مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث

محمد عبد الرشيد النعماني

مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث

مَكَانَةُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحَدِيثِ بقلم العلاَّمة المحدث الناقد المحقق البارع الفقيه الشيخ محمد عبد الرشيد النعماني مَدَّ اللهُ تعالى في عُمُرِهِ اعتنى به عبد الفتاح أبو غدة الناشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب

- الطبعة الأولى في باكستان، في مجلة الدراسات الإسلامية الصادرة عن الجامعة العالمية في إسلام آباد في العدد الأول لسنة 1409 هـ. - الطبعة الثانية بلكنو الهند في مجلة البعث الإسلامي، سَنَةَ 1411 هـ. - الطبعة الثالثة بكراتشي - إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، سَنَةَ 1412 هـ. - الطبعة الرابعة مزيدة من النصوص والتحقيق في بيروت، سَنَةَ 1416 هـ. قامت بطباعته وإخراجه دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان.

مَكَانَةُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحَدِيثِ بقلم العلاَّمة المحدث الناقد المحقق البارع الفقيه الشيخ محمد عبد الرشيد النعماني مَدَّ اللهُ تعالى في عُمُرِهِ اعتنى به عبد الفتاح أبو غدة الناشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب

كلمة التقديم

كَلِمَةُ التَقْدِيمِ: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ولي المتقين الصالحين، والصلاة والسلام التامان الدائمان على رسول الهُدى وإمام التقى المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فهذا سِفْرٌ نفيس فريد، وأثر نافع مجيد " مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث " تأليف العلاَّمة المحقق المحدث الناقد الشيخ محمد عبد الرشيد النعماني - حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى - شيخ الحديث وعلومه سابقًا في جامعة العلوم الإسلامية في مدينة كراتشي بباكستان، التي أسسها شيخنا العلاَّمة الجليل المحدث البارع الفقيه الأصولي الشيخ أبو المحاسن السيد محمد يوسف الحسيني البَنُّورِي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وتميزت هذه الطبعة عن سابقاتها المطبوعة في الهند وباكستان بأنها قُرِئَتْ على الشيخ - حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَعَاهُ -، فَبَدَّلَ بعض عباراته، وأضاف إليه زيادات كثيرة مهمة، علمًا بأن الشيخ ما يزال يضيف إلى هذا الكتاب ما يُعَزِّزُ مباحثه وَيُحَقِّقُ مقاصده. وقد جمع المؤلف - حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى - جواهر هذه النصوص، وَنَظَمَ هذه الشذرات والفصوص جَمْعَ بَخِيلٍ ضَاعَ فِي التُّرَابِ خَاتَمُهْ.

فالتقطها بشفافية ذهنه العلمي، ودقة ذهنه الذكي، وصبره الصابر على مصابرته، وقدرته على استخراج اللؤلؤ من مَغَاصِهِ وَمَخْبَأَتِهِ، وهكذا فليكن الصبرُ على تحصيل الفرائد، وتجميع الخرائد. صَابَرَ الصَّبْرُ فَاسْتَغاَثَ بِهِ الصَّبْرُ ... فَقَالَ الصَّبُورُ يَا صَبْرُ صَبْرًا! وقد ألف غير واحد من الأئمة الكبار غير الحنفية من محدثين وفقهاء ومؤرخين، تآليف مستقلة، لدفع التهويشات التي يُثِيرُهَا بعض المتعصبين على الإمام أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. ومن هؤلاء الأئمة الكبار الإمام الفقيه المحدث حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر المالكي، والإمام الحافظ المحدث شمس الدين الذهبي الشافعي، والإمام الفقيه المحدث يوسف بن حسن بن عبد الهادي الحنبلي الدمشقي الصالحي المعروف بابن المِبْرَدْ المُتَوَفَّى سَنَةَ 909، والإمام المحدث الحافظ السيوطي الشافعي، والإمام الحافظ المحدث محمد بن يوسف الصالحي الشافعي والإمام الفقيه الشافعي الكبير ابن حجر الهَيْتَمِي المكي، وغيرهم. فقد ألفوا الكتب المطولة في فضائل أبي حنيفة ومناقبه، وبيان إمامته وجلالته، وَذَبُّوا عنه ألسنة الحاسدين والشانئين من أصحاب مذاهبهم وغيرهم. وتميز هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ بأنه مقصور على بيان مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث خاصة. فرأيت طَبْعَ هذا الكتاب في البلاد العربية بعد طبعه مرات في الهند وباكستان، لأنه قد تَفَشَّى دَاءُ الغَمْطِ لمقام الإمام أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - من جهة الحديث، في بعض البلدان منها، فَتَلَفَّتَتْ الأنظار إلى مثل هذا التأليف، لِيَرُدَّ التهويش عن الإمام أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَيُعَرِّفَ بما عليه أساطين العلم بالحديث ورجاله، من توقير وتعظيم وتوثيق وتبجيل للإمام أبي حنيفة

وعلمه وفهقه ودينه وورعه ورفيع إمامته، فيكون هذا المؤلف منارة للمستهدين وَمُذَكِّرًا للمتعصبين المُجَافِينَ، واللهُ الهادي إلى سواء السبيل، وصلى اللهُ وسلم على نبينا ورسولنا سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. وكتبه عبد الفتاح أبو غُدَّة. في الرياض: 1 من ذي القعدة 1415 هـ.

مَكَانَةُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحَدِيثِ بقلم العلاَّمة المحدث الناقد المحقق البارع الفقيه الشيخ محمد عبد الرشيد النعماني مَدَّ اللهُ تعالى في عُمُرِهِ اعتنى به عبد الفتاح أبو غدة

تقدمة المؤلف

تَقْدِمَةُ المُؤَلِّفِ: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين وصحبه الطيبين، وسائر أئمة الدين من الفقهاء المجتهدين والحفاظ المُحَدِّثِينَ، لا سيما إمامنا الأعظم أبا حنيفة النعمان بن ثابت أول المجتهدين المتبوعين. أما بعد: فإن من الحقائق الواضحة أن الأئمة المتبوعين - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وفي مقدمتهم الإمام الأعظم أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - قد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وتواتر عند الأمة فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ولرسوله ولكتابه وللمؤمنين، وجعلهم الله تعالى بمنزلة النجوم في السماء يهتدي بهم كل مؤمن مسترشد ويقتدي بهم كل متنسك متعبد، فهم يستحقون منا كل تقدير وإجلال لما لهم علينا من المنن الكثيرة والفضل العميم. وهم وغيرهم من علماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر وأهل الفقه والنظر لا يُذْكَرُونَ إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل، كما دَلَّ عليه الكتاب والسنة وكما نص عليه علماء الأمة. ومع ذلك فقد نشأت في هذا العصر المتأخر الزَّمِنِ ناشئة حديثة لا تدري

ما عليها، فجعلت تَتَقَوَّلُ على الأئمة بما هم بَرَاءٌ منه، وتستصغر شأنهم وَتُكْبِرُ شأن أنفسها بمحاذاتهم والتقدم عليهم، وَخَصَّتْ الإمام أبا حنيفة بالطعن الشديد عليه والوقيعة فيه بما بَرَّأَهُ اللهُ منه، فكان عند الله وجيهًا. فأناس من هذه الناشئة بَدَؤُوا بنشر المغامز والمطاعن الباطلة التي تتضمن الطعن في إيمان أبي حنيفة ودينه وفقهه - وهو أحد الأئمة المجمع على إمامتهم -، وقد بَيَّنَ بطلانها خلائق العلماء المتقدمين والمتأخرين وَحَذَّرُوا من الالتفات إليها وأنذروا، فما نفعت هؤلاء النُّذُرُ، وانبرى آخرون فتلقفوا أقاويل معدودة من كتب الجرح والتعديل هي معلولة بأنواع من العلل ومتلبسة بملابسات لا يقبل معها الجرح، تلقفوا هذه الأقاويل وبدؤوا يطعنون في حفظ هذا الإمام الجليل وضبطه وفهمه، وهؤلاء الأئمة هم أركان علم الجرح والتعديل وبأيديهم لوائهما، وتناسوا أيضًا إجماع الجهابذة الحفاظ المتأخرين على إسقاط وإبطال تلك المغامز والأقاويل المعلولة، وإطباقهم على الثناء عليه وتبجيله وتقريظه!!. فأحببت - تنديدًا بالمعتنين المعاندين ورحمة بضعفاء الفهم المُغْتَرِّينَ - أن أجمع في هذا الكتاب ثناء العلماء القُدَامَى والمتأخرين على الإمام أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - من ناحية مكانته الرفيعة في علم الحديث والسُنَّةِ خاصة، وأوضح ما له من المنزلة السامية والمرتبة المنيفة في ذلك، عسى الله تعالى أن يهدي به التائهين عن الحق فيفوزوا ولا يهلكوا مع الهالكين. وفضائل هذا الإمام ومناقبه كثيرة لا يحصيها العَدُّ، وقد ذكرت طائفة كبيرة من المتقدمين والمتأخرين كثيرًا منها في أجزاء مفردة وكتب مستقلة وفي ضمن كتب التواريخ والتراجم، ولكن جُلَّ تلك الكتب ليس بمتناول أيدي عامة القُرَّاءِ، ففي هذا الجمع والاختيار ذريعة حسنة لاطلاعهم على نخبة من تلك المناقب الوافرة والفضائل الجسام.

وليس هذا الذي أمام القارئ كُلَّ ما أردت ذكره في هذا الكتاب، وإنما أقدم إلى القُرَّاءِ ما تيسر إلى الآن، وأسأل اللهَ تعالى التوفيق لإتمامه حسب ما يُحِبُّهُ ويرضاهُ، ورضي اللهُ تعالى عن الأئمة الهادين المهديين أجمعين، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين دار الكرامة وَمَقْعَدَ الصِّدْقِ عنده، وأسأله سبحانه سؤال خاشع ضارع أن يتقبل هذا العمل مني ويجعله ذُخْرًا لآخرتي إنه خير مأمول وبالإجابة جدير، والحمد لله تعالى أولاً وآخرًا، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد خاتم أنبيائه وعلى آله وأصحابه نخبة أصفيائه وأوليائه إلى يوم الدين. وكتبه الفقير إلى الله تعالى محمد عبد الرشيد النعماني في كراتشي 20 شعبان سَنَةَ 1415 هـ.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذا ما جمعته في بيان " مكانة الإمام الأعظم أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في علم الحديث "، والمرجو من الله سبحانه أن يجعله ذريعة لإزالة الشبهات التي أثارها الخصوم حول حفظه وثقته في الحديث وأمانته، وأسأله تعالى أن يجعل سعيي مشكورًا وذنبي مغفورًا وهو خير مأمول وبالإجابة جدير. وقد كان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا وورعًا وحفظًا وضبطًا، وكان معدودًا في الأجواد الأسخياء، وَالأَلبَّاءِ الأكياء، مع الدين والعبادة والتهجد وكثرة التلاوة وقيام الليل. وكان مِمَّنْ عُنِيَ بعلم الكتاب والسنة وَسَعَى في طلب الحديث ورحل فيه، وكثرت عنايته بالسنن وجمعه لها، وَذَبِّهِ عن حريمها، وقمعه من خالفها أو رام مُبَايَنَتَهَا، مؤثرًا لِسُنَّةِ رسول الله - صَلََّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على غيرها، وهو أول من عَرَّجَ على الأقوياء من الثقات، وترك الضعفاء في الروايات، لزم الحديث والفقه، وواظب على الورع والعبادة، حتى صَارَ عَلَمًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ في الأمصار وملجأ يُقْتَدَى به في الأقطار.

عنايته بطلب الحديث

وأحواله في العلم والحفظ والصيانة والإتقان، والاجتهاد في تحصيل العلم والفقه ونشرهما، والصبر على ترك مناصب السلطان، وبذل النفس وإشاعة العلم والعبادة والكرم، وهوان الدنيا عنده وعدم المبالاة بحطام هذه الفانية الزائلة، مع الدين والسلامة وجمع أنواع الخير: أكثر من أن يُحْصَرَ، وأشهر من أَنْ يُشَهَّرَ. وقد انعقد الإجماع على إمامته وجلالته وَعُلُوِّ مرتبته، وكمال فضيلته، وأقاويل السلف كثيرة مشهورة في الثناء عليه في ورعه وزهده وعبادته، ومجانبته السلطان وإنكاره ولاية القضاء، ووفور علمه وكثرة حديثه، وبراعته في الفقه واتباعه السُنَّةَ، وأخبار إجلال أعيان أئمة زمانه من جميع الأقطار إياه واعترافهم بمزاياه وفيرة مستفيضة، وكل ذلك مُدَوَّنٌ في كتب التواريخ والرجال، لا حاجة لنا بذكرها. عنايته بطلب الحديث: وقد شهد له أئمة النقد وكبار المُحَدِّثِينَ بعنايته بطلب الحديث وارتحاله في ذلك ومعاناته في تحصيله. قال الحافظ الذهبي في ترجمة أبي حنيفة في كتاب " سير أعلام النبلاء " (¬1): «وَعُنِيَ بِطَلَبِ الآثَارِ، وَارْتَحَلَ فِي ذَلِكَ». اهـ. وقال أيضًا (¬2): «إِنَّ الإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ طَلَبَ الحَدِيثَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ فِي سَنَةِ مِائَةٍ وَبَعْدَهَا». اهـ. ¬

_ (¬1) 6/ 392 من الطبعة الثالثة ببيروت سَنَةَ 1405 هـ. (¬2) 6/ 396.

وقال أيضًا في جزئه الذي صنفه في " مناقب أبي حنيفة " في ذكر شيوخه (¬1): «وَسَمِعَ الحَدِيثَ مِنْ عَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ بِمَكَّةَ، وَقَالَ: " مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءٍ "». قلت: وكان عطاء أيضًا يُفَضِّلُهُ على تلامذته، فكان أبو حنيفة إذا حضر مجلس السماع أوسع له وأدناه كما سيأتي. وقال في " دول الإسلام " (¬2): «وأكبر شيوخه عطاء بن أبي رباح، وشيخه في الفقه حماد بن أبي سليمان». اهـ. وقال الحافظ أبو بكر الخطيب في " تاريخ بغداد " (¬3): «أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الحافظ، [قَالَ]: حَدَّثَنَا أَبُو بكر عبد الله بن يحيى الطلحي، [قَالَ]: حَدَّثَنَا عثمان بن عبيد الله الطلحي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الطلحي، [قَالَ]: حَدَّثَنَا سعيد بن سالم البصري، قال: سمعت أبا حنيفة، يقول: " لقيت عطاء بمكة، فسألته عن شيء "، فقال: " من أين أنت؟ " قلت: " من أهل الكوفة "، قال: " أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا؟ " قلت: " نعم "، قال: " فمن أي الأصناف أنت؟ " قلت: " ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدًا بذنب "، قال: فقال لي عطاء: " عرفت فالزم "». اهـ. وقال الإمام المحدث الفقيه شيخ الخطيب البغدادي، القاضي ¬

_ (¬1) " مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه ": ص 11 طبع مصر. (¬2) " دول الإسلام " للذهبي: 1/ 79 طبع دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن بالهند سنة 1337. (¬3) 13/ 331.

أبو عبد الله بن علي الصيمري في كتابه " أخبار أبي حنيفة وأصحابه " (¬1): «أخبرنَا عبد الله بن مُحَمَّد قَالَ حدثَنَا مُكَرَّمٌ قَالَ: حدثَنَا عبد الصَّمَدِ بن عبيد الله، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن نوح، قَالَ: ثَنَا حَفْص بن يحيى، قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن أبان عَن الحَارِث بْن عبد الرَّحْمَن قَالَ:" كُنَّا نَكُون عِنْد عَطاء بَعْضنَا خلف بعض، فَإِذا جَاءَ ابو حنيفَة أوسع لَهُ وَأَدْنَاهُ». اهـ. قلت: وصنيعه هذا معه يدل على أن الإمام أبا حنيفة كان من أنجب تلامذته في الحديث، وقد ذكر الإمام عبد الوهاب الشعراني في كتابه " الميزان الكبرى " (¬2) سَنَدَ: أبو حنيفة، عن عطاء، عن ابن عباس، كما ذكر سَنَدَ: مالك، عن نافع، عن ابن عمر، حينما تعرض لبيان أسانيد المجتهدين في الكتاب والسنة. كذلك شيخه في الفقه حماد بن أبي سليمان أيضًا يجلسه في صدر الحلقة حذاءه، قال الحافظ أبو بكر الخطيب في " تاريخ بغداد " (¬3): «أَخْبَرَنَا الخلال، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحريري، أن النخعي حدثهم قال: حَدَّثَنِي جعفر بن مُحَمَّد بن حازم، قَالَ: حَدَّثَنَا الوليد بن حماد، عن الحسن بن زياد، عن زفر بن الهذيل، قال: سمعت أبا حنيفة، يقول: " كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغًا يشار إلي فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من ¬

_ (¬1) ص 83 طبع حيدر آباد الدكن بالهند سَنَةَ 1394 هـ. (¬2) 1/ 48. (¬3) 13/ 332، 333.

حلقة حماد بن أبي سليمان، فجاءتني امرأة يومًا، فقالت لي: " رجل له امرأة أمة أراد أن يطلقها للسنة، كم يطلقها؟ "، " فلم أدر ما أقول، فأمرتها أن تسأل حماد ثم ترجع فتخبرني "، فسألت حمادًا، فقال: " يطلقها وهي طاهر من الحيض والجماع تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض حيضتين، فإذا اغتسلت فقد حلت للأزواج "، فرجعت فأخبرتني، فقلت: " لا حاجة لي في الكلام، وأخذت نعلي فجلست إلى حماد، فكنت أسمع مسائله، فأحفظ قوله، ثم يعيدها من الغد فأحفظها، ويخطئ أصحابه "، فقال: " لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة "». اهـ. قلتُ: هذا يدل على جودة حفظ الإمام وإتقانه. وقال الحافظ أبو بكر الخطيب في " تاريخ بغداد " (¬1): «أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بن عبد الملك القرشي،: أنبأنا أَبُو العباس أَحْمَد بن مُحَمَّد بن الحسين الرازي، حَدَّثَنَا علي بن أَحْمَد القاري، أخبرنا مُحَمَّد بن فضيل هو البلخي العابد، قال: حدثنا أَبُو مطيع، قال: قال أَبُو حنيفة: دخلت على أبي جعفر أمير المؤمنين، فقال لي: " يا أبا حنيفة عمن أخذت العلم؟ " قال: قلت: " عن حماد، عن إبراهيم، عن عُمَر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس "، قال: فقال أَبُو جعفر: " بخ، بخ، استوثقت ما شئت يا أبا حنيفة الطيبين الطاهرين المباركين، - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ - "». اهـ. هكذا وقع في المطبوع من " تاريخ بغداد "، والصواب «عَنْ إِبْرَاهِيمَ ¬

_ (¬1) 13/ 334.

عَنْ أَصِْحَابِ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ... الخ». صرح به العَلاَّمَةُ الكوثري في " التأنيب " (¬1). قلتُ: وقد فاق الإمام في طلب الحديث على مشايخ عصره فقد روى الحافظ الذهبي في " مناقب أبي حنيفة " (¬2) عن الإمام مِسْعَرٍ بْنِ كِدَامٍ، قَالَ: «طَلَبْتُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ الحَدِيثَ فَغَلَبَنَا، وَأَخَذْنَا فِي الزُّهْدِ فَبَرَعَ عَلَيْنَا، وَطَلَبْنَا الفِقْهَ فَجَاءَ مِنْهُ مَا تَرَوْنَ». اهـ. قلتُ: ومسعر بن كدام هذا ذكره الذهبي في " تذكرة الحفاظ " وَحَلاَّهُ في كتابه " سير أعلام النبلاء " بالإمام الثبت شيخ العراق الحافظ. وقال صدر الأئمة المكي: «وكان مسعر بن كدام أحد مفاخر الكوفة في حفظه وزهده وكان من شيوخ أبي حنيفة، روى عنه في " مسنده "» (¬3). ¬

_ (¬1) " تأنيب الخطيب ": ص 29. (¬2) ص 27. (¬3) من " مناقب الإمام الأعظم " لصدر الأئمة الموفق: 2/ 37، طبع دائرة المعارف بحيدر آباد الدكن بالهند.

إمامة أبي حنيفة في الحديث

إِمَامَةُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحَدِيثِ: وقد شهد الأئمة في القديم والحديث بإمامة أبي حنيفة في الحديث، قال الإمام المحدث حافظ المغرب أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي الأندلسي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في كتابه المعروف " جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روياته وحمله " (¬1): حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ رَحْمُونَ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ بَكْرِ بْنِ دَاسَهْ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنَ الأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيَّ يَقُولُ: «رَحِمَ اللَّهُ مَالِكًا كَانَ إِمَامًا، رَحِمَ اللَّهُ الشَّافِعِيَّ كَانَ إِمَامًا، رَحِمَ اللَّهُ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ إِمَامًا». وقال في كتابه " الانتقاء في فضائل الثلاثة فقهاء، مالك والشافعي وأبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وذكر عيون من أخبارهم وأخبار أصحابهم للتعريف بجلالة أقدارهم " (¬2): حَدثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنُ عَبْدِ المُؤْمِنِ بْنِ يَحْيَى رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدٌ بْنُ بَكْرٍ بْنُ عَبْدِ الرَازَّقِ التَّمَّارُ المَعْرُوفُ بِابْنِ دَاسَهْ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنَ ¬

_ (¬1) 2/ 163، طبع إدارة الطباعة المنيرية بمصر. (¬2) ص 232 عنيت بنشره مكتبة القدسي بالقاهرة عام 1350 هـ.

الأَشْعَثِ بْنِ إِسْحَاقَ السِّجِسْتَانِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: «رَحِمَ اللَّهُ مَالِكًا كَانَ إِمَامًا رَحِمَ اللَّهُ الشَّافِعِيَّ كَانَ إِمَامًا رَحِمَ اللَّهُ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ إِمَامًا». فهذه شهادة الإمام الثبت سيد الحفاظ شَيْخُ السُنَّةِ أبي داود الأزدي السجستاني صاحب " السنن " - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في حق الأئمة الثلاثة بإمامتهم، وتجد شرح هذه الإمامة مستوفى فيما كتبه الإمام الحافظ العلامة شيخ خراسان أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في مدخل كتابه " دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة " (¬1) ونصه: «فصل: ومما يحق معرفته في الباب، أن تعلم أن الله تعالى بعث رسوله، - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بالحق، وأنزل عليه كتابه الكريم، وضمن حفظه كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2)، ووضع رسوله، - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من دينه وكتابه موضع الإبانة عنه، كما قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬3)، وترك نبيه في أمته حتى يُبَيِّنَ لأمته ما بُعِثَ به، ثم قبضه الله تعالى إلى رحمته، وقد تركهم على الواضحة، فلا تَنْزِلُ بالمسلمين نازلة إِلا وَفِي كِتَابِ اللهِ وسنة رسول الله، - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانُهَا: نَصًّا أو دلالة. ¬

_ (¬1) 1/ 43 - 46 طبع بيروت، الطبعة الأولى: سَنَةَ 1405 هـ. (¬2) [سورة الحجر، الآية: 9]. (¬3) [سورة النحل، الآية: 44].

وجعل في أمته في كل عصر من الأعصار أئمة يقومون ببيان شريعته وحفظها على أمته، ورد البدعة عنها. كما أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ أَحْمَدُ بن محمد الصُّوفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ الحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مَعَانُ بن رفاعة، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرحمن العذري، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ، - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَرِثُ هَذَا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ , يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الجَاهِلِينَ , وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ , وَتَحْرِيفَ الغَالِينَ». ورواه الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرحمن، عن الثقة من أشياخهم، عَنِ النَّبِيِّ، - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد وجد تصديق هذا الخبر في زمان الصحابة، ثم في كل عصر من الأعصار إلى يومنا هذا. وقام بمعرفة رواة السنة في كل عصر من الأعصار جماعة وقفوا على أحوالهم في التعديل والجرح وبينوها ودونوها في الكتب حتى من أراد الوقوف على معرفتها وَجَدَ السبيلَ إليها. وقد تكلم فقهاء الأمصار في الجرح والتعديل فمن سواهم من عُلَمَاءِ الحَدِيثَ. أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا أبو سعيد الخلال، حَدَّثَنَا أَبُو القَاسِمِ البَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ المروزي، قال: حدثني الْحِمَّانِيُّ عن أبي حنيفة قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ، وَلاَ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءِ».

قال: وحدثنا عَبْدُ الحَمِيدِ الحِمَّانِيُّ، قَالَ: سمعت أبا سعد الصغاني قام إلى أبي حنيفة، فقال: يا أبا حنيفة، ما تقول في الأخذ عن الثوري؟ فقال: «اكْتُبْ عَنهُ، فَإِنَّهُ ثِقَة مَا خَلاَ أَحَادِيثَ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الحَارِثِ [عَنْ عَلِيٍّ] وَحَدِيثِ جَابرٍ الجُعْفِيِّ». وأَخْبَرَنَا أَبُو الحُسَيْنِ بْنُ الفَضْلِ القَطَّانُ، بِبَغْدَادَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سفيان، قال: سمعت حرملة يقول: قال الشافعي: «الرِّوَايَةُ عَنْ حَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ حَرَامٌ». أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ: الحُسَيْنُ بْنُ الحَسَنِ الغَضَائِرِيُّ ببغداد، حدثنا أحمد ابن سَلْمَانَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ محمد الصائغ، حدثنا عفّان: قال: حدثني يحيى ابن سعيد القطان، قال: سألت شعبة، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ الرجل يتهم في الحديث ولا يحفظ؟ فقالوا: بيّن أمره للناس. وأَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ: الحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرُّوذْبَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ: أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ بْنِ خَلَفٍ القاضي، قال: حدثني أبو سعد الهروي، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ خلّاد، قال: قيل «ليحيى بن سعيد»: أما تخشى أن يكون الذين تركت حديثهم خصماؤك عند الله؟ قال: لأن يكون هؤلاء خصمائي عند الله أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يقول: لم حدثت عني حديثا ترى أنه كذب؟ أخبرنا أبو عبد الله الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قال: سمعت الشافعي، - رَحِمَهُ اللهُ -،

يقول: «لَوْلاَ شُعْبَةُ مَا عُرِفَ الحَدِيثُ بِالعِرَاقِ، كَانَ يَجِيءُ إِلَى الرَّجُلِ فَيَقُولُ: " لاَ تُحَدِّثْ وَإِلاَّ اسْتَعْدَيْتُ عَلَيْكَ السُّلْطَانَ "». فعلى هذه الجملة كان ذَبُّهُمْ عن حريم السُنَّةِ. وشواهد ما ذكرنا كثيرة، وفيما ذكرنا عن التطويل غنية. اهـ. وكذلك قال الإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة السلمي الترمذي - رَحِمَهُ اللهُ - في كتاب " العلل " من " جامعه " (¬1): «وَقد عَابَ بعض من لاَ يفهم على أهل الحَدِيث الكَلاَم فِي الرِّجَال وَقد وجدنَا غير وَاحِد من الأَئِمَّة من التَّابِعين قد تكلمُوا فِي الرِّجَال مِنْهُم الحسن الْبَصْرِي وطاووس تكلما فِي معبد الجُهَنِيّ وَتكلم سعيد بن جُبَير فِي طلق بن حبيب وَتكلم إِبْرَاهِيم النَّخعِي وعامر الشّعبِي فِي الحَارِث الأَعْوَر وَهَكَذَا رُوِيَ عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَعبد الله بن عون وَسليمَان التَّيْمِي وَشعْبَة بن الحجَّاج وسُفْيَان الثَّوْري وَمَالك بن أنس وَالأَوْزَاعِيّ وَعبد الله بن المُبَارك وَيحيى بن سعيد القطَّان ووكيع بن الْجراح وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَغَيرهم من أهل الْعلم أَنهم تكلمُوا فِي الرِّجَال وَضَعَّفُوا. وَإِنَّمَا حملهم على ذَلِك عندنَا - وَالله أعلم - النَّصِيحَة للْمُسلمين لاَ ظن بهم أَنهم أَرَادوا الطعْن على النَّاس أَو الْغَيْبَة إِنَّمَا أَرَادوا عندنَا أَن يبينوا ضعف هَؤُلاَءِ لكَي يعرفوا لأَن بَعضهم من الَّذين ضعفوا كَانَ صَاحب بدعة وَبَعْضهمْ كَانَ مُتَّهَمًا فِي الحَدِيث وَبَعْضُهُمْ كَانُوا ¬

_ (¬1) 13/ 305 - 309 مع " عارضة الأحوذي "، طبع مصر سَنَةَ 1352هـ.

أَصْحَاب غَفلَة وَكَثْرَة خطأ فَأَرَادَ هَؤُلاَءِ الأَئِمَّة أَن يبينوا أَحْوَالهم شَفَقَة على الدين وتثبيتا، لأَن الشَّهَادَة فِي الدين أَحَق أَن يثبت فِيهَا من الشَّهَادَة فِي الحُقُوق وَالأَمْوَال ... وسرد أقوالاً من أئمة هذا الفن في جرح كثير من الرواة، إلى أن قال: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلاَن حَدثنَا أَبُو يحيى الحِمَّانِي قَالَ سَمِعت أَبَا حنيفَة يَقُول: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ، وَلاَ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءِ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ». اهـ. وقال شيخ البيهقي الحافظ الكبير إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري الحاكم المعروف بابن البيع في كتابه " المستدرك على الصحيحين " (¬1) عند سرد طرق حديث «لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ» ما نَصُّهُ: «وَقَدْ وَصَلَ هَذَا الحَدِيثَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَاهُمْ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرَقَبَةُ بْنُ مَصْقَلَةَ العَبْدِيُّ، وَمُطَرِّفُ بْنُ طَرِيفٍ الحَارِثِيُّ، وَعَبْدُ الحَمِيدِ بْنُ الحَسَنِ الهِلاَلِيُّ، وَزَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَغَيْرُهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمْ فِي البَابِ». اهـ. وقال الحاكم أيضًا في كتابه " معرفة علوم الحديث " (¬2) ما نصه: «ذِكْرُ النَّوْعِ التَّاسِعِ وَالأَرْبَعِينَ مِنْ مَعْرِفَةِ عُلُومِ الحَدِيثِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ هَذِهِ العُلُومِ مَعْرِفَةُ الأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ الْمَشْهُورِينَ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، مِمَّنْ ¬

_ (¬1) 2/ 171، كتاب النكاح، طبع دائرة المعارف بحيدر آباد الدكن بالهند سَنَةَ 1340 هـ. (¬2) ص 240 - 249، طبع القاهرة.

يَجْمَعُ حَدِيثَهُمْ لِلْحِفْظِ، وَالمُذَاكَرَةِ، وَالتَّبَرُّكِ بِهِمْ، وَبِذِكْرِهِمْ مِنَ المَشْرِقِ إِلَى الغَرْبِ، - فذكر خَلْقًا من أعيان كثير من البلدان -. فمنهم من أهل المدينة: محمد بن مسلم الزهري، محمد بن المنكدر القرشي، وربيعة بن أبي عبد الرحمن الرائي، ومالك بن أنس الأصبحي، وجعفر بن محمد الصادق، وغيرهم. ومن أهل مكة: مجاهد بن جبر، وعمرو بن دينار، وعبد الملك بن جُرَيْجٍ، وفضيل بن عياض، وغيرهم. ومن أهل مصر: عمرو بن الحارث، ويزيد بن أبي حبيب، وحيوة بن شريح التجيبي، وغيرهم. ومن أهل الشام: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وشعيب بن أبي حمزة الحمصي، ومكحول الفقيه، وغيرهم. ومن أهل اليمن: طاوس، وعبد الله بن طاوس، وغيرهما. ومن أهل اليمامة: يحيى بن أبي كثير، وغيره. ومن أهل الكوفة: عامر بن شراحيل الشعبي، وسعيد بن جبير الأسدي، وإبراهيم النخعي، وأبو إسحاق السبيعي، وحماد بن أبي سليمان، ومنصور بن المعتمر، ومغيرة بن مِقْسَمٍ الضَّبِّيِّ، والأعمش الأسدي، وَمِسْعَرْ بْنِ كِدَامٍ الهِلاَلِيِّ، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي، وسفيان بن سعيد الثوري، وداود بن نُصَيْرٍ الطائي، وَزُفَرْ بْنُ الهُذَيْلِ، وعافية بن يزيد القاضي، وغيرهم.

ومن أهل الجزيرة: ميمون بن مهران، وعمرو بن ميمون بن مهران، وخالد بن معدان العابد، وغيرهم. ومن أهل البصرة: أيوب بن أبي تميمة السختياني، وشعبة بن الحجاج، وهشام بن حسان، وقتادة بن دعامة، وغيرهم. ومن أهل واسط: العَوَّامُ بن حوشب، وأبو خالد يزيد بن عبد الرحمن الدَّالاَنِي، وغيرهم. ومن أهل خراسان: إبراهيم بن طهمان الفقيه العابد، وإبراهيم بن أدهم الزاهد من أهل بلخ، وشقيق بن إبراهيم الزاهد، والنضر بن محمد الشيباني، وغيرهم. - رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -». انتهى. وقال شيخ الإسلام العلامة أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الشهير بابن تيمية الحنبلي في كتابه " منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية " (¬1): «قَالَ أَبُو العَبَّاسِ بْنُ عُقْدَةَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبَّادٍ، سَمِعْتُ بَشَّارَ بْنَ دَرَّاعٍ، قَالَ: لَقِيَ أَبُو حَنِيفَةَ مُحَمَّدَ بْنَ النُّعْمَانِ فَقَالَ: عَمَّنْ رَوَيْتَ حَدِيثَ رَدِّ الشَّمْسِ؟ فَقَالَ: عَنْ غَيْرِ الذِي رَوَيْتَ عَنْهُ: «يَا سَارِيَةُ الجَبَلَ» ... قُلْتُ - القائل ابن تيمية - وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَئِمَّةَ أَهْلِ العِلْمِ لَمْ يَكُونُوا يُصَدِّقُونَ بِهَذَا الحَدِيثِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ. وَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ، أَحَدُ الأَئِمَّةِ المَشَاهِيرِ، وَهُوَ لاَ يُتَّهَمُ عَلَى عَلِيٍّ، فَإِنَّهُ مِنْ ¬

_ (¬1) 4/ 194، 195 الطبعة الأميرية ببولاق، مصر سَنَةَ 1322 هـ.

أَهْلِ الكُوفَةِ دَارِ الشِّيعَةِ، وَقَدْ لَقِيَ مِنَ الشِّيعَةِ، وَسَمِعَ مِنْ فَضَائِلِ عَلِيٍّ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ يُحِبُّهُ وَيَتَوَلاَّهُ، وَمَعَ هَذَا أَنْكَرَ هَذَا الحَدِيثَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنَ الطَّحَاوِيِّ وَأَمْثَالِهِ، وَلَمْ يُجِبْهُ ابْنُ النُّعْمَانِ بِجَوَابٍ صَحِيحٍ، بَلْ قَالَ: عَنْ غَيْرِ مَنْ رَوَيْتَ عَنْهُ حَدِيثَ: «يَا سَارِيَةُ الجَبَلَ». فَيُقَالُ لَهُ: هَبْ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ، فَأَيُّ شَيْءٍ فِي كَذِبِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ هَذَا. فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَأَبُو حَنِيفَةَ لاَ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ لِعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا كَرَامَاتٌ، بَلْ أَنْكَرَ هَذَا الحَدِيثَ ; لِلدَّلاَئِلِ الكَثِيرَةِ عَلَى كَذِبِهِ، وَمُخَالَفَتِهِ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ بِالحَدِيثِ، مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَهُمُ الذِينَ يَرْوُونَ عَنِ الصَّحَابَةِ، بَلْ لَمْ يَرْوِهِ إِلاَّ كَذَّابٌ أَوْ مَجْهُولٌ لاَ يُعْلَمُ عَدْلُهُ وَضَبْطُهُ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ هَذَا مِنْ مِثْلِ هَؤُلاَءِ؟!، وَسَائِرُ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا صَحِيحًا ; لِمَا فِيهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَضِيلَةِ عَلِيٍّ، عَلَى الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَتَوَلَّوْنَهُ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَسْتَجِيزُونَ التَّصْدِيقَ بِالكَذِبِ، فَرَدُّوهُ دِيَانَةً، وَاللهُ أَعْلَمُ». وقال في موضع آخر من الكتاب المذكور (¬1): « ... أَئِمَّةِ أَهْلِ الحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالتَّصَوُّفِ وَالفِقْهِ، مِثْلِ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ». وقال أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في كتابه " البداية والنهاية " (¬2): ¬

_ (¬1) 1/ 172، 173. (¬2) 6/ 85، 86 الطبعة الأولى سَنَةَ 1966، مكتبة المعارف - بيروت.

وَالطَّحَاوِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، إِنْ كَانَ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ - أي أمر حديث «رَدِّ الشَّمْسِ» لعلي -، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْكَارُهُ وَالتَّهَكُّمُ بِمَنْ رَوَاهُ. قَالَ أَبُو العَبَّاسِ بْنُ عُقْدَةَ: ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبَّادٍ، سَمِعْتُ بَشَّارَ بْنَ دِرَاعٍ قَالَ: لَقِيَ أَبُو حَنِيفَةَ مُحَمَّدَ بْنَ النُّعْمَانِ، فَقَالَ: عَمَّنْ رَوَيْتَ حَدِيثَ رَدِّ الشَّمْسِ؟ فَقَالَ: عَنْ غَيْرِ الَّذِي رَوَيْتَ عَنْهُ: يَا سَارِيَةُ، الْجَبَلَ. فَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ، وَهُوَ كُوفِيٌّ لاَ يُتَّهَمُ عَلَى حُبِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَتَفْضِيلِهِ بِمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يُنْكِرُ هَذَا عَلَى رَاوِيهِ. وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ لَهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ، بَلْ مُجَرَّدُ مُعَارِضَةٍ لاَ تُجْدِي، أَيْ أَنَا رَوَيْتُ فِي فَضْلِ عَلِيٍّ هَذَا الحَدِيثَ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَبًا فَهُوَ فِي الغَرَابَةِ نَظِيرَ مَا رَوَيْتَهُ أَنْتَ فِي فَضْلِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فِي قَوْلِهِ: يَا سَارِيَةُ، الجَبَلَ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ كَهَذَا، لاَ إِسْنَادًا وَلاَ مَتْنًا، وَأَيْنَ مُكَاشَفَةُ إِمَامٍ قَدْ شَهِدَ الشَّارِعُ لَهُ بِأَنَّهُ مُحَدَّثٌ بِأَمْرٍ جُزْءٍ مِنْ رَدِّ الشَّمْسِ طَالِعَةً بَعْدَ مَغِيبِهَا الذِي هُوَ أَكْبَرُ عَلاَمَاتِ السَّاعَةِ؟!». وقال الحافظ ابن حجر في " لسان الميزان " (¬1): «محمد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي الكوفي ¬

_ (¬1) 5/ 300، 301.

أبو جعفر الملقب «شَيْطَانَ الطَّاقِ». نسب إلى سوق في طاق المحامل بالكوفة كان يجلس للصرف بها فيقال: إنه اختصم مع صيرفي آخر في درهم زائف فغلب فقال: «أَنَا شَيْطَانُ الطَّاقِ». وقيل: إن هشام بن الحكم شيخ الرافضة لما بلغه أنهم لقبوه شيطان الطاق سماه هو مؤمن الطاق. ويقال: أول من لقبه بشيطان الطاق أبو حنيفة مع مناظرة جرت بحضرته بينه وبين بعض الحرورية ... ، ووقعت له مناظرة مع أبي حنيفة في شيء يتعلق بفضائل علي - سُمِّيَ فيها: محمد بن النعمان نسبة إلى جده، فقال له أبو حنيفة كالمنكر عليه: «عَمَّنْ رَوَيْتَ حَدِيثَ رَدِّ الشَّمْسِ لِعَلِيٍّ؟ فَقَالَ: عَنْ مَنْ رَوَيْتَ أَنْتَ عَنْهُ: يَا سَارِيَةُ الجَبَلَ»؟. اهـ. وقال الشيخ الإمام الحافظ الحجة شمس الدين أبو عبد الله محمد المعروف بابن قيم الجوزية الحنبلي في كتابه " إعلام الموقعين عن رب العالمين " (¬1): «وَقَدْ احْتَجَّ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ وَالفُقَهَاءُ قَاطِبَةً بِصَحِيفَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَلاَ يُعْرَفُ فِي أَئِمَّةِ الفَتْوَى إلاَّ مَنْ احْتَاجَ إلَيْهَا وَاحْتَجَّ بِهَا، وَإِنَّمَا طَعَنَ فِيهَا مَنْ لَمْ يَتَحَمَّلْ أَعْبَاءَ الفِقْهِ وَالفَتْوَى كَأَبِي حَاتِمٍ البُسْتِيِّ وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمَا». اهـ. وقال أيضًا في موضع آخر منه (¬2) ما نصه: «أَمَّا طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَالإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالبُخَارِيِّ وَإِسْحَاقَ ... ». اهـ. فهؤلاء الأئمة الجلة الأعلام، جهابذةُ النقد: أبو داود، والترمذي، والحاكم، والبيهقي، وابن عبد البر، وابن تيمية، وابن ¬

_ (¬1) 1/ 35 طبع الهند بأشرف المطابع الواقع بدهلي سَنَةَ 1314 هـ. (¬2) نفس المصدر: 1/ 359.

القيم، وابن كثير، قد أذعنوا أن الإمام أبا حنيفة من أئمة الحديث المعروفين الذي يُرْجَعُ إلى أقوالهم في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل كسائر الحفاظ النقاد من أئمة المحدثين. وقد اعترف جهابذة المحدثين والحفاظ من المتقدمين والمتأخرين ببراعته في الحديث وضبطه وإتقانه وحفظه وورعه في روايته. قال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي في " تاريخ بغداد " (¬1): «أَخْبَرَنَا الجوهري، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن عمران المرزباني، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الواحد بن مُحَمَّد الخصيبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مسلم الكجي إبراهيم بن عبد الله، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سعيد أَبُو عبد الله الكاتب، قال: سمعت عبد الله بن داود الخُرَيْبِي، يقول: " يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الإِسْلاَمِ أَنْ يَدْعُوا اللهَ لأَبِي حَنِيفَةَ فِي صَلاَتِهِمْ "، قَالَ: وَذَكَرَ حِفْظَهُ عَلَيْهِمْ السُّنَنَ والفِقْهَ». اهـ. (*) قلت: وَالخُرَيْبِي هذا من كبار الحفاظ ذكره الذهبي في " تذكرة الحفاظ " (¬2) وَحَلاَّهُ «بِالحَافِظِ الإِمَامِ القُدْوَةِ»، ونقل عن وكيع أنه قال: «النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ عَبْدِ اللهِ بْنَ دَاوُدٍ عِبَادَةٌ». وذكر: «أن الخُرَيْبِي قيل له: رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، قَالَ: " إِنَّمَا يَرْجِعُ الفَقِيهُ إِذَا اِتَّسَعَ عِلْمُهُ». اهـ. فهذا الإمام الحافظ القدوة يصف أبا حنيفة بسعة العلم وحفظ السنن. ¬

_ (¬1) 13/ 344. (¬2) 1/ 338. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قارن في هذا القول بما ورد في صفحة 105 من هذا الكتاب.

وروى الخطيب أيضًا، قال: «أَخْبَرَنَا الخلال، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحريري أن النخعي، حدثهم قَالَ: أَخْبَرَنَا سليمان بن الربيع الخزاز، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن حفص، عن الحسن بن سليمان، أنه قال في تفسير الحديث " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ العِلْمُ "، قال: " هُوَ عِلْمُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَفْسِيرُهُ الآثَارَ"». اهـ. قلت: والحسن بن سليمان هذا معدود في الحفاظ ترجم له الذهبي في " تذكرة الحفاظ " (¬1)، و" سير أعلام النبلاء " (¬2)، وقال في " السير ": قُبَّيْطَةُ الحافظ المتقن الإمام أبو علي الحسن بن سليمان البصري نزيل مصر، وصفه ابن يونس بالحفظ. اهـ. فهذا الحافظ الإمام يُطْرِي أبا حنيفة وَيُثْنِي على علمه وتفسيره الأحاديث والآثار. وقال الخطيب أيضًا في " تاريخ بغداد " (¬3): «أَخْبَرَنَا الحسن بن أبي بكر، قَالَ: أَخْبَرَنَا القَاضِي أَبُو نصر أَحْمَد بن نصر بن مُحَمَّد بن إشكاب البخاري، قال: سمعت مُحَمَّد بن خلف بن رجاء، يقول: سمعت مُحَمَّد بن سلمة، يقول: قال خلف بن أيوب: " صَارَ العِلْمُ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَارَ إِلَى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى التَّابِعِينَ، ثُمَّ صَارَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَرْضَ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَسْخَطْ"». اهـ. ¬

_ (¬1) 2/ 572. (¬2) 12/ 508. (¬3) 13/ 336.

قلت: وقولُ خلف بن أيوب هذا يشبه ما قال ابن حزم في حق محمد بن نصر المروزي، قال الذهبي في ترجمة ابن نصر المروزي من كتابه " سير أعلام النبلاء ": (¬1) ما نصه: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ حَزْمٍ فِي بَعْضِ توَالِيفِهِ: «أَعْلَمُ النَّاسِ مَنْ كَانَ أَجْمَعهُم للسُّنَنِ، وَأَضْبَطهُم لَهَا، وَأَذْكَرُهُمُ لِمَعَانِيهَا، وَأَدْرَاهُمُ بِصِحَّتِهَا، وَبِمَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ مِمَّا اخْتَلفُوا فِيهِ. قَالَ: وَمَا نَعْلَمُ هَذِهِ الصِّفَةَ - بَعْد الصَّحَابَةِ - أَتمَّ مِنْهَا فِي مُحَمَّدِ بنِ نَصْرٍ المَرْوَزِيّ، فَلَو قَالَ قَائِل: لَيْسَ لِرَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ وَلاَ لأَصْحَابِهِ إِلاَّ وَهُوَ عِنْدَ مُحَمَّدِ بنِ نَصْرٍ لَمَا أَبْعَدَ عَنِ الصِّدْقِ. قُلْتُ: - القائل الذهبي - هَذِهِ السَّعَةُ وَالإِحَاطَةُ مَا ادَّعَاهَا ابْنُ حَزْمٍ لابْنِ نَصْرٍ إِلاَّ بَعْدَ إِمعَانِ النَّظَرِ فِي جَمَاعَةِ تَصَانِيفَ لابْنِ نَصْرٍ، وَيمْكِن ادِّعَاءُ ذَلِكَ لِمِثْلِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ وَنُظَرَائِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ» انتهى. قلتُ: وإذا كان ادعاء ذلك صحيحًا لمحمد بن نصر عند ابن حزم، ولأحمد ونظرائه عند الذهبي، فيكون ادعاء ذلك صحيحًا بالأولى للإمام الأعظم أبي حنيفة فإنه أسبق المجتهدين المتبوعين، وأعلمهم وأفقههم وأقدمهم - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - وعن أصحابه، على ما شهد به شيخُ أحمدَ وابنِ معين خلفُ بنُ أيوب هذا، ولم تكن شهادته بذلك لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - إلا بعد إمعان النظر في فقهه وإتقانه لمذهبه، وهذه شهادة صدق من إمام بارع تقي، كيف لا؟ والعلم بَرًّا ¬

_ (¬1) 14/ 40.

وبحرًا شرقًا وغربًا، بُعْدًا وَقُرْبًا تدوينه - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -، كما قاله ابن النديم في كتابه " الفهرست " (¬1). وقال الجامع للعلوم النقلية والعقلية، والمتضلع من السنة النبوية، أحد كبار الأعلام، ومشاهير أولي الحفظ والأفهام، مُلاَّ علي القاري شارح " المشكاة " في كتابه " سند الأنام في شرح مسند الإمام " (¬2) ما نصه: «إِنَّ حُسْنَ الظَنِّ بِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَحَاطَ بِالأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ مِنَ الصَّحِيحَةِ وَالضَّعِيفَةِ». اهـ (¬3). وَخَلَفُ المذكور هذا قال فيه صدر الأئمة الموفق بن أحمد المكي في " مناقب الإمام الأعظم " (¬4) ما لفظه: «خلف بن أيوب كان من بلخ، ما روى عن أبي حنفية، ويروي عن أبي يوسف، وكان أزهد أهل زمانه وأعبدهم، قدم على عبد الله بن المبارك فعانقه وأكرمه فلما قام من عنده قال: " مَا أَشْبَهَ سِيمَاهُ بِسِيمَا أَهْلِ الجَنَّةِ "، وكان يسمع من حماد بن سلمة فلما قام من عنده قال حماد: " مَا أَحْسَنَ سَمْتَ هَذَا الرَّجُلِ وَهَدْيِهِ، مَا قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ خُرَاسَانَ خَيْرٌ مِنْهُ "، توفي سنة خمس ومائتين، فلما رُفِعَتْ جنازته أقبل نُوحُ بنُ أَسَدٍ والي بلخ إلى جنازته فوضعها على عاتقه، حتى بلغ ¬

_ (¬1) ص 299 طبع مطبعة الاستقامة بالقاهرة. (¬2) ص 52، بحث أكل الضب، طبع مجتبائي دهلي، سَنَةَ 1330 هـ. (¬3) قال عبد الفتاح: «هذا القول من علي القاري، وقول ابن حزم السابق في محمد بن نصر محمولان على أكثر الأحاديث والسنن، فإن الإحاطة المطلقة لجميع الأحاديث والسنن لآحاد الأمة متعذرة عادة». (¬4) 2/ 61، 62 طبع دائرة المعارف النظامية حيدر آباد الدكن - بالهند.

المُصَلَّى، وصلى عليه نوح بن أسد، فلما سلم سمع صوتًا في الهواء: " يَا نُوحَ بْنَ أَسَدٍ صَلَّيْتَ عَلَى خَيْرِ أَهْلِ الأَرْضِ، صَلَّيْتَ عَلَى خَلَفَ بْنَ أَيُّوبٍ، فُزْتَ "». اهـ. وقال الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (¬1): «خَلَفُ بنُ أَيُّوبَ، الإِمَامُ، المُحَدِّثُ، الفَقِيْهُ، مُفْتِي المَشْرِقِ، أَبُو سَعِيْدٍ العَامِرِيُّ، البَلْخِيُّ، الحَنَفِيُّ، الزَّاهِدُ، عَالِمُ أَهْلِ بَلْخَ. تَفَقَّه عَلَى القَاضِي أَبِي يُوْسُفَ، وَسَمِعَ مِنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَعَوْفٍ الأَعْرَابِيِّ، وَمَعْمَرِ بنِ رَاشِدٍ، وَطَائِفَةٍ، وَصَحِبَ إِبْرَاهِيْمَ بنَ أَدْهَمَ مُدَّةً. حَدَّثَ عَنْهُ: يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ، وَأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَعَلِيُّ بنُ سَلَمَةَ اللَّبَقِيُّ، وَأَهْلُ بَلَدِهِ. اهـ. وسيأتيك في الفصول الآتية من ثناء أئمة المحدثين القدامى والحفاظ المتأخرين على الإمام أبي حنيفة في جودة حفظه وسعة علمه ما يصدق قول خلف هذا ويزيد، وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) 9/ 541، 542.

ثناء الذهبي على أبي حنيفة

ثَنَاءُ الذَّهَبِيِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ: إن من أصدق الكلمات التي قالها الإمام الذهبي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، - وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال - قوله في ترجمة العلامة الإمام فقيه العراق حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: من كتابه " سير أعلام النبلاء " (¬1): «فَأَفْقَهُ أَهْلِ الكُوْفَةِ: عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُوْدٍ، وَأَفْقَهُ أَصْحَابِهِمَا: عَلْقَمَةُ، وَأَفْقَهُ أَصْحَابِهِ: إِبْرَاهِيمُ - النخعي -، وَأَفْقَهُ أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ: حَمَّادٌ، وَأَفْقَهُ أَصْحَابِ حَمَّادٍ: أَبُو حَنِيْفَةَ، وَأَفْقَهُ أَصْحَابِهِ: أَبُو يُوسُفَ. وَانْتَشَرَ أَصْحَابُ أَبِي يُوسُفَ فِي الآفَاقِ، وَأَفْقَهُهُمْ: مُحَمَّدٌ - بن الحسن -، وَأَفْقَهُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ: أَبُو عَبْدِ اللهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى -». وقال أيضًا في " سير أعلام النبلاء " (¬2)، في ترجمة الإمام أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الإِمَامُ، فَقِيْهُ المِلَّةِ، عَالِمُ العِرَاقِ، أَبُو حَنِيفَةَ ... وَعُنِيَ بِطَلَبِ الآثَارِ، وَارْتَحَلَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الفِقْهُ وَالتَّدْقِيقُ فِي الرَّأْيِ وَغوَامِضِهِ، فَإِلَيْهِ المُنْتَهَى، وَالنَّاسُ عَلَيْهِ عِيَالٌ فِي ذَلِكَ». ¬

_ (¬1) 5/ 236 من الطبعة الثالثة بيروت سنة 1405 هـ. (¬2) 6/ 390 و 392.

وقال أيضًا (¬1): «الإِمَامَةُ فِي الفِقْهِ وَدَقَائِقِه مُسَلَّمَةٌ إِلَى هَذَا الإِمَامِ، وَهَذَا أَمرٌ لاَ شَكَّ فِيْهِ». وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الأَذْهَانِ شَيْءٌ ... إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ وقال في ترجمة الإمام مالك - رَحِمَهُ اللهُ - (¬2) بعد أن نقل عن الإمام الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - أنه قال: «العِلْمُ يَدُورُ عَلَى ثَلاَثَةٍ: مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ». قُلْتُ: «بَلْ وَعَلَى سَبْعَةٍ مَعَهُم، وَهُمُ: الأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَعْمَرٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَشُعْبَةُ، وَالحَمَّادَانِ». وذكر في ترجمته أيضًا (¬3)، عن الإمام أبي يوسف أنه قال: «مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى». ولما حكى في ترجمته (¬4) الأسطورة التي تعزى إلى محمد والشافعي - رَحِمَهَا اللهُ تَعَالَى - في المقارنة بين علم مالك وأبي حنيفة - رَحِمَهَا اللهُ تَعَالَى -، ولفظها: «ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: قَالَ لِي مُحَمَّدٌ: أَيُّهُمَا أَعْلَمُ، صَاحِبُنَا أَمْ صَاحِبُكُم؟ -يَعْنِي: أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا، قُلْتُ: عَلَى ¬

_ (¬1) 6/ 403. (¬2) 8/ 94. (¬3) 8/ 94. (¬4) 8/ 112، 113.

الإِنْصَافِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ، مَنْ أَعْلَمُ بِالقُرْآنِ؟، قَالَ: صَاحِبُكُم، قُلْتُ: مَنْ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ؟، قَالَ: صَاحِبُكُم. قُلْتُ: فَمَنْ أَعْلَمُ بِأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ وَالمُتَقَدِّمِيْنَ؟، قَالَ: صَاحِبُكُم. قُلْتُ: فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ القِيَاسُ، وَالقِيَاسُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَلَى هَذِهِ الأَشْيَاءِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الأُصُولَ، عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَقِيسُ؟». عقب عليها قائلاً: «قُلْتُ: وَعَلَى الإِنْصَافِ؟، لَوْ قَالَ قَائِلٌ: بَلْ هُمَا سَوَاءٌ فِي عِلْمِ الكِتَابِ، وَالأَوَّلُ أَعْلَمُ بِالقِيَاسِ، وَالثَّانِي أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ، وَعِنْدَهُ عِلْمٌ جَمٌّ مِنْ أَقْوَالِ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَمَا أَنَّ الأَوَّلَ أَعْلَمُ بِأَقَاوِيلِ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُوْدٍ، وَطَائِفَةٍ مِمَّنْ كَانَ بِالكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضِيَ اللهُ عَنِ الإِمَامَيْنِ، فَقَدْ صِرْنَا فِي وَقْتٍ لاَ يَقْدِرُ الشَّخْصُ عَلَى النُّطقِ بِالإِنْصَافِ - نَسْأَل اللهُ السَّلاَمَةَ -». وقال في ترجمة الإمام مالك أيضًا (¬1) ما نصه: «فَالمُقَلَّدُونَ صحَابَةُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرْطِ ثُبُوتِ الإِسْنَادِ إِلَيْهِم، ثُمَّ أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ كَعَلْقَمَةَ، وَمَسْرُوقٍ، وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَسَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وَعُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعُرْوَةَ، وَالقَاسِمِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. ثُمَّ كَالزُّهْرِيِّ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَطَبَقَتِهِم. ¬

_ (¬1) 8/ 91، 92.

ثُمَّ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَمَعْمَرٍ، وَابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالحَمَّادَيْنِ، وَشُعْبَةَ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ المَاجِشُونِ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ. ثُمَّ كَابْنِ المُبَارَكِ، وَمُسْلِمٍ الزَّنْجِيِّ، وَالقَاضِي أَبِي يُوْسُفَ، وَالهِقْلِ بنِ زِيَادٍ، وَوَكِيعٍ، وَالوَلِيدِ بنِ مُسْلِمٍ، وَطَبَقَتِهِم. ثُمَّ كَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالبُوَيْطِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ بنِ أَبِي شَيْبَةَ. ثُمَّ كَالمُزَنِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الأَثْرَمِ، وَالبُخَارِيِّ، وَدَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدِ بنِ نَصْرٍ المَرْوَزِيِّ، وَإِبْرَاهِيْمَ الحَرْبِيِّ، وَإِسْمَاعِيلَ القَاضِي. ثُمَّ كَمُحَمَّدِ بنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ بنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي عَبَّاسٍ بنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي بَكْرٍ بنِ المُنْذِرِ، وَأَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الخَلاَّلِ. ثُمَّ مِنْ بَعْدِ هَذَا النَّمَطِ تَنَاقَصَ الاجْتِهَادُ، وَوُضِعَتِ المُخْتَصَرَاتُ، وَأَخلَدَ الفُقَهَاءُ إِلَى التَّقْلِيدِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي الأَعْلَمِ، بَلْ بِحَسَبِ الاتِّفَاقِ، وَالتَّشَهِّي، وَالتَّعْظِيْمِ، وَالعَادَةِ، وَالبَلَدِ. فَلَو أَرَادَ الطَّالِبُ اليَوْمَ أَنْ يَتَمَذْهَبَ فِي المَغْرِبِ لأَبِي حَنِيْفَةَ، لَعَسُرَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَذْهَبَ لابْنِ حَنْبَلٍ بِبُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ، لَصَعُبَ عَلَيْهِ، فَلاَ يَجِيءُ مِنْهُ حَنْبَلِيٌّ، وَلاَ مِنَ المَغْرِبِيِّ حَنَفِيٌّ، وَلاَ مِنَ الهِنْدِيِّ مَالِكِيٌّ».انتهى. وقال في ترجمة يحيى بن آدم (¬1)، بعد ما نقل عن مَحْمُوْدٍ بْنِ ¬

_ (¬1) " السير ": 9/ 525، وفيه (محمد بن غيلان) بدل (محمود بن غيلان)، وهو خطأ.

غَيْلاَنَ: سَمِعْتُ أَبَا أُسَامَةَ يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ فِي زَمَانِهِ رَأْسَ النَّاسِ وَهُوَ جَامِعٌ، وَكَانَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي زَمَانِهِ، وَبَعدَهُ: الشَّعْبِيُّ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ بَعْدَهُ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَكَانَ بَعْدَ الثَّوْرِيِّ: يَحْيَى بنُ آدَمَ». قال الذهبي بعد هذا: «قُلْتُ: قَدْ كَانَ يَحْيَى بنُ آدَمَ مِنْ كِبَارِ أَئِمَّةِ الاجْتِهَادِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ كَمَا قَالَ فِي زَمَانِهِ. ثُمَّ كَانَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذٌ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ. ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُم فِي زَمَانِهِ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وَعَائِشَةُ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو هُرَيْرَةَ. ثُمَّ كَانَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ. ثُمَّ عَلْقَمَةُ، وَمَسْرُوْقٌ، وَأَبُو إِدْرِيسَ، وَابْنُ المُسَيِّبِ. ثُمَّ عُرْوَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُوسٌ، وَعِدَّةٌ. ثُمَّ الزُّهْرِيُّ، وَعُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وَقَتَادَةُ، وَأَيُّوْبُ. ثُمَّ الأَعْمَشُ، وَابْنُ عَوْنٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَعُبَيْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ. ثُمَّ الأَوْزَاعِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَمَعْمَرٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَشُعْبَةُ. ثُمَّ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَحَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ. ثُمَّ ابْنُ المُبَارَكِ، وَيَحْيَى القَطَّانُ، وَوَكِيْعٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ وَهْبٍ.

ثُمَّ يَحْيَى بنُ آدَمَ، وَعَفَّانُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَطَائِفَةٌ. ثُمَّ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَعَلِيُّ بنُ المَدِينِيِّ، وَابْنُ مَعِينٍ. ثُمَّ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيُّ، وَآخَرُونَ مِنْ أَئِمَّةِ العِلْمِ، وَالاجْتِهَادِ». وقال في ترجمة ابن حزم (¬1)، بعد نقل قوله: أنا أتبع الحق، وأجتهد، ولا أتقيد بمذهب، ما نصه: «قُلْتُ: نَعَمْ، مَنْ بَلَغَ رُتْبَةَ الاجْتِهَادِ وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ عِدَّةٌ مِنَ الأَئِمَّةِ لَمْ يَسُغْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ كَمَا أَنَّ الفَقِيهَ المُبتَدِئَ وَالعَامِيَّ الذِي يَحفَظُ القُرْآنَ أَوْ كَثِيرًا مِنْهُ لاَ يَسوَغُ لَهُ الاجْتِهَادُ أَبَدًا فَكَيْفَ يَجْتَهِدُ وَمَا الذِي يَقُولُ؟ وَعلاَمَ يَبنِي؟ وَكَيْفَ يَطيرُ وَلَمَّا يُرَيِّشُ؟ وَالقِسم الثَّالِث: الفَقِيهُ المُنْتَهِي اليَقِظُ الفَهِمُ المُحَدِّثُ الذِي قَدْ حَفِظ مُخْتَصَرًا فِي الفُرُوعِ وَكِتَابًا فِي قوَاعد الأُصُول وَقرَأَ النَّحْوَ وَشَارَكَ فِي الفضَائِلِ مَعَ حِفْظِهِ لِكِتَابِ اللهِ وَتشَاغُلِهِ بتَفْسِيرِهِ وَقوَةِ مُنَاظرتِهِ. فَهَذِهِ رُتْبَةُ مِنْ بلغَ الاجْتِهَادَ المُقيَّدَ وَتَأَهَّلَ لِلنظرِ فِي دلاَئِلِ الأَئِمَّةِ فَمَتَى وَضَحَ لَهُ الحَقُّ فِي مَسْأَلَةٍ وَثبت فِيهَا النَّصُّ وَعَمِلَ بِهَا أَحَدُ الأَئِمَّةِ الأَعْلاَمِ كَأَبِي حَنِيْفَةَ مِثْلاً أَوْ كَمَالِكٍ أَوِ الثَّوْرِيِّ أَوِ الأَوْزَاعِيِّ أَوِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاق فَلْيَتَّبِعْ فِيهَا الحَقَّ وَلاَ ¬

_ (¬1) 18/ 191.

يَسْلُكِ الرُّخَصَ وَلِيَتَوَرَّعْ وَلاَ يَسَعُهُ فِيهَا بَعْدَ قيَام الحُجَّة عَلَيْهِ تَقْلِيدٌ». وقد سَرَدَ الإمام الحافظ الذهبي في ترجمة أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - (¬1)،الأسطورة التي رواها الخطيب البغدادي في " تاريخه "، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، في ابتداء طلبه العلم، واختياره الفقه من سائر العلوم، وَحَكَمَ عليها بالوضع والاختلاق، فأفاد وأجاد، قال - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: «أَخْبَرَنَا ابْنُ عَلاَّنَ كِتَابَةً، أَنْبَأَنَا الكِنْدِيُّ، أَنْبَأَنَا القَزَّازُ، أَنْبَأَنَا الخَطِيبُ، أَنْبَأَنَا الخَلاَّلُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَمْرٍو الحَرِيرِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بنِ كَاسٍ النَّخَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودٍ الصَّيْدَنَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعِ بْنِ الثَّلْجِيِّ، حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " لَمَّا أَرَدْتُ طَلَبَ العِلْمِ، جَعَلتُ أَتَخَيَّرُ العُلُومَ، وَأَسْأَلُ عَنْ عَوَاقِبِهَا. فَقِيْلَ: تَعَلَّمِ القُرْآنَ. فَقُلْتُ: إِذَا حَفِظتُه فَمَا يَكُونَ آخِرُهُ؟ قَالُوا: تَجْلِسُ فِي المَسْجِدِ، فَيَقرَأُ عَلَيْكَ الصِّبْيَانُ وَالأَحدَاثُ، ثُمَّ لاَ يَلْبَثُ أَنْ يَخْرُجَ فِيْهِم مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْكَ، أَوْ مُسَاوِيكَ، فَتَذهَبُ رِئَاسَتُكَ. قُلْتُ: - القائل الذهبي - مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِلرِّئَاسَةِ قَدْ يُفَكِّرُ فِي هَذَا، وَإِلاَّ فَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُ المُصْطَفَى - صَلَوَاتُ اللهُ عَلَيْهِ -: (أَفْضَلُكُم مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ). يَا سُبْحَانَ اللهِ! وَهَلْ مَحَلٌّ أَفْضَلُ مِنَ المَسْجِدِ؟ وَهَلْ نَشْرٌ لِعِلمٍ يُقَارِبُ تَعْلِيمَ القُرْآنِ؟ كَلاَّ وَاللهِ، وَهَلْ طَلَبَةٌ خَيْرٌ مِنَ الصِّبْيَانِ الذِينَ ¬

_ (¬1) 6/ 395 - 397.

لَمْ يَعْمَلُوا الذُّنُوبَ؟! وَأَحسِبُ هَذِهِ الحِكَايَةَ مَوْضُوعَةً، فَفِي إِسْنَادِهَا مَنْ لَيْسَ بِثِقَةٍ. تَتِمَّةُ الحِكَايَةِ: «قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ سَمِعْتُ الحَدِيثَ وَكَتَبتُهُ حَتَّى لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا أَحْفَظُ مِنِّي؟ قَالُوا: إِذَا كَبِرتَ وَضَعُفْتَ، حَدَّثْتَ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْكَ هَؤُلاَءِ الأَحْدَاثُ وَالصِّبْيَانُ، ثُمَّ لَمْ تَأمَنْ أَنْ تَغلَطَ، فَيَرمُوكَ بِالكَذِبِ، فَيَصِيرُ عَارًا عَلَيْكَ فِي عَقِبِكَ. فَقُلْتُ: لاَ حَاجَةَ لِي فِي هَذَا. قُلْتُ: - القائل الذهبي - الآنَ كَمَا جَزَمْتُ بِأَنَّهَا حِكَايَةٌ مُختَلَقَةٌ، فَإِنَّ الإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ طَلَبَ الحَدِيثَ، وَأَكْثَرَ مِنْهُ فِي سَنَةِ مائَةٍ وَبَعدَهَا، وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ يَسْمَعُ الحَدِيثَ الصِّبْيَانُ، هَذَا اصْطِلاَحٌ وُجِدَ بَعْدَ ثَلاَثِ مائَةِ سَنَةٍ، بَلْ كَانَ يَطْلُبُهُ كِبَارُ العُلَمَاءِ، بَلْ لَمْ يَكُنْ لِلْفُقَهَاءِ عِلْمٌ بَعْدَ القُرْآنِ سِوَاهُ، وَلاَ كَانَتْ قَدْ دُوِّنَتْ كُتُبُ الفِقْهِ أَصلاً. ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: أَتَعَلَّمُ النَّحْوَ. فَقُلْتُ: إِذَا حَفِظتُ النَّحْوَ وَالعَرَبِيَّةَ، مَا يَكُونَ آخِرُ أَمْرِي؟ قَالُوا: تَقعُدُ مُعَلِّمًا، فَأَكْثَرُ رِزْقِكَ دِينَارَانِ إِلَى ثَلاَثَةٍ. قُلْتُ: وَهَذَا لاَ عَاقِبَةَ لَهُ. قُلْتُ: فَإِنْ نَظَرْتُ فِي الشِّعْرِ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَشعَرُ مِنِّي؟ قَالُوا: تَمدَحُ هَذَا فَيَهَبُ لَكَ، أَوْ يَخْلَعُ عَلَيْكَ، وَإِنْ حَرَمَكَ هَجَوتَهُ. قُلْتُ: لاَ حَاجَةَ فِيهِ. قُلْتُ: فَإِنْ نَظَرْتُ فِي الكَلاَمِ، مَا يَكُونُ آخِرُ أَمْرِِهِ؟ قَالُوا: لاَ يَسْلَمُ مَنْ نَظَرَ فِي الكَلاَمِ مِنْ مُشَنَّعَاتِ الكَلاَمِ، فَيُرْمَى بِالزَّنْدَقَةِ، فَيُقتَلُ، أَوْ يَسْلَمُ مَذْمُوْمًا. قُلْتُ - القائل الذهبي -: قَاتَلَ اللهُ مَنْ وَضَعَ هَذِهِ الخُرَافَةَ، وَهَلْ كَانَ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ وُجِدَ عِلْمُ الكَلاَمِ؟

قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ تَعَلَّمتُ الفِقْهَ؟ قَالُوا: تُسْأَلُ، وَتُفْتِي النَّاسَ، وَتُطلَبُ لِلْقَضَاءِ، وَإِنْ كُنْتَ شَابًّا. قُلْتُ: لَيْسَ فِي العُلُومِ شَيْءٌ أَنفَعُ مِنْ هَذَا، فَلَزِمْتُ الفِقْهَ، وَتَعَلَّمْتُهُ». وقال الحافظ الذهبي أيضًا، في ترجمة الإمام سفيان الثوري من كتابه " تذكرة الحفاظ " (¬1) مُعَلِّقًا على قوله - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: «ليس طلب الحديث من عُدَّةِ الموت لكنه علة يتشاغل بها الرجل»،ما نصه: «قلت: صدق والله إن طلب الحديث شيء غير الحديث فطلب الحديث اسم عُرْفِيٌّ لأمور زائدة على تحصيل ماهية الحديث وكثير منها مَرَاقٍ إلى العلم وأكثرها أمور يُشْغَفُ بها المحدث من تحصيل النسخ المليحة، وتطلب العالي، وتكثير الشيوخ، والفرح بالألقاب والثناء وتمني العمر الطويل ليروي، وحب التفرد إلى أمور عديدة لازمة للأغراض النفسانية، لا الأعمال الربانية. فإذا كان طلبك الحديث النبوي محفوفًا بهذه الآفات فمتى خلاصك منها إلى الإخلاص؟!، وإذا كان علم الآثار مدخولاً فما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل التي تسلب الإيمان، وتورث الشكوك والحيرة التي لم تكن والله من علم الصحابة ولا التابعين ولا من علم الأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وابن أبي ذئب، وشعبة ¬

_ (¬1) 1/ 204، 205.

ولا وَاللهِ عرفها ابن المبارك، ولا أبو يوسف القائل: " مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالكَلاَمِ تَزَنْدَقَ "، ولا وكيع، ولا بن مهدي، ولا ابن وهب، ولا الشافعي، ولا عفان، ولا أبو عبيد، ولا ابن المديني، وأحمد، وأبو ثور، والمزني، والبخاري، والأثرم، ومسلم، والنسائي، وابن خزيمة، وابن سريج، وابن المنذر، وأمثالهم، بل كانت علومهم القرآن، والحديث والفقه والنحو وشبه ذلك نعم. وقال سفيان أيضًا فيما سمعه منه الفريابي: " مَا مِنْ عَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ طَلَبِ الْحَدِيثِ إِذَا صَحَّتِ النِيَّةُ فِيهِ "». وقال في خاتمة الطبقة الخامسة (¬1)، التي ذكر فيها أبا حنيفة، ومالكًا والأوزاعي، وسفيان: «وفي زمان هذه الطبقة، كان الإسلام وأهله في عِزٍّ تَامٍّ وعلم غزير ... وكان في هذا الوقت [من الصالحين مثل إبراهيم بن أدهم وداود الطائي وسفيان الثوري] ... ومن الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والأوزاعي الذين مروا». انتهى. قلتُ: فقد ثبت مما نقلناه من تصريحات الحافظ الذهبي أمور: 1 - كانت علوم أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ - القرآن، والحديث، والفقه، والنحو، وشبه ذلك. 2 - أن الإمام أبا حنيفة طلب الحديث وأكثر منه في سنة مائة وبعدها، بل لم يكن إذ ذاك للفقهاء علم بعد القرآن سواه، وقد عُنِيَ الإمام بطلب الآثار، وارتحل في ذلك. ¬

_ (¬1) 1/ 244.

