ذلك إنما جرى بحسب مقتضى المقصود في كل من الآيتين، أما آية النحل فقد تقدمها قوله تعالى: (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) (النحل: 60)، فقوبل بحسب التفصيل ومقتضى التقابل بقوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (النحل: 60)، فتطابق الكلام وتناسب موزانة لفظ وجليل تقابل، ولم يقع قلبها ذكر السماوات والأرض، فلم يكن ليناسب ذلك ذكرهما بعده. وأما آية الروم فتقدمها قوله عز وجل: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) (الروم: 26)، ثم قال بعد: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الروم: 27)، ووضوح التناسب في هذا غير محتاج إلى زيادة بيان. الآية السابعة منها قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (النحل: 61)، وفي سورة الملائكة: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (النحل: 61)، فيهما سؤالان: أحدهما، قوله تعالى في الأولى: (بظلمهم) وفي الثانية (بما كسبوا) والثاني، قوله في الأولى (عليها) وفي الثانية (على ظهرها). والجواب: أن آية النحل تقدمها قوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ) (النحل: 58 - 59)، فإشارة الآية إلى وأدهم البنات - وهو أعظم الظلم وأشنعه إذ لم يتقدم للمؤودة جريمة ولا شبهة يتعلق بها قاتلها - ناسب هذا ذكر الظلم، فقال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ)، والضمير في عليها للأرض، يفهمه سياق الكلام، فناسب ما أشير إليه من عظيم ظلمهم التوبيخ بذكر الظلم في قوله: (بظلمهم). ولما لم يتقدم في آية سورة الملائكة إفصاح بذكر الظلم بل تقدمها قوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) (فاطر: 42 - 43) إلى قوله: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) (فاطر: 43)، فأشير إلى اجتراماتهم وسيء اكتسابهم بنفورهم ومكرهم السيء، فناسب ذلك قوله: (بما كسبوا) وقيل هنا: (ما ترك على ظهرها) والضمير للأرض يسره السياق كالأول، وقيل: (على ظهرها) ليناسب في طول تركيبه قوله: (بما كسبوا)، كما ناسب قوله (عليها) في الآية الأولى قوله: (بظلمهم) في قلة حروفه تناسب التوازن والتقابل، فورد كلّ على ما يجب.

الآية الثامنة

الآية الثامنة منها قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 65 - 69)، في هذا ثلاثة سؤلاات: الألو إفراد ((آية)) في الثلاثة مواضع مع أن الثاني منها قد تفصل فيه الاعتبار بذكر الأنعام ولبنها وذكر ثمرات النخيل والأعناب وما يتخذ منها، فيسبق في الظاهر أن الواجب جمع آيات بخلاف الآية الأولى والثالثة (فقد) أفردت فقيل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، والسؤال الثاني: ما وجه ختام الأولى بقوله: (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)، والثانية (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، والثالثة: (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)؟ والسؤال الثالث: ورود ضمير الأنعام مفرداً في قوله: (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ)، وما الفرق بين هذا وبين الوارد في سورة المؤمنون: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا) (المؤمنون: 21) والجواب عن السؤال الأول أن قوله: (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، راجع إلى قوله: (ومن ثمرات النخيل والاعناب) .. الآية، وذلك اعتبار باتخاذ السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والآعناب وهو نوع واحد، وقد أفرد فى قوله: (تتخذون منه) فجاء افراد أية عن ذلك، واما اخراج اللبن من بين الفرث والدم في الآنعام فلا يرجع اليه قوله (ان فى ذلك لآية) اذ قد اغنى عن ذلك قوله: (وان لكم فى الآنعام لعبرة نسقيكم)، فقوله ((لعبرة)) كاف عن ((أية)) ومغن ذلك الغنى. فلا حاجة للجميع بينهما، وانما مرجع أية لما ذكر من المتخذ من ثمرات النخيل والآعناب كما تبين، فليدفع هذا السؤالجملة. وكذلك الآية الآولى الاعتبار فيهابالماء المنزل من السماء، والاعتبار فى الثانية بما تضمنت من أمر النحل والايحاء اليه بما ذكر، فالاعتبار فى كل منها انما وقع بنوع مفرد، وما وقع من تفصيل فمصرفه الى حال أو وصف مع وحدة النوع. واجواب عن السؤال الثانى: أن وجه مناسبة قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [النحل: 65] لقوله: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) [النحل: 65] ... الآية، بناء ذلك على المتصل به من قوله: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل: 64]، ثم قال: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)، فاتصل ذكر انزال الكتاب بانزال الماء، وما سماه رحمة الا لرحمته عباده به، وماء السماء رحمة، وقد سماه بذلك، وبالمنزل من الكتاب يتذكر اعتبار الرحمة (بالماء) المنزل من السماء، ولا يحتاج

الآية التاسعة

في ذلك إلى كبير تذكر، بل التنبيه على إنزاله بالوارد في الكتاب مع مساهده منافعه كاف في العتبار، وفي إحياء الأرض به بعد موتها أوضح شهادة لإحياء الموتى وإخراجهم لما وعدوا به، فالتحم الكلام، وتناسب النظم والمعنى. وإنما تحصل ثمرة الكتاب المنزل بسماعه، ولذلك نهي المعرضون عنه أتباعهم فقالوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) (فصلت: 26) وقال في قسم من رحم بسماعه من الجن: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي) (الجن: 1و2)، وإنما يستجيب سامعه إذا كان غير معرض، فإذا لم يصغ إلى اعتبار ما أعقب به من إنزال السماء، فلهذا الالتحام أعقبت الآية المذكورة بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)، والله أعلم. وأما الآية الثانية فلما وقع فيها ذكر السَّكَر في قوله: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرً) (النحل: 67) وذلك حكم لا يمكن الوصول إلى مرفة سببه ولا تعليله بطريق الحواس، ولا يوصل إلى ذلك بجهة تفكر أو اعتبار، عبر بقوله: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) إذ العقل يسلم إمكان ما لا تعلم له على مما ليس بمحال، فيكون مما ينفرد تعالى بعلمه، ويعجز البشر عن فهمه. وأما الآية الثالثة فمحل ومجال للتفكر ومتسع للاعتبار فناسبه قوله: (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). والجواب عن السؤال الثالث: أي قوله: (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) (النحل: 66) بإفراد الضمير وتذكيره مراد به الجنس، وقد حكى سيبويه، رحمه الله، أن من العرب من يقول: هو الأنعام، وعليه حمل آية الأنعام في تذكير الضمير، وورد في سورة المؤمنون على التأنيث والجمع لما بني على ذلك من قوله: (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (المؤمنون: 21 - 22)، فنوسب بضمير الأنعام ما أتبع به من الضمائر في قوله: فيها، ومنها، وعليها. فورد بصورة التأنيث والجمع. الآية التاسعة من سورة النحل قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (النحل: 70)، وفي سورة الحج: (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً) (الحج: 5)، للسائل أن يسأل عن زيادة ((من)) في قوله: (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) وسقوطها من آية النحل مع اتحاد المعنى، هل ذلك لسبب حامل يقتضي زيادتها هنا وسقوطها هناك؟ والجواب: أن سبب ذلك - والله أعلم - التناسب وتشاكل النظم ومراعاة اللفظ ألا ترى إلى تكرر ((من)) في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ

الآية العاشرة

تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج: 5)، فقد تكررت لفظة ((من)) هذه في هذا الآية في ستة مواضع، الخمسة منها قبل قوله: (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) والواحدة بعدها، وكلها محرزة معناها الذي جيء بها من أجله إلا التي في قوله: (من بعد) إذ النظم مع سقوطها (ملتئم) والمعنى تام، فاستوى وجودها وعدمها، فاستعاها سياق آية الحج للتشاكل والتناسب في النظم، ولم يكن في آية النحل ما يستدعيها إذ لم يرد ما يقتضيها، فورد كل على ما يجب ويناسب، ولا يمكن العكس والأولى في قوله: (من البعث) لابتداء الغاية وما بعدها للتبعيض إلا التي في قوله: (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ) فإنها زائدة رعياً للفظ لا النافية، وإن كانت هنا مزيدة. الآية العاشرة من سورة النحل قوله تعالى: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (النحل: 72)، وفي العنكبوت: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (العنكبوت: 67)، للسائل أن يسأل عن ثبوت الضمير المنفصل المبتدإ في قوله: (هُمْ يَكْفُرُونَ) في آية النحل وسقوطه من آية العنكبوت مع أن المعنى متحد والعبارة متكررة أعني قوله: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ .... ) الآية، فما وجه ذلك؟ والجواب، والله أعلم: أن الوارد في آية لانخل راجع إلى من قدم ذكرهم في قوله: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) (النحل: 56)، وفي قوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ) (النحل: 57) إلى قوله: (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (النحل: 60)، وقوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) (النحل: 72)، فلما كان قوله: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) راجعاً إلى ما تباعد أتى بضميرهم المشعر بالبعد هو ضمير الغائبين فقيل: ((هم))، وارتفع بالإتيان به توهم عودة ضمير يُؤمنون إلى المقول لهم: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً). فإن قيل: لو قيل تؤمنون وتكفرون على الخطاب لكان للمخاطبين بقوله: (لكم)) أما على وروده على طريقة الإخبار عن الغائبين فلا يوهم ما ذكرت فلا ضرورة تدعو إلى

الآية الحادية عشرة

ضميرهم. قلت: هذا لو لم يكن الالتفات من فصيح كلام العرب، وهو الرجوع عن الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب وإلى المتكلم كقوله: تطاول ليلك بالإثمد ونام الخلي ولم ترقدِ وبات وباتت له ليلة كليلة ذي العائر الأرمدِ وذلك من نبأ جاءني وخبرته عن أبي الأسودِ فتأمل كيف التفت في قوله: (وبات وباتت له ليلة)) بعد الخطاب بقوله: (تطاول ليلك .. ) ((ولم ترقد))، (فرجع) الخطاب إلى الغيبة. ثم قال: (وذلك من نبأ جاءني) - فرجع إلى المتكلم، وإنما خاطب بكل ذلك نفسه، وفي الكتاب العزيز (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) (يونس: 22)، فقوله: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) رجوع من الخطاب إلى الغيبة، وفي الكتاب من ذلك كثير. فإذا تقرر أن الالتفات من فصيح كلامهم فما يمنع من احتمال أن يفهم قوله: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) على أنه راجع إلى المخاطبين بقوله: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) على طريقة الالتفات رجوعاً من الخطاب إلى الغيبة، فجاء قوله: (وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ) بضمير الغائبين رافعاً لهذا الإبهام وما للمعنى المقصود بالكلام من رجوعه إلى من تقدم ذكره، فهذا موجب ورود هذا الضمير المبتدأ هنا. أما قوله في سورة العنكبوت: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (العنكبوت: 67)، فكرمهم لا يرجع شيء منه إلى متقدم قبله فيتباعد عنه بل هو مستقل بنفسه، والمعّنيون بوقله: (أَوَلَمْ يَرَوْا) هم المراد (بقوله) (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)، وليست هذه الآية مثل آية النحل فيما إلى ما احتيج هناك، فكل من الآيتين وارد على ما يجب ويناسب، ولا يمكن عكس الوارد على ما تمهد، والله أعلم. الآية الحادية عشرة: غ - قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 78)، وفي سورة المؤمنون: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) (المؤمنون: 78)، وفي سورة الملك: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) (الملك: 23)، فورد في هاتين الآيتين نفي شكرهم على المعروف من هذه العبارة أو تقليله بمقتضى اللفظ، وورد في آية سورة النحل

الآية الثانية عشرة

ترجي (شكرهم) مع اتحاد المقصود من إبداء عظيم النعمة بالإسماع والإبصار، فللسائل أن يسأل عن الفرق؟ والجواب، والله أعلم: أن آية النحل مبتدأة بقوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) (النحل): 78)، فناسب هذا - لكونه وصف حال قبل تعيين التكليف ورود الترجي لأن يكون منهم الشكر لذكره إياهم في حال لم يتهيؤوا فيها بعد لقبول أمر أو نهي أو إعراض عن ذلك، ولا يتعلق بهم التكليف، فناسب هذا ذكر الترجي. أما الآيتان بعد فالإخبار فيهما عن أحوال من استوفى سن التكليف وعقل الخطاب (وشاهد العضات) وفهمها، وتكرر عليه التذكار فلم يجد عليه شيئا، ألا ترى أن قبل آية المؤمنون (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ) (المؤمنون: 76)، إلى ما اتصل بهذا. فقد صدر عن هؤلاء التعامي فخالف الوارد في آية النحل، فناسب ذلك هنا نفي شكرهم. وأما آية الملك المخاطب بها من قيل له تعريفاً وتوبيخاً (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ) (الملك: 20) إلى قوله: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) (الملك: 23)، والآي مشيرة إلى موالاة إنعامه سبحانه على عبادة وإدرار أرزاقهم إلى ما يجري مع هذا، فناسب ذلك الحين لم يجد عليهم مستمر إحسانه ومتوالي إنعامه أن نفى تعالى شكرهم، فقد وضح التناسب في هذه الآي، ووردت كل واحدة منها على ما يجب، وإن عكس الوارد غير مناسب. الآية الثانية عشرة: غ - قوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) (النحل: 79)، وفي سورة الملك: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) (الملك: 19)، فورد في الأولى: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) وفي الثانية: (إِلَّا الرَّحْمَنُ) ومقصود الآيتين في التنبيه على الاعتبار بعظيم قدرته تعالى وعلى حكمته في تسخير الطير في جو السماء وتسخير الهواء وتهيئة (لذلك) بتقدير العزيز الحكيم مقصود واحد، للسائل أن يسأل عن ذلك؟ والجواب، والله أعلم: أن آية سورة الملك لما انطوت على ذكر حالين للطائر من صفة جناحية وقبضهما، وهما حالتان يستريح إليهما الطائر، فتارة يصف جناحية كأنه لا حركة به، وتارة يقبضهما إلى جنبيه حتى يلزقهما بهما، ثم يبسطهما ويقبضهما موالاة بسرعة كما يفعل السابح، فناسب هذا الإنعام منه تعالى وورد اسمه الرحمان. أما آية

الآية الثالثة عشر

النحل لم يرد فيها ذكر هذه الاستراحة فقيل هنا: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) (النحل: 79)، وتناسب ذلك وامتنع عكس الوارد بما تبين، والله أعلم. الآية الثالثة عشر: غ - قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (النحل: 84)، وفي آية سادسة من هذه: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: 89)، ففي الأولى (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) وفي الثانية (فِي كُلِّ أُمَّةٍ)، وفي الأولى: (شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وفي الثانية: (شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ)، فللسائل أن يسأل عن موجب الاختلاف في الآيتين؟ واعلم أن الآية الأولى متفق فيها على أن المراد بها الأنبياء، عليهم السلام، مع أممهم، وكل نبي شاهد على أمته ولها بإيمان مؤمنها وكفر كافرها، ولم يختلف المفسرون في هذا، وإنما السؤال في الآية الثانية لاختلافهم فيها، فأكثر المفسرين لم يفرق بينها وبين الأولى فيما قصد بها، وأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم شاهد على أمته كشهدة الرسل على أممهم، ثم إن هذه تضمنت زائداً على ذلك حسبما نبينه، وأشار بعضهم إلى الفرق بين الآيتين من غير تحرير ولا ركون إلى توجيه يعتمد، فأقول - وأسأل الله توفيقه: إن هذه الآية لثانية المراد بها تخصيص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالإفصاح فيها - ما شاركت فيه الأولى - بما منح من الكتاب العزيز وعظيم النعمة عليه وعلى أمته، فاتسؤنف وقوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا). وكرر ليبنى عليه ما بعد من قوله: (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ... ) الآية، فهذا من قبيل قوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا) (الأعراف: 90)، وقد تقدم هذا قوله تعالى: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ) (الأعراف: 88)، فكرر: (قَالَ الْمَلَأُ) ليبني عليه ما اتصل به، ونحو هذا قوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (البقرة: 150)، وقد تقدم أمره عليه السلام، (بهذا) إلا أنه أعيد ليبنى عليه ما بعد من قوله تعالى: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة: 150) ليفهم وحيث ما كنتم من البلاد أو المواضع التي خرجتم إليها، ولم تكن الآية المتقدمة لتعطي ذلك إلا باعتماد من غير تحرير، فلم يكن بد من إعادة ما ذكر ليتحرر المعنى المراد من الآية، وقد مر بيان ذلك في سورة البقرة عند ذكر الآية المشار إليها. ومن نحو هذا في الإخبار قوله تعالى: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا

وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) (المؤمنون: 35)، فكرر (أنكم) ليبنى عليه (الخبر) بالإعادة والإخراج بما بعد من قوله في أول الآية: (إنكم)، وهو مرتكب بليغ متكرر في الكتاب العزيز، فكذا الوارد في هذه الآية من قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ)، تكرر لعظيم ما بني عليه وقصد الإخبار والبشارة من قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89). فلما بين هذا الإنعام العظيم وبين الحاصل طي الآية المتقدمة من مخوف الوعيد، أعقب به التعريف فيها بالشهادة، من قوله تعالى: (ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (النحل: 84)، إلى ما تلا هذا. فالآيتان فيما أعقبتا به، وأنيط بكل واحدة منها، معرفتان بالحال في الطرفين، الأولى معقب فيها التخويف والتهديد بأشد الوعيد، والثانية أعقب مخوف تهديدها بترجي السلامة من مهول وعيدها بما اتبعت به، مما يفهم البشارة والتلطف والإنعام بقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89). بعد ذكر نبينا عليه السلام. المراد بهذا الخطاب التعريف بشهادته لأمته مفصحاً بالإشارة إليه تخويفاً وتعظيماً، وبالإنعام بما أولاه ومنح أمته من الرحمة بالكتاب المهيمن على سواه من الكتب والمبين لك شيء والهدى والرحمة والبشرى، أوزعنا الله شكر نعمه، وجعلنا من أمة هذا النبي الكريم بمنه. ولما كان قوله تعالى: (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ) (النحل: 89) حاصلاً منه تعقيبه، عليه السلام، وتحقيق كونه الشهيد على أمته، وكونه من أنفسنا ورد ما قبله محرراً فيه ذلك الغرض من تحقيق ذلك الحكم، من أن كل نبي قبله إنما كان من أنفس القوم المرسل إليهم ذلك الرسول لا من غيرهم، وهو الشهيد عليهم، وحقق ذلك في الثانية بما يحرزه حررف الوعاء الذي هو ((في)) ويقتضيه من استحكام الإخبار بكون الشهيد من نفس الأمة، لأن قوله: (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) يحتمل أن يراد به أن يكون منهم في مذهب أو جامع بينهم وبينه، من غير أن يكون من أنفسهم، أما قوله: (فِي كُلِّ أُمَّةٍ) فأنص في الاتصال واللزوق، لاسيما بما اتبع به من قوله: (مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، فطوبق بين المتقابلين من قوله: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (النحل: 89) وقوله: (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ) (الحل: 89)، فقد وضح ما باينت هذه الآية (به الآية)، وبانت جلالة هذا النظم العجيب، وأن ما توهم تكراره ليس بتكرار، إذا كان مقصود ما أعيد مما (تقدم) ذكره الشهيد لما بني عليه. فتحصل من هذه الآية العظيمة جليل الاعتناء بهذا النبي الكريم

الآية الرابعة عشر

صلى الله عليه وسلم تأنيسه، مالآية في قوله تأنيساً للأمة وإعلاماً بعظيم مكانته صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) (التوبة: 128) فهذا - والله أعلم - فصل ما بين الآيتين، وقد بان فيه التناسب، وجلالة النظم، وحسن الالتئام، والله أعلم بما أراد. فصل: لم يتعرض لهذه الآية أكثر المفسرين، ومن تعرض منهم لها ألحقها بالأول، وقد وقفت في التفسير الكبير المنسوب للإمام أبي الفضل بن الخطيب، وقد تعرض لهذه الآية فأورد مأخذ الإمامية بأن كل عصر لا يخلو من إمام معصوم، وذكر تخريج الآية عندهم، ثم محله، واتبع بأن قال: فثبت أنه لابد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم، ثم حكى عن أبي بكر الأصم أن المراد بالشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أجزاء الإنسان تشهد عليه، وهي: الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان، قال والتدليل عليه أنه قال في صفة الشهيد: أنه من أنفسهم، وهذه الأعضاء لا شك أنها من أنفسهم وذكر أن القاضي أجاب عن هذا من وجوه: الأول أنه تعالى قال: (شهيد)) فيجب أن يكون غيرهم، والثاني أنه من كل أمة فوجب أن يكون ذلك الشهيد من الأمة وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها بأنه من الأمة، هذا حاصل ما وقع في هذا التفسير، ولم يقع فيه تعرض لشيء من ألفاظ الآية، وتنزيل هذه المآخذ على الآية، وأخذها من أبعد شيء، وقد ذكرت في ذلك منزلاً عن الآية ما أراه الأولى في المراد بها، والله أعلم. وأما قول الإمامية: إنه لا بد في كل عصر وقرن من إمام معصوم يشهد عليها في القيامة فباطل، وقد كفانا وجه فساده من تقدم، وقول الأصم بعيد لما قاله القاضي، وأما ما اعتمده أبو الفضل فبعيد أيضاً، فيه ما يشبه الصغو إلى قول الإمامية، وقد ورد في الصحيح أن الرسل هم الذين يشهدون على أممهم، وعلى ذلك حمل المفسرون قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (النساء: 41)، ولا فرق بين هذه الآي، والله أعلم. الآية الرابعة عشر وهي من تمام ما قبلها: غ - قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89)، وفيما بعد من هذه السورة: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 102)، فورد في الأولى زيادة (رحمة) مع اتحاد المقصود في الموضعين من وصف الكتاب، وهذا يظاهر الوارد في الموضعين، فيسأل عن ذلك؟

الآية الخامسة عشرة

والجواب عن ذلك أن الأولى مقصود بها بشارة وإنعام لا يشوبه غيره، وقد تبين ذلك، أما الثانية فوارده مورد الزجر والتعنيف لمن لم يؤمن مع البشارة للمؤمنين، ألا ترى ما تقدمها من قوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) (النحل: 101)، فجووبوا عن هذا بقوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) (النحل: 102)، أي قل لهم يا محمد هذا الكلام، وورد بعدها: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) (النحل: 103)، فاكتنف الآية المذكورة ما يفهم التعنيف لهم والوعيد على مرتكبهم، ووضح أن المقصود لم يتحد في الآيتين كما يوهم للبادي من ظاهرهما، وأن زيادة قوله: (ورحمة) في الأولى مناسب لمقصودها من البشارة والإنعام المجرد عن اتصال ما يفهم تعنيفاً أو وعيداً، ولم يكن ورود ذلك ليناسب الوارد في الثانية، فورد في كل على ما يجب، والله أعلم. الآية الخامسة عشرة قوله تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 96)، وقال بعد (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)، وفي آية الزمر: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الزمر: 35)، فورد هنا ((الذي)) مكان ((ما) في الآيتين في سورة النحل، فللسائل أن يسأل عن ذلك؟ والجواب عنه، والله أعلم: أن آية النحل الأولى لما افتتحت بما الموصولة في قوله تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ)، والمراد بها الإطلاق والعموم، كانت في هذا الموضوع أولى من لفظ ((الذي)) وإن اشتركا في الموصولية، إلا أن ((الذي)) لا تفارق الموصولية، فهي كأنها أعرق في التعريف من ((ما))، لخروج ((ما)) عن الموصلية من حيث إنها تكون حال اسميتها شرطاً واستفهاماً، ولا يفارقها العموم والإطلاق في هذين الموضعين، ولا الإبهام إذا كانت صفة أو نكرة موصوفة أو تعجباً، وبالجملة فالإطلاق أملك (بها)، وهو هنا مقصود، وأما (الذي) فلا تفارق الموصولية، والعهدية فيها أغلب من الجنسية، فما في الآية أحرز للمقصود منها فوردت فيها، وتكررت في قوله: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)، ومعنى الحصر والتعميم فيهما واحد، والكلام مراعى فيه معناه، وكأن قد قيل: كل ما عندكم ينفذ وكل ما عند الله باق، ولفظ ((ما)) أجرى هنا من ((الذي)) لما يحرزه من معنى الإطلاق، ولما تقرر من التزامها العموم في الشرط والاستفهام، وأنها لا تمنع الاشتراك حال إبهامها فيما عدا الموضعين.

ومن أهل النظر من يطلق العموم بمعنى منع الشركة، والذي لا يقول هذا لايمكنه إنكار الإبهام الإطلاقي وكيفما قيل فإن معنى التوسعة لا يفارقها، وليست ((الذي) كذلك، فكانت ((ما)) أملك بالمعنى المقصود في الموضع، ثم ناسبها وجرى معها ورودها في قوله: (بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ولم تكن ((الذي)) لتناسب فجاء كل على ما يجب. وقوله في الآية الثانية: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) (النحل: 97)، الآية جارية مجرى الآية التي قبلها، و ((من)) أقرب لها من ((الذي)) لما بينهما من الاشتراك في المعاني التي لا تشاركها فيها ((الذي))، ألا ترى أن ((الذي)) لا تكون استفهاماً البتة، ولا نكرة موصوفة ولا مبهمة، إذ لا يفارقها التعريف. فإن قلت قد يدخلها معنى الشرط في نحو قوله: الذي يأتيني فله درهم، وهو المسوغ لدخول الفاء في خبرها في مثل هذا المثال ففيها إذ ذاك عموم. قلت ذلك متوقف على شروط معلومة، ولو لم يتوقف ذلك على شرط لبقي اشتراك فيما لا تدخل فيه ((الذي)). فمن على كل حال أجري مع ما يناسبها وما انجر معها من تقوية قصد الاستغراق من قوله: (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)، وهذا المنجر في هذه الآية يقابل تكرار ما في الآية قبل، هذه كتلك بهذا النظير من غير فرق، فلم يكن ليناسب ذلك ورود ((الذي)) مكان ((ما)) في قوله: (بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فتناسب هذا كله أوضح شيء، ولا يمكن في هاتين الآيتين ورود لفظ ((الذي)) مكان ((ما)) لمن لحظ المراعى في الآية من عليّ، نظم الكتاب العزيز، واعتبر التناسب الذي يعجز البشر عن محافظه رعية، ولا يمكن الوفاء به بوجه إلا في كتاب الله سبحانه. وأما آية الزمر فوارده في معنى الخصوص المقصود به طائفة بعينها ألا ترى ما قبلها من قوله تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) (الزمر: 33)، والمراد بالذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاذي صدق به متقدمو أصحابه ممن سبق وحسن تصديقه كأبي بكر، رضي الله عنه، ومن قارب حاله وجرى في (نحو) مضماره، وهؤلاء مخصوصون لا يشاركهم في حالهم غيرهم، وفيهم ورد ما بعد، وإليهم ترجع الضمائر من قوله: (هُمُ الْمُتَّقُونَ)، وقوله: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (الزمر: 34)، وقوله: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ) (الزمر: 35)، فلم يكن ليصلح هنا غير الأداة العهدية، فجاء ((بالذي)) في الموضعين من قوله: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الزمر: 35)، ولم تكن ((ما)) لتناسب هنا لما تقدم، فجاء كل على ما يجب ويناسب، ولا يمكن فيه عكس الوارد في الضربين على ما تقدم، والله سبحانه أعلم.

سورة بني إسرائيل (الإسراء)

سورة بني إسرائيل (الإسراء) الآية الأولى قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا) (الإسراء: 41)، وفيما بعد: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) (الإسراء: 89)، وفي الكهف: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (الكهف: 54)، ففي الأولى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ)، وفي الثانية: (لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ)، وفي الثالثة: بتأخير الناس، يسأل عن ذلك؟ والجواب عنه، والله أعلم: أن الأولى وقع قبلها: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا) (الإسراء: 40)، وهذا خطاب مراد به كفار العرب، فلم يذكر فيه لفظ الناس العام لهم ولغيرهم، إذ الخطاب خاص بهم. وأما الآية الثانية فقبلها: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (الإسراء: 88)، ثم قال تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ) (الإسراء: 89)، فخض الفريقين وعين ممن ذكر الناس اعتناء بهم، أعني بالجنس الإنساني، ليظهر شرفهم على الجن، وقدم الناس لما يعطيه تقديم المجرور، وقد مر هذا، وأيضاً فلثقل التكرر فيما تقارب، ولو قيل: ولقد صّرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل فأبي أكثر الناس إلا كفوراً لجاء لفظ الناس كأنه قد أعيد متصلاً، والعرب تستثقل مثل هذا، فقدم المجرور ليستحكم الفصل فلا يستثقل. وأما آية الكهف فلم يتكرر فيها لفظ الناس فيقع استثقال، فقدم قوله: (فِي هَذَا الْقُرْآنِ) (الكهف: 54)، لأن تقديمة أهم، إذ هو أبلغ في تنبيههم على الاعتبار. وقد مر قول سيبويه في مثل هذا (صفحة 256و287). وأما آية الكهف فلم يقع قبلها ذكر الثقلين معاً فيحتاج إلى ذكر تقديم الناس كما احتيج في آية الإسراء، ألا ترى أن فصل آية الكهف: (وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) (الككهف: 52) الآية، فلم يرد فيها ما في الأخرى، وكان الأهم ذكر القرآن الشافي لمعتبر ما صُرف فيه من الأمثال. فقيل: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ

الآية الثانية

كُلِّ مَثَلٍ) (الكهف: 54)، ولكون الخطاب عاماً في الإنسان لم يكن بد من ذكر الناس، بخلاف الآية الأولى من سورة الإسراء، إذ خطابها خاص بالقائلين من كفار العرب: إن الملائكة بنات الله، تعالى (الله) عن ذلك علواً كبيراً، فقد ورد كل من هذه الآيات على ما يناسب ويلائم ما اتصل به. وأما ختام الأولى بقوله: (وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا) (الإسراء: 41) فالضمير للمذكورين ممن خص بمقصود الخطاب المكنى عنهم بقوله: (لِيَذَّكَّرُوا)، وأما أعقاب الثانية بقوله: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) (الإسراء: 89) فلتعطي إعادة الظاهر من التعنيف والتقريع ما لا يعطيه المضمر، ولأن أول الخطاب وصدر الآية لما قدم فيه ذكر الناس لشرف الجنس الإنساني على الجن، ثم لم يكن ممن لم يؤمن إلا العناد، قيل: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ) ليعطي بفحواه أن كأن قد قيل: فأبى أكثر الناس على تشريفهم وتفضيلنا إياهم إلا الكفر، فأحرز الظاهر مالم يكن ليحرزه إضمارهم، فتأمل ذلك. وأما قوله عقب آية الكهف: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (الكهف: 54) فمن المعلوم جدال كل فرد ومعاند عن دينه ومذهبه، قال تعالى: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ) (الأنفال: 6)، وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) (غافر: 69)، وإذا كان الجدال من صفة كل مخالف في مذهب أو معتقد لم يبق السؤال هنا إلا عن وجه تخصيص هذه الآية بوصف الإنسان هنا بالجدل؟ والجواب أنه وصف هنا بذلك ليكون ختام هذه الآية هذه الآية تمهيداً لما سيأتي بعده من قوله تعالى: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) (الكهف: 56)، فلما بني هذا على الآية، واتصل الكلام والتحم نوسب بينهما، وليس في الآيتين قبل، ولا فيما تقدم كل واحدة منهما، (وفيما بني عليهما، ما يستدعي ذكر الجدل ولا الوصف به، فلذلك أعقبت كل واحدة منهما بما تقدم، فأعقبت الأولى بقوله تعالى: (وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا) لما بين من استدعاء الآية ذلك، وأعقبت الثانية بقوله: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) لما بين أيضاً عند ذكر ذلك، وأعقبت هذه الأخرى بما يناسب ما ورد عليه بعده، وجاء كل على ما يجب. الآية الثانية قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا) (الإسراء: 56)، وفي سورة سبأ: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) (سبأ: 22)، للسائل أن يسأل عن الوجه في ورود اسم الجلالة مضمراً في قوله: (مِنْ دُونِهِ) في سورة الإسار، ومظهراً في قوله: (مِنْ دُونِ اللَّهِ) في السورة الأخرى وهل كان يجوز العكس؟

الآية الثالثة

والجواب: أن آية سبأ تقدم قبلها تعالى مخبراً عن الكافرين: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ) (سبأ: 20)، ثم قال بعد آية من تمام الآية التي قبلها: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (سبأ: 22)، فجيء بالاسم الظاهر ليكون أبعد على إيهام عودة الضمير ورجوعه إلى المتبع لهم في الآية المتقدمة، وإنما المراد قل ادعوا كل من اتبعتم بعبادة أو صغو إلى ما يريده من إضلالكم، ولا شك أن إبليس رأس المضلين، وأولى من أمروا تعجيزاً لهم وقطعاً (بهم) بدعائه في قوله (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (سبأ: 22)، فورد التحفيظ بإيراد الظاهر مما كان المضمر يوهمه، وجاءت الآية على ما يجب. أما آية بني إسرائيل فإن قبلها قوله تعالى: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) (الإسراء: 54)، ثم قال: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الإسراء: 55) الآية، ثم قال: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) (الإسراء: 56) بالضمير مناسبة، ولم يكن ليناسب الظاهر هنا، فجاء كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم. فإن قيل: فقد ورد قبل قوله: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) (الإسراء: 54)، وقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) (الإسراء: 53) كما ورد قبل آية سبأ، فلم خصت آية سبأ بعودة الاسم ظاهراً دون آية بني إسرائيل؟ قلت: ورد ذكره في بني إسرائيل (محذراً منه) موصوفاً بنزعه وعداوته، مع أن الآية خطاب بأمر المؤمنين بقوله: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء: 53)، والإضافة في قوله: (وَقُلْ لِعِبَادِي) إضافة تخصيص، والأمر أمر بما هو أولى، وليس يواجه ولا يخاطب بها إلا المؤمنون، ثم إنها أتبعت بما يلائم الآية المتكلم فيها أجل ملاءمة. وأما ورود ذكر إبليس في سورة سبأ فمتصل بالآية، وإبلييس فيها موصوف بأنه أتبع، وأنه صدق ظنه على المذكورين، والآية إخبار عن الكفار، والكلام كله إعلام بحالهم إلى قوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) (سبأ: 22)، فهذا الاعتراض غير لازم، وورود كل من الآيتين على أعلى تناسب وأجل ملاءمة، ولو قدر عكس الوارد لما صح على الجاري المطرد في نظم الكتاب العزيز، والله أعلم بما أراد. الآية الثالثة قوله تعالى: (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) (الإسراء: 68 - 69)، ثم ورد بعد هذا بآيات: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) (الإسراء:

75)، (ثم) قال بعد: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا) (الإسراء: 86)، للسائل أن يسأل عن وجه ختم الآية الأولى بقوله: (لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا)، والثانية بقوله: (ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا)، والثالثة بقوله: (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا)، والرابعة بقوله: (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا)؟ والجواب: أن معنى كل آية منها استدعى تعقيبها بما به أعقبت، فأما الأولى فلما تقدمها قوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) (الإسراء: 67، أي اضمحل تعلقكم بشيء من أندادكم ومعبوداتكم سواه، وبطل ذلك، ولجأتم إليه سبحانه، كما قال في آية أخرى: (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) (النحل: 53)، فلما دعوتموه ونجاكم إلى البر أعرضتم ورجعتم إلى ما كنتم قبل من شرككم (وظنكم) أن قد أمنتم عذابه، أفأمنتم عذابه (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ) (الإسراء: 68) أي يقلب بكم جانب البر، وهو الذي حملكم وأقلكم عند انفصالكم من البحر، ونجاتكم منه، وذلك جانب من البر إذ ليس البر كله هو المستقل بهم إذ ذاك، وإنما هم في قطعة من البر وجانب من الأرض، والأرض كلها لله سبحانه، أفأمنتم أخذه سبحانه لكم بالخسف وإرسال حاصب من الريح (وهي الرييح الشديدة)، ترميكم بالحصباء حتى تهلككم رجماً، ثم لا تجدوا إذ ذاك من يتوكل بصرف ذلك عنكم ودفعه عن إهلاككم، فيتدارككم المتوكل لكم بدفع ذلك وصرفه عنكم، فتحصلون في حزب الناجين بعد مشاهدة الهلاك، هل تجدون براً، فهذا تقدير دافع قبل الإمضاء. ثم قال: (ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) (الإسراء: 69)، أي مطالباً يطلبنا بثأركم بعد إهلاككم بغرقكم، فلما كان القدر تعلقهم به من بعد الموت والتلف بالإغراق ناسب ذلك ولاءنه تسمية هذا المقدر الطالب تبيعاً، ولأنه يتبع بعد الموت، كما يسمى طلب ذمة (من مات) تبعاً واتباعاً، ومنه (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) (القرة: 178)، والتابع من يجيء بعد. ولما كان المقدر في الآية الأولى دافعاً قبل الفوت (ومانعاً) دون الاستئصال ناسبه العبارة: (بوكيل) لأنه الذي يدفع ويمنع الوصول أو الاستئصال، فجاء كل على ما يجب، ولم ين ليلائم ختام هذه الآية ختام تلك ولا ختام تلك ما ختمت به هذه وأما قوله: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) (الإسراء: 75) فالمراد

الآية الرابعة

تضعيف عذاب الآخرة وعذاب القبر، والتضعيف التكثير، فختم هذه الآية بقوله: (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) (الإسراء: 75) أبين شيء، لأن الامتحان عندنا في الشاهد، وإذاقه العذاب إنما تكون من ذي استعلاء وقهر، فيلجأ فيه إلى الناصر إن وجد. وأما قوله في الآية بعد هذا: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) (الإسراء: 86)، أي لنرفعن القرآن ونذهبه من الصدور ثم لا تجد وكيلاً يمنعنا عن ذلك، ولا من يقوم بدفعنا عنه، وليس هنا ما يستدعي الانتصار. (فكل) من هاتين الآيتين على ما يجب ويناسب، ولا يلائم ختام هذه الآية ختام ما قبلها، ولا ما ختمت به الآية قبلها، وذلك بحول الله تعالى. الآية الرابعة: غ - قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا) (الإسراء: 94)، وفي سورة الكهف: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (الكهف: 55)، فورد في الثانية: (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) ولم يرد في الأولى، فيسأل عن ذلك؟ والجواب، والله أعلم: أن الآية الأولى تقدمها قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) (الإسراء: 89)، فقوله تعالى مخبراً عن عتاة قريش: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) (الإسراء: 90) إلى الثامنة من مقتراحاتهم، وهي تمنيهم تنزل كتاب يقرؤونه، فبالغوا في شنيع اقتراحاتهم، وتوغلوا في مطالبهم المفصحة باليأس (من) فلاحهم، فحصل من جملة حالهم بعدهم عن الإنابة إلى الإيمان، فلم يكن ذكر الاستغفار ليناسب هنا، لأنه إنما يكون مما (لا) يبلغ الكفر من المعاصي، هذا الغالب في وروده، أما حيث يفصح بالكفر فليس موضع ورود الاستغفار، ولما كان المتقدم قبل آية الكهف لا يبلغ مبلغ الآية المتقدمة في الإفصاح بتمردهم وعتوهم ناسبه ذكر الاستغفار، ألا ترى أن قوله تعالى قبل آية الكهف: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (الكهف: 54)، وليس قوله فيها: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) في قوله في آية الإسراء: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) (الإسراء: 89)، لأن الجدال لا يلزم منه أن يكون مرتكبه كافراً، وإنما مظنة الجدال التناظر في الطرفين والاحتجاج بمتقابل المذهبين إلى ما يرجع إلى هذا، وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)، والمراد بذلك ملاطفتهم في الاحتجاج عليهم والصبر والتحمل لما عسى أن يكون منهم.

الآية الخامسة

فلما كان الوارد في آية الكهف من وصف حالهم لا يبلغ مبلغ الوارد في آية الإسراء ورد فيه ذكر الاستغفار موازنه للين ما بني عليه من الإخبار بكثرة جدالهم، إذ ليس كالوارد في الآية الأخرى من الإفصاح بكفرهم وسوء حالتهم، ولم يناسب آية سورة الإسراء أن يرد فيها ذكر الاستغفار، وإن كان حال المحكي عنهم في الآيتين غير مفارق للكفر ولا نازح عنه حال الإخبار، وقد تقدم هذا في أول آية من هذه السورة، ولكن تناسب النظم في الشدة واللين مراعى معتمد، فجاء كل على ما يجب، (والله سبحانه أعلم بما أراد). الآية الخامسة: غ - قوله تعالى: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا) (الإسراء: 98)، وفي سورة الكهف: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) (الكهف: 106)، ففي هذه الآية (جهنم) ولم ترد في الأولى مع وحدة المعنى، فيسأل عن ذلك؟ والجواب، والله أعلم: أن قوله في الأولى: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ) إلى ما اتصل به من قوله: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) (الإسراء: 97)، ثم قال (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ). الإشارة إلى ضروب عقابهم ومأواهم، واسم الإشارة متصل بما أشير بع إليه، لم يفصل بينهما إلا بوصف جهنم التي هي مأواهم، فجاء على ما يجب. أما قوله في الثانية: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ) فالإشارة إلأى جهنم المتقدم ذكرها في قوله (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ) (الكهف: 100) وقوله (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ) (الكهف: 102)، لما بعد ما بين اسم الإشارة والمشار إليه بما فصل به بينهما من قوله: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) (الكهف: 103) وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ .... ) (الكهف: 105) الآيتين، فلبعد اسم الإشارة عما أشير به إليه أعيد مظهراً فقيل: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ)، وجاء كل على كا جيب، والله أعلم. ****

سورة الكهف

سورة الكهف الآية الأولى منها قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) (الكهف: 22) يسأل عن اختصاص الثمانية بالواو؟ ولِمَ لم ترد الجملة من قوله تعالى: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) صفة للنكرة قبلها كما تقدم فيما قبل؟ ولم عدل (إلى) العطف؟ وأظهر جواب عن هذا - والله أعلم - أن هذا الإخبار العليّ معرف باختلاف اليهود في فتيو الكهف، وإنهم أو أكثرهم لم يتحققوا عددهم، فحكى سبحانه قولهم، وانجر بإيماء وإشارة تقرير الصحيح من قولهم، مع أنهم أعني أكثر يهود غير عالمين بذلك ولا مرجحين، فأتى بالجملة الأولى وهي قوله: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ) أعني المحكية بعد القول، إذ التقدير: هم ثلاثة، ثم سيقت الجملة من قوله: (رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) صفة للثلاثة، والجملة تقع صفة للنكرة وحالاً من المعرفة، ثم قال: (وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ)، فسادسهم صفة للنكرة كالمتقدمة، ثم أتبع هذا الكلام من اختلافهم بقوله: (رَجْمًا بِالْغَيْبِ) فأفهم - والله أعلم - أن هذا ليس من نمط ما تقدم، فكأن (قد) قيل: ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم وأن هذا ليس داخلاً تحت ما تقدم من أنه رجم بالغيب وأن الوصف بتلك الحال إنما يرجع لما قبله من قولهم: ثلاثة رابعهم كلبهم وخمسة سادسهم كلبهم كلام ابن عباس، رضي الله عنه، ومن تبعه من المفسرين. قلت حكى سيبويه أن العرب ستعمل الحذف كثيراً في كلامهم، ومنه قولهم فيما حكى سيبويه، رحمه الله، (اللهم ضبعاً وذيباً)، وإذا كان القائل يدعو بذلك على غنم رجل قال: وإذا سألتهم ما يعنون؟ قالوا: اللهم اجمع فيها ضبعاً وذيباً، وحكى عن أبي الخطاب أنه سمع بعض العرب وقيل له: لم أفسدتم مكانكم فقال: الصبيان بأبي، كأنه

الآية الثانية

ذحذر أن يلام فقال: لم الصبيان. وقيل لبعض العرب: أما بمكان كذا وكذا وجذ فقال بلى وحاذا (أي فاعرف بها وجاذا)، وهو المكان الممسك للماء، ويحذفون الجملة الاسمية برأسها إذا دل الدليل عليها كما يفعلون في الجملة الفعلية، قال تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) (الطلاق: 4) أي فعدتهن ثلاثة أشهر، والحذف في كلامهم كثير إذا كان في الكلام ما يدل على المحذوف، فظهر لي هنا (والله أعلم) أن الواو في قوله: (وَثَامِنُهُمْ) إنما عطف بها على جملة اسمية محذوفة كما قدمنا، ومن المفسرين من جعل هذه الواو داخلة على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل (على الواقعة) حالاً عن المعرفة في نحو جاءني زيد ومعه أخوه، ومررت بزيد وفي يده سيف، ومنه قوله عز وجل: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ) (الحجر: 4)، وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو وهي التي آذنت بأن الذين قالوا: (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) قالوا عن ثبات علم وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن كما فعل غيرهم، والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع القولين الأولين بقوله: (رَجْمًا بِالْغَيْبِ)، وأتبع القول الثالث بقوله: (مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) (الكهف: 22) وقال ابن عباس، رضي الله عنه: (حين وقعت الواو انقطعت العدة) أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها، وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثابت، وقيل: (إِلَّا قَلِيلٌ) أي من أهل الكتاب، والضمير في (سيقولون) على هذا لأهل الكتاب خاصة، أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا، ولا علم لهم بذلك (إلا) في قليل منهم، وأكثرهم على ظن وتخمين. انتهى ما قاله الزمخشري وحكاه، وقد حصل منه أن قليلاً من أهل الكتاب قد كان يعلم عددهم وهذا لا ينافره المأخذ المتقدم. وحكى المفسرون أن ابن عباس، رضي الله عنه، كان يقول في قوله: (مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) أنا من ذلك القليل، وهذا القدر كاف، والله أعلم. الآية الثانية من سورة الكهف قوله تعالى في قصة صاحب الجنة: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) (الكهف: 36)، وفي سورة حم السجدة: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) (فصلت: 50)، للسائل أن يسأل عن اختصاص آية الكهف بقوله: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ) واختصاص آية السجدة بقوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ) (مع) أن الظاهر اتحاد المقصود في الآيتين؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم، أن الآيتين وإن اتحدتا في الغاية الحاصل منها

وصف حال الكافر المنكر للبعث الوارد في كل واحدة منهما في قوله: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) (الكهف: 36، فصلت: 50)، إن آية الكهف منهما أقوى تعريفاً ببعد الكافر المضروب به المثل عن حال الإيمان. وأما آية السجدة فصالحة لاتصاف الكافر والمؤمن بحال المفتتحة بها من قوله: (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ) (فصلت: 49)، من حيث إن هذا الوصف وصف يعم المؤمن والكافر، ولهذا قال ابن عطية بعد أن ذر أن المراد بها الوليد بن المغيرة أو عتبة بن ربيعة: فإن أكثرها يعطي أن الآية نزلت في كفار، ثم قال: وإن تضمن أولها خلقاً ربما يشارك فيه بعض المؤمنين، فحصل من كلامه أن هذا التعريف بحال المضروب به المثل في هذه الآية أرجأ من حال المضروب به المثل في آية الكهف، ألا ترى أن آية الكهف لا يكاد شيء من كلمها يجري في وصف المؤمنين، ألا ترى ابتداء مطلع وصف المذكور فيها مخبراً عنه بقوله: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) (الكهف: 35)، وبقوله: (مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) (الكهف: 35 - 36)، ثم حكم لنفسه بعد إنكاره العبث باستحقاق ما عجل له من جعل الجنتين كما وصفتا، فقال: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) (الكهف: 36)، فتأمل ما بين هذه الكلم الواردة في وصف هذا الكافر والوادة في قوله في آية سورة السجدة (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ) (فصلت: 49)، أي من أن يدعو بالخير لنفسه ويستزيد منه، وهذه صفة توجد في المؤمنين، وبها افتتح الوصف المضروب به المثل في هذه الآية، ثم قال بعدما ذكر من كلامه: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) (فصلت: 50)، فقوله: (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) ليس في موازنة قول الآخر في آية الكهف: (لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) (الكهف: 36) وإن خفي ما بينهما. فلما افترقت الآيتان فيما ذكر، ناسب آية الكهف قوله: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ)، لما يشعر لفظ رددت ويحتمله من القهر والتعنيف وقوعاً أكثرياً لا بالوضع، بخلاف لفظ رجع إذا قلت منه: رجعته أو رجع فإنه لا يحتمل ولا يفهم من معنى القهر والتعنيف ما يحتمله ردّ، ألا ترى وروده في مثل قوله: (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا) (الكهف: 87)، وقوله: (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) (التوبة: 94)، وقوله بعد: (وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) (التوبة: 105)، وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم في الشيطان حين تعرض (له) في صلاته، قال صلى الله عليه وسلم: (فرده الله خاسئاً)، ففي كثرة ورود هذا حيث يراد هذا المعنى أدل دليل على ما أشير إليه. أما رجع وما تصرف منه فقل ما يرد لهذا، وإن ورد فليس ككثرة رد. فأما قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)

الآية الثالثة

(البقرة: 281)، فهذا عام للمؤمن والكافر وإن كان أظهر في المؤمن، فلا معنى تعنيف فيه، فوضح التناسب في الآيتين. الآية الثالثة من سورة الكهف قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا) (الكهف: 57)، وفي سورة سجدة لقمان: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا) (السجدة: 22)، للسائل أن يسأل عن ورود آية الكهف بفاء التعقيب وآية السجدة بثم المقتضية المهلة؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن سورة الكهف مكية، والخطاب فيها من أولها إلى الآية المتكلم فيها لم يخرج إلى غير العرب، أعني أنه لم يتعرض فيها إلى إخبار بحال غيرهم، إلا ما عرفوه من قصة أهل الكهف وخبرهم، وهو من سؤالات قريش بتنبيه يهود إياهم حسبما وقع في الحديث، فقوله في الآية المذكورة: (بِآيَاتِ رَبِّهِ)، والمراد بالآيات القرآن ودلائله الواضحة، وإن كان اللفظ مقتضياً كل ما يسمى آية إلا أن آية القرآن أعمد ما قصد هنا، ويشهد لذلك قوله عز وجل: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) (الكهف: 57)، وما تقدم الآية من قوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) (الكهف: 54) الآية من قوله: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى) (الكهف: 55)، والمراد به القرآن، قال تعالى: (هَذَا هُدًى) (الجاثية: 11)، والحجة قائمة عليهم عقب سماعهم وتدبرهم، فورد بالفاء المقتضية التعقيب على ما يجب. وأما آية السجدة، وإن كانت السورة مكية أيضاً، فإن الآية عامة في حق العرب وغيرهم، والإخبار فيها إنما هو عن جميع من شاهد آية بينة وكذب، ودليل هذا ما تقدمة مما هو على إطلاقه في العرب وغيرهم من قوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) (السجدة: 18)، هذا عام في المكلفين، ثم فصل حالهم فيما بعد، ثم قال معلماً بحال الجميع على ما تورده العرب عند التعجب، ليباعد بين الأحوال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا) (السجدة: 22)، فالمراد بهذه الآيات كل ما قامت به الدلالة ووضح منه الشاهد، كناقة صالح، عليه السلام، وانفلاق صخرة عنها، وانقلاب العصا حية، وغير ذلك من آيات موسى، عليه السلام، وبينات عيسى، عليه السلام، كإبراء الأكمة والأبرص، وإحياء الموتى، وانشقاق القمر لنبينا صلى الله عليه وسلم، ونبع الماء من (بين الأصابع)، وتكليم الجمادات، ونطق الحيوان إليه، وانقلاب الأعيان، وتكثير الطعام القليل، إلى آيات الكتاب العزيز المتلوة قرآناً، إلى ما لا يحصى

من آيات الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فلما انطوت (الآيات) في قوله: (بِآيَاتِ رَبِّهِ) من التعميم بحسب الشاهد مما اقترن بها على ما لا يتوقف فيه ذو عقل إلا أن يمنعه مانع من ذلك، عظم مرتكب المعرض فعطف بثم، قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا) (السجدة: 22) استبعاداً للتوقف عن الإيمان والتصديق عند مشاهدة ما لاغبار عليه من الدلائل، ولا إشكال فيه. قال الزمخشري: (ثم) في قوله: (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا) للاستعباد قال: والمعنى أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز العظيم بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل، كما تقول لصاحبك وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها استبعاداً لتركه الانتهاز، وقال: ومنه (ثم) في بيت الحماسة: لا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها قال استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها. انتهى نص كلامه إلا في لفظة أسقطها لجريها فيما لا يكاد ينفك عنه في إحراز مذهبه الخبيث، فتركها وإجحاضها لا يخل بشيء من المعنى، قلت والمراد أن ما ذكرنا من الاستبعاد والاستعظام الذي تقتضيه ثم هنا قائم مقام المهلة، فلتكاثر الآيات وتنويعها مستوضحة عظمت جريمة المتوقف عنها، فأشارت ثم لذلك، فافترق القصدان، وجاء كل على ما يناسب، والله أعلم. وجواب ثان، وهو أنه لما ذكر في آية الكهف إرسال الرسل، عليهم السلام، في قوله تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) (الكهف: 56)، فذكر إرسالهم وتكذيب قومهم إياهم، وإنما وقع تكذيب المكذبين عند دعاء الرسل إياهم معقباً به دعاءهم، فجرى مع هذا وناسبه قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا) (الكهف: 57)، لأنهم إنما أعرضوا عقب دعاء الرسل إياهم وعند جدالهم المذكور في قوله: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) (الكهف: 56)، إنما ارتكبوا الجدال جواباً للرسل ليدحضوا الحق بباطلهم، فالتعقيب هنا بين، فورد بالفاء. وأما آية السجدة فلم يقع فيها ذكر إرسال الرسل، ولا جرى في الآية (ذكر تكذيب) ولا دعاء وإن كانت آيها عامة في العرب، وإنما ورد فيها انقسام المكلفين بحسب السوابق في إشارة قوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) (السجدة: 18)، ثم

الآية الرابعة

ذكر تعالى مآل الفريقين، وأن الفاسقين مأواهم النار، وأن حالهم فيها كما ذكر تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا) (السجدة: 20)، ولا شك أن استحقاق جزائهم بذلك إنما هو تماديهم على الكفر مدى حياتهم إلى الوفاة، ولم يقع هنا إشارة إلى مباشرتهم الرسل بالتكذيب، فلما لم يكن في الكلام ذكر مباشرة الرسل والمواجهة بالتكذيب، فلما لم يكن في الكلام ذكر مباشرة الرسل والمواجهة بالتكذيب صار إعراضهم وتكذيبهم كأنه إنما علم وتحصل بذكر الجزاء، وإن كان المؤمنون قد علموا ذلك بالخبر الصادق، وأما بتأخر العلم به (للمكذب) حتى يباشر الجزاء، والجزاء متأخر، فناسب ذلك العطف بثم المقتضية للمهلة، فقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا) (السجدة: 22) فورد كل على ما يناسب، والله أعلم. الآية الرابعة من سورة الكهف قوله تعالى مخبراً عن قول موسى للخضر، عليهما السلام، حين خرق السفينة: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) (الكهف: 71)، وقوله له عند قتل الغلام: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا) (الكهف: 74)، للسائل أن يسأل عن الفرق بين الموضعين الموجب لوصف كل من هذين الفعلين بما وصف به؟ والجواب، والله أعلم: أن خرق السفينة لم يبلغ بحيث يتلفها، وإنما قصد به الخضر عيبها ليزهد فيها مريد غصبها بدليل قوله بعد: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) (الكهف: 79)، فإنما أراد إبقاءها على مالكها ودفع هذا الغاصب إذا رأى ما بها من العيب المانع من الرغبة فيها، وهذا لا يبلغ ظاهره مبلغ ظاهر قتل الغلام بغير سبب ظاهر فوصف بإمر في قوله: (شَيْئًا إِمْرًا)، وهو دون النكر. وأما البادي الظاهر من قتل الغلال عند من يغيب عنه ما علمه من الخضر فشيء نكر، ومرتكب عند من لحظه بظاهره وغاب عنه ما في طيه شنيع ووزر، فوقع التعبير في الموضعين بما يناسب كلا الفلعلين، وعن قتادة رحمه الله: ((النكر أشد من الإمر)) فجاء كل على ما يلائم، ولم يكن ليحسن مجيء أحد الوصفين في اموضع الآخر، والله أعلم .. الآية الخامسة من سورة الكهف قوله تعالى في حكاية قول الخضر لموسى، عليهما السلام: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)} [الكهف: 72]، ثم قوله بعد ذلك في قصة قتل الغلام: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} للسائل أن يسأل عن الفرق الموجب لزيادة "لك" في هذا القول الثاني؟. والجواب: أن الخضر قد كان قال ملوسى حين قال له موسى، عليه السلام: (هَلْ

الآية السادسة

أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) (الكهف: 6 - 67) فلما كان من موسى عند خرق السفينة ما كان من الإنكار بقوله: (خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) (الكهف: 71)، ذكره الخضر بما كان قد قاله له، من غير أن يزيده على إيراد ما كان قد قاله، فقال: (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) (الكهف: 72). فاعتذر موسى، عليه السلام، بقوله: (لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا) (الكهف: 73)، فلما وقع منه بعد ذلك إنكار قتل الغلام بقوله: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) (الكهف: 74)، وأبلغ في وصف الفعلة بقوله: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا) (الكهف: 74)، قابل الخضر ذلك بتأكيد الكلام المتقدم، فقال: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ)، فالضمير المجرورة بيان جيء به تأكيداً، ليقابل بالكلام ما وقع جواباً له من قوله موسى، عليه السلام، زيادة للتناسسب، وتعلق المجرور الواقع بياناً مختلف فيه، فمنهم من يعلقه بفعل مضمر، ومنهم من يجري حرف الجر الذي فيه كحرف الجر الزائد فلا يعلقه بشيء، وقوله: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) على هذا لامأذخ معمولاً للقول من قوله: (أَلَمْ أَقُلْ). ويمكن عندي فيه وجه آخر، وهو أن يكون قوله: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ) كلاماً مستقلاً، محذوفاً منه معمول القول، وكأنه في تقدير: ألم أقل لك ما قلت، ثم استأنف المقالة فقال: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) على هذا ليس معمولاً للقول من قوله: (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ)، إنما معمول (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ)، محذوف مقدر، كما حذف معمول القول من قوله تعالى: (قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا) (يونس: 77) ومعمول القول محذوف تقديره: أتقولون للحق لما جاءكم سحر مبين، ثم قال لهم تقريعاً وتوبيخاً: (أَسِحْرٌ هَذَا) فسحر مبين المقد معمول للقول، وهو من قولهم، وقوله: (أَسِحْرٌ هَذَا) من قول موسى، عليه السلام، توبيخاً لهم كما ذكرنا. فكذا حذف من قوله: (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ)، كما تقدم، والله أعلم. الآية السادسة من سورة الكهف، قوله تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) (الكهف: 97)، للسائل أن يسأل عن الفرق الموجب لمجيء استطاعوا بالتاء دون الآول؟ والجواب أنه يقال: أستطاع واستاع واسطاع، والأول الأصل، ثم يحذفون أحد الحرفين تخفيفاً، فجيء أولاً بالفعل مخففاً عند إرادة نفي قدرتهم على الظهور على السدّ والصعود فوقه، ثم جيء بأصل الفعل مستوفى الحروف عند نفي قدرتهم على نقبه

الآية السابعة

وخرقه، ولا شك أن الظهور أيسر من النقب، والنقب أشد عليهم وأثقل، فجيء بالفعل مخففاً مع الأخف، وجيء به تاماً مستوفى مع الأثقل، فتناسب، ولو قدر بالعكس لما تناسب. وأيضاً فإن الثاني في محل التأكيد لنفي قدرتهم على الاستيلاء على السد وتمكنهم منه، فناسب ذلك الإطالة، وهذا يفتقر إلى بسط وبيان، مع أن الأول أولى، فلنكتف بهذا، والله سبحانه أعلم بما أراد. الآية السابعة: غ - قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (الكهف: 110) وفي سورة الآنبياء: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (الأنبياء: 108)، فلم يقع في هذه الثانية لفظ (أَنَا بَشَرٌ) وورد في الأولى، فللسائل أن يسأل عن ذلك؟ والجواب عن ذلك: أنه لما تقدم في أول سورة الأنبياء إثبات كون الرسل، عليهم السلام، من البشر، فيما حكاه تعالى من قول الكفار بعضهم لبعض: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الأنبياء: 3)، ثم قال تعالى راداً لقولهم، مثبتاً كون الرسل من البشر: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) (الأنبياء: 7)، ثم تتابع في السورة ذكر الرسل من البشر) في عدة مواضع إفصاحاً وإشارة آخرها قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107) والخطاب لنبينا، عليه السلام، قال تعالى بعد ذلك: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (الأنبياء: 108، فلم يحتج هنا أن يذكر كونه، عليه السلام، من البشر، إذ قد توالى ذكر ذلك جملة وتفصيلا. أما سورة الكهف فلم يتقدم فيها مثل هذا، فكان مظنة الإعلام بكونه صلى الله عليه وسلم من البشر إرغاماً لأعدائه، ولما في ذلك من تلطفه تعالى بالحق ورحمته إياهم، قال تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (الأنعام: 9)، وقال تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (الأنعام: 8)، فكون الرسل من البشر من أعظم إنعامه سبحانه على الخلق، وخصت آية الكهف بذكر بشريته، عليه السلام، لما بيناه، وورد كل ذلك على ما يناسب، ولم يكن عكس الوارد ليناسب، والله أعلم بما أراد. ***

سورة مريم (عليها السلام)

سورة مريم (عليها السلام) الآية الأولى منها: غ - قوله تعالى في قصة يحيى بن زكريا، عليهما السلام،: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) (مريم: 14)، وفي قصة عيسى، عليه السلام، (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (مريم: 32)، فاختلف الوصفان في الآيتين مع اتحاد مرماهما في السابق من ظاهرهما، فيسأل عن ذلك؟ والجواب عنه - والله أعلم - أن الله سبحانه وصف يحيى، عليه السلام، بعظم التقوى في قوله تعالى: (وَكَانَ تَقِيًّا) (مريم: 13)، وتقي فعيل من التقوى، وهو من أبنية المبالغة، فيفهم الوفاء بوجوه التقوى حتى لا يكون من الموصوف به معصية ولا تقصير، فقوله بعد: (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) (مريم: 14)، المراد - والله أعلم - نفي للمعاصي جملة، وهو المراد بقوله في الموضع الآخر (وَسَيِّدًا وَحَصُورًا) (آل عمران: 39)، أي ممنوعاً من المعاصي، والحصر الحبس والمنع، قال مكي، رحمة الله: حصر عن الذنوب فلم يأتها. وما قاله المفسرون من أن المراد هنا منعه من النساء بأي وجه قالوه فلا يصح، والله أعلم، لأن عدم القدرة على النساء نقص، والأنبياء منزهون عن النقص، فكيف يصح ورود هذا الوصف في معرض المدحة، وهو في نفسه نقص، والقوى في ذلك كمال ودحه، فالمراد هنا بالحصور الممنوع عن المعاصي، وقد روى (عمرو) بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا يحيى بن زكرياء)، ثم نوسب بين هذا الوصف وما تقدمه من قوله: (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)، فورد بلفظ المبالغة مثله، والمراد نفي المعاصي عنه، عليه السلام، (جملة، والتناسب في هذا كله واضح). وأما وقله في قصة عيسى، عليه السلام (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (مريم: 32) فملحوظ في ذلك ما جرى لأتباعه، عليه السلام، وما وقعوا (فيه) من العظيمة حين قالوا: هو ابن الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراًن فاستحقوا الوصف بالشقاء بمقالهم، والشقي مستحق لاعذاب الأخراوي. وإلى السعادة والشقاء انقسام العالم في الآخرة، قال تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (هود: 105)، فهما طرفا حصر العالم في الآخرة وهذا كقوله:

الآية الثانية

(فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) (التغابن: 2)، فلما لحظ في قصة عيسى، عليه السلام، عصمته من الرضا بما وقع فيه أتباعه ناسب ذلك نفي صفة الضالين، ممن توهم أنه ممن اتبعه، لتبرأ، عليه السلام، من حالهم كما يتبرأ حين يقول في الآخرة: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ) (المائدة: 117)، فقد وضح ورود كل من الوصفين على أجل النظم وأتم المناسبة، وإن عكس الوارد لا يمكن، والله أعلم. الآية الثانية قوله تعالى: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (مريم: 37)، وفي سورة الزخرف: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (الزخرف: 65)، للسائل أن يسأل عن قوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وقوله في الأخرى: (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) وما وجه تخصيص كل آية منهما بما ورج فيها وعن قوله في الأولى: (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وفي الثانية: (مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)؟ فهذان سؤالان. والجواب عن الأول منها: أن الكفر بالله سبحانه أعظم من كل خطيئة، والذي لا ينفع معه شيء من أعمال البر، فهو أعظم من الظلم، ثم قد يوصف الكافر بالظلم إشارة إلى الصفة اللازمة له من ظلمه نفسه بكفره وشنيع مرتكبه، فيشعر إذ ذاك هذا الوصف إذا ورد تابعاً للكفر ولفظ الكفر منطوق به أو مفهوم من سياق الكلام بزيادة توجب زيادة التنكيل، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) (النساء: 168)، فقوله في آية سورة مريم: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (مريم: 37) معقب بها قوله تعالى: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (مريم: 34 - 36)، ثم قال: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (مريم: 37)، والمراد اختلافهم في نبي الله عيسى، عليه السلام، حيث قال بعضهم: هو الله، وبعضهم يقول: ابن الله، وبعضهم: ثالث ثلاثه، فهذا اختلافهم، وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، فومهم بالكفر الذي هو ضابط أقوالهم وأم مرتكباتهم، وأخبر باستحقاق الويل لهم لكفرهم من شهود ذلك اليوم الفاضح لهم على رؤوس الأشهاد، وفيه قال تعالى: (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (هود: 103)، وفيه يقول الأشهاد: (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود: 18)، ثم ذكرهم في آية الزخرف بصفتهم من الظلم اللازم لكفرهم، وليناسب بذلك ما تقدم من وهم من أعتمد غير الله سبحانه، فقرن بمعتمده في العذاب

الآية الثالثة

وهو المقول فيه: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف: 36)، فقيل فيه وفي متخذه: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) (الزخرف: 39)، والظلم هنا ظلم الكفر من عبد عيسى، عليه السلام، من الأحزاب المذكور اختلافهم في خاصته دون متخذه بحال هؤلاء، فوسموا بالظلم كوسن من تقدم فقيل: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا)، وظلم هؤلاء كفر كحال من تقدم، فتناسب هذا، ولم يقع في آية سورة مريم ما يطلب بمناسبة، فوصفوا هناك بالكفر بخلاف آية الزخرف، فجاء كل على ما يجب، ثم قال (مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (الزخرف: 65)، فذكر العذاب المعقب به ذلك اليوم المشهود، ووصف اليوم بالإيلام وإن كان المؤلم إنما هو العذاب مبالغة في شدة الإيلام من عذاب ذلك اليوم، كما قالوا: نهارك صائم وليلك قائم، وهذا العذاب ثان عن قيامهم في ذلك المشهود وسوء حالهم فيه، وجاء ذلك على الترتيب الذي استقر عليه الكتاب العزيز، فذكر في المتقدم من الآيتين المتقدم وجوداً من حالهم الأخراوي، وفي الآية الثانية ترتيب ما هو ثان عن ذلك، وجاء كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم. الآية الثالثة: غ - قوله تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) (مريم: 39)، وفي سورة المؤمن: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) (غافر: 18)، والمراد في الآيتين تذكريهم بالقيامة وأهوالها، ثم اختلفت العبارة في الكناية، ففي سورة مريم: (يَوْمَ الْحَسْرَةِ)، وفي سورة المؤمن: (يَوْمَ الْآزِفَةِ)، فللسائل أن يسأل عن ذلك؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن اليوم المشار إليه يشتمل على موقف ومواطن مهولة وأحوال مختلفة، وبحسب ذلك تختلف العبارة والأخبار لاختلاف المقاصد والمواطن، ألا ترى قوله تعالى (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) (المؤمنون: 101)، وقوله تعالى: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) (الصافات: 27)، وقوله تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات: 24)، وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) (الرحمن: 39)، ولا شك في أن هذا في مواططن مختلفة، وبحسب ذلك اختلفت الكناية كما أضيف إليه اليوم هنا، فيوم الحسرة عبارة عن الوقت الذي يحصل فيه العلم اليقين لأهل النار بتأييد خلودهم واستمرار عذابهم إلى غير نهاية، ويتأكد لأهل الجنة علمهم بذلك، فلا أشد فرحاً من أهل الجنة يومئذ، ولا أشد حسرة من أهل النار، وفي هذا ورد الخبر الصحيح من أنه إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ينادي يا

الآية الرابعة

أهل الجنة فيشرئبون، وينادي يا أهل النار كذلك، ويؤتى بالموت فيقال لهذا هل تعرفونه فيقولون نعم ... الحديث، إلى قوله فيه: يا أهل الجنة خلود لا موت، ويا أهل الناء خلود لا موت، فإذا ذلك تعظم حسرتهم ويشتد كربهم، ونص الحديث على ما رُويناه في صحيح مسلم عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، زاد أبو كريب فيوقف بين الجنة والنار، واتفقنا في سياقي الحديث فقيل: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (مريم: 39)، وأشار إلى الدنيا. قلت وهذا الحديث من مشكلات الأحاديث، وله وجه من التأويل يرفع إشكاله، وقد تفسرت مظنة الحسرة في قوله تعالى: (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) والمراد به استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار كما ورد في الخبر، وحق لمن تقدم ذكره قبل هذه الآية ممن وقع في العظيمة من أمر عيسى، عليه السلام، حين قالوا: ابن الله مع إقرارهم بالبعث الأخراوي والجزاء، فحق لهم أن يذكروا تحذيراً وتخويفاً بمثل هذا، ولم يتقدم الآية ذكر غيرهم، فهذا أوض تناسب. وأما آية سورة المؤمن فقد ورد قبلها قوله تعالى خطاباً للمؤمنين: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (غافر: 14)، ثم تابع الكلام معه إلى الآية من قوله: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) (غافر: 18)، فخوفوا بإسراع أمر الساعة وتعجيل وقوعها كما قال سبحانه (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (الأنبياء: 1)، أزف الشيء أسرع ومنه قوله تعالى: (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) (النجم: 57 - 58)، وتأمل ما اتصل بقوله: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) (غافر: 18)، وقوله: (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ) (غافر: 18)، فقد تناسب هذا ووضح، أما ما ورد في الآيتين فهو على أتم مناسبة، وإن عكس (الوارد) على ما يبنا لا يلائم، والله أعلم. الآية الرابعة: غ - قوله تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا) (مريم: 52 - 53)، وفي سورة الفرقان: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا) (الفرقان: 35)، ومقصود الآيتين تأييد موسى،

عليه السلام، بأخيه هارون، ثم اختلف الوصف بالنبوة والوزارة مع اتحاد المقصود، للسائل أن يسأل عن ذلك؟ والجواب عنه، والله أعلم: محصل طي تمهيد وهو أن السور المتردد فيها ذكر الرسل، عليهم السلام، منوطاً فيها ذكرهم بذكر أممهم، وما كان من معاندة الأمم وتكذيبهم، وأخذ المكذبين بمرتكباتهم، ولا تكاد تجد سورة منها وارد فيها ذكرهم إلا على ما ذكرنا، وأكثر تلك السور استيفاء لهذا الغرض سور ثلاث، وهي: سورة الأعراف، وسورة هود، وسورة الشعراء، ثم يليها في ذلك سورة قد أفلح، وقل ما تجد سورة ورد فيها قصة منها واحدة فصاعداً إلا جارية على ما ذكرته، وربما أجمل ذلك في بعضها مع تحصيل ما ذكرنا من أخذ الأمم بعد تكذيبهم، وآخر سورة ذكرت فيها قصصهم معتمداً فيها ما اطرد من أخذ كل أمة يتكذيبها، وآخر سورة ذكرت فيها قصصهم معتمداً فيها ما اطرد من أخذ كل أمة بتكذيبها، وبيان ما به أهلكت من الغرق والريح والصيحة والحاصب وعنيف الأخذ بالعزة والاقتدار سورة القمر مع إيجاز القصص، ولم يرد في غير هذه السورة الوفاء بما ذكرنا، وإنما خصت هذه السورة ببيان كيفية أخذ المكذبين كما بينته في كتاب البرهان، ثم إن سورة مريم تضمنت طائفة عظيمة فصل ذكر بعضهم وأجمل ذكر البعض، وقد تجرد فيها من الإخبار بأحوالهم ذكر التعريف بخصائص من منحهم وعلى أقدارهم، وما أيدوا به من ذلك، من غير أن يشوب هذا ذكر شيء من تكذيب من كذب منهم، إلا ما ورد في ذكر إبراهيم عليه السلام، من قول أبيه له: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ .... ) (مريم: 46)، ولم يذكر من حال قومه، عليه السلام، شيء، ولا ذكر فيما بعد ولا فيما تقدم من هذه السورة (إلا خصائصهم ومنحهم العلية التي بها امتازوا عمن سواهم من صالحي الأمم) كما تقيدت به مما ذكرنا. ثم إن النبوة أعظم خصائصهم التي تساووا في تحمل أمانتها، وأفردوا، عليهم الصلاة والسلام، (بها)، ولم يشاركهم فيها غيرهم، أما اسم الوزارة والوصف بها فليس مما يخصهم ولا مما أفردوا به، فلم يكن وصف هارون، عليه السلام، هنا (بها) ليناسب هذا القصد العلي ولا ليلائمه. وأما قوله تعالى في سورة الفرقان: (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا) (الفرقان: 35) فمرتب على سؤال موسى عليه السلام في سورة طه في قوله: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ) (طه: 29 - 30)، فأعطى عليه السلام مطلبه. قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا)، ورد هذا على الترتيب المتقرر في المصحف. ثم إن ما اتصل بهذه الآية وآية سورة مريم مما قبلهما وبعدهما يستدعي

الآية الخامسة

التناسب في مقاطع الآي وفواصلها، فلم يكن ورود الآيتين في السورتين على غير ما ورد ليناسب، فجاء ذلك على ما يجب من الوجهين المذكورين، والله أعلم بما أراد. الآية الخامسة من سورة مريم، عليها السلام، قوله تعالى: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) (مريم: 59 - 60)، وفي سورة الفرقان: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (الفرقان: 68 - 70)، للسائل أن يسأل عن قوله في الأولى: (وَعَمِلَ صَالِحًا) وفي الثانية (وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا)؟ وعن قوله في الأولى في جزائهم (فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) (وفي الجزاء في الثانية: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)؟ والجواب: أن الآية الأولى ورد قبلها بعد ذكر المنعم عليهم ومن اهتدى بهديهم قوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم: 59)، وهذا قول موجز مجمل، فناسبه الإيجاز في قوله (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا .... ) الآية، فتناسبا في التقابل الإيجازي كما تناسبا أيضاً في الفواصل ومقاطع الآي، وذلك قوله تعالى: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) وقوله: (وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا)، والمسهل من القراء يقول: شيا فيقف الياء المشددة. وأما قوله في آية الفرقان: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (الفرقان: 70) فإطناب يناسب التفصيل الواقع قبله في قوله: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ) (الفرقان: 68)، ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ)، يريد ما ذكر المتصف بتقوى الله بتركه والتنزه عن مواقعة شيء منه - (يَلْقَ أَثَامًا) (الفرقان: 68)، ثم فسر ما يلقاه (بقوله): (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أي يكثر عليه ويزداد (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (الفرقان: 69 - 70)، فحصل بإزاء مضاعفة العذاب لفاعل ذلك تبديل السيئات بالحسنات إلى الغفران والرحمة، فإيجاز بإيجاز وإطناب بإطناب مناسبة بين الجواب وما جووب به، وكل على ما يجب، ولا يسوغ العكس على ما تمهد، والله أعلم. ****

سورة طه

سورة طه الآية الأولى منها، وما يتعلق بها، وما يرجع إلى معناها، ويتم به ما يتصل بها، قوله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى * وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) (طه: 9 - 18)، وفي سورة النمل: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا) (النمل: 7 - 8) إلى قوله: (وَأَلْقِ عَصَاكَ) (النمل: 10). وفي سورة القصص: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ) (القصص: 29 - 31)، هذه الآي من مشكلات الضرب (الثاني) الذي بنينا عليه مقصود هذا الكتاب، لأن محصولها الإخبار عن ابتداء أمر موسى، عليه السلام، في رسالته، وتكليم الله سبحانه إياه، وهو خبر واحد عن قصة واحدة قد وقعت وعين وقوعها ما وقعت عليه من الصفة التي التحدت بوقوعها وتبينت، فلا يمكن فيها العدول عما وقعت عليه، فكيف هذا الواقع الوارد في السورتين (امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارً) ولم يقع لفظ امكثوا في سورة النمل؟ وفي السورتين: (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا) وفي النمل: (سَآتِيكُمْ مِنْهَا) فورد: سآتيكم عوض: لعلي؟ وفي طه (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) وفي النمل: (بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)، فقدم ذكر القبس في طه وآخر في السورتين، ثم اختلف التعبير عنه، فعبر عنه في القصص: (جَذْوَةٍ) وعوض في النمل فقيل (بِشِهَابٍ) مضافاً إلى القبس وكرر: (أَوْ آتِيكُمْ) في النمل ولم يقع ذلك في غيرها؟ وأفصح في السورتين الأخيرتين بالحاجة إلى النار وهو الاصطلاء ولم يقع ذلك في طه جملة؟ وعبر عن الخبر في طه بقوله: (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ

هُدًى) ولم يذكر ذلك في السورتين؟ فهذه مواضع اختلفت العبارة (فيها، واختلفت) في الزيادة والنقص، والتقديم والتأخير والتعويض، مع أن الإخبار عن واقعة معينة وقصة متحدة، والخبر الواحد الصدق لا تمكن فيه الزيادة ولا النقص ولا النسخ من حيث هو خبر ولا شيء مما ذكر، (ويرجع) السؤال فيها إلى شيئين: أجدهما وجه الاختلاف؟ والثاني وجه تخصيص كل موضع بما خص (به)؟ فأقول مستعيناً بالله وسائلاً منه سبحانه (توفيقه) وإرشاده أن المعاني المتصورة في الأذهان المعقولة القائمة بنفوس العقلاء لا تحصل تعديتها إلى غير من قامت به إلا بالعبارات المترجمة عنها الألفاظ الاصطلاحية، وربما خوطب العالم بغيرها وما سوى اللفظ من إشارة وغيرها لا يستقل في تحصيل المعنى المترجم عنه استقلالها، وبالجملة فلم يخاطب إلا بها، وإذا تقرر هذا، فمن المعلوم أن اللفظ بالتفات مدلوله المعنوي يتعدد، ومرجع الألفاظ بالنظر إلى مسمياتها ينحصر في أربعة أقسام: إما أن يتحد اللفظ والمعنى، أو يختلف اللفظ والمعنى، أو يتحد اللفظ ويختلف المعنى، أو يختلف اللفظ ويتحد المعنى، ولا يقتضي النظر العقلي زائداً على هذا التقسيم، وعلى مقتضاه دارت اللغات، وتخاطب العقلاء. فالقسم الأول وهو المتحد اللفظ والمعنى هو المتواطئ، وهو دلالة لفظ على معنى، ثم يعرض لذلك المعنى عند التشخص كثرة فيكون ذلك اللفظ يدل على تلك الاشخاص بتواطئ، ومثاله: وجل وفرس وأسد، ومنه دلالة اسن النوع كالإنسان على أشخاصه، وكذلك دلالة الجنس على أنواعه كالحيوان على الإنسان والفرس والطائر. والقسم الثاني هو مختلف اللفظ والمعنى، وهي الأسماء المتباينة، وهي أسماء مختلفة لمعان مختلفة، كل اسم منها يخص معناه الذي وضع له، نحو السواد والبياض والقدرة والعجز. والقسم الثالث ما اتحد فيه اللفظ واختلف المعنى، وهي الأسماء المشتركة نحو عين للعضر الباصر وعين الماء ونحو ذلك، فاللفظ متحد والمعنى مختلف. والقسم الرابع هو ما تعدد لفظه واتحد معناه، وهي المترادفة كالأسد والليث للحيوان المعروف، ثم يعرض للمشترك، وهو المتحد اللفظ مع اختلاف المعنى، تفاوت في قوة دلالته على ما تحته، وأعني بالتفاوت استقلال المعنى بنفسه غير مفتقر إلى الغير، وعدم استقلاله، (فينقسم) بحسب هذا إلأى متواطئ ومشكك كوقوع اسم موجود عليهما تفاوت بين، فهو في وقوعه على الجوهر (من) قسم المتواطئ، ووقوعه على العرض بتشكيك.

ثم من الألفاظ على الجملة مجازية، وهي الواقعة على مسمياتها (لا) على أنها أسماء لها بل وضعت لمناسبتها لما وضعت الأسماء الحقيقية بإزائها، ومن المعلوم في عوارض التركيب الضرب المسمى بلحن الخطاب، وهو خذف الكلمة من الجملة مع إرادتها، ودلالة السياق والمعنى عليها، كالواقع في قوله تعالى: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (الشعراء: 63)، ولا شك أن المراد: فضرب فانفلق، ومما يلحق به عند الجمهور - إلا من قول بقول الكرخي - (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: 184)، والتقدير: فأفطر فعدة من أيام أخر، فهذا من لحن الخطاب ومن معروف التخاطب الجاري، وهي دلالة المنطوق على مسكوت عنه يفهمه السياق وقصد المتكلم من عرف اللغة، نحو فهم (منع) الضرب والشتم من قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) (الإسراء: 23)، وهذا الضرب من المفهوم يجاري النصوص ولهذا لم يختلف فيه من أنكر القياس، فهذه جملة يستعان بها على تلقي ما يرد، وليست خاصة بالذي نحن فيه من هذه السورة ولا بموضوع دون موضوع. ثم من المعلون - بإعلام الله سبحانه - أنه تعالى لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه، فموسى، عليه السلام، إنما خاطب أهله في هذه المحاورة باللسان العبراني (الذي هو لسان قومه، وجل كلام ربنا عن الحرف والصوت والتقييد بالجملة، فالوارد في كتابنا إنما هو حكاية المعنى الذي خوطب به موسى، عليه السلام، وخاطب به، واللسان العبراني) أقرب الألسنة إلى اللسان العربي، فما المانع أن يجري فيه ويطرد كل ما في اللسان العربي من الضروب المذكورة قل أو كثر (ذلك). (ثم) في الجواب عما تقدم ما لا يفتقر فيه إلى بنائه على ما مهدناه. فأقول مستعيناً بالله سبحانه في قول موسى، عليه السلام، لأهله: (امكثوا) وسقوط ذلك في سورة النمل قد يكون مما قاله، عليه السلام، نطقاً باللغة التي كلمهم بها، وقد يكون مما فهمه عنه أهله بإشارة أو قرينة أو حال، فيكون قد أمرهم بذلك على كل حال فإما بنطق أو غيره، فمرة حكى معنى نطقه أو مراده بما قد فهم عنه أهله الأمر، ومرة اكتفى بما بعد (هذا) الأمر اقتصارً على ما يحصل المقصود، فلا اختلاف ولا اعتراض في ذلك. وأما قوله: (لَعَلِّي آتِيكُمْ) في السورتين وقوله في النمل: (سَآتِيكُمْ) فإن حرف التسويف يفهم الاستقبال، و (ولفظ) لعل أيضاً يعطي ذلك مع زيادة الترجي والطمع، فيمكن لتقارب معنييهما أن يكون في لسانهم عبارة موضوعة للمعنيين معاً، فلم يكن بد من ورود الحرفين عند الحكاية ليحرز ذلك وقوع المعنى وحصوله على ما هو في لسانهم.

وأما تقديم ذكر القبس في سورة طه على الخبر وتأخيره في السورتين فعنوان بين يعرف أن القصة محكية على معناها لضرورة اختلاف اللغتين ولو ورد الأخبار على التزام التقدين في إحداهما وتأخير الآخر على اللزوم لما أحرز ما ذكرنا. وأما القبس والجذوة والشهاب من القبس فإن ذلك مما يتصل في لغتنا بمراعاة أدنى شيء يسوغ افتراق التسمية، وذلك كثير في لغتنا كقولهم: سيف وصارم ومهند، وقولهم في التمر طلع وضحك وإغريض وبلح وسياب إلى تمام أحواله العشر، له في كل حالة منها اسم والمسمى واحد، ومتى كان للعرب تعمم بشيء من الموجودات، وكان مما يكثر في كلامهم، وضعوا له عدة أسماء اتساعاً، حتى أنهم قد أنهو بعض المسميات إلى مائة اسم أو نحوها. وإنما ما كان هذا في لغة العرب لاضطرارهم إليه في الشعر والإسجاع، فلو لم تتسع اللغة العربية فيما ذكر لضاق عليهم الأمر واعتاص النظم والنثر، وأقرب شيء (أن) يكون التعبير في تلك اللغة وقع بلفظ واحد لا يعبر في لغتهم عن ذلك المراد المقصود لغيره، وقد أحرز وضع ذلك اللفظ العبراني ما عبر عنه في لغتنا بعدة أسماء، وسواء عني في كل اسم منها معنى ما في المسمى (أو كانت مترادفة على المسمى من غير أن يراعى في شيء منها معنى ما في المسمى). وأما تكرار: أو آتيكم في سورة النمل فليس فيه إلا تكرار ما يحرزالتأكيد، وتأكيد ما هو خبر ليس أمراً ولا نهياً إنما ثمرته وفائدته صدق الإخبار، وذلك حاصل هنا سواء تأكد أو لم يتأكد وإذا كان الكلام على ما قلنا والصدق حاصل على كل حال فلا ينكر إذا حكي بمعناه. أو يؤكد مرة ولا يؤكد أخرى، إذ لا زيادة للتأكيد فيه سوى الجري على مرتكبات العرب في مثله. وأما الإفصاح في السورتين الأخريين بالحاجة إلى النار وهو الاصطلاء، ول يقع ذلك في طه، فإن ذلك إخبار بزيادة لا يعارضها شيء مما في سورة طه، فقوله: (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) (طه: 10)، فإفصاح بما هو معلوم من قوله في سورة النمل: (سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ) (النمل: 7)، لأن أهله لم يكن بهم من حاجة لغير الاصطلاء واستعلام طريقهم، فورد في سورة طه مفصحاً بالمقصود مفسراً لما هو مفهوم في آيتي النمل والقصص من معنى الكلام وسياقه، فلا اختلاف في شيء من ذلك كله ولاتعارض ولا خلاف، والحمد لله. والجواب عن السؤال الثاني: أن تخصيص كل سورة من هذه السور بما ورد فيها مقتضيه بين. أما أولاً فإن فواصل هذه السورة ومقاطع آيها مناسبة للوارد فيها، أما سورة

الآية الثانية

طه فمقاطع آيها لازمة الألف المقصورة وعلى ذلك أي السور كلها، وأما النمل والقصص فقد اكتنف الواقع في آي هذه القصة فيها ما مقطعه النون الواقع قبلها الياء والواو الساكنتان بحسب ما تقدمهما من حركتي الضمة والكسرة. فإن قلت: إن السورتين مستويتان في هذا فما الفارق؟ قلت: الإيجاز والطول، أما سورة النمل فأوجز في هذا المقصد، وأما سورة القصص فإن خبر موسى، عليه السلام، فيها يكاد يستغرق آيها كلها، فناسبه طول الوارد فيها مما فيه الكلام، وذلك غير خاف. وتأمل الوارد في سورة طه من قوله تعالى مخبراً عن نبيه موسى، عليه السلام، من قوله: (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)، ومناسبة ذلك لما بنيت عليه سورة طه من تأنيس نبينا صلى الله عليه وسلم، وافتتاحها بقوله تعالى: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه: 2)، يلح لك التلاؤم والتناسب، وقد وضح أن كل ما في كل سورة من السور الثلاث من هذه القصة لا يلائم غيرها، وأن كل قصة منها لا يحسن وقوعها في موضع الآخر لعدم المناسبة وبعد التلاؤم، والله أعلم. الآية الثانية من سورة طه - قوله تعالى: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) (طه: 15)، وفي سورة غافر: (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا) (غافر: 59)، للسائل أن يسأل عن تخصيص آية طه بقوله في وصف الساعة: (أَكَادُ أُخْفِيهَا) ووصفها في سورة غافر بقوله: (لَا رَيْبَ فِيهَا)؟ فهذان سؤالان. والجواب عن الأول منهما: أن آية طه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، يتضمن تأنيسه وتسليته عن حال كفار قريش في (توقفهم عن) الإيمان، فافتتحت السورة بأجل التأنيس وهو قوله تعالى مبشراً لنبيه، عليه السلام، مقسماً على ذلك: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه: 2)، ثم تابع التعريف بتعظيم الكتاب، وذكر منزلته سبحانه وتعالى بما انفرد فيه من ملك السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، ووصفه بأنه يعلم السر وأخفى، وانفراده بأسمائه الحسنى، ثم عرف نبيه صلى الله عليه وسلم بابتداء (أمر) موسى، عليه السلام، (إلى قوله): (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) (طه: 15) تعريفاً بعظيم خفاء أمر الساعة وتغيب كنهها عن الخلق حتى كأن أمرها لم يخبر عنه ولا وقع تعريف بشيء منه، فهو إخبار بفرط إخفاء أمرها، وذلك إعلام بوصف وحال من قد تقرر بوقوعها يقينه، وانطوى على علم كيانها إيمانه، ولما كان هذا الخطاب والتعريف لمن جرى ذكره من تنزهه صلى الله عليه وسلم عن الارتياب في أمر الساعة، لم يحتج إلى نفي الريب، إذ مقام النبوى في الإيمان بها المقام الذي لا يداني، فلم يكن نفي الارتياب ليلائم ولا يناسب، وإنما عرفوا بحال وصف تابع.

الآية الثالثة

أما آية غافر، في أكثر الخطاب المتقدم قبلها، من أول السورة إليها، خطاب لقريش وسائر كفار العرب. وهم المجادلون في أمر الساعة، والجاهلون بكيانها، والقائلون: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (المؤمنون: 37)، فقدم لهم قبل ذكر الآيات قوله تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (غافر: 57)، فذكروا بما لا يمكن لأحد من المخلوقين إلا الاعتراف بعظيم أمره والعجز عنه، وهو بدخول اللام ونفي الريب في ذلك، وذلك أوضح شيء في المناسبة، فكل من الآيتين وارد على أتم مناسبة، ولا يمكن أن يقع الوارد في سورة غافر في سورة طه. ولا الوارد في سورة طه في سورة غافر، والله أعلم بما أراد. والجواب عن الثاني: أن آية طه وردت أثناء خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتأنيس والتسلية عما يلقاه من مكابدة قريش وسائر كفار (العرب)، وتعريفه بما جرى لموسى، عليه السلام، وظهوره على فرعون، فلم يكن ليناسب ذلك تأكيد الخبر عن أمر الساعة، إذ هو، عليه السلام، من أمرها على أوضح الجادة. أما آية غافر فإن قبلها تعنيفاً لكفار من قريش وغيرها، وعلى ذلك استمرت الآيات من أول السورة إلى قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ) (غافر: 56)، إلى قوله: (قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ) (غاف: 58)، فناسب ذلك من حالهم تأكيد الإخبار عن إتيان الساعة بدخول اللام، وصيرورة الآية بذلك في قوة المقيس عليه تحقيقاً للأمر وتأكيداً لما في طي ذلك من وعيدهم بسوء مآلهم، فورد كل من الآيتين على ما يناسب، والله أعلم. الآية الثالثة من سورة طه - قوله تعالى: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) (طه: 24 - 36)، وفي سورة الشعراء: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (الشعراء: 10 - 14)، وفي سورة القصص: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ

قْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) (القصص: 32 - 35) إلى قوله: (وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) (القصص: 35). للسائل أن يسأل عن اختلاف المحكي من قول موسى، عليه السلام، حين بعث إلى فرعون مع اتحاد القضية في السور الثلاث وقد وقع في كل سورة منها ما ليس في الأخرى، فيسأل عن هذا؟ وعن وجه اختصاص كل سورة بما ورد فيها؟ والجواب عن السؤال الأول: أن قول موسى، عليه السلام، لا توقف في أنه لم ترد حكايته إلا بالمعنى لاختلاف اللسانين كما تقدم، وإذا تقرر كونها بالمعنى، والترادف فيما بين اللغتين في كل لفظتين يراد بهما معنى واحد غير مطرد، فلا إشكال في أن المعنى قد يتوقف حصوله على الكمال على تعبيرين أو أكثر، لا سيما مع ما في اللسان العربي من الاشتراك والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والحقيقة والمجاز وغير ذلك من عوارض الألفاظ، فكيف ينكر اختلاف التعبير عن المعنى الواحد بألفاظ وعبارات مختلفة، بل نقول إنه لو كان المحكي قولاً عربياً وحكي بالمعنى لما استنكر اختلاف العبارة، فكيف مع اختلاف اللسانين؟ والحاصل من قول موسى، عليه السلام، في هذه السور الثلاث سؤاله ربه شرح صدره وتيسير أمره وإطلاق لسانه وتشكيه منه والتعاون بأخيه هارون، عليهما السلام، وخوفه أن يكذب وذكره ما تقدم منه من قتل القبطي، على هذه القضيات السبع دار المحكي من كلامه، عليه السلام، وقد يرد في سورة منها بعض ذلك مما ليس في الأخرى، ولم يتعارض شيء من ذلك، فارتفع الإشكال المتوهم جملة. والجواب عن السؤال الثاني: أن الوارد في سورة طه من قوله: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (طه: 25) إلى أن قيل له: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) (طه: 36) مناسب لما بينت عليه السورة من التأنيس والبشارة لنبينا صلى الله عليه وسلم من لدن افتتاحها بقوله: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه: 2) إلى ختامها بقوله لنبيه عليه السلام: (لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ) (طه: 132) وقوله تهديداً ووعيداً لأعداء نبيه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا ... ) (طه: 135)، ولا توقف في بيان هذا التناسب. وأما سورة الشعراء وسورة القصص فإنما بناؤها على قصص موسى عليه السلام، أما الشعراء فمبينة على ابتداء الرسالة ودعائه فرعون ومراجعة إياه إلى نجاة بني إسرائيل وإغراق فرعون، وأما سورة القصص فمبينة على ابتداء امتحان بني إسارئيل بذبح الأبناء واستحياء النساء للخدمة والمهنة، وتخليص موسى، عليه السلام، من ذلك، وتكفل

الآية الرابعة

الله سبحانه من ابتداء ونشأة، إلى توجهه إلى مدين ورجوعه من عند شعيب، عليهما السلام، إلى ما تخلل ذلك وما أعقبت به، إلى أخذ فرعون وهلاكه، ولما كانت سورة الشعراء مذكوراً فيها قصص الرسل مع أممهم ابتداء واختتاماً فيما يخص حال الرسالة، إلى أخذ كل طائفة بما أخذت به، خصت من قصص موسى، عليه السلام، بما يلائم دعاء ومحاورة، إلى أخذ فرعون وملئه. ولما كان قوله تعالى في سورة القصص: (نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ) (القصص: 3) تأنيساً وتنبيهاً لنبينا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) (هود: 120)، وفي آخر السورة الإفصاح من هذا التأنيس برجوعه إلى مكة بعد أن أخرج عنها، عليها السلام، مهاجراً لأجل قومه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (القصص: 85)، ناسب ذلك من قصص موسى، عليه السلام، خروجه إلى مدين ورجوعه إلى مصر، فتناسب هذا أكمل مناسبة في السور الثلاث، (وإذا عتبر ذلك علم أنه لا يناسب كل سورة من الثلاث) إلا ما خصت به، والله أعلم بما أراد. الآية الرابعة من سورة طه: غ - قوله تعالى: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (طه: 47)، وفي سورة الشعراء: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (الشعراء: 16 - 17)، ففي الأولى: (فَأْتِيَاهُ) وفي الثانية: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ)، وفي الأولى: (إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) بالتثنية والإضافة إلى ضمير الخطاب وفي الثانية: (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فورد هنا (رسول) بلفظ الإفراد وإضافة رب (إلى) العالمين، والظاهر أن أمر موس وهارون، عليهما السلام، في الآيتين كان أول أمر أُمرا به في إرسالهما إلأى فرعون، وأن أمرهما معاً بهذا لم يتكرر، وقد تقدم في سورة طه أمر موسى، عليه لاسلام منفرداً عن أخيه هارون في أول تكليم الله تعالى، وأمره بخلع نعليه، وإعطائه آيتي العصا واليد، وأمره بالذهاب إلى فرعون، وطلبه شرح صدره، إلى طلبه المعونة بأخيه هارون، وبعد ذلك أُمرا معاً بما في هاتين الآيتين، ثم لم يتكرر حسبما ذكرناه بمقتضى الظاهر، فللسائل أن يسأل عن وجه الاختلاف فيهما؟ ووجه اختصاص كل سورة بما ورد فيها؟ والجواب عن الأول: ما تقدم من أن الإخبار عن ذلك كله في كتابنا معتمد فيه المعنى، وقد تقدم بيان ذلك مستوفى، وأما وجه التخصيص، فإن ورود اسم فرعون مضمراً في قوله: (فأتياه) إنما ذلك لتقدم ذكره في قوله: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى

فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) (طه: 43 - 44)، فلم تكن إعاجى اسمه ظاهراً مع الاتصال والقرب، إذ لم يفصل بين ظاهره ومضمره إلا كلمتان. أما آية الشعراء فقد اجتمع فيها أمران: أحداهما الفصل بين مضمر الاسم وظاهره، مع إتيان الظاهر مضافاً إليه فضلة إلى ما ذكر إليه من الفصل ببضع وعشرين كلمة، والثاني أن أمر موسى، عليه السلام، أولاً إنما ورد بإتيان قوم فرعون، قال تعالى: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ) (الشعراء: 10 - 11)، فقد يتوهم أن الجاري على هذا أن لو قيل عوض قوله: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ) فأتياه، إلا أنه لم يقصد إلا ذكر متبوعهم، فلم يكن بد من الإفصاح باسمه غير مضمر. وأما قوله تعالى في الأولى: (فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) (طه: 47) بتثنية لف الرسول فوارد على اللغة الشهيرة، أما قوله في الثانية: (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء: 16) فعلى لغة من يقول رسول للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، وعلى ذلك قول الهذلي: ألكني إليها وخير الرسول أعلمهم بنواحي الخبرَّ فورد (الأول) في الترتيب على اللغة الشهيرة، والثاني على اللغة الأخرى على ما تقدم في مثل هذا، وعكس الوارد مخالف للترتيب ولا يناسب. وأما قوله: (إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) بإضافة اسمه تعالى إلى ضمير الخطاب، فإنه يناسب من حيث ما فيه من (التلطف) والرفق لما تقدمه من قوله تعالى (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) (طه: 44)، وقد تفسر هذا القول وتبين ما فيه من التلطف بقوله تعالى في سورة النازعات: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى) (النازعات: 18 - 19)، وناسب هذا ما بنيت عليه سورة طه من تأنيس نبينا صلى الله عليه وسلم وتأميس موسى كليمه صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) (طه: 13) وما بعد إلى قوله تعالى: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) (طه: 36) وما بعد، فلما كان بناء هذه السورة بجملتها على التلطلف (والتأنيس ناسب ذلك ما أمر به موسى، عليه السلام، من دعاء فرعون آنسه وألطفه)، وأمر موسى، عليه السلام، وأخوه هارون بذلك فقيل لهما: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا)، وجرى على ذلك (قوله): (إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ)، فأشعرت هذه الإضافة بالتلطف الرباني، ولما لم تكن سورة الشعراء مبنية على ما ذكر، وإنما تضمنت تعنيف فرعون وملئه وإغراقهم وأخذ المكذبين للرسل بتكذيبهم، وهذا في طرف من التلطف، ورد فيها: (فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ

الآية الخامسة

الْعَالَمِينَ) بإضافة اسمه سبحانه (إلى العالمين) ليحصل منه أنه مالك الكل وأنهم تحت قهره تعالى وفي قبضته، وعدل عن الإضافة إلى ضمير الخطاب إذ لم يقصد هنا ما تقدم من التلطف، ونظير الوارد في هاتين الآيتين قوله تعالى في سورة الأنعام: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ) (الأنعام: 137)، فقف على ذلك في سورة الأنعام، وقد تبين جليل النظم وعلي التناسب في كل ما تقدم، وأن عكس الوارد في هذه الآي لا يناسب، والله سبحانه أعلم. الآية الخامسة من سورة طه: غ - قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا) (طه: 53)، وقال في سورة الزخرف: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الزخرف: 10)، للسائل أن يسأل عن وجه الاختلاف بين سلك وجعل؟ ووجه اختصاص كل من السورتين بما ورد فيها؟ والجواب عن ذلك: أن العبارتين في السورتين معناهما متقارب وهو ما هيأه سبحانه لعباده من المذكور في قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) (الملك: 15)، والمراد (بسلك) وجعل ما خلق وذلل سبحانه منها وهيأه لتصرفنا في معايشنا ومنافعها. والجواب عن الثاني أن اختصاص كل واحدة من العبارتين بموضعها في آية طه مقصود بها التلطف بالدعاء إلى الله (عز وجل) على ما تقدم من أمره تعالى لموسى وهارون، عليهما السلام، في قوله: ((فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) (طه: 44)، فلما بني الكلام على هذا وأعقب بقوله: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ) (طه: 53 - 54)، - ولا إشكال في أن هذا من التلطف والرفق في الدعاء - ناسب ذلك العبارة بسلك عما أنهج تعالى من السبل ولاطرق لمرافق العباد ومصالحهم، وهي منبئة عما تعطيه جعل في الآية الأخرى مع زيادة الوضوح وكمال التهيئة، فهي أنسب لما قصد في هذه السورة، تقول: منهج سالك أي واضح، ولو قلت مجعول لم يعط هذا المعنى من الوضوح. أما آية الزخرف فمبنية على توبيخ من كفر من العرب وترقيعهم، ألا ترى قوله سبحانه: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) (الزخرف: 5)، وقوله إخباراً عن مكذبي الأمم: (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الزخرف: 7)، وقوله: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا) (الزخرف: 8) أي من هؤلاء الذين

الآية السادسة

كذبوك يا محمد، فهذا كله توبيخ للجاحدين والمعاندين، وتأمل ما افتتحت به السورة من قوله: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف: 3)، والتعقل لا يستلزم الاهتداء والإيمان، ألا ترى قوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 75)، فأين موقع قوله: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) من قوله: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) و (لَعَلَّكُمْ تُفِلحُونَ) و (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)؟ فتدبر ذلك يلح لك الفرق، فناسب هذا ما ينبئ عن الخلق والاختراع من غير زيادة، فعبر هنا بجعل. وأيضاً فقد اكتنف لفظ جعل في الزخرف قوله: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف: 3)، وقوله بعدها: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) (الزخرف: 12)، فناسب هذا ذكر الجعل، ولم يناسب هنا هذه المناسبة لفظ سلك، فجاء كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم. الآية السادسة من سورة طه: غ - قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) (طه: 112)، وفي سورة الأنبياء: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) (الأنبياء: 94)، فوردت آية طه منسوقة على ما قبلها بالواو، والثانية بالفاء المقتضية في مثل هذا استئناف التفصيل مع بنائه على ما قبله بمقتضى الفاء، ثم أعقب الأولى بقوله: (فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) والثانية بقوله: (فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) ومقصود الآيتين واحد، فللسائل أن يسأل عن الفرق؟ والجواب عن الأول: أن قوله: (ومن يعمل) بواو النسق ورد في مقابلة ما تقدمه من المعنى الحاصل من قوله: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) (طه: 111) وقد خاب من حمل ظلماً لأن عنت الوجوه ذلتها في القيامة، ومنه قولهم: العاني للأسير، فمن حمل ظلماً خاب وخسر، ومن قدم خيراً وعمل صالحاً فر يخاف ظلماً أي زيادة في سيئاته، ولا هضماً أي نقصاً في حسناته، وهذا معنى الكلام، والله أعلم، فهذا موضع الواو ولا مدخل فيه للفاء. أما قوله في الأنبياء: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ) (الأنبياء: 94) فافتتح تفصيل أحوال الفريقين لما قال تعالى: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) (الأنبياء: 93)، والمراد اختلافهم وافتراقهم في المذاهب والأديان، ابتع ذلك تعالى ببيان حال المحسن والمسيء في افتراقهم، فاستؤنف تفصيل جزائهم فقال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) (الأنبياء: 94) إلى ما بعد وفي قوله تعالى: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ

الآية السابعة

أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) (الأنبياء: 95) إلى ما يتلوه بيان جزاء المسمى وحكمه، وربطت الفاء ما فصل من الجزاء بما وقع الجزاء المفصل مربوطاً به ومنبهاً عليه، فالموضوع للفاء ولا مدخل للواو هنا. وأما تعقيب آية طه بقوله: (فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) (طه: 112)، فإفصاح بالتأنيس المناسب لما بنيت عليه، وقد وضح هذا في الآية المترجم عليها قبل التي تلي هذا، ولم تبن آية سورة الأنبياء على ما ذكر فجيء فيها بما يناسب، وورد كل على ما يجب، ولا يلائم عكس الوارد ولا يناسب، والله أعلم. الآية السابعة من سورة طه قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) (طه: 128)، وفي سورة السجدة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) (السجدة: 26)، فلحقت همزة الاستفهام الواردة هنا تقريراً وتوبيخاً حرف العطف متقدمة قبله كما يجب واختلف حرف العطف، فلسسائل أن يسأل: لم اختصت الأولى بالفاء من حروف العطف والثانية بالواو؟ وعن زيادة (من) في سورة السجدة؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن قوله في الآية الأولى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) كلام لم يتقدمه ما يكون هذا معطوفاً عليه، وإنما هو كلام مستأنف مبتدأ، ألا ترى ما تقدم قبله من قوله تعالى إخباراً عمن أعرض عما جاءت به الرسل فقال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) - أي بإعراضه عن إتباع الرسل - (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) (طه: 124) إلى قوله: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طه: 127)، هذا إخبار عن جزاء من أعرض ولم يؤمن، ثم ورد ما بعد مستأنفاً وارداً مورد ما يرد من الكلام التفاتاً، وهذا مراد أبي محمد بن عطية، ثم ابتدأ توبيخهم وتذكيرهم فقال تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ)، والضمير المجرور لكفار قريش ومن كان معهم، أي أفلم يتبين لهم، والفاعل ما يفهم من جملة الكلام وسياقه، أي أفلم يهد لهم هذا المشاهد لهم الواضح من تقلبهم في بلاء عاد وثمود يمشون في مساكنهم ويعاينون آثار هلاكهم، وكم مفعولة بأهلكنا. واستمر الكلام مع المذكورين إلى آخر السورة، وإذا كان قوله: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) مبتدأ مستأنفاً فالموضع للفاء، وهذا كقوله في سورة الرعد: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) (الرعد: 31)، وقوله في سورة القتال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد: 24)، وما أتى مثل هذا مما الوجه فيه الاستئناف، ولم يقصد عطفه

على ما قلبه، وإنما ارتباطه بما تقدمه من جهة المعنى، ولا مدخل فيه للعطف مع أن الالتحام حاصل من وجه كما بينا. وأما آية السجدة فالواو فيها عاطفة على مقدر لما قال الله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا) (السجدة: 22)، كأن قد قيل: أفلا تذكروا ولم يعرضوا: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) (السجدة: 26) أولم يبين لهم إهلاك من تقدمهم من القرون، وقال الزمخشري في الواو في: (أَوَلَمْ يَهْدِ) للعطف على معطوف عليه منوي من جنس المعطوف والضمير في لهم لأهل مكة، قلت وهذا هو عين ما قدمنا، وإنما لم تكن الواو هنا لغير العطف لأن الواو لا يستأنف بها بخلاف الفاء كما قدمنا، فاختلف المقصود في الآيتين ووضح وجه مجيء الفاء في آية طه والواو في آية السجدة. وأما زيادة ((من)) في قوله في آية السجدة: (مِنْ قَبْلِهِمْ) فإنها مقصود فيها استغراق عموم لمناسبة ما تقدم هذه الآية من حصر التقسيم في قوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) (السجدة: 18) وأعقب: (به) ما يفهمه قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ) (السجدة: 26)، إذ ليس هنا الوارد كالوارد في سورة طه من قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) (طه: 128)، فهذا يشعر بخصوص يناسبه سقوط (من) الاستغراقية، وما في آية السجدة يشعر بعموم واستغراق تناسبه (من) في قوله: (مِنْ قَبْلِهِمْ)، فجاء كل على ما يناسب ويجب، والله أعلم. الآية الثامنة من سورة طه قوله تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (طه: 130)، وفي سورة ق: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) (ق: 39)، فقال في الأولى: (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) وفي الثانية: (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)، وفي سورة الطور: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) (الطور: 48 - 49)، (فيسأل عن الفرق)؟ والجواب أن ذلك، والله أعلم: لرعي الفواصل ومقاطع الآي، ألا ترى ما تقدم قبل آية ق من قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (ق: 38)، فناسب هذا قوله: (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)، وأما آية طه فقد اكتنفها أي مقاطعها الألف المفتوح ما قبلها نطقاً وتقديراً، فجاء ذلك على ما يجب في السورتين.

فصل: وأما قوله تعالى في السورتين: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) بناء على المتقدم فيهما من قوله تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) واتصاله به فبين الوضوح، لن المراد أمره عليه السلام بالصبر على أذاهم في قولهم كاهن ومجنون وساحر إلى غير ذلك مما نزه الله نبيه، عليه السلام، منه فأمر (بالصبر) على ذلك وأمر أن يستعين بصبره وصلاته كما قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) (البقرة: 45)، وهو المراد أيضاً هنا، وعن الصلاة عبر بالتسبيح في قول أكثر المفسرين، وإن أريد بالتسبيح معنى التنزيه بالذكر المعروف فذلك أيضاً بين والمعنى متعارف، ويكون مأموراً بالصبر والذكر والتنزيه، فالالتحام بين، وإنما المشكل قوله تعالى في سورة ص: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ... ) (ص: 17)، وربط قوله: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ) بما قبله ومطابقته إياه، وقد أجاب الزمخشري عن ذلك بما جرى فيه على شنيع المرتكب وسوء الأدب، بناء على استبداد العبيد وفعلهم ما لا يرضاه الخالق سبحانه ولا يريد، فجعل لله شركاء، وأفرد العباد بأفعالهم استبداداً وملكاً، وأجاب (بناء) على ما أصل ولم يوفق في هذا الموضوع لوجه المطابقة ولا حصل، وأذكر إن شاء الله ذلك في أول آية من سورة ص على أوضح منهج بحلول الله تعالى. ****

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء الآية الأولى منها قوله تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (الأنبياء: 2)، وفي سورة الشعراء: (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (الشعراء: 5)، فورد في الأولى: (مِنْ رَبِّهِمْ) وفي الثانية: (مِنَ الرَّحْمَنِ) مع اجتماع الآيتين في أن التذكير لا يجدي على ما ذكر في الآيتين، فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟ والجواب، والله أعلم: أن هذين الاسمين العظيمين وهما: الرب والرحمان تواردا في الكتاب العزيز كثيراً، أول ذلك في الفاتحة، ثم إن اسمه سبحانه الرجمان يغلب وروده حيث يراد الإشارة إلى العفو والإحسان والرفق بالعباد والتلطف والتأنيس، فمن مراده في التأنيس، فمن مراده في التأنيس البسملة، وأم القرآن، وصدر سورة طه، وآية الشعراء المتكلم فيها، وما ورد من مثل الوارد في سورة الفرقان في قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ) (الفرقان: 60)، فتحقيق الاعتبار يقتضي تأويله بالرجوع إلى ما ذكرنا، وأما اسمه الرب فيعم وروده طرفي الترغيب والترهيب. أما الترغيب فبين، وأما الترهيب فحيث يرد معنى ملكيته سبحانه لهم، وانفراده بإيجادهم، وإدرار أرزاقهم، وبيان انفراده تعالى بذلك، ثم هم ذلك على كفرهم. ولما تقدم قبل آية الأنبياء من الأخبار ما طيه وعيد وترهيب مع تلطفه سبحانه بهم بتذكيرهم لم يكم ليناسب ذلك ورود اسمه الرحمان، ألا ترى أن قوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) (الأنبياء: 1) أشد تخويفاً للمخاطبين، ثم لفظ الناس لفظ لا يخص به المؤمنون، إنما يرد حيث يراد عموم المخاطبين، ويكثر حيث يراد الوعيد والإنذار والتخويف والدعاء الأولى إلى العبادة والدخول في الإسلام، وأما ما ذكر بعد وصفه بالغفلة والإعراض وما انجر مع ذلك فأهل الكفر والتكذيب، والسورة مكية ولفظ الناس عام كما تقدم، إلا أن قوله بعد: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (الأنبياء: 3) خاص بمن حكى قولهم الذي أسروه وهو: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (الأنبياء: 3)

الآية الثانية

أما آية الشعراء فمبينية على تأنيس النبي صلى الله عليه وسلم وإعلامه أن توقف قومه عن الإيمان إنما هو بقدرته تعالى عليهم، ولو شاء لأراهم آية تبهرهم كشق الجبل فوق بني إسرائيل. وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) (الشعراء: 4)، ثم رجع الكلام إلى تعنيف المكذبين، فلما كان بناء الآية على التأنيس والتلطف بنبينا صلى الله عليه وسلم، وإعلامه بأن تأخير العذاب عنهم إنما هو إبقاء منه تعالى ليستجيب من قدر له الإيمان منهم، فأشاء إلى هذا وناسبه اسمه الرحمان، فقال تعالى: (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (الشعراء: 5)، فقد وضح ورود كل من الآيتين في موضعه على ما يجب ويناسب، والله أعلم بما أراد. الآية الثانية - قوله تعالى: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ) (الأنبياء: 36)، وفي سورة الفرقان: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ... ) (الفرقان: 41 - 42)، هنا سؤالان: أحدهما ظهور الفاعل في الآية الأولى وإضماره في الثانية، والثاني ما وجه تعقيب الآية الثانية بما أعقبت به؟ والجواب عن الأول، والله أعلم: أن الكفار المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتقدم قبل آية الأنبياء أو فيما يليها من آي السورة أو يقرب منها خطاب يعنيهم ويخصهم من غيرهم، إنما تقدم قبلها قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء: 30)، وهذا يتناول كل كافر ملف ذي عقل كان من العرب أو من غيرهم معاصر أو غير معاصر، ثم لم يقع بعد هذه الآية ما يعارض عمومها، فلهذا تعين إظهار الفاعل في قوله: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (الأنبياء: 36) إذ قيل: وإذا رأوك، لما كان يمكن رجوعه إلا للمذكورين قبل في قوله: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (الأنبياء: 30)، وليس خاصاً بالمعاصرين، فلم يكن ليناسب. أما آية الفرقان فإن قبلها قوله تعالى: (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) (الفرقان: 32)، والمنزل عليه القرآن معلوم صلى الله عليه وسلم، فالقائلون معاصرون وهم الذين عنوا على القطع بقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)، فلما تقدم

الآية الثالثة

ذكرهم غير متناول غيرهم، وعنوا بالذكر، واحتيج بعد إلى الإخبار عنهم، أتى بضميرهم، إذ هو أوجز وقد علم، (فقيل): (وَإِذَا رَآكَ)، ولم يكن الإضمار ليناسب في آية الأنبياء، ولم يمكن الإظهار هنا، فورد كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم. والجواب عن السؤال الثاني: أنه لما تقدم في سورة الأنبياء قوله تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) (الأنبياء: 21)، وقوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء: 22)، وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) (الأنبياء: 24)، فتكرر ذكر مرتكبهم في اتخاذهم معبوادات لا تغني عنهم، ناسبه قولهم: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) (الأنبياء: 36). أما آية الفرقان فقد تقدمها قوله: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: 7)، فأنكروا كون الرسول من البشر، (فجرى مع ذلك وناسبه قولهم: (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) (الفرقان: 41) تعجباً واستبعاداً أن يكون الرسل من البشر)، وقد رد ذلك عليهم بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: 20)، فوضح التناسب فيها، والله أعلم. الآية الثالثة قوله تعالى: (وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ) (الأنبياء: 45)، قراءة الجماعة إلا ابن عامر: (وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ)، وقرأ ابن عامر: (وَلَا تَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ) بضم التاء وفتح الميم من الصم، وفي النمل والروم: (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ) (النمل: 80). قراءة ابن كثير بضم الياء وفتح الميم كقراءة الجماعة في آية الأنبياء، وقراءة الباقين: (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ) بضم التاء وفتح الميم كقراءة ابن عامر في الأنبياء، فاستوت الآي الثلاث في ورود القراءتين على الجملة وفي المعنى المقصود، ثم ختمت الأولى بقوله: (إِذَا مَا يُنْذَرُونَ)، وآيتا النمل والروم بقوله: (إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)، فيسأل عن ذلك. والجواب، والله أعلم: أن آية الأنبياء قد تقدمها أمره، عليه السلام، بخطاب حاضريه، وإنذارهم بما أوحي إليه، وإعلامهم بأن إنذاره إياهم لا يجدي عليهم، تسلية له، عليه السلام، وإعلاماً بما سبق لهم أزلاً، فقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ)، ثم قال لهم: (وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ) (الأنبياء: 45)، فأعلمهم بإعلام الله تعالى بأنهم صموا عن سماعه، ومنعوا ثمرته من الإجابة لما سبق عليهم فقيل: (إِذَا مَا يُنْذَرُونَ)، أي أنهم وقت إنذارهم ممنوعون عن السمع، كما قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى

الآية الرابعة

قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) (الكهف: 57)، وكما ورد قبل آيتي النمل والروم وقوله تعالى: (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) (الروم: 52) إلحاقاً لحال المخاطبين بهم في عدم الجدوى عليهم، ناسب ذلك قوله: (إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)، فوضح التناسب في نظام هذه الآي، وإن العكس لا يناسب، والله أعلم. الآية الرابعة قوله تعالى في إبراهيم: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 52 - 53)، وفي سورة الشعراء: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (الشعراء: 69 - 74)، فورد في الأولى: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا) وفي الثانية: (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا)، فيسأل عن زيادة (بل) في الثانية؟ وقد يسأل عن المختلف من حكاية قول إبراهيم، عليه السلام في الأولى: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) (الأنبياء: 52) وفي الثانية: (مَا تَعْبُدُونَ) وظاهر القصة أنها واحدة وقد اختلف المحكي؟ والجواب عن الأول، والله أعلم: أن جوابهم في الموضعين ليس جواباً لسؤال واحد، وإنما ورد (جواباً) لسؤالين، فاختلف بحسبهما، فسؤاله في آية الأنبياء سؤال مطلع على معبوداتهم ما هي؟ بعد أن شاهد عبادتهم لها، ولزومهم إياها، وكيفية صورها. فقال: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) أي ملازمون، فلم يجدوا جواباً إلا اعترافهم بأنها تماثيل مصورة منحوته، والتماثيل ما جعل من الصور مثالاً لغيره ونحي به نحوه، فأقروا بالعجز عن جواب مقنع، واستشعروا ما يلزمهم في عبادة ما يصنعونه بأيديهم، وتقدم وجودهم وجوده، فرجعوا إلى التقليد فوقع جوابهم على ما تقدم. وأما آية الشعراء فإن سؤال إبراهيم، عليه السلام، إياهم بقوله: (مَا تَعْبُدُونَ) ورد (مورد) سؤال عن ماهية معبوادتهم وكيفيتها، وكأنه، عليه السلام، لم يشاهدها، وعلم أنهم يعبدون ما لايعبد، فسألهم عن ما هيته فجاوبوه: (نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) فجاوبوه معترفين بماهية معبوداتهم على ما أمرهم عليه، وطابق جوابهم سؤاله، فأردف، عليه السلام، بسؤال آخر، قاصداً تعجيزهم والقطع بهم فقال: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) (الشعراء: 72 - 73) أي إذا كانوا هكذا مستبدين غير مفترقين فذلك عذر في عبادتكم إياهم، فلما استشعروا ما يلزمهم عدلوا عن الجواب،

الآية الخامسة

وأضربوا عن طرفي الإثبات والنفي إلى تقليد الآباء وقالوا: (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (الشعراء: 74)، وحصل من جوابهم بمفهوم الإضراب ببل أن آلهتهم لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، إذ لو اتصفت بوجود هذه الصفات لما عدلوا إلى الإضراب. فإن قيل إنما أضربوا عن أن يجيبوا بنفي أو بإثبات فكيف يقال: إن اعترافهم حاصل بأنها لا تسمع ولا تنفع ولا تضر؟ فأقول: لو وجدوا أدنى شبهة لتراموا عليها، فقد وضح أن جوابهم هنا بناء على ما بنوه جواباً عليه لا يمكن غيره إلا بمخالفتهم المحسوس لو أنهم قالوا: إنها تسمع أو تنفع أو تضر، أو نسبتهم أنفسهم إلى ما عذر لعاقل في ارتكابه، ولا شبهة لو أفصحوا جواباً بأنها لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، ثم استمروا على عبادتهم إياها، فأضربوا عن ذلك إلى اعتمادهم على تعبد آبائهم، وجعلوا ذلك حجة على مرتكبهم على وهن هذا التعليق، ولهذا قيل لهم: (قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الأنبياء: 54)، إن جوابهم هنا ببل لازم لما قصده، ولا يمكن بسقوطها، وإن جوابهم في آية الأنبياء لا يمكن فيه بل بوجه، فورد كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم. والجواب عن السؤال الثاني أنه لا حامل على القول بأن القصة واحدة، وإذا أمكن أن يكون ذلك في محلين ووقتين لم يلزم اتحاد الجواب، فلا سؤال، والله أعلم. الآية الخامسة قوله تعالى: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (الأنبياء: 70)، وفي الصافات: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) (الصافات: 98)، هنا سؤالان: أحدهما: ما وجه الاختلاف مع اتحاد المقصود في الموضعين؟ والثاني: ما وجه اختصاص كل من الموضعين بما ورد فيه؟ والجواب عن السؤالين معاً: أن الخاسر عندنا من فقد ما بيده من مال أو سبب كان يعتمده لدنياه ومعاشه، أو محاولة فسدت عليه فساءت حاله، لذلك ومهما استحكمت حاله في ذلك كان أخسر، وقد جعل سبحانه في الخسران المبين من خسر الدنيا والآخرة، وأعلمنا تعالى أن الأخسرين لا يقام لهم (وزن في القيامة، قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) (الكهف: 103) إلى قوله: (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف: 105)، فلا أدون حالاً من هؤلاء. ولما أراد قوم إبراهيم، عليه السلام، به الكيد ألحقهم تعالى بهؤلاء عقوبة توافق مرتكبهم وسوء انتحالهم، والأخسرون هم الأسفلون، وهذا كان مطلب الكافر في الآخرة وتمنيه لو بلغه إلحاق من أضله من الجن

الآية السادسة

والإنس بهذا النمط، قال تعالى مخبراً عن حالهم في الآخرة: (رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (فصلت: 29)، فالصفتان من الخسران والسفالة غاية حالة الكافر، ومن كان من الأسفلين فقد خسر خسراناً مبيناً، فلا تضاد بين الصفتين سوى أن السفول لاحق في ذات المسفل، والخسران حقيقة في خارج عنه، فالسفول أبلغ، فقد ما هو لاحق خارجي، وأخر ما لا يتعدى ذات المتصف تكملة وتتمة، إذ هو أبلغ على ما يجب وعلى ما قدمنا من رعي الترتيب، والتسفل (ضد) التّعالي، فورد كل على ما يجب ويناسب، وقيل روعي في آية والصافات مقابلة قولهم: ابنوا له بنياناً، لأنه يفهم منه إرادتهم علو أمرهم بفعلهم ذلك، فقوبلوا بالضد، فجعلوا الأسفلين. قال معناه صاحب الدرة، وهو حسن، والله أعلم. الآية السادسة قوله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء: 83 - 84)، وفي سورة ص: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (ص: 41 - 43)، ففي آية الأنبياء: (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا) وفي آية ص: (رَحْمَةً مِنَّا)، وفي آية الأنبياء: (وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)، وفي آية ص: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، فيسأل عن الفرق بين الوصفين؟ ووجه الاختصاص؟ والجواب على الجملة، والله أعلم: أنه لما ورد في الأنبياء تلطف أيوب عليه السلام بقوله: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأنبياء: 83)، فلما تلطف في سؤاله، ولم يفصح، عليه السلام، تلطفاً وتضرعاً بعظيم ما أصابه من البلاء إفصاحه في آية ص بقوله: (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) (ص: 41)، فبني كل (من الأيتين) على ما يباسبه، فقيل جواباً على عظيم تضرعه وتلطفه في قوله: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ما يلائم لطيف هذه الشكوى، وعلى قوله (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) ما يناسب إفصاحه بهذه البلوى، فقيل بناء على الأول: (فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) (الأنبياء: 84)، وقيل بناء على الثانية: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) (ص: 42)، لما وقع ذكر الشيطان، وأنه السبب في ذلك الامتحان، جووب باستعمال سبب فقيل له: اركض برجلك واغتسل وذلك يذهب عنك ما مسك به الشيطان، وحين لم يذكر، عليه السلام، واسطة جووب برفع ما به بغير واسطة سبب، فقيل جواباً لقوله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) (الأنبياء: 84)، وبني على الأول قوله: (رَحْمَةً

الآية السابعة

مِنْ عِنْدِنَا) لتمكن (عند) فيما قصد، وعلى الثاني: (رَحْمَةً مِنَّا) إذ ليس موقعها موقع (مِنْ عِنْدِنَا)، ثم قيل في الأولى: (وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) مناسبة لما تقدم، وقيل في الثانية: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) مناسبة أيضاً، إذ اعتبار أولي الألباب يورثهم مقام العابدين، وهو أسنى مقام، وكل ذلك بعد مقامات عليه وأوال جليلة، وقد جرى مع (كل) مقام ما يناسبه، ووضح أن كلاً من هذه المبينات على ما قبلها لا يناسبه غير ما بني عليه، والله أعلم. وأما وجه خصوص الواقع في كل من السورتين بموضعه، فإن سورة الأنبياء لما رود فيها من قصص الأنبياء المذكورين قبل ذكر أيوب، عليه السلام، إعلاء مقاماتهم، ولم يرد في ذلك ما يخرج عن هذا، وذلك من لدن قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ) (الأنبياء: 51) إلى قوله: (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) (الأنبياء: 82)، ناسب ذلك من قصة أيوب، عليه السلام، ما يلائم هذا الغرض، فلما ورد في ص ما بني عليه قوله تعالى: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) (ص: 24) إلى قوله: (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ... ) (ص: 25) وما بني عليه (قوله): (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا) (ص: 34) ظغلى قوله: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) (ص: 35)، ناسب ذلك أيضاً ما أعقبت به من قصة أيوب، عليهم السلام، فتأمل الوارد من قصص داود وسليمان في قوله في الأنبياء: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ) (الأنبياء: 78) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (الأنبياء: 80)، والوارد من قصصهما في سورة ص، واعتبر ذلك، فإن الفرق في ذلك بين، وقد تنزل على كل من هذه القصص في السورتين ما يناسبهما من قصص أيوب، وإذا استوضحت ذلك علمت أن كلاً منهما لا يناسبهما من قصص أيوب، وإذا استوضحت ذلك علمت أن كلا منهما لا يناسبه غير موضعه، ثم إن كلا من الآيتين في السورتين قد جرى على ما اتصل به مما تقدمه وتأخر عنه من فواصل الآي ومقاطعها، فلو وردت على العكس لما ناسب آية منها ما اتصل بها، فحصل التناسب في اللفظ والمعنى على أوضح شيء، وأنه لا يمكن عكس الوارد على ما قد تمهد بوجه، والله أعلم بما أراد. الآية السابعة من سورة الأنبياء قوله تعالى: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا) (الأنبياء: 91)، وفي سورة التحريم: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) (التحريم: 12)، فيسأل عن وجه الاختلاف في الضميرين مع اتحاد المعنى المقصود من الواقع به الثناء وإن اختلف الحامل على ذكر قصتها في الموضعين؟ وعن وجه اختصاص كل واحد من الموضعين بالوارد (فيه)؟ والجواب عن الأول، والله أعلم: بعد تسلمي اتحاد المعنى الواقع به البناء، إن الضمير في الأولى عائد إلى ما أشير إليه بالموصول الذي هو التي، وهي مريم ابنة عمران

الآية الثامنة

المفتتح باسمها في آية التحريم، أعيد الضمير هنا إليها من حيث إن ذلك تخصيص وتكريم جليل وآية باهرة، وقد قصد ههنا تشريفها وتشريف ابنها، عليه السلام، بالذكر في قوله: (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً) (الأنبياء: 91)، ولم يقع في آية التحريم ذكر ابنها، فلما اتسع المقصود هنا بذكر من لم يذكر هناك، وقصد من التشريف ما هو أكثر، ناسبه التوسعة في عودة الضمير، فأعيد إلى الذات المطهرة (بجملتها، فقيل): (فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا)، وأفهم ذلك ما أفهمه الضمير الخاص بمحل النفخ من غير إشكال، وقيل في آية التحريم: (فيه) لعوده إلى الموضع المخصوص على ما يجب، لم يقصد هنا من توسع المدح ما قصد في الأولى، وإنما قصد بآية التحريم تخصيصها في ذاتها بعظيم إيمانها، وتصديقها، وإثباتها في القانتين، وتشبيه حالها في سابق سعادتها بالمذكورة قبلها، واجتماعهما في ضرب المثل بهما للمؤمنين، فالحامل على ذكرها هنا غير الحامل في سورة الأنبياء مع اتحاد الوصف الواقع به التمدح، مع تناظر الألفاظ (وتشاكلها)، وهي قوله تعالى: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا) (الأنبياء: 91)، فاجتمع في هذا الموضع ما قصد من مدحها ومدح ابنها، عليه السلام، مع مضارعة الألفاظ وتشاكلها، فجاء كل على ما ثبت فيه، ولم يقصد في التحريم غير ذكرها بالحال التي ناسبتها فيها امرأة فرعون، ولم يوسع الكلام بذكر ابنها، عليه السلام، كما ذكر في الأخرى، ولا هنا داعية تشاكل كما هناك، فلهذا ورد الضمير على ما ورد من الخصوص فقيل: (فيه). والجواب، عن وجه اختصاص كل واحد من الموضعين بالوارد فيه: أن آية الأنبياء ورت منسوقة على آيات تضمنت ذكر جملة من الرسل، موصوفين بخصائص عليه وآيات نبوية، أولهم إبراهيم، عليه السلام، ثم ابنه إساحاق ثم ابنه يعقوب ثم نوح ولوط وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون وزكرياء، فلما ذكر هؤلاء العلية، عليهم السلام، بخصائص ومنح ناسب ذلك ذكر مريم وابنها بما منحا عليهما السلام. وأما آية التحريم فمقصود فيها ذكر عظيمتين جليلتين يبين بهما حكم سبقية القدر بالإيمان والكفر، وهما قضية امرأتي نوح ولوط، وإن انضواءهما إلى هذين النبيين الكريمين، عليهما السلام، انضواء الزوجية التي لا أقرب منها، ومع ذلك لم يغنيا عنهما من الله شيئاً، وقصة امرأة فرعون وقد انضوت إلى أكفر كافر، فلم يضرها كفره، ثم ذكرت مريم، عليها السلام، للالتقاء في الاختصاص وسبقية السعادة، ولم يدع داع إلى ذكر ابنها فلا وجه لذكره هنا، وأما آيةالأنبياء فلذكره هناك أوضح حامل، فجاء كل على ما يجب، ولا يمكن فيه عكس الوارد، والله أعلم.