ثناء ابن تيمية على أبي حنيفة

3 - وكان أعلم بأقاويل عَلِيٍّ، وابن مسعود، وطائفة ممن كان بالكوفة من أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 4 - وكان من الأئمة العشرة الذين يدور عليهم العلم في ذلك العصر. فهو قرين مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث، وابن عيينة، ومعمر، وشعبة، وَالحَمَّادَيْنِ، في علم الكتاب والسنة. 5 - وكان من كبار أئمة الاجتهاد وأحد الأئمة الأعلام وإليه المنتهى في الفقه، والناس عِيَالٌ عليه في ذلك. فهذا رأي مؤرخ الإسلام الحافظ الناقد البصير شمس الدين الذهبي، الذي هو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال، في حق إمامنا الأعظم أبي حنيفة النعمان - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -. ثَنَاءُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ: ويقول شيخه ابن تيمية، الشيخ الإمام، العلامة، الحافظ، الناقد، الفقيه، المفسير، شيخ الإسلام تقي الدين، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحَرَّانِيُّ، البارع في الرجال، وعِلَلِ الحديث في كتابه " منهاج السنة النبوية في نقض قول الشيعة والقدرية " (¬1) ما نصه: «وَهَؤُلاَءِ أَهْلُ العِلْمِ الذِينَ يَبْحَثُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَنِ العِلْمِ، وَلَيْسَ لَهُمْ غَرَضٌ مَعَ أَحَدٍ، بَلْ يُرَجِّحُونَ قَوْلَ هَذَا [الصَّاحِبِ] تَارَةً، وَقَوْلَ هَذَا [الصَّاحِبِ] تَارَةً، بِحَسَبِ مَا يَرَوْنَهُ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، ¬

_ (¬1) 3/ 142 من طبعة بولاق سَنَةَ 1322هـ.

وَفُقَهَاءِ المَدِينَةِ، مِثْلَ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِ هَؤُلاَءِ وَمِنْ بَعْدِهِمْ كَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ المَاجِشُونِ، وَغَيْرِهِمْ. وَمِثْلُ طَاوُسٍ اليَمَانِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِثْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَمِثْلُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ، وَمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، ثُمَّ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ. وَأَمْثَالُهُمْ مِثْلُ عَلْقَمَةَ، وَالأَسْوَدِ، وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي، وَأَمْثَالُهُمْ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَالحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَمَنْصُورُ بْنُ المُعْتَمِرِ، إِلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَشَرِيكٍ، إِلَى وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ، وَأَمْثَالِهِمْ. ثُمَّ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهُوَيْهَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بْنُ سَلاَّمٍ، وَالحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ». انتهى.

فقد عَدَّ الحافظ ابن تيمية أبا حنيفة، وصاحبه أبا يوسف، ومحمد بن الحسن في «أَهْلُ العِلْمِ الذِينَ يَبْحَثُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَنِ العِلْمِ، وَلَيْسَ لَهُمْ غَرَضٌ مَعَ أَحَدٍ، بَلْ يُرَجِّحُونَ قَوْلَ هَذَا [الصَّاحِبِ] تَارَةً، وَقَوْلَ هَذَا [الصَّاحِبِ] تَارَةً، بِحَسَبِ مَا يَرَوْنَهُ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ»، وسرد أسماء قرنائهم. وصرح في موضع آخر من كتابه هذا أن «أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ مِمَّنْ لَهُ فِي الأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ مِنْ عُلَمَائِهَا» (¬1). وقال في موضع آخر من " منهاج السنة " (¬2)، ما نصه: «فَقَدْ جَاءَ بَعْدَ أُولَئِكَ فِي قُرُونِ الأُمَّةِ مَنْ يَعْرِفُ كُلَّ أَحَدٍ [ذَكَاءَهُمْ وَزَكَاءَهُمْ]، مِثْلُ: سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالحَسَنِ البَصْرِيِّ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَعَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدِ وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ [وَعَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ]، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَمُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ، وَحَبِيبٍ العَجَمِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَمَكْحُولٍ وَالحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، وَمَنْ لاَ يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلاَّ اللَّهُ». ¬

_ (¬1) 4/ 77. (¬2) 1/ 167، 168.

ثُمَّ بَعْدَهُمْ [مِثْلَ] أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَقَتَادَةَ، وَمَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَالأَعْمَشِ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَهِشَامٍ الدِّسْتُوَائِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ. وَمَنْ بَعْدَ هَؤُلاَءِ مِثْلَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَالأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَشَرِيكٍ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَابْنِ الْمَاجَشُونِ. وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِثْلَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القَطَّانِ، وَعَبْدِ الْرِحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَوَكِيعِ بْنِ الجَرَّاحِ، وَعَبْدِ الرَحْمَنِ بْنِ القَاسِمِ، وَأَشْهَبَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَمَنْ لاَ يُحْصِي عَدَدَهُ إِلاَّ اللَّهَ، مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ غَرَضٌ فِي تَقْدِيمِ غَيْرِ الفَاضِلِ لاَ لأَجْلِ رِيَاسَةٍ وَلاَ مَالٍ، وَمِمَّنْ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَظَرًا فِي العِلْمِ وَكَشْفًا لِحَقَائِقِهِ». انتهى. وقال في موضع آخر من " منهاج السنة " (¬1): « ... أَئِمَّةِ أَهْلِ الحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالتَّصَوُّفِ وَالفِقْهِ، مِثْلِ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ». ¬

_ (¬1) 1/ 172 و 173.

وقال - رَحِمَهُ اللهُ - أيضًا في موضع آخر من " منهاج السنة " (¬1): « ... وَأَئِمَّةُ الإِسْلاَمِ المَعْرُوفُونَ بِالإِمَامَةِ فِي الدِّينِ، كَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ». وقال - رَحِمَهُ اللهُ - أيضًا ما لفظه (¬2): «وَهَذَا مَذْهَبُ الأَئِمَّةِ المَتْبُوعِينَ مِثْلِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ، وَدَاوُدَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَأَصْحَابِهِمْ». انتهى. فمن يقرأ تراجم هؤلاء العلماء الأعلام، والأئمة البررة الكرام، في كتب الرجال والتواريخ، يُذْعِنُ لجلالة شأنهم وإمامتهم. والحافظ ابن تيمية يَعُدُّ الإمامَ وصاحبيه في زُمْرَةِ هؤلاء الكبار، ويصفهم تارة بـ «الأَئِمَّةِ المَتْبُوعِينَ»، وتارة بـ «وَأَئِمَّةُ الإِسْلاَمِ المَعْرُوفُونَ بِالإِمَامَةِ فِي الدِّينِ»، ومرة: بـ «أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْفِقْهِ»، ومرة يقول: «هُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَظَرًا فِي العِلْمِ وَكَشْفًا لِحَقَائِقِهِ»، وَ «يَعْرِفُ كُلَّ أَحَدٍ [ذَكَاءَهُمْ وَزَكَاءَهُمْ]»، وأخرى يصفهم: «الذِينَ يَبْحَثُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَنِ العِلْمِ». ¬

_ (¬1) 1/ 215 و 216. (¬2) 1/ 173.

أبو حنيفة من الأئمة الجلة الذين عرفت عدالتهم واشتهرت

فمن يكون موصوفًا بهذه الصفات العليا، فلا تسأل عن إمامته في الحديث، وثقته في الرواية، وكثرة إتقانه وضبطه، وحفظه وبراعته، وتضلعه في علوم الكتاب والسنة، فهؤلاء الذين جَاوَزُوا القَنْطَرَةَ، ووصلوا ذِرْوَةَ الكمال في العلم، وَكُتُبِ الرجال والطبقات مشحونة بذكر فضائلهم ومناقبهم، وسارت الركبان بمآثرهم ومعاليهم، وقد جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين، وَجَرَتْ على أقاويلهم الفتاوى، وتبعتهم الأمة، فلا يقبل في هؤلاء قول كل قائل يرميهم بسوء أو تقصير في العلم والرواية، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الأَئِمَّةِ الجِلَّةِ الذِينَ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُمْ وَاشْتَهَرَتْ: وهؤلاء الأئمة هو الذين يقول فيهم الشيخ الإمام القدوة المجتهد شيخ الإسلام أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في كتابه " اللمع في أصول الفقه " (¬1) في (باب القول في الجرح والتعديل) ما نصه: «وجملته أن الراوي لا يخلو إما أن يكون معلوم العدالة أو معلوم الفسق، أو مجهول الحال، فإن كانت عدالته معلومة كالصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أو أفاضل التابعين كالحسن، وعطاء، والشعبي، والنخعي وأجلاء الأئمة كمالك، وسفيان، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومن يجري مجراهم وجب قبول خبره، ولم يجب البحث عن عدالته». اهـ. ¬

_ (¬1) ص 41 طبع مصطفى البابي الحلبي بمصر سَنَةَ 1358 هـ.

ويقول فيهم ابن الصلاح الإمام الحافظ المفتي شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو بن صلاح الدين عبد الرحمن الكُرْدِي الشَّهْرَزُورِي الشافعي، في كتابه المشهور (¬1) " علوم الحديث ": «فَمَنِ اشْتَهَرَتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ أَوْ نَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، وَشَاعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالثِّقَةِ وَالأَمَانَةِ، اسْتُغْنِيَ فِيهِ بِذَلِكَ عَنْ بَيِّنَةٍ شَاهِدَةٍ بِعَدَالَتِهِ تَنْصِيصًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ الاعْتِمَادُ فِي فَنِّ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيبُ الحَافِظُ، وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِمَالِكٍ، وَشُعْبَةَ، وَالسُّفْيَانَيْنِ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ المُبَارَكِ، وَوَكِيعٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ فِي نَبَاهَةِ الذِّكْرِ وَاسْتِقَامَةِ الأَمْرِ، فَلاَ يُسْأَلُ عَنْ عَدَالَةِ هَؤُلاَءِ وَأَمْثَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ عَدَالَةِ مَنْ خَفِيَ أَمْرُهُ عَلَى الطَّالِبِينَ». وقال الإمام العلامة الأصولي الناقد المحدث محقق الحنفية الكمال بن الهُمَامِ في " تحرير الأصول ": «عُرِفَ أن الشهرة مُعَرِّفُ العدالة والضبط، كمالك والسفيانين والأوزاعي والليث وابن المبارك وغيرهم؛ للقطع بأن الحاصل بها من الظن فوق التزكية، وأنكر أحمد على من سأله عن إسحاق، وابنُ معين ¬

_ (¬1) " علوم الحديث " المعروف بـ " مقدمة ابن الصلاح ": ص 115 في (النوع الثالث والعشرين).

عن أبي عُبيد، وقال: أَبُو عُبَيْدٍ يُسْأَلُ عَنْ النَّاسِ». اهـ. (¬1). وقال الشيخ الإمام العالم الكبير العلامة عبد العلي بن نظام الدين الأنصاري السِّهَالوي اللَّكْنَوِي بحر العلوم ملك العلماء: «(مسألة: مُعَرِّفُ العَدَالَةِ) أمور منها (الشُّهْرَةُ)، والتواتر (كَمَالِكٍ) الإمام، (والأوزاعي)، وعبد الله (بن المبارك وغيرهم)، كالإمام الهُمَامِ أبى حنيفة وصاحبيه وبواقي أصحابه، والإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وسائر الأئمة الكرام قُدِّسَ سِرُّهُمْ (لأنها فوق التزكية) في إفادة العلم بالعدالة (ولهذا) أي لأجل كون الشهرة فوق التزكية (أنكر أحمد) بن حنبل (على من سأله عن إسحاق) بن راهويه هو عدل أم لا؟ (و) أنكر يحيى (بن معين على من سأله عن أبى عبيد، فقال) ابن معين: (أبو عبيد يُسْأَلُ عن الناس) وأنت تسأل عنه! يعني أنه مشهور بالعدالة حتى يجعل مُزَكِّيًا وأنت تسأل عنه» (¬2). وقال الإمام العلامة الحافظ الكبير محدث الديار المصرية وفقيهها أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي الحنفي، في " بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني: ¬

_ (¬1) راجع " التقرير والتحبير شرح التحرير ": 2/ 247، الطبعة الأولى ببولاق - مصر، سَنَةَ 1316 هـ. (¬2) من " فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت " مع " المستصفى ": 2/ 148، الطبعة الأولى ببولاق، المصرية سَنَةَ 1324 هـ.

كثرة أتباع أبي حنيفة واشتهار مذهبه في الآفاق

«وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لاَ يُذْكَرُونَ إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل». وهذا هو السبب في عدم إيراد الذهبي الإمام الأعظم أبا حنيفة، والهُمَامَ الأقدم الشافعي والإمام البخاري في كتابه " المغني في الضعفاء " و" الميزان " (¬1)، فقد صرح في مقدمة " ميزان الاعتدال بما نصه: «وكذا لا أذكر في كتابي من الأئمة المتبوعين [في الفروع] أحدًا لجلالتهم في الإسلام وعظمتهم في النفوس، مثل أبي حنيفة، والشافعي، والبخاري». كَثْرَةُ أَتْبَاعِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاشْتِهَارِ مَذْهَبِهِ فِي الآفَاقِ: ثم قد امتاز الإمام أبو حنيفة من بين هؤلاء الأئمة بكثرة أتباعه واشتهار مذهبه في الآفاق، فقد تبعه شطهر أهل البسيطة، بل ثلثها، ومذهبه هو أول المذاهب تدوينًا. قال الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (¬2): «اشْتُهِرَ مَذْهَبُ الأَوْزَاعِيِّ مُدَّةً، وَتَلاَشَى أَصْحَابُهُ، وَتَفَانَوْا، وَكَذَلِكَ ¬

_ (¬1) وترجمة الإمام أبي حنيفة الواقعة في بعض نسخ " الميزان" مدسوسة وَمُقْحَمَةٌ بغير قل مؤلفه الحافظ الذهبي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، كما بينته في كتابي " الإمام ابن ماجه وكتابه السنن ": ص 245، وأوسعه بيانًا العلامة المحدث الناقد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه على " الرفع التكميل " للإمام اللكنوي: ص 121 - 126 من الطبعة الثالثة. (¬2) 8/ 92.

مَذْهَبُ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَمَّيْنَا، وَلَمْ يَبْقَ اليَوْمَ إِلاَّ هَذِهِ المَذَاهِبُ الأَرْبَعَةُ. وَقَلَّ مَنْ يَنهَضُ بِمَعْرِفَتِهَا كَمَا يَنْبَغِي، فَضْلاً عَنْ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا. وَانْقَطَعَ أَتْبَاعُ أَبِي ثَوْرٍ بَعْدَ الثَّلاَثِ مائَةٍ، وَأَصْحَابُ دَاوُدَ إِلاَّ القَلِيلُ، وَبَقِيَ مَذْهَبُ ابْنِ جَرِيرٍ إِلَى مَا بَعْدَ الأَرْبَعِ مائَةٍ ... وَلاَ بَأْسَ بِمَذْهَبِ دَاوُدَ، وَفِيْهِ أَقْوَالٌ حَسَنَةٌ، وَمُتَابَعَةٌ لِلنُّصُوصِ، مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ العُلَمَاءِ لاَ يَعتَدُّونَ بِخِلاَفِهِ، وَلَهُ شُذُوْذٌ فِي مَسَائِلَ شَانَتْ مَذْهَبَهُ». وقال في " تذكرة الحفاظ " (¬1): «كان أهل الشام ثم أهل الأندلس على مذهب الأوزاعي مُدَّةً من الدهم، ثم فني العارفون به، وبقي منه ما يُوجَدُ في كتب الخلاف». وقال الإمام الرباني سيدي عبد الواهاب الشَّعْرَانِيُّ في كتاب " الميزان " (¬2): «ومذهبه - أي أبي حنيفة - أول المذاهب تدوينًا، وآخرها انقراضًا كما قاله بعض أهل الكشف، قد اختاره الله تعالى إمامًا لدينه وعباده، ولم يزل أتباعه في زيادة في كل عصر إلى يوم القيامة، لو حُبِسَ أَحَدُهُمْ وَضُرِبَ على أن يخرج عن طريقه ما أجاب، فرضي الله عنه وعن أتباعه وعن كل من لزم الأدب معه ومع سائر الأئمة». وقال أيضًا - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في " الميزان " (¬3): «إن الله تعالى لما مَنَّ عَلَيَّ بالاطلاع على عين الشريعة، رأيتُ ¬

_ (¬1) 1/ 182. (¬2) 1/ 59 من الطبعة الأزهرية بمصر 1344 هـ. (¬3) 1/ 27.

كان أبو حنيفة حجة ثبتا أعلم أهل عصره بالحديث، ومن صيارفته

المذاهب كلها متصلة بها، ورأيت مذاهب الأئمة الأربعة تجري جداولها كلها، ورأيت جميع المذاهب التي اندرست، قد استحالت حجارة، ورأيت أطول الأئمة جدولاً الإمامَ أبا حنيفة، ويليه الإمام مالك، ويليه الإمام الشافعي، ويليه الإمام أحمد بن حنبل، وأقصرهم ذلك بطول زمن العمل بمذاهبهم وقصره، فكما كان مذهب الإمام أبي حنيفة أول المذاهب المدونة تدوينًا، فكذلك يكون آخرها انقراضًا، وبذلك قال أهل الكشف». كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ حُجَّةً ثَبْتًا أَعْلَمُ أَهْلَ عَصْرِهِ بِالحَدِيثِ، وَمِنْ صَيَارِفَتِهِ: قال شمس الأئمة الإمام أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في " أصول الفقه " (¬1): «كَانَ الإمام أبو حنيفة أعلم أهل عصره بِالحَدِيثِ وَلَكِن لمراعاة شَرط كَمَالِ الضَّبْطِ قَلَّتْ رِوَايَتُهُ». وقال الإمام علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في " بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع " (¬2): «أَنَّهُ كَانَ مِنْ صَيَارِفَةِ الحَدِيثِ، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ تَقْدِيمُ الخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَدِّ الآحَادِ عَلَى القِيَاسِ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَاوِيهِ عَدْلاً ظَاهِرَ العَدَالَةِ». ¬

_ (¬1) 1/ 350 من طبعة دار الكتاب العربي، سَنَةَ 1372 هـ. (¬2) 5/ 188 من طبعة مصر، سَنَةَ 1328 هـ.

عداد الإمام أبي حنيفة في الحفاظ

وقال الإمام الكاساني أيضًا في كتابه المذكور (¬1): «وَحَدِيثٌ صَحَّحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَبْقَ فِيهِ لأَحَدٍ مَطْعَنٌ». عِدَادُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحُفَّاظِ: وقد أطبق الحفاظ الجهابذة المحدثون الذين صنفوا في طبقات الحفاظ على ذكر الإمام فيهم، فهذا الحافظ الذهبي، يترجم له في " تذكرة الحفاظ " ويثني عليه، وقد قال في مبدأ كتابه: «هذه تذكرة بأسماء مُعَدِّلِي حَمَلَةِ العِلْمِ النبوي، ومن يُرْجَعُ إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف، والتصحيح والتزييف». وكتابه " تذكرة الحفاظ " مطبوع متداول، وقد طبع مرارًا. وتبعه الإمام المحدث الحافظ ذو الفنون شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي في كتابه " المختصر في طبقات علماء الحديث " فأورده في كتابه، وترجم له وأثنى عليه خيرًا، والكتاب غير مطبوع إلى الآن (¬2)، فَأُحِبُّ أن أذكر ما قاله بِرُمَّتِهِ. قال - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: «(ت، س) أبو حنيفة، النعمان بن ثابت بن زُوْطَى، التَّيْمِيُّ مولاهم، الكوفي، الإمام، فقيه العراق، مولده سَنَةَ ثمانين، رأى أنس بن مالك غير مرة، لما قدم عليهم الكوفة، رواه ابن سعد عن سيف بن جابر، أنه سمع أبا حنيفة يقول. ¬

_ (¬1) 2/ 97. (¬2) نسخة هذا الكتاب محفوظة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وهي نسخة مصورة. وقد طبع شطر منه، وحين نقل المؤلف عنه كان غير مطبوع. (عبد الفتاح أبو غدة).

وَحَدَّثَ عن عطاء، ونافع، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعدي بن ثابت، وسلمة بن كُهَيْلٍ، وأبي جعفر محمد بن علي، وقتادة، وعمرو بن دينار، وأبي إسحاق، وخلق. تفقه به زُفَرُ بْنُ الهُذَيْلِ، وداود الطائي، وأبو يوسف، ومحمد، وأسد بن عمرو، والحسن بن زياد اللؤلؤي، ونوحُ الجامع، وأبو مطيع البلخي، وَعِدَّةٌ، وكان قد تفقه بحماد بن أبي سليمان، وغيره. وحدث عنه وكيع، ويزيد بن هارون، وسعد بن الصلت، وأبو عاصم، وعبد الرزاق، وعبيد الله بن موسى، وأبو نعيم، وأبو عبد الرحمن المقري، وخلق. وكان إمامًا، وَرِعًا، عَالِمًا، عاملاً، متعبدًا، كبير الشأن، لا يقبل جوائز السلطان، بل يتجر ويكتسب. قال ضرار بن صُرد: سئل يزيد بن هارون، أيهما أفقه، الثوري أو أبو حنيفة؟ فقال: «أَبُو حَنِيفَةَ أَفْقَهُ، وَسُفْيَانُ أَحْفَظُ لِلْحَدِيثِ». وقال ابن المبارك: «أَبُو حَنِيفَةَ أَفْقَهُ النَّاسِ»، وقال الشافعي: «النَاسُ فِي الفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ»، وقال يزيد: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَوْرَعَ وَلاَ أَعْقَلَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ»، وقال أبو داود: «رَحِمَ اللهُ أَبَا حَنِيفَةَ، كَانَ إِمَامًا». وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الوَلِيدِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: [بَيْنَمَا أَنَا] (*) أَمْشِي مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ لآخَرَ: هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ لاَ يَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ: «وَاللهِ لاَ يُتَحَدَّثُ عَنِّي بِمَا لَمْ أَفْعَلْ»، فَكَانَ يَقُومُ يُحْيِي اللَّيْلَ صَلاَةً، وَدُعَاءً، ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قارن نفس القول بما ورد في صفحة 94 من هذا الكتاب.

وَتَضَرُّعًا، وَمَنَاقِبُهُ وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ. وَكَانَ مَوْتُهُ فِي رَجَبَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةَ.- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -». انتهى. وقال في مبدأ كتابه: «وبعد، فهذا كتاب مختصر، يشتمل على جملة من الحفاظ، من أصحاب النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين، ومن بعدهم، لا يسع من يشتغل بعلم الحديث الجهل بهم». ومع كون الكتاب مختصرًا، ذكر الإمامَ فيه، وهذا يدل على كون الإمام من الحفاظ المعدودين الذين ينبغي الاعتناء بتراجمهم. ثم ذكره في الحفاظ الإمام العلامة الحافظ مؤرخ الديار الشامية وحافظها، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن ناصر الدين الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في كتابيه: " بديعة البيان عن موت الأعيان " منظومة، وَشَرْحِهَا " التبيان لبديعة البيان "، وهي طبقات الحفاظ نظمًا ونثرًا، وقد رأيت منها نسخة مخطوطة في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، بالمدينة المنورة، حين سافرتُ للحج في 1387 هـ، ضِمْنَ كُتُبِ التواريخ رقم (48) جاء فيها ما نصه: بَعْدَهُمَا فَتَى جُرَيْجِ الدَّانِي ... مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِي أي بعد وفاة الحَجَّاجِ، وَالزُّبَيْدِيِّ بعام (¬1)، وفاة ابن جريج، وأبي حنيفة الإمام. ¬

_ (¬1) الحَجَّاجُ هو أبو أرطأة الحجاج بن أرطأة الكوفي النخعي الإمام أحد الأعلام. وَالزُّبَيْدِيُّ بضم الزاي بصيغة التصغير: أبو الهذيل محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي الحمصي، قاضي حمص. وكلاهما توفيا سنة 149 هـ، قبل وفاة ابن جريج وأبي حنيفة اللذين توفيا سنة 150 هـ، - رَحِمَهُمْ اللهُ أَجْمَعِينَ -. (عبد الفتاح أبو غدة).

فالأول عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، أبو الوليد، وقيل: أبو خالد الأموي مولاهم المكي ... والثاني النعمان بن ثابت بن زُوطَى التيمي مولاهم الكوفي، وقيل: هو من أبناء فارس، قال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة فيما رُوِيَ عنه: «أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ بْنِ المَرْزِبَانِ، مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ الأَحْرَارِ، واللهِ مَا وَقَعَ عَلَيْنَا رِِقٌّ قَطُّ». انتهى. رأى الإمامُ أنسَ بن مالك غير مرة، لما قدم عليهم الكوفة، فيما رواه سيف بن جابر سماعًا من أبي حنيفة، وَحَدَّثَ عن عطاء، ونافع، وعمرو بن دينار، والأعرج، وقتادة، وخلق من الأخيار. وكان أحد أئمة الأمصار، فقيه العراق، متعبدًا، كبير الشأن، وكان يتجر، ولا يقبل جوائز السلطان. وهو أحد من كان يختم في ركعة القرآنَ، ومكث أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العتمة، وفضائله كثيرة معروفة. قال الشافعي: «النَاسُ فِي الفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ». انتهى. وذكره أيضًا الإمام المحدث جمال الدين يوسف بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي الصالحي الحنبلي الشهير بابن المِبْرَدِ (بكسر الميم وسكون الموحدة، وفتح الراء الخفيفة) في كتابه " طبقات الحفاظ " وقد نقل عنه الشيخ العلامة المحدث عبد اللطيف بن المخدوم العلامة محمد هاشم السندي، في كتابه " ذَبُّ ذُبَابَاتِ الدراسات، عن المذاهب الأربعة

المتناسبات " (¬1). ثم ذكره بعدهم خاتمة الحفاظ الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه " طبقات الحفاظ " وقد ذكرتُ ما قاله السيوطي في ترجمة الإمام أبي حنيفة في " التعليقات على ذب ذبابات الدراسات عن المذاهب الأربعة المتناسبات " فليراجع، وقد طبع كتاب " طبقات الحفاظ " للسيوطي في أوروبا وبيروت. وقال في مبدأ كتابه: «أما بعد، فَهَذَا كتاب " طَبَقَات الحفاظ " وَمُعَدِّلِي حَمَلَةِ العِلْمِ النَّبَوِيِّ وَمن يرجع إِلَى اجتهادهم فِي التوثيق وَالتَّجْرِيح، والتضعيف والتصحيح. لخصتها من " طَبَقَات " إِمَام الحفاظ أبي عبد الله الذَّهَبِيِّ، وذيلت عَلَيْهِ من جَاءَ بعده». ثم ذكره مِنْ بَعْدِهِ الشيخ العلامة المحدث محمد بن رستم بن قُبَادٍ الحارثي البَدَخْشِيِّ، أحد البارعين في علم الحديث والرجال، في كتابه " تراجم الحفاظ "، وهو مجلد ضخم في تراجم الحفاظ، استخرجها من كتاب " الأنساب " للإمام الحافظ السمعاني، مع اختصار في بعض التراجم وزيادة مفيدة في أكثرها، فرغ من تصنيفه يوم الخميس لتسع خَلَوْنَ من ربيع الأول سنة ست وأربعين ومائة وألف بمدينة دِهْلِي عاصمة الهند، فقال ما نصه: «النعمان بن ثابت الكوفي أبو حنيفة الإمام الأعظم، أحد الأئمة ¬

_ (¬1) 1/ 445، قامت بنشره لجنة إحياء الأدب السِّنْدِي بكراتشي 1379 هـ.

الأربعة المتبوعين، ذكره في نسبة «الخَزَّازِ» وقال: بفتح الخاء المعجمة وتشديد [الزاي] الأولى، اشتهر بهذه الصنعة والحرفة جماعة من أهل العِرَاقَيْنِ، من أئمة الدين وعلماء المسلمين: فأما من أهل الكوفة، فأبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، مع تبحره في العلم وَغَوْصِهِ عَلَى دقائق المعاني وَخَفِيِّهَا، كان يبيع الخَزَّ ويأكل منه طلبًا للحلال، وقيل: كان ذلك في ابتداء أمره، وَشُهْرَتُهُ تُغْنِي عن الإطناب في ذكره. ولد سَنَةَ سبعين، وتوفي سَنَةَ خمسين ومائة، انتهى كلامه في الخزاز. ثم أعاد ذكره في «الرَّائِي»، وقد مَرَّ تحقيقه في ترجمة ربيعة بن أبي عبد الرحمن (¬1) فقال: «وأبو حنيفة النعمان بن ثابت بن النعمان بن المَرْزُبَانِ التَّيْمِيِّ الكوفي، صاحب الرأي، وإمام أصحاب الرأي، وفقيه أهل العراق. رأى انس بن مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. وسمع عطاء بن أبي رباح، وأبا إسحاق السبيعي، ومحارب بن دثار، وحماد بن أبي سليمان، والهيثم بن حبيب، وقيس بن مسلم، ومحمد بن المنكدر، ونافعًا مولى ابن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، وهشام بن عروة، وسماك بن حرب». روى عنه هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ العَوَّامِ، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، ويزيد بن هارون، وأبو يوسف القاضي، ومحمد بن ¬

_ (¬1) قال فيها: «الرَّائِي» بتشديد الراء المفتوحة وفي آخرها الياء ... وإنما قيل له: الرائي لعلمه به - أي بالرأي - وكان عارفًا بِالسُنَّةِ وقائلاً بالرأي.

الحسن الشيباني، وعمرو بن محمد العَنْقَزِيِّ، وَهَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ، وأبو عبد الرحمن المُقْرِئ، وعبد الرزاق بن همام، وغيرهم. وهو كُوفِيٌّ تَيْمِيٌّ من رهط حمزة بن حبيب الزيات، وُلِدَ بالكوفة، ونقله أبو جعفر المنصور إلى بغداد، فسكنها إلى حين وفاته. قيل: إن أباه ثابت بن النعمان المَرْزُبَانُ من أبناء فارس الأحرار، ذهب إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته. وقيل: إن جده النعمان بن المرزبان هو الذي أهدى لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - الفَالُوذَجْ في يَوْمِ النَّيْرُوزِ، فقال: «نَوْرِزُونَا كُلَّ يَوْمِ»، وفي رواية: كان في يوم المِهرجان، فقال: «مَهْرِجُونَا كُلَّ يَوْمِ». وَكَلَّمَهُ ابُنُ هُبَيْرَةُ عَلَى أَنْ يَلِيَ القَضَاءَ، فَأَبَى، فَضَرِبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَعَشَرَةَ أَسْوَاطٍ، كُلَّ يَوْمٍ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ، فَصَبَرَ وَامْتَنَعَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَلَّى سَبِيلَهُ. واشتغل بطلب العلم وبالغ فيه حتى حصل له ما لم يحصل لغيره. ودخل يومًا على المنصور فكان عنده عيسى بن موسى، فقال للمنصور: «هَذَا عَالِمُ الدُّنْيَا اليَوْمَ». ورأى أبو حنيفة في المنام أنه يَنْبِشُ قَبْرَ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقيل لمحمد بن سيرين، فقال: «صَاحِبُ هَذِهِ الرُّؤْيَا رَجُلٌ يُثَوِّرُ عِلْمًا - أي يستخرج علمًا - لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ». وكان مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ يقول: «ما أحسد أحدًا بالكوفة إلا رجلين:

أبو حنيفة في فقهه، والحسن بن صالح في زهده»، وقال مسعر أيضًا: «من جعل أبا حنيفة بينه وبين الله رَجَوْتُ أن لا يخاف، ولا يكون فَرَّطَ في الاحتياط لنفسه». وقال الفضيل بن عياض: «كَانَ أََبُو حَنِيفَةَ رَجُلاً فَقِيهًا مَعْرُوفًا بِالفِقْهِ، مَشْهُورًا بِالوَرَعِ، وَاسِعَ المَالِ، مَعْرُوفًا بِالإِفْضَالِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَطِيفُ بِهِ، صَبُورًا عَلَى تَعْلِيمِ العِلْمِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، حَسَنُ [اللَّيْلِ] (*)، كَثِيرُ الصَّمْتِ، قَلِيلُ الكَلاَمِ، حَتَّى تَرِدَ مَسْأَلَةٌ فِي حَلاَلٍ أَوْ حَرَامٍ، وَكَانَ يُحْسِنُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الحَقِّ هَارِبًا مِنْ مَالِ السُّلْطَانِ» وَ «إِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ اتَّبَعَهُ، وَإِنْ كَانَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَإِلاَّ قَاسَ فَأَحْسَنَ القِيَاسَ» (**). وكانت ولادته سنة ثمانين، ومات في رجب سنة خمسين ومائة، ودُفِنَ بمقبرة الخَيْزُرَان بباب الطاق، وَصُلِّيَ عليه سِتُّ مَرَّاتٍ من كثرة الزحام، آخرهم صَلَّى عليه ابنه حماد، وغسله الحسن بن عمارة ورجل آخر، قلتُ: وزرتُ قبره غير مرة. انتهى. قلتُ: ذكره الذهبي وابن ناصر الدين في طبقات الحفاظ. انتهى ما ذكره البَدَخْشِيُّ. ورأيت من هذا الكتاب نسخة خطية في خزانة الكتب بدار العلوم لندوة العلماء لكنو بالهند. وقد عقد الشيخ العلامة الثقة المُطَّلِعُ، والحافظ المُتَّبِعُ، الشيخ الإمام، شمس الدين محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي الشافعي، مؤلف " السيرة الشامية " في كتابه " عقود الجمان في مناقب الإمام ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) في الكتاب المطبوع (الدِّينِ) والصواب (الليل)، انظر " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف: 15/ 459، الطبعة الأولى: 1422هـ - 2002 م، نشر دار الغرب الإسلامي. بيروت - لبنان. [قارن هذا القول بما ورد في ص 113 من هذا الكتاب]. (**) هو قول لابن الصباح، انظر المصدر السابق: 15/ 459.

الأعظم أبي حنيفة النعمان " (¬1)، «الباب الثالث والعشرين» في «بيان كثرة حديثه، وكونه من أعيان الحفاظ من المحدثين» قال فيه - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: «اعلم رحمك الله تعالى أن الإمام أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، من كبار حفاظ الحديث، وذكره الذهبي في كتابه " الممتع " و" طبقات الحفاظ المحدثين " منهم، ولقد أصاب وأجاد، لولا كثرة اعتنائه بالحديث ما تهيأ له استنباط مسائل الفقه، فإنه أول من استنبطه من الأدلة». انتهى. وقال العلامة المحدث إسماعيل العجلوني بن محمد جَرَّاح الشافعي في رسالته المسماة " عِقْدُ الجوهر الثمين في أربعين حديثًا من أحاديث سيد المرسلين " وهي ثَبَتُهُ المَعْرُوفُ بـ " الرسالة العجلونية " (¬2): «وَزِدْتُ عَلَى مَا فِيهَا " مُسْنَدَ " الإمام أبي حنيفة النعمان، تَنْوِيهًا بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ». ثم علق على قوله: «الإمام أبي حنيفة النعمان»، بالحاشية ما نصه (¬3): «هو إمام الأئمة، هادي الأمة، أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، ولد سنة ثمانين، وتوفاه الله تعالى سنة مائة وخمسين من الهجرة ¬

_ (¬1) في ص 319. طُبِعَ بالهند في حيدر آباد الدكن، طبعته لجنة إحياء المعارف النعمانية سنة 1394 هـ. (¬2) ص 4. (¬3) ص 4 و 5 و 6 من طبعة مصر سنة 1322 هـ.

أَحَدُ مَنْ عُدَّ من التابعين، إمام المجتهدين بلا نزاع، أول من فتح باب الاجتهاد بالإجماع، لا يَشُكُّ من وقف على فقهه، وفروعه، في سَعَةِ علومه، وجلالة قدره، وأنه كان أعلم الناس بالكتاب والسنة، لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة، ومن كان قليل البضاعة من الحديث فيتعين عليه طلبه وتحمله، والجد والتشمير في ذلك، ليأخذ الدين من أصول صحيحة، ويتلقى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها. وقد أجمع الناقلون عنه من أهل الأصول وأهل الحديث أنه يُقَدِّمُ الحديث الصحيح على القياس المُعْتَبَرِ، نعم لم يكن هو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، من المُكْثِرِينَ كسائر الأئمة، وليس من شروط الإمامة والاجتهاد الإكثار في الرواية، لأن الاجتهاد إنما يتوقف على حفظ السُّنَنِ، وتحملها، لا على أدائها وتبليغها. فَالصِدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إمام الصحابة، وأفقههم، وأحفظهم، لا يشك فيه مسلم: لم يكثر، وإنما رَوَى أحاديث معدودة، وإمام المحدثين بالإجماع إمام الأئمة وإمام دار الهجرة مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، لم يصح عنده إلا ما في كتاب " الموطأ " (¬1)، فهل يقول قائل فيه شيئًا. ونحن لا ننكر أن في السنن سُنَنًا لم تبلغ الإمام أبا حنيفة، أَوْ بَلَغَتْهُ وَلَمْ تَثْبُتْ عنده صحتها، لكن هذا أمر لا يمس شأن المجتهد، وقد كان عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يرى رَأْيًا ثم تبلغه السُنَّةُ فيرجع، مع أنه ثبت عند أهل العلم بالأثر أن عمر أفقه الصحابة - بعد أبي بكر -. ¬

_ (¬1) يعني إذا قصرنا النظر على ما دَوَّنَهُ في " الموطأ ". (عبد الفتاح أبو غدة).

أبو حنيفة من أئمة الجرح والتعديل

ثم الطاعنون فيه كانوا يقرون بإمامته، وتقدمه من حيث لا يدرون، كانوا يرمونه بالرأي، وليس الرأي في سلفنا إلا قوة الاطلاع على معاني النصوص الشرعية، وعلى الحِكَمِ المعتبرة من عند الشارع في شرعه الأحكام، ولن يَتِمَّ اجتهادٌ، بل ولا عِلْمٌ إلا بالحفظ، وَفِقْهِ معاني المحفوظ. فهو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، حافظ، حُجَّةٌ، فَقِيهٌ، لم يكثر من الرواية، لِمَا شَدَّدَ في شروط الرواية، والتحمل، وشروط القبول». انتهى. فثبت أن الإمام أبا حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أحد أئمة الأمصار الذين هُمْ من أهل هذا الشأن، ومن أعيان حفاظ الحديث، الذين لا يسع من يشتغل بعلم الحديث الجهل بهم، ومن كبار مُعَدِّلِي حَمَلَةِ العلم النبوي، وممن يَرْجِعُ إلى اجتهادهم في التوثيق والتجريح، والتضعيف والتصحيح، ومن أعلم الناس بالكتاب والسنة. أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَئِمَّةِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ: قال الحافظ العلامة أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في " تلخيص كتاب الاستغاثة " المعروف بـ " الرد على البكري " (¬1): «وكلام يحيى بن معين، والبخاري، ومسلم، وأبي حاتم، وأبي زُرْعَة، والنسائي، وأبي أحمد بن عَدِيٍّ، والدارقطني، وأمثالهم، في الرجال، وصحيح الحديث، وضعيفه، هو ¬

_ (¬1) ص 13 و 14 من طبع مصر.

مثل كلام مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأمثالهم في الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، وفي الأئمة من هو إمام مع هؤلاء وهؤلاء، مشارك للطائفتين، وإن كان بأحد الصنفين أجدر. وأكثر أئمة الحديث والفقه كمالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وكذلك الأوزاعي، والثوري، والليث، هؤلاء، وكذلك لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ولأبي حنيفة، أيضًا مَا لَهُ من ذلك، ولكن لبعضهم في الإمامة في الصنفين ما ليس للآخر، وفي بعضهم من صنف المعرفة بأحد الصنفين ما ليس في الآخر، فرضي الله عن جميع أهل العلم والإيمان». انتهى. وقال إمام الحفاظ، الجِهْبِذُ النَّاقِدُ، شمس الدين الذهبي في كتابه " ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل " (¬1): «فأول من زكى وجرح عند انقراض عصر الصحابة 1 - الشعبي. 2 - وابن سيرين ونحوهما، حُفِظَ عنهم توثيق أناس وتضعيف آخرين. وسبب قلة الضعفاء في ذلك الزمان: قِلَّةُ [مُتَّبِعِيهِمْ] من الضعفاء، إذ أكثر المتبوعين صحابة عدول، وغير الصحابة من المتبوعين أكثرهم ¬

_ (¬1) ص 159 - 162. طبع مع " قاعدة في الجرح والتعديل " (*)، طبع المكتبة العلمية في لاهور سنة 1402 هـ، بتحقيق العلامة المحقق المحدث الناقد الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة - نَفَعَ اللهُ بِهِ -. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) طبعت هذه الرسالة ضمن كتاب " أربع رسائل في علوم الحديث " اعتنى بها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، طبع خمس طبعات، الطبعة الخامسة في بيروت سنة 1410 هـ - 1990 م، شر درا البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت - لبنان. (301 صفحة).

[عامتهم ثقات صادقون] يَعُونَ مَا يَرْوُونَ وهم كبار التابعين، يوجد فيهم الواحد بعد الواحد فيه مقال كالحارث الاعور وعاصم بن ضمرة ونحوهما. نعم فيهم عِدَّةٌ من رؤوس أهل البدع، من الخوارج والشيعة، والقدرية، نسأل الله العافية، كعبد الرحمن بن مُلْجِمٍ، والمختار بن أبي عبيد الكذاب، ومعبد الجهني، ثم كان في المائة الثانية في أوائلها جماعة من الضعفاء من أوساط التابعين وصغارهم، ممن تُكُلِّمَ فِيهِمْ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِمْ، أو لبدعة فيهم، كعطية العوفي، وفرقد السبخي، وجابر الجعفي، وأبي هارون العبدري. فلما كان عند انقراض عامة التابعين في حدود الخمسين ومائة تكلم طائفة من الحهابذة في التوثيق والتضعيف. 3 - فقال أبو حنيفة: «مَا رَأَيْتُ أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ». 4 - وَضَعَّفََ الأعمش جماعة، وَوَثَّقَ آخرين. 5 - وانتقد الرجالَ شُعْبَةُ. 6 - وَمَالِكٌ». قال الحافظ أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي صاحب الحافظ ابن حجر العسقلاني (¬1): «وَتَكَلَّمَ فِي الرِّجَالِ - كَمَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ - جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ ¬

_ (¬1) في ص 479 من " فتح المغيث بشرح ألفية الحديث " من طبعة أنوار محمدي لكنو بالهند.

مِنَ التَّابِعِينَ كَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ، وَلَكِنَّهُ فِي التَّابِعِينَ ; [أَيْ: بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ] بِقِلَّةٍ، لِقِلَّةِ الضَّعْفِ فِي مَتْبُوعِيهِمْ ; إِذْ اكْثَرُهُمْ صَحَابَةٌ عُدُولٌ، وَغَيْرُ الصَّحَابَةِ مِنَ المَتْبُوعِينَ أَكْثَرُهُمْ ثِقَاتٌ، وَلاَ يَكَادُ يُوجَدُ فِي القَرْنِ الأَوَّلِ الذِي انْقَرَضَ فِي الصَّحَابَةِ وَكِبَارِ التَّابِعِينَ ضَعِيفٌ إِلاَّ الوَاحِدَ بَعْدَ الوَاحِدِ ; كَالحَارِثِ الأَعْوَرِ وَالمُخْتَارِ الكَذَّابِ. فَلَمَّا مَضَى القَرْنُ الأَوَّلُ وَدَخَلَ الثَّانِي كَانَ فِي أَوَائِلِهِ مِنْ أَوْسَاطِ التَّابِعِينَ جَمَاعَةٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ، الذِينَ ضُعِّفُوا غَالِبًا مِنْ قِبَلِ تَحَمُّلِهِمْ وَضَبْطِهِمْ لِلْحَدِيثِ، فَتَرَاهُمْ يَرْفَعُونَ المَوْقُوفَ وَيُرْسِلُونَ كَثِيرًا، وَلَهُمْ غَلَطٌ ; كَأَبِي هَارُونَ العَبْدِيِّ. فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ آخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ - وَهُوَ حُدُودُ الخَمْسِينَ وَمِائَةٍ - تَكَلَّمَ فِي التَّوْثِيقِ وَالتَّضْعِيفِ طَائِفَةٌ مِنْ الأَئِمَّةِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " مَا رَأَيْتُ أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ ". وَضَعَّفَ الأَعْمَشُ جَمَاعَةً، وَوَثَّقَ آخَرِينَ، وَنَظَرَ فِي الرِّجَالِ شُعْبَةُ وَكَانَ مُتَثَبِّتًا لاَ يَكَادُ يَرْوِي إِلاَّ عَنْ ثِقَةٍ، [وَكَذَا كَانَ] مَالِكٌ». انتهى. وقال الإمام العلامة الحافظ عبد القادر القرشي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في " الجواهر المضية في طبقات الحنفية " (¬1): «أعلم أَن الإِمَام أَبَا حنيفَة قد قبل قََوْلَهُ فى الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وتلقاه عَنهُ عُلَمَاء هَذَا الفَنِّ وَعمِلُوا بِهِ، كتلقيهم عَن الإِمَام أَحْمد ¬

_ (¬1) 1/ 30 و 31 من طبعة الهند.

وَالبُخَارِي وَابْن معِينٍ وَابْن المَدِينِي وَغَيرهم من شُيُوخ الصَّنْعَة وَهَذَا يدلك على عَظمة شأنه وسعة علمه وسيادته. فَمن ذَلِك مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فى كتاب " العِلَل " من " الجَامِع الكَبِير " حَدثنَا مَحْمُود بن غيلاَن عَن جرير عَن يحيى الحمانِي سَمِعت أَبَا حنيفَة يَقُول: «مَا رَأَيْتُ أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ، وَلاَ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءَ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ». وروينا فى " المدْخل لمعْرِفَة دَلاَئِل النُّبُوَّة " للبيهقى الحَافِظ بِسَنَدِهِ عَن عبد الحميد الحِمَّانِي سَمِعتُ أَبَا سعد الصَّنْعَانِيِّ وَقَامَ إِلَى أبي حنيفَة فَقَالَ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ مَا تَقُولُ فِي الأَخْذِ عَنْ الثَّوْريِّ؟ فَقَالَ: «اكْتُبْ عَنهُ فَإِنَّهُ ثِقَةٌ مَا خَلاَ أَحَادِيثَ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الحَارِثِ [عَنْ عَلِيٍّ]،وَحَدِيثِ جَابرٍ الجُعْفِيِّ». وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: «طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ كَانَ يَرَى القَدَرَ». وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: «زَيْدُ بْنُ عَيَّاشٍ ضَعِيفٌ». وَقَالَ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ أَقْعَدَنِي لِلْحَدِيثِ أَبُو حَنِيفَةَ، قَدِمْتُ الكُوفَةَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "إِنَّ هَذَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِحَدِيثِ عَمْرٍو بْنِ دِينَارَ "فَاجْتَمَعُوا عَليَّ فَحَدَّثْتُهُمْ». وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ: «[قُلْتُ لِعَلِيٍّ بْنَ المَدِينِيِّ] كَلاَمُ رَقَبَةُ بنُ مَصْقَلَةَ الذِى يُحَدِّثُهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ».قَالَ يَعْقُوبُ: «فَعَرَفَهُ عَليُّ بْنُ المَدِينِيِّ وَقَالَ: " لَمْ أَجِدْهُ عِنْدِي"». وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانُ الجَوْزَجَانِيِّ: «سَمِعتُ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ:

مَا عَرَفْنَا كُنْيَةَ عَمْرِو بن دِينَارٍ إِلاَّ بِأبي حَنِيفَةَ كُنَّا فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ وَأَبُو حَنِيفَةَ مَعَ عَمْرٍو بن دِينَار فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ، كَلِّمْهُ يُحَدِّثُنَا، فَقَالَ: " يَا أَبَا مُحَمَّدٍ حَدِّثْهُمْ "، وَلَمْ يَقُلْ: يَا عَمْرُو». وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: «لَعَنَ اللهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ فَإِنَّهُ فَتَحَ لِلْنَّاسِ بَابًا إِلَى عِلْمِ الكَلاَم». وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: «قََاتَلَ اللُه جَهْمَ بْنَ صَفْوَانٍ وَمُقَاتِلَ بْنَ سُلَيْمَانَ. هَذَا أَفْرَطَ فِي النَّفْيِ وَهَذَا أَفْرَطَ فِي التَّشْبِيهِ». وجاء في " الجواهر المضية في طبقات الحنفية " للحافظ عبد القادر القرشي أيضًا: (¬1) «قال الطحاوي: حدثنا سليمان بن شعيب، حدثنا أبي، قال: أَمْلَى عَلَيْنَا أَبُو يُوسُفَ، قال: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " لاَ يَنْبَغِي لِلْرَّجُلِ أََنْ يُحَدِّثَ مِنَ الحَدِيثِ إِلاَّ بِمَا حَفِظَهُ مِنْ يَوْمِ سَمِعَهُ إِلَى يَوْمِ يُحَدِّثُ بِهِ». قُلْتُُ: سَمِعْتُ شَيْخَنَا العَلاَّمَةُ الحُجَّةُ زَيْنَ الدِّينِ بْنَ الكِنَانِيِّ، فِي دَرْسِ الحَدِيثِ بِالقُبَّةِ المَنْصُورِيَّةِ وَكَانَ أَحَدَ سَلاَطِينِ العُلَمَاءِ يَنْصُرُ هَذَا القَوْلَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي هَذَا المجْلسِ: لاَ يَحِلُّ لِي أَنْ أَرْوِيَ إِلاَّ قَوْلَهُ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ فَإِنِّي حَفِظْتُهُ مِنْ حِينِ سَمِعْتُهُ إِلَى الآن ¬

_ (¬1) 1/ 30 و 31 و 32 الطبعة الأولى.

قُلْتُ: وَلَكِنَّ أََكْثَرَ النَّاسِ عَلَى خِلاَفِ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَلَّتْ رِوَايَةُ أبي حنيفَة لهَذِهِ العلَّة لاَ لِعِلَّةٍ أُخْرَى زَعَمَهَا المُتَحَامِلُونَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عَاصِم: سَمِعتُ أَبَا حنيفَة يَقُول: «القِرَاءَة جَائِزَة - يَعْنِي عَرْضَ الكُتُبِ -». قََالَ وَسَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ يَقُولُ: «هِيَ جَائِزَةٌ» - يَعْنِي عَرْضَ الكُتُبِ -. قَالَ: وَسمعت مَالك بن أنس وسُفْيَان وَسَأَلْتُ أَبَا حنيفَة عَن الرجل يقْرَأ عَلَيْهِ الحَدِيث يَقُول أخبرنَا أَو كَلاَمًا هَذَا مَعْنَاهُ فَقَالُوا: «لاَ بَأْسَ». وَعَن أبي عَاصِم أَخْبرنِي ابْن جُريج وَابْن أَبى ذئب وَأَبُو حنيفَة وَمَالك بن أنس وَالأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري كلهم يَقُولُونَ: «لاَ بَأْس إِِذَا قَرَأْتَ عَلَى العَالِمِ أَنَ تَقُولَ: أَخْبَرَنَا». وَقَالَ أَبُو قَطَنَ فِيمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ: قَالَ لي أَبُو حنيفَة: «اقْرَأ عَليَّ وَقُلْ: حَدَّثَنِي. وَقَالَ لي مَالَكَ: اقْرَأ عَليَّ وَقُلْ: حَدَّثَنِي». قَالَ الطَّحَاوِيّ حَدثنَا رَوْحُ بْنُ الفَرَجِ أَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا فَرَغْنَا مِنْ قِرَاءَةِ " المُوَطَّأ " عَلَى مَالِكٍ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ كَيْفَ نقُولُ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَقُلْ حَدَّثنِي وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ أَخْبَرَنِي، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: أَخْبَرَنَا» قَالَ: وَأرَاهُ قَالَ وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: «سَمِعْتُ» (¬1). ¬

_ (¬1) وقع في الأصل هنا تبعًا لـ " الجواهر " سقط استدركته من " رسالة الطحاوي في التسوية بين حدثنا وأخبرنا " (عبد الفتاح أبو غدة).

قال الطَّحَاوِيُّ: «وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ». وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ «لَمْ يَصِحَّ عِنْدِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ فَأُفْتِيَ بِهِ» (¬1). انتهى. قلتُ: وقال ابن حبان في " صحيحه " (¬2): «أَخْبَرَنَا الحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ القَطَّانُ بِالرَّقَّةِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحَوَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يَحْيَى الحِمَّانِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: " مَا رَأَيْتُ فِيمَنْ لَقِيتُ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءٍ وَلاَ لَقِيتُ فِيمَنْ لَقِيتُ أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ، مَا أَتَيْتُهُ بِشَيْءٍ قَطُّ مِنْ رَأْيٍ إِلاَّ جَاءَنِي فِيهِ بِحَدِيثٍ وَزَعَمَ أَنَّ عِنْدَهُ كَذَا وَكَذَا أَلْفَ حَدِيثٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ¬

_ (¬1) كذا جاء سياق هذا الخبر في " الجواهر المضية "، وفيه اختصار شديد، وهذا نصه بتمامه من " الانتقاء " لابن عبد البر، ص 140، 141: «مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ المُحَبَّرِ، قَالَ قِيلَ لأَبِي حَنِيفَةَ: المُحْرِمُ لاَ يَجِدُ الإِزَارَ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ؟ قَالَ: لاَ وَلَكِنْ يَلَبْسُ الإِزَارَ، قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لَهُ إِزَارٌ، قَالَ: يَبِيعُ السَّرَاوِيلَ وَيَشْتَرِي بِهَا إِزَارًا». «قِيلَ لَهُ: فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ وَقَالَ (المُحْرِمُ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ)، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " لَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا عِنْدِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ فَأُفْتى بِهِ، وَيَنْتَهِي كُلُّ امْرِئٍ إِلَى مَا سَمِعَ وَقَدْ صَحَّ عِنْدَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لاَ يَلْبَسُ المُحْرِمُ السَّرَاوِيلَ) فَنَنْتَهِي إِلَى مَا سَمِعْنَا ". قِيلَ لَهُ: أَتُخَالِفُ النَّبِيَّ صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يُخَالِفُ رَسُولَ اللَّهِ صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ أَكْرَمَنَا اللهُ وَبِهِ اسْتَنْقَذَنَا». (عبد الفتاح أبو غدة). (¬2) من " الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ": 3/ 273 طبع دار الكتب العلمية ببيروت.

وَسَلَّمَ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا، فَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ يُجَرِّحُ جَابِرًا الجُعْفِيَّ وَيُكَذِّبُهُ». انتهى. وقال ابن حبان أيضًا في كتاب " الثقات " (¬1) في ترجمة أبي محمد موسى بن السندي: «حَدَّثنا [عَنهُ] عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى بْنُ مُجَاشِعٍ، ثَنَا مُوسَى بْنُ السِّنْدِيِّ ثَنَا المُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: سَمِعتُ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُول: " يَقُولُونَ من كَانَ طَوِيل اللِّحْيَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقْلٌ وَلَقََدْ رَأَيْتُ عَلْقَمَة بْنَ مَرْثَدٍ طَوِيلَ اللِّحْيَةِ وَافِرَ العَقْلِ "». وقال الحافظ أبو أحمد عبد الله بن عَدي الجرجاني، في ترجمة جابر بن يزيد الجُعْفِيِّ من كتابه " الكامل في الضعفاء " (¬2): «حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبد اللَّهِ القَطَّانُ، حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحَوَارِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أبا يَحْيَى الحِمَّانِيِّ يَقُولُ: سَمعتُ أبا حنيفة يَقُولُ: " مَا رَأَيْتُ فِيمَنْ رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءَ، وَلاَ لَقِيتُ فِيمَنْ لَقِيتُ أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ مَا أَتَيْتُهُ قَطُّ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِهِ إِلاَّ جَاءَنِي فِيهِ بِحَدِيثٍ وَزَعَمَ أَنَّ عِنْدَهُ كَذَا وَكَذَا أَلْفَ حَدِيثٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُظْهِرْهَا. حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بْنُ مُحَمد بن عَبد العزيز، حَدَّثَنا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ، حَدَّثَنا عَبد الحميد الحِمَّانِيُّ سَمِعْتُ أبا سعد الصاغاني يَقُولُ جاء رجل إلى أَبِي حنيفة فَقَالَ: مَا تَرَى فِي الأَخْذ عَن الثَّوْريِّ؟ فَقَالَ: «اكْتُبْ عَنهُ ¬

_ (¬1) 9/ 162. (¬2) 3/ 537، طبع " المكتبة الأثرية " بباكستان.

مَا خَلاَ أَحَادِيثَ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الحَارِثِ [عَنْ عَلِيٍّ] , وَحَدِيثِ جَابرٍ الجُعْفِيِّ». سَمِعْتُ عَبد اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ الحَمِيدِ الحِمَّانِي، عَن أَبِي حنيفة قَال: «مَا رَأَيْتُ أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ». حَدَّثَنَا ابن أبي بكر، حَدَّثَنا عباس، وَحَدَّثنا ابْن حَمَّاد، قَال: قَال عَبَّاس، حَدَّثَنا عَبد الحميد بْنُ بَشْمِينُ، عَن أَبِي حنيفة قَال: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ». انتهى. وقال الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي في " جامع بيان العلم وفضله " (¬1): «وَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَقْعُدُ النَّاسِ بِحَمَّادٍ، يُفَضِّلُ عَطَاءً عَلَيْهِ» (عَلَى حَمَّادٍ). وَأَخْبَرَنَا حَكَمُ بْنُ مُنْذِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ المُقْرِئُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: " مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ "». وَأَخْبَرَنَا حَكَمُ بْنُ مُنْذِرٍ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَيْرَانَ الفَقِيهُ العَبْدُ الصَّالِحُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبٍ، سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يَحْيَى الحِمَّانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَلاَ رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ». انتهى. وقال البيهقي في كتاب " القراءة خلف الإمام " (¬2): وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ¬

_ (¬1) 2/ 153 طبع إدارة الطباعة المنيرية بمصر. (¬2) ص 108 و 109 من طبع دهلي سنة 1915 م.

فِي جَرْحِ الجُعْفِيِّ إِلاَّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَكَفَاهُ بِهِ شَرًّا , فَإِنَّهُ رَآهُ وَجَرَّبَهُ، وَسَمِعَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ تَكْذِيبَهُ فَأَخْبَرَ بِهِ. أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ المَالِينِيُّ، أَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ الحَافِظُ، نَا الحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ القَطَّانُ، نَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحوَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يَحْيَى الحِمَّانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ فِيمَنْ رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءٍ , وَلاَ لَقِيتُ فِيمَنْ لَقِيتُ أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ , مَا أَتَيْتُهُ بِشَيْءٍ قَطُّ مِنْ رَأْيِي إِلاَّ جَاءَنِي فِيهِ بِحَدِيثٍ وَزَعَمَ أَنَّ عِنْدَهُ كَذَا وكَذَا أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُظْهِرْهَا». وَأَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ، أَنَا أَبُو أَحْمَدَ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، نَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ، نَا عَبْدُ الحَمِيدِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعْدٍ الصَّاغَانِيُّ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: مَا تَرَى فِي الأَخْذِ عَنِ الثَّوْرِيِّ؟ فَقَالَ: «اكْتُبْ عَنْهُ، [فَإِنَّهُ ثِقَة] مَا خَلاَ حَدِيثَ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ , وَحَدِيثَ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ». أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الحَافِظُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا العَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ يَقُولُ: سَمِعْتُ العَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ الدُّورِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا يَحْيَى الحِمَّانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ فِيمَنْ رَأَيْتُ أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ». وقال الإمام ذو الفنون والمعارف أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الحافظ الأديب الظاهري في كتابه " المحلى في شرح

المجلى بالحجج والآثار " (¬1): «جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ كَذَّابٌ، وَأَوَّلُ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ أَبُو حَنِيفَةَ». وقال أيضًا (¬2): «مُجَالِدٌ ضَعِيفٌ، أَوَّلُ مَنْ ضَعَّفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ». وَرَوَى الحَاكِمُ في " تَارِيخِ نَيْسَابُورَ " فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ حَمْزَةَ الوَاعِظِ مِنْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِسْهَرٍ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، قَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: «أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنَ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ». انتهى (¬3). ونقل الحافظ الذهبي في " تذكرة الحفاظ " (¬4) في ترجمة عطاء بن أبي رباح، «قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءٍ "». ونقل في ترجمة أبي الزناد، فقيه المدينة (¬5): «وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " رَأَيْتُ رَبِيعَةَ وَأَبَا الزِّنَادِ، وَأَبُو الزِّنَادِ أَفْقَهُ الرَّجُلَيْنِ "». ونقل في ترجمة جعفر الصادق (¬6): «وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: " مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ "». ¬

_ (¬1) 1/ 378 طبع بيروت. (¬2) 5/ 243. (¬3) من " فتح المغيث بشرح ألفية الحديث " للسخاوي: ص 388. (¬4) 1/ 98. (¬5) 1/ 135. (¬6) 1/ 166.

وقال الإمام الحافظ المحدث البارع ترجمان العرب، ولسان أهل الأدب، أثير الدين محمد بن يوسف أبو حيان الأندلسي الغرناطي الظاهري، في تفسيره المعروف بـ " البحر المحيط " (¬1) ما نصه: «وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ: غَلَبَ حَمْزَةُ النَّاسَ عَلَى القُرْآنِ وَالفَرَائِضِ». انتهى. وعلى كل حال فإمامنا الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - من كبار أئمة الجرح والتعديل في عصره، ممن إذا قال قُبِلَ قَوْلُهُ، وَإِذَا جَرَّحَ أَوْ عَدَّلَ سُمِعَ مِنْهُ، وكان متثبتًا لا يكاد يروي إلا عن ثقة، كشعبة ومالك - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -، وهو أول من انتقى الرجال من الأئمة، وأعرض عمن ليس بثقة، ولم يكن يروي إلا ما صح، ولا يحدث إلا ما يحفظ وتبعه مالك. ولقد قال مَلِكُ المُحَدِّثِينَ إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين - كما في " البداية والنهاية " للحافظ ابن كثير - (¬2): «العُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ; الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالأَوْزَاعِيُّ». فهؤلاء القرناء في العلم، وأبو حنيفة ومالك يفوقان على الثوري والأوزاعي في نقد الرجال، وهما الحافظان الحُجَّتَانِ، فمن احتج به أبو حنيفة في كتاب " الآثار " أو مالك في " الموطأ " فهو المقبول، ومن اختلفا فيه - وذلك قليل جدًا - كزيد بن عياش اجْتُهِدَ في أمره. ¬

_ (¬1) 3/ 159، الطبعة الثانية ببيروت سَنَةَ 1403 هـ. (¬2) 10/ 116.

أبو حنيفة على شرط أصح الأسانيد

أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى شَرْطِ أَصَحِّ الأَسَانِيدِ: ويدل على جلالة شأن أبي حنيفة في علم الحديث، وضبطه، وإتقانه، وصحة روايته، وعلو مكانته، أنه لما قال البخاري: «أَصَحُّ الأَسَانِيدِ كُلِّهَا: مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -» وبنى على ذلك الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي أن أجل الأسانيد: الشَّافِعِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، اعترض عليه الشيخ الإمام العلامة الحافظ علاء الدين مُغُلْطَايْ: «بِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرْوِي عَنْ مَالِكٍ أَحَادِيثَ فِيمَا ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ». انتهى. وأجاب عنه البُلْقِينِي في " محاسن الاصطلاح " بقوله: «فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَهُوَ وَإِنْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ كَمَا ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، لَكِنْ لَمْ تَشْتَهِرْ رِوَايَتُهُ عَنْهُ، كَاشْتِهَارِ رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ». انتهى. وقال العراقي: «رواية أبي حنيفة عن مالك فيما ذكره الدارقطني في "غرائبه " وفي " المُدَبَّجِ "، ليست من روايته عن نافع، عن ابن عمر، والمسألة مفروضة في ذلك، نعم ذكر الخطيب حديثًا كذلك في الرواية عن مالك». وقال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: «أَمَّا اعْتِرَاضُهُ بِأَبِي حَنِيفَةَ، فَلاَ يَحْسُنُ؛ لأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ تَثْبُتُ رِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ الخَطِيبُ لِرِوَايَتَيْنِ وَقَعَتَا لَهُمَا عَنْهُ بِإِسْنَادَيْنِ فِيهِمَا مَقَالٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ رِوَايَةَ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ مَالِكٍ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي المُذَاكَرَةِ، وَلَمْ يَقْصِدِ الرِّوَايَةَ عَنْهُ كَالشَّافِعِيِّ الذِي لاَزَمَهُ

مُدَّةً طَوِيلَةً وَقَرَأَ عَلَيْهِ " المُوَطَّأَ " بِنَفْسِهِ». انتهى. نقله السيوطي في " تدريب الراوي شرح تقريب النواوي " (¬1). فانظر - يا رعاك الله - هؤلاء الحفاظ الأئمة الأعلام، لما ذكر الحافظ مُغُلْطَايْ الإمام أبا حنيفة في سلسلة أصح الأسانيد عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: لا يرومون أبا حنيفة بسوء الحفظ والضعف في الرواية، ولا ينكرون جلالته في الحديث، ولا إتقانه في الرواية، وإنما ينكرون على مُغُلْطَايْ إدخاله في هذه السلسلة، لعدم اشتهار روايته عن مالك كاشتهار رواية الشافعي عنه، أو لأنها وقعت في المذاكرة ولم يقصد أبو حنيفة الرواية عنه، أو لأن روايته عنه ليست من روايته عن نافع، أو لأنه لم تصح روايته عن مالك. فظهر من هذا اتفاق هؤلاء الحفاظ الجهابذة أئمة النقد: الإمام مُغُلْطَايْ، والإمام البُلْقِينِِي، والحافظ العراقي، وشيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني، والحافظ السيوطي، على أن الإمام أبا حنيفة في جلالة قدره، وإتقانه في الحديث قَرِينُ مَالِكٍ والشافعي، رَحِمَ اللهُ الجَمِيعَ. ولو قال الإمام مُغُلْطَايْ: إن من أصح الأسانيد أبا حنيفة، عن نافع، عن ابن عمر لكان له وجه، ولا ريب أن من أصح الأسانيد أبا حنيفة عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، وهذا الإِسْنَادُ ذكره ¬

_ (¬1) ص 30، طبع الخيرية سَنَةَ 1307 هـ.

الإمام عبد الوهاب الشَّعْرَانِيُّ في " ميزانه الكُبرى " (¬1)، كما ذكر إسناد مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. وقال الحافظ الذهبي في ترجمة عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيَّ من كتابه " سير أعلام النبلاء " (¬2): «قَالَ أَبُو عَمْرٍو بنُ الصَّلاَحِ: رُوِّينَا عَنْ عَمْرٍو بْنِ عَلِيٍّ الفَلاَّسِ, أَنَّهُ قَالَ: أَصَحُّ الأَسَانِيدِ: ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيْدَةَ, عَنْ عَلِيٍّ. قُلْتُ - القائل الذهبي - لاَ تَفَوُّقَ لِهَذَا الإِسْنَادِ مَعَ قُوَّتِهِ، عَلَى إِبْرَاهِيمَ, عَنْ عَلْقَمَةَ, عَنْ عَبْدِ اللهِ, وَلاَ عَلَى الزُهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ, عَنْ أَبِيْهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَيْنِ الإِسْنَادَيْنِ رُوِيَ بِهِمَا أَحَادِيثُ جَمَّةٌ فِي الصِّحَاحِ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ الأَوَّلُ، فَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " لِعَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ». انتهى. وقال في ترجمة عَلْقَمَةَ بْنَ قَيْسٍ النَّخَعِيِّ الكُوفِيِّ (¬3):قَالَ بَعْضُ الحُفَّاظِ، وَأَحْسَنَ: أَصَحُّ الأَسَانِيدِ: مَنْصُوْرٌ, عَنْ إِبْرَاهِيمَ, عَنْ عَلْقَمَةَ, عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ فَعَلَى هَذَا, أَصَحَّ ذَلِكَ: شُعْبَةُ, وَسُفْيَانُ, عَنْ مَنْصُورٍ, وَعَنْهُمَا يَحْيَى القَطَّانُ, وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ وَعَنْهُمَا عَلِيُّ بنُ المَدِينِيِّ, وَعَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيُّ - رَحِمَهُمُ اللهُ -. انتهى. ¬

_ (¬1) 1/ 48. (¬2) 4/ 41. (¬3) 4/ 60 و 61.

وقال في ترجمة وكيع بن الجراح (¬1): قُلْتُ: «أَصَحُّ إِسْنَادٍ بِالعِرَاقِ وَغَيْرِهَا، أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي " المُسْنَدِ " بِهَذَا السَّنَدِ عِدَّةُ مُتُونٍ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ هَاشِمٍ: خَرَجَ عَلَيْنَا وَكِيعٌ يَوْمًا، فَقَالَ: أَيُّ الإِسْنَادَينِ أَحَبُّ إِلَيْكُم: الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، أَوْ: سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، (عَنْ عَلْقَمَةَ) عَنْ عَبْدِ اللهِ? فَقُلْنَا: الأَعْمَشُ، فَإِنَّهُ أَعْلَى. فَقَالَ: بَلِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ فَقِيهٌ، عَنْ فَقِيهٍ، عَنْ فَقِيهٍ، عَنْ فَقِيهٍ، وَالآخَرُ شَيْخٌ، عَنْ شَيْخٍ، وَحَدِيثٌ يَتَدَاوَلُهُ الفُقَهَاءُ، خَيْرٌ مِنْ حَدِيثٍ يَتَدَاوَلُهُ الشُّيُوخُ». انتهى. وقال في ترجمة عبد الله بن هاشم (¬2): «الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ مُحَمَّدٍ العَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ هَاشِمٍ، قَالَ لَنَا وَكِيعٌ: أَيُّ الإِسْنَادَينِ أَحَبُّ إِلَيْكُم: الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، أَوْ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ? فَقُلْنَا: الأَوَّلُ، فَقَالَ: الأَعْمَشُ شَيْخٌ، وَأَبُو وَائِلٍ شَيْخٌ، وَسُفْيَانُ فَقِيهٌ، وَمَنْصُورٌ فَقِيهٌ، وَإِبْرَاهِيْمُ فَقِيهٌ، وَعَلْقَمَةُ فَقِيهٌ، وَحَدِيثٌ يتدَاولهُ الفُقَهَاءُ خَيْرٌ مِمَّا يتدَاولهُ الشُّيُوْخُ. قُلْتُ: بَلْ وَالأَعْمَشُ وَشَيْخُهُ لَهُمَا فِقْهٌ وَمَعْرِفَةٌ وَجَلاَلَةٌ». انتهى. ¬

_ (¬1) 9/ 158. (¬2) 12/ 328، 329.