الآية الثامنة

الآية الثامنة من سورة الأنبياء قوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) (الأنبياء: 92 - 93)، وفي سورة المؤمنون: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون: 52 - 53)، للسائل أن يسأل عن قوله في الأولى: (فَاعْبُدُونِ) وفي الثانية: (فَاتَّقُونِ)؟ وفي الأولى: (وَتَقَطَّعُوا) وفي الثانية (فَتَقَطَّعُوا)؟ وفيها أيضاً: (زُبُرًا) ولم يرد في الأولى؟ وأتبعت الأولى بقوله: (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) والثانية بقوله: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)؟ فهذه أربعة مواضع مما يسأل عنها؟ فأقول تمهيداً للجواب: الأمة هنا الملة، وقوله: (إِنَّ هَذِهِ) إشارة إلى ملة الإسلام، قال الزمخشري: أي ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها، لا تنحرفون عنها، ملة واحدة وغير مختلفة، وأنا إلهكم إله واحد فاعبدون، والخطاب للناس كافة، قال: والأصل وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كأنه ينفي عنهم ما أسمدوه، ويقبح عندهم فعله، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، قال والمعنى جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً كما تتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه فيصير لهذا نصيب ولذالك نصيب، تمثيلاً لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى، ثم توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون، فهو يحاسبهم ويجازيهم، هذا معنى كلامه. ونرجع إلى الجواب (فنقول: الجواب) عن الأول أن سورة الأنبياء لم يرد فيها ذكر لفظ التقوى في أمر ولا خبر من أولها إلى آخرها، وورد الأمر بالعبادة في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 25). وأما سورة المؤمنون فتكرر فيها ذكر التقوى في ثلاثة مواضع، أولها - قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (المؤمنون: 23)، وفي ما بعد الآية المتكلم فيها (قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (المؤمنون: 87)، فروعي في الأولى ما تقدمها، ونوسب بالثانية ما اكتنفها، وأيضاً فإن العبادة مأمور بها ليحصل الاتقاء، فهي مقدمة في الطلب لتحصيل ما يتسبب عنها إذا كانت الإجابة، وعلى ذلك ورد دعاء الخلق، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 21)، وفي سورة المؤمنون المذكورة: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا

إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (المؤمنون: 23)، فالاتصاف بالتقوى ثان عن الاتصاف بالعبادة، فقيل في الأنبياء: (فَاعْبُدُونِ) وفي سورة المؤمنون: (فَاتَّقُونِ)، وكلاهما ذكر على مقتضى الترتيب، وأيضاً فإنا إذا اعتبرنا ما قدم من قصص الرسل في السورتين وجدنا الوارد في سورة الأنبياء مقصوراً على ذكر منحهم وتخليصهم وتأييدهم من لدن قوله تعالى في إبراهيم: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ) (الأنبياء: 51)، وقوله: (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 73)، فتضمنت هذه الآي بضعة عشر نبياً، أولهم إبراهيم وآخرهم من أعقب ذكره بالآية المذكورة، وقد اقتصر من قصصهم في هذه الآي على ما يطلع المؤمنين على تكفله سبحانه بالمصطفين من عباده وما اختصهم به، ولم يرد مع ذلك تكذيب قومهم لهم، ولا ما يرجع إلى هذا وكل هذا تأنيس وذكر نعم وآلاء وألطاف يناسبها قوله: (فَاعْبُدُونِ) لكونه أمراً بالعبادة مجرداً عما في قوله: (فَاتَّقُونِ) من التخويف. وأما الوارد في سورة طه فمتضمن الطرف الذي عدل عنه في سورة الأنبياء، وهو ذكر جواب الأمم للرسل وقبيح تكذيبهم إياهم وشنيع ردهم وقبيح مقالهم كقول قوم نوح، عليه السلام: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) (المؤمنون: 24)، (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) (المؤمنون: 24 - 25)، ثم بالغوا في الاستهزاء بقولهم في إخبار الله تعالى عنهم: (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) (المؤمنون: 25)، وقول أهل القرون المذكورين بعد قوم نوح لنبيهم: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) (المؤمنون: 33)، وقوله: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) (المؤمنون: 34) إلى قوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) (المؤمنون: 38)، وقوله تعالى لما تواتر ذكر إرسال الرسل وتكذيب قومهم لهم فقال تعالى: (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ) (المؤمنون: 44) إلى قوله: (فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) (المؤمنون: 44)، وقال تعالى مخبراً عن قوم موسى: (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ) (المؤمنون: 46)، فناسب هذا التخويف بقوله عقب هذا: (فَاتَّقُونِ)، كما ناسب ما تقدم في آية سورة الأنبياء قوله تعالى: (فَاعْبُدُونِ)، ولم يكن ليناسب ورود واحدة منها موضع الأخرى، فجاء كل على ما يجب، ولا يمكن خلافه. والجواب عن السؤال الثاني، وهو الفرق بين قوله في سورة الأنبياء (وَتَقَطَّعُوا)، وفي سورة المؤمنون (فَتَقَطَّعُوا) بفاء التعقيب: أنه ورد في آي الأنبياء قبل هذه الآية تأنيساً لنبيا صلى الله عليه وسلم قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) (الأنبياء: 7)

وقوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (الأنبياء: 7)، ثم قال: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) (الأنبياء: 8) إلى قوله: (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ) (الأنبياء: 9)، فنبهوا على السؤال، ثم ذكر من قصص الأنبياء أوضحه وأجلاه لمن اعتبر، وأورد ذلك إيراد التلطف بذكر تخليص أولئك العيلة، عليهم السلام، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ) (الأنبياء: 25 - 26)، ونظير هذا قوله تعالى: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) (الرعد: 30). فهذه الآي في قوة أن لو قيل: نحن نبين لهم وهم يكفرون، فهو سبحانه يذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم أحوال الأمم مع الرسل مع مشاهدة الآيات تأنيساً له صلى الله عليه وسلم وتذكيراً بالصبر على قومه، (فعلى) هذا المنهج جرى الوارد من قوله: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) (الأنبياء: 93) أي نبهناهم على السؤال، وأوضحنا (لهم) أمر من تقدمهم وعاقبة الاستجابة لمن تمسك بهدي المذكورين، وهم مع ذلك على عنادهم وافتراقهم، وكأن الكلام وارد مورد التعجب من أمرهم، ولم يشبه شدة الوعيد ليبقى رجاؤه، عليه السلام، في استجابتهم، فلم يخل معنى الكلام مع الإخبار بتفرقهم عن بعض إبقاء تأنيس مناسباً لما تقدمه، ولهذا لم يقع بعد الآية تسجيل بتصميم على الكفر ولا إمعان في طرف التخويف الوارد في آية المؤمنون من قوله: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون: 53) إلى قوله: (بَلْ لَا يَشْعُرُونَ) (المؤمنون: 56) كما في آية الأنبياء آنفاً. أما قوله في المؤمنون: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) (المؤمنون: 53) فمنزل على ما قبله منزلة قوله في سورة النحل: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) (النحل: 36) إلى قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) (النحل: 36)، وهذا وعيد شديد لمن حقت عليه كلمة العذاب ولم يجد عليه التذكار، فكان مجموع هذه الآي في قوة أن لو قيل لهم: قد بين لكم، وأطلعتم على مآل من كذب، وخوطبتم بما قيل للرسل: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) (المؤمنون: 51)، وملة الكل ملة واحدة، ولم تؤمروا بما لا تطيقونه، فتقطعتم. إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كما جرى في سورة الأنبياء فقيل: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) أي فتفرقوا وما أجدي عليهم القرآن شيئاً، فهذه الآية أشد في التخويف والترهيب من الأخرى، وكل يناسب ما قبله. ولو وردت إحداهما موضع الأخرى لما ناسب، والله أعلم.

والجواب عن السؤال الثالث: أن قوله في آية المؤمنون (زُبرا) تأكيد لافتراقهم، وانتصابه على الحال الواردة بياناً وتأكيداً لقبح تفرقهم وشنيع مرتكبيهم، فناسب ذلك مقصود هذه الآية هنا من التخويف والإنذار، ولم يكن ليناسب آية الأنبياء لبنائها على غير ما قصد هنا، لما تقدمها من تأنيس نبينا صلى الله عليه وسلم، وتعريفه بما منح سبحانه متقدمي الرسل، وما أعقبهم صبرهم على أممهم، وهو، عليه السلام، قد قيل له: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90)، فقدم له، عليه السلام، في سورة الأنبياء من قصصهم ما ثبت فؤاده، وصار جليل هذا التأنيس مما بنيت عليه السورة، وعلى ذلك جرت سورة مريم وسورة طه على ما مهدته وبسطته في ترتيب هذه السور الكريمة، فمن حيث الإشارة إلى ما ذكر لم يكن ليناسب ذلك تأكيد افتراقهم وتشتتهم، ولما رجع الكلام للآية الثانية، بعد تثبيته، عليه السلام، وتأنيسه، إلى التعريف بمرتكبات الأمم، وذكر ما استحقوا به ما عوقبوا به، وإن كلاً من المكذبين أخذ بذنبه، كان ذلك مظنة تأكيد المرتكب، فقيل: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا) (المؤمنون: 53)، والله أعلم. والجواب عن السؤال الرابع: أن تعقيب آية الأنبياء بقوله: (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) (الأنبياء: 93) وإن كان وعيداً وتهديداً فليس في شدة التهديد ومخوف الوعيد كالواقع في سورة المؤمنون، يوضح ذلك ويبينه ما اتصل بكل من الآيتين من قوله في آية الأنبياء: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) (الأنبياء: 94)، فذكر عند وجوعهم إليه سبحانه جزاء من أجاب وأحسن، وطوى الكلام عن الإفصاح بحكم الطرف الآخر من ذكر من أساء، فلم يجر لهم ذكر مفصح به كما في الطرف الآخر، مع أن إجمال قوله تعالى: (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) (الأنبياء: 93) وما أعقب به من قوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (الأنبياء: 94) كقوله في آية المؤمنون: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) (المؤمنون: 54) وقوله: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ) (المؤمنون: 55 - 56) فقد وضح مناسبة المتبع به في كل من الآيتين لما تقدمه، ولم يكن ليناسب عكس الوارد، والله أعلم.

سورة الحج

سورة الحج الآية الأولى منها: غ - قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ... ) (الحج: 5)، وفي سورة المؤمن: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر: 67)، ففي الأولى: (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) ولم يقع التعريف بهذه الأحوال من الانتقال عن العلقة، وهو الدم المتعقد المتغير عن النظفة، وهو هنا المني المنفصل يصير (هنا) دماً جامداً، ثم يصير مضغة، والمضغة قطعة لحم قدر ما يمضغ مثله، ثم قد يتم سبحانه خلق تلك النطفة وتخطيطها وتصويرها على ما يشاء من هيئة وصورة ولونية كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) (آل عمران: 6)، وقد لا يتم، فينقص من خلقها ما يشاء من الأعضاء والحواشي، وإلى هاتين الحالتين الإشارة، والله أعلم، بقوله: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)، أي تامة الخلق وغير تامة، فأشار تضعيف لفظ مخلقة إلى هذا فقيل مخلقة وغير مخلقة، أما السقط المولود لغير التمام فحصل من مفهوم قوله تعالى بعد: (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (الحج: 5)، إذ مفهوم هذه - والله أعلم - أن بعض ذلك لا يقره تعالى وهو السقط، هذا - والله أعلم - إلى ما قدمنا، قوله: (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي الأجل الذي يشاء تعالى إبراز الموجود فيه وولادته، فهذه الانتقالات والأحوال قد اختصت بها هذه الآية، ولم ترد في آية سورة المؤمن مع البادي في اتحاد المقصود في الموضوعين، فلسائل أن يسأل عن وجه ما ورد في الآيتين؟ والجواب، والله أعلم: أن آية سورة الحج مقصود فيها إقامة البرهان على البعث الأخراوي وبسط الدلالات على كيفية وإرغام منكرية، ألا ترى أن هذه الأحوال

الآية الثانية

والانتقالات على ما وضح من التدريج لا تكون إلا من فاعل قادر مختار عليم حكيم، وقد فسر مقصود هذه الآية وزاده إيضاحاً قوله تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ .... ) (يس: 78)، وقال تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ .... ) (الأنبياء: 104)، ويزيد هذا المقصود أيضاً بياناً تعقيب آية الحج بقوله: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج: 5)، فهذا إحياء بعد الموت، ثم قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الحج: 6)، فتأمل هذا التعقيب وافتتاح الآية بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) (الحج: 5)، واعتبر ما انطوت عليه هذه الآي يلح لك ما تقدم من مقصودها. أما آية سورة المؤمن فلم تتجرد لهذا الغرض وإن تضمنت ذلك بالإيجاز، وإنما بناؤها على تذكير الخلق وتنبيههم على وحدانيته سبحانه وانفراده بالخلق والأمر وتنزيهه عن الشركاء والأنداد ونفي ما عبد من دونه تعالى، وتأمل ما تقدم من لدن قوله تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (غافر: 57) الآية المذكورة وما بعدها يبن لك ما قصد بهذه الآية، وإنما اختصت عن آية سورة الحج بما ذكرنا، واختصت تلك بما تقدم، فلذلك زيد فيها من التفصيل ما تقدم، ولم يكن العكس ليناسب، والله أعلم بما أراد. الآية الثانية قوله تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (الحج: 22)، وفي سورة السجدة: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (السجدة: 20)، هنا سؤالان: الأول قوله في آية الحج: (منغم) ولم يرد ذلك في سورة السجدة؟ والثاني ما أعقبت به كل من الآيتين؟ الجواب عن الأول: أن زيادة قوله: (من غم) في الآية الأولى مناسب لما ورد قبله وبعده من تفصيل الجزاء في الطرفين بعد ذكر الحالين من نعيم أو عذاب لما قال تعالى: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) (الحج: 19) إلى قوله تعالى: (وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) (الحج: 21)، وقال في الطرف الآخر: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... ) (الحج: 23) إلى قوله: (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) (الحج: 23)، ففصل حال هؤلاء، فناسب هذا زيادة: (من غم)، ونظير هذا التفصيل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)

الآية الثالثة

(النساء: 57) إلى قوله: (ظِلًّا ظَلِيلًا) (النساء: 57)، والإطناب يناسب الإطناب، ولما قال في سورة السجدة: (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ) (السجدة: 19 - 20)، فلم يقع تفصيل في الطرفين، وأوجز الكلام ناسبة الإيجاز، فلم يرد هنا قوله: (منغم)، ونظير هذا في إيجاز الجزاء قوله تعالى جزاء من الطرفين: (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات: 41)، فلم يقع وصف الجزاء ولا تفصيل هذه كآية السجدة من غير فرق، وللإطناب في التفصيل زيد في آية الحج ما حذف للإيجاز في آية السجدة، وورد كل على ما يجب ويناسب، ولم يكن عكس الوارد ليناسب على ما تمهد. والجواب عن الثاني: أن آية السجدة لما قيل فيها: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا)، والفسق الخروج، وقد يكون إلى معصية دون الكفر، ويكون إلى الكفر حين كذبوا بالوعد والوعيد الاخراوي، فقيل لهم: (ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (السجدة: 20)، أما آية الحج فتقدم قبل ذكر الإفصاح بكفرهم في قوله: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) (الحج: 19)، فلم يحتج إلى التعريف الوارد في سورة السجدة، فجاء كل على ما يجب ويناسب، ونظير الواقع في آية السجدة وصف النار واتباعها بصفة المعذب بها قوله تعالى في سورة سبأ: (فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) (سبأ: 42)، لما تنزل عذابهم على الظلم، والظلم يقع على الكفر وعلى ما دونه، فاتبع الوعيد بما يبين أن المراد ظلم التكذيب والكفر لا ظلم معصية دون الكفر، كما بين في سورة السجدة أن المراد بالفسق الكفر لا فسق معصية دونه، فوضح ما قلته. والحمد لله. فأما ما وقع في هاتين الآيتين من التذكير والتأنيث في الموصول والضمير في قوله: (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (السجدة: 20)، وقوله في الآية الأخرى: (الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) (سبأ: 42)، مع التساوي فيما جرى عليه الوصف، فإن ذلك لرجوع الوصف في آية السجدة إلى العذاب وهو مذكر، ورجوعه في آية سبأ إلى النار وهي مؤنثة، ويذكر وجه التخصيص في سورة سجدة لقمان إن شاء الله تعالى. الآية الثالثة - قوله تعالى: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ) (الحج: 45)، وقال تعالى بعد هذا: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ) (الحج: 48)، يسأل عن الفرق الموجب لاختلاف الواقع في الآيتين؟

الآية الرابعة

والجواب: أن الآية الأولى تنزلت على ما ذكر قبلها ممن أهلك من القرون والأمم السالفة بتكذيبهم للرسل، ممن قال فيهم بعد تفصيل ذكرهم: (وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) (الحج: 44)، وأما الآية الثانية فوقع قبلها ذكر اسنعجالهم العذاب تكذيباً واستبعاداً في قوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) (الحج: 47)، فعرفوا بأن تأخيره عنهم إملاء للمكذبين به: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) (آل عمران: 178)، وقيل في حالهم في التكذيب واستبعاد وقوع العذاب، قد جرى لمن قبلهم من المكذبين ثم جاءهم ما كذبوا به وحل بهم ما استبعدوه فقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا) (الحج: 48)، فاستعجالهم العذاب أوجب تعريفهم بحال غيرهم ممن ناسب حالهم لعلهم يتذكرون، يزيد ذلك بياناً قوله: (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (الحج: 48)، وكأن الكلام في قوة أن لو قيل لهم: إنما يعجل من يخاف الفوت، أمّا إذا كان مرجع الكل ومصيرهم إليه فيأخذ المكذب متى شاء، وإن أخره فإملاه لزيادة مِحنِهَ، فوضح ما بين الآيتين، وأنه لا يمكن على ما تمهد وقوع واحدة منهما في موضع الأخرى، والله أعلم. الآية الرابعة من سورة الحج قوله تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (الحج: 47)، وفي سورة السجدة: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (السجدة: 5)، وفي سورة المعارج: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج: 4)، يسأل عن وجه الفرق؟ وما معنى تقدير اليوم بما ذكر تعالى؟ والجواب عنه، والله أعلم: أن المراد تبيين أفعال سبحانه، وأنه لا تكلف فيها ولا معالجة: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82)، فكأن قد قيل لهم: إذا شاء هذابكم كان، فإنه سبحانه المتعالي عن التعاون والمعالجة والافتقار، فإذا قدر الشيء وأراد إنفاذه كان وتحصل في الوقت الوجيز القريب، منه ما تصدرون حصوله ومعالجة وقوعه في ألف سنة من أيامكم أو ما تقدرون تهيئة ونفوذه بألف سنة من أيامكم على مألوفكم، وإذا أراد سبحانه وقوع ذلك كان (عن أمره كن) أعجل من كل عاجل، إذ ليست أفعاله كأفعال خلقه التي يحتاجون فيها إلى العون والعلاج والآلات، تعالى الله عن شبه خلقه، فَلِمَ يستعجلون ما لا تكلف في وقوعه وحلوله؟ فإنما يمنع من استعجاله ربطه بأجل، إذا بلغ الأجل كان وقوعه، وهو يوم القيامة، وهو الأجل المسمى، ومن شاء تعجيل عذابه في دنياه أو ما شاء من امتحانه حل به إذا آن وقته، وتوقفه عمن قدره عليه إملاء وزيادة في امتحانه، (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا) (الحج:

الآية الخامسه

48)، (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) (الأعراف: 34)، وعلى هذا قوله: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْه .... ) (السجدة: 5)، المراد أن بعد هذه المسافة لا تحول دون استعجال نفوذه تدبيره وإمضاء مقاديره، وأنه سبحانه ليديرها ثم ترجع إليه في وقت لو وُكل ذلك إليكم وكان من مقدوراتكم لفعلتموه في ألف سنة على نحو ما تقدم في الآية الأخرى. وأما آية المعارج فالمراد باليوم المذكور فيها يوم القيامة، الواقع فيها حساب الخلائق، ووزن أعمالهم، وفصل ما بينهم، إلى استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ففيه من الأعمال المتعلقة بالخلق ما يتقدر وقوعه وتخلصه من أيام الدنيا على متعارفها، مع عظيم أهواله وشدة كروبه، وأيام الأهوال والشدائد توصف بالطول لعظيم أهوالها، مع ما يقتضي فيه. مقدر من أيامنا بخمسين ألف سنه، وهو على مؤمن التقي كصلاة صلاها، قال تعالى: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (المدثر: 8 - 10)، ويدل على أن المراد به يوم القيامة ما ذكره الله سبحانه عقب تقديره من وصفه بقوله: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ) (المعارج: 8) إلى قوله: (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ) (المعارج: 14). الآية الخامسة من سورة الحج قوله تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الحج: 50)، وبعد هذه الآية قوله تعالى: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (الحج: 56)، يسأل عن وجه الاختلاف فيما ذكر من الجزاء مع اتفاق وصفهم بالإيمان وعمل الصالحات؟ والجواب عنه أن الآية الأولى إخبار لهم عند دعائهم قبل: أن ((آمنوا))، ألا ترى أن قبله أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بما يقول لهعم في قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الحج: 49)، ثم أخبرهم بمآلهم إن آمنوا من غفران ما تقدم لهم من أعمال المخالفات والمجترخحات، والرزق الكريم، ولما ذكر في الآية الأولى حالهم في الدار الأخرى بعد انصرام الدنيا، وحصول اتصافهم بالإيمان وأعمال الطاعات، أخبروا فيها بالحاصل من المغفرة، وبين لهم الرزق الكريم وأنه نعيم الجنة والخلود الأبدي فيها، فالآية الأولى تضمنت وعدهم إن آمنوا، وذلك عند دعائهم إلى الإيمان، ويزيدك في ذلك بياناً نداؤهم في دعائهم إلى الاستجابة بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) (الحج: 49)، ولو كانوا قد حصل لهم الإيمان لوسموا بذلك في خطابهم، فكأن يقال: يا أيها

الآية السادسة

الذين آمنوا، فإنما دعوا بما به (يدعى) من لم يحصل له الإيمان ولا اتصف به، وبشروا إن آمنوا، ثم أخبروا ثانياً بالحاصل لهم بياناً لمضمن البشارة الأولى وإخباراً لهم بغاية الجزاء، فالآية الثانية بيان وتفصيل لما أجمل في الآولى، مرتب عليه وآت بعده بما يجب فيما يأتي فيه الإجمال والتفصيل، فكأنهم قالوا: ما الرزق الكريم؟ فقيل لهم: جنات النعيم، فورد كل من الآيتين على ما يجب ويناسب، ولا يلائم ما ورد من الجزاء في الآية الثانية - على تمهيد - ما وقع دعاء أو خطاباً في الأولى، ولا ما بني على الآية الأولى أن وقع إخباراً في الثانية، بل ورد كل على ما يجب، والله أعلم. الآية السادسة من سورة الحج قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) (الحج: 62)، وفي سورة لقمان: (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ) (لقمان: 30)، للسائل أن يسأل عن التأكيد بزيادة ((هو)) في سورة الحج وسقوطه من سورة لقمان؟ ووجه ذلك، والله أعلم: أن سورة الحج ورد فيها ما يستدعي هذا التأكيد بالضمير المنفصل ويناسبه، وهو تكرر الإشارة إلى آلهتهم والإفصاح بذكرهم تعريفاً بوهن مرتكبهم وشنيع حالهم، وأوضح هذا المتكرر وأشده ملاءمة الإتيان بهذا الضمير المعد فصلاً أو مبتدأ قوله تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 31)، وقوله في آخر السورة: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) (الحج: 73)، فهذه الآية والتي ذكرنا قبلها أنسب شيء لقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) (الحج: 62)، فورد قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) الآية بناء على قوله: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ)، وتمهيداً وتوظئه لما وبخوا به بعدها وقرعوا مما لا يجدون عليه جواباً من قوله: (لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) (الحج: 73) إلى قوله: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الحج: 74). (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) (الحج62)، فتأمل عظيم هذه المناسبة والتئام هذه الآية العظيمة، ولو لم تتقدم الآية المتقدمة من قوله: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ) (الحج: 31) الآية لكانت الأخيرة وهي قوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا) (الج: 73) والتقديم والتأخير مما يرتكبه العرب كثيراً، ويوجد في فصيح كلامهم، ومن نحو هذه الآية التي بنينا مفهومها على تقدير التقديم والتأخير قوله تعالى في سورة البقرة: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) (البقرة:

الآية السابعة

72)، فتأخر هذا في الترتيب والتلاوة عن قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) (البقرة: 67). وفعلهم متقدم من جهة معناه لأنهم إنما أمروا بذبح البقرة عند تشاجرهم في أمر القتيل المشار إليه، فالآيتان في قوة أن لو قيل: وإذ قتلتم نفساً فادرأتم فيها فأمرتم بذبح البقرة فأوضح لكم ذلك حكم القتيل، فعلى هذا كانت تكون آية سورة الحج لو لم يرد قوله أولاً: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ .... ) الآية، فكان ترتيب الآية على قصور أفهامنا وما عليه ترتيب الكتاب العزيز أعلى نظماً وأجل، ولكن أفهامنا قاصرة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الحج: 73 - 74) (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) (الحج: 62)، فقدم وأخر لعامل أيضاً على التقديم والتأخير لسنا الآن له، فهذه كأية البقرة سواء، ولما لم يقع في سورة لقمان مثل هذا لم يرد فيها التأكيد، وذلك أبين شيء وأنسبه، وإعراب هذا الضمير مبتدأ أو فصلاً، وثمرته التأكيد لما ذكر، والله أعلم. الآية السابعة من سورة الحج: (قوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الحج: 64)، وفي سورة لقمان: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (لقمان: 26)، للسائل أن يسأل عن زيادة (ما) في قوله في الآية الأولى: (وَمَا فِي الْأَرْضِ)؟ وزيادة لام الابتداء المؤكد في الجملة التي هي خبر إن وسقوط الحرفين في آية لقمان؟ والجواب: أن الزيادتين معاً للتأكيد، لا تدخل اللام الخبرَ لغير ذلك، وتكرار الموصول أيضاً لذلك فدخلتا في آية الحج لما قدرت الآية قبلها من السورة من بنائها على مقصود التأكيد فجواب هذين السؤالين حاصل مما تقدم. والله أعلم. ******

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون الآية الأولى منها قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون: 1 - 11)، وفي سورة المعارج: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) (المعارج: 19 - 35)، للسائل أن يسأل عما اختلف في هاتين السورتين من هذه الأوصاف بالتكرار فيهما والزيادة مع اتحاد مرماهما من ذكر حِلي المؤمنون وأوصافهم التي بها نجاتهم بتوفيق الله إياهم؟ ففي الأولى: ذكر الخشوع في الصلاة، والإعراض عن اللغو، والتنصيص على الزكاة، ولم يرد إفصاح بهذه الخصال الثلاث في سورة المعارج، وفي سورة المعارج المداومة على الصلاة، وتعيين ذوي الحق في المال بأنهم السائل والمحروم، وذكر التصديق بيوم الدين، والدين الجواء، وذكر الإشفاق من عذاب ربهم وأنه غير مأمون، وذكر القيام بالشهادة، ولم يقع إفصاح بهذه الخصال الخمس من سورة المؤمنون، وتوارد على الاتفاق في السورتين التساوي على حفظ الفروج، وذكر الأمانة، والعهد والمحافظة على الصلاة، أربعتها، فهذه ثلاثة سؤالات: أحدها التكرر والاتفاق؟ والثاني وجه ما اختصت به سورة المؤمنون؟ والثالث (وجه) ما اختصت به سورة المعارج؟ والجواب عن الأول: أن حفظ الفروج أحد الأصول الخمسة التي اتفقت فيها

الشرائع، ولم يخالف فيها أحد من العقلاء، وهي: حفظ النفوس، والأموال، والفروج، والعقول، والأعراض. وأما الأمانة فلا يتم حفظ هذه الخصال إلا بها، فهي الأصل لتلك الأصول، والضابط لجميع التكاليف، وزمام الأديان، وفي الحديث: (الدين الأمانة ولا دين لمن لا أمانة له)، وهي التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبت عن حملها، وهي بالجملة ملاك الددين. وأما الوفاء بالعهد فلاحقُ بالأمانة في نصاب التأكيد، قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) (الإسراء: 34)، وتكرر الأمر بذلك لعظيم قدر الأمانة و (العهد). وأما المحافظة على الصلوات، رعياً لأوقاتها، وكيفية أدائها، وما تنظوي عليه من جميع مطلوباتها ومتعلقاتها، وما تستلزمه وتستتعبه حتى تكون ناهية عن الفحشاء والمنكر، فذلك كل الدين، والمعبر به عن أخص صفات الناجين في قوله تعالى إخباراً عن جواب الهالكين: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (المدثر: 43)، فموقع هذه الخصال الأربع وضمها لما سواها من المطالب الإيمانية، واشتمالها على جميعها، أوجب تعيينها بالذكر، ولم يكن ليحصل من ذكر غيرها ما حصل من التنصيص عليها فتكررت في السورتين، ونص فيهما عليها لأنها أمهات لما سواها. فإن قلت: فإن الزكاة شقيقة الصلاة في التأكيد لأنها أم العبادات المالية، ولهذا قاتل أبو بكر مانعيها ورجع الصحابة، رضي الله عنهم، إلى قوله، وقل ما يرد الأمر بالصلاة في كتاب الله إلا مقروناً به الأمر بالزكاة، قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (التوبة: 5)، وهذا هو الذي تهدي إليه الصديق، رضي الله عنه، غير متذكر في الوقت والله أعلم للآية، وإذا وضح ذلك فللقائل أن يقول: فلم لم تذكر مع أنها من الأمهات؟ والجواب عن هذا - والله أعلم - أن وصف الحق بمعلوم في قوله: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) جار مجرى الإفصاح بذكر الزكاة، إذ لا مطلوب معلوماً مقدراً في المال إلا الزكاة، فقام الوصف مقام الإفصاح بذكرها. والجواب عن السؤال الثاني، وهو وجه ما خصت به آية المؤمنون، وهو أنه افتتحها تعالى بقوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)، والمفلح الظافر ببغيته، ابتداء من أوصاف المفلحين بأجل خصالهم، وهو خشوعهم في صلاتهم المنبئ بعظيم خوفهم الذي لا يمكن معه

تفريط ولا فتور في العبادة، ثم قال: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)، ومن أعرض عن اللغو سلم من كل ما يشين دينه، وحصل من هذا وما قبله ترك الممخالفات جملة، ثم قال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) (المؤمنون: 4)، وهذه أخت الصلاة، قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (التوبة: 5)، وقال بعد: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (التوبة: 11)، وقد حصل بحصول هذه الخصائص ما به وصف المتقون في قوله: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إلى قوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة: 5)، فوضح منه أن هذه أخص صفات من أفلح وفاز برضى الله سبحانه، فهذا ما أوجب تخصيص هذه السورة بالإفصاح بهذه الأوصاف الثلاثة. وأما ما خصت به سورة المعارج - وهو الجواب الثالث - إنه سبحانه لما وصف الإنسان بقوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) (المعارج: 19)، والهلوع الفزع الشديد يقال هلع بكسر ثانية فهو هلع وهلوع، ثم ذكر سبحانه ما يثمره للإنسان هلعه فقال: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا) (المعارج: 20)، والجزع ضد الصبر، (وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) (المعارج: 21) والمنع ضد الإعطاء وكلا الوصفين من الجزع والمنع مذموم، مأمور شرعاً بضدهما من الصبر والإيثار، وقد أثنى سبحانه على الصابرين والمؤثرين، فالهلع من أرذل صفات الإنسان، فذكر تعالى صفات من سلم منه، وأنهم المداومون على صلاتهم، لأن المداومة على الصلاة عنوان على تلقي الأوامر بالقبول والامتثال، ولا يكون ذلك إلا عن يقين صادق، وقد قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ) (طه: 132)، ومن تيقن أن خالقه تكفل له برزقه أجمل في الطلب، وذهب عنه الجزع، ومن علم الحق في ماله من زكاة مفروضة أو صدقة مندوب إليها لم يكن منوعاً للخير، فإذا اتصف بما ذكر، وكان ذلك عن تصديق يقيني بيوم حسابه، وإشفاق من عذاب ربه وعقابه، ولم يأمن المكر (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف: 99)، فمن كان هكذا فليس بهلوع، فلهذا استثنى من اتصف بهذه الصفات الجليلة عن مسببات الهلع من المنع والجزع، فلهذا وجه تخصيص هذه السورة بالإفصاح بما خصت به من هذه الأوصاف مفحصاً به. وإنما قلت: مفصحاً به لأن ما ذكر في هذه السورة مما لم يقع به إفصاح في سورة المؤمنون داخل تحت ما ذكر هناك، كما أن ما أفصح به هناك داخل تحت ما ذكر مفصحاً به هنا. ألا ترى أن أفعال المكلفين من الأحكام الخمسة وهي: الواجب والمحظور والمندوب والككروه والمباح، كل ذلك داخل تحت ضابط الأمانة والوفاء بالعهد، ومن

الآية الثانية

أوفى بما عهد عليه الله في أمانة فقد أتى ووفي بجميع التكاليف الشرعية أخذاً وتركاً، وكذا الصلاة الموصوفة تماماً وخشوعاً بأنها ناهية عن الفحشاء والمنكر، إلا أن الإفصاح والتنصيص النطقي حكم، عليه بنينا ما تقدم، فقد وةضحت النسبة فيما خصت به كل واحدة من السورتين، ووجه ما اتفقنا في وروده مفصحاً به، والله سبحانه أعلم. وأما الشهادة فداخلة تحت الأمانة، ووجه تخصيص هذه السورة بالإفصاح بها أنها الثانية في الترتيب الثابت، فاستوفت وأكدت ما أشير إليه في الأخرى، والله أعلم. الآية الثانية من سورة المؤمنون قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) (المؤمنون: 24)، وفي القصة الثانية بعدُ: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (المؤمنون: 33)، في هاتين الآيتين سؤالان، الأول: لِمَ قدم المجرور في القصة الثانية على الصفة فقيل: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) (المؤمنون: 33) ولم يؤخر عنها كما ورد في قصة نوح مع الاتفاق في وصف الملأ في القصتين بالكفر؟ والسؤال الثاني: وجه زيادة ما عطف على الوصف بالكفر في القصة الثانية من قوله: (وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (المؤمنون: 33) مع استحقاقهم العذاب بمجرد كفرهم، فما ثمرة الزيادة عليه؟ والجواب عن الأول: أن المجرور الذي هو: (من قومه) رافع إمكان أن يكون القائلون غيرهم. ويليه في الحاجة إلى ذكره وسمهم بالكف، لأنه سبب أخذهم وهلاكهم، إلا أنه لما كان قد يفهمه سياق الكلام لم يلزم الإفصاح (به) في كل موضع وإن أفصح به هنا، ألا ترى أنه لم يرد في قصة نوح، عليه السلام، من سورة الأعراف، أما الإفصاح بالمجرور فالإفصاح به أو بضمير يقوم مقامة ضروري لابد منه ليحصل منه تخصيص اعتناء برفع المفهوم ورفع احتماله جملة يقدم في فصيح الكلام وإن كان فضلة ومنه: لتقربن قربا جلزيا ما دام فيهن فصيل حيا أي ما دام في هذه النوق، فرفع بتقديم المجرور احتمال أن يكون المراد ما دام في الوجود، وقد تقدم مصل هذا، فكما يقدم على الخبر فكذلك يقم على الصفة للحاجة إليه. فإن قلت: لا فرق بين هذه القصة وقصة نوح قبلها في الحاجة إلى هذا المجرور أو ما يقوم مقامه فَلِمَ لَمْ يقدم هناك؟ قلت: لم يرد هناك غير صفة واحدة جعلت مع

الآية الثالثة

موصوفها كشيء واحد وإن كان الوصف بموصول، والموصول يطول بصلته، إلا أن طوله بصلته لا يزيله عن تقديره باسم واحد، فمن حيث جعلت الصفة مع موصوفها كشيء واحد للحاجة إليها، وكونها مفردة، قرنت بموصوفها وتأخر المجرور، فقال تعالى: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) (المؤمنون: 24)، وحيث لم يقع الاكتفاء بصفة واحدة وزيد عليها، ولا يمكن جعل صفتين فما زاد مع موصوفها كشيء واحد، قدم المجرور، فقال تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (المؤمنون: 33)، فوقع المجرور في كل من الآيتين على ما يجب، وعطفت الصفات بعضها على بعض لورودها غير صفة. والجواب عن السؤال الثاني: أن وجه الزيادة على الوصف بالكفر في قوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (المؤمنون: 33)، (أنها) منبئة بأن المذكورين في القصة الثانية ليسوا في شمول الكفر إياهم واستيلائه على معظمهم كقوم نوح، عليه السلام، بل الإيمان في هؤلاء أفشى وأكثر، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) (هود: 58)، ولم يقع هنا وصف من آمن من قوم هود بقلة ولا بكثرة، فبقى الاحتمال في الطرفين على حد سواء، إلا أنه ورد في وصف الملأ المكذبين من قوم هو في هذه السورة، ممن أفصح بالرد والتكذيب وصد الناس عن اتباعه، ما يشعر بأنهم ليسوا أكثر قومه، وذلك لما وصفهم به بعد الكفر من التكذيب والإتراف وهو التععم والترفيه، والعقل شاهد أن المترفين ليسوا جميعهم، أما الكفر فلا يبعد اتصاف أمة بأسرها به، ويبعد اتصاف جميعهم بالامتداد في التنعم والترفه، بل ذلك يمتنع به أن يتصف به الأكثر، فأشعر وصفهم بما ذكر بعد كفرهم بكثرة ما ذكر فيمن عداهم بخلاف الحال في قوم نوح، وأشعر أيضاً بامتدادهم وتمكنهم في دنياهم أكثر من غيرهم، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) (الفجر: 6 - 8)، فأشعرت زيادة الوصف بتوسع الحال وامتداد الآماد، فلم يكن بد من وصفهم بما ذكر. الآية الثالثة من سورة المؤمنون - قوله تعالى: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون: 41)، ثم قال تعالى عند ذكر القرون: (فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) (المؤمنون: 44)، فقال في الأولى: (فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون: 41)، ثم قال في الثانية: (فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) (المؤمنون: 44)، للسائل أن يسأل عن الفرق؟

الآية الرابعة

والجواب، أن الآية الأولى في أمة معينة، قد بين حالها وقبيح مرتكبها، وتحصل العلم بكفرهم وظلمهم أنفسهم، فقيل: (فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون: 41)، ووقوع اسم الظلم عليهم على أتم ما يقع عليه، من عدم الإيمان، وارتكاب العظائم من كفر وتكذيب وقبيح الرد، على ما تفصل في الآي قبلها، وأما قوله بعد: ((فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) (المؤمنون: 44) فورد عقب إجمال إخبار بطوائف وأمم اجتمعوا في التكذيب ورد ما جائتهم به رسلهم، فأعقب بوصف إذا وجد كان ما سواه من قول وعمل مناسباً له وبحسبه وهو عدم الإيمان، ولم يكن وصفهم بالظلم ليعطي ذلك لوقوعه على الظلم بالكفر وعلى الظلم بمعصية والمعصية ليست كفراً، ألا ترى أن بعض من يقع عليه اسم الظلم ويوسم به قد يكون مبقى عليه اسم الإيمان، بل لم يقترن به ما يقتضي كفره، أما من اتصف بعدم الإيمان فلا فلاح معه، فلما اجتمع هؤلاء الظائف في عدم الإيمان وسموا به، ولما كان عدم الإيمان حاصلاً لمن تقدم بما ذكر من تكذيبهم وأخذهم بالصيحة وجعلهم غثاء أعقب وصفهم بما ينبئ بالزيادة على كفرهم، إذ الكفر حاصل. فإن قلت: فقد تقدم في وصف هؤلاء الأمم: (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ) (المؤمنون: 44)، وحصل من ذلك عدم إيمانهم فلم كرر؟ ولِمَ لَم يوصفوا بالظلم؟ قلت: لم يقع في ذكر هؤلاء تفصيل مرتكباتهم كما ورد فيمن تقدمهم، فناسب إجمال الواقع من التكذيب إجال الوصف بعدم الإيمان، وجاء كل من ذلك على ما يجب، والله أعلم. الآية الرابعة من سورة المؤمنون - قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (المؤمنون: 81 - 83)، وفي سورة النمل: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (النمل: 67 - 68)، للسائل أن يسأل عن تقديم المضمر المذكور والمعطوف عليه على المفعول الذي (هو) ((هذا)) في آية المؤمنون وعكس ذلك في آية النمل؟ والجواب عنه، والله أعلم: أنه لما تقدم قبل آية المؤمنون قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) (المؤمنون: 68)، فتقدم التعريف في هذه الآية أن آباءهم قد جاءتهم الرسل، وأنذروا كما أنذر هؤلاء، لهذا قالوا: (لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (المؤمنون: 83)، ولما لم يتقدم في آية النمل

الآية الخامسة

ذكر إنذار آبائهم كان أهم شيء ذكر الموعود به الذي هو (هذا)، فقالوا: (لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا). الآية الخامسة - قوله تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (المؤمنون: 84 - 85)، ثم قال في الآية التي تليها: (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (المؤمنون: 87)، وفي الآية التالية: (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (المؤمنون: 89)، للسائل أن يسأل عن الوجه فيما أعقبت به كل آية من هذه؟ والجواب عن ذلك بوجهين: أحدهما. أن كل توبيخ أعقب به في الآيات الثلاث مناسب للتذكير الواقع قبله المترتب عليه الجواب بالتوبيخ، أما الأولى فإنه لما قيل فيها: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (المؤمنون: 84)، والمراد الأرض ومن فيها وما فيها وما اشتملت عليه من بحارها وأنهارها وأشجارها وجبال إرسائلها ومختلف عوالمها وما انطوت عليه واشتملت، هذا هو المراد بقوله تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا) (المؤمنون: 84)، فوقع الاجتزاء بمن فيها عما فيها إيجازاً لحصول ذلك في قوة الكلام، كما قال: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) (يونس: 66)، وقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا) (مريم: 40)، وليس المراد في هاتين الآيتين تخصيص ما تقع عليه (من) فكذلك قوله تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا) (المؤمنون: 84)، إذ مقصود الآية الاعتبار والاستدلال بمصنوعاته (سبحانه) على انفراده بالخلق والأمر، قال تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (الذاريات: 20) فكأن قد قيل لهم إذا أقررتم بأن ذلك (كله) ملك لله تعالى وخلقه فهلا اعترتم بما في الأرض من الآيات، واستدللتم بذلك على نفي الشريك والند للمنفرد بملك الأرض والسماوات إذ: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء: 22) (وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) (الأعراف: 3)، وهلا استدللتم بتكرر إنبات النبات وعودة إخراج الثمرات على إحياء الأموات (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأعراف: 57)، ثم لما قال تعالى: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (المؤمنون: 86)، وذلك الخلق أعظم من خلقكم وخلق الأرض الحاملة لكم، وأخبر بقوله: (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) (المؤمنون: 87) فقل لهم إذا أقررتم أنه مالك ذلك على عظيم أمره أفلا أتقيتموه إذ أنتم في قبضته بإقراركم، ثم لما قال: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (المؤمنون: 88) (فبلغوا) بلإقرار بذلك مع (عظيم) ما قرروا عليه قبله

مبلغ غاية توجب الإيمان للمعتبر بما قيل لهم وذكروا به من علم هذا، وثيل لهم من علم هذا ثم لم يطع من له ذلك ويفرده تعالى بالعبادة فهو مسحور (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (المؤمنون: 89) أي كيف تسحرون؟ والجواب الثاني، وهو أجرى مع ظاهر الآية، من غير تكلف تقدير، وليس بخلاف للأول إلا في عبارة، وهو أن تقول: إن تذكيرهم ورد أولاً بذكر ما كانوا يقرون ولا يتوقفون فيه وهو ملكه سبحانه الأرض ومن فيها قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (لقمان: 25)، والخالق مالك لما خلقه، فكأن قد قيل لهم: إذا علمتم بانفراده سبحانه بذلك فهلا أفردتموه بالعبادة واستدللتم بالبدأة على العودة (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)؟ ثم ذكروا بربوبيته سبحانه وملكه السماوات والسبع والعرش، فاعترفوا إلى اعترافهم بما تقدم وإقرارهم بملكه لما ذكر وقدرته وقهره. ولو سبقت لهم سعادة لكان تذكرهم لذلك يؤثر خوفهم من عذابه، فلما لم يقع ذلك منهم قبل لهم: (قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (المؤمنون: 87)، ثم ذكروا بعظيم سلطانه تعالى، وعلو قهره لجميع الموجودات، وكونها في قبضته، وأنه ذكروا بعظيم سلطانه تعالى، وعلو قهره لجميع الموجودات، وكونها في قبضته، وأنه لا حكم لأحد عليه تعالى فقال: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (المؤمنون: 88)، ثم ذكر اعترافهم بهذا في قوله: (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) (المؤمنون: 89)، فلما تم تقديرهم على جميع ما تقدم مما ذكروا به، واعترافهم بكل ذلك، ولم يعقبهم إقرارهم ولا اعترافهم والإيمان والانقياد، كانوا كمن فقد عقله أو سحر، فاختل نظره وعقله، فقيل لهم كيف تسحرون ما بالكم أنى تستحرون؟ (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (المؤمنون: 91 - 92)، فقد وضح تناسب هذا كله، وتبين التحامه. ****

سورة النور

سورة النور الآية الأولى (منها قوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (النور: 10)، (وبعد ذلك): (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (النور: 20)، يسأل عن وجه الاختلاف في المعطوفات في الآيتين من الصفات العلية إخباراً من قوله في الأولى: (وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (النور: 10) وفي الثانية: (وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (النور: 20)؟ وهل كان يناسب عكس الوارد؟ والجواب أن الآية الأولى لما اتبنت على آية التلاعن، وفيها من الستر على المسلمين ممن امتحن بتلك البلية، ومن إخفاء الحكمة في حكم التلاعن وشرعيته على ما استقر (عليه) أمره، مما يعجز عن فهمه كل معتبر، أعقبت بالصفتين المناسبتين لما ذكرنا مما هو غيرر خاف فقيل: (وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (النور: 10)، ولما تقدم قبل الآية الثانية قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (النور: 19)، وجرى بظاهر هذه الآية من الوعيد ما يشتد خوف كل مؤمن (منه)، أعقب ذلك بصفتين مبقيتين رجاء المؤمنين، ومشعرتين بأن هذا العذاب أن نفذ الوعيد به ليسس الخلود في النار، وما لم يكن من فاعل ذلك كفر باعتقاد حلية تلك المعصية أو التكذيب بالعويد أو التلبس بما هو كفر، وأنه إذا لم يكن شيء من هذا فلا قاطع عن التوبة، فقال: (وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (النور: 20)، فقد وضح أن ورود كل من هذه الصفات المعطوفة على ما يجب ويناسب، وأن العكس لا يناسب، والله أعلم. ومما يسأل عنه هنا جواب لولا كيف تقديره ولم حذف؟ وإن لم يكن هذا من مقصود هذا الكتاب. والجواب عنه أن التقدير في الآية الأولى: لَفَصَحَ فاعلَ ذلك، أو ما يرجع إلى هذا، وجوابها في الثانية: لَعَجَّل عذاَبَ فاعِل ذل من حيث إشاعة الفاحشة في المؤمنين، أو لأَهلَكَهم، وأما مسوغ الحذف فطول الكلام بالمعطوف، والطول داع للحذف فحذف ذلك ولدلالة ما تقدم عليه وذلك كثير في كلامهم. الآية الثانية من سورة النور قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (النور: 58)، ثم قال: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (النور: 59)، للسائل أن يقول: لم قال في الأولى: (الآيات) وفي الثانية: (آياته؟) والجواب أنه لما تقارب اللفظ الواحد عدل عن تكراره بلفظ واحد فيما تقارب، على عادة العرب في استثقالها تكرر اللفظ الواحد بعينه في بيت واحد من الشعر أو ما تقارب من الكلام، ما لم يحمل على ذلك حامل من المعنى، فجيء بالآيات في الأولى معرفاً بالألف واللام للعهد فيما تقدم من المعتبرات الواضحة الدلالة، وفي الآية الثانية مضافاً إلى الضمير (المتصل) لتحصل نسبة الآيات لمن هي له تعالى، كانت الثانية هي المضافة لأنها مع ما تعطيه من النسبة مبينة للأولى بياناً تأكيدياً، إذ من المعلوم أنها آياته سبحانه، فجاء ذلك على ما يجب، ومن الوارد على هذا الرعي - والله أعلم - قوله في سورة البقرة: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة: 219، ثم قال تعالى بعد آي: (وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (البقرة: 221)، فهذا مثل الوارد في سورة البقرة، والله أعلم. ****

سورة الفرقان

سورة الفرقان الآية الأولى (منها) قوله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (الفرقان: 3)، وفي سورة يس: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) (يس: 74)، للسائل أن يسأل عن ورود اسمه سبحانه مضمراً في قوله سبحانه: (مِنْ دُونِهِ) في سورة الفرقان ومظهراً في قوله: (مِنْ دُونِ اللَّهِ) في سورة يس ما وجه ذلك؟ والجواب عنه: أن آية الفرقان تقدم قبلها اسمه سبحانه مكنياً عنه جل وتعالى في قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان: 1 - 2)، فورد اسمه سبحانه مكنياً عنه ثماني مرات: أولها الموصول (وهو) الذي من قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي)، وفاعل نزل المضمر، والضمير في (عَبْدِهِ) والموصول الثاني، والضمير المجرور باللام، والضمير الفاعل في (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدً)، والضمير في (له) المجرور، والضمير الفاعل في (وخلق)، فلما تكرر اسمه مكنياً عنه ثماني مرات جرى بعد ذلك في قوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) مضمراً على حكم ما تقدم، ولو ورد مظهراً لم يكن ليناسب، وأما الوارد في سورة يس فتقدم قبل الآية قوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يس: 60)، فلم يكن ورود اسم الله تعالى هنا مضمراً ليناسبه لو قيل: (واتخذوا من دونه لما تقدم قبله ذكر الشيطان وتحذيرهم من عبادته، فجاء كل من الآيتين على ما يجب ويناسب. ****

سورة الشعراء

سورة الشعراء الآية الأولى (منها) قوله تعالى: (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) (الشعراء: 50)، وفي سورة الزخرف: (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) (الزخرف: 13 - 14)، للسائل أن يسأل عن تخصيص خبر إن هنا بزياد لام التأكيد وحذفها من الأولى؟ والجواب: أنه لما كان قول السحرة (لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) (الشعراء: 50)، جواباً لفرعون لما توعدهم بقوله: (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) (الشعراء: 49) فجاوبوه بقولهم (لاضير) - أي لا ضرر - (إنا إلى ربنا منقلبون)، أي إذا فعلت بنا ذلك فإنا منقلبون إلى ربنا ومجازون على صبرنا، فجاوبوه معزين أنفسهم ومتناسين بما ينتظرون من الثواب وعظيم الجزاء بسبقهم إلى الإيمان وصبرهم أن فعل بهم ذلك الإمتحان، فليس موضع قسم ولا تأكيد بما هو إخبار عن رجائهم وما ينتظرونه ثواباً على إيمانهم، فلا مدخل للام التأكيد هنا. وأما آية الزخرف فمبينة على ما تقدمها من الإخبار عن مشركي العرب في قوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف: 9)، والمراد بذلك إقامة الحجة عليهم في إنكار البعث، فطابق ذلك وناسبه تأكيد قول المؤمنين المقول لهم: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) (الزخرف: 13 - 14)، فأكذ هذا وضمن معنى القسم، وأحرز ذلك تقديم ما النافية في قولهم: (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)، فوطأت ما في هذه الجملة من معنى القسم وأشرعت به، ثم جيء بالجملة مؤكدة بحرفي التأكيد وهما إن واللام، فدخلت إن على الاسم واللام على الخبر لما تقدم منهم إنكار البعث جاوبهم المؤمنون، فكأنهم قالوا: والله إنه لحق، فسوغ دخول اللام ما قصد من هذا الغرض، وليس ذلك في آية الشعراء، فورد كل على ما يناسب، والله أعلم. الآية الثانية من سورة الشعراء قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) (الشعراء: 69 - 71)، وفي سورة الصافات: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ

مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الصافات: 83 - 87)، يسأل عن زيادة اسم الإشارة في قوله: (مَاذَا تَعْبُدُونَ) وسقوطها في سورة الشعراء؟ والجواب عن ذلك أن قصص الرسل، عليهم السلام، مع أممهم لم تأت في القرآن العظيم على نهج واحد في الدعاء والجواب والمراجعة والمحاورة، ولا يمكن ذلك لاختلاف طباع الأمم وأغراضهم واختلاف الحالات، ولكل مقام مقال، فمرة ترد القصة على الدعاء وإبداء الحجة والتوبيخ من غير ذكر شيء من جواب المدعوين سوى الإخبار بتكذيبهم، ومرة يورد من مقالات الأمم لرسلهم اليسير، ومرة يمد إطناب الكلام في المحاورات بين الرسل والأمم. فمن الضرب الأول قول إبراهيم، عليه السلام، في سورة الصافات: (مَاذَا تَعْبُدُونَ) إلى آخر القصة، ولم يرد فيها كلمة واحدة من مراجعتهم له سوى الوارد من قولهم: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) (الصافات: 97)، وليس هذا بمراجعة له ولا جواباً على كلامه، عليه السلام. ومن الضرب الثاني آية الشعراء فإنه ذكر فيها جوابهم بقوله تعالى مخبراً عنهم: (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) (الشعراء: 71)، ثم لما سألهم، عليه السلام، تقريعاً لهم وتوبيخاً فقال: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) (الشعراء: 72 - 73) جاوبوا بقولهم: (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (الشعراء: 74). ومن الضرب الثالث قصة شعيب، عليه السلام، في سورة هود وأشباهها، وتأمل القصص الواردة في القرآن تجدها جارية على ما ذكرته، فلما كان في آية الصافات دعاء إبراهيم، عليه السلام، لهم مبيناً حالهم الشنيع وسيء مرتكبهم ممتد الإطناب فيما يقطع بهم من قوله: (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) (الصافات: 86) وقوله: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) (الصافات: 95)، وعيوا بالجواب ولم يحك عنهم غير قولهم: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) (الصافات: 97)، ناسب ذلك زيادة اسم الإشارة، ولما كانت آية الشعراء واردة على غير هذا النهج ناسب سقوط اسم الإشارة فقيل: (ما تعبدون) ولم يقل (ماذا) كما في آية الصافات، ومن المفهوم عن العرب أن المستفهم إذا قصد التقريع والتوبيخ أطال كلامه إدلاء بحجته وتعنيفاً لمن يخالفه، والمقهور أبداً محصور. وقوله: (ما تعبدون) جملة تقدم فيها المفعول وهو ما الاستفهامية، فهو في موضع نصب بالفعل بعدها، وقوله في الآية الأخرى: (ماذا) استفهام أيضاً ركبت فيه (ما) مع اسم