قلتُ: فعلى هذا: أصح أسانيد العراق وَأَجَلُّهَا ما رواه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، عن الإمام الأعظم أبي حنيفة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، أو الأسود، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن هؤلاء كلهم فقهاء نبلاء، ولهم معرفة وجلالة، بل أبو يوسف ومحمد أفقه وأجل من وكيع، وأبو حنيفة أفقه وأجل من سفيان والأعمش، وكذلك شيخه حماد أفقه من منصور. وقال الحافظ ابن حجر في " شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر ": «وَقَدْ يَقعُ فِيهَا [- أي في أَخْبارِ الآحادِ المُنْقَسِمَة إِلى: مَشْهُورٍ، وعَزيزٍ، وغَريبٍ -] مَا يُفيدُ العِلْمَ النَّظَرِيَّ بِالقَرَائِنِ عَلَى المُخْتَارِ، خِلاَفًا لِمَنْ أَبَى ... وَالخَبَرُ المُحْتَفُّ بِالقَرَائِنِ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " مِمَّا لَمْ يَبْلُغ حَدَّ التَّوَاتُر ... ومِنها المَشْهُورُ إِذا كانَتْ لَهُ طرُقٌ مُتَبَايِنَةٌ سَالِمَةٌ مِنْ ضَعْفِ الرُّواةِ وَالعِلَلِ ... وَمِنْهَا المُسَلْسَلُ بِالأَئِمَّةِ الحُفَّاظِ المُتْقِنِينَ حَيْثُ لاَ يَكُونُ غَرِيبًا، كَالحَدِيثِ الذِي يَرْوِيهِ أَحْمَدُ مَثَلاً وَيُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَيُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، عَنْ مَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ العِلْمَ عِنْدَ سَمَاعِهِ بِالاسْتِدْلاَلِ مِنْ جِهَةِ جَلاَلَةِ رُوَاتِهِ، وَأَنَّ فِيهِمْ مِنَ الصِّفَاتِ، اللاَّئِقَةِ المُوجِبَةُ لِلْقَبُولِ مَا يَقُومُ مَقَامَ العَدَدِ الكَثِيرِ مِنْ غَيْرِهِمْ. ولا يتشكك من له أدنى ممارسة بالعلم وأخبار الناس، أَنَّ مَالِكًا

مثلاً لو شافهه بخبر لَعَلِمَ أنه صادق فيه، فإذا انضاف إليه أيضًا من هو في تلك الدرجة ازداد قوة، وَبَعُدَ عما يُخْشَى عليه من السهو» انتهى مُلَخَّصًا. قلتُ: فعلى هذا: ما رواه الإمام الليث بن سعد - ويشاركه فيه غيره -، عن الإمام أبي يوسف - ويشاركه فيه غيره -، عن الإمام أبي حنيفة، أو ما رواه الإمام الشافعي كذلك، عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني، عن الإمام الأعظم أبي حنيفة: يجري فيه هذا الحكم، فإنه أيضًا مُحْتَفٌّ بالقرائن، ومسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين. بل قد يُرَجَّحُ المسلسل بالأئمة على ما في " الصحيحين " أيضًا، قال ابن حجر في " شرح النخبة ": «قَدْ يَعْرِضُ لِلْمَفُوقِ مَا يَجْعَلُهُ فَائِقًا ; كَمَا لَوْ كَانَ الحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، مثلاً، وَهُوَ مَشْهُورٌ قَاصِرٌ عَنْ دَرَجَةِ التَّواتُرِ، لكنْ حَفَّتْ قَرِينَةٌ صَارَ بِهَا يُفيدُ العِلْمَ، فإِنَّه يُقَدَّمُ عَلَى الحَدِيثِ الذِي يُخْرِجُهُ البُخَارِيُّ إِذَا كَانَ فَرْدًا مُطْلقًا. وَكَمَا لَوْ كَانَ الحَدِيثُ الذِي لَمْ يُخْرِجَاهُ مِنْ تَرْجَمَةٍ وُصِفَتْ بِكَوْنِهَا أَصَحَّ الأَسَانِيدِ كَمَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابنِ عُمرَ؛ فإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى مَا انفرَدَ بِهِ أََحَدُهُمَا مَثَلاً، لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ فِيهِ مَقَالٌََ». انتهى. فعلى هذا ما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر، يُقَدَّمُ على الحديث الذي لم يخرجاه من ترجمة وُصِفَتْ بكونها أصح الأسانيد، وكذلك ما رواه أبو حنيفة، عن نافع، عن ابن عمر، أو عن عطاء بن

إطباق الحفاظ الذين جمعوا في رجال الكتب الستة وغيرهم من الأئمة المحدثين، على إسقاط الجرح في ترجمة أبي حنيفة

أبي رباح، عن ابن عباس، أو عن شيخه حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود. إِطْبَاقُ الحُفَّاظِ الذِينَ جَمَعُوا فِي رِجَالِ الكُتُبِ السِتَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الأَئِمَّةِ المُحَدِّثِينَ، عَلَى إِسْقَاطِ الجَرْحِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي حَنِيفَةَ: ثم قد أطبق الأئمة الحفاظ الذين جمعوا رجال الأصول الستة، وَدَوَّنُوا دواوينهم فيها، على الثناء على أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، والتبجيل والتعظيم المفرط له، دون الحط عليه والطعن فيه بسوء الحفظ والغفلة، بل إنهم يذكرون حفظه وجلالته في العلم، ويذكرونه بكل خير، فهذا يدل على أنهم لا يبالون بطعن طاعن فيه أَيًّا مَنْ كَانَ. فهذا الإمام الحافظ المِزِّيُّ يوسف بن الزَّكِيِّ عبد الرحمن، أبو الحجاج جمال الدين مُحَدِّثُ الشام، العالم الحبر الحافظ الأوحد الدمشقي الشافعي عَمِلَ كتاب " تهذيب الكمال " وذكر فيه ترجمة الإمام أبي حنيفة، فأطال فيها، وكل ما نقله الحافظ السيوطي في " تبييض الصحيفة " مَعْزُوًّا إلى الخطيب، إنما هو منقول من كتابه " تهذيب الكمال ". وعامة ما ذُكِرَ في " تهذيب الكمال " من أقوال أئمة الجرح والتعديل، هو منقول من كتاب " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم، و" الكامل " لابن عدي، و" تاريخ بغداد " للخطيب، و" تاريخ دمشق " لابن عساكر.

والجدير بالملاحظة أنه لم يذكر الإمام المزي في كتابه " تهذيب الكمال " شَيْئًا لا يليق بمكانة الإمام أبي حنيفة، فلله دَرُّهُ مَا أَدَقَّ نَظَرَهُ! وكيف لا يكون ذلك وقد قال الذهبي في حقه، في " تذكرة الحفاظ " (¬1): «وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الرِّجَالِ فَهُوَ حَامِلُ لِوَائِهَا، وَالقَائِمُ بِأَعْبَائِهَا، لَمْ تَرَ العُيُونُ مِثْلَهُ». وقد أثنى الحافظ الذهبي على صنيعه هذا في " تهذيبه " في ترجمة أبي حنيفة، قائلاً: «قُلْتُ: قَدْ أَحْسَنَ شَيْخُنَا أَبُو الحَجَّاجُ حَيْثُ لَمْ يُورِدْ شَيْئًا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّضْعِيفُ». انتهى. قُلْتُ: بل نقل في " تهذيب الكمال " توثيقه عن إمام الصنعة سيد الحفاظ يحيى بن معين - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، حيث قال: «وَقَال مُحَمَّدُ بْنِ سَعْدٍ العَوْفِي: سَمِعْتُ يَحْيَى بن مَعِينٍ يَقُولُ: " كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ ثِقَةً، لاَ يُحَدِّثُ بِالحَدِيثِ إِلاَّ بِمَا يَحْفَظُهُ، وَلاَ يُحَدِّثُ بِمَا لاَ يَحْفَظُ ". وَقََالَ صَالِحُ بْنَ مُحَمَّدٍ الأَسَدِيُّ الحَافِظُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بن مَعِين يَقُولُ: " كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ ثِقَةً فِي الحَدِيثِ "، وَقَال أحمد بْن مُحَمَّد بْن القاسم بن محرز، عن يحيى بن مَعِين: " كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لاَ بَأْسَ بِهِ ". وَقََالَ مَرَّةً: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ عِنْدَنَا مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ، وَلَمْ يُتَّهَمْ بِالكَذِبِ "». انتهى. هذا، وقد صرح الحافظ المِزِّي في مقدمة " تهذيب الكمال " بقوله: «وما لم يُذْكَرْ إِسْنَادُهُ فيما بيننا وبين قائله، فما كان من ذلك بصيغة ¬

_ (¬1) 4/ 1498.

الجزم، فهو مما لا نعلم بإسناده عن قائله المحكي ذلك عنه بأسًا، وما كان منه بصيغة التمريض، فربما كان في إسناده إلى قائله ذلك نظر». انتهى. وثبت من هذا التصريح أن توثيق أبي حنيفة الإمام عن ابن معين صحيح ثابت لا شك فيه. ثم تلاه الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي في كتابه " تذهيب تهذيب الكمال " فقال (¬1): «(ت، س) النعمان بن ثابت بن زُوْطَى الإمام أبو حنيفة الكوفي، فقيه العراق، وإمام أصحاب الرأي، قيل: إنه من أبناء فارس، وولاؤه لِبَنِي تيم بن ثعلبة، راى أنسا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. وروى عن: 1 - عطاء بن أبي رباح، 2 - ونافع، 3 - وعدي بن ثابت، 4 - وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، 5 - وعكرمة، 6 - ومُحارب بن دثار، 7 - وعلقمة بن مرثد، 8 - وسلمة بن كُهَيْلٍ، 9 - وحماد بن ابي سليمان، 10 - والحكم بن عُتيبة، 11 - وأبي جعفر الباقر، 12 - وقتادة، 13 - وعمرو بن دينار، وخلق سواهم. وقيل إنه روى 14 - عن الشعبي، 15 - وطاوس. وعنه: 1 - ابنه حَمَّادٌ، 2 - وحمزة الزيات، 3 - وداود الطائي، ¬

_ (¬1) يوجد من هذا الكتاب نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد تفضل الأستاذ عبد القيوم السِّنْدِي بإرسال هذه الترجمة إِلَيَّ، فجزاه الله خيرًا.

4 - وَزُفَرُ بْنُ الهُذَيْل، 5 - ونوح بن أبي مريم، 6 - وأبو يوسف القاضي، 7 - ومحمد بن الحسن، 8 - وابن المبارك، 9 - وأبو يحيى الحِمَّانِيِّ، 10 - ووكيع، 11، وحفص بن عبد الرحمن البلخي، 12 - وسعد بن الصلت، 13 - وأبو نعيم، 14 - وأبو عبد الرحمن المُقْرِي، 15 - والحسن بن زياد اللؤلؤي، 16 - وأبو عاصم النبيل، 17 - وعبد الرزاق، 18 - وعبيد بن موسى، وخلق كثير. قال أحمد العِجْلِيُّ: «هو من رهط حمزة الزيات. وكان خَزَّازًا يبيع الخز. وقال محمد بن إسحاق البَكَّائِيُّ، عن عمر بن حماد بن أبي حنيفة قال: زُوْطَى من أهل كَابُلْ، وولد ثابت على الإسلام، وكان أبو حنيفة خَزَّازًا، وَدُكَّانُهُ معروف في دار عَمْرٍو بْنِ حُرَيْثٍ، وقيل: أصله من نَسَا، وقيل من تِرْمِذْ». وعن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة قال: «أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ المَرْزُبَانِ، مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ الأَحْرَارِ، واللهِ مَا وَقَعَ عَلَيْنَا رِِقٌّ قَطُّ ... ، وُلِدَ جَدِّي فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ، وَذَهَبَ ثَابِتٌ إِلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَهُوَ صَغِيرٌ فَدَعَا لَهُ بِالبَرَكَةِ فِيهِ وَفِي ذُرِّيَّتِهِ، وَأَبُوهُ النُّعْمَانُ هُوَ الذِي أَهْدَى لِعَلِيٍّ يَوْمَ النَّيْرُوزِ، فقال: «نَوْرِزُونَا كُلَّ يَوْمِ». قال صالح بن محمد جَزَرَةُ وغيره: سمعنا يحيى بن معين يقول: «أَبُو حَنِيفَةَ ثِقَةً فِي الحَدِيثِ». وروى أحمد بن محمد بن مُحْرِزٍ عن ابن معين: «لاَ بَأْسَ بِهِ، لَقَدْ ضَرَبَهُ ابْنُ هُبَيْرَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا فَأَبَى».

قَالَ ابْنُ كَاسٍ النَّخَعِيُّ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ [خَازِمٍ]، حَدَّثَنَا الوَلِيدُ بنُ حَمَّادٍ، عَنِ الحَسَنِ بنِ زِيَادٍ، عَنْ زُفَرَ بنِ الهُذَيْلِ، سَمِعْتُ أَبَا حَنِيْفَةَ يَقُولُ: «كُنْتُ أَنظُرُ فِي الكَلاَمِ حَتَّى بَلَغتُ فِيهِ (مَبْلَغًا يُشَارُ إِلَيَّ فِيهِ بِالأَصَابِعِ) (¬1). وَكُنَّا نَجلِسُ بِالقُرْبِ مِنْ حَلْقَةِ حَمَّادِ بنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، فَجَاءتْنِي امْرَأَةٌ يَوْمًا، فَقَالَتْ لِي: رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ أَمَةٌ، أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ، كَمْ يُطَلَّقُهَا؟ فَلَمْ أَدرِ مَا أَقُولُ، فَأَمَرْتُهَا أَنْ تَسْأَلَ حَمَّادًا، ثُمَّ تَرْجِعَ تُخْبِرَنِي. فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: " يُطَلِّقُهَا وَهِيَ طَاهِرٌ مِنَ الحَيْضِ وَالجِمَاعِ تَطْلِيقَةً، ثُمَّ يَترُكُهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَتَيْنِ، فَإِذَا اغْتَسَلتْ، فَقَدْ حَلَّتْ لِلأَزْوَاجِ ". فَرَجَعَتْ، فَأَخْبَرَتْنِي، فَقُلْتُ: لاَ حَاجَةَ لِي فِي الكَلاَمِ، وَأَخَذتُ نَعْلِي، فَجَلَستُ إِلَى حَمَّادٍ، فَكُنْتُ أَسْمَعُ مَسَائِلَه، فَأَحْفَظُ قَوْلَه، ثُمَّ يُعِيدُهَا مِنَ الغَدِ، فَأَحْفَظُهَا، وَيُخْطِئُ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: لاَ يَجْلِسْ فِي صَدْرِ الحَلْقَةِ بِحِذَائِي غَيْرُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَصَحِبْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ. ثُمَّ نَازَعَتنِي نَفْسِي الطَّلَبَ لِلرِّئَاسَةِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَعْتَزِلَهُ وَأَجلِسَ فِي حَلْقَةٍ لِنَفْسِي، فَخَرَجتُ يَوْمًا بِالعَشِيِّ وَعَزْمِي أَنْ أَفْعَلَ، فَلَمَّا رَأَيْتُه، لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَعتَزِلَهُ، فَجَاءهُ تِلْكَ اللَّيلَةَ نَعْيُ قَرَابَةٍ لَهُ قَدْ مَاتَ بِالبَصْرَةِ، وَتَرَكَ مَالاً، وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجلِسَ مَكَانَه ¬

_ (¬1) ما بين القوسين سقط من الأصل: " تذهيب التهذيب " فزدته من " تهذيب الكمال ".

فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ خَرَجَ، حَتَّى وَرَدَتْ عَلَيَّ مَسَائِلُ لَمْ أَسْمَعْهَا مِنْهُ، فَكُنْتُ أُجِيبُ وَأَكتُبُ جَوَابِي، فَغَابَ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَدِمَ، فَعَرَضتُ عَلَيْهِ المَسَائِلَ، وَكَانَتْ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ مَسْأَلَةً، فَوَافَقَنِي فِي أَرْبَعِينَ، وَخَالَفَنِي فِي عِشْرِينَ، فَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَلاَّ أُفَارِقَه حَتَّى يَمُوتَ». وقال محمد بن مُزَاحِمٍ: سمعت ابن المبارك يقول: «لَوْلاَ أَنَّ اللهَ أَغَاثَنِي بِأَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ، كُنْتُ كَسَائِرِ النَّاسِ»، وَقَالَ سُلَيْمان بْنُ أَبِي شَيْخٍ، حَدَّثَنِي حُجْرُ بْنُ عَبْدِ الجَبَّار، قَالَ: قِيلَ لِلْقَاسِمِ بْنِ مَعْن المَسْعُودِيِّ: تَرْضَى أَنْ تَكونَ مِن غِلْمَانِ أَبِي حَنِيفَة؟ قَالَ: «مَا جَلَسَ النَّاسُ إِلَى أحدٍ أَنْفَعَ مِنْ مُجَالَسَة أَبِي حَنِيفَة». قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الصَّبَّاحِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: قِيلَ لِمَالِكٍ: هَلْ رَأَيْتَ أَبَا حَنِيفَةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ رَأَيْتُ رَجُلاً لَوْ كَلَّمَكَ فِي هَذِهِ السَّارِيَةِ أَنْ يَجْعَلَهَا ذَهَبًا لَقَامَ بِحُجَّتِهِ». وَعَنْ رَوْحٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ جُرَيْجٍ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةَ، فَأَتَاهُ نَعْيُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَاسْتَرْجَعَ وَتَوَجَّعَ وَقَالَ: «أَيُّ عِلْمٍ ذَهَبَ؟!». وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ صُرْدٍ: وسُئِلَ يَزِِيدُ بْنُ هَارُونٍ أَيُّمَا أَفْقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ سُفْيَانُ؟ فَقَالَ: «سُفْيَانُ أَحْفَظُ لِلْحَدِيثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَفْقَهُ». وعن ابن المبارك قال: «مَا رَأَيْتُ فِي الفِقْه مِثْلَ أَبِي حَنِيفَةَ». وعنه قال: «إِذَا اجْتَمَعَ سُفْيَانُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَمَنْ يَقُومُ لَهُمَا فُتْيَا؟». وَقَالَ أَبُو عُرُوبَةَ: سَمِعْتُ سَلَمَةُ بْْنَ شَبِيبٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَزَّاقِ،

سَمِعْتُ ابْنَ المُبَارَكِ يَقُولُ: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِرَأْيِهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ». وَرَوَى جَنْدَلُ بْنُ وَالِقٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: «كُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَى سُفْيَانَ - الثَّوْرِيَّ -، فَآتِي أَبَا حَنِيفَةَ فَيَقُولُ: " مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ " فَأَقُولُ: " مِنْ عِنْدِ سُفْيَانَ "، فَيَقُولُ: " لَقَدْ جِئْتَ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ لَوْ أَنَّ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدَ حَضَرَا لاحْتَاجَا إِلَى مِثْلِهِ "، فآتي سُفْيَانَ، فَيَقُولُ لِي: " مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ " فَأَقُولُ: " مِنْ عِنْدِ أَبِي حَنِيفَةَ "، فَيَقُولُ: " لَقَدْ جِئْتَ مِنْ عِنْدِ أَفْقَهِ أَهْلِ الأَرْضِ "». وروى بكر بن يحيى بن زَبَّانَ، عن أبيه: قَالَ لِي أَبُو حَنِيفَةَ: «يَا أَهْلَ البَصْرَةِ، أَنْتُمْ أَوْرَعُ مِنَّا، وَنَحْنُ أَفْقَهُ مِنْكُمْ». وعن شداد بن حكيم قال: «مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ»، وعن مكي بن إبراهيم قال: «كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَعْلَمَ أَهْلَ زَمَانِهِ». وقال يحيى بن معين: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: «لاَ نَكْذِبُ اللهَ، مَا سَمِعْنَا أَحْسَنَ مِنْ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَخَذْنَا بِأَكْثَرَ أَقْوَالِهِ»، وقال الربيع وغيره عن الشافعي قال: «النَاسُ فِي الفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ». وقال أبو الفضل عباس بن عزيز القطان، ثنا حرملة، سمعت الشافعي يقول: «النَّاسُ عِيَالٌ عَلَى هَؤُلاَءِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي الفِقْهِ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي المَغَازِي فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى ابْنِ إِسْحَاقَ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي التَّفْسِيرِ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مُقَاتِلٍ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي الشِّعْرِ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى زُهَيْرٍ بْنِ أَبِي سُلْمَى، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي النَّحْوِ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى الكِسَائِيِّ».

وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ قُرَيْشٍ عَنْ أَسَدٍ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: «صَلَّى أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا حُفِظَ عَلَيْهِ صَلاَةَ الفَجْرِ بِوُضُوءِ العِشَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ عَامَّةَ اللَّيْلِ يَقْرَأُ جَمِيعَ القُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَانَ يُسْمَعُ بُكَاؤُهُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يَرْحَمَهُ جِيرَانُهُ، وَحُفِظَ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَتَمَ القُرْآنَ فِي المَوْضِعِ الذِي تُوُفِّيَ فِيهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ». قُلْتُ: هذه حكاية منكرة، وفي رواتها من لا يُعْرَفُ، رواها عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي البخاري الفقيه، ثَنَا أحمد بن الحسين البلخي، ثَنَا حَمَّادٌ فذكرها. قَالَ الحَارِثِيُّ أيضًا: وَحَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ أََبِي قَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ المِرْوَزِيَّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ بْنُ أََبِي حَنِيفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «لَمَّا مَاتَ أَبِي سَأَلْنَا الحَسَنَ بْنَ عُمَارَةَ أَنْ يَتَوَلَّى غَسْلَهُ فَفَعَلَ، فَلَمَّا غَسَّلَهُ قَالَ: " رَحِمَكَ اللهُ وَغَفَرَ لَكَ، لَمْ تُفْطِرْ مُُنْذُ ثَلاَثِينَ سَنَةٍ، وَلَمْ تَتَوَسَّدْ يَمِينَكَ بِاللَّيْلِ مُُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ، وَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَكَ، وَفَضَحْتَ القُرَّاءَ"» (**). وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الوَلِيدِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذْ سَمِعْتُ رَجُلاً يَقُولُ لِرَجُلٍ: هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ، لاَ يَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ: «وَاللهِ لاَ يُتَحَدَّثُ عَنِّي بِمَا لَمْ أَفْعَلْ»، فَكَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ صَلاَةً، وَدُعَاءً، وَتَضَرُّعًا». وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ بْنِ عَفَّانَ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ البَزَّارُ، سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعْتُ مِسْعَرًا يَقُولُ: «دَخَلْتُ المَسْجِدَ لَيْلَةً فَرَأَيْتُ رَجُلاً يُصَلِّي فَقَرَأَ سُبْعًا، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ، ثُمَّ قَرَأَ الثُّلُثَ ثُمَّ النِّصْفَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقْرَأُ حَتَّى خَتَمَ فِي رَكْعَةٍ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ أَبُو حَنِيفَةَ». ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قارن نفس القول بما ورد في صفحة 59 من هذا الكتاب. (**) قارن نفس القول بما ورد في صفحة 113 من هذا الكتاب.

وَعَنْ خَارِجَةَ بْنَ مُصْعَبٍ قَالَ: «خَتَمَ القُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ أَرْبَعَةٌ: عُثُمَّانُ [بْنُ عَفَّانَ]، وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ». وَعَنْ يَحْيَى بْنِ نَصْرٍ، قَالَ: «(أَبُو حَنِيفَةَ) (¬1) رُبَّمَا خَتَمَ القُرْآنَ فِي رَمَضَانَ سِتِّينَ خَتْمَةٍ». وَقَالَ سَلِيمَانُ بْنُ الرَّبِيعِ، ثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، سَمِعْتُ اِبْنَ المُبَارَكِ يَقُولُ: قَدِمْتُ الكُوفَةُ فَسَأَلْتُ عَنْ أَوَرَعِ أَهْلِهَا، فَقَالُوا: أَبُو حَنِيفَةً. قَالَ سَلِيمَانُ: فَسَمِعْتُ مُكِيَّ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ: «جَالَسَتْ الكُوفِيِّينَ فَمَا رَأَيْتُ فِيهِمْ أَوَرَعِ مِنْ أَبِي حَنِيفَةً».، وَقَالَ حامد بْنُ آدم: «سَمِعْتُ اِبْنَ المُبَارَكِ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَوَرَعِ مِنْ أَبِي حَنِيفَةً، قَدْ جُرِّبَ بِالسِّياطِ وَالأَمْوَالِ». وَعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ الرَّقِّيَّ قَالَ: «كَلَّمَ اِبْنُ هُبَيْرَةَ أَبَا حَنِيفَةً أَنْ يَلِيَ قَضَاءَ الكُوفَةِ، فَأَبَى فَضَرِبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَعَشَرَةَ أَسْوَاطٍ، فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ، ثَمَّ خَلاَّهُ». وَقاَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْخٍ: حَدَّثَنِي الرَّبِيعُ بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ: «أَرْسَلَنِي يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ بْنُ هُبَيْرَةَ، فَأَتَيْتُهُ بِأَبِي حَنِيفَةَ، فَأَرَادَهُ عَلَى بَيْتِ المَالِ، فَأَبَى، فَضَرَبَهُ أَسْوَاطًا». وَعَنْ مُغِيثٍ بْنَ بَدِيلٍ، قَالَ خَارِجَةَ بْنِ مُصْعَبٍ: «أَجَازَ المَنْصُورُ أَبَا حَنِيفَةَ بِعَشْرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، فَدُعِيَ لِيَقْبِضَهَا، فَشَاوَرَنِي، وَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ إِنْ رَدَدْتُهَا عَلَيْهِ غَضِبَ، [وَإِنْ قَبِلْتُهَا دَخَلَ عَلَيَّ فِي دِينِي مَا أَكْرَهُهُ]، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا المَالَ عَظِيمٌ فِي عَيْنِهِ، أَفَإِذَا دُعِيتَ ¬

_ (¬1) لفظ (أبو حنيفة) سقط من الأصل: " تذهيب التهذيب "، فزدته من " تهذيب الكمال ".

لِتَقْبِضَهَا، فَقُلْ: لَمْ يَكُنْ هَذَا أَمَلِي مِنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، فَدُعِيَ لِيَقْبِضَهَا فَقَالَ ذَلِكَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ خَبَرُهُ فَحَبَسَ الجَائِزَةَ». قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ الدَّقِيقِيُّ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ، يَقُولُ: «أَدْرَكْتُ النَّاسَ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْقَلَ، وَلا أَوْرَعَ، وَلا أَفْضَلَ، مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ». قَالَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ: «كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَتَبِينُ عَقْلُهُ فِي مَنْطِقِهِ، [وَفِعْلِهِ]، وَمَشْيِهِ، وَمَدْخَلِهِ، وَمَخْرَجِهِ». وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عُثْمَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ بْنِ أََبِِي حَنِيفَةَ، قَالَ: «كَانَ لَنَا جَارٌ طَحَّانٌ رَافِضِيٌّ، وَكَانَ لَهُ بَغْلاَنِ، سَمَّى أَحَدَهُمَا: أَبَا بَكْرٍ، وَالآخَرَ عُمَرَ، فَرَمَحَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَحَدُهُمَا فَقَتَلَهُ، فَقَالَ أَبُو حنيفة،: " انْظُرُوا [البَغْلَ] الذِي رَمَحَهُ الذِي سَمَّاهُ عُمَرَ؟ " فَنَظَرُوا فَكَانَ ذَلِكَ». وقال يعقوب بن شيبة: أَمْلَى عَلَيَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَبْيَاتًا لابْنِ المُبَارَكِ: رَأيتُ أبَا حَنيفَة َ كُلَّ يَومٍ ... يزيدُ نَبَالَة ً وَيَزِيدُ خَيْرَا وَيَنْطِقُ بِالصَّوَابِ وَيَصْطَفِيهِ ... إِذَا مَا قالَ أَهلُ الجَوْرِ جُورَا يُقَايِسُ مَنْ يُقَايِسُهُ بِلُبٍّ ... فَمَنْ ذَا يَجْعَلُونَ لَهُ نَظيرَا كَفَانَا فَقْدُ حَمَّادٍ وَكَانَتْ ... مُصِيبَتُنَا بِهِ أَمْرًا كَبِيرَا فَرَدَّ شَمَاتَةَ الأَعْدَاءِ عَنَّا ... وَأَبْدَى بَعْدَهُ عِلْمًا كَثِيرَا رَأَيْتُ أَبَا حَنِيفَةَ حِينَ يُؤْتَى ... وَيُطْلَبُ عِلْمُهُ بَحْرًا غَزِيرَا إِذَا مَا المُشْكِلاَتُ تَدَافَعَتْهَا ... رِجَالُ العِلْمِ كَانَ بِهَا بَصِيرَا

رَوَى نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ الخُرَيْبِيِّ، قَالَ: «النَّاسُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللهُ - حَاسِدٌ وَجَاهِلٌ، وَأَحْسَنُهُمْ عِنْدي حَالاً الجَاهِلُ». وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبٍ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ يَقُولُ: «أَبُو حَنِيفَةَ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ، خَطَؤُهُ كَخَطَأِ النَّاسِ، وَصَوَابُهُ كَصَوَابِ النَّاسِ». تُوُفِّيَ أَبُو حَنِيفَةَ بِبَغْدَادَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ وَغَيْرُهُ: فِي رَجَبَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةَ، وَمَنْ قَالَ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ أَوْ ثَلاَثٍ وَخَمْسِينَ فَقَدْ وَهِمَ. وَعَنْ الحَسَنِ بْنِ يُوسُفَ قَالَ: «صُلِّيَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ سِتُّ مَرَّاتٍ مِنْ كَثْرَةِ الزِّحَامِ». روى له الترمذي في " العلل " قوله: «مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءٍ»، (وقال عوص: وقد روى له النسائي في " سننه الكبير " في - باب من وقع على بهيمة -: قال النسائي: [أَخْبَرَنَا] عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: [أَخْبَرَنَا] عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ النُّعْمَانِ يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ، عَنْ عَاصِمٍ هُوَ ابْنُ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مَنْ أَتَى [بَهِيمَةً] حَدٌ») (¬1). قُلْتُ: قَدْ أَحْسَنَ شَيْخُنَا أَبُو الحَجَّاجُ حَيْثُ لَمْ يُورِدْ شَيْئًا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّضْعِيفُ. انتهى. فهذا ما ذكره الإمام، الحافظ، محدث العصر، وخاتمة الحفاظ، ومؤرخ الإسلام، وَفَرْدُ الدهر، والقائم بأعباء هذه الصناعة، شمس الدين ¬

_ (¬1) ما بين الهلالين ليس في الأصل، وإنما هو في الحاشية بلفظ: (وَقَالَ عوص، و (عوص) كذلك في المخطوطة، والحديث المذكور في " السنن الكبرى " للنسائي: 4/ 322، 323 في أبواب التعزيرات والشهود.

أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني ثم الدمشقي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وقال الإمام الحافظ المؤرخ أبو المحاسن محمد بن علي بن الحسن الحُسيني، في كتابه " التذكرة بمعرفة رجال العشرة " (¬1)، وهي " الكتب الستة "، و" الموطأ "، و" مسند أحمد "، و" مسند الشافعي "، و" مسند أبي حنيفة ": «(فع، أ، ت، ن) (¬2) النعمان بن ثابت التيمي، أبو حنيفة الكوفي، فقيه أهل العراق، وإمام أصحاب الرأي، وقيل: إنه من أبناء فارس. رأى أنس بن مالك، وروى عن حماد بن أبي سليمان، وعطاء، وعاصم بن أبي النجود، والزهري، وقتادة، وأبي الزبير، ومحمد بن المنكدر، وأبي جعفر الباقر، والشعبي، وخلق. وعنه ابنه حماد، ووكيع بن الجراح، وعيسى بن يونس، وعبد الرزاق، وأبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وزُفَرُ بن الهذيل، وخلق كثير. قال العجلي: كوفي تيمي من رهط حمزة الزيات، وكان خَزَّازًا ¬

_ (¬1) وتوجد لهذا الكتاب (*) نسخة على ميكروفلم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت رقم 123، وقد تفضل الأستاذ العالم المقرئ مسعود أحمد السيد بإرسال ترجمة الإمام إلينا، جزاه الله تعالى عني وعن سائر أهل الإسلام خيرًا. (¬2) هذه رموز لمن أخرج له «فع» للشافعي، و «أ» لأحمد، و «ت» للترمذي، و «ن» للنسائي. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قام بتحقيق هذا الكتاب الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب، أستاذ الشريعة بجامعتي القاهرة وأم القرى، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة.

يبيع الخز، وقال محمد بن سعد العوفي: سمعت يحيى بن معين يقول: «كان أبو حنيفة ثقة، لا يحدث من الحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظه»، وقال مرة: «كان من أهل الصدق ولم يُتَّهَمْ بالكذب، ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء فأبى أن يكون قاضيًا». وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ صُرْدٍ: وسُئِلَ يَزِِيدُ بْنُ هَارُونٍ أَيُّمَا أَفْقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ سُفْيَانُ؟ فَقَالَ: «سُفْيَانُ أَحْفَظُ لِلْحَدِيثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَفْقَهُ» (*).، وقال ابن المبارك: «مَا رَأَيْتُ فِي الفِقْه مِثْلَهُ إِذَا اجْتَمَعَ سُفْيَانُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَمَنْ يَقُومُ لَهُمَا عَلَى فُتْيَا»، وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: «كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَعْلَمَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَقَدْ جَالَسْتُ الكُوفِيِّينَ فَمَا رَأَيْتُ فِيهِمْ أَوْرَعَ مِنْهُ». «لاَ نَكْذِبُ اللهَ، مَا [سَمِعْنَا] أَحْسَنَ مِنْ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَخَذْنَا بِأَكْثَرَ أَقْوَالِهِ» وقال ابن معين: سمعت يحيى القطان يقول: «لاَ نَكْذِبُ اللهَ، مَا [سَمِعْنَا] أَحْسَنَ مِنْ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَخَذْنَا بِأَكْثَرَ أَقْوَالِهِ». قال ابن معين: «وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يَذْهَبُ فِي الفَتْوَى إِلَى قَوْلِ الكُوفِيِّينَ وَيَخْتَارُ قَوْلَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَيَتْبَعُ رَأْيَهُ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ». وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: «النَاسُ فِي الفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ مِمَّنْ وُفِّقَ لَهُ الفِقْهُ». قال الربيع عن الشافعي: سئل أبو حنيفة عن الصائم يأكل ويشرب ويطأ إلى طلوع الفجر، وكان عنده رجل نبيل (¬1) فقال: «أَرَأَيْتَ إِنْ طَلَعَ الفَجْرُ نِصْفَ اللَّيْلِ؟ فَقَالَ: الزَمْ الصَّمْتَ يَا أَعْرَجُ». وقال أبو يوسف: «بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذْ سَمِعْتُ رَجُلاً ¬

_ (¬1) كذا في الأصل! ولعله «مُغَفَّلٌ». [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قارن في هذا القول بما ورد في صفحة 92 من هذا الكتاب.

يَقُولُ: هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ لاَ يَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " وَاللهِ لاَ يُتَحَدَّثُ عَنِّي بِمَا لَمْ أَفْعَلْ "، فَكَانَ يَقُومُ يُحْيِي اللَّيْلَ صَلاَةً، وَدُعَاءً، وَتَضَرُّعًا». قال أبو نعيم وجماعة: «ولد سنة ثمانين، ومات سنة خمسين ومائة». وقال ابن معين: «مات سنة إحدى وخمسين». وقال غيره: «سنة ثلاث وخمسين ومائة». أخبرنا الحافظ الحُجَّةُ أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن المِزِّيِّ بقراءتي عليه سنة أربعين وسبع مائة، قال: أنا الزاهد أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن الواسطي، أنا أبو علي الحسن بن إسحاق بن الجَوَالِيقِي، أنا أبو بكر محمد بن عبيد الله الزَّاعُونِي، أنا أبو القاسم علي بن أحمد البُنْدَارُ، أنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن البَزَّازُ، أنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي، ثنا يوسف بن موسى، ثنا وكيع، ثنا أبو حنيفة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ [فَمَالُهُ] لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ» رواه (د) في البيوع، (ن) في العتق وفي الشروط من حديث عطاء عن جابر». انتهى. وقال سِبْطُ بْنُ العَجْمِي الإمام العلامة برهان الدين أبو الوفاء إبراهيم بن محمد بن خليل الطرابلسي ثم الحلبي الشافعي، شيخ البلاد الحلبية بِلاَ مُدَافِعٍ، في كتابه " نهاية السُّول في رجال الستة الأصول " (¬1): ¬

_ (¬1) في " لحظ الألحاظ بذيل تذكرة الحفاظ " اسمه " غاية السول " وهذا الكتاب له نسخة عكسية موجودة في خزانة «الجامعة الإسلامية» بالمدينة المنورة، وقد تفضل =

«(ت، س) النعمان بن ثابت بن زُوطَى كَسُلْمَى، الإمام المجتهد أبو حنيفة الكوفي، فقيه العراق، وإمام أصحاب الرأي، قيل: إنه من أبناء فارس، وولاؤه لبني تيم الله بن ثعلبة، وأما زُوطَى فإنه من أهل كَابُلْ، وولد ثابت على الإسلام، وكان زُوطَى مَمْلُوكًا لبني تيم الله بن ثعلبة، فَأُعْتِقَ، فولاؤه لبني تيم الله بن ثعلبة». وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: «أنا إسماعيل بن حماد بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان: من أبناء فارس الأحرار، واللهِ مَا وَقَعَ عَلَيْنَا رِِقٌّ قَطُّ، وكان أبو حنيفة خَزَّازًا، ودكانه معروف في دار عمرو بن حُريث». وقال أبو نعيم الفضل - دُكَيْنٍ -: «أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ كَابُلْ»، وقال أبو عبد الرحمن المقرئ: «كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ». وقال يحيى بن نصر القريشي: «كَانَ وَالِدُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ نَسَا»، وقال الحارث بن إدريس: «أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ تِرْمِذْ». وقال إسحاق بن البُهْلُولِ عن أبيه، قال: «ثَابِتُ وَالِدُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الأَنْبَارِ». رأى أبو حنيفة أَنَسًا. وكان في زمن أبي حنيفة - كما قال أبو إسحاق الفيروزآبادي - أربعة من الصحابة: أنس، وعبد الله بن أبي أَوْفَى، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وأبو الطُّفَيْلِ، ولم يأخذ عن أحد منهم. انتهى، وقيل: إنه روى عن الشعبي، وطاوس، انتهى. ¬

_ = الأستاذ العالم المقرئ مسعود أحمد السيد الموقر، بإرسال عكس ترجمة الإمام إلينا جزاه الله تعالى عنا خير الجزاء، لكن النسخة سقيمة الخط جِدًّا صَعْبَةَ القراءة، وقد طمست بعض الأسطر في العكس، فلا تكاد تقرأ.