الآية الثالثة

الإشارة وجعلااسماً واحداً في موضع نصب بالفعل (بعدها)، ويمكن تركها على بابها من الاستفهام غير مركبة وتكون (ذا) اسماً موصولاً في موضع رفع خبر للمبتدأ الذي هو (ما)، والجملة من قوله: (تعبدون) صلة، والجملة من المبتدأ والخبر محكية بعد القول، كأنه قال: أي شيء (الذي تبعدونه، وحذف الضمير الرابط لأنه ضمير نصب منفصل، وليس في الصلة ضمير غيره، فحسن حذفه. الآية الثالثة من سورة الشعراء - قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) (الشعراء: 78 - 81)، يسأل عن زيادة الضمير في قوله: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) وفي قوله: (فَهُوَ يَشْفِينِ)؟ ولم لم يدخل في قوله: (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ)؟ والجواب: أن أمر الإماتة والإحياء لا مطمع فيه لأحد بخلاف أمر الإطعام والسقي، إذ قد يتوهم من ضعف نظره أن ذلك مما تصح فيه النسبة لغيره تعالى إذ يقال: أطعمني فلان وسقاني، ويسبق إلى الوهم الاستقلال، وإنما ذلك على المجاز، ولا يقال أمات فلان فلاناً أو أحياه إلا ويسبق إلى الوهم ما الأمر عليه من المجاز، فلما كان أمر الإماتة والإحياء ونسبة ذلك إليه تعالى مما لا يخفى على أد لم يحتج إلى الضمير، واحتيج إليه فيما قبل لرفع الإيهام، إذ مفهومه أنه هو لا غيره يطعمني ويسقيني، فاحتيج إلى (هو) هنا ليحرز ما ذكرنا، ولم يحتج إليه في قوله: (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) لأنه لا يتوهم (أن) غيره يفعل ذلك، فجاء كل على ما يجب ويناسب، وسنزيد هذا بياناً في سورة النجم إن شاء الله، والله أعلم. الآية الرابعة من سورة الشعراء قوله تعالى في قصة صالح، عليه السلام: (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (الشعراء: 154)، وفي قصة شعيب، عليه السلام: (وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) (الشعراء: 186)، يسأل عن زيادة الواو العاطفة هنا ولم تثبت في قصة صالح؟ والجواب عنه - والله أعلم - أن ذلك لرعي المناسبة، بيان ذلك ما ثبت قبل الآية الثانية من قوله تعالى حكاية لما عد شعيب في أمره قومه وذكر من مرتكباتهم في قوله: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء: 181 - 184)، فهذه خمس معطوفات من مأمور به ومنهي عنه، طابقها العطف في حوابهم من

قوله تعالى: حكياة عنهم: (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) (الشعراء: 185 - 186)، فهذه مناسبة واضحة، ولما تقدم في قصة صالح، عليه السلام، قوله: (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) (الشعراء: 146 - 152)، فلم يقع في هذه القصة من المعطوفات أمراً أو نهياً سوى قوله: (وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) (الشعراء: 150 - 151)، فناسب ذلك ورود جوابهم في دعوى المماثلة في الشرية بغير حرف النسق فقالوا: (وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) بخلاف الآية الثانية، وجاء كل على ما يجب ويناسب، ولا يناسب عكس الوارد، والله أعلم. ****

سورة النمل

سورة النمل الآية الأولى منها - قوله تعالى: (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النمل: 10 - 11)، وفي سورة القصص: (أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) (القصص: 31)، للسائل أن يسأل عن القول لموسى، عليه السلام، عقب قوله عندما ولّلى مدبراً (لما رأى) من فعل الله سبحانه في عصاه حين ألقاها من اهتزازها كأنها جان، فنودي تأنيساً وإعلاماً بما الأمر عليه، ولا شك أن ذلك في مقام واحد وحال ابتداء أمره ورسالته، فالمعنى واحد، فما وجه اختلاف العبارة؟ فأقول جواباً لهذا السؤال - وأسأل الله توفيه وعصمته - إنه قد تقدم في سورةطه أن الوارد من هذا القصص إنما أخبرنا به على المعنى، وإنما خوطبنا باللسان العربي، وخاطب موسى باللسان العبراني، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) (إبراهيم: 4)، وجل كلام ربنا عن الحرف والصوت وعن شبه كلام البشر، وبسط هذا في مظانه، وإذا تقرر أنا إنما خوطبنا بلساننا، وأن الاختلاف والتفاوت فيما بين الألسنة معلوم، والمعاني لا تخلتف، فالمراد من الوارد في السورتين أن موسى، عليه السلام، أُمن من خوفه الذي لحقه، وأُعلم أنه من الآمنين، وأن الآمنين لديه سبحانه هم المرسلون، ومن اهتدى بهديهم ممن سبقت له الحسنى، ومن لحق بهم ممن ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء وسبقت له من الله الحسنى، فهؤلاء هم الآمنون لدينه سبحانه بما سبق لهم، ولا يجب عليه سبحانه إلا ما أوجبه على نفسه، فهذا الحاصل من المقول لموسى، عليه السلام، في السورتين من غير اختلاف في شيء من معناه، وهو المراد بقوله سبحانه: (وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) (القصص: 31)، وبقوله: (لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ... ) (النمل: 10 - 11)، والاستثناء منقطع، وليس المراد إلا من ظلم من الرسل، ولا يكون من الاستثناء المتصل كما قاله بعض المحرفين من ذوي الضلال، فإن الرسل، عليهم السلام، معصومون من الكفر مطلقاً باتفاق من أهل القبلة إلا ما قالته الشوذية ومن قال بقولهم من المارقين ممن لا عبرة به، والظلم هنا هو الكفر فما دون، وقد عصم الله الرسل ومن شاء عصمته من

الآية الثانية

ذلك ممن سواهم، ثم إن من كان ظالماً لنفسه بالكفر أو بما دون الكفر ثم بدل حسناً بعد سوء فإنه راج ما وعد (الله) سبحانه، ومن مات على ظلمه ولم يكن كفراً فهو في المشيئة، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)، فما أفهمت آية النمل من هذا فهو المراد بآية القصص من قوله: (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)، ولم يقع في آية النمل (ذكر) غير المرسلين ممن لم يظلم نفسه إيجازاً، لأنه من المعلوم أنه إذا كان حال الظالم لنفسه المبدل حسناً بعد سوء على ما ذكرنا من الرجاء فحال من لم يظلم نفسه أولى، فسمع موسى، عليه السلام، من كلام ربه ما حصل به المعنى المقصود، ثم اختلف التعبير عندنا عن ذلك والمعنى (واحد)، فلا اختلاف. فإن قيل: فما وجه اختصاص آية النمل بما ورد فيها وآية القصص بما ورد فيها؟ قلت: (هذا) سؤال لازم على شرطنا، والجواب عنه - إن شاء الله - أن سورة النمل لما ورد فيها قصة بلقيس وقومها، وعبادتهم الشمس حسب ما ورد في السورة في قوله: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (النمل: 24)، ثم هداها الله بسليمان، عليه السلام، حتى قالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل: 44)، ناسب هذا قوله تعالى في تأنيس موسى، عليه السلام،: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ) (النمل: 11)، ولما ورد في آخر سورة القصص: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) (القصص: 83)، وهي آي عامة في كل متصف بالإيمان متمسك بما في الآية، وقد أشارت إلى أمنهم لأنهم ممن سبقت لهم الحسنى، وقد نص الكتاب على أنهم آمنون لديه سبحانه حين قال: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) (الأنبياء: 101)، ثم قال: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (الأنبياء: 103) فهم آمنون، فناسب قوله سبحانه: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) (القصص: 83)، ما خصت به هذه السورة من قوله في قصة موسى، عليه السلام: (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ). وجواب ثان، وهو أن الآمنين لما تقدم بيان أنهم المرسلون ومن ظلم من غيرهم (ثم) بدل حسناً بسوء، وحصل في طي هذا الكلام وضمنه أن من لم يظلم نفسه من غير المسلمين فلا توقف أنه من الآمنين، فلما تحصل بيان الآمنين وقعت الإالة في آية القصص على ذلك، ولم يحتج إلى تفصيل أحوالهم اكتفاء بما تقدم فقيل: (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)، وهذا الوجه الثاني كاف في حصول التناسب، والله أعلم. الآية الثانية من سورة النمل، قوله تعالى: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ

اصْطَفَى) (النمل: 59)، إلى قوله: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل: 64)، للسائل أن يسأل عن وجه الاختلاف فيما أعقبت به كل آية منها وإبداء التناسب في ذلك؟ والجواب، والله أعلم: أن الآية الأولى لما نبهوا فيها ذكروا بما تشهد العقول بديهياً وتعترف بدلالته - إذ لا إشكال فيه - من أن السماوات والأرض تشهد بإحكام منعتها، وإتقان خلقها، وما أودع سبحانه فيها من العجائب والآيات المشاهدة للعيان، مع انسحاب التغير على جميعها وعلى ما فيها، بأن لها موجوداً أوجدها وأحكم صنعتها وإتقانها، وأنه لا يمكن أن أوجدت أنفسها ولا أوجدها غيرها مما يماثلها في شواهد الافتقار وانسحاب التغير، وذلك ما لا تنفك عنه سائر الموجودات فيشهد العقل بأن لها موجداً من غير جنسها متعالياً عن شبهها. إذ لو شبهها لافتقر إلى موجد آخر، فلبيان الأمر ما أعقبت هذه الآية الأولى بقوله: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل: 60)، أي أن الأمر غير خاف ولكنهم يعدلون عنه، وكذا قيل لهم في دعائهم إلى الإيمان في أول سورة البقرة حين ذكروا بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ... ) (البقرة: 21) إلى قوله: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 22)، فهذا كقوله: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) من غي فرق، لما ذكروا في الموضعين بخلق السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات، وإنبات الحدائق العجيبة، وكانوا يتعرفون بخلقه سبحانه جميع ذلك (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت: 61)، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت: 63)، فاعترافهم بهذا ثم يجعلون له تعالى الند والشريك عدول واضح بعد قيام الحجو عليهم، فقيل هنا: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ). ثم لما ذكروا بما هو أخفى في قوله تعالى: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا) (النمل: 61)، فإن تمهيد الأرض للسكني، وتفجير الأنهار خلالها، وحجز ما بين العذب والمالح من مياهها، ليس مما ظهور الاعتبار به وبيانه في الجلاء والوضوح كخلق السماوات والأرض وإنزال الماء إلى ما في الآية، فلما كان التذكير بما في الآية الثانية أخفى أُعقب هذا بقوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (النمل: 61)، ثم تدرج الاعتبار إلى ما هو أخفى فقيل: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) (النمل: 62)، وخفاء الاعتبار بهذا واضح، ولا يحصل عليه إلا من أمعن النظر فيما تقدم قبله، فأعقب هذا لخفائه بقوله: (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) (النمل: 62)، ثم أعقب بما لا يمكن أن

يتعاطاه أحد مع وضوح الأمر عند تدبره وهو قوله تعالى: (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... ) (النمل: 63)، ذلك مما لا يتصور فيه من العاقل التسليم، فأعقب بحسب ذلك والتفات ما قبله بقوله: (تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (النمل: 63)، ثم ختم ما قدم من هذه المعتبرات الجليلة بما لا يحصل الاعتبار إلا بعد إحكام النظر فيما قبله، والاعتراف بما يجب لله سبحانه من الاتصاف بالعلم والقدرة، إذ بهما وبقوبتها تَتِمُّ وتثبتت العةدة والبدأة، إلى ما يجب له سبحانه من الصفات العُلى التي يثمر العلم بثبوتها له سبحانه النظر التام الصحيح والاعتبار بما تقدم في الآيات قبل هذه، فلما كمل ذكر ما به (يحصل الاعتراف) والإيمان، ويستوضح منه (أنه) سبحانه المنفرد بالخلق والأمر والمالك للدارين، أعقب بطلب المعاند بالبرهان على ما يديعه، فقيل: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل: 64) أي إن صدقتم أن لله شريكاً في ملكه تعالى: (تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (النمل: 63)، فقد وضح أن كل معقب به آية من هذه الآيات، المذكر بها من استبصر والقاطعة بكل من أشرك وكفر، جار على أوضح مناسبة. ****

سورة القصص

سورة القصص الآية الأولى منها - قوله تعالى: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى) (القصص 20)، وفي سورة يس: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (يس: 20)، للسائل أن يسأل عن تأخير الفاعل عن المجرور في سورة يس ولم يأت متقدماً يلي الفعل كما ورد في سورة القصص؟ والجواب عن ذلك، بعد تسليم أن وروده في سورة القصص متقدماً فقيل: (وَجَاءَ رَجُلٌ) وارد فلى ما يجب، لأن مرتبة الفاعل التقديم، ولا يتأخر عن ولايته الفعل إلا لعارض من جهة اللفظ أو من جهة المعنى أو اتساعاً، وذلك غير الأولى أعني إذا كان تأخره لمجرد الاتساع. وإذا تقرر هذا فإنما السؤال عن وجه تأخره في سورة يس؟ ووجه ذلك - والله أعلم - أن تقديم المجرور الذي هو قوله: (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) مشيراً إلى إحراز معنى جليل مطلع على حكم السوابق من بعد مسافة عن داعية إلى الهداية، فلم (يضره) بعد الدار وكفر من باشر الرسل وشافههم فلم ينتفع بقرب الدار، وذلك بحسب ما قدر لكل من المكلفين وسبق له، وحاصل الإخبار من هذه الآيات مثال لحال كفار قريش من أهل مكة، وحال الأنصار من أهل المدينة، حين جاء هؤلاء وآمنوا به صلى الله عليه وسلم مع بعد دراهم، وعاند عتاة قريش (فكفروا) مع لالتحام في النسب واتحاد الدار، ويوضح هذا أن السورة مكية، وإنما افتتحت بذكر قريش وهم المعنيون بقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ) (يس: 6) إلى ما بعد من الآيات، والإخبار بأن ذلك لا يجدي عليهم في قوله: (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (يس: 10)، فهذا الإخبار بحال كفار قريش، ثم قال تعالى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ... ) (يس: 11)، أي من انقاد وأصغى إليك وإن بعدت داره وهذا حال الأنصار، ثم قال: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا) (يس: 13) أي الفريقين ممن كفر مع قرب داره ومن آمن مع بعد داره، وذكر تعالى أصحاب القرية (وحالهم مع من أرسل إليهم، وأنهم أرسل إليهم اثنان ثم عززوا بثالث، فجاوبهم أصحاب القرية) المخاطبون مجاوبة الرد والتكذيب فقالوا: (مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) (يس: 15) كما قالت قريش: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي

الآية الثانية

الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: 7)، ثم ذكر تعالى قول الرسل لأصحاب القرية: (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ *وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (يس: 16 - 17)، وقول أصحاب القرية: (إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ) (يس: 18). فلما ذكر سبحانه هذه المخاورة والمراجعة قال تعالى: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) (يس: 20) أي ممن لم يحضر معهم ولا شاهد ما طال من مراجعتهم، فجاء بحسب ما سبق له من السعادة يقول: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (يس: 20) إلى ما أخبر تعالى من قوله، فمجيئه من أقصى المدينة مثال لمن بعد فلم يضره بعده، وذكره المراجعين للرسل من أصحاب القرية مثال لمن قرب وطالت مباشرته وشاهد الآيات فلم ينفعه قربه، فلما قصد في آية يس مثال من ذكر من الفريقين خصت من تقديم المجرور على الفاعل ما يحرز المعنى المقصود، فهو من قبيل ما قدم للاعتبار والتهمم، وقد تقدم في مواضع إنشاد سيبويه، رحمة (الله) عليه: لتقربن قرباً جلزيا ما دام فيهن فصيل حيا فلإحراز هذا المعنى قدم هذا المجرور وتأخر الفاعل. أما آية القصص فلم يقصد فيها شيء من هذا فجاءت على ما يجب ما تقديم الفاعل، وتناسب هذا كله، ووضح أن كلاً من الموضوعين لا يناسبه ولا يلائمه غير الوارد فيه، والله أعلم بما أراد. الآية الثانية من سورة القصص قوله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (القصص: 60)، وفي سورة الشورى: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الشورى: 36)، يسأل عن زيادة قوله: (وَزِينَتُهَا) في الأولى؟ وعن تعقيبها بقوله: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) وتعقيب الثانية بقوله: (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)؟ والجواب عن الأول: أن سورة القصص تضمنت ذكر قارون وما أتيه من المال الذي هو زينة الجياة الدنيا، قال تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) (القصص: 76)، ثم أخبر تعالى عن زهوه واختياله بماله وظنه استحقاقه إياه، قال تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) (القصص: 79) حتى قال من غفل عن آخرته ولم يعلم ما أعد الله فيها للمؤمنين: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ) (القصص: 79)، فقدم سبحانه للمعتبرين من عباده المؤمنين وتنبيهاً للغالفين لتحصل السلامة للسعداء ممن عصم بما ابتلى به قالرون فقال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ

اللَّهِ) - أي المؤمنين - (خَيْرٌ وَأَبْقَى) (القصص: 60)، وقد أخبرهم سبحانه في موضع آخر أن الدنيا وحياتها غرور، وأخبرهم أن الآخرة هي دار القرار، وبعد تحذير المؤمنين وردت قصة قارون فالتحمت الآية بتلك القصة، وقيل هنا: (وزينتها) كما قيل في تلك: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) (القصص: 79)، ومن الذي يعدل عما عند الله سبحانه إلى ما جعله تعالى سبباً لإهلاك المشركين؟ فتناسب هذا كله وتلاءم. ولم يقع في آية الشورى ذكر (وزينتها) إذ لم يرد فيها ما ورد هنا مما استدعى هذه المناسبة، ولم يرد في سورة الشورى من أولها إلى آخرها ذكر بسط حال دنياوي لأحد، بل تضمنت حقارة الدنيا ونزارة رزقها، وأنه مقدور غير مبسوط، وتلك حال الأكثر، فقال تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ) (الشورى: 27)، وقال عند ذكر من اختار الدنيا ومال إليها: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) (الشورى: 20)، فقال: (منها) بأداة التبعيض، فلم يقع في هذه السورة ما يستدعي ذكر الزينة المالية، فلذلك لم تذكر، والله أعلم والجواب عن السؤال الثاني أن قوله تعالى في آية القصص (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ملتحم أوضح التحام بما اتصل به من قوله: (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (القصص: 61)، فكأن قد قيل بعد قوله: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) فكأن قد قيل: أفلا تعقلون ما بين الأمرين، ثم أخبر بقوله: (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) في العذاب الذي لا أخر له، فقوله: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) من تمام ما قبله وذلك بين التناسب. ولما ورد قبل آية الشورى: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى: 7)، قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) (الشورى: 13) إلى قوله: (فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (الشورى: 15). وقوله: (أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) (الشورى: 18)، قوله: (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) (الشورى: 22)، وقوله: (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (الشورى: 31)، ناسب هذا المتقدم من التخويف ما ينبئ المؤمنين المستجيبين بأصناف قوله: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) بقوله تعالى: (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بكل هذا وعلى

الآية الثالثة

انفراده سبحانه بالخلق والأمر فتوكلوا عليه، فأعقبت كل آية منها بما يناسبها ووردت على ما يجب، والله أعلم. الآية الثالثة من سورة القصص - قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ) (القصص: 71)، ثم قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (القصص: 72)، للسائل أن يسأل لم قدن الليل؟ ولم ختمت الأولى بقوله: (أَفَلَا تَسْمَعُونَ)، والثانية بقوله: (أَفَلَا تُبْصِرُونَ)؟ والجواب عن الأول أن تقديم الليل على النهار جار على ما بنت العرب عليه حساب شهورها من تقديم الليل وجعل النهار تابعاً له، ولم يرد في كتاب الله تعالى على كثرة ترداده إلا ذلك. والجواب عن السؤال الثاني: أن قوله تعالى في آية الأولى: (أَفَلَا تَسْمَعُونَ) مناسب للمدرك ليلاً من ضربي ما يعتبر به من المسموعات والمبصرات، إذ الليل حائل دون المبصرات، وإنما تدرك فيه المسموعات لأن ظلمة الليل غير مانعة من إدراكها، فجيء بما يناسب، وجيء مع ذكر النهار بما يناسب أيضاً، فقيل: (أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، لأن المبصرات تدرك نهاراً ولا تدرك ليلاً، فجيء مع كل بما يناسب، والله أعلم. ***

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت الآية الأولى منها - قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (العنكبوت: 8)، وفي سورة لقمان: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان: 14 - 15)، وفي سورة الأحقاف: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ... ) إلى قوله: (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف: 15)، اشتملت هذه الآي في السور الثلاث على التعريف بما يجب من حقوق الوالدين، وما يرعى لهما، ومنتهى ذلك وغايته، وقد اجتمعت في هذا المعنى، ثم اختلف إيرادها، ففي العنكبوت والأحقاف حسناً ولم يرد ذلك في سورة لقمان، وفي العنكيوت (لتشرك) بتعدية الفعل باللام وفي لقمان: (عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي) فعدّى بعلى، وفي لقمان: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) ولم يرد ذلك في السورتين، وفي لقمان: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) وفي الأحقاف: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرً)، وفي لقمان والأحقاف ذكر الأم منصوصاً عليها وورد ذكرها في العنكبوت مجملاً، وفي العنكبوت ولقمان التعريف بالرجوع إليه سبحانه ولم يرد ذلك في الأحقاف، فيسأل عن هذا؟ وعن وجه اختصاص كل سورة من الثلاث بما خصت به؟ وإن كان ذلك حاصلاً من جواب ما تقدم، فتلك تسعة أسئلة. والجواب عن الأول: أن بناء آية العنكبوت على قص سعد بن أبي وقاص وما كان من فعل أمة وحلفها على ألا تأكل ولا تشرب ولا تستظل حتى يرجع سعد إلى دينها، والقصة مشهورة، فنزلت الآية، ولما لم يقصد غير هذا اكتفى بالتنبيه على الإحسان بهما ما لم يدعوا معاً أو أحدهما إلى الشرك، ولما كان حكماً لا يخص أباً من أم لم يحتج إلى التنصيص على أحدهما، فوقع الاكتفاء هنا بقوله: (حسناً)، ونصبه على الحال لأن المصدر إذا حذف اكتفاء بصفته فانتصابها عند سيبويه، رحمه الله، على الحال ذكر ذلك

في باب (وأما ورود حسناً في الأحقاف)، فلما قصد فيها من البسط والإطالة حسبما تبين بعد وقد انجر في هذا الجواب عن السؤال (السابع). والجواب عن السؤال الثاني: أن النهي عن الشرك ورد في سورة العنكبوت لبناء الآية وما قبلها على ذكر ذلك، وهو المراد بالفتنة الوارد ذكرها في مطلع السورة. وورد في آية لقمان لما تقدم من قول لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13)، ولم يرد في سورة الأحقاف لأن آية الأحقاف فيمن كان مؤمناً، ألا ترى قوله: (أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف: 15) إلى ما بعد هذا، ولا مدخل هناك للشرك. والجواب عن السؤال الثالث: أن وقله في سورة العنكبوت: (لِتُشركَ بِي) بتعدية الفعل باللام وتعديته في آية لقمان بعلى فإنما ذلك لفرق ما بين الآيتين في السورتين، من حيث بناء آية العنكبوت على الإيجاز فناسب ذلك الاكتفاء باللام، وبناء آية لقمان على الإطالة فناسب ذلك لتعدية بعلى، ولو قدرنا عكس الوارد لما ناسب، فجاء مل على ما يناسب. والجواب عن السؤال الرابع: أن قوله في آية لقمان: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) أمر بالرفق بهما والقيام من حقهما بما ليس بمعصية، ولما كان مبنى الآية على الأمر بما يفعل بهما ومعهما من غير (تقدم) مطلب لهما، وإنما ذلك على التعريف بما ينبغي أن يكون الأمر معهما، ناسبة الوارد هنا من قوله: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)، ولما كانت آية العنكبوت مبنية على حكم من طلب من الأبوين الشرك والرجوع إلى الكفر كما تقدم، لم يناسب ذلك أن يقال فيهما: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) لما كان يكون فيه - بالسابق من ظاهر الكلام - من الإذن في الصغو إلى مطلبهما، وهو ما لا يمكن أن يؤذن فيه لا ظاهراً ولا باطناً، فلم يرد هنما ما كان يوهم جوازاً ولو في إراءتهما الانقياد لهما في الظاهر مع اعتقاد ما يجب اعتقاده في الباطن من التوحيد كما في آية الإكراه من قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) (النحل: 106)، وإنما قصد هنا العزم على ما هو الحق، وألا يصغى إلى مرادهما لا ظاهراً ولا باطناً إذا جاهدا في طلب الشرك، فلك يكن ليناسب ولا ليلائم ورود: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) في آية العنكبوت بوجه. وأما آية الأحقاف فمبنية وواردة على حال إيمان الموصى بوالديه، وقد علم المؤمن

الآية الثانية

ما يلزمه من أبويه المؤمنين، وأنه أكبر من الموصى به في آية لقمان، فجاء كل على ما يجب. والجواب عن السؤال الخامس: أن قوله: (وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) المراد به الضعف، وقوله في الأحقاف: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) المراد أنها حملته ووضعته على صفة من المشقة تكره ولا تراد، فتحصل من الآيتين الإخبار بحاليهما من الضعف والكراهة فلا تعارض. والجواب عن السؤال السادس: أن قوله تعالى في سورة لقمان: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) وقوله في الأحقاف: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) لا تعارض بينهما لأنهما إخباران عن قضيتين، لأن الحمل والفصال مدتان، ومدة الحمل غير مدة الرضاع، فأخبر في الآية الواحدة عن مجرد مدة الرضاع، وفي الثانية عن المدتين، وقد تقدم التنبيه على انجرار السؤال السابع (ص913). والجواب عن السؤال الثامن: من أن قوله تعالى في العنكبوت ولقمان: (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) تحذير من طاعتهما في الشرك وإبلاغ في النهي عن الصغو إليهما في ذلك إلى الغاية لئلا يظن أن ذلك كآية الإكراه (كما) تقدم، ولما لم يقع في آية الأحقاف ذكر الشرك، وكانت فيمن كان على إيمان، وقد علم المؤمن رجوعه إلى ربه، لم يردف فيها ذكر ذلك. والجواب عن السؤال التاسع: حاصل في الجواب المتقدم، وتلخيصه أن تخصيص هذه السورة بما ورد فيها مختلف بهذا السياق لما لم يذكر، وقد مر. أما آية العنكبوت فلما تقدم ذكره من قصة سعد. وأما آية لقمان فلتقدم قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13)، وأما سورة الأحقاف فلما انجر في جواب السؤال الرابع. الآية الثانية من سورة العنكبوت - قوله تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (العنكبوت: 22)، وفي سورة الشروى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (الشورى: 31)، للسائل أن يسأل عن زيادة الواو في سورة العنكبوت من قوله: (وَلَا فِي السَّمَاءِ) ولم يرد ذلك في سورة الشورى؟ والجواب عنه، والله أعلم: أنه لما تقدم فيها قوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ

الآية الثالثة

السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (العنكبوت: 4)، وهذا من أشد الوعيد إذ حاصله أنه لا يفوته سبحانه أحد ولا مهرب منه تعالى إلا إليه، ناسب هذا قوله تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)، كما قال: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) (القرة: 148) إلى ما ورد من هذا، وذلك تناسب بين، ولما لم يرد في سورة الشورى من أولها إلى الآية مثل هذا الوعيد الشديد، ولا كان فيها ما يستدعي في هذا التعميم والاستيفاء الوعيدي، وردت الآية مناسبة، لذلك، فقال تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ)، ولم يكن التعميم هنا ليناسب، فورد كل على ما يجب، والله سبحانه أعلم. الآية الثالثة من سورة العنكبوت - قوله تعالى: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت: 24)، وورد بعد هذا: (خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (العنكبوت: 44)، فأفرد هنا آية وجمع في الأولى فقال: (الآيات)، مع أن هذه الثانية أعظم: قال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (غافر: 57)، فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟ والجواب عنه، والله أعلم: أن الإشارة في الآية الأولى بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ) ليست لقصة إبراهيم، عليه السلام، وإنجائه من النار فقط بل الإشارة لمجموع معتبرات، منها لبث نوح، عليه السلام، في قوله ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ويريهم الآيات فما آمن معه إلا قليل، ومنها آية أخذهم بالطوفان وتعميم الغرق لجميع أهل الأرض، ومنها إنجاء أهل السفينة وجعلها آية للعالمين، ومنها ما أحيلوا عليه من الاعتبار بمن قبلهم في قوله: (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ .. ) (العنكبوت: 18)، ومنها دعاء إبراهيم، عليه السلام وعظيم بيانه وما استجر دعاؤه إياهم من الآيات والبراهين على نبوته، ومنها ما أيلوا عليه آخر الآيات في قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (العنكبوت: 19)، فلما تقدم تفصيل الآيات ورد التنبيه بالإشارة إلى جميعها فقيل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ). أما قوله في الآية الأخرى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) فالإشارة إلى المصدر وهو الخلق المفهوم من قوله: (خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً)، كما ورد في قوله تعالى: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8)، فالضمير للمصدر وهو العدل المفهوم من وقله: (اعْدِلُوا)، وهذا جار في الضمير واسم الإشارة ومتردد في كلام العرب، فكل من الآيتين على ما يجب.

الآية الرابعة

الآية الرابعة من سورة العنكبوت - قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) (العنكبوت: 47 - 49)، للسائل أن يسأل عن وسم الجاحدين أولاً بالكافرين ثم وسموا بعد بالظالمين، والظلم يصح إطلاقه على ما دون الكفر، فقد يسبق إلى الوهم أنه لو ورد وسمهم أولاً بالظلم ثم ثانياً بالكفر لكان أنسب؟ والجواب: أن الظلم وإن كان يطلق على الكفر وعلى ما دونه قال تعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة: 254)، فإنه إذا ذكر بعد الكفر ووصف به من قد وصف بالكفر أفهم زيادة مرتكب على الكفر، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ ... ) (النساء: 168 - 169)، وعلى هذا ورد في القرآن وقد تقدم ذلك. فقد وضح ما وردت عليه آيتا العنكبوت، وليس من المشكل. الآية الخامسة من سورة العنكبوت - قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (العنكبوت: 61)، وفي سورة لقمان: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (لقمان: 25)، وفي سورة الزخرف: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف: 9)، وتواردت هذه الآي الثلاث على معنى واحد وهو تقريرهم على ما كانوا يعترفون به من انفراده سبحانه بخلق السماوات والأرض واعترافهم بذلك إن سئلوا، ثم اتبع ذلك في سورة العنكبوت بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (العنكبوت: 63)، فأعلم تعالى أنهم لو سئلوا أيضاً عن هذا لاعترفوا، ثم اختلف ما أعقبت به هذه الآي من وصفهم حيث وصفوا فيها بعد فرض سؤالهم واعترافهم، فأعقب الأولى بقوله: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)، وآية لقمان بقوله: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، وآية العنكبوت الثانية بقوله: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)، ولم يرد في آية الزخرف إتباع بوصف، فللسائل أن يسأل عن اتاد مقصود هذه الآي أو تفصيله؟ وعن وجه اختلاف الدليل فيما ورد في التعقيب به في هذه الآي؟ والجواب عن الأول: أن المقصود فيها ليس واحداً، أما الثلاث آيت الأول فالمراد

منها استدلال بهذا الخلق العظيم، وما هو عليه من جليل التناسب، وإتقان الصنعة وإحكامها من غير تفاوت ولا فطور، على واحدانية تعالى، وانفراده بالخلق والأمر، واتصافه بالعلم والقدرة إلى ما يجب له تعالى من صفات الكمال، والتعالي عن شبه الخليقة، ولوضوح هذا الدليل ما أخبر تعالى عنهم أنهم لو سئلوا لاعترفوا فقال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (لقمان: 25)، وأما قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت: 63)، فمقصودها إقامة البرهان على الإحياء من بعد الموت، وبيان ذلك بمثال (مشاهد) للعالم يحصل عن اعتباره جواز ما قصد تمثيله، وبذلك أفصحت آية الأعراف في تعقيبها بقوله: (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأعراف: 57)، وذلك أبين شيء، فقد اختلف المقصد كما تقدم. ووجه تخصيص سورة العنكبوت بهذه الآية مناسبتها لما تردد فيها وتكرر من ذكر العودة الأخراوية أو الإشارة إليها في ما نيف على عشرى مواضع، أولها: قوله: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت: 5)، وآخرها ما ورد قبل الآية المتكلم فيها من قوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (العنكبوت: 57) وما اتصل بها، وأنصّها في المقصود قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (العنكبوت: 19) إلى قوله: (ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) (العنكبوت: 20)، فناسب ما تردد في هذه السورة من هذه الآي إيراد آية المثال المذكورة، ولما لم يرد في السورتين الأخريين مثل الوارد المتكرر في سورة العنكبوت لم يكن ليناسبها ورود آية المثال مناسبتها حيث وردت. والجواب عن السؤال الثاني، وهو توجيه اختلاف الحال فيما وقع فيه التعقيب في هذه الآي، أن ذلك مبنى على الترتيب الثابت في الكتاب العزيز (لما) ذكر تعالى حالهم لو سئلوا عن خلق السماوات والأرض وتسخير النيرين، ولا إشكال فيه لمن وفق، قال تعالى: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (العنكبوت: 61) أي كيف يصرفون عن الدلالة مع وضوحها، ثم قال عقب آية لقمان: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (لقمان: 25)، وحصل مما أعقبت به الآيتان ما في قوة أن لو قيل: كيف يصرفون مع بيان الأمر ما ذلك إلا لمنعهم عن العلم: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) (الكهف: 57). وأما ختام آية الزخرف بقوله: (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف: 9)

فاعتراف تام منهم بوصفه سبحانه بالقدرة والعلم، وإذا اعترفوا بذلك لم يبق إلا العناد بما قدر عليهم، ومناسبة هذا الختام على ما تمهد من رعي الترتيب، وكأن هذه الآية الأخيرة في قوة أن لو قيل: وإذا حقق عليهم وتوبعوا في سؤالهم اعترفوا بالأمر على ما هو عليه، فكفرهم بعد ذلك اتباع للهوى وضلال على علم، والتناسب في هذا كله بين. وأما آية العنكبوت الثانية وهي قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت: 63) ثم قال: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (العنكبوت: 63) فوصف أكثرهم هنا بعدم العقل، فوجه ذلك - والله أعلم - التعريف بإفراط قصورهم حتى استحقوا الوصف بصفات البهائم ومن لا يصح خطابه، وذلك أن العقل فضل الإنسان، وبه امتيازه عن البهيمة، ولا يمكن العلم بشيء إلا بعد حصوله والاتصاف به، وهو مناط التكليف. وهو عند المتكلمين عبارة عن علوم ضوروية، وليس كل العلوم الضرورية، وهو مع هذا خصيصة جليلة إن عدمت لم يكن التكليف ولا وجود علم، وأضداد العلم العامة والخاصة أضداد للعقل، وهو من قولهم عقلت البعير إذا أمسكته بعقال، وبه وضع خطاب المكلفين، فإذا فقد لحق فاقده بالبهائم، ثم نقول إن إنزال الماء من السماء وهو ماء واحد المادة، فمن عقل هذا هقل وجود الإنسان من نظفة واحدة كواحدة الماء المازل من السماء، ثم يكون عن تلك النطفة شكل الإنساء، وما ينطوي عليه خلقه وتشتمل عليه جملته والمادة واحدة، فالتلاقي والشبه بين الماءين وما يوجده سبحانه عنهما أوضح شيء لمن عقل، فكيف يستبعد العودة من يشاهد ذلك أو يعتبر به. وقد أرانا سبحانه في ماء السماء وما يكون عنه الإحياء بعد الموت ما أوضحه في قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ... ) (الروم: 24) ما فيه أبين دليل لمن وفقه سبحانه للنظر والاعتبار، لا توقف فيه، وجعل ذلك متكرراً، ونبه تعالى عليه بقوله: (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى) (الأعراف: 57)، وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) (الروم: 8)، وقوله تعالى: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (فاطر: 9). ***

سورة الروم

سورة الروم الآية الأولى منها - قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) (الروم: 9)، وفي سورة فاطر: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) (فاطر: 44)، وفي سورة غافر: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) (غافر: 21)، وفي آخرها: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (غافر: 82)، للسائل أن يسأل عن اختلاف هذه الآيات مع اتفاقها في المعنى المقصود بها؟ وعن (وجه) اختصاص كل موضع من مواضعها بما خص به منها؟ والجواب عن السؤالين معاً: أن هذه الآيات لم يختلف المقصود بها وهو التنبيه على الاعتبار بحال من تقدم من القرون ما يلائم ما جرى في تلك السورة قبل ذلك الموضع أو بعده من إشارة أو تعريف إخباراً من غير تنبيه أو تحريك إلى الاعتبار بهم، فحين جيء بالتنبيه بقوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ) روعي ما ورد قبل أو بعد من إخبار أو إشارة، لذلك فبني ما عرض عليهم وحركوا به من التنبيه ثم أفصح به في آية التنبيه (تأكيداً لموجب يستدعيه، فلرعي هذا اختلف التنبيه) الوارد في هذه المواضع، لا لاختلاف في المعنى. بيان ذلك أن آية الروم، وهي أولى تلك الآيات، فقد ورد فيما بعدها من تلك السورة قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)، فهذا تعريف منه سبحانه بما فعل بأولئك الذيم كانوا من قبل هؤلاء وجاءتهم البينات، فذكر في أول السورة من حالهم هذا، ولم يذكر ما فعل بمن كذب منهم ولا بمن آمن، فعرفت الآية الأخيرة بذلك، وأنه سبحانه انتقم منهم لاجترامهم بالتكذيب، وعرف

بنصر مؤمنيهم ونجاتهم، فحصل من الآيتين التعريف التام بما جرى منهم ابتداء وانتهاء، وصار مجموع الآيتين من الالتحام كأن قد قيل: ألوم يسيروا في الأرض فينظرا كيف كام عاقبة الذين من قبلهم مع زيادة قوتهم وانتشارهم وطول أعمارهم أكثر من هؤلاء، فجاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوا فانتقمنا ممن أجرم وكذب، ونصرنا من آمن، وكان حقاً علينا نصر المؤمنين، وما ظلمنا من انتقمنا منه: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ... ) (الروم: 9)، فتأمل وضوح هذا كله وتناسبه والتئامه. فإن قيل: فلم لم يرد ذكر أخذهم بالانتقام منهم لما أجرموا متصلاً بما تقدم من التذكير بالاعتبار بهم وكان يحصل ذلك كله في كلام متصل بعضه ببعض؟ ولم وقع ذكر أخذهم بالانتقام منهم لما كذبوا متأخراً عن الوارد من حالهم أولاً (التي) أمر هؤلاء ونهوا عن الاعتبار بها؟ قلت: جرى ذلك على المعتاد منه سبحانه في دعاء الخلق إلى الإيمان من التطلف والرفق في الدعاء، وبذلك أمر رسله، عليهم السلام، فقال لنبينا صلى الله عليه وسلم: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)، وقال لموسى، عليه السلام: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) (إبراهيم: 5) أي بنعمة وآلائه قبلهم، وقال لبني إسرائيل: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) (البقرة: 47)، وقال: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) (طه: 80)، وهذا في القرآن كثير، فلما أمر هؤلاء وذكروا بالاعتبار بمن تقدم من القرون، ولم يتقدم قبل الآية إلا التلطف والتأنيس، لم يكن ليناسب ذلك من أخذالمكذبين إلا ما يكون إيماء وإشارة لا إفصاحاً، فلذلك اكتفى أولاً من الإشارة إلى أخذهم بقوله سبحانه: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ) (الروم: 9)، وترك الإفصاح بالانتقام إلى أن ورد إخباراً منه سبحانه لنبيه، عليه السلام، في غير معرض الدعاء إلى الإيمان فقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) (الروم: 47)، وحصل التعريف بغاية حال المذكورين قبل في تكذيبهم، فهذا موجب تفريق هذا الإخبار، والله أعلم. فإن قلت: فقد ورد في آية غافر من هذه الآي مجموع التنبيه والأخذ متصلاً على غير ما قصدت الآية، قلت: ذلك لسبب اقتضاه يذكر بعد، فآيات الدعاء إلى الله تعالى إنما ترد في الأغلب على ما ذكرنا من التطلف والإبقاء على العباد وذكر الإحسان والرفق، وقد ترد على غير هذا لداع وحامل، والأكثر ما ذكرته. وأا آية فاطر فقد تقدمها قوله تعالى إخباراً لنبيه وتأنيساً: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (فاطر: 25 - 26)، فقيل بعد هذه

فيما هو منها ومرتبط بمعناها: ((أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) (فاطر: 44) فأخذتهم يا محمد بتكذيبهم وكفرهم، ولم يفت منهم أحد لأني عليم بأحوالهم القدير الذي لا يعجز في شيء ولا يفوتني هارب، وتأمل التحام هذا كله وتناسبه وكيف تم الاختبار وكمل انتهاء وابتداء، وتأمل كيف وقع الاكتفاء في آية الاعتبار بالإيمان إلى أخذهم بقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) (فاطر: 44) إحالة على ما تقدم في إخبار نبيه، عليه السلام، بأخذهم في قوله: (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (فاطر: 26)، والتحم هذا كله وتناسب. وأما الآية الأولى من سورة غافر فوردت على الجمع بين التنبيه للاعتبار بمن تقدم وبين أخذهم، ولم يرد فيها التفصيل الوارد فيما تقدم، فقال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) (غافر: 21)، ثم اتبع الآية بما يؤكد أخذهم، وذكرت العلة في ذلك من كفرهم، واجتمع في هذه الآية ما افترق في غيرها فقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (غافر: 22)، فتحصل منها التعريف بأخذهم وذكر العلة الموجبة لذلك من تكذيبهم وكفرهم متصلاً ذلك كله بعضه ببعض، ولم تجر هذه الآية في التلطف في الدعاء والتنبيه على ما جرت نظائرها مما تقدم ونبه عليه، وسبب ذلك أنه تقدم في أول هذه السروة من الإخبار بسوء مراجعتهم وقبيح معاملتهم مع أنبيائهم ما يوجب سريع الأخذ وينافر التلطف، وذلك قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) (غافر: 5)، فلما تقدم هذا من جوابهم بالباطل وما هموا به من أخذ رسلهم وامتحانهم زائداً إلى التكذيب ناسب هذا تعجيل أخذهم، فوردت آية التنبيه على ذلك، ولهذا اختصت من التأكد ما لم يرد مثله فيما تقدمها: (كَانُوا هُمْ أَشَدَّ)، فوكد بالضمير تخصيصاً وتعييناً للمذكورين قبل من قوم نوح والأحزاب، ثم اتبع ذلك بقوله في قراءة ابن عامر بتخصيص من وعظ بذلك وخوطب فقيل: (منكم)، فتقابل التأكيد في الطرفين تأكيداً يناسب ما بنيت عليه الآية ويشهد له، ولرعي ما تقدم من السبب الأول وردت الآية الأخيرة من قوله في آخر السورة: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ... ) (غافر: 82) إلى قوله: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (غافر: 82)، ثم أعقب هذا بقوله: (لَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (غافر: 83) إشارة إلى ما كانوا يظنونه علماً ويجادلون به من قولهم:

(أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، وقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى) (القصص: 36)، وقولهم: (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا) (الأنفال: 31)، إلى ما ورد من متعلقاتهم ومجاوباتهم المشار إليه في قوله: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) (الكهف: 56)، فسماه سبحانه علماً في قوله: (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (غافر: 83) بحسب اعتقادهم وظنهم، كما قال تعالى: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ) (القصص: 62) أي في زعمهم، وهو سبحانه المنزه عن الشريك والنظير، أو يكون (عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (غافر: 83) المراد به ما كان لدى من تعاطى النظر منهم فلم يوفق، من استبعاد العودة الأخراوية، وإنكار حشر الأجساد بعد تفرق الأشلاء والأجزاء وصيرورة بعضها غذاء لحيوان آخر ولتفرقها وفنائها، قالوا: (قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يس: 78)، وقالوا: (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (الإسراء: 49)، وهو نظر مبني على قاعدتين واهيتين، وهما: إنكار القدرة، وإنكار علمه تعالى بالجزيئات وعليهما بنى منكرو حشر الأجساد من الفلاسفة، وهو قول زعيمهم أرسطوا ومن تبعه من المشائين ومن قال بقولهم، وليس مما اتفقوا عليه، فقد نقلوا عن أفلاطون وغيره من زعمائهم مخالفة هذا القول وموافقة المتشرعين في حشر الأجساد، وقد نقلوا عن جالينوس التوقف، وقد رام بعض متفلسفة الإسلام الجمع بين المرتكبين فقال: تحشر الأجساد على تأويل لا يعمله المتشرعون وذلك لما أرغمه من براهين الشريعة. ولما بنى المنكرون مذهبهم على إنكار القدرة والعلم بالجزيئات اطراد في الكتاب العزيز، مهما ذكرت العودة الأخراوي، أن يناط بها وصفه سبحانه بالعلم والقدرة إفصاحاً أو إشارة بينه إطراداً لا ينكسر إرغاماً للمنكر الجاحد وحجة قاطعة بالمعاند، وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إلى قوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم: 27)، فوصفه سبحانه بالعزيز إشارة إلى القدرة وأشار قوله: (الحكيم) إلى العلم، وقال تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يس: 78) ثم قال: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس: 79) فقوله: (يحْيِيهَا) و (أَنْشَأَهَا) إشارة إلىى القدرة، وقد وقع الإفصاح بها بعد في قوله: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (يس: 81) وبسط هذا ورد أقوال هؤلاء الكفرة مستوفي في مضانه، وقد شفي في أئمتنا، رضي الله عنهم، وكتاب الله سبحانه (وتعالى) واف لمن وافق لتدبره وأعتباره بالبراهين القاطعة وبخصومنا، فما كان بأيدي من قدم ذكره من الشبهات فيها ذكرنا هو الذي فرحوا به وأعتقدوه علما، فورد التعبير على معتقدهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فقد وضع وجه مناسبة هذا لقوله تعالى: (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) وتبين ما أوجب خصوص كل آية من هذه الأربع ومواضعها، والله أعلم.

الآيةالثانية

الآيةالثانية من سورة الروم - قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الروم: 21 - 24)، للسائل أن يسأل عن وجه اختصاص كل آية من هذه الأربع بما ختمت به من وصف المعتبرين؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن الآية الأولى لما انطوت من حكمته سبحانه في سبب التناسل والتكاثر على ما أبداه تعالى في خلق الأزواج منا ليحصل السكن وعدم التنافر، ثم غرس سبحانه المودة والرحمة في قلب كل واحد من الزوجين ليتم الالتئام ويحصل التعاون على ما به قوام العيش، إلى ما يتعلق بهذا ويرجع إليه مما يحصل على عجائبه ولا يحاط ببعض الحكمة فيه إلا بمداومة الفكر وطول الاعتبار، ناسب هذا إعقاب هذه الآية بوصف التفكر فقال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). ولما كان خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان مع عظيم الأمر في ذلك باد منه الشهادة بأن وراء ذلك موجداً متنزهاً عن شبه هذه الأجرام، ومتعالياً عن تعبير مختلف الألسنة والألوان، ولم تكن شهادة هذه بحيث تخفى حتى يحتاج فيها إلى طول التفكير في البادي لمتصف بالعقل وإن اتسع النظر في عجائب ما انطوت عليه الأجرام السماوية وانتشرت وجوه الاعتبارات اتساعاً تنحسر العقول دونه وتكل الأذهان عن درك أدناه، ولهذا تحصل ذكر الاعتبارات اتساعاً تنحسر العقول دونه وتكل الأذهان عن درك أدناه، ولهذا تحصل ذكر الاعتبار بالسماوات والأرض فقيل: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (البقرة: 164)، وقيل: (فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (البقرة: 116)، وقيل: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ) (الذاريات: 20)، فأشير أولاً إلى خلق أجرامها وصورها، وأشير ثانياً إلى خلق ما فيها، فهذا بحر لا تدركه الدلاء، وباب لا يسعه تدوين ولا إملاء، ومع ذلك فإن ربنا سبحانه ذكر عباده من ذلك بما تبدو شهادته فقال: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (ق: 6 - 7) إلى ما يتلو هذا مما يشهد بأول اعتبار مما لاتكل عنه البصائر والأبصار، وتأمل لطف دعائه سبحانه الخلق إلى عبادته في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) (البقرة: 21) إلى قوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) (البقرة: 22) إلى أشباه هذه، فلما كان هذا الضرب من الاعتبار يحصل بأوله المقصود لكل أحد قال تعالى: (إِنَّ فِي

الآية الثالثة

ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم: 22)، فوضح تناسب هذا الختام، ولاح التلاحم والالتئام. ولما كان أمر الليل والنهار منصوصاً على رحمة الخلائق بهما في عدة آيات بقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) (الإسراء: 12)، وقوله: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) (غافر: 61)، وقوله: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) (النبأ: 10 - 11)، إلى غير هذه من الآيات، فتحصل من مجموعها وفاء الاعتبار بهما وما فيهما، ومستند ذلك المحرك للاعتبار به السماع والأخبار الواردة به أعقب بقوله: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (الروم: 23). وأما إراءته سبحانه البرق خوفاً وطمعاً، وإنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، فلا تحصل ثمرة الاعتبار به إلا لمن أطال الاعتبار وأمعن النظر وبالغ في ذلك، ولما كان حصول الثمرة المطلوبة هنا يتوقف على ما ذكر أعقب بقوله: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). الآية الثالثة من سورة الروم - قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الروم: 37)، وفي سورة الزمر: (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) (الزمر: 52)، ففي آية الروم: (أَوَلَمْ يَرَوْا) وفي الأخرى: (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا)، فللسائل أن يسأل عن الفرق؟ والجواب، والله أعلم: أن سورة الروم لما تقدم فيها قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) (الروم: 8)، وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (الروم: 9)، والتفكر تردد نظر ومباثه واعتبار، والنظر المحال عليه فيما حضوا عليه من سيرهم في الأرض إنما هو استعلام وبحث واعتبار بحال من تقدمهم، ناسب ذلك قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا)، لأن قول القائل منا لغيره: ما ترى في هذا الأمر؟ إنما يريد ابحث عما يتردد في خاطرك ويختلج في فكرك وعرفني بما يظهر لك وتختاره، وكذا قول القائل: افعل في هذه القضية بما أراك الله، إنما يريد اجتهد وامض فيها من المتردد في خاطرك ما تراه أولى، والحاصل من الرأي هنا في مثل هذا غالب ظن وليس بعلم لإمكان الخطأ فيما يراه، إذ لسنا بمعصومين، ولو فرضنا العصمة لكان الحاصل علماً، وفي كتاب الله سبحانه قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: فاحكم بينهم بما أراك الله، وإنما أحيل، عليه السلام، على اجتهاده والاعتبار بما لديه من الوحي وما أنزل عليه، إلا أنه، عليه لاسلام، على اجتهاده والاعتبار بما لديه من الوحي وما أنزل عليه، إلا أنه، عليه السلام، مكتنف بالعصمة والحفظ من الخطأ والغلط فيما يراه مما يرجع إلى التبليغ وتقعيد أحكام شريعته، فالحاصل

الآية الرابعة

عن نظره صلى الله عليه وسلم وما يراه علم، وأنا عن نظر غيره ممن ليس بمعصوم فظن كما تقدم. ولفظ رأى يصلح في الحالين، ويقع بالاشتراك على المعنيين وعلى الإبصار، فناسب لتردد لفظه بين هذه المعاني، وإن كان في سورة الروم يراد به العلم، ما تقدم في السورتين قوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) وقوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) لجامع التردد حاصل في المتواطئ بلحظ التشخص، فوضح التناسب. وأما سورة الزمر فلم يتقدم (بها ما تقدم) في سورة الروم مما يستدعي ذلك التناسب، فجيء بقوله: (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا)، فطوبق باللفظ المعنى من حيث لا تردد فيهما ولا اشتراك، وأيضاً فقد تقدم في هذه السورة قوله تعالى: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا) (الزمر: 2) وقوله: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا) (الزمر: 11) وقوله: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي) (الزمر: 14)، والإخلاص مسبب عن العلم، وهو ثمرته، أعني ثمرة العلم، فناسب هذا قوله: (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) (الزمر: 52)، فإنهم تسبب عن علمهم الإخلاص إن سبقت سابقة سعادة، فناسب هذا أتم مناسبة، فهذا وجه ثان من الجواب، وكأنه مما قدم فيه المسبب وهو الإخلاص بين يدي سببه وهو العلم، ووضح على هذا أن ما ورد هنا لم يكن ليناسب ما في سورة الروم، ولا ما ورد في سورة الروم ليناسب ما في سورة الزمر، والله أعلم. الآية الرابعة من سورة الروم قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) (الروم: 43)، وفي سورة الشورى قوله تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) (الشورى: 47)، للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف ما وقع به الإتباع في الآيتين فقيل في الأولى: (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) وفي الثانية: (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ)؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية الروم إنما أعقبت بقوله: (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) تمهيداً لما اتصل بها من تفصيل الأحوال في قوله: (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (الروم: 44)، لأن تصدعهم يراد به افتراقهم كما في قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) (الروم: 14)، فالمراد يومئذ يصدعون إلى ما أعد لكل منهم بحسب مرتكبه وحاله في كفره وإيمانه، وقد تضمن قوله: (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) جزاؤه، وأشار إلى تفصيل أحوالهم في عذابهم كل بحسب مرتكبه: (جَزَاءً وِفَاقًا) (النبأ:

الآية الخامسة

26)، وكان الكلام في قوة أن لو قيل: فعليه مطابق كفره من العذاب، وكذلك تضمن قوله في الناجين: (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) من تفصيل الأحوال في الثواب كل بحسب ما مهد لنفسه كما في قوله: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الطور: 16)، فعبر عن ذلك بأوجز عبارة وأوفاها بالمقصود، وقدمت الإشارة إلى ذلك التفصيل في الطرفين بقوله: (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ). وأما آية الشورى فإنه تقدم قبلها قوله تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) (الشورى: 44)، والولي من يرجع إليه انضواء واعتماداً، ثم قال تعالى مخبراً عن الظالمين في نفي الولي والنصير عنهم: (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) (الشورى: 46)، فلما نفى عنهم الأولياء الناصرين والسبيل إلى التخلص ناسب ذلك أمره تعالى العباد بالاستجابة له فقال: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) (الشورى: 47) أي أنه آت لا محالة: (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) أي من ولي ترجعون إليه أو يدفع عنكم، (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي إنكار، فلا تعلق لكم ولا ينفعكم إنكاركم إن تعلقتم، فحذر تعالى عباده من حال الظالمين في عدم الولي والناصر، وأمرهم بالاستجابة قبل التورط وانقطاع الطمع والرجاء في التخلص، وعدم جدوى الإنكار لمن ظن التعلق به، فحذرهم مما امتحن به غيرهم بعد ذكر حال من امتحن، فناسب ذلك لكه أوضح تناسب. الآية الخامسة من سورة الروم - قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (الروم: 46) وفي سورة الجاثية: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (الجاثية: 12)، للسائل أن يسأل عن زيادة (فيه) في سورة الجاثية وكونه لم يثبت في سورة الروم؟ والجواب، أن هذا لا إشكال فيه، لأن البحر لم يجر له ذكر في آية الروم، فلم يكن للضمير ما يرجع إليه، فلم يؤت به بهذا، ولو قصد محل جري الفلك ألزم الإتيان بالظاهر (ولقيل): ولتجري الفلك في البحر، وهو مفهوم من السياق، فلم يحتج إليه هناك. أما آية الجاثية فإنه لما قدم فيها ذكر البحر جيء بالضمير المجرور العائد إليه على ما ينبغي، وكان له مفسراً، فحسن الإتيان به بخلاف آية الروم، فالفرق بينهما لا خفاء به.

سورة لقمان

سورة لقمان الآية الأولى منها - قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (لقمان: 7)، وفي سورة الجاثية: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (الجاثية: 7، 8) للسائل أن يسأل عن تخصيص آية لقمان بقوله: (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا)؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية الجاثية لما تقدم فيها: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا)، فوصفه بسماع آيات الله لم يكن ليطابقه ذكر الوقر في الأذن لأنه قد ذكر سماعه الآيات، والوقر مانع من السمع، فلم يناسب الإعلام بالسماع ذكر الوقر المانع منه. فإن قيل: لو ذكر هنا الوقر في الأذنين لم يكن ليكون إلا تأكيداً لبيان توليه وإعراضه فكان يناسب، قلت لو وكد بذلك لاقتضى مقاربة عدم السماع، وليس المراد - واله أعلم - إلا أنه سمع وأعرض، فكأنه لم يسمع، ليجري الوارد هنا مع قوله تعالى فيمن صمم على كفره من يهود: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 75)، وإذا أريد إبقاء سماعهم، ولم يرد منعه البتة، لم يناسبه التأكيد المقرب من المنع من أن التنبيه الواقع (مراد)، فحصل المقصود، والله أعلم. ولما لم يقع ذكر سماع الآيات في آية لقمان، وتقدم ذكر المشار إليه فيها بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا) (لقمان: 6)، وهذه زيادة مرتكب، فناسبها ذكر زيادة الوقر. مع أنه لم يرد فيها ذكر سماعه الآيات كما ورد في آيةالجاثية، فازداد وضوح التلاؤم، وإن عكس الوارد لا يلائم، والله أعلم بما أراد. الآية الثانية من سورة لقمان - قوله تعالى: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: 17)، (وقال في سورة) الشورى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى: 43)، يسأل عن مقتضى توكيد الخبر في هذه الآية وسقوط التوكيد من الأولى؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية الشورى، لما دخلها معنى القسم، وكانت

الآية الثالثة

على تقديره، إذ اللام في قوله: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) توطئة له ودالة على تضمين الآية معناه، وناسب ذلك زيادة لام التأكيد في خبر إن، وذلك ظاهر في معنى الآية. وأما آية لقمان فقوله فيها: (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) مجرد إخبار عن حال ما وقعت الوصية به، ولا مدخل للقسم هنا ولا معنى له، فلم تدخل لام التأكيد في الخبر إذ ليس في الآية معنى قسم يستدعيها، ولا وقع في اللفظ ما يطابقها، فورد كل على ما يجب ويناسب، ولو قدر العكس لما ناسب، والله أعلم. الآية الثالثة من سورة لقمان قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (لقمان: 29)، وفي سورة فاطر: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) (فاطر: 13)، وفي سورة الزمر: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) (الزمر: 5)، للسائل أن يسأل عن قوله في سورة لقمان: (إِلَى أَجَلٍ) بإلى، وفي السورتين بعد (لِأَجَلٍ) فجُر أجل باللام مع اتحاد المعنى، فما الفرق؟ والجواب، والله أعلم: أن آية لقمان تقدمها التنبيه على الاعتبار بها بقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) ثم قال: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) فعطف بواو النسق المقتضية الجمع، فدخل هذا مع ما قبله تحت حكم التنبيه بقوله: (أَلَمْ تَرَ)، وحكم التنبيه بالاعتبار منسحب على المجموع للاشتراك في اللفظ والمعنى، فطال الكلام بحسب ما اتقضاه مقصوده، فناسب طوله الجر بما يناسبه مما لا يخرج عن معنى اللام الجارة وهو إلى، فانجر الأجل بها. ولما بنيت الآيتان بعد على إيجاز ليس في آية لقمان ناسبه الجر باللام اكتفاء بما يحرز المعنى المقصود ويناسب التركيب، وورد كل على ما يناسب أتم مناسبة، والله أعلم. ****

سورة السجدة

سورة السجدة (الآية الأولى منها) قوله تعالى: (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (السجدة: 20)، وفي سورة سبأ: (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) (سبأ: 42)، للسائل أن يسأل عن صرف الوصف إلى العذاب أولاً فذكر فقيل: (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) وصرفه ثانياً إلى النار فقيل: (الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا) فأنث الموصول والضمير، ما وجه ذلك؟ والجواب: أنهم يكذبون بالنار وبعذابها، وقد ورد العذاب مضافاً إليها في السورتين، والعذاب مذكر والنار مؤنثة، وعودة الضمير إلى كل من المضافين تحصل المقصود على السواء، فإنما يبقى السؤال عن تخصيص كل واحدة من السورتين بما ورد فيها؟ والجواب عنه: أن آية السجدة اقترن بها ما يستدعي أن يناسب وهو قوله تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ) (السجدة: 21)، فلما تفصل ذكر العذاب إعلاماً بإلحاق ضريبة الأدنى والأكبر بمن جرى الوعيد لهم، والعذاب مذكر، وقد تكرر، فتأكد رعيه، فناسبه عودة الضمير قبله إلى العذاب المضاف إلى النار مذكراً ليجري ذلك كله مجرى واحداً. ولما لم يكن يتلو آية سورة سبأ ولا قبلها ما يستدعي ذلك، أعيد الضمير إلى النار مؤنثاً، ليحصل في السورتين ورود الوجهين الجائزين كما تقدم مع التناسب، والله أعلم. ***

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب الآية الأولى منها قوله تعالى: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) (الأحزاب: 8)، وفيما بعد من السورة: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (الأحزاب: 24)، (يسأل عما أعقبت به كل من الآيتين مع تقارب ما بني عليه التعقيب)؟ والجواب، والله أعلم: أاختلاف العقيب مرعي فيه ما تقدم قبل كل واحدة من الآيتين، أما الأولى فالمتقدم قبلها قوله تعالى: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) (الأحزاب: 1)، ثم لم يعد الكلام إلى شيء من مرتكبات المنافقين ولا تفصيل أحوالهم، فناسب هذا قوله: (وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) (الأحزاب: 8)، والكافر بالنفاق كاكافر المتظاهر بكفره. وأما الآية الثانية فتقدمها قوله تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) (الأحزاب: 12)، ثم تتابعت الآي بعد معرفة بسوء مرتكبهم وقبيح أفعالهم في ثماني آيات أو نحوها إلى قوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب: 21)، ثم أعقب هذا بذكر حال المؤمنين، وذكر بأحسن ما يتحلى به الصادق في إيمانه، فقال تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب: 22). إلى عظيم ما وصفهم به سبحانه، ثم أعقب بذكر حال الفريقين فقال: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (الأحزاب: 24)، (وقد أبقى سبحانه عليهم بقوله: (إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)) جرياً على المطرد من عظيم حمله وسعة عفوه. ورحمته، وكل من هذا وارد على أعظم مناسبة. قلت: وهذا (مما) يشبه المتشابه من الضرب الذي بني عليه هذا الكتاب وليس منه. الآية الثانية من سورة الأحزاب قوله تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) (الأحزاب: 38)، وفي آخر السورة: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 62) للسائل أن يسأل عن وجه الاختلاف فيما أعقبت به كل آية منها؟ ففي الأولى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا)، وفي عقب الثانية (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا).

ووجه ذلك، والله أعلم: أن الآية الأولى معقب (بها) قصة زينب أم المؤمنين وزيد بن حارثة، رضى الله عنهما وما جرى في ذلك إلى أن تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم (فهذه الآية تأنيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، وإعلام له أن تلك سنته سبحانه في عبادة التي شاءها وقدرها حكماً ثابتاً فيمن تقدم من الرسل والأنبياء ومن اهتدى بهديهم، فلا حرج عليك يا محمد فلا تصغ إلى قول منافق (يقول) تزوج محمد حليلة ابنه، فإن زيداً ليس ابنك: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) (الأحزاب: 40)، وأنا شئت تزويجك إياها وحكمت به في سابق عملي بعد تطليق زيد لها وانفصاله عنها: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) (الأحزاب: 37) ليعلم أن تلك سنتك وسنة أمتك بعدم (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) (الأحزاب: 37)، فهذه الآيات تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم، وتلسلية له عن خوض المنافقين، وتنزيه لقدره العلي وتبرئة من كل متوهم فيه أدنى نقص، ورفع لما يتوهم ويقدر وليس على ظاهره السابق من قوله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) (الأحزاب: 37). فهذه آية تعلق (بها) من كان في قبله مرض وتهجموا على باد من مفهومها، فقالوا: إنه عليه السلام رآها فمال إليها وأحبها في حكاية ذكرها المفسرون، يبطلها ويردها المقطوع به من أن زينب نشأت معه، ولم يزل يراها لمكان قرابتها منه، وقوله لزيد عتيقه الذي أنهم عليه بالعتق: اتق الله - يريد اتق الله فيما تذكر عن زينب، لأن زيداً نسب إليها نشوزاً وتوقفاً عن طاعته، فأمره بتقوى الله في أمرها والتثبت فيما يحكيه عنها مما كان يظنه نشوزاً، وكانت زينب، رضى الله عنها، أعظم قدراً من أن تقع في معصية النشوز عمداً، ولكن الزوجين يطلب كل منهما غاية في الوفاء يرى عند غلبة (حب) هذا المطلب عليه ما يقتصر عنه نشوزاً، ففي الجاري من هذا قال له عليه السلام، اتق الله، وأخفى عنه ما كان تقدم له الإخبار به بالوحي من أنه سيطلقها وأنه، عليه السلام اتق الله، وأخفى عنه ما كان تقدم له الإخبار به بالوحي من أنه سيطلقها وأنه، عليه السلام، سيتزوجها، فهذا الذي أفخفاه، عليه السلام، في نفسه ولك يتكلم به حتى أبداه الله، وقوله تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ) أي تخشى كلام المنافقين وقولهم إن محمداًَ تزوج امرأة ابنه، من حيث كان، عليه السلام، قد تبناه قبل الوحي، وقصة ذلك معروفة مشهورة، فكانوا يقولون: زيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) (الأحزاب: 5)، فقيل له، عليه السلام، وقد أدرك الاستيحاء من أن يتكلم المنافقون بذلك وخشية منهم فقال له: لا تخش أحداً إنما جريت في ذلك كله

على ما بين الله لك من الشرع الذي جعله سبحانه سبيلك ودينك الذي تدعو إليه، وطريق من تقدمك من الرسل الذين يبلغون رسالات الله ويخشوننه ولا يخشون أحداً إلا الله، فالله أحق أن تخشاه أنت يا محمد، ولا تصغ إلى أحد، ولا تستحي منه، فإنك على صراط مستقيم، فقد وضح ما أخفاه في نفسه وهذا الذي أبداه تعالى، ألا ترى أنه سبحانه قد وعد أنه يبدي ما أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه، فهل ترى في تلك القصة خلاف ما نطق به كتابه من قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) (الأحزاب: 37)، وكانت زينب تفخر بهذا وتقول لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: زوجكن أهلوكن زوجني الله من فوق سبع سماوات، فهذا إخباره سبحانه وما أبداه مما أخفاه نبيه صلى الله عليه وسلم في نفسه وما سوى هذا فاختلاق. ونقول: وقد تسامح المفسرون هنا، وتبع آخرهم أولهم في نقل ما كان الواجب تركه، إذ هو خلاق القرآن لمن وفق لتدبره ولحظ شهادة بعضه لبعض، فهذا مقصود هذه الآية، ولمجموع ما ذكرنا أعقبت بقوله: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) (الأحزاب: 38). وقد اتبعت الآية بذكر من سن سبحانه حكم هذه الآية لهم، وأنهم الرسل، عليه السلام، فقال: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) (الأحزاب: 39)، فتأمل هذا التعقيب، وقد قيل له، عليه السلام، في قوله تعالى: (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا) (الإسراء: 77)، وقيل له: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90)، وعرفنا ربنا سبحانه أن نبينا كذلك فعل فقال: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى: 52). وأما الآية الثانية فإنه سبحانه لما قال: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) (الأحزاب: 60 - 61) أتبع تعالى بالإخبار أن تلك سنته الجارية في الذين خلوا من قبل، وهذا كقوله: (سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) (غافر: 85)، فأعلم أنها سنته الجارية فيهم: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 62)، وقد تكرر هذا في مواضع من كتاب الله سبحانه، ووضح هذا التناسب في كل من الإعقابين، والله سبحانه أعلم بما أراد. *****

سورة سبأ

سورة سبأ قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (سبأ: 9)، وقال بعد: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (سبأ: 19) بالإفراد في الأولى والجمع في الثانية، فللسائل أن يسأل عن ذلك؟ والجواب عنه، أن الإشارة أولاً إلى قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) (سبأ: 9)، ولم يتقدم ما حركوا إلأى الاعتبار به غير هذا، وقد انضم ذلك تحت ما الموصولة، ولفظها مفرد فروعي من حيث اللفظ فقيل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) بالإفراد. وأما الثانية فتقدم قبلها قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (سبأ: 10)، ثم قال: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) (سبأ: 12)، ثم قال: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ) (سبأ: 13) إلى قوله: (مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) (سبأ: 14)، ثم قال: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ .... ) (سبأ: 15)، فذكر سبحانه بالاعتبار بما منح داود من تسبيح الجبال والطير معه وإلانة الحديد، وبما سخر لسيلمان، عليهما السلام، من الريح تحمله وجنوده حيث شاء في السرعة التي أشارت إليها الآية، وإسالة عين القطر له وهو النحاس المذاب، وعينه معدنه، وعمل الجن بين يديه تسخيراً فيما يريده من عمل ما شاء مما في قواهم، ثم ذكر ما كان لسبأ في مساكنهم من آية الجنتين عن يمين وشمال وأكلهم منها وتنعيمهم إلى أن أعرضوا فأرسل عليهم سيل العرم إلى آخر قصتهم، فهذه المعتبرات لم تدخل تحت موصول ولا اسم مفرد يضم جميعها بل ذكرت مفصلة، فقيل إشارةإلى جميعهما: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ)، ولا يمكن إلا هذا إذ لم يتقدم مفرد من موصول أو غيرذلك ما يجمع الكل يرجع إليه الضمير مفرداً كما في الآية الأخرى، فقيل هنا: (لآيات) ولم يمكن إفرادها هنا، وأمكن في الآية الأخرى لوحدية الموصول الجامع لما تفصل بعده، فروعي لفظه لأن ذلك أوجز من رعي معناه. ثم إن المعلوم من لسان العرب إذا تقدم من الأسماء المفردة ما له لفظ ومعنى فإن

رعي لفظه في عودة ضمير أو تفسير أولى، ثم قد يراعى المعنى لد فيعود الضمير بحسبه من تثنية أو جمع، ومن هذا قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (الطلاق: 11)، فقوله: (يؤمن) (ويعمل) (وندخله) رعي للفظ (من) وهو مفرد فعاد الضمير إليه مفرداً، (وقوله بعد: (خالدين) ورجوعإلى المعنى، ويقل رعي المعنى بديهاً في هذه الألفاظ التي هي مفردات) تتها كثرة، ومنه بين الكتاب. تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من ياذيب يصطحبان فقال: يصطحبان، فأعاد على معنى من، والإعادة إلى اللفظ أكثر، وعليه قيل في الآية الأولى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) بالإفراد على الأولى والأكثر مع جواز وروده عائداً على المعنى إن اعتضد ذلك. أما الآية الثانية فجمع آيات فيها لا يمكن خلافه، فورد كل على ما يجب، ويمتنع العكس لما ذكر. فإن قيل: (إن) قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ ... )، استئناف باللام التي تقع جواباً للقسم، فقد يقال إنها تقطع ما بعدها عما قبلها. وإذا أمكن هذا فما المانع من رجوع اسم الإشارة إلى ما بعد قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ ... ) (سبأ: 15) وتلك قصة مفردة فكان يكون الواردهنا أي الآية على الإفراد رعياً لمعنى القصة؟ فالجواب أنّا لو فرضنا هذا الاعتراض لازماً لقلنا: إن قصة سبأ قد انطوت على تفصيل يقتضي جمع آيات، إلا أن الاعتراض أولاً غير لازم (إذ) قد يشار إلى مجموع قصص تفصلت ودخل كل قصة في أولها هذه اللام، فلم يمنع ذلط من عودة اسم الإشارة إلى الجميع كقوله تعالى: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ) (القمر: 43)، والإشارة بأولئكم إلى كل من تقدم ذكره من أول قصة نوح، عليه السلام، إلى قصة آل فرعون، وقد ابتدئت كل قصة منها (بلقد)، ثم أشير (بعد) إلى الجميع ليعتبر بأحوالهم، فكذلك في الىية التي نحن فيها، فسقط الاعتراض، وتبين أن لك (آية) واردة على أوضح التناسب، والله أعلم. سورة الملائكة: قد تقدم ما فيها، وكذلك سورة يس. *****

سورة الصافات

سورة الصافات الآية الأولى منها - قوله تعالى: (وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (الصافات: 15 - 16)، وقال فيما بعد: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) (الصافات: 51 - 53)، للسائل أن يسأل عن قوله أولاً: (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) وثانياً: (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) لم اختلفا مع أن مرادهم في الموضوعين إنكار البعث بعد الموت؟ والجواب: أن االموضع الأول لم يتقدمه شيء يوجد عدولهم عن التعبير عن معتقاداتهم (في إنكار الإحياء بعد الموت فورد على ما يطابق معتقادهم)، وأما الآية الأخرى فقد تمهد قبلها ذكر الجزاء الأخراوي وذكر السؤال، فأول ذلك ذكر ما يقال لهم إذا حشروا قال تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات: 24) وقول بعد: (وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الصافات: 39)، وقوله بعد: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) (الصافات: 27)، وهذا في الأخرة إلى قوله: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ) (الصافات: 51 - 52)، وهذا قول الكافر وقد باشر العذاب، فأخبر عن قرينه الذي قيد له المشار إليه بقوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف: 36)، فأخبر عنه سبحانه أنه كان يقول له في دنياه: (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) (الصافات: 52 - 53) أي لم لمجزيون بأعمالهم وما إجترحناه في دنيانا، وفي طي قولهم: (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) إنكار للبعث لإنكارهم ما ينبني عليه ويترتب بعده من الجزاء، وقد تقدم ذكر الجزاء فناسبه ذكر تعجبهم منكرين وقوعه، ولم يكن ليحسن وقوع (لَمَدِينُونَ) في الآية الأولى إذا كان يكون هناك غير مفصح بإنكارهم البعث ولا ورد قبلهع ما يستدعيه، فجاء كل على ما يجب ويناسبه، والله أعلم. الآية الثانية (من سورة الصافات) قوله تعالى في ختام قصة نوح، عليه السلام: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات: 80) ثم أعقب القصص الثلاث بمثل هذا، أعني قصة إبراهيم وقصة موسى وهارون وقصة إلياس، إلا أنه ورد في قصة إبراهيم عليه السلام: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات: 109 - 110)، فسقط منه لفظ

الآية الثالثة

(إن) وثبت في القصص الأخر، فيسأل عن وجه القصاص في قصة إبراهيم دون غيرها بذلك؟ والجواب، والله أعلم: أنه تقدم في قصة إبراهيم بعينها قوله: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات: 104 - 105)، ثم لما كرر ليبني عليه قوله: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (الصافات: 111)، كما في نظائره من ختام القصص الآخر كرر قوله (كذلك) لبناء علة الجزاء وموجبه عليه، كما تكرر قوله: (أنكم) في قوله: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) (المؤمنون: 35)، (فكرر) (أنكم) تأكيداً ليبني عليه الخبر فكذلك كررت هنا الجملة (بأسرها) وهي قوله (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ليبني عليها ما ورد علة موجبه لجزائهم لتجري هذه القصة مجرى نظائرها، ولم يكرر حرف التأكيد والضمير المنصوب به إيجازاً واختصاراً لذكره فيما تقدم في القصة نفسها، فوضح أنه لا فرق بينها وبين ما اكتنفها من القصص الوارد فيها ذكر (إن) بوجه. فإن قيل: ولم آخر قوله: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (الصافات: 111)، عن قوله أولاً (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات: 105) من الجمل الوارده مورد جمل الإعتراض إشادة بجلالة إبراهيم وإعلاماً بعظيم (جلاله فقال تعالى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) (الصافات: 106)، ثم أكد) عظيم الإعتناء به فقال: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الصافات: 107 - 109)، ولما طال الكلام بما ورد تتميماً وتكميلاً لحاله، عليه السلام، وبعد عن قوله: (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أعيد منه الجملة الواقعة خبراً لأن ينبني عليه ما بني على نظائره من قوله (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) فقصة إبراهيم عليه السلام، أوفى هذه القصص تعريفاً بكمال الحال، ولم ينقص منها شيء من الأخبار بصفة الجزاء وسببه كما في غيرها زاد فيها ما ورد اعتراضاً كما تبين وذلك لما زاد في قصته من عظيم ابتلاءه زياده والله أعلم بما اراد، الآية الثالثة من سورة الصافات - غ - فقوله تعالى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) (الصافات: 101)، وفي الذاريات: (قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) (الذاريات: 28) والمبشر به واحد والقصة واحدة. فللسائل أن يسأل عن موجب إختلاف الصفتين في السورتين؟ والجواب أن موجب تخصيص الآية الأولى بصفة الحلم ما اقترن بها من قوله تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)

الآية الرابعة

(الصافات: 102)، وجواب أبنه، عليهما السلام، بقوله: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) (الصافات: 102) وأتباعه ذلك تسلية لأبنه وامتثالاً لأمر ربه: ((سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات: 102)، فلما دل جوابه على عظيم حاله) وتلقيه عظيم هذا الأبتلاء بالرضا والصبر التام إمتثلاً لأمر رببه (وإرضاء لأبنه، كان ذلك مبيناً لجليل حلمه ووفور كماله) في حاله ما وصفه في سنه بالأولية والابتداء. أما آية سورة الذاريات فلم يقع فيها ذكر هذه القصة، فورد فيها وصفه بالعلم المحرز بجليل نبوته، ولو ورد في السورتين عكس الوصف الوارد لما ناسب هذه المناسبة الحاصلة، والله أعلم. الآية الرابعة من سورة الصافات: (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (الصافات: 175) ثم قال: (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (الصافات: 179)، يسأل عن الضمير المفعول وثبوته أولا في قوله: (وأبصرهم) وسقوطه ثانياً في قوله (وأبصر)؟ وعن وجه التكرار؟ والجواب عن ذلك: أن التكرار تأكيد وتشديد في الوعيد، وتناسب ذلك بين مألوف في كلام العرب، وأما سقوط الضمير في الثاني فيحرز عموماً لهم ولغيرهم في الوعيد لأن قوله: (وأبصرهم) المراد به أمره، عليه السلام، بأن يترقب ما ينزل (بهم) ويحل بساحتهم من الانتقام، وإعلامه صلى الله عليه وسلم، في بكفايته إياهم كما قال تعالى: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر: 95) فكان كذلك، وقال تعالى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (القمر: 45)، ففعل بهم ذلك يوم بدر، فقدم (الله) سبحانه تأنيس نبيه، عليه السلام، بإخباره إياه في هذا الوعيد (لهم) بأخذهم وقطع دابرهم، ثم أردف هذا الوعيد بوعيد ثان فيه عموم يشملهم ولا يرجع عن تناول غيرهم ممن سلك مسلكهم، ويشعر بحاله هو، عليه السلام، وحال من أذعنواستجاب له فقال: (وأبصر) أي ترقب ما أفعل لك من تأييدك ونصرك وجزائك الأخراوي وجزاء من آمن بك بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وما أفعل بمن عاداك وعاندك ممن باشرك بتمرده وطغيانه أو بعد عنك، من أخذهم وقطع دابرهم ووبيل جزائهم الأخراوي، هذا مفهوم لا يرجع إطلاق قوله: (وأبصر) عن عطائه وتعميمه، ذلك كله مما يعتضد من مواضع أخر، وتأمل ما فعل سبحانه بكسرى حين مزق كتابه صلى الله عليه وسلم تمرداً وطغياناً وإن لم يباشره، لما جاوز حد كفره إلى التمرد والطغيان مُزق هو وآله كل ممزق. أما قوله: (وأبصرهم) فخاض التناول للمباشرين لمكان القييد بإعمال الفعل في ضميرهم، فهو وإن تناول أخذهم في الدنيا وتمكين نبيه والمسلمين منهم، ثم عقابهم

الأخراوي ليبلغ بالتهديد والوعيدأقصى ما يحتلمه، فإنه لا يتعداهم إلى غيرهم وأما قوله (وأبصر) بإطلاق الفعل عن التقييد فقابل غير ممتنع عن تناولهم ومن سواهم من كل من خالفه، عليه السلام، وعاداه، ومقتضى الوعيد لهم ومقصود بشارته له، عليه السلام، يحبذان أن إطلاق الأمرين وتعميم الطرفين من الوعيد والبشارة، فقد وضح أنه لا تكرار في الحقيقة، بل ورد ذلك كله على ما يلائم ويناسب، وعبر عن ذلك كله بعبارة الإبصار إشعاراً بقربه، فكأنه بمنزلة المعاين المدرك بالبصر لتعجيل الدنياوي منه وتحقيق وقوع الأخراوي وتقنه، فكل هذا على أوضح مناسبة والله أعلم. *****

سورة ص

سورة ص الآية الأولى منها - قوله تعالى: (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) (ص: 4) وفي سورة ق: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) (ق: 2)، للسائل أن يسأل عن ورود قوله في ص: (وَقَالَ الْكَافِرُونَ) بواو النسق وفي سورة ق بفاء التعقيب والإخبار عن حالهم واحد؟ والجواب - والله أعلم - أن آية ص وردت مورد الإخبار بمرتكبات من أفعال كفار العرب وأقوالهم فجيء بتلك الجمل منسوقاً بعضها على بعض، فأخبر تعالى أنهم في عزة وشقاق، وأنهم عجبوا أن جاءهم منذر منهم ولم يكن من الملائكة كما قالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا) (الفرقان: 21)، وأنهم رموه بالسحر والكذب، وتعجبوا من جعله الآلهة إلهاً واحداً، وأنهم تمالؤوا على قولهم: (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ)، وأنهم قالوا: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) (ص: 7) أي في ملة عيسى، عليه السلام، ومن هذا قولهم في إخبار الله تعالى عنهم: (أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) (الزخرف: 58)، وتحريهم على الإفصاح بمرتكب النصارى في التثليث، وأنهم أقرب الملل إليهم وآخر من تقدمهم وهم مثلثون، فكيف تجعل أنت يا محمد الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب، فجعلوا ما جاء به اختلافاً وتقويلاً، إلى ما ارتكبوه من هذا، فلما قصد هنا الإخبار بجملة مرتكباتهم جاءت منسوقاً بعضها على بعض بالواو التي لا تقضي ترتيباً ولا تعقيباً. وأما آية ق فمقصود بها التعريف بتعجبهم من البعث الأخراوي واتسبعادهم إياه، ولم يقصد هناك غير ما قصده، ألا ترى إقامة الدلالة عليهم باعتبار خلق السماوات، وتزيينها بالنجوم، وإحكام صنعها، ومد الأرض، وإرسائها بالجبال، وإخراج أصناف النبات، وإنزال الماء من السماء، وإنبات الجنات وضروب الحبوب والنخل الباسقات ذات الطلع النضيد، ثم قال: (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) (ق: 11)، (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (الأنبياء: 104)، (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (يس: 81)، فلما كان قولهم: (هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) مبيناً على ما جاءهم به، عليه السلام، وأعلمهم من البعث بعد الموت جعل الأول - أعني مجيئه، مخبراً بذلك - سبباً في

الآية الثانية

تعجيزهم فربط فيه بالفاء، أي عجبوا من البعث بعد الموت فقالوا كذا، فجيء لكل بما يحرزه، ولم تكن الفاء لتقع هناك، ولا الواو لتقع هنا، بل ورد كل على ما يجب، والله أعلم. الآية الثانية من سورة ص - قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ) (ص: 12 - 13)، وفي سورة ق: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ) (ق: 12 - 14)، للسائل أن يسأل عن وجه ورود هاتين الآيتين في السورتين على خلاف الترتيب المتقرر من ذكر الرسل وأممهم وما جرى بين الرسل والأمم في سورة الأعراف وهود والشعراء؟ ثم عن وجه الخلاف الوارد في سياق آيتي صاد وقاف من جهة الترتيب في السورتين؟ ووجه اختصاص كل واحدة منهما بما ورد فيها؟ وتعقيب آية ص بقوله: (فَحَقَّ عِقَابِ) (ص: 14) وآية ق بقوله: (فَحَقَّ وَعِيدِ) (ق: 14)؟ فهذه أربعة أسئلة. والجواب عن ذلك - والله أعلم: عن الجملة أن الوارد في السور الثلاث مقصود فيه إخبار الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بما كان من الرسل المذكورين مع أممهم تثبيتاً لفؤاده صلى الله عليه وسلم وتأنيساً، قال تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) (هود: 120)، فذكر أنباءهم، عليه السلام، على الترتيب في أزمنتهم وإرسالهم، أما سورة ص وسورة ق فلم يُبين ما ورد فيهما على ذلك القصد، وإنما بناء ما في السورتين من ذلك على تسليته صلى الله عليه وسلم فيما كان يكابده من عتاة قريش وكفار العرب في توقفهم عن الإيمان، فجرد لهذا القصد ذكر عتاة قريش وكفار العرب في توقيفهم عن الإيمان، فجرد لهذا القصد ذكر عتاة المكذبين وأخذه سبحانه إياهم، وقيل له، عليه السلام، تعريفاً بمآل كفار قريش: (وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ) (ص: 15) مخالفاً لإيراد ما في هاتين السورتين ما تقدم في غيرهما لاختلاف المقاصد، وجاء في كل واحدة منهما من الترتيب ما يلائم ويناسب على ما تبين بحلول الله تعالى. فإن قيل: فإن سورة الحج ورد فيها ذكر الأمم السالفة المكذبين في قوله تعالى: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ .... ) (الحج: 42 - 44) فجرد ذكرهم عن ذكر الرسل إخباراً بمجرد تكذيبهم وأخذهم كما في سورة ص وسورة ق، وقد وردت

علي الترتيب الوارد في السور الثلاث، فقد خالفت مقصود ما في تلك السور، ثم جرت على ما فيها من الترتيب، فما الفرق بينهما وبين هاتين السورتين؟ قلت: الفرق بينهما أن مقصد آية سورة الحج الإخبار بتكذيب أولئك الأمم وأخذهم تسلية لنبينا صلى الله علية وسلم من غير زيادة لما تعرضت لة آية ص وآية ق، وأما هاتان الآيتان فقد انجز فيهما مع ذكر التكذيب والأخذ التعريف بتعزز عتاة قريش ومن وافقهم وذكر شقاقهم. وقبيح ردهم وتعاميهم عن النظر في الآيات والاعتبار بما نصب منها في الأرض والسماوات، فلهذا المنجر هنا انفردت سورة ص وسورة ق بالوارد فيهما من الترتيب عن سورة الحج. فإن قلت: فإذا اجتمعت السورتان فيما ذكر فما وجه اختصاص كل واحدة منهما بما خصت به عن أختها من الترتيب؟ قلت: أما آية ص فوجه اختصاصها بما ورد ترتيبها عليه أنه سبحانه لما وصف كفار قريش والعرب بالاعتزاز والشقاق في قوله: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) (ص: 2)، ثم أعقب بذكر القرون المهلكة في قوله: (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) (ص: 3)، ثم أعاد ذكرهم مفصلا قرنا قرنا وأمة أمة، كان الأنسب لما قدم من ذكر عتو كفار العرب وشقاقهم ذكر أعتى القرون من الأمم وأجرمهم، فذكر قوم نوح من حيث لم يجد عليهم نكرار الإنذار مع طول الأمد، قال تعالى مخبرا عن طول مدتهم وبعد إجابتهم قال نوح: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا) (نوح: 5 - 6)، إلى قوله: (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) (نوح: 7)، إلى دعائه، عليه السلام، عليهم عند قطع رجائه منهم بقولة: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) (نوح: 26 - 27)، إلى ما وصفهم سبحانه به وأنه لم يؤمن منهم مع نوح إلا القليل، فوجود ما تحلت به عتاه قريش ومتمردو كفار العرب من العزة والشقاق في قوم نوح أوضح شيئ، ثم اتبع ذكرهم بدعاء عاد الموصوفين بالقوةوالطغيان القائلين: من أشد منا قوة، والقائلين لنبيهم عليه السلام: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ) (الشعراء: 136)، إلى قوله: (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (الشعراء: 138)، ثم اتبع بذكر فرعون ذي الأوتاد، والمراد هو وآله وقومه. وقد تكرر في القرآن مع ذكر فرعون وعلوه في الأرض وطغيانه مع ما أوضح شنيع مرتكبة وبعد شقاقه، ثم اتبع بمن ذكر بعدهم مراعي في ذلك مناسبة ما قدم، ثم ذكر اجتماعهمفي موجب تمردهموعتوهم وهو تكذيبهم للرسل، فقال تعالى: (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ) (ص: 14) ثم أعاد الكلام إلى كفار قريش والعرب المبدو بهم والمنبهين لو تنبهوا بأخذ من عاند وكذب ممن تقدمهم فقال: (وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ) (ص: 15)،

أي إنهم إن تمادوا على شقاقهم فلا فرق بينهم وبين ما تقدمهم من هؤلاء القرون (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ) (الرعد: 6)، (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) (يونس: 102)، ثم أتبع سبحانه بذكر شنيع مرتكبهم في استعجالهم العذاب وقولهم: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) (ص: 16)، فأنبأ تعالى باستحكام كفرهم وتكذبيهم واستهزائهم الموجب لتعجيل أخذهم، ثم أنصرف الكلام إلى أمره سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على معاندتهم وردي مقالتهم، وتذكر أخيه داود والاعتبار بأمره، وتسخيره سبحانه له الجبال، وحشره له الطير منقادة إلى أمره، وإلانته له الحديد، وقلوب الآدميين أهين وأقرب، فلو شاء لهدى هؤلاء كما سخر الجبال لداود (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) (السجدة: 13) وهذا وجه ذكر داود، عليه السلام، هنا، لا ما قاله الزمخشري، وقد تقدم (الإيماء) إليه عند قوله تعالى في سورة طه: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) (طه: 130) ويستوفي عقب هذا بحول الله، فهذا وجه اختصاص آية ص بما ورد فيها من الترتيب في ذكر القرون المهلكة بتكذيبها. وأما آية ق فوجه الوارد فيها من إتباع ذكر قوم نوح بذكر أصحاب الرس ومخالفة الوارد في سورة ص، إن آية ق قد انفردت عن آية ص بما قصد فيها مفصحاً به، من ذكر تعامي كفار قريش والعرب عن النظر في خلق السماوات والأرض، والاعتبار بمن تقدمهم من الأمم، وأخذهم بتكذيبهم، ففي آية ص ذكر تجبرهم وشقاقهم وطغيانهم، وفي ق ذكر تعاميهم عم الاعتبار والنظر، فبدأ سبحانه بتذكيرهم بذكر حال السماء وإتقانهم فقال: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا) (ق: 6) إلى قوله: (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) (ق: 11)، والمراد أنهم لو وقفوا فأمعنوا النظر في بناء السماء، وتزيينها بما جعل تعالى فيها من نجومها، وسلامتها من فطور أو فروج، وفي امتداد الأرض وإرسائها بالجبال، وإنبات ما فيها من كل زوج بهيج، وإنزال الماء من السماء، وإنبات الجنات وحب الحصيد والنخل الباسقات ذات الطلع النضيد، وإحياء البلاد الميته، وتكرر ذلك عليها، فلو اعتبروا بهذا لاستوضحوا العودة والبعثة، الأخراوية (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) (ق: 11)، (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (الأنبياء: 104)، فلما ذكرهم سبحانه بخلق السماوات والأرض أعقب ذلك تتميماً جارياً على التذكير المتكرر في الكتاب بذكر القرون السالفة المهلكة بتكذيبها فقال: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) (ق: 12)، ولما (بني) (ما) تقدم من الاعتبار على الإشارة إلى الاستيفاء (في عجائب الأرض والسماء، ناسب ذلك بناء ذكر من نبه عليه ممن هلك

(بتضييع) نظره واعتباره على الاستيفاء)، فذكر طرفان ليحصل حصر من بينهما أمة ممن تقدم وهم قوم نوح وأمة ممن تأخر وهم أصحاب الرس، ليحصل ما بينهما بإشارة الطرفين كما قال سبحانه في سورة الفرقان: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا) (الفرقان: 38)، وهذه الآية وآية ق مشيرتان إلى تأخير أصحاب الرس عن كل من ذكر في الفرقان من الأمم المهلكين بتكذيبهم ممن عين ذكره، والله أعلم. وقد اختلف المفسرون في أصحاب الرس، والواقع في مختلف أقوالهم في ذلك ثمانية أقوال، ومن جملتها أنهم أصحاب الأخدود، وقيل كانوا قوماً قتلوا نبيهم ورموه في بئر لهم، زاد بعضهم أنه كان اسم نبيهم حنظلة، وقيل هم من قوم شعيب، عليه السلام، وقيل غير ذلك، والمقطوع به ما نطق به القرآن من وجود قرون كثيرة بين قوم نوح وأصحاب الرس، ويظهر من هذا الوارد في سورة ق أن مقصود الآية من استيفاء القرون المأخوذين بتكذيبهم غير وارد في غيرها، ألا ترى أنه قد أفصح فيها بثمانية قرون منصوص عليها، وهم قوم نوح، وأصحاب الرس، وثمود، وعاد، وفرعون، وأخوان لوط، وأصحاب الأيكة، وقوم تبع والمراد هو وقومه، ولم يرد في أوفى المتكرر من الكتاب العزيز غير سبعة. والأكثر ستة، فدل على قصد الاستيفاء في هذه السورة على كل حال، فقد ورد قوم نوح وأصحاب الرس طرفين لمن بينهما من القرون، ومقصود بهما - والله أعلم - استيفاء ما بينهما، إشعاراً، (في هذه الورة وإفصاحاً بكثرة من بيمهما بقوله في سورة الفرقان (وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا) (الفرقان: 38). وأما الوارد بعد الطرفين في سورة ق من ذكر ثمود وعاد ومن ذكر بعد، فقد يكون - والله أعلم - من قبيل ما ورد في القرآن ممن شمله لفظ متقبل غير مصرح ثم نص عليه اعتناء واهتمام مع كونه قد ضمه ذلك اللفظ المتقدم، كقوله تعالى: (وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) (البقرة: 98) بعد دخولها تحت لفظ الملائكة، وعلى كل حال فأصحاب الرس متأخرون عن قرون كثيرة بعد قوم نوح بنص القرآن، والله سبحانه أعلم. فلما ورد هنا ما يشير إلى الاستيفاء بالاعتبار بهم جرياً مع ما تقدم من استيفاء الاعتبار بعجائب الأرض والسماء قدم ما يحصل بتقديمه ما اشير إليه من الاستيفاء، ولم يكن القصد هنا ما قصد في آية ص، فجاء كل على ما يجب، والله أعلم. وأما المعقب به كل واحدة من الآيتين من قوله في سورة ص: (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ) (ص: 14)، وقوله بعد آية ق: (فَحَقَّ وَعِيدِ) (ق: 14)، مراعي في

الآية الثالثة

ذلك فواصل (في كل من السورتين وإلا فالعقاب والوعيد حق على كل من هؤلاء المكذبين، فإنما روعي الفواصل)، فقوله قبل آية ص: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (ص: 8 - 9)، واستمرت وفاصل الآي هكذا إلا ما بعد الآية فاستجعى ذلك مناسبة الآية المتكلم فيها فقيل: (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ) (ص: 14)، وأما آية ق فوسب بها أيضاً ما تقدم من قوله: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) (ق: 9) ثم قال: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) (ق: 10) وورد أيضاً في الفواصل بعدها: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (ق: 15)، إلى بضع عشرة آية جارية في مقاطعها على ما ذكر، فناسب ذلك قوله: (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) (ق: 14) وجاء كل على ما يناسب، وذلك واضح. الآية الثالثة من سورة ص: غ - قوله تعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ *اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص: 16 - 17) وفي سورة الأحقاف: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف: 35) وفي سورة القلم: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) (القلم: 48)، ورد في هذه السور الثلاث أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر، محالا في الأولى عل الاعتبار بحال داود وأبنائه وفي الثانية: على أولي العزم في أهتدائه وأقتدائه، وفي الثالثة منبهاً بالجار لذي النون في مغاضبته وندائه، والمتردد في غير هذه الآي إنما هو أمره، عليه السلام، فاصبر غير مناط بذكر أحد من الرسل، كقوله تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) (النحل: 127)، وكقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف: 28)، وقوله: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) (ق: 39)، وقوله: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (الطور: 48)، إلى غير هذا من الآي، فللسال أن يسأل عن وجه ذلك؟ وعن اختصاص كل سورة من الثلاث بما ورد فيها إذ ليست الإحالة فيها على حد سواء؟ فهذان سؤالان. والجواب عن السؤال، والله أعلم: أن تكرر أمره، عليه السلام، بالصبر في الآيات المترددة على كثرتها أدل دليل على الاعتناء به صلى الله عليه وسلم لعظم أمر الصبر وشدة الحاجة إليه في كل مطلب ديني من أخذ أو ترك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في صفته: " الصبر ضياء"، وقال تعالى في قصة أيوب وحال أبتلائه: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ) (ص: 44) وقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10)، وقال تعالى:

(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 10) وقال تعالى: (وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) (القصص: 80)، وأحوج الخلق إلى الصبر الرسل، عليهم السلام، لعظم ما يلقونه من مكابدة الخلق، فلشدة الحاجة إلى الصبر ما تكرر في عدة آيات أمراً له عليه السلام، ولأمته. والجواب عن السؤال الثاني: أن أمره، عليه السلام، بالاقتداء بالرسل قد ورد وتكرر في غير أية، وتردد أيضاً أمره بالاقتداء بأبيه إيراهيم، عليهما السلام، لعظم مقام إبراهيم وجليل خلته وابوته وتنبيهاً للعرب لرجوعهم إليه انتساباً وإعترافهم مقرين بتعظيمه. وأما تخصيص السور الثلاث بتعيين ما ورد فيهما فلما نذكره من الوجه الحامل والمناسبة في النظم، أما سورة ص فوجه إختصاصها فيها إلتئام نظم الآية بما تقدمها، وإرتباط قوله تعالى فيها: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ) (ص: 17)، بما اتصل به من قوله (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) بيان النظم في ذلك وإلتئامه أوضح إلتئام، إن الله سبحانه لما ذكر حال العتاة من كفار قريش وشنيع مقالهم لنبيه، صلى الله عليه وسلم، من لدن قولهم (سَاحِرٌ كَذَّابٌ) (ص: 4) إلى ختمهم ما ذكر تعالى من سوء مراجعتهم بقولهم إستهذاء وتكذيباً: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) (ص: 16) أتبع ذلك ملاطفة وتأنيساً لنبيه، صلى الله عليه وسلم، بقوله: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) (ص: 17) (تذكيراً له بأن الجاري من ذلك إنما هو على ما شاءه لهم في أزله وقدره عليهم، فليس خارجاً عن إرادته، فكأنه يقول لنبيه، عليه السلام، أصبر على ما) يرد منهم وما يقولونه فإنه مرادي منهم في سابق قدري، ولو شئت لهديت قلوبهم وسخرتها لإجابتك، فقد سخرت الجبال مع داود والطير وإلنت له الحديد وقبل الادمي ألين وأقرب: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) (السجدة: 13) فإذا علمت أن قلوبهم بيدي اقلبها كيف شئت، فأصبر على ما يقولون، واعتبر بما سخرته لداود وأقتد لما منحته من الايد والقوة، فهذا وجه النظم والارتباط في هذه الآي، والله أعلم. وقد تعرض أبو الفضل بن الخطيب في تفسيره الكبير لتوجيه النظم فيما قدمناه فقال: إن قيل أي تعلق بين قوله تعالى: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ): ((وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ) قولنا: من وجوه. الأول: كأنه قيل: إن كنت قد شاهدت من هؤلاء الجهال جرائتهم على الله وإنكارهم الحشر والنشر فذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من الله ومن يوم الحشر فإنه بقدر ما يزداد أحد الضدين شرفاً يزداد الأخر نقصاناً. أنتهى معنى كلامه. قلت وهذا الذي حكاه ضعيف، لأن هذا الكلام يثمر التعجب من فعل الله سبحانه ولا يثمر تسلية ولا تأنيساً وهما أنسب في الموضع وذكر وجهاً ثانياً وهو أنه كأنه قيل لنبيناً، صلى

الله عليه وسلم: ولا يضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك فإنهم إن خالفوك فالأكابر من الأنبياء موافقوك، قلت: وهذا أضعف من الاول، لأنه، عليه الصلاة والسلام إنما يأنس بمصداقية من امته، وأيضاً فقد كان ذكر إبراهيم لو قصد هذا الغرض من الموافقة أنسب لتعظيم العرب إياه وللاتفاق عليه ولعظم خلته، وذكر وجه ثالثاً وهو أن الخصمين الذين دخلا على داود، عليه السلام، كانا من البشر، وإنما دخل عليه بقصد قتله، فخاف داود ومع ذلك لم يتعرض لإيذاهما ولا دعى عليهما بل استغفر لهما، فأمر نبيا عليه السلام أن يقتضي به في حسن الخلق. قلت: وهذا ضعيف كالذي قبله، وذكر الأمام أبو الفضل غير هذه الوجوه مما دون هذه في القوة ثم أعقب هذا بأن قال: ولي هنا وجه آخر أقوى وأحسن من كل ما تقدم، ثم أعتمد في هذا التوجيه على أن قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ) ليس مما تقدمهم، وإنما هو وجه اتصاله به، وأن العقلاء قالوا من ابتلي بخصم جاهل مقر متعصب وراءه قد خاض في التعصب والاقرار وجب عليه أن يقطع الكلام معه في (تلك) المسئلة، لأنه كلما كان خوضه في تقريره أكثر كان بعده عن القبول أشد، فالوجه حين إذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسئلة، وأن يؤخد في كلام آخر أجنبي عن المسئلة الأولى (بالكلية، ويطنب في ذلك الكلام الاجنبي، فإذا اشتغل خاطره بهذا الكلام الأجنبي ونسي تلك المسئل الأولى) أدرك له أثناء الكلام في هذا الفصل الأجنبي مقدمة تناسب ذلك المطلوب الأول، فيحصل عن ذلك تسليم المتعصب لهذه المقدمه، لذا اسلمها فحين إذ يتمسك بها في (ثبات) المطلوب الأول، فيتمكن من إنقيادة ويرجى رجوعه إلى ما طلب به أولاً، هذا معنى ما أرده أبو الفضل في هذا الفصل، ثم أشار إلى أن المدرج في هذا الكلام من المقدمة المناسبة إلى المطلب الأول لقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا) (ص: 27)، إلى قوله: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص: 29) قلت: وعندي أن ما ذكره من هذا وأن العقلاء قالوه، إن كانت العرب تفعله ويعرف من كلامها إرتكابه فإن ما يكون - والله أعلم - على أوضح وأنسب مما ذكره، والذي اراه جارياً على هذا المنهج الذي آراه - والله أعلم - قوله تعالى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (ق: 1 - 3) فهذا إنكار منهم للبعث الأخراوي واستبعاد، وهو نحو من الوارد في سورة ص، فأعقب تعالى ذلك بقوله مما يشبه الالتفات، وهو الذي زعم أبو الفضل أن العقلاء يرتكبونه عن لوز الخصم والأخذ فيما هو كالأجنبي، فقال تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا

مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (ق: 6 - 7) إلى قوله في ماء السماء: (وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) (ق: 11)، فبعد العدول عن جوابتهم في قولهم: (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) وذكر اختلاطهم المسبب عن تكذيبهم وتجبرهم المعبر عنهم بقوله: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (ق: 5) أي مختلط، صرف تعالى الكلام إلي نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فقال: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ) (ق: 6) إلى قوله: (وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) (ق: 11) وذلك كله مدرك مشاهد لهم، لا يمكنه التوقف في شيء منه، ولا حفظ عنهم إنكاره، فعند تكرر هذا قال تعالى: (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) فهذا - والله أعلم - أقرب فيما ذكره أبو الفضل فزعم أن العقلاء يرتكبونه. وأما الوارد في سورة ص فيبعد - والله أعلم - أن يكون من هذا، ثم أن القول بأن الوارد في سورة ص من قوله: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ) أجنبي عما قبله، وغير مناسب البته، وأنه إنما أوتي به لما ذكر من شغل الخصم المتعصب عن ذلك الوجه الذي ذكر بعيد بالكلية، وإن ورد شيء مما يمكن أن يقال أنه من ذلك الضرب فلا أنسب أن يكون منه الوارد في سورة ق لا الوارد في سورة ص، وإذا تأملته وضح لك ذلك، وأن الوجه في نظم الكلام ماقدمته أولاً وهو مما لا غبار عليه، والله أعلم. وقد تعرض الزمخشري لما تقدم في هذا الآي، فأجاب عن ذلك بما جرى فيه على شنيع المرتكب وسوء الأدب، بناء على استبداد العبيد، وفعلهم ما لا يرضاه الخالق سبحانه ولا يريد، فجعل لله شركاء، وأفرد العباد بأفعالهم واستبداداً أو ملكاً، فأجاب بناء على ما اتصل، وما وفق في هذا الموضوع لوجه المطابقة ولا حصل، فإن قلت كيف تطابق قوله: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ) حتى عطف أحدهم على صاحبه؟ ثم (قال): قلت: كأنه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم، اصبر على ما يقولون، وعظم امر معصية (الله) في أعينهم بذكر قصة داود، وهو أنه نبي من أنبياء الله تعالى قد أولاه ما اولاه من النبوة والملك لكرامته عليه ورأفته لديه، ثم ذل ذله فبعث الله الملائكه ووبخه عليها على طريق التمثيل والتعريض، حتى فطن لما وقع فيه فاستغفر ربه، وأناب، ووجد منه ما يحكي من بكاءه الدائم. وغمه الواصب، ونقش جنايته في بطن كفه حتى لا يزال مجدداً للندم عليها، فما الظن بكم مع كفركم ومعاصيكم؟ أو قال له صلى الله عليه وسلم: اصبر على ما يقولون، وصن نفسك، وحافظ عليها إن تذل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل آذاهم، وأذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف ذل تلك الذلة اليسيرة فلقي من توبيخ الله ونسبته

إلى البغي ما لقي. انتهى جوابه. وقد اجتمع فيهم مخالفة الصواب والبعد عن المطابقة فإن تعظيم معصية الله، كما قال الزمخشري - فذكر قصة داود لقوم غير مؤمنين بأحد من الأنبياء فالتذكير بذلك لمن يقول استهزاء وكفراً: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) (ص: 16) فتذكيرهم بهذا مع ذكر الأنبياء بلفظ الذلل أقرب شيء لاستمرارهم على الاستهذاء (والكفر) مع عصمة الأنبياء عما وقع عليه الذلل حقيقة. ثم قوله في الجواب الثاني عن داود، عليه السلام: أنه لقي من توبيخ الله وتظليمه ونسبته للبغي، هذا كله خلف من المرتكب واطلاق لا يجوز في حق الأنبياء، فقد جمع جوابه سوء الادب وشنيع المرتكب والبعد عن المطابقة، والذي جوابنا به لا غبار عليه ولا توقف في مطابقته، نسأل الله سبحانه أن ينفعنا بذلك يوم تبلى السرائر. ******

سورة الزمر

سورة الزمر الآية الأولى منها - قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) (الزمر: 2 - 3)، وقال فيما بعد: (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ) (الزمر: 41)، للسائل أن يسأل عن قوله أولاً: (إليك) وثانياً (عليك) وهل بينهما فرق يوجب خصوص كل واحدة من العبارتين بمكانها؟ والجواب: أن (إليك) وعليك) هنا مترادفتان على معنى واحد من معنى الخطاب، فتارة يراعى وصول المنزل بواسطة المَلك، وتارة يراعي وصوله من عند الله سبحانه من غير واسطة، فإذا روعي هذا قيل عليك، وإذا روعي الأول قيل إليك، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (البقرة: 4)، وقال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) (الكهف: 1)، والأول أكثر فبدئ هنا به. ثم إنه ورد في الآية الثانية: (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ)، واللام الجارة في قوله (للناس) تفيد الاختصاص وترادف كثيراً لفظة: (إلى)، تقول الأمر لزيد والأمر إلى زيد، قال تعالى: (وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ) (البقرة: 275)، وقال: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (آل عمران: 154)، فلو وردت الآية الثانية بإلى فقيل: إنا أنزلنا إليك الكتاب للناس، لكان ذلك كالمرادف لقوله: إنا أنزلنا إليك الكتاب إلأى الناس، وكان يكون فيه إيصال الفعل إلى مجرورين بحرف واحد، وليس أحدهما معطوفاً على الآخر، والعرب لا تقضي الفعل مما يطلب إلا واحداً، فلا تقضيه ظرفي زمان بغير حرف تشريك، ولا ظرفي مكان، ولا تقضي مفعولين لفعل متعد إلى واحد، ولا ثلاثة مفعولين لمتعد إلى مفعولين إلا على طريفة البدلية، ولا يصح ذلك في الآية، أو على التشريك بحرف العطف، وليس ذلك في الآية أيضاً، فجيء بالآيتين على ما يناسب ويلائم، والله أعلم. الآية الثانية من سورة الزمر قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (الزمر: 11 - 12)، للسائل أن يسأل لم عُدي الفعل الذي هو أمرت أولاً بغير حرف جر ثم عدي ثانياً في قوله: (أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) بحرف الجر؟

والجواب عن ذلك: أن العرب تقول: أمرتك الخير وأمرتك بالخير، فعدي هذا الفعل بنفسه وبحرف الجر، وهو الأصل فيه، والحذف فصيح كثير، ويلحق إذ ذاك بباب أعطى وكسا في أحكامه، ومنه: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب والآية من قوله: (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) مثل البيت، وإذ تقرر هذا فمفعول أمرت الأول - وهو الضمير - مقام مقام الفاعل، والثاني أن يكون وصل الفعل إليه بنفسه، والأصل بأن أكون. وأما قوله: (أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) فأقول إنه محذوف منه حرف الجر كالأول، تقديره: وأمرت بأن أكون، فحذف منه حرف الجر الذي هو أصل الفعل أن يصل به وهو الباء، وأما اللاّم في: (لِأَنْ أَكُونَ) فمبقاة من محذوف يفهمه سياق الكلام مع الحرف المبني من، تقديره: وأمرت لعلمي أولاً أن أكون أول المؤمنين. ألا ترى أن الوارد في الآيتين أمران: أولهما عام والثاني خاص، لأن أمره، عليه السلام، بالعبادة والإخلاص أمر له ولأمته. قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة: 5)، فالآية من قبيل ما توجه فيه الخطاب له عليه السلام والمراد هو وأمته، والخطاب يأتي كذلك، ويأتي أوله خاص وآخره عام. ومنه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) (الطلاق: 1)، وإذا ورد بصورة الخصوص به كان أمراً ونهياً فأمته داخلة معه في ذلك الحكم ما لم ينص على خصوصه كقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ) (الأحزاب: 50)، فحكمه، عليه السلام، وحكم أمته في هذا واحد، ثم قال تعالى: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (الأحزاب: 50)، فأفرده سبحانه بجواز الموجوبة بالنص على ذلك، ولولا قوله تعالى: (خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) لكان حكم أمته في ذلك كحكمه، وإذ تقرر هذا فقوله: (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أمر خاص به، ولا يشركه فيه غيره، ونظير هذا قوله: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) (الأنعام: 14)، والمعنى يحرز ذلك، بل لا يمكن خلافه، وذلك أن (الحكم من الأمر والنهي إذا جاء به المَلَك وتلقى منه صلى الله عليه وسلم ما خوطب به وصدق به وأسلم وجهه لربه وبعد ذلك يتلقاه منه، عليه السلام، من حضره وخاطبه به، ولا طريق

الآية الثالثة

لأحد أن يتلقى حكماً إلا منه، عليه السلام بعد تلقيه هو ذلك من جبريل، فهو، عليه السلام، أول مؤمن وأول مسلم، ولا تمكن تلك الأولية لغيره، ولا نسبة إليها لأحد فقد وضح وجه دخول هذه اللام في قوله له: (لِأَنْ أَكُونَ). الآية الثالثة من سورة الزمر قوله تعالى: (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا) (الزمر: 21)، وفي سورة الحديد: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) (الحديد: 20)، فورد هنا: (ثم يكو) وفي الأولى: (ثم يجعله) مكان (ثم يكون) فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟ وهل كان يمكن أن يرد في الأولى: (ثم يكون) وفي الثانية (ثم يجعله)؟ والجواب، والله أعلم: أنه لا يناسب كلا من الموضعين إلا ما ورد فيه، ولا يجوز على رعي التناسب اللازم رعيه في الكتاب العزيز غير ما ورد عليه الموضعان، ووجه ذلك أن آية الزمر وردت مورد التنبيه على الاعتبار، وبالنّصية على ذلك افتتحت الآية فقال تعالى خطاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم، والمراد هو وأمته: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) (الزمر: 21)، والمراد به المطر، فسلكه ينابيه في الأرض أي أنقذه وأراه في الأرض فبرزت عيونها وجرت مياهها من تلك المادة السماوية (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ) (البقرة: 74)، فيخرج به سبحانه الزرع المختلف الألوان والطعوم المتباينة: (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) (الرعد: 4)، (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا) (الزمر: 21) فنسب سبحانه كل حالة من تقلبات الزرع إلى نفسه، وتنقلاته من لدن خروجه ونباته وما بعد ذلك إلى تخلصه إلى نفسه، إذ لا طمع لمخلوق في إعادة شيء من ذلك، ثم قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (الزمر: 21)، فافتتحت الآية واختتمت بالتنبيه على الاعتبار، فلما كان مبناها على ذلك ناسب نسبة الفعل إليه تعالى فقال: (ثُمَّ يَجْعَلُهُ). وأما آية الحديد فوردت مثالاً للدنيا وابتداء غرورها، وصغو الكافر الغافل إلى ذلك، وإرعاضه عن سرعة تقلبها وزوارها وفنائها، فلما قصد هنا المثال ناسب هذا المقصود قوله: (ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)، إذ لم يتقدم في أول الآية النسبة للفاعل اكتفاء بما هو غير خاف على كل ذي عقل سليم، فجرى آخرها على ما يجري عليه أولها، كما جرى في آية الزمر (من آخرها من التنبيه على ما جرى عليه أولها، وتناسب ذلك كله، وورد على ما يجب، ولم يكن بناء على ما صدرت به كل آية منهما أن يكون في آية الزمر): (ثم يكون) ولا في آية الحديد: (ثم يجعله)، بل ورد كل على ما يناسب، والله أعلم. الآية الرابعة من سورة الزمر قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا

كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الزمر"48)، وفي سورة الجاثية: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) (الجاثية: 33)، للسائل أن يسأل عن وجه اختصاص آية الزمر بقوله: (ما كسبوا) وآية الجاثية بقوله (ما عملوا) مع أن المقصد في الموضعين واحد وهو أنه لم يغب من أعمالهم السيئة شيء؟ والجواب عنه، أن العمل أعم من الكسب لأن الكسب واقع على ما للإنسان فيه تعمل وعلاج، وقد يطلق على غير الإنسان إذا كان الواقع منه ذلك حيواناً يصح منه القصد كالجوارح المعلمة وشبهها، ومنها قوله: وتجر مجرية لها لحمى إلى أجر حواشب وأجر جمع جرو، وأما العمل فيقع على ذلك وعلى ما جرى من فاعله وإن لم يكن منه قصد ولا تعمل ولا هو فاعل حقيقة، فيطلق على ما لا يطلق فيه الكسب، ومنه بيت الكتاب: حتى شآها كليل موهناً عمل باتت طراباً وبات الليل لم ينم فوصف البرق بأنه عمل، ومقصود الآية أنه بدا لهم كل ما كان منهم على الاستيفاء، لأنه إخبار موعظة وتهديد وإشعار بالوعيد، فيناسبه ما يجري في المناقشة. وإذا كان المعنى على ما ذكرنا فالمطابق لهذا ما ورد في الجاثية من التعبير ببدأ والعمل، وعلى هذا ورد قوله في سورة النحل وعيد للمقول فيهم: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ... ) (النحل: 33) ثم قال: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) (النحل: 34)، ولم يرد هنا: (ما كسبوا) لأنه من قصد التوسعة (والاستيفاء) (مما يبدون من أعمالهم ويظهر الاستيفاء لذلك)، وكذلك الوارد في الجاثية، وإذا وضح هذا بفينبغي السؤال عما ورد في سورة الزمر، ولم عدل به عن هذا فقيل: (ما كسبوا)؟ والجواب عنه، والله أعلم: أنه إنما ورد تتمة لما تقدمه من قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (الزمر: 47)، فقوله: (مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) يتناول ما قدموه من سيئ أعمالهم غافلين عنه وناسين إياه، كان مما قصدوه فيه أنفسهم أو دون ذلك فقد حمل من هذا مع بعده ما تحصل من قوله: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا)، وكان قوله مع ذلك: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا) كالتتمة المؤكدة ومتناولاً ما قصدوه وأعملوا أنفسهم

الآية الخامسة

فيه، حصل من مجموع ذلك المكتسب وغير المكتسب، فلا فرق بين آية الزمر وآية الجاثية. ولو قيل في آية الزمر: (ماعملوا) لكان تكراراً لأن ذلك حاصل مما قبلها، ولو قيل في آية الجاثية (ماكسبوا) لما كان وافياً بما بينا قبل أنه مقصود الكلام، فتبين خصوص كل من الواردين بموضعه، وأن عكس الوارد لا يمكن. فإن قلت: ما الوجه هنا من قوله: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (الزمر: 47)؟ تلك هي نكرة موصوفة كقولهم: مررت بما معجب لك. وإذ ذاك يحرز ما تقرر من المعنى بإبهامها، كما أن ما الاستفهامية حيث يقصد الإبهام تعظيماً للأمر وتفخيماً كقوله تعالى: (الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ) (الحاقة: 1 - 2) وقوله: (الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ) (القارعة: 1 - 2) تحرز لإبهامها من عظيم أمر الحاقة والقارعة ما لايفي به الوصف، والإبهام مقصود في التعظيم والتفخيم للأمر المعبّر بها عنه. فإن قلت: إن (ما) يقل وقوعها نكرة موصوفة، قلت: بل هي حيث يقصد بها هذا المعنى موجودة في كثير من كلامهم وإن كانت الموصولة أكثر منها، إلا أن الموصولة لا تحرز ما ذكرنا من المعنى إحرازها. فإن قلت: إنما يصح ما اعتمدت من المعنى على القول بتكليف ما لايطاق، وذلك أمر لم يكلف به: قلت إما أنه من الأمر فصحيح وقد امتحن به من قبلنا، وحمل عليهم بنص القرآن، وأما أنه مما لا يطاق فلا يبلغ هذا، بل نقول: إنه يطاق بمشقة، والآية ليست نصاً في هذه الأمة بل ولا في أهل الشرائع وحدهم، وإنما هي فيمن ينكر البعث الأخراوي ومن جارهم، ويبين ذلك ما قد ورد قبل آية الجاثية من قوله: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا ... ) (الجاثية: 32)، وهو قول من لا يصدق بالبعث وليس هذا من أتباع الرسل، ثم إن تخويفها يعم جميع المكلفين، والمؤمن الموفق أشد الخلق خوفاً منها: (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف: 99)، ثم إنا نقول بجواز التكليف بما لا يطاق هقلاً ونمنعه شرعاً، وبسط هذا في مظانه. الآية الخامسة من سورة الزمر - قوله تعالى في أهل النار: (إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) (الزمر: 71)، ثم قال تعالى في أهل الجنة: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) (الزمر: 73)، للسائل أن يسأل عن زيادة الواو في قوله: (وَفُتِحَتْ) في الآية الثانية؟ والجواب، والله أعلم: أن (إذا) في مثل هذا االكلام جارية مجرى أدوات الشرط في احتياج الفعل بعدها إلى الجواب، إلا أن جوابها في قول البصريين لا ينجزم إلا في

الشعر، وأهل الكوفة يرون أنها تجزم في الكلام، وقد اتفقنا في استدعائها الجواب، فوقع جوابها في الآية الأولى منطوقاً به وهو قوله: (فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا)، فلا مدخل. وأما الآية الثانية فجوابها محذوف مقدر، وقوله: (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) كلام معطوف على ما قبله كما عطف عليه ما بعده، ولو كان جواباً لكان مقتضاه أنها لا تفتح إلا عند مجيئهم، كالحال في أهل النار، وليس كذلك، والله أعلم. ألا ترى قوله تعالى في سورة ص: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ) (ص: 49 - 50) فانتصاب (مفتحة) إنما هو على الحال، والحال قيد فيما قبلها. فإذا قلت: جاء زيد ضاحكاً فالمعنى: جاء زيد متصفاً وقت مجيئه بالضحك، فالضحك خيئة حين المجيء وليس المراد أن ضحكه بعد المجيء، وإنما المعنى أن تلك صفته التي جاء عليها بل تقدمت مجيئه ولهذا قال سيبويه رحمه الله قول بعض العرب مررت برجل معه صقر (صائداً به غداً، فقدره: مررت برجل معه صقر) مقدراً الصيد به غداً، فقدره بما هو حاصل ثابت وقت المرور، ولهذا قالوا في قول العرب: قمت وأَوُكّ عينه أنه من الشاذ النادر ونحوه ما أنشدوه من قول الشاعر: فلما خشيت أظافيرهم نجوت وأرهنهم مالكا فهذا في غاية القلة، ويححسن ورود الماضي حالاً إذا كانت معه قد لاقتضائها القرب، حتى يزول احتمال أن يكون منقطعاً فيضاد مقود الحال، فإن قويت الدلالة عليه من المعنى جاز وروده في فصيح الكلام، وعليه جاء قوله في قراءة الأكثر (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ .... ) (النساء: 90) لدلالة المعنى، وقرأ يعقوب (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) فبينت قراءته ما قرأ به الجماعة، فقد تبين أن قوله تعالى: (فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) معطوف على قوله: (جَاءُوهَا) وليس جواباً، ومما يبين ما ذكرناه في معنى الآية ويشهد له إخباره صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه أول من يفتح وأول من يقرع باب الجنة، فقد أوضح هذا أن الداخلين تالون له وبعده فيجدونها مفتوحة الأبواب، وإذا لم يتوقف فتح أبوابها على مجيئهم فليس قوله: (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) جواباً لو فرضنا أن لا يعتد بالواو كما يقول أهل الكوفة. فإن قيل: فما جواب إذا؟ قلت: الجواب - والله أعلم - مقدر بعد، يفسره المعنى، كأن قد قيل: حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين أنسوا وأمنوا أو ما يرجع إلى هذا المعنى ويحرزه، وإذ ذلك

يقولون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) (فاطر: 34)، وقد نقل منسوباً إلى أهل الكوفة أن الواو قد تزاد في الجواب في مثل هذا، وعليه عندهم ما ورد في مثل قول امرئ القيس: فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى قالو: قوله: وانتحى جواب (لما) والواو زائدة، وعند غيرهم أن قوله: (وانتحى) معطوف على (أجزنا)، والجواب محذوف أي أنسنا أو تحدثنا أو ما يحرز هذا المعنى، ومن محسنات الحذف الطول هنا وفي الآية الكريمة، ثم إن الآية قد اوضح مقصودها ما ورد في سورة ص. فإن قيل: إن قوله في تقدير الجواب في البيت: أنسنا أو تحدثنا التقدير فليس ذلك بمعين، ولا يحذف الجواب أو الخبر أو ما يحذف إلا بعد أن يتعين؟ فلاجواب إنا لم نقدر ما يتغاير معناه، ولا شك أن المراد تعيينه إنما هو المعنى، ثم نحوم على ما نحصله من العبارة اللفظية مما يرجع إلى معنى واحد، هذا قول المحصلين، وهذا رد على من جعل خبر المبتدأ في قولهم: كل رجل وضعيته هذا المعطوف الذي: هو وضعيته، وقال إن الفائدة قد حصلت بذلك وتم الكلام، وتأول كلام سيبويه على هذا وقال: إن الذي قدره الفارسي وغيره، فقولهم واحد. فقال: تقدير سيبويه تقدير معنى، وإنما كلامنا في تقدير الإعراب وما يجوز حذفه من اللفظ وما لا يجوز، وجوابه أن سيبويه وأبا علي مومن قال بقولهما إنما اعتمدوا في الدلالة على أن الخبر محذوف ما تعطيه وتدل عليه واو مع في قوله: (وضيعته) التي اتفق الكل وأنت معهم أنها بمعنى (مع) فلدلت على معنى الالتزام، فلا مبالاة بالاختلاف في تقدير الألفاظ المترادفة ما لم يختلف المعنى، فتقدير مقرونان أن متلازمان أو متلاصقان إلى ما يحرز معنى الاجتماع الذي تعطيه وتقتضيه واو مع لاتضييق في ذلك، وشأن من اغتر بنظره فلم يتلبث، ولم يتهم نفسه، ولا بالي بمخالفته الجماهيير في كل صناعة، أنه قل ايصيب، والناس في هذه المسألة متفقون على ما اعتمده سيبويه والفارسي، ولم يجعل واحداً منهم خلافاً إلا ما زعمه هذا القائل، وقد خرج بنا (الكلام) إلى ما موضعه أولى به، وأما الآية فقد (وضح) أمرها، والحمد لله. ****

سورة المؤمن

سورة المؤمن الآية الأولى منها - غ - قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ) (غافر: 7)، وفي سورة الشورى: (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) (الشورى: 5)، للسائل أن يسأل عن الوجه في تخصيص سؤال الاستغفار للمؤمنين في الأولى وتعميمه في الثانية؟ والجواب، والله أعلم: أن ذلك جار بحسب المناسبة، ولما تقدم الآية الأولى فيما ختمت به سورة الزمر من ذكر المتقين في قوله تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) (الزمر: 73)، وقول الداخلين عند دخولهم الجنة: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزمر73)، وقول الداخلين عند دخولها: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ) (الزمر74)، إلى ختام السورة، ثم تبع ذلك قوله تعالى في مطلع سورة المؤمن: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ) (غافر: 3)، ناسب هذا استغفار الملائكة للمتصفين بصفات المذكورين، ويشهد لهذا ما ورد بعده من قوله تعالى مخبراً عن ملائكته بقولهم داعين: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) (غافر: 7)، وأما قوله تعالى أثناء هذه الآية: (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ) (غافر: 4)، وقوله: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) (غافر: 5) إلى قوله: (فَأَخَذْتُهُمْ)، فتأنيس للمؤمنين وباعث على شكر النعمة على ما من به عليهم من هدايتهم وسلامتهم من موجب أخذ من كذب وعاند، فبان التناسب في هذا كله. وأما سورة الشورى فتقدمها قوله تعالى في خاتمة سورة السجدة: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (فصلت: 52) إلى قوله: (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ) (فصلت: 54)، (ثم) اتبع هذا في مطلع سورة الشورى بقوله تعالى: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (الشورى: 5)، فناسب هذا استغفارهم لمن في الأرض لعظيم ما تقدم منهم مما أشار إليه قوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ)، فلولا حلمه تعالى لتعجل هلاكهم، فاستغافر الملائكة إبقاء سبحانه عليهم إذ لا يفوتونه، وقد يؤمن من سبقت له السعادة منهم، فقد

الآية الثانية

وضح مناسبة الوارد في الموضعين لما بني عليه، وإن عكس الوارد غير مناسب، والله أعلم بما أراد. الآية الثانية من سورة المؤمن - قال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (غافر: 57)، وقال: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ * إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) (غافر: 58 - 59)، ثم قال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (غافر: 60 - 61)، للسائل أن يسأل عن اختصاص كل آية من هذه الثلاث بما فصلت به؟ فقيل في الأولى: (لَا يَعْلَمُونَ)، وفي الثانية: (لَا يُؤْمِنُونَ)، وفي الثالثة: (لَا يَشْكُرُونَ). والجواب عن ذلك مجملاً، والله أعلم: أن المخاطبين ممن عقل لو نظروا واعتبروا لعملوا، ولو علموا لآمنوا، ولو آمنوا واستوضحوا النعم لشكروا، وبسط هذا الإجمال أن قوله تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (غافر: 57) مبسوط الدلالة فى آية البقرة وهى قوله: (نَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ... ) (البقرة: 164) ثم ورد فى الكتاب العزيز بيان الدلالة بكل فصل من هذه الآيه فقال تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) (ق: 6) وقال تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) (الملك: 5) وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا) (الانبياء: 32) وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) (الرعد: 2) الى ما جعل تعالى فيها من آيات الشمس والقمر والنجوم والكواكب السيارة وجريها فى بروجها: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس: 40) إلى إدخال الليل على النهار والنهار على الليل بتدرج لا يخل الابصار، إلى إنزال القطر من السماء إلى الأرض عند حاجتها فتنبت من كل زوج بهيج وتخرج من أنواع الثمرات مختلفات الألوان والطعوم: (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) (الرعد: 4) الى جعل الأرض مهادا، وإرسائها بالجبال، وجرى الأنهار بالمنافع، وتهيئة البحار لرجوع ما يفضل عن حاجة الأرض وعمارها من الحيوان العاقل وغير العاقل إليها، وتسنيد الأرض لجرى المياه

لئلا تقف فتضر معالمها ولا يتم لهم النفع بها، وهذا مع دحوها دحوا يتهيأ به التصرف والمشى فى مناكبها لمصالح الخليقه ومنافعهم، وجعل ماء البحر مالحا لئلا تتغير رائحته لطول مكثه، وتسخير الحيوان لتحريك مياه البحار من اسفلها، وتسخير الرياح المختلفه لتحريكها من اعلاها، فيحرز ذلك بقاء مياهها سالمه من النتن والجمود على مرور الايام وليصل العباد إلى منافعهم بالتصرف فيها إلى حيث شاؤوا باختلاف الرياح الحاملة (فيها) والمبددة لما يتصاعدمن أبخرة الخلق وانفاسهم، إذ لولا تبديدها لركدت فى الجو واضرت العالم، إلى تقلب فصول السنة بتصاعد الشمس من برج الجدى إلى سرطانها ثم انحدارها الى الجدى جريا محكم الترتيب لانتقال النبات بإذن الله، وإصلاح ابدان الحيوان، وإنضاج الفواكه وتهيئتها بالانتفاع بها. وتلوينها وترطيبها بحركة الشمس والقمر، إلى ما يقصر عن استيعابه الذكر، ذلك تقدير العزيز العليم، أفيتكون شئ من هذا بنفسه، أو يوجده نظيره ومماثله فى الافتقار والاضطرار؟ لقد شهدت الجمله ودلت أجزاؤها على الخالق المنزه عن سماتها، المتعالى عن شبهها، المتقدس عن الند والمثل والشريك والنظير، المنفرد بالخلق والتدبير، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الانبياء: 22) فحق اللآيه الكريمه المشيرة إلى ما وقع الإيماء إلى بعضه أن يكون ختامها: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (غافر: 57). ثم قال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) (غافر: 58) فضرب سبحانه المثل بذكر الاعمى والبصير، وهما حالا المعتبر بخلق السماوات والأرض وغير المعتبر، وحالا المؤمن الموفق للاعتبار والمسيئ بتركه، ثم أعقب بذكر الساعة التى لا يعلم كنهها إلا من الخبر الصدق، فحق لهذه الآيه أن يكون ختامها: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) (غافر 59). لو اعتبروا أولا ونظروا فى معجزات الرسل لوضح لهم صحة ما جاؤوا به وصدقوا بالساعة. ثم أعقب من ذكر نعمه بجعل الليل سكنا لراحة الحيوان وسكونه والنهار مبصرا - أى يبصر فيه - لتصرف الخلق فى معائشهم، إلى ما ينجر فى الليل والنهار مما لا يحصى، وأوضحها ما نصت عليه الآيه، فحق لهذه أن يكون ختامها: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (غافر: 61)، فقد تبين مناسبة هذه الخواتم لما ختم به، والله سبحانه أعلم. *****

سورة السجدة

سورة السجدة الآية الأولى منها - قوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... ) (فصلت: 9) الآيات، فقد تقدم ذكرها في سورة الأعراف. الآية الثانية منها - قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (فصلت: 20)، وفي سورة الزخرف: (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) (الزخرف: 38)، وقد تقدم في سورة الزمر قوله تعالى في أهل النار: (إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) (الزمر: 71)، وفي أهل الجنة: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) (الزمر: 73)، للسائل أن يسأل عن زيادة (ما) في وقله في سورة السجدة: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا) وسقوطها في سوى هذه الآية؟ والجواب، والله أعلم: أن (إذا) تزاد بعدها (ما) كثيراً فصيحاً، وقد لا تزاد، وكلا المرتكبين فصيح. إذا تقرر هذا فمن المعلوم أيضاً أن العرب مع أنهم يؤثرون إيجاز الكلام في الأكثر قد يختارون الطول وإطناب الكلام في بعض المواضع، وذلك بحسب ما تدعو إليه الحال: يرمون بالخطب الطوال وتارة وحي الملاحظ خيفة الرقباء وإذا تأملت آية السجدة وجدتها مبنية على ما يستدعي الإطالة وينافر الإيجاز لقصد استيفاء ما تضمنت من حال أهل النار في امتحانهم، ألا ترى تخصيصها بما ذكر فيها من شهادة الأسماع والأبصار والجلود، وعتبهم جلودهم في الشهادة عليهم بقولهم: (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا) (فصلت: 21، ومجاوبة الجلود بقولها: (أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (فصلت: 21)، إلى آخر ما كلمتهم به، ألا ترى أن الوارد هنا من قصصهم قد نيف على عشر آيات، وأن آية الزخرف وهي أطول البواقي ورد مضمونها في أربع آيات، وأما آية الزمر فلم تبلغ واحدة منها صلاص آيات. فزيدت - ما - في آي السجدة مناسبة لما انجر في ذلك المقصود بها من الإطناب والالستيفاء، ولم تزد في البواقي لما بنيت عليه من الإيجاز، فجاء كل منها على ما يلائم ويناسب، ولم يكن ليناسب عكس الوارد على ما تمهد، والله أعلم.