وَقَدْ رَوَيْنَا عن قاضي القضاة جمال الدين محمود بن أحمد بن السراج، أن أبا حنيفة رَوَى عن سبعة من الصحابة، ونظمهم في بيتين، والله أعلم. وأخرج جُزْءًا يُرْوَى، سَمَّاهُ " ما رواه أبو حنيفة عن الصحابة " ... ورأيت لبعض الفضلاء من الحنفية بِسَنَدِ مُلاَّ يَعْقُوب ما رواه أبو حنيفة عن الصحابة. يعني أن ما موصولة بمعنى الذي - إلى آخره -. قال الخطيب البغدادي في " تاريخه ": «رأى أنس بن مالك، وسمع عطاء بن أبي رباح، وأبا إسحاق السبيعي، ومحارب بن دثار، وحماد بن أبي سليمان، والهيثم بن حبيب الصراف، وقيس بن مسلم، وَمُحَمَّد بن المنكدر، ونافعًا مولى ابن عُمَرَ، وهشام بن عروة، ويزيد الفقير، وسماك بن حرب، وعلقمة بن مرثد، وعطية العوفي، وعبد العزيز بن رفيع، وعبد الكريم أبا أمية، وغيرهم». وروى عنه أبو يحيى الحِمَّانِي، وَهُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ العَوَّامِ، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، ويزيد بن هارون، وعلي بن عاصم، ويحيى بن نصر، وأبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وعمرو بن محمد العَنْقَزِي، وَهَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ، وأبو عبد الرحمن المقرئ، وعبد الرزاق بن همام، وآخرون. وهو من أهل الكوفة، ونقله أبو جعفر المنصور إلى بغداد. وقال الشيخ أبو إسحاق في " الطبقات ": «ولد سنة 70 من الهجرة، وتوفي في بغداد سنة 150، وهو ابن 80 سنة.

أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان، ومناقبه كثيرة معروفة في الكتب، وكذا زُهْدُهُ وَصَلاَتُهُ، وَعِبَادَتُهُ كُلُّهُ معروف، وقد أفردت مناقبه بالتصنيف. والصحيح أنه توفي في السجن، دعاه أبو جعفر المنصور إلى القضاء فأبي عليه، فحبسه، وقصته معروفة مذكورة في الكتب - رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ -». انتهى كلام سبط بن العجمي البرهان الحلبي الشافعي. وجرى على منوال المِزِّي والذهبي والحُسَيْنِي والبرهان الحلبي، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني الشافعي الحافظ ابنُ حجر شيخ الإسلام، وإمام الحفاظ في زمانه، وحافظ الديار المصرية - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، فلم يذكر في كتابه " تهذيب التهذيب "، في ترجمة الإمام أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - شيئًا يلزم منه تضعيفه. وهؤلاء الأئمة: المزي والذهبي، والعراقي، وابن حجر، هم الذين يقول في حقهم الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي في " ذيل تذكرة الحفاظ " (¬1) ما نصه: «وَالذِي أَقُولُهُ: إِنَّ المُحَدِّثِينَ عِيَالٌ الآنَ فِي الرِّجَالِ وَغَيْرِهَا مِنْ فُنُونِ الحَدِيثِ عَلَى أَرْبَعَةٍ: المِزِّيُّ، وَالذَّهَبِيُّ وَالعِرَاقِيُّ، وَابْنُ حَجَرَ». انتهى. وكذلك فعل الإمام المحدث الحافظ المفيد البارع عماد الدين ¬

_ (¬1) ص 348.

الحافظ ابن كثير أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، فذكر له في كتابه " البداية والنهاية " ترجمة حسنة حيث قال في وفيات سنة خمسين ومائة: «وَفِيهَا تُوُفِّيَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ ... ، وَاسْمُهُ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ التَّيْمِيُّ، مَوْلاَهُمُ الْكُوفِيُّ، فَقِيهُ العِرَاقِ، وَأَحَدُ أَئِمَّةِ الإِسْلاَمِ، وَالسَّادَةِ الأَعْلاَمِ، وَأَحَدُ أَرْكَانِ العُلَمَاءِ، وَأَحَدُ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ أَصْحَابِ المَذَاهِبِ المُتَّبَعَةِ، وَهُوَ أَقْدَمُهُمْ وَفَاةً; لأَنَّهُ أَدْرَكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ، وَرَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قِيلَ: وَغَيْرَهُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَوَى عَنْ سَبْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ; الحَكَمُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَسَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ. وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ; ابْنُهُ حَمَّادٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ، وَأَسَدُ بْنُ عَمْرٍو القَاضِي، وَالحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ، وَحَمْزَةُ الزَّيَّاتُ، وَدَاوُدُ الطَّائِيُّ، وَزُفَرُ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، وَهُشَيْمٌ، وَوَكِيعٌ، وَأَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي. قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: " كَانَ ثِقَةً، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ، وَلَمْ يُتَّهَمْ بِالكَذِبِ، وَلَقَدْ ضَرَبَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ عَلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا ". [قَالَ]: " وَقَدْ

كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يَخْتَارُ قَوْلَهُ فِي الْفَتْوَى "، وَكَانَ يَحْيَى يَقُولُ: " لاَ نَكْذِبُ اللهَ، مَا سَمِعْنَا أَحْسَنَ مِنْ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَخَذْنَا بِأَكْثَرَ أَقْوَالِهِ". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: " لَوْلاَ أَنَّ اللَّهَ أَغَاثَنِي بِأَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ لَكُنْتُ كَسَائِرِ النَّاسِ ... ". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ الخُرَيْبِيُّ: " يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَدْعُوا فِي صَلاَتِهِمْ لأَبِي حَنِيفَةَ (*) ; لِحِفْظِهِ الفِقْهَ وَالسُّنَنَ عَلَيْهِمْ ". وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبَارَكِ: " كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَفْقَهَ أَهْلِ الأَرْضِ فِي زَمَانِهِ ". وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: " كَانَ صَاحِبَ غَوْصٍ فِي المَسَائِلِ ". وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: " كَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ الأَرْضِ "». انتهى باختصار. وكذلك فعل صاحب " المشكاة " الشيخ الإمام العلامة ولي الدين محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي الشافعي في " أسماء رجاله "، فقال في ترجمة الإمام: قَالَ شَرِيكٌ النَّخَعِيُّ: «كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ طَوِيلَ الصَّمْتِ دَائِمَ الفِكْرِ، قَلِيلَ الْمُحَادَثَةِ لِلنَّاسِ». وهذا من أوضح الأمارات على علم الباطن، والاشتغال بمهمات الدين، فمن أوتي الصمت والزهد فقد أوتي العلم كله. ولو ذهبنا إلى شرح مناقبه وفضائله لأطلنا الخطب، ولم نصل إلى الغرض، فإنه كان عالمًا عاملاً، وَرِعًا زاهدًا، إمامًا في علوم الشريعة. والغرض بإيراد ذكره في هذا الكتاب وإن لم نَرْوِ عنه حديثًا في " المشكاة " التَّبَرُّكُ بِهِ لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ ووفور علمه». انتهى. وَقَبْلَهُمْ النووي الإمام الحافظ الأوحد شيخ الإسلام، عَلَمُ الأولياء ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قارن في هذا القول بما ورد في صفحة 32 من هذا الكتاب.

محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف ابن مُرِّي الحِزَامِي الحَوْرَانِيُّ الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في كتابه " تهذيب الأسماء واللغات "، فلم يذكر في ترجمته شيئًا سوى فضائله، ومناقبه، والثناء عليه في علمه وورعه. وقبله العلامة البارع الأوحد، البليغ القاضي الرئيس مَجْدُ الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الشيباني الجَزَرِي ثم المَوْصِلِي الشافعي، الكاتب، ابن الأثير، المتوفى سنة 606 هـ، صاحب " جامع الأصول "، و" النهاية في غريب الحديث والأثر "، حيث ذكر ترجمة الإمام في الركن الثالث من كتابه " جامع الأصول " (¬1)، وأثنى عليه ثناء بليغًا، وَرَدَّ على طاعنيه فقال: «النعمان بن ثابت: هو أبو حنيفة النعمانُ بنُ ثابت بن زُوْطَى بن ماه، الإِمام الفقيه الكوفي مولى تيم الله بن ثعلبة، وهو من رهط حَمْزَةَ الزَّيَات، وكان خَزَّازًا يَبِيعُ الخَزَّ، لَهُ ذِكْرٌ فِي الأَشْعَارِ مِنْ كِتَابِ الحَجِّ، وكان جده زُوْطى من أهل كَابُلْ، وقيل: من أهل بَابِلْ، وقيل: من الأنْبار، وكان مملوكًا لبني تيم الله بن ثعلبة فأُعتِقَ، ووُلِدَ أبوه ثابت على الإسلام. ¬

_ (¬1) رأيت من هذا الكتاب نسخة خطية جيدة الخط، في خزانة محمد آباد طونك من أعمال راجبوتانه بالهند، وقد تفضل علينا الأستاذ الشيخ العالم عِمران خان بن عرفان خان المرحوم الطونكي بنقل هذه الترجمة من " جامع الأصول "، جزاه الله تعالى عنا وعن أهل العلم خيرًا.

قال إسماعيل بن حماد بن [بن ثابت] بن أبي حنيفة: «أنا إسماعيل بن حماد بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان من أبناء الفُرْسِ من الأحرار، والله ما وقع علينا رِقٌّ قط، وُلِدَ جدي في سنة ثمانين، وذهب ثابت إلى عَلِيِّ بن أبي طالب، وهو صغير فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته، ونحن نرجو أَنْ يَكُونَ اللهُ قد استجابَ ذلك لِعَلِيٍّ [فِينَا]». وُلِدَ سنةَ ثمانين، ومات ببغدادَ سنة خمسين ومائة، وقيل: إحدى وخمسين وقيل: سنة ثلاث وخمسين، والأول أصح وأكثر، ودُفِنَ بمقابرِ الخَيْزُرَانِ، وقبرُه معروف ببغداد. وكان في أيام أبي حنيفة أربعة من الصحابة: أنسُ بن مالك بالبصرة، وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد السَّاعدي بالمدينة، وأبو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ بمكة، ولم يَلْقَ أحدًا منهم ولا أخَذَ عنه؛ وأصحابُه يقولون: إنه لقي جماعة من الصحابة وروى عنهم، ولا يثَبتُ ذلك عند أهل النقل (¬1). ¬

_ (¬1) قال العلامة شمس الدين القُهُسْتَانِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في مقدمة " جامع الرموز شرح مختصر الوقاية " المُسَمَّى بـ " النُّقَايَةِ ": 1/ 6، طبع كلكته سَنَةَ 1274 هـ ما نصه: «إن الإمام من التابعين، رأى أنس بن مالك، كما قال الشيخ الجَزَرِي في " أسماء القراء "، بل من أكابرهم كما في " كشف الكشاف " في سورة النور. ولا يضره ما في " جامع الأصول ": أن ذلك مما لا يثبت، فإنه قال في آخر كلامه: إن أصحابه أعلم بحاله من غيرهم، فالرجوع إلى ما نقلوه عنه أولى من غيرهم». وقال العلامة القُهُسْتَانِيُّ محمد شمس الدين المفتي ببخارى، من مشاهير أهل العلم، كان إمامًا عالمًا زاهدًا فقيهًا متبحرًا، يقال: إنه ما نَسِيَ قَطُّ مَا طَرَقَ بِسَمْعِهِ، وترجمته مذكورة في " شذرات الذهب "، في وفيات سَنَةِ 953 هـ.

وأخذ الفقه عن حمادِ بن أبي سليمان. وسمع عطاء بن أبي رباح، وأبا إسحاق السَّبيعي، ومُحارب بن دِثار، والهيثم بن حبيب، ومحمد بن المنكدر، ونافعًا مولى ابن عمر، وهِشام بن عروة، وسِماك بن حرب. روى عنه عبدُ الله بن المبارك، ووكيعُ بن الجرَّاح، ويزيدُ بن هارون، وعلي بن عاصم، والقاضي أبو يُوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهُم. نقله المنصورُ من الكوفة إلى بغدادَ فأقامَ بها إلى أن مات فيها، وكان أكرهه ابنُ هُبَيْرة أيامَ مروان بن محمد الأموي على القضاء بالكوفة فأبى فضربه مائة سوط في عشرة أيام، كل يوم عشرة، فلمَّا رأى ذلك خلَّى سبيلَه، ولما أَشْخَصَهُ المنصورُ إلى بغداد أَرَادَهُ على القضاء، فأبى، فحلفَ عليه ليفعلنَّ، وحلفَ أبو حنيفة لا يفعل، وتكررت الأَيْمَانُ منهما فحبسَه المنصورُ، ومات في الحبسِ، وقيل: إنه افتدى نفسَه بأن تولى عَدَدَ اللَّبِنِ وَلَمْ يَصِحَّ. كان رَبْعَة من الرِّجالِ، وقيل: كان طُوَالاً تعلوه سمرة حَسَنُ الوجه، أحسنُ الناسِ منطقًا وأحلاهم نَغْمَةً، حسن المجلس، شَدِيدَ الكرم، حسن المواساة لإخوانه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ -: قِيلَ لِمَالِكٍ: هَلْ رَأَيْتَ أَبَا حَنِيفَةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، رَأَيْتُ رَجُلاً لَوْ كَلَّمَكَ فِي هَذِهِ السَّارِيَةِ أَنْ يَجْعَلَهَا ذَهَبًا لَقَامَ بِحُجَّتِهِ». وقال الشافعي: «مَنْ أَرَادَ الحَدِيثَ فَعَلَيْهِ بِمَالِكٍ، وَمَنْ أَرَادَ الجَدَلَ فَعَلَيْهِ بِأَبِي حَنِيفَةَ». وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ -: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي الفِقْهِ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ».

ولو ذهبنا إلى شرح مناقبه وفضائله لأطلْنا الخُطَبَ، وَلَمْ نَصِلْ إلى الغرض منها، فإنه كان عالمًا عاملاً، زاهدًا، عابدًا، وَرِعًا، تقيًّا، إمامًا في علوم الشريعة مرضيًا. وقد نُسِبَ إليه وقيل عنه من الأقاويل المختلفة التي يُجَلُّ قَدْرُهُ عنها [ويتنزه منها]؛ من القول بخلقِ القرآن، والقول بالقدر، والقول بالإرجاء، وغير ذلك مما نُسب إليه. ولا حاجة إلى ذكرها ولا إلى ذكر قائليها، والظاهر أنه كان مُنَزَّهًا عنها. ويدل على صحة نزاهته عنها، ما نشر الله تعالى له من الذِّكْرِ المنتشر في الآفاق، والعلم الذي طبق الأرض، والأَخْذ بمذهبه وفقهه والرجوع إلى قوله وفعله، وإن ذلك لو لم يكن للهِ فيه سِرٌّ خَفِيٌّ، ورضى إِلهيٌّ، وفقه اللهُ له لما اجتمع شَطْرُ الإسلامِ أو ما يقاربهُ على تقليده، والعمل برأيه ومذهبه حتى قد عُبِدَ اللهُ وَدِينَ بِفِقْهِهِ، وَعُمِلَ برأيه، ومذهبه، وأُخذَ بقوله إلى يومنا هذا ما يقارب أربعمائة وخمسين سَنَةً، وفي هذا أدل دليل على صحة مذهبه، وعقيدته، وأن ما قيل عنه هو مُنَزَّهٌ عنه، وقد جمع أبو جعفر الطحاوي - وهو من أكبر الآخذين بمذهبه - كتابًا سماه " عقيدةُ أبي حنيفةَ - رَحِمَهُ اللهُ - " وهي عقيدةُ أهل السُّنَّة والجماعة، وليس فيها شيء مما نُسبَ إليه وقيل عنه، وَأَصْحَابُهُ أَخْبَرُ بحاله وبقوله من غيرهم، فالرجوعُ إلى ما نقلوه عنه أَوْلَى مما نقله غيرُهم عنه (¬1). ¬

_ (¬1) قال الإمام ابن القيم في " إعلام الموقعين ": 3/ 222: «فَالوَاجِبُ عَلَى مَنْ شَرَحَ =

و [قد] ذُكِرَ أيضًا سبب قول من قال عنه ما قال، والحامل له على ما نُسِبَ إليه، ولا حاجة بنا إلى ذكر ما قالوه، فإن مثل أبي حنيفة وَمَحَلُّهُ في الإسلام لا يحتاجُ إلى دليل يُعْتَذَرُ به مما نُسب إليه. والله أعلم. انتهى». وقبل هؤلاء كلهم الحافظ البارع العلامة تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم السَّمْعَانِيُّ المَرْوَزِيُّ الشافعي، ترجم له في كتاب " الأنساب " ترجمة حسنة، وذكر فضائله ومناقبه، ولم يعرج على شيء من مثالبه. وعلى هذا المنوال جَرَى من أتى بعد هؤلاء العلماء الأكابر المذكورين، من الحفاظ الجهابذة والأئمة المحدثين وغيرهم من أهل العلم، الذين ترجموا للإمام أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - أو أفردوا في أخباره كُتُبًا وأجزاءً، فلم يذكروا شيئًا سوى فضائله ومناقبه والثناء عليه في دينه وورعه، وَسَعَةَ علمه بالكتاب والسنة. وَأُورِدُ هنا كلام واحد من هؤلاء الأجلة أحد كبار علماء القرن الحادي عشر، وهو الإمام العلامة ابْنُ عَلاَّنَ، محمد بن علي بن محمد بن عَلاَّنَ بن إبراهيم الصِدِّيقِي العَلَوِي، الشافعي، محيي السُنَّةِ بالديار الحجازية، وأحد المفسرين والأئمة المحدثين في تلك الديار، المولود سَنَةَ 996 هـ والمتوفى سَنَةَ 1057 هـ، - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وقد ترجم ¬

_ = اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ - إذَا بَلَغَتْهُ مَقَالَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ بَعْضِ الأَئِمَّةِ - أَنْ لاَ يَحْكِيَهَا لِمَنْ يَتَقَلَّدُهَا، بَلْ يَسْكُتُ عَنْ ذِكْرِهَا إنْ تَيَقَّنَ صِحَّتَهَا، وَإِلاَّ تَوَقَّفَ فِي قَبُولِهَا؛ فَكَثِيرًا مَا يُحْكَى عَنْ الأَئِمَّةِ مَا لاَ حَقِيقَةَ لَهُ» (عبد الفتاح أبو غدة).

للإمام أبي حنيفة في كتابه " الفتوحات الربانية على الأذكار النووية " (¬1)، حيث جاء ذكر الإمام في متن " الأذكار " فقال ما نصه: «الإمام أبو حنيفة هو الإمام الأعظم، وَالعَلَمُ المُفْرَدُ المُكَرَّمُ، إمام الأئمة، المُتَّفَقُ على عُلُوِّ مرتبته، ووفور علمه، وزهده، وَتَمَلِّيهِ من العلوم الباطنة فضلاً عن الظاهرة بما فاق به أهل عصره، وفاق بحسن الثناء عليه وإذاعة ذكره من أكابر التابعين: النعمان بن ثابت بن زُوطَى - بضم الزاي وفتح الطاء - بُنُ مَاهْ، مولى تيم الله بن ثعلبة الكوفي. روى الخطيب بإسناده عن حفيده عُمَرَ بْنِ حَمَّادٍ بْنِ أبي حنيفة: أن ثابتا وُلِدَ على الإسلام، وَزُوطَى كان مملوكًا لبني تيم فأعتقوه، فصار وَلاَؤُهُ لهم، وأنكر إسماعيل أخو عمر حفيد أبي حنيفة ذلك، وقال: إن والد ثابت من أبناء فارس، وأنهم أحرار، - قال -: " واللهِ مَا وَقَعَ عَلَيْنَا رِِقٌّ قَطُّ، قال: وَذَهَبَ - زُوطَى - بِثَابِتٍ ابْنِهِ إِلَى عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ صَغِيرٌ فَدَعَا لَهُ بِالبَرَكَةِ فِيهِ وَفِي ذُرِّيَّتِهِ، وَنَحْنُ نَرْجُو اللهَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ اسْتُجِيبَ فِينَا "». اهـ. وهو كما رَجَا - إسماعيلُ - فقد بارك الله في جده أبي حنيفة بركة لا نهاية لأقصاها، ولا حَدَّ لمنتهاها، وبارك الله في أتباعه، فكثروا في سائر الأقطار، وظهر عليهم من بركة إخلاصه وصدقه ما اشتهر به في سائر الأمصار. ¬

_ (¬1) 2/ 155، 156 (باب تكبيرة الإحرام).

أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان وأدرك أربعة من الصحابة، بل ثمانية، منهم أنس، وعبد الله بن أبي أوفى، وسهل بن سعد، وأبو الطفيل، وقد نظم بعضم أسماء بعض من روى عنه الإمام أبو حنيفة من الصحابة، فقال: أَبَو حَنِيفَةَ زَيْنُ التَّابِعِينَ رَوَى ... عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ جَزْءٍ وَالرِّضَا أَنَسْ وَمَعْقِلٍ وَحُرَيْثِيٍ (¬1) وَوَاثِلَةَ ... وَبِنْتِ عَجْرَدٍ، عِلْمَ الطَيِّبِينَ قَبَسْ وقيل لم يلق أحدًا منهم. وسمع من عطاء وأهل طبقته، وروى عنه ابن المبارك ووكيع بن الجراح وآخرون. وطلب منه المنصور أن يلي القضاء فامتنع، فحبسه على ذلك وضربه وهو مُصِرٌّ على الامتناع، حتى مات في السجن - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. قال عبد الله بن المبارك في حقه: «أَتَذْكُرُونَ رَجُلاً عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا فَفَرَّ مِنْهَا». وكان حسن الثياب، طيب الريح، يعرف بريح الطيب إذا أقبل، حسن المجلس، كثير الكرم، حسن المواساة لإخوانه، ربعة، وقل: كان طُوَالاً، أحسن الناس منطقًا، وأحلاهم نغمة. قال: «قَدِمْتُ البَصْرَةَ فَظَنَنْتُ أَنِّي لاَ أُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَجَبْتُ عَنْهُ، فَسَأَلُونِي عَنْ أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي فِيهَا جَوَابٌ ; فَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي ¬

_ (¬1) يعني: عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ المَخْزُومِيَّ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -

أَنْ لاَ أُفَارِقَ حَمَّادًا حَتَّى يَمُوتَ، فَصَحِبْتُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَا صَلَّيْتُ صَلاَةً مُنْذُ مَاتَ إِلاَّ اسْتَغْفَرْتُ لَهُ قَبْلَ وَالِدَيَّ، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ لِمَنْ تَعَلَّمْتُ مِنْهُ عِلْمًا، أَوْ تَعَلَّمَ مِنِّي عِلْمًا». قَالَ سَهْلٌ بْنُ مُزَاحِمٍ: «بُذِلَتْ لَهُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِدْهَا، وَضُرِبَ عَلَيْهَا بِالسِّيَاطِ فَلَمْ يَقْبَلْهَا». وكان خزازًا يبيع الخز، ودكانه في دار عمرو بن حُرَيْثٍ. ولما بلغ ابنَ جُرَيْجٍ موته تَوَجَّعَ، وقال: «أَيُّ عِلْمٍ ذَهَبَ؟!». وقال الفضيل بن عياض - وناهيك بها شهادة من هذا الحَبْرِ -: «كَانَ أََبُو حَنِيفَةَ [رَجُلاً فَقِيهًا] مَعْرُوفًا بِالفِقْهِ، مَشْهُورًا بِالوَرَعِ، وَاسِعَ [العِلْمِ]، مَعْرُوفًا بِالإِفْضَالِ عَلَى [كُلِّ مَنْ يَطِيفُ بِهِ]، صَبُورًا عَلَى تَعْلِيمِ العِلْمِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، [حَسَنُ اللَّيْلِ، كَثِيرُ الصَّمْتِ]، قَلِيلُ الكَلاَمِ، حَتَّى تَرِدَ مَسْأَلَةٌ فِي حَلاَلٍ أَوْ حَرَامٍ» (*). وفضائله كثيرة ... ولما غَسَّلَهُ الحسن بن عمارة - قاضي بغداد - قال له: «[رَحِمَكَ اللهُ] وَغَفَرَ لَكَ، لَمْ تُفْطِرْ مُُنْذُ ثَلاَثِينَ سَنَةٍ، وَلَمْ تَتَوَسَّدْ يَمِينَكَ بِاللَّيْلِ مُُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ» (**). ولد - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سنة ثمانين من الهجرة، وتوفي ببغداد - قيل: في السجن، على أن يلي القضاء - سنة خمسين على المشهور، أو إحدى أو ثلاث وخمسين ومائة، في شهر رجب. وقبره ببغداد، يُزَارُ. ومن فضله قول إمامنا الشافعي: «النَاسُ فِي الفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -». انتهى كلام ابن عَلاَّنٍ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قارن هذا القول بما ورد في صحفة 65 من هذا الكتاب. (**) انظر نفس القول في صفحة 94 من هذا الكتاب.

فهؤلاء الحفاظ النقاد أئمة الجرح والتعديل لم يُورِدُوا في تصانيفهم شيئًا مما ذكر أعداؤه وَحُسَّادُهُ من مطاعنه ومثالبه، فثبت من صنيع هؤلاء جميعًا أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ في بعض كتب الرجال من جرحه، ينبغي أن يُرْمَى به عُرِْضَ الحائط. ولا شك أنه ما طعن أحد في قول من أقواله إلا لجهله به، إما من حيث دليله، وإما من حيث دقة مداركه عليه، - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وقد أجمع السلف والخلف على كثرة علمه، وورعه، وعبادته، ودقة مداركه واستنباطاته، ولا عبرة بقول الجُهَّالِ وَالحُسَّادِ والأعداء على كل حال. ولقد صدق الإمام عبد الوهاب الشعراني - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - حيث يقول في " الميزان الكبرى " (¬1): «وأما ما نُقِلَ عن الأئمة الأربعة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - في ذم الرأي، فأولهم تَبَرِّيًا من كل رأي يخالف ظاهر الشريعة الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، خلاف ما يضيفه إليه بعض المتعصبين، ويا فضيحته يوم القيامة من الإمام إذا وقع الوجه في الوجه، فإن من كان في قلبه نور لا يتجرأ أن يذكر أحدًا من الأئمة بسوء. وأين المقام من المقام؟ إذ الأئمة كالنجوم في السماء، وغيرهم كأهل الأرض الذين لا يعرفون من النجوم إلا خيالها على وجه الماء! وقد روى الشيخ محيي الدين في " الفتوحات المكية " بسنده إلى الإمام ¬

_ (¬1) 1/ 54 و 55.

أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: " إِيَّاكُمْ وَالقَوْلَ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى بِالرَّأْيِ وَعَلَيْكُمْ بِاتِّبَاعِ السُنَّةِ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْهَا ضَلَّ "». وقال أيضًا - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (¬1) -: «والعلماء أمناء الشارع على شريعته من بعده، فلا اعتراض عليهم فيما بَيَّنُوهُ لِلْخَلْقِ، واستنبطوه من الشريعة، لا سيما الإمام أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فلا ينبغي لأحد الاعتراض عليه، لكونه من أجل الأئمة، وأقدمهم تدوينًا للمذهب، وأقربهم سَنَدًا إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمُشَاهِدًا لِفِعْلِ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ مِنَ الأَئِمَّةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -». وكيف يليق بأمثالنا الاعتراض على إمام عظيم، أجمع الناس على جلالته، وعلمه، وورعه، وزهده، وَعِفَّتِهِ، وعبادته، وكثرة مراقبته لله - عَزَّ وَجَلَّ -، وخوفه منه طول عمره، ما هذا والله إلا عَمَى في البصيرة ... وإياك أن تخوض مع الخائضين في أعراض الأئمة بغير علم فتخسر في الدنيا والآخرة، فإن الإمام - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كان مُتَقَيِّدًا بِالكِتَابِ وَالسُنَّةِ مُتَبَرِّئًا مِنَ الرَّأْيِ، كما قدمنا لك في عدة مواضع من هذا الكتاب. ومن فَتَّشَ مذهبه - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وجده من أكثر المذاهب احتياطًا في الدين، ومن قال غير ذلك فهو في جملة الجاهلين المتعصبين ¬

_ (¬1) 1/ 69.

المنكرين على أئمة الهُدَى بفهمه السقيم، وحاشا ذلك الإمام الأعظم من مثل ذلك حاشاه، بل هو إمام عظيم مُتَّبَعٌ إلى انقراض المذاهب كلها. وأتباعه لن يزالوا في ازدياد كلما تقارب الزمان، وفي مزيد اعتقادٍ في أقواله، وأقوال أتباعه، وقد قدمنا قول إمامنا الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «النَاسُ فِي الفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ». وقد ضُرِبَ بَعْضُ أتباعه وَحُبِسَ لِيُقَلَّدَ غيره من الأئمة، فلم يفعل، وما ذلك واللهِ سُدَى، ولا عبره بكلام بعض المتعصبين في حق الإمام ولا بقولهم: إنه من جملة أهل الرأي، بل كلام من يطعن في هذا الإمام عند المحققين يُشْبِهُ الهَذَيَانَ. ولو أن هذا الذي طعن في الإمام، كان له قدم في معرفة منازع المجتهدين، ودقة استنباطهم، لَقَدَّمَ الإمامَ أبا حنيفة في ذلك على غالب المجتهدين، لخفاء مُدْرِكِه - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. واعلم يا أخي، أنني ما بسطتُ لك الكلام على مناقب الإمام أبي حنيفة أكثر من غيره، إلا رحمة بِالمُتَهَوِّرِينَ فِي دِينِهِمْ من بعض طلبة المذاهب المخالفة له، فإنهم ربما وقعوا في تضعيف شيء من أقواله، لخفاء مُدْرَكِهِ عَلَيْهِمْ، بخلاف غيره من الأئمة، فإن وجوه استنباطاتهم من الكتاب والسنة ظاهرة لغالب طلبة العلم، الذين لهم قَدَمٌ في الفهم ومعرفة المدارك». انتهى.

اعتداء الألباني على الإمام أبي حنيفة

اِعْتِدَاءُ الأَلْبَانِي عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ: فهذا ما نقلناه من أركان النقل وأئمة الرجال، الذين عليهم المُعَوَّلُ في هذا الباب، في حق أبي حنيفة الإمام الأعظم - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -، من الثناء على حفظه وإتقانه وعلمه، وقد قال الحافظ أبو الحجاج المِزِّي في " مقدمة تهذيب الكمال ": «واعلم أن ما كان في هذا الكتاب من أقوال أئمة الجرح والتعديل ونحو ذلك، فعامته منقول من كتاب" الجرح والتعديل " لأبي مُحَمَّدٍ عبد الرحمن بْن أَبي حاتم الرازي الحافظ ابن الحافظ، ومن كتاب" الكامل " لأبي أَحْمَد عَبد اللَّهِ بْن عَدِيٍّ الجرجاني الحافظ، ومن كتاب" تاريخ بغداد " لأبي بَكْر مُحَمَّد بْن علي بْن ثابت الخطيب البغدادي الحافظ، ومن كتاب" تاريخ دمشق " لأبي القاسم عَلِيٍّ بْن الحَسَن بْن هبة الله المعروف بابن عساكر الدمشقي الحافظ، وما كان فيه من ذلك منقولاً من غير هذه الكتب الأربعة، فهو أقل مما كان فيه من ذلك منقولاً منها، أو من بعضها». وقد اشتمل هذا الكتاب على ذكر عامة رُوَاةِ العِلْمِ، وَحَمَلَةِ الآثَارِ، وأئمة الدين، وأهل الفتوى والزهد والورع وَالنُّسُكِ، وعامة المشهورين من كل طائفة من طوائف أهل العلم المُشَارِ إليهم من أهل هذه الطبقات، ولم يخرج عنهم إلا القليل. فمن أراد زيادة اطلاع على ذلك فعليه بعد هذه الكتب الأربعة

بكتاب " الطبقات الكبرى " لمحمد بن سعد كاتب الواقدي، وكتاب " التاريخ " لأبي بكر بن أحمد بن أبي خيثمة زُهير بن حرب، وكتاب " الثقات " لأبي حاتم محمد بن حبان البُسْتِيِّ، وكتاب " تاريخ مصر " لأبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفِيِّ، وكتاب " تاريخ نيسابور " للحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري الحافظ، وكتاب " تاريخ أصبهان " لأبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني الحافظ، فهذه الكتب العشرة أمهات الكتب المصنفة في هذا الفن» (¬1). انتهى. ومعلوم أن ابْنَ عَدِيٍّ قَدْ تَعَدَّى وَجَاوَزَ الحَدَّ في الوقيعة في الإمام الأعظم، وكذا الخطيب البغدادي قد استوعب مَثَالِبَ الإمام، فأتى بِقَاذُورَاتٍ لا تغسلها البحار!. وكانت عامة كتب الجرح والتعديل في متناول أهل العلم الذين نقلنا مناقب الإمام الأعظم من تصانيفهم، كالسمعاني والنووي والمِزِّي والذهبي وابن كثير والحُسيني والبرهان الحلبي وابن حجر العسقلاني. وهؤلاء كلهم من أئمة هذا الشأن، ومع ذلك لم يلتفتوا إلى ما قيل في أبي حنيفة أصلاً، بل على رغم هؤلاء الطاعنين يَعُدُّونَهُ فِي الحُفَّاظِ، وَيُوَثِّقُونَهُ ويجعلونه من أئمة النقد الذين يُرْجَعُ إلى اجتهادهم في التزييف والتصحيح، والجرح والتعديل، ويذكرون أقواله في هذا الباب. ¬

_ (¬1) " تهذيب الكمال ": 1/ 3 طبع دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى: سنة 1402 هـ.

فهذا الإمام أبو الحجاج المزي كل ما ذكره في ترجمة أبي حنيفة في كتابه " تهذيب الكمال " إنما أخذه من كتاب " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى مَا ذُكِرَ فيه من قَدْحِهِ أصلاً، عِلْمًا منه أن كلام من تكلم فيه إنما صدر عن هوى وعصبية، والإمام بَرِيءٌ عَمَّا رُمِيَ بِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، فلا ينبغي أن يذكر منه شيء. وقد صَرَّحَ الإمام الذهبي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: «أَنَّ كِتَابَ " تَهْذِيبِ الكَمَالِ " يَنْبُوعُ مَعْرِفَةِ الثِّقَاتِ» (¬1)، وقد أثنى على صنيعه هذا قائلاً: «قَدْ أَحْسَنَ شَيْخُنَا أَبُو الحَجَّاجِ حَيْثُ لَمْ يُورِدْ شَيْئًا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّضْعِيفُ». انتهى كما مَرَّ سَابِقًا (¬2). وعلى منواله جرى من أتى بعده كالذهبي، وابن كثير، والحسيني، والبرهان الحلبي، وابن حجر، وكلهم من السادة الشافعية - رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى -، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، إلا أن بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا - وهو الشيخ ناصر الدين الألباني - قد شَذَّ وَحَادَ عن الطريق فأخذ يَقَعُ في مثل هذا الإمام، وَيَتَكَلَّمُ في حفظه وإتقانه، وَيُضَعِّفُهُ وَيَرْمِيهِ بِسُوءِ الحفظ وينفي عنه الضبط والحفظ. وَتَعَامَى عن نصوص مُوَثِّقِيهِ أمثال الإمام الحُجَّةِ الحافظ شيخ الإسلام أَبِي بِسْطَامََ شُعْبَةُ بْنُ الحَجَّاجِ الأَزْدِيِّ، والإمام العَلَمُ سَيِّدَ ¬

_ (¬1) من " الموقظة في علم مصطلح الحديث " للإمام الذهبي: ص 79، بتحقيق العلامة أبو غدة، الناشر: مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب، الطبعة الأولى سَنَةَ 1405 هـ. (¬2) في ص 95.

الحفاظ أبي سعيد يحيى بن سعيد القطان، والإمام الحافظ قدوة أصحاب الجرح والتعديل أبي الحسن علي بن المديني، والإمام الفرد سيد الحفاظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وغيرهم من أئمة هذا الشأن، حيث يقول في كتابه " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (¬1)، عند الكلام على حديث «إِذَا طَلَعَ النَّجْمُ رُفِعَتِ العَاهَةُ عَنْ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ» ما نصه: «ضعيف، أخرجه الإمام محمد بن الحسن في " كتاب الآثار " (ص 159): أخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة مرفوعًا، ومن طريق أبي حنيفة أخرجه الثقفي في " الفوائد " (3/ 12 / 1) وكذا الطبراني في " المعجم الصغير " (ص 20) وفي " الأوسط " (1/ 140 / 2) وعنه أبو نعيم في " أخبار أصبهان " (1/ 121) وقال: «وَالنَّجْمُ: هُوَ الثُّرَيَّا». وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ - على جلالته في الفقه قد ضعفه من جهة حفظه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابْنُ عَدِيٍّ، وغيرهم من أئمة الحديث، ولذلك لم يزد الحافظ ابن حجر في " التقريب " على قوله في ترجمته: «فَقِيهٌ مَشْهُورٌ»!. انتهى. ونحن نسأل الألباني إذا كان ضَعْفُ أبي حنيفة مُتَحَقِّقًا عند ابن ¬

_ (¬1) في المجلد الأول، الجزء الرابع: ص 77، 78، من منشورات المكتب الإسلامي.

ابن حجر، فَلِمَ لَمْ يُضَعِّفْهُ واكتفى بقوله: «فَقِيهٌ مَشْهُورٌ» مع تصريحه في مقدمة " تقريبه " (*) بقوله: «إِنَّنِي أَحْكُمُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ مِنْهُمْ بِحُكْمٍ يَشْمَلُ أَصَحَّ مَا قِيلَ فِيهِ، وَأَعْدَلَ مَا وُصِفَ بِهِ، بِأَلْخَصِ عِبَارَةٍ، وَأَخْلَصَ إِشَارَةٍ». انتهى. فهل قرأ الألباني في كتاب من كتب المصطلح أن كلمة «فَقِيهٌ مَشْهُورٌ»، تدل على ضعف الراوي تصريحًا أو تلويحًا، بَيِّنْهُ لَنَا مَأْجُورًا، وهل اتصاف رَاوٍ بالفقه والشهرة يدل على ضعفه وتركه، أم يُخْرِجُهُ من الجهالة والستر إلى الشُّهْرَةِ والمعرفة، ويفيد تبجيله بالعلم والجلالة، وَيُثْبِتُ له كل خير، فقد ثبت عن المصطفى - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، فهل بعد الفقه خَيْرٌ يُرْجَى لَهُ، ولفظ «الفَقِيهِ» في عُرْفِ السَّلَفِ كان لا يُطْلَقُ إلا على المجتهد، فما بال الألباني يجعل الثناء ذَمًّا؟! ويعكس الأمر! وَاللهُ حَسِيبُهُ. وأما قوله: «لم يزد الحافظ ابن حجر في " التقريب " على قوله: " فَقِيهٌ مَشْهُورٌ "» فهو كذب وَبُهْتٌ! ونفي الزيادة لاَ يَصِحُّ، كيف وقد أَقَرَّ الحافظ ابن حجر بإمامته في موضعين! فقد جاء في «الكُنَى» من " التقريب " ما نصه: «أَبُو حَنِيفَةَ النَّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ، الإِمَامُ المَشْهُورُ». وقال في حرف النون، مَا نَصُّهُ: «النَّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ الكُوفِيُّ، أَبُو حَنِيفَةَ الإِمَامُ، يُقَالُ أَصْلُهُ مِنْ فَارِسَ، وَيُقَالُ مَوْلَى بَنِي تَيْمٍ، فَقِيهٌ مَشْهُورٌ، مِنَ السَّادِسَةِ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ - وَمِائَةَ - عَلَى الصَّحِيحِ وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً». انتهى. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر: " تقريب التهذيب "، تحقيق الشيخ محمد عوامة، المقدمة، ص: 73، الطبعة الأولى: 1406 هـ - 1986 م، نشر دار الرشيد - سوريا

ولفظ الإمام إذا أطلق ولم يُقَيَّدْ في كتب الجرح والتعديل من أعلى مراتب التوثيق، وهو أرفع من ثقة، أو مُتْقِنٍ، أو ثَبْتٍ، أو عدل، ولكن الإنسان إذا وقع في كبار الأئمة ينزل عليه المقت، وَيُسْلَبُ عقله فيخبط كخبط عشواء. وظهر من هذا أن الحافظ ابن حجر - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - لم يقبل تضعيف هؤلاء في حق الإمام أبي حنيفة أصلاً، وفي لفظ «الفَقِيهِ» وَ «الإِمَامِ» إشارة إلى ترجيح روايته على رواية غير الفقيه وغير الإمام من عامة الرواة، ولم يتفطن له الألباني أصلاً - إن لم نقل: عَمِلَهُ وَكَتَمَهُ! - بل عَكَسَ الأَمْرَ، وزعم أن الوصف بـ «فَقِيهٌ مَشْهُورٌ» يدل على ضعف الراوي، فسبحان قاسم العقول!. وقد ذكر الإمام الزكي يوسف بن الحجاج المِزِّي - رَحِمَهُ اللهُ - في مقدمة " تهذيب الكمال " (¬1): «وَقَال أَبُو بَكْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَاشِمٍ الطُّوسِيِّ: كُنَّا عِنْدَ وَكِيعٍ، فَقَالَ: " الأَعْمَشُ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، أَوْ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ? " فَقُلْنَا: " الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ أَقْرَبُ "، فَقَالَ: " الأَعْمَشُ شَيْخٌ، وَأَبُو وَائِلٍ شَيْخٌ، وَسُفْيَانٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللهِ: فَقِيهٌ عَنْ فَقِيهٍ عَنْ فَقِيهٍ عَنْ فَقِيهٍ ". زَادَ غَيْرُهُ، قَالَ: " وَحَدِيثٌ يتدَاولهُ الفُقَهَاءُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ حَدِيثٍ يَتَدَاوَلُهُ الشُّيُوْخُ "». انتهى. ¬

_ (¬1) 1/ 5.

ثم لا يخفى أن الحافظ ابن حجر العسقلاني في سائر تصانيفه لم ينقل عن أحد من أهل العلم شيئًا في تضعيف الإمام أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، على رغم أنف الألباني، بل نقل توثيق الإمام نَصًّا في كتابه " تهذيب التهذيب " (¬1) عن إمام الصنعة يحيى بن معين - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وهذا نصه: «وَقَال مُحَمَّدُ بْنِ سَعْدٍ العَوْفِي: سَمِعْتُ يَحْيَى بن مَعِينٍ يَقُولُ: " كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ ثِقَةً، لاَ يُحَدِّثُ بِالحَدِيثِ إِلاَّ بِمَا يَحْفَظُهُ، وَقََالَ صَالِحُ بْنَ مُحَمَّدٍ الأَسَدِيُّ عَنْ ابْنِ مَعِين: " كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ ثِقَةً فِي الحَدِيثِ "». انتهى. وقال أيضًا - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدُ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، سَمِعْتُ ابْنَ دَاوُدَ يَعْنِي الخُرَيْبِيَّ يَقُولُ: «النَّاسُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ حَاسِدٌ وَجَاهِلٌ». وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ قَاضِي الرَّيِّ عَنْ أَبِيهِ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَائِشَةَ، فَذَكَرَ حَدِيثًا لأَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ رَأَيْتُمُوهُ لأَرَدْتُمُوهُ، فَمَا مَثَلُهُ وَمَثَلُكُمْ إِلاَّ كَمَا قِيلَ: أَقِلُّوا عَلَيْهِمْ وَيْلَكُمْ لاَ أَبَا لَكُمْ ... مِنَ اللَّوْمِ أَوْ سُدُّوا المَكَانَ الذِي سَدُّوا». وختم ترجمته بقوله: «وَمَنَاقِبُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَرَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَسْكَنَهُ الفِرْدَوْسَ آمِينْ». ¬

_ (¬1) 10/ 452.

وَالخُرَيْبِيُّ هو الإمام الحافظ القدوة أبو عبد الرحمن عبد الله بن داود بن عامر الهَمْدَانِيُّ الشعبي الكوفي، كان يسكن محلة الخُرَيْبَةَ بالبصرة، ذكره الذهبي في " تذكرة الحفاظ ". وقال الحافظ في " التقريب " في ترجمة الخُرَيْبِيِّ هذا: «(خ، عـ) عبد الله بن داود بن عامر الهمداني أبو عبد الرحمن الخريبي، بمعجمة وموحدة مُصَغَّرًا كوفي الأصل ثقة عابد من التاسعة، مات سنة ثلاث عشرة - ومائتين - وله سبع وثمانون سَنَةً أمسك عن الرواية قبل موته، فلذلك لم يسمع منه البخاري». انتهى. وقال في " تهذيب التهذيب ": «قال ابن سعد: " كَانَ ثِقَةً عَابِدًا نَاسِكًا "، وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: " ثِقَةٌ صَدُوقٌ مَأْمُونٌ "،وقال عثمان الدارمي: " سألت ابن معين عنه وعن أبي عاصم فقال: " ثِقَتَانِ "، قال الدارمي: " الخُرَيْبِيُّ أَعْلَى "، وقال أبو زرعة والنسائي: " ثِقَةٌ "، وقال أبو حاتم: " كَانَ يَمِيلُ إِلَى الرَّأْيِ وَكَانَ صَدُوقًا "، وقال الدارقطني: " ثِقَةٌ زَاهِدٌ " وقال ابن عيينة: " ذَاكَ أَحَدُ الأَحَدَيْنِ "، وَقَالَ مَرَّةً: " ذَاكَ شَيْخُنَا القَدِيمُ "». انتهى. فانظر أيها الألباني المتعصب - ولا تُغمض عينيك - ماذا يقول أحد الأحدين الخريبي شيخ ابن عُيينة الثقة الصدوق الزاهد العابد الناسك المأمون: «النَّاسُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ حَاسِدٌ وَجَاهِلٌ»، فلا تغتر بما قاله الحُسَّادُ والجاهلون في هذا الإمام. وأما ابن عائشة فهو أبو عبد الرحمن عُبيد الله بن محمد بن حفص

العَيْشِي بتحتانية ومعجمة، ذكره الحافظ في " التقريب "، فقال: «(ر، ت، س) عبيد الله بن محمد بن عائشة اسم جده حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر التَّيْمِيِّ وقيل له ابن عائشة، وَالعَائِشِيُّ وَالعَيْشِيُّ نِسْبَةً إلى عائشة بنت طلحة لأنه من ذريتها، ثقة جواد، رمي بالقدر وَلَمْ يَثْبُتْ من كبار العاشرة، مات سنة ثمان وعشرين - ومائتين -». وَقَالَ في " تهذيب التهذيب ": «قَالَ أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ: " صَدُوقٌ فِي الحَدِيثِ "، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: " صَدُوقٌ ثِقَةٌ، رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ، وَكَانَ عِنْدَهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ تِسْعَةَ آلاَفٍ، وَكَانَ عِنْدَهُ دَقَائِقَ وَفَصَاحَةً وَحُسْنَ خُلُقٍ وَسَخَاءٍ "، وَقَالَ الآجُرِّيُّ: عن أبي داود: " سَمِعَ عِلْمًا كَثِيرًا " ... قَالَ السَّاجِيُّ: " وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ أَهْلِ البَصْرَةِ غَيْرَ مُدَافِعٍ، وَكَانَ كَرِيمًا سَخِيًّا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الحَرْبِيُّ: " مَا رَأَتْ عَيْنِي مِثْلَهُ " ... وَقَالَ ابن حبان: " كَانَ حَافِظًا عَالِمًا بِأَنْسَابِ العَرَبِ "». انتهى باختصار. وَحَلاَّهُ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " بقوله: «الإِمَامُ العَلاَّمَةُ الثِّقَةُ ... الأَخْبَارِيُّ، الصَّادِقُ». انتهى. فهذا شيخ الإمام أحمد العلامة الأخباري الحافظ الصدوق الثقة، حامل العلم الكثير، من سادات أهل البصرة: يذكر حديثًا لأبي حنيفة، فقال بعض من حضر: لا نريده (كما يقول الألباني في عصرنا هذا) فيقول له: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ رَأَيْتُمُوهُ لأَرَدْتُمُوهُ،، وَمَا أَعْرِفُ لَهُ وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاَّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

أَقِلُّوا عَلَيْهِمْ وَيْلَكُمْ لاَ أَبَا لَكُمْ ... مِنَ اللَّوْمِ أَوْ سُدُّوا المَكَانَ الذِي سَدُّوا» (¬1). وفي ذلك عبرة للألباني لو كان من أولي الألباب والأمانة. وَلَمَّا «كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ ثِقَةٌ لاَ يُحَدِّثُ بِالحَدِيثِ إِلاَّ بِمَا يَحْفَظُهُ، وَلاَ يُحَدِّثُ بِمَا لاَ يَحْفَظُهُ»، كما ينقله ابن حجر عن ابن معين وَيُقِرُّهُ، ولا يتعقب عليه، فكيف يُظَنُّ به أنه قد تأثر بجرح المخالفين له، فما بال الألباني لا يتفطن لهذا الأمر الظاهر المكشوف؟ وَمَا حَجَبَهُ عَنْ رُؤْيَةِ هذا الكلام وفهمه إلا تعصبه وحَنَقُهُ الأسود على الإمام أبي حنيفة!. وفي " الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر " تأليف الإمام شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، ما نصه: «وَسُئِلَ - أي الحافظ ابن حجر - عما ذكره النسائي في " الضعفاء والمتروكين ": عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه: ليس بقوي في الحديث، وهو كثير الغَلَطِ وَالخَطَأِ على قلة روايته، هل هو صحيح؟ وهل وافقه على هذا أحد من أئمة المحدثين أم لا؟ فأجاب: النسائي من أئمة الحديث، والذي قاله إنما هو حسب ما ظهر له وأداه إليه اجتهاده، وليس كل أحد يؤخذ بجميع قوله (¬2)، وقد ¬

_ (¬1) والحافظ ذكر هذه القصة في " تهذيب التهذيب " بالإجمال، وهي بتمامها في " تهذيب الكمال ": 29/ 442 من طبعة مؤسسة الرسالة - بيروت. (¬2) والظاهر أن النسائي رجع عن تضعيف الإمام أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، فقد أخرج في " السنن الكبرى ": 4/ 322، 323 في أبواب التعزيرات والشهود، باب من وقع =

وَافَقَ النَّسَائِيَّ على مُطْلَقِ القولِ جماعةٌ من المحدثين، واستوعب الخطيب في ترجمته من " تاريخه " أقاويلهم، وفيها ما يُقْبَلُ وَمَا يُرَدُّ، وقد اعتذر عن الإمام بأنه كان يرى أنه لا يُحَدِّثُ إلا بما حفظه منذ سَمِعَهُ إلى أن أَدَّاهُ، فلهذا قَلَّتْ الرواية عنه، وصارت روايته قليلة بالنسبة لذلك ¬

_ = على بهيمة، حديثَ الإمام أبي حنيفة عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مَنْ أَتَى بَهِيمَةً حَدٌ» قَالَ النسائي: «هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ ضَعِيفٌ فِي الحَدِيثِ». فَأَعَلَّ الحديث بعاصم شيخ أبي حنيفة، ولو كان أبو حنيفة كما قاله النسائي في " الضعفاء والمتروكين " لأَعَلَّ الحديث أولاً بأبي حنيفة، ولكنه لم يفعل، بل اكتفى بإعلاله بعاصم، فالظاهر أنه رجع عما قاله في حق الإمام أبي حنيفة في كتاب " الضعفاء ". وكم يقع مثل هذا الرجوع من النُقَّادِ إذ يتجلى لهم غير ما حكموا به من قبل. ثم إن النسائي ظن أن عاصمًا شيخ أبي حنيفة هو عاصم بن عمر المدني، وهو ضعيف، والواقع أنه عاصم بن بَهْدَلَةَ أَبِِي النُّجُودِ كما جاء مُصَرَّحًا به في كتاب " الآثار " للإمام أبي حنيفة رواية الإمام محمد عنه: ص 311 (باب درء الحدود)، وكذا قال الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب ": 10/ 415، وتصحف في المطبوع من " التهذيب " (أَبِِي النُّجُودِ) إلى (أَبِي ذَرٍّ) فليصحح، ولم يذكر المزي في " تهذيب الكمال " عاصم بن عمر من شيوخ أبي حنيفة، بل ذكر عاصم بن بهدلة أبي النجود، وكتب أمامه (س) إشارة إلى أن حديث أبي حنيفة عنه في كتاب النسائي، وليس لأبي حنيفة في كتاب النسائي إلا هذا الحديث، فظهر أن المِزِّي أيضًا لم يتابع النسائي في قوله: إن عاصمًا راوي الحديث هو عاصم بن عمر. وعاصم بن بهدلة هو المقرئ المعروف، حديثه في " الكتب الستة "، وقد قال فيه النسائي: «لاَ بَأْسَ بِهِ، وَوَثَّقَهُ طَائِفَةٌ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي حِفْظِهِ، فَالحَدِيثُ جَيِّدٌ إِنُ شََاءَ اللهُ تَعَالَى».

وإلا فهو في نفس الأمر كثير الرواية. وفي الجملة: تَرْكُ الخَوْضِ في مثل هذا أولى، فإن الإمام وأمثاله مِمَّنْ قَفَزُوا القَنْطَرَةَ، فما صار يُؤَثَّرُ في أحد منهم قول أحد، بل هم في الدَّرَجَةِ التي رفعهم اللهُ تعالى إليها، من كونهم مَتْبُوعِينَ يُقْتَدَى بهم، فَلْيُعْتَمَدْ هَذَا، والله ولي التوفيق». انتهى (¬1). فعلى الألباني أن يتقي الله تعالى فيما يقول، وليجتنب الخداع والتقويل لابن حجر - وغيره - ما لم يقله، والله ولي التوفيق. وبهذا ظهر الجواب عمن شارك النسائي في الجرح للإمام، وقد حَثَّ أَبَرُّ أصحاب ابن حجر إليه الإمام الحافظ السخاوي، في كتابه " الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ " (¬2) على الاجتناب عن اقتفاء الجارحين والطاعنين فيه يُوصِي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - قائلاً: «ويلتحق بذلك (أي التأويل والتجنب عن ذكره) ما وقع بين الأئمة سيما المتخالفين في المناظرات والمباحثات وأما ما أسنده الحافظ أبو الشيخ بن حَيَّانَ في كتاب " السنة " له من الكلام في حق بعض الأئمة المقلدين وكذا الحافظ أبو أحمد ابن عَدِيٍّ في " كامله " والحافظ أبو بكر الخطيب في " تاريخ بغداد " وآخرون ممن قبلهم كابن ¬

_ (¬1) نقله صديقنا العلامة المحقق الشيخ محمد عوامة في كتابه " أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة [الفقهاء] رضي الله عنهم ": ص 116 و 117، الطبعة الثانية، نشرته دار السلام للطباعة والنشر، سنة 1407 هـ. (¬2) ص 65، طبع القدسي بدمشق عام 1349 هـ.

رد الإمام ابن عبد البر على الطاعنين في الإمام، وفيه عبرة للألباني لو اعتبر

أبي شيبة في " مصنفه " والبخاري والنسائي مِمَّا كُنْتُ أُنَزِّهُهُمْ عن إيراده مع كونهم مجتهدين ومقاصدهم جميلة فينبغي تجنب اقتفائهم فيه. ولذا عذر بعض القضاة الأعلام من شيوخنا من نسب إليه التحدث ببعضه بل منعنا شيخنا - الحافظ ابن حجر - حين سمعنا عليه كتاب " ذم الكلام " للهروي من الرواية عنه لما فيه من ذلك». انتهى. رَدُّ الإِمَامِ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَلَى الطَّاعِنِينَ فِي الإِمَامِ، وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِلأَلْبَانِي لَوْ اعْتَبَرَ: وأما الإمام شيخ الإسلام حافظ المغرب أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي - رَحِمَهُ اللهُ - فقد صدع بالحق وكشف القناع عن وجوه الطاعنين في الإمام في كتابيه " الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء "، و" جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله " حيث قال في ترجمة الإمام أبي يوسف من " الانتقاء " ما لفظه: «كَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُوَثِّقُهُ، وَأَمَّا سَائِرُ أَهْلِ الحَدِيثِ فَهُمْ كَالأَعْدَاءِ لأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ». فنسألك أيها الألباني هل يُقْبَلُ قَوْلُ الأعداء من غير إقامة برهان على دعواهم في حق إمام قد خضعت الأمة لجلالته وعلمه وورعه، وَتَبِعَهُ شطر أهل البسيطة على توالي القرون إلى يومنا هذا؟ أفما لك عقل يمنعك من الخوض في مثل تلك الوَرَطَاتِ؟

وقال الإمام ابن عبد البر في " جامع بيان العلم: (¬1) «وَأَفْرَطَ أَصْحَابُ الحَدِيثِ فِي ذَمِّ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَجَاوَزُوا الحَدَّ فِي ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ المُوجِبُ لِذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِدْخَالُهُ الرَّأْيَ وَالقِيَاسَ عَلَى الآثَارِ وَاعْتِبَارُهُمَا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ العِلْمِ يَقُولُونَ: إِذَا صَحَّ الأَثَرُ مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ بَطَلَ القِيَاسُ وَالنَّظَرُ. وَكَانَ رَدُّهُ لِمَا رَدَّ مِنَ الأَحَادِيثِ بِتَأْوِيلٍ مُحْتَمَلٍ، وَكَثِيرٌ مِنْهُ قَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ مِمَّنْ قَالَ بِالرَّأْيِ، وَجُلُّ مَا يُوجَدُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهُ اتِّبَاعًا لأَهْلِ بَلَدِهِ كَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلاَّ أَنَّهُ أَغْرَقَ وَأَفْرَطَ فِي تَنْزِيلِ النَّوَازِلِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَالجَوَابِ فِيهَا بِرَأْيِهِمْ وَاسْتِحْسَانِهِمْ، [فَيَأْتِي مِنْهُمْ] مِنْ ذَلِكَ خِلاَفٌ [كَثِيرٌ] لِلسَّلَفِ وَشُنَعٌ هِيَ عِنْدَ مُخَالِفِيهِمْ بِدَعٌ. وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ إِلاَّ وَلَهُ تَأْوِيلٌ فِي آيَةٍ أَوْ مَذْهَبٌ فِي سُنَّةٍ رَدَّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ المَذْهَبِ بِسُنَّةٍ أُخْرَى بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ أَوِ ادِّعَاءِ نَسْخٍ، إِلاَّ أَنَّ لأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا وَهُوَ يُوجَدُ لِغَيْرِهِ قَلِيلاً. وَقَدْ ذَكَرَ يَحْيَى بْنُ سَلاَّمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ غَانِمٍ فِي مَجْلِسِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الأَغْلَبِ يُحَدِّثِ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّهُ قَالَ: " أَحْصَيْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ سَبْعِينَ مَسْأَلَةً، كُلُّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا قَالَ فِيهَا بِرَأْيِهِ قَالَ: وَلَقَدْ كَتَبْتُ إِلَيْهِ [أَعِظُهُ] فِي ذَلِكَ». ¬

_ (¬1) 2/ 148 - 150 طبع المنيرية بمصر.

قَالَ أَبُو عُمَرَ- ابن عبد البر -: «لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ يُثْبِتُ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرُدُّهُ دُونَ ادِّعَاءِ نَسْخِ ذَلِكَ بِأَثَرٍ مِثْلِهِ أَوْ بِإِجْمَاعٍ أَوْ بِعَمَلٍ يَجِبُ عَلَى أَصْلِهِ الانْقِيَادُ إِلَيْهِ أَوْ طَعْنٍ فِي سَنَدِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ فَضْلاً عَنْ أَنْ يُتَّخَذَ إِمَامًا وَلَزِمَهُ [اسْمُ] الفِسْقِ ... وَنَقَمُوا أَيْضًا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الإِرْجَاءَ، وَمِنْ أَهْلِ العِلْمِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الإِرْجَاءِ كَثِيرٌ لَمْ يُعْنَ أَحَدٌ بِنَقْلِ قَبِيحِ مَا قِيلَ فِيهِ كَمَا عُنُوا بِذَلِكَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ لإِمَامَتِهِ، وَكَانَ أَيْضًا مَعَ هَذَا يُحْسَدُ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَيُخْتَلَقُ عَلَيْهِ مَا لاَ يَلِيقُ بِهِ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ وَفَضَّلُوهُ وَلَعَلَّنَا إِنْ وَجَدْنَا نُشْطَةً نَجْمَعُ مِنْ فَضَائِلِهِ وَفَضَائِلِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ كِتَابًا، أَمَّلْنَا جَمْعَهُ قَدِيمًا فِي أَخْبَارِ أَئِمَّةِ الأَمْصَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» (¬1). وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ الأَعْرَابِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: «أَصْحَابُنَا يُفْرِطُونَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ ¬

_ (¬1) ثم جمع في ذلك كتابه " الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء، مالك، والشافعي وأبي حنيفة ".

وَأَصْحَابِهِ» فَقِيلَ لَهُ: أَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكْذِبُ؟ فَقَالَ: «كَانَ أَنْبَلَ مِنْ ذَلِكَ». وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ الأَزْدِيُّ الحَافِظُ المَوْصِلِيُّ فِي الأَخْبَارِ التِي فِي آخِرِ كِتَابِهِ فِي " الضُّعَفَاءِ " قَالَ: يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أُقَدِّمُهُ عَلَى وَكِيعٍ» وَكَانَ يُفْتِي بِرَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَانَ يَحْفَظُ حَدِيثَهُ كُلَّهُ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنَ أَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثًا كَثِيرًا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: «أَبُو حَنِيفَةَ رَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ المُبَارَكِ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُشَيْمٌ، وَوَكِيعُ بْنُ الجَرَّاحِ، وَعَبَّادُ بْنُ العَوَّامِ، وَجَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ لاَ بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: رُبَّمَا اسْتَحْسَنَّا الشَّيْءَ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَنَأْخُذُ بِهِ. قَالَ يَحْيَى: وَقَدْ سَمِعْتُ مِنَ أَبِي يُوسُفَ " الجَامِعَ الصَّغِيرَ "، ذَكَرَهُ الأَزْدِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ المَدِينِيِّ، فَذَكَرَهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ حَرْفًا بِحَرْفٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ (ابن عبد البر): «الذِينَ رَوَوْا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَثَّقُوهُ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنَ الذِينَ تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَالذِينَ تَكَلَّمُوا فِيهِ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ، أَكْثَرُ مَا عَابُوا عَلَيْهِ الإِغْرَاقَ فِي الرَّأْيِ وَالقِيَاسِ وَالإِرْجَاءَ. وَكَانَ يُقَالُ: يُسْتَدَلُّ عَلَى نَبَاهَةِ الرَّجُلِ مِنَ المَاضِينَ بِتَبَايُنِ النَّاسِ فِيهِ قَالُوا: أَلاَ تَرَى إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ فِيهِ [فَتَيَانِ] مُحِبٌّ مُفْرِطٌ وَمُبْغِضٌ [مُفَرِّطٌ]. وَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ أَنَّهُ يَهْلِكُ فِيهِ رَجُلاَنِ مُحِبٌّ مُطْرٍ وَمُبْغِضٌ مُفْتَرٍ، وَهَذِهِ صِفَةُ أَهْلِ النَّبَاهَةِ وَمَنْ بَلَغَ فِي الدِّينِ وَالْفَضْلِ الغَايَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ».

وقال ابن عبد البر في (باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض) من " جامع بيان العلم " (¬1) أيضًا، ما نصه: «قَدْ غَلَطَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَضَلَّتْ فِيهِ نَابِتَةٌ جَاهِلَةٌ لاَ تَدْرِي مَا عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا البَابِ أَنَّ مَنَ صَحَّتْ عَدَالَتُهُ وَثَبَتَتْ فِي العِلْمِ إِمَامَتُهُ وَبَانَتْ ثِقَتُهُ وَبِالعِلْمِ عِنَايَتُهُ لَمْ يُلْتَفَتْ فِيهِ إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ فِي جَرْحَتِهِ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ يَصِحُّ بِهَا جَرْحَتُهُ عَلَى طَرِيقِ الشَّهَادَاتِ وَالعَمَلِ فِيهَا مِنَ المُشَاهَدَةِ وَالمُعَايَنَةِ لِذَلِكَ بِمَا يُوجِبُ تَصْدِيقَهُ فِيمَا قَالَهُ لِبَرَاءَتِهِ مِنَ الغِلِّ وَالحَسَدِ وَالعَدَاوَةِ وَالمُنَافَسَةِ وَسَلاَمَتِهِ مِنْ ذَلَكَ كُلِّهِ، فَذَلَكَ كُلُّهُ يُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ مِنْ جِهَةِ الفِقْهِ وَالنَّظَرِ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَثْبُتُ إِمَامَتُهُ وَلاَ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ وَلاَ صَحَّتْ لِعَدَمِ الحِفْظِ وَالإِتْقَانِ رِوَايَتُهُ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى مَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ وَيُجْتَهَدُ فِي قَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يُؤَدِّي النَّظَرُ إِلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ فِيمَنِ اتَّخَذَهُ جُمْهُورٌ مِنْ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ إِمَامًا فِي الدِّينِ قَوْلُ أَحَدٍ مِنَ الطَّاعِنِينَ: إِنَّ السَّلَفَ رَضِيَ اللَّهِ عَنْهُمْ قَدْ سَبَقَ مِنْ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ كَلاَمٌ كَثِيرٌ، مِنْهُ فِي حَالِ الغَضَبِ وَمِنْهُ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ الحَسَدُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَأَبُو حَازِمٍ (¬2)، ¬

_ (¬1) 2/ 152 - 163. (¬2) قال ابن عباس - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: «اسْتَمِعُوا عِلْمَ العُلَمَاءِ وَلاَ تُصَدِّقُوا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَوَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمْ أَشَدُّ تَغَايُرًا مِنَ التِّيُوسِ فِي زُرُوبِهَا». وقال مالك بن دينار: «يُؤْخَذُ بِقَوْلِ العُلَمَاءِ وَالقُرَّاءِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ قَوْلَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ؛ فَلَهُمْ أَشَدُّ تَحَاسُدًا مِنَ التِّيُوسِ». وقال أبو حازم: «العُلَمَاءُ كَانُوا فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ إِذَا لَقِيَ =

وَمِنْهُ عَلَى جِهَةِ التَّأْوِيلِ مِمَّا لاَ يَلْزَمُ المَقُولُ فِيهِ مَا قَالَهُ القَائِلُ فِيهِ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالسَّيْفِ تَأْوِيلاً وَاجْتِهَادًا لاَ يَلْزَمُ تَقْلِيدُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ دُونَ بُرْهَانٍ وَحُجَّةٍ تُوجِبُهُ، وَنَحْنُ نُورِدُ فِي هَذَا البَابِ مِنْ قَوْلِ الأَئِمَّةِ الجِلَّةِ الثِّقَاتِ السَّادَّةِ، بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ مِمَّا لاَ يَجِبُ أَنْ يُلْتَفَتَ فِيهِمْ إِلَيْهِ وَلاَ يُعْرَجُ عَلَيْهِ، وَمَا يُوَضِّحُ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ» .... ثم سرد ابن عبد البر من قول بعضهم في بعض ممن لا يلتفت إليهم أمثلة كثيرة، ثم قال: «وَقَدْ كَانَ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِلَّةِ العُلَمَاءِ عِنْدَ الغَضَبِ كَلاَمٌ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، وَلَكِنَّ أَهْلَ العِلْمِ وَالفَهْمِ وَالفِقْهِ لاَ [يَتَلَفَّتُونَ] إِلَى ذَلِكَ لأَنَّهُمْ بَشَرٌ يَغْضَبُونَ وَيَرْضَوْنَ، وَالقَوْلُ فِي الرِّضَا غَيْرُ القَوْلِ فِي الغَضَبِ. ولقد أحسن القائل: «لاَ يُعْرَفُ الحِلْمُ إِلاَّ سَاعَةَ الغَضَبِ». وَمَا مَثَلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَنُظَرَائِهِمَا مِنَ الأَئِمَّةِ إِلاَّ كَمَا قَالَ الأَعْشَى: كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمًا لِيُوهِنَهَا ... فَلَمْ يَضِرْهَا وَأْوَهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ ¬

_ العَالِمُ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فِي العِلْمِ كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ غَنِيمَةٍ، وَإِذَا لَقِيَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ ذَاكَرَهُ، وَإِذَا لَقِيَ مَنْ هُوَ دُونَهُ لَمْ يَزْهُ عَلَيْهِ، حَتَّى كَانَ هَذَا الزَّمَانُ فَصَارَ الرَّجُلُ يَعِيبُ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ ابْتِغَاءَ أَنْ يَنْقَطِعَ مِنْهُ حَتَّى يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ حَاجَةٌ إِلَيْهِ وَلاَ يُذَاكِرُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ [وَيُزْهَى] عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فَهَلَكَ النَّاسُ». أسند كل ذلك ابن عبد البر - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في أول (باب حكم قول العلماء بعضهم على بعض).

أو كما قال الحسين بن حُمَيْدٍ: يَا نَاطِحَ الجَبَلِ العَالِي لِيُكْلِمَهُ ... أَشْفِقْ عَلَى الرَّأْسِ لاَ تُشْفِقْ عَلَى الجَبَلِ ولقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول: وَمَن ذَا الذِي يَنْجُو مِنَ النَّاسِ سَالِمًا ... وَلِلْنَّاسِ قَالٌ بِالظُّنُونِ وَقِيلُ وهذا خير من قول القائل: ............ ... وَمَا اعْتِذَارُكَ مِنْ قَوْلٍ إِذَا قِيلاَ؟! فَقَدْ رَأَيْنَا [البَاطِلَ] وَالبَغْيَ وَالحَسَدَ [أَسْرَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ] قَدِيمًا أَلاَ تَرَى إِلَى قَوْلِ الكُوفِيِّ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: إِنَّهُ لاَ يَعْدِلُ فِي الرَّعِيَّةِ وَلاَ يَغْزُو فِي السَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَسَعْدٌ بَدْرِيُّ وَأَحَدُ العَشَرَةِ المَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَأَحَدُ السِّتَّةِ الذِينَ جَعَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ الشُّورَى فِيهِمْ، وَقَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ. وُقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قَالَ: «يَا رَبِّ اقْطَعْ عَنِّي أَلْسُنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: يَا مُوسَى لَمْ أَقْطَعْهَا عَنْ نَفْسِي فَكَيْفَ أَقْطَعُهَا عَنْكَ؟». قَالَ أَبُو عُمَرَ: «وَاللَّهِ لَقَدْ تَجَاوَزَ النَّاسُ الحَدَّ فِي الغِيبَةِ وَالذَّمِّ، فَلَمْ يَقْنَعُوا بِذَمِّ العَامَّةِ دُونَ الخَاصَّةِ وَلاَ بِذَمِّ الجُهَّالِ دُونَ العُلَمَاءِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الجَهْلُ وَالحَسَدُ، وَقِيلَ لابْنِ المُبَارَكِ: فُلاَنٌ يَتَكَلَّمُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ فَأَنْشَدَ بَيْتَ ابْنِ الرُّقَيَّاتِ:

حَسَدُوكَ أَنْ رَأَوْكَ فَضَّلَكَ اللَّـ ... ـهُ بِمَا فُضِّلَتْ بِهِ النُّجَبَاءُ وَقِيلَ لأَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ: فُلاَنٌ يَتَكَلَّمُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: هُوَ كَمَا قَالَ نُصَيْبٌ: سَلِمْتِ وَهَلْ حَيٌّ عَلَى النَّاسِ يَسْلَمُ (*) وَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ: حَسَدُوا الْفَتَى إِذْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ ... فَالنَّاسُ أَعْدَاءٌ لَهُ وَخُصُومُ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْبَلَ قَوْلَ العُلَمَاءِ الثِّقَاتِ الأَئِمَّةِ الأَثْبَاتِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، فَلْيَقْبَلْ قَوْلَ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَخَسِرَ خُسْرَانًا، وَكَذَلِكَ إِنْ قَبِلَ فِي سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَوْلَ عِكْرِمَةَ، وَفِي الشَّعْبِيِّ وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ الكُوفَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ عَلَى الجُمْلَةِ وَفِي مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ مَنْ ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا البَابِ مَا ذَكَرْنَا عَنْ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَلَنْ يَفْعَلَ إِنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ فَلْيَقِفْ عِنْدَ مَا شَرَطْنَا فِي أَنْ لاَ يَقْبَلَ فِيمَنْ صَحَّتْ عَدَالَتُهُ وَعَلِمْتَ بِالعِلْمِ عِنَايَتَهُ، وَسَلِمَ مِنَ الكَبَائِرِ وَلَزِمَ المُرُوءَةَ [وَالتَّصَاوُنَ] وَكَانَ خَيْرُهُ غَالِبًا وَشَرُّهُ أَقَلُّ عَمَلِهِ فَهَذَا لاَ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ قَائِلٍ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الحَقُّ الذِي لاَ يَصِحُّ غَيْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: بَكَى شَجْوَهُ الإِسْلاَمُ مِنْ عُلَمَائِهِ ... فَمَا اكْتَرَثُوا لَمَّا رَأَوْا مِنْ بُكَائِهِ فَأَكْثَرُهُمْ مُسْتَقْبِحٌ لِصَوَابِ مَنْ ... يُخَالِفُهُ مُسْتَحْسِنٌ لِخَطَائِهِ فَأَيُّهُمُ المَرْجُوُّ فِينَا لِدِينِهِ ... وَأَيُّهُمُ المَوْثُوقُ فِينَا بِرَأْيِهِ ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) هو كما أثبته، البيت الأول لنصيب، والثاني لأبي الأسود الدؤلي، انظر " جامع بيان العلم وفضله "، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري: 2/ 1113 رقم 2192، 2193، الطبعة الأولى: 1414 هـ - 1994 م، نشر دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية.