الآية الثالثة

الآية الثالثة من سورة السجدة - قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (فصلت: 45)، وفي سورة الشورى: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (الشورى: 14)، للسائل أن يسأل عن خلو آية السجدة من ذكر النهاية المذكورة في (الآية) الأخرى؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية الشورى تقدم قبلها ذكر تلك الغاية والأجل في قوله: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى: 7)، فهذا هو الوقت الموعود والأجل المسمى، فلما تقدم ذمره وقعت الإحالة عليه في قوله: (أَجَلٍ مُسَمًّى)، (وأما) آية السجدة فلم يتقدم (فيها) ذكر هذه الغاية على الوفاء بخ وبما فيه، وأما قوله تعالى فيها: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ) (فصلت: 19) فأشار إلى وقت حشرهم وإدخالهم في النار، وإنما ذلك فعل يقصد هؤلاء في ذلك اليوم وبعض ما فيه، فأوقع اسم اليوم على الوقت الذي يؤمر فيه بهؤلاء إلى النار، كما قال تعالى: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) (الأنفال: 16) أي قت القتال، فوقع اسم اليوم على الوقت، إذ لا يتقيد لقاء العدو وقتاله بيوم برأسه ولا بنهار دون ليل، فإنما وقع اليوم في قوله: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ) (فصلت: 19) الآية على وقت من اليوم يتقيد به بعض أفعال ذلك اليوم، أما تفصيل ما فيه من استغراق الفريقين والإفصاح باسمه فإنما ذلك يث ذكر، فكان هناك ما يحال عليه، وقد تكرر ذكره في قوله تعالى في سورة التغابن: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) (التغابن: 9)، فلتدم ذكره موفى التعريف باسمه وقعت الإحالة عليه والإشارة بقوله: (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)، فقد وضح ورود كل من الآيتين على ما يناسب، ولا يناسب عكس الوارد، والله أعلم. الآية الرابعة من سورة السجدة قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (فصلت: 52)، وفي سورة الأحقاف: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) (الأحقاف: 10)، قد يسأل عن وقوع - ثم - في الأولى ووقوع واو النسق مكانها في الآية الثانية؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن ثم للترتيب الزماني واقتضاء المهلة فيه، وتأتي أيضاً لبيان رتبة ما يعطف بها، وأن له موقعاً وخطراً وبه اعتناء، وقد مر بيان ذلك. وإن تفاوت الرتب كتفاوت الزمان، ولا توقف في أن كفرهم بالقرآن بعد علمهم أنه من عند الله

(أو ثبوت أنه من عند الله كما هو) وكما قد علم من سعد بالإيمان به وإن كذبوه، فلا شك أن ذلك مرتكب شنيع وضلال بعيد، فجيء هنا بثم لتحرز عظيم اجترامهم وشنيع مرتكبه، فجاءت على ما يجب. ولما قصد في آية الأحقاف زيادة شهادة عليهم بتصديق من تقرر عنده علم الكتاب المنزل قبل كتابنا، ممن يعرف علمه، فشهد بما عنده من العلم، أن هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو من عند الله، وكان ذلك أبين في الحجة عليهم فلم يرد بثم لاقتضائها مهلة لم تقصد هنا، وبيان النظم الجليل الوارد في الآية بما تقدره تقريباً لإفهامنا أن كأن قد قيل لهم: يا محمد أرأيتم إن كان القرآن من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فكفرتم وآمن ذلك الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان فكيف تكون حالكم؟ واقتضى حكم هذا معنى الآية، ففي الكلام تقديم (وتأخير) اقتضاه جليل نظم الكتاب وعلى براعته، وإذا كان المعنى على تشريك ما تأخر في التركيب من قوله: وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله أن كان من عند الله لم يكن ليصبح بين المنسوقين المحمول أحدهما على الآخر بما يقتضي الجمع من غير فتور ولا مهلة الفصل بثم لأنها منافرة لهذا الغرض، فورد هذا بالواو ليحرز ما قررناه من المعنى، ووردت الآية الأولى بثم لتحرز معناها أيضاً، وجاء كل على ما يجب ويناسب، ولا يمكن خلافه، والله أعلم. ****

سورة الشورى

سورة الشورى الآية الأولى منها - قوله تعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (الشورى: 49 - 50)، ثم قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الشورى: 51)، للسائل أن يسأل عن وجه الاختلاف فيما أعقبت به كل آية من هاتين الآيتين فقيل في الأولى: (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) وفي الثانية: (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) وهل كان يمكن عكس الواقع؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن الآية الأولى لما تضمنت الإعلام بانفراده سبحانه بملك السماوات والأرض وقهره جميع (من) فيهن، وأنه الخالق لكل شيء فلا اختيار لمخلوق ولا مشيئة، وكل صادر منه إحسان، فيهب لمن يشاء إناثاً، وقدم ذكر الإناث لكراهة العرب إياهن، فأشار بتقديم ذكرهن إلى أن فلعهم وكراهتهم معارضة لما نفذت به مشيئته، ثم قال: (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)، وجاء لفظ الذكور معرفاً ليشير بما تعطيه الألف واللام من العهدية إلى حالهم من الفضل ودرجة التقدم على الإناث، فكأنه في قوة أن لو قيل: الذين من أمرهم و (من) شأنهم، بتوازن تقديم الإناث وتعريف الذكور، فقدم ذكر الإناث لإرغام العرب، وعرف الذكرو لشرف المنزلة، ثم قال: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) أي على التساوي عدداً، ثم قال: (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا)، فجعل من هذا كله أن الفعل لا يشركه فيه غيره، يفعل في ذلك كله ما أراده. فلما تضمنت الآية قهر العباد وانفراده سبحانه بالخلق والأمر ناسبها الختام بقوله تعالى: (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي عليم بوجه الحكمة في ذلك، قدير على ما يريده. ولما قال في الآية بعد: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) (الشورى: 51) فأوضحت الآية عليّ كماله تعالى وتنزيهه عن سمات الحدوث وأن المخصوصين من البشر للسفارة والرسالة إنما خطابه سبحانه لهم بهذه الوجوه المفصحة بتنزيهه عن شبه خليقته، فلا يصلون إلى ما يتقرر عنهم

من خطابه تعالى إلا بأحد هذه الوجوه، وهي الوحي مناماً أو إلهاماً، وخلقاً في قلب النبي، وعن هذا الضرب عبر بالوحي، ومنه قول إبراهيم، عليه السلام، لابنه: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) (الصافات: 102)، أو من وراء حجاب كتكليم موسى عليه السلام، أو إرساله سبحانه ملكاً من القربين لديه يوحي بإذنه ما يشاء كما كان جبريل، عليه السلام، وهو المعروف بهذه الخصيصة، والمعد من الملائكة للسفارة بينه سبحانه وبين رسله، يأتيهم بما يرسله تعالى به من القصص والأوامر والنواهي، فبهذه الطرق الثلاث وصول الرسل والأنبياء إلى ما عندهم من الله تعالى، وقد حصل من ذلك الإعلام بتنزيهه سبحانه وتعاليه عن التكيّيف، فناسب هذا ختام هذه الآية بقوله تعالى: (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي عليّ عن مداناة البشر إلا باللطف والإحسان، حكيم في أفعالخ. فتبين وجه مناسبة هذا إتمام ما به ختم كما ناسب الختام قبله وهو قوله: (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) ما أعقب به، فوضح أن كل ختام منهما لا يلائم غير موضعه، وأنه لو ختمت هذه الأخيرة بما به ختمت الأولى والأولى بما به ختمت هذه لم يكن ليناسب هذه المناسبة الحاصلة، والله أعلم بما أراد. ****

سورة الزخرف

سورة الزخرف الآية الأولى منها - قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الزخرف: 20)، وقال في الجاثية: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (الجاثية: 24)، فأعقب في الأولى قوله: (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ) بقوله: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)، وأعقب في الثانية قوله: (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ) بقوله: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)، فللسائل أن يسأل عن وجه اختصاص كل من الموضعين بما به أعقب؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أنهم لما قالوا: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) فتعلقوا في احتجاجهم بقول الحق، وهو أنه سبحانه لا يجري في ملكه إلا ما يريده ويشاؤه، ثم في اختصصهم من أسمائه الرحمن عضد لتعلقهم وتقوية لما رأوا الاحتجاج به، وكأنهم قالوا: إذا كان متصفاً بالرحمة ولا استبداد لأحد من الخلق بشيء من أفعالهم وإنما يجري ما يصدر عنهم بحسب مشيئته وإرادته، وقد جرى منا ما نحن عليه من عبادة أصنامنا وما اتخذناه من معبوداتنا، وليس لنا استبداد بما يصدر عنا فهو مراد له وبمشيئته وهو رحمة لأنه الرحمن، فلو كانت الرحمة في تركنا معبوداتنا لشاء ذلك (لنا) لأن الرحمن لا يكون منه إلا ما هو رحمة، وإنما الفعل له لا لنا، فلو شاء أن لا نعبدها ما عبدناها، فلما تعلقوا بما يبدو منه أن لديهم علماً، أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه لا علم عندهم، ولا قالوا ذلك عن معتقد تركن إليه قلوبهم، إنما هو تخرص قولي لا علم وراءه، ومن وحي الشياطين لأنهم أولياؤهم كما قال تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ) (الأنعام: 121)، فكرمهم تخرص بالقول لا علم وراءه، إذ اللام في القدر وأحكامه، وإن الإدارة تخالف الرضا، وإن الآمر قد يأمر بما لا يريده، وإنه سبحانه قد يريد إيقاع ما لا يرضاه، وبيان ما تبني عليه التكاليف وتتعلق به الأوامر والنواهي من القدرة الكسبية التي بمعرفتها وثبوتها حصول السلامة من مذهب الجبر، وبإنكارها التورط في مذهب الاعتزال أو قول أهل القدر، وكلا المذهبين ضلال ونزوح عن الحق، وكل من المذهبين له تهجم سبقية إلى الأذهان، يدفعها التوفيق؟ إلى النظر الصحيح، وإلا كان التخرص المورط في الضلالات، وهنا بحار طامية من دقائق العلم والنظر لا شيء عند هؤلاء الكفار منها (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) (يونس: 29، (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (يونس: 66)، فقد وضح التناسب في هذا.

الآية الثانية

وأما الآية الثانية فإنه تعالى لما حكى عنهم قولهم منكريم للبعث الأخراوي: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثية: 24) أي وما يهلكنا إلا تعاقب الأيام والليالي، فلم ينسبوا الإحياء والإماتة لفاعل مختار يميت ويحيي، وبنوا على ذلك إنكار العودة، أخبر تعاىل عنهم أنهم لا متعلق لهم إلا مجرد ظن لا مستند له فقال: (وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (الجاثية: 24)، فأخبر تعالى أن مرجعهم إلى الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً، وتناسب هذا واضح لا خفاء به. الآية الثانية من سورة الزخرف قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف: 22)، ثم قال: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف: 23)، للسائل أن يسأل عن الفرق الموجب لقول الفريق الأول: (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) وقول الفريق الثاني: (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) مع الاتفاق من جميعهم في قولهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) أي على دين وملة، ثم وقع الاختلاف في وصف أنفسهم في اتباع آبائهم بالاهتداء والاقتداء؟ ووجه ذلك، والله أعلم: أن ما تقدم الآية الأولى خكاية قول كفار العرب المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسامعين منه القرآن المسمى هدى في غير موضع كقوله سبحانه: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 2)، وقوله: (هَذَا هُدًى) (الجاثية: 11)، وقوله: (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) (لقمان: 3)، فلما دعاهم صلى الله عليه وسلم ليهتدوا بهديه قابلوا دعاءه بقولهم: إنهم مهتدون وإنهم وجدوا آباءهم على أمة وإن ما وجدوهم عليه هدى، فقالوا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) أي على دين وإنا على آثارهم مهتدون كهديهم، فلما دعاهم زعموا أنهم على هدى، وهذا أبين تناسب. وأما الآية الثانية فحكاية أقوال قرون مختلفة، وقد ذكر تعالى من قول بعضهم: (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 53)، وفي موضع آخر: (كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (الشعراء: 74)، فهذا اتباع مجرد عن ادعاء كونه هدى أو غير هدى، فهو اعتراف بتقليد واتباع تعظيم لفعل آباهم من غير ادعاء شبهة، فلم يكن ليطابق هذا إلا الوارد في قوله تعالى عنهم: (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، فجاء كل على ما يناسب، والله أعلم. *******

سورة الجاثية

سورة الجاثية الآية الأولى منها - قوله تعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الجاثية: 3 - 5)، للسائل أن يسأل عن وجه اختصاص كل آية من هذه الثلاث بما به خصت خواتمها من صفات المعتبرين بها، فقيل في الأولى: (لِلْمُؤْمِنِينَ)، وفي الثانية: (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، وفي الثالثة: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن خلق السماوات والأرض للمعتبر المنصف كاف في التصديق بحدوثهما وافتقارهما من حيث إن وجودهما أو عدمهما من قبيل الجائز، والتخصيص بأحد الجائزين لا يكون إلا بمخصص مقتض هذا الجائز الواقع، ثم ذلك المخصص لا يكون مماثلاً وإلا لافتقر إلى مخصص، وذلك مؤد إلى التسلسل وهو محال، وأيضاً فليس أحد المتماثلين في إيجاب حكم المماصلة بأولى مما يوجبه الآخر، وهذا كله محال، فلابد من صناع متعال عنه شبه المصنوع، منزه عن المماثل والنظير وسمات الحدوث، متصف بالكمال لكمال المصنوع وإتقانه، متصف بالعلم والقدرة والإرادة، إلى ما هو سبحانه أهله، وإذا حصل الاعتراف بالصانع علم المعترف بما ذكرنا أنه تعالى قادر على خلق ما يشاء، وإلى هذا أشار قوله تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (يس: 81)، فمن اعتبر بالسماوات والأرض أو بخلقهما إذ يمكن في قوله: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أن يؤخذ على (أن) لا مضاف محذوفاً، وأن يكون على حذف المضاف، أي إن في خلق السماوات والأرض، وطريقة الاعتبار واحدة على التقديرين لمن اعتبروا، فمن اعتبر وأنصف آمن، قال تعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الجاثية: 3)، فحصل لهم الإيمان، فوسموا قبل حصوله بما يؤوله أمرهم - إذا اعتبروا - إليه، فهو من قبيل التسمية بالمآل، ومنه قوله تعالى: (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) (يوسف: 36). ثم قال تعالى: (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثية: 4)، والمراد أن المعتبر بالسماوات والأرض إذا حسن اعتباره وأنصف من نفسه حصل له الإيمان بالصانع سبحانه، فإذا أضاف إلى ذلك الاعتبار بخلق الإنسان وتطوره في الأرحام من حال النطفة، إلى حال العلقة، إلى حال المضغة، إلى حال العظام وكسوتها باللحم، إلى الإبراز

إلى عالم الشهادة بشراً سوياً محكماً متناسب الأعضاء تام الخلق، إلى تدريجه بعد هذا، وكل ذلك من غير توقف شيء من صفاته وخواصه على اختيار أب أو أم، إلى اختلاف الألسنة والألوان والصور إلى ما يتعلق بذلك، واعتبر بخلق الحيوانات وما بث سبحانه في الأرض برها وبحرها من ذلك، وركون كل ذي شكل إلى شكله، وقيام أغذية الجميع بما يصلح لهم، وتسخير المسخر منها للآدمي وإيناسه، وتوحش المتوحش، وإجراء الجميع على اختلاف الأحوال في ذلك، ففي الاعتبار بذلك كله ما يثمر للمؤمن اليقين ويرقيه إلى أعالي درجات المتقين. ثم إذا اعتبر بما أشارت إليه الآية الثاثة، من اختلاف الليل والنهار، وتهيئة الليل للسكون والاستراحى والنهار للتصريف في المعاش والحاجات، وتداولهما كالمتعاوضين في الطول والقصر، وإيلاج أحدهما في الآخر إيلاجاً خفياً حتى لا يدخل أحدهما على الآخر دفعة فيضر (بأبصار) الحيوان، إلى ما يتعلق بهذا ويرجع إليه، فمن أحكم تدبر ذلك واعتبر به، واعتبر جري الرياح ومنافعخا من سوقها للسحاب والأمطار وإحياء الأرض بالماء النازل منها بعد موت الأرض وإخراجها ضروب النبات لانتعاش الحيوان ومصالحه، فإذا اعتبر المؤمن الموقن بهذا أعقبه ثبات يقينه وتمكن دينه فآمن وأيقن وعقل عن ربه، فانتفت الشبهات، وأفصحت بالبراهين الآيات، قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت: 43). فتأمل كيف جعل سبحانه تعقل الأمثال موقفاً على العالمين، وإنما تحصل لهم الاتصاف بأن كانوا عاللمين بما منحوه كم كمال عقولهم، فتبين التدريج الوارد في الآيات، وأنه لا يلائم آية منها ما ختم به غيرها، بل كان كل ختام من الأوصاف الثلاثة لا يليق بغير موضعه، وتأمل آية البقرة وهي قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) إلى قوله: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164) فأجمعت آية البقرة ما وقع في هذه الآيات الثلاث من سورة الجاثية منسوقاً ذلك بعضه على بعض غير مستأنف الابتداء للاعتبار به كما ورد في هذه الآي، بل ورد مجموعة في آية واحدة، كيف ختم ذلك بقوله: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) كما ختمت هذه الآي الثلاث بقوله: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) إعلاماً بشرف العقل الذي به - بإذن الله - يحصل الإيمان ثم اليقين ثم الثبات المحصل للكمال بحصول العلم الحاصر لذلك كله. سورة الأحقاف، قد تقدم ما فيها *******

سورة القتال

سورة القتال الآية الأولى منها: غ - قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (محمد: 9)، وفيما بعد من هذه السورة: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) (محمد: 26)، للسائل أن يسأل عن وجه ورود (أنزل) في الأولى وفي الثانية (نزّل) مضعفاً؟ والجواب، والله أعلم: أن ذلك مفهوم مما تقدم في (أول) سورة آل عمران باعتبار ما يخص هذه السورة، وهو أن المتقدم من أول هذه السورة إلى قوله بعد الآية المتكلم فيها: (وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) (محمد: 11) يقصد ممن تضمنته هذه الآي من الكفار غير مشركي العرب من قريش وغيرهم، ولا شك أن كفرهم منسحب على كل المنزل من القرآن وما تقدم نزوله من التوارة وغيرها من الكتب، فلم يكن ليلائم ذلك عبارة نزّل المبينة عن تنجيم المنزّل، ولم ينزّل كذلك غير القرآن، وهم ينكرون كل الكتاب المنزلة ويكرهونها فقيل هنا: (كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ). أما الآية الثانية فالمراد بها ذوو النفاق والمرتدون على أدبارهم، ويبين ذلك ما تقدمها من قوله تعالى: (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (محمد: 20)، وهؤلاء هم المنافقون، ولم يقع فيما بعد عدول عنهم إلى قوله: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ) (محمد: 25) وإنما هؤلاء قوم كفروا بعد؟ إسلامهم، وهم القائلون بمقتضى نفاقهم وما أبطنوه من الكفر لغيرهم (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) (محمد: 26)، ولهؤلاء اطلاع على المنزّل من القرآن وخصوص كراهية له، وهي المهيجة لنفاقهم، فهو الذي كرهوه حقيقة فقيل هنا: (كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّه) بلفظ التضعيف إذ الإشارة إلى القرآن، وهذه صفته أعني ما يشيير إليه التضعيف من التنجيم في النزول، فكل من الموضعين وارد على أنسب نظام وأتمه. الآية الثانية: غ - قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا) (محمد: 20)، (ثم قال): (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ)، فورد الفعل ألولاً مضاعفاً وثانياً غير مضعف؟ ووجه ذلك، والله أعلم: أن المؤمنين هم الذين يودون نزول السورة، وطلبهم

نزلوها إنما هو على ما اعتادوه جارياً في غيرها من التنجيم وتفصيل النزول، فالملائم هنا عبارة التضعيف. وقوله: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) إنما المراد تحصيلها بجملتها بعدكمالها وذلك مفهوم من سياق الكلام، والملائم - لما تحصّل وتم - عبارة الإنزال من غير تضعيف. فكل من الموضعين وارد على أنسب نظم، والعكس غير ملائم، والله أعلم. *****

سورة الفتح

سورة الفتح الآية الأولى منها - قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (الفتح: 4)، ثم قال بعد: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (الفتح: 7)، للسائل أن يسأل عن تعقيب جنود السماوات في الآية الأولى بقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) وتعقيب الثانية بقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن الآية الثانية لما تقدمها قوله تعالى: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (الفتح: 5 - 6)، ناسب هذا المتقدم، من فعله تعالى بالفريقين، من مجازاة المؤمنين بالنعيم المقيم، وتعذيب المنافقين وغضبه عليهم ولعنهم وإعداده لهم جنهم، وَصفُه تعالى بالعزة ليعلم أنه سبحانه لا مغالب له وأن الكل تحت قهره، إذ لعزته يفعل في الكل ما يريده وما تقتضيه حكمته، إذ هو العزيز في ملكه الحكيم في أفعاله. ولما لم يتقدم لاآية المتقدمة ما يقتضي القصر كهذه، وإنما قبلها قوله سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) (الفتح: 4)، وهذا تعريف بإنعامه سبحانه ورحمته، فأعلم سبحانه أنه العليم بمن يرحمه، كما قال تعالى: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) (الإسراء: 54)، وقال تعالى: (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)، وقال تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام: 124)، وجاء كل من الآيتين على ما يجب، والله أعلم. الآية الثانية: غ - قوله تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) (الفتح: 11)، وفيما بعد منها: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) (الفتح: 15)، ففي الآية الأولى إفراده، عليه السلام، بخطابهم له في قوله تعالى افصاحاً بحرف الخطاب: (لك) ولم يرد ذلك في الثانية؟

ووجه ذلك أن المخبر عنهم من المخلفين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم الاستغفار لهم لتخلفهم عنه، وأفردوه بخطابهم إذ ليس ذلك من مطلوبهم لغيره فوردت العبارة عن ذلك بإفراد الخطاب. وأعلم تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بنفاقهم وكذبهم في اعتذارهم فقال تعالى: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (الفتح: 11). وأما الآية الثانية فليس قولهم: (ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) خطاباً خاصاً له صلى الله عليه وسلم، بل هو خطاب له وللمؤمنين، والسياق يفصح بذلك، وما أمره به، عليه السلام، من مجاوبتهم في قوله لهم: (لن تتبعونا) فلم يرد هنا إفراده صلى الله عليه وسلم بخطابهم له كما ورد في الأولى، وجاء كل على ما يناسب. فإن قيل: إن خطابهم له خاص كالأول ولكن خاطبوه مخاطبة التعظيم بقولهم: (ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ)، قلت: وعلى (فرض) هذا فمراعاة الألفاظ في التعظيم أكيدة جداً وبها إحرازه، وعلى هذا لايلائم هنا الخطاب كيف ما قدر إلا بصورة ما للجميع، والله أعلم بما أرد. الآية الثالثة من سورة الفتح - قوله تعالى: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (الفتح: 11)، ثم قال فيما بعد: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) (الفتح: 24)، للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف الوصفين الواقع بهما ختام الآيتين وهما (خبير) في الأولى و (بصير) في الثانية؟ والجواب عنه: أنه قد تقدم قبل الآية الأولى قوله تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (الفتح: 11) فناسب هذا وصفه تعالى بالخبير لأن الخبير هو العليم بما خفي وبطن، فتأمل مناسبة هذا لقوله: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ). وأما الآية الثانية فتقدمها قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) (الفتح: 24) وليس في هذا إبطان شيء أظهر خلافه، فكان إيراد وصفه سبحانه ببصير أنسب، وورد كل على ما يجب. ******** سورة الحجرات، قد تقدم ما فيها ********

سورة ق

سورة ق قوله تعالى: (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ) (ق: 22 - 24)، ثم قال بعد هذا: (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) (ق: 26 - 27). يسأل عن ثبوت واو العطف في قوله أولاً: (وَقَالَ قَرِينُهُ) ولم يثبت الواو في الآيةالثانية؟ والجواب عن ذلك: أن الآية معطوفة على ما قبلها من آيات هي إخبار عما يلقاه الإنسان المتقدم ذكره من الأهوال والشدائد في المواقف الأخراوية وما بين يديها، أولها قوله: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) (ق: 19)، ثم قال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) (ق: 20 - 21)، ثم قال: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) (ق: 23)، فهذه إخبارات عن شدائد بعضها تلو بعض، فطابق ذلك ورود بعضها معطوفاً على بعض. وأما قوله: (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) فهو إخبار مبتدأ مستأنف معرف بتبرّئ قرينه من جملة ما تأبطه واجترحه، ولا طريق لعطف ذلك على ما قبله، إنما هو استئناف إخبار، فورد كل من الآيتين على ما يجب ويناسب. ******

سورة الذاريات

سورة الذاريات الآية الأولى منها: غ - قوله تعالى: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) (الذاريات: 5 - 6)، وفي الطور: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) (الطور: 7 - 8)، وفي المرسلات: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) (المرسلات: 7)، للسائل أن يسأل عن موجب اختلاف العبارة عما وقع القسم عليه؟ وما جُووب به مع أن المراد بذلك كله الجزاء الأخراوي؟ والجواب، والله أعلم: أن سورة الذاريات تقدمها في سورة ق إخباره سبحانه بالعودة الأخراوية وإقامة البرهان على ذلك لمن وفق لاعتباره فقال تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)، إلى قوله: (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) (ق: 6 - 11)، ثم أعقب بذكر مكذبي الأمم وما حق عليهم من الوعيد الأخراوي بعد أخذ كل منهم في الدنيا بذنبه، ثم استمرت آي هذه السورة على هذا المنهج من ذكر البعث وحصر أعمال المكلفين وكتبها عليهم، مع علمه سبحانه بما توسوس به نفوسهم ووقوع الجزاء على ذلك، غفلة المكذب عن ذلك كله حتى يكشف له الغطاء فيشاهد ما لم يكن يحتسبه، أعقب بإزلاف الجنة للمتقين ووصفهم بما منحهم ووعدهم عليه، ثم أعقب بأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر والتزام ما أمره به، وأن يذكّر بالقرآن المستجيبين الخائفين وعيده سبحانه، فلما اشتملت السورة على أوعاد وجزاء أعقبت بالقسم على ذلك، من صدق وعده سبحانه ووعيده، ووقوع الحساب على الأعمال، فقال تعالى: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) (الذاريات: 1) إلى قوله: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) (الذاريات: 5 - 6)، وتناسب النظم في ذلك كله أبين تناسب. أما سورة الطور فالقسم فيها مرتبط بما أتصل به ووقع عليه القسم من قوله تعالى خاتمة سورة الذاريات: (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (الذاريات: 59 - 60) فأتبع قسماً على هذا بقوله: (وَالطُّورِ) (الطور: 1) إلى قوله: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ *مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) (الطور: 7 - 8). وأما قوله في سورة المرسلات: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) فمرتبط بما بنيت عليه سورة الإنسان، فإنها بجملتها درات آياتها وجرت على ما به ختمت من قوله تعالى: (يُدْخِلُ مَنْ

الآية الثانية

يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (الإنسان: 31)، فتحصل مجرد وعد ووعيد، ولم تخرج السورة عن ذكر الفريقين ممن وعد وتوعد، فناسب ذلك قوله تعالى جواباً للقسم: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) فجاء كل من المواضع الثلاثة على ما يناسب، ولا يلائم النظم في ثلاثتها غير ما ورد عليه، والله أعلم. الآية الثانية - قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (الذاريات: 15 - 17) إلى قوله (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (الذاريات: 23)، وفي سورة الطور: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) (الطور: 17) إلى قوله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الطور: 19). للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف الإخبار عن أهل الجنة في هاتين السورتين؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن هاتين السورتين اتحدتا في القصد من وعيد كفار قريش والعرب ذوي العناد والتكذيب والإخبار بجزائهم الأخراوي، فعلى هذا مبنى السورتين، ولهذا افتتحتا بالقسم على ذلك كما تقدم، والموعود به فيهما جزاء فريقي السعادة والشقاء، وإليه الإشارة بقوله: (وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ)، وهو حساب الكل وجزاؤهم بما سلف من جميعهم من خير أو شر. فلم يكن بد من ذكر أهل النعيم ذوي الاستجابة والتصديق للرسل، والإخبار بحال الفريقين على ما هو الجاري المطرد في الكتاب العزيز، أعني أنه إذا ذكر حال المكذبين أتبع بحال المصدقين، أو ذكر حال ذوي الاستجابة والتصديق) بحال من كان على الضد منهم، وهذا قانون مطرد، فلمجموع هذين: من أن الكل هم المرادون بمقتضى قوله تعالى: ((إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) (الذاريات: 5 - 6)، وأنه إذا ذكر أحد الفريقين أتبع بذكر الفريق الآخر، فلهذا ما ذكر فريق المتقين وجزاؤهم مع أن مبتى السورتين على ما ذكر، فبدئ فيهما بذكر حال المعاندين، وبذلك ختمت كل سورة منهما، ثم ذكر بعد المبدو به في السورتين حال المتقين، ونص في السورة الأولى على أسنى أعمالهم وأجل ملتزماتهم المستتبعة لما (سواها) من سائر أعمالهم المترتب عليها جزاؤهم فقال تعالى: (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات: 16 - 19)، فذكرهم الله تعالى بالإحسان، وقيام الليل، والاستغفار بالأسحار، والمساهمة في أموالهم للسائل والمحروم، وكأن هذه أمهات اقتصر منا عليها، وأمعن في الثانية بذكر الجزاء وضروب النعم. في مجموع السورتين الوفاء بذكر أعمالهم وجزائهم فقيل في الأولى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ) (الذاريات: 15 - 16) فهذا

الآية الثالثة

من ذكر جزائهم الموفى في الثانية معظمه في قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) (الطور: 17) في آيات إلى قوله: (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (الطور: 28)، وحصل في هذا استيفاء كثير من جزائهم. وفي السورة قبل ما عليه يترتب ذلك من أعمالهم، فارتبطت الآيتان، (وتبين) أنه لا اختلاف بينهما. وفي ختم كل واحدة من السورتين بمثل ما به بدئت إشعار ببنائهما على (كل) ما قدمنا من وعيد من ذكر، وأن ما ذكر فيهما من حال أهل الجنة أعمالاً وجزاء فلما قدم ذكره من الارتباط بين الجزاءين في آي الوعد والوعيد متى ذكر أحدهما، والله أعلم بما أراد. الآية الثالثة - وهي من تمام ما قبلها - وذلك قوله تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات: 19)، وفي سورة الحج: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج: 24 - 25)، يسأل عن وجه زيادة الصفة في سورة المعارج من قوله: (معلوم) وسقوط ذلك في الذاريات؟ وهل كان يناسب عكس الوارد؟ والجواب، والله أعلم: أن آية المعارج قد تقدمها متصلاً بها قوله تعالى: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (المعارج: 22)، والمراد بالصلاة هنا المكتوبة، وأيضاً يقرن بها في آي الكتاب الزكاة المفروضة، وبها فسر المفسرون الحق المعلوم في آية المعارج. قال الزمخشري لنها مقدرة ملعومة. قلت: وليس في المال حق مقدر معلوم وقتاً ونصاباً ووجوباً غيرها، فلما أريد بالحق هنا الزكاة أتبع بوصف يححرز المقصود، ولما قصد في آية الذاريات غير هذا المقصد بدليل ما تقدمها من قوله تعالى: (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات: 16 - 18)، فوصف هؤلاء بطول صلاتهم وتهجدهم ومداومتهم الاستغفار في الأسحار، فذكروا بزيادة من التطوع والنفل على ما فرض عليهم و (من الزيادة في أعمالهم على ما فرض عليهم) مما يعد تاركه إذا تركه مهملاً، (فناسب هذا) الإطلاق الوارد في إنفاقهم ليفهم الزيادة على ما فرض عليهم من الزكاة المقدرة، ولم يكن ليناسب هنا الإشارة إلى قدر المنفوق كما في سورة المعارج، ولم يكن عكس الوارد ليناسب، فورد كل على ما يجب، والله أعلم. الآية الرابعة قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذاريات: 50 - 51)، للسائل أن يسأل عن وجه تكرر قوله تعالى: (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)؟ وعن الإنذارين: في التوجه له سبحانه في كل المطلوبات وعتماد تلقي كل من عنده، ومن أن يشرك به سبحانه أو يعبد معه سواه؟ فعلى

هذين الضربين ورد التحذير والإنذار، وهما الواردان في قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) (النساء: 36)، فأمر سبحانه بعبادته وأن لا يعبد معه غيره. والجواب: أنه سبحانه لما قدم من المعتبرات الدالة على وجوده تعالى، وانفراده بالإيجاد والخلق ما قدم في السورة قبلها من قوله: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) (ق: 6) إلى قوله: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (ق: 8)، ثم قال: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا) (ق: 9) إلى قوله: (رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) (ق: 11)، ثم ذكر تعالى أخذه للمذكبين من القرون السالفة فقال: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) (ق: 12) إلى قوله: (فَحَقَّ وَعِيدِ) (ق: 14)، ثم ذكر تعالى أنه خلق الإنسان، وعلمه تعالى بما توسوس به نفسه، وقربه تعالى منه قرب العلم والإحاطة لا قرب المكانية والمسافة، ثم ذكر إحصاء الحفظة على المكلفين ولزومهم إلى موت الإنسان وبعثه، ومجيء كل نفس في القايمة معها سائق وشهيد، ولم يقع عدول عن هذه الإنذارات والإخبارات الأخراوية والاعتبارات الجلية إلى قوله تعالى (إعلاماً) لنبيه صلى الله عليه وسلم بمقال المدعويين وأمرا له بتذكيرهم بالقرآن فقال: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (ق: 45)، ثم أقسم تعالى على صدق تلك المواعد والإخبارات فقال تعالى: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) (الذاريات: 1) إلى قوله: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) (الذاريات: 5 - 6)، ثم سؤالهم عن يوم الحساب سؤال استهزاء واستعجال تكذيب فقال: (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) (الذارات: 12)، إلى ذكر حالهم وحال المتقين، والإشارة إلى جزاء الفريقين، ثم أعقب بذكر الآيات في الأرض وفي أنفسنا وأن رزق العباد وما يوعدون في السماء، وأقسم تعالى على ذلك بقوله: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (الذاريات: 23)، ثم اعترض سبحانه بذكر ضيق إبراهيم وقصتهم، ثم عطف على التذكار والتنبيه المتقدم في قوله: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ)، وقال: (وَفِي مُوسَى ... ) (الذاريات: 38)، فذكر إرساله، وأخذ فرعون وجنوده بتكذيبهم، ثم ذكر عاداً وأخذها، وثمود، وقوم نوح، واقتصر على ذكر تكذيبهم وأخذهم نبيهاً بأوالهم مرتبطاً بأول التنبيه بقوله: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (ق: 6 - 8)، وارتبط أول التنبيه بآخره معقباً بقوله: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) (الذاريات: 47 - 48)، فهذا من تمام قوله: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ ... ) (ق: 6). وقد ورد أثناء ذلك قوله

فيمن أشرك به سبحانه قوله: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) (ق: 24 - 25) إلى قوله: (فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) (ق: 26)، فلما حصل التنبيه بعدة آيات وأوضح بينات على انفراده سبحانه، وحصل ذكر من أشرك به، واتصل ذلك ولم ينقطع بعضه من بع، أعقب بقوله: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) (الذاريات: 50) المنفرد بخلقكم وإيجادكم، والمنعم عليكم بما أنعم من واضح الأدلة عليه سبحانه: (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذاريات: 50) أي من عذابه وأخذه كما فعل بمن كذب قبلكم، مبين بما أوضح لكم من البراهين (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذاريات: 51)، فقد تبين ارتباط كل من الآيتين بما تقدم، وأن الثانية مؤكدة للأولى. وورد ذلك على أتم مناسبة، والله أعلم بما أراد. *****

سورة الطور

سورة الطور الآية الأولى منها: غ - قوله تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) (الطور: 24)، وفي سورة الواقعة: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ) (الواقعة: 17 - 18)، وفي سورة الإنسان: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا) (الإنسان: 19)، فورد في سورة الطور: (غِلْمَانٌ لَهُمْ) وفي السورتين: (وِلْدَانٌ) والمراد في السور الثلاث الخدام. للسائل أن يسأل عن الموجب لتخصيص كل آية بما ورد فيها؟ والجواب، والله أعلم: يترتب على تمهيد، وهو أن الغلام هو الطار الشارب، وقيل باستصحابه هذا الاسم إلى أن يشيب، والجمع غلمان. وأما الوليد فاسم للمولود حين يولد، وهو فعيل وهي بنيه مبالغة، وفائدتها هنا استحكام الصغر، وجمعه ولدان، وعلى هذا لايرادف أحد الاسمين الآخر. فإن ورد أحدهما في موضع الآخر فعلى المجاز والتوسع، والأصل ما مهد. وإذا تقرر هذا فوجه ورود الغلمان في سورة الطور - والله أعلم - مناسبة اللفظ باتساع مواقعه في أحد القولين وهي استصحاب اسم الغلومية إلى المشيب، أو لاحتياج التوسع فيما يطوفون به ويستخدمون فيه بحسب أسنانهم لمن تقدم من صنفي المخدومين وهم الآباء والأبناء في قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (الطور: 21)، فذُكر هنا الآباء الداخلون الجنة مجازاة على أعمالهم، والأبناء من الذرية ممن لم يبلغ سن التكليف فدخل الجنة بغير عمل، فناسب الاتساع. وأما آية الواقعة فلم يقع فيها ذكر الاتباع فناسب ذلك ذكر الولدان الذيم لا تحتمل أسنانهم خدمة الغلمان، فناسب الاقتصار الاقتصار والتوسع التوسع، ووضح أن العكس لا يناسب، والله أعلم. ووصَفَ الولدان بقوله: (مُخَلَّدُونَ) إعلامماً بأنهم باقون على مقتضى سن الوليدية لا تتغير أحوالهم عن ذلك، وإلا فالخلود الأخراوي عام (الهم) ولغيرهم. وجواب ثان: وهو أنه لما ذكرت الذرية في سورة الطور بما كان يوهم ذكرهم من حيث دخولهم الجنة بغير عمل أنهم فيها خدام لمن اتبعوه بين قوله تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ

الآية الثانية

غِلْمَانٌ لَهُمْ) (الطور: 24) أن الكل من تابع ومتبوع مخدومون، وقيل: (لهم) باللام المقتضية الملك مع كون الضمير في لهم للكل من متبوع وتابع إشعاراً لأنهم ملكهم غلمان لهم، يتصرفون في كل بما يؤمرون به وينهون عنه، ولما لم (يقع) في سورة الواقعة وسورة الإنسان ذكر الأتباع من الذرية لم يرد فيهما إلا اسم الولدان، وهم في الخدمة بمقتضى أسنانهم دون الغلمان، وتناسب هذا، والله أعلم. الآية الثانية من سورة الطور - قوله تعالى: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) (الطور: 41 - 42)، وفي سورة القلم: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) (القلم: 47 - 48)، للسائل أن يسأل عن وجه تعقيب هذه الآية في السورتين بما ورد فيهما؟ ووجه المناسبة في ذلك؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أنه جل وتعالى أرغم معاندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطع تعلقهم، وأوضح عجزهم، وأوقفهم على قبيح تكذيبهم وشنيع مرتكبهم في بضع وعشرين آية من سورة الطور وسورة القلم، وفي سورة الطور أكثرها، وباقيها في سورة القلم، وتصل محصوراً فيها كل متعلق بمجادلتهم ظناً أو توهماً، وقدم ذلك في السورتين حال المتقين وما منحوه، على تفصيل في سورة الطور واستيفاء يناسب ما فصل أيضاً من حال المعاندين في متعلقاتهم، وإيجاز في سورة القلم يناسب الوارد فيها من ذلك التعلق، مكتفي من ذلك في (وصف) المتقين بقوله تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (القلم: 34). فلما تقعد في السورتين حال المتقين أعقب بتوبيخ من ارتكب ضد حالهم، فبدأ سبحانه في سورة الطور بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم أمراً له باستمراره على الدعاء (إلى ربه): (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ) (الطور: 29)، فنفي عنه ما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم بهاتين، وقد علموا براءته من ذلك واعترفوا به في الخبر الصحيح بل كانوا يعلمون صدقة قال تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام: 33)، فهذا إخبار منه سبحانه بمعتقدهم فيه، ولكنهم كانوا يرون أن رميه بالتكهن والجنون كأنه مخيل في توقفهم عن تصديقة واتباعه لذلك أكد سبحانه نفي ذلك عنه بالقسم في السورتين فقال (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ) (الطور: 29)، وهذا في قوة القسم الصريح، وقال في سورة القلم مفصحاً بذلك: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (القلم: 1 - 2)، ثم كرر ذلك توبيخاً لقائله فقال: (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) (القلم: 51)، ولم يتكرر في السورتين مفصحاً به من الصادر عنهم فيما كانوا يرمونه به غير صفة الجنون، ثم

قال تعالى قاطعاً بهم في احتجاجهم (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ) (الطور: 30)، وقد عرفوا أن ما جادلهم به ليس بشعر، ثم قال تعالى: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا) (الطور: 32)، ومن المعلوم الذي قد علموه هم أن عقولهم لا ترجع ذلك من مقالهم فكيف تأمرهم به؟ ثم قال: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) (الطور: 33) أي فإن قالوا - فليأتوا بمثله وعجزهم عن ذلك قاطع هذا التعليق، ثم قال: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) (الطور: 35)، وقد كذبوا أنفسهم بهذا واعترفوا بخلق الله تعالى إياهم: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (الزخرف: 87)، ثم قال: (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور: 35) (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) (الطور: 36)، وقد أخبر تعالى عنهم بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (لقمان: 25) فلا تعلق لهم بشيء من هذه المرتكبات لتكذيبهم أنفسهم وكل ما يقدر أن يتعلقوا به من المذكور بعد هذا من قوله: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ) (الطور: 37) إلى قوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (الطور: 40) لا توقف في اضحلال تعلقهم به، فلم يبق بعد وضوح الحق إلا الضلال ولما بلغ المتقرر من رد متعلقاتهم الغاية في قطع كل متوهم من متوهماتهم المفروضة قال تعالى: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) (الطور: 41)، وهذا آخر ما يتوهم متعلقاً لهم وإن لم يقولوه، فلم يبق لهم إلا أعمال المكيدة فأخبر تعالى أنهم: (هُمُ الْمَكِيدُونَ) (الطور: 42) (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (القمر: 45)، فقد وضح وجه تعقيب آي سورة الطور بهذه الآية. ولما كمل في سورة (نوالقلم) ذكر كل ما يمكن تعلقهم به، واستوفي ما قد وقع منهم وما يشبه ذلك مما لم يقولوه لبعده كادعاء اطلاع الغيب واستراق السمع، وادعاء خلق السماوات والأرض، وإيجادهم من غير صانع مريد مختار قادر، أو أن خزائنه سبحانه عندهم، فلما لم يبق ما يتوهم إمكان تصوره، وانقطع تعلقهم، وتبين أن توقفهموامتناعهم عناد بّين، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) (القلم: 51)، فأرغمهم وفضحهم وأعقب الآية من قوله: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) (القلم: 47) في سورة القلم بالأمر بالصبر لكمال ما قصد من قطعهم بكل جهة واستيضاح تمردهم من بعد ما تبين لهم الحق إلا الصبر عليهم حتى يحكم الله فيهم بما شاء، وقال له تحذيراً من أنن تدركه السآمة والضجر: (وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) (القلم: 48) وبان أيضاً وجه هذا التعقيب. ولما كانت سورة الطور متقدمة في الترتيب المستقر، وورد بعدها في سورة القلم ما

هو راجع إلى الوارد في الطور ومن تمامه أعقبت الآية هناك بقوله: (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا) (الطور: 42)، وأعلم تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن كيدهم راجع عليهم، وأن ما راموه حال بهم: (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) (الطارق: 17) تأنيساً له، عليه السلام، وإعلاماً أن العاقبة له، وأنه سيستجيبُ له غيرهم ممن سبقت له الحسنى فأناب وتذكر، قال تعالى: (وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (القلم: 52)، وجاء كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم. *****

سورة النجم

سورة النجم الآية الأولى منها - قوله تعالى: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ) (النجم: 22 - 23)، وقال بعدها: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم: 27 - 28)، للسائل أن يسأل عن تعقيب قوله أولاً: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) بقوله: (وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ) وثانياً بقوله: (وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)؟ وما الفائدة من تقديم ما قدم وتأخير ما أخر؟ وهل كان العكس مناسب؟ والجواب، والله أعلم: أنه لما قال تعالى قبل هذا: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) (النجم: 19 - 20) فذكر أصنامهم وتسميتهم إياها آلهة واتخاذها معبودات، وذكر تعالى في مواضع أخر أنهم جعلوا الملائكة إناثاً) (الزخرف: 19) وأنهم بنات الله .. قال تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ) (النحل: 75)، وكرهوا البنات لأنفسهم وإليه الإشارة بقوله: (وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ) (النحل: 75) (أي وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون)، قال تعالى مخاطباً نبيه صلى اله عليه وسلم ومعلماً بحالهم وتوبيخاً لهم (وتقريعاً) (مع) إبقاء أعظم التلطف وأجل الحلم: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) (النجم: 21 - 22) أي جائزة، ثم عرفهم بما لا جواب لهم عليه وأنه مرتكب لا مستند له فقال: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) (النجم: 23) إلا اتباع ظن وهوى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ) (النجم: 23)، ثم نبه تعالى على الرحمة بما جاءهم به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) (النجم: 23)، وعرفهم بما تشهد العقول بتصديقه لإدراك ذلك إدراكاً ضرورياً فقال تعالى: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى) (النجم: 24) أي الجاري في الوجود أن الإنسان قد يتمنى الشيء فلا يدركه إذا لم يقدر له وقد يجيئه ما لا يريده لا بحسب تمنى المتمني منكم إلا أن شاء ذلك، ثم أخبر تعالى عن الملائكة وأشار إلى علىّ أقدارهم فقال: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي

شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) (النجم: 26)، فقطع تعالى بهم (في قولهم) في آلهتهم (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (الزمر: 3)، ثم صرف تعالى الخطاب إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ) (النجم: 27)، ولم يقل له: إن قومك، أو (إن) العرب، أو ما يحرز هذا المعنى، وإبقاء عليهم، وأخبر أنهم لا علم عندهم ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) (النجم: 27)، ثم قال: (وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم: 28)، فهذا موضع قوله: (وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) وأما الموضع الأول فموضع ذكر اتباعهم أهواءهم، لما أوضح تعالى (لهم) أن ليس للإنسان ما يتمناه فبضل هوى الأنفس ولم يبق إلا مجرد ظن، أخبر تعالى أن الظن لا يغني من الحق شيئاً. فتناسب هذا كله، وتبين أن كلاً من المعقب (به) في الموضعين لا يصح في غير موضعه، ولا يمكن العكس، والله أعلم. *****

سورة القمر

سورة القمر قوله تعالى: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر: 18 - 22)، للسائل أن يسأل عن تكرر قوله تعالى (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) في قصة عاد مرتين ولم يقع في قصة قوم نوح وقصة ثمود بعد إلا مرة واحدة فما وجه تكرار ذلك في قصة عاد مرتين؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن عاداً لما كذبوا هوداً، عليه السلام، امتحنوا بالقحط ثلاث سنين، واشتد الأمر عليهم حتى بعثوا وجوههم إلى مكة ليستسقوا لهم، وقد اشتد الأمر عليهم، وهذا أشد تخويف لو وفقوا للتذكر، وقد خوف بذك آل فرعون قال تعالى (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف: 130)، فخوفت بذلك عاد، فلما لم يجد ذلك عليهم مع أليم أمتحانهم به أهلكوا بالريح العقيم، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، فامتحنوا بعذابين، وإنما كان أخذ قوم نوح قبلهم وهلاكهم بالطوفان، ولم يتعرف من الكتاب العزيز أنه تقدمهم قبله أخذ بغيره من ضورب من أهلك به غيرهم، وكذلك ثمود أخذوا بالصيحة، وقوم لوط بالخسف والحجارة، وإنكا تكرر الإمتحان بعد عاد على آل فرعون فأخذوا بضروب من العذاب والامتحان إلى أن أغرق الله آخرهم مع فرعون، وممن أشار الكتاب العزيز إلى تنوع أخذهم قوم شعيب، ولم يقع ذكرهم في هذه السورة، فلما أخذت عاد بالسنين ثم اسؤصلوا بالريح العقيم ورد متكرراً، فأشار قوله أولاً: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) إلى ما قدم لهم من منع المطر وشدة السنين عليهم وما أنذروا به من ذلك، وأشار قوله ثانياً: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) إلى استئصالهم بالريح العقيم، ويجري مع ذكره ويشير إليه قوله تعالى: (قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) (الأعراف: 71)، والرجس هنا العذاب ومنه أخذهم بالسنين، وأما الريح العقيم فمن غضبه سبحانه إلى ما يلحقهم منه في الآخرة، قال تعالى: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) (هود: 60)، فتكرر قوله تعالى: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) مرتين مشيراً إلى ما قدم لهم مما باشروه وشاهدوه من العذاب بالسنين وقطه دابرهم واستئصالهم بالريح العقيم وجارياً مع هذا التنويع من امتحانهم في الدنيا والآخرة.