وَالذِينَ أَثْنَوْا عَلَى سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وَعَلَى سَائِرِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ التَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَوْا وَقَدْ جَمَعَ النَّاسُ فَضَائِلَهُمْ وَعُنُوا بِسِيَرِهِمْ وَأَخَبَارِهِمْ، فَمَنْ قَرَأَ [فَضَائِلَهُمْ] وَفَضَائِلَ مَالِكٍ وَفَضَائِلَ الشَّافِعِيِّ وَفَضَائِلَ أَبِي حَنِيفَةَ بَعْدَ فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعُنِيَ بِهَا، وَوَقَفَ عَلَى كَرِيمِ سِيَرِهِمْ وَسَعَى فِي الإِقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَسَلَكَ سَبِيلِهِمْ فِي عِلْمِهِمْ وَفِي سَمْتِهِمْ وَهَدْيِهِمْ كَانَ ذَلِكَ لَهُ عَمَلاً زَاكِيًا نَفَعَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِحُبِّهِمْ جَمِيعِهِمْ. قَالَ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «عِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ» وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْ مِنْ أَخْبَارِهِمْ إِلاَّ مَا نَذَرَ مِنْ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ عَلَى الحَسَدِ وَالهَفَوَاتِ وَالغَضَبِ وَالشَّهَوَاتِ دُونَ أَنْ يَعْنِيَ بِفَضَائِلِهِمْ وَيَرْوِي مَنَاقِبَهُمْ حُرِمَ التَّوْفِيقَ وَدَخَلَ فِي الغِيبَةِ وَحَادَ عَنِ الطَّرِيقِ جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِمَّنْ يَسْمَعُ القَوْلَ فَيَتَّبِعُ أَحْسَنَهُ. وَقَدِ افْتَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ»، وَفِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ ... وَمَنْ صَحِبَهُ التَّوْفِيقُ أَغْنَاهُ مِنَ الحِكْمَةِ يَسِيرُهَا وَمِنَ المَوَاعِظِ قَلِيلُهَا إِذَا فَهِمَ وَاسْتَعْمَلَ مَا عَلِمَ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الوَكِيلُ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ رَحْمُونَ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ بَكْرِ بْنِ دَاسَهْ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنَ الأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيَّ يَقُولُ: «رَحِمَ اللَّهُ مَالِكًا كَانَ إِمَامًا، رَحِمَ اللَّهُ الشَّافِعِيَّ كَانَ إِمَامًا، رَحِمَ اللَّهُ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ إِمَامًا». انتهى باختصار.

جواب الحافظ ابن التركماني عن جروح الإمام

وقال ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (¬1) أيضًا: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ القَاسِمِ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدِ الوَرَّاقُ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ المِصِّيصِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ القَاسِمِ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: «رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الحَسَنِ فِي المَنَامِ فَقُلْتُ: إِلاَمَ صِرْتَ؟ قَالَ: غُفِرَ لِي ثُمَّ قِيلَ لِي: لَمْ نَجْعَلْ هَذَا العِلْمَ فِيكَ إِلاَّ وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَغْفِرَ لَكَ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا فَعَلَ أَبُو يُوسُفَ؟ قَالَ: فَوْقَنَا بِدَرَجَةٍ قُلْتُ: وَأَبُو حَنِيفَةَ؟ قَالَ: فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ». انتهى. جَوَابُ الحَافِظِ ابْنُ التُّرْكُمَانِيِّ عَنْ جُرُوحِ الإِمَامِ: وقال قاضي القضاة الإمام العلامة الحافظ الشيخ علاء الدين علي بن عثمان المارديني الشهير بابن التركماني في " الجوهر النقي في الرد على البيهقي " (¬2) عند الكلام على أثر ابن عباس - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: «لاَ تُقْتَلُ النِّسَاءُ إِذَا ارْتَدَدْنَ» ما نصه: «وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ فَقَدْ وَثَّقَهُ كَثِيرُونَ وَأَخْرَجَ لَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " (¬3) وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الحَاكِمُ فِي " المُسْتَدْرِكِ " وَمِثْلُهُ ¬

_ (¬1) 1/ 47، 1/ 213 من الطبعة الجديدة المحققة. (¬2) 8/ 203 المطبوع بذيل " السنن الكبرى " للبيهقي. (¬3) بل قال في كتاب " الثقات ": 8/ 467 في ترجمة علي بن معبد بن شَدَّادٍ العَبْدي المصري، وهو مستقيم الحديث عنده: حَدَّثَنِي عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنُ سَمِيعٍ بِصَيْدَاءَ ثَنَا المُزنِيّ ثَنَا عَليُّ بْنُ مَعْبَدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ الأَعْمَشُ لأَبِي حنيفَة: =

رد ابن الوزير اليماني على من حاول التشكيك في علم أبي حنيفة بالحديث والعربية

فِي دِينِهِ [وَوَرَعِهِ] وَعِلْمِهِ لاَ يُقْدَحُ فِيهِ كَلاَمُ أُولَئِكَ وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ مَحْسُودًا حَكَى أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ " الاِنْتِقَاءِ فِي فَضَائِلِ الثَّلاَثَةِ الفُقَهَاءِ " عَنْ حَاتِمٍ بْنِ [آدَمَ] (*) قَالَ: قُلْتُ لِلْفَضْلِ بْنِ مُوسَى السِّينَانِيِّ (**): مَا تَقُولُ فِي هَؤُلاءِ الذِينَ يَقَعُونَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ؟ قَالَ: إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَاءَهُمْ بِمَا يَعْقِلُونَهُ وَبِمَا لاَ يَعْقِلُونَهُ مِنَ العِلْمِ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ شَيْئًا فَحَسَدُوهُ». انتهى. رَدُّ ابْنِ الوَزِيرِ اليَمَانِيِّ عَلَى مَنْ حَاوَلَ التَّشْكِيكَ فِي عِلْمِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالحَدِيثِ وَالعَرَبِيَّةِ: وقال الإمام الحافظ العلامة النظار أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن الوزير اليماني المتوفى سنة 840 هـ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في " الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم " (¬1) - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رَدًّا على السيد جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم حيث حاول التشكيك في علم أبي حنيفة بالحديث والعربية، قال ما نصه: «لا يخلو إما أن يُنْكِرَ - هذا المعترض - صدور الفتوى عنه - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - , وينكر نقل الخلف والسلف لمذاهبه في الفقه, أو يقر بذلك, إن أنكره أنكر الضرورة, ولم تكن لمناظرته صورة, وإن لم ينكره فهو يدل على اجتهاده, ولنا في الاستدلال به على ذلك مسالك: ¬

_ = يَا نُعْمَانُ مَا تَقُولُ فِي كَذَا كَذَا؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: من أَيْنَ قُلْتَ؟ قَالَ: أَنْت حَدَّثْتَنَا عَنْ فُلاَنٍ بِكَذَا. قَالَ الأَعْمَش: «أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الفُقَهَاءِ الأَطِبَّاءُ وَنَحْنُ الصَّيَادِلَةُ». (¬1) 1/ 158 - 166. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد في الكتاب المطبوع (عن حاتم بن داود) والصواب (حاتم بن آدم)، انظر " الانتقاء " لابن عبد البر، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: ص 211، الطبعة الأولى: 1417 هـ - 1997 م، نشر دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت - لبنان. (**) عقب الشيخ عبد الفتاح أبو غدة على ذلك بقوله: في ك وحدها (السِّينَانِيِّ) مشكولاً، وما أراه إلا خطأ ... ويرى أن الصواب (السِّمْنَانِي) كما أثبته. (المصدر السابق: الصفحة 211 الحاشية 3).

المسلك الأول: أنه ثبت بالتواتر فضله وعدالته, وتقواه وأمانته, فلو أفتى بغير علم وتأهل لذلك وليس له بأهل لكان جَرْحًا في عدالته, وَقَدْحًا في ديانته وأمانته, وَوَصْمًا في عقله ومروءته, لأن تعاطي الإنسان ما لا يحسنه, ودعواه لمعرفة ما لا يعرفه, من عادات السفهاء, ومن لا حياء له ولا مروءة من أهل الخسة والدناءة, ووجوه مناقبه مصونة عن ابتذالها وتسويدها بهذه الوصمة القبيحة, والمذمة الشنيعة. المسلك الثّاني: أن رواية العلماء لمذاهبه, وتدوينها في كتب الهداية, وخزائن الإسلام؛ تدل على أنهم قد عرفوا اجتهاده لأنه لا يحل لهم رواية مذهبه إلا بعد المعرفة بعلمه لأن إيهام ذلك من غير معرفة مُحَرَّمٌ, لما يتركب عليه من الأحكام الشرعية المجمع عليها, كانخرام إجماع أهل عصره بخلافه, والمختلف فيها كانخرام إجماع من بعده بخلافه, وجواز تقليده بعد موته. المسلك الثّالث: أن نقول: الإجماع منعقد على اجتهاده, فإن خالف في ذلك مخالف فقد انعقد الإجماع بعد موته, وإنما قلنا بذلك لأن أقواله متداولة بين العلماء الأعلام, سائرة في مملكة الإسلام, في الشرق والغرب واليمن والشام, من عصر التابعين من سَنَةِ خمسين ومائة إلى يوم الناس هذا وهو أول المائة التاسعة بعد الهجرة, لا ينكر على من يرويها ولا على من يعتمد عليها, والمسلمون بين عامل عليها, وساكت عن الإنكار على من يعمل عليها, وهذه الطّريقة هي التي تَثْبُتُ بمثلها دعوى الإجماع في أكثر المواضع.

المسلك الرابع: أنه قد نص كثير من الأئمة والعلماء على أن أحد الطرق الدالة على اجتهاد العالم هي: انتصابه للفتيا, ورجوع [عامة المسلمين] إليه من غير نكير من العلماء والفضلاء, وموضع نصوص العلماء على ذلك في علم أصول الفقه, وهناك يذكر الدليل على أن ذلك كاف في معرفة اجتهاد العالم وجواز تقليده، وممن ذكر ذلك من أئمة الزيدية, وشيوخ المعتزلة المنصور بالله في كتابه: " الصفوة " , وأبو الحسين البصري في كتابه " المعتمد ". وهذا في سكوت سائر العلماء عن النكير على المفتي, فكيف بسكوت ركن الإسلام من عصابة التابعين, ونبلاء سادات المسلمين ومن هم من خير القرون بنص سيد المرسلين, فقد كان الإمام أبو حنيفة معاصرًا لذلك الطراز الأول كما سيأتي. وقد تطابق الفريقان من أهل السنة والاعتزال, على التعظيم لأبي حنيفة والإجلال؛ أما أهل السنة فذلك أظهر من الشمس, وأوضح من أن يدخل فيه اللبس. وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الأَفْهَامِ شَيْءٌ ... إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلٍ وأما المعتزلة: فقد تشرفوا بالانتساب إليه, والتعويل في التقليد عليه, كأبي عَلِيٍّ, وولده أبي هاشم من متقدميهم, وأبي الحسين البصري, والزمخشري من متأخريهم , وهم وإن قدرنا دعواهم الاجتهادَ

والخروج من التقليد, فذلك إنما كان بعد طلبهم العلم وطول المدة, وهم قبل ذلك وفي خلال ذلك معترفون باتباع أقواله, وبعد ذلك لم يستنكفوا من الانتساب إلى اسمه والمتابعة في المعارف لرسمه. وفي كلام عَلاَّمَتِهِمْ الزمخشري: «وَتَدَ اللهُ الأرضَ بالأعلام المُنيفة, كما وطد الحنيفية بعلوم أبي حنيفة، الأئمة الجِلَّةِ الحنفية, أَزِمَّةِ المِلَّةِ الحَنِيفِيَّةِ, الجودُ والحلم حاتمي وأحنفي, والدين والعلم حنيفي وحنفي». وقد عقد الحاكم أبو سعيد فصلاً في فضل أبي حنيفة, وعلمه ذكره في كتابه " سفينة العلوم ". وقد أطبق أهل التاريخ على تعظيمه, وأفرد بعضهم سيرته - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في كتاب سماه " شقائق النعمان في مناقب النعمان ". ولو كان الإمام أبو حنيفة جاهلاً ومن حلية العلم عاطلاً ما تطابقت جبال العلم من الحنفية على الاشتغال بمذاهبه, كالقاضي أبي يوسف, ومحمد بن الحسن الشيباني, والطّحاوي, وأبي الحسن الكرخي, وأمثالهم وأضعافهم. فعلماء الطائفة الحنفية في الهند, والشام, ومصر, واليمن, والجزيرة, والحرمين, والعراقين منذ مائة وخمسين من الهجرة إلى هذا التاريخ يزيد على ستمائة سَنَةٍ, فهم ألوف لا ينحصرون, وعوالم لا يحصون من أهل العلم والفتوى, والورع والتقوى.

فكيف يجترىء هذا المعترض, ويجوز عليهم أنهم تطابقوا على الاستناد إلى عامي جاهل لا يعرف أن البَاءَ تَجُرُّ ما بعدها, ولا يدري ما يخرج من رأسه من حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ما هذا إلا كلام عامي أو أعمى, يخبط من الجهل في ظلماء. وَهَبْكَ تَقُولُ هَذَا الصُّبْحَ لَيْلٌ ... أَيَعْمَى العَالِمُونَ عَنْ الضِّيَاءِ. وأمّا ما قدح به على الإمام أبي حنيفة من عدم العلم باللغة العربية فلا شك أن هذا كلام متحامل, متنكب عن سبيل المحامل, فقد كان الإمام أبو حنيفة من أهل اللسان القويمة واللغة الفصيحة. وَلَيْسَ بِنَحْوِيٍّ يَلُوكُ لِسَانَهُ ... وَلَكِنْ سَلِيقِيٌّ يَقُولُ فَيُعْرِبُ وذلك لأنه أدرك زمان العرب, واستقامة اللسان, فعاصر جريرًا والفرزدق, ورأى أنس بن مالك خادم رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتين, وقد توفي أنس بن مالك سَنَةَ ثلاث وتسعين من الهجرة , والظاهر أن أبا حنيفة ما رآه وهو في المهد, بل رآه بعد التمييز, يدل على ذلك أن أبا حنيفة كان من المعمرين, وتأخرت وفاته إلى سَنَةِ خمسين ومائة, وقد جاوز التسعين من العمر (¬1). وهذا يقتضي أنه بلغ الحُلُمَ وأدرك بعد موت رسول الله - صَلََّى اللهُ ¬

_ (¬1) هذا على قول من قال إن مولد أبي حنيفة سَنَةَ إحدى وستين، والصحيح أنه ولد سَنَةَ ثمانين، وهذا لا يؤثر على استدلال ابن الوزير، بل يبقى صحيحًا على الحالين كما لا يخفى.

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقدر الثمانين سنة لأنه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - توفي بعد مضي عشر من الهجرة, وهذا يدل على تقدم أبي حنيفة وإدراكه زمان العرب, وهو أقدم الأئمة وأكبرهم سِنًّا, فهذا مالك على تقدمه توفّي بعده بنحو ثلاثين سنة, ولا شك أن تغير اللسان في ذلك الزمان كان يسيرًا, وأنه لم يشتغل في ذلك الزمان بعلم اللغة وفن الأدب أحد من مشاهير العلماء المتبوعين المعتمد عليهم في التقليد, لعدم مسيس الحاجة إلى ذلك في ذلك العصر كما أشار إلى ذلك أبو السعادات ابن الأثير في ديباجة كتابه: " النهاية " , وكما لا يخفي ذلك على من له أنس بعلم التّاريخ. فلو أوجبنا قراءة علم العربية في ذلك الزمان على المجتهد لم نقتصر على أبي حنيفة, ولزم أن لا يصح احتجاج علماء العربية بأشعار جرير والفرزدق, وهذا ما لم يقل به أحد, وإنما اختل اللسان الاختلال الكثير في حق بعض الناس بعد ذلك العصر, وقد سلم من تغير اللسان من لم يخالط العجم في الأمصار من خلص العرب, وأدرك الزمخشري كثيرًا منهم ممن لزم البادية, وأكثر ما أسرع التغير إلى العامة ومن لا تمييز له. وقد قال الأمير العالم الحسين بن محمد في كتاب " شِفَاءُ الأُوَامِ ": إن الإمام يحيى بن الحسين - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كان عربي اللسان حجازي اللغة من غير قراءة, وروى عَلاَّمَةُ الشيعة علي بن عبد الله بن أبي الخير

أنه - أي الإمام يحيى - قرأ في العربية أربعين يومًا, وهذا قد توفي على رأس ثلاث مائة سنة من الهجرة. وأما سنة ثمانين من الهجرة, فليس أحد من أهل التمييز يعتقد أن أهل العلم في ذلك الزمان كانوا لا يتمكنون من معرفة معاني كلام الله ورسوله إلا بعد القراءة في علم العربية, ولو كان ذلك منهم لنقل ذلك, وعرف شيوخ التابعين فيه, وليت شعري من كان شيخ علقمة بن قيس, وأبي مسلم الخولاني, ومسروق بن الأجدع, وجبير بن نفير, وكعب الأحبار؟ , ومن كان شيوخ من بعدهم من التابعين كالحسن, وأبي الشعثاء , وزين العابدين, وإبراهيم التيمي, والنخعي, وسعيد بن جُبير, وطاووس, وعطاء والشعبي ومجاهد, وأضرابهم, فما خص أبا حنيفة بوجوب تعلم العربية, وفي أي المصنفات البسيطة يقرأ في ذلك الزمان؟. وأما قوله: «بأبا قبيس» فالجواب عنه من وجوه: الأول: أن هذا يحتاج إلى طرق صحيحة, والمعترض قد شدد في نسبة الصحاح إلى أهلها مع اشتهار سماعها, والمحافظة على ضبطها, فكيف بمثل بهذه الرواية؟. الثاني: أنه إن ثبت بطرق صحيحة, فإنه لم يشتهر, ولم يصح مثل شهرة صدور الفتيا, ودعوى الاجتهاد عن الإمام أبي حنيفة, وقد تواتر

علمه وفضله, وأجمع عليه, وليس يقدح في المعلوم بالمظنون, بل بما لا يستحق أن يسمى مظنونًا. الثالث: أنا لو قدرنا أن ذلك صح عنه بطريق معلومة لم يقدح به لأنه ليس بلحن بل هو لغة صحيحة, حكاها الفراء عن بعض العرب وأنشد: إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا ... قَدْ بَلَغَا فِي المَجْدِ غَايَتَاهَا الرابع: سلمنا أن هذا لحن لا وجه له, فإنه لا يدل على عدم المعرفة, فإن كثيرًا من علماء العربية يتكلم بلسان العامة ويتعمد النطق باللحن, بل قد يتكلم العربي بالعجمية ولا يقدح ذلك في عربيته. وعلى الجملة؛ فكيف ما دارت المسألة فإن ذلك لا يدل على قصور الإمام أبي حنيفة, بل يدل على غفلة المعترض به وتغفيله, وجرأته على وصم هذا الإمام الجليل وتجهيله. وأما قدحه عليه بالرواية عن المضعفين, وقوله: إن ذلك ليس إلا لقلة معرفته بالحديث؛ فهو وَهْمٌ فاحش, لا يتكلم به منصف. والجواب على ذلك يتبين بذكر محامل: المحمل الأول: أنه قد علم من مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ - أنه يقبل المجهول, وإلى ذلك ذهب كثير من العلماء كما قدمناه (¬1) , ولا شك أنهم إنما يقبلونه حيث لا يعارضه حديث الثقة المعلوم العدالة, لأن الترجيح بزيادة الثقة والحفظ عند التعارض أمر مجمع عليه. ¬

_ (¬1) في 1/ 20 - 26 من " الروض الباسم ".

ولا شك أن الغالب على حملة العلم النبوي في ذلك الزمان العدالة, ويشهد لذلك الحديث الثابت المشهور: «خَيْرُ [النَّاسِ] قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الكَذِبُ». وقد كان عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَتَّهِمُ بعض الرواة فيستحلفه ثُمَّ يَقْبَلُهُ , وهذا إنما يكون في حديث من فيه جهالة أو نحوها, ولذا لم يستحلف المقداد لما أخبره بحكم المذي. وقد روى الحافظ ابن كثير في جزء جمعه في أحاديث السِّبَاقِ عن الإمام أحمد بن حنبل أنه كان يرى العمل بالحديث الذي فيه ضعف إذا لم يكن في الباب حديث صحيح يدفعه , وأنه روى في " المسند " أحاديث كثيرة من هذا القبيل, وذلك على سبيل الاحتياط من غير جهل بضعف الحديث, ولا بمقادير الضعف, وما يحرم معه قبول الحديث بالإجماع, وما فيه خلاف. وقال الحافظ أبو عبد الله بن منده: إن أبا داود يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنه أقوى عنده من رأي الرجال. انتهى. وفي هذا شهادة واضحة على أن رواية الحديث الضعيف لا تستلزم الجهل بالحديث, فأحمد وأبو داود من أئمة علم الأثر بلا مدافعة, وهذا الحديث الضعيف الذي ذكروه, ليس حديث الكذابين, ولا الفساق المصرحين, فذلك عندهم لا يستحق اسم الضعف, وإنما يقال فيه: إنه باطل, أو موضوع, أو ساقط, أو متروك, أو نحو ذلك.

وإنما الضعيف حديث الراوي الصدوق الذي ليس بحافظ, أو المعلومُ بالاختلاف في رفعه أو إسناده, والمضطرب اضطرابًا يسيرًا, أو نحو ذلك مما اختلف العلماء في التعليل للحديث به, أو الجرح للراوي به, ولا تظهر قوة في دليل رَدِّهِ, ولا دليل قبوله. وأكثر التضعيف إنما يكون من جهة الحفظ, وعند الأصوليين: أنه لا يقدح به حتى يكون الخطأ راجحًا على الصواب, أو مُسَاوِيًا له, وفي المساوي خلاف عندهم, وقد تقدم ذكر هذه المسألة, وهي مقررة في كتب علوم الحديث وكتب الأصول , فعلى هذا الوجه تكون رواية الإمام أبي حنيفة عن بعض الضعفاء مَذْهَبًا واختيارًا, لا جهلاً واغترارًا. المحمل الثّاني: أن يكون ضعف أولئك الرواة الذين روى عنهم مختلفًا فيه, ويكون مذهبه وجوب قبول حديثهم, وعدم الاعتداد بذلك التضعيف؛ إما لكونه غير مفسر لسبب, أو لأجل مذهب, أو غير ذلك, وقد جرى ذلك لغير واحد من العلماء والحفاظ, بل لم يسلم من ذلك صَاحِبَا " الصحيح ". وكذلك أئمة العلم: هذا الإمام الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أكثر من الرواية عن إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي, وَوَثَّقَهُ, وقد خالفه الأكثرون في ذلك. وقال ابن عبد البر في " تمهيده ": «أَجْمَعُوا عَلَى تَجْرِيحِ ابْنِ أَبِي يَحْيَى, إِلاَّ الشَّافِعِيُّ».

قلت: أما الإجماع على تجريحه فليس بِمُسَلَّمٍ, فقد وافق الشافعي على توثيقه أربعة من كبار الحُفَّاظِ، وَهُمْ: ابن جُريج, وحمدان بن محمد الأصبهاني, وَابْنُ عَدِيٍّ, وَابْنُ عُقْدَةَ. وقال الذّهبي في " التذكرة ": «لَمْ يَكُنْ ابْنُ أَبِي يَحْيَى فِي وَزْنِ مَنْ يَضَعُ الحَدِيثَ» انتهى, ولكن تضعيفه قول الجماهير. وهو المصحح عند أئمة الحديث من الشافعية كالنووي, والذهبي, وابن كثير, وابن النحوي - وهو ابْنُ المُلَقَّنِ شيخ الحافظ ابن حجر -، وغيرهم. وكذلك روى الشافعي عن ابن أبي خالد الزنجي المكي , وهو مختلف في توثيقه, وكذلك الإمام أحمد يروي عن جماعة مختلف فيهم. وكذلك القاسم بن إبراهيم, ويحيى بن الحسين [الهادي]- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قد رَوَيَا عن ابن أبي أُوَيْسٍ, وهو مختلف فيه. وقد ذكر أهل علم الرجال ذلك الاختلاف, وبينوا في علوم الحديث ما يقبل من الجرح والتعديل, ومراتبهما, وكيفية العمل عند تعارضهما. المحمل الثالث: أن يكون إنما روى عن أولئك الضعفاء على سبيل المتابعة والاستشهاد, وقد اعتمد على غير حديثهم من عموم آية, أو حديث, أو قياس, أو استدلال، مثل: ما صنع مالك في الرواية عن عبد الكريم بن أبي المُخَارِقِ البصري, قال ابن عبد البر في " تمهيده ":

«كان مجمعًا على تجريحه, ولم يرو عنه مالك إلا حديثًا واحدًا معروفًا من غير طريقه وهو حديث: وضع اليمين على الشمال في الصلاة, وقد رواه مالك في " الموطأ " من طريق صحيحة من رواية أبي حازم التابعي الجليل عن سهل بن سعد الصحابي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -». وكذلك القاسم بن إبراهيم, وحفيده يحيى بن الحسين من أئمة الزيدية قد أكثر من رواية أحاديث الأحكام, والاحتجاج عليها من حديث ابن أبي ضَمْرَةَ وأهل الرواية متفقون على تجريحه, والقدح في روايته. وكذلك قد روى شعبة على جلالته وتشدده عن أبان بن أبي عياش مع قول شعبة فيه: «لأَنْ أَشْرَبَ مِنْ بَوْلِ حِمَارٍ حَتَّى أَرْوَى أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ» , رواه شعيب بن جرير عنه, وروى ابن إدريس وغيره عن شعبه أنّه قال: «لأَنْ يَزْنِي الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ أَنْ يَرْوِي عَنْ أَبَانَ». فإن قلت: فكيف روى عنه مع اعتقاده تحريمه. قلت: إنّما أراد تحريم ذلك على من لا يعرف الحديث الباطل من غيره , وتحريم رواية العارف عن المتروكين في حضرة من لا يعرف واجب, فإن الثوري نهى عن الرواية عن بعض المتروكين, فقيل له: ألست تروي عنه؟ فقال: «إِنِّي أَرْوِي مَا أَعْرِفُ»، وهذا من لطيف علم الحديث. وقد قدمنا عن مسلم أنه ربما أخرج الإسناد الضعيف لِعُلُوِّهِ واقتصر عليه, وترك إيراد الإسناد الصحيح لنزوله, ومعرفة أهل الشأن له, روى ذلك النووي

عن مسلم تنصيصًا كما تقدم, وفيه دلالة على أن رواية العالم لحديث الرجل الضعيف لا تدل على جهله بضعفه. وكذلك البخاري قد ضَعَّفَ هُوَ بَعْضَ من روى عنه في " الصحيح " , ذكر ذلك الذهبي في " الميزان " (1) , وهذا يدل على أنه لم يعتمد على ذلك الراوي الذي ضَعَّفَهُ, لولا شواهد لحديثه ومتابعات، وهذا من لطائف علم الحديث. ولذا قال الإمام النووي: «إِنَّ مَنْ صَحَّحَ حَدِيثًا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لِكَوْنِ رَاوِيهِ مِنْ رُوَّاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ؛ فَقَدْ وَهِمَ فِي ذَلِكَ». المحمل الرابع: أن تكون رواية الإمام أبي حنيفة من قبيل تدوين ما بلغه من الحديث صحيحه وضعيفه, كما هو عادة كثير من مُصَنِّفِي الحفّاظ أهل السنن والمسانيد, وغرضهم بذلك حفظ الحديث للأمة لينظر في توابعه وشواهده, فإن صح منه شيء عُمِلَ بِهِ وإن بطل شيء حُذِّرَ من العمل به, وإن احتمل شيء الخلاف كان للناظر من العلماء أن يعمل فيه باجتهاده. وفي الرواية المشهورة عن البخاري أنه كان حفظ ثلاث مائة ألف حديث, منها: مئتا ألف غير صحاح. وقال إسحاق بن راهويه: «أَحْفَظُ مَكَانَ مِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَأَحْفَظُ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ صَحِيحَةً عَنْ ظَهْرِ قَلْبِي, وَأَحْفَظُ أَرْبَعَةَ آلاَفِ حَدِيثٍ مُزَوَّرَةً». فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «لأَجْلِ إِذَا مَرَّ بِي مِنْهَا حَدِيثٌ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَلَيْتُهُ فَلْيًا».

المحمل الخامس: أن يكون كثيرٌ من الأحاديث المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة ضعيفة من قبيل ما روي عنه, لا من جهته, ولا من جهة شيوخه ومن فوقهم, كما في كثير من الأحاديث المنسوبة إلى جعفر الصادق, وكثير من الثقات، فقد روى الذهبي في " الميزان " عن الحافظ ابن حبان: «أَنَّ أَبَانَ بْنَ جَعْفَرٍ (¬1) وَضَعَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِائَةِ حَدِيثٍ, مَا حَدَّثَ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ قَطُّ» , رواه الذهبي في ترجمة أبان بن جعفر. إذا عرفت هذا، فاعلم أن الإمام أبا حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - طلب العلم بعد أن أَسَنَّ (¬2). وقد كان الحافظ المشهور بالعناية في هذا الشأن إذا كَبُرَ وَأَسَنَّ تَنَاقَصَ حِفْظُهُ, فلهذا لم يكن في الحفظ في أرفع المراتب, وكذلك غيره من الأئمة, فقد كان الإمام أحمد بن حنبل أوسع الأئمة الأربعة معرفة بالحديث وحفظًا له, ولم يكن ذلك عيبًا فيهم ولا قدحًا في اجتهادهم, وقد كان حديث ابن المسيب, ومحمد بن سيرين, وإبراهيم النخعي: أَصَحَّ وَأَقْوَى من حديث عطاء, والحسن البصري, وأبي قلابة, وأبي العالية. وكان ابن المسيب أَصَحَّ الجماعة حديثًا من غير قدح في علم من هو دونه. ¬

_ (¬1) ويقال فيه (أباء بن جعفر)، وهو النَّجِيرَمِيُّ. (¬2) سبق عن الحافظ الذهبي ص 42، أن الإمام طلب الحديث في سنة مائة وبعدها وكان وقتئذٍ ابن عشرين سنة، فإن مولده سنة ثمانين على الصحيح، وابنُ الوزير مشى على القول بأن مولده سنة إحدى وستين.

ولهذا السبب تكلم بعض الحفّاظ في حديث الإمام الأعظم أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -؛ فظن بعض الجُهَّالِ أن ذلك يقتضي القدح في اجتهاده, وإمامته, وليس كذلك, فغاية ما في الباب أن غيره أحفظ منه، وذلك لا يستلزم أن غيره أفضل منه, ولا أعلم منه على الإطلاق, فقد كان أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أحفظ الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -, ولم يكن أعلمهم, ولا أفقههم, ولا أفضلهم, وقد كان معاذ أفقههم, وزيد أفرضهم, وَعَلِيٌّ أقضاهم, وَأُبَيٌّ أَقْرَأَهُمْ, والخلفاء أفضلهم. وبعد؛ فالمناقب مواهب يهب الله منها ما يشاء لمن يشاء. وقد أشار الذهبي إلى الاعتذار عن ذكر الإمام أبي حنيفة وأمثاله, وإلى أنه لا قدح عليه بما ذكر فيه من الاختلاف, فقال في خطبة " الميزان ": «وَكَذَا لاَ أَذْكُرُ مِنَ الأَئِمَّةِ المَتْبُوعِينَ فِي الفُرُوعِ أَحَدًا لِجَلاَلَتِهِمْ فِي الإِسْلاَمِ, وَعَظَمَتِهِمْ فِي النُّفُوسِ, فَإِنْ ذَكَرْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ فَأَذْكُرُهُ عَلَى الإِنْصَافِ, وَمَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ, وَلاَ عِنْدَ النَّاسِ, إِنَّمَا يَضُرُّ الإِنْسَانَ الكَذِبُ, وَالإِصْرَارُ عَلَى كَثْرَةِ الخَطَأِ, وَالتَّجَرِّي عَلَى تَدْلِيسِ البَاطِلِ, فَإِنَّهُ خِيَانَةٌ وَجِنَايَةٌ, فَالمَرْءُ المُسْلِمُ يَطْبَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ الخِيَانَةِ وَالكَذِبِ». انتهى كلامه (¬1). ¬

_ (¬1) ترجمة الإمام أبي حنيفة في بعض نسخ " الميزان " مقحمة من قلم غير المؤلف الذهبي كَمَا بَيَّنْتُهُ في " الإمام ابن ماجه وكتابه السنن "، وكما أوضحه بدلائله وشواهده الشيخ العلامة البارع المحدث عبد الفتاح أبو غدة - حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى - في تعليقه على " الرفع والتكميل ": ص 121 - 126 من الطبعة الثالثة، وتلك الترجمة المقحمة المدسوسة غير منصفة يقينًا، والذهبي اشترط على نفسه الإنصاف في ذكر الأئمة المتبوعين، وإذا وازن =

فانظر كيف تَأَدَّبَ أبو عبد الله الذهبي, وذكر جلالة الأئمة المتبوعين في الإسلام, وَنَصَّ على أن ذكرهم في كتب الجرح والتعديل لا يضرهم عند الله, ولا عند الناس. وهكذا فليكن ذكر العالم لمن هو أعلم منه؛ بأدب, وتواضع, وتعظيم, وتوقير, جعلنا الله ممن عرف قدر الأئمة, وعصمنا من مخالفة إجماع الأئمة. وبهذه الجملة تم كشف عوار هاتين الشُّبْهَتَيْنِ الضَّعِيفَتَيْنِ في علم إمام أكثر أهل الإسلام, الذي أجمع على إمامته العلماء الأعلام. وقد أحببت التقرب إلى الله تعالى, والتشرف بخدمة مناقبه العزيزة, والذب عن معارفه الغزيرة, بذكر هذه الأحرف الحقيرة اليسيرة, ولم أقصد التعريف بمجهول من فضائله, ولا الرفع لمخفوض من مناقبه, فهو من ذلك أرفع مكانًا, وَأَجَلَّ شَأْنًا. وَالشَّمْسُ فِي صَادِعِ أَنْوَارِهَا ... غَنِيَّةٌ عَنْ صِفَةِ الوَاصِفِ انتهى كلام ابن الوزير بطوله، وفيه وفي ما تقدم من نصوص الأئمة ¬

_ = القارئ الترجمة بما ترجمه به الذهبي نفسه في " تذكرة الحفاظ " و" سير أعلام النبلاء "، و" تهذيب التهذيب " لرأى بينهما بُعْدَ المشرقين، وقد سبق في ص 87، نص ترجمة أبي حنيفة بتمامه من " تهذيب التهذيب "، كما نقلنا سابقًا نصوص الذهبي من " سير أعلام النبلاء " في تقريظه البالغ لأبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فمن قرأ تلك النصوص ونص ترجمة " التذهيب " لازداد يقينًا بدس الترجمة الموجودة في بعض نسخ " الميزان "، وعذر ابن الوزير في هذا الاعتذار عن الذهبي - ولم يكن إليه أي حاجة - عدم وقوفه على نسخ " الميزان " الصحيحة، وابن الوزير يشكو في " العواصم والقواصم ": قلة كتب المحدثين عنده.

المتقدمين، والحفاظ الجهابذة المتأخرين من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وغيرهم، في تقريظ الإمام أبي حنيفة، والثناء على سَعَةِ علمه بالكتاب وَالسُنَّةِ، والرد على جارحيه والإنكار عليهم بالحُجَجِ الواضحة والأدلة النيرة: إِبْطَالٌ لِطَعْنِ الشَّائِنِينَ المُتَحَامِلِينَ عَلَى الإِمَامِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -، في هذا الزمن المتأخر! وفي كل ذلك أيضًا ما يزيل الغِشَاوَةَ عن عيونهم الرَّمْدَاءَ، ونفوسهم المريضة، إذا هُدُوا وَوُفِّقُوا، وفي كل ما تقدم أيضًا مَا تَقْرُّ بِهِ أَعْيُنُ طلبة العلم وأهله الذين رزقهم اللهُ تعالى التأدب مع أئمة الدين - رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. ونرجو من الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب كُلَّ قَارِئٍ له وواقف عليه، وَيُوَفِّقَنِي للمزيد من بيان مقام هذا الإمام الجليل وَالنِّفَاحِ عن رفيع مرتبته، بفضله وَمَنِّهِ، إنه ولي التوفيق، وبالإجابة جدير، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. وكتبه في كراتشي 15 من شهر ربيع الأول سنة 1415 هـ الفقير إليه تعالى محمد عبد الرشيد النعماني.

قال العبد الضعيف عبد الفتاح أبو غدة - فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ - وغفر لمشايخه وله ولوالديه: فرغت من النظر في هذا الكتاب: " مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث "، وخدمته بحسب ما تيسر لي، في 1 من ذي الحجة سنة 1415 هـ بمدينة الرياض، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1