ولما لم يذكر من حال قوم نوح وقوم صالح وقوم لوط مثل هذا التنويع لم يتكرر ما ورد في أعقاب قصصهم من قوله: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)، وتناسب ذكل كله أتم مناسبة، وجرى مع كل قصة ما يلائمها فإن قيل: فإن آل فرعون قد تكرر عليهم الامتحان قال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) (الأعراف: 130) وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ولم يقع التنبيه على تعذيبهم وإنذارهم متكرراً كما وقع في قصة عاد؟ فالجواب أن قصة آل فرعون لم يقع تعقيبها بقوله: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) كما ورد في القصص الثلاث، وإذا لم يرد تعقيبها بذلك فقد سقط السؤال عن التكرر، ثم أعقبت بما يحرز امتحانهم بأشد امتحان وهو قوله تعالى (فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) (القمر: 42). فلما خالف إيرادها تلك القصص ولم يجر في ذلك التعقيب مجراها لم يلزم السؤال المفروض، والله أعلم (بما أراد). وأما الجواب عن قصة عاد فإنما اختص ما نزل فيها من كتاب الله بذكر عذابين أحدهما قوله تعالى: (لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (فصلت: 16) والثاني قوله: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ) (فصلت: 16)، فأشار قوله أولاً: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) إلى عذابهم في الدنيا، وأشار التكرار إلى عذاب الآخرة. وهذا الجواب، والله أعلم: بعيد لأن سورة القمر بأسرها مقصودها تذكير كفار العرب من قريش بغيرهم بما نزل بمن تقدمهم من كذبي الأمم، وإنما ذكروا بحاصل قد وقع بمن سلك مسلكهم ليتعرفوا خبره فيتعظوا، وعلى هذا جرى تذكارهم في الكتاب العزيز، فتارة بما يشاهد من خلق السماوات والأرض وشبه ذلك، وتارة بما يعلم خبراً. أما وعظهم بعذاب الآخرة وهم يكفرون بالرحمن فبعيد ولا يطابق قوله عقب كل قصة: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ولا قوله: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر: 15) فتأمله، وهو أعمد جوابي صاحب كتاب الدرة وأراه (لايصلح)، والله أعلم. ******

سورة الرحمن

سورة الرحمن الآية الأولى منها - قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (الرحمن: 7 - 9)، للسائل أن يسأل عن وجه تكرر (لفظ) الميزان ثلاث مرات؟ ووجه تخصيص السورة بذلك؟ والجواب عن ذلك - والله أعلم - أن المراد بذكر الميزان إعلام العباد بما به قوام أحوالهم واستقامة أديانهم من إجراء أمورهم على العدل الذي أمر سبحانه في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: 58)، وفي قوله: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8)، وفي قوله: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9)، وفي الحديث: إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة. وتكرر في الكتاب العزيز الوصية بالوفاء في الكيل والوزن المحسوسين لبيان الأمر فيهما فقال تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) (الإسراء: 35)، وذك سبحانه من بخس فيهما، وجعل جزاءه الويل والهلاك فقال: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (المطففين: 1)، وأعلمنا سبحانه بعاقبة (قوم) شعيب، عليه السلام، في ذلك، وأخذهم بالصيحة وعذاب يوم الظلة، وأعلمنا سبحانه بوزن أعمال العباد يوم القيامة فقال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) (الأنبياء: 47)، وتكررت الآيات والأحاديث معلمة بذلك ليشاهد العباد عظيم العدل واستيفاء جزاء الأعمال مرئياً محسوساً جارياً على مألوفهم في دنياهم مشاهداً للصالح والطالح على المعتقد المتقرر عند كافة أهل السنة. فلما كانت الاستقامة في الكيل والوزن مشعرة بالاستقامة فيما سواهما وتأكدا لأنفسهما (ولما وراءهما أكد سبحانه الأمر بذلك، وأخبر بوضعه للخلق فيالقيامة) ليمتثلوا بذلك أمره، فقال تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) (الرحمن: 7)، وقال مفسراً وآمراً: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (الرحمن: 8 - 9)، و (أن) في قوله: (أَلَّا تَطْغَوْا) يحتمل أن تكون علة أي لئلا تطغوا في الميزان، وأن تكون حرف عبارة وتفسير نائبة مناب أي ومقدرة لها كالواقعة في قوله تعالى: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا) (ص: 6)، وكرر لفظ الميزان جرياً على عادة العرب فيما لها به اعتناء وتهمم كقول الخنساء:

الآية الثانية

وإن صخر لوالينا وسيدنا ... وإن صخراً إذ نشتو لنحار وإن صخراً لتأتم الحداة به ... كأنه علم في رأسه نار فكررت ذكر صخر ثلاث مرات ظاهراً غير مضمر، وكقول آخر: لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغض الموت ذا الغنى والفقيرا فكرر لفظ الموت ثلاث مرات في بيت واحد. وقال: ليت الغراب غداة ينعب دائباً ... كان الغراب مقطع الأوداجِ وهذا موجود في كلامهم كثيراً إذا قصدوا الاهتمام والاعتناء والتهويل والاستعظام، ومن الوارد في هذا في التنزيل: (الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ) (الحاقة: 1 - 2) (الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ) (القارعة: 1 - 2)، وما ورد من هذا. وأما تخصيص هذه السورة بذكر الميزان وأكيده والوصاة بحفظه وفاء والتزاماً - وهو الجواب الثاني - فمن حيث إن بناء السورة على إعلام الثقلين بنعمة سبحانه لديهم، وإقامة الحجة عليهم، وتعريفهم (بأنهم) لو وفقوا للحظ نعمة تعالى وما بث في السماوات والأرض وخلوقاتهما من عجائب صنعه ما كفر منهم أحد ولا كذب، وإنما أتى على من قدم ذكره من الأمم المكذبة في سورة القمر المتصلة بهذه لعدولهم عن النظر السديد اعتماداً على الأهواء ونبذاً للعدل، والإنصاف ولو اعتبروا بخلق الإنسان وما منح وعلم من البيان وشرف به على سائر الحيوان، واعتبروا بآيتي الشمس والقمر وجريهما بحسبان لتفصيل الفصول وربط الأزمان، وتعاقب الملوين للتصرف والاستراحة (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) (الإسراء: 12) (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) (يس: 40)، فلو اعتبروا بهذا وما يستدعيه وينجر معه، وبالنبات نجماً وشجراً، ورفع السماء، ووضع الميزان للأنام، إخراج ضورب الأطعمة وأصناف الفواكه منها، واختلاف أنواعها في الطعن واللون والروائح مع اتحاد المادة: (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) (الرعد: 4)، وكيف مرج سبحانه البحرين: (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) (الفرقان: 53)، وقد حجز سبحانه ما

بينهما وأحكم فلا يلتقيان التقاء يعود بعدم المنفعة على العباد، وأخرج منها اللؤلؤ والمرجان. وأجرى فيهما السفن بإجراء الرياح، وأقام على الجميع دلائل الافتقار والحدوث، وحكم عليهم بالفناء والعجز: (هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) (الروم: 40)، وما من معتبر من هذه إلا كان في مشاهدته مفصحاً بلسان حاله: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 22)، فلو اعتبر أولئك الأمم ببعض المنصوبات للاعتبار من المنبه عليه في سورة الرحمن لدلهم ذلك على الصانع الذي ليس كمثله شيء، ولنبذوا معبوداتهم من دونه جل وتعالى وأجابوا الرسل فلم يهلكوا، ولكنهم انحرفوا عن ميدان الإنصاف فكذبوا فهلكوا، فلبناء السورة على هذا اختصت بذكر الميزان مكرراً مؤكداً على ما وقع فيها. ولما لم ترد هذه الأغراض في غير هذه السورة مبنية على ما تقدمها في السورة قبلها من أخذ المكذبين على الصفة الواردة فيها، وانفردت هي بما قدم؟، كانت مظنة الاعتناء بما ينسحب على كل طرق السلامة في كل عمل، وهو العدل الذي به قوام المخلوقات، والوزن بالقسط الذي تستوضح كل نفس في القيامة (به) ما لها وعليها، ولم تكن غير هذه السورة لتكون أولى بذكر ذلك فيها منها، والله أعلم. الآية الثانية من سورة الرحمن قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 13)، للسائل أن يسأل عن وجه تكرار هذه الآية إحدى وثلاثين مرة، ما وجه ذلك؟ وهل لتخصيص هذا العدد سبب موجب؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أنه افتتح سبحانه السورة بذكر ضروب من النعم تجل عن الإحاطة بوصفها، ويعجز العارفون عن شكرها، وكلها دلائل للمعتبر واضحة، وشواهد قاطعة بانفراده سبحانه بالخلق والاقتراع والإنشاء والإبداع، فقال تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (الرحمن: 1 - 2)، وخص سبحانه من أسمائه: (الرحمن) مناسبة لما رحم به عباده، فبدأ سبحانه بتعليمه القرآن، ولا نعمة أعظم من ذلك إذ بتعليمه البيان المتوصل به إلى الإبانة عما في نفسه واستيضاح ما انبهم عليه وإيضاح ذلك لغيره، وبخ يعرف قدر النعمة بالقرآن، ثم أردف فذكر نعمة الشمس والقمر، ونبه تعالى على جريهما في بروجهما بحسبان ولما يدرك العالم من منافعهما إنضاجاً وتيبيساً وإضاءة وحسباناً: (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) (الإسراء: 12) ثم قال تعالى تحريكاً للمعتبرين وإيقاظاً للمتفكرين: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) (الرحمن: 6)، والنجم ما نجم من النبات وارتفع عن أرضه، ثم قال: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا) (الرحمن: 7)، فأشار إلى جعلها سقفاً محفوظاً من

غير عمد مزينة بالنجوم للدلالة ورجم الشياطين، وقد مر التنبيه بما فيها وفي خلقها من العبر، ثم قال: (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) (الرحمن: 7)، وقد تقدم الكلام في ذلك، ثم قال: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) (الرحمن: 10) للمشي في مناكبها والاكل مما بث فيها والاعتبار بها وبعجائبها، وعجائب السماوات والأرض أكثر من أن تحصى بالعد، قال تعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الجاثية: 3)، ثم ذكر تعالى بعض ما بثه فيها من الرزق فقال: (فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) (الرحمن: 11 - 12). ولما كانت هذه النعم مشاهدة للخلائق، ولا طمع لأحد في نسبتها إلى غيره سبحانه، قد شهدت العقول وعرفت انفراده سبحانه بإيجادها واختراعها، أتبع ذلك بتقرير الثقلين وتعجيز الفريقين فقال لهما عقب هذه الضروب الثمانية: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 13)، أي أمن هذه ما يمكن للجاحد أن يكذب به ويتعاطاه لغيره سبحانه في وضوح شهادتها لخالقه (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) (آل عمران: 83)، ثم عرفنا سبحانه بخلقه الثقلين وبالمادة التي أوجد منها كلا من الصنفين فقال: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) (الرحمن: 14 - 15)، أينسب ذلك إلى غيره؟ أيستبد به سواه؟ ثم أتبع سبحانه بأنه (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (الرحمن: 17) أي مشرق الشتاء ومشرق الصيف إشارة إلى الغايتين في الانتهاء من رأس الجدي إلى رأس السرطان) ثم بخلق البحرين الحلو والمالح والتقائهما وفصلهما، ثم بما يخرج منها للانتفاع والزينة، ثم بتسخير السفن وجريها، ثم بذكر فناء كل من عليها وبقائه سبحانه، ثم بافتقار أهل السماوات والأرض إليه جل وتعالى وسؤالهم إياه شؤونهم وحاجاتهم كل يوم، وأعقب كل قصة من هذه بتقرير الثقلين وتعجيزهم لقيام الحجة عليهم فقال: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، وتكررت الآية بتكرر القضايا، وكلها مما لا مطمع لأحد في ادعائه، فقامت الحجة بها، وكانت سبعاً جرياً على سنة ما وقع التنبيه به من تحريك المعتبرين، واطرد هذا العدد في ذلك فقال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنين: 12) إلى تمام سبعة اطوار آخرها قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) (المؤمنين: 14)، وقال عقب هذا: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ) (المؤمنين: 17). ولما ذكر سبحانه الحالات التعبدية التي بها خلاص المكلفين ذكر سبعاً فقال: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنين: 1 - 2)

فعد للمؤمنين خصالاً سبعاً جعلهم بها وارثين نعيمة وساكنين جنته فقال: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنين: 10 - 11)، وهذا العدد مطرد جار في أشياء يشهد اطراده فيها على قصد حكمة تقتضيها، فمنها ما ذكر آنفاً ومنها أن أم القرآن سبع آيات، والأيام سبع، (والسماوات سبع)، والأرض (سبعة) مثلها، وأبواب جهنم سبعة، (وحد) الإثغار سبعة أعوام، ويعق عن المولود يوم سابعه، ومن مسنوناته، عليه السلام سبع قضايا وعيدية: أولها قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ) (الرحمن: 31) إلى قوله: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) (الرحمن: 44) معقباً فيها كل قضية بقوله تعالى مقرعاً وقامعاً للمعاندين بقوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ). ثم انصرفت الآي إلى فريق النجاة ووعدهم بما أعد تعالى لهم فقال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن: 46)، واستمرت الآي فيما أعد تعالى لهم وإعطاهم إلى قوله: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن: 60) مختتمة كل قضية منها بقوله في ثماني كرات في أعقاب ثماني قضايا على ما تقدم: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ). وكانت هذه ثمانية لكونها في أهل الجنة فجاءت على وفق أبوابها، ويشهد لهذا القصد تعقيبها بمثلها عدداً فيما زادهم في قوله تعالى: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) (الرحمن: 62) إلى آخر السورة:، وهي ثماني آيات كعدد ما قبلها معقبة كل آية منها بقوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) رعياً لما ذكرنا. فتحصل في المجموع العدد المتقدم، ولم تكن الزيادة على ذلك لتناسب إذ لا قضية سوى هذه المعقبات، كما أن النقص من هذا العدد لا يناسب لطلب كل قضية لذلك الإعقاب تناسباً وتوازنا على ما تقدم من الرعي، فورد ذلك كله على الوجه الذي لا يناسب خلافه، والله أعلم. فإن قلت ما وجه اختصاص سورة الرحمن بهذا التعقيب مما هو إيقاظ للغافلين وتنبيه للمؤمنين وتقريع وتوبيخ للغافلين؟ وما وجه ذلك؟ فالجواب: ( ....... ) ****

سورة الواقعة

سورة الواقعة قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) (الواقعة: 58 - 59)، وبعد ذلك: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الوقعة: 63 - 64)، وبعده: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) (الوقعة: 68)، ثم قال: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) (الواقعة: 71)، للسائل أن يسأل عن وجه هذا الترتيب؟ وهل كان يمكن تقديم أحد هذه النعم المنعم بها على ما وقع في الآية متقدماً عليه؟ والجواب عن هذه أن ذكر المتنعم متقدم في الرتبة على ما ذكر من النعم، لأن النعم إنما خلقت للمتنعم بها ومن أجله، فذكره أولاً بين اللزوم، فلهذا تقدم ذكر خلق الإنسان المتنعم بالنعم فقال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ)، وأما تقديم الأكل على الشرب فمعقول الرتبة وبحسب ذلك ورد المقول المنقول فقال تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا) (الطور: 19)، فالشرب في الغالب للاستمراء وليس أولياً في الغذاء ولا متعمداً في الجسوم الحيوانية للنماء، وإنما ورد ذكره مع الأكل تالياً لكونه في الرتبة ثانياً فقال تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا). وأما النار فللمنافع من الإنضاج والإسخان والإضاءة فهي متممة وليست كالأكل والشرب مدعمة، إذ لم تكن كالأولى في الغذاء والنماء فليس من المناسبة تقدم ذكرها على الماء. وورد عقب الآية الأولى قوله: (فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) (الواقعة: 62) وعقب الثانية (فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) (الواقعة: 70)، ووجه المناسبة أن الآية الأولى لمن تدبرها تذكرة بالعودة الأخراوية قال تعالى: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (الأعراف: 29)، فأعقب بالتخصيص على التذكر بالبداءة على العودة. وأما الآية الثانية فمستدعية الشكر على عذوبة الماء ولو شاء لجعله أجاجاً، فخلقة وجعله عذباً فوجب شكره تعالى على النعمة بذلك. ******

سورة الحديد

سورة الحديد الآية الأولى منها - قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الحديد: 1)، وفي سائر المسبحات «وما في الأرض»، ثم في سورة الحديد وسورة الحشر وسورة الصف: "سبح" بلفظ الماضي، وفي سورة الجمعة والتغابن " يسبح" بلفظ المضارع، فهذان سؤالان؟ والجواب عن الأول، والله أعلم: أن كون " ما " لم تتكرر في هذه السورة إنما ذلك ليطابق بالكلام ما اتصل به من قوله تعالى: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الحديد: 2)، فلما لم تكن هذه الآية مستدعية لفظة " ما " روعي ذلك فيما قبلها لتناسب الآيتين، مع حصول ما تعطيه " ما " من المعنى، فلو وردت لم تكن لتكون إلا تأكيداً، وكان يسقط التناسب اللفظي، ثم قد ورد بعد هذا قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) (الحديد: 4)، فتناسب هذا كله على ما يجب. أما المسحبات فلم يرد فيها ما يستدعى هذه المناسبة، فوردت على ما هو أنسب لما يفهم لفظ المضارع في التمادي والتكرر، والله أعلم. والجواب عن السؤال الثاني: أن لفظ الماضي في " سبح " ولفظ المضارع في " يسبح " يحرزان الاستمرار والدوام، ولا تحرز إحدى العبارتين ذلك بالتأويل والتقدير، فكان الجمع بين محرزي ذلك أولى. وإنما تقدم الماضي لثبات رتبته وجوداً قبل المضارع، ثم اتبع بما يقتضي الاستمرار، وكان ورود أكثرها على التعبير بالماضي لأنه أوضح في استحكام الثبات وامتداده، فورد هذا كله على أنسب وجه. الآية الثانية من سورة الحديد - قوله تعالى: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الحديد: 2)، ثم ورد بعد قوله: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (الحديد: 5) للسائل أن يسأل عن إعادة قوله: " له ملك السموات والأرض" مع قرب هاتين الآيتين وعن تعقيب الأولي بقوله " وهو على كل شئ قدير" والثانية بقوله: " وإلى الله ترجع الأمور". والجواب الأول: أن إعادة قوله: " له ملك السموات والأرض " إنما أعيد ليبني عليه قوله: " وإلى الله ترجع الأمور". لما تقدم وصفه سبحانه أنه المسبح المتعالي ذو العزة

الآية الثالثة

والحكمة، وأنه الذي له ملك السماوات والأرض، والقدير على كل شئ والأول والآخر، والظاهر والباطن، العليم بكل شئ، والخالق للسماوات والأرض، والذي أستوي على العرض بالقهر والقدرة، (والعلمي بما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وأنه مع الكل بالعلم) والإحاطة والبصر (بأعمالهم)، أكد ما تقدم بإخباره تعالى بأنه له ملك السماوات والأرض (وإليه رجوع أمر الخلائق، فلا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا يصدر شئ إلا منه وعن قضائه، فتكرر قوله: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الحديد: 2) لبناء ما ذكر عليه أبين شئ لحصول الجمل المفصلة قبله تحت مفهومه، فقد تبين وجه التكرار ووجه تعقيب المكرر بقوله: (وهو على كل شئ قدير)، فلما تقدم متصلاً به قوله " يحي ويميت" فالمراد وهو على كل شئ قدير من الإماتة والإحياء وغير ذلك مما يدخل تحت حكم القدرة، فهذا التعقيب أنسب شئ وأوضحه، والله اعلم. الآية الثالثة من سورة الحديد: غ قوله تعالى: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) (الحديد: 12)، وفي سورة التحريم: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى) (التحريم: 8)، قدم الفعل في الأولى وأخر في الثانية؟ ووجه ذلك، والله أعلم: أن قوله في سورة التحريم (الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) يفهم من حيث المعية قرب المنزلة وعلو الحال فتقدم ثبوته، فناسب ذلك ورود الجملة الاسمية هنا لما تقتضيه من الثبات وتقدمه واستحكامه. أما قوله في سورة الحديد: (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) فبشارة للمؤمنين، ولم يأت هنا كونهم مع نبيهم، فلم يتحصل مما يفهم تمكن المنزلة وثبوتها ما تحصل في آية التحريم إنما هذه بشارة، فناسبها التجدد والحدوث، فناسب ذلك الفعل بما يعطيه من المعنى فقيل " يسعى نورهم بين أيديهم " ليفهم التكرر وحدوث الشئ بعد الشئ، فورد كل على ما يجب ويناسب. الآية الرابعة: غ - قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) (الحديد: 22)، وفي سورة التغابن: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (التغابن: 11)، للسائل أن يسأل عما زيد في آية الحديد من قوله " في الأرض ولا في أنفسكم" إلى ما بعد مما خلت منه آية التغابن مع اتحادهما فيما انطوت عليه من المعنى؟ فأقول - وأسأل الله التوفيق - إن المسبحات الخمس وهي: سورة الحديد وسورة الحشر وسورة الصف وسورة الجمعة وسورة التغابن، مع اشتراك خمستها في مطالعها لم تتلاق منها في عدة معان وترادف ألفاظ واحدة مع أخرى تلاقي هاتين السورتين أعنى

سورة الحديد وسورة التغابن، ألا ترى اجتماع السورتين في ذكر خلق السماوات والأرض، والإعلام بإحاطة علمه سبحانه، وما يترتب على ذلك من الجزاء الأخراوي وذكر الأموال والأولاد والفتنة بهما، وتحقير أمر الدنيا وما انطوت عليه الإشارة إلى تفصيل أحوال الخلق وجزائهم الأخراوي، وإن كل واقع في الوجود واقع بإذنه سبحانه وتقديره وانطواء كل واحدة من هاتين السورتين على جملة من أسمائه سبحانه، ولم يرد في غيرهما من السور الخمس المذكورة من ذلك ما يجاربهما فيما اشتركتا فيه من الأسماء العلية، وإن كانت سورة الحشر قد انطوت من ذلك على نحو ما انطوت عليه سورة الحديد إلا أنها لم تلتق معهما في موافقة ما اجتمعتا عليه من تعيين عدة منهما (فلما) اتفقت السورتان فيما ذكر، ولم يجتمع معهما غيرهما من المسبحات في ذلك ولا قارب، مع طول سورة الحشر ومجاراتها في الطول سورة الحديد، وكون سورة التغابن لا تقارب واحدة منهما في الطول)، ومع ذلك فقد شاركت سور ة الحديد في تلك الأغراض الجليلة والمقاصد العظيمة وجارتها في ذلك عدداً واستيفاء، وعريت سائر المسبحات عن التعرض لذلك أو الوفاء منه بما وفتا به وعرفتا من حاله. فلما اتفقتا في هذا كله، وكانت سورة الحديد أمعن في كل ضرب مما ذكر وأوفي تعريفاً وأمد تفصيلاً، وكانت هذه الآية المتكلم فيها من جملة ما اتفقت السورتان فيه وروداً واتحاد معنى، أجريت في كل واحدة من السورتين من التفصيل في الأولى والاستيفاء والإجمال في الثانية والاكتفاء على ما جرت (به) سائر الآي فيما اشتركت فيه السورتان مما ذكر قبل، فناسب ذلك ما زيد فيها في الآية المذكورة فقيل: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) (الحديد: 22) مناسبة لما بنيت عليه السورة من الوفاء بالأغراض المذكورة. وقيل في آية التغابن: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) (التغابن: 11) مناسبة للإجمال الوارد فيها من ذلك المشترك. وتحصل نظم السورتين على أتم مناسبة وأجل تلاؤم، وجرى ذلك على مسلك العرب وتفننها في كلامها وتصرفها إذا أطالت لداع موجب وفصلت أو أوجزت لمقتضى من المعنى وأجملت: يرمون بالخطب الطوال وتارة وحي الملاحظ خيفة الرقباء ولا يمكن على ما تبين عكس الوارد في السورتين بوجه، والله أعلم بما أراد. ****

سورة المجادلة

سورة المجادلة قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المجادلة: 4)، وقال بعد: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) (المجادلة: 5)، يسأل عن تعقيب الأولى بقوله: " وللكافرين عذاب أليم" والثانية بقوله " وللكافرين عذاب مهين"؟ ووجه اختصاص كل موضع بالوارد فيه؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن الآية الأولى لما تقدمها ذكر الظهار، وقد سماه سبحانه منكراً من القول وزوراً، وشرع الكفارة فيه رحمة وتداركاً للواقع فيه إذا اتعظ وأناب، وجعلها (على التدرج) من تحرير رقبة للواجد القادر عليها، وإلا فحكمة صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن عجز عن الصيام فإطعام ستين مسكيناً، ثم قال: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) (المجادلة: 4) أي أن الانقياد لأمر الله سبحانه (والتزام حدوده عنوان كبير على كمال الأديان والتزام ما به التخلص لديه سبحانه، فشرع لكم الحدود، فمن التزمها ولم يتعداها فذلك المؤمن، ومن تنكب عنها وحاد عن التزامها فتلك صفة الكافرين: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المجادلة: 4)، ووصف العذاب بالإيلام ليكون أوقع (وذلك أوقع)، وذلك بين التناسب. وأما الآية الثانية فتقدمها قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (المجادلة: 5)، والمحادة المشاقة والمحاربة، ولذلك كان جزاؤهم أن كبتوا وأذلوا قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) (المجادلة: 20)، فلما تعزز هؤلاء وارتكبوا المحادة والمشاقة كان جزاؤهم إكباتهم وإذلالهم وأهانتهم في مقابلة تعززهم كفراً وعناداً، فقال تعالى في جزاء هؤلاء: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) (المجادلة: 5) أي مذل لهم قامع لعنادهم، وهذا بين التناسب، والله أعلم. *****

سورة الحشر

سورة الحشر قوله تعالى: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) (الحشر: 13)، ثم قال بعد: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) (الحشر: 14)، (فيسأل عن اختصاص كل آية بما أعقبت به من قوله في الأولي: (لا يفقهون) وفي الثانية: (لا يعقلون)؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن الله تعالى لما أخبر عن يهود والمنافقين بسوء أحوالهم وأن الرعب قد سكن قلوبهم حتى كأن خوفهم من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم أشد من خوفهم من الله، قال تعالى " لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله " فناسب هذا نفي فهمهم وانسلاخهم عن النظر والتدبر والتوفيق، فقال تعالى " " ذلك بأنهم قوم لا يفقهون"، ثم اتبع ذلك بالتعريف بشدة بأسهم بينهم وشتات أحوالهم فقال تعالى " (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى"، فناسب هذا ما يفهم عدم الثبوت على شئ والرجوع إلى قانون يقفون عنده ويرتبطون إليه فقال تعالى: " ذلك بأنهم قوم لا يعقلون "، والعقل هو علوم ضرورية يوقف عند مقضاه ويحكم بما أمضاه ولا يتعدى، ويحصل من ذلك الثبوت، واشتقاقه من قولهم: عقلت البعير إذا ربطته بعقال، وهو الحبل وشبهه مما يتقيد به. ولما نفي عنهم الارتباط مع صفهم بشتات القلوب وجوداً فقال: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) (الحشر: 14)، أخبر تعالى أن سبب ذلك " أنهم لا يعقلون، وتناسب هذا أبين شئ، ولا يناسب الأولى قبلها إلا ما أعقبت به، والله أعلم. ***

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (الممتحنة: 4) وبعد هذا: (قَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) (الممتحنة: 6)، فيسأل عن موجب إعادة قوله: " لقد كان لكم يهم أسوة حسنة "؟ وعن متعلق كل واحدة من الآيتين هل كان يصلح ورود كل واحدة منها مكان الأخرى؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أنه تعالى لما أمر المؤمنين ألا يتخذوا أعداءه وأعداءهم أولياء بإلقاء أسباب المودة والنصيحة لهم، وسبب نزول هذه السورة قصة حاطب بن أبي بلتعة، رحمه الله، فى كتابة إلى أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم وما يريده فيهم، ودفعة ذلك إلى ظعينة، ونزول الوحي بذلك، فبعث رسول الله صلي الله عليه وسلم علياً والمقداد وأمرهما أن يأتيا روضة حاج، وقال لهما: إن بها ظعينة معها كتاب إلى أهل مكة، فذهب علي والمقداد وأمرهما أن يأتيا روضة حاج، وقال لهما: إن بها ظعينة معها كتاب إلى أهل مكة، فذهب علي والمقداد، رضي الله عنهما، فوجدا الظعينة كما أخبرهما صلي الله عليه وسلم. وأنكرت الكتاب، فاشتد عليها علي، رضي الله عنه، وقال: لتخرجن الكتاب او لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتي به علي، رضي الله عنه، رسول الله صلي الله عليه وسلم فإذا الكتاب من حاطب، فدعاه رسول الله صلي الله عليه وسلم، وتبرأ حاطب من أن يكون فعل ذلك نفاقاً، واعتذر بما قبله منه رسول الله صلي الله عليه وسلم، فنزل القرآن بتصديقه في اعتذاره فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (الممتحنة: 1)، فأمر تعالى بالتبري منهم وذكر كفرهم بما جاء المؤمنين (من الحق) وإخراجهم الرسول والمؤمنين من مكة من أجل إيمانهم، وتوعد فاعل ذلك فأخبر أنه قد ضل سواء السبيل، وقبل تعالى توبة حاطب، وأمر بالاقتداء إبراهيم، عليه السلام، يحن تبرأ هو ومن معه من المؤمنين من قولهم إلا ما كان من موعدة إبراهيم لأبيه بالاستغفار إلى أن تبين له أنه عدو الله تبرأ منه، فقال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ) (الممتحنة: 4). فلما أوضح تعالى من ذلك ما فيه شفاء المؤمنين اتبعه تعالى بالقسم المؤكد لذلك فقال: (قَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الممتحنة: 6)، ودلت اللام الموطئة للقسم في " لقد كان " على تأكيد ما تقدمه من الأمر بالاقتداء والتأسي

بإبراهيم، عليه السلام، ومن كان معه فقال تعالى " لقد كان لكم فيهم " (أي المذكورين) أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، ثم قال: " ومن يتول" أي عن الاقتداء والتأسي بمن أرشد سبحانه إلى التأسي به فيما ذكر: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الممتحنة: 6)، فالأولى تنبيه وإرشاد، والثانية تأكيد، وسبب كل آية منهما الذي به اتصالها وتعلقها بين، ولا يلائم كل واحدة ولا يناسبها غير موضعها، والله أعلم. ****

سورة المنافقين

سورة المنافقين قوله تعالى: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) (المنافقين: 7)، ثم قال تعال: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقين: 8)، للسائل أن يسأل عن نفي الفقه عنهم أولاً ونفي العلم في الآية الثانية؟ وهل كان يمكن وقوع ما نفي في الأولى منفياً في الثانية ووقوع ما نفي في الثانية في الأولى؟ والجواب، والله أعلم: أن الاعتزار بالدين والاطلاع على تشريف المؤمن به واعتزازه بسببه أمر لا يوصل إليه إلا بعلم ويقين لا طريق لمنافق إليه ما دام على نفاقه، وإنما يعلمه ويصل إلى رحمة الله به المؤمن العالم حق العلم بما منح الله المؤمنين، من الاعتزاز بدينه سبحانه، والاعتصام بإتباع نبيه صلي الله عليه وسلم، والتمسك بما جاء به، فنفي ذلك عن المنافقين بين لا خفاء فيه، ولا يناسب سواه. وأما ما رامه من قطع الرفد والإنفاق وما يرجع إلى ذلك عن المؤمنين حتى يتفرقوا عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ويفردوه، فإن ذلك أمر لو تثبتوا فيه مع كفرهم ونفاقهم وأمعنوا النظر لعلموا بجري العادة أن أرزاق العالم لا تتوقف على منع مانع منهم، بل مشيئة جميعهم في هذا غير نافذة، وأن وصول أرزاق العباد إليهم أمر ليس لمخلوق (فيه) كنزول المطر وإرسال الرياح، وذلك مما لا طمع لمخلوق في إرساله ولا إمساكه. فلو فقه المنافقون، وتفهموا السنة الجارية لما فاهوا بمقالهم، (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ)، فنفي الفقه عنهم هنا أنسب شئ، فلا يلائم وقوع أحد المنفيين في موضع الآخر، والله أعلم. ****

سورة التغابن

سورة التغابن الآية الأولى منها قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التغابن: 1)، وقال تعالى بعد: (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) (التغابن: 4) للسائل أن يسأل عن تكرر " ما " في أول السورة وتركها في الآية بعدها؟ وهل كانت الفائدة تحصل بعكس ذلك؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن الآيتين معاً قصد بهما الاستيفاء والإحاطة بكل المسبحين وبما أحاط به علمه سبحانه، وقد اقترن بالآية الثانية واتصل بها قوله سبحانه: (ويعلم ما تسرون وما تعلنون) فحصل من ذلك إحاطة علمه سبحانه بما ظهر وما بطن وما اشتملت عليه السماوات والأرض، فلما اقترن بهذه الآية ما يعطى إحاطة علمه سبحانه بجزئيات " ما" في الجملة وأنه لا يغيب عنه شئ لم يحتج في قوله: (يلم ما في السموات والأرض) إلى إعادة " ما " لأن ذلك يكون كالتكرار الذي لا يحرز معنى. وأما الآية الأولى فلم يقترن بها ما يعطى ملفوظاً به مع أنه قد قصدت الإحاطة، فلم يكن بد من إعادة - ما - استئناف إحصاء وتأكيد، فلا يلائم كلا من الموضعين إلا ما ورد فيه. الآية الثانية من سورة التغابن - قوله تعالى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (التغابن: 9)، وفي سورة الطلاق: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (الطلاق: 11)، للسائل أن يسأل عن زيادة: "يكفر عنه سيئاته " في سورة التغابن ولم يرد في سورة الطلاق مع أن المقصود واحد في الآيتين؟ والجواب عنه، والله أعلم: أنه لما تقدم في سورة التغابن قوله تعالى مخبراً عن المكذبين: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) (التغابن: 7)، وقوله تعالى على لسان نبيه صلي الله عليه وسلم: (بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) (التغابن: 7)، ثم قال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (التغابن: 8)، فأعلم تعالى بقوله (والله بما تعملون خبير) وبين أنه تعالى لا يخفى عليه شئ من أعمال المكلفين، وأن المنبأ به كل

أعمالهم من غير فوات شئ، ثم ذكر تعالى جمعهم ليوم الجمع، ثم أنس المؤمنين فقال: " ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً "، وفي قوله تعالى: " ويعمل صالحاً " إشارة إلى المؤمنين الموعودين هنا، وليس من شرطهم استيفاء أعمال الطاعات إذ يحرز التنكير في قوله: " ويعمل صالحا" ويشعر بهذا المعنى، وما لم تكن العصمة فالتقصير حاصل، ولا انفكاك عن مجترجات، وقد سمع المؤمن " " لتنبؤون بما عملتم " فأشفق من تقصيره وهناته، وتوقع مخوف سيئاته، وتشوف إلى تعرف تفصيل الحال في المنبأ به من الأعمال ليعلم المآل، فوجوب على الكمال بكيفية ما به تقابل أعماله فقيل: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) (التغابن: 9) إذ لابد من محتاج إلى تكفيره إذا كانت السلامة وسبقت السعادة ثم قال: "ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار" إلى آخر الآية، فهذا وجه زيادة قوله تعالى: "يكفر عنه سيئاته" في هذه الآية. ويشهد لهذا المفهوم قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) (الأنبياء: 94) إلى غيرها من الآيات. وأما آية الطلاق فلا داعي فيها إلى زيادة قوله: "يكفر عنه سيئاته" بل سياقها يستدعي ألا يكون ذلك فيها لأن قبلها: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (الطلاق: 10)، والأمر بالتقوى يعم ولا يخص، ثم قال تعالى: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا) (الطلاق: 10 - 11) إلى قوله: (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (الطلاق: 11)، أشار إلى النمط الأعلى من المؤمنين المستوفين أعمال الطاعات، أشار إلى ذلك لفظ: "الصالحات" بالألف واللام، وهذه حال المخلصين المحسنين (من المستجيبين)، ثم تدارك تعالى من لم يبلغ حال هؤلاء من المؤمنين ولحق بهم في النجاة فقال تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، فناسب حال المتقدمين من ذوي الإحسان ألا يقع إفصاح يشعر بعصيان " هم القوم لا يشقي بهم جليسهم "، فوقع الاكتفاء بإيماء "ويعمل صالحاً " وقوله " يدخله جنات" وقوله: "قد أحسن الله له رزقا" (الطلاق: 11) فجاء كل من الآيتين على ما يلائم ويناسب، ولم يكن ليناسب ورود العكس. ****

سورة الطلاق

سورة الطلاق الآية الأولى - قوله تعالي: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: 2 - 3)، ثم قال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرً) (الطلاق: 4) ثم قال بعد: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) (الطلاق: 5) للسائل أن يسأل عن تكرر الأمر بتقواه تعالى أثناء ما ذكره سبحانه من الطلاق والعدة وما يرجع إليهما؟ وعن وجه تخصيص هذا العدد والجزاء على ذلك بقوله في الأولى: (يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) وفي الثانية (يجعل له من أمره يسرا) وفي الثالثة: (يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا). ويمكن أن يجاب عن ذلك، والله أعلم: بأن الأوامر التى دارت عليها هذه السورة وبنيت عليها ثلاثة، الأول: الأمر بالمحافظة على إيقاع الطلاق إذا ضمت إليه الضرورة في وقته لاستقبال العدة حتى لا يقع إضرار بالمطلقة بتطويل عدتها. والثاني: الأمر بإحصاء العدة والمحافظة عليها، وألا تخرج المعتدة من بيتها حيث وقع عليها الطلاق ولا تبيت عنه، إلى ما يرجع إلى هذا، والثالث: إنفاذ ما يقع الاعتماد عليه في إمساك أو مفارقة، من حسن الصحبة والجميل العشرة إن اعتمد الإمساك (أو بالإمتاع) والتلطف رعياً لما تقدم من الصحبة إن عول على المفارقة، فعلى هذه القضايا الثلاث بناء هذه السورة، وعلي الوعظ في ذلك والتأكيد بالتزام تقوي الله والتزام ما حد سبحانه فيما ذكر. ولرعي هذه الأوامر الثلاثة ما ورد الإخبار بجزاء من اتقاه سبحانه في ثلاث كرات، فبإزاء أول قضية من أوامر السورة قوله تعالي: " ومن يتق الله "، أي في إيقاع الطلاق في محله ووقته كما أوضح صلي الله عليه وسلم في قضية عبد الله بن عمر المشهورة، " يجعل له مخرجاً " بحكمه نفسه إن لحقه ندم كما قال تعالي: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) (الطلاق: 1) أي من تقلب الأحوال وصيرورة البغض ودا فيجد السبيل إلى المراجعة سهلاً بالتزامه الوجه الجاري على السنة وأخذه بالطاعة فينشرح صدره بتيسير أمره ويكثر رزقه بتقوى ربه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق2 - 3)، ومن يتق الله في صبره أيام العدة على ما يلزمه من نفقة وسكنى - حيث يلزم ذلك وإن طالت الأيام - فكأن طولها مع ما يتكلفه فيها مظنة للضجر وكرب

النفس، فإذا اتقى الله في ذلك (يسر عليه) تلك المشقة. وقرب عليه أمرها وإن بعدت المشقة، وأنسة في وحشتها وجعل له من أمره يسرا. فإذا اتقى الله عند تمامها والإشراف على انفصالها، وأخذ بالسنة، واتقى الله فيما يختاره تعالى له ويقضيه من إمساك أو فراق، فيلتزم المعروف إن أمسك، ويتبع كل سيئة جرت حال طلاقه وغضبه - من قبح كلام أو قصد مضرة وإن كانت بأدنى إيلام أو إساءة معاملة تنافر المجاملة والمكارمة - بحسنة تقابلها وتمحوها من إظهار التندم، وطلاقة البشر، والإغضاء عن كل ما جرى أيام المنافرة، ويستبدل المناقشة بالمياسرة، فإذا فعل هذا واتقى الله في ذلك كفر عنه سيئاته وأعظم أجره جزاء على تلك الأعمال، ويشهد لما تمهد من جزاء تقوى الله سبحانه في تلك الحالات ما أفصح به ما بعد من الآيات، قال تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (الطلاق: 6) إلى قوله سبحانه: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق: 7)، وتأمل جري هذه الآيات والوصايا الجليلة وما تشير إليه من الإشفاق وجميل التجمل والإنفاق مع ما تقدم تجده جارياً على أوضح التناسب وألج الالتئام، والله أعلم بما أراد. ****

سورة الملك

سورة الملك قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) (الملك: 16 - 17)، للسائل أن يسأل عن وجه تقديم التوعد (بخسف الأرض على التوعد) بإرسال الحاسب من السماء؟ ولم اختير تقديم الوعيد بالخسف؟ وما الفرق بين الوارد هنا والوارد في قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) (الأنعام: 65)؟ والجواب: والله أعلم: أنه لما تقدم ما اتصل به التوعد من قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) (الملك: 15) فحضر في النفوس عند ذلك وتقرر تذكرة هذه النعمة وجليل الامتنان بها شاهداً حاضراً للمتذكر وعليها قراره حال تذكرة وتنعمه بالتقلب فيها حين خطابه متصلاً غير منفصل وملتصقاً غير متباعد كان أنسب شئ لهذه في الموعظة تذكيرة اتعاظاً بخسفها من تحته، حتى كأن ذلك الأمر جاء منه لا من خارج عنه. أما آية الأنعام فتقدمها قوله تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) (الأنعام: 61)، فصرف هذا الخطاب تفكر النفس في عين الجهة التى ذكر منها القهر، فكان أنسب شئ ذكر التخويف من تلك الجهة بخلاف آية الملك. فكل آية من هاتين (الآيتين) تبين حال الأخرى، وإن التناسب إنما هو فيما وردت عليه كل آية منهما، وإن العكس غير مناسب، والله أعلم. ****

سورة القلم

سورة القلم قوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (القلم: 10 - 11) إلى قوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ*سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (القلم: 15 - 16)، وقال في سورة المطففين: (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) (المطففين: 11 - 12) إلى قوله: (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطفيين: 13 - 14)، للسائل أن يسأل عن التعقيب في الأولى بقوله: (سنسمه على الخرطوم) وفي الثانية بقوله: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) مع اتحاد وصف من اعقب بهذا المعقب حاله وحكي مقاله؟ وهل كان يجوز تعقيب آية سورة القلم (بما أعقبت به آية التطفيف وآية التطفيفي بما أعقبت به آية القلم)؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية القلم نزلت في شخص بعينه، قيل هو الأخنس بن شريق، وقيل الوليد بن المغيرة وكان مظهراً لعداوة رسول الله صلي الله عليه وسلم، وهو القائل: سأنزل مثل ما أنزل الله، وكان من أكثر قريش مالاً وولدا، فلهذا قيل فيه: (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) (القلم: 14)، وهو القائل يوم مات إبراهيم ابن النبي صلي الله عليه وسلم: أصبح محمد أبتر، أي لا ولد له، فأنزل الله تعالى علي رسوله صلي الله عليه وسلم: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (الكوثر: 3)، والشانئ المبغض. وأسلم ولده فقطعه الله بالإسلام عنه، فكان هو الأبتر كما أخبر الله نبيه، وصار أولاده في عداد المسلمين الذين هم أولاد رسول الله صلي الله عليه وسلم وأزواجه أمهاتهم، ففي هذا نزلت الآية من قوله: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) (القلم: 10 - 12) إلى آخرها، فأغنى استيفاء صفاته المذمومة عن تعيين اسمه بقوله سبحانه: (سنسمه على الخرطوم) إخبار منه تعالى بأول عقاب ينزل بعدو الله المذكور - والخرطوم الأنف - فكان ذلك يوم بدر، فهذا وعيد لخاص معين أنزل به معجلة، ولعذاب الآخرة أكبر. وأما آية المطففين فليست في معينين بغير مرتكباتهم قال تعالى: (وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ) (المطففين: 12) أي بيوم الدين وهو يوم الجزاء (إلا كل معتد أثيم) مكذب بالوحي،

(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (المطففين: 13) فقال تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين: 14) أي أن المانع لهم من فهم الوحي وأعلم بأنه منزل من عند الله ما غطى قلوبهم من الرين، وهو ما يغشى القلب ويمنعه من الوصول إلى ما ينفعه، وأعاد الضمير في قلوبهم على المعنى من حيث أن المراد هنا جميع من وقع عليهم: " كل " بخلاف أية القلم فإن " كل " فيها واقعة على مفرد، وعبر بكل ليعم المقصود بذلك المراد ومن كان على صفته إبلاغاً في ذمة، والضمير فى سنسمه لمفرد كما تقدم، ولفظ - كل - مطابق بمعناه، وقد تبين أنه لا يصح في كل موضع من السورتين إلا ما وقع به التعقيب به، فلا يناسب آية القلم ما أعقبت به آية سورة التطفيف ولا آية التطفيف ما أعقبت به آية سورة القلم، وأن كل آية منها أعقبت بما هو مناسب لا يلائم غيره، والله أعلم. ****

سورة الحاقة

سورة الحاقة قوله تعالى: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) (الحاقة: 41 - 42)، للسائل أن يسأل عن الوجه في نفي الإيمان عنهم عقب تنزيه ما جاء به صلي الله عليه وسلم من القرآن عن أن يكون شعراً ونفي التذكر عنهم عقب تنزيهه عن أن يكون من قبيل قول الكهان؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن نفي كون القرآن من أقوال الكهنة أمر لا يحتاج إلى كبير (نظر ولا استعمال طول فكر، بل يوصل إلى ذلك بأدنى التفات، فناسب هذا نفي: التذكر، وأما تنزيهه عن إلحاقه بقبيل الشعر وما يرجع إلى نحو ذلك من أقوال الخطباء وأسجاعهم فقد توهم الجاحد الظلوم المتعامي عن النظر وصرف التفكير إلى تدبره والإصغاء إلى سماعه، المترامي إلى التعلق بأدنى شبهة يستريح إليها رجوعه إلى ذلك. فناسب هذا نفي التصديق لأنه إنما يكون عن ركوب إلى نظر وتفكر، فجاء كل عل ما يناسب، والله أعلم. ****

سورة نوح (عليه السلام)

سورة نوح (عليه السلام) قد تقدم ما في سورة المعارج - وقوله في سورة نحو، عليه السلام: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا) (نوح: 24) وبعده: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) (نوح: 28)، للسائل أن يسأل عن وجهه اختلاف ما دعا به نوح صلي الله عليه وسلم على قومه من الموضعين؟ والجواب عن ذلك أن نوحاً، عليه السلام، لما ذكر أولاً في إخبار الله سبحانه عنه عصيان قومه له وقولهم: (لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) (نوح: 23) أي لا تتركوها (وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا) (نوح: 23) إلى قوله: (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا) (نوح: 24)، أردف هذا بما يناسبه من الدعاة في زيادة ضلالهم، ولم يدع هنا بهلاكهم. وأما الآية الثانية فتقدمها دعاؤه، عليه السلام، بهلاكهم وأخذهم في قوله: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (نوح: 26)، فأتبع ذلك بما يناسب فقال: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) (نوح: 28) أي هلاكاً. ****

سورة الجن

سورة الجن غ - قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) (الجن: 26) للسائل أن يسأل عن قوله تعالى: (على غيبه). بإعادة الظاهر مضافاً إلى الضمير، هل ذلك من قبيل ما تكرره العرب لتفخيم الأمر وتعظيمه؟ كما قال قائلهم. لا أري الموت يسبق الموت شئ نغص الموت ذا الغنى والفقيرا وقال تعالى: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) (الحاقة: 1 - 3)، وقال تعالى: (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) (القارعة: 1 - 3)، فيكون قوله: (على غيبه) واقعاً موقع: "عليه"، وتكون الآية على هذا مثل قوله: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) (النمل: 65) وما ورد من مثله وهو الذي يقتضيه قوله تعالى في مطلع هذه الآية: (عالم الغيب)، فلا يجب يكون بين الآي الواردة في هذا المعنى خلاف، ويكون مجمل جميعها على العموم؟ أم يراد بهذه (الآية) خصوص لم يرد بسواها من الآي الآخر وإن كان داخلاً تحت عموم تلك الآي؟ والجواب، والله أعلم: أن هذه الآية مراد بها خصوص ما انفرد سبحانه بعلمه ولم يطلع عليه أحد من خلقه ولا يظهر سبحانه عليه إلا من ارتضاه من رسله مع سلوك الرصد من الملائكة بين يديه ومن خلفه حفظاً لغيبه تعالى من مسترق سمع أو مستطلع، فهذا غيب لا سبيل لأحد من الخلق إليه على مقتضى الآية لا بتكهن ولا تنجيم ولا زجر ولا غير ذلك، وهو كوقوع الساعة وتجليها لوقتها إلى غيرها من غيوب استأثر سبحانه بها ولم يعلم أحداً بشئ منها ما هية فيتشوف مخلوق إلى تعرف وقت شئ منها أو كيفية ظهور أو غاية إذ لولا الإخبار الصدق بماهية الساعة لما وقع لأحد من العالم تشوف إلى تعرف قيامها ولا كنا لنعلم ما الساعة، وإذا لم نعلم ماهية مغيب ما لم نتشوف إلى تعرف ماهو تابع للماهية، فلهذا ضاق عنها نطاق التمثيل حتى أوهم كلام بعض الجلة أن المراد بهذا الغيب الذي استأثر سبحانه بعلمه إنما هو علم الساعة، وان ما سواها يمكن الوصول إليه بالكهانة والتنجيم والإلهام وغير ذلك، ولو أن هذا القائل أراد ظاهر ما يسبق من كلامه لما سلم له، لأنه لو لم نسمع باسم الساعة لعجزنا عن تعرف موجود مقدر الوقوع يسمي

بهذا الاسم، فالذي يجب أن يفهم عن هذا القائل أنه يريد أن لله غيوباً لا تحصي لا يظهر عليها أحداً من خلقه على مقتضى هذه الآية الخاصة بهذا المعنى المجردة له، ومن نحو هذا ما يشير إليه قوله تعالى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) (البقرة: 255)، وإذا أظهر تعالى شيئاً من هذا الغيب فإنما يدركه الخلق أو من شاء الله منهم بعد ظهوره وكيانه، فيعلم إذ ذاك وقد كان هذا الظاهر في غيبه الذي انفرد به عن خلقه لم يعلم أحد من الخلق له ماهية إلا بعد ظهوره، وما غاب عن الخلق أكثر. هذا - والله أعلم - هو المراد بهذا الغيب المذكور هنا، وعليه يحمل ما قدم عما ذكر وإن أوهم من حيث حصر التمثيل أنه غيب الساعة خاصة، وهو ولا بد لم يرد ذلك وغنما أراد غيب الساعة وما كان مثله مما لم تذكر له ماهية، فلم يكن التمثيل كما تقدم إلا بما أعلمنا بماهيته فصح السؤال عنه. وأما أمر الساعة فهذا - والله أعلم - ما يمكن أن يقال إنه الذي تجردت له آية سورة الجن، وأما الوارد في قوله تعالى: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) (النمل: 65) وما ورد من مثله فليس بخاص بل هو عام على إطلاقه وعمومه، ومصرف المنع إلى الإحاطة والاستيفاء والتيقن وحصر جزئيات المعلومات، فلا يعلم ذلك علم استيفاء وإحاطة إلا الله. فهو الذي أحاط بكل شئ علماً وأحصى كل شئ عدداً، ثم لا يمتنع إظهاره سبحانه من شاء من خلقه من غير الرسل على ما شاء مما أشير إليه ولا يتجزأ ما أطلعهم عليه مما عنده سبحانه، ويدخل تحت هذا العموم العلم الذي استأثر سبحانه بعلمه وانفرد به دون خلقه، إلا أن حكم ذلك على ما تقدم وتقرر، ومن نحو العموم الواقع هنا قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الجاثية: 27)، فهذا كقوله: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) (هود: 123)، فملك السماوات والأرض له سبحانه لا شريك له في ذلك ثم قد قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) (آل عمران: 26)، وأعلمنا سبحانه أن نبيه سليمان طلب ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وأتاه الله ذلك، وليس ما أوتيه هذا النبي الكريم صلي الله عليه وسلم جزاءاً له نسبة إلى ملك الله تعالى، ولا يمكن توهم ذلك. وإذا كان ما أوتي سليمان، عليه السلام، هذه حالة فكيف ما أوتيه غيره مما لا يبلغ معشار ما أوتيه سليمان، عليه السلام؟ فكذا الأمر في الغيب، فلا يعلم غيب السماوات والأرض على ما هو علم إحاطة وتفصيل إلا هو سبحانه، يطلع من يشاء من خلقه على ما شاء من ذلك، ولا يتجزأ ما اطلع عليه الكل من نبي ومن سواه مما لم يطلعهم عليه، ثم إن ما عند من سوى الأنبياء والمصطفين من العباد لا يعلم أنهم تيقنوا ذلك، فإذا لم يكن علمهم علم تيقن وتحقيق فإطلاق اسم العلم عليه مجاز بل هو ظن وإن قوي إذ لم بصحبه اليقين ولا الاستيفاء ولا الإحاطة

بالجزئيات فالمتصف به ليس بعالم غيب على الحقيقة، وبهذه الصفة القاصرة هو العلم الموجود عند الكهان وغيرهم ممن لم يستمد من الوحى، وما تسلمه الشريعة، فنفى الإتصاف بعلم الغيب عمن عري عن التيقن أو من لم يحط علمه بجزئيات ما يعلمه ولم يستوفه وجه واضح، والإطلاق بأنه ليس عالماً بالغيب إطلاق صحيح، ثم إن القول بأنه مخير بغيب وبعض تفاصيل عن مغيبات غير معارض ولا متناقض، فلا يلزم على ذلك اعتراض بعلم شق وسطيح وما أخبرا به، لأنهما وإن أخبرا بعجائب وتفاصيل فقد فاتهما غير ذلك من جزئيات في معلومهما الذي أخبرا به لم يخبرا بها ولا أحاطا بعلمهما. وكذا غيرهما من الكهان والمنجمين، فقد وضح محمل آيات العموم. وأما آية سورة الجن فمحملها على الخصوص كما تقدم، ومما يزيد ذلك وضوحاً ويعضد ما قدمنا من المفهوم في الضربين أن الله سبحانه لما ذكر المغيبات الخمس فقال: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) (لقمان: 34) إلى آخرها أفرد علم الساعة بقوله: (إن الله عنده علم الساعة)، وعبارة: " عند" تقتضى بوضعها خصوصاً وقرباً وتمكنا، وكذا أورد تعالى هذا الإخبار حيث تكرر قال تعالى بعد: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي) (الأعراف 187)، وقال تعال: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الملك: 25 - 26)، فجرى هذا الإخبار مقيداً بعبارة "عند" حيث تكرر ولم يشترك معها في آية لقمان ما ذكر بعدها في الدخول تحت حكم " عند" وما تقتضيه من الخصوص بل قال تعالى: (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) (لقمان: 34) إلى ما بعده فتفصيل هذا الإخبار والتفصيل في نظم الآية يفهم منع التساوي، ولا شك أن عدم اعتبار الجزئيات في تركيب الألفاظ يؤدي إلى عدم فهم ما انتظم منها. فإن قيل: إنما ورد بعد ذكر الساعة من قوله تعالى: (وينزل الغيث) إلى ما بعد مفصولاً عن حكم " عند" ليفهم التكرار، إذ المعلوم أن تكرر نزول الغيث - مهما كانت الحاجة إيه - هو عين الإنعام والإحسان إلى العباد، فلهذا ورد بلفظ يقتضي التكرر وهو لفظ المستقبل من الفعل، فأحرز بذلك هذا الإنعام العظيم والتذكير به، فهو كالوارد في قوله تعالى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) (ص: 18) (ولم يقل) مسبحات، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) (الملك: 19)، وهذا كثير فالإحراز ورد تفصيل الإخبار. قلت: قصد هذا المعنى بين الإمكان وإحراز - عند -

ما تقتضيه من معناها كذلك، ولا تعارض بين المقصدين، والإيجاز مقتض حصول المعنيين فجئ بما يحرزهم بأوجز لفظ وأبلغ عبارة، والله أعلم. فإن قلت: فإن التعبير " بعند" قد ورد من الضرب العام من الغيب قال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) (الأنعام: 59)، وهي استعارة عبر بها عن التوصل للغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفاتح إلى المغيب عن الإنسان مما لا يصل إليه من ليست عنده مفاتحه، وقد دخل ذلك تحت حكم " عند" ومقتضاها من الاختصاص، مع أن الآية لم يرد فيها خصوص على علم الساعة على ما تقدم. فالجواب أن هذا مما يزيد ما تقدم وضوحاً إذ قد تبين قبل أن المراد من ذكر الغيب في كتاب الله ضربان. أحدهما خاص وهو المراد في سورة الجن وغنه لا مطمع لأحد من الخلق في الوصول إلى شئ منه على ما مر في ذكر الآية، والثاني عام على ما تقدم والوصول إلى علمه علم استيفاء وحصر بجزئياته مقدراً وغاية وتيقنا لذلك كله جملة وتفصيلا ممنوع، فهو لاحق من هذه الجهة بخصوص الضرب الأول، فلا يحيط بعلمه على ما تبين إلا الله تعالى، فحق لهذا الضرب إذا أريد به ما ذكرنا من الدخول تحت حكم " عند" وهو المراد بهذه الآية، ألا تري أنها مفصحة بذلك في قوله تعالى: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام: 59) فقد وفت هذه الآية بتفاصيل المغيبات وحصرها والإحاطة بها بكل جهاتها ولا يعلمها على ذلك إلا الله سبحانه. ولنتبع هذا بكلام من تعرض لبسط المراد من آية الجن فأقول: وقع في التفسير المنسوب لفخر الدين أبي الفضل بن الخطيب رحمه الله، بعد تقرير مفهوم آية سورة الجن وأن أراد وأن المراد بها ما تقدم من التخصيص، فقال في رده على الزمخشري ومن قال بقوله في إنكار كرامات الأولياء واستجراره مع ذلك إنكار التكهن والتنجيم وما يرجع إلى هذا، ودعواه أن هذا نص القرآن تعلقاً بهذه الآية، فقال أبو الفضل رداً على من ذكرت: واعلم أنه لابد من القطع بأن ليس مراد الله من هذه الآية أنه لا يطلع أحداً على شئ من المغيبات إلا الرسل، بدليل ما ثبت من الأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحاً كانا كاهنين، وإخبارهما بظهور نبينا محمد صلي الله عليه وسلم، (وتعيين زمانه، وشهرتهما بهذا العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار نبينا صلي الله عليه وسلم)، فثبت أنه تعالى قد يطلع على ما يشاء من الغيب غير الرسل. ودليل ثان وهو أن جميع أرباب الملل والأديان مطبقون على صحة التعبير، وأن المعبر يخبر عن وقوع الأشياء الآتية في المستقبل فتقع كما أخبر. ودليل ثالث وهو أن الكاهنة البغدادية التى نقلها السلطان سنجر بن

ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن الأحوال الآتية في المستقبل، وذكر ما وقع على وفق إخبارها. قال أبو الفضل بن الخطيب: وإنا قد رأينا أناساً من المحققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة إخباراً على سبيل التفصيل وجاءت تلك الوقائع على وفق خبرها. قال وبالغ أبو البركات في كتاب المعتبر في شرح حالها وقال: تفحصت عن حالها مدة من ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. ودليل رابع: أنا شاهدنا أصحاب الإلهامات الصادقة، وليس هذا مختصاً بالأولياء بل قد يوجد في السحرة من يكون كذلك، ونري الأخبار النجومية قد تكون مطابقة موافقة للأمور وإن كانوا قد يكذبون في كثير منها، وإذا كان ذلك مشاهداً محسوساً فالقول بأن القرآن مما يدل على خلافة مما يجر إلى الطعن في القرآن وذلك باطل، فعلمنا أن الأولى الصحيح ما ذكرناه، والله أعلم. ونشير إلى ما قدم قبل كلامه هذا وهو أن قوله تعالى (على غيبة) ليس فيه عموم، فيكفي في مقتضاه ألا يطلع سبحانه ولا يظهر خلفه على غيب واحد من غيوبه، فيحمل على وقت وقوع القيامة، فيكون المراد من الآية عقب قوله: (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا) (الجن: 25) يعن وقوع القيامة، فإنه من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد بالجملة، فقوله: " على غيبه" لفظ مفرد مضاف فيكفي في العمل به إرادة غيب واحد، وأما العموم فليس في الآية لفظ يدل عليه. انتهى معنى كلام أبي الفضل، رحمة الله. وقد تحصل مضمنة فيما تقدم بأوفى مما أوردنا من كلامه. فإن قلت: قد تبين ما بين الضربين من العموم والخصوص، واتضحت الحال فيهما، فما وجه انتظام ما ورد في آية لقمان مع ذكر الساعة، وظاهر ما تقدم من التأويل حاكم بالفرق، وإن أمر الساعة يخالف بخصوصه ما ذكر معها من الأربع، والحديث الصحيح قد ورد على مقتضى ظاهر الآية حين ذكر، عليه السلام، مجيباً للسائل فأتبع بقوله: في خمس لا يعلمهن إلا الله، وذلك ملحق لهذه الأربع، بحكم الساعة في خصوص غيبها؟ فأقول، وأسأل الله توفيقه: إن الحديث الصحيح مشير إلى هذه الغيوب، وإنها في استعلامها والإطلاع علي ما شاء تعالى أن يطلع عليه منها ليست على منهج واحد، ألا ترى أن منها أموراً يعظم موقعها في العالم ويعم ويخص كتقلب الدهور والدول وتغير الحالات التي تعم وما يرجع إلى هذا، وهذه هي المرادة بحديث ابن عباس الذي أخرجه الترمذى، قال: " بينما رسول الله صلي الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمى

بنجم فاستنار، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه؟ قالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم فإنه لا يرمي به لموت واحد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك اسمه وتعالى إذا قضى أمراً سبح حملة العرض وسبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح إلى هذه السماء، ثم يسأل أهل السماء السادسة أهل السماء السابعة ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ثم يستخبر أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا وتختطف الشياطين السمع فيرمون - يعنى بالشهب - فيقذفون على أوليائهم فما جاؤوا به على وجه فهو حق، ولكنهم يحرفونه ويزيدون". وفي حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري، وهو أن نبي الله صلي الله عليه وسلم قال: إذا قضي الله الأمر في السماء ضربت (الملائكة) بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا؟ قال ربكم، قالوا: للذي قال الحق وهو العلي الكبير، فيسمعهما مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه فحرقها وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة ويلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا وكذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التى سمعت من السماء". قلت: وهذان الحديثان وما ورد من مثلهما معرفة بقضايا ترتج لها السماوات وتستطلعها الملائكة السبع بجملتها وتختطفها الشياطين مترصدين لتلقفها، ولا يختص بها صنف من الملائكة عن غيرهم، إما ما يتكرر في عالم الغيب من الكون والفساد، من متوالي إيجاد الآحاد، وتكرر نزول الأمطار. وشبه ذلك، فلا يستطلعها من الملائكة إلا آحاد وكلوا بها، وإن تكاثروا عدداً فليس ذلك كالمتقدم في الحديثين لعظيم عمومه، من ذلك حديث ابن مسعود: " يجمع خلق أحدكم في بطن أمة أربعين يوماً ثم يكون علقة ثم يكون مضغة، إلى قوله في الحديث: أذكر أم أنثي أشقي أم سعيد ... الحديث، وكما أشار إليه حديث " " (بياض بالاصل) وقوله فيه: اسق حديقة فلان، إلى ما يرجع إلى هذا القبيل، ولا توقف في أن أربعة الغيوب المذكورة مع الساعة في سورة لقمان راجعه إلى قبيل ما ذكرنا، وذلك كله ليس من تلك المقدورات العامة، بل هى بالنسبة إلى تلك جزئيات يعلمها من وكيل بها من الملائكة، ولا يستخبرها أهل السماوات، ولا تترصدها الشياطين ترصد تلك القضايا العامة، وصحيح الحديث قاض بالفرق البين.

فأشارت الآيات الأربع والأحاديث المشار إليها إلى أن هذا الضرب من المغيبات كأنها تلي في حالها الغيبي ما ذكر معها من أمر الساعة وللساعة خصوص ما تقتضيه " عند" كما تقدم، فهذا - والله أعلم - وجه انتظام هذه الغيوب الأربعة مع ذكر الساعة، وتحصل بهذا الاعتبار تفصيل الغيوب إلى عام وخاص وخاص من ذلك الخاص، وهذا الخاص الأخير لا يعلمه مطلقاً إلا المنفرد بعلمه سبحانه، ثم لا يحيط بالضربين قبله على ما أشير إليه من تفصيل أحكامها على الاستيفاء والإحاطة والحصر إلا هو سبحانه، وأنه تعالى المنفرد بكل الغيوب، ولا يعلمها أحد على ما هي عنده كما وضح قبل وتبين، ولم يبق للطاعنين مدخل بوجه ولا على حال. وأما تخصيص آية سورة الجن بما ورد فيها فوجه ذلك - والله أعلم - إما لم تقدم من قول الجن في إخبار الله تعالى عنهم: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) (الجن: 8 - 9)، فلما تقدم هذا من قولهم وإخبارهم عما كانت الحال عليه قبل بعثة رسول الله صلي الله عليه وسلم، وأن في ذلك من قولهم واطلاعهم على الغيوب أو الكثير منها، أعلم تعالى أن من الغيب ما ليس لهم ولا لغيرهم مطمع في الإطلاع عليه، وأنهم في ترصدهم ومقاعدهم للسمع ممنوعون هم ومن سواهم عما انفرد بعلمه سبحانه وحكم أن لا يطلع عليه أحد من خلقه، فهذا وجه ورود هذه الآية هنا. وهنا انتهى ما ألهم الله تعالى إليه في هذه الآية مما تعرض إليه الإمام أبو الفضل رحمه الله وبسطناه بما يدفع ما يوهمه موجز كلامه في التمثيل للغيب المخصوص، فبسطته بما أرجو أنه مراده ودافع لما يعترض عليه فيه حين أجمل في إغفاله توجيه تخصيص الغيوب الأربعة بذكرها مع غيب الساعة في سورة لقمان ووجه اختصاص سورة الجن بالوارد فيها، وأتيت في ذلك بما ألهم الله سبحانه إليه، وأرجو أنه شاف إن شاء الله، وإن تحمل غفلة أو سهواً فأسأل الله عفوه في ذلك، وعذري أنى لم أجد في ذلك من تعرض لشئ من هذا إلا ما قدمت ذكره مع إشكال الأمر في ذلك)، والله سبحانه أعلم بما أراد. ****

سورة المزمل والمدثر

سورة المزمل والمدثر غ - قوله تعالى في أولاهما: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) (المزمل: 1 - 2) إلى ما بعده وقال في أول سورة المدثرتلوها: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ) (المرثر: 1 - 2) إلى ما بعده، للسائل أن يسأل عما ورد في هاتين السورتين من تسميه صلى الله عليه وسلم في الأولى بالمزمل وفي الثانية بالمدثر؟ وأمره في الأولى بقايم الليل وما أعقب به ذلك في الثانية بإنذار الخلق ودعائهم إلى الله، ما وجه هذا التخصيص في السورتين بما ذكرنا من التسمية والأمر؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن الله سبحانه أمرنا في كتابه العزيز بتعزيز نبينا صلى الله عليه وسلم وتوقيره، ونهانا أن نجري في خطابه على حد تخاطبنا فقال تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) (النور: 63)، وجرى المسلمون بتوفيق الله على ذلك في دعائهم إياه: يا رسول الله، يا نبي الله، غير رافعي أصواتهم في ندائه ودعائه على مقتضى أمره سبحانه بذلك. ثم إن العرب قد علم من حالهم في ذلك أن السيد خاطب عبده متلطفاً به ومشيراً إلى مكانته لديه أو قصد تأنيسه خاطبه باسم يشتقه من حال أو صفة يكون العبد عليها، ويعدل عن معروف اسميته ليريه مكانته ويظهر كريم تحفيه به وعظيم تلطفه كقول نبينا صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه في قضيته المعلومة، وقد وجده نائماً، وقد أثر التراب في جنبه: قم أبا تراب، فعلى ذلك جرى الوارد في نداء نبينا صلى الله عليه وسلم في هاتين السورتين بالمزمل والمدثر. وخصت هاتان السورتان بهما لبنائهما على ما ابتدئ به صلى الله عليه وسلم. فأما تعقيب كل من الاسمين في السورتين بما أعقب به فعلى مقتضى كل واحدة من السورتين وما بنينا عليه، أما الأولة فمبناها على أوامر من جليل أعمال الطاعات مما يزلف عند الله سبحانه، من قيام الليل، وترتيل القرآن، والتجلد والتحمل لتلقي أوامر الكتاب ونواهيه المفهوم في قوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (المزمل: 5)، والأمر بذكر اسمه تعالى تضرعاً وسءالاً، والتبتل إليه سبحانه، واعتماده تعالى وكيلاً، والصبر على قول الضالين من الكفار، والأمر بجميل هجرهم، فهذه أمور ثمانية بين صريح ومكني. وأما سورة المدثر فمتضمنها من الأوامر دون ما في السورة قبلها عدداً، وليس أكثرها من نمط تلك الأوامر، وهي مع ذلك أوامر أولة في الأكثر، فنوسب بين

الآية الثانية

تلك الأوامر العلية من سورة المزمل وبين ما تقدمها في الترتيب الثابت من قوله تعالى في سورة الجن: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) (الجن: 26 - 27) ليعلم نبينا صلى الله عليه وسلم أنه أمام المرتضين من أولئك المصطفين بما خص صلى الله عليه وسلم من الأمر بقيام الليل والترتيل وجليل التلقي والامتثال لما ألفي عليه اعتناء وتخصيصاً محفوظاً فيه مشيراً عليه من القول الثقيل، كما نوسب بين أمره، عليه السلام، بالدعاء والإنذار والتأنيس فيمن أفرط تمرداً وعناداً من عتاة الكفار حين قيل لنبينا صلى الله عليه وسلم تهديداً لعدوه وإعلاماً بما يعقبه كفره: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) (المدثر: 11) إلى قوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) (المدثر: 17)، وقوله (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) (المدثر: 26)، فحصل من مجموع متقدم الإنذار والإعلام بعاقبة المعاندين من الكفار ما تحصل من قوله تعالى في سورة الغاشية تعريفاً لنبينا صلى الله عليه وسلم: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية: 21 - 22)، وانتظم أول (هذا) الكلام العلي وآخره أجل انتظام، وورد كل على ما يجب، ولا يلائم غيره، والله سبحانه أعلم بما أراد. الآية الثانية من سورة المدثر - قوله تعالى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (المدثر: 18 - 20)، للسائل أن يسأل عن تكرر قوله: (قدر) ثلاث مرات في كلام متصل متقارب؟ والجواب، والله أعلم: أن قوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) إخبار عن حال الوليد المنزل فيه هذا حين قال لقريش: إن الناس يريدون الموسم فليكم قولكم في محمد واحداً، وفكر في أقرب ما يمكن أن تستمال به العرب وتصدق قريشاً، ورأى الوليد أنهم مكذبون بأول نظر إن قالوا إنه شاعر مجنون أوكاهن أوساحر، ووافقته قريش لوضوح ذلك من أمره، عليه السلام، مع تصميمهم على عناده، وبهذا أنسه تعالى في قوله: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام: 33). وروي أن الوليد قال لبني مخزوم: والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى. ولما كلم قريشاً في شأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: (تزعمون أن محمداً لمجنون فهل رأيتموه يخرق، وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه قط يتكهن، وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط، وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب، فقالوا في كل ذلك: اللهم لا. وعلى هذا من كلام الوليد ورد الوارد بما جاء بطريقة ما تعجب العرب من مثله من قوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (المدثر: 18 - 19)، كما

تقول (العرب) قاتله (الله) ما أشعره، لا يريدون دعاء على من يقولون له ذلك وإنما يقولون متعجبين، وإنما نزل القرآن بلسانهم، فقوله (فقتل كيف قدر) مناط بمن يصح منه التعجب، والله سبحانه متعال عن ذلك، وكأن قد قيل لهم: هذا مما تتعجبون منه وتقولون هذا الكلام، فقوله تعالى: (إنه فكر وقدر) إخبار عن حال الوليد وتفكره فيما يقول وتقديره ما يرد عليه إذ قال بأنه عليه السلام شاعر أو مجنون أو غير ذلك مما رموه به، وأنهم مكذبون في كل ما يرومون رميه به من ذلك لبيان حاله عليه السلام، وقوله: (فقتل كيف قدر) تعجب من إصابته في نفي الجنون والتكهن والشعر عنه صلي الله عليه وسلم في قوله: لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، فصدق تقديره في هذا لو أتم الله له الأمر. فالأول إخبار أعنى قوله: (إنه فكر وقدر)، والثاني تعجب عن إصابة تقديره بعد الفكر وهو قوله: (فقتل كيف قدر)، والثالث وهو قوله: (ثم قتل كيف قدر) تأكيد للتعجب من حالة في تحويمه لوا سابقة: (سأرهقه صعوداً)، والسابقة هي التي حملته على أدباره واستكباره فقال: (فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (المدثر: 24)، فنكص على عقبيه لما سبق له بعد مقاربته وتحويمه، (وبإزاء) ما تقدم من مقاربته وتحويمه في تنزيهه النبي صلي الله عليه وسلم عما رموه به ورد اتعجب، وفي طي الكلام شديد توعده على كفره بعد أن تبين له الأمر فضل على علم، ومثل هذا التكرار استعظاماً للواقع موجود في فصيح كلامهم، ومنه قول الشاعر. ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي. وجاء بثم لتحرز نية اعتناء بهذا المعطوف بها وأنه أكد من الأول فوضح وجه ورود ما يتوهم تكراراً واستدعاء مقصود الكلام إياه، والله سبحانه أعلم. الآية الثالثة من سورة المدثر قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (المدثر53 - 56)، وقال في سورة الإنسان: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (الإنسان: 29 - 30). للسائل أن يسأل عما بين الآيتين من الاختلاف؟ وورود الضمير في قوله: " إنه " في الأولي مذكراً وتأنيثه في الثانية؟ والجواب، أن هذا مما لا إشكال فيه لأن المذكر به عظة أو موعظة وهو أيضا وعظ وتنبيه. فتارة تراعى العرب في مثل هذا جهة التذكير وتارة تراعي جهة التأنيث، فتحمل

الضمير على ما تقدره من تأنيث وتذكير، وهذا كثير ومنه قول بعض العرب: فلان جاءته كتابي (فمزقها) فيسأل عن التأنيث في قوله: جاءته وفي قوله فمزقها فيقال: أليست بصحيفة، وقال تعالى: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى) (البقرة: 275). وأما فواصل الآيتين ومقاطعهما فمراعي فيها موافقة ما اتصل بها للتناسب مع اتحاد المعنى، ألا تري صحة بناء ما في آية الإنسان على ما في آية المدثر لو قيل في الكلام إنه تذكرة فمن شاء ذكره فاتخذ إلى ربه سبيلا بتذكير ما ذكر به، ثم اقتضت الفواصل المناسبة. ولما اكتنفت آية المدثر فواصل تكون في الوقف هاء من لدن قوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) (المدثر: 50 - 51) إلى قوله: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (المدثر: 56) ناسبها قوله: (فمن شاء ذكره). وأما آية سورة الإنسان فما قبلها وما بعدها من الفواصل مستدع أيضا ورود الهاء على ما وردت فقيل: (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) ليجري على ما تقدم في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا) (الإنسان: 23) وما بعد، ولم يكن ليناسب هنا ما ورد في سورة المدثر من قوله تعالى: (فمن شاء ذكره)، كما لا يناسب قوله تعالى: (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) ما ورد في سورة المدثر، فكل هذا لا إشكال فيه لرعي المناسبة وحصولها في كل من السورتين على أتم وجه، والله أعلم. ****

سورة القيامة

سورة القيامة قوله تعالى: (إِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (القيامة7 - 9) يسأل عن إعادة القمر في الفاصلتين؟ والجواب عنه أن ذلك لبيان أهوال القيامة وتعظيمها، والعرب تستعمل هذا فيما تقصد به التهويل والتعظيم، ومنه لا أري الموت يسبق الموت شئ نغص الموت ذا الغنى والفقير فكررت المو ثلاث مرات تعظيماً لأمره، كما قال تعال (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) (ص67 - 68) وقد اجتمع في آية القيامة قصد التعظيم ورعي الأسجاع فتأكد الحامل على التكرير، وإذا تكرر احد النيرين المراد اجتماعهما أغنى ن تكرر الآخر، وطلبت الفواصل منها ما يناسب فجاء على أتم وجه في البلاغة، والله أعلم. الآية الثانية قوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) (القيامة: 34 - 35) يسأل عن إعادة اللفظ وفائدة ذلك؟ ويستجر من ذلك استدعاء اشتقاق اللفظ ومعناه. والجواب عن ذلك: والله أعلم: أنه لما تقدم وصف المجرم المكذب بقوله: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) (القيامة: 31 - 33) - أي يختال في مشيته ويتبختر عضداً لتكذيبه وإغناء بكفره - كان مظنة للتعريف بسوء عاقبته واستحقاقه العذاب فقيل: (أولى لك فأولى)، فعدل بالكلام عن إخبار الغيبة إلى الخطاب تحكيماً لاستحقاقه نيل الجزاء على فعله، وهو كلام يقال لمستوجب الامتحان، جار مجرى الدعاء وقد جعله بعضهم مقلوباً من قولك: ويل، فهو على هذا من الدعاء بالويل، وكأن قد قيل للمخاطب به أعظم الويل وأشده له، ويستجر التعجب الجاري من الدعاء، وكأن قد قيل في هذه الآية: الويل له ثم أشد الويل له، فأكد بتكرير اللفظ إشعاراً بالأهلية والاستحقاق كما قالوا: ويلا له ويلا ويلا. وعطف بثم المقتضية رتبة في المعطوف بها وضرب تهمم واعتناء ليكون الدعاء ثانياً للمولي به تأكيداً أبلغ من الأول، وذلك من معنى "ثم" وهو هنا قائم مقام مهلة الزمان ليبلغ عندها (معه) الغاية فيما قصد منه.

ويبين المعنى المفهوم هنا من لفظة: (أولى) قوله تعالى في سورة القتال: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (محمد: 20)، فلما ذكر سبحانه من حال المنافقين عند نزول سورة محكمة واضحة المقاصد ما ذكر مما يشهد بقبح ضمائرهم وسوء سرائرهم اتبعه بالدعاء عليهم فقال: (فَأَوْلَى لَهُمْ) (محمد: 20)، كأن قد قال: فأشد الويل لهم. قال (سبحانه) لنبيه عليه السلام: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) (محمد: 21)، (قدرة سيبويه، رحمه الله: طاعة وقول معروف) أمثل، ونظير هذا الوارد في سورة القتال، وبيان مناسبة التحامة قوله تعالى: (وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا*إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) (الفرقان: 11 - 12) إلى قوله: (وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) (الفرقان: 14)، ثم قال: (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (الفرقان: 15)، فقوله: (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ .... ) الآية إلى آخرها مع ماقبله نظير قوله في القتال: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) مع من قبله. *****

سورة الإنسان

سورة الإنسان قوله تعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) (الإنسان: 15 - 16)، ثم قال بعد: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا) (الإنسان: 19)، للسائل أن يسأل عن بناء الفعل في الآية الأولى لمهول ولم يسم الفاعل وبنائه في الثانية للفاعل؟ ولم يذكر مستدعاه المجرور فلم يقل بكذا، ما الفائدة في ذلك؟ وهل الفاعل في الآية الثانية هو الذي لم يسم أولاً في قوله: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ)؟ والجواب عن ذلك أن بناء الآيتين في هذه السورة على تعظيم حال أهل الجنة وما أعد الله لهم، فذكر فيها ما يطاف (به) عليهم من أواني الفضة والأكواب بالطعام والشراب، وما يمزج به شرابهم من الزنجبيل والعين التي تسمى سلسبيلا، ثم ذكر الطائفون عليهم بذلك، ووصفوا بكونهم ولداناً لا أثر عليهم للعياء ولا يلحقهم في طوافهم مشقة وأنهم كالؤلؤ المنثور حسناً وتناسباً، فلما ذكرت أحوالهم على التفصيل، وقصد الاستيفاء لما منحوه، ناسب ذلك إيراد تنعمهم مفصلا بذكر المطاف به مستوفى، ثم ذكر الطائفون وقدم المطاف به لأنه الذي تنمهم تناولا واتصالا وتطعماً وغذاء مأكلاً ومشرباً، فكان أهم للتقديم، ثم أعقب بذكر الطائفين وهم الولدان المخلدون، فكمل مفصلا تفصيلايحرز الاعتناء في التعريف والثناء، وقد جمعت هذا المفصل آية واحدة وهي المفسرة لما ذكرته من (أن) الطائفين بأواني الفضة والأكواب هم الولدان المذكورون بعد وذلك قوله تعالى في سورة الواقعة: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) (الواقعة: 17 - 18)، وضح الجواب عن الأسئلة الثلاثة على أبين وجه، والله أعلم. *****

سورة المرسلات

سورة المرسلات قوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين) للسائل أن يسأل عن تكريرها عشر مرات؟ وعن الترتيب فيما تخلل متكرر هذه الآية من الآيات وإبداء الفائدة في كل آية واختصاصها بموضوعها؟ وعن الفرق الوارد من هذه الآية هنا وفي سورة التطفيف من حيث تكررت هنا ولم تتكرر في سورة التطفيف؟ فهذه ثلاثة سؤالات في ثانيها تفصيل. والجواب عن الأول: أن سورة الإنسان لما تضمنت التعريف بحال الفريقين ذوي السعادة وأهل الشقاء، وابتدئت بذكر حال المكذبين فقال تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا) (الإنسان: 4)، ثم أردف هذا بالتعريف بحال وي التنعم وجرى في وصفهم إطناب، ثم عاد الكلام إلى حال من تقدم (فقال: (إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا) (الإنسان: 27)،فلما قدم هذا من وعد الكافرين أقسم تعالى على وقوعه إبلاغاً في الإنذار فقال تعالى: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) (المرسلات: 1) إلى قوله: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) (المرسلات: 7)، ثم عرف سبحانه بصفة يوم الوقوع، وكأنه على تقدير سؤال كأن قد قيل: ومتى ذلك؟ فقال: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ) (المرسلات: 8 - 9) إلى قوله: (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) (المرسلات: 13)، ثم أكد هول ذلك اليوم بسؤاله صلي الله عليه وسلم عن تعرفه فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ) (المرسلات: 14) تعظيماً لأمره وإنباء بأهواله وشدائده، ثم قال: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (المرسلات: 15)، ثم تكرر هذا الدعاء بالويل الحال بهم سبع مرات - رعيا لما تقدم في سورة الرحمن - آخرها: (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (المرسلات: 39 - 40)، ثم رجع الكلام إلى التعريف بحال الناجين في آيات ثلاث لم يتخللها الدعاء بالويل لئلا يشوب بشارتهم تنقيص فقال تعالى (إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون) إلى قوله: (إنا كذلك نجزي المحسنين) (المرسلات: 41 - 44)، ثم عادت الآي إلى ما بنيت عليه السورة من وعيد المكذبين وتخويفهم إلى آخر السورة، وتكرر فيها ذلك الدعاء بالويل للمكذبين ثلاث مرات، طوبق بها عدد آيات وصف المتقين ليكون زيادة في تنكيل المكذبين وتحسرهم بسماع حال من حاله على الضد منهم، فتلك العشرة التى تضمنتها السورة. فإن قلت: لم فصل بين ما جرى من الآي المتقدمة وبين هاتين الآيتين من قوله: (المرسلات: 46) مع أن جميعها راجع إلى مقصد واحد

من تقريع المكذبين ووصف أحوالهم، لم فصل بين ذلك بكر المتقين وأحوالهم؟ قلت: بدأ أولاً بتوبيخهم في عدم اعتبارهم بما ذكروا به من إهلاك من تقدمهم ممن كذب، وبدأة خلقهم من ماء مهين، وجعل الأرض تكفت إحياءهم وموتاهم، ثم عرفوا بجزائهم الأخراوي وما يشاهدون ويقال لهم عند مصيرهم إلى العذاب ووصف جهنم، ثم أعقب بذكر الضد من حال المتقين ليكون زائداً ومحركاً لندم المكذبين حين لا ينفع الندم، وتم هذا المقصد على أتم مناسبة، ثم رجع إلى الضرب الآخر المتقدم من التوبيخ بذكر حالهم الدنياوي في تنعمهم (وتمتعهم)، وأورد ذلك بصغية الأمر تهكماً بهم وقيل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ) (المرسلات: 48)، فلم يكن الوارد في هاتين الآيتين ليناسب ما تقدم من توبيخهم، ففصل عنه. والجواب عن السؤال الثاني: أن وجه الترتيب فيما تخلل متكرر آية الدعاء من الآيات أنه لما ذكر سبحانه أهوال ذلك اليوم في قوله: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (المرسلات: 8) أعقب تعالى بتوبيخ المكذبين على غفلتهم عن التذكر بأخذ من تقدم من مكذبي الأمم وإهلاكهم بجزائهم فقال تعالى: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) (المرسلات: 16) أي فهلا اتعظوا بهم، كما قال تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) (الأنعام: 6)، وقال تعالى: (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ) (الرعد: 6)، (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ) (القمر: 43)، ثم أردف سبحانه بقوله: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) (المرسلات: 20)، فذكر بأصل الخلقة وتطور الإنسان وتقلبه إلى كمال أمره بتعرف الخطاب وكمال التعقل كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (يس: 77)، ثم ذكر سبحانه خلي الأرض ومنافعها وما بها أرساها من الجبال وفجر فيها من المياه لسقينا، فحصل التذكير بضروب ثلاثة وهي: إهلاك الأمم السالفة بتكذيبهم، وخلق الإنسان، وخلق الأرض وما جعل فيها، ثم أعقب بما ياقل لهم في الآخرة وما يشاهدونه مما يحل بهم جزاء على تكذيبهم وتعاميهم عن الاعتبار فقال (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (المرسلات: 29) إلى قوله: (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) (المرسلات: 39) ثم ذكر تعالى حال المتقين ومصيرهم في ثلاث آيات تأنيسا للمؤمنين، وعلى المطرد في الكتاب العزيز من ذكر الإعقاب، متى ذكر أحد الفريقين من أهل النجاة وأهل الامتحان أن يعقب بذكر الفريق الآخر ثم عاد الكلام إلى تهديد من قدم وأعقب بما يلائم من امتناعهم عن الاستجابة والخشوع. والجواب عن السؤال الثالث: أن سورة التطفيف لم تبن على التفصيل المقصود هنا فلم تتكرر فيها آية الدعاء، والله أعلم. ****

سورة التساؤل

سورة التساؤل قوله تعالى: (كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون)، يسأل عن تكرر التهديد وفائدته؟ والجواب عن ذلك: قد تقدم أن العرب متى تهممت بشئ أرادته لتحققه وقرب وقوعه أو قصدت الدعاء عليه كررته توكيداً، وكأنها تقيم تكرارها مكان القسم عليه والاجتهاد في الدعاء عليه حيث يقصد الدعاء، وإنما نزل القرآن بلسانهم وكأن مخاطباتهم جارية فيما بين بعضهم وبعض، وبهذا المسلك تستحكم الحجة عليهم في عجزهم عن المعارضة، وقد تقدم هذا وتقرر، وعلى ذلك يجري ما ورد في هذا الوعيد. ومنه قوله تعالى: (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (المدثر: 19 - 20) وقوله: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) (القيامة: 34 - 35) ومنه: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) (التكاثر: 6 - 7) وهو كثير. الآية الثانية - قوله تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا) (النبأ: 24 - 26)، (وقال في أهل الجنة) (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا) (النبأ: 31 - 32) إلى قوله: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) (النبأ: 36)، للسائل أن يسأل عن موجب الفرق بين الفريقين حتى قيل في أهل النار: (جزاء وفاقاً) وفي أهل الجنة (جزاءً من ربك عطاء حساباً) مع أن كل ذلك جزاء؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن الله سبحانه أعلمنا أنه يجازي على الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، على ما لا عين رأي ولا أن سمعت ولا خطر على قلب بشر، قال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) (الأنعام: 160)، وقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) (البقرة: 261)، وقال تعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 17)، وقال: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) (فصلت: 31) وقال تعالى في الجزاء على السيئات: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى: 40)، وقال تعالى: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الطور: 16)، فحصل من هذا أن حكم السيئات المقابلة بأمثالها، وذلك فيمن نفذ عليه الوعيد ولم يغفر له، إذ المعتقد أنه تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، وأنه لا يخلد في النار إلا الكافر،

فإذا تقرر ما ذكرنا فاعلم أن تسميه ما يمنحه الله سبحانه أهل الجنة جزاء إنما ذلك فضل منه سبحانه، إذ الجزاء لهم على أعمالهم أكثر من أعمالهم بوعده سبحانه، فإذا إنما حاصلة عطاء وإحسان وإنعام، وإنما سمى جزاء من حيث قوبل به عمل وارتبط به بحسب الإنعام، إذ لا يجب عليه شئ، فهذا حال الجزاء والإحسان. وأما الطرف الآخر فاسم الجزاء عليه أوقع وأطبق من حيث المقابلة، فلهذا قيل في هذا (جزاء وفاقاً) كما قال تعالى: (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ) (غافر: 17) (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الطور16)، وأما الجزاء الإحسانى فقد فاق الوفاق وعجز عنه التقدير، فلهذا أعقب قوله تعالى: (جزاء) بما يشعر بجريانه على حكم الإنعام والإحسان فقال تعالى (من ربك)، وفي هذه الإضافة ما يشعر بعظيم الرحمة وزلفى القرب بقوله: (من ربك)، ثم قال: (عطاء) فاعلم أنه لا يماثل ما ارتبط به من عمل العبد بل يفوق رجاء العبد وتقديره، ثم قال تعالى: (حسابا) فأشار إلى التضعيف المتقدم، ولم يكن ليلائم جزاء السيئة أن يقال فيها: (من ربك)، ولا لتسمى عطاء ولا حسابا لما بيناه، فورد كل على ما يناسب، ولا يمكن فيه العكس، والله أعلم فإن قيل: قد ورد التصنيف فى جزاء السيئات قال تعالى: (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ) (هود: 20). فالجواب أن التضعيف هنا ليس على الحد المتقدم في تضعيف جزاء الحسنة، فإن المراد هناك أن الحسنة الواحدة يتضاعف عليها الجزاء بعشر أمثالها إلى أكثر كما تقدم، وأما المراد بتضاعف عليها الجزاء بعشر أمثالها إلى أكثر كما تقدم، وأما المراد بتضعيف العذاب بتكثيره بحسب تكثير المجترحات، لأن السيئة الواحدة لا يضاعف الجزاء عليها بدليل قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى: 40)، وقد تمهد هذا، وتقدم بقبل قوله في أهل الامتحان: (يضاعف لهم العذاب) ما يشهد بما ذكرته يبين المراد وهو قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) (هود: 18 - 19)، فهؤلاء كذبوا على ربهم وصدوا عن سبيله وبغوها عوجاً، وكفروا بالجزاء، فهذه مرتكبات عذبوا بكل مرتكب (منها) فتضاعف عليهم العذاب لتضاعف مرتكباتهم، لكل مرتكب منها عذاب يخصه فليس ما ذكر من التضعيف في هذا الطرف على حد ما في الطرف الآخر، وقد بين القرآن ذلك بغير الجواب عن تخليدهم وكيف نبه عليه أنه وفاق لكفرهم. *****

سورة النازعات

سورة النازعات قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) (النازعات: 34)، (وقال) في سورة (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ) (عبس: 33) والمراد بهما القيامة. يسأل عن وجه افتراق العبارة؟ وهل كان يحسن ورود الصاخة هنا والطامة هناك؟ والجواب ن ذلك، والله أعلم: أن الطامة والصاخة وإن أريد بهما في السورتين شئ واحد فإن اسم الطامة أرهب وأنبأ بأهوال القيامة لأنها من قولهم طم السبل إذا علا وغلب. وأما الصاخة فالصيحة الشديدة من قولهم صخ بأذنيه مثل أصاخ فاستعيرت من أسماء القيامة مجازاً لأن الناس يصيخون لها، فلما كانت الطامة أبلغ في الإشارة إلى أهوالها خص بها أبلغ الصورتين في التخويف والإنذار، وعلى ذلك بنيت سورة النازعات، ألا ترى قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (النازعات: 6 - 7) ووصف الطامة بالكبرى، وما أتبع به بعد، وابتداء السورة وختامها، فكلها تخويف وترهيب، فناسبها أشد العبارتين موقعاً وأرهبها. وأما سورة عبس وتولى فلم تبن على ذلك الغرض وإنما بنيت على قصة عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، وذلك مشهور، ثم ورد قوله: (فإذا جاءت الصاخة) عقب التذكير بقوله: (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) (عبس: 11) والتحريك للاعتبار بقوله: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) (عبس: 24) إلى قوله: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) (عبس: 32)، ثم اتبع بعد ذكر الصاخة بقوله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) (عبس: 38 - 39). فسورة "النازعات" على الجملة أشد في التخويف والترهيب فناسبها أبلغ العبارتين من أسماء القيامة في التخويف (والإنذار بحالها، وليست سورة " عبس وتولى "كسورة "النازعات " في التخويف) والترهيب فناسبها إيراد اسم القيامة بالصاخة، إذ ليس في الإرهاب كالطامة فجاء كل على ما يناسب، ولا يناسب عكس الوارد على ما تمهد، والله أعلم. ******

سورة التكوير

سورة التكوير قوله تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) (التكوير: 6)، وفي سورة: (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ) (الإنفطار: 3)، يسأل عن اختصاص الأولى بقوله: "سجرت" والثانية بقوله "فجرت"؟ والجواب عن ذلك - والله أعلم - أن قوله: "سجرت" معناه ملئت، من قولك سجرت التنور إذا ملائته بالحطب، وقرئ مخففاً ومثقلاً والمعنى واحد، والمراد اجتماع مياهها وأما قوله: "فجرت" فتح بعضها واختلط العذب بالمالح فصار بحراً واحداً بزوال البرزخ الحاجز بينهما، وكل من الإخبارين (يؤدي معنى غير المعنى الآخر، فإن الامتلاء غير الانفجار، ثم كل من الإخبارين) مناط بالآخر لما بينهما من الشبه، ولهذا جرى كلام أكثر المفسرين على تفسير كل واحد من اللفظين بما يحرز المجموع من معنييهما، وتفاصيل ذلك على ما ذكرته مما يقتضى التباين لا الترادف، والإخبار بكل واحد منهما مقصود معتمد لكمال المراد. وإنما خصت سورة الإنفطار بلفظ الإنفجار ليناسب مطلع السورة وافتتاحها، ألا ترى في انفجار العذب إلى المالح والمالح إلى العذب وبعضها إلى بعض انفطار ناسب انشقاق السماء وانفطارها. فانفطار السماء، وانفجار البحار، وبعثرة القبور، وانتشار النجوم، كل ذلك متناسب أوضح تناسب وأبينه. وحشر الوحوش وتزويج النفوس، وتسجير البحار، هذا كله اجتماع وائتلاف يناسب بعضه بعضاً، كما أن انفطار السماء، وانتثار الكوكب، وتفجر البحار، وبعثرة القبور، يناسب بعض ذلك بعضاً، فالتحام هذه الجمل في السورتين أبين التحام وأوضحه ملاءمة وتناسباً. فورد كل من ذلك على ما يجب ويناسب، والله أعلم بما أراد. الآية الثانية (منها) قوله تعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) (التكوير: 14)، وفي سورة الإنفطار: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (الانفطار: 5)، (للسائل أن يسأل عن موجب الاختلاف مع اتحاد المقصود في السورتين)؟ والجواب عن ذلك (والله أعلم) أن المعنى في الآيتين واحد، إذ الذي تحضره كل نفس هو الذي قدمت من عملها وأخرت، إلا أن كلا من الموضوعين في السورتين خص بما يناسبه. أما الآية الأولى فإنه لما انحصر فيها وفيما قبلها من أول قوله: (إِذَا الشَّمْسُ

كُوِّرَتْ) (التكوير: 1) إلى آخر قوله: (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) (التكوير: 13) الأهوال، من لدن ابتداء نفخة الصعق، إلى انتهاء تلك المقامات بتسعير الجحيم، وإزلاف الجنة، وهو عبارة عن إدنائها لداخلها، وجئ بتلك الإخبارات منسوقة بالواو المقتضية الجمع حتى كأن تلك المقامات قد عبر (عنها) بلفظ واحد وتحصلت حاضرة للتصور الذهني، ناسب ذلك تقدير الأعمال المترتب عليها الجزاء حاضرة والعبارة عنها بما يحصل ذلك، فقيل: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) (التكوير: 14)، وكأن قد قيل: إذا حضرت هذه الأهوال مدركة للعيان حضرت أعمالكم بالتذكير لها ومطالعتها مكتوبة محصورة في الصحف التى لا تغادر صغير ولا كبيرة إلا محصاة فيها، يبين هذا قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى) (النازعات: 34 - 35) وقوله تعالى: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) (الكهف 49). أما الآية الثانية فإنه لما كان قوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) (التكوير: 14) غير مفصح باستيفاء أعمال الخلائق جئ بهذه الآية بعدها مشيرة إلى الحصر بما أشير إليه من ضبط طرفي أعمال المكلفين فقيل: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) (التكوير: 14) من متقدم عملها ومتأخرة، واقتضى التناسب تقدم الإحضار حيث ذكر، وتأخير ذكر التقديم والتأخير حيث ذكر، واتصل كل بما يشاكله ويلائمه، ولا يمكن سواه، إذ التعريف بالإحضار والحصر بذكر ما قدم وما أخر مقصود، معتمد، إما أن يذكر ذلك على الاستيفاء في كل من السورتين من غير تفصيل، وذلك تكرار من غير داع ولا مسوغ له، وأما أن يذكر مفصلاً على غير ما ورد وذلك غير مناسب، فلم يبق إلا وروده على أتم الملائمة والمناسبة، وهذا على رعي ترتيب القرآن على ما تقرر عليه، فعرفت الآيتان بإحصاء الأعمال المحضرة ما تقدم منها وما تأخر أي ما عمله المكلف في أول عمره وبدء تكليفه وفي آخر عمره وختم عمله كما أخبر تعالى من قوله كما أخبر تعالى من قول المجرمين: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) (الكهف: 49) فقدم ذكر إحضارها أولا ليناسب به ما تقدم، وآخر ذكر إحصائها ليعلم بالحصر والإستيفاء، وجاء كل على ما يناسب، والله سبحانه أعلم بما أراد. ****

سورة الإنشقاق

سورة الإنشقاق قوله فيها: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) (الإنشقاق: 2)، وتكرر ذلك بعد لا سؤال فيه لأن كل واحد من الإخبارين معقب به غير ما أعقب به الآخر، فالأول إخبار عن السماء في طاعتها وانقيادها، والآخر إخبار عن الأرض بمثل ذلك، وإن كل واحدة منهما سمعت وانقادت، انفطرت السماء وتشققت وانتثرت نجومها، وأزيلت الجبال عن الأرض فامتدت وألقت ما تحمله من الأموات وغير ذلك مما استودعته من المعادن والكنوز وتخلت عنها سامعة مطيعة، وإن كان الإخبار الأول عن السماء والآخر عن الأرض فلا تكرار. آية ثانية منها قوله (تعالى): (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ) (الإنشقاق: 22 - 23)، وفي سورة البروج: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ) (البروج: 19 - 20)، للسائل أن يسأل عن اختصاص الأول بقوله: " يكذبون " بلفظ المضارع والثانية بقوله: (في تكذيب) بلفظ المصدر مع اتحاد المعنى المقصود؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية الانشقاق تقدمها وعيد أخراوي كله لم يقع بعد وهم مكذبون بجميعه، فجئ هنا باللفظ المقول على الاستقبال - وإن كان يصلح للحال - ليطابق الإخبار، لأنه عما يأتى ولم يقع بعد، فجئ بما يطابقه في استقباله. فأما آية البروج فقد تقدمها قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) (البروج: 17 - 18)، وحديث هؤلاء وأخذهم بتكذيبهم قد تقدم ومضى زمانه، وهؤلاء مستمرون على تكذيبهم فقيل: (في تكذيب)، وجئ بالمصدر ليحرز تماديهم وأن ذلك شأنهم أبداً فيما أخبرهم به وفيما يدعوهم إليه وينهاهم عنه، ولفظ المصدر أعطى لما قصد من هذا من لفظ المضارع، فجئ في كل من الآيتين بما يناسب. ******

سورة البلد

سورة البلد الآية الأولى منها - قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) (البلد: 1 - 2) للسائل أن يسأل عن تكرير لفظ البلد وجعله معطوفاً وفاصلة في الآيتين؟ وكيف موقع ذلك في البلاغة وعند الفصحاء؟ والجواب أنه قد تقدم أن العرب مهما اعتنت بشئ وتهممت به كررته، وإن ذلك منفصيح كلامهم، وإن منه قولهم. وإن صخرا لوالينا وسيدنا ... البيتين والبلد الحرام لم يزل معظماً عند العرب، وما (دام) شأنه كذلك فتكريره مستحسن، مع أن التكرير هنا ليس كالتكرير الواقع في قوله. لا أري الموت يسبق الموت شئ نغص الموت ذا الغنى والفقيرا وقال الآخر: ليت الغراب غداة ينعب دائباً كان الغراب مقطع الأوداج لأن هذا مما أوقعوا فيه الظاهر موقع المضمر المحتاج إليه في ربط الخبر، وفجاؤوا به ظاهراً تهويلاً لأمر الموت فقال: " يسبق الموت"، وهو يريد يسبقه، وهو ضمير لازم جعل موضعه الظاهر تعظيماً له، والكلام واحد حصل فيه الربط بإعادة الاسم ظاهراً، وكذا فعل الآخر في قوله: " كان الغراب مقطع الأوداج "، أعاد الظاهر موضع الضمير، وارتبط الكلام وحسن إعادة الظاهر لما قصد من التهويل والتشنيع وعظيم ما توهم من التفاؤل به، وهذا فيما وقع في جملة واحدة، وأما ما يقع من تكرير المكرر في جملتين إذا كرر اعتناء أو تهويلاً فأفصح عندهم من الواقع في جملة واحدة لحصول مناسبة تحسن كقوله في عجز البيت المتقدم.

الآية الثانية

نغص الموت ذا الغني والفقيرا فتكرير الموت هنا أوسع في التهويل من تكراره في قوله صدر البيت: " يسبق الموت شئ "، لأنا إذا عللنا هذا إنما نقول أعاد الظاهر موضع المضمر لما أراد من تعظيم الموت وتهويل أمره، فإذا عللنا تكريره في قوله: " نغص الموت ذا الغنى والفقيرا " عللناه بهذا وبأن الكلام جملتان فحسن فيهما ما لا يحسن في الجملة الواحدة. وإذا تقرر هذا فاعلم أن الواقع في الآية العلية أجل في البلاغة من هذا كله وأعظم موقعاً في الفصاحة لا تساع مجال التوسع، ألا ترى أن البلد معظم فهذا مسوغ كاف، والكلام جملتان وهذا مسوغ أيضا، والجملة الواقع فيها التكرر جملة اعتراض، وجمل الاعتراض كالكلام الأجنبي بوجه عام، إنما يؤتي بالجملة تشديداً وإنباء بما يقصد من اعتناء أو تحرير كلام، فلكون جمل الاعتراض أجنبية في الأصل عن الكلام حسن فيها ما لا يحسن في غيرها، فساغ التكرير وحسن في الآية من هذه الأوجه الثلاثة. إلا أن القسم إنما وقع بقوله: (أقسم بهذا البلد ووالد وما ولد)، وليس قوله: (أنت حل بهذا البلد) مما وقع به القسم بوجه، وإنما هي جملة اعتراض سيقت بياناً لعظم قدره صلي الله عليه وسلم وأن هذا البلد العظيم الحرمة أحل له ولم يحل لأحد غيره. فكأن قد قيل: أقسم بهذا البلد العظيم لدينا وقد حللناه لك على عظم قدره، وذكره ظاهراً لما يحرز هذا المعنى من تعظيمه لما فيه من التنبيه والتحريك، فسيقت هذه الجملة اعتراضاً وكلاماً قائماً بنفسه. ليس من المقسم به في شئ، وإنما جئ به لما ذكر. وإذا تباين الكلام بجهة ما لم يستثقلوا فيه إعادة الظاهر إذ هو بمثابة ما الثاني فيه غير الأول، فوضح أن الآية واردة على أعلى وجوه البلاغة وأفصح الكلام، وأنه لو جئ هنا بالمضمر مكان الظاهر لم يكن بوجه، والله أعلم الآية الثانية من سورة البلد - قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد: 4)، وفي سورة التين والزيتون: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: 4)، إن سئل عن قوله في الأولى: "في كبد" وفي الثانية: "في أحسن تقويم"؟ فالجواب عنه: أنهما حالان من حالات الإنسان لا تعارض بينهما لأن مصرف كل من هاتين الحالتين بين، وكلام المفسرين في ذلك شاف، وليس هذا بالجملة من الغرض المبنى عليه هذا الكتاب إذ لا إشكال فيه. *****

سورة ألم نشرح لك صدرك

سورة ألم نشرح لك صدرك قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح: 5 - 6) يسأل عن وجه التكرير؟ والجواب عنه: أن هذه السورة تضمنت ذكر إنعامه سبحانه على نبيه صلي الله عليه وسلم، ثم اتبعت تلك المنح الجليلة بما تشركه فيه أمته من التأنيس بتيسير ما عرض فيه عسر للمؤمن في أمر دينه ودنياه، فقال تعالى: (فإن مع العسر يسرا)، فبشر عباده بأن العسر يتبعه اليسر، وتأكد ذلك بأن المؤكدة للخبر، وزيد تأكيداً بالتكرير وتوسيع التأنيس بالإشعار الحاصل من تنكير اليسر وتعريف العسر، فإن العرب إذا أعادت الاسم بأداة العهد - وهي الألف واللام - كان المذكور ثانياً هو المذكور أولاً وسواء كان المذكور أولاً نكرة أو معرفة، تقول: لقيت رجلاً فأكرمت الرجل، إنما تريد الرجل الذي لقيته. فإن قلت: (لقيت) رجلا فأكرمت رجلاً كان الثاني غير الأول، هكذا كلامهم. وقد وقع اليسر في الآية منكراً في الموضعين فأشعر بالتوسعة، ولهذا قيل: " لن يغلب عسر يسرين "، فتحصل من التكرير وتنكير ما نكر توسعة طرف الرجاء والتأنيس، وذلك المناسب لما بنيت عليه السورة، والله أعلم. ******

سورة القلم

سورة القلم قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق: 1 - 2) يسأل عن تكرير "خلق"؟ والجواب عنه: أنهما قصدان، فالمراد أولاً خلق المخلوقات وشتى العوالم، والمراد ثانياً تخصيص خلق الإنسان وأنه خلقه من علق، ولا تكرير على هذا. ****

سورة التكاثر

سورة التكاثر قوله تعالى: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (التكاثر3 - 4)، يسأل عن تكرير قوله: (سوف تعلمون)؟ الجواب: أنه تهديد ووعيد فناسبه التكرير تحقيقاً وتثبيتاً كقوله: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ) (الحاقة: 1 - 2)، و (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ) (القارعة: 1 - 2) وما أتى من مثل هذا، ودخلت " ثم " العاطفة في المعطوف بها كما دخلت في قوله: (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (المدثر: 20) وقد تقدم. ******

سورة الكافرين

سورة الكافرين للسائل أن يسأل عن تكرير ما ورد فيها؟ والجواب أنها لم تتكرر فيها آية واحدة إذا اعتبرت أن كل آية منها تفيد من المعنى وتحرر ما لا تفيده الأخرى بذلك التحرير، فكأنها متباينة الألفاظ لتباين معانيها مع جليل التشاكل وعلي التلاؤم والتناسب. بيان ذلك أنه ورد في سبب نزول هذه السورة أن قريشاً قالوا لرسول الله صلي الله عليه وسلم: أعبد آلهتنا سنة ونعد إلهك سنة، وروي أنهم قالوا: تعالى فلنشترك في عبادة ألهتنا وإلهك فنأخذ الخير حيث كان، فتبرأ صلي الله عليه وسلم من مقالهم وأنزل الله السورة فتلاها عليهم وهم مجتمعون في المسجد. فقوله: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (الكافرين: 2) أي لا أفعل ذلك يما أستقبله من زماني ولا أنتم تفعلونه فيما يستقبل، وهذا إخبار منه سبحانه عن أولئك العصبة أنهم لا يؤمنون، وهم الذين قتلهم (الله) يوم بدر، فهو إخبار بغيب. ثم قال تعالى: (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ) (الكافرين: 4) أي ولا أنا متصف فيما مضى من عمري إلى الآن بعبادة ألهتكم ولا كنتم أنتم فيما مضى متصفين بعبادة الله سبحانه، فحصل من ذلك الإخبار عن حال ما يستقبل منه صلي الله عليه وسلم ومنهم وعن حال ما مضى وتقدم منه صلي الله عليه وسلم ومنهم، فعبر عن أربعة أحوال متباينة وهي: احله، عليه السلام، فيما يستقبل وحالهم، وحاله فيما تقدم قبل وحالهم، فعبر عن هذه الأربعة بأربع آيات، فلا تكرار. فإن قلت: فكيف تنزيل آي السورة على هذا؟ قلت: إن لا النافية إذا دخلت على المضارع المبهم مجردة عن قرينة من لفظ () خلصته للاستقبال، وقد دخلت في أول آية على قوله: " أعبد " فتخلص هذا الإخبار لما يستقبل، ثم بنيت الجملة من قوله: " ولا أنتم عابدون ما أعبد " على ما قبلها ليتقابل الإخبار ويلتئم نظم الكلام، وجئ فيه بالجملة الاسمية لأنها تحرز من حيث تسلط النفي على الصفة أنها لا توجد فيهم ولا يتصرفون بها في شئ مما يستقبلونه، ففي الصفة أحرز بتعميم ما يستقبل من نفي الفعل. فإن قيل: فإذا كان نفي الصفة على ما ذكر فلم لم يأت كذلك أولاً فكأن يقال: لا

أنا عابد ما تعبدون (أو ما أنا عابد) ما تعبدون؟ قلت: لم يكن كذلك لأمرين: أحدهما أنه جواب لقولهم: أعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فلما كان جوابا لفعل أتي فيه بالفعل نفياً لعين ما طلبوه ولو نفي الاسم لما كان مطابقاً لقولهم، والثاني أن الجملة الأسمية إنما نفيها بما لا بلا، وما ليست بمخلصة للاستقبال، ونفي المستقبل مقصود، فلم يكن بد مما يحرزه، فهذا ما حمل أولاً على ما عليه الكلام. وأما الجملة المنفية على هذه وهي قوله: (ولآ انتم عابدون ما أعبد) فتنبيه لما قصد تعريفهم به، إذ هي طرف معرف بحالهم بناء على ما تقدمها من بيان حاله، عليه السلام، فهي جملة جوابهم، وبناؤها على ما تخلص استقباله مغن عن الأداة المخلصة لأن حكمها حكم ما بنيت عليه، وتم بها أنه قد وقع الفعل المبهم في صلة ما وهي معمولة لاسم الفاعل المجموع الواقع خبراً عن " أنتم " ولا يعمل إلا بمعنى الحال والاستقبال، ولكن المعتمد الجوابية على ما تقرر فقد تبين أن قوله: (لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد) إخبار عما يستقبل من الزمان وعن حاله، عليه السلام، فيه وحالهم فيه أيضا. ثم قال: (ولا أنا عابد ما عبدتم) فهذا نفي لما تقدم ومضى على كفاية الحال الماضية ولهذا عمل اسم الفاعل في " ما". ولما كان الإفصاح هنا بالماضي يحرز المقصود جاءت الجملة اسمية لتحصل الماضي والحال. أما الماضي فمهوم ببنية الفعل وهو قوله (ما عبدتم) ولو لم يقع الإفصاح بالفعل لأفهم السياق ما ذكر لأنه قد تقدم ما يستقبل في حق الفريقين فلم يبق إلا ما مضى، ولا مانع من اللفظ، فتعين المقصود. أما الحال فإن الجملة الاسمية إذا دخل عليها النفى حملت على الحال ما لم يقع في الكلام ما يقيدها بغيره، فإن قيل: التقييد بقوله: (ما عبدتم) قلت: قوله: (ما عبدتم) من صلة ما بعد حصول المبتدأ الذي هو أنا وهو اسم الفاعل، فحصل من قوله: (ولا أنا عابد) نفي اتصافه صلي الله عليه وسلم في الحال بعباده آلهتهم، وإنما الحال عندنا الماضي غير المنقطع، قال سيبويه، رحمة الله، معرفاً بما يطلق عليه اسم الحال فقال:، وهو كائن لم ينقطع، فحصل عن المبتدأ والخبر من قوله: (ولا أنا عابد ما عبدتم) الإخبار عن حالة المستمرة على ذلك فيما تقدم متصلة غير منفصلة، وحصل من الجملة الخبرية الواقعة صلة وهي: " عبدتم " أنهم لم يفعلوا ذلك فيما مضى، وقد حصل فيما تقدم استمرارهم على ذلك حال الإخبار، وزيد بياناً وتأكيداً لقوله بعد: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) وقد حصل أيضا فيما تقدم أن تلك حالهم فيما يستقبلونه، فيحصل المجموع أنه صلي الله عليه وسلم تبرأ من عبادة آلهتهم فيما مضى وفي الحال وما يأتي، (وأنهم ما عبدوا الله كما يجب له سبحانه فيما مضى ولا في الحال ولا يفعلون ذلك فيما يأتي)،

وهو الحاصل من قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ) (يونس: 96). ثم قال سبحانه على لسان نبيه صلي الله عليه وسلم: (ولا أنتم عابدون ما أعبد)، هذا في مقابلة قوله: (ولا أنا عابد ما عبدتم) فهو إخبار عن حالة صلي الله عليه وسلم فيما مضى وتقدم من عمره صلي الله عليه وسلم، وقد تبين ما قيل. فإن قيل: لم لم يقل هنا: ولا أنتم عابدون ما عبدت فكان يجرى جري ما بني عليه وقوبل (به)؟ قلت لو قيل: " ما عبدت " لأوهم انقطاعاً، لأن قول القائل: فعلت لا يقتضى الدوام والإتصال، ولكن وإن كان هناك مفهوماً فيما تقدم من مقصود الكلام بالجملة فإن الأولى رفع الاحتمال من اللفظ كما أحرز المعنى، وهو الجاري في الكتاب العزيز. ثم قال (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرين: 6) فحصل التبري، وتوضح التفصيل المتقدم. *****

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص: 1)، قيل في " أحد " هنا: أنه بمعنى واحد وأصله وحد، وربما يعتضد من قال بهذا بقراءة من قرأ: " قل هو الله الواحد " فيجعل هذه القراءة مفسرة للاخرى وهي قراءة شاذة خارجة عن خط المصحف فليست مما يقطع به، وربما عضد هذا القول أيضا بأن أحداً الواقع في الجواب إنما ينبغى أن يكون بمعنى واحد ومرادفاً له لأنه قد صح عن أئمة اللسان اتفاقهم على (أن) أحداً لفظ يخص الواجب من الكلام ويقع عاماً، فتقول: ما جاءنى أحد، فيحصل منه النفى العام، ولا تقول: جاءنى أحد. قال سيبويه، رحمة الله: لوقلت كان أحد من آل فلان لم يكن كلاماً، فإذا ورد في واجب فنيبغي أن يحمل على أنه بمعنى واحد، إذ قد تبين أن أحداً المقتضى العموم والاستغراق لا يرد في واجب ولا يتكلم به فيه، وعلى هذا كلام العرب، فحصل منه أن أحداً لفظ مجمل يكون للفي العام، فهذا لا يقع في (كل) واجب، ويكون بمعنى واحد فيقع في الواجب وغيره، والواقع في سورة الإخلاص من هذا القبيل أعنى الذي أحد فيه بمعنى واحد. فإن قلت: فكيف تري موقع هذا التفسير؟ قلت: أما القول بأن أحداً هنا مرادف لواحد وبمعناه من كل جهة فقول ليس ببدع، ولذلك جري عليه أكثر كلام المفسرين، ولكن فيه ادعاء ترادف للفظين من غير حامل قطعي أكثر من وقوع أحد في قولك أحد عشر، وواحد وعشرون وشبه ذلك، ولا ينكر من كلامهم الاستغناء بالشئ عن الشئ لتقارب ما أو نسبة واشتراك في طرف ما، وما أراك تجد في كلامهم لفظ أحد المجرد عن التركيب والإضافة والعطف وأرادا في معنى واحد ومرادفاً له على القطع أبداً. وإذا ثبت هذا وجب إجراء الكلام على إبقاء كل واحدة من اللفظتين على ما استقر لها في المعنى وإلا يعدل عن ذلك ما وجدت عنه مندوحة. وقد أوضح الاعتبار الفرق بين أحد وواحد من جهة اللفظ وحكمه ومن جهة المعنى. أما الفارق اللفظي فإن لفظ واحد قد فرقوا فيه بين المذكر والمؤنث، قالوا: واحد وواحدة فألحقوا مؤنثة الهاء، وجمعوه فقالوا: وحدان. وأما أحد فلم يلحقوه علامة تأنيث ولا جمعوه. وفرق ثان وهو أنهم استعملوا واحداً في الواجب وغير الواجب تقول: جاءني رجل

واحد ومررت برجل واحد، قال تعالى (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (البقرة: 163) و (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (النساء: 171) و (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ) (سبأ: 46) أي بخصلة واحدة أو بموعظة واحدة، ومن غير الواجب (فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ) (القمر: 24)، (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) (ص: 5)، أما أحد فلا يقع مفرداً عن إضافة أو تركيب في كلام واجب أصلاً، فلا تقول: جاءنى أحد ولا مررت بأحد ولا ورد في كتاب الله سبحانه في كلام واجب إلا قوله سبحانه: (قل هو الله أحد) ويقع في غير الواجب وهو بابه الذي اختص به، تقول: ما جاءنى أحد وما مررت بأحد، قال تعالى: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) (الكهف: 26)، (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110)، (وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا) (الكهف 38)، (لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ) (الجن 22)، (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) (الجن: 2) وذلك كثير جداً. وفرق ثالث وهو أن واحداً يقع تابعاً في أكثر موارده، وهو الوجه فيه، لأنه يجري صفة وإن كان الوصف به عارضاً كما في الأعداد، كلنه (قد) أجرى صفة، وحكم ما ليس بخاص من الصفات لزوم التبعية، ولا يقع أحد تابعاً أصلاً إلا في نادر فلا تقول: جاءنى رجل أحد كما تقول: رجل واحد ولا ما شابه ذلك فهذه فروق (ثلاثة) من جهة حكم اللفظ. وأما الفرق من جهة المعنى فإن واحداً يقع على كل مفرد كان، مما يتصف بالعقل والعلم أو لا يتصف، تقول: رجل واحد وجمل واحد، وهذا خلاف حكم أحد فإنه لا يقع إلا لأولى العلم والعقل من الملائكة والإنس والجن. وفرق ثان، وهو أنك تقول: ما جاءني رجل (واحد) فيحتمل ذلك ثلاث معان: أحدها أن تريد ما جاءني (رجل واحد بل جاءنى) أكثر، والثاني أن تريد ما جاء رجل عناء وقوة بل جاء الضعفاء، والثالث أن تريد النفي العام أي ما جاءنى رجل واحد ولا أكثر ولا قوي ولا ضعيف. والثالث أن تريد النفي العام أي ما جاءنى رجل واحد ولا أكثر ولا قوي ولا ضعيف. فإذا قلت ما جاءنى أحد لم يتحمل غير معنى واحد وهو النفي العام وهذا أوضح فارق بين لفظ واحد (وأحد). فإن قلت: قد تقرر فرق (ما) بين لفظ واحد وأحد (فما الحاصل المعتمد في معنى أحد) ومقتضاه؟ قلت: معناه وحدة لا غيرية معها ولا أثنينية، وإليه يشير ما فسره به أهل اللغة، قال صاحب العين: الوحد المنفرد وهو أوحد في هذا الأمر أي منفرد. وقد استشعر الفرق بين المفسرين من قال: أحد بمعنى واحد فرد من جميع جهات الوحدانية: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: 11) وهو قول بعض جلة المفسرين وقد أحسن. أما اقتصاد الزمخشري على تزاكيه في البيان وتوفر حظه من علم اللسان على أن قال ك أحد بمعنى واحد وأصله وحد ولم يزد على هذا فغير مناسب لمسلكه. وقال بعض الأئمة

الفرق بين أحد وواحد أن الواحد المنفرد بالذات والأحد المنفرد بالمعنى ومنه في أسمائه تعالى: الواحد - الأحد. وقيل واحد اسم لمفتاح العدد ومن جنسه وأحد لنفي ما يذكر معه من العدد، وقيل أحد يدل على محض الوحدة، ألا ترى أنه ناف لما يرد معه يريد في نحو قولك: ما أتانى أحد لانتفاء الواحد وما سواه، بخلاف قولك: ما أتانى واحد إذ قد يحتمل أن يراد أنه أتاك أكثر من واحد، وقد تقدم هذا، ولا يحتمل ذلك قولك: ما أتانى أحد. ومن المعلوم المطرد أن حكم اللفظ المنفى لا يغاير موجبه في غر ما اقتضته أداة النفي ن وأن يبقي الكلام فيما عدا حكم النفي على ما كان ولا يتغير منه شئ سوي انتقاله من الإيجاب إلى النفي، وكذلك الحكم في كل أداة تدخل على لفظ الواجب من ثمن أو استفهام أو عرض أو غير ذلك، هكذا كلام العرب. ولفظ أحد لا يتناول بوضعه غير الوحدة فلو تكلم به في الواجب فقيل جاءني أحد لكان معناه: أحد لا ثاني له بوجه، ولو قلت: جاءني واحد لم يلزم فيه ذلك بل كان يحتمل أن تريد: جاءني واحد يعتد به ويعتمد، ولم ينتف أن يجيء معه من لا يعتد به أو يعتمد عليه، إذ ليس يمنع بوضعه الزائد على واحد إذا غايره من حيث ذكر. فإذا تقرر أن حكم أحد من مقتضى الوحدة ما ذكر، تبين أنه لايتصور ولا يصح بمعناه في واجب حيث يراد المخلوق المحدث، لأن كلا من المخلوقات له النظير والمثيل، حتى إن المتباعدات والمتباينات متماثلة من حيث الافتقار وانسحاب سمات الحدوث ودلائل عدم الاستقلال إلى غير ذلك من شواهد الحدوث، فكلها لا تنفك عن وجود النظراء والأنداد، فلم يصح وقوع لفظ أحد في كلام واجب يقع فيه لفظ أحد لمخلوق لما تبين، وصح ورود ذلك في حق الخالق جل جلاله لانفراده بالوحدانية وتنزيهه عن النظير والمثيل، فورد لفظ أحد حيث صح معناه من الكلام الواجب، (وأمتنع) حيث لا يصح معناه. أما غير الواجب فيصح فيه معنى أحد لصحة معنى الكلام، لأنك إذا قلت: ما أتاني أحد انتفى كل ما يمكن وصفه بالإتيان بمقتضى العموم، فانتفي ما وقع عليه لفظ أحد وانتفي النظير والمثيل، وصح هذا في المخلوق. بخلاف أن لو قلت: أتاني أحد فإنك فيه تتكلم بما لا يصح معنى ولا يعقل، إذ ليس في المخلوقات من لا مثيل له. فلما كان لفظ أحد بالنظر إلى المخلوقين يصح معناه في غير الواجب ورد من كلامهم حيث يصح معناه وامتنع حيث لا يستقيم معناه، ووضع قول أئمة اللسان أنه لا يرد في الواجب، يريدون في محاورات المخلوقين وتخاطبهم، إذ لا يصح معناه هناك، فأما في حق الخالق جل جلاله فهو موضعه الذي يصح فيه ولا يتعداه، ولم يتعرض النحويون لعلة امتناعه في الواجب، بل اكتفوا بتقرير السماع من غير تعرض للعلة، إذ لا يبني لهم على ذلك قانون تتسع جهاته وتنتشر مسائلة. وإذ وضحت العلة تبين وجه وروده في السورة الكريمة، ولم يحتج إلى ادعاء اشتراك ولا تأويل، والله أعلم. *****

سورة الفلق

سورة الفلق قوله تعالى: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (الفلق: 3 - 5)، للسائل أن يسأل عن التقييد بالظرف في قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب) وفي قوله: (ومن شر حاسد إذا حسد) فلم تقع الاستعاذة من شر هذين بتقييد الوقوب في الغاسق ووقع الحسد من الحاسد ويطلق حكم الاستعاذة من شر النفاثات وهن الساحرات، ولم يقل إذا نفثن أو سحرن فيقيد كما قيد ما قبل وما بعد، فما الفرق؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن قوله سبحانه في سورة: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه: 69)، إطلاق حاكم بتماديه وتمادي حكمه على تلك الصفة المذمومة، فلم يكن التقييد في آية الفلق لو قيل: إذا كذا ليطابق ما ورد في سورة طه من الإطلاق. ثم إن السحر كفر، وقد ذكر سبحانه قول الملكين للطالب تعلمه: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) (البقرة: 102) أي بتعلم السحر، (ولا بسحركم سحر الساحر ولا يسمي ساحراً إلا باعتقاد. فتبين أن السحر شر مطلق)، فورد التعوذ منه مطلقاً غير مقيد بوقوع أو () وتأثير الكواكب وذلك كفر، وما أجرى الله سبحانه من التأثير في العالم عند تلاقيها وتقابلها وتنازرها وما في ذلك من تفصيل التناظر، كل ذلك فعل الله سبحانه ولا تأثير إلا له جل وتعالى، (ويقتل الساحر ولا استتابة) في قول. أما الغاسق فإن الليل إذا أظلم، وليس الشر منه بما هو ليل مظلم إنما هو ستر لذوي الشر لاحتجابهم بظلمته عن أعين الناس فيوقعون فيه شرهم، فالشر فيه لا منه. ألا تري أنه لأهل الخير رحمة ونعمة، وكذلك لكل من لا يترصده لشر، قال تعالى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (القصص: 73) أي لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضل الله في النهار. وتردد ذكر الليل في غير ما آية في كتاب الله معدودا في نعم الله تعالى على عباده، وهو شقيق النهار في تلك. ثم إنه من حيث هو لباس وستر عن الأعين فيمكن فيه لأهل الشر ما لا يمكنهم في نهارهم، فيستحكم فيه

شرهم عند امتداد ظلمته لأمنهم من الناس في ذلك. فتبين أنه ليس شراً بما هو ليل إنما الشر فيه وعنده لا به بما هو ليل ولا منه، ولا يتمكن مطلوق ذوي الشر إلا في ظلمته، فنسبة الشر إليه بهذا الوجه، والإضافة في لسان العرب تكون بأدنى ملابسة، قال تعالى: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) (النازعات: 46) والضحى ليس للعشية وإنما هما طرفان للنهار فصحت الإضافة بهذا القدر، وقال تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) (سبأ: 33) والليل والنهار لا يمكران غنما يكون المكر فيهما، قال معناه سيبويه، رحمه الله. وأما الحاسد فإن القائم بنفسه من هذه الصفة قبل أن يمضى يمكن أن ينفذها حسداً ويمكن أن ينفذها غبطة، فإذا لا يتبين كونه حسداً إلا بعد أن يمضى ويوقع، ألا تري اتحاد ما يقوم بالنفس أولاً من هذه الصفة. بيان ذلك أن كل عاقل - بما هو عاقل - إذا رأي نعمة على غيره من دين أو دنيا أعجبته وتمناها لنفسه، فإن أراد زوالها عمن ظهرت عليه وانفراده هو بها فهذا هو الحسد المذموم، وإن تمنى مثلها أو أكثر وبقاء تلك على صاحبها فهذه هي الغبطة، وهي من صفات المؤمنين. فقد وضح أنه إنما يكون حسداً ويوصف بتلك الصفة عند ظهوره وقوعه على الصفة المذمومة وأما قبل ذلك فلا شر فيه ولا هو شر، ألا تري أن الحساد لو قامت به تلك الفة ثم تذكر واستغفر لمن رأي النعمة به والخير وركن قله إلى ذلك لم يؤاخذ شرعاً بتلك الهمة والخطرة، وقد نص الشترع على ذلك، واتفق العلماء والقاضي أبو بكر ومن قال بقوله على تلقى الوارد في هذا عن الشارع، عليه السلام، منزلا على ما ذكرته. فلما كان حال الحسد على ما ذكر وحال الغاسق على ما تقدم ذلك وقع التقييد في الإستعاذة من شرهما بالظرف فقيل: (إذا وقب) و (إذا حسد)، ولم يقع تقييد في الإستعاذة من شر السحرة، وجاء كل من ذلك على ما يجب ويناسب، ولا يمكن خلافه، والله أعلم. ******

سورة قل أعوذ برب الناس

سورة قل أعوذ برب الناس قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (الناس: 1) إلى آخر السورة، يسأل عن تكرار الناس في قوله تعالى (مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ) (الناس: 2 - 3)؟ وما وجه ذلك. والجواب، أن التبعية في ملك الناس على عطف البيان ولا تحسن فيه الإضافة إلى الضمير لأن ذلك يؤدي إلى تعرف الأسمين بضمير الأول الذي عليه حملهما، فكأن يكون الأول في حكم الأعراف من اللفظ التابع له وذلك عكس ما عليه عطف البيان، أما إذا أضيف التابع لما أضيف إليه متبوعه فإنه إذ ذاك لا يكون مساوياً له، وذلك هو الجاري المطرد في هذا الضرب من التوابع - أعني أن يكون في الأغلب الكثير مساوياً للأول أو أعرف - فلهذا جاء مضافاً إلى الظاهر هنا والله أعلم. *****

§1/1